وعن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - مثله في ادخار(1) قوت سنته وتطببه، وفعل ذلك جلة أصحابه - رضي الله عنهم -.
وهذا اختيار الطبري وعامة الفقهاء، والأول مذهب بعض المتصوفة وأصحاب علم القلوب والإشارات، وذهب(2) المحققون منهم إلى نحو مذهب فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي، فَقِيلَ لِي: هَذَا مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - وَقَوْمُهُ، وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الأفُقِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: انْظُرْ إِلَى الأفُقِ الأخَرِ، فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمَّتُكَ وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلا عَذَابٍ »، ثُمَّ نَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَخَاضَ النَّاسُ فِي أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلا عَذَابٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمِ الَّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمِ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الإِسْلامِ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِاللَّهِ، وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:« مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ»، فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ:« هُمِ الَّذِينَ لا يَرْقُونَ، وَلا يَسْتَرْقُونَ، وَلا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ »، فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ:« أَنْتَ مِنْهُمْ »، ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ:« سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ط):" ادخاره ".
(2) في (أ):" ومذهب ".(2/160)
الجمهور، ولكن لا يصح عندهم اسم التوكل مع الالتفات والطمأنينة(1) إلى الأسباب، بل فعل الأسباب سنة الله وحكمته، والثقة أنه لا يجلب نفعا ولا يدفع ضرا سبب(2) ولا أحد، والكل من الله وحده.
وقوله في عُكَّاشة :" يرفع نمَرَة عليه "، النمِرة كساء فيه مواضع سود وحمر وبيض، يشبه لون جلد النمر.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - :" سبقك بها عكاشة "، هو مشدد الكاف.
قيل: " إن السائل للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو له أن يكون منهم بعد عكاشة لم يكن عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن يستحق ذلك، ولا من أهل تلك الدرجة والصفة الموصوفة كما كان عكاشة.
375 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« عُرِضَتْ عَلَيَّ الأمَمُ...، ثُمَّ ذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ، نَحْوَ حَدِيثِ هُشَيْمٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَوَّلَ حَدِيثِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل: بل كان منافقا، فأجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - لما(3) كان عليه من حسن العشرة وجميل الصحبة بكلام محتمل ولفظ مشترك، فهو من باب المعاريض الجائزة، ولم ير التصريح له بـ: " إنك لست منهم ولا مستحقا لتلك المنزلة "، وجاء بقول يحتمل أن سبق عكاشة بالسؤال منعه من إجابته، وعرَّض بذلك عن سَبْقه لتحصيل الصفة والمنزلة دون هذا، وستر بقوله هذا حال السائل ولم يهتك ستره.
وقيل: قد يكون سبق عكاشة بوحي أنه تجاب دعوته فيه، ولم يكن ذلك للآخر.
__________
(1) في (ط):" وللطمأنينة ".
(2) كذا في حاشية (ح)، وفي المتن:" بسبب ".
(3) في (ح):" بما ".(2/161)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " متماسكون لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم "، أي بعضهم آخذ بيد بعض ممسك له، كما قال: " آخذ بعضهم بعضا "، وهذا يدل على عظم الجنة وسعة بابها.
وقد يكون معنى متماسكين: بالوقار والثبات، أي لا يخف(1) بعضهم عن بعض، ولا يسابقه حتى يكون دخولهم جميعًا.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ومع هؤلاء سبعون ألفا "، ظاهره أنهم زائد إلى أمته، والصحيح أنهم من أمته ؛ لأن البخاري رواه: " هذه أمتك، ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفا " ، وفي الأحاديث الأخر في الأم: " أدخل من أمتك 376 - حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو الأحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ »، قَالَ: فَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ:« أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ »، قَالَ: فَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ:« إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ، مَا الْمُسْلِمُونَ فِي الْكُفَّارِ إِلا كَشَعْرَةٍ بَيْضَاءَ فِي ثَوْرٍ أَسْوَدَ، أَوْ كَشَعْرَةٍ سَوْدَاءَ فِي ثَوْرٍ أَبْيَضَ ».
__________
(1) كتب في حاشية (ح):" يخف " وعليها "صح، خ".(2/162)
377 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لابْنِ الْمُثَنَّى-، قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو ابْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي قُبَّةٍ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ رَجُلاً، فَقَالَ:« أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ »، قَالَ: قُلْنَا: نَعَمْ، فَقَالَ:« أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ »، فَقُلْنَا: نَعَمْ، فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ! إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَذَاكَ أَنَّ الْجَنَّةَ لا يَدْخُلُهَا إِلا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَمَا أَنْتُمْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ إِلا كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأسْوَدِ، أَوْ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأحْمَرِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من لا حساب عليه "، وذكر نحوه، وفي الحديث الآخر:" يدخل الجنة من أمتى سبعون ألفا " وذكر مثله(1).
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا رقية(2) إلا من عين أو حمة ".
العين إصابة العائن، والحمة بضم الحاء وفتح الميم مخففة: فَوْعَةُ(3) السم، وقيل: السم نفسه، والمراد هنا: اللدغ من العقرب والحية(4) وشبهها.
__________
(1) في (ح):" نحوه ".
(2) قوله:" لا رقية " ليس في (أ).
(3) في (ح):" مجموعة ".
(4) في (ط):" أو الحية ".(2/163)
378 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مَالِكٌ - وَهُوَ ابْنُ مِغْوَلٍ -، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَسْنَدَ ظَهْرَهُ إِلَى قُبَّةِ أَدَمٍ، فَقَالَ:« أَلا لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ، أَتُحِبُّونَ أَنَّكُمْ رُبُعُ أَهْلِ الْجَنَّةِ »، فَقُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ:« أَتُحِبُّونَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ »، قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:« إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، مَا أَنْتُمْ فِي سِوَاكُمْ مِنَ الأمَمِ إِلا كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي الثَّوْرِ الأبْيَضِ، أَوْ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الأسْوَدِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الخطابي: " ومعنى ذلك :لا رقية أشفى وأولى من رقية العين والحمة، وكان - صلى الله عليه وسلم - قد رَقَى ورُقِيَ، وأمر بها وأجاز الرقية، فإذا كانت بالقرآن وبأسماء(1) الله تعالى فهي مباحة، وإنما جاءت الكراهية منها مما(2) كان بغير لسان العرب، فإنه ربما كان كفرا أو قولا يدخله الشرك، قال: "ويحتمل أن يكون الذي كُرِهَ من الرقية ما كان منها على مذهب أهل الجاهلية في العِوَذ التي كانوا يتعاطونها، وأنها تدفع عنهم الآفات، ويعتقدون أن ذلك من قبل الجن ومعونتهم ".
وقد اختلفت الرواية عن مالك في إجازة رقية أهل الكتاب للمسلم فأجازه مرة إذا رقى بكتاب الله تعالى، ومنعه أخرى، وذلك لأنا لا ندري أن الذي رقى(3) به ما هو.
__________
(1) كذا في حاشية (ح) وعليها:" صح، خ "، وفي المتن:" وباسم ".
(2) في (ح):" ما ".
(3) في (ح):" يرقي ".(2/164)
وسيأتي الكلام على الرقية والعين والطيرة في كتاب الطب بأشبع من هذا إن شاء الله تعالى.
379 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ الْعَبْسِيُّ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا آدَمُ ! فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، قَالَ: يَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، قَالَ: فَذَاكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ { وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ }»، قَالَ: فَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَيُّنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ ؟ فَقَالَ: «أَبْشِرُوا، فَإِنَّ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفًا، وَمِنْكُمْ رَجُلٌ »، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ! إِنِّي لأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ »، فَحَمِدْنَا اللَّهَ وَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ:« وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ! إِنِّي لأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَحَمِدْنَا اللَّهَ وَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ:« وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ! إِنِّي لأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، إِنَّ مَثَلَكُمْ فِي الأمَمِ كَمَثَلِ الشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأسْوَدِ، أَوْ كَالرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الْحِمَارِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله - صلى الله عليه وسلم - :" سواد عظيم "، أي أشخاص، وكل شخص سواد، ومنه قولهم:" لا يفارق سوادي سوادك ".(2/165)
وقوله (1): " فأسند ظهره إلى قُبَّة أَدَمٍ "، قال الإمام: " قال الليث والمطرز: قال ابن الكلبي:" بيوت العرب ستة: قبة من أدم، وأبنية(2) من حجر، وخيمة من شجر، ومِظلَّة من شَعْر، وبجاد من وبر، وخِبَاء من صوف ".
قوله (3): " الرَّقْمَة في ذِراع الحِمار ".
قال القاضي: الرقمتان في الحمار هما الأثران في باطن عضديه (4).
380 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ. ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، كِلاهُمَا عَنِ الأعْمَشِ بِهَذَا الإسْنَادِ ؛ غَيْرَ أَنَّهُمَا قَالا:« مَا أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ فِي النَّاسِ إِلا كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الأسْوَدِ، أَوْ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي الثَّوْرِ الأبْيَضِ »، وَلَمْ يَذْكُرَا:« أَوْ كَالرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الْحِمَارِ ».
*********
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابُ الطَّهَارَةِ
1 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلالٍ، حَدَّثَنَا أَبَانُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى ؛ أَنَّ زَيْدًا حَدَّثَهُ ؛ أَنَّ أَبَا سَلامٍ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلا الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأَنِ، أَوْ تَمْلأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ، وَالصَّلاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (أ):" وقوله ".
(2) في (ح):" رقبة ".
(3) في (أ):" وقوله ".
(4) في (ح):" وبهذا تم كتاب الإيمان ويتلوه كتاب الطهارة ".(2/166)
بسم الله الرحمن الرحيم(1)
قوله - صلى الله عليه وسلم -:« الطُّهُورُ شَطْرُ الإيمَانِ »، قال القاضي: يقال: الطُّهور والطَّهور بفتح الطاء وضمها، وكذلك الوُضوء والوَضوء، والغُسل والغَسل فبالضم الفعل، وبالفتح الماء. وحُكي عن الخليل الفتح فيهما في الوضوء ولم يُعرف الضم، قال ابن الأنباري: والأول هو المعروف والذي غليه أهل اللغة، وقال الأصمعي: غُسلاً وغَسلاً، واشتقاق الطهر من الطهارة، وهي النظافة من المذام والقبائح. قال الله تعالى:{ إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا }، ومنه امرأة طاهر من الحيض، وطاهرة من الذنوب، وكذلك الوضوء من الوضاءة(2) وهي النظافة والحسن ؛ لأنه يحسن الإنسان وينظفه بإزالة درنه وشعثه. قال بعضهم: والمراد بهذه النظافة النور الذي يكون لصاحبه يوم القيامة والأول أظهر وهو المعروف.
وقوله: شَطْرُ الإيمَانِ، قال الإمام: يحتمل هذا وجهين:
أحدهما: أن المراد بقوله: شطر الإيمان: أنه ينتهي تضعيف الأجر فيه إلى نصف أجر الإيمان من غير تضعيف منه(3)، وهذا كأحد التأويلات في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن »، وسنذكره بعد هذا(4) إن شاء الله تعالى.
__________
(1) البسملة ليست في (أ)و(ط).
(2) في (ط):" الوضاء ".
(3) قوله:" منه " ليس في (ط).
(4) قوله:" هذا " ليس في (أ) و(ط).(2/167)
الوجه الثاني: أن يكون معنى: شطر الإيمان: أن الإيمان يجب ما قبله من الآثام، وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن الوضوء أيضًا يذهب به من الإنسان(1) من الخطايا إلا أنه قد قام الدليل: أن الوضوء لا يصح الانتفاع به إلا مع مضامَّة(2) الإيمان له، فكأنه لم يحصل به رفع الإثم إلا مع شيء ثان، ولما كان الإيمان يمحو الآثام المتقدمة عليه بانفراده صار الطهور في التشبيه كأنه على الشطر منه، وفي هذا الحديث أيضًا حجة على من يرى أن(3) الوضوء لا يفتقر إلى نية، وهذه المسألة مما اختلف فيها الناس(4) على ثلاث مقالات: فقال الأوزاعي وغيره: الوضوء والتيمم جميعًا لا يفتقران إلى نية، وقال مالك في المشهور عنه: أنهما يفتقران(5) إلى نية، وروي عن مالك قولة شاذّة: أن الوضوء يجزي بغير نية، وقال أبوحنيفة: أما التيمم فلابد فيه من نية، وأما الوضوء فلا. فأما الأوزاعي ومن وافقه فيحتج بالأوامر التي وقعت بالوضوء ولم يذكر(6) فيها النية، ويحتج أيضًا بأن الوضوء ليس من العبادات كالصلاة وشبهها، وإنما وجبت(7) لغيره وكان شرطًا في صحته، فحل محل غسل النجاسة(8) وستر العورة وشبه ذلك من شروط الصلاة المجزية بغير نية. ويحتج مالك عليه بحديث:" الأعمال بالنيات "، وبهذا الحديث المتقدم، وأنه لو لم يكن من آكد(9) العبادات لم يجعله شطر الإيمان، فإذا
......................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أوجب ذلك كونه عبادة افتقر إلى نية عند المخالف وعندنا، وعليه من الحجاج كثير.
__________
(1) في (أ) و(ط):" يذهب من الإنسان به ".
(2) في (ح):" مضافة ".
(3) قوله:" أن " ليس في (ط).
(4) في (أ) و(ط):" الناس فيها ".
(5) في (أ) و(ط):" يفتقر ".
(6) في (أ):" تذكر".
(7) في (ط):" وجب ".
(8) في (ح):" الجنابة ".
(9) في (ط):" أكبر ".(2/168)
وأما تفرقة أبي حنيفة بين الوضوء والتيمم فضعيفة ؛ لأن البدل إذا افتقر إلى نية فأحرى أن يفتقر المبدل منه واشبه ما وجه له به قول الله تعالى: {فتيمموا صعيدًا طيبًا(1)}، والتيمم القصد والمقصود منوي.
قال القاضي: ذهب بعض المتكلمين على معاني الحديث أن معنى قوله: شطر الإيمان: أن الإيمان شطران: تطهير البشر عن الشرك وأنجاس الكفر قال الله تعالى:{ وثيابك فطهر }، قال أهل التفسير: قلبك ونفسك، وتطهير الجوارح عن عبادة غير الله فمن طهر باطنه فقد استكمل الإيمان، ومن تطهر لله فقد طهر ظاهره فجاء بنصف الإيمان؛ لأنه تطهير من الحدث والأنجاس للوقوف بين يدي الله تعالى، فإذا طهر سره من الخواطر والأنجاس للمناجاة لله سبحانه كمل إيمانه، والإيمان ظاهر وباطن فظاهره إقرار وتسليم، وباطنه إخلاص وتصديق، وقد يقال المراد بالإيمان(2) هنا الصلاة، قال الله عز وجل: { وما كان الله ليضيع إيمانكم }، ولما كانت الصلاة مفتقرة(3) إلى هذه العبادة الأخرى التي هي الطهارة ولا تتم(4) إلا بها كانت كالشطر لها.
وقوله: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ(5) الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ(6) مَا بَيْنَ السَّمَاواتِ(7) وَالأرْضِ، بيان لما بين أجر الحمد(8) إذا أضيف إلى التسبيح وقرن به على إفراده لأنه بإفراده ملء(9) الميزان، أي من الأجر، وإذا قرن بالتسبيح كان أجره بقدر ملء ما بين السموات والأرض. وذهب بعضهم
......................................................................
__________
(1) قوله:" طيبًا " ليس في (ح).
(2) في (ط):" به " بدل:" الصلاة ".
(3) في (ط):" مفترقة ".
(4) في (أ):" يتم ".
(5) في (ط):" يملأ ".
(6) في (ح) اتاء منقوطة من أسفل أيضًا، وفي (ط):" يملأ "، و(أ):" تملآن ".
(7) في (ط):" السماء ".
(8) في (ح):" الحمد لله ".
(9) في (أ) و (ط):" ملأ ".(2/169)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلى أن بناء العبودية على شيئين: المعرفة بالله(1)، والإفتقار إلى الله، فصفاء معرفة الله تنزيهه(2)، وكمال الافتقار(3) إليه: أن ترى نفسك في تصريفه كيف شاء، فغاية التنزيه سبحان(4) الله، وفي الحمدلله الافتقار إلى الله(5)، ووأنه رأى(6) أقواله وأفعاله بالله ولم يرها من نفسه.
وقد روينا هذا الحديث من غير هذا الطريق:" التسبيح نصف الميزان، والحمد لله(7) يملؤه (8)، والتكبير يملأ ما بين السموات(9) والأرض "، ومعناه يرجع إلى ما ذكرناه، ولأصحاب الإشارات في معاني هذا أغراض أخر ينبه عليها بعض ما ذكرناه.
__________
(1) في (أ):" لله "، وفي (ط) بياض مكان قوله:" المعرفة بالله ".
(2) في (أ):" بتنزيهه ".
(3) في (ح):" للافتقار ".
(4) قوله:" سبحان " لم تتضح في (ط).
(5) من قوله:" ترى نفسك... " إلى هنا ليس في (ح).
(6) في (ح):" يرى "، وفي حاشيتها:" رأى"، وعليها:" صح، خ".
(7) لفظ الجلالة ليس في (أ) و(ط).
(8) في (ح) منقوطة من أعلى وأسفل.
(9) في (أ) و(ط):" السماء ".(2/170)
وقوله:" الصَّلاةُ نُور"، يحتمل أن المراد أن يكون أجرها نورًا لصاحبها يوم القيامة، وأن(1) الصلاة سبب لإشراق أنوار المعارف، وانشراح القلب ومكاشفات الحقائق ؛ لتفرغ القلب فيها والإقبال بالجسم والقلب على الله، وشغل الجوارح بها عمّا سواه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -:« وجعلت قرة عيني في الصلاة»، وهو مثل قوله في هذا الحديث:« والصوم ضياء »، وهي رواية بعض الشيوخ، وروايتنا فيه عن أكثرهم:« والصوم(2) ضياء »، وقد يكون قوله:« والصلاة نور »، هي على وجهه ؛ إشارة إلى الغرة ؛ كما ورد في حديث عبدالله بن بسر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:« أمتي يوم القيامة غر من السجود محجلون من الوضوء »، أو يكون بمعنى(3) قوله:« من صلى بالليل ضاء وجهه بالنهار »، وإن كان لم يصح حديثًا فقد صح معنًا وذلك أن من لم يصلي الصبح ولا توضأ للصلاة أصبح شعث الشعر، أقذى العينين، غير نظيف الأنف والفم، وإذا توضأ تنظف وزال عنه الشعث وأضاء وجهه بالنظافة.
وقوله:« وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ »، معناه مثل قوله:« وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ »، وقد يحتمل أن يكون برهان الصدقة على إيمان المؤمنين ودليل على الفرق بينهم
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ - وَاللَّفْظُ لِسَعِيدٍ - قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: دَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى ابْنِ عَامِرٍ يَعُودُهُ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَقَالَ: أَلا تَدْعُو اللَّهَ لِي يَا ابْنَ عُمَرَ ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« لا تُقْبَلُ صَلاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَلا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ »، وَكُنْتَ عَلَى الْبَصْرَةِ.
__________
(1) في (ط):" أو أن ".
(2) في (أ) و(ط):" والصبر ".
(3) في (أ):" معنى ".(2/171)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبين المنافقين الذين يلمزون المطّوّعين من المؤمنين في الصدقات، ألا ترى ما كان ممن ضعف إيمانه في الردة من منعها.
وقوله:« كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا »، يحتمل أن يكون بايع هنا بمعنى مشتري، وبمعنى بايع فجاء بلفظ مشترك بين المعنيين ؛ لأن اللفظة في اللغة تقع على المعنيين، ثم جاء بالجواب على المعنيين جميعًا، أي من اشتراها أعتقها، ومن باعها أوبقها، أي: أهلكها، ومثل هذا قول ابن مسعود:" الناس غاديان(1): فبائع نفسه فموبقها، أو مفاديها فمعتقها وهذا نوع من الإيجاز بديع عند أهل البلاغة، ويحتمل أن يكون البيع على الوجه(2) المعروف وحده أي: فبائع نفسه من الله فأعتقها كما قال تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}، أو باعها من غيره فأوبقها كما قال في السحرة:{ ولبئس ما شرو به أنفسهم }، وهذا الحديث قد اختلف في سنده، قال الدارقطني: أدخل بعضهم فيه بين أبي سلام وأبي مالك عبدالرحمن بن غنم، وكذا ذكره النسائي.
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) كتب في حاشية (ح):" عايدان ".
(2) في (أ) و(ط):" وجهه ".(2/172)
وقوله:« لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول »، الغلول: الخيانة، وهذا الحديث نص وأصل في وجوب الطهارة من السنة، مع أمثاله(1) من الآثار، وهذا مما لا خلاف فيه بين الأئمة، وأن الصلاة من شرطها الطهارة بإيجاب الله تعالى ذلك في كتابه وعلى لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وإجماع أهل القبلة على ذلك، واختلف متى فرضت الطهارة للصلاة، وهل كانت في أول الإسلام فرضًا أو سنة ؟ وهل هي فرض على كل مسلم(2) قائم للصلاة، أو على كل محدث ؟ وفي الوضوء لغير الفرائض هل هو فرض، أو له حكم ما توضيء من أجله ؟ فقال ابن الجهم: أن الوضوء أولاً كان سنة، وأن فرضه نزل في آية التيمم، وقال غيره: أن قوله تعالى:{ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } غير مشرط(3) فيها(4) طهارة، وأن آية الوضوء ناسخة لذلك، وقال غيره - وهو قول الجمهور -: بل كان قبل فرضًا ولا تستباح الصلاة إلا بطهارة من الوضوء أو الغسل. قال بعضهم: وذلك بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمره. وآية التيمم(5) إنما نزلت بحكم التيمم، ولذلك سميت آية التيمم، ولم تسم آية الوضوء، وحجة الآخر ؛ أنها جاءت بحكم التيمم ورخصته، فسميت به، والوضوء كان(6) مشروعًا قبل، لكن غير فرض فلم يحدث(7) فيه(8) حكمًا مؤتنفًا، إنما أكدت حكمه من السنة إلى الفرض. وقد روي أن جبريل - عليه السلام - همز للنبي - صلى الله عليه وسلم - صبيحة الإسراء بعقبه فتوضأ وعلمه الوضوء، وكذلك ذهب ذاهبون من السلف إلى أن الوضوء لكل صلاة فرض بدليل قوله:{ إذا قمتم} أي: أردتم القيام، وذهب قوم إلى أن ذلك قد نسخ بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: الأمر
__________
(1) في (ح):" أمثالها ".
(2) قوله:" مسلم " ليس في (أ) و(ط).
(3) في (ط):" مشترط ".
(4) في (أ):" فيه ".
(5) في (ح):" الوضوء ".
(6) في (أ) و(ط):" قد كان ".
(7) في (ط):" تحدث ".
(8) في حاشية (ح):" فيها " وعليها "صح، خ".(2/173)
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بذلك لكل صلاة على الندب، ويذكر مثله عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ؛ ولأنه لو كان الوضوء واجبًا على كل قائم للصلاة لم يكن لذكر الأحداث في الآية معنى، وقيل: بل لم يشرع(1) إلا لمن أحدث، ولكن تجديده لكل صلاة مستحب، وعلى هذا اجتمع رأي أئمة الفتوى بعد بغيرخلاف.
ومعنى قوله عند هؤلاء:{ إذا قمتم [إلى الصلاة](2)}، أي: محدثين، أو من النوم. وقيل: بل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلتزم [تجديد الوضوء](3) لكل صلاة، ثم جمع بين صلاتين بوضوء واحد ليري الرخصة في ذلك للناس.
وأما الوضوء لغير الفرائض فذهب بعضهم إلى(4) أن الوضوء بحكم ما(5) يفعل له من نافلة أو سنة، وذهب بعضهم إلى أنه فرض على كل حال ولكل عبادة لا تستباح إلا به ؛ لأنه إذا عزم على [فعلها](6) فالمجيء بها بغير طهارة معصية واستخفاف بالعبادة، فلزمه المجيء بشرطها فرضًا كما إذا دخل في عبادة نفلاً لزمته (7)، ووجب عليه تمامها لهذا الوجه. وذكر ابن عمر لابن عامر وقد قال له:" ادع لي "، هذا الحديث على طريق الوعظ والتذكرة له بقوله:« ولا صدقة من غلول »، وجاء بذكر الفصل الثاني كما سمعه، والله أعلم.
__________
(1) في (ط):" تشرع ".
(2) ما بين المعكوفين ليس في (ح).
(3) في (ح):" تجديده ".
(4) قوله:" إلى" ليس في (أ) و(ط).
(5) في حاشية (ح):" لعله يحكم له بحكم ما ما ".
(6) في (ح):" على غير فعلها ".
(7) في (أ) و (ط):" لزمه ".(2/174)
وفيه حجة لرواية الأحاديث على نصها، وحجة لمن لا يرى الحديث يفصل من الحديث دون جملته، وقد تقدم الكلام فيه، أو يكون المعنى: كيف تطمع في الدعاء وأنت لم تتنصل من تباعات العباد، ويكون ذكره للحديث كله على وجه التمثيل والاستشهاد، وبأنه(1): لا يصح شيء إلا مع وجود شرطه، فكما لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول، كذلك
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ. ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ. ح، قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَوَكِيعٌ عَنْ إِسْرَائِيلَ، كُلُّهُمْ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ بِهَذَا الإسْنَادِ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِهِ.
2 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ، حَدَّثَنَا مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ هَمَّامِ ابْنِ مُنَبِّهٍ - أَخِي وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ -، قَالَ: هَذَا مَاحَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لا تُقْبَلُ صَلاةُ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا يرجى قبول دعاء بغير توبة وإقلاع.[ واحتج بهذا الحديث من يرى لمن عدم الماء أو التراب أنه لا صلاة عليه، وهو قول مالك ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -:« لا يقبل الله صلاة بغير طهور »، وفي المسألة لنا ولغيرنا خلافًا نذكره في التيمم إن شاء الله تعالى ](2).
__________
(1) في (ط):" بأنه ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ).(2/175)
وقوله: وكنت على البصرة، يعني(1): أميرًا يعرض له بالغلول لمال الله تعالى، ويعرفه بما(2) عليه فيه ليخاف ذنبه ولا يغتر لما(3) وجهه من ذلك المال في وجوه البر (4).
وقال في سند محمد بن المثنى لهذا الحديث بعد، قال: أبوبكر: وحدثني وكيع، كذا للسمرقندي، ولغيره قال: أبو بكر ووكيع، عن إسرائيل، وهما بمعنى، أي: وحدثنا وكيع عن إسرائيل، قال الإمام أبو عبدالله رحمه الله: اتفقت أحاديث كثيرة على تكرار غسل الوجه واليدين في الوضوء، واختلفت في تكرار مسح الرأس وغسل الرجلين، والأظهر أن ذلك لتأكيد(5) أمر الوجه واليدين، ألا ترى أنهما يثبتان في التيمم ويسقط غيرهما، ووجه القول بأن مسح الرأس لا يكرر ؛ أن المسح تخفيف، والتكرير تثقيل، ويتنافي
__________
(1) في (ط):" أي ".
(2) في (ط):" ما " بدون الباء.
(3) في (ط):" بما ".
(4) من قوله:" لما وجهه من ذلك...." إلى هنا ليس في (أ).
(5) قوله:" لتأكيد " ليس في (ح).(2/176)
3 - حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ قَالا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ؛ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَزِيدَ اللَّيْثِيَّ أَخْبَرَهُ ؛ أَنَّ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ - رضي الله عنه - دَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ، فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ».
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ عُلَمَاؤُنَا يَقُولُونَ هَذَا الْوُضُوءُ أَسْبَغُ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ أَحَدٌ لِلصَّلاةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجمع بين التخفيف والتثقيل(1)، ووجه نفي التحديد عن غسل الرجلين ؛ أنهما تنالهما(2) من الأوساخ في الغالب ما لا ينال غيرهما، وقد لا يحصل الإنقاء في المرتين والثلاث لهما، فكان الأحوط أن يوكل الأمر إلى الإنقاء من غير حد، ومرادنا بذكر الإنقاء ما يلزم إزالته في الوضوء.
__________
(1) في (أ):" التثقيل والتخفيف ".
(2) في (أ) و(ط):" ينالهما ".(2/177)
قال القاضي: وعلى هذا يتأول أيضًا اختلاف الأحاديث في ذكر المضمضة والاستنشاق ؛ لأنها(1) سنن، والأمر فيها(2) على التسهيل والتخفيف،[ فمالك وأبو حنيفة لا يريان تكرار مسح الرأس، وعند الشافعي أنه يكرر، وذكر الإقبال والإدبار المذكور في الحديث ليس(3) بحقيقة تكرار،
4 - وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ ؛ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ دَعَا بِإِنَاءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلاثَ مِرَارٍ فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الأنَاءِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ،ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإنما هو لاستيعاب المسح لقلب الشعر، ألا تراه بماء واحد، وليست سنة التكرار ](4)، ولا خلاف، إنما(5) زاد على الواحدة إذا أسبغت ليس بواجب.
واختلفت عبارة شيوخنا في الزائد على واحدة هل هو سنة أو فضيلة أو الثانية سنة والثالثة فضيلة، ولم يحب مالك الاقتصار على واحدة إلا للعالم مخافة أن لا يحسن الاستيعاب بها.
قال علماؤنا: وإنما الاختلاف من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوضوء مرة أو مرتين أو ثلاثًا ليري الرخصة لأمته والتسهيل، وبيان الفرض من الزيادة عليه.
__________
(1) في (ح):" ولأنها ".
(2) في (ط):" فيه ".
(3) في (ح):" ليست ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(5) في (ط):" إلى ما ".(2/178)
وأما ما جاء في ذلك(1) من الاختلاف في حديث عثمان وعبدالله بن زيد، في ذكر ترك الثلاث في بعض، واستيعابها في بعض (2)؛ أن ذلك من الرواة، فمرة ذكر بعضهم العدد، ومرة تركه، ومنهم من نسي ذلك في بعضه ؛ إذ قد وجدنا هذا الخلاف في الحديث الواحد، وفي القصة الواحدة(3) المعينة التي إنما فعلت مرة، قول أن الاختلاف من الرواة، ويصح(4) التأويل المتقدم فيما جاء منها في غير الحديث الواحد، كحديث ابن عباس مع حديث عثمان وعبدالله بن زيد، فإما إذا وجدنا
5 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ - وَاللَّفْظُ لِقُتَيْبَةَ - قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الأخَرَانِ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ هِشَامِ ابْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَهُوَ بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَجَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ عِنْدَ الْعَصْرِ، فَدَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا ؛ لَوْلا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُكُمْ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« لا يَتَوَضَّأُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ، فَيُصَلِّي صَلاةً إِلا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلاةِ الَّتِي تَلِيهَا».
__________
(1) قوله:" في ذلك " ليس في (ط).
(2) في (ط):" فيمن ذكر الثلاث في بعض وتركها في بعض ".
(3) قوله:" الواحدة " ليس في (ط) و(أ).
(4) في (ح) و(ط):" ويصحح ".(2/179)
وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ. ح، وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ. ح، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، جَمِيعًا عَنْ هِشَامٍ بِهَذَا الإسْنَادِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ:« فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الخلاف في حديث عثمان بعينه وحديث عبدالله بن زيد ولم يكونا إلا في مرة واحدة وصفة واحدة، علمنا أنه من الرواة وأثبتنا مازاد ثقاتهم، والأظهر فيما فعله - صلى الله عليه وسلم - وما حكي عنه من ذلك [من قولهم: فغسل وجهه ويديه(1) ثلاثًا، ومثله](2) أنها أعداد الغسلات لا أعداد الغرفات كما ذهب إليه بعضهم، وأنه(3) أتى بما بعد الأولى للكمال والتمام، وهذا إحتمال بعيد لقولهم: غسل، ولم يقولوا: غرف، ولعدم الزيادة على الثلاث، ولو كان للتمام(4) لم يقف على حد، ولأنه موضع بيان وتعليم لا يمكن إغفاله بتة.
6 - حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَكِنْ عُرْوَةُ يُحَدِّثُ عَنْ حُمْرَانَ ؛ أَنَّهُ قَالَ: فَلَمَّا تَوَضَّأَ عُثْمَانُ قَالَ: وَاللَّهِ لأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا، وَاللَّهِ لَوْلا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« لا يَتَوَضَّأُ رَجُلٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ ثُمَّ يُصَلِّي الصَّلاةَ إِلا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلاةِ الَّتِي تَلِيهَا ».
__________
(1) قوله:" ويديه " ليس في (أ).
(2) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(3) في حاشية (ح):" وأنما "، وعليها "صح، خ".
(4) في حاشية (ح):" لتمام "، وفي (أ):" لتمام ".(2/180)
قَالَ عُرْوَةُ: الأيَةُ { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى } إِلَى قَوْلِهِ { اللاعِنُونَ }.
7 - حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ كِلاهُمَا، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ، قَالَ عَبْدٌ: حَدَّثَنِي أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عُثْمَانَ فَدَعَا بِطَهُورٍ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إِلا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: جلس على المقاعد، قيل: هي دكاكين حول دار عثمان، وقيل: الدرج، وقيل: موضع قرب المسجد، ولفظها يقتضي أنها مواضع(1) جرت العادة بالقعود فيها لكنها قرب المسجد، بدليل قوله في الحديث الآخر: وهو(2) بفناء المسجد.
وقوله:" فيحسن وضوءه "، أي: يأتي به على أكمل الهيئات والفضائل. قال الباجي رحمه الله: تقديره: فيحسن في وضوئه. وقد تقدم في حديث جبريل - عليه السلام - تفسير الإحسان، وما ذكر في حديث عثمان من كفارة الذنوب بالطهارة والصلاة
__________
(1) في (ح) و(ط):" موضع ".
(2) في (ط):" هما ".(2/181)
8 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ قَالا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ وَهُوَ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ قَالَ: أَتَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ نَاسًا يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحَادِيثَ لا أَدْرِي مَا هِيَ، إِلا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ مِثْلَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ:« مَنْ تَوَضَّأَ هَكَذَا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَكَانَتْ صَلاتُهُ وَمَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ نَافِلَةً ».
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبْدَةَ: أَتَيْتُ عُثْمَانَ فَتَوَضَّأَ.
9 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ- وَاللَّفْظُ لِقُتَيْبَةَ، وَأَبِي بَكْرٍ - قَالُوا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ أَبِي أَنَسٍ: أَنَّ عُثْمَانَ تَوَضَّأَ بِالْمَقَاعِدِ، فَقَالَ: أَلا أُرِيكُمْ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ تَوَضَّأَ ثَلاثًا ثَلاثًا. وَزَادَ قُتَيْبَةُ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ سُفْيَانُ قَالَ أَبُو النَّضْرِ، عَنْ أَبِي أَنَسٍ قَالَ: وَعِنْدَهُ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(2/182)
ما اجتنبت الكبائر، وهو(1) مذهب أهل السنة، ودليل كتاب الله تعالى، قال الله عز وجل:{ وأقم(2) الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل(3)} الآية، وأن الكبائر إنما تكفرها(4) التوبة أو رحمة الله وفضله، وفي بعضها:« ثم ركع ركعتين لا يحدث فيهما نفسه »، وفي بعضها: ويصلي الصلوات الخمس، وفي بعضها: ثم يصلي صلاة، وفي بعضها: الصلاة، وفي بعضها: ثم يمشي إلى الصلاة المكتوبة فصلاها مع الناس، وفي بعضها: ذكر غفران الذنوب بمجرد الطهارة وخروج الخطايا معها، وكانت صلاته ومشيه نافلة، وفي بعضها غفران الذنوب بمجرد الصلوات، وأن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما، وفي بعضها غفر له مابينه وبين الصلاة التي تليها، وفي رواية السمرقندي وبعضهم: التي يصليها،
__________
(1) في (ط):" هو ".
(2) في (أ) و(ح):" أقم " بدون واو.
(3) قوله:" وزلفًا من الليل " ليس في (أ) و(ط).
(4) في (أ):" يكفرها ".(2/183)
10 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاءِ، وَإِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ جَمِيعًا، عَنْ وَكِيعٍ، قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ أَبِي صَخْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ حُمْرَانَ بْنَ أَبَانَ، قَالَ: كُنْتُ أَضَعُ لِعُثْمَانَ طَهُورَهُ، فَمَا أَتَى عَلَيْهِ يَوْمٌ إِلا وَهُوَ يُفِيضُ عَلَيْهِ نُطْفَةً، وَقَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ انْصِرَافِنَا مِنْ صَلاتِنَا هَذِهِ - قَالَ مِسْعَرٌ: أُرَاهَا الْعَصْرَ - فَقَالَ:« مَا أَدْرِي أُحَدِّثُكُمْ بِشَيْءٍ أَوْ أَسْكُتُ »، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنْ كَانَ خَيْرًا فَحَدَّثَنَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:« مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَطَهَّرُ فَيُتِمُّ الطُّهُورَ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ إِلا كَانَتْ كَفَّارَاتٍ لِمَا بَيْنَهَا ».
11 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي. ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالا، جَمِيعًا، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ حُمْرَانَ بْنَ?أَبَانَ يُحَدِّثُ أَبَا بُرْدَةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ فِي إِمَارَةِ بِشْرٍ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَنْ أَتَمَّ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَالصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَاتُ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ ». هَذَا حَدِيثُ ابْنِ مُعَاذٍ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ غُنْدَرٍ فِي إِمَارَةِ بِشْرٍ، وَلا ذِكْرُ الْمَكْتُوبَاتِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(2/184)
وفي "الموطأ": وبين الصلاة الأخرى حتى يصليها، فدل أن التي تليها هي الآتية لا الماضية، وكذلك وقع في رواية السمرقندي التي يصليها. قال الإمام: ذكر خروج الخطايا مع الوضوء ومعناه: أن الخطايا تغفر عند ذلك لأن الخطايا في الحقيقة ليست(1) شيء يحل في الماء، وإنما ذلك على وجه الاستعارة الجارية في لسان العرب. فإن قيل: فما هذا الذي يغفر له بالركعتين، وقد ذكر أن الخطايا تخرج مع الماء، قيل: يحتمل أن يريد مايحدث له(2) من الإثم مابين وضوئه وصلاة الركعتين، ويحتمل أيضًا أن يغفر له ما اكتسب بقلبه وبغير أعضاء الوضوء.
قال القاضي: قد قال في "الأم": حتى يخرج نقيًّا من الذنوب، وهذا يعُم كل ذنب، وكذلك حديث: الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما، قد يكون مراده الصلاة بشروطها من الطهارة وغيرها، أو يكون تكفير ركعتي الصلاة لما لم يكفره الوضوء مما ذكره، أو بوضوء لم يحسنه صاحبه، إذ شرط في ذلك الإحسان، أو يكون غفران بعض ذلك للصغائر وباقيها للكبائر برحمة الله، والله أعلم.
__________
(1) في (أ) و(ط):" لا أن الخطايا في الحقيقة شيء....".
(2) قوله:" له" ليس في (أ) و(ط).(2/185)
وقوله: لولا آية في كتاب الله ماحدثتكموه، كذا هذا في "الأم" في الحديثين، إلا أن للباجي في الحديث الأول:" أنه " بالنون، وقد اختلف رواة "الموطأ" عن مالك في هذين اللفظتين، واختلف تأويل العلماء في ذلك، ففي "الأم" قول عروة الآية قوله:{ إن الذين يكتمون ما أنزلنا }، وعلى هذا لا تصح الرواية إلا آية(1) بالياء يريد: لولا الآية التي حرجت(2) كتمان العلم، وفي "الموطأ" قال مالك رحمه الله: أراه يريد هذه الآية:{ أقم الصلاة طرفي النهار } الآية، وعلى هذا تصح الروايتان على الوجه الأول، وعلى أن: لولا أن(3). معنى ما أحدثكم به في كتاب الله ماحدثتكم به لئلا تتكلوا، وتلك الآية الأولى، وإن كانت نزلت في أهل الكتاب ففيها تنبيه وتحذير لمن فعل فعلهم وسلك سبيلهم مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عمّ القول في ذلك في حديثه المشهور في وعيد:« من كتم علمًا ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة ».
وقوله:« وهو يفيض عليه نطفةً »: هو الماء، وأصله من القطر، نطف(4) إذا قطر.
[وقوله:« لا تنهزه(5) إلا الصلاة »،: أي لا يحركه وينهضه، يقال: نهز الرجل بالزاي: إذا نهض، والنهز التحريك، يقال: نهزت الشىء: دفعت له، ونهز الرجل نهض. وضبطه بعضهم بضم الياء،وهوخطأ، وقيل: هى لغة ](6).
__________
(1) في (ط):" أنه ".
(2) في (ح):" خرجت ".
(3) قوله:" أن" ليس في (ط).
(4) في (أ):" نطف الماء ".
(5) في (أ) و(ط):" ينهزه ".
(6) مابين المعكوفين ليس في (ح)، وجاء فيه إلى قوله:" التحريك" بعد قوله:" والله أعلم" بعد قليل. ومن قوله:" يقال: نهزت الشيء..." إلى هنا ساقط من (ط).…(2/186)
وقوله:« وكانت صلاته نافلة له »: أي: أن(1) الوضوء لما كفر ذنوبه كانت صلاته، وإن كانت فريضةً نافلةً، أي: زائدًا(2) له في الأجر على كفارة الذنوب، والنافلة الزيادة في كلام العرب، أي لم يبق له بها(3) ما تكفر، فإما أن تكون(4) مدخرة تكفّر ما بعدها، أو تُرفع له بها درجات، كما قال في الحديث الآخر: « ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ».
وقوله:« غفر له ما تقدّم من ذنبه »: ظاهره عموم كل ذنب، ويؤكده قوله بعده:« وكانت صلاته نافلة »، ويرد تأويل من تأول ؛ لأن(5) معناه: ما تقدم قبل صلاته وبعد(6) وضوئه، واعتضد بقوله:« ما بينه وبين الصلاة التى يصليها ».
وقوله:« لا يحدث فيهما نفسه »،: قال الإمام: يريد الحديث المجتلب والمكتسب، وأما ما يقع في الخاطر غالبًا فليس هو المراد - والله أعلم.
وقوله:« يحدث فيهما نفسه »: إشارة إلى(7) أن ذلك الحديث مما يكتسب؛ لأنه أضافه إليه فقال:« يحدث »
__________
(1) قوله:" أن " ليس في (ط).
(2) في (ح):" زائد ".
(3) قوله:" بها " ليس في (أ) وفي (ط):" لم تبق له ما يكفر.
(4) في (ح):" إن كانت "، وفي حاشيتها:" أن تكون " وعليها "صح، خ".
(5) في (أ):" أن ".
(6) في (ح):" بعد " بدون واو.
(7) قوله:" إلى " ليس في (ط).(2/187)
قال القاضي: قال بعض المفسرين: إن هذا الذي يكون من غير قصد يرجى أن تقبل به الصلاة ولاتبطل، وتكون دون صلاة الذي لم يحدث نفسه بشىء فيها، بدليل ماضمنه النبي - صلى الله عليه وسلم - لمراعى ذلك من الغفران ؛ لأنه قل من يسلم في(1) صلاته من حديث نفس، أي: إنما حصلت له هذه المزية لمجاهدته نفسه من خطرات الشيطان ونفيها عنه، ومحافظته على صلاته، حتى(2) لم يشتغل عنها طرفة عين، وسلم من الشيطان باجتهاده وتفريغه قلبه. وخرّج مسلم في حديث عثمان حديث وكيع، عن سفيان، عن أبي النضر، عن أبي أنس، عن عثمان.
قال الإمام قال بعضهم: قيل: وهم وكيع في قوله: عن أبي أنس، وإنما هو: أبو النضر، عن بسر بن سعيد، عن عثمان، هكذا قال أحمد بن حنبل. قال الدارقطني: هذا مما وهم فيه وكيع عن الثوري، وخالفه بقية أصحاب الثوري الحفاظ(3)، ورووه عن الثوري عن أبي النضر، عن بسر بن سعيد، عن عثمان.
قال القاضي: وقوله في حديث عقبة بن عامر: فروحتها بعشي، يعني الإبل، أي: جئت بها للمبيت، والمراح: موضع مبيت الماشية بضم الميم.
قال الإمام: وذكر مسلم [ أيضًا في باب ما يقال بعد الوضوء ](4) في سند هذا الحديث: ثنا محمد بن حاتم، ثنا بن مهدي، ثنا معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس، عن عقبة بن عامر، قال: وحدثني أبو عثمان، عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر قال: كانت علينا رعاية الإبل(5)، قال بعضهم: القائل: وحدثني أبو عثمان - هو معاوية بن صالح -، وكتب ابن الحذاء في نسخته: قال ربيعة بن يزيد: وحدثني أبو عثمان عن جبير، والذي أتى في النسخ(6) المروية عن مسلم كما ذكرناه أولاً وهو الصواب، والذي كتب ابن الحذاء وهم.
__________
(1) في (ط):" من ".
(2) في حاشية (ح):" حين"، وعليها "صح، خ".
(3) في (ح):" والحفاظ ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(5) من قوله:" بن عامر...." إلى هنا ليس في (ط).
(6) في (ح):" أتى به في النسخ ".(2/188)
قال القاضي: هذا كلام أبي علي الجيّاني وغيره نصر رواية ابن الحذاء وقال ما بعده يصحيحه، يريد قوله بعد هذا: نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا زيد بن الحباب، نا معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي أدريس الخولاني، وأبي عثمان، عن جبير بن نفير، عن عقبة وغيره على ظاهر هذا السياق، قال الجياني: معاوية يقول هنا: وعن أبي عثمان، فمعاوية رواه عن ربيعة بطريقه (1)، وعن أبي عثمان بطريقه، وقد بُيّن ذلك في غير كتاب مسلم، وعليه خرجه أبو مسعود الدمشقي.
وقوله(2) في حديث عبد الله بن زيد:" توضأ لنا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الْمُعَلِّم للوضوء، والْمُتعَلِّم إذا نوى بذلك رفع الحدث(3) أجزأه، فإن لم ينوه لم يجزئه عند كل من يشترط النية، وكذلك التيمم على الأصل من اختلافهم في النية فيه.
وقوله (4):" فدعا بإناء فأكفأ على يديه ": أي أماله.
__________
(1) من قوله:" فمعاوية رواه...." إلى هنا ليس في (ح).
(2) في (ح):" قوله " بدون واو.
(3) في (ط):" الحديث".
(4) قوله:" وقوله " ليس في (ح) و(ط).(2/189)
وقوله:" فغسلهما ثلاثًا ": حجة لابن القاسم في اختياره في غسل اليدين الإفراغ عليهما جميعًا، وبيانٌ لرواية مالك رحمه الله في "الموطأ" في قوله: "فأفرغ على يديه فغسلهما مرتين مرتين "، وردٌّ لتأويل من تأوّل [بقوله: مرتين مرتين ](1)، إفراد كل يد بالإفراغ، وهي رواية أشهب عن مالك، أنه استحب أن يفرغ على يده اليمنى فيغسلها ثم يدخلها، ويصب ج على يسراه ولا حجة بهذه الرواية التي في "الموطأ" لهذا المذهب(2)؛ لأنه قال فيها: " فأفرغ على يديه "، ولم يقل على يده اليُمنى وحدها، وقد اختلفت فيه رواية البخاري والرواية عنه، فروي عنه:" على يده "، وروي:" على يديه "، وذكر ثلاثًا، وذكر مرتين، وفي بعض روايات هذا الحديث فغسل كفيه إلى الكوعين (3).
قال الإمام: اختلف في غسل اليد قبل إدخالها في(4) الإناء عند الوضوء، هل ذلك عبادة أو معلل بالنظافة في غسل اليد(5)؟ فاحتج من قال: عبادة بقوله: " ثلاثًا " قالوا: ولو كانت علته النظافة ما احتيج إلى التكرار إذ يحصل في مرة واحدة. وهذا الذي قالوه مثل ما احتج به أصحابنا على الشافعي في غسل الإناء من ولوغ الكلب، وأنه لو كان من النجاسة لأجزأت المرّة، واحتج من قال: بأنه مُعلل بالنظافة بقوله:« إن أحدكم لا يدرى أين باتت يده »، فإذا كان الجسد طاهرًا فأكثر مافى ذلك أن تنال أوساخ بدنه يديه(6). وفائدة الخلاف في المسالة: هل يؤمر المتوضئ بغسل يده وإن كانت نقية ؟ أو كان قد عرض له أثناء وضوئه ما نقض طهارته هل يغسلها ثانية ؟ فمن جعل ذلك عبادة أمره بالغسل في الوجهين، ومن علل بالنظافة لم ير ذلك مأمورًا به.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(2) في (ط):" الحديث ".
(3) من قوله:" وفي بعض روايات...." إلى هنا ليس في (أ).
(4) قوله:" في" ليس في (أ) و(ط).
(5) قوله:" في غسل اليد " ليس في (أ) و(ط).
(6) في (ط):" أن تنال يده أوساخ بدنه "، وفي (أ):" بدنه يده ".(2/190)
قال القاضي: وعلى هذا اختلفت الرواية عن مالك فيمن أحدث بعد غسل يديه للوضوء، هل يعيد غسلهما أو(1) لا ؟
وقوله:" ثم أدخل يده فاستخرجها فمضمض واستنشق ": قيل: الحكمة في تقديم هاتين(2) السنتين على فرض الوجه وهي منه اختبار رائحة الماء وطعمه مما(3) عساه يغيره، إذ لونه مشاهد بالعين، فجعل هذا أول الوضوء لئلا يبتدأ بما لا يجوز به.
وقوله:" من كف واحد، فعل(4) ذلك ثلاثًا "، [أي: جمع بين الاستنشاق والمضمضة في كف واحدة، فعل(5) ذلك ثلاثًا](6) من ثلاث غرفات [ لا من كف واحد، كما بينه في رواية ابن وهب بعد قوله: "فمضمض واستنشق واستنثر من ثلاث غرفات ](7). وقد اختلف التأويل عن مالك في هذا، فقيل: إن استحبابه جمعهما في غرفة والإتيان بهما كذلك(8) في ثلاث غرفات، وقيل: بل الأولى عنده إفرادهما والإتيان بالمضمضة على النسق في ثلاث غرفاف، ثم بالاستنشاق مثل ذلك لأنهما عضوان، فيأتي بهما في ست غرفات، وفي كتاب أبي داود:" فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق "، وهذا يبين أنه لم يجمعهما في غرفة، والقولان للشافعى رحمه الله، وقيل: بل يغسلان معًا ثلاث مرات من غرفة واحدة، وقد روى البخاري في هذا الحديث(9) من رواية سليمان بن بلال(10)، فقال (11): فمضمض واسثنشق ثلاث مرات من غرفة واحدة، وهو محتمل لأن يكون جمعهما من غرفة واحدة(12)، لا أنه فعلهما(13) ثلاثًا من غرفة، وعلى ظاهره فعل ذلك ثلاث مرات من غرفة واحدة في المضمضة والاستنشاق.
__________
(1) في (ط):" أم ".
(2) في (ح):" هاتي ".
(3) في (ح):" ما ".
(4) في (ح):" ففعل ".
(5) في (ط):" وفعل ".
(6) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(7) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(8) قوله:" كذلك" ليس في (ح).
(9) في (أ) و(ط):" وقد روى الحديث البخاري ".
(10) قوله:" ابن بلال" ليس في (ح).
(11) في (أ):" قال " بدون واو.
(12) قوله:" واحدة " ليس في (أ) و(ط).
(13) في (أ) و(ط):" فصلهما ".(2/191)
وقوله: " ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه "، ظاهره أنه أدخل يده الواحدة في الماء فافرغ بها على اليسرى فغسل وجهه، وهو أحد القولين عندنا، وأنه كذلك يفعل في جميع وضوئه. وقد ذكر البخاري هذا الحديث أيضًا هكذا،[ وزاد:" فاغترف بها "](1)، وجاء في بعض الروايات عنه: "يديه فاغترف بهما "، وهذه حجة لاختيار مالك - رضي الله عنه - في هذه المسألة في غسل وجهه(2)، وكذلك الاختلاف عندنا، كذلك في أخذ الماء لمسح الرأس، وفي مسلم:" ثم أدخل يديه فاستخرجهما(3) فمسح برأسه "، وفي البخاري مثله [فيه أيضًا: "يديه "](4)، وفي رواية: " ثم أخذ بيديه ماء فمسح برأسه " ففي كل رواية حجة لقول(5) منهما.
وقوله في غسل اليدين إلى المرفقين هو(6) قول مالك وكافة العلماء بوجوب(7) إدخال المرفقين في غسل الذراعين، وأن:" إلى " هنا بمعنى: مع، ولا يطلق(8) اسم اليد عليها، ولأن الحد إذا كان من جنس المحدود دخل فيه، خلافًا لمن يرى أنه لا يجب غسلهما، وأنهما حدان، وروي نحوه عن مالك أيضًا (9)، وأنكرها القاضي أبو محمد من مذهبه والمرفق طرف الذراع(10) المتحدد(11).
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(2) في (ط):" الوجه ".
(3) في (ط):" فاستخرجها ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(5) في (أ):" لكل قول ".
(6) قوله:" هو " ليس في (ط).
(7) في (ط):" وجوب"، وفي (ح):" وحديث ".
(8) في (ط) تشبه أن تكون:" ولا نطلاق ".
(9) قوله:" أيضًا " ليس في (ح).
(10) في (ط):" عظم الذراع ".
(11) من قوله:" وقوله في غسل اليدين...." إلى هنا ليس في (أ).(2/192)
وقوله فيه في رواية وهيب:" فمسح برأسه فأقبل بهما(1) وأدبر مرة واحدة ": يرفع الإشكال ويقطع التأويل والخلاف في تكرار المسح للرأس، ولم يأت تكرار مسح الرأس في "الصحيحين"، وحكم الإقبال والإدبار عندنا حكم المسحة الواحدة ليلاقى في رد يديه مالم يلاقه من الشعر، وليباشر من شعر الرأس مالم يلاقه في الذهاب بهما أولاً، والإقبال هنا معناه: أقبل(2) إلى جهة قفاه، والإدبار رجوعه، كما فسره في الحديث بقوله: " بداء(3) من مقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما "، وقيل: بل(4) المراد أدبر وأقبل، والواو لا تعطى رتبة، ويعضد هذا رواية وهيب فيه في "صحيح البخاري":" فأدبر بهما وأقبل"، وهذا أولى مع ثباته(5) في جميع الروايات بقوله:" بدأ بمقدم رأسه"، وقيل: معناه: ابتدأ من الناصية مقبلاً إلى الوجه، ثم ردهما إلى قفاه (6)، ثم رجع إلى الناصية. وهذه الأحاديث كلها في ذكر مسح الرأس ظاهرها مسح عموم الرأس، وهو مفسرٌ للآية، وأن الفرض عمومه، وهو قول مالك رحمه الله، وفيها(7) حجة على من خالفه من أصحابه وغيرهم في جواز تبعيضه على تشعب مذاهبهم في ذلك، ولم يأت في الحديث الصحيح ما يخالف هذا، ولإجماع الكل على فرض الاستيعاب في بقية الأعضاء المفروضة، وفيها دليل على أن الترتيب مشروع على ماجاء في الآية، وفي فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - دون خلاف في ذلك من الرواة والعلماء. ثم اختلفوا هل ذلك فرض أم لا ؟ واختلفت الرواية عن مالك في ذلك، والمشهور عنه أنه سنة.
__________
(1) في (أ) و(ط):" به ".
(2) كذا في (ح)، وكتب فوقها بخط مغاير:" بهما ".
(3) في (ط):" بدأ ".
(4) قوله:" بل " ليس في (أ).
(5) في (أ):" بيانه ".
(6) في (أ) و(ط):" القفا ".
(7) في (ح):" فيه ".(2/193)
وقوله:" ومسح بماء غير فضل يديه "، هو(1) السنة في تجديد الماء لمسحه، خلافًا للأوزاعي والحسن وعروة في تجويزهم(2) مسحه ابتداء بماء فضل يديه، ونحوه لابن الماجشون من أصحابنا قال: إن كان بلحيته بلل وبعد عنه الماء مسح به (3). ولم يأت في شيء من هذه الأحاديث التسمية أول الوضوء، لكن ذكر أبو داود والترمذي وأصحاب المصنفات حديث:« لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله »، واختلف العلماء والمذهب في ذلك، فمعظم أهل العلم أن التسمية غير واجبة، لا شيء على تاركها، لكنها فضيلة مستحبة، وهو مشهور قول مالك وقول الشافعي والثوري وأصحاب الرأي، وتأول بعضهم الحديث على نفي الكمال والفضيلة، وبعضهم على أن معناه ذكر القلب(4) والنية، وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: لا أعلم في هذا الباب حديثًا له إسناد جيد، وذهب إسحاق إلى وجوبه(5) وإعادة الوضوء على تاركه عمدًا(6) دون الساهي، وروي عن مالك إنكاره، وقال: أيريد(7) أن يذبح ؟! وروي عنه أيضًا: من شاء قاله ومن شاء لم يقله، فحمله بعضهم على التخيير.
وقوله:« من استجمر فليوتر »، قال الإمام: قال الهروي في قوله:« فإذا استجمرت فأوتر »: الاستجمار: هو التمسح بالجمار، وهي الأحجار الصغار، ومنه سميت جمار مكة، وجمرت: رميت الجمار.
__________
(1) في (ح):" فهو ".
(2) في (ط):" وفي تجويزهما ".
(3) من قوله:" ونحوه لابن الماجشون...." إلى هنا ليس في (أ).
(4) في (ط) بياض مكان قوله:" القلب ".
(5) في (أ):" وجوبها ".
(6) في (ط) بياض مكان كلمة:" عمدًا ".
(7) في (ط):" أتريد "، وفي (ح) الياء الأولى منقوطة من فوق ومن أسفل.(2/194)
قال القاضي: قال ابن القصار يجوز أن يقال: إنه(1) أخذ من الاستجمار بالبخور والذي(2) تطيب(3) به الرائحة، وهذا يزيل الرائحة القبيحة، وقد اختلف قول مالك وغيره في معنى الاستجمار المذكور في الحديث، فقيل هذا، وقيل: هو في البخور أن(4) يجعل منه ثلاث قطع، أو يأخذ(5) منه ثلاث مرات، يستعمل(6) واحدة بعد أخرى، والأول أظهر.
وقوله:« إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء ثم لينتثر »: يدل على أنهما مشروعان كما تقدم، وهما عندنا سنتان، وقد عدهما بعض شيوخنا سنة واحدة، وقال ابن قتيبة: الاستنشاق والاستنثار سواء، مأخوذ من النثرة وهو طرف الأنف، ولم يقل شيئًا، بل الاستنشاق من التنشق، وهو جذب الماء(7) إلى الأنف بالنفس، والنشوق: الدواء الذي يصب في الأنف، والاستنثار: من النثر: وهو الطرح، وهو هنا: طرح الماء الذي ينشق(8) قبل(9) ليخرج ما تعلق به(10) من قذر الأنف، وقد فرق بينهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله:« فليستنشق بمنخريه من الماء ثم لينتثر »، وقد احتج بعضهم بأمره - صلى الله عليه وسلم - بهما على وجوبهما على المتوضئ، وذلك عند أكثر العلماء على الندب، وإلى أنهما سنتان في الوضوء والغسل، ذهب مالك، وربيعة والأوزاعي، والشافعي، وذهب الكوفيون إلى وجوبهما في الغسل دون الوضوء، وذهب ابن أبي ليلى وغيره إلى وجوبهما فيهما، وذهب أحمد وإسحق وأبو ثور إلى وجوب الاستنشاق فيهما دون المضمضة بدليل هذا الحديث.
__________
(1) قوله:" إنه " ليس في (ح).
(2) في حاشية (ح):" التي"، وعليها " خ"، وفي (ط):" بالبخور الذي ".
(3) في (أ):" يطيب ".
(4) في (ح):" أي "، وفي (ط):" أن تجعل ".
(5) في (ط):" تأخذ ".
(6) في (ط):" تستعمل ".
(7) في (ط):" الشيء ".
(8) في (أ):" تنشق ".
(9) في (ح):" قيل "، وفي حاشيتها:" قبل "، وعليها "صح، خ".
(10) في (ح):" ليخرج به ما تعلق ".(2/195)
وقوله:« فإن الشيطان يبيت على خياشيمه(1)»، الخيشوم: أعلى الأنف، وقيل: الأنف كله، يحتمل أن يكون هذا على الحقيقة ؛ لأن الأنف أحد منافذ الجسم الذي يتوصل إلى القلب منها (2)، لاسيما وليس من منافذ الجسم ماليس عليه غلق سواه وسوى الأذنين، وفي الحديث:« إن الشيطان لا يفتح غلقًا »، وجاء(3) في التثاؤب الأمر بكظمه من أجل دخول الشيطان في الفم حينئذ، أو يكون على طريق الاستعارة، فإن ماينعقد من الغبار ورطوبة الخياشيم من القذارة وضد النظافة التي توافق الشيطان وهي منه، وأمره بذلك إشارة إلى القيام للوضوء(4) للصلاة، كما جاء في الآية، وكما جاء في غَسل اليد قبل إدخالها الإناء، وقد جاء مبيَّنًا في غير "كتاب مسلم":« فليتوضأ وليستنثر ثلاث مرات فإن الشيطان يبيت على خياشيمه(5).
وقوله:« من استجمر فليوتر »: استدل به من يراعي في المسأله العدد مع الإنقاء، وهي ثلاثة أحجار، وهو قول أبي الفرج وابن شعبان من أصحابنا، وقول الشافعي وأصحابه، قالوا: وإذا لم يعقل أنه أراد من الحديث الواحدة التي هي أول عدد الوتر فالمقصود ما زاد على ذلك، وأقله بعده من الأوتار ثلاث مع قوله:« أو لا يجد أحدكم ثلاثة أحجار »، ومالك وجمهور أصحابه وأبوحنيفة لايراعون العدد، وإنما يراعون الإنقاء وحده، وحجتهم أقل ما يقع عليه اسم وتر، فإذا حصل بواحدة كفى، فإن حصل باثنتين فما زاد أوتر استحبابًا، ومعنى ذكر الثلاث على ماجرت به العادة في الانقاء أو على الاستحباب، وإن حصل الإنقاء بدونها، أو على أن واحدة لكل جهة، والثالثة للوسط، وسيأتي الكلام على الاستجمار بعد هذا.
__________
(1) في (ط):" خياشمه ".
(2) في (ح):" منهما ".
(3) في (ح):" وقد جاء ".
(4) في (ح):" بالوضوء ".
(5) في (ط):" خياشمه ".(2/196)
وقوله:« ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء »، وأن رجلاً لم يغسل عقبه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - له(1) ذلك، وأن رجلاً ترك موضع ظفر على قدمه فقال له:« ارجع فأحسن وضوءك »: كله دليل على أن فرض الرجلين الغسل دون غيره، وهو مذهب أئمة الفتوى، وذهب ابن جرير وداود إلى التخيير لاختلاف القراءتين في الآية، والوعيد لا يتعلق إلا بترك فرض، وشأن المسح التخفيف، وقراءة النصب مفسرة لقراءة الخفض، إذ الخفض على الجواز، ولأن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهما(2) الغسل في جميع أحاديث وضوئه ؛ ولأن الإسباغ معناه تمام الوضوء وتبليغه حدوده، والثوب السابغ الكامل.
وقوله في بعض طرق هذا الحديث:" ونحن نمسح على أرجلنا "، بمعنى ما في الآية المراد به الغسل بدليل سائر الروايات.
وقوله:" لم يغسل عقبه(3)". لا على ما أشار إليه بعضهم أنه دليل على أنهم كانوا يمسحون فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك وأمرهم بالغسل، قال: ولأنه لو كان غسلاً لأمرهم بالإعادة لما صلوا، وهذا لا حجة فيه لقائله ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أعلمهم أنهم مستوجبون النار على فعلهم بقوله:« ويل للأعقاب من النار»، ولا يكون هذا إلا في الواجب، وقد أمرهم بالغسل بقوله:« أسبغوا الوضوء »، ولم يأت أنهم صلوا بهذا الوضوء، ولا أنها كانت عادتهم قبل فيلزم(4) أمرهم بالإعادة(5).
[ وقوله في الذي ترك موضع ظفر على قدمه في الوضوء:« ارجع فأحسن وضوءك » دليل على استيعاب أعضاء الغسل، وإن ترك شيء منها لا يجزي، وظاهره أنه كان صلى ؛ ففيه حجة لإعادة الصلاة لمن ترك ذلك القدر أو شيئًا منه ](6).
__________
(1) في (ح):" فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -".
(2) في (أ):" فيها ".
(3) في (ط):" عقبيه ".
(4) في (ح) و(ط):" فلزم ".
(5) في (ح):" بالوضوء ".
(6) مابين المعكوفين من (ط) فقط.(2/197)
وقوله:« ويل للإعقاب من النار »، أي: أنها المعذبة التى تصيبها(1) النار، أو أن بسبب تركها يعذب صاحبها، أو تعذب هى من جملة الرجل المغسولة، وأن مواضع الوضوء لا تمسه النار كما جاء في أثر السجود أنه يحرم على النار. وإلى هذا ذهب أحمد بن نصر. والأعقاب مؤخر الأقدام [واحدها عقب، وعقب](2) بكسر القاف وسكونها، وعقب كل شيء آخره، وجاء في الحديت الآخر:« العراقب(3)»، وهو في معناه. والعرقوب: العصبة(4) التي في مؤخر الرجل فوق العقب وأعلاه (5).
وقوله:" وقد حضرت العصر ": أي: حان وقت صلاتها، يقال بفتح الصاد، وجاء بكسرها أيضًا.
وقوله:« ويل »: هى كلمة تقال لمن وقع في هلكة، [وقيل لمن يستحقها، وقيل: هى المهلكة، وقيل: المشقة من العذاب، وقيل: الحزن ](6)، وقيل: ويل: واد في جهنم.
وجاء في هذه الأحاديث ذكر الغسل للأعضاء وهو يشعر بمر اليد مع الماء. وقد فرقت العرب بين الغسل والغمس، والمسح والصب، والنضح والنضخ، وذلك شرط عندنا في مشهور مذهبنا [ في الوضوء والغسل](7) خلاف ما ذهب إليه أبوالفرج ومحمد بن عبد الحكم ورواه الطاطري(8) عن مالك في سقوط وجوب الدلك(9)، وحكى الطبري أن الغسل يقع على ما لم تمر عليه اليد، وهو مذهب الشافعي وغيره(10).
__________
(1) في (ح) قوله:" تصيبها " التاء منقوطة من أعلى ومن أسفل.
(2) مابين المعكوفين ليس في (ح) و(ط).
(3) في (أ):" إلا العراقب ".
(4) في حاشية (ح):" القصبة "، وعليها " خ".
(5) من قوله:" وقوله: ويل للأعقاب من النار...." إلى هنا جاء متأخرًا بعد عدة أسطر قبل قوله:" وجاء في هذه الأحاديث ".
(6) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(7) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(8) في (ح):" الطبري ".
(9) في (ط):" الدلك عنهما ".
(10) في (ط) الشافعي وأبي حنيفة وغيره "، وفي حاشية (ح):" وأبو حنيفة وغيرهما"، وعليها "صح، خ".(2/198)
وفي صفة فعله - صلى الله عليه وسلم - في الوضوء البداءة بالوجه وترتيب الأعضاء على نسق القرآن، ولم يرو خلاف هذا عنه، فاستدل به من يرى الترتيب واجبًا، وهو مذهب الشافعي وأهل الحديث، واحتجوا بقوله تعالى:{ اركعوا واسجدوا}، و {إن الصفا والمروة }، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:« نبدأ بما بدأ الله به »، وأن الواو أتت هاهنا للترتيب، وإلى هذا ذهب من أصحابنا محمد بن مسلمة وأبو مصعب، وحكاه عن أهل المدينة، وهو ظاهر إحدى روايتي علي بن زياد عن مالك، وذهب معظم الصحابة والسلف: أن ذلك ليس بفرض، وهو مشهور قول مالك، وهو(1) قول الكوفيين وجماعة من العلماء، ومذهب مالك أن الترتيب سنة، وأصل الواو أنها لا تقتضي ترتيبًا إلا بقرينة من غيرها ودليل سواها، قالوا ولو كانت الواو تقتضي ترتيبًا(2) لما احتاج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبين البداية بالصفا، وأن علتها التبرك بما بدأ الله به، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل أنه(3) سنة، لكن إنما يراعيه مالك في المفروض لا في المسنون، فيجعله [يكرر ما قدم](4) من المفروض دون المسنون ويغسل ما بعده في القرب.
__________
(1) قوله:" هو" ليس في (ح).
(2) في (أ):" رتبة "، وفي (ط):" الرتبة "..
(3) في (ط):" أنها ".
(4) مابين المعكوفين في موضعه بياض في (ح).(2/199)
واختلف في البعد عندنا في العامد لذلك هل يعيد الوضوء أم لا شيء عليه ؟ وهل يعيد ما صلى أم لا ؟ وفي الناسي هل يعيد ما قدم لا غير، أم يعيده وما بعده ؟ وكذلك(1) لم يذكر في هذه الأحاديث مسح الأذنين،[ ولا خلاف أن طهارتهما مشروعة ](2)، وفي طي ذكرها دليل لمالك(3) أنهما من الرأس ؛ لأنه ذكر مسح الرأس من مقدمه إلى مؤخره، فحصلت الأذنان في جملته، وقد روى ابن عباس وأبو أمامة أنه - عليه السلام - قال:« الأذنان من الرأس »، وبه(4) قال كافة العلماء، وأن حكمهما المسح خلافًا للزهري بأنهما من الوجه يغسل ظاهرهما وباطنهما معه، واحتج بقوله:« سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره »، واختلف في ذلك عن ابن عمر، وقال الشعبي والحسن بن صالح وإسحاق: ما أقبل منهما من الوجه يغسل معه(5)، وما أدبر منهما(6) من الرأس يمسح معه، وقال الشافعي: هما سنة على حالهما(7) يستأنف لهما ماء(8) جديد بعد مسح الرأس (9)، وهذا مذهب ابن حبيب من أصحابنا وغيره (10)، والأظهر من المذهب عند المغاربة. وقال ابن مسلمة وشيوخنا البغداديون(11): أن(12) مسحهما فرض(13) كمسح الرأس، وحجتهم حديث ابن عباس المتقدم. وقال القاضي(14) عبدالوهاب: مسح داخلهما سنة، وفي ظاهرهما خلاف(15)؛ قيل: فرض، وقيل سنة(16). وكافة
__________
(1) في (أ):" ولذلك ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(3) في (ط):" لمالك والكافة ".
(4) في (ط):" وبهذا ".
(5) قوله:" يغسل معه " ليس في (ح).
(6) قوله:" منهما " ليس في (ح).
(7) في (ط):" حيالها ".
(8) في (ح):" الماء "، ويوجد إلحاق ولم يظهر شيء في التصوير.
(9) قوله:" جديد بعد مسح الرأس " ليس في (ح).
(10) قوله:" من أصحابنا " ليس في (ح) و(ط).
(11) في (ح):" شيوخ البغداديين ".
(12) قوله:" أن" ليس في (ح).
(13) في (ط):" فريضة ".
(14) قوله:" القاضي " ليس في (ح).
(15) في (ط):" اختلاف ".
(16) في (ط):" قيل سنة وقيل فريضة ".(2/200)
العلماء يرون استئناف الماء لهما، وهو مشهور مذهبنا، وقال ابن مسلمة: إن شاء مسحهما مع الرأس (1)، وقال ابن حبيب: من لم يجدد لهما الماء كمن لم يمسحهما، وفي "المختصر": يستحب تجديد الماء لهما، واختلفت الآثار في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن القصار: ولا خلاف بين الأئمة: أن(2) من اقتصر على مسحهما دون الرأس أنه لا يجزي من مسح الرأس](3). ولم يأت في هذه الأحاديث تخليل اللحية، كما جاء تخليل شعر الرأس في الغسل فدل أنه غير مشروع، وبهذا احتج مالك على عيب التخليل في الوضوء، وهو مشهور قوله، وقوله الآخر قاله(4) ابن عبد الحكم، ويرى(5) تخليلها(6) في الوضوء كالغسل.
قوله: ثم غسل رجليه إلى الكعبين لا خلاف بين أئمة الفتيا(7) وفقهاء الأمصار: أن فرض طهارة الرجلين في الوضوء الغسل، وأن قراءة النصب والخفض راجعة إلى معنى واحد بأن النبي - عليه السلام - ذلك بفعله في كل زمن، وأفعاله على الوجوب، وحديث داود والطبري(8) إلى التخيير بين المسح والغسل فيهما لاختلاف القراءتين، والعمل بكل واحدة منهما وإحداث هذه المقالة يكفي في ردها، وذهبت الشيعة إلى أن الفرض المسح، ولا يجوز الغسل، وعوّلوا على قراءة الكسر، وعلى أحاديث رويت في ذلك عن علي وبعض الصحابة. وقد روي عنهم غيرها في الغسل فيما هو أصح، وعمل النبي - عليه السلام - وعملهم بالغسل يردها.
__________
(1) في (ط):" رأسه ".
(2) في (ح):" الأمة أنه ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(4) في (ط):" وقاله ".
(5) قوله:" يرى " ليس في (ط).
(6) في (ط):" يخللها ".
(7) في (ك):" بين أئمتنا ".
(8) في نسخة (ك):" وذهب أبو داود والطبري ".(2/201)
وقوله:" إلى الكعبين": هما العظمان الناتئان في جانبي طرف الساق، وقيل: هما العظمتان اللذان في ظهور القدم عند معقد الشراك، والقولان عن مالك، والأول أصح لغة ومعنى، وهي المشهورة عن مالك، واختلف عنه في دخولهما في غسل الرجلين كما تقدم من الكلام في المرفقين، وقد يفرق بينهما؛ لأن القطع عنهما بخلاف المرفقين، لكن عمل النبي - عليه السلام - بإدخالهما حجة](1).
ذكر في حديث محمد بن حاتم وأبي معن الرقاشي، عن عمر بن يونس، نا عكرمة بن(2) عمار، نا يحيى بن أبي كثير، حدثني أو حدثنا أبو سلمة بن عبدالرحمن، نا سالم مولى المهري: خرجت أنا وعبد الرحمن بن أبي بكر في جنازة سعد بن أبي وقاص... الحديث. قال البخاري: قول عكرمة: سالم مولى المهري خطأ، والصواب سالم مولى شداد بن الهاد(3)، وكذا ذكره مسلم في الحديثين قبل هذا، وفي حديث سلمة بن شبيب بعد.
وقوله فيه:" كنت أنا مع عائشة....، الحديث، كذا صوابه، وكذا عند أبي بحر والقاضي أبي علي من شيوخنا، ووقع عند ابن أبي جعفر عن الطبري، وفي كتاب القاضي أبي عبد الله بن عيسى:" كنت أبايع عائشة ".
وقوله في الذي ترك موضع ظفر على قدمه:« ارجع فأحسن وضوءك » دليل على استيعاب الأعضاء وغسل الرجلين، وأن تارك بعض وضوئه جهلاً أو عمدًا يستأنفه، لقوله:« فتوضأ »، ولم يقل: فغسل(4) ما نسي.
وقوله له:" أحسن وضوءك "، ولم يقل: اغسل ذلك الموضع، وفيه حجة للموالاة.
وقوله:« إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن»: هو - والله أعلم - شك من الراوي، وفيه الدليل على تحري المجيء بلفظ الحديث لتحريه هذا، وإن كانا متقاربين في المعنى، لا سيما هنا.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح)، والمثبت من (ط). ويوجد علامة إلحاق في (ح) ولم يظهر شيء في الحاشية.
(2) في (ح):" عن ".
(3) في (ط):" الهادي ".
(4) في (ح):" يغسل ".(2/202)
وقوله:« فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها(1) بعينيه(2) مع الماء »، تقدم، أنه على جهة الاستعارة، لغفرانها معه لأنها ليست بأجسام فتخرج، ولا هي(3) كامنة في الجسم فتخرج.
وذكر هنا من حديث [أبي صالح، عن](4) أبي هريرة من رواية مالك خروج خطايا الوجه وسائر خطايا الأعضاء منها، ولم يذكره(5) من حيث تخرج من مسامها، إلا قوله في حديث عثمان:« حتى تخرج من تحت أظفاره»، وقد وقع في "الموطأ" مفسرًا خروجها عنده المضمضة من فيه، وخروجها عند الاستنشاق من أنفه(6)، وإذا غسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه(7)، حتى تخرج من تحت أشفار(8) عينيه، وفي يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه، وفي رأسه حتى تخرج من أذنيه، وفي رجليه حتى تخرج من أظفار رجليه،، فعلى ما في كتاب مسلم يتأول أن المغفور له بالوضوء الخطايا المختصة بأعضاء الوضوء، ولكن قوله في أخرى(9):« حتى يخرج نقيًّا(10) من الذنوب »، ظاهره العموم، ويحتمل الخصوص لما ذكرنا، أو يكون العموم بقرائن من الإخلاص والإحسان، واستدل بعضهم من هذا الحديث على ترك الوضوء بالماء المستعمل، وسمي المستعمل ماء الذنوب لهذا الحديث، وهذا ضعيف لما تقدم، وأطلق أبو حنيفه عليه النجاسة، وعندنا في استعماله وجهان، واختلف في التأويل عن مالك في النهي عن الوضوء به، هل هو على الكراهة أو عدم الإجزاء ؟ وقد وقع له يتيمم من لم يجد سواه، وتأويل هذا أيضًا على ظاهره أو على الجمع بينه وبين التيمم، وفي حديث "الموطأ" حجة لنا أن الأذنين من الرأس لتخصيصه إضافة خروج خطاياه
__________
(1) قوله:" إليها " ليس في (أ).
(2) في (ح):" بعينه ".
(3) قوله:" هي" ليس في (ح).
(4) مابين المعكوفين ليس في (ح) و(ط).
(5) في (أ) و(ط):" يذكر ".
(6) في (أ) و(ط):" وعند الاستنشاق خروجها من أنفه ".
(7) في (ح):" بعينه ".
(8) في (ح):" أظفار ".
(9) في (ط):" قوله آخرًا ".
(10) في (ح):" نفيًّا ".(2/203)
إليها، ولم يضفه إلى الوجه كما خص خطاياه كل عضو ببعضه، ورد على من ذهب إلى أنهما يغسلان مع الوجه(1).
وقال مسلم: " نا محمد بن معمر بن ربعي القيسي، نا أبو هشام(2) المخزومي، عن عبد الواحد بن زياد، كذا لابن عيسى والشنتجالي، وعند سائر [شيوخنا و](3) الرواة أبو هاشم، والأول أصوب(4)، وقال البخاري في "تاريخه": أبو هشام(4) المخزومي اسمه: المغيرة بن سلمة البصري، سمع عبدالواحد بن زياد، وكذا كناه عبد الغني بن سعيد، وفي كتاب القاضي أبي الوليد الباجي: أبو هاشم مصلح.
وقوله:« أنتم الغر المحجلون يوم القيامة »، وقوله:« تردون(5) عليّ غرًّا محجلين من أثر الوضوء »، قال الإمام: قد استوفى - صلى الله عليه وسلم - في قوله:« غرًّا محجلين» جميع أعضاء الوضوء ؛ لأن الغرة بياض في جبهة الفرس، والتحجيل: بياض في يديه ورجليه، فاستعار للنور الذي يكون بأعضاء الوضوء يوم القيامة اسم الغرة، والتحجيل على جهة التشبيه.قال الهروي: روي(6) عن أبي عمرو ابن العلاء في تفسير غرة الجنين(7)، أنه لا يكون إلا أبيض من الرقيق، قال: وأما الأيام الغر التي روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صومها فهى البيض.
قال القاضي: وقوله:" ليست لأحد غيركم "، قال غير واحد من أهل العلم: إن الغرة والتحجيل مما اختصت به هذه الأمة، وهذا الحديث يدل على ذلك، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -:« إن بها يعرف أمته من غيرها ».
__________
(1) في (ط):" الوجه وفيه ".
(2) في (ح):" أبو هاشم ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(4) في (أ) و(ط):" الصواب ".
(5) في (ط):" يردون ".
(6) قوله:" روي " ليس في (ح).
(7) في (ح):" الجبين ".(2/204)
وقوله:« لو كانت لرجل خيل غرّ محجلة في خيل دهم بهم، ألا يعرف(1) خيله ؟». قال: الأصيلي وغيره: هذا الحديث يدل أن الوضوء مما اختصت به هذه الأمة، وعارضه غيره بقوله - صلى الله عليه وسلم -:« هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي »، وذهب إلى أن اختصاص الأمة بالغرة والتحجيل لا بالوضوء، لهذا الحديث، وقد ضعف هذا الحديث، وأيضًا فقد يحتمل أنه اختصت به الأنبياء دون سائر أممها إلا أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله:« فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل »، ذهب أبو هريرة إلى أن تطويل الغرة في العضو والزيادة فيه على الفرض، فذكر في "الأم" أنه كان يشرع في العضد وفي الساق(2)، وحتى كاد يبلغ المنكبين، وحتى كاد يبلغ إبطه(3) إلى البياض(4)،[ وحتى كاد يبلغ إلى الساقين ](5)، وكان يقول: «أحب أطيل غرتي »، وكان يقول أيضًا:« تبلغ الحلية حيث يبلغ الوضوء »، ويرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يتابع عليه، والناس مجموعون(6) على خلاف هذا، وألاّ(7) يتعدى بالوضوء حدوده لقوله - صلى الله عليه وسلم -:« فمن زاد فقد تعدى وظلم »، وتتأول الاستطاعة على تطويل الغرّة والتحجيل بالمواظبة على الوضوء لكل صلاة وإدامته، فتطول غرّته بتقوية نور أعضائه وتضاعف بهاءه، وإلا فلا زيادة في الوجه، واتباع تأويل أبي هريرة أدى بعض الشارحين إلى أن المراد بالغرَة: الحجلة، إذ لم يجد سبيلاً للزيادة(8) في الوجه.
__________
(1) قوله:" ألا يعرف " مكانه بياض في (ط).
(2) في حاشية (ح):"الساقين "، وكتب فوقها:"صح، خ".
(3) في (ح):" إبطيه ".
(4) قوله:" إلى البياض " ليس في (أ) و(ط).
(5) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(6) في (ط):" يجمعون ".
(7) في (ح):" ولا ".
(8) في (أ):" إلى الزيادة ".(2/205)
وقوله:« ليست سيما لأحد غيركم »، السيما مقصورة وممدودة، والسيما أيضًا(1) ممدود(2): العلامة، قال الله تعالى:{ سيماهم في وجوههم}. ومعنى قوله:" حتى يشرع(3) في العضد، وحتى أشرع في الساق، أي أجل الغسل فيهما، وأدخل بعضهما(4) في مغسولة مثل ما يشرع الرجل ناقته، إذا أوردها الماء، يقال منه: شرع الرجل إذا ورد الماء، ثلاثي، وأشرع إبله إذا أوردها، وقيل: إذا ساقها إلى الماء وتركها ترد بنفسها، وشريعة الماء من حيث يتوصّل من حافة النهر إليه(5)، ومنه: شريعة الدين لأن منها يتوصل إليه، وقيل معناها(6) هاهنا(7) البيان والظهور.
وقوله:" أصد الناس ": أي: أرد.
وقوله: " وأذود الناس ": أي أطرد.
وقوله:« كما يذود الرجل الإبل الغريبة عن حوضه »: الإبل الغريبة التي لا يعرف صاحبها، كما قال في الحديث الآخر:« كما يذاد البعير الضال »، فهي ترعى مع الإبل وتزاحم واردتها على حوضها، فصاحب الإبل يضربها جهده، ويطردها حتى يسقى إبله، وهي تترامى بالعطش وهو يصدها، ولذلك ضرب المثل بضربها. وقال الحجاج: لأضربنكم ضرب غرائب الإبل.
وقوله في الحديث:" إنه أتى المقبرة "، حجة في جواز زيارة القبور، ولا خلاف في جوازها للرجال، وأن النهى قد نسخ، واختلف فيه للنساء. وقوله:« السلام عليكم دار(8) قوم مؤمنين »، والمراد(9) به: أهل تلك الدار، ويحتمل أن يحيوا له حتى يسمعوا(10) سلامه، كما سمعه أهل القليب، ويحتمل أن يفعل ذلك مع موتهم ليبين ذلك لأمته، وسيأتي هذا وشبهه في الجنائز.
__________
(1) قوله:" أيضًا " ليس في (ط).
(2) في (ط):" ممدودة ".
(3) في (أ) و(ط):" أشرع ".
(4) في (أ):" بعضها ".
(5) قوله:" إليه " ليس في (ح).
(6) قوله:" معناها " ليس في (ح).
(7) في (أ) و(ط):" هنا ".
(8) في (ح):" أهل دار ".
(9) في (أ) (ط):" المراد ".
(10) قوله:" يسمعوا " ليس في (ط).(2/206)
قال أبو عمر رحمه الله: قد روى تسليم النبي - صلى الله عليه وسلم - على القبور من وجوه بألفاظ مختلفة ذكرها، وجاء عن الصحابة والسلف الصالح في ذلك آثار كثيرة.
قال الإمام: سلامه - صلى الله عليه وسلم - يصح أن يكون حجة لمن يقول: إن الأرواح باقية لا تفنى بفناء الأجسام، وفي غير هذا الكتاب من الأحاديث أن الأرواح تزور القبور.
وقوله:« وإنا إن شاء الله بكم لاحقون »: إن كان المراد: لاحقون في الموت، فهذا أمر معلوم، ويكون الاستثناء هاهنا من شيء موجب على سبيل التبري من الاستبداد، وعلى التفويض إلى الله تعالى، ومثله قوله(1): {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله }، وهو خبر صدق، وإن كان أراد: بكم لاحقون في الممات على الإيمان، فيكون الاستثناء على حقيقته (2)؛ إذ لا يدري الإنسان على ما يوافى ؛ إلا أنه - صلى الله عليه وسلم - ومن شهد له بالجنة من أصحابه(3) معصوم من الموافاة على الكفر، فيكون الكلام عائدًا على من يجوز ذلك عليه من أصحابه، أو يكون قبل أن يوحى إليه بالعصمة لمن ثبتت له العصمة من الموافاة على الكفر.
__________
(1) قوله:" قوله " ليس في (ح).
(2) في (ط):" حقيقة ".
(3) في (ط):" الصحابة ".(2/207)
قال القاضي: قد قيل: إن هذا يكون امتثالاً لقوله جل وعز:{ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله }، أو يكون الاستثناء راجعًا على اللحاق بالموتى لتسميتهم مؤمنين على الظاهر من حالهم، ثم رجاء لحاقه بهم، فاستثنى لمغيب حالهم في علم الله وتعالى وعاقبة أمرهم ومشيئته سبحانه برحمتهم، وقد(1) يحتمل أن يكون الاستثناء راجعًا إلى اللحاق بهم في مقبرتهم وموته بالمدينة، وقيل: هو على مساق الكلام في مجيء الاستثناء في الواجب ليس على طريق الشك، ومثله قوله(2):{ لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } على ما تقدم، أو على طريق التأدب(3) والامتثال لقوله تعالى:{ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله }، وقيل:"إن" هنا بمعنى: إذا (4)، وقيل: قالها من أجل من كان معه ممن يتهم بالنفاق(5).
وقوله:« وددت أنا رأينا(6) إخواننا » فيه جواز التمني، لاسيما في باب الخير ولقاء الفضلاء والأخيار الأولياء في الله تعالى، وقيل: إن المراد تمنيه لقائهم بعد الموت.
[وقوله:« إخواننا » لقوله تعالى:{ إنما المؤمنون إخوة }](7).
__________
(1) في (ط):" قيل ".
(2) قوله:" قوله " ليس في (ح).
(3) في (ط):" التأديب"، وفي (ح) أصلحها:"التأدب".
(4) في (ط):" إذ ".
(5) من قوله:" وقيل قالها...." إلى هنا ليس في (أ).
(6) في (أ) و(ط):" أني رأيت ".
(7) مابين المعكوفين ليس في (ح).(2/208)
وقوله:« ألسنا بإخوانك ؟»، قال:« بل أنتم أصحابي »: قال الباجي: لم ينف بذلك أخوتهم، ولكنه ذكر مزيتهم الزائدة بالصحبة واختصاصهم بها، ولم تحصل لأولئك بعد، فوصفهم بالإخوة، وقال أبو عمر: فيه دليل [على](1) أن أهل الدين والإيمان كلهم أخوة في دينهم، قال الله تعالى:{ إنما المؤمنون إخوة }، وأما الأصحاب فمن صحبك وصحبته. وذهب أبو عمر من هذا الحديث وغيره في فضل من يأتي ومن في آخر الزمان، إلى أنه قد يكون فيمن(2) يأتي بعد الصحابة من هو أفضل ممن كان في جملة الصحابة، وأن قوله - صلى الله عليه وسلم -:« خيركم قرني » هو(3) على الخصوص، وإن كان مخرجه العموم، وإن قرنه على الجملة خير القرون، أو معناه(4): خير الناس في قرني، يعني السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ومن سلك مسلكهم، فهؤلاء أفضل الأمة، والمراد بالحديث، وأما من خلط في زمانه وإن رآه وصحبه ولم(5) تكن(6) له سابقة ولا أثر في الدين، فقد يكون في القرون التي تأتي بعد القرون الأولى(7) من يفضلهم على ما دلت عليه عنده(8) الآثار، وذهب إلى هذا غيره من المتكلمين على المعاني، وذهب معظم العلماء إلى خلاف هذا، وأن من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ورآه مرة من عمره وحصلت له مزية الصحبة أفضل من كل من يأتي بعده، وأن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل، قالوا: وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -:« لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه »، وحجة الآخر عن هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله لبعضهم عن بعضٍ، فدل أن ذلك للخصوص لا للعموم.
__________
(1) قوله:" على " ليس في (ح).
(2) في (ط):" ممن ".
(3) قوله:" هو " ليس في (أ) و(ط).
(4) في (أ):" ومعناه ".
(5) في (أ) و(ط):" أولم ".
(6) في (ط):" يكن ".
(7) في (أ) و(ط):" القرن الأول ".
(8) في (ح) يشبه أن تكون:" عنه ".(2/209)
وقوله:« بين ظهري خيل دهم بهم »، قال القاضي: قال الأصمعي: العرب تقول: نحن بين ظهريهم وظهرانيهم على لفظ الاثنين، أي بينهم، قال: والعرب تضع الاثنين موضع الجمع.
وقوله:« دهم »، قال الإمام: قال الهروي في قوله تعالى:{ مدهامتان}، قال بعضهم: الدهمة عند العرب السواد، قال مجاهد:{ مدهامتان }: مسودتان.
وقوله:« بُهم »: قال الهروي في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -:« يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة(1) بهما »،: البهم واحدها بهيم، وهو الذي لا يخالط لونه لون سواه.
قال القاضي: كذا قال أبو حاتم، قال(2): سوادًا كان أو بياضًا أو حمرةً،يقال: أسود بهيم وأبيض بهيم(3) ونحوه، قال يعقوب وغيره: وقال غيره: البهيم الأسود، وليل بهيم، وكذلك من الخيل الذي لاشية فيه، وقاله أبو زيد، وأما قول الهروي في تفسير الحديث في حشر الناس فيحتاج إلى بيان. قال صاحب الدلائل: يريد متشابهى الألوان.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:« وأنا فرطهم على الحوض »، قال الإمام: قال الهروي: يقول: أنا أتقدمهم إليه(4)، يقال: فرطت القوم إذا تقدمتهم لترتاد لهم الماء وتهيئ لهم الدلاء والرشاء، وافترط فلان ابنًا له، أي تقدم له ابن، وفي الحديث:« أنا والنبيون فراط لقاصفين »(5) أي: متقدمون في الشفاعة، قال ابن الأنبارى في قوله:« القاصفين » يعنى: لقوم كثير متدافعين مزدحمين، وقيل: فراط إلى الحوض، ويقال: فرط إلى منه كلام قبيح، أي تقدم، ومنه قوله تعالى:{ أن يفرط علينا(6)}، وفي حديث أم سلمة: قالت لعائشة: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهاك عن الفرط في الدين، قال القتبي: الفرط السبق والتقدم.
__________
(1) في (أ) و (ط):" عراة وحفاة ".
(2) قوله:" قال " ليس في (أ).
(3) في (أ):" بهيتم ".
(4) في (ح):" عليه "، في حاشيتها (ح):" إليه ".
(5) من قوله:" أي متقدمون...." إلى هنا ليس في (أ).
(6) في (ط) زيادة:{ أو أن يطغى } في الآية.(2/210)
وقوله:« ألا ليذادن رجال عن حوضى »، قال القاضي: كذا رويناه في كتاب مسلم بغير خلاف في حديث إسماعيل بن جعفر، وفي حديث مالك: « فليذادن »، وفي "الموطأ" وغيره من حديث مالك:« فليذادن » و « فلا يذادن »، الروايتان معًا صحيحتان، واختلف رواة مالك عنه في هذا الحرف وأكثرهم يقول عنه:« فلا يذادن ».
قال الإمام: وقع في بعض طرق هذا الحديث:« فلا يذادن » على جهة(1) النهي، ومعناه على هذا: ألا يفعلوا(2) فعلا يكون سببا لذودهم عن حوضي(3)، وأكثر الروايات:« فليذادن » بلام التأكيد. قال القاضي رحمه الله: ويصحح رواية: « فلا يذادن » حديث سهل بن سعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعناه، وفيه:« فلا يردن علي أقوامٌ أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم، وهذا مثل قوله تعالى: { فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى }، أي: لا تفعلا فعلاً يخرجنكما من الجنة(4).
__________
(1) في (ح):" طريق ".
(2) في (أ) و(ح):" لا يفعلوا ".
(3) في (أ):" حوضٍ "، وفي (ط) لم تتضح.
(4) قوله:" من الجنة " ليس في (أ) و(ط).(2/211)
وقوله:« أناديهم: ألا هلم »، فيقال:« إنهم قد بدلوا بعدك(1)»: قال الباجي: يحتمل أن المنافقين والمرتدين وكل من توضأ، أنه يحشر بالغرة يوم القيامة(2) والتحجيل فلأجلها دعاهم، ولو لم تكن السيما إلا للمؤمنين لما دعاهم، ولما ظن أنهم منهم، قال: ويحتمل أن يكون ذلك لمن رأى النبي(3) - صلى الله عليه وسلم - فبدل بعده وارتد، فدعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلمه بهم أيام حياته وإظهارهم الإسلام، وإن لم يكن لهم يومئذ غرة ولا تحجيل(4)، لكن لكونهم عنده - صلى الله عليه وسلم - أيام حياته وصحبته باسم الإسلام وظاهره، والأول أظهر، فقد دلت الآثار على(5) غير هذا بتستر المنافقين ومن كان في غمار المؤمنين بجملتهم، ودخولهم فيهم في العرض والحشر حتى يميز الله الخبيث من الطيب، وأن نور المنافقين يطفأ عند الحاجة، فكما جعل الله لهم نورا بظاهر إيمانهم ليغتروا به حتى يطفأ عند حاجتهم على الصراط،كذلك لايبعد أن يكون(6) لهم هناك(7) غرة وتحجيل حتى يذادوا عند حاجتهم إلى الورود، نكالاً من الله تعالى لهم(8) ومكرًا بهم ليزدادوا خسيفة ويحققوا مقدار مافاتهم حين ذهب بهم عنهم، وحين قيل(9) لهم:{ ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا }،{ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون }. قال الداودي ليس في هذا ما(10) يحتم به للمذادين(11) بدخول النار، فيحتمل أن يذادوا وقتًا فتلحقهم شدة ثم يتلافاهم الله برحمته، ويقول لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا، ثم يشفع لهم، كأنه جعلهم في أهل الكبائر من
__________
(1) قوله:" بعدك " ليس في (أ) و(ط).
(2) قوله:" يوم القيامة " ليس في (أ) و(ط).
(3) قوله:" النبي " ليس في (ح).
(4) في (ط):" وتحجيل ".
(5) قوله:" على " ليس في (ح)، وفي (أ):" عند ".
(6) في (ط):" تكون ".
(7) في (أ) و(ط):" هنا ".
(8) قوله:" لهم " ليس في (أ).
(9) في (أ):" قال ".
(10) في (أ) و(ط):" مما ".
(11) في (أ):" للمذودين ".(2/212)
المؤمنين أو من بدل ببدعة(1) لا تخرجه(2) عن الإسلام. قال غيره: وعلى هذا لا يبعد أن يكونوا أهل غرة وتحجيل بكونهم من جملة المؤمنين، قال(3) غيره: ويحتمل أن يكون هؤلاء فيمن كان في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - ورآه أو في من يأتى بعده، وقيل: هم أهل الردة، وقال أبو عمر ابن عبد البر: كل من أحدث في الدين فهو من المطرودين عن الحوض كالخوارج والروافض وأصحاب الأهواء، وكذلك الظلمة المترفون في الجور وطمس الحق، والمعلنون بالكبائر ؛ فكل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا ممن عنوا بهذا الخبر. ويشهد على صحة تأويل من قال: إنهم أهل الردة، ماجاء في رواية سهل بن سعد:« أعرفهم ويعرفونني(4)، ثم يحال بيني وبينهم.
وقوله:« سحقًا سحقًا(5)» أي: بعدًا، والسحيق البعيد.
وقوله:« فيجيبني مالك »، كذا لجميعهم بالباء بواحدة، من الجواب، وعند ابن أبي(6) جعفر:« فيجيئني » مهموز من المجيء.
وقول أبي هريرة - رضي الله عنه -: يا بني فروخ، أنتم هاهنا ؟ لو علمت أنكم هاهنا ما توضأت هذا الوضوء. فروخ بفتح الفاء والخاء المعجمة.
في كتاب العين: بلغنا أن فروخ من ولد إبراهيم، وكان بعد إسماعيل وإسحاق عليهما السلام كثر نسله، فالعجم الذي في وسط البلاد من ولده، وأراد أبو هريرة هاهنا الموالي، وكان خطابه لأبي الزاهد حازم، وأبو حازم هذا أبو حازم الأعرج ليس بسلمة بن دينار الفقيه الزائد المديني(7) مولى بني مخزوم، وقيل: مولى بنى ليث، ولكنه أبو حازم سلمان الأشجعي الكوفي مولى عزة الأشجعية، وكلاهما خرج(8) عنه في الصحيح.
__________
(1) في (ح):" بنعمة ".
(2) في (أ):" يخرجه ".
(3) في (ط):" وقال ".
(4) في (أ):" يعرفوني ".
(5) في (أ) و(ط):" فسحقًا فسحقًا ".
(6) قوله:" أبي " ليس في (أ).
(7) في (ح):" المدني ".
(8) في (ح):" أخرج ".(2/213)
وقوله: ما قاله له لأنه لا ينبغي لمن يقتدى به إذا ترخص في أمر لضرورة، أو تشدد فيه لوسوسة، أو لاعتقاده في ذلك مذهبًا شذ به عن الناس أن يفعله بحضرة(1) العامة الجهلة، لئلا يترخصوا بترخصه لغير ضرورة، أو يعتقدوا أن ما تشدد(2) فيه هو الفرض واللازم، ومثله قول عمر - رضي الله عنه -: أيها الرهط، إنكم يقتدى بكم.
وفي هذا الحديث من علامات نبوته - صلى الله عليه وسلم - وإعلامه بما يكون من علم الغيب أربعة أعلام: أولها: صفة أمته في الآخرة، الثاني: تبديل بعضهم بعده، كما كان، الثالث: مالهم في الآخرة وتفريق الحكم فيهم، الرابع: أن له حوضًا في الآخرة، وسيأتي ذكره بموضعه(3).
وقوله:« ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع(4) الدرجات »: محو الخطايا كناية عن غفرانها، ويحتمل محوها من كتاب الحفظة، ويكون دليلا على غفرانها، ورفع الدرجات إعلاء المنازل في الجنة.
وقوله:« إسباغ الوضوء في(5) المكاره »: أي إيعابه، والمكاره تكون من شدة برد أو ألم جسم ونحوه، وكثرة الخطا(6) تكون ببعد(7) الدار أو بكثرة التكرار.
وقوله:« انتظار(8) الصلاة بعد الصلاة »، قال القاضي أبو الوليد الباجي: وهذا في المشتركتين من الصلوات في الوقت وأما غيرها فلم يكن من عمل الناس.
__________
(1) في (ح):" بمحضرة ".
(2) في (أ):" تشدد ".
(3) في (أ):" في موضعه ".
(4) في (ط):" ويدفع به ".
(5) في حاشية (ح):"على، وكتب فوقها:" خ".
(6) في (ح):" الخطايا ".
(7) في (ح):" لبعد ".
(8) في (ح):" وانتظار ".(2/214)
وقوله:« فذلكم الرباط » يعنى المرغب فيه، وأصله الحبس على (1) الشىء، كأنه حبس نفسه على هذه الطاعة، قيل: ويحتمل أنه أفضل الرباط كما قيل: الجهاد جهاد النفس، ويحتمل أنه الرباط المتيسر الممكن، أي: أنه من أنواع الرباط(2)، وقد ذهب الشيرازي إلى أن ذلك من حروف الحصر، وتكرار النبي - صلى الله عليه وسلم - له تعظيم لشأنه أو لعادته ليفهم عنه، وتنبيه على ما يقول.
__________
(1) في (ح):" عن ".
(2) في (ح):" الجهاد "، وفي حاشيتها:"الرباط ".(2/215)
قوله(1) - صلى الله عليه وسلم -:« لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك »، لا خلاف أنه مشروع عند الوضوء والصلاة، مستحب فيهما، وأنه غير واجب، لنصه - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يأمر به، إلا ما ذكر عن داود أنه واجب بظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -:« عليكم بالسواك »، وقوله:« استاكوا »، وهذا الحديث يفسر ظاهره. وفيه دليل لمن يرى أن أمره - صلى الله عليه وسلم - على الوجوب، وهو قول أكثر الفقهاء وبعض المتكلمين، إذ المشقة إنما تلحق بالواجبات، وأنه لو أمر لوجب امتثال أمره فشق ذلك على المسلمين، فلذلك لم يأمر. وفيه حجة لمن يرى المندوب غير مأمور به، وهي مسألة اختلف فيها أصحاب الأصول من شيوخنا وغيرهم، وفيه حجة لمن قال من العلماء بجواز اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحكام وشرعها باجتهاده على ظاهر قوله:{ لتحكم بين الناس بما أراك الله }، وهي مسألة اختلف فيها أرباب الأصول أيضًا. وقوله:« يشوص فاه بالسواك إذا قام يتهجد »، قال الإمام: الشوص أن يستاك عرضًا، وكذلك الموص، قال: وقد قال قائل(2) لأعرابيةٍ: اغسلى ثوبي، قالت: نعم، وأموصه، تريد: أغسله ثانية برفق، قال الهروي في الحديث: " كان يشوص فاه بالسواك،: أي يغسله، وكل شيء غسلته فقد شصته ومصته، وقال أبو عبيد: شصت الشيء نقيته، وقال أبو بكر عن ابن الأعرابى: الشوص: الدلك، والموص: الغسل.
__________
(1) في (ط):" وقوله ".
(2) في (ح):" وقد قيل ".(2/216)
قال القاضي: ذكر ثابت بن قاسم عن وكيع: الشوص بالطول، والسواك بالعرض، وقال ابن حبيب: يشوص فاه، أي يحكه. قال أبو عمر: تأوله بعضهم أنه بإصبعه(1)، وأنه يغني ذلك عن السواك. وقال الداودي: يشوص فاه ينقيه، كما قال فيه:« مطهرة للفم ومرضاة للرب(2)»، قال ابن دريد: الشوص: الاستياك(3) من سفل إلى علو، ومنه: الشوصة ريح ترفع القلب عن موضعه، والذى قاله(4) الخطابي والحربي مثل ما حكاه الإمام في الشوص وكونه عرضًا، وقيل: يشوص معناه: يغسل، قال أبو عبيد: شصت الشيء نقيته، وقيل: شصت ومصت: غسلت.
وقوله:" يتهجد " أي: يصلي من الليل، والتهجد:[القيام من الليل](5)، قال الله تعالى:{ ومن الليل فتهجد به نافلة لك }، وهذا الحرف من الأضداد، تهجد نام، وتهجد إذا(6) قام من الليل. قال أهل العلم: يستحب السواك عند كل حالةٍ تُغير ريح الفم، نحو القيام من النوم وغيره (7).
وقوله:" إذا دخل بيته بدأ بالسواك ": معناه: تكراره لذلك ومثابرته عليه، وأنه كان لا يقتصر فيه(8) في نهاره أو ليله(9) على المرة الواحدة، بل على المرار المكررة، كما جاء في الحديث الآخر، وخص بذلك دخوله بيته لأنه مما لا يفعله ذوو(10) المروءات بحضرة الناس، ولا يحب عمله في المسجد ولا في مجالس الحفل (11).
__________
(1) في (ح):" بإصبعيه ".
(2) قوله:" ومرضاة للرب " ليس في (أ) و(ط).
(3) في (ح):" الاستاك ".
(4) في (أ) و(ط):" قال ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(6) قوله:" إذا " ليس في (ح).
(7) في (ح):" ونحوه ".
(8) في (ط):" عليه ".
(9) في (أ):" وليلة ".
(10) في (أ) و(ح):" ذو ".
(11) في (ح):" الجماعات ".(2/217)
قوله:« خمس من الفطرة »، وفي الحديث الآخر:« عشر »، الفطرة هاهنا: السنة(1)، قاله الخطابي، قال: ومعناه: أن هذه الخصال من سنن الأنبياء، [وقال ابن القصار: معناه: من فطرة الإسلام، فدخل(2) فيها الفرض والسنة، غقد ذكر منها(3) الاختتتان وهو مختلف في فرضه، وكذلك المضمضة ومسح الأذنين كل مختلف فيه](4)، وقد قيل عن ابن عباس في قوله تعالى:{ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فاتمهن }، قال: أمره بعشر خصال، ثم عدهن نحو ما في الحديث، فلما فعلهن ؛{ قال إني جاعلك للناس إمامًا } ليقتدى بك، ويقال: كانت عليه فرضا ولنا سنة، وجاء بعد هذا عشر من الفطرة، فلعل قوله هذا بعد الأول، فكانت السنن تزيد شيئًا بعد شيء، وكذلك الفرائض، ولم يذكر في حديث العشر هنا الختان من جملة الخمس المذكورة في الحديث الآخر، قال زكريا بن أبي زائدة راوي الحديث: "ونسيت العاشرة إلا أن يكون المضمضة ".
قال القاضي: ولعلها الختان المذكور مع الخمس وهو أولى، وفي رواية عمار بن ياسر نحوها في "الأم"، ولم يذكر فيها إعفاء اللحى، وزاد الاختتان، وذكر المضمضة والاستنشاق، فيكون على هذا إعفاء اللحية وقص الشارب كالسنة الواحدة إذ هو كالعضو الواحد. وذكر الانتضاح مكان انتقاص الماء وهو بمعنى غسله.
وقول أنس: " وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة ألا نترك ذلك أكثر من أربعين يومًا. قال العقيلى: في حديث جعفر نظر، قال أبو عمر: لم يروه إلا جعفر بن سليمان، وليس بحجة لسوء حفظه وكثرة غلطه.
قال القاضي: وما في الحديث إنما هو حد في أكثر ذلك(5)، والمستحب تفقد ذلك من الجمعة إلى الجمعة وإلا فلا تحديد فيه عند العلماء، إلا أنه إذا كثر ذلك وطال من شارب أو ظفر أو شعر إبط وأسفل(6) قصه وأزاله.
__________
(1) في (ح):" السنية ".
(2) في (ط):" يدخل ".
(3) في (ط):" فيها ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(5) في (أ):" من ".
(6) قوله:" أسفل " ليس في (ح).(2/218)
وقوله:« أحفوا الشوارب » بألف مهموزة، وأمر بإحفاء الشوارب، قال الهروي: أي يلزق جزَّها، قال الخطابي: ويكون بمعنى الاستقصاء يقال: أحفى شاربه ورأسه، قال ابن دريد: يقال: حفا شاربه يحفوه حفوا إذا استأصل أخذ شعره، قال: ومنه قوله:« أحفوا الشوارب ».
ذكر(1) مسلم في حديث أبي هريرة:« جُزّوا الشوارب »، كذا عند شيوخنا، ووقع عند بعضهم(2):« خذوا الشوارب »، ومعنى ذلك عند مالك: قصُّه، كم جاء في الحديث الآخر:« وقص الشارب(3)»،، وفي البخاري: «أنهكوا الشوارب »، وقد تأول على الوجهين على المبالغة وترك المبالغة.
وقوله:« وأعفوا اللحى »، وفي رواية:« أوفوا اللحى »، وهما بمعنى: أي اتركوها حتى تكثر وتطول.
قال القاضي: وذكر مسلم في حديث أبي هريرة:« أرخوا اللحى »، كذا عند أكثر شيوخنا، ولابن ماهان:« أرجوا » بالجيم، قيل: معناه: أخروا، وأصله أرجؤوا، فسهلت الهمزة بالحذف، وكان معناه: اتركوا فيها فعلكم بالشوارب، وكله من معنى ما تقدم، وفي البخاري:« وفّروا اللحى».
قال الإمام: قال أبو عبيد في إعفاء اللحى: هو أن توفر وتكثر، يقال: عفا الشىء إذا كثر وزاد، وأعفيته أنا وعفا إذا درس، وهو من الأضداد، ومنه الحديث:« فعلى الدنيا العفاء »: أي الدروس ويقال: التراب.
__________
(1) في (ط):" وذكر ".
(2) قوله:" عند بعضهم " ليس في (ح).
(3) في (ح):" الشوارب ".(2/219)
قال القاضي: يقال(1): عفوت الشعر وأعفيته لغتان، وكره قصُّها وحلقها وتحريفها، وقد جاء الحديث بذم فاعل ذلك، وسنة بعض الأعاجم حلقها وجزها وتوفير الشوارب، وهي كانت سيرة الفرس، وأما الأخذ من طولها وعرضها فحسن، ويكره الشهرة في تعظيمها وتحليتها كما تكره(2) في قصها وجزها، وقد اختلف السلف هل لذلك حد ؟ فمنهم من لم يحدّد إلا أنه لا(3) يتركها لحد الشهرة ويأخذ منها، وكره مالك رحمه الله طولها جدًّا، ومنهم من حدّد، فما زاد على القبضة فيزال، ومنهم من كره الأخذ منها إلا في حجّ أو عمرة، وأما الشارب فذهب كثير من السلف إلى استئصاله وحلقه بظاهر قوله: «احفوا » و « انهكوا »، وهو قول الكوفيين، وذهب كثير منهم إلى منع الحلق والاستئصال، وقاله مالك، وكان يرى حلقه مثلة ويأمر بأدب فاعله، وكان يكره أن يأخذ من أعلاه، ويذهب هؤلاء إلى أن الإحفاء والجز والقص بمعنى واحد، وأنه الأخذ منه حتى يبدو(4) الإطار، وهو طرف الشفة، وذهب بعض العلماء إلى التخيير في الفعلين.
والبراجم مفاصل الأصابع، وقد تقدم أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسل ما يجتمع على الجلد المتشنّج هنالك من الأوساخ لتغضنها، وفسر(5) وكيع انتقاص(6) الماء بالاستنجاء، وقال أبو عبيد في معناه: انتقاص البول بالماء إذا غسل مذاكيره به(7) وقيل: هو الانتضاح به.
قال الإمام: قال الهروي: الاستحداد حلق العانة بالحديد.
قال القاضي: جاء في الرواية الأخرى مفسرًا.
__________
(1) في (أ) و(ط):" قيل ".
(2) في (ط):" يكره ".
(3) في (أ):" لم ".
(4) في (ط):" تبدو ".
(5) في (ط):" وقد فسر ".
(6) في (ط):" انتفاض ".
(7) قوله:" به " ليس في (ح).(2/220)
وقوله:« والاختتان » هو عند مالك وعامة العلماء سنة، وقِرانه مع هذه السنن وعده في الفطرة حجة لنا(1) على من يحتج بالقرائن، وهو هنا أحرى، لنصه عليها أنها من الفطرة أجمع، وفيه حجة أيضًا لمن لا يرى المضمضة والاستنشاق واجبتين لما ذكرنا، وقد ذكر عنه - صلى الله عليه وسلم -:« الختان سنة »، وذهب الشافعي إلى وجوب ذلك، وهو مقتضى قول سحنون، واحتج عليه ابن سريج(2) بالإجماع على ستر العورة وتحريم النظر إليها، قال(3): فلولا أن الختان فرض لما أبيح النظر إلى عورة(4) المختون ولا انتهك هذا المحرم. وقد يجاب عن هذا بأن مثل(5) هذا يباح(6) لمصلحة الجسم ونظر الطبيب ومعاناة ذلك الموضع، وليس الطب بواجب إجماعًا فما فيه مصلحة دينه وتمام فطرته وشعار ملته أولى بذلك.
وقوله:" علمكم كل شيء حتى الخراءة " بكسر الخاء، ممدود، وهو اسم فعل الحدث، وأما الحدث بنفسه(7) فبغير تاء ممدود وبفتح الخاء وكسرها، وبفتحها وسكون الراء أيضًا، وضم الراء في هذا أيضًا. وفي حديث سلمان هذا: " نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، وأن نستنجى باليمين، وأن نستنجى بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستنجي برجيع أو عظم.
__________
(1) في (أ) و(ط):" له ".
(2) في (أ) و(ط):" ابن سريج عليه ".
(3) في (ح):" فقال ".
(4) في (ط):" لعورة ".
(5) في (أ):" قيل ".
(6) في (ح):" مباح ".
(7) في (أ):" نفسه ".(2/221)
قال الإمام: اتفق المذهب على النهي عن استقبال القبلة واستدبارها عند الغائط أو البول في الفلوات، واختلف في جواز ذلك في القرى والمدائن إذا لم تكن مراحيض(1) مبنية على ذلك، وظاهر المذهب أن المراحيض(2) إذا كانت مبنية على شكل يقتضي استقبال القبلة واستدبارها أنه لا يتكلف الانحراف، وقول أبي أيوب في الحديث:" ونحن نحرف(3) عنها ونستغفر الله " يدل على أنه يرى الانحراف ولو كانت مبنية، ووجه الخلاف الذي قدمناه عندنا في استقبال القبلة(4) في المدائن معارضة قوله - صلى الله عليه وسلم -:« لا تستقبل القبلة » بفعله - صلى الله عليه وسلم - حين رآه ابن عمر على لبنتين، فمن أنزل فعله منزلة(5) قوله خصّص عموم قوله بفعله، ومن رأى أن الأقوال تقدم على الأفعال لم يخصص(6) ومنع ذلك في المدائن، وقد يتأول أيضًا(7) حديث ابن عمر أن اللبنتين كانتا مبنيتين، وذلك من القسم الذي أشرنا إلى الاتفاق عليه من أصحابنا، ويصح أن يبنى الخلاف من جهة المعنى على اختلافهم في تعليل منع استقبال القبلة للبول في الفلوات هل هو لحرمة القبلة أو للمصلين إليها من الملائكة ؟ فمن جعله لحرمة القبلة منعه في المدائن على السطوح وفي الشةارع وإن كان مستترًا بالحيطان ؛ [تعظيمًا للقبلة وتشريفً لها أن تستقبل أو تستدبر بالعورة، وهذا يستر في الصرحاء والمدائن](8)؛ لأن قبلته إلى الحيطان(9)، ومن علله بالمصلين لم يمنع لوجود السواتر(10). واختلف عندنا في كشف الفرج عند الجماع مستقبل القبلة، هل ذلك
__________
(1) في (ح):" مراحض ".
(2) في (ح):" المراحض ".
(3) في (أ):" فننحرف عنها "، وفي (ط):" ونحن نتحرف ".
(4) في (أ) و(ط):" استقبالها ".
(5) قوله:" منزلة " في مكانها بياض في (ط).
(6) في (أ) و(ط):" يخص ".
(7) قوله:" أيضًا " ليس في (ح).
(8) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط)،.
(9) قوله:" لأن قبلته إلى الحيطان " ليس في (ح).
(10) في (ح):" الساتر ".(2/222)
كمثل استقبالها بالبول(1) والغائط ؟ وسبب الخلاف: هل ذلك لأجل العورة أو لأجل الحدث ؟ فمن جعل العلة الحدث جعل الجماع بخلاف البول في الاستقبال، وفي بعض روايات الحديث: «ولكن شرقوا أو غربوا » وهذا محمول على أنه إنما خاطب به قومًا لا تكون الكعبة في شرق بلادهم ولا غربها، ولعل ذلك(2) الأمر في مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
قال القاضي: قد قيل هذا الحديث لأهل المدينة ومن وراءها من الشام والمغرب ؛ لأنهم إذا شرقوا أو غربوا لم يستقبلوا القبلة ولم يستدبروها، وإلى هذا نحا البخاري في كتابه، وإلى ما ذهب إليه مالك من التفريق بين القرى والصحارى ذهب الشافعي تعويلاً على تخصيص حديث ابن عمر، وما جاء من الحديث بمعناه، ولمالك قول آخر بالمنع فيهما إلا في الكنف للمشقة(3) في الانحراف فيها، واختلف على أبي حنيفة، فمشهور مذهبه المنع فيهما، وهو قول أحمد وأبي ثور أخذا بظاهر مجرد النهي، والأمر بالتشريق والتغريب، وعن أبي حنيفة المنع فيهما(4) في الصحراء والاستقبال في المدن دون الاستدبار، وذهب ربيعة وداود إلى جواز ذلك فيهما ؟ اعتمادًا على حديث ابن عمر، وأنه ناسخ لكونه متأخرًا مع ما ورد بمثله، وروى عن أبي حنيفة أيضًا جواز الاستدبار فيهما وإنما يمنع فيهما الاستقبال وأما الاستدبار فبحكم أن المدينة ما بين بيت المقدس ومكة، فاستقبال أحدهما استدبار الأخرى(5) للحديث الوارد في النهى عن استقبال القبلتين، ولحديث ابن عمر من أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - مستقبل بيت المقدس، ولحديث جابر: انه رآه قبل موته مستقبل القبلة لذلك ونحوه عن أبي قتادة، وذهب النخعى وابن سيرين إلى منع استقبال القبلتين واستدبارهما، وذهب بعض شيوخنا أن ظاهر المذهب جواز
__________
(1) في (أ) و(ط):" للبول ".
(2) في (أ) و(ط):" كذلك ".
(3) من قوله:" ولمالك قول آخر...." إلى هنا تكرر في (ح).
(4) في (أ) و(ط):" فيها ".
(5) في (ط):" للأخرى ".(2/223)
استقبالهما(1) في القرى والمدائن واستدبارهما من غير ضرورة إلى ذلك، واستدل بلفظٍ محتمل وقع له في المدونة، وقيل في اطلاع ابن عمر: ليس من التجسس، ولعله عن(2) غير قصد، أو يحتمل(3) أنه قصد ذلك للتعليم(4) والأمن من الاطلاع على مالا يجب الاطلاع عليه، إذ مقصده الاطلاع على توجه وجهه حين جلوسه ورؤية ظاهره لا غير ذلك ؟ ليستدل منه على مراده، وقول أبي أيوب فننحرف(5) عنها: "ونستغفر الله "، قيل: لعله لم يبلغه حديث ابن عمر.
وقوله آخر الحديث: " قال: نعم " هو جواب سفيان ليحيى بن يحيى عن قوله: سمعت الزهرى يذكر عن عطاء، على مذهب من يرى التقرير في العرض والقراءة على المحدث، وفي قول أبي أيوب أخذه بالعموم والقول به.
وقوله :" وأن يستنجى بيمينه "، وقوله(6) في حديث آخر: " أن يتمسح بيمينه "، وفي آخر:" أن يستطيب بيمينه "، وكله بمعنى واحد سواء بالماء أو بالحجارة (7)، فهو استنجاء لأنه إزاك النجو (8)، أو تفسيره(9) من قولهم: نجوت العود إذا قشرته، وكذلك معنى التمسح وكذلك الاستجمار، وقد تقدم، وكذلك الاستطابة ؛ لأنه يطيب الموضع بفعله ويذهب عنه القذر، وفي حديث آخر: النهى عن مس الذكر باليمين.
قال الإمام: فينبغى لمن أراد أن يستجمر من البول أن يأخذ ذكره بشماله ثم يمسح به حجرًا ليسلم على مقتضى الحديثين.
__________
(1) في (أ):" استقبالها "، وكذا في حاشية (ح) وعليها "خ"، وفي (ط) يشبه أن تكون: "استقبالهما ".
(2) في (أ):" من ".
(3) في (ط):" ويحتمل ".
(4) في (ط):" للتعلم ".
(5) في (ط):" فنتحرف ".
(6) قوله:" قوله" ليس في (أ) و(ط).
(7) في (أ) و(ط):" الحجارة ".
(8) في (أ):" النجوس ".
(9) في (أ):" يفسره ".(2/224)
قال القاضي: أما متى أمكنه حجر ثابت يتمسح به، أو أمكنه الاسترخاء حتى يتمسح بالأرض، أو ما يمكنه التمسح به من ثابت طاهر جامد فنعم، ولكنه قد لا يتهيأ له ذلك ولا يمكنه في كل وقت، وإذا كان هذا ودعت ضرورة(1) إلى الاستعانة باليمين، فأولى ذلك أن يأخذ ذكره بشماله، ثم يأخذ الحجر أو الخرقة أو العود أو ما يتمسح به بيمينه، فيمسكه أمامه، ويتناول بالشمال تحريك رأس ذكره، ويمسحه(2) بذلك دون أن يستعمل اليمين في غير الإمساك، فلا يكون ماسًّا ذكره بيمينه، ولا مستنجيًا بها.
__________
(1) في (ط):" الضرورة ".
(2) في (ط):" تمسيحه ".(2/225)
وقد ذكر الخطابي وجها آخر، وهو أن يجلس على الأرض ويمسك برجليه الشى: الذي يتمستح به ويتناول إمساك الذكر بشماله، وهذا أيضًا لا يتهيأ في كل موضع، ولا لكل بائل، والأولى فيه ما ذكرناه وهو يتهيأ على كل حال، وقد تساهل(1) الناس في التمسح بالحيطان، وهو مما لا يجب فعله لتنجيسها، ولأن للناس ضرائر في الانضمام إليها لا سيما عند نزول الأمطار وبلل(2) الثياب، ولا يجب أيضًا أن يفعل ذلك(3) في حيطان المراحيض لهذا ؛ ولأنها تتنجس من تكرار(4) ذلك فيكون التمسح بها يعد(5) من الاستجمار بالنجس الذي لا يطهر ولا يعفى عنه ؟ ولأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الاستنجاء(6) بالرجيع لأنه يزيد الموضع تنجسًا، ويدخل عليه نجاسة من خارج غير ضرورية ولا معفو عنها. وعلة النهى عن هذا إكرامًا للميامن، وتخصيصها بأعالي الأجسام(7) وأفعال العبادات والمكرمات والأكل والشرب والسلام، وتنزيهها عن مباشرة الأقذار والنجاسات والعورات. ومذهب مالك وعامة أهل العلم أن المستنجى بيمينه أساء واستنجاؤه جائز، وذهب أهل الظاهر وبعض الشافعية إلى أن الاستنجاء باليمين لا يجزئ، لاقتضاء النهي فساد المنهي عنه، وهو أصل مختلف فيه عند أرباب الأصول.
وقوله:« وأن يستجمر بأقل من ثلاثة أحجار »، قال الإمام: يحتج به من قال من أصحابنا: لا يقتصر على أقل من ثلاثة(8) أحجار (9)، وإن حصل الإنقاء بدونها، وهذا نحو ما ذكرنا(10) من حجة من قال: بغسل(11) اليد ثلاثًا قبل إدخالها في الإناء وإن كانت نقية.
__________
(1) في (أ):" يتساهل ".
(2) في (ح):" بلال ".
(3) قوله:" أن يفعل ذلك " ليس في (أ).
(4) قوله:" تكرار " ليس في (ح).
(5) في (ط):" بعد ".
(6) في (ح):" الاستجمار ".
(7) في (أ) و(ط):" الجسم ".
(8) في (أ) و(ط):" ثلاث ".
(9) قوله:" أحجار " ليس في (ط).
(10) في (أ) و(ط):" مما ذكرنا ".
(11) في (أ) و(ط):" تغسل ".(2/226)
قال القاضي: قد تقدم من هذا شيء في أول الباب، لكن في حديث سلمان هذا من رواية ابن مثنى:« لا يستنجى أحدكم بدون ثلاثة أحجار »، وهو أقوى حجة للمخالف، وقد حمله شيوخنا على الندب لمبالغة النقاوة، ولأنه أكثر ما يستعمل غالبا، وقل ما ينقى الواحد، أو لاستعمالها في المخرجين، وللحديث الآخر من قوله:" فجئت بحجرين وروثة، فاستنجى بالحجرين وألقى الروثة "، وللحديث الآخر:« من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج ».
وقوله:« ثلاثة أحجار »: تعلق داود بنص النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها(1) أنه لا يجزئ الاستجمار(2) بغير الأحجار، وعامة العلماء على خلافه، لكن مالكًا وغيره يستحب الحجارة وما في معنى الحجارة، وما هو من جنسها. واستثناء النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن الاستنجاء(3) بالعظم والروثة وما خصه مما نص عليه يقابل تعلفهم بتخصيص اسم الحجارة، ولأن تعلق الحكم بالاسم لا يدل على أن ماعداه بخلافه عند أكثر الأصوليين، وتعليله - صلى الله عليه وسلم - عند طرح الروثة بقوله: «إنها ركس »، فبيّن علتها، ولم يقل: إنها ليست بحجر دل أن لا اعتبار(4) بالحجر نفسه، لكن ذكره الأحجار لأنها(5) أكثر ما يوجد، ولأنه قد جاء في حديث ابن عباس:« أو ثلاث حثيات من تراب أو ثلاثة أعواد ».
__________
(1) قوله:" عليها " ليس في (ح).
(2) في (أ) و(ط):" الاستنجاء ".
(3) في حاشية (ح):"الاستجمار ".
(4) في (ح):" أن الإعتبار ".
(5) في (ح):" لا أنها ".(2/227)
وأما نهيه عن الاستجمار بالروثة والعظم والبعر، وفي رواية: " والرمة " قال الإمام: قيل في علة منعه: لأجل أنها(1) زاد للجن وعلف دوابهم، وقيل: لأن الروثة تزيد في نجاسة المكان والعظم لا ينقى لملوسته، وعقْدُ ما يجزي الاستنجاء(2) عندنا(3) به(4) كل منق طاهر ليس بمطعوم ولا ذى حرمة، فقولنا: منق احتراز من العظم والزجاج، وقولنا:" طاهر"؛ احتراز(5) من النجس، وقولنا: ليس بمطعوم احترازًا من الأطعمة، وقد يدخل فيه طعام الجن، وقولنا: ولا ذى حرمة احترازًا من حيطان المساجد وشبه ذلك، وقد شذ(6) بعض الفقهاء ولم ير الاستنجاء بالماء العذب، وهو إنما بنى على أنه طعام عنده والاستنجاء بالطعام ممنوع.
__________
(1) في (أ) و(ط):" أنه ".
(2) في (ح):" الاستجمار ".
(3) قوله:" عندنا " ليس في (أ) و(ح).
(4) قوله:" به " ليس في (ط).
(5) في (أ):" احترازًا "، وفي (ط):" طاهرًا احترازًا ".
(6) في (ح):" يشذ ".(2/228)
قال القاضي: زاد بعض شيوخنا في صفة المستنجى به ألا يكون سرفًا، احترازًا من الجواهر النفيسة، وأن يكون منفصلاً، احترازًا من يد نفسه (1)، وأن يكون جامدًا ؛ لأن به يقع التجفيف، ولأن الشىء الرطب والخرقة المبتلة أو الحجر المبتل وإن قلع النجو وأزاله بتكراره، فإنه خرج عن حد المسح ولم يبلغ درجة الغسل فخرج عن بابه، ولأن بما فيه من رطوبة ينشر النجاسة عن محلها، ووقع في مسلم النهي عن الاستنجاء بالرجيع، وهي العذرة لنجاستها، والعلة في ذلك ما تقدم من إدخالها بمباشرة رطوبة الموضع عليه نجاسة خارجة غير(2) ضرورية، وكذلك ذكر في "الأم" في بعض الروايات، والرمة وهي العظم البالي، وهي(3) من معنى العظم (4). وعلل العظم بعلل، منها ما جاء في الحديث: أنه زاد الجن، ومنها: أنه من باب المطعومات وماله حرمة إذ يؤكل في الشدائد ويُتمشمسُ(5) الرخص(6) منه مع الاختيار، وأن الرمة تريد بأنها تتفتت ولا تنقى، وقيل: لملوسة العظم وصقالته وأنه لا ينقى، وقيل: لأنه لا يعرى من بقية دسم يبقي فيه فزيد(7) المكان تنجسًا. وفي بعض الأحاديث: « والحممة »، وهي الفحم، والعلة فيها أيضًا ما جاء في الأثر أنها من طعام الجن، ولأنه لا صلابة لأكثره، بل يتفتت عند الاستنجاء به والضغط له ولا يقلع الحدث كالتراب ويلوث جسد الإنسان ويسوده، والإسلام بني على النظافة، واختلفت الرواية عن مالك في كراهة هذا، والمشهور عنه النهي عن الاستنجاء بها على ما جاء في الحديث، وعنه أيضًا إجازة ذلك، وقال: ما سمعت في ذلك بنهي عام، وذهب بعض البغداديين إلى جواز ذلك إذا وقع بما كان وهو قول أبي حنيفة، وذهب بعضهم إلى أنه لا
__________
(1) في (أ) يشبه ـن تكون:" نفسيه ".
(2) قوله:" غير " ليس في (ط).
(3) في (ح):" وهو العظم اليابس وهو ".
(4) في حاشية (ح):"ظ الطعم ".
(5) في (ح) كلمة غير واضحة تشبه أن تكون:" ويتشتهلى ".
(6) في (أ) و(ط):" الرمض ".
(7) في (أ):" فزيد ".(2/229)
يجوز (1)، وإليه نحا ابن القصار، وهو قول الشافعي، وقال بعضهم: لا يجزئ بما(2) كان نحس العين للعلة التى قدمنا، وإليه نحا القاضي ابن نصر.
وذكر مسلم حديث أحمد بن الحسين(3) بن خراش(4): ثنا عمر بن عبدالوهاب، ثنا يزيد بن ذريع، ثنا روح، عن سهيل (5)، عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (6):« إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها »، قال الدارقطني: هذا غير محفوظ عن سهيل، وإنما هو حديث ابن عجلان حدث به عنه روح وغيره، وقد(7) ذكر حديث ابن عمر: لقد رقيت على ظهر بيت فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعدًا على لبنتين... الحديث، إن قيل: كيف استجاز ابن عمر الاستكشاف على النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الحال ؟ قيل: يحتمل أنه لم يقصد ذلك، أو قصد من ذلك رؤية أعلاه ليستدل بصورة جلوسه هناك على فعله مع تحفظه من الاطلاع على غير أعلاه.
وقوله في هذا الحديث:" ونهى عن التنفس في الإناء "، هو على طريق الأدب(8) ومخافة التقزّز(9) للغير لأجل ذلك، كما نهى عن النفخ في الشراب لذلك ومخافة ما لعله يخرج مع النفخ والنفس من البصاق ورطوبة الأنف، ويقع في الشراب والطعام فيتقذر لذلك ؛ ولأن ترداد التنفس في الإناء يكسبه رائحة كريهة ويبخره(10)، وهو أحد معانى النهي عن اختناث(11) الأسقية، ويأتى تمامه في كتاب الأشربة. وهناك معنى الحديث الآخر: أنه كان يتنفس في الإناء ئلاثًا.
__________
(1) في (أ) و(ط):" يجزي ".
(2) في (أ):" مما ".
(3) في (أ):" الحسن ".
(4) في (أ):" خراش قال ".
(5) قوله:" عن سهيل " ليس في (ح).
(6) في (ح):" - صلى الله عليه وسلم - قال ".
(7) قوله:" قد " ليس في (ط).
(8) في (ح):" الندب ".
(9) في (ح):" التقذر ".
(10) في (أ):" يبخره ويكسبه رائحة كريهة ".
(11) في (ح):" اجتناب ".(2/230)
وقوله:" كان يحب التيمن في شأنه كله ": تبركًا باسم اليمين(1)، وإضافة الخير إليها، قال الله تعالى:{ وناديناه من جانب الطور الأيمن }، وقال: {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين } { فأما(2) من أوتي كتابه بيمينه }، ولما في معناه من اليمن.
وقوله:«ا اتقوا اللاعنين » ويروى(3)« الّلّعانين »، وفسر ذلك بالتخلى في طريق الناس أو ظلهم. التخلي: مأخوذ من الخلاء، وهي عبارة عن الستر والتفرد لقضاء الحاجة والحدث، وسُمّيت اللاعنين، أي: يجلبان اللعن لفاعلها؛ لأن مثل ذلك من جواد طرق المسلمين، وظلال المناهل مستراح الناس ومترددهم لمنافعهم، فمن وجد فيها(4) القذر ونكد عليه تصرفه فيه لعن فاعله، وفي الحديث الآخر في غير "الأم":« اتقوا الملاعن الثلاث »، وذكر هذين، والثالث الموارد، وهي ضفة النهر ومشارع المياه، وقد يكون اللاعنان هنا بمعنى الملعونين، أي الحالتين الملعونتين أو الملعون فاعلهما(5)، كما قال: {عيشة راضية}، أي: مرضية.
وفي الحديث: " أنه - صلى الله عليه وسلم - دخل حائطًا واتبعه غلام معه ميضاة،، وذكر فيه:" أنه استنجى بالماء ". الميضاة: إناء يستعمل للوضوء مثل المطهرة(6)، قيل(7): هى ما يسع قدر ما يتوضأ به، واستحب بعض الناس ألا يتوضا إلا من الأوانى ولا يتوضأ من المشارع والغدر، إذ لم يرد ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أصل له في هذا، ولم يرد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجدها فعدل عنها إلى الأواني.
__________
(1) في (ح):" التيمن ".
(2) في (أ) و(ح):" وأما "، وفي (ط):" وفأما "، والمثبت من المصحف.
(3) في (أ):" وتروى ".
(4) في (ط):" بها ".
(5) في (ط):" فاعلها ".
(6) في (ط):" المطهر ".
(7) في (أ):" وقيل ".(2/231)
قال الإمام: اختلف الناس، ما المستحب في الاستنجاء ؟ فقال بعضهم: الماء، وقال بعضهم: الأحجار(1)، وقال بعضهم: الجمع بينهما، فالحجر لإزالة العين، والماء لإزالة الأثر.
قال القاضي: اختلف في تعليل(2) من كره الاستنجاء بالماء من السلف، فذهب قوم إلى حرمته ؛ لأنه من أنواع المعلومات، وأم اابن المسيب فقد علل ذلك بأنه وضوء النساء، أي يختص بالنساء ؛ إذ الاستجمار متعذر عليهن(3) عند البول، واختلف في الاستنجاء، هل هو فرض بنفسه أو من باب زوال النجاسة ؟ فمذهب مالك أنه من باب إزالة(4) النجاسة وليس بفرض وأنه سنة لا ينبغى تركها، حكاه ابن القصار. واختلفت عبارة أصحابه في ذلك وفي حكمها في الصلاة، وذهب الشافعي وأحمد وأبو ثور إلى وجوب الاستنجاء وإزالة سائر النجاسات، وحكى عبد الوهاب وجوب(5) ذلك رواية(6) عن مالك أيضًا، وقال أبو حنيفة: الاستنجاء ليس بفرض، قال: وإزالة غيره من النجاسات فرض، ثم اختلف أصحابنا، هل إزالتها شرط في صحة الصلاة أم لا ؟ وهل تلزم(7) الإعادة من(8) صلى بها أبدا أم لا ؟ وهل هى شرط مع الذكر والنسيان أم مع الذكر فقط ؟
__________
(1) قوله:" وقال بعضهم الأحجار " ليس في (ط).
(2) في (ط):" واختلف تعليل ".
(3) في (ط):" جهتهن ".
(4) في (ط):" زوال ".
(5) في (ح):" في وجوب ".
(6) قوله:" رواية " ليس في (أ) و(ط).
(7) في (أ):" يلزم ".
(8) في (ط) يشبه أن تكون:" ممن".(2/232)
وفي هذا الحديث خدمة العالم والفاضل والخير(1) في حوائجه. وحملان العنزة معه في هذا الحديث. وقال المهلب: لأنه كان - صلى الله عليه وسلم - متى استنجى توضأ، وإذا(2) توضأ صلى، فكانت العنزة لسترته في الصلاة، حيث أخذته، وقد تكون لحضور السلاح معه في كل وقت لما عساه يحتاج إليه، فقد كان اليهود والمنافقون يرومون قتله واغتياله بكل حيلة، والعنزة: رمح قصير، وقيل: عصا في طرفها زج. ومن أجل(3) هذا الحديث اتخذ الأمراء(4) المشي أمامهم با لحربة.
وقوله: يتبرز لحاجته، أي: يأتى البراز، وهو المكان الواسع الظاهر من الأرض ليخلو به لحاجته ويستتر لحدثه، وبذلك سمى الحدث كما سمى الغائط أيضًا بذلك وجاء في هذه الأحاديث استنجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالماء. وأحاديثه في ذلك كثيرة صحيحة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي من الأمور أفضلها ومعاليها، فدل أن الاستنجاء بالماء أفضل من الاقتصار على الأحجار، وهو مذهب الأنصار، وبه أثنى الله عليهم بالطهارة وأنه يحب المتطهرين، ومن ذهب إلى الجمع بينه(5) وبين الأحجار، جاء بأتم الأمور من التنزه عن مباشرة القذر بيده من تحلل بقاياه بلقاء الماء أولاً، وانتشاره برطوبته عن موضعه، والحاجة إلىكثرة صب الماء والعرك لغسله، فإذا أزال(6) العين بالأحجار وبقي(7) الأثر والحكم أزاله يسير الماء والغسل، وما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضًا من استعمال الاءحجار ففى مواضع عدم الماء وتعذره في الأسفار، وقد يحتمل استعمال الماء مع ذلك، والله أعلم.
__________
(1) في (ط):" الخفوف ".
(2) في (أ):" ومتى ".
(3) قوله:" أجل " ليس في (ح).
(4) في (ط) يشبه أن تكون:" الأجراء ".
(5) في (أ):" بينهما ".
(6) في (ح):" زال ".
(7) في (أ):" نقى ".(2/233)
قال الأصيلي في حديث أنس هذا: وقوله:" يستنجي بالماء " أن(1) الاستنجاء ليس بالبين(2) في الحديث ؟ لأنه ليس من قول أنس، وإنما هو من قول أبي الوليد الطيالسي، وقد رواه سليمان بن حرب عن شعبة(3)، وليس فيه: "يستنجى بالماء "، فيحتمل أن حمل الماء كان لوضوئه، قال محمد بن أبي صفرة: قد تابع أبا الوليد على قوله فيه:" يستنجي(4)" غيره.
قال القاضي: وقد ذكر مسلم عن خالد ووكيع وغندر عن شعبة قوله: "فيستنجي بالماء "، وفي بعضها: " فخرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد استنجى بالماء "، وهذا من قول أنس بغير شك، وذكر من رواية روح عن عطاء عن أنس:" كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبرز لحاجته فأتيته(5) بالماء فيغتسل ". قال أبو عمر: والفقهاء اليوم مجمعون على أن الماء أطهر وأطيب، والأحجار(6) توسعة ورخصة في الحضر والسفر، وقال ابن حبيب - ومثله لمالك -: قد ترك الاستجمار ورجع العمل إلى الماء. قال ابن حبيب: ولا نجيز اليوم الأحجار، ولا نبيح الفتوى بذلك إلا لمن عدم الماء، وهذا لا يُسلم له، إذ علم من السلف استعمال ذلك مع وجود الماء.
ذكر المسح على الخفين
__________
(1) قوله:" أن " ليس في (أ).
(2) في حاشية (ح):"ليس بثابت ".
(3) في (ط):" سعيد ".
(4) في (ح):" ليستنجي ".
(5) في (ح):" فآتيه ".
(6) في (ح):" وبالأحجار ".(2/234)
قال الإمام رحمه الله: اختلف قول مالك في المسح على الخفين، فروي عنه فيه(1) قولة شاذة أنه لا يمسح في سفر ولا حضر، وروي عنه أنه يمسح فيهما، وروي عنه المسح(2) في السفر خاصة. فأما القول بأنه لا يمسح جملة فإن المالكية لا يعرجون عليه ولا يكاد كثير منهم يعرفه، وأظن أن صفة ما روي فيه عن مالك أنه قال: لا أمسح، فإن كانت الرواية هكذا فقد يتأول على أنه إنما اختار ذلك في خاصة نفسه لا أنه ينكر جواز ذلك، وإن كان لفظ الرراية يقتضي إنكار جواز المسح، فإنه يكون وجهه التمسك بالآية وتقديمها على أحاديث المسح، وقد أشار مالك - فيما روى عنه - إلى ذلك فقال: إنما هى أحاديث(3)، وكتاب الله أحق أن يتبع. وأما جواز المسح فالحجة الأحاديث الواردة في المسح، وقد ذكر بعض التابعين من بلوغها بالكثرة، ما ربما دل(4) على أنها ترتفع عن رتبة أخبار الاحاد، وتلحق بما هو متواتر في المعنى، والمفهوم كمثل ما ذهب إليه أهل الأصول فيما نقل من الأخبار في بعض آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها متواترة على المعنى والمحصول. وأما وجه القول بالتفرقة بين الحضر والسفر في المسح فلأن أكثر الأحاديث إنما وردت في السفر ؛ لأن السفر محل الرخص وقد خص بالقصر والفطر والتنفل، على الدابة وشبه ذلك، ويصح أن يجعل حديث السباطة المتقدم حجة على المسح في الحضر لأن الغالب أن السباطة - وهي المزبلة - إنما تكون في الحواضر، وقد قال:" سباطة قوم "، فأضافها إلى قوم مخصوصين ولو كانت في الفلوات لم تكن كذلك.
__________
(1) في (ط):" في ".
(2) قوله:" المسح " ليس في (ط).
(3) في (ط):" أحاديث كثيرة ".
(4) في (أ):" بالكثرة ربما دل ".(2/235)
وهل من شرط جواز المسح على الخفين أن يُلبسا على طهارة أم لا ؟ مذهب داود أنه يجوز المسح عليهما إن كان قد لبسهما ورجلاه طاهرتان من النجاسة، وإن لم يكن مستبيحًا للصلاة، والفقهاء على خلافه، وسبب الخلاف قوله - صلى الله عليه وسلم -:« دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين »، هل ذلك(1) محمول على الطهارة اللغوية أو الشرعية ؟ وهذا المعنى مما(2) قد اختلف أهل الأصول فيه، وهو تقدمة الاسم العرفي على اللغوي، أو تقدمة اللغوي على العرفي، والخلاف فيما ذكرنا كالخلاف في قوله:« توضؤوا مما مست النار »، هل يحمل ذلك على الوضوء اللغوي الذي هو غسل اليد، أو على الوضوء الشرعي ؟
واختلف القائلون باشتراط الطهارة الشرعية هل يجزئ أن يمسح عليهما المتيمم ؟ وهذا على الخلاف في التيمم، هل يرفع الحدث أم(3) لا ؟
واختلف أيضًا فيمن لبس خفين على خفين، هل يمسح على الأعليين ؟ والخلاف مبني على الخلاف في القياس على الرخص، وكذلك اختلف(4) في المحرم إذا تعدى فلبس الخفين، هل يمسح عليهما ؟ ويبنى الخلاف على الخلاف في سفر المعصية، هل تباح فيه الرخص كأكل الميتة وشبه ذلك ؟ فإن غسل الرجلين خاصة بنية الطهارة ثم لبس خفيه وأكمل بعد ذلك بقية وضوئه فإنه يختلف في جواز المسح عليهما، ويبنى الخلاف على أصلين يختلف فيهما جميعًا، وهما: هل يصح الوضوء مع التنكيس أم لا ؟ وهل يرتفع الحدث عن كل عضو [بتمام غسله أو يتوقف ارتفاع الحدث على إكمال الوضوء ؟ فمن صحح الوضوء مع التنكيس](5)، ومن(6) رأى أن الحدث يرتفع عن كل عضو بغسله خاصة، اقتضى مذهبه جواز المسح في المسألة المذكورة.
__________
(1) في (أ):" هذا ".
(2) قوله:" مما " ليس في (ط)، وفي (أ):" ما ".
(3) في (أ):" أو ".
(4) في (ح):" اختلفوا ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(6) قوله:" من" ليس في (أ) و(ط).(2/236)
قال القاضي: ما أشار إليه من تأويل قول مالك في إنكار القول بالمسح جملة، أن المراد به في خاصة نفسه لا إنكاره هو الحق ، والرواية التى لا(1) نشك(2) فيها، كذلك جاءت الرواية عن ابن وهب عنه: " لا أمسح في حضر ولا سفر "، وكأنه كرهه، وكذا نقلها أبو محمد في نوادره وغيره، وعلى هذا تأول أحمد بن حنبل قول مالك، وأنه آثر الغسل كما روى عن عمر أنه أمرهم أن يمسحوا خفافهم وخلع هو وتوضأ وقال: حبب إلى الوضوء، ونحوه عن أبي أيوب وعن ابن عمر، قال أحمد: فمن ترك ذلك على نحو ما تركه أبو أيوب ومالك لم أنكر عليه، وصلينا خلفه، ولم نعبه، إلا أن يترك ذلك ولا يراه كما صنع أهل البدع فلا نصلي(3) خلفه، ويؤيد هذا التأويل لمالك قوله في "المبسوط" لابن نافع عند موته: المسح على الخفين في الحضر والسفر صحيح يقين(4) ثابت لا شك فيه، إلا أني كنت في خاصة نفسي آخذ(5) بالطهور، فلا أرى من مسح مقصرًا فيما يجب عليه. وهذا بين جلي في تأويل قوله.
__________
(1) قوله:" لا" ليس في (أ) و(ط).
(2) في (أ) و(ط):" شك ".
(3) في (ط):" يصلى ".
(4) في (ط):" هي ".
(5) في (أ) و (ط):" كنت آخذ في خاصة نفسي ".(2/237)
قال القاضي: وقوله بعد ذكر حديث جرير في المسح: " كان أصحاب عبد الله يعجبهم هذا " لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة. فيه رد على من ذهب أن المسح على الخفين منسوخ، ولم يذهب إلى هذا أحد من أئمة(1) العلماء وأئمة الفتوى، إلا أشياء رويت عن بعض الصحابة محتملة ومختلف عليهم فيها (2)، نحو ما تقدم من الشاذ عن مالك مع احتماله، قال الحسن: حدثني سبعون من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح على الخفين. والأظهر أن مراد أولئك الأخذ بالشدة وترك الرخصة لا إنكار المسح، وإنما أنكر المسح الخوارج ؟ إذ ليس هو(3) في القرآن على أصلهم، والشيعة ؟ لما روى عن علي - رضي الله عنه - في ذلك(4) أنه كان لا يمسح.
وقوله في حديث حذيفة:" أتى سباطة قوم فبال قائما "، قال الإمام: اختلف في وجه ذلك فقيل: بال قائما لأنها حالة يؤمن معها خروج الحدث في الغالب، وقيل: إنما فعل(5) ذلك لوجع كان به، وقيل: لعل تلك السباطة كان فيها نجاسات رطبة وهي رخوة يأمن إذا بال فيها قائما أن يتطاير عليه، وخشي(6) إن جلس ليبول أن تنال ثيابه النجاسة ولذلك بال قائمًا.
__________
(1) قوله:" أئمة " ليس في (ط).
(2) في (أ):" فيها عليم ".
(3) قوله:" هو " ليس في (أ) و(ط).
(4) قوله:" في ذلك " ليس في (أ).
(5) قوله:" فعل " ليس في (ح).
(6) في (أ):" وعسى ".(2/238)
قال القاضي: السباطة المزبلة، وقد استدل بذكرها أنه كان في الحضر، إذ الغالب كونها في المدن، وقد روى عن الأعمش فيه:" كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة "، والثابث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا أراد البراز أبعد المذهب، وأنه كان يرتاد لبوله، وكان - صلى الله عليه وسلم - من الشغل بأمور المسلمين والنظر في مصالحهم بحيث علم، وقد يطول عليه حتى يحفزه البول، فلو أبعد لتأذى. فلذلك والله أعلم بال في هذه المرة قائمًا لحفزة له، وارتاد لذلك السباطة لدمثها، وقام لقربه من الناس، ومخافة ما يكون منه إن جلس، ولذلك ما تنحى عنه حذيفة حتى استدناه، ولذلك قال عمر: البول قائمًا أحصن للدبر، وقد قال مجاهد: ما بال قط قائمًا إلا مرة، وأنكرت عائشة أنه بال قائمًا، وإلا فكان أكثر حاله البعد ببوله وغيره، وبحسب هذا ما اختلف السلف في جوازه، فأجاز ذلك جماعة منهم وكرهه آخرون، وقال ابن مسعود: من الجفاء أن يبول قائمًا، ورد سعد بن إبراهيم شهادة من فعل ذلك، وقد ذكر الخطابي أنه فعل ذلك - صلى الله عليه وسلم - لجرح كان بمأبضه، يعني لعله(1) لم يتمكن من أجله بالجلوس، وكانت العرب تستشفي(2) من وجع الصلب بالبول قائمًا، وقال(3) بعضهم: بولة في الحمام قائمًا خير من فصدة(4).
قال الإمام: وقوله لحذيفة:« ادنه ». قال حذيفة: فدنوت حتى قمت عند عقبه، وفي الحديث: أنه لما أراد قضاء حاجته، قال:« تنح عني فإن كل بائلة تفيح »، يصح حمل الحديث الأول على أنه أمن من خروج الحدث، وأراد أن يستتر بالقائم خلفه عن الناس، والحديث الثاني على أن هذه الوجوه فيه مفقودة.
__________
(1) قوله:" لعله " ليس في (ح).
(2) في (أ):" يستشفي".
(3) في (ط):" قال ".
(4) في (ط):" فصد ".(2/239)
قال القاضي: قال المروزي(1) في هذا الحديث: من السنة القرب من البائل إذا كان قائمًا، فأما إذا كان قاعدًا فالسنة البعد منه، وقال غيره: فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتوارى لمثل هذا ؛ لأنها حالة(2) عورة وهيئة مكروهة ، ألا تراه كيف قال(3):" أتى سباطة قوم خلف حائط "، وقال غيره: استدناؤه لحذيفة وقيامه عند عقبه أنه - والله أعلم - استقبل الحائط تسترًا به(4)، ولم يأمن من يمر به من أحد الجانبين فيكشفه، فأقام حذيفة من ذلك الجانب ساترًا له إذ أمن من الحدث لقيامه. ومعنى:" انتبذت " معنى " بعدت وتنحيت " في الحديث الآخر، وقيل: لعل هذا الحائط كان غير متملك ؛ لإضرار البول بالحيطان، أو لعله لم يقرب منه قربًا يضر به.
وقوله في حديث المغيرة:" بإداوة "، أي: بإناء، والوضوء كما قال في الآخر: بميضأة وبمطهرة.
وقوله:" فصبّ عليه حين فرغ من حاجته فتوضأ " كذا قال مسلم، وعند ابن رمح، وعند ابن قتيبة(5):"حتى فرغ "، وكلاهما يصح لكن حين أبين، لأنه صب عليه للوضوء للصلاة لا لغير ذلك بدليل الحديث الآخر، وذكر فيه تواريه عنه لحاجته، قال:" ثم جاء فصب(6) عليه فتوضا ".
__________
(1) في (ح):" الهروي ".
(2) في (ح):" حال ".
(3) قوله:" قال " ليس في (ح).
(4) في (ح):" منه ".
(5) في (أ):" عند قتيبة وعند ابن رمح"، وفي (ط):" عند ابن رمح وعند قتيبة "..
(6) في (ط):" يصب ".(2/240)
وفيه حجة للجماعة في جواز صب الماء على المتوضئ، ومثله في حديث أسامة، خلاف ما روى عن عمر وابنه وعلى في كراهة هذا وشبهه من استقاء الماء للوضوء لغيره، وأنه من الشركة في الوضوء، وقول ابن عمر: لا أبالي أعانني رجل على وضوئي أو على ركوعي وسجودي، قال الطبري: وقد صح عن عمر خلافه من صب ابن عباس على يديه للوضوء، وثبت عن ابن عمر خلاف ما روى عنه، وأنه كان يسكب له الماء لو ضوئه. واستدل البخاري من هذا الحديث على جواز توضئة الرجل لغيره ؛ لأنه لما جاز له أن يكفيه غرف الماء لوضوئه فكذلك(1) سائر الوضوء، وهو من باب القربات التي يجوز أن يعملها الرجل عن غيره، ولإجماعهم على جواز توضئة المريض وتيميمه(2) إذا عجز عن ذلك، بخلاف الصلاة، ويحتمل أن صب المغيرة كان لضيق فم الإداوة، ويشبه(3) إن كانت لحمل الماء للشرب فلم يمكن الوضرء منها ولم تكن ميضاة ولا مطهرة كما جاء في حديث غيره، وكذلك يختلف حكم الأواني، فما يمكن إدخال اليد فيه كان حكمه وضعه على اليمنى(4)، وما ضاق عن ذلك كان حكمه وضعه على اليسرى(5) ليفرغ منه على اليمين ويميله بياسره، فهذا اختيار أهل العلم.
وقول المغيرة في صفة وضوئه: " فغسل وجهه ويديه ومسح برأسه ثم على الخفين، ولم يذكر من السنن شيئًا، ليس فيه أنه لم يفعلها - صلى الله عليه وسلم - لكن المغيرة أخبر بالفرائض وصارت سننها(6) في طيّها وبحكم التبع لها، وقد ذكر في بعضها ابتداءه بغسل الكفين.
__________
(1) في (ط):" كذلك ".
(2) في (ح) يشبه أن تكون:" تيممه ".
(3) في (ط):" وبشنةٍ ".
(4) في (أ):" اليمين ".
(5) في (أ) و(ط):" اليسار ".
(6) في (ط):" سنتها ".(2/241)
[وقوله:" فغسل وجهه ثم ذهب ليغسل ذراعيه ](1)، فضاقت الجبة فأخرجهما من تحت الجبة فغسلهما "، قال الباجي: لأنه كان - صلى الله عليه وسلم - له(2) إزار. وفيه جواز لباس مثل هذه الثياب لاسيما في الأسفار والمغازي لتشمر الإنسان فيها(3) وانضمامه وجمع ثيابه عليه. وفيه جواز إخراج اليد من تحت الثوب لمثل هذه الضرورة لا في المجامع والمحافل والرفاهية، وفيه جواز التفريق اليسير في الطهارة، وأن مثل هذا لا يقطع الموالاة فيها، لا سيما إن كانت من سببها مثل هذا ومثل نزع الخفين.
وقد اختلف في الموالاة هل هى من فروضها أو سننها ؟ فمشهور المذهب أنه سنة وقيل: فرض. قال ابن القصار: وهو ظاهر قول مالك، وقيل: فرض مع الذكر ساقط مع النسيان، وقيل: فرض في المغسول دون الممسوح، وقيل: مستحب.
واختلف قول الشافعي في وجوب ذلك، ولم يوجبه أبو حنيفة، ثم اختلف في مفروضها(4) على هذا، فعلى(5) أنه فرض يعيد في العمد والنسيان، وعلى القول أنه سنة، فعند ابن عبدالحكم لا شيء عليه، وعند ابن القاسم لا شيء في النسيان ويعيد في العمد على مذهبه في ترك السنن عامدًا وقد يكون هذا على القول باشتراطه مع الذكر، والدليل على صحة كونها مشروعة مسنونة: مثابرتُه - صلى الله عليه وسلم - على الموالاة ولم يذكر عنه تفريق(6). واختلف في حد التفريق المبطل للطهارة، فقيل: جفاف الوضوء، وقيل: ذلك يرجع إلى الاجتهاد، فقد يسرع جفاف الوضوء في بعض الأوقات والبلاد والأبدان الحارة وبالضد من ذلك.
__________
(1) مابين المعكوفين مكرر في (ح).
(2) في (أ) و(ط):" عليه ".
(3) في (ط):" فيهما ".
(4) في (ح):" من تركها ".
(5) قوله:" فعلى " ليس في (ح)، ويوجد علامة إلحاق ولم يظهر غير حرف منها.
(6) في (ح):" تفريق عنه ".(2/242)
وقيل(1) فائدة حمل العنزة والماء معه في هذا الحديث وغيره: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان التزم ألا يكون إلا على طهارة(2) في أكثر أوقاته، وكان إذا توضأ صلى ما أمكنه.
وذكر مسلم في طرق(3) حديث المغيرة:حدثني محمد بن حاتم،ثنا إسحاق بن منصور، ثنا عمر بن أبي زائدة، عن الشعبي، عن عروة، قال الإمام: قال بعضهم: هكذا روى لنا عن مسلم إسناد(4) هذا الحديث عن عمر بن أبي زائدة من جميع الطرق، ليس بينه وبين الشعبي أحد، وذكر أبو مسعود أن مسلمًا خرجه عن عمر بن أبي زائدة، عن عبد الله بن أبي السفر(5)، عن الشعبي، عن عروة، وهكذا قال الجوزي في كتابه الكبير الذي رواه زكريا عن عامر الشعبي، عن عروة، ثم قال: ورواه عمر بن أبي زائدة ابن أبي السفر(1)، عن الشعبي، وذكر البخاري في "تاريخه": أن عمر بن أبي زائدة سمع من الشعبي، وأنه كان يبعث ابن أبي السفر(1) وزكريا إلى الشعبي يسألانه.
وفي الباب بعد هذا: حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، ثنا يزيد بن زريع، حميد، ثنا بكر ، ثنا عروة بن المغيرة بن شعبة، قال بعضهم: قال أبو مسعود: هكذا يقول مسلم في حديث ابن بزيع، عن يزيد بن زريع، عن عروة بن المغيرة، وخالفه الناس فقالوا فيه: حمزة بن المغيرة بدل عروة، وأما الدارقطني فينسب الوهم فيه إلي يزيد لا إلى مسلم، والله أعلم.
__________
(2) في (ح):" الطهارة ".
(3) في (أ) و(ط):" طريق ".
(4) قوله:" إسناد " ليس في (ح).
(5) في (ح):" السَّقر ".(2/243)
قال القاضي: حمزة بن المغيرة هو عندهم الصحيح في هذا الحديث، وإنما عروة بن المغيرة في الأحاديث الأخر، وحمزة وعروة أبناء المغيرة، والحديث مروي عنهما جميعًا، لكن رواية [بكر بن](1) عبد الله المزني إنما هى عن حمزة بن المغيرة أو بن المغيرة - غير مسمى - ولا يقول: عروة، ومن قال: عروة عنه وهم، وكذلك اختلف عنه، فرواه معتمر عن أبي سليمان(2) التيمي في أحد الوجهين عنه عن بكر، عن الحسن، عن ابن المغيرة، وكذلك رواه يحيى بن سعيد عن التيمي، وقد ذكر ذلك مسلم، وقال غيرهم: عن بكر عن ابن(3) المغيرة، قال الدارقطني: "وهو وهم "، وفي حديث المغيرة وغيره: ذهاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عند حاجته عن الحاضرين، وهو أدب الحدث، الاستتار حتى لا يُرى له شخص ولا يسمع صوت، وكما جاء في الحديث الآخر أبعد في المذهب.
وفيه وفي غيره من الأحاديث التجافي عن ذكر الاسم القبيح من الحدث والكناية عنه بإتيان الغائط والحاجة، خلاف ما قاله المشركون من التصريح بقبيحه من قولهم: علمكم كل شيء حتى الخراءة ! وذلك من أدب الشرع، ترك فحش(4) الألفاظ وقبيح القول، والكناية عن ذلك عند الحاجة إلا للضرورة، وكذلك كانت عادة العرب في كلامها صيانة الألسن عما تصان عنه الأبصار والأسماع.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(2) في (أ):" معتمر بن سليمان "، وفي (ط):" معتمر عن أبيه سليمان".
(3) قوله:" ابن " ليس في (ح) و(ط).
(4) في (ح):"...".(2/244)
قال القاضي: ذهب بعضهم إلى أن حديث(1) المغيرة جاء في السفر لقوله: "كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، كما رواه مالك رحمه الله في "الموطأ" وغيره:" أنه كان في غزوة تبوك "، واستدل منه على جواز المسح في السفر، ومن حديث جرير وحذيفة على جوازه في الحضر، وأن إسلام جرير وغزوة تبوك بعد نزول المائدة سنة تسع، ولهذا كان يعجبهم حديث جرير ليقطع(2) به حجة من زعم أن آية الوضوء ناسخة لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمسح على [الخفين، واستدل بعضهم من حديث المغيرة على جواز استعمال](3) الأحجار مع وجود الماء بكون الإداوة مع المغيرة لقوله: " فتلقيته بالأداوة "، و"صببت عليه من إداوة كانت معى "، وهذا وإن كان ظاهرًا فقد يحتمل غير هذا، وأن ذلك في السفر وعدم الماء وقلته، ألا ترى كيف قال له بعد أن قضى حاجته:« أمعك ماء ؟ »، قال: فأتيته بمطهرة.
__________
(1) بياض في (ط) في أوائل ثلاث سطور
(2) في (ط):" لتقطع ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (ح)، ويوجد علامة إلحاق ولم يظهر شيء في التصوير.(2/245)
وقوله في الحديث:" فمسح بناصيته وعلى العمامة "، قال الإمام: يحتج به لأبي حنيفة في أن الواجب من مسح الرأس الناصية. وحدُّها منتهى النزعتين، ويحتج به ابن حنبل في أن المسح على العمامة جائز كما يجزى المسح على الخفين، فذهب(1) مالك إلى خلافهما جميعًا، وأن المسح على العمامة غير جائز، وأن الوجوب من مسح الرأس ليس بمقصور على الناصية خاصة، ويعارض قول كل واحد منهما بقول صاحبه، ويجعل الحديث حجة عليهما جميعًا، فيقول لأبي حنيفة: إن كان الوجوب يختص بالناصية فلم مسح العمامة ؟ ونقول لابن حنبل: إن كان المسح على العمامة جازيًا(2) فلم باشر الناصية بالمسح ؟ وقد ذكر ابن حنبل أن المسح على العمامة(3) رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من خمس طرق صحيحة، واشترط بعض القائلين بجواز المسح على العمامة أن تكون لبست على طهارة كالخفين، وزاد بعضهم: وأن تكون بالحنك ليكون في نزعها مشقة فحينئذ تشابه الخف.
وأقوى ما يحتج به على ابن حنبل مقابلة أحاديثه بظاهر القرآن في قول الله سبحانه:{ وامسحوا برءوسكم }، وهذا ظاهره المباشرة، ويبقى هاهنا النظر ما بين تقدمة ظاهر القرآن على الأحاديث أو تقدمة الأحاديث على الظاهر، وليس هذا موضع استقصائه، وأحسن ما حمل عليه أصحابنا حديث المسح على العمامة أنه - صلى الله عليه وسلم - لعله كان به مرض منعه كشف رأسه، فصارت العمامة كالجبيرة التى يمسح عليها للضرورة.
قال القاضي: قوله في حديث المغيرة في أحد طرقه من حديث محمد بن بشار ومحمد بن حاتم رفعاه عن بكر بن عبد الله، عن الحسن، عن ابن المغيرة بن شعبة، عن أبيه، قال بكر: وقد سمعته من ابن المغيرة، كذا لجميع شيوخنا، وكذا ذكره ابن أبي خيثمة والدارقطني وغيرهما، ووقع عند بعضهم ولم أروه، وقد سمعت من ابن المغيرة، وقد تقدم قبل سماعه الحديث منه.
__________
(1) في (أ):" وذهب ".
(2) في حاشية (ح):"جائزًا "، وكتب فوقها:" خ".
(3) في (ط):" العمامة جائز ".(2/246)
وفي إمامة عبد الرحمن بن عوف بهم، ولم ينتظروا النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل على مبادرة فضل أول الوقت، وبه احتج الشافعي وغيره على هذا، وظاهره يأسهم من وصول النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم إلا بعد أن يصلّى أو لتأخره عنهم، وظنهم أنه أخذ طريقًا غير طريقهم أو أنه عرّس ليلته(1)، ألا ترى فزعهم حين أدركهم يصلون؟ فدل أنهم لم يبادروا الصلاة أول الوقت ولا - أيضًا - أخروها لآخر الوقت حتى يئسوا منه وخافوا فواتها ؟ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن صلّى، ولا يصح أن يؤخروها حتى يضيق وقتها بغير(2) علّة، فالأشبه(3) أنهم انتظروه، فلما تأخر عن وقته المعهود تأولوا أنه صلّى فصلوا.
وفيه تقديم الجماعة إمامًا بغير أمر الإمام، بخلاف الصلوات التى لا تصح إلا بإمام كالجمعة والعيدين وغيرهما. وفيه إمامة المفضول بالأفضل وصلاة الإمام خلف رعيته، وجبر ما فات من الصلاة لمن أدرك بعضها، واتباع الإمام في فعله وجلوسه وإن لم يكن موضع جلوس للمدرك، وأن قضاءه لما فاته(4) بعد سلام الإمام، وأن العمل اليسير في الصلاة غير مؤثر فيها، لذهاب عبدالرحمن ليتأخر، وسيأتي الكلام على تمام هذا وحكم صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا، وفي حديث أبي بكر في موضعه من كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى.
وقوله في حديث بلال: " مسح على الخفين والخمار " يريد بالخمار-والله أعلم - العمامة، لتخمير الرأس بها، لشبهها بخمار المرأة، ولم يختلف من أجاز المسح على العمامة في منع مسح المرأة على خمارها إلا شيء روى عن أم سلمة. وعن أنس في مسحه على القلنسوة، وفرق ما بين العمامة والخمار عندهم أن العمامة يشق نزعها لاسيما إن كانت بحنك،ولأن المسح عليها مسح على بعض الرأس ولورود الرخصة فيها(5) عندهم كماجاءت في الخف.
__________
(1) في (ح):" ليلة ".
(2) في (ط):" لغير ".
(3) في (ط):" فالأظهر ".
(4) في (أ):" فات ".
(5) في (ط):" بها ".(2/247)
وفيه الأعمش عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، عن بلا ل، الحديث.
قال مسلم: وفي حديث عيسى بن يونس: حدثني الحكم(1): حدثني بلال، وهذا مشكل على من لا يعرف أسرار هذا العلم، ومعناه: أن الأعمش حدث به في سند(2) مسلم عنه أولاً معنعنًا ومن طريق عيسى نص على الحديث، فقال: حدثني حكم ولم يقل: عن حكم كما قال قبل، وقال آخر الحديث: حدثنا بلال ولم يقل: عن بلال، وإلا فالْحَكَم لا يَروي عن بلال، ولو عنعنه الحكم عن بلال لكان مقطوعًا ؛ لأنه إنما رواه عن رجلين عنه، وقد تكلم أبو الحسن الدارقطني في كتاب العلل على حديث بلال هذا والخلاف فيه والخلاف على(3) الأعمش فيه أيضًا، وسقوط بلال منه عند بعضهم واقتصاره على كعب، وسقوط كعب عند(4) بعضهم واقتصاره على بلال، وجعل بعضهم البراء بين بلال وابن أبي ليلى، وأكثر رواة الأعمش على ما في "الأم"، وقد رواه بعضهم عن على بن أبي طالب عن بلال.
وقوله (5):" أتيت عائشة رضي الله عنها أسألها عن المسح على الخفين، فقالت: عليك بابن أبي طالب، فإنه كان يسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، فيه حجة أن مسح النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان في السفر، ولو مسح(6) في الحضر لعلمته، وفي رواية أخرى:"فإنه أعلم بذلك مني، فسألناه فقال: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويومًا وليلة للمقيم ".
__________
(1) في (أ):" الحكم قال ".
(2) في (ح):" مسند ".
(3) في حاشية (ح):"عن"، وكتب فوقها:" خ".
(4) في (ط):" عن ".
(5) في (ط):" قوله ".
(6) في (ح):" كان ".(2/248)
وفيه(1) تضعيف ما روى عن عائشة - رضى الله عنها - وعلى من أنكر المسح على الخفين، وفيه النص على المسح للمقيم والمسافر والتوقيت لهما. وقد اختلف العلماء في التوقيت في ذلك، فذهب أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه إلى هذا الحديث، وهو قول الثوري وأصحاب الحديث وروى(2) مثله عن مالك، ومشهور مذهبه أنه لا حد له ولا توقيت، وهو أحد قولي الشافعي وقول الأوزاعى والليث، وروي عن مالك للمقيم من الجمعة إلى الجمعة، وتأولها(3) شيوخنا: أي ينزعهما للغسل، وهذا مبني على نفي التوقيت، وذهب بعضهم إلى أن حده من الحدث إلى الحدث، وقد اختلف في رفع هذا(4) الحديث أو إيقافه على علي، قال أبو عمر: ومن رفعه أثبت وأحفظ ممن أوقفه .
وقول عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح:" لقدصنعت شيئًا لم تكن تصنعه "، يدل على مثابرة النبي - صلى الله عليه وسلم - على الوضوء لكل صلاة، وقوله:" عمدًا فعلته يا عمر "، أي: قصدًا ليبين للناس الإباحة والرخصة في ذلك ؛ لئلا يقتدوا بفعله، ويظنوا ذلك فرضًا، وذهب بعض الناس إلى أن فعله هذا نسخ ما كان قبل من فرض(5) الوضوء لكل صلاة، وهذا يرده حديث أنس أن ذلك كان خاصًّا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - دون أمته، وأنه كان يفعله للفضيلة، وبحديث(6) صلاته - صلى الله عليه وسلم - بالصهباء، وجمعه بين العصر والمغرب بوضوء واحد، والصهباء بخيبر قبل الفتح، وقد تقدم شيء من هذا.
وقوله:« إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها... » الحديث، ذكر الإمام هنا الكلام على غسل اليدين قبل الوضوء، وقد نقلناه أول الكتاب.
__________
(1) في (أ):" فيه ".
(2) في (ح):" فروي ".
(3) في (أ):" وتأوله ".
(4) قوله:" هذا " ليس في (ط).
(5) في (ح):" فعل "، وفي حاشيتها:"فرض"، وكتب فوقها:"صح، خ"..
(6) في (أ):" ولحديث ".(2/249)
قال القاضي: وقد اختلف العلماء في غسل اليدين للقائم من النوم قبل إدخالها الإناء، فمذهبنا ومذهب عامة العلماء: أن ذلك على الاستحباب وليس بواجب(1)، وأنه على طريق الاستحباب خلافًا لأحمد بن حنبل رحمه الله وبعض أهل الظاهر في إيجابه ذلك للقائم من نوم الليل لامن نوم النهار، ولداود والطبري(2) في إيجابهما ذلك من كل نوم وينجس الماء إن لم يغسل يده قبل إدخالها فيه.
واختلف قول مالك وأصحابه في إفساده الماء بذلك، وعلله(3) بعض شيوخنا أن ذلك إمَّا لعله لما يتعلق(4) باليد من قذر ما يمسه من المغابن وشبهها من الجسد ولا(5) يسلم من حك بَثرِة ومسح عرقه وفضول جسده، فاستحب له تنظيفها لذلك، وقيل: بل لأنهم كانوا يستجمرون بالأحجار فربما نال ذلك بيده حال نومه، وقيل: بل لما يخشى أن يمسه من نجاسة تخرج منه حال نومه أو غير ذلك مما يتقذر منه، وفي الحديث نفسه:« فإن أحدكم(6) لا يدرى أين باتت يده »، وهذا تعليل بالشك والاحتياط وهو ينفى الوجوب. واحتج أصحاب الشافعي بهذا الحديث في تفريقهم بين طروّ النجاسة على الماء أو طروّ الماء عليها ؛ إذ منع من إدخال اليد في الإناء، ولو صب بعض ما فيه على اليد النجسة لطهرها.
__________
(1) في (ح):" ذلك بواجب ".
(2) في (ح):" الطبري ".
(3) في (أ) و(ط):" وعللها ".
(4) في (أ) و(ط):" ذلك لما لعله يتعلق ".
(5) في (ح) يشبه أن تكون:" أولا ".
(6) قوله:" فإن أحدكم " ليس في (ط).(2/250)
قوله (1):« إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبعا »، قال الإمام: اختلف في غسل الاناء من ولوغ الكلب، هل هو تعبد أو لنجاسة ؟ فعندنا أنه تعبد، واحتج أصحابنا بتحديد غسله بسبع مرات أنه لو كانت العلة النجاسة لكان المطلوب الإنقاء، وقد يحصل في مرة واحدة، واختلف عندنا، هل يغسل الإناء من ولوغ الكلب المأذون في اتخاذه ؟ فيصح أن يُبنى الخلاف على الخلاف في الألف واللام من قوله:« إذا ولغ الكلب »، هل هي للعهد أو للجنس ؟ فإن كانت للعهد اختص ذلك بالمنهي عن اتخاذه، لأنه قد قيل: إنما سبب الأمر بالغسل التغليظ عليهم لينتهوا عن اتخاذها. وهل يغسل الإناء من ولوغه في الطعام ؟ أيضًا فيه(2) خلاف، ويصح أن يبنى على خلاف أهل الأصول في تخصيص العموم بالعادة، إذ الغالب عندهم وجود الماء لا الطعام.
__________
(1) في (أ):" وقوله ".
(2) قوله:" فيه " ليس في (أ) و(ط).(2/251)
قال القاضي: اختلف في غسل الإناء من ولوغه، وفي العلة في ذلك وفي حكم الماء الذي ولغ فيه هل هو نجس أم لا ؟ فمذهبنا ما تقدم من طهارته، وأن الغسل تعبد مستحق العدد، وهو مذهب أهل الظاهر، لكن يتنزه عنه عندنا مع وجود غيره، وهو قول الأوزاعى، وقال الثورى: من لم يجد غيره(1) توضأ به ثم تيمم، ووافقنا الشافعي في العدد وخالف في نجاسة الكلب فقال: هو نجس، وقد حكى هذا عن سحنون وعبد الملك وبعض أصحابنا - وطرد بعضهم أصله في ذلك إذا أدخل يده في الإناء. ووافقه أبوحنيفة في نجاسته وخالف الكل في العدد، وقال: يُغسل حتى ينقى، وقد تأوله بعضهم على قول مالك، وتأؤل عليه(2) أيضًا تضعيف الغسل جملة لمعارضة الحديث قوله تعالى:{ فكلوا مما أمسكن عيكم }، وقوله:« يؤكل صيده » فكيف يكره لعابه وأنه غير واجب. وقال أحمد: يغسل سبعًا، والثامنة(3) بالتراب على ما جاء في الحديث الذي ذكره مسلم أيضًا عن ابن المغفل في الكلب، وحجتنا أن التعفير ليس في سائر الأحاديث، وقد اضطرب فيه، فقد روى عن أبي هريرة - رضي الله عنه -:« أولاهن بالتراب » ذكره(4) في "الأم"، وروي عنه: «أولهن وأخراهن بالتراب »، وروي:«[ آخرهن بالتراب ](5)»، وكذلك اختلف(6) على تأويل مذهب مالك في غسله هل هو على الوجوب أو الندب؟ وكذلك اختلف مذهبنا: متى يغسل، هل عند استعماله أو عند ولوغه(7)؟ وهو مبني على الخلاف هل هو لتعبد، فعند وقوعه أولتنجُسٍ فعند استعماله ؟ وأما تعليل ذلك فقيل: ما تقدم من أذاها الضيف وترويع(8) الغريب المسلم، وقيل:لعدم توقيه الأقذار وأكله الأنجاس، وكان شيخنا القاضي أبو الوليد(9)
__________
(1) في (ط):" سواده ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(3) في (ط):" الثامنة " بدون واو.
(4) في (أ):" على ما جاء ذكره مسلم ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(6) في (أ):" اختلفوا ".
(7) في (أ) (ح):" وقوعه ".
(8) في (ح):" تروع ".
(9) في (أ) تشبه أن تكون:" أبو الوليد ".(2/252)
بن رشد رحمه الله يذهب أن ذلك توقيًا وحماية مخافة أن يكون كلبا فيستضرّ مستعمل سؤرة بما لعله خالطه من لعابه المسموم، قال: وشرع النبي - صلى الله عليه وسلم - غسل الإناء من ذلك سبعًا يصحح التأويل ؛ لأنا وجدنا الشرع قد استعمل السبع فيما طريقه التداوي، لا سيما بما تعلّق به سمٌ كقوله:« من تصبح كل يوم(1) سبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم»، وقوله في مرضه:« هريقوا علي من سبع قرب لم تحل(2) أوكيتهن ».
وأما قوله في الحديث:« فليرقه »، وقوله:«" طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب »، فيحتج به من يراه نجسًا وغيره، يقول: بل لتقززه وتقذره، وعلى هذا(3) اختلف هل يغسل به الإناء إذا لم يجد غيره ؟ والأولى ألا يغسل به وإن لم يجد غيره ؟ وإن كان عندنا ظاهرًا لقوله - صلى الله عليه وسلم -:« فليرقه »، والمتحصّل من مذهبنا في سؤر الكلب أربعة أقوال: طهارته ونجاسته، والفرق بين سؤر المأذون في اتخاذه وغيره(4)، وهذه الثلاثة الأقوال(5) عن مالك، الرابع: مذهب عبد الملك في الفرق بين البدوي والحضري.
وقوله في حديث ابن المغفل في قتل الكلاب:" ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم، وقال:« إذا ولغ الكلب... »: الحديث حجة لأحد القولين في غسل الإناء من المأذون لأنه جاء بعد الترخيص في اتخاذه، فدل?أنه نسخ ما(6) قبله بهذه العبارة(7) الأخرى، والله أعلم.
__________
(1) قوله:" يوم " ليس في (ح).
(2) في (أ) و(ط):" تحلل ".
(3) قوله:" وعلى هذا " ليس في (أ).
(4) في (ط):" وغير ذلك ".
(5) في (أ):" الثلاثة أقوال ".
(6) قوله:" ما " ليس في (أ) و(ط).
(7) في (ط):" العبادة ".(2/253)
وقد يحتمل أنه راجع في قتل(1) الكلاب الأخر، وقد اختلف في غسل الإناء من سؤر الخنزير، هل يقاس على الكلاب لنجاسته - وهو مذهب أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي - أو لتقذره وأكله الأنجاس - وهو أحد قولي مالك - أولاً يغسل لأنه لا يستعمل ويقتنى فلا يوجد(2) فيه علّة الكلب من أذى الناس - وهو أحد قولي مالك والشافعي.
ونهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بول الرجل في الماء الراكد [أو الدائم الذي لا يجرى، ثم يغتسل منه، وهو تفسير الراكد](3) هذا منه - صلى الله عليه وسلم - على طريق التنزيه والإرشاد إلى مكارم الأخلاق والاحتياط على دين الأمة، وهو في الماء القليل آكد منه في الكثير لإفساده له، بل ذكر بعضهم أنه على الوجوب فيه، إذ قد يتغير منه ويفسد فيظن من مرَّ به أن فساده لقراره أومكثه، وكذلك يكثر تكرار البائلين في الكثير حتى يعتريه ذلك، فحمى - صلى الله عليه وسلم - هذا العارض في الماء الذي أصله الطهاره بالنهي عن ذلك، وذكر البول فيه دليل على ما يشابهه من الغائط وغيره، فإن فعل ذلك(4) في ماء كثير لم يضره، فإن كان في قليل وغيره أنجسه وإن لم يغيره فعلى اختلافهم(5) في الماء القليل تحله النجاسة القليلة، ولم يأخذ أحد بظاهر الحديث إلا داود، فقصره على البول فيه دون غيره من صبِّه فيه، أو التغوط فيه، أو جريه إليه، كان كثيرًا أو قليلاً، والتزم في ذلك تناقضًا عظيمًا اتباعًا لظاهر الحديث.
__________
(1) في (ط):" إلى الكلاب ".
(2) في (أ):" توجد ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(4) قوله:" ذلك " ليس في (ط).
(5) في (ح):" اختلاف ".(2/254)
وقوله:« والذى لا يجرى »، دليل أن الجاري بخلافه ؛ لأن البول لا يستقر فيه، ولأن جريه يدفع النجاسة وتخلفه على التوالي الطهارة، ولأن الجاري في حكم الكثير الغالب مالم يكن ضعيفًا يغلبه البول ويغيره، ولأن أكثر المياه الموجودة ليست كثيرة مستبحرة، والناس ينتابون المياه عند حاجتهم ويقربون منها(1) للتنظيف(2) بها، فلو أطلق لهم البول فيها لفسد أكثرها وقطع الانتفاع بها، لاسيما فيما(3) يقرب من العمران ويدخل الوساوس(4) فيما يوجد منها.
وقوله:« لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب » من هذا، يعني ولم يغسل ما به من أذى. وقول أبي هريرة:" يتناوله تناولاً " يريد لا ينغمس فيه، ولكن يتناوله ويتطهر خارجًا عنه، وهذا في غير المستبحر، وكذلك يكره له هذا في القليل وإن غسل ما به من أذى، لأنه لا يسلم الجسم من درن ووسخ، فقد يغيره. ولأنه في استعماله في تنقية(5) جسده من باب الماء المستعمل المختلف فيه .
وقوله:« ثم يغتسل منه »: تنبيه على إفساده الماء وعلى الحاجة إليه، لا أنه إنما نهى إذا أراد أن يغتسل فيه فقط.
ذكر في الحديث أن أعرابيًّا بال في المسجد، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:« دعوه، لا تزرموه » بتقديم الزاي، فلما فرغ دعا بدلو فصبّه عليه، وفي الحديث الآخر: " بذنوب "، الذنوب: بالفتح، الدلو مملوءة ماء.
قال الإمام: قوله:« دعوه(6)»: يحتمل(7) أن يكون خشي إن قام على ذلك(8) الحال نجس مواضع كثيرة من المسجد، ويحتمل أن يكون خشي إن(9) قطع عليه أن تضر به الحقنة.
__________
(1) قوله:" منها " ليس في (ط).
(2) في (ط):" للتنظف ".
(3) قوله:" فيما " ليس في (أ).
(4) في (ح):" الوسواس ".
(5) في (ح):" بقية ".
(6) قوله:" دعوه" مكانها بياض في (ح).
(7) في (أ):" محتمل ".
(8) في (ط):" تلك ".
(9) قوله:" خشي إن " مكانها بياض في ( ).(2/255)
قال القاضي: جاء في آخر الحديث في البخاري:« إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين »، وهذا يبيّن أن مقصده الرفق بالجاهل، والنهي عن الجفاء والإغلاظ لقوله(1) في الحديث:" فتناوله الناس "، وفي ضمن ذلك ما ذكره من خوف قيامه على تلك الحال، فينجس ثيابه ومواضع كثيرة من المسجد غير الأول.
وفي قوله:« لا تزرموه » - في الحديث الآخر - بيان ذلك وخوف الإضرار به. قال الخطابي: وفيه دليل أن الماء على اليسر(2) والسعة في إزالة النجاسات به، وأن غسالة النجاسة طاهرة مالم تبن به النجاسة، وقد اختلف على الشافعي في طهارة الغسالة. قال الهروي في شرحه الحديث الذي قال فيه: بال الحسن فأُخذ من حجره فقال:« لا تزرموا ابني »، يقول: لا تقطعوا عليه بوله، والإزرام: القطع، وزرم البول: انقطع.
__________
(1) في (أ):" بقوله ".
(2) في (ح):" الميسر ".(2/256)
وأما صبّ الدلو على بول الأعرابى فاحتج به أصحابنا على الشافعي لقوله: إن الماء اليسير إذا حلّت فيه النجاسة اليسيرة عاد نجسًا وإن لم يتغير، وانفصل بعض الشافعية عن ذلك بأن طروّ النجاسة على الماء بخلاف طروّ الماء عليها، ونحن لا نسلم لهم التفرقة بين ذلك ؛ لأنه ما خالط نجاسة فلا فرق في التحقيق بين طرؤه عليها وطرؤها عليه، ولهم في الماء القليل تحل فيه النجاسة اليسيرة حديث:« إذا جاوز الماء قلتين لم يحمل خبثًا »، وهذا ليس الحجة به من جهة نصّه، وإنما هى من جهة دليله، فإن لم نقل بدليل الخطاب سقط احتجاجهم به فيما دون القلتين، وإن قلنا بدليل الخطاب قلنا في مقابلته قوله - صلى الله عليه وسلم -:« خلق الله الماء طهورًا »، وتفرقة الشافعية بين طرو النجاسة على الماء وطرو الماء عليها ؛ ابتنى على ذلك عندهم خلاف فيمن غسل نجاسة(1) عن ثوبه، هل تكون الغسالة التى خالطتها(2) النجاسة الخارجة من الثوب نجسة أم لا ؟ فقال بعضهم: تكون طاهرة لأن الماء طارئ عليها ويحتج بصبّ الماء على بول الأعرابى، وأنه بعد أن خالطه الماء لم ينجس بقعة أخرى يمر عليها، قال بعض أصحابنا: إن قوله في "المدونة": إن(3) لم يجد إلا ما حلت فيه النجاسة اليسيرة وهو قليل إنه(4) يتيمم، هذا كقول الشافعي، وقال بعض أصحابنا: إنما المراد بقوله: يتيمم، يعنى ويتوضأ(5)، لا أنه يتركه جملة، وعلى هذا لا يكون موافقًا للشافعي.
__________
(1) في (أ) و(ط):" نجساته ".
(2) في (ط):" خالطها ".
(3) في (ح):" وإن ".
(4) في (أ):" فإنه ".
(5) في (ط):" ويتوضأ به ".(2/257)
قال القاضي: المعروف من مذهب مالك أنه لا يراعى هذا التفريق جملة، وذهب إليه أحدٌ من أصحابه، وانما اختلفت عنه رواياتهم في طهارته مالم يتغير أحد أوصافه، قليلاً كان أو كثيرًا، وهي رواية المدنيين عنه وأهل المشرق وأصل مذهبنا(1)، وهو قول الثوري والأوزاعي في رواية(2)، وبيّن التفريق بين القليل والكثير، وأن القليل ينجسه قليل النجاسة وإن لم تغيره(3)، كقول أبي حنيفة والشافعي، وإن خالفهما في تحديد القليل، وهي رواية المصريين والمغاربة وجماعة من أصحابه المدنيين وغيرهم، ثم اختلف أصحابه في هذا القليل ما حكمه ؟ هل هو نجس حقيقة ؟ أو مشكوك فيه ؟ فمن نجسه حقيقة قال: يتيمم من لم يجد سواه، ومنهم من تأول لهذا القليل الاحتياط، ومن شك فيه جمع بينه وبين التيمم على اختلاف لهم كثير واضطراب في ترتيب ذلك وصفته، وقد حدّ بعض متأخري شيوخنا(4) القليل بإناء الوضوء تقع فيه القطرة من النجاسة، والقصرية يغتسل فيها الجنب ولم يغسل ما به من أذى، وحدّ الشافعي وفقهاء أصحاب الحديث - وهو مروي عن بعض الصحابة والتابعين - القليل بما كان دون القلتين، وروى عن بعض السلف أربعين قلة، ثم اختلف القائلون بالقلتين في تقديرهما، وأكثرهم على أنها خمس قرب، وقيل: ست، وقال أهل الرأي: كل ماء إذا حرك اضطرب طرفه الآخر فهو في حيز القلة، ينجسه ما وقع فيه وإن لم يغيره، وهذا إذا كان الاضطراب بالتحريك لا بالتمويج(5). وأجمعوا أن ما تغير طعمه أو لونه(6) أو ريحه بنجاسة أنه نجس لا يجوز استعماله.
__________
(1) في حاشية (ح):"مذهبه "، وكتب فوقها:"خ".
(2) قوله:" في رواية " ليس في (ط)و(ح)، ويوجد علامة إلحاق في (ح) وكتب في حاشيتها:" عن مالك رواية أخرى في التفريق ".
(3) في (ط):" يغيره ".
(4) في (ح):" أصحابنا "، وفي حاشيتها:"شيوخنا"، وكتب فوقها:" خ"، وفي (ط):"شيوخنا هذا ".
(5) قوله:" لا بالتمويج " ليس في (ط).
(6) في (ط):" لونه أو طعمه ".(2/258)
وفي هذا الحديث الرفق بالجاهل وتعليمه ما يلزمه بغير تعنيف ولاسبٍّ، إذا لم يأت ذلك استخفافًا وعن علم، بل بيّن له برفق وعلّمه ما للمساجد من حرمة وحق. وفيه تنزيه المساجد عن جملة الأقذار، وأنه لا يصلح فيها شيء من أعمال(1) الدنيا وتجارتها ومكاسبها، والخوض في غير الذكر وما في معناه لقوله:« إنما هى لذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن »، و " إنما "، للحصر ونفي مالم يذكر.
وقوله في سند حديث زهير: حدثنا إسحاق بن أبي طلحة، حدثني أنس ابن مالك. وهو عم إسحاق - هو عمه أخو أبيه لأمه - وهو إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة.وأم عبد الله هي أم سليم بنت ملحان، وهي أم أنس بن مالك، تزوجها بعد أبي أنس أبو طلحة.
وقوله في هذا الحديث(2):" فجاء بدلو من ماء فشنه عليه "، يُروى بالشين والسين(3)، أي: صبّه عليه، وفرق بعضهم بين السن والشن(4) وقال: السن بالسين المهملة: الصبّ في سهولة، وبالمعجمة: التفريق في صبّه، ومنه حديث عمر:" كان يسن الماء على وجهه ولا يشنه ".
وفيه حجة أن الأرض النجسة لا يطهرها إلا الماء خلافًا لمن ذهب أن الشمس(5) والجفوف يطهرها. وفيه أنه ليس من شرط غسل النجاسات كلها العرك، وأنه يكفى فيما كان منها مائعًا وغير لزج صبّ الماء فقط واتباعها به بخلاف ما ليس منها، أو كانت فيه لزوجة. وفيه حجة لطهارة الغسالة إذا لم يكن فيها عين(6) النجاسة، وقد اختلف فيها قول الشافعي وأصحابه، ولا يصح القول بنجاستها مع تطهير غيرها، ولو أن الذنوب يتنجس بما لاقاه في الأرض من البول لما طهرها.
وقوله في الحديث:« مه مه » كلمة زجر تقال(7) بالإفراد والتثنية، ويقال: به بالباء أيضًا.
__________
(1) في (أ):" أمور ".
(2) قوله:" في هذا الحديث " ليس في (ح).
(3) في (أ):" بالسين والشين ".
(4) في (ح):" السين والشين "، وفي (ط):" الشن والسن ".
(5) في (ح):" الماء ".
(6) في (أ):" غير ".
(7) في (أ) و(ط):" يقال ".(2/259)
وقوله:" كان يؤتى - صلى الله عليه وسلم - بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم " فيه التبرك بأهل الفضل، والتماس دعائهم، والاقتداء بهذا الأدب والسيرة من حمل المولودين إلى الفضلاء عند ولادتهم وعرضهم عليهم ليدعوا(1) لهم، ومعنى:" يبرك عليهم" أي: يدعو لهم بذلك، وخصهم بذلك لما فيها من معنى النماء والزيادة في جسمه وعقله وفهمه ونباته لكون الطفل في مبادئ ذلك.
وقوله:" ويحنكهم "، ليكون أول ما يدخل أجوافهم ما أدخله النبي - صلى الله عليه وسلم - لاسيما بما مزجه به من ريقه وتفله في فيه، وفيه ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من حسن العشرة ومشاركة أمته وتأليفهم لكل فعل جميل.
__________
(1) في (ط):" ليدعى ".(2/260)
وقوله:" فأُتي بصبى فبال عليه، فدعا بماء فاتبعه بوله [ولم يغسله "، وفي أخرى: " فنضحه على بوله ولم يغسله "](1)، وفي أخرى: " فرشه "، وذكر في بعضها:" أن الصبي مرضعٌ، وفي بعضها:" لم يأكل الطعام "، قال الإمام: اختلف في بول الصبى الذي لم يأكل الطعام، هل يغسل منه الثوب ؟ فقيل: لا يغسل، وقيل: يغسل، وقيل: يغسل بول الجارية خاصة، فوجه غسله قياسه على بول الكبير، كما أن الرجيع منه نجس كالكبير، ووجه ألا يغسل؛ ما في بعض الأحاديث أنه نضحه ولم يغسله، وهذا تأوّل على وجوه، فقيل: المراد بالنضح هاهنا(2) صب الماء عليه من غير عرك، وهو(3) يذهب مع الصب خاصة، وقيل: إن الهاء في قوله:" بال على ثوبه " عائدة على الطفل، أي: بال الطفل على ثوب نفسه، وهو في حجره - صلى الله عليه وسلم -، فنضح - صلى الله عليه وسلم - خوفًا أن يكون طار على ثوبه منه(4) شيء، ووجه التفرقة بين الغلام والجارية اتباع ما وقع في الحديث فلا(5) يُتعدّى(6) به ما ورد فيه، وهذا أحسن من التوجيه بغير هذا المعنى مما ذكروا.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(2) في (ح):" هنا ".
(3) في (ح):" وهذا ".
(4) في (ح):" منه على ثوبه ".
(5) في (ح):" ولا ".
(6) في (أ):" يُعدى ".(2/261)
قال القاضي: الثلاث مقالات في مذهبنا، فالقول بنجاسة بولهما وغسلهما مشهور قول مالك وأصحابه، وهو قول أبي حنيفة والكوفيين، والقول بطهارة بول الصبى وحده ونضحه ونجاسة بول الجارية قول الشافعي وأحمد وجماعة(1) من السلف وأصحاب الحديث وابن وهب من أصحابنا، وحكى عن أبي حنيفة أيضًا ، والقول الثالث رواه الوليد بن مسلم عن مالك وهو قول الحسن البصري، وقال بعض علمائنا: ليس قوله في الحديث:" لم يأكل الطعام " علّة للحكم، وإنما هو(2) وصف حال وحكاية قصة، كما قال في الحديث " صغير "، وفي الحديث الآخر:" رضيع "، واللبن طعام وحكمه حكمه في كل حال، فأى فرق بينه وبين الطعام، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُعلل بهذا ولا أشار إليه فنكل الحكم فيه إليه ؟ وهذا الحديث أصل في غسل النجاسة. وقال غيره يحتمل قوله:" لم يأكل الطعام "، أي: لم يرضع بعد، وأن المسلمين كانوا يوجهون أبناءهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليدعو لهم ويتفل في أفواههم، ليكون أوّل ما يدخل في أفواههم ريق النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون قوله على هذا:" أجلسه في حجره"، مجازًا، أو(3): وضعه فيه، ويحتمل أن يكون الصبي بلغ حد الجلوس وأحضر ليدعوا له النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه بعد لم يفصل عن الرضاع(4) ولا أكل الطعام. ووقع في بعض روايات الحديث:" ويرش على بول الصبي ": وحمله بعضهم على معنى اتباع الرش بعضه بعضًا حتى يصير كالغسل، أو يكون لما شك أنه أصابه منه.
__________
(1) قوله:" جماعة " مكانه بياض في (ط).
(2) في (ح):" وهي ".
(3) في (أ):" أي ".
(4) في (أ) تحتمل:" الرضاع " و "الرضاعة ".(2/262)
وقول عائشة رضي الله عنها في المني:" كنت أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال الإمام: هذا الحديث يحتج به الشافعية على طهارة المني إذ لم يذكر الغسل، وقال بعض أصحابنا: قيل: إنها بالماء فركته، والحجة لنا على نجاسته الحديث الآخر الذي فيه:" أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أراد الإحرام للصلاة رأى في ثوبه منيًّا فانصرف، ثم خرج إليهم وفي ثوبه بقع الماء ". وقال بعض أصحابنا: هو نجس لخروجه من موضع البول، وهذا إشارة إلى أنه إنما نجسه إضافة النجاسة إليه، فانظر ما الذي ينبغى على هذا التعليل أن يكون حكم مني ما يؤكل لحمه من الحيوان إذ بوله طاهر.(2/263)
قال القاضي: ذكر مسلم قول عائشة رضي الله عنها للذي غسل الثوب:" إنما كان يجزيك إن رأيته أن تغسل مكانه، وإن لم تره نضحت حوله، لقد رأيتنى أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، الحديث فيه حجة لنا على نجاسته وإلا فلم يغسل ؟ فإن قيل: للتنظيف، قيل: فلم(1) أمرته أن ينضح إذا لم ير، وهذا حكم النجاسات. ويصحح أن فرك عائشة رضي الله عنها له إنما كان بالماء ؛ لأنه جاء متصلاً بهذا الكلام الأول، ويحمل على ما تقدم من قولها وإلا كان الكلام متناقضًا، فالحديث بنفسه حجة على المخالف، وإنما انكرت عائشة عليه غسله كله وغمسه في الماء، وأنها سألته: هل رأيت فيه شيئًا ؟ فقال: لا، وجمهور العلماء على نجاسته إلا الشافعي وأصحاب الحديث، فقالوا بظاهره، وحجتهم ظاهر فرك عائشة رضي الله عنها له، وقد فسترته بأمرها بالغسل والنضح، وبالخبر الذي ذكره عنها مسلم:" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغسل المني "، وفي الحديث الآخر: "كنت أغسله من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، ويتأول الفرك والحك بالظفر الوارد في الحديث لإزالة العين، وتقشير ما يبس منه، كما قالت في الحديث الآخر:"من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يابسًا بظفري(2).
__________
(1) في (ح):" لم ".
(2) في (ط):" بظفر ".(2/264)
وفائدته: إزالة عينه قبل الغسل لئلا ينتشر ببلله عند الغسل في الثوب بدليل الحديث الآخر من قوله للحائض يصيب ثوبها الدم:« تحته ثم تقرصه(1) بالماء »، ولله در مسلم رحمه الله وإدخاله هذا الحديث بأثر أحاديث الْمَني، فهو كالتفسير للفرك وفائدته، وأما احتجاج المخالف بأن الني أصل للخلق كالتراب وأن منه يخلق الأنبياء، فلا حجة في هذا، لأن ما يخلق منه الأنبياء لا كلام لنا فيه، وإنما كلامنا في مني فاسد حصل في ثوب أو جسد يقطع على أنه لا يخلق منه أحد، وأيضًا فليس كل ما هو بدء الخلق طاهرًا، والمضغة والعلقة غير طاهرة(2) عندنا إذا أسقطت باتفاق، وهي أصل الخلق للأنبياء، وكذلك أيضًا تنازعهم في فرك(3) عائشة رضي الله عنها المني من ثوبه - صلى الله عليه وسلم -، إن سلمنا لهم الحجة به، بأن(4) منيه وسائر فضوله - صلى الله عليه وسلم - عندهم طاهرة على أحد القولين.
وقولها: " ثم يخرج إلى الصلاة وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه "، يحتمل لأثر الماء لاستعجاله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة(5) ومبادرته الوقت وأنه لم يكن(6) لهم ثياب يتداولونها، وقيل: يحتمل أنها عنت أثر المني بعد غسله. وفيه حجة أن النجاسة إذا غسلت حتى ذهب عينها لا يضر بقاء أثرها أو لونها، وكذا ترجم البخاري على هذا الحديث، وقد جاء فيه:" ثم لا يضرك أثره "، ولم يذكر في هذا(7) خلاف إلا عن ابن عمر. وفي الحديث خدمة المرأة زوجها في غسل ثيابه وشبهه، وليس هذا باللازم لها، ولكنه من حكم حسن العشرة وجميل الصحبة لا سيما في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) في (ح):" تقرضه " بالضاد.
(2) في (أ):" طاهر ".
(3) في (ح):" فراك ".
(4) في (ح):" فإن ".
(5) قوله:" الصلاة " ليس في (أ).
(6) في (ط):" تكن ".
(7) في (ح):" هذا الحديث "، وهي ملحقة بالهامش.(2/265)
وقوله في الدم:« تحته ثم تقرصه بالماء »، وتقرصه مخفف ومثقل، رويناه بهما جميعا وهو تقطيعه بأطراف الأصابع مع الماء ليتحلل بذلك(1) ويخرج من الثوب.
قال الإمام: قال الهروي: قرصيه(2) بالماء: أي قطعيه، وحت الشىء قشره وحكه، ومنه الحديث المذكور.
وقوله: " ثم لينضحه "،: قال الهروي: ومن السنن العشر الانتضاح بالماء، وهو: أن يأخذ قليلاً من الماء فينضح به مذاكيره بعد الوضوء لينفى عنه(3) الوسواس. قال الإمام: وقال بعض أصحابنا: هذا الحديث غير معمول به لأنه اعتقد أنه إنما أمرها: أن ننضح موضع النجاسة، وتأوله غيره على غير ذلك وقال: لعله إنما أمر: أن ينضح غير تلك البقعة مما شك فيه هل أصابته النجاسة أم لا(4)؟
قال القاضي: وقال غيره: المراد بالنضح هنا الغسل على ما جاء في حديث بول الصبى مما سنذكره بعد، وهو معروف في كلام العرب، وكذلك في حديث المقداد في المذي، قوله:« وانضح(5) فرجك »، وفي الرواية الأخرى: « واغسل ذكرك ».
وقوله في صاحبي القبر:« إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشى بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله »، وفي رواية أخرى: «لا يستنزه من البول»، وفي غير مسلم: يستبرئ بالباء (6)، قال الإمام: قوله: " وما يعذبان في كبير "، ثم ذكر النميمة، وقد تكون من الكبائر، فيحتمل أن يريد به في كبير عليهم تركه وإن كان كبيرا عند الله تعالى، والمنهي عنه على ثلاثة أنحاء، منه ما يشق تركه على الطباع كالملاذ المنهي عنها، ومنه ما يؤكده الطبع ويدعو إليه كالنهى عن تناول السموم وإهلاك النفس، ومنه مالا مشقة على النفس في تركه فهذا القسم مما يقال فيه ليس بكبير على الإنسان تركه.
__________
(1) قوله:" بذلك " ليس في (أ).
(2) في (ح):" قرصته ".
(3) في (أ) و(ط):" به ".
(4) قوله:" أم لا " ليس في (أ) و(ط).
(5) في (ح):" فانضح ".
(6) في (ح):" بالياء ".(2/266)
قال القاضي: وقيل في معنى:« وما يعذبان في كبير(1) »، أي: عندكم، ألا تراه(2) كيف قال:" بلى "، في غير كتاب(3) مسلم، أي: بلى هو كبير عند الله كما قال:{ وتحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم }، وهذا أظهر في معنى بلى من رده على غير هذا، كما ذهب إليه بعضهم وقيل:« ما(4) يعذبان بكبير » أي: بأكبر الكبائر، وإن كان كبيرا. وفي الحديث من الفقه صحة عذاب القبر، ومعنى:« لا(5) يستتر من بوله » أي: لا يجعل بينه وبينه سترة ولا يتحفظ منه، وفيه: أن القليل من النجاسة وكثيرها غير معفو عنه، وهذا مذهب مالك وعامة الفقهاء، إلاماخففوه في الدم لغلبته على ما قدمناه أول الكتاب، وعلى الاختلاف هل الدماء كلها واحدة أو مفترقة ؟ وجعل أبو حنيفة قدر الدرهم من كل نجاسة معفوا عنها قياسًا على العفو عن المخرج(6) في الاستجمار، وقال الثوري: كانوا يرخصون في القليل من البول، ورخص أهل الكوفة في مثل رؤوس الإبر، وقال مالك والشافعي وأبو ثور: يغسل، وحكي عن إسماعيل القاضي: أن غسل ذلك عند مالك على طريق الاستحسان والتنزه، وهذا هو مذهب الكوفيين خلاف المعروف من مذهبه.
قال الإمام: واحتج المخالف بهذا الحديث على نجاسة بول مايؤكل لحمه، فأما رواية " بوله"، بالإضافة فلا تعلق له به ؛ لأنه قصره على بول الرجل، وأما الرواية الثانية فقد يتعلق بها طردًا لاسم(7) البول فيقول: متى وجد ما تقع عليه هذه التسمية وجب أن يكون نجسًا، واحتج أصحابنا بطواف النبي - صلى الله عليه وسلم - على البعير، ولا يؤمن أن يبول.
__________
(1) في (أ) و(ط):" بكبير " بدل:" في كبير ".
(2) في (ح):" ترى ".
(3) قوله:" كتاب " ليس في (أ).
(4) في (ح):" وما ".
(5) قوله:" لا " ليس في (ح) و(ط).
(6) في (ح):" فم المخرج ".
(7) في (ح):" طرد اسم ".(2/267)
وقوله:« يستنزه » و « يستتر من البول »: يشير(1) ظاهره: أن علة التعذيب أنه لا يتحفظ من النجاسة. قال القاضي: معنى " يستتر من البول " أي: يجعل بينه وبينه سترة، ومعنى:" يستنزه "، أي: يبعد منه، ومنه أخذت النزاهة عن الشىء أي البعد منه.
قال الإمام: وأما رواية يستبرئ ففيها زيادة على هذا المعنى ؟ لأنه إذا لم يستبرئ فقد يخرج منه بعد الوضوء ما ينقض وضوءه فيصير مصليًا بغير وضوء، فيكون الإثم لأجل الصلاة أيضًا، وهي كبيرة لا شك فيه (2)، وقد قيل معنى:" يستتر من بوله "، أي: من الناس عند بوله، فيحتج بهذا على وجوب ستر العورة.
قال القاضي: استدل المخالف ومن قال من أصحابنا: إن إزالة النجاسة فرض بتعذيب هذا بعدم التنزه عن البول، والوعيد لا يكون إلا على ترك(3) واجب، والجواب لمن يقول: إنه سنة ما تقدم من رواية:" يستبرئ "، فكان يصلي بغير طهارة، أو يترك(4) التنزه(5) عمدًا واستخفافًا وتهاونًا، قال ابن القصار: وعندنا أن متعمد ترك السنن لغير عذر ولا تأويل آثم (6).
قال القاضي: ولعل معناه فيمن تركها جملة ؛ لأن إقامتها وإحياءها على الجملة واجب، وأما على الآحاد أو ترك المرء بعضها فخلاف الواجبات.
قال الإمام: وأما جعل الجريدتين على القبر، فلعله - صلى الله عليه وسلم - أوحى إليه أن العذاب يُخفف عنهما مالم ييبسا، ولا يظهر لذلك وجه إلا هذا.
__________
(1) قوله:" يشير " ليس في (ح)، وفي (ط):" يستتر ".
(2) في (ح):" فيها ".
(3) قوله:" ترك " ليس في (أ) و(ط).
(4) في (ح):" بترك ".
(5) في (أ):" التنتره ".
(6) في (ط):" مأثوم ".(2/268)
قال القاضي: قد ذكر مسلم رحمه الله في حديث جابر الطويل آخر الكتاب في حديث القبرين:« فاحببت بشفاعتي أن يرفع(1) ذلك عنهما ما دام القضيبان(2) رطبين »، فإن كانت القصة واحدة فقد بين أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا لهما وشفع، وإن كانت قصة أخرى فيكون المعنى فيهما واحدًا، والله أعلم.
[وذكر بعض أصحاب المعانى أن يكون يحتمل التخفيف عنهما مدة رطوبة الجريدتين لدعاء كان منه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك تلك المدة ](3)، وقيل: بل المعنى: أنهما مادامتا رطبتين تسبّح وليس ذلك لليابس، وقد حكي عن الحسن نحو من هذا في مايدة، وسئل: هل تسبح ؟ فقال: كان، فأما الآن فلا. واستدل بعض العلماء من هذا - على هذا التأويل - على استحباب تلاوة القرآن على القبور، ولأنه إذا كان يرجى التخفيف عن الميت بتسبيح الشجر فتلاوة القران أعظم رجاء ونفعًا. قال بعضهم: وقد جاء عمل الناس في بعض الآفاق ببسط الخوص على قبور الموتى، لما تعاطوه من ذلك وجه.
قال القاضي: قد روي عن بريدة الأسلمى أنه أوصى أن يجعل في قبره جريدتان، فلعله تيمنًا بما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو لما تقدم، والله أعلم، أو لتسمية(4) الله عز وجل لها بشجرة(5) طيبة وتشبيهها بالمؤمن.
كتاب الحيض
قول عائشة رضى الله عنها:" كانت إحدانا إذا كانت حائضًا أمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تأتزر في فور حيضتها، ثم يباشرها "، قالت:" وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يملك إربه ".
__________
(1) في (أ) و(ط) لم تتضح الكلمة.
(2) في (ط):" الغصنان ".
(3) مابين المعكوفين جاء في (ط) بين قوله:" قال القاضي " و"قد ذكر مسلم " الفقرة السابقة.
(4) في (أ):" لتشبيه ".
(5) في (ح):" شجرة ".(2/269)
وقوله في الحائض:" تأتزر ثم يباشرها "، وفي الحديث الأخر:" في فور حيضتها ": فور الشيء جأشه واندفاعه وانتشاره، وفور الحيض معظم صبه، ومنه فور العين، وفور القدر إذا جاشا، قال الله تعالى:{ وفار التنور }، ومنه في الحديث:« فإن شدة الحر من فور جهنم »، وفي كتاب أبي داود: "في فوج حيضها "، وكذلك في البخاري: " من فوج جهنم "، و "فيح جهنم"، والكل بمعنى واحد.
وقوله:" فأيكم يملك إربه كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يملك إربه ": كذا رويناه في فيه بكسر الهمزة وسكون الراء، أي لعضوه، والإرب: العضو، والآراب: الأعضاء، كنَّت به عن شهوة الجماع، والإرب أيضًا: الحاجة وهي الإربة، والمأرُبة أيضًا بضم الراء وفتحها، ورواه بعضهم:" لأربه " بفتح الهمزة والراء، وكذا رواه أبو ذر في كتاب البخاري، وعاب الخطابي رواية أصحاب الحديث فيه بالكسر والإسكان، وصوّب رواية الفتح، وقال: يعنى حاجته، قال: والإرب أيضًا: الحاجة، قال: والأول أظهر. قال الإمام: قال الهروي:" لإربه " أراد الحاجة، يعنى أنه كان غالبًا لهواه، قال: والإرب والمأربة: الحاجة، قال غيره والإرب - أيضًا -: بفتح الهمزة والراء، وأما المأربة فبفتح الراء فيها وضمها، قال: وقال الهروي في تفسير قوله تعالى: { ويسالونك عن المحيض }، قال ابن عرفة: المحيض والحيض: اجتماع الدم إلى المكان، وبه سمى الحوض لاجتماع الماء فيه، يقال: حاضت المرأة وتحيضت، ومحاضًا ومحيضًا إذا سال الدم منها في أوقات معلومة، فإذا سال في غير معلومات من غير عرق الحيض قيل: استحيضت، فهى مستحاضة، قال: ويقال: حاضت المرأة وتحيضت، ودرست وعركت وطمثت.(2/270)
قال القاضي: قد قيل في هذا - أيضًا -: " نفست " بفتح النون، وحكى بعضهم فيه الضم أيضًا، وضحكت - أيضًا - بمعنى حاضت، وقيل ذلك في قوله تعالى:{ وامرأته قائمة فضحكت }، وقيل: سمى الحيض حيضًا من قولهم: حاضت السمرة: إذا خرج منها ماء أحمر، قال القاضي: ولعل قولهم هذا في السمرة أصله من حيض المرأة.
قال الإمام: يحتمل أن يكون إنما أمر - صلى الله عليه وسلم - أن تأتزر من فور الحيضة خشية أن يناله أذى حين مضاجعته ؛ لأن الدم حينئذ يثج، أي: يندفع، وليس كذلك الحال في آخر الحيضة.
وقولها:" ثم يباشرها " يحتمل أن يراد به مماسة الجسد ؛ لإن إصابة الحائض من تحت الإزار يمنعه أهل العلم.
قال القاضي: صحح هذا الاحتمال الذي ذكره ورفع الريب فيه قوله : " إنه كان - صلى الله عليه وسلم - يباشر نساءه فوق الإزار.(2/271)
وقولها:" يضطجع معي وأنا حائض وبينى وبينه ثوبي "، فهذا الثوب يرجع إلى الإزار في الحديث الآخر، وتكون المباشرة حقيقة لما فوق الإزار ويجتنب ما تحت الإزار. وقال ابن الجهم وابن القصار: حدّه من السرة إلى الركبة ؛ لأنه موضع الإزار، ولأنه مفسر في حديث آخر، وهذا مذهب عامة أئمة أهل العلم في جواز الاستمتاع من الحائض بما فوق الإزار، ومضاجعتها ومباشرتها في مئزر بمفهوم هذه الأحاديث، وبقوله في غير هذا الكتاب:« ثم لك ما فوق الإزار »، وقوله:« ثم شأنك بأعلاها »، وتعلق بعض من شذّ بظاهر القرآن إلى اعتزال النساء في المحيض جملة، وقد بينت السنة هذا الاعتزال وفسرته بما تقدم، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذا:« اصنعوا كل شيء إلا النكاح »، وقد يتعلقون بظاهر حديث ميمونة وقولها:" وبينى وبينه ثوب "، ولكن قولها في الروايه الأخرى:" فوق الإزار " يفسر أنه الثوب الذي عنته، وفي البخاري:" كان إذا أراد أن يباشر أحدًا من نسائه أمرها فاتزرت. وذهب بعض السلف وبعض أصحابنا إلى أن الممنوع منها الفرج وحده، وأن غيره مما تحت الازار حماية منه مخافة ما يصيبه، وروي عن عائشة معناه، وحكى ابن المرابط في شرحه إجماع السلف على جواز ذلك، وقد يحتج باختصاصه الشد بفور حيضتها في الحديث المتقدم.(2/272)
وكذلك اختلفوا متى يحل وطؤها، بانقطاع الدم ؟ وهو مذهب الكوفيين وإن لم تطهر، وإليه نحا بعض أصحابنا البغداديين، وأن الإمساك إلى أن تتطهر بالماء استحبابٌ، وتأوله على قول مالك، وقال ابن نافع من المدنيين: له وطؤها إذا احتاج وإن لم تتطهر بالماء، واحتجوا بقوله تعالى:{ حتى يطهرن }، فهي الغاية، ومشهور المذهب وقول عامة السلف والفقهاء أنفًا لا توطأ حتى تغتسل لقوله تعالى:{ فإذا تطهرن فأتوهن }، فقرن بالغاية وصفًا وشرطًا لابد منه، وقال الأوزاعي وأصحاب الحديث: إذا طهرت وغسلت فرجها حل وطؤها وإن لم تغتسل، وهو نور القول الأول، أو لأنهم حملوا التطهر على اللغوي والذى بمعنى التنظيف وغسل الأذى، وقال آخرون: المراد به الطهارة الصغرى، فإذا توضأت حل له وطؤها و‘إن لم تتطهر، كما أمر الجنب ألا ينام حتى يتوضأ، وكذلك اختلفوا، هل على الواطئ في الحيض كفارة أم لا ؟ فذهب ابن عباس إلى ماجاء في الحديث: أنه يتصذق بدينار أونصف دينار، وهو قول ابن حنبل، وعن ابن عباس أيضًا في أول الدم بدينار وفي آخره بنصفه، وقال النخعي واسحاق والشافعي في القديم، ونحوه للأوزاعي، إلا أنه جعل النصف لمن وطئها بعد انقطاع الدم، وقال الحسن: عليه ماعلى الواطئ في رمضان، ونحوه لسعيد بن جبير قال: عتق رقبة، وذهب مالك والشافعي آخرًا والكوفيين والليث ومعظم السلف والفقهاء: أنه لا كفارة عليه وليستغفر الله ويتوب إليه، والحديث عندهم مضطرب غير محفوظ.(2/273)
قال الإمام: واختلف أهل العلم في أقل الحيض الموجب لترك الصلاة، فمذهب مالك: أن الدفعة من الدم حيض، ومذهب الشافعي: يوم وليلة، فإذا انقطع في ذلك فليس بحيض، ومذهب أبي حنيفة كالشافعي، إلا أنه يجعل حد ذلك ثلاثة أيام، ومقتضى مذهبهما أن المرأة إذا رأت الدم كفت عن الصلاة، فإن بلغ إلى الحد الذي ذكر، لم يجب عليها قضاء، وإن انقطع قبل ذلك قضت، وألزمنا المخالف أن يقول في الاستبراء: إن الدفعة من الدم تجرى فيه كما قلنا: إن ذلك موجب لترك الصلاة، وقال الأبهري من أصحابنا: القياس أن تكون الدفعة من الدم يعتد بها في الاستبراء ويكو قرءًا، ولكن أخذنا بالاحتياط لبراءة الأرحام وصيانة الأنساب، وقد ذكر بعض الناس نساء الأكراد يحضن لمعة أو دفعة فقط.
والحيض ثلاث: مبتدأة، ومعتادة، ويائسة، فأما المبتدأة إذا رأته، فتمادى بها، فقيل: تجلس خمسة عشر يومًا، وإن زاد على ذلك كانت مستحاضة، وقيل: تترك الصلاة قدر أيام لداتها، وقيل معناه:أترابها. وهل تستظهر على ذلك أم لا ؟ فيه قولان، وأما المعتادة إذا زاد الدم على أيام حيضتها، فقيل: تتم خمسة عشر يومًا، وقيل: تستطهر على أيامها ثم تغتسل وتصلي. والقول في الحيض مبسوط في كتب الفقهاء وليس هذا موضع بسطه. وأما اليائسة إذا رأت دمًا فإنه لا يكون براءة للأرحام، واختلف هل تترك له الصلاة والصيام ؟ وسيأتي ذكر المستحاضة.(2/274)
قال القاضي: ما ألزمنا المخالف وقاسه الأبهري هو حقيقة مذهب ابن القاسم على ما ذهب إليه بعض حذاق شيوخنا، وأن الدفعة متى كان تبلها طهر فاصل وبعدها طهر فاصل فهى حيض يعتد به في العدد، وعليه حمل قول ابن القاسم في المعتدة: فإذا رأت أول قطرة من الحيضه الثالثة، فقد تم قرؤها، وانقضت الرجعة، وحلت للأزواج، وإن قول أشهب خلاف له، وإليه نحا اللخمي، خلاف قول غيرهما: إنه تفسير ووفاق، ويعضده ما وقع لمالك في الاستبراء وقوله: يسأل النساء عن ذلك. وقول أم سلمة:" بينا أنا مضطجعة في الخميلة إذ حضت، فانسللت فأخذت ثياب حيضتي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « أنفست...»، الحديث، قال القاضي: الخميلة: القطيفة، قال ابن دريد، وقال الخليل: الخميلة: ثوب له خمل. وقولها:" فأخذت ثياب حيضتي ": كذا ضبطناه بكسر الحاء، وكذا قال الخطابي في قوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة:« إن حيضتك ليست في يدك »، وإن صوابه بكسر الحاء، يريد الهيئة والحالة كقولهم: القعدة والجلسه، أي: الهيئة والحالة، قال: والمحدثون يقولونها بفتح الحاء، وعندى أن هذا غير بيّن في هذا الموضع، بل الحيضة هنا الدم لقوله:« ليست في يدك »، يعني: أن النجاسة التى يجب تجنبها المسجد وأسباب الصلاة وهو دم الحيضة ليست في يدك، وأن الصواب ما قاله المحدثون هناك بخلاف حديث أم سلمة هذا، ويحتمل الكسر، أي: الثياب التى ألبسها في حال حيضتي، ويحتمل الفتح، أي الثياب التى ألبسها أيام الدم، ولا أتحفظ بها من الحيض، وأن غيرها من ثياب التجمل والصلاة عن ذلك.
وقوله:« أنفست »، قال الإمام: قال الهروي وغيره: نفست المرأة، ونفست إذا ولدت، فإذا حاضت قيل: نفست بفتح النون لاغير.
قال القاضي: روايتنا في "الأم" بضم النون وهي رواية أهل الحديث، وذلك صحيح، وقد قال أبو حاتم عن الأصمعى الوجهان في الحيض والولادة، وذكر ذلك غير واحد وأصل ذلك كله من خروج الدم، والدم يسمى نفسًا، ومنه قول الشاعر:(2/275)
تسيل على حد السيوف نفوسنا
وليست على غير السيوف تسيل، وفيه نوم النبي - صلى الله عليه وسلم - مع زوجه في الخميلة، وكذلك في حديث عائشة وغيرها، وذلك من سنن أهل الفضل خلاف سيرة بعض الأعاجم.
وقولها:" وكانت هى ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسلان في الإناء الواحد من الجنابة " في جواز غسل الرجل مع المرأة من إناء واحد ووضوئهما، وهذا لا خلاف فيه، وإنما الخلاف من أحمد بن حنبل ومن تبعه في وضوء الرجل وغسله من فضل وضوئها أو غسلها، وسيأتى هذا معيّنًا بعد.(2/276)
وقول عائشة:" إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدخل على رأسه وهو في المسجد وأنا في حجرتي فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان إذا كان معتكفًا " وبين في الحديث الآخر:" فأرسله "، وهو بمعنى أرجله، وفي آخر:" فأغسله وأنا حائض "، وفيه ذكر مناولتها وهي حائض الخمرة والثوب، ووضعه - صلى الله عليه وسلم - فاه في موضع شربها وأكلها ، فيه كله أن جسد الحائض طاهر مالم يصب نجاسة، وكذلك ريقها، وأن مايلمسه من ذلك لا يتنخس، وأنها لا تمنع من المسجد إلا مخافة ما يكون منها. وإلى هذا نحا محمد بن سلمة من أئمتنا، وأجاز ذلك للجنب - يعنى إذا لم يكن به أذى - وهو قول زيد بن أسلم إذا كان عابر سبيل، وحكاه الخطابي عن مالك والشافعي وأحمد، وأهل الظاهر يجيزون للجنب دخوله، إلا أن أحمد يستحب له الوضوء بدخوله، ومنع سفيان وأصحاب الرأى دخوله المسجد جملة، وهو مشهور قول مالك، وذهب بعض المتأخرين إلى جواز ذلك للحائض إذا استثفرت بثوب، قال كما جاء في المستحاضة في الطواف وليس هذا عندي بصواب ؟ لأنها متى استثفرت وخرج منها في الذي أ استثفرت شيء، وإن أومن تنجيسه المسجد، فإنها نجاسة في الثوب ينزه المسجد عن كونها فيه والمستحاضة في الطواف معذورة من وجهين ؛ من الاستحاضة التى لزمتها، ومن تمام العبادة التى دخلتها، فلم يكن لها بدٌ من ذلك، والحائض فلا ضرورة لها لدخول المسجد جملة.(2/277)
وفيه أن مس المرأة زوجها في الاعتكاف لغير لذة، وترجيل شعره وغسيله ومناولته الثوب وشبهه له، لا يضر اعتكافه، وأن إخراج المعتكف رأسه من المسجد وغسله شعره وترجيله لا يضره، ولا قص شعره ولا ظفره. وفيه أن من حلف ألا يدخل بيتا فأدخل فيه رأسه لا يحنث، لإخراج النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسه من المسجد وهو لايجوز له الخروج، وإن أدخل ذلك منه من المسجد بيته لقول عائشة: " وأنا في حجرتي "، وأن المعتكف يدخل البيت إلا لضرورة حاجة الإنسان، وأنه لا يعود مريضًا ولا يشتغل بغير ما هو فيه، وأن سؤاله عن المريض والتسليم على الناس ومكالمتهم وشبه هذا في مسيره إلى حاجته لا يضره، وهذا قول مالك والأوزاعى والشافعي وأبي حنيفة، وبظاهر هذا أخذ إسحاق وقال: لا يخرج إلا لبول أو غائط، وقال جماعة من السلف، لكن إسحاق فرق بين التطوع والفرض، فأجاز اشتراط خروجه في التطوع، ولم يجز أكثرهم الشرط فيه، واختلف فيه قول أحمد، واختلف قول مالك في خروجه لما يضطر إليه ؛ من خروجه لشراء طعامه وشرابه وما يحتاج إليه، وروى عن بعض السلف من الصحابة وغيرهم: جواز خروجه للجمعة والجنازة وعيادة المريض، وأجاز أصحاب الرأى خروجه للجمعة، ومنعه مالك ورآه يفسد اعتكافه، وأنه لا يعتكف إلا في الجامع، وسيأتى هذا مفسرًا في الاعتكاف إن شاء الله تعالى. وقوله:" وهو مجاور ": أي معتكف، والجوار والاعتكاف سواء. وذكر قولها:" قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -:« ناوليني الخمرة من المسجد »، قال الإمام: قال الهروي في تفسير الحديث:" أنه كان يسجد على الخمر " يعنى هذه السجادة، وهي مقدار ما يضع عليه الرجل حر وجهه في سجوده من حصير أو نسيجة من خوص.
قال القاضي: سميت بذلك لأنها تخمّر الوجه أي تستره، وأصل هذا الحرف كله من الستر، ومنه الخمار لستره الرأس.(2/278)
وقولها:" من المسجد " معناه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك لها من المسجد لتناولها إياه من خارج، لا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تخرجها له من المسجد ؟ لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما كان في المسجد معتكفًا، ولقوله لها:« إن حيضتك ليست في يدك »، فإنما حذرت هى من إدخالها يدها في المسجد لا غير ذلك، ولو كان أمرها بدخول المسجد لم يكن لذكر اليد معنى.
وقولها:" أتعرق العرق " بفتح العين وسكون الراء، وهو العظم الذي عليه اللحم، وجمعه عراق، ويقال: عرقت العظم واعترقته وتعرقته إذا أخذت عنه اللحم بأسنانك، وقال أبو عبيد: العرق: القدرة من اللحم، وقيل: هو العظم عليه بقية اللحم، قال الخليل: والعراق: العظم بلا لحم، قال الهروي: وهو جمع عرق نادرًا، وقيل إنما قيل: أتعرقه أي أستأصل أكل مافيه حتى أكل عروقه، أي عصبه المتعلقة بالعظم، والصواب أن اشتقاق العرق من العظم نفسه الذي فسرناه.
وقولها: " كان يتكئ في حجرى وأنا حائض فيقرأ القرآن "، كذا لعامة شيوخنا وكافة الرواة، وكذا عند البخاري، ووقع للعذري:" في حجرتي" وهو وهم، والمعروف الأول.(2/279)
وفيه دليل على طهارة جسد الحائض، إذ لو كان نجسًا لنزه - صلى الله عليه وسلم - القرآن وتلاوته في مكان نجس. وقد استدل به بعض العلماء على قراءة الحائض القرآن، وإليه نحا البخاري في كتابه، وكذلك في حملها المصحف. وقد اختلف العلماء فيها وفي الجنب، فمنهم من رخص لهما في حمل المصحف وقراءة القرآن، وهو قول جماعة من السلف وأهل الظاهر، وتأولوا الآية في قوله:{ لا يمسه إلا المطهرون }، أنها خبر لا نهي، وأن المراد الملائكة وأنها بمعنى الآية الأخرى التى في عبس:{ بأيدي سفرة كرام بررة }، وإلى هذا التفسير نحا مالك في "موطئه"، وعلى هذا يكون منع مسه لغير المتطهر على وجه الندب لا على الإيجاب، وذهب جمهور العلماء ومالك والشافعي وأبو حنيفة إلى أنه لايمس القرآن إلا طاهر، وحملوا الآية على ظاهرها، وأن الخبر هنا مقتضاه النهي، كما قال تعالى:{ والمطلقات يتربصن بأنفسهن } الاية، الصورة خبر ومقتضاه الأمر، ولايقرؤه الجنب والحائض، واختلف فيه عن مالك في قراءة الحائض له عن ظهر أو نظر ولا تمس المصحف ويقلب لها، فاباحه مرة لطول أمرها، وأنها لا تقوى على رفع حدثها، ومشهور قوله في الجنب أنه لا يقرؤه لقدرته على رفع حدثه، وروي عنه الرخصة له ذلك، وخفف هو وأبو حنيفة وبعضهم قراءة اليسير منه للتعوذ وشبهه إلا أن أبا حنيفة لا يجيز آية كاملة. واختلف عن الشافعي في قراءة الحائض وقال: لا يقرأ الجنب، وعلى هذا منع المذهب من استناد المريض المصلى لحائض أو جنب تنزيها للصلاة عن القرب النجاسة والاعتماد عليها ؟ إذ لا تخلو ثيابها من نجاسة، وإذًا لا فرق بين الاستناد والجلوس، ورخص في ذلك إذا كانت ثيابها طاهرة، ومنعه بعضهم على كل حال لمعونتها المصلى، فكأنهما مصليان بغير طهارة. قال في هذا الحديث عند بعض الرواة :" وأنا حائضة "(2/280)
وكذا كان عند شيخنا الصدفي والخشني، والوجهان جائزان، قال الله تعالى: { ولسليمان الريح عاصفة }، وقال:{ وجاءتها ريح عاصف }، فأما إثبات الهاء فيها فعلى إجرائها على فعل المؤنث حاضت فهى حائضة، وأما قولهم: حائض، فللنحاة فيها وجهان: أحدهما: أن حائض وطالق ومرضع مما لا يشترك فيه المذكر، فاستغنى فيه عن علامة التانيث، والثاني - وهو الصحيح -: أن ذلك على طريق النسب، أي ذات حيض ورضاع وطلاق، كما قال تعالى:{ السماء منفطر به }. وفعله - صلى الله عليه وسلم - مع الأنصار بيِّن في تطييب نفوسهما، وزوال الوحشة من قلوبهما بسفيهما اللبن، إثر ما أظهر من الإنكار لسؤالهما في وطء الحائض مخالفة لليهود، وتغير وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك حتى ظن أن قد وجد عليهما، فيه من حسن العشرة والرفق والرأفة بالمؤمنين، والرحمة التى جعلها الله من صفات نبيه - صلى الله عليه وسلم -، لا سيما لعظم ما كان يلحقهما من ظنّهما بوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهما، ولا سيما فيما هو من باب الدين والشريعة.
قال الإمام: وقوله:" إن عليا أمر المقداد أن يسأل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المذي، وفي إحدى الروايات: فساله، فقال:« منه الوضوء »، ولم يبين في هذا الحديث على أي وجه وقع سؤاله ؟ هل سأله سؤالاً يخص السائل ؟ أو يعمه وغيره ؟، وفي رواية أخرى قال: فأرسلنا المقداد، ثم قال: فسأله عن المذي يخرج من الإنسان، ولم يبين على أي صفة أمره عليّ أن يسأل له، فإن كان لم يلتفت على أي وجه وقع سؤاله ففيه دليلٌ على أنه كان يرى أن القضايا على الأعيان تتعدى، وهي مسألة خلاف بين أهل الأصول ؛ لأنه لو كان يقول بغير ما يتعدى لأمره علي - رضي الله عنه - أن يسميه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، إذا قد يبيح له ما لا يبيح لغيره، إلا أنه قد ذكر في إحدى الروايتين المتقدمتين أن السؤال من المقداد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقع علي صفة تعُم.(2/281)
قال القاضي: وقع في هذا الحديث في "الموطأ" في السؤال عن الرجل إذا دنا من أهله وأمذى ماذا عليه ؟ وفي هذا فائدة حسنة ؟ أن جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذا في غير المعتاد بخلاف المستنكح والذى من علة، فحقيقة هذا أنه لا وضوء عليه، وإنما يتوضأ مما جرت العادة في خروجه للذة، وعليه حمل بعضهم قول مالك: إذا خرج منه المرة بعد المرة أنه يتوضأ.
قال الإمام: وفيه - أيضًا - أن عليا كلّف من يسأل له مع القدرة على المشافهة، فإن كان أراد أن يكون سؤاله الرسول بحضرته فيسمع منه، وإنما احتشم من مشافهته لكون ابنته عنده فلا اعتراض في ذلك، وإن لم يرد ذلك فإنه يقال: كيف يجزئ خبر الواحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع القدرة على القطع وسمع قوله ؟ وهل يكون هذا كالاجتهاد مع القدرة على النص ؟ وفي ظاهر الرواية المذكورة فيها أنه قال: فارسلنا المقداد، إشارة إلى أنه لم يحضر مجلس السؤال.(2/282)
قال القاضي: قد تفترق عندي هذه المسالة من مسألة الاجتهاد مع وجود النص، فإن الاجتهاد مع القدرة على النص خطأ محضن حتى لو كان النص خبر واحد لكان الاجتهاد معه خطأ، إلا إذا خالف الخبر الأصول وعارض القياس فبين الأصوليين والفقهاء فيه اختلاف، والأصح تقديم خبر الواحد بدليل عادة الصحابة لامتثال قبوله، والمبادرة للعمل به، وقطع التشاجر ومنازعات الاجتهاد عند حصوله، وهاهنا إنما طلب النص ووثق بالطريق إليه وبعد عنده الخلف في خبر الواحد الناقل والكذب، لا سيما على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولتزكيته للناقل، وثنائه - صلى الله عليه وسلم - عليه، وثناء الله في كتابه عليه، وبعد الوهم والخطأ لقرب النازلة وسماع الجواب، وفهم السائل الناقل، فارتفع الأمر إلى أعلى درجات غلبة الظن، ولم يبق إلا تجويز يبعد، وقد كان الصحابة ينتابون لسماع العلم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويجزى بعضهم عن بعض، وما علمنا أحدًا ولا بلغنا أن أحدًا استثبت فيما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا فيما مبتدأ الإسلام كحديث ضمام وغيره، وقد قال الله تعالى:{ فلولا نفر من كل فرقة فنهم طائفة ليتفقهوا في الذين ولينذروا قومهم }، والأكثر قادر على النفير والسماع بغير واسطة، وقد قال ضمام:" أنا رسول من ورائي "، وقال لوفد عبد القيس:« وأخبروا بهن من ورائكم »، ونفذت كتبه إلى عمّاله وأمم المسلمين ورسله، فوقفوا عندها ولم يترجح أحد في قبولها ولا أعمل الراحلة في تحقيقها.(2/283)
قال الإمام: واختلف أصحابنا في المذي، هل يجزى منه الاستجمار كالبول أو لابد من الماء ؟ وقال: من فرق بينهما إنما رخص في ذلك في الأحداث لأنها تعتري الإنسان غلبة في مواضع لا يتفق وجود الماء فيها ويشق الصبر إلى وجوده، وهي - أيضًا - متكررة، والمذي لا يتكرر، ويكون غالبًا مكتسبًا ففارق الحدث. واختلف القائلون بغسل الذكر من الوضوء، هل يجزئ أن يغسل منه ما يغسل من البول ؟ أو لابد من غسل جميعه ؟ والخلاف مبنى على الخلاف في تعلق الحكم بأوّل الاسم أو بآخره، لأن في بعض الروايات:« يغسل ذكره »، واسم الذكر ينطلق على البعض والكل. واختلف - أيضًا - هل يفتقر إلى نيّة في غسل ذكره أم لا ؟
قال القاضي: المذي هو الماء الرقيق الذي يخرج عند الإنعاظ والملاعبة، وفيه وجهان ؟ مذي بالتخفيف ومذئ بالتثقيل، والنضح المذكور في هذا الحديث الغسل ؟ بدليل قوله في الرواية الأخرى:« فاغسل فرجك »، وهكذا رواه أكثر أصحاب "الموطأ".
وخرَّخ مسلم في الباب حديث هرون بن سعيد الأيلى وأحمد بن عيسى عن ابن وهب قال: أخبرنى مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن سليمان بن يسار، عن ابن عباس، وهو مما استدركه الدارقطني على مسلم، وقال: قال حماد بن خالد سألت مخرمة: سمعت من أبيك ؟ قال: لا، وقد خالفه الليث عن بكير فلم يذكر فيه ابن عباس، وتابعه مالك عن أبي النضر.
قال القاضي: وسليمان بن يسار لم يسمع من على ولا من المقداد.
وقوله:" وتوضأ وضوءه للصلاة ": بيان لنقضه الطهارة لئلا يظن بذكر الوضوء غسل ما به من أذى، وأن المراد به الوضوء اللغوى.(2/284)
وفيه استنابة الصحابة بعضهم بعضًا، وتعاونهم في العلم والتعلم، وحسن التعلم مع الصبر، واستعمال الحياء في مثل هذه الأمور ما لم يمدح في الدين ويؤدى إلى تضييع ما يلزم. وذكر عن عانشة رضى الله عنها:" أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة قبل أن ينام "، وفي الحديث الآخر:" إذا كان جنبًا وأراد أن ياكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة، وعن عمر أنه قال: يارسول الله ! أيرقد أحدنا وهو جنبٌ ؟ قال:« نعم إذا توضأ»، وعنه أيضًا:« توضأ واغسل ذكرك ثم نم »، قال الإمام: ذكر عن ابن عمر أنه كان يأخذ بذلك في الأكل، ومحمل الوضوء عندنا قبل الأكل على غسل اليد، ولعل ذلك لأذى أصاب اليد، وأما وضوء الجنب قبل أن ينام فقد وقع لمالك - رضي الله عنه - أنه قال: هو شيء ألزمه الجنب ليس من الخوف عليه.
واختلف في تعليله، فقيل: يبيت على إحدى الطهارتين خشية أن يموت في منامه، وقيل: بل لعله أن ينشط إلى الغسل إذا نال الماء أعضاءه. ويجرى الخلاف في وضوء الحائض قبل أن تنام على الخلاف في هذا التعليل، فمن علل بالمبيت على إحدى الطهارتين جاء منه أنها تتوضا.
قال القاضي: ظاهر مذهب مالك أنه ليس بواجب وإنما هو مرغب فيه، وابن حبيب يرى وجوبه، وهو مذهب داود، وقد اختلفت الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وقد روي عنه أنه كان ينام جنبًا ولا يمس ماء، وحديث عائشة: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ ولم يأمرها بالتوضؤ، يدل على تخفيف الأمر، وكذلك ترك ابت عمر غسل رجليه في حديث "الموطأ".
وقوله في حديث مالك:« توضأ، واغسل ذكرك ثم نم »، قال الداودي: فيه تقديم وتأخير، معناه: واغسل ذكرك قبل الوضوء، والواو لا ترتب.(2/285)
قال القاضي : هذا ليس على وجه اللزوم، وإن غسل الذكر بعد الوضوء يفسده، فقد قال علماؤنا: إن وضوء الجنب لا ينقضه حدث إلا معاودة الوطء. وقوله في حديث ابن عباس:" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام من الليل فقضى حاجته ثم غسل وجهه ويديه ثم نام " يحتمل هنا غسل يديه لما لعله نالهما، ويكون غسل وجهه لرفع كسل النوم عنه، وليس هذا الحديث من حديث وضوء الجنب، والمراد بالحاجة هنا - والله أعلم - ا لحد ث.
وقوله: إن عبد الله بن أبي قيس قال: سألت عائشة - رضى الله عنها - عن وتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -...، وذكر الحديث " قلت: كيف كان يصنع في الجنابة ؟ أكان يغتسل قبل أن ينام ؟ أم ينام قبل أن يغتسل ؟ قالت: كل ذلك كان يفعل، هذا نص الحديث كله في "الأم"، قال الإمام: يحتمل أن يكون وجه سؤاله عن هذا أن في بعض الأحاديث أن الجنب لا تقربه الملائكة، ومعلومٌ من حاله - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يبقى على حالة تبعد الملائكة عنه، ألا ترى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتقى أكل الثوم وشبهه، وعلل ذلك بمناجاة الملك، وحديث عائشة رضى الله عنها يدل أن لذلك الحديث إن صح تأويلاً، فيحتمل أن يكون فيمن أخر الغسل عن وقت واجب عليه فيه الاغتسال لحضور الصلاة، فيصير حينئذ عاصيًا، ولا تقربه الملائكة لعصيانه، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزه عن هذه الحال، فيحتمل أن تأخيره للغسل في حديث عائشة على أنه في زمن يجوز ذلك فيه.
قال القاضي: قد يكون تجنب الملائكة من الجنب تنزيها لها من أجل الحدث الذي عليه، كما نزهت عنه عبادات كثيرة من تلاوة القرآن ومس المصحف، ونزه المسجد عن دخوله حتى يتطهر، ولما كانوا مطهرين ووصفهم الله بذلك خصهم بالبعد عمن ليس به الصفه، والله أعلم.
وقد قال الخطابي: إن الملائكة التى تجتنب الجنب، وجاء أنها لا تدخل بيتا فيه جنبٌ، هم الملائكة المنزلة بالرحمة والبركة غير الحفظة الذين يفارقونه.(2/286)
قال القاضي: ذكره في هذا الحديث الوتر طرف من حديث فيه فصول اختصرها مسلم - رحمه الله - وذكر منها حاجته في الباب، وقد ذكر الحديث أبو بكر الخوارزمي بكماله فقال: سألت عائشة عن وتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أكان يوتر من أول الليل أو آخره ؟ قالت: ربما أوتر من أول الليل، وربما أوتر من آخره، قلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، فقلت: وكيف كانت قراءته ؟ أكان يسر بالقراءة أم يجهر ؟ قالت: كل ذلك قد كان يفعل، وربما أسر وربما جهر، فقلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة. قلت: كيف كان يصنع في الجنابة ؟... وذكر بقية ما في "الأم"، وذكره أيضًا أبو داود في "مصنفه".
وقوله:« إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ »، الوضوء هاهنا محمول عندنا على غسل الفرج مما به من أذى، وأنه ليس عليه وضوء الصلاة، وهو قول جماعة من الفقهاء، وإنما يغسل فرجه لأنه إذا عاد وفرجه نجسٌ فهي إدخال نجاسة في فرج المرأة غير مضطر إليها، بخلاف خضخضته حين الجماع وترداده فيه، مع ما في غسله من الفائدة الطبية لتقوية العضو، ولتتميم اللذة بازالة ما تعلق به قبل من ماء الفرج وانتشر عليه من المني الخارج منه، وكل ذلك مفسد للذة الجماع المستأنف، ولما في ذلك من التنظيف وإزالة القذر الذي بنيت عليه الشريعة.
وقد اختلف العلماء في ماء فرج المرأة ورطوبته فعندنا: أنها نجسة لكونها مختلطة بالنجاسات من الحيض والبول والمذى والمني ومجرى لهن، ولأصحاب الشافعي فيها وجهان، وكذلك غسل ما بيديه وبدنه من النجاسة الأولى. وذهب عمر وابنه إلى أنه يتوضا وضوءه للصلاة، واستحبه أحمد وغيره، وسواء كان هذا في امرأة واحدة أو غيرها.(2/287)
وقوله: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يطوف على نسائه بغسل واحد ": يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - فعل هذا عند قدومه من سفر، أو عند حالة ابتدأ فيها القسم، أو عند تمام الدوران عليهن وابتداء دوران آخر، فدار عليهن ليلته وسوى بينهن، ثم ابتدأ القسم بالليالى والأيام على عادته، أو يكون ذلك عن إذن صاحبة اليوم ورضاها، أو يكون ذلك خصوصًا له (ا) وإلا فوطء المرأة في يوم صاحبتها ممنوع، وهو إن كان القسم في حقه - صلى الله عليه وسلم - غير واجب لقوله تعالى:{ ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء } الآية، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - التزمه لهن تطيبًا لأنفسهن، ولتقتدي أمته بفعله، وقد كان خُصّ - صلى الله عليه وسلم - في باب النساء بما لم يخص به غيره من جواز الموهوبة، وأكثر من أربع، وتحريم من حصل عنده على غيره، أو يتبدل بهن، واختلف في نسخ هذا الحكم عنه لكنه متى كان يرضاهن جاز له جمعهن في غسل واحد، وهو قول جماعة السلف والخلف. واختلفوا في وضوئه قبل نومه، كما تقدم، وسنبسط الكلام على هذا في النكاح.
وفيه أن غسل الجنابة ليس على الفور، وإنما يلزم عند القيام للصلاة كالوضوء، كما قال تعالى في آية الوضوء:{ وإن كنتم جنبا فاطهروا }.
وقول أم سليم:" إن الله لا يستحى من الحق: أي لا يأمر بالحياء فيه ولا يبيحه ولا يمتنع من ذكره فيقتدى به، وأصل الحياء: الامتناع، وقد تقدم أول الكتاب معناه في حق المخلوق والخالق تعالى، وإنما قالت هذا بين يدى سؤالها لتعتذر به عما دعاها الحق والضرورة لذكره مما يستحى النساء منه. وقيل: معناه أن سنة الله وشرعه ألا يستحيا من الحق.
وقول عائشة لأم سليم:" فضحت النساء "، أي: كشفت من أسرارهن وما يكتمن من الحاجة إلى الرجال ورؤية الاحتلام، إذ هو فيهن قليل، ولذلك قالت:" أو تجد ذلك المرأة "، لا سيما عائشة لصغر سنها وكونها مع بعلها، وقد يكون ذلك لما صرحت به من ذلك ولم تستح في الحق فيه.(2/288)
وقولها لها: " تربت يمينك "، فقال لعانشة:« بل أنت تربت يمينك » وقوله في الحديث الآخر لأم سلمة:" تربت يداك "، قال الإمام: تأوله مالك على أنه دعا لهما بالاستغناء لما بعد في نفسه أن يدعوا عليهما بالفقر، وكذلك قال عيسى بن دينار: إن قوله:« تربت »، بمعنى استغنت، قال الهروي في تفسير قول الله سبحانه:{ أو مسكينا ذا متربة } أي: لصق بالتراب من فقره، يقال: ترب الرجل إذا افتقر، وأترب إذا استغنى، قال: وفي الحديث:« عليك بذات الدين تربت يداك »، قال ابن عرفة: أراد تربت يداك إن لم تفعل ما أمرتك، قال ابن الأنبارى: معناه: لله درك إذا استعملت ما أمرتك به، واتعظت بعظتي.
قال الإمام: هذا اللفظ وشبهه يجرى على ألسنة العرب من غير قصد للدعاء، وعلى ذلك يحمل ما وقع له - صلى الله عليه وسلم - مع زوجتيه المذكورتين، وقد وقع في رسالة للبديع إذ قال: وقد يوحش اللفظ وكله ودّ، ويكره الشىء وليس من فعله بدّ، هذه العرب تقول: لا أب لك للشىء إذا أهم، وقاتله الله، ولا يريدون الذم، وويل أمه للأمر ؟ إذا تم، وللألباب في هذا الباب أن ينظروا إلى القول وقائله، فإن كان وليًّا فهو الولاء وإن خشن، وإن عدوًّا فهو البلاء وإن حسن. قال الهروي: وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث خزيمة:« أنعم صباحًا تربت يداك » يدل على أنه ليس بدعاء عليه، بل هو دعاء له، وترغيب في استعمال ما تقدمت الوصاة به، ألا تراه قال:« أنعم صباحًا »، ثم أعقبها:« تربت يداك »، والعرب تقول: لا أم لك، ولا أبَّ لك، يريدون لله درُّك، ومنه قول الشاعر:
هوت أمه مايبعث الصبح غاديًا وماذا يؤدى الصبح حين يؤوب
وظاهره أهلكه الله، وباطنه لله دره.(2/289)
قال القاضي: اختلف في معنى:" تربت يداك" على ما ذكره، وقال ابن نافع: معناه: ضعف عقلك، وقال ابن حبيب عن مالك: معناه: خسرت، وقيل: افتقرت يداك من العلم، قيل: أي إذا جهلت مثل هذا، وقال الأصمعي: معناه: الحض على تعلم مثل هذا، كما يقال: انج ثكلتك أمك، وقيل:" تربت يداك ": أصابه التراب، ولم يرد الفقر، وقال الداودي: إنه قيل بالثاء المثلثة، أي استغنمت، من الترب وهو الشحم، وهي لغة للقبط، ثم استعملتها العرب وأبدلت من الثاء تاء، وهذا ضعيف المعنى ولا تساعده الرواية، والمعروف بالتاء، والأظهر أنه خطابٌ على عادة العرب في استعمال أمثال هذه الألفاظ عند الإنكار للشىء أو التانيث فيه والحض عليه، أو الإعجاب به والاستعظام له، ومعناها مُلغى لا يقصد،كأن أصله من اللصوق بالتراب أو من الفقر كسائر أصول تلك الألفاظ المستعملة، وليس المراد في شيء منها أصل استعمالها، وقيل في معنى تفسير من فسره:استغنت ؛ أنه خاطبها بضد مقتضى اللفظ على طريق التعريض كما قال الله:{ ذق إثك أنت الغزيز الكريم }، وكما يقال لمن ترك السؤال: أمّا أنت فاستغنيت عن السؤال. وأما البيت الذي استشهد به الهروي فهو من هذا الباب، لكن قوله ظاهره: أهلكه الله، وباطنه: لله دره، ففيه تساهل، والصواب ظاهره هلكت أمه، وإنما أهلكه الله تفسير ثكلته أمه، وقد قال لي شيخي أبو الحسين - رحمه الله - حين قراءتي عليه هذا الموضوع من كتابه -: أن معنى هوت أمه في البيت على ظاهره، أي: هلكت إن شاءت فلم تلد غيره، إذ قد استغنت بولادة مثله في كماله عن أن تلد سواه، ورأت قرة عينها به فلا تبالي الحياة بعد، كما يقال لمن صنع أمرًا يحسن فيه أثره:مت الآن، أي فعلت ماخلّدت به ذكرًا جميلاً وأثرًا نافعًا، فلا تبالي عشت بعد أو مت. قال الهروي: وقد قال بعض أهل العلم: إنه دعاب على الحقيقة، ومذهب أبي عبيد أنها على ما تقدم من جريان هذه الكلمة على ألسنة العرب وهم لا يريدون وقوعها.(2/290)
قال القاضي: وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة:« بل أنت تربت يداك »: يحتمل الوجهين إن كانت عائثة قالت ذلك لأم سليم على الذم والدعاء لما فضحت النساء، فقابلها النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، أي أنت أحق أن يقال لك هذا، إذا فعلت هى مايجب عليها من السؤال عن دينها فلم تستوجب الإنكار، واستوجبتيه أنت بإنكارك مالا يجب إنكاره، وقد وقع في كتاب مسلم من رواية السمرقندي والطبري قولها:" تربت يمينك خير "، كذا هو بالياء باثنتين ساكنة ضد الشر، كأنه فسر معناه، وأنه لم يرد سبها، وعند بعض رواة ابن ماهان:" خبر "، بباء مفتوحة، وليس بشىء.
وقال مسلم: ثنا عباس بن الوليد، كذا للعذري والشنتجالي بباء واحدة وسين مهملة، وعند السمرقندي: عياش بن الوليد، والأول الصواب، وكلاهما بصريان، فأما الأول فهو النرسي، خرّج عنه البخاري ومسلم، والثاني هو الرقَّام، تفرد به البخاري، وذكر في هذا الحديث: فقالت أم سلمة:" فاستحييت من ذلك "، قال الإمام: ذكر مسلم حديث عباس بن الوليد عن يزيد بن زريع قال: ثنا سعيد عن قتادة: أن أنس بن مالك حدثه: أن أم سليم حدثت أنها سالت نبي الله الله أكبر عن المرأة ترى في منامها... الحديث. وفيه:" فقالت أم سليم ".
قال بعضهم: كذا وقع في أكثر النسخ:" فقالت أم سليم "، وغُيّر في بعض النسخ فجعل:" فقالت أم سلمة " مكان " أم سليم "، والمحفوظ من طرق شتى:" فقالت أم سلمة ".
قال القاضي: وهو الصواب ؛ لأن السائلة هى أم سليم، والرادة عليها هى أم سلمة في هذا الحديث، أو عائشة في الحديث الآخر، ويحتمل أن عائشة وأم سلمة كلتاهما أنكرتا عليها فأجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كل واحدة بما أجابها، وإن كان أهل الحديث يقولون: إن الصحيح هنا أم سلمة لا عانشة.(2/291)
وقوله:« فمن أين يكون الشبهة » بالكسر وسكون الباء، وبفتح الشين والباء بمعنى: يريد شبه الابن لأحد أبويه، كما فسره في الحديث نفسه سبق أحد المائين صاحبه، وبقوله:« فبما يشبهها ولدها »، ومعنى الغلبة والعلو في قوله:« فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة »، وفي الرواية الأخرى:« غلب »، وهذا يرجع إلى سبق الماء والشهوة، كما جاء في الحديث الآخر:« سبق »، وجاء في غير مسلم:« يسبق إلى الرحم »، أو تكون الغلبة والعلو هنا عائدًا إلى الكثرة والقوة من أحد المائتين، وقد ذهب بعضهم إلى أن السبق للأذكار والإناث، والعلو والغلبة بالكثرة للشبه للأخوال والأعمام، لكنه يرد هذا التفسير قوله في هذا الخبر:« فاذا علا مني الرجل أذكر، وإذا علا مني المرأة أنثا ».
وقوله في حديث أم سلمة:« فأيها علا أو سبق يكون منه الشبه »، فقد سوي في الحديث بين الأمرين. وفيه كله دليل على أن الولد من المائين جميعًا ورد على من ذهب أنه من ماء المرأة، وأن ماء الرجل إنما هو له عاقدٌ كالأنفحة للبن.
وقوله:" وإن أم سليم امرأة أبي طلحة "، كذا لابن الحداد، ولغيره:" أم بني أبي طلحة "، وكلاهما صحيح، كان أبو طلحة تزوجها بعد مالك بن النضر والد أنس بن مالك، وهي أمّ أنس، فولدت لأبي طلحة أبا عمير، مات صغيرًا، وعبد الله الذي دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - وحهنكة، وهو والد إسحاق بن أبي طلحة الفقيه وإخوته وهم عشرة، كلهم حُمل عنهم العلم، واستجيبت فيهم الدعوة. وقول عائشة في هذا الحديث:" أف "، أي: استحقارًا لك، وهي كلمة تستعمل في الاستحقار والاستقذار، قال الله تعالى:{ فلا تقل لهما أف }، وهي في الحديث منها بمغى الإنكار، قاله الباجي، وأصل الأف والتف وسخ الأظافير، وفيه عشر لغات: أُفِّ، وأفَّ، وأفُّ، كلها بضم الهمزة دون تنوين، وبالتنوين أيضًا على الثلاث، فهذه ست، وإفَّة، وإِفَّ بكسر الهمزة وفتح الفاء، وأُفْ بضم الهمزة وتسكين الفاء، وأفَّا بالقصر.(2/292)
وقوله في الحديث الآخر: أن امرأة قالت: يا رسول الله ! هل تغتسل المرأة إذا احتلمت ؟ فقالت لها عائشة:" تربت يداك وأُلَّت " بضم الهمزة وتشديد اللام. كذا رويناه، قال الإمام: أي أصابتها الألة وهي الحربة، قال ابن السكيت: الأُلُّ: جمع أُلّةٍ وهي الحربة، ومنه قولهم: ماله أُلٌّ وعُلٌّ.
قال القاضي: كان القاضي الوقشي يقول: صوابه: وأللْت، وقد يخرج ما في الكتاب على لغة قوم من بكر بن وائل لا يظهرون التضعيف في الفعل إذا اتصل به ضمير، فيقولون: ردت، في رددت وشبهه، فعلى هذا يكون "ألت " بسكون اللام، ومثل هذا في كلام العرب دعاء على من لم يقولوا: ماله أُلٌّ وعُلٌّ، وقيل: صوابه: " أللت " أي: طعنت يداك، ترجع العلامة إلى اليدين، وقال أبو الحسين: قد يكون " ألت" بمعنى افتقرت، يقال: ألت وعلت، تبدل العين همزة ويتأول فيه ما يتأول في قوله:" تربت يداك "، وقال لي الأديب أبي عبد الله بن سليمان: قد يكون "ألت" بمعنى دفعت، ومنه قول أم خارجة: ماله ألّ وغلّ، أي: دفع، وأخبروني عن أبي بكر بن مفوَّز أنه كان يقول: إنما هو قالت - يعنى عائشة - وبعده: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصحِّف بما ذكروه.
قال القاضي: قد روينا هذا الحرف " قالت " صحيحًا من طريق العذرى والشنتجالي بعد قوله:" وألت "، ولا يصح أن يكون قالت مرتين.
والغسل إنما يجب على المحتلم كان رجلاً أو امرأة إذا رأى الماء كما ذكر في الحديث ليس من مجرد رؤية الفعل، وهذا ما لا خلاف فيه.
وقوله:" جاء حبر من أحبار اليهرد "، أي: عالم من علمائهم، يقال: بفتح الحاء وكسرها.
وقوله: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -:« في الظلمة دون الجسر »، يريد بالجسر الصراط، والله أعلم، وقد جاء قبل في الحديث تسميته جسرًا ويقال بفتح وكسرها.(2/293)
وقوله: فما تحفتهم ؟ قال:« زيادة كبد النون »، التحفة: ما يوجه إلى الرجل ويخصّ ويلاطف به، قال الحربى: التحف: طرف الفاكهة واحدتها طرفة.
وقوله:" فما غداؤهم "، بفتح المعجمة والدال المهملة، كذا لعامة الرواة، والذى للسمرقندي:" غذاؤهم "، بكسر الغين وبالذال المعجمة، وليس هذا بشىء، ولا يدل الكلام عليه.
وقوله:« كبد النون »، هو الحوت، وجاء في بعض روايات مسلم: «كبد الثور»، وهو تصحيف. وقوله أنثا وأذكرا بمد الهمزة الأولى ؛ أي: جاء بذكر(1) أو أنثى.
وفي هذا الحديث من علامات نبؤته - صلى الله عليه وسلم - واخباره بالمغيبات، واطلاعه على أسرار علو الناس ومعارف الدنيا والآخرة ماهو غير خفي، وإنما(2) اعترف(3) له به العدوّ اليهودي حين قال له: صدقت، وإنك لنبيّ. وفيه أن من قال مثل هذا من أهل الكتاب عن التزام للشريعة(4)، فلا يحسب قوله إيمانا حتى يعتقده ويلتزمه(5).
ونكت النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده(6) وبعود معه، هو ضربه به الأرض وتأثيره به فيها، فيه جواز استعمال المخاصر على عادة العرب وصلة كلامها بها(7) ونكتها بها(8) في الأرض عند التفكر في الأمر والتدبير له.
__________
(1) في (أ):" أبذكر ".
(2) في (ط):" ما ".
(3) في حاشية (ح):"اعترف".
(4) في (ط):" الشريعة ".
(5) في (ح):" يلتزمه ويعتقده ".
(6) قوله:" بيده " ليس في (ح) و(ط).
(7) في (ح) و(ط):" به ".
(8) في (ح):" أو نكتها به ".(2/294)
وقوله(1) في حديث عائشة في غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة:" يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، ثم يتوضا وضوءه للصلاة "، هذا على ماتقدم من سنة غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء إن كان قام من نوم أو لتقديمها أول الطهارة على التعبد بذلك، أو لبعد عهده بالماء على طريق(2) الاستحباب لمن لم ير ذلك تعبدًا، أو لنجاسة مستهما فيكون واجبًا. وإفراده هنا غسل اليمين أولاً ثم غسله(3) الشمال مع الفرج إذ لابد من ملاقاتها ما هنالك(4) من نجاسة يغسلها حينئذ، ولم يكن لتقديم غسلها ثم تنجيسها بعد معنى.
وقوله:" ثم توضأ وضوءه للصلاة ": صفة وضوء الصلاة معلوم، وقد تقدم الكلام عليه، ولم يأت في شيء من وضوء الجنب ذكر التكرار، وقال(5) بعض شيوخنا إن التكرار في الغسل لا فضيلة فيه.
وقولها:" ثم أخذ الماء فأدخل أصابعه في أصول شعره(6)": وذلك لتسهيل دخول الماء إلى أصوله وإلى إمرار اليد على ذلك. وقد احتج بعضهم على وجوب تخليل شعر اللحية في الطهارة قياسًا على تخليل شعر الرأس، وفي المذهب عندنا في تخليل شعر اللحية قولان، وأما شعر الرأس فمجتمع على تخليله، ومنهم من احتج بعموم قوله في حديث عائشة:" فيخلل أصول شعره(7)"، ويعيد الهاء على المغتسل(8) إذ لم يذكر فيه الرأس ولا غيره.
وقولها:" ثم حفن على رأسه ثلاث حفنات ": قال القاضي الباجي: يحتمل أن يكون لما ورد في الطهارة من التكرار، أو يكون للمبالغة وتمام الطهارة، إذ قد لا تكفي الغرفة الواحدة فيه.
__________
(1) في (ح):" قال " بدون واو.
(2) قوله:" طريق " ليس في (ح).
(3) في (ح):" غسل ".
(4) في (ط):" هناك ".
(5) في (ط):" وقد قال ".
(6) في (ح):" الشعر ".
(7) في (ح):" شعر رأسه ".
(8) في (ط):" الغسل ".(2/295)
قال القاضي: وذكر بعضهم أن الثلاث غرفات فيه مستحبة، وقد ذكرنا قول من قال: إن التكرار غير مشروع في الغسل، ويكون الثلاث غرفات اثنتان لشفيّ الرأس والثالثة لأعلاه، ويدل على صحة تأويلنا قوله في الحديث الآخر:" أخذ بكفه [ فبدأ بشق رأسه الأيمن ثم الايسر، ثم أخذ بكفيه](1)، فقال بهما على رأسه "،[ كذا في حديث عائشة ](2)، وفي الحديث الآخر عن ميمونة:" أنه أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفه" كذا في رواية كافتهم، وعند(3) الطبري: " ملء كفيه "، وذكر البخاري من رواية جبير بن مطعم:" أما أنا فافرغ على رأسى ثلاثا - وأشار بكفيه جميعا -"، ولم يذكر هذه الزيادة مسلم، وهي موافقة لرواية الطبري، وهي مفسرة لما لم يُفسَّر من ذلك وجاء مجملاً.
وقولها:" ثم أفاض على سائر جسده "، قال الإمام: هذا ومثله مما يحتج به الشافعي في أن التدلك في الطهارة ليس بواجب(4)، والمشهور من مذهبنا وجوبه، ووقع لبعض أصحاب مالك مايدل على أن التدلك مستحب عنده.
قال القاضي: وقد تقدم هذا، ولاحجة للمخالف بهذا الحديث لأنا نقطع أن في الجسد مغابن لا يصل الماء بإفاضته إليها، فلا بد من توصيله(5) باليد أو غيرها(6) فخرج الحديث عن ظاهره.
وقولها:" ثم غسل رجليه "، وفي حديث ميمونة:" ثم تنحى عن مقامه فغسل رجليه "، قال الإمام: استحبّ بعض العلماء أن يؤخر غسل رجليه إلى آخر غسله من الجنابة ليكون الافتتاح والاختتام بأعضاء الوضوء، وأخذ ذلك من حديث ميمونة هذا، وليس فيه تصريح، بل هو محتمل ؟ لأن قولها: "توضأ وضوءه للصلاة " الأظهر فيه إكمال وضوئه.
وقولها آخرًا:" تنحّى فغسل رجليه " يحتمل أن يكون لما نالهما من تلك البقعة.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(2) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(3) في (ح):" عن ".
(4) في (ح):" ليس بواجب في الطهارة ".
(5) في (ط):" توصيلها ".
(6) في (ح) و(ط):" غيره ".(2/296)
قال القاضي: ظاهر قوله في الأحاديث إتمام الوضوء، وإليه نحا ابن حبيب من أصحابنا، قال(1): يتوضأ وضوءه كله، وروى علي عن مالك: ليس العمل على تأخير غسل الرجلين وليتم وضوءه في أول غسله، فإن أخرهما أعاد عند الفراغ وضوءه، وروي عنه أن تأخيرهما واسع، وفي(2) تنحيه لغسل رجليه حجة(3)؛ لأن(4) التفريق اليسير غير مؤثر في الطهارة، وقد تقدم هذا.
وقولها:" ثم أتيته بالمنديل فرده "، قال الإمام: وأما تنشيف الماء عن الأعضاء في الطهارة، فلا خلاف أنه لايحرم ولايستحبّ، ولكن هل يكره ذلك. للصحابة - رضي الله عنهم - فيه(5) ثلاثة أقوال: فروي عن أنس بن مالك أنه قال: لا يكره في الوضوء وفي الغسل، وبه قال مالك والثوري، وحجتهم مارواه قيس ابن سعد بن عبادة: دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعنا له الغسل فاغتسل، فأتيته بملحفة فالتحف، فرأيت الماء والورس على كتفيه . وروى معاذ: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يمسح وجهه بطرف ثوبه، فدلّ ذلك على أنه لا يكره، وروي عن ابن عمر أنه كرهه، وبه قال ابن أبي ليلى، وإليه مال أصحاب الشافعي، وحجتهم ظاهر حديث ميمونة، ولأنه(6) إثر عبادة فكُرِه إزالته(7) كدم الشهيد وخلوف فم الصائم، على أصل من نهى عنه، وروي عن ابن عباس أنه يكرهه في الوضوء دون الغسل، وحجته ماروى أن أم سلمة ناولته الثوب ليتنشَّف به فلم يأخذه ـ وقال:« إنى أحب أن يبقى علي أثر وضوئي »، ولم يثبت عندهه في الغسل دليل قاطع على الكراهة.
__________
(1) في (ح):" فقال ".
(2) في (أ) و(ح):" في " بدون واو.
(3) قوله:" حجة " ليس في (ح).
(4) في (ح):" في أن ".
(5) في (ح):" في ذلك ".
(6) في (ح):" لأنه " بدون واو.
(7) في (ط):" قطعه "، وفي (ح):" قطعة أي إزالته ".(2/297)
قال القاضي: يحتمل ردّه للمنديل لشىء راه فيه أو لاستعجاله للصلاة أو تواضعًا، وخلافًا لعادة أهل الثروة، ويكون الحديث الآخر في أنه كانت له خرقة يتنشف(1) بها عند الضرورة وشدّة البرد ليزيل برد الماء عن أعضائه.
وقوله في حديث ميمونة بعد هذا:" أتى بمنديل فلم يمسه وجعل يقول بالماء هكذا - يعنى ينفضه ": ردّ على من احتج بتركه المنديل كراهة(2) التنشيف، إذ لافرق بين نفض الماء ومسحه، ولو كان أنه يوزن على ماعلل به بعضهم لكان ماينفض مثله، ولأن وزنه ليس في الحال بل في المآل، وفراقه الجسم وهو(3) لابد من فراقه ونفضه الماء إما لئلا يُبلُّ ثوبه أو مخافة ضرر برودته، لاسيما إن كان في زمن البرد.
وقولها في رواية ابن حجر بعد ذكرها غسل الفرج بالشمال:" ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكًا شديدًا ثم توضأ(4) للصلاة ": دلكها لما عساه تعلق بها من رائحة أذىً أو لزوجة نجاسة، وبدايته بغسل الفرج قبل الغسل لإزالة مابه، ولتكون طهارة الحدث بعد طهارة عين النجاسة، ولما فيه من نقض الطهارة إن غسله أثناء غسله، وغسله إياه ووضوؤه للصلاة بعد ثم اغتساله، مفهومه أنه لم يعد في اغتساله غُسل ماغَسل قبل ولا أعضاء الوضوء، وهذه(5) سنة غسل الجنابة، لكن يجب أن ينوي [ عند غسله ما غسل لإزالة ما به من أذى رفع(6) حدث الجنابة، وكذلك ينوي عند وضونه، وإن نوى](7) بوضوئه الوضوء للصلاة أجزأه عن الجنابة، وهذا الوضوء قبل(8)، الغسل سنة في تقديمه وفرض في نفسه لأنه من الغسل ؟ إذ ليس في الغسل ترتيب.
__________
(1) في (أ) و(ط):" التنشف ".
(2) في (ط):" الكراهة ".
(3) قوله:" وهو " ليس في (ح).
(4) في (ط):" توضأ وضوءه ".
(5) في (أ):" وهي ".
(6) في (أ):" وقع ".
(7) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(8) في (أ):" قيل ".(2/298)
وقال مسلم: وثنا يحيى بن يحيى وأبو كريب، قالا: ثنا أبو معاوية، كلاهما عن الأعمش، قال الإمام: قال بعضهم في نسخة ابن الحذاء: ثنا يحيى بن أيوب وأبو كريب، والصواب ماتقدم.
وقوله:" كان إذا اغتسل دعا بشىء نحو الحلاب فأخذ بكفه بداءً بشق رأسه الأيمن "، قال الإمام: الحلاب هاهنا: إناء يحلب فيه، وليس كما ظن البخاري أنه نوع من الطيب، وأشار في تبويبه إلى هذا، ويقال للحلاب أيضًا: مِحلَبٌ بكسر الميم وفتح اللام، قال الشاعر:
صاح أبصرت أو سمعت براع رد في الضرع ماثوى(1) في الحلاب
قال القاضي: ترجم البخاري على الحديث: من بدأ(2) بالحلاب والطيب، وقد وقع لمسلم في بعض تراجمه من بعض الروايات مثل ترجمة البخاري على هذا الحديث، ونصّه: باب التطييب بعد الغسل من الجنابة، وقال الهروي في هذا الحديث:" مثل الْجُلاَّب " بضم الجيم وتشديد اللام. قال الأزهري: أراد بالجلاب ماء الورد، وهو فارسي معرب، والله أعلم. قال الهروي: أراه الحلاب وذكر نحو ما ذكره الإمام، وبالحاء هو المشهور والمعروف في الرواية، قال الخطابي: هو إناء يسع قدر حلبة ناقة، فأما المحلب بفتح الميم فالحبة المعروفة من الطيب المستعمل في غسل الأيدى، ورواية الجيم تصحح باشارة(3) البخاري قبل(4)، ويكون مراده بالحلاب على هذا التأويل هنا الإناء الذي كان يستعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه طيبه.
وقوله:" كان يغتسل من إناء هو الفَرَق، قال الإمام: قال أحمد بن يحيى: الفرق: اثنا عشر مدًّا، قال أبو الهيثم: هو إناء يأخذ ستة عشر رطلاً، وذلك ثلاثة آصع، وكذلك فسّره سفيان في كتاب مسلم: أنه ثلاثة آصع، ويروى بإسكان الراء وفتحها. قال الباجي: فتح الراء (5) هو الصواب.
__________
(1) في (ط):" قرى ".
(2) في (ح):" بداء ".
(3) في (ح):" رواية ".
(4) في (أ) و(ح):" قيل ".
(5) في (ح):" الراء هنا ".(2/299)
قال القاضي: قد حكى ابن دريد فيه الوجهين: فرق وفرق، وتقديره بثلاثة أصوع هو(1) قول الجمهور، وقول كبار أصحاب مالك وأهل الحجاز، وقال الحربي مثله، وحكي عن أبي زيد(2) أنه إناء يسع أربعة أرباع، قال غيره: هو إناء ضخم من مكايل أهل العراق.
قال القاضي: وليس هذا الفرق الذي ذكرت عائشة، وإنما ذكرت مكيال أهل المدينة فيه، وفي كتاب مسلم:" يغتسل في القدح وهو الفرق "، قال الباجي في حديث عائشة: الفرق يحتمل أنه قدر ماكان يستعمله في غسله من الماء، وأنه كان يغتسل فيه ويفضل له منه، وأخبرت عن جواز الطهر(3) بذلك الإناء، وقد روي أنه كان من شبه، ويروى عن ابن عمر كراهة الوضوء فيه، ونحا به ناحية الذهب وهو الصفر الأصفر، وقد روي عنه: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع، ولا حد في ذلك في مشهور مذهبنا، إلا أن التقلل من الماء مع الإسباغ من مستحبات الغسل والوضوء، وعند ابن شعبان أنه لا يجزئ في ذلك أقل مما روى من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدّ والصاع.
قال القاضي: والأظهر عندى في حديث عائشة أنها لم ترد أن قدر ملء الفرق من الماء هو قدر ماء الغسل وما يكفى منه، بدليل حديثها الآخر: "كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قدح يقال له الفرق "، فقد ذكرت اغتسالهما معا منه، والأحاديث الواردة في تطهره بالصاع، والفرق ثلاثة آصع كما تقدم، وأن تكون " من " لبيان الإناء أو للتبعيض مما في الفرق.
__________
(1) في (ح):" وهو ".
(2) في (ح):" ابن دريد "، في حاشيتها:"زيد".
(3) في (ح):" الطهر له ".(2/300)
وقوله عن أبي سلمة بن عبد الرحمن:" دخلنا على عانشة أنا وأخوها من الرضاعة فسألها عن غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة، فدعت بإناء نحو الصاع فاغتسلت وبيننا وبينها ستر ووصف غسلها ": ظاهر الحديث أنهما رأيا عملها في رأسها وأعلى جسدها مما يحل لذى المحرم النظر فيه إلى ذات المحرم، وأحدهما - كما قال - كان أخوها من الرضاعة، قيل: إن اسمه عبد الله بن يزيد، وكان(1) أبو سلمة ابن أختها من الرضاعة أرضعته أم كلثوم بنت أبي بكر، ولولا أنهما شاهدا ذلك ورأياه لم يكن لاستدعائهما الماء(2) وطهرها معنى، إذ لو فعلت ذلك كله في ستر عنهما لكان عناء، ورجع الحال إلى وصفها له، ويكون الستر الذي بينها وبينهما عن سائر جسدها وما لا يحل لهما رؤيته كما شوهد غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - من وراء الثوب، وطأطأ(3) عن رأسه حتى ظهر لمن أراد رؤيته.
وقوله:" وكان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذن من رؤوسهن حتى تكون كالوفرة"، في هذا دليل بين على ماقلناه من رؤيتهما ذلك منها، ولابأس لذى المحرم أن يرى شعر ذات المحرم منه ومافوق جبينها عند العلماء، إلا ماوقع لابن عباس من كراهة ذلك.
__________
(1) في (أ):" كان".
(2) في (ط):" بالماء ".
(3) في (ط):" طؤطئ ".(2/301)
وقوله:" يأخذن من رؤوسهن حتى تكون كالوفرة": دليل(1) على جواز تحذيف(2) النساء لشعورهن وجواز اتخاذهن الجمم، وقد كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - جمة، والوفرة أشبع من اللمة، واللمة: ما ألم بالمنكبين(3) من شعر الرأس دون ذلك، قاله الأصمعي، وقال غيره: الوفرة أقلها وهي التى لاتجاوز الأذنين، والجمة أكبر منها، واللمة: ماطال من الشعر. وقال أبو حاتم: الوفرة ماغطى الأذنين من الشعر، والمعروف أن نساء العرب إنما كن يتخذن القرون والذوائب، ولعل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلن هذا بعد موته لتركهن التزين واستغنائهن عن تطويل الشعور(4) لذلك وتخفيفا لمؤونة رؤوسهن.
وقوله في هذا الحديث:" إنها اغتسلت بإناء قدر الصاع "، وجاء في الحديث الآخر:" كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغتسل بخمس مكاكيك ويتوضأ بمكّوك "، وفي الحديث الآخر:" يتوضأ بالمد ويغتسل بالصّاع إلى خمسة أمداد "، وكل هذا قريبٌ بعضه من بعض(5)، وكلّه يدل أن سنة الطهارة تقليل الماء مع الإسباغ خلافًا للأباضية من الخوارج.
وأما ما ذكر مسلم في حديث حفصة عن عائشة: أنها كانت تغتسل هى والنبى - صلى الله عليه وسلم - في إناء واحد يسع ثلاثة أمداد أو قريبا من ذلك، فلعله بانفراد كل واحد منهما لأنه نحو من الصاع، أو يكون المدّ هاهنا المراد به الصاع، فيكون موافقًا لحديث الفرق، ويكون ذلك مفسرًا له إن لم تكن لفظة المدّ هنا وهمًا على ماذهب إليه بعضهم، وعلى الوجه الأول لا تأويل ولا إشكال فيه.
__________
(1) في (ح):" هذا دليل ".
(2) في حاشية (ح):"تحريف ".
(3) في (ح):" من المنكبين ".
(4) في (ط):" الشعر ".
(5) في (ح):" متقارب " مكان:" قريب بعضه من بعض ".(2/302)
وقوله:" والفرق ثلاثة آصع "، ويروى أصوع، وكلاهما صحيحان مرويان في هذه الأمهات، لكن الجاري على العربية أَصْؤع لاغير، والواحد صاعٌ وصواع وصوعٌ، ويقال: أصؤعٌ بالهمز لثقل الضمة على الواو، وهو مكيال لأهل المدينة معروف، فيه أربعة أمداد بمد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله:" كان يغتسل بخمس مكاكيك، ويتوضا بمكوك "، وفي الرواية الأخرى:" بخمس(1) مكاكيّ " مشدد(2) الياء، المكوك، بفتح الميم وتشديد الكاف الأولى مضمومة، مكيال لأهل العراق يسع صاعًا ونصف صاع بالمدني، ويجمع مكاكيك ومكاكي، وهو بمعنى(3) قوله في الحديث نفسه من(4) الرواية الأخرى: "يتوضا بالمد، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد ".
__________
(1) قوله:" بخمس " ليس في (ح).
(2) في (ح):" بتشديد ".
(3) في (ط):" هنا بمعنى "، وفي (ح):" معنى ".
(4) في (ح):" في ".(2/303)
ذكر(1) مسلم الأحاديث في اغتسال النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أزواجه من إناء واحد وحديث ابن عباس:" كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغتسل بفضل ميمونة "، اتفق العلماء على جواز اغتسال الرجل والمرأة وتوضيهما(2) معًا من إناء واحد لحديث عائشة وميمونة وأم سلمة، إلا شيئا روي في كراهيته(3) والنهي عنه عن أبي هريرة، والأحاديث الصحيحة ترد هذا. واختلف العلماء بعدُ في الاغتسال والتوضئ بفضل المرأة الجنب أو الحائض أو غيرهما، وفي وضوء المرأة بفضل وضوء(4) الرجل(5)، فجمهور السلف وأئمة الفتوى والعلم على جواز ذلك كله كانا مجتمعين أو مفترقين، وروي عن ابن المسيب والحسن كراهة وضوء الرجل بفضل وضوء المرأة، وذهب أحمد إلى منع الوضوء للرجل بفضل ما توضأت به المرأة، واغتسلت به منفردة، ووافق في جواز وضوء الرجل من فضل الرجل، والمرأة من فضل المرأة والرجل أو أن يتوضئا جميعًا، وروي عن ابن عمر كراهة أن يتوضأ الرجل بفضل الحائض والجنب، وكان يبيح فضل غيرهما، وذهب الأوزاعي إلى تَطَهُّر كل واحد منهما بفضل صاحبه مالم يكن أحدهما جنبًا أو المرأة حائضًا(6)، واتفاق أكثر من خالف على جواز اغتسالهما من إناء واحد معًا، ووضوئهما كما جاء(7) في الاحاديث الصحيحة يردّ على من فرق بين الاجتماع والافتراق، إذ في نفس اغتسالهما ووضوئهما معًا واختلاف أيديهما فيه استعمال كل واحد فضل غسل الآخر، ولم يصحح أهل الحديث حديث النهي عن ذلك، وتأوله بعضهم إن صح على فضل مائها المستعمل في الطهارة إما على الحظر - على من يراه - أو على الندب، ويختص فضل المرأة بالتأكيد لأنه لايسلم من إضافة من طيبها وخلوقها(8) ودهن شعرها(9)
__________
(1) في (ح):" وذكر ".
(2) في (ح):" توضيتهما ".
(3) في (ح) و(ط):" كراهته ".
(4) قوله:" وضوء " ليس في (أ).
(5) في (ح):" المرأة ".
(6) في (ح) و(ط):" حائض ".
(7) قوله:" جاء " ليس في (ح).
(8) في (ح):" خلوفها ".
(9) في (ط):" شعورها ".(2/304)
وعارضيها، وقيل: هو منسوخ بما عارضه مما ذكرناه.
وقوله: فيما(1) كان يكفى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الماء في حديث أبي ريحانة عن سفينة، قال أبو بكر صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. بكسر الباء نعتًا(2) لسفينة، وأبو بكر القائل هو: ابن أبي شيبة راوى الحديث.
وقوله:" وقد كان كبر وما كنت أثق بحديثه "، يعنى بذلك - والله أعلم-: سفينة، قال البخاري عند ذكره: وفي إسناده نظر، وإنما ذكره مسلم مستشهدًا به لما تقدم وفي رواية السمرقندي:" وماكنت أثق(3) بحديثه "، بالنون، أي: أعجب به، والأنق: الإعجاب بالشىء، ومنظرٌ أنيق أي(4) معجبٌ. وقال ابن دريد: كبر الرجل بكسر الباء أسن، وفي الأفعال كبر الصغير وكبر الشىء عظم، وكبر الرجل(5): أي أسن.
وذكر مسلم: في هذا الباب حديث شعبة عن عبد الله بن عبد الله بن جبر،[ سمعت أنسا، ثم ذكر حديث مسعر عن ابن جبر](6)، عن أنس،كذا رويناه عن جميعهم، قال الكناني: صوابه جابر(7).
قال القاضي: كلاهما يقال، وهو عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عبيد، وقد ذكر البخاري فيه الوجهين، وأن مسعرًا وشعبة وأبا العميس وعبدالله بن عيسى يقولون فيه: ابن جبر.
وذكر مسلم: أحاديث في غسل المرأة رأسها، وإنكار عائشة على ابن عمرو(8) بن العاص نقض رؤوسهن. تفسيره في صفة غسل الحائض رأسها من أنه إنما يجزيها أن تغرف عليه ولا تنقضه إذا خللت أصول شعرها، وتدلك رأسها حتى يبلغ شؤونه(9)، وهي مجمع عظام الرأس.
__________
(1) قوله:" فيما " ليس في (ط).
(2) في (ح) و(ط):" نعت ".
(3) في (أ) و(ح):" أنق ".
(4) قوله:" أي " ليس في (ط).
(5) في (ح):" الرجل بكسر الباء ".
(6) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(7) في (ح) و(ط):" ابن جابر ".
(8) في (ح):" عبدالله بن عمرو ".
(9) في (ح) و(ط):" سؤوته ".(2/305)
قوله في حديث عائشة:" تأخذ فرصةٌ من مسك فتطهرى به " بكسر الفاء وبالصاد المهملة، ومسكٌ بالفتح رويناه عن جمهورهم، ومن طريق الخشني عن الطبري بكسر الميم، قال بعضهم: الكسر هنا الصواب، وأراد به المسك الطيب المعلوم، قال: ويصححه قوله في بعض رواية هذا الحديث: "فإن(1) لم تجد فطيبًا، فإن لم تجد فالماء يكفيك، وقد يحتج بقوله في الحديث الآخر: " ممسَّكة "، وبقوله(2): " تتبعي بها أثر الدم "، وهذا كله يدل على الطيب، أي لتذهب كريه رائحته، وقال الخطابي: هذا لايستقيم إلا أن يضمر فيه فيقول: قطعة من صوفٍ أو قطن مطيبة بالمسك، وفيه بعد ولايصح، وقال الداودي: يريد خرقة فيها مسك.
قال القاضي: لم لا يصح، ويكون(3) معناه: قطعة من مسك ؟ قال لي أبو الحسين: كل قطعة فرصة، ويدلّ على صحه هذا رخصته في الحديث الآخر للجادّ في نبذه قسط وأظفار عند غسلها من الحيض لتقطع بذلك رائحة دمه عنها.
قال الإمام: قال الهروي في باب الفاء مع الراء: الفرصة: القطعة من القطن أوالصوف، يقال: فَرِصتُ الشىء قطعته بالمفراص(4).
قال الإمام: وأنكر ابن قتيبة أن يكون بالفاء والصاد وقال: إنما ذلك "قرضة" بالقاف والضاد المعجمة، أي قطعة، وأنكر أيضًا على من تأول أن المسك في هذا الموضع: الطيب، وقال(5): لم يكن للقوم وسع في المال يستعملون الطيب في مثل هذا وإنما معناه: الإمساك، فإن قالوا: إنما سمع رباعيًّا والمصدر منه إمساك، قيل: قد سمع أيضًا ثلاثيًّا، فيكون مصدرها مسكًا.
قال الإمام: وأنكر ابن مكي على الأطباء قولهم: القوة الماسكة، قال(6): وإنما الصواب: الممسكة ؛ لأنه سمع رباعيًّا، ولعله لم ير ما حكيناه عن ابن قتيبة.
__________
(1) في (ح):" وإن ".
(2) في (ط):" بقولها ".
(3) في (ط):" يكون " بدون الواو.
(4) في (أ) و(ط):" الفراص ".
(5) في (ح):" قال ".
(6) قوله:" قال " ليس في (ح).(2/306)
قال القاضي: أما قول ابن قتيبة: إن المسك هنا مصدر، فلا يصح ولايلتئم الكلام لقوله:" فرصة من مسك "، والأشبه هنا، على رواية الفتح، أن يكون من جلد، قال الخطابي تقديره: قطعة من جلد عليه صوف، قال القتبي: ولا اختصاص هنا للصوف وغيره.
وأما قوله:" ممسَّكة "، فرويناه بفتح السين في "الأم"، قال الخطابي: ولهما معنيان أحدهما: مطيبة بالمسك، والثاني: يكون من الإمساك، أمسكتهُ ومسَّكته، قال لي أبو الحسين: بمعنى مجلّدة، أي قطعة صوف لها جلد وهو المسك ليكون أضبط لها وأمكن لمسح أثر الدم به، وهذا مثل قوله: "فرصة مسك "، أو تكون ممسكة جعل لها مساكٌ تحبس به إما ليكون ذلك أضبط أو لئلا تمتلئ اليد، هذا كله على رواية الفتح، وقال فيه بعضهم: ممسكه بكسر السين، ومعناه: ذات مساك أو ذات جلد بالمعنيين المتقدمين. و قد يدلّ على صحة هذا وأنه المراد به قوله في غير هذا الحديث:" أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم "، يريد القطن. وذهب القتبي أن معنى ممسكة، أي: محتملة تحتشي بها(1)، أي: خذى قطعة من صوف أو قطن أو شبه ذلك فاحتمليها وأمسكيها(2) هناك لتدفع الدم، وكنى بهذا عن التصريح بالاحتشاء والاحتمال.
__________
(1) قوله:" بها " ليس في (ح).
(2) في (ط):" أو أمسكيها ".(2/307)
وقوله لها:« يا سبحان الله ! تطهرى واستثفرى »: فيه استعمال(1) الحياء عند ذكر العورات، لاسيما فيما(2) يذكره من ذلك الرجال بحضرة النساء، أو النساء بحضرة الرجال، ولا سيما النبي - صلى الله عليه وسلم -، ففى وصفه أنه لم يكن فحاشًا، ويجب اقتداء أهل الفضل والسمت به - صلى الله عليه وسلم - عند دفع الضرورات لذكر شيء من العورات، أو الألفاظ المستقبحة بالتعريض بها، وتجنب ذكرها والانقباض والاستحياء عند ذلك، وترك التصريح بها. ومراده - والله أعلم - بقوله: " أثر الدم "، التعريض بموضع خروجه، فكنى عنه بذلك إمّا لتطييب الموضع أو للاحتشاء والإمساك(3) به كما قال في الحديث الآخر:« تلجمي(4) واستثفري »، والله أعلم.
وفيه جواز التسبيح عند إنكار الشىء واستعظامه والتعجب(5) منه، قال الله تعالى:{ سبحانك هذا بهتان عظيم }، وكذلك للتنبيه على الشىء والتذكر(6) له.
وقوله في الحديث الآخر:" تأخذ إحداهن ماءها وسدرها فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها، ثم قال:" ثم(7) تصب عليها الماء الطهور " الأول من النجاسة ومامسها من دم الحيض.
وقوله:« إنما ذلك عرق »: دليل لنا على العراقيين في أن الدم السائل من الجسد من فصد وغيره لاينقض الطهارة لقوله:« فاغسلى عنك الدم وصلي»، وهذا أصح ما روي في هذا الحديث، وهو قول عامة الفقهاء(8).
__________
(1) قوله:" استعمال " ليس في (ط).
(2) قوله:" فيما " ليس في (أ).
(3) في (ح):" الاحتشاء أو لإمساك ".
(4) في حاشية (ح):"تلحفي ".
(5) في (ح) و(ط):" أو التعجب ".
(6) في (أ) و(ط):" التذكير ".
(7) قوله:" ثم " ليس في (ح).
(8) في (ح):" والفقهاء والمتكلمين ".(2/308)
وقوله(1) في المستحاضة:« إذا أقبلت الحيضة فدعى الصلاة »: اختلفت روايات أحاديث المستحاضة وألفاظها، وبيان ذلك يحتاج إلى بسط لا يتمكن هاهنا، واختلف أهل العلم في المرأة إذا تمادى بها الدم بعد زمان الحيض، فأما مالك فقال: لاتزال بحكم الطاهر حتى يتغير الدم ويرجع إلى حال دم الحيض فتترك الصلاة حينئذ، على تفصيل في المذهب هو مذكور في كتب الفقه. وقال المخالف: إذا أتت أيام عادتها في الصحة تركت الصلاة وان لم يتغير الدم، وتعلق بظاهر هذا الحديث وبحديث آخر هو أظهر منه،وهو قوله في طريق آخر:« امكثى قدر ماكانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلى »، وقال بعضهم: إذا جهلت أيام عادتها في مقدارها ومحلها من الشهر(2) فإنها تغتسل لكل صلاة وتصلي ؛ لجواز أن تكون تلك الصلاة صادفت انقضاء حيضتها المعتادة، وتصوم رمضان وشهرًا آخر بعده ؛ لجواز أن تكون في كل يوم من أيام رمضان صادفت أيام حيضتها المعتادة، وإن كانت حاجّة طافت للإفاضة طوافين بينهما خمسة عشر يوما.
__________
(1) في (ط):" قوله " بدون واو.(2/309)
قال القاضي: وقوله:" فإذا اقبلت الحيضة فدعى الصلاة، فإذا أدبرت فاغسلى الدم عنك ثم(1) صلى "، يريد هنا بالحيضة دم الحيضة المعتادة(2)، المخالف لدم الاستحاضة في اللون والرائحة والثج، فإذا رأت ذلك المستحاضة حسبته حيضة، وكانت مدة جريه بحكم الحائض، وعند ارتفاعه بحكم الطاهر، فعلى هذا إذا(3) كانت من أهل التمييز وبان لها دم الحيض من الاستحاضة، فإنها تصلى أبدًا حتى ترى دم الحيض، وإلى هذا ذهب مالك وعامة أهل الفتوى، وقيل: يحتمل أن يريد أنها ممن لايتميز لها الدمان، فهذه إذا رأت الدم تركت الصلاة قدر أمد أكثر الحيض، ثم تغتسل وتصلى، فيكون الإدبار ها(4)هنا بمعنى تقدير انقضاء أيامها في الصحة، وكذلك رواية مالك فيه:« فاذا ذهب قدرها فاغسلى الدم عنك وصلي »، ويكون هذا من قوله - صلى الله عليه وسلم - على معنى التعليم لما يلزم من هذه حالها، ومن أصابها ما أصاب فاطمة بنت أبي حبيش، وعلى هذا يحمل قوله في الرواية الأخرى:« امكثى قدر ماكانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلى وصلي »، وبظاهر هذا الحديث أخذ أبو حنيفة ولم يعتبر تغير الدم، والحديث يردّه لتمييزه فيه بين دم العرق وبين الحيضة، وهذا(5) إن حمل قولها:" إنى لا أطهر "، على اتصال دمها، وأنه لاينقطع، وإن قيل: إن معناه على المبالغة ومجاز كلام العرب لكثرة تواليه وقرب بعضه من بعض، فيكون إقباله أول ما ثج عليها وإدباره انقضاء مدة حيضها الصحيح، ثم إقبالها(6) إذا رأته مرة أخرى، وهكذا أبدًا، فيكون جوابًا لفاطمة عن نازلتها، وبنحوه فسره مالك في "المبسوط"، ويعضده الحديث الآخر:« لتنظر عدد الأيام والليالى التى كانت تحيضهن(7) من الشهر قبل أن يصيبها ما أصابها فتترك الصلاة قدر ذلك »، وقد
__________
(1) في (ح):" و " بدل:"ثم".
(2) في (ط):" المعتاد ".
(3) في (ح):" إن ".
(4) قوله:" ها " سقط من (ط).
(5) في (ح):" هذا " بدون الواو.
(6) في (ح) و(ط):" إقباله ".
(7) في (ح):" تحيض ".(2/310)
ذهب بعضهم إلى أن الجوابين لسؤالين، فسألته أولا عما يصنع الآن، ثم سألته آخرًا عن حكمه(1) إذا تمادى بها، إذ الحديث(2) في قصة فاطمة بنت أبي حبيش.
وقوله:« فإذا أدبرت الحيضة فاغسلى عنك الدم وصلي »: لم يختلف الرواة عن مالك في هذا اللفظ، وقد فسر سفيان الحديث فقال: معناه(3) إذا رأت الدم بعد ما تغتسل تغسل الدم فقط، وقد رواه جماعة فقالوا(4) فيه: "فاغسلي عنك الدم ثم اغتسلي ". وفي هذا الحديث دليل على أن المستحاضة لا يلزمها غير الغسل لإدبار الحيضة، إذ لو لزمها غسل غيره لأمرها به - صلى الله عليه وسلم -، وفيه دليلٌ وردٌّ على من [ رأى عليها الغسل لكل صلاة، وهو قول ابن علية وجماعة من السلف وردٌّ على من رأى ](5) أنها إنما تقعد عدد أيام حيضتها بعد ولا تعتبر تغير الدم وهو قول أبي حنيفة، وعلى من رأى عليها الجمع بين صلاتى النهار بغسل واحد وصلاتي الليل بغسل واحد وتغتسل للصبح، وروي هذا عن بعض الصحابة، وهو قول علي، وفيه الردّ على من رأى عليها الغسل في كل يوم من ظهر إلى ظهر، وهو مذهب سعيد بن المسيب والحسن وعطاء وغيرهم، وقد روى عن سعيد خلافه، واحتج به من أبطل الاستظهار إذ لم يذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث، وقال بعضهم: بل فيه دليل على الاستظهار لقوله في زيادة مالك:" إذا ذهب قدرها وقدرها يزيد مرة وينقص(6) " فلهذا رأى مالك الاستظهار.
__________
(1) في (ح):" حكمها ".
(2) في (ط):" الجديثان "، وكذا في حاشية (ح).
(3) قوله:" معناه " ليس في (أ).
(4) في (ح) و(ط):" وقالوا ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(6) في (ح):" وينقص مرة ".(2/311)
وقول مسلم: في حديث حماد بن زيد زيادة حرف تركنا ذكره هو قوله: « اغسلي عنك الدم وتوضئى »، ذكر هذه الزيادة النسائى وغيره، وأسقطها مسلم لأنها(1) مما انفرد بها حماد، قال النسائي: لا نعلم أحدًا قال:" وتوضئي" في الحديث غير حماد، يعني - والله أعلم - في حديث هشام، وقد روى أبو داود وغيره ذكر الوضوء من رواية عدى بن ثابت وحبيب بن أبي ثابت وأيوب بن أبي مسكين، قال أبو داود: وكلها ضعيفة، ولم(2) يرى مالك عليها الوضوء، وليس في حديثه، ولكن استحبه لها في قوله الآخر، إما لرواية غيره له أو لتدخل الصلاة بطهارة جديدة كما قال في سلس(3) البول، وأوجب الوضوء عليها أبو حنيفة والشافعي، وأصحابهما والليث والأوزاعي، ولمالك أيضًا نحوه، وكلهم مجمعون على أنه لا غسل عليها غير مرة واحدة عند إدبار حيضتها، لكن اختلف في الغسل إذا انقطع عنها دم الحيضة(4)، واختلف فيه(5) قول مالك. وأما قوله في الحديث الآخر:« امكثى بقدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلى وصلي » فقد تقدم الكلام عليه.
وفيه حجة لمن قال من أصحابنا: إنها إنما تقعد قدر أيامها وما ثبت من عادتها لا(6) خمسة عشر يومًا كما قال مالك وبعضهم. وفيه أيضًا حجة لمن لم ير الاستظهار إذ(7) لم يذكره، وقال:« ثم اغتسلى وصلي »، لكن قد قيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يحتمل أنه علم عادة هذه وأنها خمسة عشر يوما، وهو بعيد، والله أعلم.
ولا خلاف أن وطء المستحاضة التى تباح لها الصلاة مباح بين العلماء إلا شيء روي عن عائشة وبعض السلف في منع ذلك.
وقوله:" جاءت فاطمة بنت أبي حبيش بن عبدالمطلب "، قال الإمام: هكذا في أكثر النسخ، قال بعضهم: عبدالمطلب هاهنا وهم، وصوابه ابن المطلب بن أسد بن عبدالعزى.
__________
(1) في (ح):" لأنه ".
(2) قوله:" لم " ليس في (ح).
(3) في (ط):" السلس ".
(4) في (ح) و(ط):" الاستحاضة ".
(5) في (ح):" فيها ".
(6) في (ح):" إلى ".
(7) في (أ):" إذا ".(2/312)
قال القاضي: هذا هو الصواب كما قال، واسم جدها المطلب مشهور ولم يختلف فيه أهل الخبر.
وقوله:" إن ابنة جحش كانت تستحاض "، قال الإمام: وفي بعض النسخ: عن أبي العباس الرازي:" أن زينب بنت جحش "، قال بعضهم: هو وهم وليست زينب، إنما هى أم حبيبة بنت جحش، قال الدارقطني عن أبي إسحق الحربي: الصحيح قول من قال: أم حبيب - بلا هاء - واسمها حبيبة، قال الدارقطني: قول أبي إسحاق صحيح، وكان أعلم الناس بهذا الشأن، قال غيره: وقد روي عن عمرة(1)، عن عائشة: أن أم حبيب(2)... الحديث.
قال القاضي: اختلف أصحاب "الموطأ" فيه عن مالك، فأكثرهم يقولون: زينب، وكثير من الرواة يقولون: عن ابنة جحش، ويبين الوهم فيه قوله في رواية مالك وبعضهم:" وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف، وزينب هى أم المؤمنين لم يتزوجها قط عبد الرحمن، إنما تزوجها أولاً زيد بن حارثة، ثم تزوجها النبى - صلى الله عليه وسلم -، والتي كانت تحت عبد الرحمن هى أم حبيبة، وقد جاء مفسرًا على الصواب فى رواية عمرو بن الحارث عن ابن شهاب فى كتاب مسلم: أن أم حبيبة ختنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت(3) تحت عبد الرحمن بن عوف.
__________
(1) في (ح):" غيره ".
(2) في (ح):" حبيبة ".
(3) قوله:" وكانت " ليس في (أ) و(ط).(2/313)
وقوله - أيضا -:" أنها كانت تغتسل فى حجرة أختها زينب ": قال أبو عمر: وقيل(1): إن بنات جحش الثلاث ؟ زبنب، وأم حبيبة، وحمنة زوج طلحة بن عبيد الله كنّ يستحضن كلهن، وقيل: إنه(2) لم يستحض(3) منهن إلا أم حبيبة، وحكى لنا شيخنا ابو إسحاق عن شيخه القاضي أبي الأصبغ بن سهل أن القاضي يونس بن مغيث ذكر فى كتابه "الموعب فى شرح الموطأ" مثل هذا، وأن اسم كل واحدة منهن زينب، ولقبت إحداهن بحمنة، وكنية(4) الأخرى أم حبيبة، وسألت شيخنا أبو الحسن(5) يونس بن مغيث عما ذكر عن كتاب جده فصححه لي عنه، وإذا كان هذا برّأ الله مالكا ممن نسب الوهم إليه فى تسميته أم حبيبة زينب، وقد ذكر البخارى(6) من حديث عائشة أن امرأة من أزواجه، وفي رواية أخرى(7): أن بعض أمهات المؤمنين، وفي أخرى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكف بعض نسائه وهي مستحاضة، كلها بمعنى(8) هذا أنها استحيضت، وجاءت مبينة:" أن سودة أم المؤمنين كانت تستحاض"، ذكره أبو داود وغيره.
وقول أبي بكر بن عبد الرحمن:" يرحم الله هندًا..." الحديث، وقوله: " فكانت تغتسل فى مركن فى بيت أختها "، قال الإمام: قال أبو عبيد: المركن: الأجانة(9)، كانت(10) تغسل فيها الثياب.
قال القاضي: وقوله:" ملآن دمًا(11)"، ويروى "ملأى "، على معنى تأنيث الآنية أو الأجانة، وعلوّ حمرة الدم الماء فيه يعنى - والله أعلم - أنها كانت تجلس فيه للاغتسال، فيستنقع ماء غسلها ومايجرى منها فيه ؛ لا أنها كانت تستعمل الماء منه على تلك الصفة.
__________
(1) في (ح):" قيل " بدون واو.
(2) قوله:" إنه " ليس في (ح).
(3) في (ح):" يستحضن ".
(4) في (أ):" كنيت ".
(5) في (ح):" أبا الحسين ".
(6) في (ح):" البخاري أيضًا ".
(7) في (ح):" بعض رواة " بدل:" رواية أخرى ".
(8) في (ط):" معنى ".
(9) في (ط):" الاجاثة ".
(10) قوله:" كانت " ليس في (ح).
(11) قوله:" دمًا " ليس في (ح).(2/314)
وقال مسلم فى الباب: حدثنا محمد بن مثنى، ثنا سفيان، عن الزهرى، عن عمرة، عن عائشة، كذا لجميعهم، وللسمرقندي: عن عروة، وقال قبل هذا: ثنا محمد بن سلمة المرادي، ثنا عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، وعمرة، عن عائشة، كذا لهم، وكذا قال ابن أبي ذئب عن الزهري، وقال الأوزاعي عنه، عن عروة، عن عمرة، بغير واو، وقد رواه يحيى بن سعيد، عن عروة، وعمرة(1).
وقوله في حديث ابنة جحش:" فكانت(2) تغتسل لكل صلاة ": كذا عند مسلم، وفي حديث قتيبة، عن الليث، عن الزهري، وفي "الموطأ":" فكانت تغتسل وتصلي"، قال الليث في كتاب مسلم: لم يقل ابن شهاب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أم حبيبة أن تغتسل عند كل صلاة، ولكنه شيء فعلته هي، وما في "الموطأ" محتمل أنها تغتسل عند انقطاع الدم، أو عند إدبار دم الحيضة ونقاء دم الاستحاضة، أو لكل صلاة كما قال في "كتاب مسلم". وقد روى ابن إسحاق هذا الحديث عن الزهرى وفيه:" فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تغتسل لكل صلاة، ولم يتابع ابن إسحاق أصحاب الزهرى على هذا، وحكى الطحاوي أنه منسوخ بحديث فاطمة المتقدم، واحتج لفتوى(3) عائشة بحديث فاطمة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومثل هذا لا تقوم به حجة(4) في النسخ، وقد ذكرنا اختلاف العلماء قبل في هذا، ومن أخذ بظاهر حديث ابنة جحش ، وقد قال أهل العلم: أصح ما في هذا الباب حديث هشام في قصة فاطمة.
وقول السائلة لعائشة:" ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة فقالت: أحرورية أنت ؟"، قال الإمام: قال الهروي الحرورية منسوبة إلى حروراء: قرية تعاقدوا فيها، والله عز وجل أعلم.
__________
(1) في (ح):" عن عمرة ".
(2) في (أ):" وكانت ".
(3) في (ح) و(ط):" بفتوى ".
(4) في (أ) و(ط):" صحة ".(2/315)
قال القاضي: إنما قالت عالشة لها(1) هذا الكلام لأن طائفة من الخوارج يرون على الحائض قضاء الصلاة إذ لم تسقط عنها في كتاب الله، على أصلهم في رد السنة على خلاف بينهم في المسألة، وقد أجمع المسلمون على خلافهم، وأنه لا صلاة تلزمها ولا قضاء عليها، وأنها ليست مخاطبة بالصلاة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:« فإذا أقبلت الحيضة فدعى الصلاة »، وقال:« أليس إذا حاضت لا تصلي »، وقالت عائشة:" كنا نحيض فلا يأمرنا به "، وفي "كتاب أبي داود" عن سمرة بن جندب: أنه كان يأمر النساء بقضاء صلاة المحيض، وأن أم سلمة أنكرت ذلك،، وكان قوم من قدماء السلف يأمرون الحائض أن تتوضأ عند أوقات(2) الصلوات، وتذكر الله وتستقبل القبلة جالسة. قال مكحول: كان ذلك من هدي نساء المسلمين(3)، واستحبه غيره، قال غيره: وهو أمر متروك عند جماعة من العلماء مكروه ممن فعله.
وقول عائشة:" أفأمرهن أن يجزين ؟" فسَّره غندر في "الأم" بمعنى(4) يقضين، وهو صحيح، جزى(5) يجزى غير مهموز بمعنى: يقضى، وبه فسروا قوله تعالى:{ لا تجزي نفس عن نفسٍ شيئًا }، وهذا الشىء يجزى عن هذا، أي يقوم مقامه، ومنه سمى يوم الجزاء: وقد حكى بعضهم فيه الهمز.
__________
(1) قوله:" لها " ليس في (ح).
(2) في (ط):" أوقاته ".
(3) في (ح):" المؤمنين ".
(4) في (ط):" بعنى ".
(5) قوله:" جزى " ليس في (ط).(2/316)
وقوله (1):« لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، وفي الحديث الآخر " عُرْية "، مكان " عورة "، والمعنى واحد، أي العرية العامة التى تبدي العورة، ولا خلاف في تحريم النظر إلى العورة من الناس بعضهم إلى(2) بعض وسترها عنهم(3)، إلا الرجل مع زوجته أو أمته على كراهية(4) بعض(5) العلماء في ذلك، ولاخلاف(6) في تحريم كشفها بمحضر الناس، واختلف في كشفها في الانفراد وحيث لايراه أحد، ولاخلاف أن السوأتين من الرجل والمرأة عورة، واختلف [ في الفخذ و](7) فيما بين الركبة إلى السرة [ أو إلى فوق العانة ](8) من الرجل هل هو عورة أم لا ؟ [ فمذهب الشافعي وأبي حنيفة وجماعة المالكية: أن الجميع عورة، قال أبو حنيفة: لكن المغلظ منها السوءتان وما عداهما مخفف، ووافقه عليه بعض أصحابنا، وهو صحيح، وقال ابن الحلاب: إنما العورة السوءتان والفخذان، وقال بعض أهل الظاهر: القُبل والدبر فقط عورة ](9). ولاخلاف أن إبداءه لغير ضرورة قصدًا ليس من مكارم الأخلاق، ولاخلاف أن ذلك من المرأة عورة على النساء والرجال، وأن الحرة ماعدا وجهها وكفيها عورة على غير ذوى المحارم من الرجال،[ وقيل: كفَّاها عورة، وقال أبو بكر بن عبدالرحمن: كل شيء منها عورة، حتى ظفرها ](10) وسائر جسدها على المحارم عورة(11)، ماعدا رأسها وشعرها وذراعيها ومافوق(12) نحرها(13)، وقيل(14): كفها(15)
__________
(1) في (ح) و(ط):" قوله ".
(2) في (ح):" من ".
(3) في (ط) زيادة:" وإن ذلك فرض ".
(4) في (ط):" كراهة ".
(5) في (ط):" البعض ".
(6) في (ط):" مختلف ".
(7) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(8) مابين المعكوفين ليس في (أ)و(ح).
(9) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(10) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(11) قوله:" عورة " ليس في (أ).
(12) في (أ):" وفوق ".
(13) قوله:" نحرها " ليس في (ح).
(14) قوله:" وقيل " ليس في (ط).
(15) في (ح):" كلها ".(2/317)
عورة، وقال أبو بكر بن الرحمن: كل شيء منها عورة حتى ظفرها(1). واختلف في حكمها مع النساء، فقيل جسدها كله عورة، فلا يرى النساء منها إلا مايرى ذوو(2) المحارم، وقيل: بل حكم النساء مع النساء حكم الرجال مع الرجال، إلا مع نساء أهل الذمة، فقيل: حكمهن في النظر إلى أجساد المسلمات حكم الرجال لقوله(3) تعالى:{ أو نسائهن }، على خلاف بين المفسرين في معناه، وحكم المرأة فيما تراه من الرجل حكم الرجل فيما يراه من ذوى محارمه من النساء، وقد قيل: إن حكم المرأة فيما تراه من الرجل كحكم الرجل فيما يراه من المرأة، والأول أصح، وأما الأمة فالعورة منها ماتحت يديها، ولها أن تبدى رأسها ومعصميها، وقيل: حكمها حكم الرجال وعورتها من السرة إلى الركبة، وقيل: يكره لها كشف معصميها وساقيها وصدرها، وكان عمر(4) يضرب الإماء على تغطية رؤوسهن، وقال: لا تشبهن بالحرائر.
وحكم الحرائر في الصلاة ستر جميع أجسادهن إلا الوجه والكفين، هذا قول مالك والشافعي والأوزاعي وأبي ثور وكافة السلف وأهل العلم، وقال أحمد بن حنبل لا يرى منها شيء ولا ظفرها، ونحوه قول أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام، وأجمعوا أنها إن صلّت مكشوفة الرأس كله أن عليها إعادة الصلاة، واختلفوا في بعضه، فقال الشافعي رحمه الله وأبو ثور: تعيد، وقال أبو حنيفة: إن انكشف أقل من ربعه لم تعد، وكذلك أقل من ربع بطنها أو فخذها، وقال أبو يوسف: لا تعيد في أقل من النصف، وقال مالك: تعيد في القليل والكثير من ذلك في الوقت، واختلف عندنا في الأمة تصلي مكشوفة البطن هل يجزيها وهي كالرجل ؟ أو لابد من سترها(5) جسدها.
__________
(1) قوله:" ظفرها " ليس في (ط).
(2) في (ح) و(ط):" ذو ".
(3) في (ح):" بقوله ".
(4) في (ح):" ابن عمر ".
(5) في (ح):" ستر ".(2/318)
وذكر مسلم حديث موسى وتطهره عريانا، فيه جواز ذلك بحيث يأمن أن ينظره الناس، وأن المستحب على كل حال الاستتار، وفيه تنزيه الأنبياء عن النقائص في الخلق والخلق، وأن أذاهم بذلك وإضافته إليهم كفر، قال الله تعالى:{ إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة } الآية(1)، وقال عز وعلا:{ لا تكونوا كالذين آذوا موسى [ فبرأه الله مما قالوا](2)}.
وقوله:« إنه لندبٌ(3) بالحجر »، الندب: بفتح الدال الأثر، ويقال لأثر الجرح: ندبٌ.
وقوله:« فجمح موسى بأثره » أي: جرى أشد الجري، وجمح الفرس إذا جرى بصاحبه جريًا غلبه. وظاهر الحديث: أن التستر لم يكن من شرعهم، ولهذا أنكروه على موسى ولم يرد منه النهي عن(4) الانكشاف لهم، وترجم البخاري عليه:" من اغتسل عريانا وحده ومن تستر، والتستر(5) أفضل". وفيه خرق العادات للأنبياء، وصحة معجزاتهم وآياتهم من فرار الحجر، وبقاء أثر عصاه فيه.
وقوله:« لا يفض الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا المرأة إلى المرأة في ثوب واحد »: أي لا يخلو، فإنهما إذا خليا متجردين دون إزار(6) فان في مباشرة أحدهما الآخر لمس عورة كل واحد منهما صاحبه، ولمسها كالنظر إليها، وأما إذا كانا مستوري العورة بحائل بينهما فذلك من النساء محرم أيضًا، على القول بأن جسد المرأة على المرأة كله عورة، وحكمها على القول الآخر، وحكم الرجال الكراهة عن هذا لعموم النهي عنه.
__________
(1) قوله:" الآية " ليس في (ح).
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).
(3) في (ط):" ندب ".
(4) في (ط):" على ".
(5) في (ح) و(ط):" الستر ".
(6) في (ط):" أزر ".(2/319)
وذكر(1) مسلم:" حديث(2) نَزْع النبي - صلى الله عليه وسلم - إزاره(3) عند بناء الكعبة "، فيه تنزيه الله تعالى له من صغره عن القبائح، وحمايته له من أخلاق الجاهلية، وقد تقدم الكلام قبل في عصمته قبل النبوة من الكفر والمعاصي، وليس في هذا استقرار شرع بستر العورة قبل، ولا أنها انكشفت للناس، إذ لأوَّل انكشافه سقط إلى الأرض مغشيًّا عليه كما ذكر في الحديث، ولعله قبل أن تقع عين أحد عليه، ويؤكد هذا ما ذكر عنه في حديث آخر:« من كرامتي على الله أني ولدت مختونًا ولم يطلع لي أحد على عورة ».
وقوله:" طمحت عيناه إلى السماء " أي(4): ارتفعت وشخصت، وجاء في بعض الروايات: " أن الملك نزل فشد مئزره عليه "، وذكره الداودي، وفي حديث أم هانئ:" ستر فاطمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بثوب وسترها له عنها وعن الناس": فيه(5) جواز ستر الناس بعضهم بعضًا والدنو من المتطهر، بخلاف المحدث والبائل جالسًا.
وقوله:" هدف أو حائش نخل "، الهدف: ما ارتفع من الأرض، وكل مرتفع هدف، وحائش النخل مجتمعه، وهو الحش والحشن أيضًا، ولا واحد للحائش من لفظه.
وقوله " في الرجل يعجل عن امرأته "، وفي الحديث(6):« إذا أعجلت أوأقحطت فلا غسل عليك »، وفي الحديث الآخر:« ثم يكسل »، قال الإمام: استعار - صلى الله عليه وسلم - لعدم الإنزال القحط، لما كان عبارة عن عدم المطر، وقال الهروي في حديث:« من جامع فاقحط فلا يغتسل »، معناه: أن يفتر ولا(7) ينزل مثل الإكسال، يقال: أكسل الرجل إذا جامع، ثم أدركه الفتور فلا ينزل.
__________
(1) في (ح):" وقد ذكر ".
(2) قوله:" حديث " ليس في (أ).
(3) في (ح):" الإزار ".
(4) قوله:" أي " ليس في (ح).
(5) قوله:" فيه " ليس في (ط).
(6) في (ط):" الحديث الآخر ".
(7) في (ح):" فلا ".(2/320)
قال القاضي: قال صاحب الأفعال: كسل الرجل، بكسر السين: فتر. وأكسل في الجماع: ضعف عن الإنزال، وبالوجهين ضبطنا الحرف عن التميمي عن الجياني في الجماع في حديث أبي موسى " يَكسَل " و " يُكسِل " ثلاثى ورباعى، ويقال: أقحط الناس وأقحطوا، بالضم وبالفتح(1)، وقَحطوا وقُحطوا كذلك إذا لم ينزل مطر، وقحطت الأرض والسماء، وقحطت بالفتح والكسر مع فتح القاف وقحطت بضمها على مالم يسم فاعله، وأقحط الرجل إذا لم ينزل في جماعة، بالفتح. وقد روى في "الأم" هكذا وعلى مالم يسم فاعله، وهو(2) استعارة من عدم المطر في باب الجماع ، وقحط المطر إذا ارتفع.
وقوله:« إنما الماء من الماء »، قال الإمام: هذا الحديث يحتج به من لايوجب الغسل من التقاء الختانين وإنما الحجة من جهة دليل الخطاب، وقد اختلف أهل الأصول بالقول(3) به، فمن نفى دليل الخطاب لم يكن عنده في الحديث حجة ومن أثبته صح له الانفصال عن الحديث بوجوه:
أحدها: أنه(4) قد قيل إن ذلك في أول الإسلام ثم نسخ.
والثانى: أن يكون محمولاً على المنام ؛ لأنه لا يجب الاغتسال فيه إلا من الماء.
وأما الحديث الذي فيه أنه: خرج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأسه يقطر ماء فقال:« لعلنا أعجلناك »، فإن لم يحمل على الوطء في غير الفرج فيحمل على أنه منسوخ.
__________
(1) في (ط):" والفتح ".
(2) في (ح):" هذا ".
(3) في (ح):" في القول ".
(4) قوله:" إنه " ليس في (ح).(2/321)
قال القاضي: تأول ابن عباس حديث:" الماء من الماء(1)" في الاحتلام، وحمله غيره من الصحابة على النسخ، ونصوا أن ذلك كان رخصة في أول الإسلام، ثم نهى عن ذلك وأمر بالغسل، وقد ذكر مسلم نسخه في حديث أبي العلاء بن الشخير، وقد رجع جماعة من الصحابة ممن روى عنه ذلك إلى الغسل من التقاء الختانين، وقال يعقوب بن شيبة في حديث عثمان ومن ذكر معه في ذلك: هذا(2) حديث منسوخ، وقال على بن المديني: هو شاذ، وقال أحمد بن حنبل: فيه علة للخلاف المروي فيه عمن رواه. قال ابن عبدالبر: هو حديث منكر لا يعرف من مذهب عثمان، ولامن مذهب علي، ولامن مذهب المهاجرين، انفرد به يحيى بن أبي كثير ولم يتابع عليه وأنكر عليه على أن البخاري خرجه، وقد خرج مالك عن عثمان في "الموطأ" خلافه، وقد ذكر مسلم حديث أبي العلاء بن الشخير: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينسخ حديثه بعضه بعضًا، وهذا حديث مرسل استشهد به، فإن أبا العلاء لا تعلم له صحبة، وهو أصغر إخوته واسمه يزيد(3)، قال البخاري عنه: أنا أكبر من الحسن بعشر سنين، ولد الحسن لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب. قال ابن القصار: أجمع التابعون ومن بعدهم بعد خلاف من تقدم على الأخذ بحديث(4):" إذا التقى الختانان "، واذا صحّ الإجماع بعد الخلاف كان مسقطا للخلاف.
قال القاضي: لانعلم من قال به من بعد خلاف الصحابة، إلا ماحكي عن الأعمش، ثم بعده داود الأصبهاني، وخالفه كثير من أصحابه وقالوا بمذهب الجماعة. وقد روي أن عمر - رضي الله عنه - حمل الناس على ترك الأخذ بحديث:" الماء من الماء " لما اختلفوا فيه، وسأل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، ومعنى:" الماء من الماء ": أي إنما يجب الغسل بالماء لإنزال الماء.
__________
(1) قوله:" من الماء " ليس في (ط).
(2) في (ح) و(ط):" هو ".
(3) في (ح) و(ط):" زيد ".
(4) في (ح):" الأخذ بظاهر حديث ".(2/322)
وقوله:« إذا جلس بين شعبها الأربع »، قال الإمام: قال الهروي: قيل: هى اليدان والرجلان، وقيل: بين رجليها وفخذيها.
قال القاضي: الذي عندنا في أصل الهروي الذي سمعناه: بين رجليها وشفريها، وهذا كما قال الخطابي ؛ يعني(1) فخذيها وأسكتيها.
قال القاضي: الأولى في هذا والأحرى على معنى الحكم أن الشعب نواحي الفرج الأربع، والشعب النواحي، وهذا مثل قوله في الحديث الآخر: « إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة...»؛ لأنها لاتتوارى حتى يغيب بين الشعب الأربع، ومثله قول عائشة:" إذا جاوز الختان الختان "، و " إذا مس الختان الختان "، وكذلك لا يعتبر(2) التقاء الختانين إلا بمجاوزتهما وبمغيبها هنالك، ولايلتفت إلى التقائهما على غير هذه الصفة، وقد يتأتى الجلوس بين اليدين والرجلين والفخذين والأسكتين - وهما الشفران - ولايغيب الحشفة ولايلتقى الختانان، وقد جاء في رواية:" إذا التقى الرفغان "، وهذا لايكون إلا مع انتهاء المخالطة، وفي رواية:" إذا التقت المواسي "، فقد يكون معنى ذلك أمكنة المواسي من الخفاض والختان بمعنى الختانين أو أمكنتهما من الاستحداد فيكون بمعنى حديث الرفغين(3)، وبالجملة فمراد(4) الأحاديث على اختلافها أنه لا اعتبار بالماء، وأن المخالطة توجب، انتهت أولها.. والله أعلم.
وقوله:« ثم جهدها »،: قال الخطابي: حفزها، قال بعضهم:بلغ مشقتها، يقال جهدته وأجهدته بلغت مشقته.
__________
(1) في (ح):" يعني بين ".
(2) في (ط):" معتبر ".
(3) في (أ):" الرفغتين ".
(4) في (ح):" فمدار ".(2/323)
قال القاضي: والأولى هنا أن يكون " جهد " أي بلغ جهده في عمله فيها، والجهد: الطاقة، والاجتهاد منه(1)، وهي إشارة إلى الحركة وتمكن صورة العمل، وهو نحو من قول من قال: حفزها، أي: كدَّها بحركته، وإلا فأي مشقة تبلغ بها في ذلك ؟ وقال ابن الأنبارى جهدت الرجل إذا(2) حملته على أن يبلغ مجهوده، وهي أقصى قوته، فلعله أيضًا من هذا، أي طلب منها مثل مافعل، وهي بمعنى قوله أيضًا في الحديث الآخر:" إذ خالط"، وهي كناية عن مبالغة الجماع ومغيب الحشفة، واختلاط العضوين، والخلاط(3): الجماع، قاله الحربي، وخالطها: جامعها، وقال الخطابي: الجهد من أسماء النكاح، والختانان هما: ختان الرجل، وختان المرأة، ولايكاد يتماسان غالبًا إلا بعد مغيب الحشفة، فكني النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتقائهما عما وراءهما من الإيلاج، والشعب: جمع شعبة وهي الناحية، وفي رواية زهير: «بين أشعبها »، جمع شعب، والشعب: الاجتماع، وهو على مما قدمناه.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:« إنى أفعله أنا وهذه ثم نغتسل(4)»، غاية في البيان للسائل بإخباره عن فعل نفسه وأنه مما لا ترخص فيه، وفيه حجة على أن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - على الوجوب، ولولا ذلك لم تكن فيه حجة ولابيان للسائل. وفيه أن ذكر مثل هذا على جهة الفائدة غير منكر من القول، وإنما ينكر عنه(5) الإخبار منه(6) بصورة الفعل وكشف ما يتستر(7) به من ذلك، ويحتشم من ذكره.
__________
(1) في (ح):" منه الاجتهاد ".
(2) في (ط):" أي ".
(3) في (ح):" وانخلاط ".
(4) في (أ):" تغتسل "، وفي (ح):" اغتسل ".
(5) في (ح):" منه "، وفي (ط):" منه ونهى ".
(6) قوله:" منه " ليس في (ط)، وفي (ح):" عنه".
(7) في (ح):" يستتر ".(2/324)
وقوله في حديث أبي موسى(1) لعائشة:" مايوجب الغسل ؟ "، وجوابها له يدل على أنها فهمت أن سؤاله عما يوجبه من الجماع، ولأنه رجل إنما يسأل عما يخصه غالبًا، وقد يحتمل أن سؤاله كان حين سؤال عمر وغيره من الصحابة لها حين اختلافهم في المسألة، ففهمت بقرينة الحال مراده. وقول أبي موسى لعائشة:" لقد شق على اختلاف أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - في أمر إنى لأعظم أن أستقبلك به، تأدب معها لما فيه من ذكر جماع النساء بحضرتها وسؤالها عن حكم ذلك، وهو مما يستحيا منه، ويوقر(2) فيه ذوو(3) الهيئات(4)، ولاسيما ذكر ذلك بين الرجال والنساء الأجانب ومكانها من الحرمة والتوقير مكانها، ولاسيما أنه يستدعى منها مامضمونه الإخبار عن حالها في ذلك.
وقولها هى له:" ماكنت سائلاً عنه أمك فسلني عنه ": بسط له(5) في السؤال، وتعريف له بحرمتها، وأن مادعته الضرورة إلى سؤال أمه عنه فله سؤالها عنه.
وقوله في حديث أُبيّ:" يصيب أهله(6)": كناية عن الجماع.
وقوله:" يكسل " بضم الياء وفتحها تقدم ذكره.
__________
(1) في (ح) و(ط):" سلمة ".
(2) في (ح):" يوقر" بدون واو.
(3) في (ط):" ذو ".
(4) قوله:" الهيئات " ليس في (ح).
(5) قوله:" في (ب):" له "." ليس في (ح).
(6) في (ط):" من المرأة " بدل:" أهله ".(2/325)
وقول عائشة: " إذا جاوز الختان الختان "، وفي رواية مسلم:" مس الختان الختان فقد وجب الغسل ": هو وإن كان من قولها في "الموطأ"، فهو(1) من جهة المعنى لاحق بالمسند، لإخبارها عن شيء هو من خاص أمرها وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأيضًا فإن أبا موسى سألها عن حجة تزيل ما شق عليه من الاختلاف بين الصحابة، فما كانت لتزيلها برأيها، ولايرجع أبو موسى إلى رأيها مجردًا، إذ هى من جملة من كان إذًا نختلف عليه، وكيف وقد رواه مسلم وغيره، وروي عن مالك في غير "الموطأ"، وفيه: " قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -... الحديث.
وقول هشام فيه:" حدثني أبي، عن المليّ، عن المليّ (2)، يعنى: أبا أيوب عن أُبي ابن كعب، يريد الثقة في نقله الذي أنت معتمد على ماعنده، كما يعتمد على الملىء بالمل فيه مداينته ومعاملته ويوثق به.
وقوله:« فليغسل ذكره، وليغسل ما أصابه من المرأة »، حجة في نجاسة رطوبة فرج المرأة خلافًا لبعض الشافعية، وقد تقدم.
ذكر مسلم في "باب الوضوء مما مست النار ": أخبرنى عبد الملك بن أبي بكر ابن عبدالرحمن "، قال الإمام: قال بعضهم: هكذا عند جميع الرواة للكتاب، وأصلحه ابن الحذاء بيده فأفسده، فجعل مكان عبد الملك عبد الله، والصواب عبد الملك، وكذا رواه الزبيدي عن الزهري، عن عبد الملك بن أبي بكر،[ وهو أخو عبدالله بن أبي بكر ](3).
__________
(1) في (ح):" فيه فهو ".
(2) قوله:" الملي " ليس في (ط) و(ط).
(3) مابين المعكوفين ليس في (ح).(2/326)
قال القاضي: وقوله في هذا الحديث:" قال ابن شهاب: أنا عثمان(1) بن عبد العزيز: أن عبد الله بن إبراهيم(2) بن قارظ أخبره ": كذا قال الليث في "الأم" هنا وفي الجمعة والبيوع وفضل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكره أبو داود فقال: إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، وكذا قال النسائي، كلهم عن الزهرى، وكذلك(3) وقع هنا في الجمعة من رواية ابن جريج، وكذا سماه ابن أبي حازم، وقاله ابن أبي خيثمة عبد الله بن إبراهيم - كما هنا - وحكي عن خط أبيه في رُواة أبي هريرة إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، وعبدالله بن إبراهيم بن قارظ، وقد ذكر البخاري الخلاف فيه عن ابن شهاب وغيره.
وقوله:" إنما أتوضأ من أثوار أقط أكلتها "، قال الإمام: قال الهروي في الأثوار: واحدها ثور، وهي قطعة من الأقط،[ والله عز وجل أعلم ](4).
__________
(1) في (أ):" عُمر ".
(2) قوله:" بن إبراهيم " ليس في (ح).
(3) في (ح):" كذا ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).(2/327)
قال القاضي: واختلف السلف في الوضوء مما مسته(1) النار، وكان الخلاف فيه زمن الصحابة، ثم استقر رأى فقهاء الفتوى وإجماع العلماء بعد على أنه لا ينقض الطهارة، وأن الأحاديث الواردة في ذلك منسوخة بما ورد بتركه الوضوء - عليه السلام - مما مست النار، وبأنه(2) آخر الفعلين منه - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: وضوؤه - صلى الله عليه وسلم - من ذلك قضية في عين لم يأت البيان أن الوضوء منها، فقد يكون لسبب آخر اقتضاه، أو لنقض طهارة أو تجديدها، وقيل: كان أمره بذلك أولاً لما كانت عليه الجاهلية والأعراب من قلة التنظيف، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - تغيير ذلك وعلقه لهم بشريعة الوضوء، فلما رأى استقرار النظافة فيهم والتزامهم له نسخ ذلك بتخفيف الحرج في لزومه لهم، وذهب بعضهم إلى تأويل ذلك وأمره به بالوضوء اللغوي، وهو غسل اليد والفم من دسمه وزهومته، كما جاء أنه - صلى الله عليه وسلم - تمضمض(3)، وقال:« إن له دسمًا »، ويكون الأمر بذلك على الاستحباب لا على الوجوب، ولئلا يشغله ما بقى من ذلك في فيه(4) من طعمه أو إزالته عنه عن صلاته، أو يعثره ما تعلق من ذلك بأسنانه عن إقامة بعض(5) حروف قراءته، أو لما يحدث بقاؤه وتغيره في الفم من رائحة وبخر.
__________
(1) في (ح):" مست ".
(2) في (ح):" أنه ".
(3) في (أ) و(ح):" مضمض ".
(4) في (ط):" فمه ".
(5) قوله:" بعض " ليس في (ح).(2/328)
وتخييره في الوضوء من لحوم الغنم وأمره بالرضوء من لحوم الإبل في حديث جابر ابن سمرة، ذكره مسلم يُبيّن هذا، إذ هو في لحوم الإبل آكد في الاستحباب والتنظيف(1)، لقوة رائحتها وكثرة زهومتها، وإلى أن ذلك غير واجب على من أكلها ذهب عامة أهل العلم، وذهب أحمد بن حنبل وعامة أصحاب الحديث إلى وجوب الوضوء من أكل لحوم الإبل، ولم يذكر البخاري باب الوضوء من لحوم الإبل لاضطرابه، وإباحته الصلاة في مرابض الغنم في هذا الحديث، ومنعها في مبارك الإبل أيضًا يدل على ما تقدم، وأنه ليس لمعنى يختص به إلا الزهومة، وزفر الرائحة، وإلا فالعلماء بين قائلين بنجاسة(2) أثقالهما(3) وأبوالهما، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، أو طهارة ذلك معًا منهما وهو مذهب مالك، وليس أحد يفرق بينهما، فلم يبق إلا التعليل بما قلناه، أو لشدة نفار الإبل، أو لما جاء أنهم كانوا يستترون بها عند الحاجة، أو لما جاء أنها من الشياطين، وهذا كله مما يجب للمصلي أن يجتنبه لئلا يصيبه ما هناك من أذى، أو تقطع الصلاة عليه بشدة نفارها(4)، ويتعلق قلبه لذلك مخافة أن تطأه وتهلكه، أو لتجنب الصلاة مواضع الأقذار والأرايح الكريهة، والبعد فيها عن ا الشيطان(5) وجهاته ما استطاع.
ومرابض الغنم هي حيث(6) تربض للقائلة والمبيت، ومبارك الإبل معاطنها عند المناهل للشرب والراحة، وحيث تبيت وتقيل. وحكى الخطابي أنه قيل: إن معنى النهي عن الصلاة في مبارك الإبل: أن المراد بذلك ما سهل من الأرض لأنها مثوى(7) الإبل إذ لا تألف الحزونة، ومثل تلك لا تظهر فيها النجاسة لإثارة ترابها وكثرته واختلاطها به فلا يؤمن كونها فيه، وهذا بعيد في الفقه والتأويل.
__________
(1) في (ط):" التنظف ".
(2) في (ح) و(ط):" في نجاسة ".
(3) أثقالهما معًا
(4) في (ح):" نفورها ".
(5) في (ح):" الشياطين ".
(6) في (أ) و(ط):" هي حيث ".
(7) في (ط):" أنها مبرك ".(2/329)
وقوله:" يحتزُّ من كتف وأكل منها، ثم قام وطرح السكين ": فيه جواز قطعه بالسكين عند الأكل للحاجة إلى(1) ذلك من شدة اللحم أو كبر العضو، وتكره المداومة على استعمال ذلك لأنه من سنة الأعاجم.
وبطن الشاة: الكبد وما معه من حشوها، وأما مضمضة النبي - صلى الله عليه وسلم - من اللبن فسنة للقائم إلى(2) الصلاة ومستحبٌ لغيره، وكذلك من سائر الطعام وهو من ناحية السواك، ولا سيما فيما له دسم أو له سهولة أو له لزوجة، أو له تعلق بالأسنان أو بقية طعم يشغل المصلي. وقد اختلف اختيار العلماء في غسل اليد قبل الطعام وبعده، ومذهب مالك ترك ذلك إلا أن يكون في اليد قبل قذر، وكذلك يأتى إذا كان للطعام رائحة كالسمك(3)، أو ما فيه زفورة ؛ فإن اليد(4) لاتغسل قبل وتغسل بعد.
__________
(1) في (ح):" إلى غير ".
(2) في (ط):" من ".
(3) في (ح):" المسك ".
(4) في (ط):" وكان الليل " بدل:" فإن اليد ".(2/330)
وقوله: في الذي شكا إليه أنه يخيل إليه أنه يجد الشىء في الصلاة فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا. هذا حكم الشاك في الحدث المستنكح بلا خلاف ؛ لأنه قال: إنه شكا إليه، وهذا لا(1) يكون إلا ممن تكرر عليه وكثر فأما غير المستنكح فالشك مؤثر في طهارته ولا يدخل الصلاة إلا بيقين، وأنه يقطع وإن كان في صلاة، وروى هذا عن مالك(2)، وذهب بعض العلماء إلى أن حكم(3) هذا حكم من كان في الصلاة بخلات غيرها، وروى مثله أيضًا عن مالك، وخص بعضهم هذا الشك في الريح دون غيره من الأحداث، واليه ذهب ابن حبيب من أصحابنا، وقال بعضهم: بل هذا حكم الشاك في كل حدث، كان في صلاة أم لا، إذ لا ينتقل عن اليقين للطهارة بالشك، وروى مثله عن مالك أيضًا، وهو قول أئمة الفتوى، وقد يحتج بقوله في الحديث الآخر:« فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتًا(4)»، ولم يذكر أنه في الصلاة، وقد يحتج به أيضًا من يخصه بحديث الريح.
ومعنى السماع هنا ووجود الريح التحقيق، فقد(5) يكون الرجل ممن لا يسمع ولا يشم لآفة أو مرض به، أو لضعف الخارج مع التحقيق له عن شم الرائحة وسماع الصوت، وذهب بعض أصحابنا إلى أن الوضوء لمن شك في الحدث إنما هو استحباب، وروى أيضًا عن مالك. وذهب بعض المتأخرين من أصحابنا إلى التفريق بين الشك هل ما وجده حدث أم لا ؟ فهذا يلغيه لهذا الحديث وبين(6) الشك في وجود الحدث منه بعد طهارته فنسيه أو لم يجده، وأوجب على هذا الوضوء، وهو مقتضى قول ابن حبيب.
__________
(1) في (ط):" ما لا ".
(2) في (ح) زيادة:" بخلاف غيرها، ورويو مثله أيضًا عن مالك ".
(3) قوله:" حكم " ليس في (أ) و(ط).
(4) في (ح) زيادة:" أو يجد ريحًا ".
(5) في (أ):" وقد ".
(6) في (ط):" بين ".(2/331)
وقولة(1) - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس: أن ميمونة أخبرته أن داجنة كانت لبعض نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فماتت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:« ألا أخذتم إهابها فاستمتعتم به »، وفي حديث آخر:«[ فدبغتموه فاستمتعتم به »، وفي حديث آخر ](2):« إذا دبغ الإهاب فقد طهر »، قال الإمام: قال الهروي: دواجن البيوت ما ألفها من الطير والشاء وغيرها، واحدها(3) داجنة، وقد دجن في بيته إذا لزمه، وكلبٌ داجن ألف البيت، والمداجنة حسن المخالطة، قال الهروي وغيره: والأهاب(4) يجمع على الأهب، والأهب - يعنى بضم الهمزة والهاء وبفتحهما أيضًا -. قال الإمام: ورد في جلد الميتة أحاديث مختلفة، واختلف الناس أيضًا في جلد الميتة، فقال أحمد بن حنبل: لا ينتفع به، وأجاز ابن شهاب الانتفاع به، والجمهور على منع الانتفاع به قبل الدباغ، ومختلفون في الجلد الذي يؤثر فيه الدباغ، فعند أبي يوسف وداود: أنه(5) يؤثر في سائر الجلود حتى الخنزير، ومذهبنا ومذهب أبي حنيفة والشافعي [هكذا، إلا أننا وأبا حنيفة والشافعي ](6) نستثني الخنزير ويزيد الشافعي في استثنائه الكلب، وألحق الأوزاعي وأبو ثور بهذا الذي استثناه جلد ما لا يؤكل لحمه، واتفق كل من رأى الدباغ مؤثرًا في جواز الانتفاع على أنه يؤثر في إثبات الطهارة الكاملة، سوى مالك في إحدى الروايتين عنه، فإنه منع أن يؤثر الطهارة الكاملة، وهذا يجب أن يعتبر فيه قول الله سبحانه:{ حرّمت عليكم المية }، فإن سلم أن الجلد حيٌّ دخل في هذا الطاهر، وكان ما يورد من الأحاديث بتخصيصه تخصيصًا لعموم القرآن بأخبار الآحاد، وفي ذلك اختلاف بين أهل الأصول، والخلاف المتقدّم كله يدور على خبرين
__________
(1) في (ح) و(ط):" قوله ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(3) في (ح) و(ط):" الواحدة ".
(4) في (ح):" الأهاب ".
(5) قوله:" أنه " ليس في (أ) و(ط).
(6) مابين المعكوفين ليس في (ط).(2/332)
متعارضين: ما الذي يستعمل منهما ؟ والمستعمل منهما ما مقتضاه من العموم(1)؟ فأخذ أحمد(2) بن حنبل بقوله:« لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب »، وأخذ الجمهور بقوله:« إذا دبغ الإهاب فقد طهر »، وهذا الحديث خاص والعام يُردّ إلى الخاص، ويكون الخاص بيانًا له، وقال بعض هؤلاء: الحديث خرج على سبب وهو شاة ميمونة رضى الله عنها، والعموم إذا خرج على سبب قصر عليه عند بعض أهل الأصول وألحق بهذا السبب: البقرة والبعير وشبه ذلك، للاتفاق على أن حكم ذلك حكم الشاة، وقال بعضهم: بل يتعدى ويعم بحكم مقتضى اللفظ، ويجب حمله على العموم في كل شيء حتى الخنزير، وقال بعضهم: فإن العموم يخص بالعادة، ولم يكن من عادتهم اقتناء الخنازبر حتى تموت فيدبغوا جلودها. قال بعضهم: ولا الكلب أيضًا لم يكن من عادتهم استعمال جلده، وقال بعضهم: بل يخصّ هذا العموم بقوله: «دباغ الأديم ذكاته »، فأحل الذكاة محل الدباغ، فوجب ألا يؤثر الدباغ إلا فيما تؤثر فيه الذكاة، والذكاة إنما تؤثر عند هؤلاء فيما يستباح لحمه ؟ لأن قصد الشرع بها استباحة اللحم، فاذا لم يستبح اللحم لم تصح الذكاة، وإذا لم تصح الذكاة لم يصح الدباغ المشبّه به، وقد أشار بعض من انتصر لمالك إلى سلوك هذه الطريقة، فرأى أن التحريم يتأكد في الخنزير، واختصّ بنص القرآن عليه ؟ فلهذا لم تعمل الذكاة فيه، فلما تقاصر عنه في التحريم ما سواه لم يلحق به في تاثير الدباغ. وقد سلك هذه الطريقة أيضًا أصحاب الشافعي، ورأوا أن الكلب خصّ في الشرع بتغليظ لم يرد فيما سواه من الحيوان وألحق بالخنزير، وأما الأولون الذين ذكرنا مخالفتهم لهؤلاء في الأخذ بالظاهر فإنهم أيضًا يخالفونهم في المعنى، ويرون أن الدباغ أنزل في الشرع بمنزلة الحياة لَمّا كان يحفظ الجلد من التغيير(3) والاستحالة كما تحفظه الحياة،
__________
(1) قوله:" من العموم " ليس في (أ) و(ط).
(2) قوله:" أحمد" ليس في (ح) و(ط).
(3) في (ط):" التغير ".(2/333)
وأما ابن شهاب فتعلق بحديث لم يُشترط فيه الدباغ، وقد رواه مقيدًا، ولعله نسي ما رواه.
قال القاضي: قوله:" يجملون فيه الودك ": كذا لبعض الرواة، ولأكثرهم "يجعلون "، ومعنى " يجملون ": يذيبون، يقال بضم الياء وفتحها، يقال: جملت الشحم وأجملته إذا أذبته، ثلاثي ورباعي.
حديث التيمم
فيه أن عائشة رضى الله عنها قالت:" خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -..." إلى قولها:" انقطع عقد لي فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التماسه وأقام الناس معه..." الحديث(1)، قال الإمام: قال بعض أصحابنا: يباح السفر للتجارة وإن أدى إلى التيمم، ويحتج له بهذا الحديث ؟ لأن إقامتهم على التماس العقد ضرب من مصلحة المال وتنميته.
__________
(1) قوله:" الحديث " ليس في (ح).(2/334)
قال القاضي: فيه جواز الإقامة بموضع لا ماء فيه لحوائج الإنسان ومصالحه، وإنه لا يجب عليه الانتقال عنه لأن فرضه هو ما لزمه فيه من طهارة الماء او التيمم إن عدمه ، ما لم يكن الماء قريبًا منه فيلزمه طلبه عند كل طهارة. واختلف في حد قربه، فالمذهب أنه يطلبه فيما لا كبير مشقة عليه فيه، ولم ير أن يلزمه في الميلين طلبه. وقال إسحاق: لا يلزمه الطلب إلا في موضعه، وروى نحوه عن ابن عمر أنه يتيمم والماء على غَلوتين منه، وهما خمس ميل، فإن الميل عشر غلاء، والغلوة منتهى جري الفرس، وذلك مائتا ذراع. وفي الحديث: خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - بنسائه للغزو أو ببعضهن، وسيأتي هذا في موضعه من النكاح. والبيداء وذات الجيش موضعان قريبان من المدينة. وفيه اتخاذ النساء القلائد، قيل: كانت هذه من جزع، وجاء في الحديث الآخر أنها قلادة استعارتها من أسماء، فأضافتها إليها مرة لكونها في حوزتها(1)، وقيل: بل قولها: " عقد لي تقديم وتأخير، أي: انقطع لي عقد، ثم بينت أنه لأسماء في الرواية الأخرى. وكل ما يعقد ويقلد(2) في العنق فهو عقد وقلادة، وقد نقله في المعلم: "انقطع عقدها،، وليس ذلك في الحديث إلا كما تقدم. وفيه جواز عارية الحلي، وتجمل المرأة بحلي غيرها.
__________
(1) في (أ) و(ط):" حوزها ".
(2) في (ط):" يعلق ".(2/335)
وقوله في الرواية الأخرى:" فهلكت " أي: انقطعت، كما قال في الحديث الآخر، وكل فساد هلاك، ويحتمل فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا ليكون سنة في حفظ الأموال والحيطة عليها. ودخول أبي بكر - رضي الله عنه - على عائشة ورأس النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجرها وهو نائم دليل على جواز مثل هذا، وأنه مما لا يستتر منه من الأصهار ولا الأجانب، إذ لو كان منكرًا لم يدخل أبو بكر عليها في تلك الهيئة، ولا أقام حتى يستيقظ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عليها، وطعن أبي بكر في خاصرتها جواز(1) تأديب الرجل(2) ابنته وإن خرجت عنه، وعتب أبي بكر لعائشة وشكوى الناس ذلك إلى أبي بكر وقولهم:" وليسوا على ماء وليس معهم ماء " دليل على أن الوضوء كان قبل مشروعًا لهم واجبًا عليهم، وإلا فما الذي يعظم عليهم من ذلك ؟
وقوله (3):" فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته "، وفي الحديث الآخر في البخاري:" فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً فوجدها "، وفي رواية: "رجلين "، وفي(4) أخرى:" ناسا "، وهو حديث واحد ولا تناقض في هذا، وإن كان القاضي إسماعيل حمله(5) على المعارضة، وأما غيره فقال: إن(6) المبعوث كان أسيد بن حضير، وأنه وجدها بعد رجوعه من طلبه حين أثار البعير، أو يكون المراد فوجدها النبي - صلى الله عليه وسلم - لا الرجل المبعوث.
وقوله (7):" فانزل الله آية التيمم "، دليل على ما تقدم أن الحكم الزائد عليهم فيها حكم التيمم فأضيفت(8) إليه، وإن قيل لها: إنه الوضوء أيضًا، فيحكم أنها التى ذكر الوضوء من القرآن إذا كان أولاً بالسنة على ما تقدم أول الكتاب.
__________
(1) في (ح):" فيه جواز ".
(2) في (ط):" الرجال ".
(3) في (ط):" وقولها ".
(4) في (ح):" وفي رواية ".
(5) في (ح):" خرجه "، وفي حاشيتها:"حاء حمله ".
(6) في (ط):" إلى ".
(7) في (ط):" وقولها ".
(8) في (ح):" فأضيف ".(2/336)
قال الإمام: التيمم في اللغة: القصد، ومنه قول الله تعالى:{ ولا آمين البيت الحرام }، ومنه قول الشاعر:
سل الربع أنى يَمّمت أم اسلما وهل عادةٌ للربع أن يتكلما
وأما الذي يتيمّم به فالمشهور من مذهب مالك: الأرض، وما تصاعد عليها، مما لا ينفك عنها غالبًا، ومذهب الشافعي: أن التيمم بالتراب خاصّة، وعندنا قولة نحو قول الشافعي. واختلف عندنا في التيمم على الثلج والحشيش، والحجة للقولة المشهورة عن مالك قوله تعالى:{ فتيمّموا صعيدًا طيبًا }، والصعيد ينطلق على الأرض، وقوله - صلى الله عليه وسلم -:« جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا »، ويحتج للشافعي، والقولة الشاذة عندنا(1) بما وقع في أحد طرق هذا الحديث وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -:« وترابها طهورًا »، فذكر التراب، وأما حد التيمم ففيه ثلاثة أقوال: قيل: إلى الكوعين، وقيل: إلى المرفقين، وقال ابن شهاب: إلى الآباط، فمن قال: إلى الكوعين، كان بناءً على تعليق الحكم بأول الاسم،ويؤيده بحديث أيضًا فيه:« وجهك وكفيك »، ومن قال: إلى الآباط بناه على تعليق الحكم بآخر الاسم، إذ ذلك أكثر ما ينطلق عليه اسم يد(2)، ويؤكده ما وقع في بعض روايات حديث العقد أن الراوى قال:" فتيممنا إلى الآباط "، أو قال:" إلى المناكب "، وأما من قال:" إلى المرافق "، كأنه رده إلى الوضوء لما كان تستباح الصلاة به كما تستباح بالوضوء، والحكم إذا أطلق في شيء وقيد فيما بينه وبينه مشابهة اختلف أهل الأصول في ردّه إليه كهذه المسألة والعتق في الكفارة في الظهار، هل يشترط فيه الإيمان ويرد(3) إلى كفارة القتل ؟
__________
(1) بعده في (ح):" في التيمم على الثلج ".
(2) في (ح):" يديه ".
(3) في (ح):" يرده ".(2/337)
قال القاضي: وقوله في الحديث من رواية ابن أبي شيبة: " فصلوا بغير وضوء " حجة لأحد الأقوال فيمن عدم الماء والتراب من مريضٍ أو محبوسٍ ؛ لأن هؤلاء عدموا الماء ولم يشرع لهم بعد التيمم، فصلوا بغير طهارة. وقد اختلف العلماء في تلك المسألة على أربعة أقوال: هل يصلى ثم لا إعادة عليه لأن عدمه عذرٌ كالسلس والاستحاضة، ولأنه ظاهر الحديث ؟ أو يصلي ثم يعيد إذا وجد الطهور على الاحتياط ليأتي أولاً بغاية ما يقدر عليه، ثم لما وجد الماء لزمته الطهارة والإعادة ؟ وقاله الشافعي، أو لايصلي ولا يعيد ؛ لأن الخطاب لم يتوجه عليه لعدم الشرط من الطهارة حتى خرج وقتها كالحائض تطهر، وكمن بلغ أو أسلم بعد الوقت، أو لا يصلي، كظاهر الحديث من أكثر الطرق، لكنه يعيد إذا وجد الماء، كمن غمره المرض أو غلبه النوم أو النسيان(1)، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -:« لا يقبل الله صلاة بغير طهور »، وهذه الأقوال كلها عندنا في المذهب لمالك وأصحابه، والمروي منها عن مالك: لا صلاة ولا إعادة، وهو قول الثورى والأوزاعي وأصحاب الرأي.
وقوله:" كنا في السرية فأجنبنا "، قال الإمام: قال الهروي: قال الفراء(2): يقال: أجنب الرجل وجنب من الجنابة، وقال الأزهري: سُمي جنبًا لأنه نهي أن يقرب مواضع الصلاة ما لم يتطهر، فتجنبها وأجنب عنها، وقال القتبي: سمى بذلك لمجانبته الناس وبعده منهم حتى يغتسل، والجنابة البعد.
قال القاضي: وقال الشافعي: إنما سمى جنبا من المخالطة، ومن كلام العرب: أجنب الرجل إذا خالط امرأته، وكان هذا ضدًا(3) للمعنى الأول، كأنه من القرب منها، وقد قيل في قوله تعالى:{ والصاحب بالجنب وابن السبيل }: أنها الزوجة. ويقال: جنبٌ للواحد والاثنين والجميع والمذكر والمؤنث، قال ابن فارس: وقد قيل في الجمع: أجنابٌ.
__________
(1) في (ح):" والنسيان ".
(2) قوله:" قال الفراء " ليس في (ح).
(3) في (أ) و(ط):" ضد ".(2/338)
وكلام عبد الله وأبي موسى في تيمم الجنب يدل أن مذهب ابن مسعود كان لا(1) يتيمم ولا يصلي حتى يجد الماء، ثم روي أنه رجع بعد إلى التيمم. هذان القولان معروفان له، وقد حكى عنه أن من قوله: لا يغتسل إذا تيمم، ولكنه إذا أحدث توضأ للصلاة، وهذا لا يصح عنه ولا عن أحد من العلماء، إلا أبا سلمة بن عبد الرحمن وحده، وقيل بل من قوله: إنه إذا وجد الماء اغتسل وأعاد الصلاة، وهذا القول لا يصح عنه ولا عن غيره، إلا أن بعضهم استحب ذلك، وحكي عن جماعة من التابعين إعادة المتيمم صلاته إذا وجد الماء في الوقت، وقاله ربيعة وابن شهاب، وقاله الأوزاعي استحبابًا، قال ابن المنذر: وأجمعوا أنه لا إعادة عليه إذا وجده بعد الوقت، وفقهاء الأمصار على أنه لا إعادة عليه لما صلى وإن وجده في الوقت. ومذهبه ومذهب عمر وعمّار في الآية: أنها في الوضوء دون التيمم(2)؛ لأنه العائد عليه والسبب الذي نزلت فيه الآية، وأن معنى قوله:{ أو لامستم النساء } في غير الجماع، ومذهب أبي موسى وغيره أنها على العموم، وبيَّن ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في ردّه على عمّار بقوله:« إنما كان(3) يكفيك هكذا »، وذكر مسح الوجه والكفين، ولما احتج أبو موسى بظاهر الآية على عبد الله وقف وما درى ما يقول، كما جاء في الحديث لظهور العموم فيها للأحداث، وعطف التيمم على سائرها وتعلق بطرف من الاجتهاد والاحتياط، وقطع الذريعة لاحتمال الآية، فقال: لو رخصنا لهم في ذلك لأوشك إذا برد على أحدهم الماء أن يذهب ويتيمم، فلم ينكر ابن مسعود أن الآية تتناول الجنب بظاهرها وغيره، ولو أنكره(4) لردّ حجة أبي موسى بالآية عليه، وقد أدخل البخاري هذا الحديث تحت ترجمة "إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت "، وذكر حديث عمرو بن العاص في تيممه في ليلةٍ باردةٍ،
__________
(1) في (أ) و(ط):" أن لا ".
(2) في (ط) وحاشية (ح):" الغسل ".
(3) قوله:" كان " ليس في (ح).
(4) في (ح):" أنكر ".(2/339)
وتلاوته:{ ولا تقتلوا أنفسكم }، وأنه ذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم(1) يعنّفه، ثم أدخل حديث أبي موسى وعبد الله ليشعر بالخلاف في المسألة، والله اعلم.
ولا خلاف بين فقهاء الأمصار إذا خاف التلف باستعمال(2) الماء أنه يتيمم، إلا شيء(3) روي عن الحسن: يغتسل(4) وإن مات، فإن خاف دوام المرض أو زبادته أو حدوثه، فلمالك في هذا الأصل قولان، حكاهما ابن القصار، وكذلك للشافعي، والذى في الأمهات لمالك أنه يتيمم، وأبو حنيفة والثوري يجيزان ذلك، ومنعه الحسن وعطاء وأبو يوسف وصاحبه في الحضر وأجازه(5) في السفر، وذهب بعض أصحاب الحديث أنه يجزئه الوضوء هنا عن الغسل لحديث عمرو بن العاص، وفيه أنه توضأ وصلى بهم(6)، وبه قال من أصحابنا أحمد بن صالح المصري المعروف بابن الطبري من أصحاب ابن وهب لغلبة الحديث عليه.
وفي هذا الحديث عادة الصحابة في المناظرة في العلم، والحجاج بكتاب الله وسنة نبيه، والمقاييس الصحيحة عليها والالتفات في الاجتهاد لقطع الذرائع لما يؤول إليه، وفيه جواز الانتقال من دليل إلى دليل أظهر منه إذ حقيقة المناظرة التعاون(7) على إظهار الحق وبيانه، خلاف ما يذهب إليه أهل الجدل من المتكلمين من منع الانتقال وأنه انقطاع، والأصل في هذا قصة إبراهيم - عليه السلام - في انتقاله من الحجة بالإحياء والإماتة إلى الحجة بالإتيان بالشمس من المغرب.
وقول عمار: " فتمرغت كما تتمرغ الدابة ": هو بمعنى ما جاء في الرواية الأخرى:" فتمعكت فيه "؛ لأنه لم يحمل الآية على عموم الأحداث.
__________
(1) في (ح):" ولم ".
(2) في (ح):" من استعمال ".
(3) في (أ):" شيئًا ".
(4) في (ح):" أنه يغتسل ".
(5) في (ط):" أجازاه "، وفي (أ):" أخباره ".
(6) قوله:" بهم " ليس في (ط).
(7) في (ح):" والتعاون ".(2/340)
وفيه جواز الاجتهاد في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الضرورة والبعد منه، كما قال معاذ - رضي الله عنه - له:" أجتهد رأيى "، واستعمال القياس، لأنه لما رأى آية التيمم في الوضوء في بعض الأعضاء - إذ كان الوضوء مختصًا ببعض الأعضاء -، وكان طهر الجنابة لعموم الجسد استعمل التيمم بالتراب(1) في جميع الجسد.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:« إنما كان يكفيك هكذا » وضرب(2) بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، يحتج في نفض اليدين، وقد أجاز مالك النفض الخفيف في ذلك. وهو قول الكوفيين. وقوله:" فمسح بهما وجهه وكفيه ": في ظاهره حجة لمن يرى الفرض ضربة واحدة، وهو قول بعض أصحابنا، ودليل قول مالك، وأنه لا إعادة على من فعله أو يعيد في الوقت، وأن الضربة الثانية عنده سنة، وجمهور العلماء على أنه لا يجزيه إلا ضربتان وهو قول بعض أصحابنا، وجعله بعضهم قول مالك، ويحتج بها أيضًا من يقول التيمم إلى الكوعين، وهو قول جماعة من العلماء وفقهاء أصحاب الحديث وبعض أصحابنا، وتأولوها على رواية ابن القاسم عن مالك فيمن صلى بذلك أنه يعيد في الوقت، والمعروف من مذهب مالك أن فرضه إلى المرفقين، وهو قول أكثر أئمة الفتوى والسلف.
__________
(1) في (ح):" في الوضوء " بدل:" بالتراب ".
(2) في (ط):" فضرب ".(2/341)
وقوله في الرواية الأخرى:" يمسح الشمال على اليمين وظاهر كفه " تفسير لصفة المسح وعمومه. وإنكار عمر الخبر على عمّار ؛ لأنه حدثه أنه كان حاضرًا له عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يذكره، وقول عمار له:" إن شئت لما جعل الله عليّ من حقك لم أحدث به " لما يلزم من طاعة الأئمة والرجوع إلى مذاهبهم، وتقليد من(1) لم يبلغ منزلتهم في العلم لهم، لا سيما مسألة وقع فيها الخلاف بين اثنين في نقل(2) قضية أثبتها أحدهما ونفاها الآخر، فالرجوع في ذلك إلى ما يفتي به الإمام المقلد، فكيف إذا كان الإمام(3) هو المنكر لها، مع أن أداء الحديث والتبليغ ليس بفرض على العين، إلا لمن لم يكن عند أحد السنة التى رواها سواه فيتعين عليه أداؤها، وآية التيمم(4) في الجنب أو(5) غيره تغنى(6) عن حديث عمار، فكيف إذا كان الحديث مما خالف رواية إمام المسلمين وخطَّأه فيه ؟ فهو في سعة من ذكره.
وفيه من الفقه أن المتأول المجتهد لا إعادة عليه ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر عمارًا بالإعادة وإن كان خطّأ اجتهاده ؛ لأنه إنما ترك هيئة الطهارة وقد جاء بها على غير هيئتها وأكمل مما يلزمه.
وقوله:" ألم تر عمر لم(7) يقنع بقول عمار "؛ لأنه أخبره خبرًا ذكر أنه شاهده، ولم يذكره فجوّز عليه الوهم كما جوز على نفسه النسيان له، ثم تركه وما اعتقده وصححه، إذ لم يتهمه بقوله:" نوليك من ذلك(8) ما توليت"، بخلاف لو قطع على خطئه فيه.
__________
(1) في (ط):" ممن ".
(2) في (ط):" في فعل "، وفي (أ):"من نقل ".
(3) في (ط):" للإمام ".
(4) التيمم بينة
(5) في (ح) و(ط):" و ".
(6) في (ط):" يستغنى ".
(7) في (ح):" إلى لم ".
(8) قوله:" من ذلك " ليس في (ح).(2/342)
وقوله:" فنفض يديه فنفخ فيهما ": حجة لمن أجاز نفض اليدين من التراب، وهو قول مالك والشافعي، دون استقصاء لما فيهما من التراب(1)، لكن لخشية ما يضر به من ذلك من كثرته بتلويث وجهه، أو مصادفة دقاق حجر فيه يؤذيه ونحوه، وكان ابن عمر لا ينفض.
وخرَّج مسلم في الباب: روى الليث بن سعد، عن جعفر بن ربيعة، عن ابن هرمز، عن عمير(2) مولى ابن عباس: أنه سمعه يقول:" " أقبلت أنا وعبد الرحمن بن يسار مولى ميمونة حتى دخلنا على أبي الجهم "، قال الإمام: كذا وقع عند الجلودي والكسائي وابن ماهان، وهو خطأ، والمحفوظ: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار، وهكذا رواه البخاري عن ابن بكير عن الليث، وذكره مسلم هنا مقطوعًا، وفي كتابه أحاديث يسيرة مقطوعة متفرقة في أربعة عشر موضعًا، منها هذا الحديث - وهو أولها -، وسننبه على كل شيء منها في موضعه إن شاء الله .
قال القاضي: روايتنا فيه من طريق السمرقندي، عن الفارسي، عن الجلودي فيما حدثنا به الشيخ(3) أبو بحر عنه عبد الله بن يسار على ما ذكره، كذلك قاله النسائي وأبو داود وغيرهما من الحفاظ، وهو أخو عبد الرحمن هذا الآخر، قال البخاري في "تاريخه": عبد الله بن يسار مولى ميمونة أخو عبدالملك وعطاء.
وقوله في الحديث:" دخلنا على أبي الجهم ": كذا في "الأم"، وكناه مسلم في "كتاب الرجال"، والبخاري في "تاريخه"، والنسائي وأبو داود: أبو الجهم ".
__________
(1) في (ح) و(ط):" تراب ".
(2) في (ح) و(ط):" عمر ".
(3) قوله:" الشيخ " ليس في (ح).(2/343)
وقوله في الحديث:" أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) من نحو بئر جمل... "، وذكر تيممه لردّ السلام، احتج به البخاري وغيره في جواز التيمم في الحضر لمن خاف فوات الوقت، وقد اختلفت الرواية في جوازه عن مالك، وفي إعادة الصلاة لمن فعله إن وجد الماء في الوقت على القول بإجازته. وفي استدلال البخاري بهذا الحديث نظر لكنه يؤنس إليه، إذ لم ير أن يرد السلام(2) ولا يذكر الله إلا على طهارة، وخشي ذهاب الرجل وفوات ردّ السلام عليه فتيمم.
وفيه حجة لجواز(3) التيمم بالتراب المنقول عن وجه الأرض، لتيممه بالجدار وهو تراب منقول، وفيه حجة لسقوط شرط الغبار ونقل التراب في التيمم لعدم ذلك في تراب الجدار لتعقده، وجواز التيمم مع وجود غيره، وفيه جواز التيمم للنوافل كالفضائل.
قال الطحاوي: وهذا الحديث من باب الأخذ بالفضائل، وقال الطبري: هو على التأديب(4) للمسلم عليه(5) في حال الحدث التى نهى عن السلام فيها، وليس في الحديث ما يدل على ما قال ؛ لأنه إنما سلم عليه بعد إقباله من قضاء الحدث وليس بموضع النهى، لكن في الحديث الآخر:" أن رجلاً مر عليه وهو يبول فسلم عليه فلم يرد عليه ".
وذكر مسلم في حديث:« إن المؤمن لا ينجس »: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، عن ابن علية، عن حميد الطويل، عن أبي رافع، عن أبي هريرة: قال الإمام: هكذا في النسخ كلها: حميد الطويل عن أبي رافع، وهذا منقطع، وإنما يرويه حميد، عن بكر بن عبدالله(6) المزني، عن أبي رافع، وهكذا أخرجه البخاري وأبو بكر بن أبي شيبة في "مسنده".
__________
(1) قوله:" النبي - صلى الله عليه وسلم - " ليس في (ط).
(2) في (ح):" السلام عليه ".
(3) في (أ):" بجواز ".
(4) في (ح):" التأدب ".
(5) قوله:" عليه " ليس في (ط).
(6) في (ط):" عبدالرحمن ".(2/344)
وقوله:« إن المؤمن لا ينجس »: يقال: نجس الشىء ونجس، بالكسر والضم ينجس(1)، وينجس، بالفتح والضم، ضد طهر. وفيه حجة على طهارة الآدمى حيًّا وميّتًا، وقد اختلف فيه مسلمًا كان أو كافرًا، ولقول الله تعالى: { ولقد كرمنا بني آدم وحملناه } الآية. وذهب بعض المتأخرين: أن الحكم للفضيلة إنما يتعلق بالمؤمن، ويحتج بهذا الحديث وشبهه، وستأتي المسألة في الجنائز.
وقوله في الحديث:" فحاد عنه "، أي: مال عن طريقه ومشيه معه وانصرف، ومثله في الرواية الأخرى:" فانسل عنه "، أي: خرج من جملته وصحبته برفق من حيث لا يشعر به.
وقوله:" كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه ". دليل(2) أنه لا يمنع من على غير طهارة من ذكر الله، وإنما اختلف العلماء في قراءة الجنب والحائض القرآن ظاهرًا بالمنع لهما والإباحة لهما، ومنع الجنب لملكه طهره دون الحائض لأن أمرها يطول، والأقوال الثلاثة لمالك - رحمه الله - ولم يختلف قوله في قراءة اليسير منه كالآية ونحوها على وجه التعوذ. وفيه حجة لمن أجاز الذكر على الحدث وفي المراحيض على ظاهره، وقيل: معناه: متوضئ وغير متوضئ، وقد تقدم قبل الكلام عليه.
وقوله:" أتى بطعام فذكر له الوضوء فقال: أأريد أن أصلى فأتوضا ؟!" أخذ مالك بظاهر هذا الحديث، وكره غسل اليد قبل الطعام، وقال: إنه من فعل الأعاجم، وقال مثله الثوري، ولم يكن من فعل السلف، وحمله غيره على أنه ليس بواجب، واحتجوا بحديث ذكره أبو داود وغيره عنه - صلى الله عليه وسلم -: «الوضوء قبل الطعام وبعده بركة ».
__________
(1) قوله:" ينجس " ليس في (ح).
(2) في (ط):" دليل على ".(2/345)
وقوله:" كان إذا دخل الخلاء..."، وفي الحديث الآخر:" الكنيف " وهو بمعناه، وسمى بذلك للتستر فيه، والكنف: الستر(1)، فلما كان يستتر(2) في ذلك الموضع من يأتيه للحدث سمى به، ولذلك(3) سمى الخلاء أيضًا بالخلوة فيه عن الناس.
وقوله:" يقول: أعوذ بك من الخبث والخبائث ": رويناه عن شيوخنا بالوجهين سكون(4) الباء وضمها، وأكثر روايات الشيوخ فيه بالإسكان(5)، وكذا ذكره أبو عبيد وفسره بالشر، وبالضم سمعناه من القاضي الشهيد، [وكذا صوبه الخطابي ووهم أصحاب الحديث في روايتهم السكون.
قال الإمام: قال الهروي: قال أبو الهيثم: الخبث بالضم: جمع الخبيث](6)، وهو الذكر من الشياطين، والخبائث: جميع الخبيثة، وهي الأنثى من الشياطين، وقال أبو بكر ابن الأنبارى: الخبث: الكفر، والخبائث: الشياطين.
قال الإمام: والأول أشبه ؟ لأن تلك مواضع الشياطين. قال القاضي: قال الخطابي في رواية الضم: استعاذ بالله من مردة الجن ذكورهم واناثهم، قال ابن الأعرابى: أصل الخبث في كلام العرب المكروه.
__________
(1) في (أ):" التستر ".
(2) في (ط):" يتستر ".
(3) في (أ):" كذلك ".
(4) في (ح):" بسكون ".
(5) في (أ) و(ح):" الإسكان ".
(6) مابين المعكوفين ليس في (ط).(2/346)
قال القاضي: ولا يبعد أن يستعيذ من الكفر ومن الشياطين ومن سائر الأخلاق الخبيثة والأفعال المذمومة وهي الخبائث، وجاء بلفظ الخبث لمجانسة الخبائث، والله أعلم ؛ ولأنه لما كان الموضع خبيثًا في نفسه استعاذ من كل ما جاء على(1) لفظه. وقال الداودي: الخبث: الشيطان(2)، والخبائث: المعاصي كلها، وقال غيره: استعاذ أولاً من الشياطين وخبثها لتضاحكها من عورة الإنسان عند انكشافها للبراز والبول، فإذا ذكر الله واستعاذ به أعيذ وولت الشياطين هاربة، قال: ثم استعاذ من الخبائث وهي البول(3) والغائط لئلا يناله منهما مكروه.
قال الإمام: وقوله(4):" إذا دخل(5)": يحتمل أن يكون معناه: إذا أراد الدخول، كما قال تعالى:{ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله }، الآية معناه: إذا أردت.
قال القاضي: قد ذكر البخاري في بعض طرق هذا الحديث:" كان إذا أراد أن يدخل "، ويجمع(6) بين اللفظين برد أحدهما إلى الآخر، ومن جهة المعنى أنه إذا كان متصلا بالدخول قيل فيه: إذا دخل.
وقد اختلف السلف والعلماء في هذا، فذهب بعضهم إلى جواز ذكر الله في الكنيف وعلى كل حال، ويحتج قائله بهذا وبحديث ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الله على كل أحيانه وبقوله:{ إليه يصعد الكلم الطّيب والعمل الصالح يرفعه }، وهو قول النخعي والشعبي وعبد الله بن عمرو بن العاص وابن سيرين ومالك بن أنس، وروي كراهية(7) ذلك عن ابن عباس وعطاء والشعبي وغيرهم، وكذلك اختلفوا في دخول الكنيف بالخاتم فيه ذكر الله.
__________
(1) في (أ):" في ".
(2) في (ح):" الشياطين ".
(3) في (ح):" أو البول "، وفي (ط):" في البول".
(4) في (أ):" وقول ".
(5) في (ح):" دخل الخلاء ".
(6) في (ح):" يجمع " بدون واو.
(7) في (ط):" كراهة ".(2/347)
وقوله: " أقيمت الصلاة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يناجي رجلاً فلم يزل يناجيه حتى نام أصحابه، قال الإمام: يحتمل أن تكون مناجاته - صلى الله عليه وسلم - وتأخيره المبادرة للصلاة بعد الإقامة إنما كانت لأن الذي ناجاه فيه أمر مهم، كان تقديم النظر فيه أولى من المبادرة إلى العبادة.
قال القاضي: وفي الرواية الأخرى:" وهو نجي لرجل ": أي مسارر له، وهو لفظ يستعمل للواحد والإثنين والجميع، قال الله تعالى:{ خلصوا نجيًّا} في الجميع، وقال:{ وقربناه نجيًّا } في الواحد.
وفيه جواز(1) مناجاة الإثنين بحضرة الجماعة، وجواز الكلام بعد إقامة الصلاة لا سيما في الأمور المهمة،[ وأما في غيرها فيكره، وتقديم الأمور المهمة ](2) التي يخشى فواتها أو شغل السر(3) بها عن(4) الصلاة.
__________
(1) قوله:" جواز " ليس في (أ).
(2) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(3) في (ط):" السير ".
(4) في (أ) و(ط):" على ".(2/348)
وقوله هنا:" حتى نام أصحابه(1) ثم صلى بهم "، وفي الحديث الآخر: "كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينامون ثم يصلون ولا يتوضؤون " فيه دليل أن النوم ليس بحدث في نفسه، وأن موجب الوضوء منه المستثقل الذاهب بحس المرء حتى لا يعلم بالحدث إذا خرج منه، وأن الخفيف(2) اليسير منه لا يجب منه وضوء خلافًا للمزني في إيجابه الوضوء من قليله وكثيره، وقد تأوله على المذهب بعض شيوخنا، ثم اختلفت أقاويل أئمتنا وغيرهم في(3) هيئات النائم الذي يحكم له(4) بنقض الطهارة إما لإمكان الاستثقال، أو لسرعة خروج الحدث كالراكع والقائم والجالس والراكب بما هو مفسر في أصولنا، وعلى هذا يحمل نوم الصحابة - رضي الله عنهم - لأنهم كانوا جلوسًا ينتظرون الصلاة، ولأنه قال فيه:" حتى تخفق رؤوسهم "، وهذه أول سنات(5) النوم ومخامرته الحس، ولم يقل: حتى يسقطون أو يغطون(6)، وقد كان بعض السلف لا يرى(7) النوم حدثًا على أي وجه كان حتى يحقق خروج الحدث فيه، وكان بعضهم يجعل من يحرسه إذا نام، وذهب بعض متأخري الشافعية إلى أن النائم إذا ضم نفسه وزمّ وركيه عند نومه زمًّا يأمن معه خروج الحدث أنه لا وضوء عليه، وربما احتج لهذا المذهب بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نومه حتى نفخ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بخلاف غيره لقوله - صلى الله عليه وسلم -: « إن عينى تنامان ولا ينام قلبى »، أو يكون هذا النوم خفيفًا في نفسه وقد يعترى أثناءه النفخ وإن لم يثقل فيستيقظ(8) معه. وسيأتي الكلام على هذا في كتاب الصلاة إن شاء الله.
[ كمل كتاب الطهارة بحمد الله وعونه
__________
(1) في (أ):" الصحابة ".
(2) في (ط):" الخفيفة ".
(3) في (أ) إشارة لحق ولم يظهر في الحاشية.
(4) في (ح)(ط):" له معها ".
(5) في (ح):" أسباب "، وفي (ط):" هيئات ".
(6) في (أ):" يغطوا أو يسقطوا ".
(7) في (ح):" يرون ".
(8) في (أ) و(ح):" فيسقط ".(2/349)
ويتلوه إن شاء الله عز وجل كتاب الصلاة ](1)
**************
كتاب الصلاة
[ بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ](2)
اختلف في اشتقاق اسمها ممّ هو ؟ فقيل: من الدعاء الذي تشتمل عليه، وهو قول(3) أكثر أهل العربية والفقهاء، وتسمية الدعاء صلاة معروف في كلام العرب، وقيل: لأنها ثانية الشهادتين وتاليتهما كالمصلى من السابق في الحلبة، وقيل: بل لأنه متبع فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - كالمصلِّي مع السابق، ولعل هذا في أول شرع الصلاة وائتمامهم فيها بالنبى - صلى الله عليه وسلم -، لكن هذا يضعف في تسميتها في حقه - صلى الله عليه وسلم - وهو السابق، وقيل: بل هو من الصّلوين، وهما عرقان مع الردف، وقيل: عظمان ينحنيان في الركوع والسجود، قالوا: وبه سُمي المصلي من الخيل ؟ لأن أنفه يأتى ملاصقًا(4) صِلَوى السابق، قالوا: ومنه كتب بالواو في المصحف، وقيل: بل من الرحمة وتسميتها بذلك معروف في كلام العرب، ومنه: صلاة الله على عباده، أي رحمته، وقيل: أصلها الإقبال على الشىء، تقربًا إليه، وقيل معناها: اللزوم، من قولهم: صلي بالنار، وقيل: الاستقامة من قولهم: صليت العود على النار إذا قوّمته، والصلاة تقيم العبد على طاعة ربه، قال الله تعالى:{ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر }، وقيل: لأنها صلة بين العبد وربه، ثم قد(5) تشعبت مذاهب المتكلمين والنظار من الفقهاء في هذه الأسماء المستعملة في الشرعيات كالصلاة والزكاة والصيام والحج وشبهها، هل هى منقولة عن موضوعها(6) في اللغة رأسًا ؟ وهذا بعيد ومؤدٍ إلى أن العرب خوطبت وأمرت بغير لغتها، أو هى مبقاة على مقتضاها في أصل اللغة، فالصلاة: الدعاء، والصيام:
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).
(3) قوله:" قول " ليس في (ح).
(4) في (ح):" ملاصق ".
(5) في (ح):" وقد " بدل:" ثم قد ".
(6) في (ح):" موضعها".(2/350)
الإمساك، والحج: القصد، والزكاة: النماء(1) وهكذا في سائرها، وهو المراد بها والمفهوم منها، وغير ذلك مما أضيف إليها من أقوال وأفعال غير داخل تحت الاسم، وهو مذهب القاضي أبو بكر، أو هي واقعة على أصول مسمّياتها، ثم أطلق الاسم على ما انضاف إليها بحكم الاشتمال أو الاستعارة لمشابهة معناها، وهو مذهب معظم الأشياخ والمحققين من متكلمى أهل السنة وغيرهم من الفقهاء، وقد أطال المصنفون في الأصول الكلام في هذا الباب ومدّوا أطنابه، ومخالفة الجماهير من الموافقين والمخالفين جرأة تامة وجسارة، وقول المرء لقول(2) قيل يعتقد(3) الصواب في خلافه غير بيِّن وخسارة(4)، فالحق أحق أن يتبع لا سيما بخلاف ليس في قاعدة دين ومقالة تلوح بالحق اليقين، ولا تخرج عن مراد مشايخنا المحققين، وذلك أنه متى أعطيت هذه الألفاظ من البحث حقها وجدت عند المخاطبين بها لأول ورودها من أهل الشريعة معروفة المعنى على ما جاءت به من أفعال مخصوصة وعبارات مقررة إلا ما غير الشرع فيها من بدع الجاهلية أو نسخ من شرائع من تقدم من الكتابية، لكن لا يبعد أن أصل استعمال العرب لها في جاهليتهم قبل ورود الشريعة كان على(5) ما أشار إليه الأشياخ، إما من إيقاعها على المعنى الحقيقي في اللغة دون اعتبار المزيد فيها، على مذهب القاضي أبى بكر، أو على الجميع بحكم تشابه المعنى والاستعارة على ما ذهب إليه غيره، ثم استمر استعمالهم لهذه الألفاظ عرفًا على جميع العبادة، فصارت كاللغة الصحيحة والتسمية الموضوعة، فجاءهم الشرع واستعمالهم لها مفهوم عند جميعهم، فقد حققنا قطعا بمطالعة السّير ومدارسة الأثر واستقراء كلام العرب وأشعارها: أن الصلاة كانت عندهم معلومة على هيئتها عندنا من أفعال وأقوال ودعاء وخضوع وسجود وركوع،
__________
(1) قوله:" والزكاة النماء " ليس في (أ) و(ط).
(2) في (ح):" بقول ".
(3) في (أ):" يبعد ".
(4) في (ح) و(ط):" جسارة ".
(5) قوله:" على " ليس في (ح).(2/351)
وقد تنصّر كثير منهم وتهوّد وتمجّس، وتقربوا بالصلوات والعبادات، وجاوروا أهل الديانات، وداخلوا أهل الملل، ووفد أشرافهم على ملوكهم، وألفت قريش رحلة الشتاء والصيف إلى بلادهم، وثاقبوا ربَّانيِّهم وأحبارهم، وشاهدوا رهبانيتهم وشرائعهم، وثابر كثير منهم على بقايا عندهم من دين إبراهيم، وعرفوا السجود والركوع والصوم والحج والعمرة والاعتكاف، وحجوا كل عام واعتمروا واعتكفوا وحضوا على الصدقة، وصاموا عاشوراء، وفي الحديث: « كان عاشوراء يوما تصومه الجاهلية ». وقال عمر: " نذرت في الجاهلية أن أعتكف يومًا في المسجد الحرام، وفي إسلام أبى ذر وأنه صلّى قبل المبعث بثلاث سنين مع صواحبه(1)، وأنه كان يتوجه عشاء(2) حيث يوجهه الله.
ومن طالع أخبارهم ودرس أشعارهم علم ذلك منهم ضرورة، فجاء الشرع بالأمر بهذه العبادات، وهى عندهم معلومة مفهوم المراد منها، من أن الصوم: إمساك مخصوص على أفعال مخصوصة بالنهار دون الليل، والاعتكاف: لزوم للتعبد والتبرز بمكان مخصوص، والحج: قصد مخصوص لبيت الله الحرام يشتمل على وقوف بعرفة وطواف بالبيت، ودعاء وذكر وتبرر، وأن الصدقة: بذل المال للمحتاج، ثم سميت زكاة لما فيها من زكاة المال ونمائه، أو زكاة صاحبه وتطهيره، كما قال تعالى:{ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها }، فإن لم تجد تسمية الزكاة الشرعية قبل معروفة فالصدقة معروفة، وقد(3) قال الأعشى في مدحه - صلى الله عليه وسلم -:
له صدقات ما تغبُّ ونائلُ
ومع هذا التقرير فلا مجال للخلاف مع الإنصاف، وقد طالعت بهذا الرأي أهل التحقيق من شيوخي، فما رأيت منهم منصفًا ردّه.
__________
(1) في (ط):" أخيه "، وفي (ح):" صواحبه مع أخيه ".
(2) قوله:" عشاء " ليس في (ح).
(3) قوله:" وقد " ليس في (ح).(2/352)
ثم اختلف الأصوليون والفقهاء من أصحابنا وغيرهم في ورود هذه الأوامر بهذه الألفاظ الشرعية كقوله:{ أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة }، و {كتب عليكم الصيام }، { ولله على الناس حجّ البيت }، { وأحل الله البيع وحرم الربا }، فقيل: هى مجملة تحتاج إلى بيان، وقيل: هى عامة تحمل على العموم إلا ما خصّ منها الدليل، وقيل: تحمل على أصل ما يتناوله اللفظ، واستقصاء هذا في علم الأصول.
وقوله: " كانوا(1) يتحينون الصلاة(2)"، أي: يقدرون حينها لياتوا إليها فيه، لا أنهم كانوا يتحينون وقت جواز صلاتها، فإن ذلك يعرف ضرورة معرفة(3) أوقاتها، والحين: الوقت من الزمان، وتشاورهم فيما يتخذون لها علمًا يجتمعون إليه يدل على ما قلناه، وفي ذلك: التشاور في الأمور المهمة كانت مما يتعلق بالدين أو بالدنيا. ويستدل به من يجيز اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشرعيات، لكن هذه بالمصالح أشبه ؛ لأن المقصد في ذلك اتفاقهم على شيء يكون علمًا لاجتماعهم لئلا يستضرون بالبكور إلى تحصيله قبل وقته وتتعطّل بذلك(4) معايشهم أو يتأخرون فتفوتهم الجماعة.
__________
(1) قوله:" كانوا " ليس في (ح).
(2) في (ط):" للصلاة ".
(3) في (ح) و(ط):" بمعرفة ".
(4) في (ط):" لذلك ".(2/353)
وذكر في الخبر أن عمر أشار عليهم بالنداء، وقال:" ألا تبعثون رجلاً ينادى بالصلاة، فظاهره أنه إعلام ليس على صفة الأذان الشرعي، ولكن إعلام بالصلاة كيف كان، كما جاء في الحديث الآخر عنه - صلى الله عليه وسلم -:« لقد هممت أن أبث رجالاً ينادون المسلمين لحين(1) الصلاة "، وفي الأحاديث الصحيحة غيره أنه من رؤيا عبد الله بن زيد، وأن عمر ذكر أنه رأى مثل ذلك، وقد ذكر أصحاب المسندات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم الأذان على صفته ليلة الإسراء، وفي حديث آخر ذكره أبو داود في "مراسيله" وغيره: أن عمر لما رأى الأذان في المنام أتى ليخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد جاء(2) الوحى بذلك فما راعه إلا بلال يؤذن، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -:« سبقك بذلك الوحي »، وذكر في غير "الأم" كراهة النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أشاروا به من الناقوس والبوق والنار وتعليل ذلك؛ لأنه فعل غيرهم ممن تقدمهم من أهل الملل.
وقوله:« قم يا بلال فناد بالصلاة »: حجة لشرع الأذان والقيام له، وأنه لا يجوز أذان القاعد عند العلماء إلا أبا ثور فأجازه، وبه قال أبو الفرج من أصحابنا، وأجازه مالك وغيره لعلّة به إذا أذن لنفسه، إذ المقصود من الأذان الإعلام وهو معنى(3) الأذان، ولا يتأتي من القاعد. ومضمن الإعلام فيه لثلاثة أشياء: لدخول الوقت، والدعاء(4) للجماعة ومكان صلاتها، ولإظهار شعائر(5) الإسلام، وأن الدار دار إسلام.
__________
(1) في (أ) و(ط):" بحين ".
(2) في (ط):" جاءه ".
(3) في (ط):" بمعنى ".
(4) في (أ) و(ط):" للدعاء ".
(5) في (أ) و(ط):" شعار ".(2/354)
وقد يحتج داود والأوزاعي ومن قال قولهما أن الأذان للصلاة فرض بأمره - صلى الله عليه وسلم - لبلال بالأذان، إذا سلمنا حمل الأوامر على الوجوب، لكن هذا في الأوامر المطلقة المجردة عن القرائن فهى المختلف فيها، وأما هنا فالقرينة معلومة، وهو تشاور الناس ورغبتهم أن يجعلوا لصلاتهم علمًا، وكون هذا عن رأى عمر أو رؤيا(1)، وكل هذا قرائن تبعد الوجوب وتشهد أنه سنة للصلاة، وهو مذهب مالك وجمهور الفقهاء(2).
__________
(1) في (ح):" رؤياه ".
(2) في (ح):" العلماء " بدل:" ألفقهاء".(2/355)
واختلف المذهب في أذان الجمعة أهو فرض أم سنة ؟ [ ولكونه فرضًا(1) قال الإصطخري ](2): واختلف في الأذان على الجملة فظاهر قول مالك في "الموطأ" أنه على الوجوب في الجماعات والمساجد، وقال به بعض أصحابنا، وأنه فرض على الكفاية، وهو قول بعض أصحاب الشافعي، وقال الأوزاعي وداود في آخرين: هو فرض ولم يفصلوا، وروى الطبري عن مالك إن ترك أهل مصر الأذان عامدين أعادوا الصلاة، وذهب جمهور الفقهاء(3) ومعظم أصحابنا إلى أنه سنة مؤكدة(4). والأول هو الصحيح(5)؛ لأن إقامة السنن الظاهرة واجب على الجملة حتى لو ترك ذلك أهل بلد لجوهدوا حتى يقيموها. وقال أبو عمر بن عبد البر: لم يختلفوا أن الأذان واجبٌ في الجملة على أهل المصر لأنه شعار الإسلام، قال بعض شيوخنا: أما لهذا الوجه ففرض على الكفاية، وهو أكثر مقصود الأذان، إذ كان - صلى الله عليه وسلم - إذا غزا فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار، فإذا قام به على هذا واحدٌ في المصر وظهر الشعار، سقط الوجوب وبقي المعنى الثاني بتعريف الأوقات، وهو المحكي الخلاف فيه عن الأئمة، والذي اختلف لفظ مالك وبعض أصحابه في إطلاق الوجوب عليه، فقيل: معناه: وجوب السنن المؤكدة كما جاء في الجمعة والوتر وغيرهما. وقيل: هو على ظاهره من الوجوب على الكفاية، إذ معرفة الأوقات فرض وليس كل أحد يقدر على مراعاتها، فقام به بعض الناس عن بعض، وتأول هذا قول الآخرين سنة، أي ليس من شرط صحة الصلاة كقولهم في ستر العورة وإزالة لنجا سة.
__________
(1) في (ح):" واجبًا ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(3) في (أ):" بعضهم " مكان:" جمهور العلماء".
(4) قوله:" مؤكدة " ليس في (أ).
(5) في (ح):" أصح ".(2/356)
واختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بلالا وعدوله عن ابن زيد، الذي رأى الرؤيا، وقد كان رغب في أن يؤذن هو على ما جاء في المصنفات للعلة التى ذكرها - صلى الله عليه وسلم - في قوله: « فإنه أندى منك صوتا »، قيل: أرفع، ويحتمل أن يكون معناه: أحسن، وفي بعض الروايات:« إنك فظيع الصوت »، ففيه أنه يختار للأذان أصحاب الأصوات الندية المستحسنة، ويكره من(1) ذلك ما فيها(2) غلظ وفظاعة، أو تكلف وزيادة(3)، ولذلك قال عمر بن عبدالعزيز:" أذّن أذانًا سمحًا، وإلا فاعتزلنا، وروي عن الأنصار أن عبد الله بن زيد كان يومئذ مريضًا، ولولا ذلك لجعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤذنًا، وهذا منهم تأويل وإلا فقد أبان - صلى الله عليه وسلم - العلة، وقد جعل ابن زيد يقيم بقوله:" أقم أنت... " في الحديث الآخر، وجاء في غير "الأم ".
وقوله:" أمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة(4)"، أي: يثنيه، على(5) هذا جمهور أئمة الفتوى والناس اليوم في أقطار الدنيا(6)،[ إلا قوله آخرًا:" لا إله إلا الله"، فلا خلاف بين الأئمة(7) في إفراده في الأذان والإقامة، ويدل على ذلك قول أبي محذورة: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة، ثم فسر ذلك في آخره:" لا إله إلا الله " مرة واحدة، وبذلك تصح العدة وترًا. ورواية أبي محذورة هذه على تثنية الأذان والإقامة، ولم يختلف حديثه ولا حديث غيره في إفراد:" لا إله إلا الله" آخرًا ](8)، وقد روى فيه عن السلف خلاف شاذ في إفراده وفي تثنيته، والخلاف بين الفقهاء في الترجيع نذكره بعد إن شاء الله تعالى.
__________
(1) في (ح) و(ط):" في ".
(2) في (ط):" فيه "، وفي (ح):" كان فيه ".
(3) في (ح):" أو زيادة ".
(4) قوله:" يوتر الإقامة " ليس في (أ) و(ط).
(5) قوله:" على " ليس في (ط).
(7) في (ط):" الأمة ".
(8) مابين المعكوفين ليس في (أ).(2/357)
وقوله:" يُنوِّروا نارًا "، وفي الرواية الأخرى:" يوروا نارًا "، هما قريبان، فيوروا بمعنى: يوقدوا ويشعلوا، يقال: أوريت النار إذا اشعلتها. قال الله تعالى:{ أفرأيتم النّار التي تورون }، وينوّروا بمعنى: يظهروا نورها ويبينوه ليجتمع(1) إليه.
وقوله: " ويوتر الإقامة "، أي: يفردها، قال الإمام: المشهور عن مالك: إفراد الإقامة ؛ لأنه المعمول به بالمدينة، وعند الشافعي: أنها مثنى، يقول المؤذن: قد قامت الصلاة - مرتين - وهو عمل أهل مكة، وروي عن مالك رواية شاذة مثل قول الشافعي هذا.
__________
(1) في (ح):" ليجتمعوا ".(2/358)
قال القاضي : ووافق(1) الشافعي وأحمد وإسحاق(2) مالكًا في سائر الكلمات أنها مفردة(3) إلا هذه،[ ولم يختلفوا في تثنية التكبير في الإقامة(4) كالكلمة الواحدة](5)، وقد ذكر مسلم من حديث أيوب في هذا الحديث قوله: " إلا الإقامة " معناه: ويوتر الإقامة إلا الإقامة، أي: قوله:" قد قامت الصلاة "، وهى حجة الشافعي والثوري، والكوفيون يشفعون الإقامة كلها ويجعلون التكبير الأول أربعًا كالأذان، وهو قول بعض السلف، والجمهور على وترها، وورد تشفيعها في حديث أبى محذورة من رواية همام عن عامر الأحول، ومن رواية مسدد عن الحارث بن عبيد، والمعروف من حديث أبى محذورة، وسائر الأحاديث إفراد الإقامة كلها، وزيادة أيوب:" إلا الإقامة " فقد قيل: هى من قوله لا من الحديث وقد اختلف على أيوب في ذلك أيضًا، فلم(6) يذكر وهيب عنه:" إلا الإقامة "، وقد رويت أيضًا في حديث عبد الله ابن زيد، وإن صحت من حديثه فزيادة الواحد - وإن كان ثقة حافظًا - إذا خالفه جماعة الحفاظ مردودة، لا سيما وعمل أهل المدينة ومكة بالنقل المتواتر الذي لا يدخله شك خلف عن سلف، لا يكاد يخفى عن أحد منهم خمس مرات كل يوم بمحضر جماهيرهم، وأنها سنة بينهم(7)، ولو غيّر ذلك عن حاله لنقل تغييره(8) كما نقل تأخير الخطبة والأذان الثاني وغير ذلك. وحكم الإقامة عند مالك والشافعي وكافة الفقهاء أنها سنة مؤكدة، وأنه لا إعادة على تاركها، وعند الأوزاعي وعطاء ومجاهد وابن أبي ليلى أنها واجبة وعلى من تركها الإعادة، وبه قال أهل الظاهر، وروى أيضًا عندنا إعادة الصلاة لمن تركها عمدًا، فحمله(9) بعض
__________
(1) في (ح):" وافق ".
(2) قوله:" وأحمد وإسحاق " ليس في (أ).
(3) قوله:" أنها مفردة " ليس في (أ).
(4) بعدها بمقدار كلمة بياض في (ط).
(5) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(6) في (ح):" ولم ".
(7) في (ح):" نبيهم ".
(8) في (ح):" تغيير ذلك ".
(9) في (ح):" فجعله ".(2/359)
المتأخرين على القول بوجوبها وليس بشىء، إذ لو كانت واجبة لاستوى فيها العمد والنسيان، وكافة شيوخنا قالوا: إنما ذلك لأن الاستخفاف بالسنن وتركها عمدًا يؤثر في الصلاة، وفى هذا أيضًا نظر لأنها سنة خارجة عن الصلاة منفصلة(1) غير متصلة.
وذكر مسلم في تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - الأذان لأبي محذورة التكبير أولاً مرتين، كذا(2) في أكثر الأصول وروايات جماعة شيوخنا، ووقع في بعض طرق الفارسى " الأذان(3) أربع مرات "، وكذلك اختلف في أذان عبد الله بن زيد فروي فيه " التكبير أربع مرات "، وروي ثنتان، وبالتربيع قال الشافعي(4): وحجته(5) رواية التربيع وعمل أهل مكة، وبالتثنية قال مالك(6): وحجته رواية التثنية، ونقل أهل المدينة المتواتر خلف(7) عن سلف عن أذان بلال للنبى - صلى الله عليه وسلم - وهو آخر أذانه، والذي(8) توفي عليه - صلى الله عليه وسلم -، والحجة بهذا النقل قطع ضروري، وقد رجع إليه المخالف عند مشاهدته له وسلمه.
__________
(1) في (ح):" ومنفصلة ".
(2) في (ط):" هكذا ".
(3) في حاشية (ح):" أظنه التكبير".
(4) في (ح) و(ط):" وأبو حنيفة وأبو يوسف ".
(5) في (ح):" حجتهم ".
(6) بعده في (ط) و(ح):" وأبو يوسف آخرًا ".
(7) في (ح) و(ط):" خلفا ".
(8) في (ح):" قال والذي ".(2/360)
وذكر مسلم الترجيع والعود إلى الشهادتين مرتين آخرتين(1)، وبهذا قال مالك والشافعي، وجمهور العلماء على مقتضى حديث أبى محذورة واستمرار عمل أهل المدينة وتواتر نقلهم عن أذان بلال، وذهب الكوفيون إلى ترك الترجيع على ما جاء في حديث عبدالله بن زيد أول أمر(2) الأذان، وما استقر عليه العمل وكان آخر الفعلين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى. وذهب أهل الحديث أحمد وإسحاق بن راهويه(3) والطبري وداود إلى التخيير في الفعلين، على أصلهم في الأحاديث إذا صحت واختلفت ولم يعرف المتأخر من المتقدم، أنها(4) للتوسعة(5) والتخيير، وقد ذكر نحو من هذا(6) عن مالك.
ولم يذكر مسلم في روايته رفع الصوت ولا خفضه، وقد اختلفت الرواية فيه عن أبى محذورة في غير كتاب مسلم في مصنف أبى داود وغيره من رواية ابنه(7) عبد الملك:" أمره برفع الصوت في التكبير وخفضه في التشهدين، ثم يرفعه في الترجيع بالشهادتين "، ومن رواية ابن محيريز لم يذكر خفض الصوت ولا رفعه ولكن قال في الترجيع:" ثم ارجع فمدّ من صوتك، فظاهره أن الحال في التكبير والتشهدين أولاً سواء، وقد اختلف النقل عن مالك بالوجهين، والمشهور عنه رفع الصوت بالتكبير، وأن الخفض والقصر منه إنما هو في التشهدين، وبه عمل الناس، وقد اختلف عليه في تأويل قوله في "المدونة" بالوجهين، ولكن لا ينتهى الخفض لحد يخرج عن الإعلام، وإنما يكون أخفض(8) من غيره.
__________
(1) في (ح):" مرتبن ".
(2) في (ح):" أوامره ".
(3) قوله:" بن راهويه " ليس في (أ) و(ط).
(4) في (ح):" أنهما ".
(5) في (ح):" للسعة ".
(6) في (ط):" نحوه في هذا الأصل ".
(7) في حاشية (ح):"أبيه".
(8) في (ح) و(ط):" أغض ".(2/361)
ولم يذكر مسلم:" الصلاة خير من النوم ". وذكره أبو داود وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له حين علّمه الأذان:« فإذا كنت في صلاة الصبح فقل:الصلاة خير من النوم »، مرتين، وهو مشروع في الصلاة، وبه قال جمهور العلماء إلا أبا حنيفة.
واختلف في ذلك قول الشافعي،[ وحكى القزويني عن أبي حنيفة مثل قولنا ](1)، وحجتهم: أنه لم يرد في الأحاديث الأخر، والنقل المتواتر أصبح حجة مع صحّة الرواية به، ومالك يرى تثنيته كسائر كلمات الأذان، وابن وهب يفرده، وهو معنى قوله في الحديث الآخر:« فإذا ثوب بالصلاة أدبر »" عند كثير من الشارحين.
وقوله:" كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤذنان بلال وابن أم مكتوم الأعمى(2)" يعني في وقت واحد، وإلا فقد كان له - صلى الله عليه وسلم - غيرهما، أذن له أبو محذورة بمكة، ورتبه لأذانها، وسعد القرظ أذّن للنبي - صلى الله عليه وسلم - بقباء ثلاث مرات وقال له: « إذا لم تر بلالاً فأذن »، ولكن هذان لزما الأذان له معًا بالمدينة.
وفيه جواز اتخاذ مؤذنين فأكثر لصلاة واحدة، يؤذنان(3) مجتمعين أو مفترقين، إلا في ضيق الوقت فلا بأس بأذانهم مجتمعين. وفيه جواز أذان الأعمى إذا كان معه ثقة ممن يعلمه بالأوقا ت.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - للذى سمعه يقول: الله أكبر الله أكبر:« على الفطرة »:، أي: على الإسلام، إذ كان الأذان شعارهم، ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - إذا سمع أذانًا أمسك وإلا أغار ؛ لأنه كان فرق ما بين بلد الكفر وبلد الإسلام.
وقوله: حين سمعه قال: لا إله إلا الله:« خرجت من النار »: يريد بتوحيده وصحة إيمانه، فإن ذلك منجّ من النار.
وقوله:" فإذا هو راعي معزى ": حجة في جواز أذان المنفرد البادي، وهو مستحبٌ في حقه مرغب له في ذلك.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(2) قوله:" الأعمى " ليس في (أ) و(ط).
(3) في (ط):" يؤذنون ".(2/362)
وقوله:« إذا سمعتم النداء(1) فقولوا مثل ما يقول المؤذن(2)»، قال الإمام: اختلف الناس في المصلي، هل يحكي المؤذن إذا سمعه وهو في الصلاة ؟ فقيل: يحكيه في الفريضة والنافلة، وقيل: لا يحكيه فيهما، وقيل: يحكيه في النافلة خاصة، فمن رأى أن الشغل بالصلاة أولى لم(3) يحكه، ومن قال: يحكيه فيهما قدم الأخذ بعموم الحديث، ومن قال: يحكيه في النافلة فلأن الأمر فيها أخف من الفريضة.
قال القاضي: الثلاث مقالات في مذهبنا، ويمنع ذلك بالجملة أصحاب(4) أبي حنيفة، وأجازه الشافعي في النافلة، واختلف إذا حكاه في الصلاة في جميعه، وقال: حى على الصلاة، هل تفسد صلاته أم لا ؟ والقولان فيهما في مذهبنا، وبفسادها قال الشافعي في النافلة والفريضة، وحكى الطحاوي أنه اختلف في حكمه، فقيل: واجب، وقيل: مندوب وهو الصحيح، والذي عليه الجمهور، واختلف هل يلزم هذا عند سماع كل مؤذن ؟ أم لأوّل مؤذن فقط ؟ واختلف في الحد الذي يحكي فيه المؤذن هل إلى التشهدين الأولين ؟ أم الآخرين ؟ أم لآخر الأذان ؟ ونقل القولان عن مالك، ولكنه في القول الآخر إذا حيعل المؤذن فيقول السامع: لا حول ولا قوة إلا بالله، وكذا جاء في الحديث في "الأم" بعد هذا في فضل الحاكي للمؤذن، ووجه الأول أنه يحكيه فيما فيه ذكر وشهادة لله وثناءٌ عليه، وما بعد ذلك دعاء وإعلام، وتكرار لما قد حكى وقال مثل قوله فيه، وقال الشافعي بحكايته في الجميع، وقال بعض أصحابنا: بل إلى ترجيع التشهدين، وقيل: بل لا يلزمهالحكاية إلا في التشهدين، أولاً فقط..
__________
(1) في (ح):" المؤذن ".
(2) قوله:" المؤذن " ليس في (ح).
(3) في (ح):" قال لم ".
(4) في (ط):" يقول أصحاب ".(2/363)
قال الإمام: الحيعلة ها هنا: الدعاء إلى الصلاة، والأجر في الدعاء يحصل لمن يسمع، فيصح أن يكون - صلى الله عليه وسلم - أمر من يحكي المؤذن أن يجعل الحوقلة موضع الحيعلة ليكون له من الأجر نحو ما فاته من أجر الإسماع ؛ لأن الذكر الذي أمره أن يحكيه في الأذان يحصل لمعلنه الأجر ولمخفيه الأجر، قال المطرز في كتاب "اليواقيت" وفي غيره: أن الأفعال التي أخذت من أسمائها سبعة، وهى: بسمل الرجل، إذا قال: بسم الله، وسبحل، إذا قال: سبحان الله، وحوقل، إذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وحيعل إذا قال: حى على الفلاح، ويجىء على القياس: الحيصلة، إذا قال:حى على الصلاة، ولم يذكره، وحمدل، إذا قال: الحمد لله، وهلل، إذا قال: لا إله إلا الله، وجعفل، إذا قال: جعلت فداك، زاد الثعالبى: الطبقلة، إذا قال: أطال الله بقاءك، والدمعزة، إذا قال: أدام الله عزك، قال غيره: قال ابن الأنباري: ومعنى: حي في كلام العرب: هلمّ وأقبل، والمعنى: هلمّوا إلى الصلاة واقبلوا، وفتحت الياء من حيّ لسكونها وسكون الياء التي قبلها، كما قالوا: ليت، ومنه قول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -:" إذا ذكر الصالحون فحي هلاً(1) بعمر(2)" معناه: أقبلوا على ذكر عمر - رضي الله عنه - قال: ومعنى حى على الفلاح هلموا إلى الفوز، يقال: أفلح الرجل إذا فاز وأصاب خيرًا، ومن ذلك الحديث الذي يروي:"استفلحني برأيك "، معناه: فوّزني، قال لبيد:
اعقلى إن كنت لما تعقلى ولقد أفلح من كان عقل
معناه: ولقد فاز، وقيل: معنى:" حي على الفلاح ": هلموا إلى البقاء، أي: أقبلو على سبب البقاء في الجنة، والفلح والفلاح عند العرب البقاء، قال الشاعر:
لكل همّ من الهموم سعه والْمُسيُ والصبح لا فلاح معه
أي: لابقاء معه ولاخلود. قال لبيدٌ:
لوكان حي مدرك الفلاح أدركه ملاعب الرماح
__________
(1) قوله:" هلاً" ليس في (ح).
(2) في (ح) زيادة:" ابن الخطاب ".(2/364)
وقوله عز وجل:{ وأولئك(1) هم المفلحون }، قيل: معناه: الفائزون، وقيل: الباقون في الجنة، والفلح والفلاح، أيضًا عند العرب: السحور.
قال القاضي: قوله: الحيصلة على قياس الحيعلة غير صحيح، بل الحيعلة تنطلق على " حي على الفلاح "، وعلى " حى على الصلاة "، كلها حيعلة، ولو كان على(2) قياسه في الحيصلة لكان الذي يقال في " حى على الفلاح ": الحيفلة - بالفاء - وهذا لم يقل، وإنما الحيعلة من قوله:حي على كذا، فكيف وهو باب مسموع لا يقاس عليه، وانظر قوله: جعفل، في: جعلت فداك، لو كان على قياس الحيعلة، لقال: جعلف، إذ اللام مقدمة على الفاء، وكذلك الطبقلة تكون اللام على القياس قبل الفاء والقاف.
__________
(1) في (أ) و(ح):" أولئك ".
(2) قوله:" على " ليس في (ط).(2/365)
وقوله:« سلوا لي الوسيلة، قال القاضي: فسرها في الحديث أنها منزلة في الجنة، قال أهل اللغة: الوسيلة: المنزلة عند الملك، وهى مشتقة - والله أعلم - من القرب، توسّل الرجل للرجل بكذا إذا تقرب إليه، وتوسل إلى ربه بطاعته تقرب إليه بها. وفيه(1) مع ما في غيره من الأحاديث الترغيب في الدعاء والذكر عند أذان المؤذن، وهى أحد مظان الإجابة، وفتح أبواب السماء، كما جاء في الحديث. وقوله:« فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة »، قيل: معنى:" حلت ": غشيته وحلت عليه، قاله المهلب: والصواب أن يكون " حلت " بمعنى: وجبت، كما قال أهل اللغة: حل يحل وجب، وحل يحل نزل، ويحتمل أن هذا مخصوصٌ لمن فعل ما حضَّه - صلى الله عليه وسلم - عليه، وأتى بذلك على وجهه وفي وقته وبإخلاص وصدق نية، وكان بعض من رأيناه(2) من المحققين يقول: هذا ومثله في قوله:« من صلى على صلاة صلى الله عليه عشرًا »، هو - والله أعلم - لمن صلى عليه محتسبًا مخلصًا قاضيًا حقه بذلك، إجلالاً لمكانه وحبًّا فيه، لا لمن قصد بقوله ودعائه ذلك(3) مجرد الثواب، أو رجاء الإجابة لدعائه بصلاته عليه والحظ لنفسه، وهذا فيه عندي نظر.
__________
(1) في (ح):" وهي فيه ".
(2) في (أ):" رأينا ".
(3) في (ح):" قوله ذلك ".(2/366)
وقوله:« إذا قال المؤذن: الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر...، الحديث إلى قوله:« فإذا قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة »؛ لأن في حكايته لما قال المؤذن من التوحيد والإعظام، والثناء على الله، والاستسلام لطاعته، وتفويض الأمور إليه بقوله عند الحيعلتين: لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم(1)، وإذ هى دعاء وترغيب(2) لمن سمعها، فإجابتها لا تكون بلفظها بل بما يطابقها من التسليم والانقياد، بخلاف إجابة غيرها من الثناء والتشهدين بحكايتهما، وإذا حصل هذا للعبد فقد حاز حقيقة الإيمان وجماع الإسلام واستوجب الجنة، وكذلك مضمن الحديث الآخر في القول عند أذان المؤذن:" رضيت بالله ربًّا..." الحديث، ومثل هذا من التصريح بحقيقة الإيمان والاعتراف بقواعده.
__________
(1) قوله:" العلي العظيم " ليس في (ح) و(ط).
(2) في (ط):" ترقب ".(2/367)
واعلم أن الأذان كلمات جامعة لعقيدة الإيمان ومشتملة على نوعيه من العقليات والسمعيات، فابتدأ بإثبات الذات بقوله:" الله (1)" وما يستحقه(2) من الكمال والتنزيه عن أضدادها المضمنة تحت قولك:" الله أكبر "، فإن هذه اللفظة على قلة كلمها واختصار صيغتها مشعرة بما قلناه لمتأمّله، ثم صرّح بإثبات الوحدانية والإلهية ونفي ضدها من الشركة المستحيلة في حقه، وهذه هي(3) عمدة الإيمان والتوحيد المقدمة على سائر وظائفه، ثم ابتدأ بإثبات النبوة لنبينا - صلى الله عليه وسلم - ورسالته لهداية الخلق ودعائهم إلى الله، إذ هى تالية(4) الشهادتين، وموضعها من الترتيب بعد ما تقدم لأنها من باب الأفعال الجائزة الوقوع، وتلك المقدمات من باب الواجبات، وهنا كمل تراجم العقائد العقليات فيما يجب ويستحيل ويجوز في حقه تعالى، ثم دعا إلى ما دعاهم إليه من العبادات فصرح بالصلاة ثم رتبها بعد إثبات النبوة، إذ معرفة وجوبها من جهته - صلى الله عليه وسلم - لا من جهة العقل، ثم الحث والدعاء إلى الفلاح وهو البقاء في النعيم. وفيه الإشعار بأمور الآخرة من البعث والجزاء - وهى آخر تراجم العقائد الإسلامية -، ثم تكرر ذلك عند إقامة الصلاة للإعلام بالشروع فيها للحاضر(5) ومن قرب، وفي طي ذلك تأكيد الإيمان وتكرار ذكره عند الشروع في العبادة بالقلب واللسان(6)، وليدخل المصلى فيها على بينة(7) من أمره وبصيرة من إيمانه، ويستشعر عظيم ما دخل فيه وعظيم حق من عبده، وجزيل ثوابه على عبادته.
__________
(1) في (ح):" الله أكبر ".
(2) في (أ):" تستحقه".
(3) قوله:" هي" ليس في (أ).
(4) في (ح) و(ط):" ثانية ".
(5) في (أ) رسمت هكذا:" للحاظر ".
(6) في (أ):" في القلب أو اللسان ".
(7) في (أ):" نيَّة ".(2/368)
وقوله:« المؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة »، قال الإمام: اختلف(1) في تأويل هذا، فقيل: معناه: أطول الناس تشوفًا إلى رحمة الله ؛ لأن المتشوف يطيل عنقه لما يتشوف إليه، فكني عن كثرة ما يرونه من ثوابهم بطول أعناقهم، وقال النضر بن شميل: إذا ألجم الناس العرق يوم القيامة طالت أعناقهم لئلا يغشاهم ذلك الكرب، قال يونس(2) بن عبيد: معناه: الدنو من الله، وهذا قريب من الأول الذي ذكرناه، وقيل: معناه: أنهم رؤساء، العرب تصف السادة بطول الأعناق، قال الشاعر: طوال أنضية الأعناق واللمم(3)، وقيل: معناه: أكثر أتباعًا، وقال ابن الأعرابى: معناه: أكثر الناس أعمالاً، وفي الحديث:« يخرج عنق من النار »، عنق(4)؛ أي: طائفة، يقال: لفلان عنق من الخير، أي: قطعة. ورواه بعضهم:" إعناقا "، أي: إسراعًا إلى الجنة، من سير العنق، قال الشاعر:
ومن سيرها العنق الْمُسْبَطِر والعجز فِيَّهٌ بعد الكلال
والعجز فِيَّةٌ: ضربٌ من السير، ومنه الحديث: " كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص "، ومنه الحديث الآخر(5):« لا يزال الرجل معنقًا ما لم يصب دمًا »، يعني: منبسطا في سيره يوم القيامة.
__________
(1) في (ح):" اختلف الناس ".
(2) في (ح) و(ط):" يوسف ".
(3) في (ط):" الأمم ".
(4) قوله:" عنق" ليس في (ح).
(5) قوله:" الآخر " ليس في (أ) و(ط).(2/369)
قال الإمام: قد احتج بهذا الحديث من رأي: أن فضيلة الأذان أكبر من فضيلة الإمامة، وفي ذلك اختلاف(1) بين العلماء، أيهما أفضل المؤذن أم الإمام ؟ واحتج من قال: إن الإمامة أفضل: بأنه كان - صلى الله عليه وسلم - يؤم ولم يكن يؤذن، وما كان - صلى الله عليه وسلم - ليقتصر على الأدنى(2) ويترك الأعلى، واعتذر عن ذلك بأنه(3) - صلى الله عليه وسلم - ترك الأذان لما يشتمل عليه من الشهادة له بالرسالة والتعظيم لشأنه، فترك ذلك إلى غيره، وقيل: إنما ترك ذلك لأن فيه الحيعلة، وهى الأمر بالإتيان إلى الصلاة، فلو أمر في كل صلاة بإتيانها لما استخف أحدٌ ممن سمعه التأخر وإن دعته الضرورة إليه، وذلك مما يشق، وقيل أيضًا: لأنه كان - صلى الله عليه وسلم - في شغل عنه بأمور المسلمين وعن مراعاة أوقاته، وقد قال عمر - رضي الله عنه -:" لو أطقت الأذان مع الْخُلَّيفي لأذنت "، والخليفي: الخلافة.
قال القاضي: ذهب أبو جعفر الداودي إلى معنى قول عمر في هذا، أنه في أذان الجمعة ؛ لأن الأذان إنما يكون بين يدى الإمام فيها، والإمامة للخليفة فلا يتفق له الأذان لذلك، هذا معنى كلامه.
وقوله في الشيطان:« إذا سمع النداء أحال وله ضراط »، مثل قوله في الحديث الآخر:« أدبر »، يقال : أحال إلى الشيء إذا أقبل إليه هاربًا، قال يعقوب: وأحال عليه: أقبل عليه.
__________
(1) في (ح) و(ح):" الاختلاف ".
(2) في (ط):" الأذان ".
(3) في (أ):" أنه ".(2/370)
وقوله (1):«وله حصاصٌ » بمعنى قوله في الحديث الآخر:« وله ضراطٌ »، وقد قيل: الحصاص شدة العدو، قالهما أبو عبيد، وقال عاصم بن أبي النجود: إذا صر بأذنيه ومصع بذنبه،[ بمعنى صر: إذا جمع أذنيه، ومصع: ضرب بذنبه ](2) وعدا فذلك الحصاص. وهذا يصح حمله على ظاهره، إذ هو جسم متغذ يصح منه خروج الريح، وقيل: يحتمل أنها عبارة واستعارة عن شدة الخوف والنفار كما يعترى ذلك(3) الحمار.
وهروب الشيطان عند النداء لعظيم(4) أمره عنده، وذلك - والله أعلم - لما اشتمل عليه من الدعاء بالتوحيد، واظهار شعار الإسلام، وإعلان أمره كما فعل يوم عرفة، لما رأي من اجتماع عباد الله على إظهار الإيمان، وما ينزل عليهم من الرحمة، وقيل(5): إنما يبعد لئلا يسمع تشهد ابن آدم فيشهد له بذلك كما جاء في الحديث:« لا يسمع مدى صوته جن ولا أنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة »، وقيل: هذا عموم المراد به الخصوص، وأن ذلك في المؤمنين(6) من الجن والإنس، وأما الكافر فلا شهادة له، وهذا لا يسلّم لقائله لما جاء في الآثار من خلافه، وقيل أيضًا: إن(7) هذا فيمن يصح منه الشهادة ممن يسمع، وقيل: هى عامة فيمن يسمع وفيمن لا يسمع من جماد، وأن الله تعالى يخلق لها حينئذ ولمن لا يسمع ممن لا يعقل من الحيوانات إدراكًا لأذانه وعقلا ومعرفة لما يشهد به، فهو على كل شيء قدير. وإلى معنى هذا ذهب ابن عمر لقوله للمؤذن:« يشهد لك كل رطب ويابس ».
وقيل: بل لما في ذلك من الدعاء للصلاة التي فيها السجود الذي بسبب تركه وعصيانه عنه لعن الشيطان. قال بعضهم: وهذا يردّه ما ذكر في الحديث أنه:« إذا قضى التثويب أقبل... »، وذكر وسوسته للمصلى.
__________
(1) في (ح) و(ط):" قوله ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).
(3) قوله:" ذلك " ليس في (أ) و(ط).
(4) في (ط):" لعظم ".
(5) في (ط):" وقيل بل ".
(6) في (ط):" المؤمن ".
(7) قوله:" إن" ليس في (ح).(2/371)
وقد لا يلزم هذا الاعتراض، إذ لعل نفاره إنما كان من سماع الأمر والدعاء بذلك لا برؤيته ليغالط نفسه أنه لم يسمع دعاء ولا خالف أمرًا. وقيل: بل ليأسه من وسوسة الإنسان عند الإعلان، وانقطاع طمعه أن يصرف عنه الناس(1)، حتى إذا سكت رجع لحاله التي أقدره الله عليها، من تشغيب خاطره ووسوسة قلبه.
وقوله:« حتى إذا ثوب بالصلاة »: قال الطبري: ثوب، أي: صرخ بالإقامة مرة بعد مرة ورجع، وكل مردد صوتًا بشيء فهو مثوب،[ ولهدا قيل للمرجع صوته بالأذان بقوله:" الصلاة خير من النوم(2)": مثوب ](3)، وأصله من ثاب إلى الشيء إذا رجع، قال غيره: وإنما قيل لقوله:" الصلاة خير من النوم" تثويبًا(4)؛ لأنه راجع إلى معنى ما تقدم من قوله "حى على الصلاة، حى على الفلاح "، وقيل: لتكراره له مرتين. قال الخطابي: التثويب: الإعلام بالشىء ووقوعه، وأصله: أن الرجل إذا جاء(5) فزعًا لوح بثوبه، وقال ابن نافع: معناه: إذا نودى لها، وقال الهروي: التثويب أيضًا الإقامة، وقال عيسى بن دينار: معناه: أقيمت الصلاة، وهذا أصح التفسير بدليل قوله في "الأم" في هذا الحديث من رواية ابن أبي شيبة:« فإذا سمع الإقامة ذهب »، ولما جاء في الحديث الآخر:« إذا ثوب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون »، ويروى:"أقيمت الصلاة ".
__________
(1) في (ط):" الياس"، وفي (أ) غير منقوطة.
(2) في (ح) زيادة:" مرتين ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(4) في (ح) و(ط):" مثوبًا ".
(5) قوله:" جاء " ليس في (ح).(2/372)
وقوله:«" حتى يخطر بين المرء ونفسه »، قال الباجي: معناه: يمر(1) فيحول بين المرء وما يريد من نفسه من إقباله على صلاته وإخلاصه، وعلى هذا رواه أكثرهم بضم الطاء، وضبطناه عن أبي بحر(2) بكسرها، من قولهم: خطر البعير بذنبه إذا حركه، وكأنه(3) يريد حركته بوسوسة النفس وشغل السر.
وقوله:« حتى يظل الرجل إن يدري كم صلى »، يعني: يصير، قال الله تعالى:{ ظل وجهه مسودًا }، كذا رويناه عن شيوخنا بالظاء، وقيل: " يظل " بمعنى: يبقى ويدوم، وأنشدوا عليه(4):
ظللت ردائي فوق رأسي قاعدًا
وحكى الداودي أنه روى: يضل بالضاد بمعنى: ينسى ويذهب وهمه(5)، قال الله تعالى:{ أن تضلّ إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى }.
وقوله:« إن يدري كم صلى » رويناه بكسر الهمزة عن أكثرهم(6)، ومعناه: ما يدري، ويروى:" أن يدرى " بفتحها، وهى رواية أبي عمر بن عبد البر، وقال: هى رواية أكثرهم، وقال: ومعناها(7): لا يدري، وكذا ضبطها الأصيلي في "كتاب البخاري"، ولا يصح تأويل النفي وتقدير لا مع الفتح، وإنما يكون بمعنى ما، والنفى مع الكسر.
وقد روي هذا الحديث في "كتاب مسلم" في رواية قتيبة بالتفسيرين معًا: " لا يدري، وما يدري، وفتحها لا يصح إلا على رواية من روى: " يضل " بالضاد، فيكون "إن " مع الفعل بعدها بتأويل المصدر ومفعول ضل، أي: يجهل درايته وينسى عدد ركعاته.
__________
(1) قوله:" معناه يمر " ليس في (ح)و(ط).
(2) في (ط) زيادة:" يخطب "، وكذا في حاشية (أ).
(3) في (ح) و(ط):" فكأنه".
(4) قوله:" عليه " ليس في (ح).
(5) في (ح):" ذهنه ".
(6) في (ح):" قال أكثرهم ".
(7) في (ح):" قال ومعناه ".(2/373)
وقوله: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي منكبيه وقبل أن يركع، واذا رفع من الركوع ولا يرفعهما بين(1) السجدتين، قال الإمام: اختلف قول مالك في الرفع عند الركوع والرفع منه، وإنما قال باسقاطه مع صحة الرواية ؛ لما وقع في ظواهر أخر يدل(2) على إسقاطه ؛ ولأن رواية سالم عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواية نافع موقوفة على ابن عمر.
قال القاضي: أما رواية سالم عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا مطعن في اتصالها ورفعها عن(3) النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا علة فيها عند أهل صنعة الحديث، قال أبو عمر: حديث ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا، حديث لا مطعن فيه لأحد من أهل العلم بالحديث.
__________
(1) في (ح):" ما بين ".
(2) في (ح):" ما يدل ".
(3) في (ح):" إلى ".(2/374)
وقد اختلف العلماء في الرفع في الصلاة، والمعروف من عمل الصحابة ومذهب جماعة العلماء بأسرهم - إلا الكوفيين - الرفع في الصلاة(1) عند الافتتاح، وعند الركوع والرفع منه، وهى إحدى الروايات المشهورات عن مالك، وعمل بها كثير من أصحابه ورووها عنه، وأنه آخر أقواله، وروي عنه لا رفع إلا في الافتتاح - وهى أشهر الروايات عنه -، وهو مذهب الكوفيين على حديث ابن مسعود والبراء: " أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه عند الإحرام مرة لا يزيد عليها، وفي رواية أخرى:" ثم لا يعود "، وروي عنه في المختصر الرفع في موضعين عند الافتتاح وعند الرفع من الركوع على ما ذكر(2) في حديث ابن عمر في "موطئه" من رواية جماعة من رواة "الموطأ" لم يذكروا فيه الرفع عند الركوع، وجماعة من الرواة ذكروه، وروي عنه:" لا رفع في أول الصلاة ولا في شيء منها، ذكره ابن شعبان وابن خويزمنداد وابن القصار، وهى أضعف الروايات وأشذها عنه، وتأولها بعضهم على تضعيفه الرفع في المدونة، وهذا على ظاهر ما جاء في بعض روايات أحاديث ابن مسعود: أنه - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه في أول الصلاة ثم لم يعد "، على أن هذا يحتمل عندي ما هو أظهر من الرفع أول الصلاة، ثم لم يعد له أثناءها، كما جاء في الرواية الأخرى مفسرًا، وذهب ابن وهب من أصحابنا إلى الرفع عند القيام من اثنتين، وقد خرجه البخاري في حديث ابن عمر "وإذا قام من الركعتين رفع يديه "، وذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك(3)، وذكره(4) أبو داود في حديث أبي حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروي عن بعض أهل الحديث الرفع عند السجود والرفع منه، وقد جاءت بذلك آثار لا تثبت. وليس هذا الرفع بواجب ولا شيء منه عند العلماء، إلا داود فأوجبه عند تكبيرة الإحرام،
__________
(1) قوله:" الصلاة" ليس في (أ) و(ط).
(2) في (ح):" ذكره ".
(3) في (ط):" هذا ".
(4) في (ط):" ذكره ".(2/375)
وخالفه بعض أصحابه فلم يوجبوه(1)، وقال بعضهم: هو واجب كله، قال بعض المتكلمين: كان شرع الرفع في أركان الصلاة أولاً علامة للاستسلام لقرب عهدهم بالجاهلية والإبائة عن الإسلام، فلما أنسوا بذلك واطمانت قلوبهم خفف عنهم وأبقى في أول الصلاة علامة على الدخول فيها لمن لا يسمع التكبير.
وقوله:" حتى يحاذي منكبيه "، وفي الحديث الآخر:" حتى يحاذى بهما أذنيه "، وفي الآخر:" فروع أذنيه "، وفي غير "كتاب مسلم": "فوق أذنيه مدًّا مع رأسه "، وفي رواية أخرى:" إلى صدره "، وبحسب هذه الأحاديث اختلف العلماء في الاختيار من فعلها، فذهب عامة أئمة الفتوى على(2) الحديث الأول:" يرفعها حذو منكبيه "، وهو أصح قولي مالك وأشهره، والرواية الأخرى عنه:" إلى صدره "، وذهب ابن حبيب إلى رفعهما حذو أذنيه.
وقد يجمع بين الأحاديث وبين الروايتين عن مالك بأن يكون مقابله أعلى صدره، وكفاه حذو منكبيه، وأطراف أصابعهما مع أذنيه، وإلى هذا ذهب بعض مشايخنا، ونحوه للشافعي إلا ذكر الصدر، وهو صفة ما جاء في الحديث، وتجتمع الأحاديث إلا في زيادة الرواية الأخرى:" فوق رأسه "، وقال بعضهم: هو على التوسعة [والتخيير، وهو مذهب أصحاب الحديث](3)، وذهب الطحاوي إلى أن اختلاف الآثار لاختلاف الحالات. وكما جاءت بها الروايات، فإلى صدره وحذو منكبيه أيام البرد، وأيديهم تحت أكسيتهم - كما جاء في الأثر - ومع آذانهم وفوق رؤسهم عند إخراجها. وفروع أذنيه، أي: أعاليها، وفرع كل شيء أعلاه، وقد روي عن ابن عمر أنه كان يرفع في الإحرام حذو منكبيه وفي غيره دون ذلك.
__________
(1) في (ح) و(ط):" يوجبه ".
(2) في (ح):" إلى ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ).(2/376)
واختلف أصحابنا في صفة رفعها(1)، فقيل: قائمتان، كما جاء في الأحاديث(2): "يمدها مدًّا "، وهو مذهب العراقيين من أصحابنا، وقيل: منتصبتان(3) بطونهما إلى السماء. وذهب بعضهم إلى نصبهما قائمتين، لكن تكون أطراف الأصابع منحنية(4) قليلاً، وقيل غير هذا. ثم اختلفت الرواية في وقت رفعها من الدخول في الصلاة، فجاء في بعضها:" كان(5) إذا كبّر رفع يديه "، وفي بعضها: "إذا افتتح الصلاة " و"إذا قام للصلاة(6) رفع يديه ثم يكبّر "، وهذا يشعر باستصحابها ومقارنتها، وجاء في حديث مالك بن الحويرث:"كان إذا صلى كبر ثم رفع يديه "، وكلها يشعر(7) أن الرفع مع التكبير ومقارن له أو مقارب(8)، حتى قد يمكن تقديم أحدهما أحيانا على الآخر وقبل كماله لا على ما يفعله العامة من رفع الأيدي كذلك، وهى في الدعاء والتوجه وتطويل ذلك، فذلك مكروه عند مالك وأهل العلم، وإن رخص فيه بعضهم عند الدعاء، فعلى غير هذه الصورة وبغير رفع، بل ببسط الأيدي وظهورها إلى السماء للرهب - كما جاء في الحديث -، ورخص بعضهم في كون بطونها للسماء، وقال: هذا الرغب، فيكون هذا وهما منخفضتان، فإذا أخذ في التكبير رفعهما ثم أرسلهما. ثم اختلف في معنى الرفع، فقيل: استكانة واستسلام وأنها صورة(9) المستكين المستسلم، وكان الأسير إذا غلب مد يديه علامة لاستسلامه، وقيل: استهوال لما دخل فيه، وقيل: لتمام القيام، وقيل: إشارة لطرح أمور الدنيا وراء ظهره، وإقباله بكليته على صلاته، ومناجاة ربه كما تضمن ذلك قوله: الله اكبر، فيطابق فعله قوله، وقيل: إظهار وإعلان(10)
__________
(1) في (ح):" رفعهما ".
(2) في (ح):" الحديث".
(3) في (ح):" منصبتان "، وفي (ط):" منصفتان".
(4) في (ط):" محنية ".
(5) قوله:" كان " ليس في (أ).
(6) في (ح):" إلى الصلاة ".
(7) في (ح):" مشعر ".
(8) في (ط):" ومقارنًا له أو مقاربًا ".
(9) في (ط):" لصورة ".
(10) في (ح) و(ط):" إظهارًا وإعلانًا ".(2/377)
بدخوله في الصلاة(1) عملاً(2) كما أظهرها بالتكبير قولاً، وليراه من لم يسمعه ممن يأتم به. وهذه المعانى كلها مشاكلة لمن رأى رفعها منتصبة وإلى أذنيه، وقيل: خضوعا ورهبا، وهذه مطابقة لصورة من نصبهما(3) أوحنى أطرافهما. وقد قيل في معناها(4) غير هذا من الأقاويل، وأظهرها ما ذكرناه، وقد جاء في الحديث من رواية يحيى بن اليمان:" أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كبّر للصلاة نشر أصابعه، قال الترمذى: أخطأ في ذلك يحيى ومن قال: رفع يديه مدًّا أصح(5).
__________
(1) قوله:" بدخوله في الصلاة " ليس في (ح).
(2) في حاشية (ح):" فعلاً ".
(3) في (ح) و(ط):" نصبها ".
(4) في (ح) و(ط):" معنى هذا ".
(5) قوله:" أصح " ليس في (أ) و (ح).(2/378)
وقوله:" كان إذا قام إلى الصلاة رفع يديه ثم كبر ": حجة في تعيين التكبير للإحرام، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:«" صلوا كما رأيتموني أصلي »، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - للذى علمه الصلاة:« إذا قمت فكبر »، والتحريم واجب عند مالك والثوري(1) والنخعي وربيعة وطاووس وأيوب، وهو قول ابن مسعود وعامة أئمة الفتوى والسلف إلا ما روي عن الزهري وابن المسيب والحسن والحكم والأوزاعي وقتادة في أن التكبير للإحرام سنة، وأنه يجزئ الدخول في الصلاة بالنية، وقد تأوله بعضهم على مالك في مسألة ناسي تكبيرة الإحرام والركوع وأنه يعيد احتياطًا على خلاف بين أئمتنا في تأويل المسألة يطول الكلام فيه، وعامتهم أيضًا على اختصاص التحريم بلفظ التكبير إلا أبا حنيفة وأصحابه عامة(2) فإنهم يجيزون الدخول بكل لفظ فيه تعظيم لله، وأجاز الشافعي: "الله الأكبر"، وأجاز أبو يوسف "الله الكبير"، ومالك لا يجيز إلا اللفظ المشروع: " الله أكبر " المعهود في عرف اللغة والشرع لا سواه. وقال بعض المتكلمين: الحكمة في ابتداء الصلاة بالتكبير إظهار شكر الله وحمده والثناء عليه على الهداية لها ولتوحيده وعبادته، وامتثالاً لأمره وخصَّه(3) لقوله تعالى: {ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون }، ثم طابق ذلك قراءته بعد في أول ما استفتح به القراءة بقوله:{ إهدنا الصراط المستقيم }، أي: ثبتنا على ذلك.
__________
(1) قوله:" مالك والثوري" ليس في (ح).
(2) قوله:" عامة " ليس في (ط).
(3) في (أ):" وحقه ".(2/379)
وقوله:" يكبّر كلما خفض ورفع، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك: هذا الأمر الثابت من فعله - صلى الله عليه وسلم -، والذي استقر عليه عمل المسلمين وأطبقوا(1) عليه، وقد كان من بعض السلف خلاف أنه لا تكبير(2) في الصلاة غير تكبيرة الإحرام، وبعضهم يجعل التكبير في بعض الحركات دون بعض ويرون أنها من جملة الأذكار لا من حقيقة الصلاة، وعلى الخلاف فيه يدل قول أبي هريرة: "إنى لأشبهكم صلاة بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال بعضهم: ليس بسنة(3) إلا للجماعة ليشعر الإمام بحركته من وراءه، ومذهب أحمد بن حنبل وجوب جميع التكبير في الصلاة، وعامة العلماء على أنه سنة غير واجب إلا بتكبيرة الإحرام(4)، ودليلهم تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي الصلاة، ولم يذكر له فيها تكبير الانتقالات وهو موضع غاية البيان.
وقوله: "يكبر كلما خفض ورفع ": دليل على مقارنة التكبير للحركات وعمارتها بذكرها، وعليه يدل أيضًا قوله:" سمع الله لمن حمده " حين يرفع صلبه من الركوع، وقوله:" ثم يكبّر حين يهوى ساجدًا "، وهو قول عامة العلماء، واستثنى مالك وبعضهم من ذلك التكبير عند القيام من الركعتين فلا يكبّر حتى يستوي قائمًا، وهو مذهب عمر بن عبد العزيز، قال مالك: وإن كبر هنا في نهوضه فهو في سعة.
وقول أبي سلمة لأبي هريرة حين كبر كلما خفض ورفع:"ما هذا ؟"، وقول عمران(5) بن الحصين حين صلى خلف على بن أبي طالب فكبر حين سجد ورفع:" لقد صلى بنا صلاة محمد - صلى الله عليه وسلم - "، يدل كله على ترك كثير منهم التكبير في الصدر الأول وكون الأمر عندهم في سعة.
__________
(1) في (ط):" وأصفقوا ".
(2) في (ط):" يكبر ".
(3) في (ط):" سنة ".
(4) في (ح) و(ط):" تكبير التحريم ".
(5) في (ط):" علي ".(2/380)
وبحسب هذا اختلف قول مالك في السجود للسهو منه(1)، هل يسجد لقليله وكثيره ؟ أم من كثيره(2)؟ أم لا سجود عليه فيه جملة ؟
وقوله: "ويكبر حين يقوم من المثنى "، يعني: من الاثنتين، أي: بعد ركعتين من الرباعية، قال الله تعالى:{ مثنى وثلاث ورباع }، و قد(3) قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:« صلاة الليل مثنى ».
وقوله في حديث أبي هريرة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:« سمع الله لمن حمده » حين يرفع صلبه من الركوع، ثم يقول وهو قائم:« ربنا ولك الحمد »، قال الإمام: إن كان أراد صلاة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها إمامًا، فذلك حجة للقول الشاذ عن مالك ؛ أنه كان يرى أن يقول الإمام اللفظين جميعًا: "سمع الله لمن حمده "، والمشهور عنه أنه يقتصر على قوله: "سمع الله لمن حمده "، [وحجته على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -:« فإذا قال: سمع الله لمن حمده ](4)، فقولوا: ربنا ولك الحمد »، ولم يذكر: ربنا ولك الحمد للإمام، وفي هذا التعلق نظر؛ لأن القصد بالحديث تعليم(5) المأموم ما يقول ومجمل(6) قوله له، ولا يعتمد على إسقاط ذكر ما يقول الإمام بذلك؛ لأنه ليس هو الغرض بالحديث، وعلى هذه الطريقة(7) جرى الأمر في اختلاف قول مالك في الإمام، هل يقول:" آمين " في الصلاة الجهر ؟ فقال في أحد(8) قوليه: لا يقولها ؛ لأنه قال - صلى الله عليه وسلم -:« إذا قال: ولا الضالين، فقولوا: آمين »، ولم يذكر أن الإمام يؤمن، وقال في القول الآخر: بل يؤمن ؛ لقول ابن شهاب: كان(9) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "آمين " ولحديث آخر، وفي التعليق
__________
(1) في (ح):" عنه ".
(2) قوله:" أم من كثيره " ليس في (ح).
(3) قوله:" وقد" ليس في (أ) و(ط).
(4) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(5) في (ح):" إنما هو تعليم ".
(6) في (أ):" يحمل "، وفي (ط):" محل ".
(7) في (ح):" الطريق ".
(8) في (ط):" آخر ".
(9) في (ط):" وكان ".(2/381)
أيضًا بقوله: «إذا قال: ولا الضالين، فقولوا: آمين » من التعقب ما قدمناه، وإنما قدمنا الكلام على حديث التأمين لارتباطه بما كنا فيه.
قال القاضي: الأظهر من خبر أبي هريرة عن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - عموم عمله وأكثره لطول صحبته له، وأكثر ما شاهد من صلاته إمامًا(1)، ولأنه وصف الصلاة الرباعية وهى من الفرائض وكان لا يصليها إلا إمامًا، ولأنه لو(2) اختلفت حالته فيما(3) صلاه إمامًا أو منفردًا لم يطلق الخبر عن بعض حالاته دون بعض، والقولان عن مالك كما ذكره(4) الإمام كما هى عند غيرنا في المأموم، وقد حكى هو الخلاف في المأموم، وأنه يقولهما معًا عند(5) ابن نافع وعيسى في كتابه "الكبير"، وحكاه الباجي عنهما، وعلى فعله اعتمد الشيخ، وعندي أنه تأويل خطأ عليهما(6) مما وقع لهما من قول مجمل، وهو: أن نص قول ابن نافع: يقول الإمام:" سمع الله لمن حمده "، ويقول: "ربنا ولك الحمد "، واذا قال: ولا الضّالين، يقول: آمين، ثم قال: فالإمام ومن وراءه(7) في هاتين المقالتين سواء. فظاهره عندي، أي في قول:" ربنا ولك الحمد "، وقول:" آمين " لا في(8):" سمع الله لمن حمده " و "ربنا ولك الحمد "، والله أعلم. وهى في المأموم أشد وأبعد لقوله - صلى الله عليه وسلم -:« وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد »، وقد حدَّ له ما يقول وما يبتدئ به، وأما الإمام فما يمنعه أن يقول ذلك ؟ وما الذي يفرق بينه وبين الفذّ ؟ وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قولها وزيادة أدعية وأذكار معها، ذكرها مسلم في الكتاب.
__________
(1) في (ط):" فإماما ".
(2) في (ح):" لو كان ".
(3) في (أ):" في ".
(4) في (أ) و(ط):" ذكر في ".
(5) في (ح):" عن ".
(6) في (ح):" وضع عليهما ".
(7) في (ح):" رواه ".
(8) قوله:" في " ليس في (ح).(2/382)
وقد حكى الإمام أبو عبدالله أيضًا الخلاف في المأموم، وأنه يقولهما معًا عن ابن نافع وعيسى في كتابه "الكبير"، وحكاه الباجي عنهما، وعلى نقله اعتمد الشيخ، وعندي أنه تأويل خطأ عليهما مما وقع عليهما من قول مجمل، وهو أن نص قول ابن نافع يقول الإمام:" ٍمع الله لمن حمده "، ويقول:"ربنا ولك الحمد"، وإذا قال:" ولا الضالين "، يقول:" آمين "، ثم قال: والإمام ومن وراءه في هاتين المقالتين سواء، فظاهره عندي ؛ أي في قول:" ربنا ولك الحمد "، وقول:" آمين " لا في "سمع الله لمن حمده" و "ربنا ولك الحمد".
وممن قال بقولهما معا الإمام الشافعي وأحمد ومحمد بن الحسن وصاحبه، [ وأبو حنيفة في رواية ](1)،[ وممن قال بقولهما معًا المأموم الشافعي ](2)، ووافق الليث وأبو حنيفة [في رواية عنه](3) مالكًا في مشهور قوله في اقتصار الإمام على:" سمع الله لمن حمده "، والمأموم على: "ربنا ولك الحمد"، [وكذلك وافقه أيضًا أبو حنيفة في رواية عنه: أن المنفرد يقولهما جميعًا ، وعن أبي حنيفة رواية أخرى في اقتصارها على قوله:" سمع الله لمن حمده"](4). وسنذكر معنى هذه الأذكار بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وقوله:« لا صلاة لمن لا(5) يقرأ بأم القرآن »، وفي رواية السمرقندي(6) في حديث أبي الطاهر:« لمن لم يقترئ القرآن »، والمحفوظ المشهور الرواية الأولى.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(2) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(5) في (ح) و(ط):" لا لم ".
(6) في (ط):" الترمذي ".(2/383)
قال الإمام: قوله:« لا صلاة » اختلف أهل الأصول في مثل هذا اللفظ إذا ورد في الشرع على ماذا يحمل ؟ فقال بعضهم: يلحق بالمجملات ؛ لأن نصه يقتضي نفي الذات ومعلوم ثبتها(1) حسًّا، فقد صار المراد مجهولاً، وهذا الذي قالوه خطأ ؛ لأن المعلوم من عادة العرب أنها لا تضع(2) هذا لنفي الذات، وإنما تورده مبالغة، فتذكر الذات ليحصل لها ما أرادت من المبالغة، وقال آخرون: بل يحمل على نفى الذات وسائر أحكامها وتخص الذات بالدليل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يكذب، وقال آخرون: لم تقصد العرب قط على(3) نفي الذات، ولكن لنفى أحكامها، ومن أحكامها الكمال والإجزاء في هذا الحديث، فيحمل اللفظ على العموم فيهما، وأنكر هذا لمحققون ؛ لأن العموم لا يصح دعواه فيما يتنافى، ولا شك أن نفي الكمال يشعر بحصول الإجزاء، فإذا قدّر الإجزاء منتفيًا بحق العموم قدّر ثابتًا بحق إشعار نفي الكمال بثبوته، وهذا تناقض، وما يتناقض لا يحمل الكلام(4) عليه، وصار المحققون إلى التوقيف بين نفي الإجزاء ونفي الكمال، وادّعوا الاحتمال من هذه الجهة لا مما قال الأولون، فعلى هذه المذاهب(5) يخرج قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:« لا صلاة..» الحديث.
قال القاضي: وفي هذا الحديث حجة لعامة القدماء أنه لا يقرأ في الصلاة بغير القرآن العربي، ولا تجزئ القراءة بالفارسية وغيرها من الألسن، خلافًا لأبي حنيفة وحده في إجازته ذلك ؛ إذا أتى بالمعنى، ولم يجز ذلك صاحباه ؛ إلا لمن لا يحسن العربية، واتفاق المسلمين قبله على ترك العمل بذلك يرد قوله.
وقوله:« من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهى خداج »:
__________
(1) في (ح):" إثباتها ".
(2) في (ط):" تضيع ".
(3) في (ح) و(ط):" إلى ".
(4) في (ط):" الكمال ".
(5) في (ح):" المذهب ".(2/384)
قال الإمام (1): قال الهروي وغيره: الخداج: النقصان، يقال: خدجت الناقة إذا القت ولدها قبل أوان النتاج، وإن كان تام الخلق، وأخدجته إذا ولدته(2) ناقصًا، وإن كان لتمام الولادة، ومنه قيل لذى الثدية: مخدج اليد، أي: ناقصها. قال أبو بكر: فقوله:« خداج »، أي: ذات خداج، فحذف ذات وأقام الخداج مقامه على مذهبهم في الاختصار،[ أويجوز أن يكون المعنى فيه: مخدجة، أي: ناقصة، فأحل المصدر محل الفعل، كما قالوا: عبد الله إقبال وإدبار يريدون: مقبل ومدبر ](3).
قال الإمام: فإذا ثبت أن المراد بقوله:"خداج "، أي: ناقصة فهذا يستدل به من حمل قوله:" لا صلاة "، في الحديث المتقدم(4) على نفى الكمال ؛ لأن إثبات النقص المراد به نفى الكمال.
قال القاضي: هذا مذهب الخليل وأبى حاتم والأصمعي، فأما الأخفش فعكس وجعل الإخداج قبل الوقت وإن كان تام الخلق، وقال غيرهم(5): خدجت وأخدجت إذا ولدت قبل تمام وقتها، وقبل تمام الخلق. ومعنى تسميتها:" أم القرآن "، أي: أصله، كما قيل لمكة: أم القرى(6)، وكره قومٌ تسميتها به ولا وجه لذلك مع صحّة الحديث بتسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - لها بذلك.
وقوله: "إنى أحيانًا أكون وراء الإمام "، فقال:« اقرأ بها في نفسك »: حمله بعض أصحابنا وجماعة من العلماء على ما أسر فيه الإمام، وحمله(7) آخرون على تذكر النفس لما يقرؤه الإمام وتدبّره، وشغل سره بتلاوته بقلبه بذلك لا بلسانه ؟ ليصح له تأمّل معانيه، وحملوا قوله:« لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب » على الإمام والفذ.
__________
(1) قوله:" قال الإمام " ليس في (أ) و(ح).
(2) في (ح):" ما في بطنها " بدل:" ولدها ".
(3) لي في النسخ (أ) و(ح) و(ط).
(4) قوله:" المقدم " ليس في (ح).
(5) في (أ):" غيره ".
(6) في (ح):" القرآن ".
(7) في (ط):" حملها ".(2/385)
وقد اختلف العلماء في القراءة في الصلاة، فذهب جمهورهم إلى وجوب أم القرآن للإمام والفذ في كل ركعة، وهو مشهور قول مالك، وعنه أيضًا أنها واجبة في جل الصلاة، وهو قول إسحاق، وعنه أيضًا(1) إنما تجب في ركعة، وقاله المغيرة والحسن، وعنه أنها لا تجب في شيء من الصلاة،[ فمن ترك عنده القراءة في صلاته فسدت صلاته، وروى الواقدي عن أهل المدينة أنها تجزئه، وذكر عن مالك نحوه ](2)، وهو أشد رواياته، وهو مذهب أبي حنيفة، إلا أن أبا حنيفة يشترط أن يقرأ غيرها من القرآن في جل الصلاة، وذهب الأوزاعي إلى أنها تجب في نصف الصلاة - وحكى عن مالك -، وذهب الأوزاعي أيضًا وأبو ثور وغيرهما إلى أنها تجب على الإمام والفذ والمأموم على كل حال، وهو أحد قولي الشافعي.
__________
(1) في (ح) و(ط):" أنها ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ).(2/386)
ثم اختلف بعد ذلك من لم يعين قراءة أم القرآن في الصلاة ما يجزيه من غيرها من القرآن ؟ بعد إجماعهم على أن لا صلاة إلا بقراءة في الركعتين الأولتين، إلا ما قاله الشافعي فيمن نسى القراءة في صلاته كلها، يجزيه ويعذر بالنسيان على ما روي عن عمر ولم يصح عنه، وقد أنكره مالك وقال: كيف يصح وخلفه(1) أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يذكرونه بذلك ؟ وقيل: معنى ما روي عنه من ترك القراءة ترك جهره بها، وقيل: لعل(2) ذلك كان في بعض صلاته لا في جميعها، إذ يبعد إطباقه(3) على تركها في جميع الصلاة وإطباق(4) من خلفه على ترك تنبيهه، وروى أن عمر أعاد، ثم رجع الشافعي عن هذا، وقال أبو حنيفة: يجزئ أن يقرأ من القرآن آية، وقال أصحابه: ثلاثًا، أو آية طويلة، وقال الطبري: سبع آيات بقدر أم القرآن من آيها وحروفها، وذهب أبو حنيفة إلى أن القراءة في الركعتين الأخرتين لا تجب، وقاله الثوري والأوزاعي، وخالفهم الجمهور فأوجبوها على اختلاف مذاهبهم فيما تقدم، وحكى ابن الموَّاز(5) عن ابن أبي سلمة وربيعة وعلى بن أبي طالب أن القراءة في الصلاة ليست من فروضها، وإليه ذهب محمد بن أبي صفرة وتأوله على بعض روايات كتاب محمد، وحكى الداودي عن علي وابن أبي سلمة وطائفة أن فرض القراءة مع الذكر، وأما الناسي فيجزؤه القيام والركوع والسجود على حديث عمر.
__________
(1) في (أ) و(ط):" وخالفه ".
(2) قوله:" لعل " ليس في (أ).
(3) في (أ) و(ط):" إصفاقه ".
(4) في (أ) و(ط):" إطباق ".
(5) في (ح):" الموان ".(2/387)
وقوله:« قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين(1)... » الحديث، وذكر قراءة أم القرآن وقسمتها، فأطلق اسم الصلاة على قراءة أم القرآن إذا كانت لا تتم إلا بها، ففيه حجة في تعيينها في الصلاة ووجوبها كما قال: «الحج عرفة »، وأنه لا واجب من القراءة غيرها، وقال الخطابي: أراد القراءة كما قال:{ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها }، قيل: القراءة.
ومعنى القسمة هاهنا من جهة المعانى ؛ لأن نصفها الأول في حمد الله وتمجيده والثناء عليه وتوحيده، والنصف الثاني في اعتراف العبد بعجزه وحاجته إليه(2)، وسؤاله الله في تثبيته لهدايته ومعونته على ذلك.
__________
(1) في (ط) زيادة:" فنصفها لي ونصفها لعبدي ".
(2) في (ح) زيادة:" لعبوديته ومعونته ".(2/388)
وقوله:« نصفين(1)»، حجة على أن { بسم الله الرحمن الرحيم } ليس من أم القرآن، إذ جملتها سبع آيات ثلاث منها منفردة بحمد الله والثناء عليه، والثلاث أخرى في دعاء العبد الهداية، والآية السابعة وسطًا منقسمة، نصفها إخلاص لله وتوحيد واعتراف له وحده بالعبودية وإقرار(2) بما يجب له تعالى من ذلك وهو قوله:{ إياك نعبد }، والنصف الآخر دعاء بالمعونة على ذلك وتفويض لله عز وجل واستسلام له، وهى مختصة بالعبد متصلة بما بعدها من الدعاء، وهى آية واحدة باتفاق، فلو كانت: بسم الله آية من أم(3) القرآن لم تكن القسمة بنصفين كما نص على ذلك - صلى الله عليه وسلم -. وفي الحديث نفسه أقوى حجة على هذه المسألة ؛ لأنه ابتدأ فقال:« يقول العبد: الحمد لله ربّ العالمين، يقول الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: أثنى علي عبدي..."، ثم ذكر جميع آي السورة على ما جاء في الحديث، ولا خلاف أنها سبع آيات ولم يذكر فيها:{ بسم الله الرحمن الرحيم }، وهذا الحديث أبين شيء في الباب، وإن كان قد جاء من بعض الروايات الشاذة:" يقول العبد: بسم الله الرحمن الرحيم، يقول الله(4): فيذكرني عبدي، ثم يقول: الحمد لله... "، وذكر الحديث، لكن راوي هذه الزيادة محمد بن سفيان(5) وهو ضعيف، وقد انفرد عن العلماء بهذه الزيادة وخالفه الثقات الحفاظ مالك وابن جريج وابن عيينة، فلم يذكروها ولا غيرهم.
__________
(1) في (أ) و(ط):" بنصفين ".
(2) في (ح) و(ط):" إقراره ".
(3) قوله:" أم " ليس في (ط).
(4) قوله:" يقول الله " ليس في (أ) و(ط).
(5) في (ط):" سعفان"، وفي (ح):" شعبان ".(2/389)
وقوله:« مجدني عبدي » عند قوله:{ مالك يوم الدين }، أي: عظمني، والمجد نهاية الشرف. والفرق بين "حمدني" و "أثنى علي" و"مجدني" بيِّن(1)؛ لأن "مجد " يقتضى الثناء بصفات الجلال، و "حمد " يقتضى الثناء بحميد الفعال، و "أثنى " يجمع ذلك كله، وينطلق على الوجهين ؛ فلهذا جاء جوابا لقوله:{ الرحمن الرحيم } لاشتمال هذين الاسمين على صفاته الذاتية من الرحمة، والفعلية من الإنعام على خلقه. واختصاص اسم الرحمن به على قول أئمتنا وعمومه وصفته(2) لا يوصف بها غيره، وهذه نهاية العظمة والجلال، والرحيم عائد برحمته على عباده وخلقه المؤمنين(3) خاصة على قول بعضهم.
وقوله:"وربما قال فوض إلي عبدي " ومطابقة هذا لقوله:{ مالك يوم الدين }؛ لأنه تعالى المنفرد ذلك اليوم بالملك وبجزاء العباد ومحاسبتهم فيه. والدين: الحساب، وقيل: الجزاء، فهو الملك فيه دون دعوى(4) غيره، وإن كان منفردًا على الحقيقة به في الدنيا والآخرة لا مالك ولا ملك سواه، والكل مربوبٌ له، عبد مسخر، وذلك اليوم لا مدعى للملك غيره(5)، كما قال: { لمن الملك اليوم لله }. وفي هذا الاعتراف من التعظيم والتمجيد ما لا يخفى، ومن تفويض أمور الدنيا والآخرة إليه ما هو الحق الذي لا مرية فيه.
__________
(1) قوله:" بين " ليس في (ح).
(2) في (أ) و(ط):" وصفه ".
(3) في (ط):" أو المؤمنين ".
(4) قوله:" دعوى " ليس في (ط).
(5) قوله:" غيره " ليس في (ط).(2/390)
وقوله:« فإذا قال:{ اهدنا الصراط المستقيم... } إلى آخر السورة، فهذا لعبدى»: كذا في الأم، وعند غيره من رواية مالك وغيره:« فهؤلاء لعبدى »، فيه دليل أنها آيات، وأن قوله:{ صراط الذين أنعمت عليهم } آية، وهو عند البصريين والشاميين والمدنيين، وعلى هذا تصح القسمة أولاً ثلاث آيات أولى(1) لله وحده، وآية(2) منقسمة بينه وبين عبده، وثلاث آيات أخرى للعبد، ولو كانت على عدد الكوفيين والمكيين وأن { صراط الذين أنعمت عليهم } إلى آخر السورة، آية واحدة، وجعلوا السابعة {بسم الله الرحمن الرجيم } أولها لجاءت القسمة غير مطابقة(3)، أربعة أولاً(4) لله (5)، وواحدة مشتركة، واثنتان للعبد آخرًا.
ووقع في رواية السمرقندي في آخر السورة:" هذا بينى وبين عبدى "، وهو وهم وخطأ.
وقوله:« اقرأ بها في نفسك »، هذا حكم من قرأ بها مع الإمام على تأويلهم وتأويلنا المتقدم ألا تجهر عليه بالقراءة، وقراءة النفس هنا بتحريك الشفتين بالقراءة وإن لم يسمع نفسه، وإسماع نفسه أحسن وأحبُّ للعلماء في صلاة السر.
وقد اختلف العلماء في قراءة المأموم خلف الإمام، فمالك وعامة أصحابه وابن المسيب في جماعة من التابعين وغيرهم وفقهاء الأمصار(6) أهل الحجاز والشام والحديث على أنه لا يقرأ معه فيما جهر به وإن لم يسمعه، ويقرأ فيما أسر الإمام، وقاله الشافعي مرة، ووافقهم أحمد إلا أنه يجعله يقرأ إذا لم يسمعه في الجهر، وروي عن بعض التابعين.
وحجة هؤلاء كلهم قوله تعالى: { وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون }.
__________
(1) في (أ) و(ط):" أولا ".
(2) في (ط):" أنه ".
(3) في (ط):" متطابقة ".
(4) في حاشية (ح):" أولى " وعليها "صح، خ".
(5) في (ح):" لله وحده ".
(6) قوله:" الأمصار" ليس في (أ) و (ط).(2/391)
وقول أبي هريرة:" فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه الإمام " وبقوله(1) - صلى الله عليه وسلم -:« إذا قرأ الإمام فانصتوا له »، وذهب أكثر هؤلاء أن القراءة خلف الإمام غير واجبة إلا داود وأحمد وأصحاب الحديث، فجعلوا قراءة أم القرآن للمأموم فيما أسر فيه إمامه فرضًا، واختلف النقل عن المذهب فيها بالسنة والاستحباب، وذهب الكوفيون إلى ترك قراءة المأموم خلف الإمام في كل حال، وهو قول أشهب وابن وهب من أصحابنا،[ وأحد أقوال الشافعية](2)، وذهب جماعة من الصحابة والتابعين(3) إلى أن المأموم لا يترك قراءة أم القرآن على حال، وإليه رجع الشافعي، وقاله أكثر أصحابه، وحجتهم حديث أبي هريرة هذا، وظواهر عموم الأحاديث غيره.
وقوله:" فما أعلن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلناه لكم، وما أخفاه أخفيناه عنكم"، لا خلاف أن الصبح والجمعة والركعتين الأوليين من العتمة والمغرب تقرأ جهرًا، وما عدا ذلك سرًّا من الفرائض، وعندنا أن العيدين والاستسقاء والوتر جهرًا وما عداها من السنن سرًّا.
وقد اختلف العلماء في الجهر في الاستسقاء والعيدين، وأما صلاة النوافل بالليل والنهار فمن شاء جهر ومن شاء أسر، لكنه يستحب عندنا الجهر بالليل والإسرار بالنهار، واختلف أصحابنا في السر والجهر هل هو من سنة الصلاة أو هياتها ؟ وقد تأؤل في المسألة بإعادة المتعمد وجوبها.
وفي هذا الحديث بالجملة لزوم القراءة لصلاة الجهر والسر بكل حال.
__________
(1) في (ط):" قوله ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(3) في (ح) زيادة:" ومن بعدهم ".(2/392)
وقد زعم بعض أصحاب المعاني أن الحكمة في صلاة الليل جهرًا والنهار سرًّا: أن في اليل طرد الشيطان ويوقظ(1) الوسنان، كما قال عمر - رضي الله عنه -، فالمغرب والعشاء وقت انتشار الشياطين وتسلّطهم، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وأمر بكف الصبيان حينئذ، والصبح حين(2) تسلط الشيطان على النائمين وعقد(3) عقدة بالنوم على قوافيهم، فكان الجهر بالقراءة في هذه المواطن إبعادًا له وطردًا(4) عن المصلين وعن قوام الليل، وأخلى لسرهم من وسوسته وشغلهم أسماعهم وقلوبهم بالقراءة، وأمر الإمام فيها بالجهر والناس بالإنصات له ؟ لفراغ بالهم، وانقضاء أشغالهم ؟ ليتدبّروا ما يتلى عليهم، ثم في الجهر بالقراءة أيضًا إيقاظ(5) لمن عساه يسمع قراءتهم من قوام الليل، أو ممن(6) له عادة بالقيام(7) فيقوم لذلك وينشط(8) للصلاة ؛ ولأن في رفع الصوت بالقراءة طرد النوم عن المصلي نفسه، أو من يصلي بصلاته،أو من غلبته عينه قبل أداء فرضه، أو لانتظار جماعة(9)، وأمن هذان الوجهان بالنهار لكون الناس مستيقظين، مراعين أوقات صلواتهم، متأهبين لها، وأنه ليس حين انتشار الشياطين، فاقتصر فيها على قراءة السر في فرضها ونفلها، وستأتى بقية هذا الباب في موضعه.
__________
(1) في (أ) و(ط):" إيقاظ ".
(2) في (ح):" وقت ".
(3) في (ح) و(ط):" عقدة ".
(4) في (ح):" وطردًا له ".
(5) في (ح):" إيقاظًا ".
(6) في (ح):" ولمن " بدل:" أو ممن ".
(7) في (ط):" في القيام ".
(8) في (ط):" فينشط ".
(9) في (أ) و(ط):" جماعته ".(2/393)
قال: وجهر في الجمعة والأعياد والاستسقاء من صلاة النهار لأنها أعياد ومجامع ينجلب إليها من الجهات، وفيهم الأعراب والجهلة فجهر لهم بالقراءة ليتلى عليهم القرآن، ويسمعوا مواعظه، ويتعلموا أحكامه. ولما كانت صلاة النهار تأتى والناس في أشغالهم، ومعايشهم، واشتغال بالهم بذلك، كانت القراءة لجميعهم(1) سرًّا أولى لحفظ(2) صلاتهم، وشغلهم بها، وتفريغ بالهم لتدبّرها، لتشويش(3) خواطرهم بأشغالهم التي هم فيها عن الإنصات لقراءة الإمام وتدبر ما يتلو، ولم يكن لجهر الإمام بالقراءة معنى فألزم جميعهم قراءة السر.
وقوله للذى قال له:" لم أزد على أم القرآن ":« إن زدت عليها فهو خير لك، وإن انتهيت إليها أجزأت عنك »، أما القراءة في الصبح والجمعة والأوليين من سائر الصلوات فسورة بعد أم القرآن أو ببعض سورة، ولا خلاف في شرع ذلك أعلمه، ثم اختلف في حكمها عندنا، هل قراءتها سنة أو مستحب ؟ وخرج قول ثالث: الوجوب، وأما قراءتها في باقى الركعات فكره مالك ذلك، وذهب الشافعي إلى قراءة السورة بعد أم القرآن في الركعات كلها ؛[ واختاره محمد بن عبدالحكم ](4)، وخيره أصحاب الرأي بين القراءة فيها(5) والتسبيح والسكوت وفي الحديث تعيين أم القرآن ولزومها للمصلي.
وقوله للذى علمه الصلاة:« إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ بما(6) تيسر معك من القرآن »: حجة أن الإقامة ليست بواجبة وأن القراءة في الصلاة واجبة، وحجة في وجوب التكبير للإحرام، وقد تقدم الكلام في هذا كله.
__________
(1) قوله:" لجميعهم " ليس في (أ).
(2) في (ح) و(ط):" بحفظ ".
(3) في (ح):" لتشوش ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(5) في (ح):" فيهما ".
(6) في (ط):" ما ".(2/394)
وقوله: في الرواية الأخرى:« أسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة »: دليل أنه إنما قصد ذكر فرائض الصلاة، وأن جميع ما ذكره فيها فرض، وما لم يذكره ليس من فرائضها ؛ إذ لم يذكر الاستفتاح والتوجه ولا التشهد، وقد جاء في المصنفات في بعض طرق هذا الحديث:« وأقم »، فيحتج به من يرى الإقامة واجبة.[ وفيه حجة على الحنفي الذي يجيز القراءة بالفارسية وغيرها إذا وافقت المعنى ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما خصّ أم القرآن وما تيسر من القرآن وما ليس بلسان العرب فلا يسمى قرآنًا، وسيأتي الكلام على المسألة ](1) بعد(2).
قال الإمام: تعلق به أصحاب أبي حنيفة في أن القرآن لا يتعين، ولا تجب قراءة أم القرآن بعينها ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أحاله على ما تيسر، وظاهر هذا إسقاط قراءة أم القرآن، ومن أوجب قراءتها يرى هذه الإحالة إنما وقعت على ما زاد على أم القرآن، فإن ذلك لا يتعين إجماعًا، ويستدل على ذلك بالأحاديث الدالة على وجوب قراءة أم القرآن،[ وجعلوا قوله - عليه السلام -: « لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن » تفسيرًا لِمُجمل قوله:« اقرأ بما تيسر معك من القرآن »، وقد ذكر أبو داود في بعض الروايات هذا الحديث:« فكبر، ثم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله أن تقرأ » فرفع الإشكال ](3).
قال القاضي: احتج أئمتنا والشافعي بقوله هذا(4): أن تكبيرة الإحرام(5) من الصلاة خلافًا للكرخي في قوله: ليس من الصلاة.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ح) و(ط).
(2) قوله:" بعد " ليس في (أ) و(ط).
(3) من قوله:"وجعلوا قوله - عليه السلام -..." إلى هنا جاء في (أ) و(ح) بعد قوله:" ليس من الصلاة".
(4) في (ط):" بهذا الحديث" بدل:" بقوله هذا ".
(5) في (ط) زيادة :" ركن من أركان ".(2/395)
قال الإمام: وقوله:« ثم اركع حتى تطمئن راكعًا »، وقال مثله في السجود، فعندنا قولان في ذلك: أحدهما: نفى إيجاب الطمأنينة تعلقًا بقوله:{ واركعوا واسجدوا }، ولم يأمرنا بزيادة على ما سمى(1) ركوعًا وسجودًا، والثانى: إيجابها تعلقًا بهذا الحديث، وقد خرج مخرج التعليم فوجب إثبات الوجوب لكل ما ورد فيه، إلا ما خرج منه بدليل.
قال القاضي: وقوله:« ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا »، وقوله:« ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا »، حجة في وجوب الاعتدال في القيام من الركعة(2) وفي الجلوس بين السجدتين، ولا خلاف أن الفصل بين السجدتين واجب، وإلا فكانت سجدة واحدة، ولكن الاعتدال في الجلوس فيما بينهما، وفي رفع الرأس من الركوع والاعتدال منه مختلف في وجوبه عندنا، وهل هو مستحق لذاته فلابد منه، أو للفصل فيحصل الفصل بما حصل منه وتمامه سنة.
وقوله:« ثم افعل ذلك في صلاتك كلها »: دليل على وجوب القراءة في جميع الركعات على مشهور مذهبنا، إذ أمره أولاً بالقراءة.
وقوله:« ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا » ظاهره(3) أنه من الرفع بين السجدتين كما تقدم، وهو يبين قوله في الرواية الأخرى في المصنفات:« ثم اجلس حتى تطمئن جالسًا»، وقد(4) يحتج به من يرى وجوب الجلوس كله، والحجة فيه ضعيفة لقوله ذلك بعد ذكره السجود، ولقوله بعد هذا:« وافعل(5) ذلك في صلاتك كلها ».
وفي هذا الحديث: أن أفعال الجاهل في العبادات على غير علم لا يتقرب بها ولا تجزى ؛ لقوله:« فانك لم تصل »، وفي هذا الحديث: الرفق في الأمر بالمعروف وحسن المعاشرة، ألا ترى أنه إنما أمره أولاً، ولم يوبخه ولا زجره، فلما أخبره أنه لا يحسن علّمه.
__________
(1) في (ح) و(ط):" يسمى ".
(2) في (ح):" الركعتين ".
(3) في (ح) و(ط):" ظاهر ".
(4) في (ط):" الذي قد ".
(5) في (ط):" ثم افعل ".(2/396)
وفيه: رد السلام على المسلم وإن تكرر ذلك منه، وقرب لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - معه ذلك ثلاث مرات، كما ذكر في الحديث، وجواب(1) قوله في الرد: «وعليك السلام ».
وذكر مسلم سند هذا الحديث أولاً عن يحيى بن سعيد عن عبيد الله(2)، حدثني سعيد(3) بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الدارقطني في هذا الحديث: خالف يحيى بن سعيد فيه أصحاب عبيد الله كلهم، يقول عن سعيد عن أبي هريرة، لم(4) يذكروا أباه، ورواه معتمر(5) عنه عن سعيد مرسلاً، قال: ويحيى حافظ.
وقوله: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الظهر أو العصر فقال:« أيكم قرأ خلفي بسبح اسم ربك الأعلى ؟»، الحديث، وقوله:« قد علمت أن بعضكم خالجنيها »، قال الإمام: معناه: نازعني القرآن، كأنه ينزع ذلك من لسانه، فهو مثل حديثه الآخر:« مالي أنازع القرآن ».
قال القاضي: في هذا الحديث القراءة في صلاة الظهر والعصر، وقد جاء في هذا الحديث من أكثر الطرق:" صلاة الظهر " بغير شك، وقد يحتج به من يمنع القراءة جملة خلف الإمام، ولا حجة له فيه لأنه لم ينه عنه. وإنما أنكر مجاذبته للسورة، فقال:« قد علمت أن بعضكم خالجنيها »، ولم ينههم عن القراءة كما نهاهم في صلاة الجهر، وأمرهم بالإنصات، وإنما ينصت لما يسمع، بل في هذا الحديث حجة أنهم كانوا يقرؤون خلفه، ولعل إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لجهر الآخر عليه فيها أو ببعضها حين خلط عليه لقوله:«خالجنيها».
وقد اختلفت الآثار في قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - فبهما، والصحيح والأكثر قراءته فيهما، وهو قول الجمهور من السلف والعلماء، وإنما روي تركه القراءة عن ابن عباس، وقد روى عنه خلافه، وقد تقدم هذا المعنى.
__________
(1) في (ط):" جواز ".
(2) في (ح):" عبدالله".
(3) في (ح):" سعد ".
(4) في (ح):" ولم ".
(5) في (ح):" معمر ".(2/397)
وفيه قراءة المأموم فيما أسر فيه إمامه، وأن نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو لمنازعته السورة التي قرأ بها لقوله:« خالجنيها »، وأن نهيه أن يقرأ معه إنما كان فيما جهر فيه، كما جاء مفسرًا في الحديث، وفيه حجة لتطويل القراءة في الظهر، وإنها لا يقرأ فيها بقصار المفصل، وسيأتي الكلام على هذا الفصل بعد هذا في موضعه من الكتاب.
وقوله:« صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبى بكر وعمر وعثمان فلم أر أحدًا منهم يقرأ:{ بسم الله الرحمن الرحيم }، قال الإمام: تعلق أصحابنا. بهذا في أن { بسم الله الرحمن الرحيم } ليست من أم القرآن، خلافا للشافعي في قوله: إنها آية من أم القرآن، والإجماع على أنها بعض آية من سورة النمل في قوله تعالى:{ إنه من سليمان، وإنه بسم الله الرحمن الرحيم }. وقد أشبع القاضي أبو بكر الرد في " كتاب الانتصار" على من قال: إنها من القرآن(1) في غير هذا الموضع، وبسط من ذلك ما فيه كفاية، وإنما عرضنا هاهنا الكلام على ما يتعلق(2) بالحديث.
قال القاضي: أدخل مسلم هذا الحديث والحديث الآخر:" كانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون: بسم الله الرحمن الرحيم "، ثم أدخل بعد ذلك في(3) حديث أنس في الحوض، وقوله - صلى الله عليه وسلم -:« أنزلت على سورة فقرأ:{ بسم الله الرحمن الرحيم ( إنا أعطيناك الكوثر } تنبيه(4) على حجة المخالف، وقد اختلف أصحاب الشافعي في قوله: لا أدري هي آية من أم(5) القرآن أم لا ؟ أهو شك ؟ هل هي منها أم شك في أنها آية ؟ أو بعضها مع قطعه على أنها من أم القرآن تلاوة وحكما ؟ وقيل عنه: إنها عنده من(6) أم القرآن حكما لا قطعًا.
__________
(1) في (أ):" أم القرآن ".
(2) في (ح):" تعلق ".
(3) قوله:" في " ليس في (أ).
(4) في (أ) و(ط):" لينبه ".
(5) في (ط):" أي ".
(6) في (أ):" في ".(2/398)
واختلف الفقهاء بعد ممن جعلها آية وممن لم يجعلها في قراءتها في الصلاة أو تركها. والجهر بها أو الإسرار، فمشهور مذهبنا: أنه لا يقرؤها في الفرائض وأجاز(1) ذلك في النوافل، والحجة ظاهر الحديث المتقدم، وعنه رواية أخرى أنها تقرأ أول السور في النوافل، ولا يقرأ أول أم القرآن ؟ وروى عنه ابن نافع: ابتدأ القراءة بها في الصلاة الفرض والنفل، ولا تترك بحال، والشافعي يرى الجهر بها في صلاة الجهر من الفرائض، وأهل الرأي يرون الإسرار بها، ويوافقون الشافعي في كونها من أم القرآن، ويتأولون الحديث المتقدم بالاستفتاح بالحمد لله(2) رب العالمين(3)، أي: بالسورة التي تعرف بهذا، وأنه كان لا يجهر بها، ويرد عليهم قوله في الرواية الأخرى:[" لا يذكرون:{ بسم الله الرحمن الرحيم }"، ويحتجون هم بقوله في الرواية الأخرى](4) التي لم يذكرها مسلم:" لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم ". وقد اضطربت الروايات(5) في ذلك والألفاظ في الحديث بما لاتقوم به حجة لمن أثبت قراءتها مع أم القرآن، وكذلك ذهب الشافعي في أحد قوليه ومن قال بقوله إلى أنها من أول كل سورة من القرآن، وداود يقول: هى آية في كل موضع وقعت فيه، ولا أجعلها من السور(6)، ونحوه لأبى حنيفة، وخالفه غيره، وحجته إثباتها في المصحف بخط المصحف(7)، وحجة المالكية في الباب كله النقل المتواتر بالمدينة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء والأئمة بترك قراءتها في الصلاة أول أم القرآن والسور وان القرآن ما لم يختلف فيه، ولا يثبت قرآن مختلف فيه.
__________
(1) في (ح) و(ط):" إجازة ".
(2) قوله:" لله " ليس في (ح).
(3) قوله:" رب العالمين " ليس في (ح) و(ط).
(4) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(5) في (ح):" الرواية ".
(6) في (ح):" السورة ".
(7) قوله:" بخط المصحف " ليس في (ح).(2/399)
وقوله:" كانوا يستفتحون الصلاة(1) بـ{ الحمد لله رب العالمين }"، وقوله في الحديث(2) الذي قبله:« كبر، ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن »، ومثله من الأحاديث دليل على مشهور المذهب، وحجة له أنه لا شيء بعد تكبيرة الافتتاح إلا القراءة. وقد ذهب الشافعي، وفقهاء أصحاب الحديث إلى افتتاح الصلاة بدعاء التوجه على اختلافهم في الاختيار فيه بحسب اختلاف الآثار في ذلك، وعن مالك رواية أخرى في فعله، وقد جاء في المصنفات في حديث الأعرابي ثم يكبر ويحمد الله ويثنى عليه، ثم يقرأ، ففيه لهذا القول حجة، قال أبو حنيفة بالتسبيح المروي في ذلك، وقاله محمد بن الحسن، وحكاه ابن شعبان عن المذهب، وقال أبو يوسف: يجمع بين التوجه(3) ويبدأ بأيهما شاء. وقد ذكر مسلم ما كان يقوله عمر من ذلك، ووصل به حديث أنس المتقدم ليقيم الحجة أن ذلك غير لازم، وذكر أيضًا بعد هذا(4) ماكان يقوله النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث ينبه عليه.
قال الإمام: خرج مسلم في باب استفتاح الصلاة بـ{ الحمد لله رب العالمين }: حدثنا ابن مهران(5)، عن الوليد، عن الأوزاعي، عن عبدة: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يجهر بهؤلاء الكلمات:«سبحانك اللهم » الحديث، قال بعضهم: هكذا أتى إسناده عنده أن عمر مرسلاً، وفي نسخة ابن الحذاء عن عبدة(6): أن عبدالله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وهو وهم، والصواب: أن عمر، وكذلك في نسخة أبي زكريا الأشعري عن ابن ماهان، وكذلك روي عن الجلودي، ثم ذكر مسلم بعد هذا عن الأوزاعي عن قتادة عن أنس، قال:" صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - " الحديث، وهذا هو المقصود من الباب، وهو حديث متصل.
__________
(1) في (ح):" القراءة ".
(2) في (ط):" الحديث الآخر ".
(3) في (ح):" التوجيه ".
(4) في (ح):" ذلك ".
(5) في (ح):" ماهان ".
(6) في (ح):" عبدالله ".(2/400)
قال القاضي: أتقن(1) الحافظ أبو على فيما ذكره هنا - وهو بعضهم الذي نقل الإمام عنه ما نقل -، ولفظه في "كتاب مسلم" بعد قوله في الحديث من قول عمر:"ولا إله غيرك "، وعن قتادة أنه كتب إليه يخبره عن أنس أنه حدثه الحديث، فعطف قوله:"وعن قتادة " على قوله في المسند الأول، ثنا الأوزاعي عن عبدة، فلما أكمل ذلك الحديث المرسل، قال: وعن قتادة، يعني أن الأوزاعي الذي قال أولاً: عن عبدة، قال أيضًا: وعن قتادة، فجاء به كالحديث الواحد كما سمعه ابن مهران من الوليد، ولم يفصله مما قبله والمراد هذا الآخر مع ما في الأول من التنبيه على مذهب من رأى ذلك وإن كان مرسلا موقوفًا، فليس على مسلم فيه درك، إذ هو بعض(2) حديث شرطه في باقيه، فأكمل بعض(3) الفائدة بذكره على نصه دون تعقب عليه، ثم جاء بعد ذلك أيضًا بحديث الأوزاعي عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس مثله(4).
وقوله:« لقد أنزلت على آنفًا »، أي: حديثًا(5) وقريبًا.
وقوله:« الكوثر » جاء تفسيره هنا نهر في الجنة، وفي غير هذا الحديث: هو(6) الخير الكثير، قال: وذلك النهر منه.
وقوله:« هو حوض ترد عليه أمتي »، الإيمان بالحوض حق(7)، وهو مذهب جماعة أهل السنة، وقد صحت الأخبار به، وسيأتى آخر الكتاب الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
وقوله:« فيختلج العبد منهم »، أي: يستخرج وينتزع، وقد تقدم الكلام على هذا الفصل من هذا الحديث في كتاب الطهارة.
__________
(1) في (ح):" اتفق ".
(2) قوله:" بعض " ليس في (أ).
(3) قوله:" بعض " ليس في (ح) و(ط).
(4) في (ح) و(ط):" بمثله ".
(5) قوله:" حديثًا " ليس في (ح).
(6) قوله:" هو " ليس في (ح).
(7) قوله:" حق" ليس في (ح).(2/401)
وذكر في الحديث وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة، ذهب جمهور العلماء وأئمة الفتوى إلى أخذ الشمال باليمين في الصلاة، وأنه من سنتها وتمام خشوعها وضبطها عن الحركة والعبث، وهو أحد القولين لمالك في الفرض والنفل، ورأت طائفة إرسال اليدين في الصلاة، منهم الليث، وهو القول الآخر لمالك، وكراهة الوجه الأول، قيل: مخافة أن يعد من لوازمها وواجبات سنتها(1)؛ وقيل: لئلا يظهر من خشوع ظاهره أكثر من باطنه، وخيرت طائفة منهم الأوزاعي في الوجهين، وتأول بعض شيوخنا أن كراهية مالك له إنما هو لمن فعله على طريق الاعتماد، ولهذا قال مرة: ولا بأس به في النوافل لطول الصلاة، قال(2): فأما من فعله تسننًا ولغير الاعتماد فلا يكرهه.
واختلف في حد وضع اليدين من الجسد، فقيل: على الصدر، وهوالمروى عنه - عليه السلام -. وقيل: على النحر، وهو قريب من القول الأول، وقيل: حيثما وضعهما(3) جاز له، وقيل: فوق السرة، وهو مذهبنا(4)، وقيل: تحتها، والآثار بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك والحض عليه صحيحة، والاتفاق على أنه ليس بواجب، وعن على - رضي الله عنه - في قوله:{ فصلّ لربك وانحر }، أن معناه: وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة، يعني على الصدر عند النحر، وقيل في معنى ذلك غير هذا من نحر الأضحية وصلاة العيد، وقيل: نحر البدن بمنى وصلى الصبح بجمع.
__________
(1) في (أ):" سننها ".
(2) قوله:" قال " ليس في (أ).
(3) في (ح) و(ط):" وضعها ".
(4) في (ط):" قول مالك " بدل:" مذهبنا ".(2/402)
ثم اختلف في صفة وضعها، واختلفت فيه ألفاظ الحديث، فذكر مسلم أنه وضع يده اليمنى على اليسرى من حديث وائل بن حجر. وجاء(1) في حديث سهل بن سعد أنه يضع يده اليمنى على ذراعه اليسرى،[ قال مالك في رواية الداودي(2): إن شاء أمسك بالكف أو بالرسغ ](3)، واختيار(4) شيوخنا على الجمع بين الحديثين: أن يقبض بكفه اليمنى على رسغ اليسرى، واختار غيرهم أن يكون مع ذلك السبابة والوسطى ممتدة على الذراع، لكن(5) لا يتهيأ مثل هذا في وضعها على النحر، وإنما يتهيأ مثل هذا، ومثل القبض على الرسغ إذا وضعت على الرسغ فاسفل منه.
وقوله:" فلما سجد سجد بين كفيه "، حجة على مباشرة الأرض باليدين وهو المستحب عند جميعهم، وكرهوا السجود واليدان في الثياب، وإن كان روي(6) عن(7) بعض السلف في ذلك رخصة، فلعله في كثرة البرد أو الحر، ولا خلاف في وجوب السجود على الوجه واليدين، وفي كشف الوجه في السجود، واستخف ما ستر الجبين أو بعضه مما خف كطاقات العمامة [ مع كراهة ذلك ابتداءً، واختلف فيما كثر من طاقاتها، وسيأتي ذكره بعد ](8).
واختلف هل يتعين(9) مماسة الجبين والأنف معًا أو يتعين بالجبهة وحدها ؟ ويستحب في الأنف، والجمهور على أن السجود على ما عدا الوجه من الأعضاء مستحب، وذهب بعضهم إلى وجوب ذلك، وسيأتى الحديث في ذلك:« أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء ».
__________
(1) في (ح):" وقد جاء ".
(2) في (ح):" الواقدي ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(4) في (ط):" اختار " بدون الواو.
(5) في (ط):" لأن ".
(6) في (ح):" قد روي ".
(7) قوله:" عن " ليس في (ح).
(8) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(9) في (ط):" فرض " بدل:" هل يتعين ".(2/403)
وذكر مسلم حديث عبد الله بن مسعود في التشهد، وبه قال جمهور الفقهاء وأصحاب الحديث وبعض شيوخ مذهبنا الأندلسيين، واختار الشافعي تشهد ابن عباس، وقد خرجه مسلم أيضًا، واختار مالك تشهد عمر بن الخطاب الذي ذكره(1) في "موطئه"، وهو وإن كان غير مسند للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيلحق بمعنى المسند ويقوى قوته، ويترجح على غيره من المسانيد لتعليم عمر له الناس على المنبر،كما روى بجمع ملئهم وجمهورهم، ولم ينكر ذلك عليه أحد، ولا قالوا له: عدلت عما اختاره النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلمه الناس إلى رأيك، وهم ممن(2) لا يقر على خطأ، فدل سكوتهم له واستمرار عمر على تعليمه الناس، أن ذلك عندهم معلوم، وأن الأمر في التشهد غير مقصور على رواية غيره، وكذلك تأول هذا أحمد بن نصر الداودي، وقال: هذا من مالك استحباب، والأمر عنده في غيره على التوسعة. ثم هو غير واجب عند مالك والجمهور، وذهب فقهاء أصحاب الحديث إلى وجوب التشهدين لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - به، وذهب الشافعي إلى وجوبه في الآخرة، وروى عن مالك مثله.
ومعنى التشهد: مأخوذ من لفظ الشهادتين بالوأحدًانية والرسالة التي فيه، والتحيات: جمع تحية وهى الملك، وقيل: البقاء، وقيل: السلام، وقيل: العظمة، وقيل: الحياة، وقيل: التحيات: الممالك لله،[ وقيل: جميع معانيها؛ أي معاني لفظ التحية على اختلافها، وقيل: التحيات لله ](3)، أي: التحيات التي تحيى بها الملوك الله المستحق لها.
__________
(1) في (ط):" ذكر ".
(2) في (ح):" مما ".
(3) مابين المعكوفي ليس في (أ) و(ح),(2/404)
والزاكيات - الواردة في حديث عمر -: بمعنى المباركات في حديث ابن عباس، والبركة: النماء والزيادة، وكذلك الزكاة، أي: الصلوات والأعمال الزاكيات الصالحات لله، ومعنى "الطيبات لله " أي: الكلمات الطيبات، أي: يراد بهذا كله وجه الله، ولا يجب العمل والتقرب بها إلا إلى الله، ولا يصلح شيء من ذلك لغيره من تحية وتعظيم وثناء جميل، وقول طيب وإخلاص لعبادة وعمل صالح وصلاة متقرب بها. وقيل: المراد بالصلوات هنا: الرحمة، أي: الله المتفضل بها والوصف الجميل ببذلها له، وقد يكون بمعنى الدعوات والتضرع والرغبة لله تعالى.
وقوله:" الله هو السلام "، السلام: هو(1) اسم من أسمائه تعالى، وقيل في معناه: السالم من النقائص(2) وسمات الحدث، وقيل: المسلم عباده، وقيل: المسلم عليهم في الجنة لقوله(3) تعالى:{ سلام عليكم طبتم }، ومعناه في قوله - عليه السلام -:« السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته(4)»، وفي سلام الصلاة، قيل: معناه: التعويذ باسم الله الذي هو السلام، كما تقول: الله معك، أي: الله متولٍ لك، وكفيل بك، وقيل: معناه السلامة والنجاة لكم، يكون هنا(5) مصدرًا كاللذاذ واللذاذة، كما قال:{ فسلامٌ لك من أصحاب اليمين }، وقيل: السلام: الانقياد لك، كما قال في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -: { فلا وربك لا يؤمنون } إلى قوله:{ تسليمًا }؛ ولهذا المعنى - والله أعلم - صرفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قولهم في هذا الحديث: السلام على الله من عباده. وقال لهم:" إن الله هو السلام ".
__________
(1) قوله:" هو " ليس في (أ) و(ط).
(2) في (ح):" النقائض ".
(3) في (ح) و(ط):" بقوله ".
(4) قوله:" وبركاته " ليس في (ط)، وقوله:" وبركاته" ليس في (أ).
(5) في (ح):" هذا ".(2/405)
وقوله في سند هذا الحديث يعده(1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو نعيم، ثنا سيف بن أبي سليمان، سمعت مجاهدًا، وذكره، كذا قال أبو نعيم: سيف بن أبي سليمان، وتابعه ابن المبارك وأبو عاصم، وقال وكيع: سيف أبو سليمان، وقال(2) القطان وغيره: سيف بن سليمان، وذكر الأقوال الثلاثة البخاري في "تاريخه الكبير"، وهو مكي مولى بني مخزوم.
وقوله: ثم ليتخير بعد من المسألة أو(3) الدعاء ما أحب "؛ حجة للمالكية وجمهور العلماء أن له أن يدعو في الصلاة بما أحب وشاء من حوائج الدنيا والآخرة، خلافًا لأبى حنيفة في اقتصاره من ذلك بما جاء في القرآن وما في معناه، وهذه الأحاديث وأدعية النبي - صلى الله عليه وسلم - الماثورة الصحيحة في الصلاة حجة عليه، وفي هذا حجة للجماعة على الشافعي في إيجابه الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل صلاة،[ وإن لم يفعل ذلك بطلت صلاته ](4)، وهو قول لم يقل قبله، وقد علمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - التشهد إلى آخره، ثم أباح لهم ما أحبوا من الدعاء بعده، ولم يذكر الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومذهب الجماعة وجوبه(5) على الجملة، واستحبابه(6) في الصلاة، وقد روى في حديث ابن مسعود زيادة:« فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك »، وليس فيها(7) ذكر الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد خالف الشافعي في المسألة كثير من أصحابه، ووافقه إسحاق وغيره عليها، وحكى بعض البغداديين هذا المذهب في المسألة ثلاثة أقوال: الوجوب، والسنة، والفضيلة. وقد حمل بعض شيوخنا البغداديين مذهب محمد بن الموّاز على الوجوب في الصلاة كمذهب الشافعي، وكلامه محتمل الوجوب على الجملة، كما قالت الجماعة.
__________
(1) قوله:" بعده " ليس في (ح).
(2) في (ط):" قال " بدون واو.
(3) في (ح):" و ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(5) في (ح):" وجوبها ".
(6) في (ح):" استحبابها ".
(7) في (ح):" فيه ".(2/406)
وقوله:« كبر »، ثم قال: ثم التحف بثوبه: فيه أن يسير العمل في الصلاة من غير جنسها لا يفسدها كالإشارة للرجل بالحاجة وإصلاح الثوب، وحك الجسد وشبه هذا وإن كان على جهة العمد، وهذا المشهور من مذهبنا ومذهب العلماء كافة. وحكى أبو يعلى العبدي من متأخري أئمتنا العراقيين: أن العمل عمدًا مفسد للصلاة قال: ويستوي في ذلك قليله وكثيره.
وقوله:" أقرت الصلاة بالبر والزكاة ؟"، قال بعضهم: لعله: قرنت، وسالت عن ذلك شيخي أبا الحسين(1) الحافظ اللغوي، فقال: هو أقرت كما روي، والباء في الحديث بمعنى " مع "، أي: أقرت مع البر والزكاة فصارت معهما مستوية وأحكامها واحدة، فهو بمعنى: قرنت.
وقوله:" فارم القوم " كذا رويناه بفتح الراء وتشديد الميم وهوالمعروف. قال الإمام: أي: سكتوا ولم يجيبوا، يقال: أرم القوم فهم مرمون، ويروى: فأزم، ومعناه يرجع إلى الأول وهو الإمساك عن الكلام أيضًا، ومنه: سميت الْحُمَّى أرما.
وقوله:" لقد خفت أن تبكعنى بها "، قال: معناه: أن تستقبلني بها، يقال: بكعت الرجل بكعًا إذا استقبله بما يكره، وهو نحو التبكيت.
قال القاضي: قال ابن الأعرابي: البكع: التبكيت في الوجه، وهكذا روينا هذا الحرف عن جمهور شيوخنا، وكذا كان في كتبهم وعند ابن ماهان(2): تنكتني، بنون أولى وبعد الكاف المضمومة تاء باثنتين فوقها مضمومة(3) بعدها نون ثانية. قال بعضهم: لعله تبكتني بها(4)، بالباء بمعنى الأول، وقوله: "رهبت "، أي: خفت، والرهب: الخوف.
وقوله:« أقيموا صفوفكم »: أمر بإقامة الصفوف وهى من سنن الصلاة بلا خلاف.
__________
(1) في (ط):" الحسن ".
(2) في (ح):" مكان "، وفي (ط):" مكان به ".
(3) قوله:" مضمونة " ليس في (ط).
(4) قوله:" بها " ليس في (ح) و(ط).(2/407)
وقوله:« فإذا كبر فكبروا » يقتضى أن تكبير المأموم لا يكون إلا بعد تكبير الإمام لأنه جاء بفاء التعقيب وهو مذهب كافة العلماء ولا خلاف أنه لا يسبقه المأموم بالتكبير والسلام إلا عند الشافعي ومن لا يرى ارتباط صلاة المأموم بصلاة الإمام، وأن الصواب فعل المأموم ذلك بعد، واختلفوا إذا فعله معه معًا، ولأصحابنا فيه(1) قولان: الإجزاء وعدمه، وكذلك اتفقوا على أنه لا يسابقه بأفعالة وسائر أقواله في الصلاة، ولا يفعلها معه معًا، وأن السنة اتباعه فيها، واختلفوا في اتباع المأموم الإمام في أفعاله، هل يكون معه، فإذا شرع الإمام [في أفعاله شرع معه، فإذا شرع](2) في الركوع ركع بأثره ولم ينتظر تمام ركوعه، أم يكون بعده فلا يركع حتى يركع الإمام، ولا يرفع حتى يرفع، وهكذا في سائر الأفعال، كما جاء في هذا الحديث:« فإذا كبّر وركع فكبروا واركعوا، فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم ». وعن مالك في ذلك ثلاثة أقوال: هذان القولان، والقول الثالث له(3): التفريق بين الاتباع في القيام من الركعتين وبين سائر أفعال الصلاة، فيعمل معه سائر الأفعال إلا القيام من الركعتين فلا يقوم حتى يستوى الإمام قائمًا ويكبر، وعلى القول الآخر يقوم بقيامه ولا ينتظر تكبيره ولابد فى هذه الأقاويل من اقتدائه بالإمام وسبق(4) الإمام له بأول الفعل والقول.
__________
(1) قوله:" فيه " ليس في (ح).
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(3) قوله:" له " ليس في (أ).
(4) في (أ):" بسبق ".(2/408)
وقوله:" فتلك(1) بتلك "، إشارة إلى تحقيق ما تقدم من ترجيح أحد الأقوال وبيان الحكم فيها(2)، من أنه لا يركع المأموم ولا يسجد ولا يرفع حتى يفعل ذلك إمامه، وتنبيه على أن الشيء الذي سبقه به إمامه من الركعة أو السجدة لم يفته مقدارها ؛ لفعله هو إياه مدة انتظاره أيضًا رفع الإمام رأسه واعتداله، فقامت مقام ما سبقه به إمامه، وجاءت أفعاله بقدر أفعاله وسبقه له مطابقًا لتأنيه هو بعده، فتلك بتلك، وقيل: معناه: فتلك الحالة من صلاتكم وأعمالكم إنما تصح بتلك الحالة من اتباعكم له واقتدائكم به، وقيل: هو راجع إلى قوله(3):" آمين " بعد قوله(4):" ولا الضالين "، و " ربنا ولك(5) الحمد"، بعد قوله:" سمع الله لمن حمده "، أي تلك الكلمة أو الدعوة التى فى السورة معلقة بـ" آمين "، أو بـ "ربنا ولك الحمد " بتلك(6) الأخرى لارتباط إحداهما بمعنى الأخرى.
وقوله:« واذا قال: ولا الضالين، فقولوا: آمين، يجبكم الله »: قد تقدم للإمام أبي عبد الله عليه كلام قبل هذا، من اختلاف قول مالك فيها فى صلاة الجهر، ولم يختلف قوله ولا قول أصحابه أنه يقولها فى صلاة السر، وسيأتى الكلام عليها بعد هذا حيث تجب، ومعنى قوله:" آمين ": استجب لنا، وقيل: معناه: كذلك نسأل الله لنا، والمعروف فيها المد وتخفيف الميم، وحكى ثعلب فيها القصر، وأنكره غيره، وقال: إنما جاء مقصورًا في ضرورة الشعر، وقيل: هى كلمة عبرانية، عربت مبنية على الفتح، وقيل: بل هو اسم من أسماء الله، وقيل: معناه: يآمين استجب لنا، والمدة مدة النداء وعوض الياء، وحكى الداودي تشديد الميم مع المد، وقال: هى لغة شاذة ولم يعرفها غيره، وقد خطأ ثعلب قائلها.
__________
(1) في (أ) و(ط):" فإن تلك ".
(2) قوله:" فيها " ليس في (أ).
(3) في (ح) و(ط):" قولهم ".
(4) قوله:" قوله " ليس في (ط).
(5) في (ط):" لك " بدون واو.
(6) في (ط):" تلك ".(2/409)
وقوله:« فإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، يسمع الله لكم، فإن الله قال على لسان نبيه:" سمع الله لمن حمده »، قد تقدم للإمام أبي عبد الله كلام(1) على هذا الحديث آنفًا(2)، ومعنى " يسمع الله لكم ": أى يستجيب دعاكم، و "سمع الله لمن حمده "، أي: أجاب الله دعاء من حمده، وقيل: أراد به الحث على التحميد، وسياق هذا الحديث يدل على أنه إعلام بذلك، وهو بمعنى الحث الذي قيل.
وقوله: "ربنا ولك الحمد " اختلفت الآثار فيه بإثبات الواو وحذفها، واختلف اختيار مالك وغيره من العلماء بين اللفظين وفي إثبات الواو زيادة ؛ لأن قوله:" ربنا " إجابة قوله: " سمع الله لمن حمده، أي: ربنا استجب دعانا، واسمع حمدنا، ولك الحمد على هدايتنا لذلك، وإلهامنا له، وبحذف الواو ليس فيها غير امتثال قول الحمد. ويظهر لي أن اختلاف قول مالك وتردده في الاختيار بين اللفظين إما لاختلاف الآثار في ذلك وترجيح أحدهما مرة على الآخر من جهة الصحة، أو الشهرة والعمل، أو لمطابقة المعنيين المتقدمين في "سمع الله لمن حمده "، فإذا جعلنا "سمع الله لمن حمده " بمعنى الحث على الحمد، كان الوجه في الجواب: ربنا لك الحمد، دون واو ؛ لأنه مطابق لما حث عليه وامتثال لما ندب إليه، وعلى التأويل الآخر الأولى إثبات الواو ؛ لأنه يتضمن تأكيد الدعاء الأول وتكراره لقوله(3):" ربنا "، أي: استجب لنا أو اسمع حمدنا، ثم نأتى بالعبادة التي دعى بالاستجابة لقائلها، وهو الحمد فيقول: ولك الحمد، ومعنى " سمع الله " هنا: أجاب وتقبل.
وقوله في الرواية الأخرى:« فإن الله قضى على لسان نبيه: سمع الله لمن حمده »، أي: حكم سابق قول(4)، قضائه بإجابة دعاء من حمده وثوابه على حمده، وحتم ذلك وأمضاه.
__________
(1) في (ط):" لنا كلام ".
(2) قوله:" الحديث آنفًا " ليس في (أ) و(ح).
(3) في (ط):" بقوله ".
(4) قوله:" قول " ليس في (أ).(2/410)
وقوله:« فإذا كان عند القعدة فليكن من أول قول أحدكم: التحيات " الحديث: دليل على كراهة العلماء الدعاء قبل التشهد.
وفي قوله:« فإذا قرأ فأنصتوا » حجة لمالك ومن قال بقوله: ألاَّ(1) يقرأ معه فيما يجهر به، وقد تقدم الكلام فيه. قال الدارقطني: هذه اللفظة لم يتابع سليمان التيمى فيها عن قتادة وخالفه الحفاظ فلم يذكروها، قال: وإجماعهم على مخالفته يدل على وهمه.
قال القاضي: وقد ذكر ابن سفيان عن مسلم في رواية الجلودي بإثر هذا الحديث ما يدل على تصحيح مسلم لهذه الزيادة من قوله: وقال أبو بكر ابن أخت أبي النضر في هذا الحديث، أي: طعن فيه ورد مسلم عليه. وقوله(2): تريد أحفظ من سليمان وذكره صحتها في حديث أبي هريرة، وهى حجة لمن لا يقرأ خلف الإمام في الجهر، ولم يذكر في هذا الحديث السلام، وقد يحتج به المخالف لمذهبه ممن لا يرى السّلام من الصلاة، وقد ذكر هنا جميع ما يفعل الإمام والمأموم، وهو موضع تعليم، وسيأتى الكلام على مسألة السلام إن شاء الله تعالى.
[ تم الجزء الأول والحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا نبيه
وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا، وحسبنا الله ونعم الوكيل،
ويتلوه الجزء الثانى: وقوله في الحديث: أمرنا الله أن نصلى عليك، فكيف نصلى عليك ؟ - صلى الله عليه وسلم - تسليما دائما ](3)
[ بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى على سيدنا محمد واله ](4)
__________
(1) في (ح):" لها ".
(2) في (ح):" بقوله ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (ط) و(ح).
(4) مابين المعكوفين ليس في (ط) و(ح).(2/411)
وقوله في الحديث:" أمرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك ؟" حكم من خوطب بأمر محتمل لوجهين، أو مجمل لا يفهم مراده، أوعام يحتمل الخصوص، أن يسأل ويبحث إذا أمكنه ذلك واتسع له الوقت للسؤال، إذ لفظ "الصلاة "الواردة في القرآن بقوله تعالى:{ صلّوا عليه } محتمل لأقسام معانى لفظ الصلاة من الرحمة، والدعاء، والثناء، فقد قيل: صلاة الله عليه: ثناؤه عليه عند الملائكة، ومن الملائكة دعاء، وقيل: هى من الله رحمة، ومن الملائكة رقة ودعاء بالرحمة. وقيل: هى من الله لغير النبي رحمة، وللنبي تشريف وزيادة تكرمة، وقيل: هى من الله وملائكته تبريك(1)، ومعنى { يصلون }: يباركون. فيحتمل أن الصحابة سألوا عن المراد بالصلاة لاشتراك هذه اللفظة، وإلى هذا ذهب بعض المشايخ في معنى سؤالهم في هذا الحديث، وقد اختلف الأصوليون في الألفاظ المشتركة إذا وردت مطلقة، فقيل: تحمل على عموم مقتضاها من جميع معانيها ما لم يمنع مانع، وقيل: تحمل على الحقيقة دون ما تجوز به، واليه نحا القاضي أبو بكر، وذهب بعض المشايخ إلى أن سؤالهم عن صفة الصلاة لا عن جنسها ؛ لأنهم لم يؤمروا بالرحمة ولا هى لهم، فإن ظاهر أمرهم بالدعاء، وإليه نحا الباجي.
قال القاضي: وهو أظهرفى اللفظ، وإن كانت الصلاة كما قدمنا مشتركة اللفظ. والخلاف في معنى الصلاة من الله والملائكة موجود، ويعضده السؤال فيه بكيف الشيء(2) يقتضي الصفة لا الجنس الذي يسأل عنه بها، وسؤالهم هنا عن الصلاة يحتمل أن يراد به الصلاة في غير الصلاة أوفى الصلاة وهو الأظهر لقوله:« والسلام(3) كما قد علمتم ».
__________
(1) في (ح) و(ط):" تبرك ".
(2) في (ح):" التي ".
(3) قوله:" والسلام " ليس في (ح).(2/412)
وقوله:« قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد »؛[ أمر ثان من النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أمر الله تعالى ](1)، ولم يذكر في حديث مسعود غير الآل، وكذلك في حديث كعب بن عجرة، وفي حديث أبي حميد الساعدي:" وعلى أزواجه وذريته " مكان " آل محمد "، وقد اختلفت الآثار في هذا، وكلها ترجع إلى معنى واحد، وقد اختلف في الآل من هم ؟ قيل:أتباعه، وقيل: أمته، كما قيل:{ أدخلوا آل فرعون اشدّ العذاب }، وقيل: آل بيته، وقيل: أتباعه من رهطه وعشيرته، وقيل: آل الرجل: نفسه ؟ ولهذا كان الحسن يقول: اللهم صل على آل محمد، وكذلك في الحديث:" كما صليت على آل إبراهيم "، ويروى "على إبراهيم"، ومعنى البركة هنا: الزيادة من الخير والكرامة والتكثير منهما(2)، ويكون بمعنى الثبات على ذلك من قولهم: بركت الإبل، وتكون البركة هاهنا بمعنى: التطهير والتزكية من المعايب، كما قال تعالى:{ رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت }، وكما قال: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا }، وهو أحد التأويلات في قولهم:تبارك الله، ثم اختلف أرباب المعانى في فائدة قوله:" كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم " على تأويلات كثيرة أظهرها أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - سأل ذلك لنفسه وأهل بيته ؟ ليتم النعمة عليهم والبركة كما أتمها على إبراهيم وآله، وقيل: بل سأل ذلك لأمته ليثابوا على ذلك، وقيل: بل ليبقى له ذلك دائمًا إلى يوم الدين، ويجعل له به لسان صدق في الآخرين، كما جعله(3) لإبراهيم، وقيل: بل سأل ذلك له ولأمته، وقيل: كان ذلك قبل أن يعرف - عليه السلام - بأنه أفضل ولد آدم، ويطلع على علو منزلته، وقيل: بل سأل أن يصلى عليه صلاة يتخذه بها خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، وقد قال - عليه السلام - في الصحيح آخر أمره:« لكن صاحبكم خليل
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(2) في (ح):" منه ".
(3) في (ح):" جعلت ".(2/413)
الرحمن »، وقد جاء أيضًا(1) أنه حبيب الرحمن، وقال أيضًا:« أناحبيب الله ولا فخر »، ذكره الترمذى. فهو الخليل، وهو(2) الحبيب - صلى الله عليه وسلم -، وقد اختلف العلماء أيهما أشرف، أو هما سواء وبمعنى وفضل أكثرهم رتبة المحبة، وقد بسطنا الكلام هذا الفصل في كتاب "الشفاء" بحول الله تعالى(3). ولم يجئ في حديث من هذه ذكر، الرحمة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد وقع لنا في بعض الأحاديث الغريبة(4)؛ ولهدا ما اختلف شيوخنا في جواز الدعاء للنبى - عليه السلام - بالرحمة(5)، وذهب بعضهم وهو اختيار أبي عمر بن عبد البر ؛ أنه لا يقال ذلك في حقه، وإنما حقه هو الصلاة والتسليم، وحق غيره الدعاء، وقد أجاز ذلك غيره وهو مذهب أبي محمد بن أبي زيد، وقد جاء في بعض طرق تشهد علي - رضي الله عنه -: "اللهم اغفر لمحمد وتقبل شفاعته "، وهو بمعنى: ارحمه، وفي صفة السلام "السلام عليك، أيها النبي ورحمة الله وبركاته(6)"، وأن معنى الصلاة والرحمة سواء، وحجة الأكثر تعليم(7) النبي - عليه السلام - الصلاة عليه، وليس فيها ذكر الرحمة، فهو مما لا(8) يختص به الأنبياء، وكما كره من كره منهم الصلاة على غير الأنبياء ؛ لأنه مما اختصوا به، كذا لا يدعى لهم بما يدعى به لغيرهم، وقد قال الله تعالى:{ لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا}. وهذا وإن ورد في المخاطبة فالحجة لهم في هذا الباب بينة.
__________
(1) قوله:" أ]ضًا " ليس في (ط).
(2) قوله:" هو " ليس في (ط).
(3) في (ط):" بحمد الله " بدل:" بحول الله تعالى.
(4) في (ط) زيادة:" في ذلك ".
(5) قوله:" بالرحمة " ليس في (أ).
(6) قوله:" وبركاته " ليس في (أ) و(ح).
(7) في (ط):" تعلم ".
(8) قوله:" لا " ليس في (ح) و(ط).(2/414)
وقوله: " صل على محمد وآل محمد " يحتج به من يجيز الصلاة [ في غير الصلاة](1) على غير الأنبياء، وقد اختلف في ذلك، وروى عن مالك كراهته؛ ولأنه لم يكن من عمل من مضى بل ذكر عن مالك رواية شاذة ؟ أنه لا يصلى على أحد من الأنبياء سوى محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومعنى قوله هذا عندي يرجع إلى الأول، أي: من أمته وأصحابه، أو يكون المعنى: أنا لم نتعبد بالصلاة على غيره، وحجة هؤلاء تخصيص الأنبياء بهذا النوع من الدعاء، كما قال تعالى:{ صلّوا عليه وسلّموا تسليمًا }، كما خص الله عند ذكره بالتقديس والتعظيم والتسبيح كذلك يخص الأنبياء بالصلاة والتسليم، ويخص غيرهم من المؤمنين بالدعاء بالرضا(2) والمغفرة والرحمة، وكذا ذكرهم الله تعالى فقال: {رضي الله عنهم ورضوا عنة }، و { رضي الله عن المؤمنين }، و{ ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان }، { واغفر لنا وارحمنا }، {ويستغفرون للذين آمنوا }، ولأن مثل هذا هو المعروف من عمل الصحابة والصدر الأول، وذهبت طائفة إلى جواز ذلك للمؤمنين لقوله تعالى:{ هو الذي يصلي عليكم وملائكته }، ولقوله - عليه السلام -:« اللهم صل على آل أبي أوفى»، وكان إذا أتاه قوم(3) بصدقتهم صلى عليهم، ولقوله: "صل على محمد وآل محمد وعلى أزواجه وذريته "، وحجة الآخر(4) عليهم في هذا أن ما كان من الله تعالى والنبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا فبخلاف ما كان من غيرهما، ولأنه منهما مجرى الدعاء والرحمة والمواجهة، وليس فيهما معنى التعظيم والتوقير الذي يكون منا، وإذا كان من غيرهما جاء تسوية منه بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم -، والصلاة على الآل والذرية والأزواج إنما جاء(5) بحكم التبع والإضافة إليه لا على التخصيص.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).
(2) في (ح):" والرضا ".
(3) في (ح):" القوم ".
(4) في (ح):" الآخرين ".
(5) في (ح):" تكون " بد:" جاء ".(2/415)
وقوله:« والسلام كما قد علمتم »، ورويناه أيضًا:"عُلِّمْتُم "، وهو راجع إلي ما علموه وعلمهم في التشهد، كما كان يعلمهم السورة من القرآن، وقيل: راجع(1) إلى ماعلموه وعلمهم من السلام من الصلاة.
قال الإمام: قال مسلم: ثنا صاحب لنا، ثنا إسماعيل بن زكريا، عن الأعمش. وذكر حديث كعب بن عجرة، في هذا الباب هكذا في نسخة ابن ماهان وفي رواية الجلودي عن إبراهيم، عن مسلم، ثنا محمد بن بكار، ثنا إسماعيل بن زكريا، عن الأعمش، هكذا سماه وجوّده، وهذا في رواية ابن ماهان أحد الأحاديث المقطوعة الإسناد.
قال القاضي رحمه الله: هذا قول(2) الجيانى، وهومذهب الحاكم أبي عبدالله، والصواب ألاّ يعد هذا في المقطوع، وإنما يعد في المقطوع ما ترك فيه اسم رجل قبل التابعي، وأرسل قبله على عرف أهل الصنعة، وإلا فكله مرسل، والمنقطع نوع من المرسل على ما بيناه في هذا الكتاب، والأولى بمثل هذا الحديث أن يعد في المجهول الراوي ؛ لأنه لم ينقطع له سند، وإنما جهل اسم راويه كما لو جهل حاله، وهو قول أئمة هذا الشأن.
وقوله:« من صلى على واحدة صلى الله عليه عشرا » معنى: صلاة الله عليه رحمته له وتضعيف أجره على الصلاة عشرًا، كما قال تعالى:{ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها }، وقد يكون على وجهها، وظاهرها تشريفًا(3) له بين ملائكته، كما قال في الحديث الآخر:« وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم(4)»، وقد تقدم الكلام على هذا.
__________
(1) قوله:" راجع " ليس في (أ) و(ط).
(2) في (ح):" مذهب ".
(3) في (ح):" تشريف ".
(4) في (ح) و(ط):" منه ".(2/416)
وقوله:« إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك(1) الحمد، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه » كذا جاء عن مالك عن سُمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة في "مسلم" و"الموطأ" هذا الحديث، وجاء سنده(2) أيضًا بعينه في "الموطأ" بعده:« إذا قال الإمام: { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } فقولوا: آمين }، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له " الحديث، وذكر مسلم هذا الحديث بنص سند مالك بمعنى هذا اللفظ الآخر، وذكرحديث مالك الآخر عن الزهري، عن سعيد وأبى سلمة، عن أبي هريرة:« إذا أمن الإمام فأمنوا » الحديث، وذكر الحديث الآخر:« إذا قال أحدكم في الصلاة: آمين، وقالت(3) الملائكة في السماء: آمين، فوافقت إحداهما الأخرى، غفر له ما تقدم من ذنبه »، فيحتج بقوله: « إذا قال الإمام:{ ولا الضالين } فقولوا: آمين } من لا يرى للإمام قولها، وإنه(4) إنما يقولها المأموم، ويحتج بقوله:« إذا أمّن الإمام فامّنوا } من يرى أنه يؤمن، ومن يرى جهره بالتأمين ؛ لأنه لولم يجهر لم يسمع قوله لذلك.
__________
(1) في (ح):" ربنا ولك " بدل:" اللهم ربنا لك ".
(2) في (ط):" بسنده ".
(3) قوله:" قالت " ليس في (أ).
(4) قوله:" إنه " ليس في (ح).(2/417)
[ وقد اختلفت الآثار في جهره - عليه السلام - بها وسره(1)، وقيل: كان هذا أول الإسلام وليعلمهم ذلك - عليه السلام - ويسمعهم كيف يقولونه ؛ ولذلك قال بعض الصحابة:" وكان يقول: آمين رافعًا بها صوته كالمعلم لنا "](2)، وقول ابن شهاب: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: آمين، تفسير لقوله:« إذا أمّن الإمام فأمّنوا » ورفع للاحتمال، ويقول(3) من قال معناه(4) إذا دعا بقوله:{ اهدنا الصّراط المستقيم } إلى آخرها، قالوا: والداعى يسمى مؤمّنًا كما يقال للمؤمن: داعيًا، وقد يكون أيضًا على هذا المذهب معنى قوله:« إذا أمّن »، أي: بلغ موضع التأمين وهو تمام السورة يكون(5) بمعنى قوله:"وإذا قال: {ولا الضالين }، كما يقال: أنجد الرجل، أي(6): بلغ نجدًا من الأرض، وأحرم إذا دخل في الحرم وبلغه.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة مع اتفاقهم على أن الفذ يؤمّن، والمأموم والإمام فيما يُسر فيه يؤمّنان، وكل ذلك سواء،[ إلا طائفة شذت فقالت: التأمين يفسد الصلاة ؛ لأنه كلام ](7)، فذهب جمهور العلماء وأئمة الفتوى والحديث إلى أن الإمام يقولها أيضًا في الجهر، وهى إحدى الروايتين عن مالك، وذهبت فرقة قليلة إلى أنه لا يقولها، وهي الرواية الثانية عن مالك، ثم الشافعي وفقهاء أهل الحديث يرون الجهر بها [ للإمام والمأموم](8)، والكوفيون يرون الإسرار بها، وهي الرواية عن مالك وقال: لا يسر في الجهر بها ألماموم (9).
__________
(1) من قوله:" وقد اختلفت...." إلى هنا ليس في (أ).
(2) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(3) في (ط):" لقول ".
(4) في (ح) و(ط):" لا يقولها معناه ".
(5) في (ح):" ويكون".
(6) في (ح):" إذا ".
(7) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(8) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(9) قوله:" وقال: لا يسر في الجهر بها المأموم " جاء مكانها في (ح) و(ط):" وقال الأبهري يجهر بها المأموم ".(2/418)
ومعنى قوله:« من وافق قوله قول الملائكة »، قيل: يعني في وقت تأمينهم ومشاركتهم في الدعاء والتأمين، ويفسره قوله في الحديث الآخر: «وقالت الملائكة في السماء: آمين »، وإليه ذهب الداودي والباجي، وعلى هذا يظهر قول الخطابي: أن الفاء هنا ليست(1) للتعقيب وأنها للمشاركة، إذ علق الغفران بالموافقة في القول على هذا التأويل، وقيل: من وافق تأمينه تأمين الملائكة في الصفة والخشوع والإخلاص(2)، وعلى هذا يحمل قوله في مثل هذا الحديث الذي فيه:« إذا قال: سمع الله لمن حمده » الحديث، وقيل: من وافق دعاءه دعاء الملائكة، وقيل: المراد بالملائكة هنا: الحفظة المتعاقبون بالليل والنهار، يشهدون الصلاة مع المؤمنين ويؤمنون معهم. ولكن قيل: يرد هذا قوله:« في السماء »، وقيل: لا يرده، بل إذا قالها الحاضرون قالها من فوقهم، حتى ينتهى إلى ملائكة السماء، وقيل معناه: من وافق استجابة دعاءه كما يستجاب للملائكة، وقيل: من وافق دعاءه دعاء الملائكة الذين يستغفرون لمن في الأرض ؛ لأن في(3) قوله:{ اهدنا } دعاء له ولأهل ملته، ثم قال:" آمين " تأكيدًا لإجابة الدعاء لجميعهم كما تفعل الملائكة، والوجه الأول أظهر وقد جاء فيه حديث مفسر بيّن لا يحتاج إلى تأويل، وكما أن الله تعالى جعل من ملائكته مستغفرين لمن في الأرض ومصلين على من صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وداعين لمن ينتظر الصلاة، وكذلك(4) يختص منهم من يؤمن عند تأمين المؤمنين أو عند دعائهم،كما جعل منهم لعّانين لقوم من أهل المعاصي، وما منهم(5) إلا له مقام معلوم.
__________
(1) قوله:" ليست " ليس في (ط).
(2) في (أ) و(ح):" من الإخلاص والخشوع ".
(3) قوله:" في " ليس في (ح).
(4) في (ط):" فكذلك ".
(5) في (ط):" منا ".(2/419)
وفي قوله:« إذا قال الإمام:{ ولا الضالين } حجة لقراءة أم القرآن(1)، وكونها ملتزمة للصلاة وغير منفصلة منها، وحجة لمن لا يرى السكتة للإمام ولا قراءة للمأموم خلفه فيما جهر فيه ؛ لأنه ذكر ما يفعل الإمام والمأموم، فذكرالتكبير للإمام، ثم ذكر بعده تكبير المأموم، ثم ذكر قراءة الإمام ولم يذكر أ للمأموم قراءة، ولو كانت السكتة من حكم الصلاة لقال: فإذا سكت فاقرؤوا، كما قال:« فإذا قال:{ غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فقولوا: آمين »، وهو موضع تعليم وبيان. وقد اختلف العلماء في هذه السكتة للإمام: فذهب الشافعي والأوزاعي وأحمد واسحاق ومن وافقهم إلى(2) أن على الإمام ثلاث سكتات: بعد التكبيرة لدعاء الاستفتاح، وبعد تمام أم القرآن(3)، وبعد القراءة ليقرأ من خلفه فيها، وذهب مالك رحمه الله إلى إنكار جميعها، وذهب أبو حنيفة وجمهور السلف والعلماء إلى إنكار ذلك في السكتتين الأخريين، وقد رويت في ذلك أحاديث لا يتفق عليها عند(4) أهل الحديث، قد ذكر(5) مسلم منها ما يأتى الكلام عليه بعد هذا، إن شاء الله تعالى.
وقوله:" سقط النبي - صلى الله عليه وسلم - عن فرس فجحش شقه الأيمن "، الجحش(6) مثل الخدش، وقيل: فوقه، وقد يكون ما أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذا السقوط مع الخدش رضٌّ في الأعضاء وتوجع، فلذلك منعه القيام للصلاة(7).
__________
(1) في (ح):" المؤمنين " بدل:" ألقرآن".
(2) قوله:" إلى " ليس في (ط).
(3) في (أ):" القراءة " بدل:" أم القرآن".
(4) قوله:" عند " ليس في (ح).
(5) في (ح):" فذكر " بدل:" قد ذكر ".
(6) قوله:" الجحش " ليس في (ح).
(7) في (ح):" في الصلاة ".(2/420)
وقوله:" فصلى جالسًا وصلينا وراءه جلوسًا(1)"، وفي الحديث الآخر: "فاشار إليهم أن اجلسوا "، إلى قوله:" فإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون، قال الإمام: تعلق بعض الناس بهذا الحديث ورأى أن الإمام إذا صلى جالسًا لعذر أن من ائتم به يجلس بجلوسه، وأكثر الفقهاء على خلاف هذا، وأنهم لا يجلسون ولا يسقطون فرض القيام مع قدرتهم عليه لغرض الموافقة للإمام، وعندنا قولان في صحة إمامة الجالس بالقيام: أحدهما: إجازة ذلك، تعلقًا بإمامة النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس في مرضه الذي مات فيه على أحد التأويلين: أنه الإمام دون الصديق. والثاني: منع ذلك، تعلقًا بقوله - عليه السلام -: « لا يؤمن أحد بعدي جالسًا ».
__________
(1) في (ح):" جلوسًا أجمعون ".(2/421)
قال القاضي: ظاهر هذا الحديث أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا كان في الفريضة، ويدل عليه قوله:" فحضرت الصلاة "، وهذا يفهم منه المعهودة وهى الفريضة، وقد أشار ابن القاسم إلى أنه كان في النافلة، وقيل: نسخت صلاة الإمام قاعدًا بالناس قعودًا بصلاته قاعدا وهم قيام، في حديث إمامة أبي بكر وسنذكره، وإلى هذا نحا الحميدي بقوله آخر الحديث: وإنما يؤخذ بالآخر من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: ثم نسخت إمامة القاعد جملة بقوله:« لا يؤمن أحد بعدى قاعدًا(1)»، وبفعل الخلفاء بعده وأنه لم يؤم أحد منهم قاعدًا، وإن كان النسخ لا يمكن بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمثابرتهم على ذلك تشهد بصحة نهيه عن إمامة القاعد بعده وتقوى لين ذلك الحديث، وقيل: هذا خصوص للنبي - عليه السلام -،[ وقيل: بل الأولى غير منسوخة محكمة فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - ](2) لئلا تختلف حالة الإمام والمأمومين، وللعلة الأخرى التي نبّه عليها في الحديث بقوله(3): «كدتم تفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود »، وقيل(4): لئلا يستره بعضهم عن بعض بقيامهم حتى لايرون أفعاله، ولذلك لما تركهم في القصة الأخرى قيامًا ترك أبا بكر - رضي الله عنه - علَمًا لهم لذلك يقتدون به، وقيل: بل صلاته الثانية على الأصل، وكان أبو بكر فيها الإمام، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مأمومًا، وسيأتى تمام(5) الكلام على هذا(6).
__________
(1) في (ح):" جالسًا ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(3) قوله:" بقوله " ليس في (ح).
(4) في (ط):" قيل ".
(5) قوله:" تمام " ليس في (ح).
(6) في (ط):" هذا بعد ".(2/422)
وقوله:« إنما جعل الإمام ليؤتم به » حجة لمالك وعامة الفقهاء في ارتباط صلاة المأموم بصلاة الإمام، وترك مخالفته له في نية الصلاة وغير ذلك، لاسيما مع الزيادة الثانية من قوله فيه:« فلا تختلفوا عليه »، ولا خلاف أشد من اختلاف النيات في صلاتين فرضين، أو فرض ونفل. وخالف في ذلك الشافعي وفقهاء أصحاب الحديث، وأجازوا اقتداء المفترض بالمتنفل، ومصلي الظهر خلف مصلي العصر، وحجتهم حديث معاذ. ولا حجة لهم فيه، وسيأتى الكلام عليه إن شاء الله تعالى، وتأولوا الاقتداء المذكور في هذا الحديث والنهي عن الاختلاف على الأفعال الظاهرة.
وقوله:« إنما(1) الإمام جنّة »، أي: ساتر لمن خلفه ومانع من مفسدات صلاتهم، من سهو يحمله عنهم، ومار يقطعها عليهم، فهو لهم كالمجن، والجنة: وهى الترس الذي يستر من وراءه ويدفع عنه ما يكرهه.
وقوله:« فإذا ركع فاركعوا » الحديث، وقوله:« لا تبادروا الإمام » كله يدل(2) على أن فعل المأموم بعد الإمام، وقد تقدم الكلام عليه، وسيأتي تمامه بعد في موضعه.
__________
(1) في (ح):" إنما جعل ".
(2) في (ح):" دليل ".(2/423)
وقوله:« واذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا » ظاهره ما تقدم من اتباعه في عذره، وتأويل من تأول أنه يحتمل أنه في اتباعه في وقت جلوسه في الصلاة بعيد جدًّا يخرج الحديث عن ظاهره ومفهومه، وقد علله في كتاب مسلم بموافقة الأعاجم في قيامهم على ملوكهم وهم قعود، وهذا رفع للإشكال، ولم يرد أنهم فعلوا ذلك في حين جلوسه لكن في حديث أبي هريرة الذي ذكره مسلم بغير سبب المرض قد يحتمل هذا الاحتمال إن لم يجعل حديثا واحدًا، وقد اختلف بعد ما تقدم في إمامة الجالس لعذر بمثله من أهل الأعذار جلوسًا(1)، فالمعروف جوازه، وهو مشهور مذهبنا، ونقل فيه قول آخر: لا يجوز، وقيل: هذه الرواية وهم، وهو كما قيل، ولا وجه له، وإنما وهم فيها من سمع، النهي عن إمامة الجالس. فأخذ بعموم اللفظ فيه وحمله في كل حال.
وقوله في الحديث الآخر:" وأبو بكر يسمع الناس تكبيره "، وفي طريق آخر:" وأبو بكر خلفه فإذا كبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبر أبو بكر ليسمعنا "، قال الإمام: اختلف الناس، هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الإمام في الصلاة ؟ وفائدة الخلاف جواز إمامة الجالس، وقد تقدم الخلاف فيه.
__________
(1) قوله:" جلوسًا " ليس في (ح).(2/424)
قال القاضي: جاء هذا الحديث الذي ذكر مسلم أولاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار إليهم أن اجلسوا في حديث سقوطه، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان فيه الإمام بغير خلاف وأن أبا بكر هنا صلى خلفه، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كبر هو يسمع الناس، وأن هذه الصلاة كانت في منزل النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال في "الأم": " دخلنا نعوده فحضرت الصلاة فصلى بنا قاعدًا "، وفي حديث مالك فيه:" صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو شاك في بيته "، وذكرالحديث وليس بحديث إمامة أبي بكر في مرضه الذي توفى فيه، فإن الناس صلوا في ذلك قيامًا. والحديث الذي اختلف الناس فيه إنما هو ذاك لا هذا إلا على قول من يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان الإمام. وسيأتى الكلام عليه بعد.
وقوله:" وأبو بكر يسمع الناس تكبيره ". قال الإمام: فيه حجة لمن أجاز من أصحابنا الصلاة بالمسمع، وقد اختلف في ذلك شيوخنا فقال بعضهم: لا تصح الصلاة به ؛ لأن المقتدى به اقتدى بغير إمام، وقال بعضهم: يصح لأن المسمع علم على الإمام فكان مقتديًا بالإمام، وقال بعضهم: إن أذن الإمام للمسمع في الإسماع صح الاقتداء به لأنه يصير حينئذ من اقتدى به اقتدى بالإمام ؛ لأنه عن إذنه.
وحديث أبي بكر من الطريقين الذي ذكرنا حجة لمن أجازه، وقد ذكر مسلم بعد هذا أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث آخر لأصحابه:« تقدموا(1) فأتموا بي وليأتم بكم من بعدكم » الحديث، فأجاز الائتمام بمن ائتم به، ولا فرق بين الاقتداء بالفاعل والقائل. وقد بوّب النسائي على هذا الحديث الائتمام بمن ائتم بالإمام، كما بوّب البخاري أيضًا على هذا الحديث الذي قدمناه: باب من أسمع الناس تكبير الإمام.
__________
(1) قوله:" تقدموا " ليس في (ح).(2/425)
قال القاضي: وكذلك اختلفوا في صلاة المكبر(1) نفسه هل تصح أو تفسد أو يحتاج فيها إلى إذن الإمام، وقيل: إنما يجوز هذا في مثل الأعياد والجنائز وغير الفرائض الذي يجتمع لها الناس، وقيل: يجوز في هذا وفي الجمعات لضرورات كثرة الجموع، وقيل: إنما يجوز إذا كان ذلك بصوت وطى غير متكلف، فإن تكلف أفسد على نفسه وعلى من ائتم به. وفي هذا الحديث إمامته بهم - عليه السلام - في بيته كما تقدم، وجواز صلاة الفرض في جماعة في المنازل، وذلك أنه لم يستطع الخروج لعذره ولا يمكن التقدم عليه، فصلى بهم وصلى الناس وراءه في منزله، والظاهر أن من في المسجد صلى بصلاته لكون منزله في المسجد. وفيه جواز صلاة الإمام أرفع مما عليه أصحابه إذا كانت معه جماعة هناك ؛ لقوله في بعض طرق هذا الحديث:" في مشربة له"، وهى الغرفة، وقد روي هذا عن مالك، وحمله شيوخنا على تفسير(2) ما وقع له من الكراهة مجملاً، وأن منعه من ذلك إنما هو لمن يفعله تكبرًا، وهو ضد ما وضعت له الصلاة من التواضع والمسكنة، ولذلك قال: لأن هؤلاء يعبثون.
__________
(1) في (ط):" المسمع ".
(2) قوله:" تفسير " ليس في (ح).(2/426)
وقوله: "فالتفت إلينا فرآنا قيامًا فأشار إلينا فقعدنا(1)": فيه أن الالتفات في الصلاة غير مفسد لها وإن كان مكروها فيها، واختلاسًا من الشيطان منها، كما جاء في الحديث، ولعل التفاته - عليه السلام - هنا إنما كان قاصدًا ليعرف عملهم في الصلاة وراءه ؛ ليبين لهم سنة ذلك، كما كان إذ(2) كانت حاله اختلفت ولم يتقدم منه لهم فيها بيان، فالتفت - صلى الله عليه وسلم - ليرى هل اقتدوا به وامتثلوا قوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي »، وحملوه على عموم الأحوال، أو اجتهدوا وأوّلوا(3) أن ذلك ما لم يكن لعذر، فبيّن لهم - صلى الله عليه وسلم - اتباعه(4) في كل حال والإشارة والالتفات من العمل اليسير لإصلاح الصلاة غير مفسد لها ولا مكروه فيها، وقد ذكرنا من هذا قبل والخلاف فيه.
__________
(1) في (ح):" فعندنا ".
(2) في (ح):" إذا ".
(3) قوله:" وأولوا " ليس في (ح) و(ط).
(4) في (أ):" اتباعهم ".(2/427)
وقوله:« إن كدتم تفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود » بيان لعلّة أمرهم بالجلوس، ودليل على كراهية هذا لهذه الأمة، وعليه يحمل ما جاء في النهي عن القيام والوعيد لمن سره أن يتمثل له الناس قيامًا، يعني وهو قاعد، وقد قال عمر ابن عبد العزيز رحمه الله، وقد قاموا له: إن تقوموا نقم، وإن تقعدوا نقعد، فهو إنما كره القيام على القاعد، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بقيام النبي - صلى الله عليه وسلم - لجعفر وعكرمة وأسامة وغيرهم وتلقيهم، وقد قال للأنصار:« قوموا لسيدكم » وهو أولى ما حمل الحديث عليه، وجاء مثله عن جماعة من العلماء والسلف. وحمل بعضهم الباب على كراهية القيام على الجملة على(1) أي حال كان، إذا كان على جهة الإعظام والإكبار، وعليه يدل مذهب مالك. وفي هذا من كراهته(2) - عليه السلام - أن يفعلوا فعل فارس والروم في الصلاة حجة لقول مالك في فساد صلاة الناس إذا صلى بهم إمامهم أرفع مما عليه أصحابه، وقوله: لأن هؤلاء يعبثون، وتعليل من علله أنهم إذا(3) فعلوا ذلك كبرًا وتعظيمًا لأنفسهم من مساواة المأمومين(4) معهم، كما كره النبي - صلى الله عليه وسلم - لهؤلاء(5) التشبه بكبر فارس والروم.
وقوله:« ضعوا لي ماء في المخضب » وهو مثل الإجانة والمركن.
وقوله: "ذهب لينوء(6)": ليقوم وينهض(7).
وقوله:" والناس عكوف "، أي: ملتزمون مجتمعون " فأغمى عليه ثم أفاق، ثم قال:« ضعوا لي ماء في المخضب » فاغتسل "، ثم ذكر تكرار الحال مرة أخرى، دليل على أن الإغماء ينقض الطهارة، ويكون المراد هنا بالغسل الوضوء، والله أعلم.
__________
(1) قوله:" على " ليس في (ح) و(ط).
(2) في (ط):" كراهيته ".
(3) في (ح):" إذا هم ".
(4) في (أ):" المؤمنين ".
(5) قوله:" لهؤلاء " ليس في (ح).
(6) في (ح) و(ط):" لينوءني ".
(7) في (ح):" ويقعد ".(2/428)
وإرساله إلى أبي بكر - رضي الله عنه - للصلاة واستخلافه لها وحده ألا(1) يكون سواه أدل(2) دليل على فضيلة أبي بكر - رضي الله عنه - وتقدمه، وتنبيه على أنه أولى بخلافته كما قال الصحابة - رضي الله عنهم -:" رضينا لدنيانا من رضيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا "؛ ولأن الصلاة للخليفة، ولهذا قال عمر - رضي الله عنه -:" من تطيب منكم نفسه أن يؤخره عن مقام أقامه فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
وقوله: "وكان أبو بكر رجلاً رقيقا "، أي: رقيق القلب كثير الخشية سريع الدمعة، كما فسر في الحديث بعد هذا من قوله:" وكان إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه "، وهو بمعنى قوله:" رجل أسيف " في الرواية الأخرى، والأسيف ؛ قال الإمام: قال الهروي وغيره: يعني سريع الحزن والبكاء، وهو الأسوف أيضًا، والأسيف في غير هذا العبد، والأسف(3) الغضبان، ومنه قوله تعالى:{ فلما رجع موسى إلى قومه(4) غضبان أسفًا }.
قال القاضي: وقول أبي بكر لعمر:" صل بالناس " بعد أمره له - عليه السلام - لهذه العلة، أو على طريق التواضع، وقول عمر:" أنت أحق بالأمر ": دليل على تقديم الصحابة له وشهادتهم بسبقه.
وفيه: أن للمقدم وللمستخلف أن يستخلف غيره، وفيه: دفع الفضلاء(5) هذه الأمور الخطيرة عن أنفسهم إلى غيرهم.
وقوله:" فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين رجلين " وفي الرواية الأخرى: "يتهادى(6) بين اثنين "، أي: يمشى بينهما متكئًا عليهما، والتهادى: المشي الثقيل مع التمايل يمينا وشمالاً.
وقوله:" تخط رجلاه في الأرض " إخبار عن مبلغ ضعف قواه، وأن رجليه لم تقلّه(7)، بل كان يجرهما بالأرض ولا يعتمد عليهما.
__________
(1) في (ح):" لئلا ".
(2) في (أ):" أجمل ".
(3) في (ح):" الأسيف ".
(4) قوله:"{ فلما رجع موسى } " ليس في (ح).
(5) قوله:" الفضلاء " ليس في (ط).
(6) في (ط):" تهادى ".
(7) في (ط):" تقلاه ".(2/429)
وقوله:" اشتد به الوجع "، أي: المرض، والعرب تسمى كل مرض وجعًا(1). وقوله:" أحدهما العباس" كذا في حديث ابن أبي عائشة، وذكر مثله من حديث عقيل عن الزهري، عن عبيد الله في رواية الجلودي والكسائي وسائر رواة مسلم، وكذلك رواه البخاري بهذا السند والذي قبله، ووقع عند ابن ماهان وحده بين الفضل بن عباس، وكذا ذكره مسلم في الباب من رواية عبد الرازق، عن معمر، عن الزهري، وقد فسر في الحديث أن الآخر على بن أبي طالب، ووقع في الباب في حديث يحيى بن يحيى: حدثنا حميد بن عبدالرحمن الرُؤاسي، كذلك(2) رواه بضم الراء وواو مهموزة، وعند العذري: الرقاشى، وهو خطأ.
__________
(1) قوله:" وجعًا وقوله " ليس في (ط).
(2) في (أ):" كذا ".(2/430)
وقد اختلف العلماء في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه وأبى بكر، ومن كان فيها(1) الإمام منهما، ونقل عن عائشة وغيرها الوجهان في ذلك، فقيل: هى ناسخة لصلاته حين جحش وأمرهم بالصلاة قعودًا، وأن حكم المأموم إذا كان صحيحًا ألا يسقط عنه مرض إمامه فرض القيام(2) في صلاته، وعليه أن يصلي وراءه قائمًا. وهو قول أكثر الفقهاء والمحدثين وإحدى الروايتين عن مالك. وقيل: إن فعله الأول ليس بمنسوخ، وأن حكم الإمام إذا صلى جالسًا أن يصلى من وراءه جلوسًا بنص الحديث، وأنها سنة، وإليه ذهب أحمد، وزعم أن صلاة أبي بكر هذه آخرًا كان فيها(3) إمامًا على الأصل الأول والنبى - صلى الله عليه وسلم - فيها مأموم، وقيل: إن الحكمين منسوخان، نسخ آخرهما(4) الأول ثم نسخ الآخر بقوله:« لا يؤمن أحد بعدي جالسًا »، وقيل: بل أمرهم بالجلوس في الحديث الأول قبل دخولهم في الصلاة، وفي الآخر(5) وجدهم يصلون وقد لزمهم القيام فلم يأمرهم بالجلوس، وقيل: بل كان هذا كله خالصًا(6) للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يصح لأحد أن يؤم جالسًا بعده، كما خصه بالإمامة في صلاة جاء وقد صلى المأموم بعضها(7)، وهذا لا يصح لغيره، وأن حكم المصلي قاعدًا لعذر ألاّ يصلى وراءه من يطيق القيام قاعدًا، وهو مشهور قول مالك وجماعة أصحابه، وهذا أولى الأقاويل ؛ لأنه - عليه السلام - لا يصح التقدم بين يديه في الصلاة ولا غيرها، لا لعذر ولا لغيره، وقد نهى الله الذين آمنوا عن ذلك، ولا أن يكون أحدًا(8) شافعًا له وقد(9) قال:« أئمتكم شفعاؤكم »، ولذلك قال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله -
__________
(1) في (ح):" فيهما ".
(2) في (ح):" القيام عنه ".
(3) قوله:" كان فيها " ليس في (ح).
(4) في (ح):" أحدهما ".
(5) في (ط):" الأخرى ".
(6) في (ح) و(ط):" خاصا ".
(7) في (ط):" بعدها ".
(8) في (ح) و(ط):" أحد ".
(9) قوله:" وقد " ليس في (ح).(2/431)
صلى الله عليه وسلم -. وغيره إذا أصابه عذر قدم غيره، ولم يكن لتقدمه مع نقص صلاته وهو يجد العوض وجه، لكن إمامة عبد الرحمن بن عوف له(1) تعارض هذا. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لبلال حين أراد تأخيره: « دعه »، وصلاته خلفه ما أدرك، وقد يقال فى قصة عبد الرحمن: إنها مختصة عن هذا الأصل لبيان حكم القضاء بفعله - عليه السلام - لمن فاته من الصلاة شيء، وأن تقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا من باب الأولى لا من باب الواجب،[ وفي حديث عبد الرحمن من باب الجائز ](2)، وفيه عظيم قدر(3) أمر(4) صلاة الجماعة وتأكيدها لتكلف النبي - صلى الله عليه وسلم - الخروج إليها بتلك الحال.
وقوله:« أجلساني إلى جنبه »، وإيمائه إلى أبي بكر ألا يتأخر استدل به من قال: إن أبا بكر كان الإمام، إذ لم يتقدمه النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستدل من قال: إنه كان مأمومًا بما قاله(5) مسلم عن الأسود، عن عائشة " فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن يسار أبي بكر "، وهذا مقعد الإمام لا مقعد المأموم.
__________
(1) في (ط):" به عليه السلام ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(3) قوله:" قدر " ليس في (ط).
(4) قوله:" أمر" ليس في (ح).
(5) في (ط):" ذكره ".(2/432)
وحكى(1) الداودي عن ابن المسيب(2) أن مقام(3) المأموم من يسار الإمام لهذا الحديث، واستدلوا أيضا بقولها فى الحديث:"ويقتدي أبو بكر بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقتدى الناس بصلاة أبي بكر "، وبقولها:" فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس وأبو بكر يسمع الناس "، ومثله من الألفاظ التى ذكرها مسلم وغيره عن عائشة، وقد روي عنها خلافه، وذكر الآخرون أن ذكر صلاته عن يسار أبي بكر لم يقله غير أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود، وسائر رواة هذا الحديث ممن هو أحفظ من أبي معاوية من أصحاب الأعمش، وأصحاب الزهري وهشام لم يذكروا عن يساره، وقالوا: قد روى ابن إسحاق عن الزهري هذا الحديث، وفيه: فصلى عن يمين أبي بكر. وقال المهلب: إن صححنا الروايتين فقد يحتمل أن جلوسه أولاً كان عن يساره كما قال في رواية أبي معاوية ؛ لأنه أقرب إلى خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيته من الجهة اليسرى من المسجد وأرفق به لمرضه. ثم يحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدار أبا بكر إلى يمينه كما فعل بابن(4) عباس، إما قبل إحرامه من أمامه أو بعده من خلفه، لاسيما ولم يذكر أبو معاوية غير جلوسه أول صلاته عن يساره، وابن شهاب قد بين فقال: فصلى(5) يومئذ عن يمين أبي بكر، فأخبر عن الصلاة كلها في ظاهر قوله، فتجمع(6) الروايتان على هذا ولا تطرح، إحداهما للأخرى قال: ومعنى قوله: " عندي يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر كان الإمام: لمراعاته أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاته وما تيسر عليه لمرضه، ورغبة في التخفيف عنه في مقدار ركوعه وسجوده وقراءته، فإذا رآه
__________
(1) في (ط):" وقد حكى ".
(2) قوله:" عن ابن المسيب " ليس في (ط) جاء بعد قوله:" يسار الإمام ".
(3) في (ط):" مقعد ".
(4) في (أ):" ابن ".
(5) في (ح) و(ط):" قد صلى ".
(6) في (ح):" فتجتمع "، وفي (ط):" فجمع ".(2/433)
أكمل قراءته ركع هو، وإذا راه تهيا للرفع أو السجود بادر إليه واتبعه النبي - صلى الله عليه وسلم - في فعله إذ كان إلى جنبه، ولا تخفى عليه أمور صلاته كل ذلك لئلا يشق عليه بتطويل القيام والركوع والسجود، وفيما قاله نظر لمتأمله،والله أعلم.
وقال بعضهم: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد استخلف أبا بكر على الصلاة مدة مرضه وصلى بالناس صلوات كثيرة، وقد قال أنس في "البخاري": " إن أبا بكر كان يصلي بهم في وجع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى كان يوم الإثنين، وذكر الحديث. وقالت عائشة:" فصلى أبو بكر تلك الأيام "، فهذا يدل على أنها لم تكن صلاة واحدة، قيل: صلى اثني عشر يومًا، إلا أن يجد النبي - صلى الله عليه وسلم - خفة في بعضها ويطيق الصلاة قائمًا، فيخرج فيصلى على ما جاء في بعض الروايات عن عائشة، وقد جاء في حديث أنس في "الأم": أنه خرج عليهم آخر يوم، وأنه لم يصل معهم، وقال:" أتموا صلاتكم "، ثم أرخى الستر فهذا حديث آخر وخروج ثان غير حديث عائشة وقصتها، فلا يبعد أن يكون في إحداهما إمامًا وفي بعضها مأمومًا، ليجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك، وإلا فالصحيح والأشهر والأكثر أنه كان هو الإمام، وهذا صحيح لأنه جاء في هذا الحديث: أن أول صلاة صلاها أبو بكر بالناس العشاء(1) الآخرة، وقد وقع من رواية مالك في غير "الموطأ" عن ربيعة: أن أبا بكر كان الإمام، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلى بصلاته، وقال:« ما مات نبي حتى يؤمه رجل من أمته».
__________
(1) في (ح):" صلاة العشاء ".(2/434)
وفي هذا الحديث حجة لمن ائتم في الصلاة بمأموم على القول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان الإمام، وفي المذهب عندنا فيه(1) قولان: الصحة والفساد، وعلى هذا أيضًا فيه جواز الائتمام في صلاة واحدة بإمامين واحد(2) بعد آخر وهو أصل في الاستخلاف وجوازه، وحجة على داود والشافعي في منعه ذلك(3)، وعلى أن الصلاة لا تصح بإمامين لغير عذر، مذهب الجمهور وأجازها الطبري والبخاري وبعض الشافعية استدلالاً بهذا الحديث، وعندنا العذر في هذ التقدم بين يدى النبي - صلى الله عليه وسلم - المنهي عنه، وأن هذا خصوصًا(4) له، وقد وقع لابن القاسم من أئمتنا في إمام أحدث فاستخلف ثم انصرف، أنه يجوز للمستخلف أن يتأخر له ويتم الأول بهم الصلاة، كأنه أخذ بظاهر هذا الحديث وهو غير جار على أصولنا.
وقوله: في الحديث في استئذانه - عليه السلام - أن يمرض في بيت عائشة، هذا منه - عليه السلام - على تطييب نفوسهن، وحكم الزوج إذا مرض معهن ولم يقدر على الدوران عليهن مختلف فيه، هل هو(5) اختصاص كونه عند إحداهن على اختياره، أو هو حق لجميعهن فيقرع بينهن في ذلك، ولم(6) يكن القسم في حقه - عليه السلام - واجبًا، لكن كان - عليه السلام - يلزمه نفسه لتطييب نفوسهن، وليحسن صحبتهن، ولتقتدي به أمته، قال الله تعالى:{ ترجي من تشاء منهن وتؤوى إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك }.
وقوله: " إن أبا بكر رجل أسيف لا يملك دمعه "، وقوله في الحديث الآخر:" لا يستطيع يسمع الناس من البكاء ": دليل على أن البكاء في الصلاة جائز فيها وغير مفسد لها، وقد قال الله تعالى:{ خرّوا سجدًا وبكيًّا }.
__________
(1) في (ح) و(ط):" فيها ".
(2) في (أ) و(ط):" وأحدًا ".
(3) قوله:" ذلك " ليس في (أ) و(ط).
(4) في (ح) و(ط):" خصوص ".
(5) قوله:" هو " ليس في (ح) و(ط).
(6) في (ح):" وإن لم ".(2/435)
وقوله:" كأن وجهه ورقة مصحف " عبارة عن الجمال وحسن البشرة وماء الوجه كما قال في الحديث الآخر:" كأن وجهه مذهبة ".
وقوله:" فلما وضح لنا وجهه "، أي: ظهر، يقال: وضح الشيء إذا بان، وأوضحته أبنته، فوضح(1)، ومنه: الوضح للصبح لبيانه.
وقوله:" فهممنا نفتتن "، أي: نذهل عن صلاتنا من الفرح بما ظهر من استقلاله وبرءه لهم وخروجه للصلاة، فنتكلم أو نقطعها ونلقاه، ونحو هذا مما يفسد الصلاة كما قال:" لقد أصابني في مالي فتنة "، حين شغله النظر إليه عن صلاته حتى سها فيها. وذهب بعضهم(2): أن قوله:" فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أنه فرح بما رأى من اجتماعهم(3) في مغيبه على إمامهم وإقامتهم شريعتهم، وأنه لذلك استنار وجهه سرورًا على عادته، وقيل(4): إن خروجه هذا وقيامه عليهم إنما كان ليطلع على ذلك(5) إذ لم يصل بهم، وقال:" أتموا صلاتكم "، والأظهر أنه - عليه السلام - تبسم وضحك لهم تأنيسًا وحسن عشرة على عادته، وليريهم تماثل حاله الظاهرة يومئذ لجميعهم، وقد يحتمل أن خروجه لهم كان ليصلي معهم كما فعل في الحديث الآخر، فرأى من نفسه ضعفة عن ذلك، والله أعلم.
وقوله:" وأرخى الحجاب "، و "قال بالحجاب فرفعه " هو مثل قوله في الرواية الأخرى: الستر والستارة.
__________
(1) قوله:" فوضح " ليس في (ح).
(2) في (ح):" بعضهم إلى ".
(3) في (ط):" إجماعهم ".
(4) في (أ) و(ط):" قال ".
(5) في (ط):" لتطلع ذلك ".(2/436)
وقوله: في الحديث الآخر:" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذهب إلى بني عمرو بن عوف(1) ليصلح بينهم "، وفيه: نظر الإمام في الصلح بين المسلمين، وخروجه بنفسه في ذلك عند إشكال أمر أو تفاقم فساد، والعمل بمبادرة الصلاة لأول وقتها، كما فعلوه في غير موطن، ولم ينتظروه - عليه السلام - لغلبة ظنهم أنه يصلى في بني عمرو، وفيه: تقديم الصحابة لأبى بكر، وكونه أفضلهم وأعلمهم، وفيه: سنة اتصال الإقامة بالصلاة، وكونها من وظائفها، لقول بلال: "أتصلي(2) فاقيم "، وفيه: أن بلال كان المؤذن والمقيم، وعلى هذا أيضًا دليل أحاديث أخر(3). ولا خلاف في أن من أذن فله أن يقيم، وإنما اختلف في أذان رجل وإقامة آخر. فأجازه جل العلماء، وجاء في(4) الحديث:« أن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم »، وبه قال الثوري وأحمد، وفيه: خرق النبي - صلى الله عليه وسلم - الصفوف حين أتى وتخلص حتى وقف في الصف، وإن مثل هذا جائز للإمام أن يفعله(5) إذا احتاج إليه لخروجه للرعاف ورجوعه، ومن اضطر إليه من المأمومين عند الخروج لعذر وعند الدخول إذا رأى(6) فرجة أمامه، أو كان ممن يستخلفه الإمام أو من ذوى الأحلام والنهى الذين يصلون خلفه ويلونه، وفيه وفي الأحاديث قبله حجة أن الإمام سترة لمن خلفه، ولخروج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث المتقدمة في مرضه مع حامليه أمام الناس وإجلاسهم له إلى جانب أبي بكر، وفي جميعها جواز الإشارة في الصلاة والالتفات والعمل اليسير، لاسيما ما يختص بالصلاة، كالتفات(7) النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى من خلفه، والتفات أبي بكر حين صفح له، وقد تقدم هذا، وفيها مما(8) يختص به النبي -
__________
(1) قوله:" بن عوف " ليس في (أ) و(ح).
(2) في (ح):" أتصلي بهم ".
(3) في (ح):" غيره ".
(4) قوله:" في " ليس في (ح).
(5) قوله:" أن يفعله " ليس في (أ) و(ط).
(6) في (ح):" وجد ".
(7) في (ط):" بالتفات ".
(8) في (ط):" ما ".(2/437)
صلى الله عليه وسلم - دون غيره تأخير الإمام وتقديم آخر مكانه لغير عذر، وتأخر أبي بكر عن الإمامة في حقه - عليه السلام - كالعذر الطارئ، ألا ترى(1) قوله:" ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، وإقرار النبي أولاً(2) له فيه دليل على جواز،[ تقدم المفضول بالفاضل(3)، ودليل على ](4) جواز تقدمه، بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بإذنه وإقراره كما فعل عبد الرحمن بن عوف في الحديث المتقدم، على أن بعضهم قد قال: يحتمل أن يكون إشارته له أن يمكث مأمومًا في مكانه ويتقدمه النبي - صلى الله عليه وسلم - إمامًا، ولو أن إمامًا خرج عن إمامته لغير عذر أفسد على نفسه وعلى من وراءه على رأى بعض شيوخنا، ورأى أن ذلك مختصًّا بالنبي - عليه السلام - ويصح على قول غيره اقتداء بفعل أبي بكر مع النبي - عليه السلام -، واستدل به بعض الشافعية على جواز سبق المأموم إمامه، ورفع أبي بكر يديه حامدًا الله إذ رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهلاً لأن يؤمه، وفيه: رفع اليدين عند حمد الله وذلك للرهب(5) والتواضع، قيل: وفيه جواز رفع اليدين عند الدعاء في الصلاة، وقد روى إجازته عن مالك في الدعاء ورويت عنه كراهته أيضًا.
وقوله - عليه السلام -:« إنما التصفيق للنساء » ويروى:" التصفيح "، قال الإمام: قيل: أراد ذمّ التصفيق في الصلاة ؛ لأنه من فعل النساء في غيرها، وقيل: بل معناه: تخصيص(6) النساء بالتصفيق في ذلك في الصلاة، وأن ذلك مما يجوز لهن لا لكم.
__________
(1) في (ح):" ترى إلى ".
(2) قوله:" أولاً " ليس في (ح).
(3) في (ح):" على الفاضل ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(5) في (ط):" الرهب ".
(6) في (ح):" تختص ".(2/438)
قال القاضي: القول الأول هو مشهور مذهب مالك، ويرى أن قوله: « من نابه شيء في صلاته فليسبح، فإنه إذا سبح التفت إليه » ناسخ لفعلهم أو نهى عنه، وهذا عام في الرجال والنساء،[ وأنه جائز للحاجة تعرض، وهو قول أبي حنيفة لكنه رأى فساد صلاة المرأة إذا صفقت في صلاتها، وخطأ أصحابه هذا القول، وقال الأبهري من أصحابنا: إن صفقت المرأة لم تبطل صلاتها، غير أن المختار التسبيح.
قال القاضي: وهذا مقتضى مذهبنا على هذا القول، وقيل: كان النساء والرجال يصفقن في الصلاة والطواف، فأنزل الله تعالى:{ وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية }؛ أي: صفيرًا وتصفيقًا، فنهوا عن ذلك رجالاً ونساءً، ثم اعلم أنه من عادة النساء في حالاتهن ولهوهن إلا أنه أباحه لهن وسنَّه فيما يعتريهن في صلاتهن ](1). وبالقول الثاني قال الشافعي والأوزاعي في جماعة، وحكى عن مالك أيضًا اتباعًا لظاهر الحديث، ولقوله في الحديث الآخر:« فليسبح الرجال وليصفق النساء »، ولا خلاف أن سنة الرجال التسبيح، وعللوا اختصاص النسا بالتصفيق لأن أصواتهن عورة، كما منعن(2) من الأذان ومن الجهر بالإقامة والقراءة. وقد يحتجون بحديث أبي هريرة الذي ذكره مسلم في الباب " التسبيح للرجال والتصفيق للنساء "، وفيه حجة للفتح على الإمام بالقرآن إذا تعايا ؛ لأنه إذا جوز له التسبيح عند السهو والغفلة(3) والتنبيه بذكر الله فتنبيهه بالقرآن لسهوه فيه أولى، وهو قول مالك والشافعي وكافة العلماء، خلافًا لأبى حنيفة في منع ذلك، ولأصحابه فيها قولان.[ وعن أبي حنيفة ومحمد بن الحسن من سبح في صلاته يريد جواب غيره فسدت صلاته، وقال أبو يوسف: لا تفسد إذا كان بالقرآن ونحوه](4).
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(2) في (ح):" منعهن ".
(3) قوله:" الغفلة " ليس في (أ) و(ط).
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).(2/439)
ومعنى:" التصفيح " في رواية من رواه بمعنى التصفيق، قاله أبو علي البغدادي،[ وجاء مفسرًا كذلك في الحديث نفسه، قال سهل: يعني ابن سعد الساعدي راوي الحديث: التصفيح: التصفيق ](1)، وصفته(1) هنا بالحاء الضرب بأصبعين من اليد اليمنى في باطن الكف اليسرى وهو صفحها، وصفح كل شيء جانبه، وصفحتا السيف جانباه. وقيل: التصفيح: الضرب بظاهر إحداهما على الأخرى، والتصفيق: الضرب بباطن إحداهما على باطن الأخرى، قال الداودي: ويحتمل أن يكونوا(2) ضربوا بأكفهم على أفخاذهم، قال غيره: التصفيح بأصبعين للإنذار والتنبيه، وبالقاف بالجميع للهو واللعب.
وقد يحتج الداودي بتأويله بما جاء في حديث معاوية بن الحكم بعد هذا: " فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ليسكتوه "، وقد جاء في الحديث مفسرًا.[ وقيل كانت عادة النساء أن يصفقن في الصلاة والطواف](3).
وقوله:" كانوا يصيحون يسبحون ويشيرون ": هذا حكم التنبيه لإصلاح الصلاة بالإشارة إذا رآه الإمام، وبالتسبيح إذا لم يمكنه تنبيهه بالإشارة أو بعد منه.
وقوله في أبي بكر:" ورجع القهقرى وراه حتى قام في الصف " مثل قوله في الحديث الآخر:" نكص على عقبية ليصل الصف " ومثل قوله في الرواية الأخرى:" استأخر(4)"، وكله الرجوع إلى خلف، هكذا(5) حكم من رجع في الصلاة لشيء أن يكون كذلك، ووجهه إلى القبلة، لا يستدبرها ولا يشرق ولا يغرب، وهذه هي(6) صفة القهقرى والنكوص على العقب، على أن حديث أنس محتمل أن يكون أبو بكر لم يحرم بعد، بدليل قوله:" فذهب أبو بكر ليتقدم، فقال نبى الله بالحجاب ".
__________
(1) في (ط):" وصفاته ".
(2) في (ح):" يكون ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(4) قوله:" استأخر " ليس في (أ).
(5) في (أ):" هذا ".
(6) قوله:" هي " ليس في (ط).(2/440)
وقوله:" فأومأ إلى أبي بكر ليتقدم(1)"، وقد(2) قيل: يحتمل قوله أن يتقدم إلى مكانه الذي تأخر عنه، وفي رواية الزهري في هذا الحديث: " وهم صفوف في الصلاة "، فظاهره أنهم قد دخلوا فيها مع قوله:" فأشار إليهم أن أتموا صلاتكم "، فهذا أيضًا يدل(3) أنهم قد كانوا عقدوا الإحرام، ولكن قيل: يحتمل أن معنى في " الصلاة ": للصلاة(4)، ويكون قوله:« أتمو صلاتكم »، أي: على ما نويتموها من الائتمام بأبى بكر.
وقوله:« إنكن لأنتن صواحب يوسف »، يعني في التظاهر على ما يردن، وكثرة تردادهن بالإغراء، وإلحاحهن على حاجاتهن وما يملن إليه، كتظاهر امرأة العزيز ونسائها على يوسف ليصرفنه عن رأيه في الاستعصام.
__________
(1) في (ح) و(ط):" أن يتقدم ".
(2) قوله:" قد " ليس في (ح).
(3) في (ح):" يدل على ".
(4) في (ح):" أي للصلاة ".(2/441)
وفيه جواز(1) مراجعة الإمام في الأمر يأمر به أولاً على غير المناقضة، بل باللطف وحسن القول واظهار الحجة لخلافه، إذا كان(2) لغرض صحيح، كما فعلت عائشة وحفصة واعتذارهن(3) بأن أبا بكر أسيف، وفيه أن التوبيخ من الإمام أو العقوبة إنما تكون لمن رأى خلافه في هذا إنما تكون(4) إذا كرر عليه ذلك لا لأول مرة، إذ ظاهره في أول مرة نصيحة وفي الثانية بعد التذكار مكابرة، كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما شدد لهما في القول بعد التكرار وبعد أن سمع قولها(5) وحجتها(6) فلم يلتفت إليها، فلم(7) يكن بعد لتكرار الكلام عليه معنى، فلما أعاد(8) عليه القول قال:« إنكن صواحب يوسف »، وهذا ما لم يكن أمرًا لازمًا من تنبيهه على غلط أو خطأ، فإن ذلك لازم تكراره حتى يتنبه له كما كان في حديث ذي اليدين. وقوله بعد:" قد كان ذلك يا رسول الله "، وفيه جواز التعريض بالأمر والملاطفة فيه بحجة صحيحة لغرض آخر كفعل عائشة باحتجاجها بأنه(9) أسيف وقد بينت غرضها في الحديث الآخر(10)، إنما كان لئلا يتشائم به الناس(11) لقيامه مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه، وقد جاء عنها أيضًا أنها فهمت منه التنبيه على الخلافة، قالت:" فظننت أن أبي لا يستطيع القيام بأمر الناس.
__________
(1) قوله:" جواز " ليس في (ط).
(2) في (ح):" كان ذلك ".
(3) في (ح):" اعتذارهما ".
(4) قوله:" إنام تكون " ليس في (ط).
(5) في (ح):" قولهما ".
(6) في (ح):" حجتهما ".
(7) في (ح):" فلا ".
(8) في (ط):" أعادا ".
(9) في (ط):" بأنها ".
(10) قوله:" الآخر " ليس في (أ) و(ط).
(11) قوله:" الناس " ليس في (ح).(2/442)
وفي الحديث الثاني: من الفقه: أنه لا يتقدم أحد بجماعة إلا برضى منهم لقول أبي بكر:" إن شئتم "[ في بعض الروايات، وفي بعض روايات الحديث: " إن شئت "، قال بعضهم: قاله لبلال ؛ لأنه المؤذن، وحافظ الوقت، وداعى النبي - عليه السلام - له فصار كالمستخلف له، وفيه قول بلال يا أبا بكر، وهو معتقه، وفيه ما كان عليه السلف من التواضع ](1)، وفيه جواز صلاة أحد المأمومين بجانب الإمام أو(2) متميزًا عنهم لعلّة كما كان أبو بكر، إن قلنا إن النبي - عليه السلام - الإمام ليسمع الناس صوت النبي - عليه السلام - ويؤدي عنه ما خفى عليهم من حركات صلاته للضعف الذي أصابه.
وفي هذه الأحاديث صحة ما يبتلى به الأنبياء من مصائب الدنيا من السقوط والجراح والمرض، لتعظم بذلك أجرهم(3)، ثم الموت، وأن ذلك غير قادح في رتبتهم، بل زيادة في بيان أمرهم،وكونهم بشرًا رسلاً من الله، إذ لو لم يصبهم ما يصيب البشر مع ما ظهر على، أيديهم من خوارق العادات، لضل بهم كثير من الناس كما ضلت النصارى بعيسى. وحديث المغيرة في صلاة عبد الرحمن بن عوف تقدم الكلام عليه في كتاب الوضوء.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط)، ومن قوله:" له فصار..." إلى هنا ليس في (ح) أيضًا.
(2) في (ح):" ومتميزًا ".
(3) في (ح):" أجورهم ".(2/443)
وقوله فيه(1):« أحسنتم » يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها، وفيه وفي نفس الحديث وتقديم الصحابة لعبدالرحمن ما تقدم في حديث أبي بكر من فضل المبادرة للصلاة أول الوقت، وأنه أفضل أوقاتها، وأنه لا ينتظر في ذلك الوقت الإمام إذا عرف تغيبه، وبعده، أو عذره، وهذا مثل قوله في مرضه: « أصلى الناس ؟»، وفيه فضل عبد الرحمن ابن عوف، وتقديم الصحابة له لإمامتهم، لاسيما وحيث يظن أنه يصلى في الموضع الذي هو فيه، وقول المغيرة:" فأردت تأخير عبدالرحمن، فقال لي(2):« دعه »، دليل على جواز إمامة المفضول بالفاضل، ولعل ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا لعبد الرحمن ليسن لهم سنة العمل فيمن فاته شيء من صلاة الإمام كما فعل - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان قبل بينها لهم بقوله فلعله هنا أراد بيانها بفعله. وفي قوله:« أحسنتم »، تأنيس(3) لهم لما رأى من فزعهم للصلاة(4) عنه.
وقوله:« ما يخفى عليّ ركوعكم ولا سجودكم، إنى لأراكم من وراء ظهرى »، وقوله:« إنى لأبصر من ورائي كما أبصر من(5) بين يدي »، قال الإمام: قال بعض المتكلمين: يمكن أن يكون الباري تعالى خلق له إدراكًا في قفاه أبصر به من وراءه، وقد انخرقت العادة له - صلى الله عليه وسلم - بأكثر من هذا، فلا يستنكر هذا، وإنما تنكر هذا المعتزلة لأنها تشترط في خلق الإدراك بنية مخصوصة، والرد عليهم مستقص في كتب الكلام.
__________
(1) قوله:" فيه " ليس في (ح).
(2) قوله:" لي" ليس في (ط).
(3) في (ط):" تأنيسًا ".
(4) في (ح):" من الصلاة ".
(5) قوله:" من " ليس في (ح).(2/444)
قال القاضي: اشتراط هذا من المتكلمين أن يكون الإدراك في قفاه ارتباط بذلك المذهب الاعتزالى الذي أنكره ؛ لأن في ضمنه اشتراط المقابلة للمرئي ونحن لا نشترطه، وقد تقدم من هذا في كتاب الإيمان والقدر، وقد قالت عائشة في هذا:" زيادة(1) زادها الله إياها في حجته "، وقال بقي بن مخلد:كان - عليه السلام - يرى في الظلمة كما يرى في الضوء، وذهب أحمد بن حنبل وجمهور العلماء: أن هذه رؤية عين حقيقة، قال بعضهم: خاصية له - عليه السلام -، وذهب بعضهم إلى ردها إلى العلم، وتظاهر الظواهر يخالفه ولا يحيله عقل على مذاهب(2) أهل الحق في الرؤية. وقال الداودي قوله:« أراكم »، أي: أخبركم أو أقتدى بما أرى على ما وراء ظهرى، قال: وقوله في الرواية الأخرى:« من بعدى " يحتمل أن يريد من بعد وفاته، وهذا بعيد من سياق الحديث، وقد قال بعضهم: معناه: أنه كان يلتفت التفاتًا يسيرًا لا يلوى فيه عنقه، وهذا قد أنكره أحمد بن حنبل على قائله، ولا يحتاج إلى(3) هذا(4) مع ما قدمناه في خواصه وآياته - عليه السلام - ولا يعطيه ظاهر اللفظ، وقد قيل: معنى هذا في قوله تعالى:{ وتقلبك في الساجدين }، قال مجاهد: كان - عليه السلام - يرى من خلفه كما يرى من بين يديه.
وفيه(5) حجة لمن لا يوجب الطمأنية ؛ لأن النبي - عليه السلام - أنكر عليهم ترك(6) إقامة ركوعهم وسجودهم ولم يأمرهم بالإعادة، وقد يحتمل أن إنكاره إنما كان لترك اعتدال الظهر في الركوع وتجافيه في السجود، ونحو هذا من سنن ذلك وهيئاته وفضائله، لا في فرائضه، فلذلك لم يأمرهم بإعادة، بدليل قوله فيه: "ألا تحسن صلاتك "، وقد فسر الإحسان في حديث جبريل بقوله: أن تعبد الله كأنك تراه.
__________
(1) في (ط) و(ح):" زاده ".
(2) في (ح):" مذهب ".
(3) قوله:" إلى " ليس في (ط).
(4) في (ح):" لهذا " بدل:" إلى هذا ".
(5) قوله:" فيه " ليس في (ح).
(6) قوله:" ترك " ليس في (ط).(2/445)
وقوله:" فإنما يصلى لنفسه " كقوله تعالى:{ من عمل صالحًا فلنفسه }.
قوله:« إنى إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف »، نهى عن مسابقة المأموم إمامه، وأن حقيقة الإمامة التقدم والسبق، وأن يكون متبعًا والمأموم متبع له في جميع الصلاة.
وفي هذا الحديث وغيره من الأحاديث مثله(1) تغليظ شديد على المأموم في مسابقة إمامه، ولا خلاف أن اتباعه من سنن الصلاة، وقد تقدم الاختلاف(2) في الاختيار في كيفية ا لاتباع. ثم اعلم أن الصلاة على قسمين: أفعال، وأقوال، وكل قسم على قسمين: فقسم الأفعال ينقسم لمقصود في نفسه كالقيام والقعود والركوع والسجود، ولمشروع للفصل لغيره كرفع الرأس من الركوع والجلوس بين السجدتين، فأما المراد لنفسه فإذا اتفقت فيه المسابقة في ابتدائه وانتهائه حتى لم يوافق الإمام فيه بمقدار أقل مما(3) يجزئ من ذلك، مثل أن يركع أو يسجد قبله ويرفع قبل ركوع الإمام أو سجوده، فهذا لا يجزئه، وليرجع فيركع(4) أو يسجد معه إن أدركه، أو بعده إن لم يدركه ويجزئه السجود قولاً واحدًا وفي إجزاء الركوع إن كان غافلاً، أو مزاحمًا ونحوه في فعله(5) خلاف(6) لمالك ثلاثة أقوال:
أحدها: اتباعه في أية(7) ركعة كانت.
الثاني(8): منع اتباعه وإلغاء تلك الركعة، أية ركعة كانت.
__________
(1) قوله:" مثله " ليس في (ح).
(2) في (ح):" الخلاف ".
(3) في (ح) و(ط):" ما ".
(4) في (ح):" فليركع ".
(5) قوله:" في فعله " في (ط) جاء بعد قوله:" كام غافلاً ".
(6) في (ح) و(ط):" خلافًا ".
(7) في (ط):" أي ".
(8) في (ط):" الثانية ".(2/446)
الثالث(1): إن كان نابه هذا وقد عقد معه ركعة اتبعه فيما بعد وإن لم يعقد فلا يتبعه ثم إلى متى يتبعه ؟ اختلف قوله، هل ذلك ما لم يرفع الإمام رأسه من سجود هذه(2)، الركعة أو حتى يركع الثانية، أو حتى يرفع منها. وإن كان هذا في سبقه متعمدًا لفعله ولم يوافق الإمام في فعله وركع ورفع قبل ركوع الإمام، فهذا مفسد لصلاته وهو قول الحسين(3) بن حيّ، وقال غيره: لا يفسدها لأنه جاء بفرضه واتباعه الإمام سنة، وأما إن سابق الإمام بالركوع أو السجود والرفع منهما فركع قبل ركوع(4) الإمام ورفع قبل رفعه، فمتى توافق مع الإمام فيما يجزئ من ركوع أو سجود أجزأه لأنه صار مؤتمًا به في هذا الركن(5)، وقد أساء في المسابقة والمخالفة وأثم، وإن كان موافقته في ذلك حين رفع(6) هو من الركوع وانحطاط الإمام له في هيئة لو اقتصر فيها على الركوع لإجزأ بها(7) لاحتمل أن يقال إن ذلك لا يجزئ لأنه ليس مؤتمًا به ولعدم الطمأنينة، وقد يقال على طرح اشتراط فرض الطمأنينة أن يجزئ لموافقتهما في ذلك الفعل.
__________
(1) في (ط):" الثالثة ".
(2) في (ح):" تلك ".
(3) في (ط):" الحسن ".
(4) قوله:" ركوع " ليس في (ح).
(5) في (ح):" الركوع ".
(6) في (ح) و(ط):" رفعه ".
(7) في (ح):" لأجزتهما "، وفي (ط):" لأجزأهما ".(2/447)
واختلف العلماء إذا تنبه للمسابقة وهو راكع أو ساجد مع الإمام هل يرفع ثم يركع أو يسجد حتى يكون ركوعه وسجوده بعده أم لا ويثبت معه ؟ وقول مالك والشافعي يثبت ويجزئه وقد أساء، قال سفيان: يرفع ثم يسجد أو يركع، وقال ابن مسعود: يعود فيمكث(1) بقدر ما رفع ثم يتبع إمامه، يعني يرجع إلى الإمام إن لم يكن رفع، ويمكث بعده بقدر ما رفع قبله وفعله سحنون، حكاه ابنه عنه، أما(2) الأفعال المراد بها الفصل بين الأركان، فإذا سبق المأموم الإمام بها فرفع رأسه من ركوعه أو سجوده وأمكنه الرجوع إلى الركوع أو السجود مع الإمام حتى يتبعه في بقية الركن، ثم يرفع بعده(3) فعل(4)، وبهذا قال مالك وعامة العلماء، وإن فاته ذلك ولم يتنبه(5) حتى رفع الإمام بعده أجزأه رفعه ولا يلزمه إعادة الرفع ولو لم يوافق فيه الإمام، مثل أن يرفع ثم يسجد قبل رفع الإمام ولم يتنبه حتى سجد الإمام، فلا(6) يفسد ذلك صلاته، بخلاف غير ذلك من الأركان، وقد قيل: إنه يرجع إلى السجود الذي رفع منه قبل الإمام، وإن كان قد رفع الإمام حتى يسجد مقدار ما خالفه فيه، وقاله ابن المسيب، وسحنون، واختاره بعض شيوخنا وقال: إنه اتبع للحديث. وأما الأقوال فهى قسمان: فرائض وسواها، فالفرائض الإحرام والسلام، وقد تقدم(7) في حكم اتباع الإمام فيها وكونهما، بعد قوله، والخلاف في عملهما(8) معه وما عداهما فسنتة قوله بعد قوله ويجزئ فعلهما معه ويكره قبله ولا تفسد بذلك الصلاة، وحكى أصحاب الخلاف عن ابن عمر وأهل الظاهر: أن صلاة من سابق(9) الإمام وسابقه فاسدة، ونهيه عن سبقهم بالانصراف يحتج به للحسن في قوله: إنه لا ينصرف الناس حتى
__________
(1) في (ط):" للمكث ".
(2) في (أ):" إنما ".
(3) في (ط):" بعد ".
(4) قوله:" فعل " ليس في (ح).
(5) قوله:" ولم يتنبه " ليس في (ح).
(6) في (ح) و(ط):" ولا ".
(7) في (ح):" تقدم الكلام ".
(8) في (ط):" عملها ".
(9) في (ح) و(ط):" خالف ".(2/448)
يقوم الإمام، وعن الزهري مثله، وجماعة الناس على خلافهما ؟ لأن الاقتداء بالإمام قد تم بتمام الصلاة، ويكون هذا خاصًّا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه كان يكلم الناس في الأمور بإثر الصلاة لاجتماعهم فيها، فيكون إمساكهم فيها حتى ينصرف كما منعوا من الذهاب عنه إذا كانوا معه على أمر جامع حتى يستأذنوه، والجمع للصلاة من ذلك، ولأنه خص النهي بمسابقته خاصة في ذلك دون غيره.
وذكر في الحديث النهي عن رفع البصر إلى السماء في الدعاء في الصلاة والوعيد في ذلك، وهذا بخلاف الدعاء في غير الصلاة ؛ لأن حكم الصلاة استقبال القبلة والانتصاب إليها وترك الإلتفات والنظر إلى جهة(1)، وفي رفع البصر إلى السماء إعراض عن القبلة، وخروج عن هيئة الصلاة،وقد حكى بعض العلماء الإجماع على النهي عن ذلك في الصلاة،[ وقد حكى الطبري كراهة رفع البصر في الدعاء إلى السماء في غير الصلاة ](2)، وحكى عن شريح أنه قال لمن راه فعله:" اكفف يديك، واخفض بصرك، فإنك لن تراه ولن تناله"، وقال غيره ممن أجازه - وهم الأكثرون -: إن السماء قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة، فلا ينكر رفع الأبصار والأيدي، إلى جهتها، قال الله تعالى:{ وفي السماء رزقكم وما توعدون }.
__________
(1) في (ح):" جهة وغيره ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (ح).(2/449)
وقوله:« أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار »، وفي الرواية الأخرى: " وجهه " وفي الأخرى:"صورته "، وكل بمعنى؛ لأن الوجه في الرأس ومعظم الصورة في الوجه، فيه وعيد وتحذير من أخذ الله تعالى له ومسخه إياه، وقلبه(1) صورته بصورة الحمار الذي هو غاية في البلادة، وإليه ينتهي ضرب المثل في الجهل والبلادة، وهذا لما عكس حكم الصلاة ومعنى الإمامة من الاتباع، والتقديم والاقتداء، وصير نفسه بذاته إمامًا جاء بغاية المناقضة والمضادة التي لا يفعلها(2) إلا المنتهي في الجهالة كالحمار، فيخشى أن الله يقلبه في الصورة التي اتصف بمعناها.
وأما قوله في الحديث الآخر:« فإنما ناصيته بيد شيطان »، فبين المعنى في أن الذي يحمله على ما يفعله ويصرفه إنما هو(3) الشيطان ؛ بإغوائه ونزغه وتزيين ذلك له لجهله، كالذى يقود غيره ويسوقه بناصيته إلى ما شاءه(4).
وقوله حين رآهم يشيرون بايديهم إذا سلموا من الصلاة إلى الجانبين:« ما بالكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس ؟ اسكنوا في الصلاة ا »، وفي الحديث الآخر:« أما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه ثم يسلم على نفسه، ثم عن يمينه وشماله »، هذا في السلام من الصلاة وصفة السلام والرد على من صلى معه في جماعته والإشارة إليه بالتفاته بوجهه لا بيده، والشمس بسكون الميم بضمها معًا من الدواب كل ما لا يستقر(5) إذا نخس. واحدها شموس وشمس، وقد ذكر ابن القصار هذا(6) الحديث حجة في النهي عن رفع الأيدى في الصلاة على رواية المنع من ذلك جملة، وذكر أن في ذلك نزلت: { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة}، والمفسرون في سبب نزول الآية على غير هذا.
__________
(1) في (ط):" قلب ".
(2) في (ح):" يفعلهما ".
(3) في (أ) و(ط):" فيه " بدل:" إنما هو ".
(4) في (ح):" شاء ".
(5) في (ط):" كلها لا تستقر " بدل:" كل ما لا تستقر ".
(6) في (ح):" في هذا ".(2/450)
وقوله: رآنا حلقًا فقال:« مالى أراكم عزين »، أي: جماعة جماعة(1) متفرقين(2)، الواحدة عزة، ومخفف الزاي. أمرهم بالائتلاف والاجتماع وحذرهم من الفرقة، وقد يحتمل أنه نهاهم عن هذا في الصلاة وأمرهم بوصل الصفوف، ألا تراه كيف قال: ثم خرج فقال:« ألا تصفون كما تصف الملائكة(3)»، وفي هذا وفي الأحاديث الأخر في الأمر بالصفوف وتسويتها وإقامتها والوعيد على ترك ذلك مما قد ذكره مسلم وغيره، مما لا يختلف فيه أنه(4) من سنن جماعات الصلاة وهديها، وحسن هيئتهم، وإكمال(5) الصف الأول فالأول والتراصّ فيه، لتتم استقامته واعتداله، ولئلا يتخلله الشياطين، كما جاء في الحديث، وتشبها بالملائكة في صفوفها، ولما في ذلك من جمال هيئة الجماعة للصلاة وحسنها، وتأتى صلاتهم في صفوفهم دون أن يضيق بعضهم على بعض، ولا يتمكن بعضهم من تمام صلاته وسجوده إذا كانوا غير صفوف، ولأن في ذلك مع مراعاة تمكنهم من صلاتهم من تكثير جمعهم أكثر مما يكون مع الاختلاط، ولئلا يشغل بعضهم بعضا بالنظر إلى ما يشغله(6) منه إذا كانوا مختلطين، وفي الصفوف غابت وجوه بعضهم عن بعض وكثير من حركاتهم، وإنما يلي بعضهم من بعض صفحات ظهورهم.
__________
(1) قوله:" جماعة " الثانية ليست في (ح).
(2) في (ط):" مقترقين ".
(3) قوله:" كما تصف الملائكة " ليس في (أ) و(ح).
(4) في (ح):" أنه ليس ".
(5) في (ط):" أو إكمال ".
(6) في (ط):" يستقيله ".(2/451)
وقوله:" أو ليخالفن الله بين وجوهكم ": يحتمل أن يكون(1) كقوله: «ألم يحوّل الله صورته صورة حمار »، فيخالف بصفتهم إلى غيرها من المسوخ(2)، أو يخالف بوجه من لم يقم صفه ويغير صورته عن وجه من أقامه(3)، أو يخالف باختلاف صورها في المسخ والتغيير، ومعنى "يمسح مناكبنا "، أي: يعدلنا ويسوينا، كما قاله مفسرًا في الحديث الآخر. وقع في سند هذا الحديث: ثنا القاسم بن زكريا، ثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل(4)، عن فرات - يعني القزاز -، عن عبد الله(5)، عن جابر [ بن سمرة، كذا لجميعهم، وعند الطبري: عن عبدالله، وهو وهم، والصواب عبيدالله، وهو ابن القبطية المذكور في السند الآخر في حديث أبو كريب(6) قبله.
__________
(1) في (أ) و(ط):" أنه " بدل:" أن يكون ".
(2) في (أ):" المنسوخ ".
(3) في (ط):" أمامه ".
(4) قوله:" عن إسرائيل " ليس في (ح) و(ط).
(5) في (ح):" عبيدالله ".
(6) في (ح) و(ط):" الأشج " بدل:" أبو كريب ".(2/452)
وقوله:« إن تسوية الصفوف من تمام الصلاة »، وفي آخر:« من حسن الصلاة »، دليل على أن تعديل الصفوف غير واجب، وأنه سنة مستحبة. وقوله:« ليلني منكم أولوا(1) الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم »، الأحلام والنهى بمعنى، وهى العقول، واحدها نهية ؛ لأنه ينهى(2) صاحبه عن الرذائل، وكذلك العقول خلفه التي تمنعها عن العدول عن الاستقامة، وسمى الحكيم بالحكمة لذلك ؛ لأنها(3) تمنعه عن الرذائل والنقائص، خص - عليه السلام - ليليه(4) في الصلاة ذووا(5) العقول والمعرفة، وكذلك في غيرها هو، ليقربوا منه لاستخلافه إن احتاج إليهم، وللتبليغ لما سمعوه منه، والضبط لما يحدث عنه، والتنبيه على سهو إن اتفق منه، ووجدهم عن قرب لما يحتاجهم له، ولأنهم أحق بالتقدم على من سواهم، وليقتدى بهم من بعدهم، ويتوصل بهم إليه في مهمات الأمور، وكذلك ينبغى لسائر الأئمة الاقتداء بسيرته في ذلك في كل حال، من جموع الصلاة، ومجالس العلم، ومشاهد الذكر، ونواد التشاور، والرأى، ومعارك القتال والحرب، وأن يكون الناس في كل الأمور على طبقاتهم من المعرفة، والعلم، والدين، والعقل، والشرف، والسن، وقد تقدم أول الكتاب حديث عائشة:" أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننزل الناس(6) منازلهم ".
__________
(1) في (أ) و(ط):" ذووا ".
(2) في (ط):" نهى ".
(3) في (ط):" لذلك ".
(4) في (ح):" بقوله ليليه ".
(5) في (ط):" ذو ".
(6) في (ط):" للناس ".(2/453)
وقوله:« وإياكم وهيشات الأسواق »، قال الإمام: قال أبو عبيد: وهوشات، والهوشة: الفتنة والهيج والاختلاط، يقال: هوش القوم إذا اختلطوا، وهو(1) من قريب من هذا المعنى ما وقع من(2) خبر آخر:" من أصاب مالاً من مهاوش "، قال أبو عبيد: هو كل مال من غير حله وهو شبيه بما ذكرنا، من الهوشات. وقال بعض اهل العلم: الصواب من تهاوش بالتاء، أي: من تخاليط(3).
وقوله:" كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسوى صفوفنا كما(4) يسوى القداح "، قال القاضي: وهي(5) خشب السهام حين تنحت وتبرى، واحدها قدح. وهذه سنة، قد عمل بها الخلفاء بعده، ووكلوا من يقيم الصفوف، وشددوا في ذلك، حتى إذا استوت كبروا.
وقد اختلف متى يقوم الناس في الصلاة، ومتى يكبروا(6) بما سيأتي(7) في موضعه بعد هذا إن شاء الله.
وقوله: " حتى كاد يكبر فرأى رجلا باديًا صدره، فقال: عباد الله لتسون صفوفكم " الحديث دليل على مذهب الجماعة في جواز الكلام بين الإقامة والصلاة للإمام، أو للحاجة تنزل به من أمر الصلاة وغيرها بعد تمام الإقامة، خلافًا لأبي حنيفة في أنه يجب عليه التكبير إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة. وقد اختلف العلماء في جواز الكلام حينئذ أو كراهته.
__________
(1) قوله:" وهو " ليس في (ح) و(ط).
(2) في (ح) و(ط):" في ".
(3) في (أ):" مخاليط ".
(4) في (ط):" حتى كما ".
(5) في (ط):" هي " بدون واو.
(6) في (أ):" يكبرون "، وفي (ط):" يكبر ".
(7) في (ح):" وسيأتي " بدل:" بما سيأتي ".(2/454)
وقوله (1):« لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول لاستهموا عليه »، قال الإمام: في هذا الحديث إثبات القرعة مع تساوي الحقوق، وأما تشاحّهم في الصف الأول فبيّنٌ وجهه، إذ قد لا يحملهم أجمعين، وأما تشاحّهم في النداء مع جواز أذان الجماعة في زمن واحد، فيمكن أن يكون أراد(2) أن يؤذن واحد(3) بعد واحد لئلا يخفى بعضهم صوت بعض فتشاحوا في التقدمة، فكانت القرعة.
__________
(1) في (ط):" قوله " بدون واو.
(2) في (ح) و(ط):" أرادو ".
(3) في (ح):" يؤذنوا واحدا ".(2/455)
قال القاضي: نحا الداودي إلى أن هذا في أذان الجمعة، أي: لو علموا ما فيه لتسابقوا(1) إليه ولم يبق من يقيم مع الإمام الجمعة ؟ ولهذا قال عمر: "لولا الخليفي لأذنت "، والأمير لا يكون فيها مؤذنًا ؛ لأن الأذان بين يديه، وظاهر الكلام أن الاستهام في الصف والأذان جميعًا، وعليه حمله الباجي وغيره قالوا: وقد اختصم قوم بالقادسية فأسهم بينهم سعد بن أبي وقاص. قيل(2): وهذا يكون إذا استووا في معرفة الوقت والتقدمة للاقتداء، فيقع الاستهام بينهم إذا تشاحوا في الابتداء. فأما سائر من يؤذن بعد فلا، وكذلك لو كان كذلك مقدّم لمراعاة الوقت كان أحق من غيره بولايته، وإن ساواه(3) في معرفته، كما أن السابق إلى الصف أحق به، وإنما يصح الاستهام إذا قدرناه إذا كان وصولهم إليه في حاله وهو لا يسع جميعهم وهم متساوون في حالهم، فأما ومنهم أهل(4) العلم والأحلام والنهى، فهم أحق بالقرب من الإمام بمن(5) سبق إليه منهم(6) دون استهام. وذهب أبو عمر الحافظ إلى أن المراد بذلك الصف الأول وحده، وقال: هذا وجه الكلام، ورد الضمير إلى(7) أقرب مذكور وقال: بذلك جاءت الآثار له(8) مخصصة بالقرعة.
__________
(1) في (ح):" لاستبقوا ".
(2) قوله:" قيل " ليس في (ط).
(3) في (ح):" ساواه غيره ".
(4) في (ح):" ذووا ".
(5) في (ح) و(ط):" كمن ".
(6) قوله:" منهم " ليس في (أ) و(ط).
(7) في (ط):" على ".
(8) قوله:" له " ليس في (ح).(2/456)
قال القاضي: وقد ذكر مسلم ذلك في حديث أبي هريرة، والذي عندي في معنى الحديث الذي جمعهما: أنه ليس ذكر الاستهام فيه على الحقيقة، وإنما هو على المجاز والتمثيل ؛ لأنه لو كان لهما جميعا حقيقة - كما قال غير واحد لكان الحديث: ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليهما، لأنا نحتاج إلى ضمير الاثنين، وضمير الواحد لا يصلح لهما، وإن كان للواحد كما قال أبو عمر بقى النداء بلا جواب، وجاء الكلام مختلاً ولم يفهم المراد بقوله:« لو يعلم الناس ما في النداء »، ولا ما فائدة علمهم لقوله هذا ؟ فلم يبق إلا أن الضمير للأجر والثواب المضمر أو على الفعل المضمر، أي: لو يعلم الناس ثواب النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا الوصول إليه إلا بالاستهام عليه أو على فعل ما يوجبه هذا الثواب، والاستهام هنا على وجه التمثيل والاستعارة لتحصيله السبق إليه لو كان مما لا يقدر عليه إلا بالسهم لوجب ذلك، وعلى هذا يسقط(1) الإشكال في كيفية الاستهام في الأذان وتكلف وجه له، ومثل هذا في كلام العرب وفصيحه موجود كثير. وفي الحديث حجة لتفضيل الصف الأول،وقد اختلف فيه أهو الصف المقدم فيكون هذا الفضل لمن صلى فيه وإن جاء آخرًا ؟ أم هو السبق إلى المسجد وإن صلى آخره ؟ أم هما في الأجر سواء وكلاهما صف أول في المعنى هذا بصورته وهذا بسبقه ؟ والأول أظهر وأصح، وقد جاء مبينا في أحاديث ذكرها مسلم، منها قوله:" لو يعلمون ما في الصف المقدم ".
وقوله:« خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها(2)»، وقوله:« لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله »، ولأنه قد ذكر في الحديث نفسه التهجير والمسابقة فدل أنه غير الصف الأول.
__________
(1) في (ط):" سقط ".
(2) قوله:" وشرها آخرها " ليس في (ط).(2/457)
وقوله:« ولو(1) يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه »، قيل: التهجير: السعي بالهاجرة، وهو نصف النهار وهذا يختص بالجمعة. قال الخليل في كتاب العين يقال: هجر القوم واهجروا إذا(2) صاروا في الهاجرة. وقال الهروى: التهجير: التبكير لكل صلاة، وحكى عن الخليل التهجير للجمعة(3): التبكير لها، وسيأتى الكلام على هذا في باب الجمعة إن شاء الله تعالى.
وقوله:« لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما(4) ولو حبوا »، تحضيض على شهود هاتين الصلاتين في الجماعة وعظم الأجر فيهما لشدتهما على النفس، وأنه(5) طرفًا أوان نومها وغلبة سنات(6) أجفانها وراحة بدنها، ومخالفة لمن يثقل ذلك عليه من المنافقين وأشباههم من البطلة المتهاونين والمحبين(7) للدعة من المبادرة للنوم والراحة من تعب كدح اليوم(8) لأول ليلهم، واستلذاذ الدفء وإغفاءة(9) الفجر آخره، وقد جاء مبينًا في "صحيح البخاري" في المنافقين هذا الحديث بعينه في العتمة والصبح. وتسميتها هنا عتمة. وقد نهى في الحديث الآخر عن هذا لرفع الإشكال واشتراك هذا اللفظ لقولهم: العشاءان(10)، لها وللمغرب، والأصل في ذلك هذه فغلبت على المغرب، كما قالوا: القمران. قال الأصمعى: ومن المحال قول العامة: العشاء الآخرة، إنما يقال: صلاة العشاء لا غير وصلاة المغرب.
__________
(1) في (ح) و(ط):" لو ".
(2) قوله:" إذا " ليس في (أ) و(ط).
(3) في (ح):" إلى الجمعة ".
(4) في (ط):" يأتوهما ".
(5) في (ح):" أنهما ".
(6) في (ح):" سنة ".
(7) في (ط):" محبين ".
(8) في (أ):" كدح النوم "، وفي (ح):" ترك النوم ".
(9) في (ط):" إغفاء ".
(10) في (ح) و(ط):" العشائين ".(2/458)
قال القاضي: قد جاء في "الصحيح" من رواية عبد الله المزني: أن النبي - عليه السلام - قال:« لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب، وتقول: هي العشاء ». وقيل: خاطبهم بذلك إذ كانت أشهر أسمائها عندهم. وفيه أن النهي عنها نهي كراهة، واستحسان الامتثال(1) لما سماها الله به في القرآن من العشاء(2).
وقوله:« وشر صفوف الرجال آخرها »، أي: أقلها أجرًا، فهو بالإضافة إلى الأول ناقص، وقد يكون سماه شرًّا لمخالفة أمره فيها - عليه السلام - وتحذيرًا من فعل المنافقين بتأخرهم عنه وعن سماع ما يأتى به، ويكون(3) شر صفوف النساء أولها لقربهن من الرجال وتحضيضًا على بعد أنفاسهن من أنفاسهم، ولهذا صار آخرها خيرها، ولما في ذلك من سترهن بمن تقدمهن(4).
وقوله:« تقدموا فأتموا بي وليأتم بكم من بعدكم »، قد يحتج بظاهره الشعبي ومن قال بقوله من جواز الائتمام بالمأموم، وإن كل صف منهم إمام لمن وراءه حتى لو دخل داخل والإمام قد رفع رأسه من الركعة، والناس معه، فإن كان الصف الذي يلي الداخل لم يرفعوا رؤوسهم حتى ركع هذا أدرك الركعة بأن(5) بعضهم أئمة بعض، وعامة الفقهاء لا يقولون بهذا.
وهذا الحديث إنما جاء في ذم التأخر، وأنهم إذا تأخروا لم يعلموا ما حدث في(6) الصلاة، ولا يتنبه بعضهم لفعل الإمام بفعل بعض، وقد(7) يحتمل أن يكون قوله:« تقدموا فأتموا بي »، يريد أهل وقته، ويأتم بكم من بعدكم فيما أخذتم به من سنتي،ونقلتموه عني، فحضهم على التقدم ليحققوا الاقتداء به في جميع أفعاله وأقواله ومشاهدة هيئاته في الصلاة وأدائه(8)، وذلك لا يصح مع التأخر(9).
__________
(1) في (ط):" لامتثال ".
(2) قوله:" العشاء " ليس في (ط).
(3) في (ح) و(ط):" يكون ".
(4) قوله:" بمن تقدمهن " ليس في (ط).
(5) في (أ) و(ط):" لأن ".
(6) في (ح) و(ط):" من ".
(7) قوله:" قد" ليس في (ح).
(8) في (ح):" آدابه فيها ".
(9) في (أ):" الماخر ".(2/459)
وقوله:« لا(1) يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله »، قيل: هذا في المنافقين، ويحتمل أن يكون المعنى(2) تأخرهم في العلم أو في السبق والمنزلة عنده.
وقوله:" رأيت الرجال عاقدي(3) أزرهم في أعناقهم مثل الصبيان من ضيق الأزر "، هذا حكم الضرورة وحالهم أول الإسلام وعدم الثياب. وعقدها(4) حياطة لئلا تنفلت فينكشف، ولهذا ما احتاط، فأمر النساء بألا يرفعن رؤوسهن حتى يرفع الرجال لئلا يكون عند حركة الرجل انفلات من ثوبه أو انكشاف من بعضه عنه لضيقه فيطلع النساء على عورته من ورائه.
وفيه أن ما كان من مثل هذا في الصلاة من غير قصد ولا تعمد لا يضر المنكشف ولا الناظر من غير عمد في صلاته(5).
وقوله (6):« لا تمنعوا إماء الله مساجد الله »، وما جانسه من الأحاديث حض الرجال على هذا. وفيه دليل على أن للرجل منع امرأته من الخروج إلا بإذنه، وأن خروج النساء إلى المساجد مباح لهن ولكن على شروط كما جاء في الحديث. وقاله العلماء: ألا يخرجن متطيبات ولا متزينات ولا مزاحمات للرجال، وأن يكون ذلك(7) بالليل، ومنع(8) من ذلك الشابة منهن التي تخشى فتنتها.
وقوله: إن ابن عبد الله بن عمر قال له: لا تدعهن يخرجن(9) فيتخذنه دغلاً، قال الإمام: قال الهروي في حديث آخر: اتخذوا دين الله دغلاً، أي: يخدعون الناس، وأصل الدغل: الشجر الملتف الذي يكون فيه أهل الفساد، وقال الليث: معناه: أدغلوا في التفسير، يقال: أدغلت في الأمر إذا أدخلت فيه ما يخالفه، قال: واذا دخل الرجل مدخلاً مريبًا قيل: دغل فيه.
__________
(1) في (ح) و(ط):" ولا ".
(2) قوله:" المعنى " ليس في (أ) و(ط).
(3) في (ط):" عقدهم ".
(4) في (ح) و(ط):" خياطة ".
(5) في (ط):" الصلاة ".
(6) في (ط):" قوله " بدون واو.
(7) قوله:" ذلك " ليس في (أ) و(ط).
(8) في (ط):" يمنع ".
(9) قوله:" يخرجهن " ليس في (أ) و(ط).(2/460)
وقوله:" فزبره ابن عمر "، معناه: انتهره، قال صاحب الأفعال: يقال(1): زبرت الكتاب ؛ أي(2): كتبته، والشىء قطعته، والرجل انتهرته، والبئر طويتها بالحجارة.
قال القاضي: وانتهار عبد الله لابنه وضربه في صدره وسبه له(3) كما جاء في الحديث، فيه تأديب المعترض على السنن برأيه، وعلى العالم بهواه، وجواز التأديب باليد وبالسبّ(4)، وتأديب الرجل ولده وإن كان كبيرًا في تغيير المنكر، وتأديب العالم من يتعلم عنده أو يتكلم بما لا يحب بين يديه. ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - للنساء عن الخروج إلى المساجد إذا تطيبن أو تبخرن ؛ لأجل فتنة الرجال بطيب ريحهن(5) وتحريك قلوبهن وشهواتهن بذلك، وذلك لغير المساجد أحرى، وفي معنى الطيب ظهور الزينة وحسن الثياب وصوت الخلاخيل والحلى، فكل ذلك يجب منع النساء منه إذا خرجن بحيث يراهن الرجال، وقد قال محمد بن مسلمة: يمنع(6) الخروج إلى المسجد الجميلة المشهورة لما يخشى من فتنتها.
وقول عائشة: لو رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أحدث النساء لمنعهن المسجد قيل: من حسن الملابس والزينة والطيب، وقيل: يحتمل ما اتسعن فيه من حسن الثياب، وإنما كن أولاً في المروط والشمائل والأكسية.
ذكر مسلم في الحديث الرد على عبد الله بن عمر مرة لابنه بلال، ومرة لابنه واقد، وهما صحيحان، بلال وواقد ابنا عبد الله بن عمر بن الخطاب.
وقوله:" في قوله تعالى:{ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها }" قال الإمام: قيل: معناه، أي: بقراءتك، فسمّى القراءة صلاة، كما سمى الصلاة قرآنا في قوله تعالى:{ وقرآن الفجر } الآية. وقالت عائشة - رضي الله عنه -ا في كتاب مسلم:" أنزلت هذه في الدعاء ".
__________
(1) قوله:" قال " ليس في (ح) و(ط).
(2) قوله:" أي " ليس في (أ) و(ط).
(3) قوله:" له " ليس في (ح).
(4) في (ح):" بالسيف ".
(5) في (ط):" رائحتهن ".
(6) في (ط):" يمنع من ".(2/461)
قال القاضي في "مسلم" أيضًا: القول الأول عن ابن عباس مفسرًا مبينًا، وذكر سبب نزولها أن المشركين كانوا إذا سمعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى بأصحابه(1) وجهر بالقرآن سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فأمر ألا يجهر بذلك ولا يخافت عن أصحابه وأن يبتغى بين ذلك سبيلا بين الجهر والمخافتة، وقد روي عن ابن عباس مثل قول عائشة، وروي عن عائشة أن ذلك في التشهد، وقيل: بل نزلت في أبي بكر وعمر - رضى الله عنهما -، كان أبو بكر يسر ويقول: أناجي ربي، وعمر يجهر ويقول: أطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان، وأرضي الرحمن، فنزلت الآية، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر:« ارفع شيئًا »، ولعمر:« اخفض شيئًا »، وقيل: الآية منسوخة بقوله:{ واذكر ربك في نقسك(2)} الآية، وهذا يصلح على القول: أن المراد الدعاء، وقيل: المراد بذلك الصلاة نفسها، أي: لا تظهر تحسينها في العلانية مرائيا بها ولا تسيئها في السريرة، وقيل: لا تصل جهارًا وتتركها سرًا، ويكون الخطاب على هذا لغير النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومعنى:{ تخافت }: تخفى، والأظهر عند الطبري أنها في الدعاء ؛ لأنه المذكور أول الآية في قوله:{ قل ادعوا الله }.
قال القاضي: وحجة أيضًا من قال - القراءة -: إنها المذكورة قبل بقوله أول الكلام { وقرآنًا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث } الآيات(3).
ذكر في الحديث سبب نزول قوله تعالى:{ لا تحرك به لسانك لتعجل به }، وأن ذلك كان تحريك النبي - صلى الله عليه وسلم - شفتيه(4) ولسانه، وأنه أمر ألا يعجل به ليأخذه وضمن له حفظه، وأنه معنى قوله:{ إن علينا جمعه وقرآنه }، أي: في(5) صدرك وقرآنه على لسانك،[ أي: قراءتك له](6)، وقيل: تأليفه.
__________
(1) في (ط):" بالصحابة ".
(2) في (ط):"{ إذا نسيت }" بدل:"{ في نفسك}".
(3) في (ح):" الآية ".
(4) في (ح):" يشفتيه ".
(5) في (ح):" في جمعه ".
(6) مابين المعكوفين ليس في (ح).(2/462)
وقوله:{ فإذا قرأناه }، أي: قرأه جبريل عليك، وفي هذا إضافة ما يكون عن أمره تعالى إليه، وقد يحتج به في حديث التنزل(1) وغيره من الظواهر المشكلات المضافة إليه تعالى. وفسر في "الأم" قوله:{ فاتبع قرآنه }،وقيل: لا تحرك به لسانك بالتكلم به حتى يقضى إليك وحيه.
وقوله:{ ثم إن علينا بيانه }، قال في "الأم": أي: بلسانك، وقيل: بيان ما فيه من حلال وحرام. وقد اختلف اختيار السلف والخلف في الهذّ أو الترتيل، فمن رأى الهذّ أراد استكثار الأجر وحوز الحسنات بعدد الكلمات، ومن رأى الترتيل ذهب إلى تفهم معانيه، والوقوف عند حدوده، وتدبر آياته، وتحسين تلاوته، كما أمر الله تعالى نبيه - عليه السلام - وقد قال تعالى:{ ورتل القرآن ترتيلاً }، وهو اختيار الأكثر، ولا خلاف أن الهذّ المنتهى إلى لف كلماته وترك إقامة حروفه غير مستحسن ولا جائز، وقال مالك رحمه الله: من الناس من إذا هذّ كان(2) أخف عليه، وإذا رتل أخطأ، ومنهم من لا يحسن يهذ، والناس في ذلك على قدر حالاتهم وما يخف عليهم، وكل واسع، وما قاله مالك رحمه الله وغيره ممن أجاز الهذ، فإنما هو لمن لم يكن حظه غير مجرد التلاوة، وفضل القراءة(3)، فأما من فتح الله عليه بعلمه وتلاه بالتفكر والاعتبار وتفهم معانيه واستثارة حكمه، فلا مرية أن تلاوة هذا على مكث، وإن قل ما يتلوه أفضل من ختمات لغيره، وقد جاء للعلماء في ذلك أخبار واختيار معلوم.
__________
(1) في (ح):" التنزيل ".
(2) قوله:" كان " ليس في (ح).
(3) قوله:" وفضل القرآن " ليس في (ط).(2/463)
وقوله:" كان مما يحرك به لسانه وشفتيه "، بمعنى: كثيرًا ما كان يفعل(1) هذا، قال ثابت في هذه الكلمة: كأنه يقول هذا من شأنه ودأبه فجعل " ما " كناية عن ذلك، يريد(2) ثم أدغم النون من " من " في ميم " ما " فقالوا: مما، وقال غيره: معناها: ربما، وهو قريب من الأول ؛ لأن " ربما " قد تأتي للتكثير(3).
وقوله:" يعالج من التنزيل شدة ويشد عليه "، أي: يلاقي ذلك ويصارعه، والمعالجة: المصارعة والمحاولة للشيء، والشدة هنا لعظم ما?يلاقيه من هيبة الملك وما يأخذ عنه، كما جاء عن الملائكة وخصائصها(4) لذلك.
وقوله (5) في حديث إسلام الجن:" وهو بنخل "، كذا لجميعهم بالخاء المعجمة، وعند الطبري " بنجل " بالجيم. والنجل: بقيّة الماء المستنقع. وصوابه. بنجلة(6)، ونجلة(7): موضع معروف، وكذا ذكره البخاري: بنجلة، من رواية مسدد وأبى سلمة، عن أبي عوانة. قال الإمام: ظاهر الحديث أنهم آمنوا عند سماع القرآن، ولابد لمن آمن عند سماعه أن يعلم حقيقة الإعجاز، وشروط المعجزة وبعد ذلك يقع العلم له بصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإما أن يكون الجنّ علموا بذلك أو علموا من كتب الرسل المتقدمة ما دلهم على أنه هو النبي الصادق المبشر به.
__________
(1) في (ط):" يعمل ".
(2) قوله:" يريد " ليس في (ط).
(3) في (ط):" للكثير ".
(4) في (ح) و(ط):" وخصائها ".
(5) في (ط):" قوله " بدون واو.
(6) في (أ):" نخلة ".
(7) في (أ) و(ط):" نخلة ".(2/464)
وقوله (1) في الحديث:" استطير أو اغتيل "، قال القاضي: أي طارت به الجن، أو قتل سرًّا. والغيلة، بكسر الغين القتل غيلة وفي خفية. وقول(2) ابن مسعود:" إنه لم يكن منهم أحد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن " يرد الحديث الآخر المذكور فيه الوضوء بالنبيذ، وذكر فيه حضوره معه، وهذا الحديث أثبت. قال الدارقطني: انتهى حديث ابن مسعود عند قوله:" فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم "، وما بقي من الحديث من قول الشعبي كذا قال أصحاب داود ابن علية، وابن زريع، وابن أبي زائدة، وابن إدريس، وغيرهم.
قال الشعبي: وسألوه الزاد. وكذا ذكره مسلم عن إسماعيل، عن داود، فقال:« لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه » إلى آخر الحديث، وقد أسند الكلام كله حفص عن داود ووهم، قال بعضهم: هذا لمؤمني الجن، ولغيرهم جاء الحديث الآخر: طعامهم ما لم يذكر اسم الله عليه. وقوله (3) في حديث ابن عباس:" ما قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجن ولا رآهم "، وذكر خروجه إلى عكاظ واستماعهم له، وقوله في حديث ابن مسعود:« أتانى داعى الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن »، يجمع(4) بين الحديثين بأن تكونا قصتين حديث ابن عباس في شأن:{ قل(5) أوحي إلي }، وأول بحث الجن عن خبره، وقد اختلف المفسرون: هل علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم حين أوحي إليه باستماعهم له، أو لم يعلم إلا بعد ذلك ؟ وحديث ابن مسعود في(6) حين أتوه ليقرأ عليهم القرآن فيكون وفدًا آخر، والجمع أولى من المعارضة والاختلاف ولا تنافي في هذا.
__________
(1) قوله:" وقوله " مكانه بياض في (ح).
(2) في (ح):" قال ".
(3) في (ح):" قوله " بدون واو.
(4) في (ط):" فجمع ".
(5) في (ط):" قال ".
(6) قوله:" في " ليس في (ح).(2/465)
وقوله في حديث ابن عباس: " وقد حيل بين الشياطين وبين السماء، وأرسلت عليهم الشهب، ظاهر في أن هذا لم يكن قبل مبعثه - عليه السلام - لإنكار الشياطين له وطلبهم سببه، ولهذا كانت الكهانة فاشية في العرب ومرجوع(1) إليها في حكمهم، وسر علمهم(2)، حتى قطع سببها بأن حيل بين الشياطين وبين استراق السمع، كما قال تعالى في سورة الجن:{ وأنّا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسًا شديدًا وشهبًا ( وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع } الآية، وقوله:{ إنهم عن السمع لمعزولون }، وقوله:{ وجعلناها رجومًا للشياطين }، وقوله:{ إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب ( وحفظًا من كل شيطان مارد ( لا يسّمّعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب ( دحورًا } الآيات.
__________
(1) في (أ):" مرجوعًا ".
(2) في (ط):" عملهم ".(2/466)
وقد جاءت الأخبار عن العرب باستغراب رميها وإنكاره، إذ لم يعهدوه قبل مبعثه - عليه السلام -، وكان أحد دلائل نبوته وعلامات مبعثه. وما ذكر في الحديث من إنكار الشياطين لها يدل عليه، وقد جاء أيضًا رمي الشهب في أشعارها، وقال بعضهم: لم تزل الشهب منذ كانت الدنيا، واحتجوا بما جاء في أشعار العرب من ذلك، وهذا(1) مروي عن ابن عباس والزهري، رفع فيه ابن عباس حديثًا للنبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الزهري: وقد اعترض عليه بقوله:{ فمن يستمع الآن يجد له شهابًا رصدًا }، قال: غلظ أمرها وشدد، والمفسرون قد نقلوا نحوًا من ذلك، وذكروا أن الرمي بها وحراسة السماء كانت معلومة قبل مبعثه - عليه السلام - ولكن إنما كانت تكون عند حدوث أمر عظيم، من عذاب ينزل بأهل الأرض، أو بإرسال رسول إليهم، وعليه تأولوا قوله تعالى:{ وأنا لا ندري أشرٌّ أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدًا } الآية(2)، وقيل بل كانت الشهب قبل مرئية ومعلومة، لكن حرق الشياطين بها لم يكن إلا عند بعثه - عليه السلام - وكذلك ذكر أهل التفسير الخلاف في معنى قوله:{ رجومًا للشياطين }، وفي إعرابه، هل هو مصدر فيكون الكواكب هى الراجمة المحرقة بشهبها لا بأنفسها ؟ أو اسمٌ فتكون هى بنفسها التى يرجم بها، ويكون رجومٌ جمع رجم، قاله مكي.
__________
(1) في (ح):" هو ".
(2) قوله:" الآية " ليس في (ط).(2/467)
وذكر مسلم قراءته في صلاته - عليه السلام - في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة يطول في الأولى منهما وفي الأخريين بفاتحة الكتاب، وهذا يبين أنه لم يقرأ في الركعتين الأخريين السورتين، ونحوه قول سعد: وأحذف في الأخريين. ويبينه قراءته في صلاة العصر بقدر خمس عشرة آية في الركعتين الأوليين وفي الأخريين بقدر النصف، وهذا قدر أم القرآن في وحدها، وكل هذا حجة لاختيار مالك - رحمه الله - وقد تقدم ما كان من الخلاف للعلماء في ذلك، وفيها حجة على قراءة أم القرآن في كل ركعة.
وقوله:" يسمعنا الآية أحيانا " دليل على أن قراءة السر ليس من شرطها ألا يُسمع منها شيء بل كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - دون جهر، وأن الجهر الخفيف في(1) بعض السورة فيما يسر فيه لا شيء فيه، لكن ما ورد في(2) أن قراءته كانت في الركعتين الأخرتين من الظهر على النصف من الأوليين وذكر أيضًا في العصر نحوه يحتج به الشافعي ومن يرى قراءة السورة في كل ركعة، وأحاديثنا المتقدمة في البيان أولى، لنصه على أم القرآن، وهذا على التقدير والحدس(3)، وقد يمكن تطويل، ترتيل أم القرآن كما جاء عنه - عليه السلام - في غير هذا الحديث: " يقرأ بالسورة فيطولها(4) حتى تكون أطول من أطول منها "، ولاختلاف فعله - عليه السلام - في ذلك كان(5) الأمر عند أهل العلم في ذلك واسعًا(6)، ولم ير مالك على من قرأ السورة في الركعتين الأخريين سجودًا.
__________
(1) في (ط):" وفي ".
(2) في (ح):" من ".
(3) في (ح):" الحديثين ".
(4) في (أ):" فيرتلها ".
(5) في (ح) و(ط):" ما كان ".
(6) في (أ) و(ط):" واسع ".(2/468)
قال الإمام: وما ورد في كتاب مسلم من أحاديث إطالته - عليه السلام - في بعض الصلوات، فإنه قد ورد ما يعارضه وهو قوله - عليه السلام -:« إن منكم منفرين، فأيكم أمَّ الناس فليوجز، فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة »، وهذا أمر منه - صلى الله عليه وسلم - بالتخفيف، وإشارة للتعليل فيبطل تطرق الاحتمال إليه وما نقل من أفعاله - عليه السلام - التي(1) ظاهرها(2) الإطالة، تحمل على أنه كان منه في بعض الأوقات ليبين للناس جواز الإطالة، وعلى(3) أنه - عليه السلام - علم من حال من وراءه في تلك الصلوات أنه لا يشق عليهم ذلك، وأوحى إليه أنه لا يدخل عليه من تشق عليه الإطالة.
قال القاضي: واختلاف فعله - عليه السلام - والروايات عنه في قراءته في الصلوات من الرواية في تطويله أحيانًا(4) القراءة في المغرب وتخفيفها أحيانا في العشاء والظهر، واختلافها في الصلوات دليل على سعة الأمر، وأنه لا حد في قراءة لصلاة من الصلوات لا يتعدى، وأنه كان - عليه السلام - يفعل في كل ذلك بحسب حال من وراءه من القوة والضعف وبحسب وقته من ابتداء الصلاة أول الوقت، أو(5) تمكنه، أو الأعذار الحادثة فيه، فما روى من قراءته في العشاء بـ{ التين والزيتون }، وقد(6) جاء في الحديث نفسه: أنه كان في السفر وهو موضع التخفيف لمشقة السفر ونظر المسافر(7) حينئذ لما يحتاج(8) إليه.
__________
(1) في (ط):" التي هي ".
(2) في (ط):" ظاهرها هنا ".
(3) في (ح) و(ط):" أو على ".
(4) قوله:" أحيانًا " ليس في (ح).
(5) في (ح):" أو بعد ".
(6) في (أ) و(ط):" قد ".
(7) في (ح):" المسافرين ".
(8) في (ح):" يحتاجون ".(2/469)
وقول من روى(1):" إنه قرأ في صلاة المغرب بالمرسلات وبالطور أو بطولي الطوليين(2)"، أي: ببعض هذه السور، وليس فيها نص أنه أتمها وهذا يرد تأويل من قال: أن في(3) قراءته لهذه السورة في المغرب دليلاً على سعة وقتها، للاحتمال الذي ذكرناه، وأيضًا فمن يقول: إن لها وقتا وأحدًا لا يحدده بقدر سورة، وأنما مذهبه أنها لا تؤخر عن أوله ثم تطويلها لا يمنعه مانع، وبدليل ما روى في(4) الحديث "أنهم كانوا ينتصلون بعد صلاة المغرب "، ولو طولت بقدر قراءة تلك السورة مع عادة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الترتيل، لم يروا مواقع نبلهم، أو يكون هذا منه - عليه السلام - على حال دون حال، وفي وقت لم يكن وراءه من هو صائم ولا متعجّل، وقد روى عنه ابن عمر:" أنه كان يقرأ فيها بالتين والزيتون، وعن أبي هريرة:" أنه كان يقرأ فيها بقصار المفصل "، لكن أكثر الروايات متفقة على التطويل في الصبح، وذلك بحسب تغليسه - عليه السلام - بها وامتداد وقتها، وليدرك الصلاة معه من فاته التغليس بها من ذوي الأعذار، فهاهنا تحمل الروايات في التطويل الكثير الذي جاء في "الأم": أنه كان يقرأ فيها ما بين الستين إلى المائة وبـ " المؤمنون "، ثم دون(5) ذلك في غالب حاله، وهو ما روى من قراءته فيها بقاف.
__________
(1) في (ح):" رأى ".
(2) في (ط):" طول الطولين ".
(3) قوله:" في " ليس في (ح).
(4) في (ح):" في هذا ".
(5) في (ط):" بعد ".(2/470)
ويحمل ما ورد من قراءته فيها بالليل إذا عسعس(1) في بعض الأوقات عند إسفاره بها، وفي مثل تعليمه آخر وقت صلاتها، وفي إسفاره، وكذلك يحمل قراءته في صلاة الظهر بالليل إذا يغشى، وفي رواية الطبري:{ إذا عسعس }، و { سبح اسم ربك الأعلى } عند إرادته التخفيف، وقراءته فيها وتطويل الركعة الأولى حتى يذهب الذاهب إلى البقيع فيقض حاجته، ثم يرجع ويتوضأ ويدرك الصلاة معه، دليل(2) على صلاتها أول الوقت وانتظار الجماعة للاجتماع ومعرفة من يصلى وراءه ؛ لأن(3) هذه الصلاة تأتى والناس في قائلتهم وأشغالهم ؛ ولهذا ما استحب تأخير صلاتها في الجماعة عن أول الوقت إلى فىء الفيء ذراعًا ليستجمع الناس لها، وقد ذكر أبو داود هذا المعنى في الحديث عن أبي قتادة قال: " فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى"، وعن ابن أبي أوفى: أنه - عليه السلام - كان يقوم في الركعة الأولى حتى لا يسمع(4) وقع قدم، يعني حتى يتكامل الناس ويجتمعوا لها. وقراءته - عليه السلام - فيها بـ " الم السجدة " ونحوها غالب ا لأوقات وتساوي الأحوال، وهذا اختيار مالك رحمه الله.
__________
(1) في (ط):" يغشى ".
(2) قوله:" دليل " ليس في (أ) و(ط).
(3) في (ط):" ولأ، ".
(4) في (أ) و(ط):" يسمع ".(2/471)
وعلماء الأمة استحباب التطويل في الصبح والظهر بحسب حال المصلي والجماعة، وترخيص التخفيف وتقصير القراءة فيهما(1) في السفر وعند الحاجة والضرورة، والقراءة(2) فيهما بما قرأه(3) - عليه السلام - في حديث جابر بن سمرة بقاف ونحو ذلك من طوال المفصل، وليس في حديث جابر المذكور في قوله:" وكانت صلاته بعد تخفيفا "، أي: بعد هذه المدة التي قرأ فيها بقاف بل ظاهره أن هذه هى من التخفيف، وإنما أراد بـ "بعد آخر حاله "، خلاف أوله، والله أعلم. وبدليل قوله في الرواية الأخرى: " كان يخفف الصلاة " ثم قال:" كان يقرأ في الفجر بقاف "، ونحوها.
__________
(1) في (ط):" فيها ".
(2) قوله:" والقراءة " ليس في (ح).
(3) في (ط):" قرأ ".(2/472)
واختلف أصحابنا: هل هما سواء ؟ أو كون الصبح أطول ؟ وهو أكثر ما جاء في الحديث من أنها أطول قراءة من الظهر وذلك بحسب امتداد وقتها، وتفرغ الناس من الأشغال لها، وكون القراءة في العصر والمغرب بقصار المفصل، كما جاء من أكثر الروايات(1) في قراءته - عليه السلام - فيهما، لأن العصر آخر النهار وتمادي الصلاة فيها والتطويل يوقعها في الوقت المكروه الصلاة فيه، وعند إعياء أكثر الناس من خدمتهم وكلالهم من تصرفاتهم ومهنهم(2)، والمغرب كذلك ويكون وقتها مضيقا، ولحاجة الصائم إلى المبادرة للإفطار، وأكثر الناس للعشاء، وأنه لو طولت القراءة فيها لاتصلت بالعشاء الآخرة، لتقارب وقتيهما(3)، واتصاله، فيضيق تناول العشاء لمن احتاجه، ويضر به إن أخره حتى يصلى العشاء الآخرة، ولم تكن للعشاء الآخرة هذه الضرورة في التخفيف، وكان وقت نوم الناس وراحتهم، فلم يحتمل كثير التطويل، وكانت نحو المغرب والعصر في القراءة وفوق ذلك قليلا، وقد جاء أن النبي - عليه السلام - قرأ فيها:{ إذا السماء انشقت }، { والتين والزيتون }، وقال لمعاذ: « اقرأ فيها بـ{ سبح اسم ربك الأعلى } و { اقرأ باسم ربك }، و {والليل إذا يغشى }، { والشمس وضحاها }، وكتب عمر أن يقرأ فيها بوسط المفصل، واختاره أشهب.
وكان(4) ترتيب الشرع بحكمته القراءة في هذه الصلوات هذا الترتيب العجيب، وعلى هذا الذي اختاره مالك عامة العلماء، وهو الذي روى من عمل الخلفاء والسلف المرضي، وإن كان قد روى عن بعضهم(5) في ذلك خلاف، فقد روى عن بعضهم أن العصر كالظهر، وقال بعضهم على النصف منها، وقال بعضهم على الربع منها، و بالجملة فقوله - عليه السلام -:« إذا أمّ أحدكم فليخفف، فإن فيهم الضعيف وذا الحاجة » الحديث(6).
__________
(1) قوله:" من أكثر الروايات " ليس في (ط).
(2) في (ح):" مهماتهم ".
(3) في (ط):" وقتهما ".
(4) في (ح):" فكان ".
(5) في (ط):" بعض ".
(6) قوله:" الحديث " ليس في (ط).(2/473)
وقول جابر بن سمرة:" وكانت صلاته بعد تخفيفا "، وحديث أنس بنحوه، يقضى على جميع مختلف الآثار وأنه الذي شرعه - عليه السلام - للأئمة وهو موضع البيان، وما خالفه من فعله فيحسب زوال العلة، بل(1) قد(2) كان يخفف الصلاة لسماع بكاء الصبي، وأيضًا فكان - عليه السلام - مأمور بتبليغ القرآن وقراءته على الناس فحاله في ذلك كان بخلاف حال غيره، وقد يكون اختصاصه بقراءة بعض السور في صلاته وتطويله فيها أحيانا بالقراءة لذلك، ولمطابقة حال من الناس لما يتلوه عليهم ويذكرهم به.
وأما اختصاصه الركعة الأولى بالتطويل أكثر من غيرها فلما ذكرنا من مبادرته بالصلاة أوائل الوقت، وحرصًا على أن يدركه فيها من لم يمكنه الدخول معه أولاً لعذره أو شغله، وقد يحتج بهذا على أحد القولين عندنا في الإمام الراكع يسمع حس(3) الداخل أنه ينتظره ولا يرفع، وقد ينفصل من يقول لا ينتظره أن تطويل النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا لغير معين ولا مخصوص، بل للجماعة التي ينتظر استيفاؤها، وفي الراكع مراعاة حقوق الراكعين معه أولى من الواحد الداخل.
__________
(1) قوله:" بل " ليس في (ط).
(2) قوله:" قد " ليس في (ح).
(3) قوله:" حس " ليس في (ح).(2/474)
واختلف أئمة العلم على القولين معًا، وشدد الكراهة بعضهم في ذلك جدا ورآه من اشتراك(1) العمل لغير الله، ولم يقل شيئًا، بل كله لله، وليحوز أجر مدرك الركعة معه ويضاعف أجر صلاته بعقده لها وراءه، وفيه الاستحباب بامتثال فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بكون الركعة الأولى للمصلي أطول من الثانية، وأن يكون قراءته في السور على ترتيبها في المصحف، ولا ينكّس فيبدأ بالمتأخر(2) على المتقدم، وأن يكون قراءته بسورة تامة في الركعة في الفرض مفردة، ولا يبعضها، ولا بسورتين وهذا كله اختيار مالك - رحمه الله - وغيره من أهل العلم على ما جاءت به أكثر هذه الأحاديث، وقد أجاز غير مالك ابتداء القراءة ببعض سورة، وروي مثله عنه، والأمر في جميع ما ذكرناه واسع إن شاء الله تعالى. وقول أبي سعيد للذى سأله(3) عن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مالك في ذلك من خير " يعني أنك لا تقدر على الإتيان بمثل صلاته مما ذكر من طولها وان تكلفت في باب ذلك يشق عليك.
قال الإمام: وذكر مسلم في باب القراءة في صلاة الصبح: نا هرون، نا حجاج،[ عن ابن جريج، ونا ابن رافع، نا عبد الرزاق ](4)، أنا ابن جريج، قال(5): سمعت محمد بن عباد يقول: أخبرني أبو سلمة بن(6) سفيان، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وكذا في إسناده في حديث حجاج عن ابن جريج قال: فيه عبدالله بن عمرو بن العاص، وفي حديث عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عبد الله بن عمرو، ولم يقل(7) ابن العاص، قال بعضهم: هو الصواب، وعبد الله بن عمرو المذكور في هذا الحديث ليس بابن العاص، وإنما هو رجل آخر من أهل الحجاز، وقد روى عنه محمد بن عباد.
__________
(1) في (ط):" اشراك ".
(2) في (أ):" في المتأخر ".
(3) قوله:" سأله " ليس في (ح) و(ط).
(4) مابين المعكوفين ليس في (ح) و(ط).
(5) قوله:" قال " ليس في (ح) و(ط).
(6) قوله:" بن" ليس في (ح).
(7) في (ح):" يقل فيه ".(2/475)
قال القاضي: وقوله في هذا السند:" وعبد الله بن المسيب العابدي"، وهو بالباء بواحدة(1) ودال مهملة، وقول سعد:" أصلي بكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أخرم عنها، أي: ما أنقص بفتح الهمزة ثلاثي، والخرم في الشعر نقص حرف(2) من أوّل البيت، وقيل: معناه: لا أترك ولا أذهب عنها وأصله العدول(3) عن الطريق ومخارم الطريق(4).
وقوله:" إنى لأركد في الأوليين ؛ أي: أسكن وأقل الحركة والانتقال وأديم القيام "، والمراد أطيل القيام، كما قال في الرواية الأخرى: أمد في الأوليين، والركود: الدوام، والماء الراكد: الدائم الذي لا يجري، وكذلك قوله: "وأحذف في الأخريين "، أي: أقصر، وأصل الحذف الطرح وكل شيء نقصته فقد حذفته.
وقوله حين قرأ بـ " المؤمنون " فلما بلغ ذكر موسى أو عيسى أخذته سعلة(5) فركع، السعلة - بفتح السين - من السعال، تفسير للحديث الآخر الذي لم يذكر فيه السعلة، وأنها كانت سبب قطعه السورة. وفيه حجة على جواز قطع القراءة، والقراءة ببعض سورة، ولا خلاف في ذلك للضرورة لمثل هذا، وأجاز غير واحد من العلماء القراءة ببعض سورة ابتداء، وروي عن مالك مثله، وكره ذلك في المشهور عنه.
__________
(1) في (ح):" الواحدة ".
(2) قوله:" حرف " ليس في (ط).
(3) في (ح):" العدل ".
(4) في (ح) زيادة:" وهذا أشبه بقوله عنها ".
(5) في (ط):" سلعة ".(2/476)
وقوله:" كان معاذ يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - "، وفي رواية:" العشاء الآخرة "، ثم يأتي فيؤم قومه "، وفي رواية:" فيصلي بهم تلك الصلاة "، قال الإمام: اختلف الناس في صحة صلاة المفترض خلف المتنفل، واحتج من أجازها بحديث معاذ هذا: أنه كان يصلي بقومه بعد صلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن منع ذلك قال: يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم فعل معاذ هذا ولو علمه لأنكره، ويحتمل أن يكون اعتقد في صلاته خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - التنفل وصلى بقومه، واعتقد أنه فرضه، فلا يكون فيه حجة مع الاحتمال، ووقع في بعض طرقه: أن الرجل لما شكاه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: إن معاذًا صلى معك العشاء، ثم أتانا فافتتح بسورة البقرة، وهذه الزيادة تنفي قول من قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم بفعل معاذ لأنه هاهنا أعلم به، ولم ينقل أنه أنكره، والظاهر أنه لو كان لنقل، وأما قطع الرجل الصلاة لإطالة الإمام فإن الإمام إذا أطال حتى خرج عن العادة وتعدى في الإطالة، وخشى المأموم تلف(1) بعض ماله إن أتم معه الصلاة، أو فوت ما يلحقه منه ضرر(2) شديد أشد من المال، فإنه يسوغ له الخروج من إمامته ؛ لأنه قد جاء من الإمام خلاف ما دخل(3) عليه، وهذا موضع الاجتهاد، ولعل الرجل تأول في القطع هذا.
__________
(1) في (ط):" تلاف ".
(2) قوله:" ضرر " ليس في (ط).
(3) في (ط):" دل ".(2/477)
قال القاضي: واختلف العلماء في صلاة المفترض خلف المتنفل، فأجازها الشافعي وأحمد في طائفة من السلف ؛ أخذًا بظاهر هذا الحديث، ومنعت ذلك طائفة، وهو قول مالك وربيعة والكوفيين، وحجتهم قوله - عليه السلام -:« إنما جعل الإمام ليؤتم به »، فلا تختلفوا عليه، ولا خلاف أشد من اختلاف النيات وزعم أولئك أن هذا فيما يظهر فيه الخلاف من الأفعال لا فيما يظن، وألزمهم. هؤلاء الاتفاق على اتباعه في السهو وإن لم يسهوا(1) معه، واختلف أصحابنا إذا نزل ذلك، فأكثرهم يرون إعادة المأموم أبدًا، وسحنون يرى إعادته إذا ذكر في اليومين والثلاثة فإذا بعد لم يعد، وأجاب أصحاب مالك ومن وافقه(2) عن حديث معاذ بما ذكره الإمام أبو عبد الله، وقال الطحاوي: لعل هذا كان في بدء الإسلام، حيث كان جائزًا أن تصلي الفريضة مرتين حتى نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك.
وقال الأصيلى: إذا ثبت أن معاذًا صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء ثم صلاها بقومه ولم ينكر ذلك - عليه السلام - وجب أن يقال: إن صلاة الخوف نزلت بعد برهة من مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، ومعاذ من أول من أسلم، فيكون فعله متروكًا لذلك، مع أن أصحاب عمرو ابن دينار يختلفون عليه في أن تكون صلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم - هى التي صلى بقومه، وأصحاب جابر غير عمرو لا يذكرون صلاته مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإذا لم يبح الله لرسوله في صلاة الخوف أن يصلي بالناس صلاتين لم ينبغ أن يسوغ ذلك لغيره.
__________
(1) في (ح):" يسه ".
(2) في (ح):" معه ".(2/478)
وقال المهلب: إنما(1) كان ذلك أول الإسلام لعدم القراء، وإنه لم يكن للقوم عوض من معاذ ولم يكن لمعاذ عوض من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكأن هؤلاء ذهبوا إلى نسخ القصة، وكذلك اختلفوا في المأموم: هل له أن يخرج اختيارًا عن إمامة إمامه فيتم(2) منفردًا، فأباح ذلك الشافعي لعذر أو غير عذر، وحجته هذا الحديث، ومنعه أبو حنيفة، وهو معروف(3) مذهبنا، وترجح فيه ابن القصار على تخريجها على الوجهين في المذهب من الإجزاء، أو(4) عدم الإجزاء، وفي حديث معاذ عند مسلم أن الرجل سلم ثم صلى وحده، وهذا ابتداء ممنوع لغير عذر، فإن كان لعذر جاز له كما قال الإمام أبو عبد الله، إلا أنه يكره أن يصلي مع الإمام في موضع واحد لنهيه - عليه السلام - عن صلاتين معًا، وليصلي خارجًا عن المسجد، فإن صلى أجزأ عنه وأساء.
وقوله:« أفتان أنت يا معاذ »، أي: تفتن الناس وتصرفهم عن دينهم، أصل الفتنة: الامتحان والاختبار، لكن عرفها في اختبار كشف ما(5) يكره.
وقوله:" إنا أصحاب نواضح "، والنواضح: الإبل التي يُسقى(6) عليها وأراد إنا(7) أصحاب عمل وتعب.
وقوله: فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضب في موعظة قط أشد مما غضب فقال:« أيها الناس ! إن منكم منفرين...» الحديث: فيه الغضب لما ينكر في الدين، وكذلك ترجم عليه البخاري والغضب في الموعظة، وترجم عليه أيضًا هل يقضى الحاكم وهو غضبان ؟ والنبي - صلى الله عليه وسلم - بخلاف غيره ؛ لأنه - عليه السلام - لا يستفزه غضب، ولا يقول في الغضب والرضى ولا يحكم إلا بالحق، وفيه أن الخلاف على الأئمة شديد ونفاق لقوله:« أنافقت »، وإنَّ قائل هذا لأخيه على وجه التأويل لا يكفر، وقد ترجم عليه البخاري كذلك.
__________
(1) في (ح):" إذا ".
(2) في (ح):" فيتم ذلك ".
(3) في (ط):" مشهور ".
(4) في (ح):" أو في ".
(5) في (ط):" عما ".
(6) في (ط):" يستقى ".
(7) قوله:" إنا " ليس في (ح).(2/479)
وقال القاضي(1): خرّج مسلم في هذا الباب: حدثنا قتيبة بن سعيد، وأبو الربيع الزهراني، قال أبو الربيع: ثنا حماد بن زيد، ثنا أيوب، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبدالله. قال بعضهم: قال أبو مسعود الدمشقي: قتيبة يقول في حديثه: عن حماد عن عمرو، ولم يذكر فيه أيوب ولا بينه مسلم وأهمله، وجاء به مبينًا عن الزهراني.
وقوله للآخر:« أمّ قومَك »، فقال: إنى أجد في نفسى فذكر. وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - كفه بين ثدييه وكتفيه، لعله خشى ما يقع في نفسه من الكبر والعجب بالتقدم على قومه أو الخجل والضعف عند ذلك، والأول أظهر في معاني هذه اللفظة(2)، أو يكون غير ذلك من المعاني، فصنع(3) النبي - صلى الله عليه وسلم - ما صنع ليذهب الله تعالى ذلك عنه ببركة يده ودعائه.
وقوله:" كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمع بكاء الصبي مع أمه وهو في الصلاة فيقرأ بالسورة الخفيفة "، وفي بعض طرقه:« إنى لأدخل في الصلاة وأريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأخفف من وجد أمه به »، أي: من حبها له، أو حزنها لبكائه وشغل سرها لذلك، يقال: وجدت وجدًا إذا حزن وإذا أحبّ.
قال الإمام: قال بعض الناس: في هذا الحديث إشارة إلى صحة أحد القولين عندنا، فيمن افتتح الصلاة النافلة قائما وأراد أن يجلس فيها لأن الإطالة كما رجع عنها ولم تكن إرادته لها توجبها عليه، فكذلك إرادة هذا للقيام لا توجبه عليه.
قال القاضي: واستدل بعضهم بهذا(4) على جواز إطالة الإمام الركوع إذا أحس بداخل للصلاة، وقال: إذا جاز له التقصير مراعاة لبعض من وراءه، فكذلك يجوز له التطويل لمثل ذلك.
__________
(1) في (ح) و(ط):" الإمام ".
(2) في (ح) و(ط):" هذا اللفظ ".
(3) في (ح) و(ط):" فيصنع ".
(4) قوله:" بهذا " ليس في (ح).(2/480)
ودليل الحديث على أن الصبي مع أمه في المسجد، ولعله ممن أمن منه أن يخرج منه(1) قذر في المسجد ؛ إذ لا يجوز إدخال ذلك في المسجد. وفيه ما كان عليه - عليه السلام - من الرفق بأمته، والرأفة بهم، كما وصفه الله عز وجل به بقوله:{ بالمؤمنين رءوف رحيم }، وفيه التيسير في أمور الدين وغيرها، كما قال - عليه السلام -:« يسروا ولا تنفّروا »،
وقوله في حديث البراء من رواية أبي عوانة في وصف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - "وجدت قيامه فركعته، فاعتداله بعد ركوعه، فسجدته فجلسته بين السجدتين فسجدته، فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريبًا من السواء "، فيه دليل على تخفيف القراءة والتشهد، وتمكين الأركان والطمأنينة فيها(2)، ونحو هذا في حديث أنس، وهو معنى قوله في حديثه:" ما صليت خلف أحد أوجز ولا أتم(3) صلاة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تمام، كانت صلاته متقاربة "، وقوله هذا، وقول البراء:" قريبًا من السواء " يدل أن بعضها أكمل من بعض، وأنه لم يكن في بعض أركانها طول عن غيره متباين جدًّا، وهذا - والله أعلم - في آخر عمله في الصلاة وعلى حديث جابر بن سمرة: " ثم كانت صلاته بعد ذلك تخفيفا"، ولم يكن ذلك حين كان يقرأ بالستين إلى المائة وحتى(4) يذهب الذاهب إلى البقيع فيقضى حاجته ثم يرجع، فجمع الأحاديث على هذا وعلى ما قدمناه قبل.
__________
(1) في (ح):" عنه ".
(2) في (ح) و(ط):" فيهما ".
(3) قوله:" ولا أتم " ليس في (أ) و(ط).
(4) في (أ):" حين ".(2/481)
وهذا على تصحيح قوله:" قيامه "، وقد ذكر البخاري ومسلم هذا الحديث عن البراء ولم يذكرا(1) فيه القيام أولاً، وقال:" كان ركوع النبي - صلى الله عليه وسلم - "، وذكر الحديث، وزاد البخاري فيه:" ما خلا القيام والقعود "، وهذا - والله أعلم - أصح وأقرب إلى ما تقرر من صفة صلاته - عليه السلام - وأن التقارب الذي ذكر كان في غير هذين الركنين، ودليل أنه لم يذكر في الحديث جلوس التشهد، فيكون ذكر القيام فيه أولاً، وهما ممن رواه، والله أعلم. وقوله: ( فجلسته ما بين التسليم والانصراف: دليل على مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - بمصلاه بعد التسليم شيئًا، وأنه لم يكن يبادر القيام بإثر التسليم ولا يطيل المكث، وقد جاء مبينا في حديث ابن مسعود، وأنه - عليه السلام - لم يقعد إلا بمقدار ما يقول: " اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام "، وقد روى أبو هريرة عنه - عليه السلام -: لا يتطوع الإمام في مكانه. قال البخاري: ولم يصح رفعه، والرجل الذي سمى أنه غلب على أهل الكوفة في حديث ابن معاذ قد سماه بعد في حديث ابن مثنى وابن بشار، وهو مطر بن ناجية. وأبو عبيدة المقدم للصلاة هو ابن عبدالله بن مسعود.
وقوله في حديث أبي إسحاق: ثنا عبد الله بن يزيد، حدثني البراء وهو غير كذوب: قال ابن معين: قائل هذا أبو إسحاق في عبد الله بن يزيد لا في البراء ؛ لأن مثل البراء لا يحتاج أن يزكى ويقال فيه مثل هذا، ولا يتمثل(2) هذا في الصحابة. قال القاضي الرقشى: والظاهر أنه في البراء.
__________
(1) في (ح):" يذكر ".
(2) في (أ) و(ط):" يمتثل ".(2/482)
قال القاضي: عجبي من القاضي أبي الوليد على كثرة بحثه وتفتيشه واقتصاره من الرد على ابن معين بهذا القدر، والأولى أن يقال: إن هذا لا وصم فيه على صاحب ولم يرد به التعديل وإنما أراد الراوي به قوة الحديث وتوثيقه(1) ؛ إذ(2) حدث به عن(3) البراء وهو غير المتهم، ومثل هذا قول أبي مسلم الخولاني في هذا الكتاب: حدثني الحبيب الأمين عوف بن مالك الأشجعي عن النبي - عليه السلام -، وأين هذا من قول عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: حدثنا أبو القاسم وهو الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -، وعن أبي هريرة مثله، كل هذا قالوه(4) تنبيهًا على صحة الحديث والثقة به لا أنه قصد به(5) تعديل قائله أو راويه، وأيضًا فتنزيه ابن معين البراء لصحبته عن التعديل ولم ينزه عنه عبد الله بن يزيد لا وجه له، فإن عبد الله بن يزيد أيضًا معدود في الصحابة، وقد ذكر البخاري وغيره أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكره البخاري في الصحيح عن أبي إسحاق السبيعي.
وقوله في هذا الحديث:" كان - عليه السلام - إذا رفع رأسه من الركوع لم أر أحدًا
يحنى ظهره حتى يضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبهته على الأرض " حجة لأحد القولين في صورة اتباع المأموم إمامه، وقد تقدم الكلام عليه، وذكر الحديث الذي(6) بعد هذا بنفسه عن أبان عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلي عن البراء. قال الدارقطني: الحديث محفوظ لعبد الله ابن يزيد عن البراء، ولم يقل أحد: ابن أبي ليلى، غير أبان بن تغلب(7) عن الحكم، وقد خالفه ابن عرعرة فقال: عن الحكم عن عبد الله بن يزيد، وغير أبان أحفظ منه.
__________
(1) في (أ):" توليفه ".
(2) في (ط):" إذا ".
(3) قوله:" عن " ليس في (ح).
(4) في (أ):" قد قالوه ".
(5) قوله:" به " ليس في (أ).
(6) قوله:" الذي " ليس في (ح) و(ط).
(7) في (ح):" ثعلب ".(2/483)
وقوله أن النبي - عليه السلام - كان(1) إذا رفع رأسه من الركوع يقول:« ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض » إلى بقية الدعاء والذكر، فيه كله جواز الدعاء والذكر عند ذلك، ووجوب الاعتدال والطمأنينة، وحجة لأحد القولين في ذلك، ولقوله - عليه السلام -:« صلوا كما رأيتموني أصلّي »، وعلى هذا المعنى احتجت الصحابة بهذه الأحاديث على من لا يعتدل في ذلك.
وقوله:« أهل الثناء والمجد » كذا لهم، ولابن ماهان:« أهل الثناء والحمد »، والحمد أعم من الثناء المجرد، على ما بيناه في الفرق بين مجدني عبدي، وحمدني عبدي، وأثنى علي عبدي. والمجد نهاية الشرف، وكأن لفظة: "الحمد" هنا أليق بالكلام ؛ لقوله أولاً:" لك الحمد "، ومعنى:" ملء السموات والأرض "، قال الخطابي: هو تمثيل وتقريب، والمراد به: تكثير العدد، حتى لو قدّر ذلك وكان جسمًا ملأ ذلك، وقيل: قد يكون المراد بذلك أجرها وثوابها، وقد يحتمل أن يراد بذلك تعظيم(2) الكلمة، كما يقال: هذه كلمة تملأ طباق الأرض.
وقوله:« طهرني بالثلج(3) والبرد »، والماء البارد استعارة للمبالغة في التنظيف من الذنوب.
وقوله:« وماء البارد »: من إضافة الشيء إلى نفسه، كقولك(4): مسجد الجامع، والدّرن والوسخ والدنس بمعنى متقارب.
__________
(1) قوله:" كان" ليس في (أ) و(ط).
(2) في (ط):" عظم ".
(3) في (ح):" بالماء والثلج ".
(4) في (ح):" كقولهم ".(2/484)
وقوله:« ولا ينفع ذا الجد منك الجد »، أي: البخت والسعد، إذا كان بالفتح، وقيل: الجد: الغنى، والجد أيضًا العظمة والسلطان، ومنه قوله: {تعالى جدّ ربنا }، ومن رواه بالكسر فالمراد الاجتهاد والحرص، وأكثر روايتنا فيه: بالفتح، قال أبو جعفر الطبري: الجد، بالفتح، في الحرفين معناه: لا ينفع ذا الحظ منك(1) في الدنيا من المال والولد في حظه منها في الآخرة، إنما ينفعه العمل الصالح كما قال تعالى:{ المال والبنون زينة الحياة الدّنيا والباقيات الصالحات } الآية، وحكى عن الشيباني في الحرفين كسر الجيم، قال: ومعناه: الاجتهاد، أي: لا ينفع ذا الاجتهاد في العمل منك اجتهاده، قال الطبري: وهو خلاف ما عرفه(2) أهل النقل، ولا يعلم من قاله غيره، وضعفه.
قال القاضي: فوجه قوله هذا على أنه لا ينفع الاجتهاد لمن لم تسبق له سابقة الخير والسعادة عندك، وأن العمل لا ينجى بنفسه، وإنما النجاة بفضل الله تعالى ورحمته، كما جاء في الحديث:« لا يدخل أحد الجنة بعمله ». وقد يكون الاجتهاد ها هنا راجعًا إلى الحرص على الدنيا وغير ذلك، أو على الاجتهاد من الوقوع في المكاره، وأنه لا ينفع منه إلا ما قدره الله تعالى ولا يصل العبد إلا لما أعطى ولا ينجو إلا مما وقى فهو المنجي والمعطي و(3)المانع، لا اجتهاد العبد وحرصه، وهذا أسعد بلفظ الحديث، وهو أصل في التسليم والتوكل وإثبات القدر والتفويض إلى الله، وترجم عليه البخاري هذا وأدخله في كتاب القدر.
__________
(1) في (ح):" منك حظه ".
(2) في (ط):" يعرفه ".
(3) قوله:" المعطي و " ليس في (أ) و(ط).(2/485)
وقوله:« نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا » الحديث، وفي الحديث الآخر عن على بن أبي طالب:" نهانى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ راكعًا أو ساجدًا، ولا أقول: نهاكم "، إلى النهي عن القراءة في الركوع والسجود ذهب فقهاء الأمصار، وأباح ذلك بعض السلف، وحجة الجمهور هذه الأحاديث في قوله:« نهيت أن أقرأ القرآن(1) راكعًا أو ساجدًا، فأما الركوع فعظموا فيه الرب »، حجة لمن ذهب من أهل الأصول إلى أن خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خصوصًا يتناول أمته، وإن اقتضى من طريق اللغة تخصيصه، وذلك للأمر بالاقتداء به إلا ما دل دليل على تخصيصه به، والذي نصره المحققون أنه يختص به إذا ورد بصيغة الاختصاص له حتى يدل على دخول غيره فيه دليل، وها هنا قد قال - صلى الله عليه وسلم -:« صلوا كما رأيتموني أصلي ».
وفي قول علي:" نهاني ولا أقول نهاكم " حجة لمن لا يُعدى خطاب المواجهة من الأصوليين والفقهاء(2)، وإليه نزع(3) علي - رضي الله عنه - بهذا القول، ولا يُعدى قضايا العين ويقصرها على الأشخاص المواجهة بها والمعينة فيها، وهو مذهب المحققين من الأصوليين والفقهاء وأنها لا تعدى إلا بدليل، وذهب بعضهم إلى تعديتها قياسًا على تعدية خطاب الله لأهل عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعديته إجماعًا إلى من بعده، والفرق بين المسألتين الإجماع على هذا فهو حجة تعديته.
وذكر مسلم حديث علي هذا والخلاف فيه على إبراهيم بن حنين في ذكر ابن عباس فيه بين عبد الله بن حنين وعلي، قال الدارقطني: من أسقط ابن عباس أكثر وأحفظ وأعلى إسنادًا.
__________
(1) قوله:" القرآن" ليس في (أ) و(ط).
(2) قوله:" والفقهاء " ليس في (أ) و(ط).
(3) في (ط):" منزع ".(2/486)
وقوله:« أما الركوع فعظموا فيه الرب عزّ وجل، وأما السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء، فَقَمِن أن يستجاب لكم »، قمن: بفتح القاف والميم، ومعناه: حقيق وجدير، ويقال: قمن، بكسر الميم، وقمين، بالفتح، مصدر وغيره نعت، يثنى ويجمع. اختلف الناس في هذا، فذهب مالك - رحمه الله - للأخذ بهذه الأحاديث، وكره القراءة في الركوع والسجود، وكره الدعاء في الركوع، وأباحه في السجود، اتباعا للحديث، وذهب(1) طائفة من العلماء إلى جواز الدعاء فيهما، وفي مختصر أبي مصعب نحوه: وقال الشافعي والكوفيون: يسبح في الركوع والسجود، ففى الركوع: "سبحان ربي العظيم"، وفي السجود:"سبحان ربي الأعلى" اتباعًا لحديث عقبة بن عامر الجهني، ولا يوجب أحد من هؤلاء ذلك في الصلاة ولكن يستحبونه، وذهب بعضهم إلى وجوب قول:" سبحان ربي(2) العظيم "، في ذلك، وذهب إسحاق وأهل الظاهر إلى وجوب الذكر فيهما دون تعيين، وأنه يعيد الصلاة من تركه. وقد ذكر إسحاق بن يحيى(3) في "مبسوطته" عن يحيى بن يحيى وعيسى بن دينار من أئمتنا فيمن ركع وسجد، ولم يذكر الله في ركوعه ولا سجوده: أنه يعيد الصلاة أبدًا، وكان شيخنا القاضي أبو عبد الله التميمي يذهب أن معنى هذا أنه ترك الطمأنينة حتى لم يمكنه ذكر الله تعالى في ذلك استعجالاً وتخفيفًا، فيكون تاركًا لفرض من فروض الصلاة على القول إنها فرض، وكان شيخنا القاضي أبو الوليد بن رشد يذهب أنه لم يذكر الله تعالى بتكبير ولا غيره في ذلك، فيكون كتارك السنن عمدًا على القول بإعادة الصلاة من ذلك.
وقوله:« أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء »، القرب هاهنا من الله معناه: من رحمة ربه(4) وفضله، ولذلك حضه على السؤال والطلب.
__________
(1) في (ح):" ذهبت ".
(2) في (ح):" الله ".
(3) في (ط):" يحيى بن إسحاق ".
(4) في (ط):" رحمته ".(2/487)
وقوله في الحديث:" سبحانك ": قال أهل العرببة: هو نصب على المصدر، سبحت الله تسبيحًا وسبحانًا، ومعناه: براءة وتنزيها لك، ويقال: إن التسبيح مأخوذ من قولهم: سبح الرجل في الأرض(1) إذا ذهب فيها(2)، ومنه قيل للفرس الجواد: سابح، قال الله:{ كل في فلك يسبحون }، [فكان التسبيح على هذا المعنى بمعنى التعجب، من المبالغة في الجلال والعظمة والبعد عن النقائص، قال الأعشى:
سبحان من علقمة الفاخر
أي: تعجبا من فخره، وقد يكون على هذا جمع سباح، كحساب وحسبان، يقال: سبح يسبح سبحًا وسباحًا، أو جمع سبّيح(3) للمبالغة من التسبيح، مثل خبير وعليم، ويجمع سبحان كقضيب وقضبان ](4)، وقال المازني: معنى " سبحانك ": سبحتك، قالوا: وقوله:" وبحمدك "، أي: بحمدك سبحتك، ومعنى هذا، أي: بفضلك(5) وهدايتك لذلك التي توجب حمدك سبحتك واستعملتنى لذلك لا بحولي وقوتي(6).
وقوله:« سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك،[ اللهم اغفر لي](7)» يتأول القرآن "، جاء مفسرًا في الحديث الآخر فيما أمر به من قوله في سورة الفتح:{ فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توّابًا }. وفيه حجة(8) لمن أجاز الدعاء في الركوع إذ قال(9) فيه:«اللهم اغفر لي ».
[ وقوله:« اغفر لي ](10) ذنبى كلّه دقّه وجلّه » بكسر الدال والجيم، أي: صغيره وكبيره، قال الإمام: وقول عائشة:" فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة في الفراش فالتمسته، فوضعت يدي على بطن قدمه " الحديث.
__________
(1) قوله:" في الأرض " ليس في (أ).
(2) قوله:" فيها " ليس في (ط).
(3) في (ح):" سبَّاح ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(5) في (ح) و(ط):" بتفضلك ".
(6) في (ح):" ولا قوتي ".
(7) مابين المعكوفين ليس في (ح) و(ط).
(8) في (ط):" صحة ".
(9) قوله:" قال " ليس في (ح) و(ط).
(10) مابين المعكوفين ليس في (ح).(2/488)
اختلف الناس في لمس النساء هل ينقض الوضوء ؟ فقال بعضهم: لا ينقضه أصلاً وحمل قوله:{ أو لامستم النساء } على معنى جامعتم النساء، وقال: وفي القراءة الأخرى:{ أو لامستم النساء }، وهذا يؤكد ما قلناه ؛ لأن المفاعلة لا تكون إلا من اثنين غالبًا. وقال آخرون: ينقض الوضوء، وحملوا قوله تعالى:[{ أو لامستم النساء }](1) على مس اليد، واختلف هؤلاء هل ينقض اللمس الوضوء على الإطلاق ؟ فقال الشافعي: ينقضه على الإطلاق التذَّ أم لا، وتعلق(2) بعموم الآية من اللامس، واختلف قوله في الملموس، وحجته فىأن لا وضوء عليه هذا الحديث، وقال مالك وأبو حنيفة: لا ينقضه إلا مقيدًا، واختلف هؤلاء أيضًا في التقييد ما هو ؟ فقال مالك: حصول اللذة، وسواء عنده اللامس والملموس، وقال أبو حنيفة: حصول الانتشار، ورد هؤلاء على الشافعي بحديث عائشة هذا، ولم يذكر فيه أنه قطع صلاته لانتقاض وضوئه بمسّها وينفصل عنه الشافعي بأن يقول: يحتمل أن تكون مسته من فوق حائل ؟ ولهذا لم يقطع صلاته - عليه السلام -.
قال القاضي: وقولها:" على باطن(3) قدميه وهما منصوبتان " بيّنٌ في هيئة الرجلين في السجود أن تكونا منصوبتين، ويبعد انفصال الشافعي بما قاله(4) من وقوع يدها عليهما فوق ثوب مع هذا اللفظ، وظاهره يخالفه(5).
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).
(2) في (ح) و(ط):" تعلقا ".
(3) في (ح) و(ط):" بطن ".
(4) في (ح) و(ط):" قال ".
(5) في (ط):" بخلافه ".(2/489)
وقولها: "وهو يقول:« أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك ». قال الخطابي: في هذا معنى لطيف، وذلك أنه استعاذ بالله وسأله أن يجيره برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، والرضى والسخط ضدان متقابلان، وكذلك المعافاة والمؤاخذة بالعقوبة، فلما صار إلى ذكر ما لا ضد له - وهو الله سبحانه - استعاذ به منه لا غير، ومعنى ذلك: الاستغفار من التقصير في بلوغ الواجب من حق(1) عبادته والثناء عليه.
وقوله:« لا أحصي ثناء عليك »، أي: لا أطيقه ولا أبلغه ولا أنتهي غايته، وقيل: لا أحيط بذلك: وفيه إضافة الخير والشر إلى الله تعالى.
وقال مالك: أي: لا أحصى نعمتك وإحسانك عليّ(2)، والثناء(3) بها عليك، وإن اجتهدت في الثناء عليك(4).
قال القاضي - رضي الله عنه -:« رضا الله وسخطه ومعافاته وعقوبته »، من صفات أفعاله، فاستعاذ من المكروه منها إلى المحبوب، ومن الشر إلى الخير.
وقوله:« أنت كما أثنيت على نفسك » اعتراف بالعجز عن تفصيل الثناء، وأنه كما قال لا يحصيه، وردّ ثنائه إلى الجملة دون تفصيل وإحصاء وتعيين، وكل(5) ذلك إلى المحيط بكل شيء جملة وتفصيلاً، وكما أنه تعالى لا نهاية لسلطانه وعظمته ومجده وعزته وجليل أوصافه، فكذلك لا نهاية للثناء عليه، إذا الثناء تابع للمثنى عليه(6)، فكل ثناء أثنى عليه به وإن كثر وطال وبولغ فيه،فقدره تعالى أعظم، وسلطانه أعز، وأوصافه أكبر، وأكثر، وفضله وإحسانه(7) أوسع، وأسبغ.
__________
(1) في (ح):" حقوق ".
(2) قوله:" علي " ليس في (أ) و(ط).
(3) في (ط):" والثناء " مكررة.
(4) قوله:" عليك " ليس في (ح).
(5) في (ط):" ووكل ".
(6) قوله:" عليه " ليس في (ط).
(7) قوله:" وإحسانه " ليس في (ح).(2/490)
وقوله:« سبّوخ قدوس »، بضم السين والقاف فيهما وفتحهما أيضًا، فسبوح من البراءة من النقائص والشريك: وما لا يليق بالإلهية والتنزيه عن ذلك، وقدوس من التطهير عما لا يليق به، ومنه الأرض المقدسة، وهو بمعنى سبُّوح. قال الهروي: وجاء في التفسير: القدوس: المبارك، وقد قيل فيه: سبوحًا قدوسًا، نصب على إضمار فعل، أي: أسبح سبوحًا، أو أذكر أو أعبد أو أعظم.
وقوله للذى قال له:« سل »، فسأله مرافقته في الجنة فقال له:« أو غير ذلك ؟ »، قيل: لعله - عليه السلام - فهم منه المساواة معه في درجته وذلك ما لا ينبغي لغيره، فلذلك قال له:« أو غير ذلك »، أي: سل غير هذا، فلما قال له الرجل:" هو ذاك "، قال له:« أعني على ذلك(1) بكثرة السجود »، ليزداد من القرب ورفعة الدرجات حتى يقرب من منزلته، وإن لم(2) يساوه فيها، فإن السجود معارج القرب، ومدارج رفعة الدرجات، قال الله تعالى: {واسجد واقترب }، وقال - عليه السلام - في الحديث الآخر في "الأم(3)":« لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله(4) بها درجة »، ولأن السجود غاية التواضع لله، والعبودية له، وتمكين أعز عضو في الإنسان وأرفعه وهو وجهه من أدنى الأشياء وأخسها(5) وهو التراب، والأرض المدوسة(6) بالأرجل والنعال، وأصله في اللغة: الميل.
قال الإمام: وقوله - عليه السلام -:« يسجد معه سبعة آراب »، قال الهروي: الآراب: الأعضاء، واحدها إرب.
__________
(1) في (ط):" ذاك ".
(2) قوله:" لم " ليس في (أ).
(3) قوله:" الأم " ليس في (ح).
(4) لفظ الجلالة ليس في (ط).
(5) قوله:" وأخسها " ليس في (ط).
(6) في (ط):" المداسة ".(2/491)
قال القاضي: لم تقع هذه اللفظة في "كتاب مسلم" عند شيوخنا، ولا في النسخ التي رأينا، وهى صحيحة في غيره، والذي في "كتاب مسلم": سبعة أعظم، ويسمى كل عضو منها عظمًا لمجتمعه، وإن كان فيه عظام كثيرة. قال الإمام: ذكر في هذا الحديث السجود على الجبهة والأنف، وقد اختلف المذهب عندنا في الاقتصار على أحدهما، فالمشهور في الاقتصار على الجبهة إجزاء الصلاة، وفي الاقتصار على الأنف أنها(1) لا تجزئ.
قال القاضي: قد تقدم لنا كلام في هذه المسألة، وحكمها على ما جاء في الحديث حكم العضو الواحد، وهو السابع، كما ذكر في الحديث الكفين والركبتين والقدمين والجبهة، فمرة اقتصر على ذكرها، ومرة قال: الجبهة [والأنف، ولو كانا بمعنى العضوين لكانا ثمانية، ولم يطابق قوله:« سبعة »، ومرة قال: الجبهة ](2)، وأشار بيده على(3) أنفه، وهذا يدل على أنه بحكم التبع والتمام على مشهور مذهبنا [ أو(4) أنه لا يجزى السجود على الأنف دون الجبهة، وقاله أبو يوسف ومحمد بن الحسن والشافعي، وأحد قولى أبي حنيفة ](5)، وقد يحتج بذكرهما في الحديث وتعيينهما أحمد بن حنبل وابن حبيب من أصحابنا، ومن قال من السلف بوجوب السجود عليهما جميعا، وقد يحتج أيضًا بذلك من يجعلهما كالعضو الواحد، وأن أحدهما يجزئ عن الأخر كما يجزئ وضع بعض الجبهة ولا يلزم استيعابها، وهو قول أبي حنيفة [ في رواية عنه ](1)، وحكي عن ابن القاسم من أئمتنا.
__________
(1) قوله:" أنها " ليس في (ح).
(2) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(3) في (أ):" إلى ".
(4) في (ط):" و ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (أ).(2/492)
وقوله:" ونهى أن يكفت الشعر والثياب " مثل قوله في الرواية الأخرى: " يكف(1)"، والكفت: الضم والجمع، ومنه قوله تعالى:{ ألم نجعل الأرض كفاتا ( أحياءً وأمواتًا }، أي(2): تجمع وتضم الناس في حياتهم وموتهم، والكف بمعناه، ومنه كافة الناس، أي: جماعتهم وهو كله مثل قوله:"معقوص الشعر"، وهو ضمه في الصلاة، فنهى عن ذلك - عليه السلام - في الثياب والشعر، ظاهره الكراهة بكل حال إلا للضرورة، وذهب الداودي إلى أن ذلك لمن فعله للصلاة ودليل الآثار وفعل الصحابة يخالفه، قال الطبري: فمن صلى كذلك من عقص شعر، أو تشمير ثوب في الصلاة فلا إعادة عليه لإجماع الأمة على ذلك وقد أساء(3)، وقد(4) حكى ابن المنذر فيه الإعادة عن الحسن البصري وحده، وذلك - والله أعلم - لما جاء أن(5) الشعر يسجد معه ولهذا مثله بعد بالذى يصلى وهو مكتوف.
__________
(1) قوله:" يكف " ليس في (ح).
(2) في (ط):" أن ".
(3) قوله:" وقد اساء " ليس في (ح).
(4) قوله:" قد " ليس في (أ) و(ط).
(5) في (ط):" في ".(2/493)
وقوله في الحديث في النهي عن بسط الذراعين، وأنه " كان - عليه السلام - إذا سجد يُجنِّح، وتفسيره قوله في الحديث الآخر:" وفرج يديه عن إبطيه "، وقوله في(1) الآخر:" وخوّى بيديه "، و " جافا(2)"، كله بمعنى، وعليه جماعة السلف والعلماء وأنه من هيئات الصلاة، إلا شيء روى عن ابن عمر(3)، وقد روى عنه مثل(4) ما للجماعة، وهو معنى ما في الحديث الآخر:" نهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع "، وفي الحديث الآخر: " انبساط الكلب"، يعني على الأرض، والحكمة(5) فيه أنه إذا جنَّح كان اعتماده على يديه فخف اعتماده حينئذ عن وجهه ولم يتأذ بما يلاقيه من الأرض، ولا أثر في جبهته(6) وأنفه، وكان أشبه بهيئات الصلاة، واستعمال كل عضو فيها بأدبه(7)، بخلاف بسط ذراعيه وضم عضديه لجنبيه(8) إذ هى صفات(9) الكاسل والمتراخي المتهاون بحاله، مع ما فيها من التشبيه(10) بالسباع والكلاب، كما نهى عن التشبّه(11) بها في الإقعاء، ووقع في رواية السمرقندى "فجنح(12)" مخففا، ولا وجه له هنا.
وقوله:" حتى يرى وضح إبطيه ": معناه قوله في الحديث الآخر:" بياض إبطيه " وكذلك فسره وكيع في "الأم".
وقوله:" كان - عليه السلام - إذا سجد لو شاءت بهمة أن تمر بين يديه "، قال الإمام: قال أبو عبيد في مصنفه: البهمة: أولاد الغنم، يقال ذلك للذكر والأنثى، وجمعها: بهم، وقال ابن خالويه:وجمع البهم(13) بهام.
__________
(1) في (ط):" في الحديث ".
(2) في (ح) و(ط):" جاء ".
(3) في (ط):" ابن عباس ".
(4) قوله:" مثل " ليس في (ح).
(5) في (ط):" الحكم ".
(6) في (أ):" جبينه ".
(7) في (ط):" بإذنه ".
(8) في (ط):" في جنبيه ".
(9) في (ط):" صفة ".
(10) في (ط):" التشبه ".
(11) في (أ):" التشبيه ".
(12) في (ح) و(ط):" يجنح ".
(13) في (ح):" البهائم ".(2/494)
ذكر مسلم في سند هذا الحديث: أنا سفيان ابن عيينة، عن عبيد الله بن عبدالله الأصم، عن عمه يزيد "، كذا في الأصول، وعند شيوخنا بغير خلاف. ثم قال مسلم:عن الفزاري وعن عبد الواحد بن زياد، ثنا عبيدالله بن عبد الله بن الأصم عن عمه يزيد كذا في رواية العذري، والذي عند رواة الفارسي، ثنا عبد الله بن عبد الله في الموضعين، وكلاهما صحيح هما أخوان عبد الله وعبيد الله، رويا عن عمهما(1)، ذكر ذلك البخاري في تاريخه، وذكر الخلاف في هذا الحديث عنهما.
وقوله:" كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ{ الحمد لله رب العالمين }، قال القاضي: فيه حجة على الحنفي في تعيين تكبيرة الإحرام دون ما في معناها، وحجة عليه وعلى الشافعي في قراءة بسم الله الرحمن الرحيم.
وقوله:" وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه " يعني لم يرفعه، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا وأمر بالاعتدال في الركوع.
وقوله:" كان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوى جالسًا"، حجة في لزوم الاعتدال فيما بين السجدتين.
وقوله:" وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى وينهى عن عقبة الشيطان "، وفي الحديث الآخر:" كان إذا قعد اطمأن على فخذه اليسرى "، في ظاهر هذا حجة لأبى حنيفة في هيئة الجلوس في الصلاة.
قال الإمام: اختلف في هيئة الجلوس في التشهدين(2)، فقال أبو حنيفة: يجلس على قدمه اليسرى فيهما، وقال مالك: يثني اليسرى وينصب اليمني، ووافقه الشافعي على هذا في الجلسة الآخرة، ووافق أبا حنيفة في الجلسة الأولى، وقال أصحاب الشافعي: في التفرقة فائدتان:
إحداهما: أن الإمام يتذكر بهيئة، جلوسه هل هو في الأولى أم في الآخرة؟ ويرجع لذلك إذا نسي.
والثانية: أن يكون من دخل وهو جالس يعلم هل انقضت صلاته أم لا ؟
__________
(1) في (ح):" عميهما ".
(2) في (ح):" للتشهدين "، وفي (ط):" للتشهد ".(2/495)
قال القاضي: جلسات الصلاة أربع: الآخرة: وهى متفق(1) على وجوبها إلا ابن علية، والواجب منها عند مالك مقدار إيقاع السلام، وعند أحمد والشافعي مقدار التشهد، وصفتها كما تقدم في الحديث، وما ذكر فيها من الخلاف.
والثانية: الجلسة الوسطى وهى سنة عند جمهور العلماء إلا أحمد في طائفة من أصحاب الحديث، فهى على قولهم(2) واجبة ؛ لأن تشهدها عندهم واجب، وإلى نحو هذا مال أحمد بن نصر الداودي من أصحابنا، واختلف في صفتها كما تقدم، وأحمد يوافق الشافعي إلا أنه يجعل جلسة الصبح كالجلسة الوسطى.
والثالثة: الجلسة بين السجدتين، واختلف فيها هل هى فرض أو سنة ؟ ولا خلاف في مقدار ما يقع به الفصل بين السجدتين أنه فرض، وصفتها عند مالك كالجلستين المتقدمتين عندنا، وأبو حنيفة يسوى بين الجلوس كله على ما تقدم وقد ذهبت(3) جماعة من السلف إلى الرجوع فيما بين السجدتين على صدور قدميه ويمس بإليتيه عقبيه، وأجازوا الإقعاء على ما جاء من قول ابن عباس: هى السنة، وقد ذكره مسلم بعد هذا، وكره الإقعاء سائر أئمة الفتوى.
__________
(1) في (أ) و(ط):" يتفق ".
(2) في (ح):" أقوالهم ".
(3) في (ح) و(ط):" ذهب ".(2/496)
وقول عائشة في هذا الحديث:" وكان ينهى عن عقب الشيطان "، ويروى:" عقبة الشيطان "، حجة للجماعة، وفسره أبو عبيد بالإقعاء بين السجدتين، وسيأتى تفسير الإقعاء في موضعه بعد هذا وما اتفق على المنع فيه، وما اختلف إن شاء الله. ورويناه من طريق الطبري عقب بضم العين، وإنما يقوله أهل اللغة عقب كما تقدم أولاً. والجلسة الرابعة: التي بعد السجدتين لمن قام لركعة أو ثلاث قبل قيامه، فذهب الشافعي إلى القول بها لحديث مالك بن الحويرث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " كان يفعل ذلك "، ولم يقل(1) بها سائر الفقهاء لحديث أبي حميد الساعدي:" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم ولا يتورك "، وسيأتى الكلام على هذا الفصل بعد، وذهب الطبري وطائفة من أهل العلم إلى تخيير المصلي في هيئات الجلسات المذكورة في الصلاة.
والنساء في ذلك عند مالك وغيره كالرجال، إلا أنه يستحب لهن الانضمام والاجتماع، وخيرهن الكوفى والشافعي فيما يسن(2) من ذلك من الانضمام والاجتماع، وذهب بعض السلف أن سنتهن التربع.
و(3)حكم الفرائض والنوافل في هذا سواء، وحكى عن بعض السلف جواز التربع في جلوس الصلاة في النوافل.
__________
(1) في (ط):" يقرها ".
(2) في (ط):" سُنَّ ".
(3) في (أ):" بعد ".(2/497)
وقوله:" يقرأ في كل ركعتين التحية، قد تقدم الكلام في صفة التشهد والذي عليه كافة فقهاء(1) الأمصار: أن التشهدين سنتان وليسا(2) بواجبتين، إلا أحمد بن حنبل في فقهاء أصحاب الحديث، فرأوهما واجبتين، ووافقهم الشافعي في الآخر، وحكى نحوه أبو مصعب عن مالك وغيره من علماء المدينة. وحجة أحمد تشهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهما، وقد قال:« صلوا كما رأيتموني أصلي »، وفي الحديث:" كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن ". ولقوله:« إذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله »، وأمره على الوجوب. وحجة الجماعة سجود النبي - عليه السلام - عند سهوه لترك التشهد الأول، ولا يجزئ سجود السهو لترك الفريضة، ولا فرق بين التشهدين، ولأنه - عليه السلام - لم يذكر ذلك للأعرابى الذي علمه الصلاة.
__________
(1) في (ح):" علماء ".
(2) في (ط):" ليس ".(2/498)
وقوله: " وكان يختم الصلاة بالتسليم "، السلام عند عامة العلماء والسلف من فروض الصلاة، وشرط في صحتها، لا يجوز الخروج منها بغيره، خلافًا لأبى حنيفة والأوزاعي والثوري في أنه سنة، وحجة الجماعة قوله:« وتحليلها(1) التسليم »، وعندنا رواية شاذة عن ابن القاسم تنحو إلى مذهب أبي حنيفة في ذلك، ولها عند بعض(2) شيوخنا تأويل، وهى بالجملة منكرة غير جارية على أصولنا. ثم اختلفوا(3) في عدده، فروى عن جماعة من الصحابة والتابعين وأئمة الأمصار تسليمة واحدة، وهو مشهور قول مالك في الفذ والإمام، وذهبت طائفة منهم أيضًا إلى التسليمتين للإمام والفذ والمأموم، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وفقهاء أصحاب الحديث وأهل(4) الظاهر، والرواية الأخرى عن مالك، وكلهم مجمع على أن الثانية غير واجبة إلا بعض أهل الظاهر فيراهما واجبتين. ثم اختلف في صفة السلام، فذهب مالك والجمهور إلى تعريفه بالألف واللام، وذهب الشافعي في أصحابه إلى جواز التنكير فيه، ونحا إليه ابن شعبان، وحجة الجماعة قوله - عليه السلام -:« والسلام كما قد علمتم »، وفي الحديث الآخر: ثم قال:« السلام عليكم(5)».
__________
(1) في (ح) و(ط):" ثم تحليلها ".
(2) قوله:" بعض " ليس في (ح).
(3) في (ح):" اختلف ".
(4) في (ح):" وعلماء أهل ".
(5) في (ح):" عليكم ".(2/499)
وقوله:« إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل، ولا يبالي من يمر بين يديه »، مؤخرة الرحل(1) وآخرة الرحل أيضًا: وهو العود الذي في آخر الرحل بضم الميم وكسر الخاء، كذا قاله أبو عبيد، وحكى ثابت فيه فتح الخاء، وأنكره ابن قتيبة وأنكر ابن مكي أن يقال: مقدم أو مؤخر بالكسر إلا في العين خاصة، وغيره بالفتح، ورواه بعض الرواة: موخرة(2) بفتح الواو وشد الخاء، وهذا الحد وما يقرب منه في مقدار السترة، وفيه أنها سنة الصلاة، وأقل ما يجزئ في ذلك قدر عظم الذراع في غلظ الرمح، وعند مالك، وهو التفات إلى صلاته - عليه السلام - لمؤخرة الرحل فىالارتفاع، وللعنزة في الغلظ، والسترة عندنا من فضائل الصلاة ومستحباتها وحكمتها(3) كف البصر والخاطر عما وراءها، وتقييده بقدرها كما جعلت القبلة ضبطًا لذلك، ثم فيها كف عن دنو ما يشغله من خاطر ومتصرف منه ويشوش عليه(4) صلاته، وفي ذكره - عليه السلام - هذا القدر ظاهره أنه أدنى ما يجزئ ويبطل القول بالخط، وان كان جاء به حديث وأخذ به أحمد بن حنبل فهو ضعيف، وقد اختلف فيه، فقيل(5): مقوسًا كهيئة المحراب، وقيل: قائمًا من بين يدي المصلي إلى قبلته، وقيل: من جهة يمينه إلى شماله ولم يره مالك ولا عامة الفقهاء. والعنزة المذكورة في الحديث هى الحربة المذكورة في الحديث الآخر، وكما فسرها فيه لكنها إنما تقال: عنزة إذا كانت قصيرة.
__________
(1) قوله:" الرحل " ليس في (أ) و(ط).
(2) في (ح):" مؤخر ".
(3) في (ط):" حكمها ".
(4) في (ح):" عليه في ".
(5) في (ح):" فقيل في صفته أن يكون ".(2/500)
وقوله:« يعرض راحلته ثم يصلى إليها »، وأنه صلى إلى بعيره، فيه جواز الصلاة إلى ما يثبت من الحيوان، ويؤمن تحركه أو إصابة بوله إذا كان بوله نجسا، وجواز الصلاة إلى الإبل، ولا يعارضه كراهة الصلاة في معاطنها والنهى عنها ؛ لأن ذلك مختص بالمعاطن، وهذا يدل أن نفس العلة القذر الذي هناك، وأنهم كانوا يستترون بها أو لخوف نفارها، وأنه لو كان من أجل ما جاء في الحديث أنها خلقت من الشياطين كما علل به بعضهم لاستوى حكم الواحد والجماعة في ذلك، لكن يكون معنى ما جاء في الحديث من ذلك إشارة إلى شدة نفارها وفعلها(1) فعل الشياطين في ذلك، من قطع الصلاة وشغل المصلى بها.
وقوله:" فخرج بلال بوضوئه فمن نائل وناضح "، أي: من مدرك أخذ شيء من فضل وضوءه - عليه السلام - أو ممن نضح عليه غيره منه، أي: رش، كل هذا تبرك(2) بوضوئه - عليه السلام -، وهذا كقوله في الحديث الآخر:" فمن لم يصب أخذ من بلل(3) يد صاحبه "، وإن كان قد جاء ذكر وضوئه بعد هذا فهو على غير الترتيب في الكلام والتقديم والتأخير، وقد بين هذا في الحديث الآخر بقوله: " فرأيت الناس يأخذون من فضل وضوءه "، وقال في الحديث الآخر: "ورأيت بلالاً(4) أخرج وضوء "، كذا في "الأم" على التنكير، وقد تقدم في الأول بوضوئه، وذكره البخاري:" أخذ وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبيَّنه.
وقوله:" نادى(5) بلال، فجعلت أتتبع فاه هاهنا يمينا وشمالا يقول: حى على الصلاة، حى على الفلاح "، فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا حجة على جواز استدارة المؤذن في أذانه للإسماع، وأن ذلك حين دعاء الناس بالحيعلتين فقط، ويكون مستقبلاً القبلة بقدميه، وهذا اختيار الشافعي، وأجاز مالك دورانه للإسماع.
__________
(1) في (ط):" فعلنا ".
(2) في (ط):" تبركًا ".
(3) قوله:" بلل " ليس في (ح) و(ط).
(4) في (ح):" بلالاً قد ".
(5) في (ح):" فأذن "، وفي (ط):" وأذن.(3/1)
وقوله:" فصلى الظهر ركعتين "، الحديث يأتى بيانه في صلاة السفر.
وقوله:" يمر بين يديه الحمار والكلب ولا يمنع "، يريد أمام العنزة كما قال في الحديث الآخر:" ورأيت الناس والدواب يمرون بين يدى العنزة "، وفي الحديث الآخر:" فيمر(1) من ورائها المرأة والحمار "، وهذا يبين الاحتمال ويرفع الإشكال. وتأويل من تأول أنه مر بينه وبين العنزة، فقد روي عن ابن عباس فيه " لا يحول بيننا وبينه شيء "، وما هاهنا أثبت وأصح ويأتي الكلام على المرأة والحمار بعد.
وقوله:" أقبلت على أتان "، هى أنثى الحمر، وقد جاء في الحديث الآخر:" على حمار " أراد به الجنس، ولم يرد(2) الذكورية، كما يقال: إنسان للذكر والأنثى. وقد قال في(3) البخاري:" على حمار أتان ".
وقوله:" ناهزت الاحتلام " يصحح قول الواقدي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي وابن عباس ابن ثلاث عشرة سنة، وقول(4) الزبير بن بكار: إنه ولد بالشعب قبل الهجرة بثلاث سنين، وما روى عن سعيد بن جبير(5) توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن خمس عشرة سنة. قال ابن حنبل: وهذا الصواب، وهو يرد رواية من روى عنه: توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - [ وأنا ختينٌ، وفي الرواية الأخرى عنه: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ](6) وأنا ابن عشر سنين، وقد يتأول - إن صح هذا أن معناه راجع إلى ما بعده، وهو(7) قوله: "وقد قرأت المحكم ".
قال الإمام: وقوله:" وقد ناهزت الاحتلام "، أي: قاربته.
وقوله:" فأرسلت الأتان ترتع "، قال القاضي:، أي: ترعى، يقال: رتعت الإبل، وقال الشاعر:
وإذا يخلو له لحمى رتع
__________
(1) في (ط):" ويمر ".
(2) في (ح):" يرد به ".
(3) قوله:" في " ليس في (ح).
(4) في (ط):" قال "، وفي (ح):" وقول ابن.
(5) في (ط):" جبير عنه ".
(6) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).
(7) في (ط):" هو ".(3/2)
أي: أكله، وفي الحديث حجة على أن الإمام سترة لمن خلفه، لقوله:" فلم ينكر ذلك علي أحد "، ولأن إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - له إن كان رآه حجة في جواز ذلك وهو الظاهر لقوله:" بين يدي العنزة "، وإن كان بموضع لم يره فقد رآه جملة أصحابه فلم ينكروه عليه، ولا أحد منهم، فدل أنه ليس عندهم بمنكر، ولا خلاف في جواز هذا، ولا خلاف أن السترة للمصلى مشروعة إذا(1) كان في موضع لا يأمن المرور بين يديه، واختلف حيث يأمن، وعندنا فيها لأصحابنا قولان: اللزوم والسقوط. وتكلم العلماء هل سترة الإمام نفسها سترة لمن وراءه، أو هى سترة له خاصة والإمام سترتهم.
__________
(1) في (ح):" إن ".(3/3)
وقوله:« إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدًا يمر بين يديه ». حمله العلماء على الإباحة للمصلي لمدافعته، والأمر برده لا على الوجوب. وقوله: فليدرأه ما استطاع، أي: ليدفعه ويمنعه عن ذلك ولا يسامحه في المرور، وهو معنى قوله:" ما استطاع، وأجمعوا على أنه لا يلزمه مقاتلته بالسلاح ولا ما يؤدى إلى هلاكه، فإن درأه بما يجب فهلك من ذلك فلا قود عليه باتفاق، وهل فيه دية أو هو هدر ؟ فيه للعلماء قولان، وهما في مذهبنا أيضًا. وكذلك اتفقوا أن هذا كله لمن لم يغرر بصلاته، واحتاط لها وصلّى إلى سترة، أو في مكان يأمن المرور بين يديه، ويدل عليه قوله في حديث أبي سعيد هذا: « إذا صلى أحدكم إلى سترة »، فإذا فعل هذا كان الإثم على المار، وإن كان إلى غير سترة أثما جميعًا، إلا أن يكون المصلي صلى على طريق الناس، حيث تدعوهم الضرورة إلى الاجتياز، ولا يجدون مندوحة فيأثم هو دون المارين، إلا أن يكون المصلي صلى إلى غير سترة، حيث يأمن في الغالب ألا يمر بين يديه أحد، فلا إثم عليه على رأى بعضهم. وكذلك اتفقوا على أنه لا يجوز له(1) المشى من مقامه إلى رده والعمل الكثير في مدافعته ؛ لأن ذلك في صلاته أشدّ من مروره عليه، والذي أبيح له من هذا هو قدر ما تناله يده(2) من مصلاه دون المشي إليه، وإعمال الخطى، وهذا حد في مقدار القرب من السترة لهذه الفائدة، وسنذكرها بعد، وليكن رده هاهنا بالإشارة والتسبيح. وكذلك(3) اتفقوا على أنه إن مر فلا يرده لأنه مرور ثان، إلا شيء، روي عن بعض السلف في رده وتأوله بعضهم على قول أشهب يرده بالإشارة(4) وظاهر قول أشهب أنه في ابتداء المرور.
__________
(1) قوله:" له " ليس في (ح).
(2) في (ط):" يناله بيده ".
(3) في (ط):" لذلك ".
(4) في (ح):" بالإشارة التسبيح ".(3/4)
وقوله:« فإن أبي فليقاتله »، أي: إن أبي بالإشارة ولطيف المنع فليمانعه ويدافعه بيده عن المرور، ويعنف عليه في رده. قال أبو عمر: هذا اللفظ جاء على وجه التغليظ والمبالغة. وقال الباجي: يحتمل أن يكون بمعنى فليلعنه، فالمقاتلة بمعنى اللعن موجودة، قال الله تعالى:{ قتل الخرّاصون }، قال: ويحتمل أن يكون بمعنى فليعنفه على فعله ذلك ويؤاخذه، وخرج من ذلك معنى المقاتلة المعلومة بالإجماع.
وقوله:« فإنما هو شيطان »، قيل: معناه: فإنما حمله على فعله ذلك وإبائه من الرجوع الشيطان، وقيل: فإنه يفعل فعل الشيطان،[ فإن معنى الشيطان ](1) بعيد من الخير، والائتمار للسنة، من قولهم: نويٌ شطون، أي: بعيدة، ومنه سمى الشيطان لبعده من رحمة الله، فسماه شيطانًا لاتصافه بوصفه كما يقال: فلان الأسد، أي: يبطش ويقوى كبطشه وقوته، وقيل: المراد بالشيطان هنا قرين الإنسان اللازم(2) له، كما قال في الرواية الأخرى: « فإن معه القرين »، ويكون هذا من معنى قوله في الحديث الآخر: « فإن الشيطان يحول بينكم وبينها »، فيكون على هذا منع الإنسان الجواز بين يدى المصلى من أجل الشيطان اللازم له لكونه خبيثا نجسًا، ويكون الله تعالى يمنعه من التسلط على المشي أمام المصلي وقطع صلاته إذا اجتهد العبد في الدنو من قبلته وامتثل ما أمر به ولم يجعل له سبيلاً إليه بخلافه(3) إذا لم يدنوا(4) من السترة.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(2) في (ط):" الملازم ".
(3) في (ح) و(ط):" بخلاف ".
(4) في (ح) و(ط):" يدن ".(3/5)
وقوله:" ولو يعلم المار مابين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرًا له من أن يمر بين يديه " الحديث، أي لاختار وقوفه هذه المدة على ما عليه من الإثم، وقد ذكر ابن أبي شيبة في هذا الحديث لكان أن يقف مائة عام خيرًا له، وكل هذا تغليظ وتشديد في النهي على ما عليه من الإثم، وإرسال زيد بن خالد إلى أبي جهيم(1) يسأله عما سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذاالحديث(2) دليل على أخذ العلماء بعضهم عن بعض وقبول خبر الواحد عن الواحد.
وقوله:" كان بين مصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين الجدار ممر الشاة "، هذا تحديد في قدر القرب من السترة، وهو الذي قال به ناس وقدروه بقدر الشبر. وجاء في حديث صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة:" جعل بينه وبين الجدار قدر ثلاثة أذرع "، وهذا(3) استحباب جماعة من العلماء وقدر(4) المباح من(5) التأخر عن القبلة، وهذا القدر(6) هو الذي يمكن المصلى أن يدرأ أن يمر بين يديه وتناله يده. ولم يحد مالك فيه حدًّا، وذهب بعض السلف فيه إلى ستة أذرع، وكان بعض متأخري(7) شيوخنا يستعمل الحديثين، فيجعل الثلاثة الأذرع في ركوعه وسجوده، وقدر ممر الشاة عند قيامه.
__________
(1) في (ح):" جهم ".
(2) قوله:" الحديث " ليس في (ح) و(ط).
(3) في (أ):" هذا ".
(4) في (ح):" وهذا القدر ".
(5) في (ط):" عن ".
(6) قوله:" وهذا القدر " ليس في (ط).
(7) قوله:" متأخري " ليس في (ح).(3/6)
وقوله:" إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتحرى الصلاة عندها يعني الإسطوانة "، لا خلاف في جواز الصلاة إلى الأساطين، واستحب أهل العلم على ما جاء في الحديث ألا يصمدها صمدًا، بل يجعلها على حاجبه الأيمن أو الأيسر ولعل وجه هذا عهد(1) أول الإسلام، وحيث كان قرب الإلف بعبادة الحجارة والأصنام، وأما الصلاة بين الأساطين عرضا فاختلف العلماء في ذلك، واختلف قول مالك في إجازته وكراهته إلا عند الضرورة، وعلة ذلك أن المصلى بينها(2) إن كان فذّا صلى إلى غير سترة ؛ ولأن الصفوف منقطعة بالأساطين، ولأنه روى(3) أنه مصلى مؤمني الجن.
وقوله:« يقطع الصلاة الحمار والمرأة والكلب الأسود »، قال الإمام: اختلف الناس في مرورها بين يدى المصلي، فقال مالك وأكثر الفقهاء: لا يقطعون الصلاة، فإن قيل: إن كان هذا تعلقًا بظاهر قوله: إنه لا يقطع الصلاة شيء ولم يستثن منه، فهذا مقيد يجب أن يقضي به على المطلق. قيل: وقد ورد ما يعارض هذا التقييد وهو حديث عائشة في اعتراضها بين يدى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يعارض استثناء المرأة في الحديث الأول. وقال ابن حنبل: يقطع الصلاة الكلب الأسود، وفي قلبى من الحمار والمرأة شيء، ووجه قوله هذا(4) ما وقع في التقييد بالأسود في بعض طرق مسلم، ولم يوجد ما يعارض هذا، ووجد التعارض عنده فيما سواه فأشكل عليه.
__________
(1) قوله:" عهد " ليس في (أ) و(ط).
(2) في (ط):" فيها ".
(3) في (ح):" رؤى ".
(4) قوله:" هذا " ليس في (أ).(3/7)
قال القاضي: ويكون بمعنى(1) يقطع على قول الكافة ؛ مبالغة في الخوف على فسادها بالشغل بهم، كما قال للمادح:« قطعت عنق أخيك »، أي: فعلت به فعلا يخاف عليه هلاكه منه كمن قطع عنقه وعند الآخرين أنه على وجهه(2) من قطع اتصالها وفسادها،[ وهو قول أحمد وابن خزيمة(3)، وروى عن ابن عباس وأنس والحسن ](4)، وكذلك يقول من الأول من يقول: إنه منسوخ.
__________
(1) في (ح) و(ط):" معنى ".
(2) في (ط):" وجه ".
(3) قوله:" وابن خزيمة " ليس في (ح).
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ).(3/8)
وقوله:« الكلب الأسود شيطان » يؤكد أن العلة في قطع صلاة المار صحبة الشيطان له، وهو القرين المذكور في الحديث، ولقوله:« فإن الشيطان يحول بينكم وبينها »، وقد جاء أن الكلب الأسود شيطان، وأن الشياطين كثيرًا ما جاء أنها تتصور في صور الكلاب، وأن(1) الملائكة لا تحضر موضعه، وجاء أيضًا من اختصاص الشيطان(2) بالحمار في قصة نوح في السفينة وتعلقه به(3) ما جاء، وأن نهاقه عند رؤيته، وقد يقال في المرأة من هذا المعنى أيضًا ؛ لأنها تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، وأنها من مصائد الشيطان وحبائله، ويؤكد هذا التأويل ويشهد له قوله(4): «لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين »، وقد يقال: إن هذا كله للخبث والنجاسة المختصة بالشيطان، فإنه - عليه السلام - قال:« إنه خبيث مخبث رجس نجس(5)»، وشبهه بالكلب(6) إما لنجاسته عند من رأى ذلك، أو لأنه لا يتوقاها. والمرأة لأجل طريان الحيض ونجاسته عليها، وكذا جاء في حديث ابن عباس، والحائض مكان المرأة، وهو قوله: وقول عطاء في الحائض خصوصًا من النساء، ويختص الحمار على هذا بتحريم(7) لحمه أو شدة كراهته(8) ونجاسة بوله وروثه، وقد أشار الطحاوي أن هذا كله منسوخ بأحاديث صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أزواجه في قبلته عائشة، وميمونة، وأم سلمة، وبقوله(9) - عليه السلام -:« لا يقطع الصلاة شيء »، وبأمره - عليه السلام - بدرء المار ولم يخص(10)، أو لأن ذلك على الكراهة والتغليظ لا على الفساد للصلاة، أو يكون " تقطع الصلاة " بمعنى تقطع الإقبال عليها والشغل بها، فالشيطان بوسوسته ونزغه،
__________
(1) في (ح) و(ط):" لأن ".
(2) في (ح):" الشياطين ".
(3) في (ح) و(ط):" له ".
(4) قوله:" قوله " ليس في (أ) و(ح).
(5) قوله:" نجس " ليس في (أ).
(6) في (ط):" للكلب ".
(7) في (أ) و(ط):" لتحريم ".
(8) في (ح):" كراهيته ".
(9) في (ح) و(ط):" ولقوله ".
(10) في (ح):" شيء ".(3/9)
والمرأة بفتنتها والنظر إليها، والكلب والحمار بقبح أصواتهما وكثرتها(1) وعلوها، قال الله تعالى: {إن أنكر الأصوات لصوت الحمير }، وقال:{ فمثله(2) كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } الآية، ولنفور النفس من الكلب، لاسيما الأسود، وكراهة لونه وخوف عاديته، والحمار للجاجته وقلة تأتيه عند دفعه ومخالفته [ مع كراهة ريحهما معًا وقبح أصواتهما، وربما شغلا المصلي بذلك ](3).
وقول عائشة:" إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وهى معترضة أمامه " حجة على ما تقدم من أن المرأة لا تقطع الصلاة، ولا تفسد صلاة من صلى إليها، وكراهة مالك وغيره من العلماء أن تجعل المرأة سترة ذلك لخوف الفتنة بها والتذكر في الصلاة بها، والشغل بالنظر إليها، والنبى - صلى الله عليه وسلم - بخلاف(4) هذا في ملك أربه وقمع شهوته، وأيضًا فإن هذا كان في الليل، وحيث لا يرى شخصها، وقد قالت:" والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح ".
__________
(1) في (ح):" نكيرها ".
(2) قوله:" فمثله " ليس في (ح) و(ط).
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).
(4) في (ح):" بخلاف غيره ".(3/10)
وقولها:" فإذا سجد غمزني "، تعنى بيده، ولهذا اعتذرت عن هذا بعدم المصابيح التي بها كانت تعلم سجوده من قيامه فلا يحتاج إلى غمزها، وفيه دليل على أن اللمس من فوق الثوب أو تحته لغير لذة غير مؤثر في الطهارة(1)، وقد تقدم الكلام على هذه المسألة. والأغلب في هذا الحال أن الغمز من فوق الثوب لأنها في فراشها، وأما إن كان للذة والثوب غير كثيف(2) فينقض الطهارة. وفي حديثها وحديث صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جنب غيرها من أزواجه، دليل على جواز الصلاة إلى النيام، وإنما كرهه من كرهه تنزيها للصلاة لما يخرج منه وهو في قبلته. وفيه دليل على أن محاذاة المرأة في الصلاة للمصلي لا تفسد صلاته كانت في صلاة معه أم لا، خلافًا لأبى حنيفة في أن صلاة المحاذي لها من الرجال في الصلاة تفسد، وحجته نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الرجل إلى جانب المرأة والمرأة إلى جانب الرجل، وقوله:« أخروهن حيث أخرهن الله »، وكل هذا عندنا محمول على التحضيض والندب لا على الإيجاب، ولأنهم فرقوا بين الرجل والمرأة في فساد صلاتهما، فأجازوا صلاتها هي، والنهي فيهما سواء والمعنى واحد.
وقولها:" فأكره أن أسنحه "، معناه: أظهر له،كما جاء في الرواية الأخرى:" فأكره أن أجلس فأوذيه "، يقال: سنح لي الشيء إذا اعترض لي، ومنه السانح من الطير وغيره في العيافة عند العرب، وفيه جواز الصلاة في شعر النساء وفرشهن إذا لم تعلم فيها نجاسة، وفي حديث ميمونة جواز الصلاة إلى جنب الحائض، وقد تقدم معناه في كتاب الطهارة، وإن جسدها وثوبها إذا لم تكن عليه نجاسة حكمها(3) حكم الطهارة(4).
__________
(1) في (ط):" للطهارة ".
(2) في (ط):" منكشف ".
(3) قوله:" حكمها " ليس في (ح).
(4) في (ط):" الطاهر ".(3/11)
وقوله:" يسبح فيه "، أي: يصلى سبحته وهى نافلة صلاته، وفيه أن ثوب المصلى إذا سقط طرفه على النجاسة الجافة لم يضر ذلك المصلي إذا لم يسجد هو على ذلك أو يقف أو يجلس أو تكون بين يديه في سجوده أو أمامه في مصلاه، وفيه دليل على أن الصلاة إلى النوام والمستيقظين جائزة، وإنما النهي في المرور خاصة، وكره عامة العلماء استقبال وجهه.
وقوله:" كان(1) يتحرى مكان المصحف "، فيه جواز الصلاة إلى المصحف إذا كان موضعه، ولم يجعل هناك ليصلى إليه، ولم يكن تحريه هنا لأجل المصحف، وإنما تحرى الموضع لصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه، وفيه جواز إيطان موضع في المسجد للرجل يلازمه، وللسلف في ذلك خلاف، ويستحب ذلك للعالم والمفتي ومن يحتاج إليه فيه ليعرف موضعه.
وقوله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:" فرأيته يصلى على حصير يسجد عليه "، لا خلاف في إباحة الصلاة على الحصر(2) وأشباهها مما تنبته الأرض دون كراهة، ولا خلاف في جواز الصلاة على غير ذلك من كل طاهر من الثياب والبسط واللبود مع أن غيرها من الأرض أو ما تنبته أفضل، إلا أنه يكره ذلك لغير برد ولا حر، أو لطريق الترفه، هذا قول عامة العلماء، وأجاز ذلك بعض العلماء على الجملة كما أنه ما فعل من ذلك لطريق الرفاهة(3) والسرف أنه مكروه لأن الصلاة سرها التواضع والخضوع.
__________
(1) قوله:" كان " ليس في (أ) و(ط).
(2) في (ط):" الحصير ".
(3) في (ح):" الرفاهية ".(3/12)
وذكر مسلم أحاديث الصلاة في الثوب الواحد وقوله - عليه السلام -:« أو كلكم يجد ثوبين ؟ »: الصلاة في الثوب الواحد جائزة بغير خلاف بين العلماء، إلا شيء روى عن ابن مسعود كما إنه لا خلاف أن الصلاة في الثوبين، وجمع الثياب(1) أفضل وهو معنى ما روى عن ابن عمر في ذلك وغيره لا على أنه لا يجزى. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:« أولكلكم ثوبان ؟ أو يجد ثوبين »، صيغته صيغة الاستفهام، ومعناه التقرير والإخبار عن معهود حالهم، وضمنه دليل على الرخصة في الواحد وتنبيه على أن الثوبين أفضل وأتم، وهو المفهوم منه عند أكثر العلماء يبينه حديث جابر في "الموطأ" عنه - عليه السلام -:« من لم يجد ثوبين فليصلى في ثوب واحد ملتحفًا به، فإن كان قصيرًا فليتزر(2) به »، وذهب الطحاوي والباجي إلى أن مفهومه التسوية من الصلاة في الثوب الواحد مع وجود غيره أو عدمه في الإجزاء، وصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة في الثوب الواحد مع إمكان غيره ليدل على الرخصة والسعة، وكذلك معنى فعل الصحابة كما قال جابر: " ليراني الجهال مثلكم ". ونهيه أن يصلى به وليس على عاتقه منه شيء، قيل: لأنه إذا لم يكن كذلك لم يأمن من النظر إلى عورته، والأولى عندي أن يكون لئلا يسقط عنه ؛ لأنه إذا لم يصل به متوشحًا واضعًا طرفيه على عاتقيه كما كان يفعل - عليه السلام - لم يؤمن سقوطه عنه(3) وتكشفه، وإن تكلف ضبطه بيديه شغلهما بذلك، واشتغل به عن صلاته، فإذا احتاج إلى استعمال يديه في الركوع والسجود والرفع وغير ذلك، ربما انفلت ثوبه فينكشف، وأيضًا فإن فيه إذا لم يجعل منه على عاتقه(4) شيئًا تعرى بعض الجسم والأعالى من الثياب في الصلاة والخروج عن ذلك في(5) الزينة المأمور بها فيها، كما جاء في النهي عن(6)
__________
(1) في (ط):" الثوبين ".
(2) في (ح) و(ط):" فليأنز ".
(3) قوله:" منه " ليس في (ح).
(4) في (ح) و(ط):" عاتقيه ".
(5) في (ط):" ذي " بدل:" ذلك في ".
(6) في (ط):" في ".(3/13)
الصلاة في السراويل وحده، ويشبه الصلاة في المئزر وحده، وقد روى عن بعض السلف الأخذ بظاهر هذا الحديث، وأنه لا يجزئ صلاة من صلى في ثوب واحد مؤتزرا به ليس على عاتقه(1) منه شيء إلا أن لا يقدر على غيره، وكذلك اختلفوا في السدل في الصلاة وهو إرسال ردائه عليه من كتفيه إذا كان عليه مئزر، وإن لم يكن عليه قميص وإن انكشف بطنه، فأجازه عبد الله بن الحسن ومالك وأصحابه، وكرهه النخعي وآخرون، إلا أن يكون عليه قميص يستر جسده، وقد نحا إلى هذا بعض أصحابنا وهو أبو الفرج من أن ستر جميع الجسد في الصلاة لازم، وأكثرهم على جوازه على قميص وقد كرهه بعضهم بكل حال كأنه عنده من جر الإزار، وهو مذهب الشافعي وهذا بعيد لأنه في الصلاة ثابت غير جار له بخلاف الماشي، ولا خلاف أنه يجب عليه ستر عورته في الصلاة، واختلف أصحابنا هل هو من سنتها، وهو قول القاضي إسماعيل وغيره، أو من فرائضها وهو قول القاضي أبي الفرج وأبي حنيفة والشافعي، قال: وهو من شرائط صحة الصلاة(2)، ولا خلاف(3) في أنه فرض في غير الصلاة، فيجب أن يكون في الصلاة آكد، ثم اختلفوا إذا بدت عورته(4) في الصلاة على هذا هل يفسد الصلاة(5) أم لا ؟[ ونص شيوخنا على هذا ](6)، وقال الشافعي وسادتنا(7): تفسد، وخفف أبو حنيفة طهور(8) قدر الدرهم منها، وقال: إن انكشف أكثر من الدرهم من السوءتين فسدت الصلاة(1)، وإن كان مما سواها فمقدار الربع،[ وقاله محمد صاحبه، وقال أبو يوسف: الربع، وروي عند أكثر من النصف، وقال أصبغ من أصحابنا: إن صلى وفخذه مكشوفة فلا إعادة عليه، وهذا على تفريق ما بين السوءتين والقليل
__________
(1) في (ط):" عاتقيه ".
(2) في (ح):" صحتها " بدل:" صحة الصلاة".
(3) قوله:" خلاف " ليس في (ط).
(4) قوله:" عورته " ليس في (أ) و(ط).
(5) قوله:" الصلاة " ليس في (ح).
(6) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(7) قوله:" وسادتنا " ليس في (ح).
(8) قوله:" طهور " ليس في (ح).(3/14)
والكثير من العورة عندنا وعند الشافعي سواء ](1)، ومن المعنى الأول اختلف العلماء في صلاة الرجل محلول الإزار وليس عليه إزار، فمنعه أحمد والشافعي لعلة النظر إلى عورته، وربما بدا ذلك، لمن يقابله،وأجاز ذلك مالك وأبو حنيفة وأبو ثور وكافة أصحاب الرأي ندبًا(2) إذا تكلف ذلك، ورؤيته لذلك(3) كرؤيته من أسفل الإزار وبين الرجلين، وذلك لا يلزم.
والتوشح: قال ابن السكيت: هو أن يأخذ طرف الثوب الذي ألقاه على منكبه الأيمن من تحت يده اليسرى، ويأخذ طرفه الذي ألقاه على الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقدهما على صدره.
وقوله عن إبراهيم التيمي(4) في حديث على بن حجر: كنت أقرأ على أبي القرآن في السدّة، فإذا قرأت السجدة(5) سجد، فقلت: يا أبه ! أتسجد في الطريق ؟ الحديث، كذا في سائر النسخ، ورواه النسائي:"في السكة"، وهذا مطابق لقوله:" يا أبة ! أتسجد على الطريق "، وفي حديث آخر:" كنت أقرأ على أبي في بعض السكك " وكل هذا بمعنى متقارب، وذلك أن السدة التي عنى هى سدة الجامع، وهى الظلال التي حوله، ومنه سمى إسماعيل السدي بذلك ؛ لأنه كان يبيع الخمر في سدة الجامع، وهذا يدل أنها طرق وأقبية مطروقة وليس لها حكم الجامع لأنها من خارجه، ولهذا جاز البيع والشراء فيها، وكان التيمي يجلس فيها ويقرئ، فإذا جاءت السجدة سجد هناك، واحتج في الحديث بقوله - عليه السلام -:« الأرض لك مسجد، فحيثما أدركتك الصلاة فصل. وكره مالك الصلاة في قارعة الطريق للنهي الوارد في ذلك، ولعلة أنها لا تسلم من النجاسات من أبوال الدواب وأرواثها، ولذلك أنكر إبراهيم على أبيه السجود فيها، والأشبه أن هذه السدد(6) سالمة من ذلك إن شاء الله أو يكون سجوده على حائل بينه وبين الأرض.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(2) قوله:" ندبًا " ليس في (ح).
(3) قوله:" لذلك " ليس في (أ) و(ط).
(4) في (ح) و(ط):" التميمي ".
(5) في (ط):" القرآن ".
(6) في (ط):" السدة ".(3/15)
وفيه سجود من قرئ عليه القرآن من معلم وشبهه، وقد اختلف العلماء في ذلك، فقيل: يلزمه لأول مرة ثم لا يلزمه التكرار، وكذلك المتعلم، وقيل: لا يلزمهما ذلك بخلاف غيرهما من قارئ ومستمع.
قال الإمام: وقوله:" فضلت على الأنبياء بست " الحديث، وفيه: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا »، قد تقدم من قولنا: إن مالكًا يحتج بجواز التيمم على سوى التراب من الأرض بهذا الحديث، وأن الشافعي احتج بالحديث الثاني الذي فيه:« وترابها طهورًا(1)»، ورأى أنه مفسر للحديث الأول.
وقوله:« مسجدًا »، قيل: إن من كان قبله من الأنبياء إنما أبيح لهم الصلوات في مواضع مخصوصة كالبيع والكنائس.
وقوله:« وأحلت لي الغنائم »، وهو من خصائصه - عليه السلام - وكان من قبله لا تحل لهم الغنائم بل كانت تجمع، ثم تأتى نار من السماء فتأكلها. قال القاضي: قوله في هذا الحديث: جعلت لي الأرض طيبة طهورًا ومسجدًا: فيه دليلان ظاهران لأصحابنا المالكية ومن وافقهم:
أحدهما: في أن تأويل قوله تعالى:{ صيعدًا طيبًا }، أي: طاهرًا، خلاف قول الشافعي ومن وافقه أن معناه: منبتًا، وعلى هذا اختلفوا هم وغيرهم في التيمم على السباخ والصفا وما لا ينبت، وما سوى التراب على ما تقدم في كتاب الطهارة، ووصف النبي - عليه السلام - ها هنا الأرض بهذا لا يصح فيه إلا الطهارة، وكانت بمعنى الآية ومفسرة لها.
__________
(1) في (ط):" طهور ".(3/16)
والثانى(1): للمالكية والشافعية ومن وافقهم في اختصاص الطهارة بالماء دون سائر المائعات، وإن معنى قوله تعالى:{ وأنزلنا من السماء ماءً طهورًا}، أي: مطهرًا، خلاف ما ذهب إليه أبو حنيفة ومن وافقه، وأن معناه طاهرًا، وأن طهورًا غير معدى، وقوله - عليه السلام - هنا في الحديث في الأرض: « طيبة طهورًا »، أي:: طاهرة ولا يمكن أن يفهم من قوله:" طهورًا "، غير التطهير لغيرها، إذ قد وصفها بالطيب والطهارة في نفسها، ثم جعلها مطهرة من الحدث ومسجدا للصلاة.
وقوله:« أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي »، وذكر فيها الشفاعة، هى العامة في المحشر، التي يلجا إليها الخلق أجمعون، إذ قد جعلت الشفاعة في الخاصة لغيره، وقيل: شفاعة لا ترد في أحد، وقد تكون شفاعة(2) لخروج من فى قلبه مثقال ذرة من(3) إيمان من النار، إذ لم يأت شفاعة لغيره إلا قبل هذا، وأما هذه فمختصة به، كما اختصت به شفاعة المحشر العامة للخلائق، وأما اختصاصه بكون الأرض له مسجدًا وطهورًا، فيدل أن التيمم لم يشرع لغيره(4) قبله، وأما كونها مسجدا فقيل: إن من كان قبله من الأنبياء كانوا(5) لا يصلون إلا فيما أيقنوا طهارته من الأرض، وخص نبينا وأمته بجواز الصلاة على الأرض إلا ما تيقنت(6) نجاسته منها.
__________
(1) في (ح) و(ط):" الثانية ".
(2) في (ط):" شفاعته ".
(3) قوله:" من " ليس في (ح) و(ط).
(4) في (ط):" لأحد ".
(5) قوله:" كانوا " ليس في (ح).
(6) في (ط):" ثبتت ".(3/17)
وقوله في الحديث الآخر:« فضلنا على الناس بثلاث »، جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها لنا طهورًا إذا لم نجد الماء »، وذكر خصلة أخرى، ظاهره أنه ذكر ثلاث خصال، وإنما هي اثنتان كما ذكر ؛ لأن قضية الأرض كلها خصلة واحدة، والثالثة التي لم تذكر بينها النسائي من رواية أبي مالك بسنده هنا، وقال:« وأتيت هذه الآيات من خواتم البقرة من كنز تحت العرش لم يعطهن أحد قبلى ولا يعطهن أحد بعدى ».
وقوله هاهنا:« وترابها لي طهورًا، وتخصيصه بذلك بعد قوله:« جعلت لي الأرض كلها مسجدًا »، مما يحتج به المخالف علينا ويقضي بتخصيصه بين(1) سائر أجزاء الأرض على اختصاصه بهذه العبادة، ولشيوخنا القائلين بدليل الخطاب وتسليمه عن هذا أجوبة، فأما من لم يقل به فلا يحتج عليهم به منها أن هذه الزيادة انفرد بها أبو مالك الأشجعي والجمهور يخالفه،ومنها: أن السبخة تسمى ترابًا، وكل أرض على صفة مخالفة كأرض الزرنيخ والزاج والشب فذلك ترابها، قالوا: ولأنه(2) نص على أعم ما يوجد في الأرض وهو التراب، ولأن التراب بعض ما اشتمل عليه(3) الحديث العام وغير مناف له، ونحن نقول بهما جميعا لا سيما مع قوله - عليه السلام -:« فحيثما أدركتكم الصلاة فصلوا »، فهو بيّن في إجزائه فيهما معًا، وتسويته بين الصلاة والطهارة في الأرض ؛ لأن الحكم إذا تعلق باسم مجرد دون صفة ضعف التعلق بالاستدلال باختصاصه عما عداه، بخلافه إذا تعلق بالصفة.
وقوله:« أعطيت جوامع الكلم »، قال الهروي: يعني القرآن، جمع الله في الألفاظ اليسيرة منه معان كثيرة ومنه في وصفه - عليه السلام -:" كان يتكلم(4) بجوامع الكلم " يعني أنه كان كثير المعاني قليل الألفاظ.
__________
(1) في (ح):" من بين ".
(2) في (ط):" فلأنه ".
(3) في (ط):" عليه هذا ".
(4) في (ح):" متكلمًا ".(3/18)
وقوله:« وبعثت إلى الأحمر والأسود »، قيل: هم كافة الناس، كنى بالحمران عن البيض من العجم، وبالسود عن العرب لغلبة الأدمة عليهم وغيرهم من السودان، وقد يقال: إن الأسود: السودان، والحمر من عداهم من العرب وغيرهم، وقيل: الأحمر: الإنس، والأسود: الجن. وفي الحديث من أعلام نبوته ما أنذر(1) به من فتح خزائن الأرض كما قال.
وقوله مرة فيما اختص به ثلاث، ومرة خمس ومرة ست، ليس بمخالف(2)؛ لأنه أخبر مرة عن عدد، ثم أخبر(3) عن أكثر منه، وليس في قوله:" ثلاث " دليل على أنه(4) لم يعط غيرها، فقد يقول الرجل: أعطاني فلان عبدًا، وهو قد أعطاه العبد وغيره، ثم يخبر بعد ذلك بجملة ما أعطاه، وقد يكون أخبر أولاً(5) بما أعلمه الله به أولاً، ثم زيد فأخبر بما زيد، والله أعلم.
وقوله:« وأنتم تنتثلونها »، أي: تستخرجون ما فيها، يعني خزائن الأرض(6) وما فتح الله(7) عليهم من الدنيا. يقال: نثل ما في كنانته إذا صبها بمرة، ومنه في(8) الحديث:" تؤتى مشربته فينتثل ما فيها "، أي: يستخرج.
وقوله:" أرسل إلى ملأ بني النجار "، أي: رؤسائهم وأشرافهم، قيل: سموا بذلك لأنهم أملياء بالرأي والغنى.
وقوله:« يا بني النجار، ثامنوني بحائطكم »، أي: بايعوني بالثمن. قال الخطابي: فيه دليل أن رب السلعة أحق بالسوم.
قال الإمام: يؤخذ من هذا الحديث: أن المشتري يبدأ بذكر الثمن، وفي هذا نظر ؛ لأنه لم ينص - عليه السلام - على ثمن مقدر بذله لهم في الحائط، وإنما ذكر الثمن مجملاً، فإن كان أراد القائل أن فيه التبدئة بذكر الثمن مقدّرًا فليس كما قال ؛ لما بيناه.
__________
(1) في (ط):" أعلم ".
(2) في (ط):" متخالف ".
(3) في (ط):" أخرى ".
(4) في (ط):" أنها ".
(5) قوله:" أولاً " ليس في (أ) و(ط).
(6) في (أ):" خزائن الله ".
(7) لفظ الجلالة ليس في (أ) و(ط)
(8) قوله:" في " ليس في (ح).(3/19)
قال القاضي: ذكر في "الأم" أن بني النجار قالوا: لا، والله ما نطلب ثمنه إلا لله. وذكر محمد بن سعد في تاريخه الكبير عن الواقدي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشتراه من ابني عفراء بعشرة دنانير دفعها عنه أبو بكر الصديق- رضي الله عنه - وذلك-والله أعلم - أنه لما كان لليتيمين لم يقبله من بني النجار إلا بالثمن.
وفي الحديث لزوم إقامة المساجد وذلك فرض على كل جماعة استوطنوا موضعًا ؛ لأن إقامة الجمعة فرض، وشرطها(1) الجامع على المشهور من المذهب، وإقامة الجماعات سنة، ومن سننها المسجد، وإقامتها بالجملة على أهل المصر واجب ؛ لأن إحياء السنن الظاهرة واقامتها ابتداء واجب، وإنما هى سنن في حق الآحاد إذ لو لم تقم لماتت ودرست.
وقوله: " وكانت فيه نخل وقبور المشركين وخرب "، رويناه(2) بفتح الخاء وكسر الراء، جمع خربة، مثل: كلم وكلمة، وبكسر الخاء وفتح الراء جمع خربة بسكون الراء، وكلاهما ما تخرب من البناء، والثانية: لغة تميم(3) وحدها. قال الخطابي: لعل الصواب: خرب بالضم(4)، جمع خربة بالضم، وهى الخروق في الأرض، إلا أنهم يقولونها في كل ثقبة مستديرة، أو لعلها جرف(5) جمع جرفة(6) وهى جمع جرف، وأبين منه إن ساعدته الرواية: جدب، جمع جدبة،و تعنى ما ارتفع من الأرض لقوله:" فسوّيت "؛ لأنه إنما يسوى المكان المجدوب أو ما فيه خرق في الأرض وأما الخرب فتبنى وتعمر.
قال القاضي: لا أدرى ما اضطره إلى هذا ؟ وكما(7) قطع - عليه السلام - النخل المثمر كذلك سوى بقايا الخرب وإطلال(8) حيطانها، وأذهب رسومها كما فعل بالقبور، والرواية صحيحة اللفظ والمعنى، لا يحتاج إلى تغييرها ولا إلى تكلف شيء في تأويلها.
__________
(1) في (ح):" ومن شرطها ".
(2) قوله:" روينا " ليس في (ح).
(3) في (ح):" بني تميم ".
(4) في (ح):" بضم الخاء ".
(5) في (ح):" خرق ".
(6) في (ح):" خرقه ".
(7) في (ح):" أو كما ".
(8) في (ح) و(ط):" أطال ".(3/20)
وقوله:" وأمر بالنخل فقطع "، فيه جواز قطع الثمار المثمرة للمنافع لمثل هذا، وللحاجة إلى بناء مواضعها، أو اتخاذ خشبها عند عدم غيره والحاجة إليه، أو لدفع المضار لقطعها في بلاد العدو، الذي لا يرتجى المسلمون عمارته وسكناه، قطعًا للمرافق عنهم وغيظًا للكفار، أو لخوف سقوطها على بناء، أو ميلها على حائط من لا يملكها، وانتشارها على ملكه وإضرارها به.
وقوله:" وبقبور المشركين فنبشت "، قال الإمام: أما نبش القبور وإزالة الموتى فيمكن أن يقال: لعله أن أصحاب الحائط لم يملكوهم تلك البقعة على التأبيد، أو لعله تحبيسٌ وقع منهم في حال الكفر، والكافر لا يلزمه القرب كما قالوا: إذا أعتق عبدًا وهما كافران أن له أن يرده في الرق قبل إسلامهما ما لم يخرج من يده، ولم يقدر أن أيدي(1) أصحاب الحوائط زالت عن القبور لأجل من دفن فيها.
قال القاضي: لا يحتاج في تحبيس أهل الكفر بقاء، أيديهم أو زوالها، إذ القرب لا تصح منهم، وعقودهم فيها غير لازمة، فلهم عند أشياخنا - بلا خلاف علمته - الرجوع في أحباسهم(2)، ومنعها، والتصرف فيها كيف شاؤوا، ويفترق من العتق الذي شرط في إمضائه شيوخنا خروجه من يده إذا صار ذلك حقا للمعتق يرفع يده عنه، وتسريحه إياه، وتملكه نفسه، فأشبه عقود هباتهم وأعطياتهم اللازمة. وفيه جواز نبش قبور المشركين عند الحاجة إلى موضعها ؛ إذ لا حرمة لهم إذا لم يكن في أملاكهم، ولأن نبش هذه(3) إنما كانت بعد ملك النبي - صلى الله عليه وسلم - لها.
__________
(1) في (ح):" يد ".
(2) في (ط):" تحبيسهم ".
(3) في (ح):" هذه القبور ".(3/21)
وفيه جواز الصلاة في مقابرهم الداثرة بعد نبشها وإخراجهم منها، وبناء المساجد مكانها ؛ لأن هذه قد اتخذ عليها مسجد(1) وكانت داثرة، وبعد نبشها، وإخراج ما فيها من أصداء وعظام، وقد كره العلماء الصلاة في قبور(2) المشركين بكل حال وعليه تأوّل أكثرهم النهي عن الصلاة في المقبرة، قالوا: لأنها حفرة من حفر النار، وقد اختلف في الصلاة في المقبرة على الجملة، فأجازه مالك وأكثر أصحابه وإن كان القبر بين يديه،[ وهو مذهب الحسن البصري وآخرين، وقاله الشافعي ](3)، وروى عن مالك أيضًا كراهة ذلك، وقاله جماعة من السلف، وبه قال أحمد وإسحاق، وحكى عبدالوهاب كراهته في الجديدة، قال: ويكره في مقابر المشركين جملة، وقال الشافعي: إذا كانت المقبرة مختلطة بلحوم الموتى وصديدهم لم يجز، ولا يختلف في هذا على الجملة، وكره بعضهم الصلاة إليها، وسيأتى الكلام عليها في الجنائز إن شاء الله.
قال الخطابي: وفيه دليل على أن الأرض التي دفن فيها الميت باقية على ملك أوليائه، وكذلك كفنه ؟ ولذلك قطعنا النباش ؛ لأنه سرق من حرز من ملك مالك، ولولا هذا لم يجز نبشها واستباحتها بغير إذن مالكها.
__________
(1) في (ط):" مسجدًا ".
(2) في (ح) و(ط):" مقابر ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (ط).(3/22)
قال القاضي: مذهبنا أن مواضع القبور أحباس لا يجوز بيعها لحوز الميت إياها عن غيره، وهذه لما جاز نبشها وإخراجهم منها دل أن لا حق لهم فيها لما تقدم، وليس علة قطع النباش كون الأرض ملكا للأولياء، لأنا نقطع على ما لم يستقر عليه ملك إذا كان في حرز، كقطعنا من سرق آلات المساجد، وأموال أحباس الطرقات وكذلك لما لم يستقر عليه ملك معين كمن سرق من المغانم، وأما الكفن فملك للميت، وحق له ما دام محتاجا إليه ؛ ولهذا قال بعض شيوخنا البغداديين: لو أكلت الميت السباع لرجع الكفن لورثته، قال الخطابي: وفيه دليل على أن من لا حرمة له في حياته لا حرمة له في مماته، وقد قال - عليه السلام -:« كسر عظم المسلم ميتًا ككسره حيًّا »، قال غيره: وفيه دليل على نبش قبورهم لطلب المال.
وقد اختلف العلماء والسلف في ذلك وكرهه مالك وأجازه أصحابه، واختلف في علة كراهة من كرهه فقيل(1): ذلك(2) مخافة نزول سخط(3) وعذاب عليهم ؛ لأنها مواضع العذاب والسخط، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن(4) دخول ديار المعذبين خشية أن يصيب الداخل ما أصابهم، أو(5) لأنه - عليه السلام - قد قال:« إلا أن تكونوا باكين »، فمن دخلها لطلب الدنيا فهو ضد ذلك، أو مخافة أن يصادف قبر نبى أو رجل صالح بينهم، وحجة من أجاز ذلك: نبش أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أبي رغال، واستخراجهم منه قضيب الذهب الذي أعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مدفون معه.
__________
(1) قوله:" فقيل " ليس في (أ) و(ط).
(2) في (أ) و(ط):" أذلك ".
(3) في (أ):" السخط ".
(4) قوله:" عن " ليس في (ط).
(5) في (ح):" و".(3/23)
وقوله:" وكانوا(1) يرتجزون ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم ". فيه جواز قول الأشعار والأرجاز، والاستعانة بها وأمثالها من الكلام الموزون والمزدوج عند التعاون على الأعمال وتحريك الهمم، وتشجيع النفوس، والقوى وتسليتها عند معاناة الأمور الصعبة والكلف الشاقة، كما جاء هنا. وفي غير حديث وقصة، واستدل بعضهم بهذا وشبهه بما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قاله(2)، أو شُيّع فيه وسمعه، أو حكاه من كلام غيره، أن الرجز ليس بشعر لقوله تعالى: { وما علمناه الشعر وما ينبغي له }. وقد اختلف أصحاب العروض وعلم الشعر في أعاريض الرجز، هل هى من الشعر أم لا ؟
وقوله:" كان يصلى في مرابض الغنم ": فيه حجة على طهارة أبوالها وأرواثها، ومرابض الغنم حيث تبيت. وربوضها: طرح أجسادها على الأرض وطى قوائمها للنوم أوالراحة. قال ابن دريد: ويقال ذلك أيضًا لكل دابة من ذوات(3) الحوافر والسباع، وتقدم في كتاب الطهارة.
__________
(1) في (ح) و(ط):" فكانوا ".
(2) في (ط):" قال ".
(3) في (ح):" دواب ".(3/24)
وقوله في حديث تحويل القبلة:" فانطلق رجل من القوم فمر بناس من الأنصار وهم يصلون فحدثهم بالحديث، فولّوا وجوههم قبل البيت "، قال الإمام: اختلف أهل الأصول في النسخ إذا ورد متى يتحقق حكمه على المكلف ويحتج لأحد القولين بهذا الحديث ؛ لأنه ذكر أنهم تحولوا إلى القبلة وهم في الصلاة، ولم يعيدوا ما مضى، وهذا دليل على أن الحكم إنما يستقر بالبلوغ، فإن قيل: كيف استداروا(1) إلى القبلة بخبره، والنسخ في هذا بخبر(2) واحد(3)؟ قيل: قد قالوا: إن النسخ بالواحد كان جائزًا في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما منع بعده - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: إنما تلا عليهم الآيات التي فيها ذكر النسخ فتحولوا عند سماع القرآن، فلم يقع النسخ بخبره، وإنما وقع النسخ عندهم بما سمعوا من القرآن.
قال القاضي: أشد(4) جواب في هذا أن يقال: إن العمل بخبر الواحد مقطوع به، كما أن العمل بالحكم المقطوع بصحته من الكتاب والسنة المتواترة مقطوع به ؛ ولأن الدليل الموجب لثبوت الحكم أولاً غير الدليل الموجب لنفيه وثبوت غيره،وإلى جواز النسخ بخبر الواحد، مال القاضي أبو بكر وغيره من المحققين. وفي هذا الخبر بالجملة قبول خبر الواحد، وعادة الصحابة بامتثاله والعمل به(5) والوقوف عنده واعتداد بعضهم بنقل بعض، وأنهم لم يحتاجوا إلى التوقف حين سمعوا ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال الإمام: وقد ردوا إلى مسألة النسخ المتقدمة مسألة الخلاف في الوكيل إذا تصرف بعد العزل ولم يعلم ؟ فقالوا على القول بأن حكم النسخ لازم حين الورود، ينبغىألا تمضى أفعاله بعد العزل وإن لم يبلغه ذلك. وعلى القول الثانى تكون أفعاله ماضية بعد العزلة [ ما لم تبلغه العزلة ](6).
__________
(1) في (ح):" استدلوا ".
(2) في (ح) و(ط):" الخبر ".
(3) في (ح):" بواحد ".
(4) في (أ):" أسد ".
(5) قوله:" به " ليس في (أ) و(ط).
(6) مابين المعكوفين ليس في (ط).(3/25)
قال القاضي: ضعف المحققون من الأصوليين رد هذه المسألة إلى هذا الأصل؛ إذ حقيقة الخطاب بالتكليف(1) إنما يتعلق بالبلاغ عند المحققين من أئمتنا، فإن النسخ إذا ورد فمن لم يبلغه باق على المخاطبة بالعبادة الأولى، وليس في حقه نسخ حتى يبلغه، ومنهم من قال يثبت النسخ في حقه، لكن بشرط أن يبلغه، فهو اختلاف في عبارة وكلهم مجمعون على بقائه على الحكم الأول، وإجزائه إذ الجاهل لا يثبت التكليف في حقه بما جهله ولم يبلغه، وهذا من المستحيل، وإنما ذهب إلى ثبوت(2) النسخ في حقه طائفة من الفقهاء والمتكلمين(3) الذين لم يقووا في الأصول وما قدمناه يرد قولهم ومسألة الوكيل تعلق بها حق للغير على الموكل(4) فلهذا توجه الخلاف فيها، ولم يختلف المذهب عندنا في أحكام من أعتق ولم يعلم بعتقه أنها أحكام حر فيما بينه وبين الناس، فأما ما بينه وبين الله فجائزة. ولم يختلفوا في العبادة المعتقة أنها لا تعيد ما صلَّت بغير ستر، وإنما اختلفوا فيمن طرأ عليه موجب يغير حكم عبادته وهو فيها بناء على هذه المسألة وفعل الأنصار في الصلاة كمسألة الأمة تعتق فتصلى فلا تعلم بذلك إلا في الصلاة هل تبطل صلاتها ؟ وهو قول أصبغ أم تصح ؟ وهو ظاهر قول ابن القاسم، وكذلك إذا عتقت في نفس الصلاة وهى مكشوفة الرأس، فإنها لا تقطع الصلاة وتتمادى فيها، لكن متى أمكنها حينئذ من يناولها ما تستر به رأسها أو قرب منها تناوله تعين فعل ذلك عليها(5)، وهذا قول أكثر أصحابنا، وهو قول الشافعي والكوفيين، وجمهور العلماء.
__________
(1) قوله:" بالتكليف " ليس في (ط).
(2) قوله:" ثبوت " ليس في (أ).
(3) قوله:" المتكلمين " ليس في (أ) و(ط).
(4) في (ح):" الوكيل ".
(5) في (أ) و(ط):" تمادت ".(3/26)
ومنه أيضًا المسافر ينوي الإقامة وهو في الصلاة، أو إمام الجمعة يقدم والٍ بعزله(1) بعد عقده(2) ركعة، فالأكثر على التمادي في هذه المسائل والإجزاء ؛ لأنه دخل في الصلاة وتعينت عليه على تلك الحالة الأولى، وقيل: يقطعون.
ومنه أيضًا المتيمم إذا طلع عليه رجل بماء في الصلاة أو نزل(3) عليه مطر، فإنه يتمادى ولا يقطع، ولا يقال في هذا: إنه(4) إن أمكنه الماء توضأ ؛ لأنه عمل كثير مناف للصلاة، ولا(5) يصح مع التمادى فيها، وهذا قول مالك والشافعي والجمهور، خلافا للكوفيين والأوزاعي في رجوعهما للطهارة بالماء. واحتجوا أيضًا بهدا الحديث على نسخ السنة بالقرآن ؛ لأن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - أولاً(6) لبيت المقدس على قول أكثرهم سنة، وهى مسألة اختلف فيها الأصوليون، فأجازه جمهورهم ؛ لأن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم من الله على لسان نبيه مثل حكمه، كما بينه في كتابه، وقال بعضهم: لا يجوز ذلك ؛ لأن السنة مبية للكتاب وبعيد قضاء المبين ونسخه وحكمه على المبين. وقالوا في قصة القبلة: إنما هى نسخ قرآن بقرآن، وأن الأمر أولاً كان(7) بتخيير المصلي أن يولي وجهه حيث شاء بقوله تعالى:{ فأينما تولوا فثمّ وجه الله }، ثم نسخ باستقبال القبلة. وقيل: بل صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس كان بعد وروده إلى المدينة بأمر الله تعالى، ففرحت بذلك اليهود ثم صُرِف إلى الكعبة.
__________
(1) في (ح) و(ط):" بعزلته ".
(2) في (أ):" عقد ".
(3) في (ح):" أنزل ".
(4) قوله:" أنه " ليس في (ط).
(5) في (ط):" لا " بدون واو.
(6) قوله:" أولاً " ليس في (ح).
(7) قوله:" كان " ليس في (ح).(3/27)
وكما اختلفوا هنا كذلك اختلفوا فى نقيضه، وهو نسخ القرآن بالسنة، فذهب الأكثر إلى جوازه عقلاً وسمعًا، وأجازه بعضهم عقلاً، وقال: لم يوجد شرعًا، ومنعه بعضهم عقلاً. وفى هذه القصة دليل على صحة نسخ الأحكام وهو مما أجمع عليه كافة المسلمين إلا طائفة من المبتدعة لا يعبأ بها لم تقل به، ووافقت القنّائية(1) من اليهود فيه.
وقوله:" وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها "، روي بفتح الباء على الخبر وبكسرها على الأمر، قال الطحاوي: وفى هذا دليل على أنه من لم يعلم بفرض الله ولم تبلغه الدعوة، ولا أمكنه استعلام ذلك من غيره، فالفرض غير لازم له، والحجة غير قائمة عليه، وقد اختلف العلماء فيمن أسلم فى دار الحرب أو(2) أطراف بلاد الإسلام حيث لا يجد من يستعلمه(3) عن شرائع الإسلام، ولا علم أن الله فرض شيئًا فيها، ثم علم بعد ذلك، هل يلزمه قضاء ما مر عليه من صيام أو صلاة لم يعلمها ؟ فذهب مالك والشافعي في آخرين إلى إلزامه ذلك، وأنه قادر على الاستعلام والبحث(4) والخروج إلى ذلك، وذهب أبو حنيفة إلى أن ذلك يلزمه إن أمكنه من يستعلم ذلك منه فى بلاد المسلمين وبلاد الحرب فلم يستعلم وفرط، وإن كان لا يحضره من يستعلمه فلا شيء عليه، وكيف يكون لله فرض على من لم يعلم بفرضه ؟ وقد قدمنا من هذا قبل، وأن تكليف الجاهل بالشيء يفعله(5) مع جهله به محال ؛ إذ لا يثبت حكم إلا بدليل. وإذا لم يتمكن المكلف من(6) التوصل إلى ما كلفه كان من تكليف المحال.
__________
(1) في (ح):" العفانية ".
(2) في (ح):" و ".
(3) في (ط):" يسأله ".
(4) قوله:" والبحث " ليس في (أ).
(5) في (ط):" فعله ".
(6) قوله:" من " ليس في (ط).(3/28)
وفيه دليل على جواز تنبيه من ليس فى الصلاة لمن فى الصلاة وأن يفتح عليه، وفيه دليل على جواز الاجتهاد فى القبلة، ومراعاة السمت لميلهم إلى جهة الكعبة لأول وهلة فى الصلاة قبل قطعهم على موضع(1) عينها، ولا خلاف أن المطلوب عينها مع المشاهدة، وفيه جواز الاجتهاد بحضرته - عليه السلام -، وهي مسألة اختلف فيها، وفيه دليل على وجوب الصلاة إلى القبلة والإجماع على أنها الكعبة.
وقوله في حديث البراء:" صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا " وفي الرواية الأخرى:" أو سبعة عشر شهرًا، وهذا هو الأصح، وهو قول مالك وابن إسحاق، وابن المسيب، وقيل:[ حولت القبلة بعد](2) ثمانية عشر شهرًا، وروى بعد سنتين، وروى بعد تسعة أشهر أو عشرة أشهر، وهذان شاذان.
__________
(1) في (ط):" مواضع ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (ط).(3/29)
وتغليظ النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن اتخاذ قبره مسجدا ؟لما خشيه من تفاقم الأمر وخروجه عن حد__ّ المبرة إلى المنكر، وقطعا للذريعة، وقد بينه(1) - عليه السلام - في قوله: « لا تتخذوا قبري وثنًا يعبد »، ولأن هذا كان أصل عبادة الأصنام، فيما يذكر، كانوا قديما إذا مات فيهم نبي أو رجل صالح صوروا صورته وبنوا عليها(2) مسجدًا ليتأنسوا برؤية صورته، ويتعظوا بمصيره ويعبدوا(3) الله عنده، فمضت على ذلك أزمان، وجاء بعدهم خلف رأوا أفعالهم وعباداتهم(4) عند تلك الصور ولم يفهموا أغراضهم، وزين لهم الشيطان أعمالهم(5)، وألقى إليهم أنهم كانوا يعبدونها فعبدوها، وقد نبه - عليه السلام - في الحديث على بعض هذا، ويدل على صحة هذا المعنى قوله في الحديث الآخر:« اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد »؛ ولهذا لما احتاج المسلمون إلى الزيادة في مسجده - صلى الله عليه وسلم - لتكاثرهم بالمدينة، وامتدت الزيادة إلى أن أدخل فيها بيوت أزواجه، ومنها بيت عائشة الذي(6) دفن فيه - عليه السلام - وذلك، أيام عثمان، بني على قبره حيطانًا(7) أحدقت به ؛ لئلا يظهر في المسجد فيقع الناس فيما نهاهم عنه من اتخاذ قبره مسجدًا، ثم إن أئمة المسلمين حذروا أن يتخذ موضع قبره قبلة، إذ كان مستقبل المصلين فتتصور الصلاة إليه صورة العبادة له(8)، ويحذر أن يقع في نفوس الجهلة من ذلك شيء، فرأوا بناء جدارين من ركني القبر الشماليين حرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية(9) الشمال حتى لا يمكن أحد استقبال موضع القبر عند صلاته ؛ ولهذا قال فى الحديث: " ولولا ذلك أبرز قبره -
__________
(1) في (ح):" نبه ".
(2) في (أ):" عليه ".
(3) في (أ):" يعيدون ".
(4) في (ح):" عبادتهم ".
(5) في (ط):" عملهم ".
(6) في (ط):" التي ".
(7) في (ط):" حيطان ".
(8) قوله:" له " ليس في (ط).
(9) في (ح):" جهة ".(3/30)
عليه السلام - غير أنه خشى أن يتخذ مسجدًا.
وقوله:« قاتل الله اليهود » معناه: لعن، كما جاء فى الرواية الأخرى، وقيل: معناه: قتلهم وأهلكهم وقد جاء فاعل بمعنى فعل فى ألفاظ كقولهم: طارقت النعل، وسافرت.
وقوله:« إني(1) أبرأ إلى الله أن يكون لى منكم خليل »، أى أبعد عن هذا. وأنقطع عنه ولا أتصل به، والعلة لذلك ما نذكره بعد(2).
وقوله:« لو كنت متخذًا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ». قال الإمام: قال ابن النحاس: الخليل المختص بشيء دون غيره، ولا يجوز أن يختص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدًا(3) بشيء من أمور الديانة دون غيره ، قال الله تعالى:{ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } الآية.
قال الإمام: وقيل: الخليل اشتق من الخلة بفتح الخاء، وهى الحاجة. وقيل: من الخلة بضمها وهى تخلل المودة فى القلب، وقيل: من الخلة بالضم أيضًا(4)، وهو نبت تستحليه الإبل. قال ابن قتيبة وغيره: الحمض ما ملح من النبت والخلة ما حلا منه، تقول العرب: الخلة خبز الإبل والحمض فاكهتها.
قال القاضى: وقيل: اشتق من الاستصفاء، وقيل: صفاء المودة، فنفى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تكون حاجته وخلته إلى أحد من المخلوقين بل إلى ربه تعالى، كما قال فى الحديث الآخر:« لكن(5) صاحبكم خليل الله ». وقيل: إنما سمي إبراهيم بذلك لقوله لجبريل وهو في المنجنيق ليرمى به في النار، وقد(6) قال له: ألك حاجة ؟ فقال إبراهيم: أمّا إليك فلا "، أو يكون سميا(7) بالخلّة لغاية استصفائهما وفراغ قلوبهما عمن سواه، ولهذا قال بعضهم في معنى هذا الحديث: الخليل من لا يتسع قلبه لسواه، وسيأتي الكلام عليه في الفضائل.
__________
(1) في (أ) و(ط):" أن ".
(2) قوله:" بعد " ليس في (ح).
(3) قوله:" أحدًا " ليس في (ط).
(4) قوله:" أيضًا " ليس في (ح).
(5) في (ط):" لأن ".
(6) قوله:" قد " ليس في (ح).
(7) في (أ) و(ط):" بينهما ".(3/31)
وفي سند هذا الحديث: ثنا زكرياء بن عدى، عن عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن الحارث النجراني قال(1): حدثنى جندب، هذا ما استدركه الدارقطني على مسلم وقال: خالف عبيد الله فيه أبو عبد الرحيم فقال: عن جميل النجراني، عن جندب. وجميل مجهول والحديث محفوظ عن أبي سعيد وابن مسعود، قال غيره: وقد ذكر النسائي الحديث من رواية عبيد الله بن عمرو، ثم ذكر رواية أبي عبدالرحيم(2) عن زيد، عن عمرو، عن عبد الله بن الحارث، عن جميل النجراني عن جندب.
وقوله في حديث ابن مسعود: أصلى هؤلاء خلفكم ؟ فقلنا: لا. فقال: قوموا فصلوا، أراد بهؤلاء الأمراء، وعاب عليهم تأخيرها عن وقتها المستحب، ويدل عليه آخر الحديث، ومعنى خلفكم، هنا إشارة إلى موضعهم أنه كان من ورائهم.
وقوله:" فلم يأمرنا بأذان ولا إقامة "، فيه جواز صلاة المرء الفريضة في بيته، وأن الجماعة ليست بفرض على الأعيان خلافًا لأهل الظاهر، وفيه صلاتها في البيت في جماعة، وقوله:" فلم يأمرنا بأذان ولا إقامة ". اختلف الناس فيمن صلى وحده أو في بيته هل يجزئه إقامة أهل المصر وأذانهم ؟ فذهب بعض السلف من أصحاب ابن مسعود وغيرهم إلى أن له أن يصلى بغير أذان ولا إقامة. وذهب عامة فقهاء الأمصار إلى أنه يقيم ولا يجزئه إقامه أهل المصر ولا يؤذن، واستحب ابن المنذر أن يؤذن ويقيم. وذهب ابن سيرين والنخعي إلى الإقامة إلا صلاة الفجر ؛ فإنه يؤذن ويقيم لها خاصة.
__________
(1) قوله:" قال " ليس في (ح).
(2) في (ح) و(ط):" عبدالرحمن ".(3/32)
وقوله:" فذهبنا لنقوم خلفه فأخذ بأيدينا فجعل أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، وقال: إنها صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - "، قال الإمام: إذا كان مع الإمام ثلاثة رجال قاموا وراءه بغير خلاف، وإن كان وأحدًا قام عن يمينه. واختلف إذا كان اثنين، فذهب ابن مسعود إلى ما ذكر في الحديث، والفقهاء سواه يرون أن يقوما(1) وراء الإمام.
قال القاضي: ما ذكره أولاً هو قول الكافة في الواحد، وحكى عن ابن المسيب فيه: أنه إنما يقوم عن شماله لحديث صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبى بكر في مرضه المتقدم، وما ذكر في صلاة ابن مسعود من تشبيك اليدين وتطبيقهما(2) بين الفخذين في الركوع به قال ابن مسعود وأصحابه. وقد ثبت نسخ ذلك فيما(3) ذكره مسلم في كتابه بوضع اليدين على الركب، وبهذا قال جماعة السلف وفقهاء الأمصار، ولعل ابن مسعود لم يبلغه نسخ ذلك.
قال الإمام: وقوله(4):« سيكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة ويخنقونها إلى شرق الموتى »، قال أبو عبيد: سئل الحسن بن محمد بن الحنفية عن هذا الحديث، فقال: ألم تر إلى الشمس إذا ارتفعت عن الحيطان وصارت بين القبور كأنها لجة، فذلك شرق الموتى، وقال الهروي: في تفسير قوله - عليه الصلاة والسلام - حين ذكر الدنيا إنما بقى منها كشرق الموتى، وقال ابن العربى: فيه معنيان:
أحدهما: أن الشمس في ذلك الوقت إنما تثبت ساعة ثم تغيب، فشبه قلة(5) ما بقى من الدنيا ببقاء تلك الساعة.
والثاني: شرق الميت بريقه، فشبه قلة ما بقى من الدنيا بما بقى من حياة من شرق بريقه حتى تخرج نفسه.
__________
(1) في (ط):" يقوموا ".
(2) في (ح) و(ط):" تطبيقها ".
(3) في (ح) و(ط):" بما ".
(4) قوله:" وقوله " ليس في (ط).
(5) قوله:" قلة " ليس في (أ) و(ط).(3/33)
وقال القاضي: وقيل: شرق الموتى: إذا ارتفعت الشمس عن الطلوع، يقال(1): تلك ساعة الموتى، وقيل: شرق الموتى اصفرار الشمس عند غروبها. وقوله: " يخنقونها "، أي: يضيِّقون وقتها ويتركون أداءها إلى ذلك الحين، يقال: هم في خناق من كذا، أي: في ضيق.
وقوله:" فصلوا الصلاة لميقاتها، واجعلوا صلاتكم معهم سبحة "، أي: نافلة، ومعنى هذا لئلا تتأذى بتخلفك عنه إذا خفته، ولما يخشى من المخالفة عليهم.
وقوله في صفة الركوع:" وليحن " كذا رواية أكثر شيوخنا بالحاء المهملة وكسر النون، وعند الطبري:" فليجنأ " بالجيم وفتح النون وبهمز آخره وكلاهما صحيح المعنى، وهو من الانعطاف والانحناء في الركوع، وهو تعطف(2) الصلب، يقال:جنى على الشيء يجنأ جنوا وأجنا يجني أجناءً، ووقع هذا الحرف عند العذري:"وليحن" بضم النون، وهو بمعناه، يقال: حنوت العود وحنيته إذا أعطفته، وأصل الركوع في لغة العرب: الخضوع والذلة، قال شاعرهم(3):
ولاتعادي الفقير علك أن تر كع يومًا والدهر قد رفعه
وهذه صفة الخاضع الذليل الملقى بيده المستسلم، بل قيل: هى صورة(4) الممكن نفسه لضرب عنقه، وتلك غاية صور الاستسلام، لا سيما ما كان عليه أول الشرع من التطبيق، وحبس اليدين بين الفخذين كالمكتوف.
__________
(1) في (ط):" فقال ".
(2) في (أ):" تعفف "، وفي (ط) وحاشية (ح):" تعقب".
(3) في (ح):" الشاعر ".
(4) في (ط):" صورته ".(3/34)
ذكر مسلم قول ابن عباس في الإقعاء على القدمين: هي السنة، قال الإمام: لعل ابن عباس لم يعلم ما ورد من الأحاديث الناسخة التي فيها النهي عن الإقعاء، قال الهروي في تفسير:" نهى أن يقعى الرجل في الصلاة ": قال أبو عبيد: هو أن يلصق الرجل أليتيه(1) بالأرض وينصب ساقيه، ويضع يديه بالأرض، كما يفعل الكلب، قال: وتفسير الفقهاء أن يضع أليتيه على عقبيه بين السجدتين، والقول هو الأول، وقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أكل(2) مقعيًا، قال ابن شميل: الإقعاء: أن يجلس الرجل على وركيه وهو الاحتفاز والاستيفاز، وحكى عن الثعالبي أنه قال في أشكال الجلوس عن الأئمة: إن الإنسان إذا ألصق عقبيه بأليتيه قيل: أقعى، وإذا استوفز في جلوسه كأنه يريد أن يثور للقيام قيل: احتفز وأقعنفز(3)، وقعد القعفزى، فإذا ألصق أليتيه بالأرض وتوسد ساقيه قيل: قرطس.
__________
(1) في (ح):" أليته ".
(2) في (ح):" كان".
(3) في (أ):" واقنعفز ".(3/35)
قال القاضي: الذي قرأته في كتاب الثعالبى في هذا الحرف:" فرشط " بالفاء، وتقديم الشين المعجمة على الطاء، وكذا ذكره أبو عبيد في المصنف في هيئة هذه الجلسة المذكورة، وأرى(1) ما وقع في المعلم من ذلك تغيير من النقلة أو ممن شاء الله، والأشبه عندي في تأويل الإقعاء الذي قال ابن عباس: إنه من السنة ؟ الذي فسر(2) به الفقهاء من وضع الأليتين بين السجدتين على العقبين وليس بالمنهى عنه، فقد روى عن جماعة من الصحابة، والسلف أنهم كانوا يفعلونه،وكذا جاء مفسرًا عن ابن عباس:"من السنة أن تمس عقبيك أليتيك، ولم يقل بذلك عامة فقهاء الأمصار، وسموه: إقعاء، وأجروا الجلوس فيها مجرى الجلوس في التشهد على اختلافهم فيه وقد تقدم، ووافق الشافعي مالكًا في كراهة ذلك بين السجدتين، وخالفه في استعمال ذلك عند الرفع من السجدة الثانية للقيام، فرأى الشافعي في جماعة من أصحاب الحديث: أنه يرجع جالسًا على قدميه يسيرًا، ثم ينهض للقيام، قال: وليس ذلك بإقعاء. وحجتهم ما جاء في حديث مالك بن الحويرث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا(3) كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوى قاعدًا، وقال مالك في كافة الفقهاء سفيان وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي: لا يجلس ولكن ينهض كما هو، وحملوا حديث ابن الحويرث أنه كان مرة من ثقله - عليه السلام - ليدل على جواز ذلك أو لشكوى به، قال الداودي: فمن هنا رأى مالك أن لا سجود على من جلس في وتر الركعات ما لم يطل.
قال القاضي: وحكى غيره من شيوخنا فيها قولين: السجود وتركه، وكل هذا لمن فعله ناسيًا، فأما عامدًا فلا سجود اتفاقًا، ثم اختلفوا في الاعتماد على اليدين عند النهوض إلى القيام، فقال مالك وجمهورهم: يعتمد وهو أقرب إلى السكينة، وقال الثوري في آخرين: لا يعتمد إلا أن يكون شيخًا، وخيّره مالك مرّة، ورأى أن يفعل ما هو أرفق به.
__________
(1) في (ح):" أراني ".
(2) في (ح):" فسرته ".
(3) في (أ):" كان إذا ".(3/36)
وقوله: إنا لنراه جفاءً بالرجل فقال ابن عباس: بل(1) هى السنة، كذا رويناه في "الأم"، الرجل بفتح الراء وضم الجيم، وكذا قيدناه عن شيوخنا، وقيدناه(2) في كتاب أبي داود على الفقيه أبي الوليد هشام بن أحمد عن الغساني شيخنا عن أبي عمر بن عبد البر: بالرجل، بكسر الراء وسكون الجيم، يريد الجارحة وكذا ألفيته أيضًا في أصل أبي عمر بن عبد البر، وبه عارضت، وقال أبو علي: كذا كان(3) يقول أبو عمر فيه، ويقول: من قال بالرجل فقد صحفه(4)، ولا معنى له ولا له حجة(5)، قال أبو علي: ولم أسمعه أنا قط إلا: بالرجل، وكذا قيده أبو علي في أصله، وبه عارضت أيضًا.
قال القاضي: والأوجه عندي هو قول من يروى(6) بالرجل، كما قال أبو علي، ويدل عليه إضافة الجفاء إليه في جلستة تلك المكروهة عند العلماء، وأما الرجل فلا وجه له.
وقوله في خبر معاوية بن الحكم:" فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم" يعني ليسكتوه، يحتمل أنه كان قبل نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التصفيق في الصلاة والأمر بالتسبيح، وقد يحتمل أن هذا تفسير التصفيق في حديث أبي بكر على ما أشار إليه بعضهم مما ذكرناه قبل.
وقوله: " فبأبى هو وأمي ما رأيت قبله ولا بعده معلمًا(7) أحسن تعليمًا منه"، فيه سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التعليم من الرفق بالجاهل، وترك الغضب عليه إذا لم يقصد مخالفة.
وقوله:" فوالله ما كهرني "، قال الإمام: قال أبو عبيد: الكهر: الانتهار، وفي قراءة عبد الله:( فأما اليتيم فلا تكهر ).
قال القاضي: وقيل: الكهر: العبوس في وجه من يلقاه.
__________
(1) قوله:" بل " ليس في (ح).
(2) قوله:" وقيدناه " ليس في (ح).
(3) قوله:" كان " ليس في (ح).
(4) في (ح) و(ط):" صحف ".
(5) قوله:" ولا له حجة " ليس في (ح).
(6) في (ط):" روى ".
(7) قوله:" معلمًا " ليس في (ح).(3/37)
وقوله:« إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس »، فيه منع الكلام في الصلاة، وإنكار تشميت العاطس فيها ؛ إذ هو الذي فعله معاوية فأنكره عليه الصحابة وأفتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - في النازلة بهذا الكلام، ثم حصر ذكر الصلاة فقال:« إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ».
قال الإمام: إن قيل: ما وجه إنكارهم عليه وقوله: " يرحمك الله " دعاء، والدعاء للغير جائز في الصلاة، قيل: يحتمل أن يكون إنكارهم عليه ؛ لأنه قصد مخاطبة الغير بذلك فكان كالمتكلم(1)، وقد قال ابن شعبان وابن نصر الداودي من أصحابنا: إذا قال في صلاته:" اللهم افعل بفلان(2)" جاز، وإن قال: يافلان، فعل الله بك كان الكلام، وهذا نحو مما ذكرناه من أنه بالقصد يخرج إلى الكلام، وقد اختلف عندنا على قولين في المصلي إذا تعايا من ليس معه في صلاته في قراءته فرد عليه المصلي، هل تفسد صلاته ؟ فجعله في أحد القولين بردّه عليه كالمتكلم، وإن كان إنما قرأ قرآنا، قال: ولم يذكر في الحديث أمره بإعادة الصلاة لما وقع منه ذلك على جهة الجهل، وهذا حجة على المخالف في قوله: إن المتكلم ناسيًا في الصلاة تفسد صلاته ؛ لأنه إذا لم يفسدها بالجهل فأحرى ألا يفسدها(3) بالنسيان(4).
__________
(1) في (ط):" كالمتعلم ".
(2) في (ح):" بك يا فلان ".
(3) في (ط):" يفسد ".
(4) في (ط):" في النسيان ".(3/38)
قال القاضي: الجهل في هذا كالعمد عند مالك، إلا ما حكاه الخطابي عن مالك: أنه يبني في الجهل كالنسيان هنا، وهذا مذهب الشافعي والأوزاعي والشعبى، وليس تركه لذكر الإعادة دليلاً على أنه لم يأمره بها، ولا أن الصلاة أجزأته، ولا أنه لم يعدها، وبإفساد الصلاة بالكلام على أي وجه كان من سهو أو عمد(1) أو جهل، قال الكوفيون: وقد اختلف الناس في تحميد العاطس في الصلاة، فقيل: يحمد الله ويجهر به، وروى مثله عن ابن عمر والنخعي وأحمد، ومذهب مالك والشافعي أن يحمد ولكن يستحب له أن يكون في نفسه.
وقوله: إن منَّا رجالاً يأتون الكهان قال:« فلا تأتهم(2)»، قال الإمام: نهيه عن ذلك ؛ لأنه يجرهم إلى تغيير الشرائع بما يلبسون عليهم، والكاهن يخبر عن غيب من طريق غير موثوق به. ومعنى قوله - لما قال: ومنّا رجال يتطيرون -:" ذلك شيء يجدونه في صدورهم "، أي: يجدون ذلك ضرورة فلا ملام عليهم، ولكن إنما يكون اللوم على توقفكم عن(3) إمضاء حوائجكم لأجل ذلك وهو المكتسب فنهاهم أن يصدهم ذلك عما أرادوا فعله.
وقوله حين قال: ومنّا رجال يخطّون:" كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه خطه(4) فذاك "، أي: أصاب، وقال ابن عباس في تفسير هذا الحديث(5): هو الخط الذي يخطه الحازي، وهو علم قد تركه الناس. قال: يأتى صاحب الحاجة إلى الحازي فيعطيه حلوانًا، فيقول: اقعد حتى أخط لك وبين يدي الحازي غلام معه ميل، ثم يأتى إلى أرض رخوة فيخط(6) الأستاذ خطوطًا معجلة لئلا يلحقها العدد، ثم يرجع فيمحو على مهل خطين خطين، فإن بقى خطان فهو علامة النجح، وإن بقى خط فهو علامة الخيبة، والعرب تسميه: الأسحم وهو مشؤوم عندهم.
__________
(1) في (ح):" عقلة ".
(2) في (ح):" تأتوهم ".
(3) في (ط):" على ".
(4) قوله:" خطه " الثانية ليس في (أ).
(5) في (ح):" الخط ".
(6) في (ح):" فيخط فيها ".(3/39)
قال القاضي: وجدت في "المعلم" في هذا الموضع اختلالاً أصلحته من الأصول التي كان النقل فيه منها لا شك من الخطابي والهروي وحكى مكي في تفسيره أنه روى أن هذا النبي كان يخط بأصبعيه السبابة والوسطى في الرمل، ثم يزجر قال: قال الخطابي(1): وقوله:« فمن وافق خطه فذاك »، يحتمل الزجر عن هذا إذ كان ذلك علمًا لنبوته، وقد انقطعت فنهبنا عن التعاطي لذلك.
قال القاضي: الأظهر من اللفظ خلاف هذا، وتصويب خط من وافق خطه خلفه، فذلك الذي(2) يجدون إصابته، لا أنه يريد إباحة ذلك لفاعله على ما تأوله بعضهم، وعليه يدل ظاهر قول ابن عباس، ويحتمل أن هذا نسخ في شرعنا،[ ألا تراه كيف قال ويوجز: وهذا الباب منهي عنه في شرعنا](3).
وقوله:" قبل أحد والجوانية "، بفتح الجيم وشدّ(4) الواو وتخفيف الياء ضبطنا هذا(5) الحرف عن الأسدي، وعن الخشنى بتشديدها، وكذا ذكرها أبو عبيد البكري، قال: كأنها نسبت إلى جوان، والجوانية أرض من عمل الفرع من جهة المدينة.
وقوله:" آسف كما يأسفون "، أي: أغضب كما يغضبون. قال الله تعالى:{ فلمّا آسفونا انتقمنا }، وقال:{ غضبان آسفًا }، وصككتها: لطمتها.
__________
(1) قوله:" قال الخطابي " ليس في (ح).
(2) في (ح):" الذين ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(4) في (ح):" تشديد ".
(5) قوله:" هذا " ليس في (أ) و(ط).(3/40)
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للجارية:« أين الله ؟»، قال الإمام: قيل: إنما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطلب دليلاً على أنها موحدة، فخاطبها بما تفهم قصده، إذ علامة الموحدين التوجه إلى الله(1) إلى السماء عند الدعاء وطلب الحوائج ؛ لأن العرب التي تعبد الأصنام، تطلب حوائجها من الأصنام، والعجم من النيران، فأراد - عليه السلام - الكشف عن معتقدها هل هى ممن(2) آمن ؟ فأشارت إلى السماء، وهى الجهة المقصودة عند الموحدين كما ذكرنا.
وقيل: إنما السؤال بائن هاهنا سؤال عما تعتقده من جلالة الباري سبحانه وعظمته. وإشاراتها إلى السماء إخبار عن جلالته تعالى في نفسها، والسماء قبلة الداعين، كما أن الكعبة قبلة المصلين، فكما لم يدل استقبال القبلة(3) على أن الله تعالى فيها، كذلك لم يدل التوجه إلى السماء والإشارة إلى السماء(4) على أن الله سبحانه فيها.
قال القاضي: لا خلاف بين المسلمين قاطبة - محدثهم وفقيههم ومتكلمهم ومقلدهم ونظارهم(5)- أن الظواهر الواردة بذكر الله في السماء كقوله(6):{ أم أمنتم من في السماء }، أنها ليست على ظاهرها، وأنها متأولة عند جميعهم، أما من قال منهم بإثبات جهة فوق له تعالى من غير تحديد ولا تكييف من دهماء المحدثين والفقهاء، وبعض المتكلمين(7) منهم(8)، فتأول في السماء بمعنى على، وأما دهماء النظار والمتكلمين، وأصحاب الإثبات والتنزيه المحيلين، أن يختص بجهة أو يحيط به حد، فلهم فيها تأويلات بحسب مقتضاها، منها ما تقدم ذكره في(9) كلام الإمام أبي عبد الله.
__________
(1) لفظ الجلالة ليس في (ح) و(ط).
(2) في (ح) و(ط):" من جملة من ".
(3) في (ح):" الكعبة ".
(4) قوله:" إلى السماء " ليس في (ط).
(5) في (ح):" ناظروهم ".
(6) في (ح) و(ط):" بقوله ".
(7) في (ط) إشارة لحق والذي ظهر في الحاشية:" من الأشعرية والمثبتة وهو قول كافة ".
(8) في (ح):" فيهم ".
(9) في (ح):" من ".(3/41)
والمسألة بالجملة - وإن تساهل في الكلام فيها بعض الأشياخ المقتدى بهم من الطائفتين(1)- فهى من معوِّصات مسائل التوحيد، وياليت شعري ما الذي جمع آراء كافة أهل السنة والحق على تصويب القول بوجوب الوقوف عن(2) التفكر في الذات كما أمروا، وسكتوا لحيرة العقل هناك وسلموا، وأطبقوا على تحريم التكييف والتخييل والتشكيل، وأن ذلك من وقوفهم وحيرتهم - غير شك في الوجود أو جهل بالموجود، وغير قادح في التوحيد، بل هو حقيقة عندهم ثم تسامح بعضهم في فصل منه بالكلام في إثبات جهة تخصه أو يشار إليه بحيِّز يحاذيه، وهل بين التكييف من فرق أو بين التحديد في الذات والجهات بونٌ ؟!
لكن إطلاق ما أطلقه الشرع من أنه:{ القاهر فوق عباده }، وأنه استوى على عرشه(3) مع التمسك بالآية الجامعة للتنزيه الكلي الذي لا يصح في معقول سواه من قوله:{ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير(4)}، عصمة لمن وفقه الله وهداه.
وقوله:« أعتقها فإنها مؤمنة »، فيه مع سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - وبحثه عن حالها دليل على أن عتق المؤمن أفضل وأولى من عتق الكافر، ولا خلاف في جواز عتق الكافر في التطوع، وأنه لا يجزئ في كفارة القتل لنص الله تعالى فيها على:{ مؤمنة }.
واختلف في كفارة اليمين والظهار وتعمد الفطر في رمضان، فمالك والشافعي وعامتهم لا يجزئ في ذلك عندهم إلا مؤمنة لتقييد الله تعالى ذلك بالأيمان: في كفارة القتل، فحُمل(5) المطلق على المقيد، ولأنه في رواية مالك في هذا الحديث:" وعلي رقبة "، فقال:« أعتقها فإنها مؤمنة »، فدلّ أن غير المؤمنة لا تجزئ، وذهب الكوفيون إلى أن الإيمان لا يشترط إلا في القتل حيث نصّ عليه.
__________
(1) في (ط):" الطائفتين أو جمهورهم ".
(2) في (ط):" على ".
(3) في (ط):" العرش ".
(4) في (ح):" العليم ".
(5) في (ح):" فحملو ا".(3/42)
وفي هذا الحديث دليل على أن الإيمان لا يتم إلا بالإيمان بالنبى - صلى الله عليه وسلم - ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -:« من أنا ؟»، قالت: رسول الله، وأنه لم يرها مؤمنة حتى أقرت عنده بالوحدانية والرسالة. وفيه دليل على(1) الاكتفاء في ذلك عند بعضهم بصريح(2) الشهادتين وصحة العقيدة، وإن لم يكن عن برهان ونظر واستدلال؟ إذ لم يسألها النبي - صلى الله عليه وسلم -: من أين علمت ذلك ؟ وقيل: إنما كان هذا لأنها كانت متقدمة الإسلام، ولذلك اكتفى بما دل من إشارتها، ولو كان في ابتداء إسلامها لم تنتقل عن حال الكفر إلى الإيمان إلا بالجلاء والتصريح والنطق بالشهادتين والبيان التام. وفيه حجة لأحد القولين عندنا في منع عتق الأعجمي عن الواجبات حتى يجيب(3) إلى الإسلام.
وقول ابن مسعود:" كنا نسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة فيرد(4) علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا(5) فلم يرد علينا، فقلنا: يارسول الله، كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا، فقال:« إن في الصلاة شغلا ».
قال الإمام: من الناس من قال: يرد المصلي السلام نطقًا، وإن كان في الصلاة، ومنهم من قال: لا يرد ما دام في الصلاة لا نطقًا ولا إشارة، وقيل: يرد بالإشارة، فأما القائل يرد نطقًا فيحتمل أن يكون لم يعلم أن ذلك نسخ، ويحتج أيضًا أن ذلك نوعٌ مما يباح في الصلاة، ووجه القول أنه لا يرد نطقًا ولا إشارة الحديث المتقدم، ووجه القول بأنه يرد إشارة ما جاء في أحاديث أخر أيضًا من أنه كان يرد إشارة.
__________
(1) في (ح):" على ان ".
(2) في (ط):" بتصريح ".
(3) في (ط):" يحبب ".
(4) قوله:" فيرد " ليس في (ح).
(5) في (ح):" فيسلم عليه ".(3/43)
قال القاضي: ثم اختلف من لم ير ردّه، هل يرد إذا سلم أم لا ؟ بالرد بعد السلام من الصلاة، قال الثوري وعطاء والنخعي ويترك الرد قولاً وإشارة بكل حال قال أبو حنيفة، وبالردّ إشارة قال مالك وأصحابه، وهو مذهب ابن عمر وجماعة من العلماء، وبالرد نطقًا(1) قال أبو هريرة وجابر والحسن وسعيد بن المسيب وقتادة وإسحاق، وقيل: يرد في نفسه، هذا حكمه هو في الردّ، وأما ابتداء السلام عليه فاختلف فيه العلماء، وعن مالك فيه الجواز، ورويت عنه الكراهة.
قال الإمام: وقال(2) مسلم في هذا الباب: ثنا ابن نمير، ثنا إسحاق بن منصور السلولي، روى في بعض النسخ: ثنا ابن مثنى مكان ابن نمير، وفي بعضها ابن كثير بدل ذلك، قال بعضهم: والأبدالان خطأ، والحديث إنما يرويه محمد بن عبد الله بن نمير عن إسحاق، وكذلك أخرجه البخاري في الجامع.
وقوله:" كنا نتكلم في الصلاة " وقوله:" حتى نزلت(3):{ وقوموا لله قانتين }"، قال القاضي: القنوت في كتاب الله تعالى وحديث نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ولسان العرب لفظة منصرفة تكون بمعنى الطاعة، وبمعنى السكوت، وقيل: هذان في الآية، والحديث يشهد للسكوت، وقيل: القنوت: طول القيام، وقيل ذلك في قوله:{ أمّن هو قانت آناء الليل }. وفي الحديث: «أفضل الصلاة طول القنوت »، وقيل: الخشوع، وقيل: الدعاء، وقيل: الإقرار بالعبودية، وقيل: الإخلاص، وقيل: أصله الدوام على الشيء، وإذا كان هذا أصله فمديم الطاعة قانت، وكذلك الداعي والقائم في الصلاة والمخلص فيها والساكت فيها كلهم فاعلون للقنوت، وفي الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت شهرًا يدعو على قبائل من العرب، أي: أدام الدعاء عليهم(4)، والقيام له.
__________
(1) في (ط):" لفظا ".
(2) في (ح):" قال " بدون واو.
(3) في (ح):" نزل ".
(4) قوله:" عليهم " ليس في (ط).(3/44)
وقوله: " ونهينا عن الكلام " دليل على منعه في الصلاة، وتركه فيها، فرض عندنا على أصح القولين ؟ لهذا النهي، وقيل: سنة،والاختلاف في ذلك مبنى على الاختلاف في أوامره - عليه السلام - المجردة، هل تحمل على الفرض أو على الندب ؟ وقول أكثر أئمتنا أنها محمولة على الوجوب، وأجمع أهل العلم على أن الكلام فيها عامدا لغير إصلاحها أو لاستنقاذ هالك وشبهه أنه مفسد لها، واختلفوا في فعله ذلك لما ذكرناه، فجمهورهم على منعه وإفساد صلاته، وذهب الأوزاعي في طائفة إلى جواز ذلك له، وعندنا في المذهب في الكلام لإصلاحها وجهان، وحجة الجواز حديث ذي اليدين، وسيأتى الكلام عليه، وأما الكلام فيها ناسيًا فغير مفسد لها عند جمهورهم ما لم يكثر جدًّا، وذهب الكوفيون إلى إفساد(1) الصلاة به.
وقول جابر في ردّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إشارة في الصلاة وقوله:" إنك سلمت وأنا أصلي " حجة لجواز الإشارة في الصلاة ومنع الكلام.
وقوله:" فأومأ بيده " حجة لجواز الإشارة في الحاجة والعمل الخفيف في الصلاة، ويأتى الكلام على الصلاة على الراحلة بعد هذا.
__________
(1) في (ح):" فساد ".(3/45)
وقوله:« إن عفريتًا من الجن(1) جعل يفتك على البارحة ليقطع علي الصلاة»، كذا الرواية فيه في جميع النسخ، وكذا سمعناه من أشياخنا في "كتاب مسلم"، وذكره البخاري:« تفلت على البارحة » وكأن بعضهم أشار إلى ترجيح هذه الرواية، وهما عندي صحيحان(2) وما في الكتاب هنا بيّن، وأصل الفتك مجيء الإنسان إلى آخر على غرة وغفلة فيقتله، ومنه قوله - عليه السلام -: « قيد الإيمان الفتك »، وهذه صفة مجيء الشيطان للنبي - عليه السلام -، وقد قال في الرواية الأخرى في "الأم":« جاء إبليس بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت: أعوذ بالله منك »، وهو من معنى التفلت أيضًا، أي: جاءني على غفلة وتعرض لي فجاءة، ومنه قيل لمن(3) مات فجاة: افتلتت(4) نفسه، ومنه افتلت الكلام إذا ارتجله، والفلتة الأمر يؤتى عجلة وعلى غير رويّة، والفلتة آخر ليلة من رجب، كانت فتاك العرب تفتك فيها وتحله وتقول: هو من شعبان والشهر قبله ناقص، تخادع بذلك الناس، وكله بمعنى ما قدمناه، والعفريت: المارد من الجن.
__________
(1) قوله:" من الجن " ليس في (أ) و(ط).
(2) في (ح):" صحيحان ".
(3) قوله:" لمن " ليس في (ح) و(ط).
(4) في (أ):" افتلت ".(3/46)
وقوله:" فذعته ": بالذال المعجمة، أي: خنقته، قاله الهروي والخطابي في رواية ابن أبي شيبة بالدال المهملة، وهما بمعنى، قال ابن دريد: ذعته يذعته ذعتا: غمزه غمزًا شديدًا، والدّعت مهمل: الدفع الشديد، ويقال بالذال المعجمة أيضًا، وأنكر الخطابي رواية من روى الحرف بالمهملة، وأنه لا يصح [ أن يكون من الدفع ؛ لأن أصله يكون على هذا دفعته ؛ ولأنه لا يصح ](1) إدغام العين في التاء ؛ لأن الحرف إنما يدغم في مثله، قال الهروي: ويقال: الذعت - يريد بالمعجمة -: التمريغ في التراب والذعط، بالطاء: الذبح، وقد رأيت بعض الشارحين(2) على جلالته خلط في تفسير هذا الحرف تخليطًا تركه أولى من ذكره، وإذ بنفس الوقوف عليه يبين قبح الغلط فيه.
وفي خنق النبي - صلى الله عليه وسلم - له في الصلاة دليل على جواز العمل الخفيف فيها لا سيما لإصلاحها(3)، وهو مثل مدافعة من يقطع عليه الصلاة. وأما قوله:« لقد هممت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد »، فمن هذا الباب. ويحتمل أن يكون ربطه له بعد تمامه من الصلاة.
وقوله:« ألعنك بلعنة الله التامة »، يحتمل قوله:" تامة " وجهين: أحدهما: أي(4) لا نقص فيها(5)، أو الواجبة له المستحقة عليه كما قال: {وتمت كلمت ربك صدقًا وعدلاً }، أي: حقت ووجبت، أو الموجبة عليه العذاب السرمد.
وقوله:« ولولا دعوة أخى سليمان لأصبح موثقًا يلعب به ولدان أهل(6) المدينة.
قال الإمام: الجن أجسام روحانية، فيحتمل هذا(7) أنه تشكل(8) على صورة يمكن ذلك(9) فيها على العادة، ثم يمنع من أن يعود إلى ما كان عليه حتى يتأتى اللعب به، وإن خرقت العادة أمكن غير ذلك.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(2) في (ح):" المتأخرين ".
(3) في (أ) و(ح):" لصلاحها ".
(4) قوله:" أي " ليس في (ح).
(5) في (ح):" فيه ".
(6) قوله:" أهل " ليس في (أ) و(ط).
(7) في (ح):" على هذا ".
(8) في (ط):" يتشكل ".
(9) في (ط):" ذاك ".(3/47)
قال القاضي: وأما قوله:« ولولا دعوة أخي(1) سليمان »، وقوله:« ثم تذكرت قول أخي سليمان »، يفهم منه أن مثل هذا مما خص به سليمان دون غيره من الأنبياء، واستجيبت دعوته في ذلك ؛ فلذلك امتنع نبينا - عليه السلام - من أخذه، إما إنه لم يقدر عليه لذلك، أو لما تذكر ذلك لم يتعاط ذلك لظنه أنه لا يقدر عليه، أو تواضعًا وتأدبًا وتسليمًا لرغبة سليمان. وفيه رؤية بني آدم الجن، وقد جاءت بذلك عن السلف والصالحين أخبار كثيرة، ومجمل قوله: {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم } على الأغلب والأعم، ولو كانت رؤيتهم محالاً لما أخبر النبي - عليه السلام - بما أخبر وأراده حتى تذكر خبر سليمان، وقيل: هذا الحديث دليل على رؤية أصحاب سليمان لهم، وليس ببين عندي، إنما دليله(2) قدرة سليمان عليهم وتسخيرهم له، كما نص الله تعالى عليه، وقد قيل: إن رؤيتهم على خلقهم وصورهم ممتنعة ؛ لظاهر الآية، إلا الأنبياء ومن خرقت له العادة، وإنما يراهم بنو آدم في صور غير صور كما جاء في الآثار من ذلك.
وقوله للشيطان في الصلاة:« ألعنك بلعنة الله وأعوذ بالله منك » وهو في الصلاة دليل على جواز الدعاء لغيره بصيغة المخاطبة كما كانت الاستعاذة هنا في صيغة المخاطبة، خلافًا لما ذهب إليه ابن شعبان من إفساد الصلاة بذلك، وهذا مثل قوله في التشهد: "السلام عليك، أيها النبي ورحمة الله وبركاته ".
وذكر(3) حمل النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمامة بنت زينب، وهو يؤم الناس، الحديث، قال الإمام: حمل ذلك أصحابنا على أنه في النافلة، وظاهره أنه كان في الفريضة فإن إمامته بالناس في النافلة ليست معلومة.
__________
(1) قوله:" أخي " ليس في (ح).
(2) في (ح):" دليله على ".
(3) في (ح):" قوله ".(3/48)
قال القاضي: اختلفت الرواية عن مالك في تأويله فروى عنه ابن القاسم ما ذكره من أنه في النافلة، وروى عنه أشهب وابن نافع أن هذا للضرورة وإذا لم يجد من يكفيه، وأما لحب الولد فلا. فظاهر هذا إجازته في الفريضة والنافلة لهذه العلة، وروى عنه التنيسى أن الحديث منسوخ، وظاهر(1) الحديث يدل أنه في الفريضة بقوله(2):" بينا نحن ننتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظهر أو العصر حتى(3) خرج علينا حاملٌ أمامة على عنقه، وذكر الحديث. وقد يقال على هذا: إن صلاته بها كان في تنفله قبل صلاته الفريضة بهم، لكن المعلوم منه - عليه السلام - أنه كان يخرج عند إقامة الصلاة ولا يتنفل قبلها في المسجد، وإنما كان تنفله في بيته. وروى(4) الزبير بن بكار في كتاب النسب عن عمرو بن سليم الزرقي أن ذلك: كان في صلاة الصبح، وقد قيل: هذا خصوص للنبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ لا يؤمن من الطفل البول وغير ذلك على حامله، فقد يعصم النبي - صلى الله عليه وسلم - منه ويعلم بسلامته من ذلك مدة حبسه، وقد قال أبو عمر: لعل هذا النسخ بتحريم العمل والاشتغال في الصلاة بغيرها، وهو نحو مما روى عن مالك، وقال أبو سليمان الخطابي: يشبه أن هذا كان منه - عليه السلام - عن(5) غير قصد وتعمد للصلاة، لكن الصبية لتعلقها به وطول إلفها له لملابسته في غير الصلاة تعلقت به في الصلاة، فلم يدفعها عن نفسه ولا أبعدها، فإذا أراد أن يسجد وهي على عاتقه وضعها حتى يكمل سجوده، ثم تعود الصبية إلى حالها من التعلق به فلا يدفعها، فإذا قام بقيت معه محمولة، قال: ولا يكاد يتوهم عليه حملها متعمدا. ووضعها وإمساكها مرة بعد أخرى ؛ لأنه عمل يكثر، وإذا كان علم الخميصة يشغله حتى استبدل به، فكيف لا يشغله هذا ؟! وقد يحتج لتأويل هذا بما ورد
__________
(1) في (ح):" وظاهر هذا ".
(2) في (ط):" لقوله ".
(3) قوله:" حتى " ليس في (أ) و(ط).
(4) في (ط):" وقد روى ".
(5) في (ح):" على ".(3/49)
من ركوب الحسن والحسين عليه - صلى الله عليه وسلم - في سجوده، والحديث مشهور، لكن يبعده قوله في الحديث: خرج علينا حاملاً أمامة على عنقه فصلى. وقال الباجي: إن كان حمل الطفل في الصلاة على معنى الكفاية لأمه لشغلها بغير ذلك لا يصح إلا في النافلة لطول أمر النافلة، وإن كان لما يخشى منه على الطفل، وأنه لا يجد من يمسكه، فيجوز في الفريضة، ويكون حبس الطفل على هذا على العاتق أومعلقًا في ثوب لا يشغل المصلي، وإلا فحمله على غير هذا الوجه من الشغل الكثير المتصل في الصلاة الذي يمنع صحتها، قال غيره: وقد يكون حمله لها ؛ لأنه لو(1) تركها بكت وشغلت سره في صلاته أكثر من شغله بحملها. قيل:
وفيه من الفقه: أن ثياب الأطفال وأجسادهم طاهرة ما لم تعلم نجاسته(2) وأن لمس صغار الصبايا غير مؤثر في الطهارة، وأن حكم من لا يشتهي منهن في هذا الباب كله بخلاف حكم غيرهن، وقال بعضهم: فيه دليل على أن لمس ذوي المحارم لا ينقض الطهارة، وليس هذا بشىء ؛ لأن من في هذا السن من غير ذوى المحارم لا اعتبار للمسه.
وفيه تواضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشفقتة على آله ورحمة الولدان الصغار(3)، وجواز خفيف العمل وحمل ما لا يشغل في الصلاة.
__________
(1) في (ط):" إن ".
(2) في (ح):" تعلق بهم نجاسة " بدل:" تعلم نجاسته.
(3) في (ط):" الولد والصغار ".(3/50)
ذكر مسلم في هذا الحديث من رواية مالك أمامة بنت زينب، ولأبي العاص بن ربيعة كذا للسمرقندي ولغيره: ابن ربيع،[ أكثر رواة "الموطأ" يقولون: ربيعة، ورواه بعضهم: ربيع ](1)، وهو قول غير مالك وقول أهل النسب، وقال الأصيلي: هو(2) ابن الربيع بن ربيعة، نسبه مالك إلى جده، وهذا الذي قاله غير معلوم، ونسبه عند أهل النسب والخبر بغير خلاف(3): أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، واسم أبي العاص: لقيط، وقيل: مهشم.
قال الإمام: وذكر مسلم الحديث:" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على المنبر ونزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من آخر الصلاة "، قال: وأهل العلم ينهون أن يصلي الإمام على أرفع مما عليه أصحابه، وفعله هذا - صلى الله عليه وسلم - يحتمل أن يكون ؛ لأن الارتفاع كان يسيرًا، ويصلح أن يقال: إنما منع هذا في أئمتنا ؛ لأنه ضرب من الكبر والتراؤس، وهو - صلى الله عليه وسلم - معصوم من هذا والأشبه ما علل به - عليه السلام - في الحديث، من أنه إنما فعله ليعلمهم الصلاة، ونزوله - عليه السلام - القهقرى لئلا يستدبر القبلة في الصلاة من غير ضرورة، وأما نزوله وصعوده - وإن كان عملاً في الصلاة - فإنه(4) لمصلحة الصلاة(5)، فلم يكن له تأثير، وقد أجاز أهل العلم المشي لغسل دم الرعاف وإن كان في الصلاة.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(2) في (أ):" وهو ".
(3) قوله بغير خلاف ليس في (ح).
(4) في (أ):" فاته ".
(5) قوله:" الصلاة " ليس في (أ).(3/51)
قال القاضي: قال أحمد بن حنبل: لا بأس أن يكون الإمام أعلا مما عليه أصحابه لهذا الحديث، ومالك يمنعه، وما(1) تقدم من هذا وما يجوز منه وما يمنع. وفي هذا الحديث اتخاذ المنبر وسنته للخطبة، وسنذكر ذلك في موضعه من صلاة الجمعة، وفي صلاته - عليه السلام - بهم، تمام تعليمه بالفعل والعمل - عليه السلام - إذ كان لا يرى ذلك من عمله إلا من اكتنفه في الصلاة قبل، فلما صعد المنبر لم يخف على أحد ممن خلفه شيء من هيآته وآدابه في الصلاة.
ونهيه - عليه السلام - أن يصلي الرجل مختصرًا، قال الإمام: قال الهروي: قيل: هو أن يأخذ بيده عصا يتوكأ عليها، وقيل: هو أن يقرأ من آخر السورة آية أو آيتين ولا يقرؤها في فرضه بكمالها، كذا رواه ابن سيرين عن أبي هريرة، ورواه غيره: "متخصرًا، ومعناه: أن يصلى ويضع يده على خصره(2)، ومنه الحديث:" الاختصار راحة أهل النار "، ونهى عن اختصار السجدة، ويفسر على وجهين: أحدهما: أن يختصر الآيات التي فيها السجدة فيسجد فيها، والثاني: أن يقرأ سورة فإذا انتهى إلى السجدة جاوزها ولم يسجد لها، ومنه أخذ مختصرات الطرق.
__________
(1) في (ح) و(ط):" وقد ".
(2) في (ح):" خاصرته ".(3/52)
قال القاضي - رحمه الله - وقيل: كره الاختصار في الصلاة ؛ لأنه فعل اليهود، وقيل:إن هذا هو معنى ما جاء في الحديث " أنها راحة أهل النار " يعني: راحة اليهود، وهم أهل النار، وإلا فليس لأهل النار راحة، وقيل: لأن الشيطان يحضر(1) ذلك، وقيل: لأن إبليس هبط كذلك، وقيل: بل هو فعل أهل الكبر والصلاة موضع تذلل وخضوع، وفي "البخاري" أيضًا نهى عن الخصر في الصلاة وهو مثله، وقيل: الاختصار في الصلاة المنهي عنه حذفها، وألا يتم ركوعها وسجودها، وحدودها. وذكر في الحديث الآخر: « المختصرون يوم القيامة على وجوههم النور »، قال: هم الذين يصلون بالليل ويضعون أيديهم على خواصرهم من التعب، وقيل: يأتون يوم القيامة معهم أعمال يتكئون عليها، مأخوذ من المخصرة.
وذكر المسح " في المسجد "، وفي الحديث الآخر: " في الصلاة "، وهو معناه، يعني مسح الحصى، فقال:« إن كنت لابد فاعلاً فواحدة »، مسحه: تسويته كما جاء في الحديث الآخر مفسرًا ؛ وذلك لئلا يتأذى به، وقيل: بل مسحه ومسح الغبار عنه لئلا يتعلق منه شيء بوجهه، وهذا كله ينافي معنى الصلاة والتواضع فيها وترك الشغل بغيرها، فأبيح من ذلك المرة الواحدة ليدفع مضرة ذلك عن وجهه، وقد جاء:" تركها خير من حمر النعم" لكثرة الأجر في تَتْريب الوجه، والتواضع لله، والإقبال على صلاته بجميعه، وكذلك جاء النهي عن النفخ في سجوده للتراب لذلك وكرهه السلف، وكرهوا مسح الجبهة في الصلاة وقبل الانصراف مما يتعلق بها من الأرض، وحكى أبو سليمان عن مالك جواز مسح الحصا مرة وثانية في الصلاة، والمعروف عنه ما عليه الجمهور.
__________
(1) في (ح):" يختصر ".(3/53)
قال الإمام: قوله:« إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه »: هذا مما(1) يتأول على ما ذكرنا في حديث السوداء، وكأن(2) تلك الجهة علامة على أن قاصدها موحد، وأنها علم على التوحيد، ولها حرمة ؛ لكون المصلى متقربًا بتوجهه إليها إلى الله سبحانه، فيجري ما وقع في الحديث إشارة إلى هذا المعنى، ففى بعضها:"نخامة"، وفي بعضها:" بصاقًا "، وفي بعضها:" مخاطًا"، واختلاف هذه التسمية باختلاف مخارج هذه الأشياء، فالمخاط من الأنف، والبصاق من الفم، والنخامة من الصدر، يقال: تنخم الرجل، وكذلك(3) تنخع، وهي النخامة والنخاعة.
قال القاضي: وقد يكون معنى قوله:« فإن الله قبل وجهه » على حذف المضاف، أي(4): أن(5) قبلة الله المكرمة قبل وجهه(6) وبيته الحرام، أو ما عظم الله قبل وجهه، أوثوابه وفضله، وإذا كان ذلك فلا يقابل بضدها مما جرت العادة ألا يفعل إلا بما يهان ويستحقر ؛ ولهذا قال:« أيحب أحدكم أن يستقبل فيتنخع في وجهه »، قيل: ويحتمل أن يريد(7): أن عظمة الله وجلاله قبل وجهه، أي: ذلك الذي يجب للمصلي أن يشعره نفسه حتى لا يشغلها بغيره، ويجعل ذلك نصب عينيه وتلقاء فكره، فلا يبصق لجهة ذلك.
__________
(1) قوله:" مما " ليس في (أ) و(ط).
(2) في حاشية (ح):" كانت".
(3) في (أ):" وكذا ".
(4) قوله:" أي " ليس في (ط).
(5) قوله:" أن " ليس في (ح).
(6) في (ح):" أو وجهه ".
(7) قوله:" يريد " ليس في (ح)، وفي (ط):" يريد بذلك ".(3/54)
ونهيه عن(1) أن يبصق عن يمينه، وقوله:« ولكن ليبصق عن يساره أو تحت قدمه » تنزيه(2) أيضًا لجهة اليمين عن الأقذار كما نزهت تصريف الميامن فيها، أو تنزيه(1) للملائكة وثوابهم، فقد ذكر البخاري في هذا الحديث زيادة: " فإن عن يمينه ملكًا "، وهذا مع إمكان البصاق لغير اليمين من(3) على اليسار وتحت القدم كما جاء في الحديث، فأما مع تعذر هذه الجهات لكون من يصلي على يساره ؛ فله أن يبصق عن يمينه ويدفنه، لكن الأولى تنزيه اليمين عن ذلك ما قدر، لما ذكرناه. وجاء في بعض الطرق:" ولكن عن شماله تحت قدمه "، وهذا في غير الْمُحَصَّب، فيدلكه بقدمه أو بنعله كما جاء في الحديث، وخص اليسرى لما قدمناه من تنزيه اليمنى عن إزالة الأقذار وتناولها، قال بعضهم: فيه دليل أن المصلي لا يكون عن يساره ملك ؛ لأنه لا يجد ما يكتب لكونه في طاعة ؛ لأنه علل منع البصاق على(4) اليمين لكون الملك هناك وأباحه على(1) اليسار.
وقوله: " فإن لم يجد فليفعل هكذا "، وتفل في ثوبه ومسح بعضه على بعض " دليل على طهارة البصاق، ولا خلاف فيه إلا شيئًا روي عن سليمان(5) والنخعي. والناس كلهم على خلافه، وصحيح الآثار يشهد بضده، وفيه دليل على جواز البصاق(6) في الصلاة لمن احتاج إليه، والنفخ اليسير لمن لم يصنعه عبثًا، إذ لا يسلم منه البصاق، وكذلك يجب أن يكون التنخم والتنحنح لمن اضطر إليهما، وهو أحد قولي مالك أن ذلك كله لا يفسد الصلاة، وبه قال الشافعي، وقال مالك أيضًا ذلك(7) يفسدها وهو قول أبي حنيفة.
وقوله:« يناجى ربه »، عبارة عن إخلاص القلب، وتفريغ السر لذكره وتمجيده، وتلاوة كتابه في صلاته.
__________
(1) قوله:" عن " ليس في (أ).
(2) في (ح) و(ط):" تنزيها ".
(3) قوله:" من " ليس في (ح).
(4) في (ح):" عن ".
(5) في (أ):" سلمان ".
(6) في (ح) و(ط):" البذاق ".
(7) قوله:" ذلك " ليس في (ح).(3/55)
وقوله:« التفل(1) في المسجد خطيئة »، بفتح التاء باثنتين وسكون الفاء هو البزاق، كما جاء بهذا اللفظ في الحديث الآخر. قال الإمام: قال: ابن مكي في تثقيف اللسان: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:« إذا رأى أحدكم ما يكره فليتفل(2) عن يساره ثلاث »، وقوله:« التفل في المسجد خطيئة »، هذا مما يغلط فيه الناس فيجعلونه بالثاء، ويضمون الفعل المستقبل يقولون: ثقل الرجل إذا بصق، والصواب: تفل(3)- بالتاء - يتفل بالكسر في المستقبل لا غير، وأما النفث - بالثاء المثلثة - فهو كالتفل(4) إلا أن التفل(5) نفخ لا بصاق معه، والنفث لا بد أن يكون معه شيء من الريق، هذا قول أبي عبيد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -:« إن روح القدس نفث في رو عى » الحديث.
قال الإمام: قال ابن السكيت في باب فعل وفعل باختلاف المعنى: التفل إذا بصق، والتفل ترك التطيب(6).
قال القاضي: قال الثعالبي: المجُّ: الرمى بالريق، والتفل أقل منه، والنفث أقل منه، وهذا عكس ما قاله(7) ابن مكي.
__________
(1) في (ط):" الثقل ".
(2) في (ط):" فليثفل ".
(3) قوله:" تفل " ليس في (ح).
(4) في (ط):" كالثفل ".
(5) في (ط):" الثفل ".
(6) في (ح):" الطيب ".
(7) في (ح) و(ط):" قال ".(3/56)
وكونه خطيئة إنما هو لمن تفل(1) فيه ولم يدفن ؛ لأنه يقذر المسجد ويتأذى به من تعلق به أو رآه، كما جاء في الحديث الآخر: لئلا تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه. فأما من اضطر إلى ذلك فدفن وفعل ما أمر به فلم يأت خطيئة، فكأن بدفنه لها أزال عنه الخطيئة وكفرها، لو قدرنا بصاقه فيه ولم يدفنه. وأصل التكفير التغطية، فكان دفنها غطى ما(2) يتصور عليه من الذم والإثم لو لم يفعل، وهذا كما سميت تحلة اليمين كفارة، وليست اليمين بمأثم فتكفره، ولكن لما جعلها الله فسحة لعباده في حل(3) ما عقدوه من أيمانهم ورفعًا(4) لحكمها سماها كفارة ؛ ولهذا جاز إخراجها قبل الحنث، وسقوط حكم اليمين بها عندنا وعند جماعة من العلماء على الأصح من القولين، هذا هو تأويل لفظها إلا(5) على قول من أثبتها خطيئة وإن اضطر إليها، لكن يكفرها التغطية.[ وفي الحديث دليل على طهارة البصاق والنخامة ](6).
__________
(1) في (ح) و(ط):" ثفل ".
(2) في (ح):" لما ".
(3) في (ط):" حال ".
(4) في (ح):" رفعها ".
(5) في (ط):" لا ".
(6) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).(3/57)
وقوله:" إنه كان(1) - عليه السلام - يصلي في النعلين(2)"، الصلاة في النعلين والخفين رخصة مباحة، فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه،[ وروي عن أنس:" كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربما صلى في نعليه وربما نزعهما "، قال بعض علمائنا: ويكره للرجل أن ينتعل إذا قام إلى الصلاة ](3)، ما لم يتيقن لابسها نجاستها وإن جوز دوسه(4) في الطرق لها، فإذا تحقق ذلك لم تجز الصلاة فيها إلا بعد طهارتها، فإذا كانت النجاسة مجمعًا عليها كالدم والعذرة والبول من بني آدم، لم يطهرها إلا الغسل بالماء عندنا وعند كافة العلماء، وإن كانت من النجاسة المختلف فيها كبول الدواب وأرواثها، ففى تطهيرها بالدلك بالتراب عندنا قولان: الإجزاء والمنع، وبالإجزاء قال أبو(5) إسحاق، وأطلق الإجزاء بمسح ذلك بالتراب من غير تفصيل الأوزاعي وأبو ثور، وقال أبو حنيفة: يزيل إذا يبس الحك والفرك، ولا يزيل رطبه إلا الغسل، ما عدا البول فلا يجزئ عنده فيه إلا الغسل، وقال الشافعي: لا يطهر شيئًا من ذلك كله إلا الماء. واختلف إذا أصاب الرجل ما اختلف فيه من النجاسة، هل يطهرها الدلك بالأرض كالخف، وهو قول الثوري، أم لا يجزئ إلا غسلها بالماء ؟ وهو قول أبي يوسف، والوجهان عندنا في المذهب، وفي الصلاة في النعلين على الجملة حمل الجلود على الطهارة ما لم يتيقن أنها ميتة أو خنزير، ويختلف العلماء فيهما إذا كانا مدبوغين، وسيأتى ذكر ذلك. وفيه أن الأرض كلها وترابها محمول على الطهارة وكذلك الطرقات، حتى تتبين فيها النجاسة.
__________
(1) قوله:" كان " ليس في (أ) و(ط).
(2) قوله:" في النعلين " ليس في (ط).
(3) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(4) في (ح) و(ط):" دوسها ".
(5) قوله:" أبو " ليس في (أ) و(ط).(3/58)
قال الإمام: قوله:" إذهبوا بهذه الخميصة إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانيته فإنها ألهتني آنفًا في الصلاة ": يؤخذ من هذا الحديث كراهة التذويف في القبلة واتخاذ الأشياء الملهية فيها ؛ لأنه علل إزالة الخميصة بشغلها له في الصلاة ؛ فدل هذا على تجنب ما يوقع في ذلك.
قال القاضي: قوله " ألهتني " هو بمعنى قوله في الرواية الأخرى:" أخاف أن تفتني " أي: يشغلني عن صلاتي النظر إليها واستحسانها. وقد فسرنا الفتنة. وقوله:"آنفًا " قبل هذا، والخميصة بفتح الخاء: كساء مربع من صوف، والأنبجانية رويناه بفتح الهمزة وكسرها، وبفتح الباء، ورويناه بكسرها أيضًا في غير "الأم" وبالوجهين ذكرها ثعلب، ورويناه بتشديد الياء آخرًا وتخفيفها معًا في غير مسلم ؛ إذ هو في مسلم في إحدى الروايات:" بأنبجاني(1)" مشدد الياء(2) مكسور على الإضافة إلى أبي جهم على التذكير ؛ كما قال في الحديث الآخر:" كساء له أنبجانيا "، والكساء مذكر، فوصفه بمذكر وتأنيثها على تقدير الخميصة ؛ قال ثعلب: هو كل ما كثف والتف. قال غيره: هو كساء غليظ ولا عَلَم له، فإذا كان الكساء علم فهو الخميصة، وإن لم يكن له علم فهو الأنبجانية، وقال الداودي: هو كساء غليظ بين الكساء والعباءة، وقال القاضي أبو عبدالله في "شرحه": الخميصة: كساء صوف مصبوغ علمه حرير، والأنبجانية: كساء سداه قطن أو كتان وطعمه صوف، وقال ابن قتيبة: إنما هو منبجاني، ولا يقال: أنبجاني منسوب إلى منبج، وفتحت الباء في النسب ؛ لأنه خرج مخرج مخبراني، وهو قول الأصمعي. قال الباجي: ما قاله ثعلب أظهر والنسب إلى منبج منبجي.
قال القاضي: النسب مسموع وقد شذ منه كثير عن القياس فلا ينكر ما قاله ابن قتيبة، وقد قال بعضهم:كانت أكسية تصنع بحلب فتحمل إلى جسر منبج.
__________
(1) في (ط):" بأنبجانية ".
(2) قوله:" مشدد الياء " ليس في (ط).(3/59)
فيه جواز لباس الثياب ذوات الأعلام وإن كانت من حرير إن كان علمها كما تقدم، وسنذكره في اللباس، وفيه التحفظ من كل ما يشغل في الصلاة النظر إليه، ويستفاد من هذا كراهة التزويق والنقوش في المساجد، وأن يصلى المصلى إلى ما هذا سبيله، وإلى ما يشغل خاطره أو فيه قربة، وأن الشغل اليسير والذهول القليل عن الصلاة لا يبطلها، وكذلك الاستثبات في الكتابة اليسيرة وتفهمها ما لم يكثر ذلك كله. وفيه قبول الهدايا من الأصحاب وجواز ردها لعلة، وجواز ذلك للواهب، وأنه ليس من باب الرجوع في الصدقة. وطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنبجانية(1) أبي جهم تطييبًا لنفسه لرد هديته عليه، وليعلم أنه لم يكن من أجل مجرد هديته، وفعل مثل(2) هذا من استدعاء مال الغير جائز، ممن يعلم سروره بذلك وطيب نفسه به. قال الإمام: وبعثه إلى أبي جهم فلعله علم منه أنه يبيحها له كما فعل.
ويؤخذ من هذا الحديث: ألا يصلي بالحقنة، ولا بكل بشىء يشغل عن استيفاء الصلاة.
قال القاضي: واستدل به بعضهم على هجر كل ما صد عن الله وشغل عنه، وكان سبب عصيانه، كما هجر أبو لبابة دار قومه التي أصاب فيها الذنب، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالارتحال عن الوادي الذي نام فيه عن الصلاة لرد النبي - صلى الله عليه وسلم - الخميصة ؛ لأنها شغلته في صلاته(3).
__________
(1) في (ط):" النبجانية ".
(2) قوله:" مثل " ليس في (ح).
(3) في (ح):" الصلاة ".(3/60)
قال الإمام: ذكر مسلم في باب " إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة " من حديث عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:« إذا حضر عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدؤوا(1) بالعشاء »، خرّجه من حديث عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن عبد الله(2) بن عمر، ثم أردف ذلك فقال: ثنا الصلت بن مسعود، نا سفيان، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، هكذا في نسخة أبي العلاء(3) بن ماهان: سفيان عن أيوب غير منسوبين، وفي رواية السجزي عن الجلودي: نا سفيان بن موسى، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر. قال بعضهم: سفيان بن موسى هذا رجل من أهل البصرة يروى عن أيوب ثقة، وكذلك نسبه أبو مسعود الدمشقي في كتاب "الأطراف" عن مسلم، عن الصلت بن مسعود، عن سفيان بن موسى، عن أيوب، وذكر الحاكم أن مسلمًا انفرد بالرواية لسفيان بن موسى عن أيوب، قال: سمعت الدارقطني يقول: ذكر لبعض أصحابنا ممن يدعى الحفظ ونحن بمصر حديث لسفيان بن موسى عن أيوب فقال: هذا خطأ، إنما هو عن(4) سفيان بن عيية عن أيوب، قال: ولم يعرف سفيان بن موسى البصري وهو ثقه مأمون، قال بعضهم: وقد غير هذا الإسناد في بعض النسخ من "كتاب مسلم": ورد عن سفيان عن أيوب بن موسى، وهو خطأ.
قال القاضي: أرى أن الناقل عن بعض الرواة غلط في تخريج نسب سفيان المذكور بعد اسمه حين إلحاقه، فخرجه بعد أيوب فوقع الوهم فيه.
__________
(1) في (ط):" فأثروا ".
(2) قوله:" عبدالله " ليس في (أ) و(ط).
(3) قوله:" أبي العلاء " ليس في (ح).
(4) قوله:" عن " ليس في (ط).(3/61)
قال الإمام: وقوله:« لا صلاة بحضرة الطعام ولا وهو يدافعه الأخبثان»، قال الهروي وغيره: يعني الغائط والبول، قال الإمام: وقوله هنا(1): "بحضرة الطعام " هو قوله أيضًا(2):« إذا قرب العشاء وحضرت الصلاة، فابدؤوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب »، معناه: أن به من الشهوة إلى الطعام ما يشغله عن صلاته، فصار ذلك بمنزلة(3) الحقن الذي أمره(4) بإزالته قبل الصلاة(5).
قال القاضي: قد وقع في هذا الحديث نفسه في غير "كتاب مسلم" من رواية موسى بن أعين، عن عمرو بن الحرث، عن الزهري زيادة حسنة تفسير المعنى، وقد أخرج مسلم الحديث عن ابن وهب، عن عمرو، عن الزهري، ولم يذكر فيه هذه(6) الزيادة.
__________
(1) في (ح) و(ط):" ها هنا ".
(2) قوله:" أيضًا " ليس في (ح).
(3) في (ح):" بمعنى ".
(4) في (أ):" أمر.
(5) في (ح):" الطعام ".
(6) قوله:" هذه " ليس في (ط).(3/62)
قال الدارقطني: روى هذا الحديث عن عمرو بن الحرث ثقتان حافظان: ابن وهب وموسى بن أعين، ولموسى فيه زيادة حسنة، فأخرج مسلم الحديث الناقص وترك التام، إلا أن يكون لم يبلغه وهو قوله:« إذا وضع العشاء وأحدكم صائم فابدؤوا به قبل أن تصلوا ».[ وألزم الدارقطني مسلمًا إخراجه، قال: إلا أن يكون لم يبلغ فيعذر ](1). وقد اختلف العلماء في معنى هذا الحديث، فذهب الشافعي إلى ما تقدم من معناه، وذكر نحوه ابن حبيب، وحكى ابن المنذر عن مالك: أنه يبدأ بالصلاة إلا أن يكون طعامًا خفيفًا، وذهب الثوري وإسحاق وأحمد، وأهل الظاهر إلى الأخذ بظاهر الحديث وتقديم الطعام، وروى مثله عن عمر بن الخطاب وابنه، زاد أهل الظاهر: فإن صلى فصلاته باطلة. وفي الحديث حجة على توسعة وقت المغرب، وسيأتي هذا في الأوقات. وفيه حجة أن صلاة الجماعة ليست بفرض على الأعيان في كل حال ؛ لقوله: " وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء. ومنعه عن الصلاة وهو يدافعه الأخبثان - يعني البول والغائط - مثل النهي عن صلاة الحاقن وذلك لشغله بها، وقد اختلف العلماء في ذلك،فذهب مالك وغيره إلى أن ذلك مؤثر في الصلاة بشرط شغله عنها، واستحب الإعادة في الوقت وبعده في ذلك، قال: والذي يعجل صلاته من أجله هو الذي يشغله(2)، وتأوله بعض أصحابنا على أنه إن شغله حتى لا يدرى كيف صلى فهو الذي يعيد قبل وبعد، وأما إن شغله شغلاً لم يمنعه من إقامة حدودها وصلى ضامًا بين وركيه فهذا يعيد في الوقت، وذهب الشافعي والحنفي في مثل هذا إلى(3) أنه لا إعادة عليه، وظاهر قول مالك في هذا استحباب الإعادة، وكلهم مجمعون أن من بلغ به ما لا يعقل به صلاته ولا يضبط حدودها أنه لا تجزئه، ولا يحل له الدخول كذلك في الصلاة، وأنه يقطع الصلاة إن أصابه ذلك فيها.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(2) في (ط):" شغله ".
(3) في (ح):" إلا ".(3/63)
وذكر حديث ابن أبي عتيق مع القاسم عند عائشة، وقوله: "وكان القاسم رجلاً(1) لحانة"، كذا للسمرقندي، وهذا اللفظ(2) استعملته العرب للمبالغة، قالوا: لَحَّانة للكثير الّحن، وعلامة للكثير العلم، ووقع للعذري وابن أبي جعفر: لحنة بسكون الحاء وضم اللام وهو بمعناه، أي: يلحن في كلامه ويلحنه الناس، وباب فعلة بضم الفاء وسكون العين للذى يرى الناس منه ذلك، كخدعة للذى يخدع، وهزأة للذى يهزأ به، وباب فعلة بفتح العين بضده ممن يفعل ذلك بغيره، كصرعة للذى يصرع الناس، وهزأة إذا كان يهزأ بهم، وخدعة إذا كان يخدعهم. وابن أبي عتيق هذا هو عبدالله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، والقاسم هذا هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق وكانت أمه أم ولد،كما ذكر في الحديث.
وقوله: " فغضب وأضبّ عليها "، أي: حقد، والضب: الحقد، وقولها - لما رأته حين(3) جاءت مائدتها قام يصلي:" اجلس غدر "، وذكر(4) الحديث، يدل أن مذهبها الأخذ بظاهره، وإنما سمته غدر ؛ لما أظهر من أن تركه طعامها(5) من أجل قيامه للصلاة، لا لأجل حقده عليها ما(6) قالت له وعيرته به(7) من لحنه وتأديب أمه له.
قال الإمام: الأحاديث التي فيها النهي عن دخول المسجد لمن أكل الثوم وشبهه قال أهل العلم: يؤخذ منها منع أصحاب الصنائع المنتنة كالحواتين والجزارين من المسجد.
__________
(1) قوله:" رجلاً " ليس في (أ) و(ط).
(2) في (ط):" هذا لفظ ".
(3) قوله:" حين " ليس في (ح).
(4) في (ح) و(ط):" ذكرت ".
(5) في (ح) و(ط):" لطعامه ".
(6) في (ح):" مما ".
(7) قوله:" به " ليس في (ط).(3/64)
قال القاضي: اختلف العلماء في معنى هذا الحديث والأخذ به، فذهب عامة العلماء وجمهور أئمة الفتوى والسلف إلى إباحة أكل هذه الخضر: الثوم والبصل والكراث وشبهها، وأن النهي عن حضور المساجد لمن أكلها ليس بتحريم لها وبدليل إباحة النبي - صلى الله عليه وسلم - إياها لمن حضره من أصحابه، وتخصيصه نفسه بالعلة(1) التي ذكرها من قوله:« فإنى أناجي من لا تناجي، وبقوله:« ليس لي تحريم ما أحل الله، ولكني أكرهها »، وكذلك حكم أكل الفجل لمن يتجشى به أو غير ذلك مما تستقبح رائحته ويتأذى به،وقد ذكر أبوعبد الله بن المرابط في "شرحه": أن حكم من به داء البخر في فيه، أو به جرح له رائحة هذا الحكم. وفيه دليل على أن إتيان الجماعات للأحاد على الدوام ليس بفرض، وإن كانت إقامتها بالجملة متعينة ؛ لأن إحياء السنن الظاهرة فرض على الجملة، خلافًا لأهل الظاهر في تحريم أكل الثوم لأجل منعه من حضور الجماعة، التي يعتقدون فرضها على الأعيان، وجمهور العلماء أن النهي عن دخول المساجد لأكلها نهى عام في كل مسجد، وذهب بعضهم أن هذا خاص في مسجد المدينة لأجل ملائكة الوحى وتأذيهم بذلك، ويحتج بقوله: فلا يقرب مسجدنا، وحجة الجماعة قوله:« فلا يقرب المساجد(2)»، ذكر الروايتين مسلم، وقاسوا على هذا مجامع الصلاة في غير المساجد، كمصلى العيدين والجنائز ونحوها من مجامع العبادات، وقد ذكر بعض فقهائنا: أن حكم مجامع المسلمين فيها(3) هذا الحكم كمجالس العلم والولائم وحلق الذكر.
__________
(1) قوله:" للعلة " ليس في (ط).
(2) قوله:" المسجد " ليس في (ط).
(3) في (ح) و(ط):" فيهم ".(3/65)
قال الإمام:وقع في بعض هذه الأحاديث جواز أكل هذه البقول مطبوخة، ووقع في "كتاب مسلم": أنه - عليه السلام - أتى بقدر فيه خضرات من بقول، فوجد فيها ريحًا، فسأل، فأخبر بما فيها من البقول فقال:« قربوها(1) إلى بعض أصحابه »، فلما رآه كره(2) أكلها، قال:« كل، فإنى أناجي من لا تناجي، فظاهر هذا أن الكراهة باقية مع النضج، وهذا خلاف الأول قال(3)، ولعل قولهم: " قدر " تصحيف من الرواة، وذلك أن في "كتاب أبي داود": " أنه - عليه السلام - أتى ببدر "، والبدر هنا هو(4): الطبق، شبه بذلك ؛ لاستدارته كاستدارة البدر، فإذا كان كذلك لم يكن هذا مناقضًا لحديث الطبخ ؛ لاحتمال أن تكون كانت نيئة.
قال القاضي: الصواب " ببدر "، أي: طبق، كما قال، وكذا ذكره البخاري عن أحمد بن صالح عن ابن وهب في هذا الحديث، وقال:" أتى ببدر "، وقال ابن وهب: يعني طبقًا، وذكر أن ابن عفير(5) رواه عنه:" بقدر ".
قال الإمام: وقوله:« إنى أناجى من لا تناجي »، يدل على أن الملائكة تنزه عن هذه الروائح، وفي بعض الأحاديث:« أنها تتأذى مما يتأذى منه(6) بنو آدم، قالوا: وعلى هذا يمنع الدخول بهذه الروائح إلى المسجد وإن كان خاليًا؛ لأنه محل الملائكة.
__________
(1) في (ح):" قربوه يعني ".
(2) قوله:" يكر " ليس في (ط).
(3) قوله:" قال " ليس في (ح)، وفي (ط):" قالوا ".
(4) قوله:" هو " ليس في (ط).
(5) في (ح):" عفيرا " بدل:" ابن عفير ".
(6) في (ح) و(ط):" به ".(3/66)
قال القاضي: قال أبو القاسم بن أبي صفرة: فيه دليل على تفضيل الملائكة على بني آدم، ولا دليل في ذلك، لا سيما مع قوله:« فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى به الإنس(1)»، فقد سواهم، ومع قوله:" فلا يؤذينا "، قالوا: وفي اختصاصه النهي عن دخول المساجد إباحة دخول الأسواق وغيرها بها، وذلك لأنه ليس فيها حرمة المساجد، ولا هى محل الملائكة، لأنه إن تأذى به أحد في سوقه تنحى عنه إلى غيره، وجالس سواه، ولا يمكنه ذلك في المسجد لانتظار الصلاة، وإن خرج فاتته الصلاة (2).
وذكر مسلم حديث عمر بن الخطاب في هذا الباب من رواية قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة: أن عمر بن الخطاب... الحديث، وقد استدركه الدارقطني عليه، وقال: خالف قتادة في هذا الحديث ثلاثة حفاظ رووه عن سالم عن عمر مرسلاً، لم يذكروا فيه معدانا، وهم: منصور بن المعتمر، وحصين بن عبد الرحمن، وعمرو بن مرة، وقتادة ؛ وإن كان ثقة فهو مدلس، ولم يذكر فيه سماعه من سالم، فالأشبه أنه بلغه عن سالم، فرواه عنه.
وقوله فيه:" لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا وجد ريحهما(3) من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع " دليل على(4) إخراج من وجدت(5) رائحتهما منه من المسجد، وإخراجه إلى البقيع، إبعاد(6) له عن المسجد ورحابه ؛ إذ حكمهما(7) في أذى المصلين فيها(8) حكم المسجد.
__________
(1) في (ح):" الإنسان ".
(2) قوله:" الصلاة " ليس في (أ) و(ط).
(3) في (ح) و(ط):" ريحها ".
(4) في (أ):" أن ".
(5) في (ح):" وجد ".
(6) قوله:" إبعادًا " ليس في (ط).
(7) في (أ) و(ح):" حكمها ".
(8) قوله:" فيها " ليس في (ح).(3/67)
وقوله:« فليمتهما طبخًا »، أي: ليذهب رائحتهما وكسر قوة كل شيء إماتته، ومثله: قتلت الخمر إذا مزجتها بالماء فكسرتها، ويدل هذا على(1) أن النهي من النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) في النيئ ؛ لأن الطبخ يذهب ريحها.
وقوله:« هذه الشجرة الخبيثة »، هو مثل قوله في الرواية الأخرى:"المنتنة"، والعرب تطلق الخبيث على كل مذموم ومكروه(3) من قول أو فعل أو مال أو طعام أو شخص.
قال الخطابي: وقد عد قوم أن أكل الثوم من الأعذار المبيحة التخلف عن الجماعة لهذه الأحاديث، ولاحجة في هذا ؛ لأن الحديث إنما ورد مورد التوبيخ والعقوبة لأكلها لما حرمته من فضل الجماعة، قال: وسماها النبي - صلى الله عليه وسلم - شجرة، والعامة إنما تسمى الشجرة ما له ساق تحمل أغصانه دون غيره، وعند العرب أن كل ما بقيت له أرومة في الأرض تخلف ما قطع منه فهو شجرة وما ليس كذلك فهو نجم، والذي حكاه عن العامة هو قول الهروي وهو المروى عن ابن عباس وابن جبير وقوله:" على زراعة بصل " معناه: الأرض التي تزرع.
وقوله: في ذكر الكلالة ومراجعته النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها، وإغلاظ النبي - صلى الله عليه وسلم - له(4) وطعنه بإصبعه في صدره، فيه حجة للإلحاح في سؤال العالم ومباحثته وجواز تأديب المعلم للمتعلم إذا رآه أسرف في ذلك، وسيأتى ذكر الكلالة في موضعه من الكتاب. وقوله فيمن بلغه أنه طعن في الخلافة:" أولئك(5) الكفرة الضلال " على طريق التغليظ بوصفهم بالكفر ؛ لفعلهم فعل من كفر فارتد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - من الطعن على الخلافة والإباءة منها، وضلالهم عن طريق الحق، وفيه من ذكر الاستخلاف.
__________
(1) قوله:" هذا على " ليس في (أ) و(ط).
(2) قوله:" من النبي - صلى الله عليه وسلم - " ليس في (أ) و(ط).
(3) قوله:" ومكروه " ليس في (ح).
(4) قوله:" له " ليس في (ح).
(5) في (ط):" أولئك هم ".(3/68)
وقوله:" إن الله لا يضيع دينه ولا خلافته " حجة لما وقع عليه إجماع المسلمين من إقامة خليفة لهم، وسيأتي الكلام على هذا في كتاب الإمارة إن شاء الله.
وقوله: في ناشد الضالة في المسجد، وانكاره عليه ذلك، قال الإمام: يؤخذ منه منع السَّؤَال من الطواف في المسجد، ونشدت الضالة بمعنى طلبتها، وأنشدتها إذا عرفتها، قاله يعقوب وغيره، ومنه قول الشاعر:
إصاخة الناشد للمنشد
والإصاخة بمعنى الاستماع، ومنه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:« ما من دابة إلا وهى مصيخة يوم الجمعة ».
قال القاضي: ذهب مالك في جماعة من أهل العلم إلى كراهة رفع الصوت في المسجد في العلم وغيره، وقال: ما للعلم ترفع فيه الأصوات، وأجاز أبو حنيفة وأصحابه ومحمد بن مسلمة من أصحابنا رفع الصوت فيه في الخصومة والعلم وغير ذلك مما يحتاج إليه الناس ؛ لأنه مجتمعهم ولابد لهم منه.
وقوله: " فأدخل رأسه من باب المسجد "، دليل على أن حكم هذا حكم الداخل في المسجد ؛ لأن صوته فيه وقوعه(1)، ومن ذلك من حلف ألا يدخل دارًا فأدخل رأسه فيها لم يحنث، ولو أدخل رجله حنث ؛ لأن الاعتماد في الدخول على الرجل، ولهذا فرق بعض(2) أصحابنا بين أن يكون اعتماده عليها أم لا ؟
قال الإمام: وقوله في الحديث:« إنما بنيت المساجد لما بنيت له » يدل على منع عمل الصنائع فيه، كالخياطة وشبهها، وقد منع بعض أهل العلم تعليم الصبيان في المساجد، فإن كان منعوا ذلك لأجل أخذ الإجارة على ذلك التعليم، فيكون ضربًا من البيع في المسجد، ويجزئ ذلك أيضًا في غير الصبيان إذا كان بإجارة، وإن كان لمضرة المسجد بالصبيان لم يشركهم في ذلك إلا من شاركهم في هذا العلة.
__________
(1) في (ط):" رفوعه ".
(2) قوله:" بعض " ليس في (ح).(3/69)
قال القاضي: قال بعض شيوخنا: إنما يمنع في(1) المساجد من عمل الصنائع ما يخص نفعه آحاد الناس مما يكتسب به، فلا يتخذ المسجد متجرًا، فأما إن كانت لما(2) يشمل منفعته(3) المسلمين في دينهم، مثل المثاقفة وإصلاح آلات الجهاد مما لا مهنة(4) في عمله للمسجد(5)، فلا بأس به. وحكى بعضهم اختلافًا في تعليم الصبيان فيها.
وقوله: للناشد:« لا وجدت »، وأمره بقول مثل ذلك، عقوبة له على مخالفته وعصيانه وفعله ما نهى عنه من ذلك.
قال الإمام: أحاديث السهو كثيرة، والثابت منها(6) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة أحاديث: حديث أبي هريرة، وحديث أبي سعيد الخدري، وهما جميعًا فيمن شك كم صلى؟ وذكر في حديث أبي هريرة: أنه سجد سجدتين، ولم يذكر موضعهما، وفي حديث أبي سعيد: أنه سجد(7) قبل السلام، وقد طعن في سند حديث أبي سعيد أن مالكًا أرسله، وأسنده غيره من المحدثين وهذا غير قادح فيه ؛ لأنه قد علم من عادة مالك وتحصيله أنه يرسل الأحاديث المسندة ثقة بأنه قد علم من عادته، وأن ذلك لا يوقع في النفوس منه استرابة. ومن الخمسة أيضًا حديث ابن مسعود، وفيه القيام إلى خامسة والسجود بعد السلام، وحديث ذي اليدين، وفيه السلام من اثنتين والسجود بعد السلام، وحديث ابن بحينة، وفيه القيام من اثنتين والسجود قبل السلام.
__________
(1) في (ح):" من ".
(2) في (ح):" مما ".
(3) قوله:" منفعته " ليس في (أ) و(ط).
(4) في (ح):" مهنته فيه ".
(5) في (ح):" في المسجد ".
(6) في (ط):" بها ".
(7) في (ط):" يسجد ".(3/70)
وقد(1) اختلف الناس في طريق الأخذ بهذه الأحاديث، فأما داود فلم يقس عليها، وقال: إنما يستعمل ذلك فيما ورد فيه من الصلوات على حسب الترتيب في مواضع السجود المذكورة، وقال ابن حنبل كقول داود في هذه الصلوات خاصة، وخالفه في غيرها، وقال: ما وقع فيها من سهو، فإن السجود كله قبل السلام، واختلف من قاس عليها(2) من الفقهاء سواهما(3) عليها(4)، فبعضهم قال: إنما تفيد هذه الأحاديث(5) التخيير، وللمكلف أن يفعل أي ذلك شاء من السجود، قبل أو بعد، في نقص أو زيادة. وقال أبو حنيفة: الأصل ما(6) فيه السجود بعد السلام(7)، ورد بقية الأحاديث إليه. وقال الشافعي: الأصل فيه السجود قبل، ولا بقية الأحاديث إليه، ورأى مالك أن ما فيه النقص يكون السجود فيه قبل السلام، وأن ما فيه الزيادة يكون فيه السجود بعد. فإن تلك الزيادة إشارة إلى أن العلة هى الزيادة، فأما الشافعي فطريقه(8) في البناء أن يقول: ذكر في حديث أبي سعيد الخدري أنه قال - صلى الله عليه وسلم -:« فإن كانت خامسة شفعها »، ونص فيه على السجود قبل، مع تقدير الزيادة وجوازها، والمقدر حكمه كالموجود، ويتأول حديث(9) ابن مسعود الذي فيه السجود بعد السلام على أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما أعلم بسهوه بعد أن سلم، ولو اتفق أن يعلم ذلك قبل أن يسلم لسجد حينئذ.
__________
(1) قوله:" وقد " ليس في (ح).
(2) قوله:" عليها " ليس في (ح).
(3) في (ح):" سواها ".
(4) قوله:" فيها " ليس في (ط)، وفي (أ):" فيها ".
(5) في (ح):" الأخبار ".
(6) قوله:" ما " ليس في (ط).
(7) قوله:" السلام " ليس في (ح).
(8) في (أ) و(ط):" فطريقته ".
(9) في (أ):" بحديث ".(3/71)
وأما حديث ذي اليدين فلأصحاب الشافعي فيه تأويلان: أحدهما: أن قول الراوي:" سجد بعد السلام " يعني به السلام الذي في التشهد، وهو قوله:" السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته "، والثانى: أنها كانت صلاة جرى الأمر فيها على السهو، فلعله سهى - صلى الله عليه وسلم - أن يسجد قبل السلام، فوقع منه السجود بعد أن سلم.
قال القاضي: أما حديث أبي هريرة:« إن أحدكم إذا قام يصلي جاءه الشيطان فلبس عليه حتى لا يدرى كم صلى، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس »، ولم يذكر فيه(1) ما يفعل في شكه سوى هذا، فذهب بعضهم أن هذا في المستنكح، وروى هذا عن مالك والليث، قالوا: ولأن هذا من النبي - صلى الله عليه وسلم - تعليم، ولو كان في غير المستنكح لبين ما يلزمه إذ هو موضع بيان، وهذا ينعكس عليه إذ لم يبين أنه في المستنكح، مع أن هذا لا يسلم له، وليس هذا حكم المستنكح في كل نازلة في الصلاة، وإذا(2) لم يدر هل صلى واحدة أو أكثر أنه يسجد ويجزيه، وإنما يجزيه سجود السهو بمجرده إذا كان أولاً في يقينه أنه أكمل صلاته، ثم طرأ له الشك بعد، فهذا المستنكح هو الذي يسجد سجود السهو، ويجزيه، ولمالك قول آخر: أنه لا سجود عليه، وأما من لم يدر كم صلى ولا تقدّم له يقين في إكمال صلاته، فليبن على ما تيقن، ويكمل صلاته كما يفعل غير المستنكح، وأيضًا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال هذا لكل من نابه في صلاته لأول مرة بقوله:« فإذا وجد ذلك أحدكم »، فدل أنه بعد غير مستنكح، وقد ذهب الحسن في طائفة من السلف إلى الأخذ بظاهر هذا الحديث، وقالوا: ليس على من لم يدر كم صلى، ولا يدرى زاد أو نقص غير سجدتين وهو جالس كما جاء في الحديث، وذكر عن الشعبي والأوزاعي وجماعة كثيرة من السلف: أن من لم يدر كم صلى أعاد أبدًا حتى يتيقن، وقال بعضهم: يعيد ثلاثًا، فإذا شك في الرابعة لم يعد، والأولى أن يرد حديث أبي
__________
(1) في (أ):" فيها ".
(2) في (ط):" إذا ".(3/72)
هريرة إلى حديث أبي سعيد المفسر مايفعل بقوله:« إذا شك فليطرح الشك، وليبن على اليقين، ثم يسجد »، ويجعل حديث أبي سعيد مفسرًا له، وأنه حفظ ما لم يحفظ غيره أو فسر ما اختصره وأجمله سواه، وإلى هذا ذهب الأكثر.
وفيه حجة أن الشك غير مؤثر في اليقين، وأن البناء على اليقين، ولا تأثير للشك فيه، خلاف ما(1) ذهب إليه بعض المتأخرين، وعلى ما قلناه تأتى أصول الشرع فيمن شك في الحدث، وقد مر هذا، وما روى من اختلاف الناس والمذهب فيه وعليه إجماع المسلمين في التوريث(2) باليقين(3) وقطعه بالشك.
__________
(1) في (ط):" خلافًا لما ".
(2) في (ط):" التبرئة ".
(3) في (أ):" في اليقين ".(3/73)
وقوله: في حديث أبي سعيد:« ثم سجد سجدتين قبل أن يسلم »، مما يحتج به الشافعي في(1) أن السجود في الزيادة قبل، وذلك أن الزيادة في حديث أبي سعيد مقدرة، وحكم المقدر حكم المحقق في هذا، وقد اعتل أصحابنا لهذا الحديث فاحتجوا فيه للمذهب بما أشار إليه الإمام من إرسال مالك له، واختلاف أقرانه في متابعته في الإرسال وفي إسناده، واختلاف أصحابه عنه في إرساله وإسناده، وجعلوا هذا اضطرابًا في هذا الحديث، فوجب ترجيح غيره عليه لذلك، ولأنهم أحفظ وأثبت من عطاء، ولكثرة الرواة هنالك(2) وانفراد عطاء بهذا اللفظ، وذهب ابن لبابة(3) الأصغر - من أصحابنا - إلى الأخذ بهذا الحديث في موضعه، وخالف أصل مذهبه هنا، وقال: إذا كان في الشك، وحيث تكون الزيادة مقدرة فالسجود قبل لهذا الحديث، فإذا تيقنت الزيادة فالسجود بعد. وقال الداودي: اختلف قول مالك في الذي لا يدرى ثلاثًا صلى أم أربعًا، فقال: يسجد قبل السلام، وقال: بعد السلام. قال: ويحمل قوله قبل أن يكون شكه في إحدى الأوليين فيكون معه زيادة ونقص قراءه السورة، وقوله بعد إذا كان(4) شكه(5) في الأخيرتين لأنها زيادة محضة.
قال القاضي: وقد يتصور في شكه في الأوليين(6) نقص الجلسة الوسطى.
وأما قوله: في حديث ابن مسعود:« فليتحر الصواب، فليتم عليه ثم ليسجد سجدتين »، فهذا التحرى عندنا وعند كافة العلماء هو البناء على اليقين المفسر في الأحاديث الأخر، وقصد اليقين، قال الله تعالى:{ فأولئك تحروا رشدًا }، وذهب أهل الرأي من أهل الكوفة وغيرهم: أن التحرى هنا البناء على غلبة الظن ثم اختلفوا، فقال أبو حنيفة منهم: ذلك لمن اعتراه ذلك(7) مرة بعد مرة، فأما الأول ما ينويه فليبن على اليقين.
__________
(1) في (ط):" وفي ".
(2) في (ط):" هناك ".
(3) في (ط):" لبانة ".
(4) قوله:" كان " ليس في (ح).
(5) في (ح):" شك ".
(6) في (ح):" الأخرتين ".
(7) قوله:" ذلك " ليس في (أ).(3/74)
وقوله: في حديث ابن مسعود:« إذا زاد أحدكم أو نقص فليسجد سجدتين »، مما يحتج به الحنفية في كون السجود أبدًا بعد، وليس فيه بيان، لكن ظاهره في الزيادة ؛ لأن النقص إذا شك فيه فلابد من جبره والبناء على اليقين، فوقع الشك في الزيادة محضًا، وحديث ابن بحينة يفسر حكم النقص، وقد يحتج أيضًا بحديث ابن مسعود الطبري، ومن قال بقوله في بالتخيير، واستعمال جميع الأحاديث على هذا من السجود كيف شاء في الزيادة والنقص قبل أو بعد. وفي المجموعة عن مالك نحوه ولا خلاف بين هذه الطوائف كلها المختلفة في سجود السهو أنه إن سجد بعد لما يراه قبل، أو سجد قبل لما يراه بعد، أن ذلك يجزيه ولا يفسد صلاته.(3/75)
وأما في قيامه - عليه السلام - في حديث ابن مسعود للخامسة وسجوده بعد السلام إذ أعلم بذلك، فقد أخذ به عامة العلماء، وأن من زاد في صلاته ركعة أو بعضها(1) ثم علم فليرجع مكانه ويتشهد ويسلم ويسجد سجدتى السهو بعد السلام، وتقدم الخلاف في هذا الموضع. وقال أهل الكوفة: إذا زاد ركعة ساهيًا أعاد صلاته، وقال أبو حنيفة: إن كان تشهد في الرابعة ثم زاد خامسة أضاف إليها سادسة وكانت نفلاً، وإن(2) لم يكن تشهد بطلت. وهذا الحديث يبطل مذهبه رأسًا ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعد ولم يأت بسادسة، وسجوده - عليه السلام - بعد، ولا خلاف عندنا فيمن زاد في صلاته أقل من نصفها أنه يجبره سجود السهو، واختلف في زيادة النصف فأكثر على ثلاثة أقوال، فقيل: النصف كثير، تعاد منه الصلاة من الصبح وغيرها، وهو قول مطرف وابن القاسم، وقيل: إنما تفسد بزيادة ركعتين وليست ركعة بطول في الصبح ولا غيرها، وهو قول عبد الملك وغيره، وروى عبد الملك ومطرف عن مالك - في "الجحدرية" - أن من صلى الظهر ثماني ركعات يجزيه سجود السهو، حكاه أبو بكر النعالي(3) هنا(4). وفي رجوع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تذكير من ذكره في هذا الحديث، وفي حديث ذي اليدين حجة لرجوع الإمام إلى قول من خلفه. ولا خلاف عندنا أنه يرجع إليهم في شكه ويتم ما نقص من صلاته ؛ لأن قولهم نبهه على سهوه، فشك في ذلك بعد يقينه، وهو لو تنبه من عند نفسه للزمه البناء على اليقين فكيف بتنبيههم، واختلف في عمله إذا ثبت على يقينه أنه أكمل صلاته وسبحوا به أو نبهوه، هل يرجع إليهم(5) أم لا ؟ فذكر ابن القصار عن مالك في ذلك قولين، وذهب ابن مسلمة إلى الرجوع إلى قولهم: إن كثروا، ولا يرجع إن قلوا،وينصرف ويتموا هم لأنفسهم.
__________
(1) في (ط):" نقصها ".
(2) في (ح) و(ط):" لو ".
(3) في (ط):" الثعالبي ".
(4) قوله:" هنا " ليس في (ط).
(5) في (ط):" عليهم ".(3/76)
وقوله:« لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم(1) به »، إنكار منه لقولهم: "أزيد في الصلاة ؟". وفيه حجة أن تأخير البيان لا يجوز عن وقت الحاجة.
وقوله في هذا الحديث في سجدتي السهو:«كانتا ترغيمًا(2) للشيطان »، أي: إغاظة له وإذلال، مأخوذ من الرغام وهو التراب، ومنه أرغم الله أنفه، والمعنى شكر لله تعالى بها على جبر نقص صلاته، وتلافي ما لبّس عليه الشيطان فيها بكيده، ووسوسته والمبادرة إليها لرغم أنفه ورده خاسئًا عن مراده، وامتثال ما عصى هو الله به من تركها حين أمر بها فأبى، ولقوله - عليه السلام -:«إذا سجد ابن ادم اعتزل الشيطان يبكي [يقول يا ويلتا](3)»، الحديث، وهذه كلها نهاية الإغاظة والإذلال له، والحمد لله رب العالمين، وقد تقدم تفسير ثوب ويخطر، ويظل إن يدري، والكلام على بقية الحديث.
__________
(1) في (ط):" لنبأتكم ".
(2) في (ح) و(ط):" ترغيم ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).(3/77)
وقوله: في حديث ابن بحينة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد لترك الجلسة الوسطى، حجة لنا أن الجلسة الوسطى، ليست بفرض ولا ركن من أركان(1) الصلاة ؛ إذ(2) لا تجبر الأركان بسجود السهو، وقد تقدم الكلام في الجلوس، وليس في الحديث نص يدل متى تنبه - عليه السلام - لسهوه، أقبل الركوع أم بعده ؟ لكن قوله: قام من اثنتين فلم يجلس، دل بمجيء فاء التعقيب بعد ذكره(3) القيام أنه لم يرجع إلى الجلوس بعد التنبيه له، وقد جاء في حديث المغيرة بن شعبة أنهم سبحوا به - عليه السلام - فلم ينصرف وتمادى في الصلاة، ومثله في حديث سعد بن أبي وقاص، وفيها: أنه اعتدل قائمًا، وقد اختلف العلماء في ذلك، فذهبت طائفة إلى أنه متى استقل عن الأرض وفارقها لم يرجع إلى الجلوس، وهو قول مالك في آخرين، ثم اختلف هؤلاء في حد مفارقة(4) الأرض، فقيل: مفارقة أليتيه الأرض، وقيل: تجافي ركبتيه عنها، وهذا عندي على الاختلاف في هيئة القيام ومن قال: يقعى قال بمفارقة الأليتين، ومن قال: يعتمد قال بمفارقة الركبتين، وعلى هذا يأتى مذهب مالك وإن كان المحكى عن مذهبه مفارفة الأليتين، وهذا لا يأتي على اختياره في القيام، وقيل: يرجع ما لم يعتدل قائمًا، وهو قول جماعة من أئمة العلماء وابن حبيب من أصحابنا، وقيل: يرجع ما لم يقرأ، وهو قول النخعي، وقيل: ما لم يركع وهو قول الحسن(5)، والرد على هؤلاء ما جاء في الحديث من مضي النبي - صلى الله عليه وسلم - على صلاته بعد التسبيح به، وما جاء في حديث المغيرة أيضًا عنه - عليه السلام -:« إذا قام الإمام في الركعتين، فإن ذكر قبل أن يستوى قائما فليجلس، فإن استوى قائمًا فلا يجلس، ويسجد سجدتي السهو، ذكره أبو داود، إلا أن راويه جابر الجعفي، لكن مطابقته لمعنى الحديث المتقدم في مسلم
__________
(1) قوله:" أركان " ليس في (ح) و(ط).
(2) في (ط):" و ".
(3) في (ح) و(ط):" ذكر ".
(4) في (ح):" مفارقته ".
(5) في (ح):" الحسين ".(3/78)
والآثار(1) الآخر تشده، ولم يختلف المذهب عندنا أنه لا يرجع بعد استوائه، واختلف إذا فعل ورجع جالسًا، هل تفسد صلاته أو تصح، وإذا صحت متى يسجد، أقبل لنقصه المتقدم، أم بعد للزيادة.
وقوله فيه:" فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبّر فسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم "، نص وحجة بيّنة على أبي حنيفة في سجود السهو للنقص قبل السلام(2)، وأن المراد هنا(3) السلام من الصلاة، لا من سجدتي السهو على ما تعسف فيه بعضهم. وفيه سنة التكبير لسجود السهو، ولم يختلف في ذلك، وقد اختلف العلماء هل لهما إحرام وسلام وتشهد أم لا شيء لهما من ذلك ؟ أم السلام وحده ؟ أم التشهد وحده ؟ فمذهب مالك أنه إذا كانتا بعد السلام فيتشهد لهما ثم يسلم، ثم اختلف عنه هل يجهر بسلامهما الإمام كسائر الصلوات أم يسر ولا يجهر ؟ واختلف عنه هل يتشهد لهما إذا كانتا قبل ؟ واختلف عنه هل لهما تكبيرة إحرام أم لا ؟ وقد ذكر مسلم في حديث ابن بحينة وذى اليدين التكبير لهما، وفي حديث ذي اليدين التسليم منهما ولم يذكر ذلك في غيره مما ذكر فيه سجودهما(4) بعد السلام، ولم يأت التشهد لهما مفسرًا في حديث صحيح، لكنه يحتمل أنه تشهد إذ لم يأت أيضًا أنه لم يتشهد، والطهارة لهما مشترطة إذا كانتا قبل السلام ؛ لأنهما داخل الصلاة إجماعًا، وكذلك في ابتدائهما بعد السلام، ثم هل تشترط في التشهد بعدهما والسلام بينهما، فقيل: مذهب مالك أن ذلك شرط في الجميع، وأنه إن أحدث بعد سجودهما أعادهما بعد الوضوء، واختلف على تأويل قول ابن القاسم في المدونة، فإن لم يعدهما أجزأتا عنه، قيل: إنه لا يشترط في السلام منهما الطهارة، وإن استحبه ؛ للخلاف(5) في السلام من الفريضة هل هو من الصلاة أم لا ؟ وقيل: معناه: أجزأت عنه صلاته ولم تفسد صلاته بسبب الحدث بعد
__________
(1) في (ط):" الأحاديث ".
(2) في (ط):" التسليم ".
(3) في (ط):" هو ".
(4) في (ط):" سجودها ".
(5) في (ط):" الخلاف ".(3/79)
سجودهما،لكن لا بد له من إعادة الطهارة لهما وسجودهما، ومعظم العلماء على أن السجود في سهو صلاه التطوع كالسجود في صلاة الفرض، إلا(1) ابن سيرين وقتادة، فإنهما قالا: لا سجود لسهو التطوع.
وقوله - عليه السلام - في حديث ابن مسعود:« إنما أنا بشر أنسى كما تنسون »، وقوله بعد حديث ذي اليدين:" أم نسيت ؟" حجة لجواز النسيان على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما طريقه البلاغ من الأفعال وأحكام الشرع، وهو مذهب عامة العلماء والأئمة والنظار وظاهر القرآن والأحاديث، لكن شرط الأئمة - رضوان الله عليهم - أنه ينبههه الله تعالى له ولا يقره عليه، ثم اختلفوا هل من شرط التنبيه الاتصال بالحادثة وبالفور ولا يجوز فيها التأخير ؟ وهذا مذهب الأكثرين(2)، وإليه نحى القاضي أبو بكر، أو يجوز فيها التراخي(3) ما لم يتخرم عمره وينقطع تبليغه، وإليه نحى أبو المعالي، ومنعت طائفة من العلماء والنظار السهو عليه في الأفعال البلاغية والعبادات الشرعية كما منعوه اتفاقًا في الأقوال البلاغية، واعتذروا عن الظواهر الواردة في ذلك باعتذارات، واليه مال الأستاذ أبو إسحاق، وشذت الباطنية وطائفة من أرباب علم(4) القلوب، فقالوا: النسيان لا يجوز عليه جملة، وإنما ينسى قصدًا ويتعمد(5) صورة النسيان ليَسُنّ ونحى إلى قولهم عظيم من أئمة التحقيق وهو اختيار(6) أبو المظفر الإسفراييني في كتاب "الأوسط"، وهذا منحى، غير سديد، وجمع الضد مع ضده مستحيل بعيد، والقول الأول هو الصحيح ؛ فإن السهو في الأفعال غير مناقض للنبوة، ولا موجب للتشكيك في الرسالة، ولا قادح في الشيريعة، بل هو سبب لتقرير شرع وإفادة حكم كما قال - عليه السلام -:« إنى لأنسى أو أنسى لأسن »، ولذلك اختلفوا فيما ليس طريقه
__________
(1) في (ط):" إلا أن ".
(2) في (أ) و(ط):" الأكثر ".
(3) في (ط):" التأخير ".
(4) في (ح):" علوم ".
(5) في (ط):" يتعمد ".
(6) قوله:" اختيار " ليس في (أ) و(ط).(3/80)
البلاغ، وبيان(1) الأحكام من أفعاله الشرعية، وما يختص به من عاداته وأذكار قلبه، والأكثر على تجويز الغفلة هنا والسهو إذ لم يؤمر بتبليغها.
وأما طروء(2) ذلك عليه في الأقوال فممتنع بإجماع فيما طريقه البلاغ كما امتنع في ذلك التعمد إجماعا، وأما طروؤه عليه في الأقوال الدنيوية، وفيما ليس سبيله البلاغ من الأخبار التي لا مستند للأحكام إليها ولا أخبار المعاد، ولا تضاف إلى وحى، فقد جوز قوم السهو والغفلة في هذا الباب، إذ ليس من باب التبليغ الذي يُتطرق به إلى القدح في الشريعة، والحق الذي لا مرية فيه ترجيح قول من لم يجوز ذلك على الأنبياء في خبر من الأخبار، كما لم يجوزوا عليهم فيها العمد، وأنه لا يجوز عليهم خلف(3) في خبر من الأخبار(4) لا عن قصد ولا سهو، ولا في صحة ولا مرض، ولا رضا ولا غضب، وحسبك أن سيره وآثاره وكلامه وأفعاله مجموعة معتنى بها على مر الزمان يتداول نقلها الموافق والمخالف، ويرويها الموقن والمرتاب، فلم يأت في شيء منها استدراك غلط في قول ولا اعتراف بوهم في كلمة، ولو كان لنقل كما نقل سهوه في الصلاة ونومه عنها، واستدراكه رأيه في تلقيح النخل، وفي نزوله بأدنى مياه بدر، وفي مصالحة عيينة بن بدر، ولقوله:« والله إني لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرًا منها، إلا فعلت الذي حلفت عليه وكفرت »، وغير ذلك، وأما جواز السهو عليه في الاعتقادات في أمور الدنيا فغير نكير.
وأما ما يتعلق من ذلك بالعلم بالله وصفاته والإيمان به فلا يصح فيه طروء سهو، ولا غلط ولا ما يضاده عليه ؛ لأن ضد(5) ذلك كله كفر، وهو محال في حقه - عليه السلام - بل منعت طائفة من أهل علم الباطن من ذلك الغفلات والفترات وأحالتها بكل حال.
__________
(1) في (ح) و(ط):" ولا بيان ".
(2) قوله:" وأما طروء " ليس في (ح)، وفي (أ):" طروّ " بدل:" طروء ".
(3) في (ح):" الخلف ".
(4) قوله:" من الأخبار " ليس في (ط).
(5) قوله:" ضد " ليس في (ط).(3/81)
وأما حديث ذي اليدين، فقد ذكر مسلم في حديث عمران بن حصين أن اسمه الخرباق، وكان في يديه طول، وفي الرواية الأخرى بسيط اليدين، وفي حديث أبي هريرة رجل من بني سليم، ووقع للعذري سُلم وهو خطأ، وقد جاء في حديث عبيد بن عمير مفسرًا، فقال فيه: ذو اليدين أخو بني سليم، وفي رواية ابن شهاب: ذو الشمالين رجل من بني زهرة، وبسبب هذه الكلمة ذهب الحنفيون إلى أن حديث ذي اليدين منسوخ بحديث ابن مسعود، قالوا: لأن ذا الشمالين قُتل يوم بدر فيما ذكره أهل السير، وهو من بني سليم، فهو ذو اليدين المذكور في الحديث. وهذا لا يصح لهم، وإن كان قتل ذو الشمالين يوم بدر فليس هو بالخرباق، هو رجل آخر حليف لبني زهرة اسمه عمير بن عبد عمرو من خزاعة ؛ بدليل رواية أبي هريرة حديث ذي(1) اليدين ومشاهدته خبره. ولقوله:" صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، وذكر الحديث، وإسلام أبي هريرة بخيبر بعد يوم بدر بسنين فهو غير ذي الشمالين المستشهد يوم بدر(2)، وقد عدوا قول ابن شهاب فيه هذا من وهمه، وقد عدها بعضهم حديثين في نازلتين وهو الصحيح ولاختلاف صفتهما ؛ لأن في حديث ا الخرباق(3): ذي الشمالين أنه سلم من ثلاث، وفي حديث ذي اليدين من اثنتين، وفي حديث الخرباق أنها العصر، وحديث ذي اليدين الظهر بغير شك عند بعضهم، وقد ذكر مسلم ذلك كله.
__________
(1) في (ط):" ذي بني ".
(2) في (ح) و(ط):" ببدر ".
(3) قوله:" الخرباق " ليس في (ح).(3/82)
قال الإمام: اختلف أصحاب مالك فيمن وقع منه هذا الفعل المذكور في قصة ذي اليدين، فقال بعضهم لا يؤخذ به ؛ لأن النسخ حينئذ كان مجوزًا فعذر بذلك المتكلم، ولما استقر الأمر الآن لم يعذر، والرد على هذا القائل بأنهم تكلموا بعد أن أعلمهم أن لا نسخ، وانفصل عن هذا بأنه - عليه السلام - سألهم فلابد من مجاوبته للزوم طاعته، فكان ذلك خارجًا عن الكلام الذي لا يلزم في الشرع. وقد يجاب(1) عن هذا أيضًا أن يقال يمكن إن يجاوبوه إشارة إذ لم يكن استدعى منهم النطق: وفي كتاب أبي داود ما يشير إلى هذا ؛ لأنه ذكر أن أبا بكر وعمر أشارا إليه أن يقوم، ولعل من روى أنهما قالا: نعم، أي: أشارا، فسمى الإشارة قولاًَ، واختلف أصحابنا أيضًا القائلون بأن هذا الحديث يعمل به إذا سلم من اثنتين، هل يعمل به إذا سلم(2) من ثلاث ؟ والأظهر أن لا فرق، وفي بعض طرق أحاديث ذي اليدين أن ذلك كان في الثالثة.
__________
(1) في (أ) و(ط):" يجاوب ".
(2) في (ط):" سلم به ".(3/83)
قال القاضي: المشهور عن مالك وأصحابه الأخذ بحديث ذي اليدين، وروى عنه ترك الأخذ به وأنه كان يستحب أن يعيد ولا يبنى، قال: وإنما تكلم النبي - صلى الله عليه وسلم -. وتكلم أصحابه ؛ لأنهم ظنوا أن الصلاة قصرت، ولا يجوز ذلك لأحدنا اليوم، ورواه عنه أبو قرة، وقاله ابن نافع وابن وهب وابن كنانة، وقال الحارث بن مسكين من أصحاب مالك، كلهم على خلاف ما قال ابن القاسم عنه: وقالوا: كان هذا أول الإسلام، وأما الآن فمن تكلم فيها أعادها، وقد اختلف قول مالك، وأصحابه في التعمد بالكلام(1) لإصلاح الصلاة من المأموم والإمام، ومنع ذلك بالجملة أبو حنيفة والشافعي وأحمد وأهل الظاهر، وجعلوه مفسدا للصلاة إلا أن أحمد أباح ذلك للإمام وحده وسوى أبو حنيفة بين العمد والسهو، وحجة من أجاز حديث ذي اليدين، وحجة من منع في العمد ما تقدم من أن ذلك كان أول الإسلام، وأن النبي - عليه السلام - إنما تكلم على يقين عنده من تمام الصلاة، وأن ذا اليدين ظن قصرها وتمامها، وأن غيره إنما أجابوه لوجوب إجابة دعوته أو على تأوبل ذي اليدين، ولعلهم لم يسمعوا جواب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما أبو حنيفة فذهب إلى نسخة بحديث ابن مسعود وزيد بن أرقم بالنهي عن الكلام في الصلاة، ولا يصح لهم؛ لأن حديث ابن مسعود متقدم، وقد روى أنه كان بمكة، لكن يعارض هذا قوله: " فنزلت:{ وقوموا لله قانتين }، فنهينا عن الكلام "، والبقرة مدنية، وأبو هريرة ينص على مشاهدته إياه، وهو إنما أسلم بخيبر.
__________
(1) في (أ):" بالكلام ".(3/84)
قال الإمام: وأما قوله في حديث ذي اليدين: " كل ذلك لم يكن "، فقد اعتذر فيه العلماء باعتذارين: أحدهما: أن المراد لم يكن القصر والنسيان معًا(1)، وكان الأمر كذلك وهذا اعتذار،ضعيف، والثانى: أن المراد الإخبار عن اعتقاد قلبه وظنه فكانه مقدر النطق به وإن كان محذوفا، فلو قال: كل ذلك لم يكن في ظني، ثم كشف الغيب أنه كان لم يكن كاذبا، فكذلك إذا قدر ذلك(2) محذوفا مرادا.
__________
(1) قوله:" معًا " ليس في (ح).
(2) قوله:" ذلك" ليس في (ط).(3/85)
قال القاضي: قدرنا(1) أن الخلف والإخبار على ما ليس به في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - محال، لا على سبيل القصد ولا على سبيل السهو والنسيان، وقد جاء هذا الحديث وظاهره الإخبار أنه لم ينس وقد نسى، فلأئمتنا(2) أجوبة: منها ما تقدم، وقيل: قوله: " لم أنس " راجع إلى السلام، أي(3): لم أسه في السلام، بل سلمت قصدًا، ولم أسه في نفس السلام، وإنما سهوت عن العدد، وهذا بعيد أيضًا. وقيل: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسهو ولا ينسى ؛ ولذلك نفى عن نفسه النسيان ؛ لأنه غفلة ولم يغفل عنها وكان شغله(4) عن حركات الصلاة ما في الصلاة شغلا بها لا غفلة عنها، وهذا إن تحقق على هذا المعنى كان نفيه لنسيان الغفلة صحيحًا أحرى(5)، وقد ظهر لي فيه ما هو أقرب وجها وأحسن تأويلا، إنه إنما أنكر - عليه السلام - لفظة:" نسيت " المضافة إليه، وهو الذي نهى عنه في قوله:« بئس ما لأحدكم أن يقول: نسيت آية كذا، ولكنه نُسِّي »، وقد روي:« أني لا أنسى » على النفى،« ولكني أُنَسَّى »، وقد شك الراوي على رأى بعضهم في الرواية الأخرى هل قال: " أَنْسَى " أو " أُنَسَّى "، وأن " أو " هنا للشك، وقيل: بل للتقسيم، وأن هذا يكون منه مرة من قبل شغله وسهوه، ومرة يغلب على ذلك ويجبر عليه ليسن، فلما سأله السائل بذلك اللفظ أنكره وقال له:« كل ذلك لم يكن »، وفي الرواية الأخرى:« لم أنس ولم تقصر »، أما القصر فبين، وكذلك لم أنس حقيقة من قبل نفسي وغفلتي عن صلاتي، ولكن الله نساني لأَسُنَّ.
وقوله: " جاءه الشيطان فلبّس عليه "، أي: شكّكه وغلطه، قال(6) الله تعالى:{ وللبسنا عليهم ما يلبسون }، وقوله:" فهنَّاه ومنَّاه "، أي: أعطاه من الأماني، والهنوء: العطية، ومنّاه: ذكره الأماني.
__________
(1) في (ح):" قد قدرنا ".
(2) في (أ):" ولأئمتنا ".
(3) في (ح) و(ط):" أني ".
(4) في (ح) و(ط):" يشغله ".
(5) في (ط):" حقا ".
(6) قوله:" قال " ليس في (ح).(3/86)
وقوله:" توشوش القوم "، كذا لأبى بحر بالمعجمة، ولغيره بالمهملة، وكلاهما بمعنى، وكله بمعنى(1) الحركة، أي: تحركوا. قال ابن دريد: وسوسة الشيء مهملاً حركته، وتوشوش القوم تحركوا وهمسوا بعضهم إلى بعض.
قال القاضي: ونحوه الوسوسة، ومنه وسواس الحلي، وهو صوته عند تحريكه(2)، ومنه وسوسة الشيطان، وهي(3) همسه بإغوائه في القلوب، قال الخليل: الوسوسة(4) صوت في اختلاط.
وقوله:" خرج سرعان الناس "، كذا رويناه بفتح السين والراء عن(5) متقني شيوخنا، وهذا قول الكسائي وغيره يسكن الراء، أي: أخفاؤهم والمسارعون إلى الخروج منهم، وذكر الخطابي أن من الرواة من رواه " سرعان بالكسر، قال: وهو خطأ، ورويناه في البخاري من طريق الأصيلي: " سرعان " بضم السين، وكذا وجدته بخطه في أصله ووجهه، جمع سريع، كقفيز وقفزان، وكثيب وكثبان.
__________
(1) قوله:" وكله بمعنى " ليس في (أ) و(ح).
(2) في (ح):" تحركه ".
(3) في (ط):" وهو ".
(4) في (ح) و(ط):" الوشوشة ".
(5) في (ح):" روينا عن ".(3/87)
وقوله:" وأنت أيضًا يا أعور تقول ذلك "،: دليل على أن ذكر هذا لمن لا يتأذى به ومن عرف به لا حرج فيه، وإنما الحرج لمن قاله على سبيل التنقص والعيب، أو إذا كان المقول له ذلك يكره قوله، وابراهيم الأعور المذكور في الحديث هو إبراهيم بن سويد النخعي الكوفى،[ وإبراهيم بن النخعي الأعور هو آخر، وزعم الداودي أنه إبراهيم بن يزيد التيمي، ووهم فإنه ليس بأعور، وثلاثتهم كوفيون فضلاء ](1). قال البخاري: إبراهيم بن ميمونة(2) النخعي الأعور الكوفي سمع علقمة، وذكر الباجي إبراهيم بن يزيد(3) النخعي الكوفي الفقيه، وقال فيه الأعور، ولم يقل البخاري فيه هو(4) الأعور، ولا رأيت من ذكره، وقال ابن قتيبة في العور: إبراهيم النخعي فيحتمل أنه ابن سويد كما قال البخاري وإبراهيم بن يزيد(1) النخعي.
وقوله في حديث ذي اليدين وأخبرت عن عمران بن حصين أنه قال: "وسلم "، قائل ذلك ابن سيرين، وهذا نص في السلام من سجدتي السهو. وفي الحديث النص أنها بعد السلام من الصلاة ؛ لقوله(5):" فصلى ركعتين فسلم ثم كبّر ثم سجد " الحديث، وفي الرواية الأخرى:" سجد(6) سجدتين بعد التسليم(7)"، وهذا البيان يدفع تأويل المخالف: إنه أراد بقوله: سجد بعد السلام، أي: الذي في التشهد ؛ لأن لفظ السلام إن حمل على العهد فهو الذي للتحلل لا الذي في التشهد، وإن حمل على العموم فيجب أن يكون بعد كل سلام في الصلاة وآخره سلام التحلل.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(2) في (ط):" سويد ".
(3) في (ط):" سويد ".
(4) قوله:" هو " ليس في (أ).
(5) في (ح) و(ط):" بقوله ".
(6) قوله:" سجد " ليس في (ح).
(7) في (ط):" السلام ".(3/88)
وفي حديث ذي اليدين وما ذكر فيه من خروجه - عليه السلام - ومجيئه السارية مغضبًا ودخوله منزله في الرواية الأخرى، حجة أن كثرة السهو لا يفسد الصلاة، وحجة لمن يقول بالبناء وإن طال ما لم ينتقض وضوؤه، وقد اختلف عن مالك في ذلك، فمشهور قوله: أنه يبني فيما قرب، وربيعة يقول: يبني ما لم ينتقض وضوؤه، ولمالك نحوه في الباب، ولم يأت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - - في حديث ذي اليدين - رجع إلى الجلوس ثم قام، وقد كان - عليه السلام - نهض عن موضعه.(3/89)
وقد اختلف أئمتنا في السلام ساهيًا من الصلاة، هل يخرج منها وله في ذلك تأثير أم لا حكم له، وأنه كالكلام ؟ وعلى هذا جاء اختلافهم في الرجوع بإحرام أم لا ؟ وفي الرجوع إن كان قام إلى الجلوس ليأتى بما فاته من النهضة أم لا يلزمه ذلك ؛ لأنه كان في صلاته فنهضته محسوبة له من صلاته، ومتى يكبر على هذا ؟ وهو قائم أو حتى يجلس ؟ وفرق بعضهم بين أن يكون سهى في السلام ولم يقصد به التحلل، فقال: هذا لا يلزمه إحرام لأنه كالمتكلم ساهيًا، وبين أن يسهو عن العدد فيسلم قصدا ثم يتذكر، فهذا يحتاج إلى إحرام، واستحب بعضهم له التكبير لإشعار رجوعه للصلاة لا للإحرام ؛ لأن فائدة التكبير الإشعار بحركة المصلى، ويجب على قوله هذا اختصاصه بالإمام، وذهب بعضهم إلى التفريق، فلا يكبر إن لم يقم ويكبر إن فارق الأرض وكل هذا على أنه غير تكبيرة(1) الإحرام، فإما أن يكون للإشعار بالرجوع للصلاة، أو يكون تكبيرة للقيام من اثنتين، إن كان السهو فيهما، وقد احتج بعضهم بحديث ذي اليدين لمذهب مالك ؟ في أن الحاكم إذا نسى حكمه فشهد عنده شاهدان بحكمه أنه يمضيه خلاف قول أبي حنيفة والشافعي في أنه لا يمضيه حتى يتذكره، وأنه لا يقبل الشهادة إلا على غيره لا على نفسه، والنبي - عليه السلام - قد رجع عما قطع عليه أنه لم يكن، إلا(2) أنه كان بما(3) شهد به(4) عنده من خلفه، لكن قد اختلف الناس في هذا، فذهب بعضهم إلى هذا وهو ظاهر الحديث، وقيل: بل كان رجوعه - عليه السلام - إلى ما تيقنه من الأمر. وفي "كتاب أبي داود": فلم يرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يقنه الله، وعلى هذا ترتب الخلاف المتقدم في رجوع الإمام في يقينه إلى شهادة المأمومين، والله أعلم.
__________
(1) في (ط):" تكبير ".
(2) في (أ) و(ط):" إلى ".
(3) في (أ):" لما ".
(4) قوله:" به " ليس في (ط).(3/90)
قول عبد الله بن مسعود:" قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - { والنجم } فسجد فيها "، قال الإمام أبو عبد الله: اختلف في عدد سجود القرآن ؟ فقيل: إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء، وقيل: أربع عشرة، ثلاث في المفصل زيادة على الإحدى عشرة المذكورة، وقيل: بل خمس عشرة وزاد صاحب هذا القول الآخرة من الحج، وذكر مواضع هذه السجدات في كتب الفقهاء.
قال القاضي: هذه الأقاويل(1) الثلاثة عندنا في المذهب، والأول هو مشهور(2) والمعروف عن(3) مالك - رحمه الله - وبه قال جمهور أصحابه وروى عن ابن عباس وابن عمر، والقول الثانى لمالك أنها أربع عشرة، وهو قول ابن وهب من أصحابنا، وزاد ثلاث سجدات المفصل وهو قول أبي حنيفة وأهل الرأي، ووافق الشافعي في العدد وأبو ثور، وخالفا في التعيين، فأثبت الشافعي سجدتين في الحج وأسقط سجدة ص،وأثبت أبو ثور سجدة ص، وسجدتي الحج، وأسقط سجدة النجم، وأما القول الثالث عندنا لمالك: أنها خمس عشرة، فهو قول ابن حبيب وابن وهب في رواية عنه، وهو قول إسحق، وفيها عندنا لمالك قول رابع: أن سجود المفصل على التخيير، وفيها قول خامس عن على وابن مسعود وابن عباس أيضًا أنها: "أربع:{ الم تنزيل }، و { حم تنزيل }، والنجم، والعلق "؛ لأنه أمر والباقى خبر، وفيها قول سادس ذكر عن ابن عباس أيضًا: أنها عشرة أسقط آخر الحج والمفصل وص.
قال الإمام: والأصل في إثبات السجود في المفصل الأحاديث الواردة فيها.
__________
(1) في (ط):" الأقوا ل".
(2) في (ح) و(ط):" مشهوره ".
(3) في (أ):" عند ".(3/91)
قال القاضي: قد(1) ذكر(2) مسلم اختلاف الأحاديث في ذلك وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسجد في { والنّجم } من حديث زيد بن ثابت، وأنه سجد فيها من حديث ابن مسعود وفي حديث أبي هريرة أيضًا في(3) سجود في بقية سجود المفصل، وقد روى عن ابن عباس: " لم يسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ تحول إلى المدينة"، وذهب بعضهم إلى نسخ السجود بتركه ؛ لحديث ابن عباس وزيد بن أسلم، ولأن حديث ابن مسعود كان بمكة، ورد هذا بعضهم إذ النسخ يحتاج إلى تحقيق، وقد روى أبو هريرة السجود في المفصل، وأنه سجدها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإسلامه متأخر يوم خيبر، وذهب بعضهم إلى أن الخلاف في ذلك دال على التوسعة، وقال بعضهم: إن حديث زيد بن ثابت إنما هو: قرأت على النبي - صلى الله عليه وسلم - { والنجم } فلم يسجد، قالوا: إنما لم يسجد، لأن القارئ لم يسجد وإنما يسجد السامع إذا سجد القارئ، ويأتي بعد الكلام فيه، ورجح بعضهم وجه الخمس(4) عشرة بأنها المضمنة ذم من لم يسجد أو مدح من سجد أو أمر بالسجود، ورجح بعضهم وجه الإحدى عشر بأن ما يسجد فيه منها إنما هو ما جاء على طريق الخبر، وما عداها فإنما جاء الأمر بالسجود، وهو محمول على سجود الصلاة أو الصلاة نفسها، وقد اعترض عليه بسجدة " انشقت " وهى خبر، ولا يدخل في عدده سجدة { حم } وهى أمر، وهى عنده داخلة، وأجاب عن هذا بما لا مقنع فيه، ورجح القول في السجود في {حم} عند { يسأمون } ليصح له الخبر.
__________
(1) قوله:" قد " ليس في (ط).
(2) في (ط):" فذكر ".
(3) قوله:" في " ليس في (أ) و(ط).
(4) في (ح):" الخمسة ".(3/92)
قال الإمام: وأما حكم السجود فمذهب أبي حنيفة فيه أنه واجب ليس بفرض على أصله في التفرقة بينهما، ومذهبنا أنه ليس بواجب، والظاهر أن بين أصحابنا خلافا، هل هو سنة أو فضيلة ؟ فعده القاضي عبد الوهاب في تلقينه من فضائل الصلاة، وقال غيره من الشيوخ: إنه سنة، وقالوا أيضًا: يستقرأ من تشبيهه إياه في المدونة بصلاة الجنائز في الوقت، وأقل أحوالها عندنا أنها سنه، وأما الوقت الذي يباح فيه سجوده فقيل: يسجد في سائر الأوقات ما لم يسفر بعد الصبح أو تصفر الشمس بعد العصر، وقيل: لا يسجد بعد العصر ولا بعد الصبح، وقيل: يسجد بعد الصبح ما لم يسفر ولا يسجد بعد العصر.(3/93)
قال القاضي: لا خلاف أن سجود القرآن يحتاج إلى ما تحتاج إليه الصلاة من طهارة جسد ودنث، ونية، واستقبال قبلة(1)، ووقت مباح للصلاة على ما تقدم، واختلف هل يحتاج إلى تحريم ورفع يدين عنده وتكبير وتسليم، وعن مالك التكبير لها في الصلاة في الخفض والرفع وهذا معلوم مذهبه ومذهب أصحابه، وحكى مكي في هدايته عنه: لا يكبر في الخفض في الصلاة، ويكبر في الرفع، ولا يكبر فيهما في غير الصلاة، ولم يحك عنه غيره والخلاف عنه في التكبير لها في غير الصلاة مشهور، وخير ابن القاسم في ذلك، وبالتكبير لذلك قال عامة(2) العلماء، وذكر أبو محمد في رسالته: أنه يكبر لها وفي الرفع منها سعة، وهذا قول آخر خلاف المعلوم، وما ذكره في الأمهات وذكره هو في مختصره، وذهب الشافعي(3) وابن حنبل إلى رفع اليدين عند التكبير لها(4) إذا سجد، وذهب جماعة من السلف وابن راهويه إلى أنه يسلم منها(5)، والجمهور على أنه لا سلام لها. وقوله: " كان - عليه السلام - يقرأ القرآن فيقرأ سورة فيها سجدة(6) فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد بعضنا موضعًا لمكان جبهته، قال في الحديث الآخر: " في غير صلاة "، لا خلاف أن الإمام إذا قرأ سجدة من العزائم في الصلاة أنه يلزمه أن يسجد، ويلزم من وراءه السجود معه، ويكره للمصلي قراءتها في الصلاة إذا كان إمامًا على الجملة في صلاة السر، أو(7) إذا كان وراءه جماعة كبيرة(8) في صلاة الجهر ؛ لأنه لما يخلط(9) على من وراءه، فإن فعل وقرأ بها خَطْرَفها، فإن قرأها سجد، وينبغى له أن يجهر فيها جهرًا يبين لمن وراءه أنها سجدة، واختلف المذهب هل يفعل إذا كانت الصلاة جهرًا
__________
(1) في (ح):" القبلة ".
(2) في (ط):" مالك وعامة".
(3) في (ح):" الشافعي وإسحاق ".
(4) في (أ) و(ط):" لهما ".
(5) في (أ) و(ط):" منهما ".
(6) قوله:" فيها سجدة " ليس في (ح) و(ط).
(7) في (ح):" و ".
(8) في (ط):" كثيرة ".
(9) في (أ):" خلط " بدل:" لما يخلط ".(3/94)
والجماعة قليلة، بحيث لا يخفى ذلك عليهم، بالإجازة والمنع، وكذلك اختلف في ذلك للفذ، وأما إن قرأها في غير صلاة فيسجد من جلس إليه للاستماع، على سبيل التعليم إذا سجد.
واختلف إذا لم يسجد، هل يلزم المستمع سجود، وكذلك اختلف إذا جلس إليه مستمعا للثواب لا للتعليم إذا سجد القارئ ولا يسجد إن لم يسجد، وقيل: يسجد، وهذا كله إذا كان القارئ ممن تصح إمامته، واختلف في المعلم والمقرئ، فقيل: عليهما وعلى القارئ عليهما السجود أول مرة، ثم لا يلزمهما بعد فيما تكرر، وقيل: لا شيء عليهما، وقيل: يسجد فيما تكرر من غير ما سجد فيه، ولا سجود على من جلس لقارئ السجدة ليسجد معه، ولا على من سمع قراءة رجل حتى يسجد فيها(1) ولم يجلس إليه، وقيل: يسجد معه، والأصل في سجود المستمع قوله تعالى:{ إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدًا وبكيًّا }، وقوله:{ إن الذين أوتوا العلم من قبلهم إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجّدًا }.
وقوله: " حتى ما يجد أحدنا موضعًا لمكان جبهته "، قال الداودي: مالك يرى لمن نزل به مثل هذا أن يسجد إذا رفع غيره، وكان عمر يرى أن يسجد الرجل على ظهر أخيه. واختلف في الخطيب يوم الجمعة يقرأ السجدة في خطبته،فقال مالك: يمر في خطبته ولا يسجد، وقال الشافعي: ينزل فيسجد وان لم يفعل أجزأه، وقد روى الوجهين عن عمر بن الخطاب في "الموطأ"، وعن النبي - عليه السلام - في المصنفات:" أنه يسجد ".
__________
(1) في (أ) و(ط):" سجد فيها ".(3/95)
وقوله:" قرأ { والنجم }، فسجد فيها، وسجد من كان معه غير أن شيخًا أخذ كفًّا من حصى أو من(1) تراب فرفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا، فلقد رأيته قتل بعد كافرًا "، هذا الشيخ هو أمية بن خلف، قتل يوم بدر ولم يكن أسلم، وإنما سجد ؛ لأنه روى أنه سجد حينئذ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمون والمشركون والجن والإنس، قاله ابن عباس حتى شاع أن أهل مكة أسلموا، وانصرف من كان هاجر إلى الحبشة لذلك، وكأن سبب سجودهم - فيما قال ابن مسعود - أنها كانت أول سورة نزلت فيها سجدة، وروى أصحاب الأخبار والمفسرون أن سبب ذلك ما جرى على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذكر الثناء على آلهة المشركين في سورة النجم، ولا يصح في هذا شيء لا(2) من طريق النقل، ولا من طريق العقل ؛ لأن مدح آلهة غير الله كفر، ولا يصح أن ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - من اللهكفر، ولا أن يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك من قبل نفسه مداراة لهم، ولا أن تقوَّله(3) الشيطان على لسانه، إذ لا يصح أن يقول - عليه السلام - شيئًا(4) خلاف ما هويه، فكيف في طريق القرآن وما هو كفر، ولا يسلط الشيطان على ذلك ؛ لأنه داعية إلى الشك في المعجزة وصدق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكل هذا لا يصح. وقد أشبعنا الكلام في هذا الفصل في القسم الثالث من كتاب "الشفا"، بما لا مزيد عليه، وذكرنا تخريج التأويلات في القصة لو صح نقلها وهو لم يصح، ولا نقل فيه من طريق صحيح ولا سند(5) متصل، فليطلب بسطه هناك.
__________
(1) قوله:" من " ليس في (ح).
(2) قوله:" لا " ليس في (أ).
(3) في (ح) و(ط):" يقوله ".
(4) في (ط):" أشياء ".
(5) في (أ):" مسند "، وفي (ط):" بسند ".(3/96)
وقوله:" لا قراءة مع الإمام في شيء "، تقدم الكلام في هذا، وقوله: "وزعم أنه قرأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، أي: أخبر، والزعم من الأضداد(1) يقع على الحق وعلي الباطل، ومنه:{ هذا لله بزعمهم }، أي: بقولهم الباطل في الحق و { زعم الذين كفروا أن لن ييعثوا }، وقال الشاعر " في الحق(2)":
على الله أرزاق العباد كما زعم
قال الهروي(3):" زعم " هنا بمعنى: أخبر، وعندى أنه أولى أن يكون هنا بمعنى: ضمن، كما قال تعالى:{ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها}، ومنه الحديث:" الزعيم غارم "، ويقال: زُعْمٌ وزَعمٌ وزِعمٌ، وقد يقع الزعم لما لا يدرى أحق هو أم باطل، ومنه(4) الحديث:« بئس مطية الرجل زعموا ».
وقوله في حديث أبي هريرة:" السجود(5) في { إذا السماء انشقت } و { اقرأ }، صفوان بن سليم عن عبد الرحمن الأعرج مولى بني مخزوم عن أبي هريرة، المعروف(6) في ولاء الأعرج عبد الرحمن بن هرمز صاحب أبي الزناد أنه مولى محمد بن ربيعة بن الحارث ابن عبد المطلب بن هاشم، وهو في حديث ذكره البخاري في الجمعة، فقال: مولى ربيعة بن الحارث، وهذا مما(7) لم يختلف في ولائه، وقال الدارقطني: الأعرج هذا عبدالرحمن بن سعد وليس بعبد الرحمن الأعرج صاحب أبي الزناد، وهما أعرجان. رويا جميعًا عن أبي هريرة، وقد بين نسبه في(8) الحديث ؛ قرة بن عبد الرحمن، فرواه عن الزهري وصفوان ابن(9) سليم عن عبد الرحمن بن سعد عن أبي هريرة، وأما أبو مسعود الدمشقى فجعله صاحب أبي الزناد، قال شيخنا أبو على الجبائي(10): قول الدارقطني أولى بالصواب.
__________
(1) قوله:" من الضدا " ليس في (أ) و(ط).
(2) قوله:" في الحق " ليس في (ط).
(3) في (ط):" الداودي ".
(4) في (ط):" ومنه في ".
(5) في (ح) و(ط):" في السجود ".
(6) في (ح):" والمعروف ".
(7) في (أ) و(ط):" ما ".
(8) في (ط):" في هذا ".
(9) في (ح):" ابن أبي ".
(10) في (أ) و(ط):" الجباني ".(3/97)
وقد ذكر البخاري في تاريخه: عبد الرحمن بن سعد عن أبي هريرة روى عنه عبد الرحمن ابن مهران حديثه في أهل المدينة، ثم قال: وعبد الرحمن بن سعد المؤذن سمع عبد الرحمن بن محمد، وعمارة مولى بني مخزوم القرشي، وفيه نظر.
وقوله: " كان - عليه السلام - إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه وفرش قدمه اليمنى "، كذا رواية شيوخنا أجمع في هذا الحديث، وهى حجة لنا في صفة الجلوس في الصلاة، وقد تقدم الكلام على ذلك، وقال لنا بعض شيوخنا - وهو أبو محمد الخشنى الفقيه - صوابه: " وفرش قدمه اليسرى ".
قال القاضي: وكذا جاء في غير هذا الحديث، ولأن المعروف في اليمنى أنها منصوبة، وكذا جاء في حديث ابن عمر:" تنصب رجلك اليمنى وتثني اليسرى "، وفي الحديث الآخر:" كان - عليه السلام - إذا جلس في الصلاة افترش رجله اليسرى "، ذكره أبو داود، ولكن قد ذكرنا(1) هنا ما فعل باليسرى، فتكرار ذكرها ليس من وجه الكلام فكيف(2) يفترشها وهو قد جعلها بين ساقه وفخذه ومن يقول بافتراشها معناه عنده:يقعد عليها، ولعله نصب(3) اليمنى، وقد تكون(4) الرواية صحيحة في اليمنى إن شاء الله، ومعنى فرش اليمنى هنا: أنه(5) لم ينصبها على أطراف أصابعه في هذه المرة ولا فتح فيها أصابعه(6) كما كان يفعل والله أعلم،[ وسيأتي الكلام على جلسات الصلاة وهيئتها بعد هذا في موضعه إن شاء الله](7).
__________
(1) في (ح) و(ط):" ذكر ".
(2) في (ح) و(ط):" وكيف ".
(3) في (ط):" في " بدل:" ولعله نصب".
(4) قوله:" وقد تكون " ليس في (ط).
(5) في (أ):" أي ".
(6) في (ح) و(ط):" أصابعها ".
(7) مابين المعكوفين ليس في (أ).(3/98)
وقوله في حديث ابن الزبير:" وأشار بإصبعه السبابة ووضع إبهامه على إصبعه الوسطى "، وذكر في حديث ابن عمر: أنه عقد ثلاثًا وخمسين وأشار بالسبابة " ظاهر الروايتين الخلاف ؛ إذ ليس في عقد ثلاث وخمسين وضع إبهام على الوسطى، إلا أن يريد على حرف إصبعه الوسطى فتتفق الروايتان، وفي كتاب أبي داود من حديث وائل بن حجر: " وقبض ثنتين وحلق حلقة".
اختلف العلماء في هذه الهيئة فرأى بعضهم التحليق اتباعا لحديث وائل ابن حجر، وأنكره بعض علماء المدينة وأخذ بحديث ابن عمر وذهب بعضهم أن يعلق فيضع أنملة الوسطى بين عقدتى الإبهام، وأجاز الخطابي التحليق برؤوس أنامل الوسطى والإبهام، حتى تكون كالحلقة لايفصل من جوانبها شيء.
وقوله:" وأشار بإصبعه السبابة " وهو كقوله الذي في الحديث الآخر: "التي تلي الإبهام "، واختلف العلماء في الإشارة بالإصبع. وفي صفتها بحسب اختلاف الآثار في ذلك وفي علة ذلك، فجاء في الحديث:" لأنها مذبَّة الشيطان لا يسهو أحدكم ما دام يشير بإصبعه "، وقيل: معناه(1): يتذكر بذلك أنه في الصلاة، وقيل: لأنها من التذلل والخضوع، وقيل: بل(2) المراد بها الإشارة للتوحيد، وقيل: إشارة إلى صورة المحاسبة ومحاكاة المناجاة، ومنع بعض العراقيين من تحريكها جملة، واختلف المذهب عندنا في صفة تحريكها ووقته، فقيل: تمد من غير تحريك، وقيل: تحرك عند الشهادة(3)، وهما بمعنى، وهذا يكون معنى مدها عند الشهادة، وهو تحريكها، ومن ذهب إلى أنها مقمعة ومذبة للشيطان وليتذكر بها وصل تحريكها، وقد روى عن مالك أنه كان يحركها ويلح بها، وأحاديث مسلم إنما في جميعها: "وأشار بإصبعه ".
__________
(1) قوله:" معناه " ليس في (ح).
(2) قوله:" بل " ليس في (ح).
(3) في (ح):" الشهادتين ".(3/99)
وقوله:"ويلقم كفّه اليسرى ركبته " هو وضعها عليها مبددة(1) الأصابع، وهو معنى قوله في الحديث الآخر: " باسطها عليها "، وفي ضبط اليدين على هذه الهيئة في الصلاة شغلها عن العبث. ولهذا أورد ابن عمر الحديث على الذي رآه يعبث بالحصباء ونهاه عن ذلك، كما شرع وضع اليمنى على اليسرى حين القيام.
وقول ابن مسعود في الذي رآه يسلم تسليمتين:" أنّى علقها "، أي: من أين أخذ هذه السنه واستفادها، من علق الرجل بالشىء وعلق الصيد بالحبالة. واختلف العلماء في اللام في السلام، واختلفت الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تسليمه من الصلاة واحدة أو اثنتين، وأحاديث الواحدة معلولة وقد ذكر مسلم حديث تسليمتين من رواية عبد الله بن مسعود، وذكر من حديث عامر بن سعد عن أبيه(2):" كنت أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلم عن يمينه وعن يسارة حتى أرى بياض خده(3)"، واللفظ محتمل أن تكون ذلك بواحدة كما قال الثوري "أو باثنتين " كما قال غيره، واختلف الصحابة والخلف بعدهم والعلماء بحسب ذلك للإمام والفذ والمأموم، واختلفت الرواية عن مالك في ذلك أيضًا، في الفذ والإمام، وأما المأموم فعلى القولين جميعا عنده يسلم تسليمتين يرد بالثانية، على الإمام وإن كان عن يساره أحد سلم عليه ثالثة، واختلف عنه بما يبدأ بعد الأولى بالإمام أو بمن على يساره، وقيل: هو مخير، ولابن القاسم التفريق بين الإمام والفذ فيسلم الإمام عنده واحدة والفذ اثنتين، وذهب الثوري إلى أن الإمام والمأموم يسلمان واحدة والفذ اثنتين(4) على أيمانهما وأيسارهما. ولا يجزئ من السلام عندنا إلا لفظه المعلوم لا يجزئ فيه تنكير ولا تنوين على مشهور المذهب، وذهب الشافعي إلى جواز التنكير، وقاله ابن شعبان من شيوخنا: والسلام عند
__________
(1) في (ط):" ممدودة ".
(2) قوله:" عن أبيه " ليس في (ح) و(ط).
(3) في (ح):" خده من هاهنا ومن هاهنا ".
(4) قوله:" والفذ اثنتين " ليس في (أ) و(ط).(3/100)
جمهور الفقهاء من فروض الصلاة الذي لا يصح التحلل منها إلا به، والفرض منه عندنا وعند الشافعي تسليمة واحدة، وذهب أحمد بن حنبل وبعض الظاهرية إلى أن الفرض اثنتان،وذهب أبو حنيفة والثوري والأوزاعي إلى أنه ليس من فروضها، وأنه سنة، وأنه يتحلل منها بكل فعل وقول ينافيها، وذهب الطبري إلى التخيير في ذلك، قال الداودي: وأجمع العلماء أن من سلّم واحدة فقد تمت صلاته.
وقوله:" يسلم عن يمينه وشماله "، صفة هيئة السلام للإمام والفذ واحدة(1)، وهو قبالة وجهه، ويتيامن قليلا على القول بتسليمة وعلى القول بتسليمتين، يشير عن يمينه واحدة وعن يسارة أخرى، وأما المأموم فاختلف تأويل شيوخ المذهب على ظاهر قوله:" يسلم عن يمينه "، هل يبدأ من اليمين أو يسلم قبالة وجهه، ويتيامن كالفذ والإمام، ولم ير مالك في السلام من الصلاة زيادة قوله:" ورحمة الله وبركاته "، ورآه الشافعي والثوري وأبو حنيفة وغيرهم.
قال الإمام: ذكر مسلم في باب التكبير بعد انقضاء الصلاة:حدثنا زهير، عن ابن عيينة، عن عمرو، أخبرنى بذا أبو معبد، عن ابن عباس الحديث، وفي نسخة ابن ماهان: ابن عيينة، عن سفيان(2)، عن عمرو، أخبرنى جدى أبو معبد، هكذا في نسخة الأشعرى وابن الحذاء عن ابن ماهان وقوله:" جدي" تصحيف، وإنما صوابه:"أخبرني بذا " يريد(3)"بهذا(4)"، وليس لعمرو بن دينار جدّ يُروى عنه، وأبو معبد هذا هو نافذ(5) مولى ابن عباس، وعمرو ابن دينار هذا هو أبو محمد مولى ابن باذام، كان من الأبناء من فرس اليمن.
__________
(1) في (ط):" واحد ".
(2) قوله:" عن سفيان " ليس في (أ).
(3) في (أ) و(ح):" يزيد ".
(4) قوله:" بهذا " ليس في (ح).
(5) في (ح):" نافد ".(3/101)
قال القاضي: روايتنا فيه عن جميع شيوخنا:" بذا (1)" على الصواب كما ذكر، إلا من طريق ابن ماهان، وبينه قوله في الحديث بعد هذا من رواية ابن أبي عمر(2)، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي معبد مولى ابن عباس، وذكر الحديث، وذكره الخطابي من حديث ابن جريح كذلك.
قوله في حديث ابن عباس هذا: " كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتكبير "، وفي الرواية الأخرى:" أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكنت أعرف إذا انصرفوا بذلك "، قال الطبري: فيه الإبانة عن صحة فعل من كان يفعل ذلك من الأمراء يكبر بعد صلاته ويكبر من وراءه، قال غيره: ولم أجد من الفقهاء من قال بهذا إلا ما ذكره ابن حبيب في الواضحة: كانوا يستحبون التكبير في العساكر والبعوث إثر صلاة(3) الصبح والعشاء، تكبيرًا عاليًا ثلاث مرات، وهو قديم من شأن الناس، وعن مالك: أنه محدث. قيل: وذكر ابن عباس له يدل على ترك ذلك في وقته، وإلا فليس كان يكون لقوله معنى.
وأما قوله:" كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتكبير "، فظاهره أنه لم يكن بحضرة(4) الجماعة معه، فكان يعلمها بمشاهدة ذلك، ولأنه كان صغيرًا ممن لا يواظب على صلاة الجماعة، ولا يلزمه ذلك.
__________
(1) في (ح):" كذا ".
(2) في (ط):" عمرو ".
(3) في (ط):" الصلاة في ".
(4) في (ح) و(ط):" يحضر ".(3/102)
وقول عمرو بن دينار في هذا الحديث: " فذكرت ذلك لأبى معبد فأنكره وقال: لم أحدثك به "، قال عمرو:" وقد أخبرني به قبل ذلك، وإدخال مسلم له دليل على قوله بصحة الحديث على هذا الوجه مع إنكار المحدث عنه إذا حدث عنه به ثقه، وهذا إذا أنكره لاسترابة أو تشكك(1) أنه لم يروه، فالذى عليه معظم العلماء وأئمة الحديث والأصوليون إعماله، وذهب الكرخي إلى إبطاله، وأما إن كان(2) إنكاره إنكار قطع وتكذيب أنه لم يروه قط فيجب رده عند جميعهم، وذلك لتقابل العدالتين وليس إحداهما بأولى بالعمل من الأخرى(3)، فيسقط(4) الحديث.
وذكر مسلم حديث التعوذ من عذاب القبر في الصلاة، وهو صحيح ومذهب أهل الحق القول به واعتقاد صحته، وصحة فتنته وهو -والله أعلم- يعني " فتنة المحيا والممات " التي استعاذ منهما(5) النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما قال تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة }، أو تكون معنى " فتنة الممات "، أي: حين الموت والاحتضار، وسيأتي الكلام عليه في الجنائز وفي آخر الكتاب إن شاء الله.
وقولها: " ولم أنعم أن أصدِّقهما "، أي: لم تطب نفسى بذلك، ومنه أنعم الله عينه، أي: أقرها بما تسر به، ومنه قولهم: نعم، أي: هو كما قلت صدقًا، وذكر الاستعاذة من فتنة الدجال وقد مضى شيء من الكلام عليه، ويأتى آخر الكتاب. وفي تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم الدعاء آخر الصلاة، وحضهم عليه، وفعله له - ما يدل على - عظيم موقع الدعاء، وفضله، وأن من(6) مواطنه(7) المرغب فيها إثر الصلوات.
__________
(1) في (ح) و(ط):" تشكيك ".
(2) قوله:" إن كان " ليس في (أ) و(ح).
(3) في (ح):" الآخر ".
(4) في (أ) و(ط):" فسقط ".
(5) في (ح):" منها ".
(6) قوله:" من " ليس في (ح).
(7) في (ح):" موطنه ".(3/103)
وفي ذكر دعائه- صلى الله عليه وسلم - بما ذكر في الصلاة جواز الدعاء في الصلاة بما ليس من القرآن خلاف قول أبي حنيفة، وقد تقدم الكلام عليه، وقول طاووس(1) لابنه إذ لم يتعوّذ، بما علمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك:" أعد صلاتك "، وفي روايته: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعلمهم ذلك كما كان(2) يعلمهم السورة من القرآن يدل أنه حمل أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وبقوله: عوذوا بالله " الحديث على الوجوب.
وقوله:« اللهم أنت السلام ومنك السلام »، السلام: اسم من أسماء الله تعالى، وقد مضى الكلام عليه قبل. وجاء دعاؤه - عليه السلام - في هذه الأحاديث وغيرها جملة كقوله: ! فتنة المحيا والممات "، فقد دخل فيه جماع دعاء الدنيا والآخرة، وجاء تفصيلا كقوله:« أعوذ بك من المأثم والمغرم، وفتنة الغنى والفقر، والكسل والهم والبخل وكذا وكذا »، وهو(3) داخل في فتنة المحيا(4)، وجاء دعاؤه بالتعوذ(5) من عذاب القبر، وعذاب النار، وفتنة القبر، وهو داخل في فتنة الممات، فدل على(6) جواز الدعاء بالوجهين. وقد جاءت الأحاديث بالأمر بالدعاء إلى الله في كل شيء، وان كان قد روى عن بعض السلف استحباب الدعاء بالجوامع، كما تقدم من الاستعاذة من فتنة المحيا والممات، وسؤال العفو والعافية في الدنيا والآخرة ولكل مقام مقال. ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - واستعاذته من بعض هذه الأمور التي قد علم أنه عوفى منها وعصم ليلزم نفسه خوف الله وإعظامه، والافتقار إليه، ولتقتدى به أمته، وليسن لهم سنته في الدعاء والضراعة، وهى حقيقه العبودية.
__________
(1) في (ح):" ابن طاووس ".
(2) قوله:" كان " ليس في (ح).
(3) في (ط):" هذا ".
(4) في (ط):" المحيا والممات ".
(5) في (ط):" وجاء تعوذه ".
(6) قوله:" فدل على " ليس في (ح) و(ط).(3/104)
قال الإمام: وقوله:« لا ينفع ذا الجد منك الجد »، أي: لا ينفع ذا الغنى منك غناه، والجد: الغنى والحظ من الرزق، وفي الأمثال " جدك لا كدك ".
قال القاضي: وقد تقدم الكلام عليه قبل هذا والاختلاف في ضبطه(1).
وذكر مسلم في سند هذا الحديث: ابن عون، عن أبي سعيد، عن ورَّاد كاتب المغيرة، قال الإمام: كذا وقع أبو سعيد غير مسمى، وسماه البخاري في "التاريخ الكبير": عبد ربه، وتابعه على ذلك ابن الجارود، وقد(2) ذكر البخاري عن إسحاق، عن خالد، عن الجريري، عن عبد ربه، عن ورّاد، قال الدارقطني: لعله اسم أبي سعيد. قال البخاري: قال عثمان بن عمر، عن ابن عون، عن أبي سعيد الشامي، عن ورّاد، وقال ابن السكن في مصنفه: أبو سعيد عن وراد هو ابن أخى عائشة من الرضاعة، ووهم في هذا؛ لأن أبا سعيد رضيع عائشة، واسمه(3) كثير بن عبيد مشهور بذلك يعد في الكوفيين، وذلك رجل شامي، وأرى دخول(4) الوهم على ابن السكن من قبل أن عبد الله بن عون يروي عنهما جميعا، وقد حكى ابن عبد البر أن أبا سعيد في هذا الإسناد هو الحسن البصري وليس هذا بشىء، وقول البخاري ومن تابعه أولى. وذكر مسلم حديث أبي هريرة:" أن فقراء المهاجرين أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى "، الحديث في فضل التسبيح والتكبير والتحميد إثر الصلاة، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه:« ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ».
__________
(1) قوله:" والاختلاف في ضبطه " ليس في (ح).
(2) قوله:" قد" ليس في (أ) و(ط).
(3) في (ح) و(ط):" اسمه ".
(4) في (ح) و(ط):" دخل ".(3/105)
قال القاضي: قال أبو القاسم بن أبي صفرة: فيه نص على فضل الغنى نصًّا لا تأويلاً إذا استوت أعمالهم بما فرض الله عليهم، فللغني حينئذ(1) فضل أعمال البر المتعلقة بالأموال بما لا سبيل للفقير إليها، وإنما يفضل الفقر(2) والغنى إذا(3) فضل صاحبه بالعمل، فهذا ظاهر معنى قوله:" فضل الله يؤتيه من يشاء"، إنها الأشياء الزائدة على ما يقدر عليه الفقراء من أعمال البر المالية، ورأيت بعض المتكلمين ومن يحتج لتفضيل الفقر على الغنى أغرق في تأويله، وخالف ظاهره، وذهب أن هذا الفضل راجع إلى ثواب الفقراء على الأغنياء، وأنهم يختصون بما خاطبهم به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأعلمهم من فضل ذكرهم وسبقهم به من بعدهم ودرك من سبقهم، وإن هذا الفضل لهم دون غيرهم من الأغنياء(4) وإن قالوه، والفضائل ليست بقياس والأجور بفضل الله يؤتيها من يشاء، وهذا خلاف ظاهر الكلام ومفهومه، وقد قال في الحديث الآخر:« لا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع ما صنعتم »، ولم يقل:" منكم " مطلقًا، وجعل الفضل لقائله كائنًا من كان.
قال الإمام: قال الهروي: واحد الدثور: دثر، وهو المال الكثير، ومنه حديثه الآخر حين دعا لطهفة:" وابعث راعيها في الدثر "، يقال: مال دثر ومالان(5) دثر. قال الإمام: وكذا الدبر بالباء وكسر الدال، معناه أيضًا ومعنى الدثر واحد. قال ابن السّكيت: الدبر: المال الكثير، يقال: مال دبر وأموال دبر.
__________
(1) في (ح):" يومئذ ".
(2) قوله:" الفقر " ليس في (أ) و(ط).
(3) في (ح):" إذا كان ".
(4) قوله:" الأغنياء " ليس في (ط).
(5) في (ح) و(ط):" وأموال ".(3/106)
قال القاضي: قال ابن دريد في الجمهرة: جاء بمال دبر، أي: كثير(1)، ورويناه في كتاب ابن إسحاق في خبر النجاشي: دبر من ذهب، بفتح الدال، وقال ابن هشام: ويقال: دبر، قال: وهو الجبل بلغة الحبشة. وقال ابن دريد في "الجمهرة" أيضًا: الدبر: قطعة تجسر في البحر كالجزيزة، وحكى أبو عمر المطرز أن الدثر - بالثاء - تثنى وتجمع، خلاف ما حكاه الهروي.
ذكر مسلم: الخلاف في أعداد الذكر في هذا الحديث وغيره بعد الصلاة، وقول أبي صالح: إن جميعها ثلاث وثلاثون وتفصيل سهيل لها " إحدى عشرة إحدى عشرة(2)"، وقول كعب بن عجرة: " ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة "، وحديث عطاء عن أبي هريرة بمثله، وذكر في التكبير ثلاثا وثلاثين تمام المائة: لا إله إلا الله، الحديث، وقد ذكر مثل هذا مالك في "موطئه(3)" عن أبي هريرة موقوفًا، وقال(4): وهذا أولى من تأويل أبي صالح: أن ثلاثا وثلاثين من جميعهن، إذ قد فسر ذلك أبو هريرة في هذا الحديث.
وقوله: " معقبات لا يخيب قائلهن ": قال الهروي: قال شمر: أراد تسبيحات تخلف بأعقاب الصلوات، وقال أبو الهيثم: سميت بذلك ؛ لأنها عادت مرة بعد مرة وكل من عمل عملاً ثم عاد إليه فقد عقب. وقوله تعالى: { له معقبات من بين يديه }، أي: ملائكة يعقب بعضهم بعضًا، وقال الدارقطني في حديث كعب بن عجرة: رفع هذا الحديث جماعة، واختلف في رفعه، على شعبة ومنصور، والصواب وقفة ؛ لأن من رفعه لا يقارن منصورًا وشعبة.
__________
(1) في (ط):" دبر كثير "، وقوله:" أي كثير " ليس في (ح).
(2) قوله:" إحدى عشر " تكرر في (ح).
(3) في (ح):" وقد ذكر مثله في الموطأ ".
(4) قوله:" وقال " ليس في (ح).(3/107)
قال الإمام: وذكر مسلم حديث سهيل بن(1) أبي صالح، عن أبي عبيد الْمَذحجِي، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي هريرة،:« من سبح في دبر كل صلاة »، الحديث، ثم خرجه بعد ذلك عن محمد بن الصباح: ثنا إسماعيل ابن زكرياء، عن سهيل، عن أبي عبيد، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بمثله، فذكر عطاء غير منسوب. قال أبو مسعود الدمشقى: يذكر أن محمد بن الصباح نسبه فقال: عطاء بن يسار، وأخطأ فيه، فإن كان هذا فإن مسلمًا أسقط الخطأ من الإسناد ليقرب من الصواب، وقد روى مالك هذا الحديث عن أبي عبيد مولى سليمان عن عطاء بن يزيد، عن أبي هريرة موقوفًا.
وقوله: " كان إذا كبر سكت هنية "، كذا(2) روايتنا فيه عن جملتهم، وعند الطبري:" هنيهة " تصغير هنة، والهنة والهن كناية عن كل شيء، وتلحق الهاء أحيانًا فيه إذا صغر، وسكوته هنا - صلى الله عليه وسلم - قد بين أنه لدعاء التوجه، وليست السكتة التي يسكتها الإمام لقراءة من خلفه - على من رأى ذلك - بدليل قول أبي هريرة في الحديث الذي بعده:" كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نهض من الركعة الثانية استفتح القراءة بـ{ الحمد لله رب العالمين } ولم يسكت "، وقد تقدم الكلام في سكتات الصلاة قبل، وفي التوجه والاختلاف فيه.
وقوله: " دبر كل صلاة ": أي: في آخرها وإثر فراغها، وحكى أبو عمر في اليواقيت: دَبْر كل شيء - بفتح الدال -: آخر أوقات الشيء، الصلاة وغيرها، قال: وهذا(3) المعروف في اللغة، قال: وأما الجارحة فبالضم، وقال الداودي(4) عن ابن الأعرابى: دبر كل شيء ودبره بالوجهين: آخر أوقات الشيء، والدبار جمعه، ودابر الشيء آخره أيضًا.
__________
(1) في (ح) و(ط):" عن ".
(2) في (ح):" هكذا ".
(3) في (ط):" هو ".
(4) في (ط):" الهروي ".(3/108)
قال الإمام: وخرج مسلم في باب ما يقال بين التكبير والقراءة: حدثت(1) عن يحيى بن حسان ويونس المؤدب وغيرهما قالوا: ثنا عبدالواحد عن عمارة، الحديث. هذا حديث مقطوع من الأحاديث الأربعة عشر المقطوعة في هذا الكتاب.
قال القاضي: وذكر مسلم حديث أنس:" أن رجلا جاء فدخل في(2) الصف وقد حفزه النفس، فقال: الحمد لله حمدًا كثيرًا(3) طيبًا مباركًا فيه " الحديث، فيه فضل هذا القول، وهو بعد قوله:" ربنا ولك الحمد "، كذا جاء مفسرًا في حديث آخر في "الموطأ"، و"البخاري"، وترجم عليه: فضل: اللهم ربنا ولك الحمد، وذكر:" بضعة وثلاثين ملكًا " مكان "اثني عشر ملكًا "، في كتاب مسلم":" يبتدرونها أيهم يرفعها "، وعند مالك والبخارى: " أيهم يكتبها أولاً "، وترجم عليه في حاشية "كتاب مسلم" على ظاهر الحديث: فضل الذكر حين دخول(4) الصلاة، والتراجم ليست من عمل مسلم ولا هي في كل النسخ، وما روي عن مالك من كراهية هذا القول المذكور في الحديث فسبيل(5)" أن تجعل سنة، أو من أذكار الصلاة المشروعة، وفيه أن غير الحفظة قد تكتب أعمال العباد وطاعاتهم وترفعها وتتنافس في ذلك وترغب فيه.
وقوله:" حفزه النفس "، أي: كده لسرعة(6) سيره لدرك الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله:" فارم القوم "، بفتح الراء وتشديد الميم، أي: سكتوا، مأخوذة من المرمة(7)، وهى الشفة، أي: أطبقوها، وقيل: وقد رواه بعضهم أيضًا في غير "الأم":" فأزم القوم " بالزاى مفتوحة، وميم مخففة، بمعنى الأول، أي: سكتوا وأمسكوا عن الكلام، مأخوذ من الأزم، وهو بمعناه(8)، أي(9): أمسكوا عن الكلام، وأصله شد الأسنان بعضها على بعض.
__________
(1) في (ح):" حدثنا ".
(2) قوله:" في " ليس في (أ).
(3) في (أ):" كبيرًا ".
(4) في (ط):" دخل ".
(5) في (ح) و(ط):" فبسبيل ".
(6) في (أ):" أسرعه ".
(7) في (ط):" الرمة ".
(8) في (ح) و(ط):" بمعنى ".
(9) قوله:" أي " ليس في (ح).(3/109)
وقوله:" الله أكبر كبيرًا " قيل: هو على إضمار فعل، أي: كبّرت كبيرًا، وقيل: على القطع، وقيل: على التمييز.
وقوله:« إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون »، الحديث: أمر بأخذ الوقار والسكينة في السير إلى الصلاة ؛ لأن الماشي إليها عامل بعض ما يتوصل إليها به، فهو في عملها وطاعتها وانتظار عملها فهو كمن هو في صلاة، كما جاء في الحديث:« فإن أحدكم في صلاة ماكان يعمد إلى الصلاة »، فيجب أن يلتزم حينئذ ما يلتزمه المصلي، وهذا مذهب مالك واختياره، وفسّر قوله تعالى:{ فاسعوا إلى ذكر الله } بالمشى والعمل لا بالجري والاشتداد، وأيضًا فإنه إذا اشتد وجرى دخل في الصلاة مبهورًا، فلم يتمكن من قراءة ولاخشوع. وقد رخص جماعة من السلف في الهرولة والإسراع إليها إذا خاف فوتها، وروى عن ابن عمر، واختلف عن ابن مسعود في ذلك، وقال إسحاق: يسرع إذا خاف فواتها الركعه، وروي عن مالك نحوه، وقال: لا بأس لمن كان على فرس أن يحرك الفرس، وتأوّله بعضهم على الفرق بين الراكب والماشي ؛ لأن الراكب لا يبهر كبهر الراجل.
والقول الأول أظهر ؛ لظاهر الحديث ولقوله:« وعليكم السكينه »، وذكر الوقار والسكينة هنا وهما بمعنى، قيل: على طريق التأكيد، وهو من التسمت(1) والسكون والاستقرار والتثاقل عن الخفة والعجلة.
__________
(1) في (ط):" السمت ".(3/110)
وقوله:« فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا »، قوله هذا، وقوله في الحديث الآخر:« فصل ما أدركت واقض ما سبقك »، اختلف العلماء، هل ما أدرك أول صلاته لقوله:« وما فاتكم فأتموا »، وهو قول جمهور العلماء والسلف، أو ما أدرك آخر صلاته لقوله:« واقض ما سبقك »، وهو قول جماعة من السلف وأبى حنيفة، وكلا القولين عن مالك - رحمه الله - وكبراء أصحابه، ثم القائلون بأن ما أدرك أول صلاته جمهورهم على أنه لا يخالف فيها الإمام في قراءة ولا عمل لكنها أوّل صلاته وابتداؤها حقيقة، ثم يتم ما فاته منها على نحو ما فاته، ومما أدرك تكبيرة الإحرام، ولا تكون إلا في أول الصلاة، ويسلم بعد القضاء وهو في آخر الصلاة، وذهب بعضهم إلى قراءته لنفسه ورآه فيما أدرك بما كان يقرأ في أول صلاته، ويتمها بعد سلام الإمام على أنها آخر صلاته، يقرأ بأم القرآن فقط على معنى قوله: " فأتموا "، وإلى هذا ذهب إسحاق والمزني وأهل الظاهر، ومعنى " اقضوا " عند هؤلاء وأتموا واحد، فالعرب تستعمل القضاء على غير معنى إعادة ما مضى، قال الله تعالى:{ فقضاهن سبع سموات }، أي: صنعهن وأوجدهن، وقالوا: قضى فلان حق فلان، وقال الله:{ فإذا قضيت الصلاة }.
وقوله:« وما فاتكم » دليل على جواز قول: فاتتنا الصلاة خلاف ما كره ابن سيرين من ذلك، وأنه إنما يقول:لم ندركها. قال مسلم في الباب: ثنا إسحاق بن منصور، نا محمد بن المبارك الصوري، قال(1): ثنا معاوية بن سلام، عن يحيى بن أبي كثير،[ أخبرني عبدالله بن أبي قتادة، وذكر الحديث، ثم قال: ونا أبو بكر بن أبي شيبة، نا معاوية بن هشام، نا شيبان، بهذا الإسناد، ولم يزد. قيل: يريد والله أعلم: عن يحيى بن أبي كثير](2) بسنده المتقدم ؛ لأن شيبان من طبقة معاوية بن سلام.
__________
(1) قوله:" قال " ليس في (ح) و(ط).
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).(3/111)
وقوله في حديث أبي قتادة:« إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني»، قيل ذلك ؟ لئلا يطرأ عليه عارض يمسكه عن الإسراع للخروج فيشق على الناس انتظاره قيامًا، وفيه جواز إقامة والإمام في منزله إذا كان يسمعها، قيل(1): وفيه أن القيام للصلاة لا يلزم بالإقامة، أو قوله: قد قامت الصلاة أو حى على الفلاح، على ما نذكره(2) من اختلاف العلماء، وإنما يلزم بخروج الإمام.
__________
(1) قوله:" قيل " ليس في (ح) و(ط).
(2) في (ط):" ذكر ".(3/112)
وفي الحديث الآخر عن بلال:" أنه كان لا يقيم حتى يخرج النبي - عليه السلام - فإذا خرج أقام حين يراه "، وفي حديث أبي هريرة:" أقيمت الصلاة فقمنا فعذلنا الصفوف قبل أن يخرج إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام مقامه، وفي حديثه(1) الآخر:" كانت تقام الصلاة فيأخذ الناس مصافهم قبل أن يقوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقامه "، يجمع بين مختلف هذه الأحاديث بأن بلالاً كان يراقب خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حيث لا يراه غيره أو إلا القليل، فلأول خروجه أقام هو: ثم لا يقوم الناس حتى يظهر للناس ويروه، ثم لا يقوم مقامه حتى يعتدلوا(2) صفوفهم، وأن الرواية الأخرى عن أبي هريرة: "وأخذ الناس مصافهم قبل خروجه "، كانت مرة أو لعذر، ولعل نهيه في حديث أبي قتادة كان بعدها بدليل طول انتظارهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها وللأمر الذي شغله عنهم، وقد اختلف السلف والعلماء متى يقوم الناس في الصلاة ومتى يكبّر الإمام ؟ فمذهب مالك وجمهور العلماء أنه ليس لقيام الناس حد عند الإقامة لكن استحب عامتهم قيامهم إذا أخذ المؤذن(3) في الإقامة، وروي عن أنس أنه كان يقوم إذا قال المؤذن:" قد قامت الصلاة "، وذهب الكوفيون إلى أنهم يقومون في الصف إذا قال: "حي على الفلاح "، فإذا قال:" قد قامت الصلاة " كبر الإمام فإن لم يكن معهم كره لهم القيام في الصف وهو غائب، ووافق الشافعي وأصحاب الحديث في هذا الموضع إذا لم يحضر الإمام، وحكي عن سعيد ابن المسيب: أنه(4) إذا قال المؤذن:" الله اكبر"، وجب القيام، فإذا قال: "حى على الصلاة " اعتدلت الصفوف، فإذا قال:"لا إله إلا الله " كبر الإمام، ونحوه عن عمر بن عبد العزيز ومذهب عامة أئمة المسلمين لا يكبر حتى يفرغ المؤذن من
__________
(1) في (ح):" الحديث ".
(2) في (ط):" يعدلوا ".
(3) في (ح):" المؤذنون ".
(4) قوله:" أنه " ليس في (أ) و(ط).(3/113)
الإقامة.
وقوله:" كان بلال يؤذن إذا دحضت(1)، ولا يقيم حتى يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - "، أي: إذا زالت، قال الهروي: وذلك إذا انحطت للغروب.
قال القاضي: يعني - والله أعلم - في هذا الحديث، وإلا فقد جاءت بمعنى الزوال نفسه بعد هذا مفسرًا بقوله:" كان يصلى الظهر إذا دحضت الشمس "، وجاء هذا الحديث الأول غير معين، فهو محتمل للصلاتين، فمن يجعله المغرب فكأن معناها هنا غربت، وأصله الزلق وهو الدحض، شبه سرعة انحدارها للغروب بالزلق.
وقوله: ينطف رأسه ماء: أي: يقطر، والنطفة: القطرة من الماء.
__________
(1) في (ح):" دحضت الشمس ".(3/114)
وقوله: أشار إلينا مكانكم(1) فلم نزل ننتظره قياما حتى خرج إلينا(2)، وقد اغتسل ينطف رأسه ماء (3)، فكبر فصلى بنا، بين(4) في هذه الرواية أن انتظارهم له كان وهم قيام في مصافهم ولم يذكر أنه أعاد الإقامة، ولعل هذا لقرب رجوعه وسرعة ظهوره بدليل قوله لهم: " مكانكم "، وبقائهم قياما، وبهذا قال مالك: إن من انصرف من صلاته أو قطعها لعذر أنه إن كان لم يطل فإنه يعود إليها بالإقامة الأولى، وإن كان(5) قد طالت صلاته أو عمله فيبتدأ(6) إقامة أخرى. وتأول بعض المشايخ على قوله في المدونة في المصلى بثوب نجس يقطع الصلاة(7) ويستأنفها(8) بإقامة جديدة، وكذلك قوله في القهقهة في الصلاة يقطع ويستأنف ويعيد الإقامة: أن مذهبه متى كان قاطعا لصلاته لأمر أوجبه أن يعيد الإقامة في القرب والبعد ؛ إذ الإقامة المتقدمة لصلاة قد قطعها بخلاف إذا طرأ له العذر قبل دخوله في الصلاة أو أخر الدخول فيها فهذا تجزيه إقامته بالقرب ؛ لأنه لذلك العمل أقام، ولم يفرق غيره بين الوجهين، وتأول المسألتين أنه أطال الصلاة وبعد من الإقامة الأولى.
__________
(1) في (ط):" وقوله: فانصرف وقال لنا مكانكم ".
(2) قوله:" إلينا " ليس في (أ).
(3) قوله:" ينطف رأسه ماء " ليس في (أ) و(ح).
(4) في (ح):" فبين ".
(5) في (ح):" كانت ".
(6) في (ح):" فإنه يبتدأ ".
(7) قوله:" الصلاة " ليس في (ح).
(8) في (ح):" يستأنف ".(3/115)
وقوله في الحديث:" قبل أن يكبّر "، دليل بين أنه لم يكن دخل في الصلاة، وفي البخاري:" وانتظرنا تكبيره "، وقد ذكر أبو داود الحديث. وفيه أنه كان دخل في الصلاة فأومأ بيده أن مكانكم، واستدل منه على جواز صلاة من صلى خلف الجنب، ويجب أن يجمع بين الأحاديث، وأن معنى دخوله في الصلاة، أي: للصلاة، كما قال في الرواية الأخرى في "الأم": "حتى إذا قام في مصلاه "، و "قام مقامه " في الأخرى، ثم بين وفسر بقوله: " قبل أن يكبر "، فأثبت وزاد ما أغفله غيره ونسيه أو ترك بيانه، وقد يحتج به من يرى أن إقامة أهل المسجد تجزئ لكل من يصلى فيه بعده، وهو قول الحسن وأبى حنيفة.
وقوله:" من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة "، لاخلاف أن اللفظ ليس على ظاهره، وأن هذه الركعة تجزيه من الصلاة دون غيرها، وإنما ذلك راجع إلى حكم الصلاة، فقيل: معناه: فضل الجماعة، وهو ظاهر حديث أبي هريرة، هذا في رواية ابن وهب عن يونس عن الزهري وزيادته قوله:" مع الإمام "، وليس هذه الزيادة في حديث مالك عنه، ولا في حديث الأوزاعي وعبيد الله(1) بن عمر ومعمر، واختلف فيه عن يونس عنه، وعليه يدل إفراد مالك له في التبويب(2) في "الموطأ"، وقد رواه بعضهم عن مالك مفسرًا:" فقد أدرك الفضل "، ورواه أيضًا بعضهم عن ابن شهاب، وهذا الفضل لمن تمت له الركعة كما قال،وفي مضمونه أنه لا يحصل بكماله لمن لم تتحصل له الركعة، وقد روى عن أبي هريرة وغيره من السلف أنه وإن انتهى إلى القوم وهم قعود في صلاتهم أنه يدخل في التضعيف، وكذلك إن وجدهم سلموا، ولا يصح أن أجر من أدرك جميع الصلاة كأجر من لم يدرك منها إلا بعضها ؛ لقوله:« ومن فاته أم القرآن فقد فاته خير كثير »، لكن تضعيف الأجر حاصل له بفضل الله وفاته خير كثير، وكذلك يكون معنى ما ذهب إليه السلف فيمن لم يدرك ركعة أن له بنيته أجرًا من التضعيف والسعى إليه، والله أعلم.
__________
(1) في (ط):" عبدالله ".
(2) في (ط):" له بالتبويب ".(3/116)
وذهب داود وأصحابه في آخرين أن الحديث في إدراك الوقت، فجعلوه بمعنى الحديث الآخر: " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، وهما حديثان في سنتين(1) لهما حكمان،وفيهما دليل على أن من لم يدرك ركعة فليس بمدرك لفضل تلك الصلاة ولا حكمها، مما لزم إمامه من سجود سهو، أو انتقال فرضه من اثنتين إلى أربع في الجمعة أو(2) انتقاله إلى حكم نفسه إن اختلف حالهما من السفر والإقامة، وهذا قول مالك والشافعي في أحد قوليه، وعامة فقهاء الفتيا وأئمة الحديث، وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف وأصحابهما والشافعي أيضًا(3) أنه بالإحرام يكون مدركًا لحكم الصلاة واتفق هؤلاء على إدراكهم العصر بتكبيرة(4) قبل غروب الشمس.
__________
(1) في (ح) إشارة إلحاق ولم يتضح.
(2) في (ح):" و ".
(3) في (ح):" أيضًا في القول".
(4) في (ح):" بتكبيرة الإحرام ".(3/117)
واختلفوا في الظهر، فعند الشافعي في أحد قوليه: هو مدرك بالتكبيرة لهما لاشتراكهما في الوقت، وعنه أنه بتمام القامة للظهر يكون قاضيا لها بعد، وهذا الإدراك يكون لمعنيين: أحدهما:أن يكون لمن أخر الصلاة فهو مدرك للأداء بإدراك ركعة، وليس يكون قاضيا بصلاته بعضها بعد وقتها كمدرك ركعة من صلاة الإمام، فله في جميعها حكم الإمام. ولا يدل هذا على إباحته للتأخير إلى هذا الحد، بدليل النهي عن تأخير الصلاة إلى هذا الوقت، ووصفها بصلاة المنافقين، وقد يحمل الحديث على من كان بصفة المكلفين في هذا الحين فأدركه وجوب الصلاة،أو حكم من أحكامها في هذا الوقت، فهو مدرك له، وهذا قول مالك وأصحابه في معنى الحديث، وهو(1) الذين عبروا عنهم بأصحاب الأعذار، وذلك الكافر يسلم، والصغير يبلغ، والحائض تطهر، والمغمى عليه يفيق، والمسافر يقدم أويرحل. وهذه الركعة التي يكون بها مدركًا للأداء. والوجوب(2) في الوقت هو قدر ما يكبر فيه للإحرام وقراءة أم القرآن بقراءة معتدلة، ويركع ويرفع ويسجد سجدتين ويفصل بينهما، ويطمئن في كل ذلك، على من أوجب الطمأنينة، فهذا أول(3) ما يكون به مدركًا، وعلى قول(4) من لا يوجب أم القرآن في كل ركعة تكفيه تكبيرة الإحرام والوقوف لها، وأشهب لا يراعي إدراك السجود بعد الركعة أخذًا بظاهر الحديث، وأما الركعة، التي يدرك بها فضيلة الجماعة فأن يكبر لإحرامه قائما ثم يركع، ويمكن يديه من ركبتيه قبل رفع الإمام رأسه. هذا مذهب مالك وأصحابه، وجمهور الفقهاء من أهل الحديث والرأى، وجماعة من الصحابة والسلف. وروى عن أبي هريرة أنه لا يعتد بالركعة ما لم يدرك الإمام قائما قبل أن يركعها معه، وروى نحوه(5) عن أشهب من أصحابنا، وروى عن جماعة من السلف أنه متى أحرم والإمام راكع أجزأه،
__________
(1) في (أ):" وهم ".
(2) في (ح) و(ط):" أو الوجوب ".
(3) في (ح) و(ط):" أقل ".
(4) قوله:" قول " ليس في (أ) و(ط).
(5) في (ط):" معناه ".(3/118)
وإن لم يدرك الركوع وركع بعد الإمام كالناعس،واعتد بالركعة، وقيل: يجزئه وإن رفع الإمام ما لم يرفع الناس، وقيل: يجزئه إن أحرم قبل سجود الإمام.
وقوله:" من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر"، حجة بينة للجماعة في تسوية الصلاتين، وأن من أدرك منها ركعة فطلعت عليه الشمس أو غربت، فصلى بقية صلاته، كان(1) مدركًا لأدائها أو حكمها، خلافا لقول أبي حنيفة في تفريقه بين الصبح والعصر، فجعله يتم في العصر؛ لأنه دخل عليه وقت تجوز فيه الصلاة، ولا يتم في الصبح لأنه دخل عليه وقت تمنع فيه الصلاة ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة فيه، فيفسد عليه عنده الصبح إذا صلى منها ركعة، ثم يصليها بعد ارتفاع الشمس، وعند الجماعة أنه يصلى عند الطلوع والغروب كل فرض ذكره من صلاته، ومنع من الصلاة حينئذ جملة إلا عصر يومه فقط، وقد جاء في الأم من رواية الليث: "أن عمر أخر الصلاة شيئًا ". قال ابن أبي صفرة: فهذا يدل أنه إنما أخرها عن الوقت المستحب، ويدل أيضًا من قوله في الرواية المعروفة:" يومًا "، أنه كان نادرا من فعله ولم تكن عادته.
وقوله: " من أدرك من العصر(2) سجدة "، في حديث حرملة، فسره في "الأم" بأنها الركعة، وذلك أنه قد يعبر بكل واحد منهما عن الآخر، واحتج بهذا الحنفي والشافعي في أحد قوليه في أن مدرك تكبيرة الإحرام مدرك، وأن تعبيره مرة بالسجدة، ومرة بالركعة عبارة عن بعض الصلاة وإدراك شيء منها، وأنه لم يرد بالسجدة الركعة على ظاهره، ولا أراد بالركعة الحد أنه لا يجزئ ما هو أقل منها لذكره السجود.
أحاديث الأوقات
__________
(1) في (ط):" وكان ".
(2) في (ح) و(ط):" المغرب ".(3/119)
قال الإمام: قوله في حديث بشير بن مسعود:" أما علمت أن جبريل نزل فصلى "، الحديث ليس هذا بحجة مستقلة، إذا لم يسم له في أي: وقت صلى به جبريل - عليه السلام -، والمفهوم منه أنه إنما أحاله على أمر علمه عمر، فبهذا(1) يكون حجة عليه.
وقوله:" فنزل فصلى، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ": إذا اتبع فيه حقيقة اللفظ أعطى أن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت بعد فراغ صلاة جبريل، لكن(2) مفهوم هذا الحديث والمنصوص في غيره: أن جبريل أمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيحمل قوله:" صلى فصلى رسول الله(3) - صلى الله عليه وسلم - " على أن جبريل كلما فعل جزءًا من الصلاة فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده، حتى تكاملت صلاتهما. واحتج بهذا الحديث من يقول بجواز صلاة المفترض خلف المتنفل، فقال: صلاة جبريل كانت نافلة واعتضدوا برواية من روى في حديث جبريل " بهذا أمرت " بالنصب، والجواب عن ذلك أن تقول: إن كنتم أخذتم ذلك من مقتضى الحديث لأجل إخباره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مأمور بذلك فلا حجة فيه ؟ إذ ليس في إخباره أنه أمر بذلك دليل على أن جبريل لم يؤمر بذلك، بل يصح أن يكون أمر أيضًا، وإن كنتم أخذتم ذلك من أن جبريل لا يكلف ما كلفناه من شريعتنا قيل: ولا يبعد أيضًا في جهة التنفل، فيكون في حقه نافلة، ويصح أن يقال أيضًا: إنما يتم ما احتججتم به إذا سلم لكم أن تلك الصلاة كانت واجبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلو قيل: إنما استقر عليه وجوبها بعد بيان جبريل له في اليومين جميعًا ولا تكون واجبة في حقه حين صلاها مع جبريل، لم يكن في الحديث تعلق في هذا، وأما رواية من روى: " بهذا(4) أمرت " بالرفع، فهى حجة على رأي(5) من يرى المأمور به هو
__________
(1) في (ط):" فهذا ".
(2) في (ح):" لكون ".
(3) قوله:" رسول الله " ليس في (ط).
(4) قوله:" بهذا " ليس في (ح).
(5) قوله:" رأي " ليس في (أ).(3/120)
الواجب ، فيقول: لا يخلو أن يكون جبريل أمر بتبليغ ذلك قولاً أو فعلا أو خُيِّر فيما شاء منهما، فلا يقال: إنه أمر أن يبلغ قولاً فخالف، إذ لا يليق به ذلك، فإذا كان أمر أن يبلغه فعلاً أو خيّر فاختار الفعل صار بيانه واجبًا، وكان المؤتم به ائتم بمن وجبت عليه الصلاة، وأما على رأى من يرى أن المأمور به ينطلق على غير الواجب، فيكون الجواب على ما قدّمناه قبل هذا.
قال القاضي: رقد استدل بهذا الحديث أيضًا على جواز صلاة المعلم بالمتعلم، وفي هذا الحديث دخول العلماء على الأمراء وقول الحق عندهم، وإنكار ما لا يجب فعله عليهم، وملاطفتهم في الإنكار، وهذا حكم إنكار المنكر، قال الله تعالى:{ فقولا له قولاً }؛ لأنه أقرب إلى القبول، وقد تقدم هذا في أول الكتاب، وفيه ما عرف من فعل السلف، في قبول خبر الواحد والعمل به في الديانات، وفيه الحجة بالمرسل عن الثقات لقول عروة في حديث الليث:" أما علمت أن جبريل نزل فصلى "، وأما في رواية مالك فأرسله عن أبي مسعود،ثم لما راجعه واستفهمه عنه عمر، وقال(1) له: اعلم ما تحدث به، حضًّا على(2) تثبيته فيه لا اتهاما له، قوّى حجته بإسناده الحديث وتسمية من حدثه به، فقال: كذلك كان بشير بن أبي مسعود يحدّث عن أبيه، ثم قواه بحديثه عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في نازلتهم لأنها كانت صلاة العصر، وأثبت(3) عليه الحجة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - التي لا تعارض باجتهاد، ولأن عمر لم يؤخر ولا المغيرة هذه الصلاة عمدًا، إذ كانا أجل من ذلك، ولا لضرورة ؛ إذ لم يعتذرا عنه، وإنما ظنا الجواز في ذلك وأنه وقتها، وأن التأخير إلى حينئذ غير ضيق، وإن ذلك لم يكن عادة لهما بقوله: أخر الصلاة يومًا "، وهذا إنما يورد في غير المعهود، وقد تفسر في الأحاديث أن الصلاة كانت في حديث عمر وحديث المغيرة صلاة العصر، وأنهما إنما خفى
__________
(1) في (ط):" عمرو قال ".
(2) في (ط):" عن ".
(3) في (أ):" أثبت ".(3/121)
على عمر على ظاهر الحديث نزول جبريل بتحديد الأوقات.
وقد قيل: يحتمل هذا التأخير أن يكون عن الوقت المستحب إلى آخر وقت الاختيار، فأنكر عليهما ذلك للجماعة التي سنتها إقامتها أوائل الأوقات، لا سيما من الأئمة المقتدى بهم، وقد يدل على هذا قوله في رواية الليث: "أخر العصر شيئًا "، وهذا يدل أنها لم تخرج عن وقت الاختيار [أو يكونا أخراها عن وقت الاختيار](1) جملة إما لظنهما أن الكل وقت اختيار، أو يكون ذلك مذهبهما، وهو مذهب إسحاق وداود وأهل الظاهر: أن وقت العصر، أن يدرك منها ركعة قبل الغروب لذى عذر أو(2) لذي رفاهية، أو يكون قد خفى عليهما السنة في ذلك كما خفى على غيرهما بعض السنن ؛ إذ الإحاطة على البشر ممتنعة، وان كان قول أبي مسعود الأنصاري للمغيرة: " أليس قد علمت أن جبريل "، الحديث يدل ظاهره على علم المغيرة بذلك، وقد يكون هذا على ظن أبي مسعود به ذلك، ولصحبة المغيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما صحبه، والاحتجاج عليهما بهذا الخبر إن كانا أخراها عن الوقت المختار بيّن، فإن كانا أخراها عن المستحب إلى آخر الوقت المختار فلما فيه من التغرير بفواتها، وخوف الوقوع في الوقت المحظور وبعد خروج وقتها، وحين صلاة المنافقين، ثم(3) ذكر مسلم في حديث جبريل هذا وصلاته بالنبى - صلى الله عليه وسلم -، وفيه يحسب بأصابعه خمس صلوات، وكذلك في أكثر الروايات عن ابن شهاب، وكذلك ظاهر حديث مالك في "الموطأ"، وليس فيه تكرار الصلوات في وقتين، وقد رويت في إمامة جبريل بالنبى - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى به عشر صلوات، كل صلاة في وقتين أوله وآخره من رواية أبي بكر بن حزم وابن جريج، عن ابن شهاب، عن عروة، ومن رواية ابن عباس، إلا أن أكثرهم يقول في المغرب: إنه صلاها لوقت واحد في اليومين.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(2) في (ط):" و ".
(3) قوله:" ثم " ليس في (ط).(3/122)
وقد احتج بعض الشيوخ على تصحيح رواية مالك ومن تابعه بأن صلاة جبريل كانت خمسًا في يوم واحد باحتجاج عروة على عمر وأبي مسعود على المغيرة بصلاة جبريل، ولو كان في وقتين لاحتجا عليهما بتأخيرها في اليوم الثانى وقد يرد على هذا بأن التأخير كان عن الوقت المختار على ما تأوله بعضهم وقد جاء من طريق ابن شهاب وغيره: أن الناس صلوا خلف النبي عليه الصلاة والسلام بصلاة جبريل، وفي مصنف أبي داود وغيره عن ابن عباس عنه - عليه السلام -:" أتانى جبريل فصلى بي عند البيت(1) مرتين "، وذكر حديث الوقتين.
وقوله:" كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر "، قال الإمام: فيه حجة على عمر ؛ لأن فيه دليلاً(2) على تعجيل العصر، وهى الصلاة التي وجده قد أخرها، وإنما كان فيه دليل على التعجيل من جهة أن الحجرة إذا كانت ضيقة أسرع ارتفاع الشمس منها ولم تكن موجودة فيها إلا والشمس مرتفعة في الأفق. كذا قال الهروي.
وقوله:" لم تظهر "، أي: لم تعلو السطح، ومنه قوله تعالى:{ ومعارج عليها يظهرون }، ومنه الحديث الآخر(3):« لا تزال طائفة من أمت ظاهرين على الحق(4)»، أي: عالين. قال الجعدى:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرًا
أي: وعلوا (5).
__________
(1) في (ح):" عند البيت ركعتين ".
(2) في (ح):" دليل ".
(3) قوله:" الآخر " ليس في (ح).
(4) في (ح):" من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين ".
(5) قوله:" أي وعلو " ليس في (ح)، وفي (ط):" أي علو ".(3/123)
قال القاضي: قيل: تظهر على الجدر، وقيل: يرتفع ظلها عن الحجرة، وقيل: تظهر بمعنى تزول عنها كما قيل(1): وتلك شكاة ظاهر عنك عارها وكله راجع إلى معنى وهو مفسر في "الأم" في قوله:" والشمس واقعة في حجرتى "، وفي رواية:" طالعة لم يظهر الفىء بعد "، وفي رواية:" لم ترتفع من حجرتها "، وفي "البخاري":" والشمس لم تخرج من حجرتها "، وكله بمعنى ما تقدم، قيل: إنها في صحن الحجرة لم تزل منها ولم يفئ فيؤلها ولا ارتفع في جدرها وعلى سقفها، وكل هذا إنما يتأتى في أول وقت العصر مع ضيق السّاحة وقصر البناء، وأما مع ارتفاعه أو سعته فيختلف. والحجرة الدار، وكل ما حجر وأحيط به البناء فهو حجرة، ذهب القاضي أبو عبدالله أن فيه دليلا على فضل الملائكة على بني آدم لإمامته بالنبى - عليه السلام - وليس بظاهر؛ لأن الله بعثه له هنا معلما.
قال: وفيه حجة أن قول الصاحب: أمرنا بكذا ونهينا عن كذا: أنه من المسند، لقول جبريل بهذا أمرت، وهذا أيضًا غير ظاهر في الحجة ؛ لأنه هنا لا آمر(2) لجبريل ولا لمحمد(3) بالصلاة إلا الله تعالى، وقول الصاحب: أمرنا ونهينا عن كذا يحتمل عوده على الخلفاء، أو على تأويله على كتاب(4) الله، أو على الرسول - عليه السلام - لكن كافة المحدثين وأكثر الأصوليين يحملونه محمل المسند، بظاهره أنه أمر الرسول، وجماعة من الأصوليين يأبون إسناده للاحتمال، ومحققو الأصوليين يميلون إلى هذا إلا أن تصحبه قرينة تدل على أن الآمر الرسول(5).
__________
(1) في (ح):" قال ".
(2) في (ح) و(ط):" يأمر ".
(3) في (أ):" محمد ".
(4) قوله:" كتاب " ليس في (أ)، وفي (ح):" كتب".
(5) في (ط):" للرسول ".(3/124)
وذكر مسلم أحاديث الوقتين من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص، وبريدة، وأبى موسى، ولاخلاف أن الوقت من فروض الصلاة وشروط صحتها، إلا شيئًا روي عن أبي موسى وبعض السلف، ولم يصح عنهم، ثم انعقد الإجماع على خلافه، ولا خلاف في أوائل أوقات الصلوات على ما تكرر عن جماعة المسلمين إلا في أول وقت العصر والعشاء الآخرة، فأبو حنيفة يقول: أول وقتها بعد القامتين بعد طرح ظل الزوال، وخالفه في ذلك الناس وأصحابه، وكذلك خالف في أول وقت العشاء الآخرة، مع اتفاقهم أنها بعد مغيب الشفق، لكن اختلفوا في الشفق فجمهورهم على أنه الحمرة، وأبو حنيفة والمزنى يقولان(1): هو البياض.
ثم اختلفوا في تحديد أواخر هذه الأوقات، فأما الصبح فجاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص من رواية بعضهم: " إذا صليتم الفجر فإنه وقت إلى أن يطلع قرن الشمس الأول "، ومن رواية غيره: " ما لم تطلع الشمس "، وفي حديث أبي موسى في الوقتين:" أنه صلاها في اليوم الثاني"، والقائل يقول: " قد طلعت الشمس أو كادت"، وفي حديث بريدة:" فاسفر بها "، وفي الرواية الأخرى(2):" فنور"، وفي "الموطأ": " بعد ما أسفر "، وهو مثل قوله: فاسفر(3)، مأخوذ من النور،وكافة(4) العلماء وأئمة الفتوى أن آخر وقتها طلوع الشمس، هو مشهور قول مالك، وروى ابن القاسم وابن عبد الحكم عنه أن آخر وقتها الإسفار، وقال مثله الإصطخرى من أصحاب أبي حنيفة، وتأويل ما وقع لأصحابنا في ذلك أنه آخر وقت الاختيار وما بعده إلى طلوع الشمس وقت ضرورة، وقد ذكر أن لمالك قولين في هل لها وقت ضرورة أم لا ؟ واختلفت أجوبته في مسائله(5) على هذا الأصل.
__________
(1) في (ط):" يقول، وفي (ح):" يقولا ".
(2) في (ح):" الأخرى يقول ".
(3) في (ح):" فأسفر بها ".
(4) في (ح) و(ط):" فكاغة ".
(5) في (ح):" مسائل ".(3/125)
قال الإمام: قوله:" إذا صليتم الفجر فإنه وقت إلى أن يطلع قرن الشمس الأول " حجة على الإصطخري في قوله: آخر وقتها الإسفار البين، وقوله: " قرن الشمس الأول "، أي: طرفها الذي هو أول ما يبدو منها، ولم يقيده بالأول إلا لئلا يظن السامع أنه يريد آخر ما يطلع منها، وللإصطخري ما وقع في حديث الوقتين أنه صلى في اليوم الثاني(1) عند آخر الإسفار، وقال:« ما بين هذين وقت ».
قال القاضي: قوله:" عند آخر الإسفار "، أتى به - رحمه الله - على المعنى وليس في لفظ الحديث، وإنما لفظه كما تقدم، ولا حجة فيه للإصطخري ؛ لأن الصلاة إذا كانت بعد الإسفار البين أو بعد آخره فليس وراءه إلا طلوع الشمس، ولأن قوله:« ما بين هذين وقت »: يعني بين صلاته في الإسفار إلى صلاته أول طلوع الفجر، فجاء الإسفار من جملة وقت الصلاة وداخل فيها، وأما آخر صلاة(2) الظهر فقال في "الأم" في حديث عبدالله ابن عمرو(3):« ما لم تحضر العصر »، وقال في حديث بريدة في صلاته بها اليوم الثاني:" فأبرد بها(4)"، وفي حديث أبي موسى:" أخر الظهر حتى كان قريبًا من وقت العصر بالأمس"، وفي حديث جبريل في رواية من ذكر فيه الوقتين الذي لم يذكره مسلم: " ثم أتاه حين كان ظل كل شيء مثله من الغد، فقال: يا محمد، صل الظهر "، وأما آخر صلاة العصر ففى حديث عبد الله بن عمرو(1) في "الأم": " إلى أن تصفر الشمس ويسقط قرنها الأول "، وفي حديث بريدة في الوقتين:" أنه صلاها في اليوم الثاني والشمس مرتفعة "، وفي الرواية الأخرى:" بيضاء نقية لم تخالطها صفرة "، وفي حديث أبي موسى:" وانصرف منها والقائل يقول: قد احمرت الشمس "، ومثله في حديث جبريل، وفي الأحاديث الأخر:« من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها»، وقوله في الحديث الآخر:« فأمسك عن الصلاة، فإنها تطلع بين قرني
__________
(1) في (أ):" التالي ".
(2) في (ح):" وقت صلاة ".
(3) في (ح):" عمرو بن العاص ".
(4) في (ط):" فيها ".(3/126)
شيطان »، قد يحتج به أبو حنيفة وأهل الرأي في منعه الصلاة حينئذ بكل وجه من فرض ونفل، ونقول: إنه لو طلعت الشمس وقد صلى ركعة من الصبح فسدت عليه بخلاف قول كافة المسلمين. قدمنا الكلام عليه قبل(1)، ومحموله قوله: أمسك عما لا يحق عليك صلاته، بنص قوله:« من نام عن صلاة أو نسيها »، لم يخرج الحديث فبناء الحديثين عندنا على هذا الوجه، وعند كافه العلماء أولى من إطراح أحدها، ويأتى الكلام على هذا في حديث الوادى أيضًا، ومعنى قوله:« بين قرنى الشيطان» بعد هذا.
قال الإمام: وأما الظهر فقد اختلفت الأحاديث في آخر وقتها. ففى حديث:القامة، وفي حديث آخر:" مالم يحضر وقت العصر"، ووجه البناء أن نقول: قوله - صلى الله عليه وسلم - عند القامة محمول على أن آخر الصلاة تنقضى بانقضاء القامة، فيكون هذا موافقا لقوله: "مالم يحضر وقت العصر "؛ لأن مبتدأ العصر في أول القامة الثانية، وهذا البناء يضعف أحد القولين أن آخر القامة وقت الظهر والعصر معا، وأما الأحاديث المتعارضة في آخر وقت العصر فيدخل البناء فيها في موضعين: أحدهما: بناء قوله: " القامتين مع الاصفرار، فيقال: يحتمل أن يكون تحديده للقامتين في حديث هو الاصفرار الذي حد به في حديث آخر، فذكر الاصفرار مرة لأنه علم باد للعيان، تعرفه الخاصة والعامة، وذكر القامتين أيضًا ليكون علامة لمن يعلم ذلك ممن ينظر في الإظلال والموضع الثانى الذي يحتاج إلى البناء: قوله في بعض الأحاديث: «آخر وقت العصر الاصفرار »، وفي بعضها:« آخر وقتها الغروب »، ويتجه في البناء طريقان: أحدهما على طريقة من يقول بالتأثيم في تأخيرها إلى بعد الاصفرار فيكون صفة البناء أن يقال: قوله:" إلى الاصفرار " في حق من لا عذر له، ويكون آثما في التأخير بعد ذلك.
__________
(1) قوله:" قبل " ليس في (أ) و(ح).(3/127)
وقوله: " إلى الغروب " في حق أصحاب الضرورات والأعذار والإجزاء(1) على طريقة من لايقول بالتأثيم، ويرى أن الخطاب يعم أصحاب الضرورات وغيرهم، ويكون صفة البناء أن يحمل قوله: " إلى الاصفرار " على آخر الوقت المستحب، وقوله: " إلى الغروب(2)" آخر وقت الوجوب. ويكون ما بين الاصفرار والغروب وقت كراهة.
قال الإمام: ولو قال قائل: مقتضى الأحاديث أن الظهر لاحظ لها في القامة الثانية وأن التأثيم يتعلق بتأخيرها بعد القامة إلا أن يمنع من ذلك دليل فيصار إليه ؛ لأن الأحاديث الواردة في وقتها ليس فيها دليل على أن لها بعد القامة وقتا، ولم يعارض هذه الأحاديث بشيء(3) سوى ما وقع(4) في بعض أحاديث الجمع بين الصلاتين، ويحمل ذلك على أنه كان لضرورة، وإنما كلامنا على غير وقت الضرورة،[ ولو كان على وقت الضرورة](5) لكان للنظر في قوله مجال. وأما العصر فلو قال قائل أيضًا في بناء أحاديثها بعد(6) قوله:" الاصفرار "، هو كقوله:" إلى الغروب " في حديث آخر، وأراد الاصفرار المقارب للغروب وحد به حماية للذريعة لئلا يوقعها بعد الغروب، فيستظهر بإمساك جزء من النهار(7) قبل الغروب، كما يفعل الصائم في استظهاره(8) بإمساك جزء من الليل قبل الفجر، وإن كان الأكل يباح له: في الحقيقة إلى الفجر، إلا أنه لا يقدر على تحصيل ذلك إلا بإمساك جزء من الليل. ويؤيد هذا البناء قوله في الحديث في كتاب مسلم:« وقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس ويسقط قرنها الأول »، فقد جمع بين الاصفرار والمغيب لكان لذلك في النظر مجال أيضًا، لكن يقدح في هذا البناء حديث القامتين، فإن الظاهر أن ذلك بعيد عن الغروب.
__________
(1) في (ح):"الآخر "، وفي (ط):" الأخرى ".
(2) في (ح) و(ط):" على ".
(3) في (ط):" شيء ".
(4) في (أ):" سواها ووقع ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).
(6) في (ح):" لعل ".
(7) قوله:" من النهار " ليس في (أ) و(ط).
(8) في (ح):" باستظهاره ".(3/128)
والأحاديث الواردة في آخر وقت المغرب يحمل اختلافها على تأكيد الفضل في التعجيل على التأخير، وإن كان الكل وقت فضيلة على هذه الطريقة، ولكن أفضله أوله، وأما أحاديث العتمة فإنما وقع فيها ثلث الليل ونصف الليل، فيبين(1) على أنه متقارب في الفضل، والذي وقع فيه:" إلى الفجر "، يحمل على أنه آخر وقت الوجوب.
قال القاضي: يحسب ألفاظ هذه الأحاديث في الظهر والعصر، اختلف العلماء والمذهب، فمشهور قول مالك، ومذهبه: أن آخر وقت الظهر تمام القامة، وهو أول وقت العصر بلا فضل، وأن تمام القامة وقت لهما جميعا، وهو قول ابن المبارك وإسحاق في آخريين، وحجتهم قوله في حديث جبريل: إنه " صلى به في(2) اليوم الثانى(3) في الظهر حين صار ظل كل شيء مثله"، وفي رواية:" في الوقت الذي صلى فيه العصر بالأمس(4)"، ونحوه في حديث جابر، وذكر في صلاته به في اليوم التاني، العصر مثله،[ ويكون معنى ذلك على هذا الرأي: أن(5) انتهاء صلاة الظهر في اليوم الثانى فيه كان ابتداء صلاة(6) العصر في اليوم الأول ](7)، وقال الشافعي وأبو ثور وداود مثله، إلا أن بين وقت الظهر والعصر فاصلة وهى زيادة الظل أدنى شيء على القامة ونحو هذا قول فقهاء أصحاب الحديث أحمد واسحاق والطبري، وقاله محمد بن الحسن وأبو يوسف، ونحوه قول ابن حبيب من أصحابنا ومحمد بن المواز، وأنه لا مشاركة بين الصلاتين، وأن بتمام القامة وانتهائها خرج(8) وقت الظهر ثم دخل وقت العصر، وحكاه الخطابي عن مالك وابن المبارك(9)، لكن لا يشترط
__________
(1) في (ح):" ينبني "، وفي (ط):" فبقى ".
(2) قوله:" في " ليس في (أ).
(3) في (ح) و(ط):" الأول ".
(4) في (ح):" صلى به العصر بالأمس فيه ".
(5) في (ح):" أن حين ".
(6) قوله:" صلاة " ليس في (ح).
(7) مابين المعكوفين ليس في (.....)، ويبدو أن هناك تكرار أو تقديم وتأخير:...تراجع النسخ
(8) في (ح) و(ط):" خروج ".
(9) قوله:" وابن المبارك " ليس في (ح).(3/129)
أصحابنا فاصلا بينهما كما شرطه غيرهم،[ ويكون معنى حديث صلاة جبريل عند هؤلاء: أن انتهاء صلاة الظهر في اليوم الأول كان ابتداء صلاة(1) العصر في اليوم(2) الثاني، وقد تأول قول ابن حبيب على غير هذا بعض شيوخنا ](3)، وقال أبو حنيفة: آخر وقت الظهر القامتان، وهو أول وقت العصر، وحكى عنه آخر وقت [الظهر القامة ثم لا يدخل وقت](4) العصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه، وهذا الوقت بينهما لا يصلح(5) لأحدهما، حكاه عنه الطحاوي، وحكى عن الشافعي أيضًا، وكلا القولين لا أصل له، منكر عند العلماء وعند أصحابهما(6)، ذهب أشهب من أصحابنا إلى أن مقدار إيقاع الصلاة بعد القامة وقت لهما [ جميعًا، هذا قوله في مدونته](7). وقد يحتج بظاهر حديث جبريل المتقدم أيضًا(8)؛ لقوله: " صلى الظهر في الوقت الذي صلى فيه العصر بالأمس "، واختلف قول مالك في آخر وقت العصر المختار، أهو القامتان أم الاصفرار ؟ وبالاصفرار قال جمهور أئمة الفتوى، وآخر وقت الظهر والعصر عنده لأهل الضرورات غروب الشمس. وقال إسحاق وداود: آخر وقتها إدراك ركعة منها على ظاهر الحديث لكل معذور وذى رفاهية. وأما آخر وقت المغرب فقد ذكر في أحاديث الوقتين كلها أنه صلاها في اليوم الثاني في غير الوقت الأول. ففي(9) حديث بريدة: أنه صلاها قبل أن يغيب الشفق، وفي حديث أبي موسى عند سقوط الشفق، وفي الرواية الأخرى: قبل أن يغيب الشفق، وفي حديث عبد الله بن عمرو: " وقتها(10) إلى أن يسقط الشفق "، وجاء(11) في حديث جبريل: "صلى به(12)
__________
(1) في (ط):" صلاته ".
(2) قوله:" اليوم " ليس في (ط).
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(4) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(5) في (ح):" يصح ".
(6) في (ط):" أصحابنا ".
(7) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(8) قوله:" أيضًا " ليس في (أ) و(ح).
(9) في (أ):" وفي ".
(10) في (ط):" وفيها ".
(11) قوله:" جاء " ليس في (ح).
(12) في (ط):" صلاته " بدل:" صلى به ".(3/130)
إياها في اليومين حين غابت الشمس "، وبحسب هذا ما اختلف العلماء والمذهب: هل لها وقت واحد، وهو قدر إيقاعها عند مغيب الشمس، وهو مشهور قول مالك والشافعي والأوزاعي وعمل الأمة في أقطار الأرض، ومثابرتهم على صلاتها حينئذ دون تأخير. وقيل: لها وقت اختيار ممتد إلى مغيب الشفق، وهو مذهب مالك في "الموطأ"، وأحد قولي الشافعي والثوري وأصحاب الرأي وفقهاء أصحاب الحديث على الاختلاف في الشفق ما هو، هل(1) البياض ؟ أو(2) الحمرة ؟ كما قدمناه ونذكره.
وأما آخر وقت العشاء الآخرة، ففي حديث عمرو بن العاص:" وقتها(3) إلى نصف الليل الأوسط "، وفي حديث بريدة(4):" أنه صلى في اليوم الثانى بعد ما ذهب - وفي رواية عنه - عندما ذهب ثلث الليل "، ومثله في حديث أبي موسى: " حتى(5) كان ثلث الليل الأول(6)"، وفي حديث جبريل:" حين ذهبت ساعة من الليل "، وفي رواية ابن عباس:" إلى ثلث الليل "، وفي حديث أبي برزة بعد هذا:" إلى نصف الليل أو ثلثه "، وقال مرة:" إلى نصف الليل "، ومرة: " إلى ثلث الليل "، وفي حديث أنس(7) بعد هذا:" شطره "، وفي حديث ابن عمر:" حين ذهب ثلثه ".
واختلف في الحديث عن جابر في غير "الأم"، فقيل:" إلى شطره "، وقيل: " إلى ثلثه "، وجاء في "الأم" بعد هذا عنه:" إذا(8) اجتمعوا عجّل، وإذا(1) أبطؤوا أخر"، واختلف العلماء بحسب هذا، وبالثلث قال مالك والشافعي:" آخرًا"، وبالنصف أيضًا قال أصحاب الرأي وأصحاب الحديث والشافعي أولاً وابن حبيب من أصحابنا، وعن النخعي: الربع، وهو نحو من قوله في الحديث بعد: " ساعة من الليل "، وقيل: وقتها إلى طلوع الفجر، وهو قول داود، وهذا عند مالك وقت الضرورة لها.
__________
(1) قوله:" هل " ليس في (أ) و(ط).
(2) في (ط):" و ".
(3) في (ط):" وفيها ".
(4) في (ط):" أبي بريدة ".
(5) في (ح):" حين ".
(6) قوله:" الأول " ليس في (أ).
(7) في (ح):" الليث ".
(8) في (ط):" إذا رآهم قد ".(3/131)
واختلف في وقت الوجوب وتعيين الخطاب على المصلي في أوقات هذه الصلوات: فمذهب المالكية: أن الوجوب يتعلق بأول الوقت، وأن الجميع وقت موسع للوجوب. وحكى ابن القصار هذا عن الشافعي، واختار بعض أصحابنا أن وقت الوجوب منه غير(1) متعين، وإنما يعينه المكلف بفعله، وذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز التأخير عن أول الوقت إلا ببدل وهو العزم، وأجاز غيره تركها لغير بدل لتوسعة وقتها إلى أن يبقى من الوقت مقدار ما يفعل فيه فيتعين. وذهب الشافعي إلى أن وقت الوجوب أوله، وإنما ضرب آخره فصلا بين الأداء والقضاء. ويعارض هؤلاء بأن التأثيم متعلق(2) بترك الواجب، ولا يؤثم أحد تارك(3) الصلاة لأول(4) الوقت. وذهب الحنفية إلى أن الوجوب متعلق بآخره، ويعارض هؤلاء بالإجماع على جواز الصلاة لأول الوقت وسقوطها عمن صلاها حينئذ، ولو كانت لم تجب بعد لم تجز كما لا تجزئ قبل الوقت، واضطربت أقوالهم في صلاته قبل آخر الوقت، هل هى نفل أو فرض يترقب(5) ببقاء المكلف إلى آخر الوقت ؟ وفعل المسلمين بالمبادرة إلى أوائل الأوقات يبطل قولهم.
__________
(1) قوله:" غير" ليس في (أ).
(2) في (ح):" إنما يتعلق ".
(3) في (ح) و(ط):" بترك ".
(4) في (ح):" في أول ".
(5) في (ح) و(ط):" مترقب ".(3/132)
وقوله: " ما لم يسقط ثور الشفق ": قال الخطابي: هو ثوران حمرته واندفاعها، ويروى:" فور(1)" بالفاء في غير "الأم"، وهو بمعناه، أي: سطوعه وظهوره، من فار الماء إذا اندفع وظهر، وقد تقدم اختلاف الفقهاء في الشفق، وكذلك اختلف فيه السلف وأهل اللغة، من قائل: الحمرة(2)، وقائل: البياض. وقال(3) مالك فيه بالقولين، وقال: البياض أبين على جهة الاحتياط، ومشهور قوله: الحمرة، وهو قول الشافعي وفقهاء أصحاب الحديث وأهل الكوفة، وغيرهم إلا أبا حنيفة والأوزاعي، وقال بعض أهل اللغة: إنه ينطلق على البياض وعلى الحمرة، وحكى الخطابي: أنه إنما ينطلق(4) في أحمر ليس بقانى وأبيض ليس بناصع. وقرن الشمس هنا طرفها.
قال الإمام: حديث السائل عن الأوقات وإحالته - صلى الله عليه وسلم - على أن يصلى معه، قالوا: يدل على جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة، وهى مسألة اختلاف بين الأصوليين، وقد انفصل عن هذا بأن البيان الذي وقع فيه الخلاف إنما هو أول بيان يكون، ولعله - عليه السلام - إنما أخر إخبار هذا لأنه قد تقدم بيانه لغيره وإشاعة هذا الحكم، وإنما يكون هذا انفصالاً إذا علمنا أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يلزم البيان إلا أول مرة، ولم يتحقق عندي الآن(5) ما كلف - عليه السلام - من هذا ؛ لأنه يجوز أن يتعبد(6) بالبيان لكل من سأله.
__________
(1) قوله:" فور " ليس في (ح).
(2) في (ح):" بالحمرة ".
(3) في (ط):" وقد قال ".
(4) في (ح) و(ط):" يطلق ".
(5) في (أ):" إلا أن ".
(6) في (أ):" يتعمد ".(3/133)
قال القاضي: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:" صل معنا هذين اليومين " رفع الإشكال في تأخيره، وفسر ما أجمله في غيره من الحديث في(1) سكوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجواب، كما ذكر في "الموطأ"، وأن معنى سكوته هناك سكوته عن الجواب إن كان الحديث واحدًا، وأنه رأى البيان بالفعل له أبلغ وأشمل له ولغيره ممن يصلى معه من المسلمين، إذ القول لا يبلغ مبلغ الفعل، وإذ القول يسمعه البعض دون البعض(2)، والفعل يعلمه كل من صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الباجي: وليس هذا من تأخير البيان الذي تكلم شيوخنا في جواز تأخيره عن وقت الخطاب بالعبادة إلى وقت الحاجة، وهو مذهب الباقلاني والجمهور، ومنعه الأبهري وغيره ؛ لأن الخطاب هنا بالصلاة وبيان أحكامها، وقد تقدم قبل هذا للسائل(3) فلم يسأل(4) إلا عما ثبت بيانه، وعرف حكمه، ولا خلاف أن للنبى - صلى الله عليه وسلم - أن يؤخر جواب السائل له عن وقت سؤاله وألا يجيبه أصلا، وقد فعل ذلك في مسائل كثيرة، ولا خلاف أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى الفعل. وتكلم الشيوخ في وجه تأخيره - عليه السلام - مع جواز موته أو موت السائل(5) قبل التعليم، فقيل: يحتمل أنه أوحى إليه بأن ذلك لا يكون، وقيل: هذا(6) لا يلزم ؛ لأن العادة غالبا في مثل هذا، وظاهر الأمر حياته هذين اليومين، واستصحاب حال السلامة، وقد يقال: إن هذا سؤال لايلزم في حق السائل ؛ لأنه إن اخترم قبل علمه ما سأل عنه من دينه فلم يضره جهله به، إذ لم تأت عليه عبادة يحتاج إليها فيه لموته قبلها.
__________
(1) قوله:" في " ليس في (ح).
(2) قوله:" دون البعض" ليس في (أ) و(ح).
(3) في (ح) و(ط):" السائل ".
(4) في (ط):" يسئل ".
(5) قوله:" أو موت السائل " ليس في (أ).
(6) في (ح):" إن هذا ".(3/134)
وقوله - عليه السلام -:« أين السائل ؟» تهمم منه بأمره. وقوله: " ما بين هذين وقت "، وفي الرواية الأخرى:" وقت صلاتكم ما(1) بين ما رأيتم ": قصد للبيان له ولغيره من المسلمين، وحجة للتأويل المتقدم في قصده بالبيان في الفعل للسائل وغيره، وإشارة إلى أن صلاتيه، وما بين أول أولاهما وآخر أخراهما وقت، وقيل: هو من مفهوم الخطاب ؛ كقوله:{ فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره }، أي: من يعمل أكثر منه يراه، وقيل: أبان بفعله وصلاته الوقتين وبقوله: " وما بينهما "، واكتفى بقوله في الرواية الواحدة:"وقت"؛ لأن السائل إنما سأل عن وقت الصلاة، فكيف وقد جاء في تلك الرواية الأخرى: " وقت صلاتكم "، وذكر(2) مسلم عند ذكره أحاديث الوقوت، وذكره فيها ما لم يذكر غيره من أصحاب الحديث: ثنا يحيى بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير، قال(3): سمعت أبي يقول: " لا يستطاع العلم براحة الجسم ": فكثير من يسأل عن ذكره(4) هذا الخبر في هذا الموضع وليس منه، ولا هو من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا من شرط الكتاب، فقال لنا بعض شيوخنا: إن مسلمًا - رحمه الله - أعجبه ما ذكر في الباب وعرف مقدار ما تعب في تحصيله وجمعه من ذلك فأدخل بينها(5) الخبر تنبيهًا(6) على هذا، وأنه لم يحصل ما ذكر إلا بعد مشقة وتعب في الطلب، وهو بيّن، والله أعلم. وفي سند حديث السائل: ثنا زهير بن حرب وعبيد الله بن سعيد كلاهما عن الأزرق، كذا لهم، وعند السمرقندى: وعبد الله بن سعيد، وهو وهم، والصواب الأول، وهو عبيد الله(7) بن سعيد بن يحيى بن برد، أبو قدامة اليشكرى وذكر في حديث بريد: حدثنى إبراهيم بن محمد عن عروة(8)
__________
(1) قوله:" ما " ليس في (ط).
(2) في (ح):" ذكر ".
(3) قوله:" قال " ليس في (ح).
(4) في (ح):" ذكر ".
(5) قوله:" بينها " ليس في (أ).
(6) قوله:" تبيهًا " ليس في (ح) و(ط).
(7) في (ح):" عبدالله ".
(8) في (أ):" محمد بن عرعرة ".(3/135)
السامي(1)، كذا لعامة شيوخنا ولسائر الرواة بالسين المهملة، وأخبرنا به الأسدي عن السمرقندي بالشين المعجمة، وهو وهم(2)، والأول الصحيح.
قال الإمام: قوله: " إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة "، فأمر بالإبراد - بالتأخير - وذكر في الكتاب عن خباب: " أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نشكو إليه حر الرمضاء فلم يشكنا "، قلت لأبى إسحاق: أفى(3) الظهر؟ قال:نعم، قلت: في تعجيلها. قال: نعم، فهذا معارض للأول، والأشبه في بيانهما(4) أنه إنما لم يشكهم ؛ لأنهم أرادوا أن يؤخروا إلى بعد الوقت الذي حدّ لهم في الحديث الآخر، وأمرهم بالإبراد له، ويزيدون على القدر الذي رخص لهم فيه.
قال القاضي: ذهب قوم من أهل العلم إلى أن حديث الإبراد ناسخ لما جاء بخلافه من صلاة الظهر بالهاجرة وما في معناه، وقال بعضهم: ليس بناسخ وإنما هى رخصة لمن لم يرد الأخذ بالأفضل، ومعنى الإبراد: التأخير بها عن الحر وشدته إلى أن يبرد النهار وتهب الأرواح، وتفئ الأفياء. وقوله فى الحديث(5): " فأنعم أن يبرد بها "، أي: بالغ في الإبراد وأحسن، ونعم الشيء حسن، وقيل: أبردوا، أي: أدخلوا بها في وقت البرد وهو آخر النهار؟ ولأن(6) حال ذلك الوقت بالإضافة إلى حر الهاجرة برد يقال: أبرد الرجل: صار في برد النهار، وأبرد الرجل كذا: فعله فيه.
__________
(1) في (أ) تشبه:" البيامي ".
(2) قوله:" وهو وهم " ليس في (ح).
(3) في (ح) و(ط):" في ".
(4) في (ح) و(ط):" بنائهما ".
(5) في (ح):" الحديث الآخر ".
(6) في (أ) و(ح):" لأن ".(3/136)
وقوله:"أبردوا عن الصلاة"، كما جاء في بعض الروايات، معناه: بالصلاة، كما جاء في الرواية الأخرى: " وعن" تأتى بمعنى الباء، كما قيل: رميت(1) عن القوس، أي: به(2)، كما تأتي الباء بمعنى " عن "، وقيل في قوله تعالى:{ فاسأل به خبيرًا }، أي: عنه، وقد تكون " عن " هنا زائدة، أي: أبردوا للصلاة، يقال: أبرد الرجل كذا إذا فعله في برد النهار، وأما الرواية الأخرى:" أبردوا عن الحر في الصلاة "، فبين المعنى، أي: افعلوه في الصلاة، وأبعدوا بها عن الحر، وقد قال بعض أهل اللغة: فيه(3) حجة لمن لايرى الإبراد معناه: صلوها لأول وقتها، وبرد النهار أوله، حكاه الهروي، وبرد النهار طرفاه وهما الأبردان(4) أيضًا، وبقية الحديث يرد قول هذا.
__________
(1) في (ط):" رميته ".
(2) في (ح):" رميت به ".
(3) قوله:" فيه " ليس في (أ) و(ط).
(4) في (ح):" الأبرادان ".(3/137)
واختلف العلماء في مقتضى الأحاديث الواردة في الفضل في مبادرة أوقات الصلوات. فذهب مالك إلى أن المبادرة إليها في أوائل أوقاتها أفضل في جميعها، وهو قوله عند ابن المواز والقاضي إسماعيل وأبى الفرج وغير موضع، إلا الظهر فيبرد بها في شدة الحر، وهذا قول أهل الرأي، وقال الشافعي بتقديم الصلاة(1) للفذ والجماعة في الشتاء والصيف، إلا للإمام الذي ينتاب إليه الناس من بعد فيبرد بها في الصيف دون غيره، ولمالك في المدونة: استحباب أن يصلى الظهر والعصر والعشاء الآخرة بعد تمكن الوقت وذهاب بعضه وتأوله أشياخنا على أهل الجماعات، وأما المنفرد فأول الوقت أولى له، وتأوله بعضهم أن ذلك للفذ أيضًا،[ وقد(2) روى أيضًا(3) عنه إسماعيل بن أبي أويس صلاة الظهر عند الزوال صلاة الخوارج، ووافقه في تأخيرها الليث ](4). ولم يختلف قوله في المبادرة بالمغرب لأول وقتها ولا قول غيره ممن تقول لها وقت(5) أو وقتان، ولا اختلف قوله بالتغليس(6) بالصبح، وهو مذهب كافة العلماء، وقال أبو حنيفة: تأخير الصبح والظهر والعصر والعشاء الآخرة إلى آخر وقتها(7) المختار أفضل، وقد روى ذلك(8) عن مالك في العشاء وأنكره الشافعي(9)، قالت طائفة: تصلى الصلوات كلها أول الوقت في الشتاء والصيف، ظهرًا كان(10) أو غيرها، أخذًا بتلك الأحاديث الأخر، وذهب أهل الظاهر إلى أن أول الوقت وآخره في الفضل سواء، وقال به بعض المالكية، وتأوله بعضهم على مالك في المدونة من إنكاره حديث يحيى بن سعيد وهو بعيد جدا، وحجتهم: " ما بين هذين وقت " فسوى. قيل: والفضل في
__________
(1) في (ح) و(ط):" الصلوات ".
(2) قوله:" وقد " ليس في (ح).
(3) قوله:" أيضًا " ليس في (ح).
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(5) في (ح):" وقت واحد ".
(6) في (ح):" في التغليس ".
(7) في (أ) و(ط):" وقتهما ".
(8) قوله:" ذلك " ليس في (ح).
(9) قوله:" وأنكره الشافعي " ليس في (أ).
(10) في (أ):" كانت ".(3/138)
الصلاة لأول وقتها مبادرة أوامر الله، وخوف قواطع من الموت وغيره عن تحصيلها في حسناته، إذ ركعة من الصلاة خير من الدنيا ومافيها.
قال الإمام: وقوله:« فإن شدة الحر من فيح جهنم »، قال الليث: الفيح: سطوع الحر، يقال: فاحت القدر تفيح إذا غلت.
وقوله:" من حر أو حرور "، قال الهروي(1): الحرور: استيقاد الحر ووهجه بالليل والنهار، فأما السموم فلا تكون إلا بالنهار.
قال القاضي: يحتمل أن أحد(2) اللفظتين من الحر أو الحرور هو الذي قاله - عليه السلام - فشك الراوي في ذلك، ويحتمل أنه كرر اللفظين ؛ لأن أحدهما أكثر من الآخر، وتكون - أو - للتقسيم، وكذلك(3) قوله: " ما وجدتم من برد أو زمهرير "، والزمهرير: شدة البرد، قيل: أخبر أنها إذا تنفست في الصيف قوّى لهب تنفسها حر الشمس، واذا تنفست في الشتاء قوَّى نفسها(4) شدة البرد ودفعه(5) إلى الأرض، فهو الزمهرير.
__________
(1) قوله:" قال الهروي " ليس في (أ).
(2) في (ح) و(ط):" إحدى ".
(3) في (ط):" ذلك ".
(4) في (أ) و(ط):" دفع حرها ".
(5) قوله:" ودفعه " ليس في (أ) و(ط).(3/139)
اختلف في معنى قوله:" اشتكت النار إلى ربها..." الحديث، وقوله: "فإن شدة الحر من فيح جهنم "، فحمله بعضهم على ظاهره، وقال: شكواها حقيقة أن شدة الحر من وهج جهنم حقيقة على ما جاء في الحديث، وأن الله أذن لها بنفسين: نفس في الصيف، ونفس في الشتاء، وذكر أنه أشد ما يوجد من الحر والبرد، وقيل: إنه كلام خرج مخرج التشبيه والتقريب، أي: كأنه نار جهنم في الحر فاحذروه واجتنبوا ضرره، كما(1) قال: شكى إلى جملى طول السرى، وهذا يسمى التعبير بلسان الحال، وكلا الوجهين ظاهر، والأول أظهر وحمله على الحقيقة أولى، لا سيما على قول أهل السنة بأن النار موجودة مخلوقة الآن، فالله قادر على خلق الحياة، بجزء(2) منها حتى تتكلم، أو يكون يتكلم على لسانها خازنها أو من شاء الله عنها، أو يخلق لها كلامايسمعه من شاء من خلقه، وقد تقدم قول جمهور العلماء بالإبراد في الظهر، وهو زائد على ربع القامة إلى وسط الوقت، ومخالفة من خالف في ذلك، وتخصيص الشافعي بذلك الإمام الذي ينتاب إليه الناس من بعد دون المنفرد، والقوم مجمعون في موضعهم، ولم يقل أحد بالإبراد في غير صلاة الظهر إلا أشهب فقال به في العصر، وقال: تؤخر ربع القامة، وأحمد بن حنبل رأى تأخير العشاء الأخيرة(3) في الصيف بالليل كما يؤخر للظهر بالنهار، وعكس ابن حبيب ورأى تأخيرها في الشتاء لطول الليل، وتعجيلها في الصيف لقصره.
وقوله: حتى نرى(4) فيء التلول "، هي جمع تل، وهي(5) الروابي(6)، وظلها لا يظهر إلا بعد تمكن الفيء واستطالته جدًّا بخلاف الأشياء المنتصبة التي(7) يظهر ظلها سريعا في أسفلها لاعتدال أعلاها وأسفلها. والزمهرير: شدة البرد هاهنا.
__________
(1) في (أ):" وكما ".
(2) في (ط):" فجزء ".
(3) في (ح):" الآخر ".
(4) في (ح):" حين يرى ".
(5) قوله:" هي " ليس في (ح).
(6) في (أ):" الراوبي ".
(7) في (ط):" الذي ".(3/140)
وقوله:" كان يصلى الظهر إذا دحضت الشمس " معناه: زالت وزلقت عن كبد السماء، وأصل الدحض الزلق.
قال الإمام: وقوله: " شكونا إليه الرمضاء فلم يشكنا "، يريد أنهم شكوا إليه حر الشمس وما يصيب أقدامهم منه في صلاة الظهر، ومعنى " لم يشكهم ": لم يجبهم إلى ذلك، يقال: أشكيت فلانًا إذا ألجأته إلى الشكاية، وأشكيته أيضًا إذا نزعت عنه شكايته.
قال القاضي: هذه الأحاديث مع ما ذكره مسلم بعدها من قوله: " كنا نصلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من(1) الأرض بسط ثوبه فسجد عليه(2)"، دليل على صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - للظهر أول وقتها، فإما أن يكون حديث الإبراد نسخه على ما تقدم، أو يكون على الرخصة، وقد قال ثعلب في تأويل قوله:" فلم يشكنا "، أي: لم يحوجنا إلى الشكوى ورخص لنا في الإبراد،حكاه عنه(3) القاضي أبو الفرج.
__________
(1) في (أ) و(ط):" في ".
(2) قوله:" فسجد عليه " ليس في (أ) و(ط).
(3) قوله:" عنه " ليس في (ح).(3/141)
وفي قوله:" إذا(1) لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته في الأرض بسط ثوبه فسجد عليه "، جواز السجود على الثياب، ولا سيما عند الضرورة، من الحر أو البرد أو الشوك أو الطين، وفيه أن العرف والسنه مباشرة الأرض بالجبهة والعمل به إلا عند الضرورة،[ وفيه جواز السجود على ما خف من طاقات العمامة وان كانت المباشرة بالجبهة أفضل، وأما كورها وما كثر، من طاقتها فكره السجود عليه مالك ولم ير عليه إعادة، وأوجب ابن حبيب عليه إعادة في الوقت، منه الشافعي وأجازه الحنفيون ](2). والرمضاء: شدة الحر، والرمضاء: الرمل الحار، وقرن الشمس الأول: يعني جانبها الأعلى، وقرنا الرأس: جانباه، ويدل أن المراد بالأول الأعلى، على(3) ذكره عند الطلوع في الصبح، إذ بطلوع أدنى شيء من الشمس انقضاء(4) وقت الصبح وذكره عند الغروب في العصر أو(5) ما يبق(6) منها شيء لم يغرب فهو بقية من وقت العصر، حتى إذا غاب جانبها(7) الأعلى غاب جميعها وانقضى وقت العصر وحلت صلاة المغرب.
__________
(1) في (ح) و(ط):" إن ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).
(3) قوله:" على " ليس في (أ) و(ط).
(4) في (أ) و(ط):" انقضى ".
(5) في (ح):" إذ ".
(6) في (ح) و(ط):" بقي ".
(7) في (ح):" جنبها ".(3/142)
وقوله:" يصلي العصر والشمس مرتفعة حية "، قال الخطابي: حياتها: صفاء لونها قبل أن تصفر أو تتغير، هذا مثل قوله: بيضاء نقية، وقال هو أيضًا وغيره: حياتها: وجود حرها. وقوله: فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيها(1) والشمس مرتفعة، فسر مالك العوالي بثلاثة أميال من المدينة، قال غيره: وهى مفترقة، فادناها ميلان،وأبعدها ثمانيه أميال، والذي فسر به مالك هو معنى ما ورد في هذا الحديث، والمراد به صلاة العصر أول وقتها ؛ لأنه لا يتفق هذا(2) لمن يصليها ثم يذهب ميلين أو ثلاثة والشمس مرتفعة لم تتغير إلا لمن فعل ذلك أول الوقت ولا يمكن هذا أيضًا إلا في طول الأيام.
وقوله في حديث مالك: " ثم يذهب الذاهب إلى قباء "، كذا(3) قال: رواة "الموطأ" عنه، قال الدارقطني: هذا مما اعتدّ على مالك، ولم يتابع عليه ؛ لأنه أوقفه وقال: " إلى قباء "، وخالفه فيه عدد كثير فقالوا:" العوالي". قال غيره: مالك أعلم ببلدته وأمكنتها من غيره، وهو أثبت في ابن شهاب ممن سواه، وقد رواه بعضهم عن مالك إلى العوالى كما قالت الجماعة، ورواه ابن أبي ذئب عن الزهري فقال: " إلى قباء " كما قال مالك.
وقوله:" كنا نصلي العصر ثم يخرج الانسان إلى بني عمرو بن عوف فيجدهم يصلون العصر وهم على ثلثي فرسخ من المدينة "، وهذا يدل على تعجيل صلاتهم بالمدينة وصلاة أولئك وسط الوقت وقبل خروجه وضيقه، ولولا ذلك لم يكن فيه حجة. ولعلهم لما كانوا عمال حوائطهم كانت صلاتهم حينئذ عند فراغهم من عملهم واجتماعهم للصلاة وتأهبهم لها.
__________
(1) في (ح):" يأتيهم ".
(2) قوله:" هذا " ليس في (ح).
(3) قوله:" كذا " ليس في (أ).(3/143)
وهذه الأحاديث كلها في تبكير صلاة العصر مع ما ذكر من غيرها مسلم حجة للجماعة في أوّل وقتها القامة، وأن صلاتها لأول وقتها أفضل، وردٌ على من خالفهم ؛ إذ لو كانت(1) القامتان - كما قال أبو حنيفة - لما اتفق أن يجدوا بني عمرو يصلون إلا في الاصفرار، ولا وصلوا إلى قباء والعوالى إلا بعد سقوط الشمس ونزولها وتغيرها، ولما صح ما جاء في الحديث الآخر من نحر الجزور وقسمتها والفراغ منها وطبخها واكلها نضيجا قبل المغرب، والجزور لا تكون إلا من الإبل والجزرة من غيرها.
__________
(1) في (ح) و(ط):" كان ".(3/144)
وقوله:« تلك صلاة المنافقين يجلس أحدهم حتى إذا كانت بين قرني الشيطان » الحديث ذمٌّ لفاعل هذا وحجة لمن يرى التأثيم بهذا التأخير، ورد على من أجاز تأخيرها لغير عذر إلى ذلك الوقت. ومعنى " قرنى الشيطان " هنا(1): يحتمل الحقيقة والمجاز، وإلى الحقيقة ذهب الداودي وغيره،ولا بعد فيه، وقد جاءت آثار مصرحة بغروبها على قرني الشيطان، وأنها تريد عند الغروب السجود لله فيأتى شيطان يصدها فتغرب بين قرنيه ويحرقه الله تعالى، وقد قيل: إن الشيطان حينئذ يجعلها بين قرنيه ليغالط نفسه فيمن يعبدها، ويسجد لها عند طلوعها وغروبها، وأنهم إنما يسجدون له، وقيل(2): قرنه: علوه وارتفاعه لهذا، وقيل: معناه المجاز والاتساع، وأن قرني(3) الشيطان أو قرنه الأمة التي تعبد الشمس وتطيعه في الكفر بالله، وأنها لما كانت تسجد لها ويصلى من يعبدها من الكفار حينئذ نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التشبيه(4) بهم. ويعضد هذا التأويل قوله في بعض طرق الحديث:« فإنها تطلع على قرن الشيطان ويصلى لها الكفار »، وفي رواية: « يسجد لها الكفار »، وقيل: قرنه قوته وسلطانه وهو عبادة من عبدها حينئذ ممن أطاعه، وقال الحربي فيه: قرنا الشيطان ناحيتا رأسه، قال: وهذا مثل، أي: حين تسلط(5) الشيطان، وقيل: قرنه مقارنته، قال الخطابي: وقيل: هو تمثيل، أي: أن تأخيرها لهم ودفعها عن وقتها بتزيين الشيطان كدفع ذوات القرون لما يدفعه.
وقوله:« تلك صلاة المنافقين »، ذم لفعلهم وتحذير من التشبه بهم بتأخير الصلاة لغير عذر إلى حينئذ، من اصفرار الشمس، وأن تعجيل الصلاة هو المشروع، وتأخيرها مذموم ممنوع.
__________
(1) قوله:" هنا " ليس في (ط).
(2) في (ط):" وقد قيل ".
(3) في (ط):" قرنا ".
(4) في (ط):" التشبه ".
(5) في (ط):" يتسلط ".(3/145)
وقوله:« فنقر أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلاً » ذم لمن صلى هذه الصلاة ولم يخشع،ولا اطمأن فيها. وعبر بنقره(1) لها عن سرعة حركاته في الصلاة في ركوعه وسجوده ؟ تشبيها بنقر الطائر في الشيء بسرعة دون توان، وقد يكون قلة ذكره فيها بلسانه لسرعتها أو بقلبه لقلة خشوعه. وفي صلاة أنس العصر حين انصرافهم من صلاة الظهر مع عمر بن عبد العزيز ما يدل أن معنى حديث عروة معه تأخير عمر الصلوات إلى آخر أوقاتها المختارة وهي كانت عادة بني أمية، ويحتمل أن هذا كان منه على غير مداومة إما لما شغله من أمور المسلمين أو غير ذلك، وعليه يدل قوله:" أخر الصلاة يومًا "، وفيه حجة على توسعة الأمر على هذه الأمة ألا ترى أن أنسًا لم ينكر ذلك الفعل، وإنما احتج على أن المبادرة بأول الوقت أولى وذم من صلى(2) بعد خروجه.
قال الإمام: وقوله:« الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله »، أي: نقص، يقال: وترته، أي: نقصته، قال أبو بكر: وفيه قول آخر، وهو: أن الوتر أصله الجناية التي يجنيها الرجل(3) على الرجل(1) من قتل حميمه وأخذ ماله.
__________
(1) في (ط):" بنقر ".
(2) في (ط):" صلاة ".
(3) في (ح):" الإنسان ".(3/146)
قال القاضي: روى عن مالك أن معناه: انتزعوا منه، وعلى هذا التفسير يكون أهله وماله مرفوعين على ما لم يسم فاعله، وعلى التفاسير الأخر منصوبين على المفعول الثانى وهو الذي ضبطناه عن جماعة شيوخنا. قال الخطابي:، أي: نقص وسلب فبقى وترًا بلا أهل ولا مال فليحذر من فوتها كحذره من ذهاب أهله وماله، وقال أبو عمر: معناه عند أهل الفقه واللغة: الذي يصاب بأهله وماله إصابة يطلب بها وترًا تجمع عليه غم المصائب(1) وغم مقاساة طلب الوتر، وقال الداودي: معناه: يجب عليه من الاسترجاع ما يجب على من وتر أهله وماله ؛ لأنه أتى كبيرة يجب عليه الندم والأسف عليها، وهذا يأتي على تركها عامدا. وقيل: فاته من الثواب ما يلحقه من الأسف عليه ما يلحق من وتر أهله وماله، قال الباجي: ويحتمل أن يريد وتر دون ثواب يدخر له، فيكون ما فات هذا من ثواب الصلاة كما فات هذا الموتور.
وقد اختلف في معنى الفوات في هذا الحديث، فذهب ابن وهب وغيره إلى أنه لمن(2) لم يصلها في الوقت المختار، وقاله الداودي، وقيل: فواتها بغروب الشمس، وإليه نحا سحنون، وقاله الأصيلى، وقيل: حتى تصفر، وقد ورد مفسرًا من رواية الأوزاعي في الحديث، قال فيه: وفواتها أن يدخل الشمس صفرة وروى عن مسلم، ذلك في الناسي، وعلى قول الداودي: ذلك في العامد، قال أبو عمر: يحتمل أن جوابه فيه على سؤال سائل، فعلى هذا يكون حكم من فاتته الصبح حتى طلعت الشمس والعشاء حتى طلع الفجر مثله، وخص صلاة العصر بهذه القضية لكونها مشهودة، ومعهدا لتعاقب ملائكة الليل والنهار، وحض على المثابرة عليها، لأنها في وقت جهد الناس. في أعمالهم وحرصهم على قضاء أغراضهم وتسويفهم لصلاتها(3) إلى تمام انشغالهم.
__________
(1) في (ط):" المصاب "، وفي (ح):" المكارب ".
(2) قوله:" لمن " ليس في (ح).
(3) في (أ) و(ح):" بصلاتها ".(3/147)
وفي حديث البخاري:«من ترك صلاة العصر حبط عمله ». قال محمد بن أبي صفرة: ذكره لصلاة العصر بما تقدم في الحديث يتناول من(1) فاتته صلاة الفجر لكونها(2) مشهودتين، ولحض النبي - عليه السلام - عليهما خصوصًا. وقال الداودي: نصه(3) بالحبط لعمل تارك العصر غير تخصيص لها بل ذلك حكم غيرها من الصلوات، ويأتي الكلام على معنى:"حبط(4)" إن شاء الله.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:« شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس »، وفي الرواية الأخرى:" حتى آبت "، ومعناه: سارت للغروب، والتأويب سير النهار، ويكون " آبت " بمعنى رجعت، وهو في هذا الموضع رجوع إلى مكانها بالليل، قاله الحربى.
__________
(1) في (ح) و(ط):" لمن ".
(2) في (أ) و(ح):" لكونهما ".
(3) في (ط):" خصه ".
(4) في (ح):" حبط العمل ".(3/148)
قال الإمام: هذا فيه حجة لمن يقول: إنها العصر، وقد اختلف الناس في قوله تعالى:{ والصلاة الوسطى } ما المراد به ؟ فقيل: الجمعة، وقيل: بل الصلوات الخمس كلها، وقال آخرون: بل الوسطى صلاة من الخمس. واختلفوا في عينها، فقال مالك: هى الصبح، ووافقه ابن عباس، وقال زيد بن ثابت: هى الظهر، وقال أبو حنيفة والشافعي: هى العصر، ووافقهما على بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وقال قبيصة ابن ذؤيب: هى المغرب، وقال غيره: هى العتمة. وأما من قال: هى الجمعة، فإنه ضعيف ؛ لأن المفهوم أن الإيصاء بالمحافظة عليها للمشقة، والجمعة صلاة واحدة في سبعة أيام، فلا يلحق في حضورها مشقة في الغالب، وكذلك يضعف قول من قال: إن ذلك جميع الصلوات ؛ لأن أهل الفصاحة لا يذكرون شيئًا مفصلاً ثم يشيرون إليه مجملاً، وقد قال تعالى:{ حافظوا على الصلوات }، فصرح بذكرها، وإنما يجمل الفصحاء الشيء ثم يصرحون به بعد ذلك. وأما وجه الأقوال الأخر فإنا نقول: ذكر الوسطى إما أن يراد(1) به التوسط في الركوع والسجود، أو في العدد، أو في الزمان، فأما الركوع والسجود فإن حكم الصلوات فيهما(2) واحد، فهذا القسم لا يراعى للاتفاق عليه، وأما القسمان الآخران فإن راعينا منهما العدد أدى إلى مذهب قبيصة بن ذؤيب، في أنها المغرب ؛ لأن أكثر أعداد الصلوات أربع ركعات، وأقلها اثنتان، وأوسطها ثلاث(3)، فهي المغرب التي قال، وإن راعينا الأوسط من الأزمان كان الأبين أن الصحيح أحد القولين إما الصبح أو العصر، فأما الصبح فإنا إذا قلنا: إن ما بين الفجر إلى طلوع الشمس ليس من النهار ولا من الليل كانت هى الوسطى ؛ لأن الظهر والعصر من النهار قطعا، والمغرب والعشاء من الليل قطعًا، وبقى وقت الصبح مشتركًا، فهو وسط بين(4) الوقتين. وعلى القول بأن ذلك الزمان من النهار يكون الأظهر أن الوسطى
__________
(1) في (ح):" يريد ".
(2) في (أ) و(ط):" فيها ".
(3) في (أ):" ثلاثة ".
(4) في (ط):" من ".(3/149)
العصر ؛ لأن الصبح والظهر سابقتان للعصر والمغرب والعشاء متأخران عن العصر، فهى إذًا(1) وسط بينهما، وقد احتج أصحابنا للقول(2) بأنها(3) الصبح بالمشقة اللاحقة في إتيانها، وأنه زمن يصعب على الإنسان القيام فيه من النوم في الشتاء بالدثار، والصيف(4) من طيب الهواء، وقال من ذهب إلى أنها العصر: فإنها كانت أيضًا تأتي في وقت أسواقهم واشتغالهم بمعايشهم، فكان إتيانها أيضًا يشق عليهم، وكذا أمرها لئلا يشتغل عنها، وقد نبه الله سبحانه على أن البيع من أعظم ما يشغل عن الصلاة فقال جل وعز:{ وذروا البيع }، واحتجوا أيضًا لكونها العصر بالحديث المبدوء(5) به، وهو قوله - عليه السلام -: " شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس "، وهذا يدل أنها العصر. فإن قيل: ففى الكتاب في حديث شقيق بن عقبة عن البراء بن عازب قال: نزلت هذا الآية: ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى العصر )، فقرأناها ما شاء الله، ثم نسخها الله عز وجل، فنزلت:{ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى}، فقال رجل(6): هى إذن صلاة العصر، فقال له البراء: قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله سبحانه والله أعلم. فهذا القول قد أخبر فيه بنسخ أنها العصر، فإنما يحتمل أن يكون إنما نسخ النطق بلفظة العصر، ألا ترى إشارة البراء إلى الاحتمال وقوله(7):" والله أعلم "، ويؤيد ما قلناه من أن أرجح الأقوال قول من زعم أنها الصبح أو العصر قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر(8):« من صلى البردين دخل الجنة»، قيل: المراد بهما الصبح والعصر، قال يعقوب: البردان: الغداة وا لعشي، وهما الأبردان والقرتان، والكرَّتان والعصران،
__________
(1) في (ح):" إذا العصر ".
(2) قوله:" للقول " ليس في (ح).
(3) في (ح):" أنها ".
(4) في (ح):" وفي الصيف ".
(5) في (ح) و(ط):" المبدأ ".
(6) في (ح):" رجل من الأنصار ".
(7) في (ح):" بقوله ".
(8) قوله:" في الحديث الآخر " ليس في (ح).(3/150)
والصَّرعان، والرِدفان والفيَّتان(1).
قال القاضي: القرتان بفتح القاف كذا ضبطنا هذا في كتاب يعقوب عن مشايخنا في هذا الباب وزاد البردان أيضًا، وسميا بذلك لبرد هوائهما، بخلاف ما بينهما من النهار، وجاء في كتاب مسلم في حديث مرة عن عبد الله: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر » مبينا، وأما ما جاء في رواية البراء فلم يروه إلا: حافظوا على الصلوات وصلاة العصر، بإثبات الواو. قال الإمام أبو القاسم الطبري: قوله:{ الصلوات } يدل على المعهودات، وذكره الوسطى يدل على تأكيدها ولا تبين الوسطى، إلا إذا بانت الأولى والأخرى، قال: وذكره هنا الوسطى يقتضى إخراج الوتر من الواجبات، فإن الوسطى إنما تتقدر(2) في عدد الوتر فإذا أخذتها بقيت أربعة، اثنان(3) قبل واثنان(1) بعد، ولو كانت الوتر واجبة كانت ستًّا فلا تكون واحدة منها(4) وسطى في الإيجاب.
وقوله في الحديث:" على فرضة من فرض الخندق "، بضم الفاء، وهي المداخل إليه وأصلها المشارع إلى المياه.
وقوله في رواية أبي حسان(5): عن عبيدة بفتح العين عن على:" شغلونا عن صلاة الوسطى "، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، أي: عن صلاة الصلاة الوسطى، فصلاة هنا مصدر أو تكون اسمًا مضافة إلى نفسها على رأى الكوفيين من النحاة، وفي سنده: حدثنا ابن أبي شيبة، ثنا أبو أسامة عن هشام، عن محمد عن عبيدة، كذا لهم. ومحمد هو ابن سيرين وعند ابن أبي جعفر عن محمد بن عبيدة وهو وهم، وهو عبيدة السلماني(6) بفتح العين.
__________
(1) في النسخ:" الفتيان ".
(2) في (ط):" يتقرر ".
(3) في (ط):" اثنتان ".
(4) في (ح) و(ط):" منهما ".
(5) في (ط):" حيان ".
(6) في (أ):" السليماني ".(3/151)
وقوله في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا:" حتى غابت الشمس"، وفي حديث عمر(1): « ما كدت أن أصلي العصر حتى كاد أن تغرب الشمس»، ليس فيه خلاف؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له حينئذ: " فوالله إن صليتها "، ثم ذكر أنه توضأ وصلى بعد ما(2) غربت فجاء أن صلاة عمر(3) كانت قبل المغيب وقد كادت، وظاهر إعلامه النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه بعد المغيب ؛ لأنه أخبره عن حال القضاء(4) بقوله: " حتى كادت "، وحينئذ تذكرها النبي - عليه السلام - فصلاها بعد الغروب كما جاء مفسرًا،[ وقسمه هنا - عليه السلام - أنه ما صلاها قيل: لفرط أسفه على تركها وتذكرها حينئذ.
وقوله:" شغلونا "، ظاهره أنه أنسيها لشغله بالعدو، أو يكون أخرها للشغل بذلك قصدًا، وأن صلاة الخوف ناسخ لهذا، وقيل: إن الذي أخر أربع صلوات: الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وفي "الموطا": الظهر والعصر، وأنه أنسى ذكرها بالتحرز عن العدو والشغل به، وظاهره أن صلاة الخوف لم تكن شرعت بعد على ظاهر هذا الحديث وإنما أمر بها وشرعت في غزوة ذات الرقاع على ما نذكره، وذهب مكحول والشاميون إلى تأخير صلاة الخوف إذا لم يتمكن أداؤها معه إلى وقت الأمن، والصحيح والذي عليه الجمهور: صلاتها على سنتها إذا أمكن، فإن لم يستطع فبحسب قدرته، ولا يؤخرها، وسيأتي بيان ذلك والخلاف فيه في بابه. وقيل: فيه وجه آخر: أن يكونوا على غير وضوء فلم يمكنهم ترك ماهم فيه للوضوء أو التيمم، ولا الصلاة دون طهارة وقد مرت هذه المسألة في الوضوء ](5). وظاهر قوله: "فتوضأنا وصلى رسول الله "، أنه صلاها في جماعة ولا خلاف بين العلماء في جواز التجميع للفوائت، إلا ماروى عن الليث من منع ذلك.
__________
(1) في (ح):" على ".
(2) في (ح):" أن ".
(3) في (ح):" علي ".
(4) في (ط):" انقضى ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (ط).(3/152)
وقوله: " ثم صلى بعدها المغرب "، أصل في هذا الباب، وأجمع العلماء على الاستدلال به فيمن فاتته صلوات وأيقن أنه يقضيها ويصلى التي حضرت قبل فوات وقتها، أنه يبدأ بالمنسية، واختلفوا إذا خشى فواتها، فذهب الحسن وابن المسيب وفقهاء أصحاب الحديث وأصحاب(1) الرأي والشافعي إلى(2) أنه يبدأ بما حضر، وقال مالك والليث والزهري في آخرين: يبدأ بما ذكر، ولا خلاف عند جميعهم فيما كثر جدًّا أنه يبدأ بما حضر، واختلف هؤلاء في خمس(3) صلوات ونحوها، هل حكمها حكم الصلاة الواحدة والاثنتين ؟ أم حكم الكثير ؟ ومالك يرى مادون الخمس قليل(4)، وما فوق الخمس كثير(5)، واختلف عنه في الخمس لكونها صلاة يوم، هل هى من القليل أو الكثير، وفي حديث محمد بن المثنى: ثنا ابن أبي عدى، عن سعيد عن قتادة كذا ضبطناه عن الصدفى والأسدى، وكذا في أكثر النسخ، وضبطناه عن ابن أبي جعفر عن شعبة عن قتادة [ ووقعًا معًا في كثير من الأصول، وكلاهما إن شاء الله صحيح، أما شعبة عن قتادة فقد](6) ذكره مسلم قبل هذا في الحديث نفسه، وأما سعيد فهو ابن أبي عروبة، وكلاهما من أصحاب قتادة، وجاء من المشكل في هذا الموضع يحيى بن الجزار بالجيم وتقديم الزاي، وشتير بضم الشين المعجمة وفتح التاء، باثنتين من فوقها ابن شكل، بفتح الشين المعجمة وفتح الكاف، ومسلم بن صبيح، بضم الصاد، وبطحان، بضم الباء وسكون الطاء، كذا ضبطناه في "الأم"، وهو واد بالمدينة. وكذا يقوله المحدثون وقيدوه، وفي "البارع": بطحان، بفتح الباء وكسر الطاء، وهو صوابه عند أهل اللغة، قال البكرى: ولايجوز غيره.
__________
(1) في (ح):" أهل ".
(2) قوله:" إلى " ليس في (ح).
(3) في (ح):" الخمس ".
(4) في (ح):" قليلاً ".
(5) في (ح):" كثيرًا ".
(6) مابين المعكوفين ليس في (ط).(3/153)
وقوله:« يتعاقبون فيكم ملالكة بالليل والنهار »، الحديث، فيه حجة لمن صحح إظهار ضمير الجمع والتثنية من النحاة في الفعل إذا تقدم، وحكوا فيها قول من قال من العرب - وهم بنو الحارث -: أكلوني البراغيث، وعليه حمل الأخفش قوله:{ وأسروا النجوى الذين ظلموا }، وأكثر النحاة يأبون(1) هذا من إظهار الضمير وهو مذهب سيبويه، ويتأولون هذا ومثله، ويجعلون الاسم بعد بدلاً من الضمير ولا يرفعونه بالفعل كأنه لما قال: {أسروا } قال: من هم ؟ قال:{ الذين ظلموا }، ومعنى " يتعاقبون، أي: يأتي طائفة بعد أخرى، ومنه: تعقيب الجيوش، وهو أن يبعث قوم ويأتي آخرون، وسؤال الله لهم على ظاهره، والله(2) أعلم بهم، تعبد(3) منه تعالى للملائكة، كما أمرهم أن يكتبوا أعمالهم وهو أعلم بالجميع، ويحتمل أن يكون هؤلاء هم الحفظة الكتاب، وأن ذلك مما يخص كل إنسان، وعليه حمله الأكثر، وهو الأظهر، وقيل: يحتمل أن يكون من جملة الملائكة لجملة الناس.
وقوله:" يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر "، لطف(4) من الله تعالى بعباده المؤمنين وتكرمة لهم، أن جعل اجتماعهم عندهم وورودهم عليهم ومفارقتهم لهم في أوقات عباداتهم، ليكون شهادتهم لهم بأحسن الشهادة، وثناؤهم عليهم أطيب ثناء، وقد زاد هؤلاء في هذا الحديث على من روى الاجتماع في صلاة الصبح فقط، وعضده بقوله:{ وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودًا }، فقد تبين في هذا الحديث أن الاجتماع في وقتين واختصاصهم بالشهادة لهم بالصلاة التي وجدوهم عليها من دون سائر أعمال الإيمان دليل على فضل الصلاة على سائر الأعمال والقرب.
وقوله: " لا تضامّون في رؤيته " تقدم الكلام عليه.
__________
(1) في (أ):" يأتون ".
(2) في (ح) و(ط):" وهو ".
(3) في (ط):" تعبدا ".
(4) في (ط):" لطفًا ".(3/154)
وقوله:« فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها » يعني العصر والفجر، ثم قرأ:{ وسبّح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها }، كذا وقعت مفسرة في هذا الحديث من رواية جرير بن عبد الله وكذلك ذكر أيضًا معناه من رواية عمارة بن رؤيبة وقال: « لن يلج النار من صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها » يعني: الفجر والعصر، وهو معنى الحديث الآخر عنه:« من صلى البردين دخل الجنة »، قال الْمُهلِّب: ومعنى:" لا تغلبوا " أي: على شهودها في الجماعة.
وقوله في صلاة المغرب:{ إذا توارت بالحجاب }، الحجاب: الستر، وكل ما ستر فهو حجاب. وقيل: حجاب الشمس: ضوؤها، فيكون على هذا تواريها بجملة قرصها وشعاعها، وهذا وما ذكره من الآثار تدل على مثابرته - عليه السلام - وأمره بالمبادرة إليها، وقد تقدم الكلام في هذا، وما ذكره(1) من تأخير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للعشاء فيه حجة للحنفية ولأحد القولين في أن الأفضل عندنا(2) تأخيرها، وإنما يحمل على أنه كان في بعض الأوقات، وهو ظاهر الحديث ؛ لقوله:" ليلة من الليالى "، أو(3) " ذات ليلة "، فدل أنها لم تكن عادته، بل لأمر، كما قال ابن عمر في الحديث: " فلا أدرى أشىء شغله في أهله أو غير ذلك "، وقول أبي موسى: " وله بعض الشغل في أمره"، وفي بعض الحديث: " أنه جهز جيشًا "، وفي مسلم: " فخرج ورأسه يقطر ماء "، ولعله(4) - عليه السلام - أخرها قصدًا ليبين لهم بالفعل جواز ذلك ؛ لأنه(5) الأفضل أو لنوم غلبه، أو لشغل من شغل المسلمين، وكان الغسل قد لزمه قبل ذلك أو قبل دخول وقتها لا أنه أخرها بسبب موجبه مجردًا، أو(6) إنما كان تأخيره لها المعهود ما(7) قال في حديث جابر:" وكان يؤخر العتمة بعد صلاتكم شيئًا ".
__________
(1) في (ط):" ذكر ".
(2) قوله:" عندنا " ليس في (أ).
(3) في (ط):" و ".
(4) في (ط):" أو لعله ".
(5) في (ط):" لا أنه ".
(6) في (ط):" و ".
(7) في (ح):" كما ".(3/155)
وقوله:« وما كان لكم أن تبرزوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة »، كذا للرازي بالباء وتقديم الراء(1) وضم التاء(2) أولاً، وعند ابن سعيد وابن الحذاء والطبري: "تنزروا": بالنون وتقديم الزاي وفتح التاء أولاً (3)، وهو الصحيح إن شاء الله، ومعناه: الإلحاح عليه في الخروج: للصلاة ويدل عليه قوله في الحديث بعد هذا: " وذلك حين صاح عمر ابن الخطاب، وفي الحديث الآخر: " فقال عمر: الصلاة "، وتذكير عمر له ظن أنه بما شغل به سها عن وقتها ولم يعذره لشغله(4) فذكره به، ويدل أنه لم يؤخرها عن وقت الاختيار قوله في الحديث(5) من رواية أنس: إلى شطر الليل، أو كاد يذهب شطر الليل، هو مثل قول ابن عمر في الحديث: "حين ذهب ثلث الليل "، وهو تفسير قول عائشة في حديثها:" حتى(6) ذهب عامة الليل ".
وقوله:« إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتى »، دليل على جواز صلاتها قبل ذلك، وأن صلاته - عليه السلام - في الغالب كانت على خلاف هذا من أنه لا يؤخرها، كما قال في الباب في حديث جابر بن سمرة:" وكان يؤخر العتمة بعد صلاتكم شيئًا ". قال الخطابي: إنما اختار لهم التأخير ليقل حظ النوم وتطول مدة انتظار الصلاة، فيكثر أجرهم لقوله:« إن أحدكم في صلاة ما دام ينتظر الصلاة »، قال غيره من الحكماء: إن أكثر النوم المحمود مقدار ثماني ساعات بين اليوم والليلة.
__________
(1) في (ح):" الزاي ".
(2) في (أ):" الباء "، وفي (ط):" الثاء ".
(3) قوله:" وفتح التاء أولاً " ليس في (ح).
(4) في (ح):" لشغله به ".
(5) قوله:" في الحديث " ليس في (ح).
(6) في (ح):" حين ".(3/156)
وقوله:" رقدوا ثم استيقظوا " معناه والله أعلم: نوم الجالس المحتبي وخطرات السنات لا نوم الاستغراق، بدليل أنهم لم يروا أنهم توضؤوا، وقد احتج بهذا الحديث ومثله من لم ير النوم في نفسه حدثا يوجب وضوءًا، وقد ذكر الطبري في هذا الحديث:" ثم يقومون، فمنهم من يتوضأ ومنهم من لا يتوضأ "، فدلّ أن التوضؤ لمن استغرق والله أعلم. ووبيصُ الخاتم: بريقه.
وقوله:" من فضة "، دليل على جواز اتخاذ الرجل خواتم(1) الفضة، وسيأتى الكلام على هذا في موضعه.
وقوله:" كان يتناوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرقة منهم كل ليلة "، أي: يأتون عن بعد إليه نوبًا وأوقاتًا متفرقين غير مجتمعين وأصل النوب: البعد ليس بالكثير، والانتياب مثله، وذلك فيما يكون على فرسخين أو ثلاثة، وقيل: يتناوب: يتداول، وفي الباب: ثنا عبد الله بن الصباح العطار، وحدثنا عبيدالله بن عبد المجيد الحنفي كذا لهم، وعند ابن أبي جعفر لابن ماهان: ابن عبد الحميد(2)، وهو وهم والأول الصواب، وهو مشهور بصري، كنيته أبو علي.
قال الإمام: وقوله:" ابهار الليل "، أي: انتصف، وبهرة كل شيء، وسطه(3). قال أبو سعيد الضرير: ابهرار الليل، أي: نجومه(4) إذا تتامت ؛ لأن الليل إذا أقبل أقبلت فحمته، واذا استنارت النجوم ذهبت تلك الفحمة.
قال القاضي: وقيل: ابهار الليل: ذهب عامته، وبقى نحو من ثلثه. وابهار الليل: طال، وقال أبو سعيد الضرير: وذلك قبل أن ينتصف، والباهر الممتلى نورا، قال سيبويه: ولا يتكلم بإبهار إلا مزيدا، وقد صحفه بعض الشارحين تصحيفا قبيحا فقاله بالنون، قال(5): ومنه قوله تعالى:{فانهار به في نارجهنم }، عصمنا الله (6) برحمته وتوفيقه.
__________
(1) في (ح) و(ط):" خواتيم ".
(2) في (ح):" عبدالمجيد ".
(3) في (ح):" وسطته ".
(4) في (ط):" طلوع نحومه "، وفي (أ):" أي انتصف طلوع نحومه ".
(5) قوله:" قال " ليس في (ح).
(6) في (ح):" الله منها ".(3/157)
وقوله:" أعتم بالصلاة(1)"، أي(2): أبطأ وأخرها حتى كانت عتمة الليل، وهى ظلمته، وبه سميت العشاء الآخرة عتمة.
وقوله:« على رسلكم » بكسر الراء، ويقال: بفتحها، أي: على لين من قولكم وتمهل وقلة عجلة، والرسل، والترسل(3)، والترسيل: اللين من القول.
وقوله: " فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأني أنظر إليه يقطر رأسه ماء(4)"، بين أنه إنما أخرها لعذر طرأ عليه، ووصفه وضع أطراف أصابعه على قرن رأسه فقال: " ثم صبها يمرها كذلك على الرأس " الحديث صفة عصر الماء من الشعر باليد، كذا روايتنا هنا فيه لكافتهم وعند العذري:" ثم(5) قلبها "، ورواه البخاري ضمها، والأول الصواب بدليل لفظ الحديث.
__________
(1) في (ح):" بالعتمة ".
(2) في (ط):" وإن ".
(3) في (أ) و(ط):" الترسيل " بدون واو.
(4) قوله:" ماء " ليس في (ح).
(5) قوله:" قلبها " ليس في (ح).(3/158)
وقوله:" ثم على الصّدغ وناحية اللحية لا يقصر ولا يبطش "، وفي البخاري:" لا يعصر ولا يبطش "، فقوله:" لايعصر " لا يضاد ما تقدم، ولعله أراد لا يعصره، أي: يجمع شعره في يده بل يشد أصابعه عليه لاغير، وقال بعضهم: معناه:" لايبطئ مقابلة ؛ لقوله:" ولا يبطش "، وقول مسلم: " لا يقصر، أي: عن فعله ذلك من إجراء أصابعه عليه ممهلاً دون بطش، وقد تصح رواية: " ثم قلبها "، أي: أمالها(1) إلى جهة الوجه واللحية بمعنى صبها، لا أنه قلب ظهرها نبطنها. واحتجاج عطاء بالحديث في استحباب صلاتها إمامًا وخلوًا مؤخرة ما لم يشق أخذا بظاهر الحديث، ولكن أمره - عليه السلام - الأئمة بالتخفيف يقضى على هذا الاختيار، وإن كان عطاء علقه بالمشقة، ولما حكى في هذا الحديث من رواية الطبري:" لولا ضعف الضعيف وبكاء الصغير "، ومعنى:" خلوًا ": منفردا بكسر الخاء، ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اتباع الأعراب في تسمية العشاء العتمة لما بينه في الحديث بقوله: «فإنها في كتاب الله العشاء »، فتسميتها بما سماها الله في قوله:{ ومن بعد صلاة العشاء } أحسن وأولى مما تسميها به جهلة الأعراب، وقد جاء في الحديث الآخر:« لو يعلمون ما في العتمة والصبح [ لأتوهما ولو حبوًا ](2)»، فقوله هذا يدل أن نهيه ليس نهي تحريم، وإنما هو نهي أدب وفضيلة، ويحتمل أن تسميته لها - عليه السلام - بهدا ليعم بفهمه من يسميها عتمة وغيرهم، إذ مقصده البيان والعموم، فلذلك عدل هنا عن اللفظ الأفضل والأولى عنده.
وقد اختلف السلف في هذا فأباح تسميتها بذلك أبو بكر الصديق وابن عباس، وقد مرّ في باب الأذان من هذا وفي تسمية المغرب عشاء ومافيه.
__________
(1) قوله:" أمالها " ليس في (ح).
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).(3/159)
وقوله:« ماينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم »، وفي الرواية الأخرى: « يصلى هذه الساعة »، وفي "البخاري":« هذه الصلاة » يفسر هذا كله قوله في الحديث الآخر في "الأم":« ماينتظرها أهل دين غيركم »، وقوله في "البخاري":« ولا يصلى يومئذ إلا بالمدينة »، وهذا يرد قول من قال: إنما أراد من يصليها جماعة غيركم.
وقوله:« إنكم في صلاة ما انتظرتموها »، أي: في عمل تثابون عليه كما يثاب المصلي ؛ لأن انتظارها والنية لعملها وترك ملاذ النفوس لذلك كمن هو في صلاة.
وقوله:" حتى(1) نام النساء والصبيان " يحتمل ممن حضر المسجد لانتظار الصلاة فغلبه النوم، ويحتمل أنه يريد: ناموا في منازلهم ولم يمكنهم انتظار رجالهم لبطئهم، ولعلهم ناموا(2) دون عشاء لذلك.
وقوله:" إن نساء المؤمنات كن يصلين الصبح "، الحديث على إضافة الشيء إلى نفسه، وقيل:" إن نساءً " هاهنا بمعنى فاضلات النساء المؤمنات، كما يقال: رجال القوم، أي: مقدموهم وفضلاؤهم، وقيل: معناه: نساء الأنفس المؤمنات، وقيل: نساء الجماعات المؤمنات، وكله(3) بمعنى.
وقوله:"متلفعات بمروطهن "، قال الإمام: معناه: متجللات باكسيتهن، واحد المروط، مرط بكسر الميم.
قال القاضي: ذكر مسلم من رواية الأنصاري عن معن(4)، عن مالك، وقد وقع لبعض رواة "الموطأ" يحيى وغيره(5):" متلففات "، بفائين وأكثرهم بالفاء والعين، والمعنى متقارب، إلا أن التلفع يختص بتغطية الرأس، وكذا ذكره مسلم من رواية الجهضمي عن معن، ومن رواية غير مالك عن الزهري. واستدل بعضهم منه(6) على جواز صلاة المرأة مخمرة فمها وأنفها، ولا حجة فيه ؛ لأنه إنما أخبر بتلفعهن في الانصراف لا في الصلاة.
__________
(1) قوله:" حتى " ليس في (أ).
(2) في (أ) و(ح):" باتوا ".
(3) في (ح):" كلها ".
(4) في (ح):" معتمر ".
(5) قوله:" يحيى وغيره " ليس في (ح).
(6) في (ط):" منهم ".(3/160)
وقوله:" مايعرفن(1) من الغلس "، هو بقايا ظلمة الليل يخالطها بياض الفجر، قاله الأزهرى، والخطابي قال: فالغبش بالباء والشين المعجمة، قبل الغبس، بالسين المهملة، وبعد(2) الغلس، باللام، وهى كلها في آخر الليل ويكون الغبش أول الليل.
وقوله: " ما يعرفن "، قال الداودي: أي: ما يعرفن أهن نساء أم رجال، وقال غيره: يحتمل أنه لا تعرف أعيانهن وإن عرفن(3) أنهن نساء وإن كن مكشفات الوجوه.
__________
(1) في (أ):" يعرفن " بدون ما.
(2) في (ح) و(ط):" بعده ".
(3) في (ط):" عرف ".(3/161)
وفي حديث أبي برزة بعد هذا في صلاته - عليه السلام -:" فينصرف فينظر الرجل إلى وجه جليسه الذي يعرف فيعرفه "، ولعل هذا مع التأمل له والله أعلم، أو في حال دون حال، ولا يعارض قوله في النساء: " ما يعرفن من الغلس " إذا قيل: وجوههن وان كانت بادية لتغطية رؤوسهن وبعدهن(1) عند الرجال، وقال: هذا يعرف وجه جليسه الذي يعرف، وهذا كله للتبكير بصلاة الصبح. وقيل: فيه دليل على خروج النساء للمساجد، ومبادرة خروجهن قبل الرجال عند تمام الصلاة لئلاَّ يزاحمن(2) الرجال أو ليستترن منهم، أو لاغتنام ظلمة الغلس، أو لمبادرتهن لمراعاة بيوتهن، ويدل عليه فاء التعقيب التي لا تقتضي المهلة(3) في قوله: " فينصرف النساء "، وفيه(4) وفي الأحاديث غيره في الباب أن أكثر شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلاته للصبح التغليس بها وصلاتها أول وقتها، وهذا يدل على أن ذلك أفضل ؛ إذ كان - عليه السلام - إنما(5) يثابر على الأفضل والأولى وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وعامة العلماء، وذهب الكوفيون إلى أن آخر وقتها أفضل وقد تقدم هذا. وقراءته فيها بالستين إلى المائة دليل على [ تبكيرها مع قوله:"وينصرف حين يعرف بعضنا وجه بعض "، كله دليل على ](6) التغليس بها؛ لأن هذا لا يكون بعد(7) طول القراءة إلا مع التغليس. ومثابرته - عليه السلام - وفعل الخلفاء بذلك يقتضي على تأويلهم في حديثهم:" أسفروا بالفجر "، ومعناه: عند الكافة: صلوها بعد تبيين وقتها وظهور الفجر الصادق.
__________
(1) في (ط):" لبعدهن ".
(2) في (ح):" يزاحمهن ".
(3) في (ح):" المهملة ".
(4) في (ط):" وفيها ".
(5) بعده في حاشية (ح):" كان ".
(6) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(7) في (ح):" إلا بعد ".(3/162)
وقوله:" كان يصلى الظهر بالهاجرة "، هى شدة الحر على ما تقدم من صلاته - عليه السلام - لها أول وقتها، وحجة لنا في المبادرة بالصلاة أول الأوقات، إلا ما جاء في الإبراد، وقد تقدم الكلام على هذا. قال صاحب العين: الهجر والهجير والهاجرة نصف النهار، قيل: سميت هاجرة من الهجر، وهو الانقطاع والزوال، لأن كل شيء يفر من حرها ويزول.
وقوله:" والمغرب(1) إذا وجبت "، أي: سقطت الشمس للمغيب، ولم يذكر الشمس للعلم بالمراد، والوجوب: السقوط.
وقوله في حديث أبي برزة(2):" والعشاء أحيانا يؤخرها وأحيانا يعجل، كان إذا اجتمعوا(3) عجل وإذا أبطؤوا أخر "، دليل على أن الفضل لأول الوقت على ما تقدم، وإنما أخر لعلة تأخير اجتماع القوم، وفيه مراعاة فضل الجماعة، وترجيحها على فضل أول الوقت، وهو أصل مختلف فيه، أي: أيهما يرجح(4) على صاحبه.
__________
(1) في (ح):" أو المغرب ".
(2) في (ح) و(ط):" جابر ".
(3) في (ح):" إذا رآهم قد اجتمعوا ".
(4) في (ح):" يترجح "، وفي (ط):" ترجع ".(3/163)
وقوله:" وكان لا يحب النوم قبلها ولا الحديث بعدها "، قيل: كراهة النوم قبلها لئلا يذهب بصاحبه ويستغرق نومًا، فتفوته أو يفوته فضل وقتها المستحب، أو يترخص في ذلك الناس فيناموا(1) عن إقامة جماعتها. وكرهه جماعة من السلف وأغلظوا فيه، منهم ابن عمر وعمر وابن عباس وغيرهم، وهو مذهب [ مالك، ورخص فيه بعضهم منهم: على وأبو موسى وغيرهم، وهو مذهب ](2) الكوفيين، وشرط بعضهم أن يجعل معه من يوقظه لصلاتها(3)، وروي عن ابن عمر مثله. وإليه ذهب الطحاوي، وأما كراهة الحديث بعدها فلما يؤدى إلى السهر ومخافة غلبة النوم لذلك أخر الليل، [وفوت(4) صلاة الصبح في الجماعة أو في وقتها، أو النوم](5) عن قيام الليل وذكر الله فيه ؛ ولأن الحديث والسهر بالليل يوجب الكسل بالنهار عما تجب الحقوق فيه من الطاعات ومصالح الدنيا والدين، وقد جعل الله الليل سكنًا كما قال تعالى:{ لباسا }، أي: سكنا، وكما قال:{ لتسكنوا فيه }، وأبيح الحديث والسهر فيه لما فيه مصلحة، أو طريق مبرة وخير كالمسافر والعروس، ومع الضيف ومدارسة(6) العلم، ونحو هذا من سبل الخير.
__________
(1) في (ح):" ينامون ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(3) في (ح):" لصلاته ".
(4) في (ح):" وفوات ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(6) في (ط):" أو مدارسة ".(3/164)
وقوله:« يكون بعدى أمراء يميتون الصلاة »، أي: يصلونها بعد خروج وقتها فكانت كالميت الذي تخرج روحه، وأمره - عليه السلام - أبا ذر بالصلاة لوقتها، ثم الصلاة معهم،احتياط لوقت الصلاة ومراعاة لفضل الألفة ولزوم الجماعات، وترك الخلاف، وافتراق الكلمة ؛ لأن أمر(1) الأئمة هو الذي يجمعها ويفرقها، وقد قال في الحديث نفسه:" أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدًا مجدّع(2) الأطراف "، والمجدّع(3): المقطع ولا يكون بهذه الصفة من العبيد إلا أدناهم وأكثرهم امتهانا في شأن الخدمة حتى تنال ذلك أطرافه من كثرة الشقاء والنصب، وقيل:هى إشارة إلى ما علمه - عليه السلام - من الغيب، وحال أبي ذر بعده، فقد قيل: إنه حين خرج إلى الربذة كان عاملاً عليها عبد حبشي.
وقوله:« قد أحرزت صلاتك، أي: صحت لك في وقتها، وعلى مايجب أداؤها. وفيه جواز الصلاة مرتين(4) إذا كان ذلك لسبب، وإنما جاء النهي عن أن يصلى صلاة واحدة مرتين في يوم إذا لم يكن لها سبب، وفيه: أن الفرض هي(5) صلاته الأولى، وقد يقال: ليس فيه حجة لكل صلاة معادة؛ لأن هذه الآخرة خرج بها عن سنتها. وقد اختلف فيمن صلى فذا ثم أعاد في جماعة، أي: أيتهما فرضه ؟ الأولى أم الثانية ؟، فأبو حنيفة يجعل الفرض الأولى، وظاهر مذهبنا أن الفرض الآخرة، وعلى هذا أتينا بالخلاف(6) في إعادة الصبح والعصر إذ لا تنفل بعدهما، وضربه على فخذه على طريق التنبيه.
__________
(1) في (ح) و(ط):" أمراء ".
(2) في (أ) و(ط):" مجذع ".
(3) في (أ) و(ط):" المجذع ".
(4) في (ح):" مرتين في يوم ".
(5) قوله:" هي " ليس في (ح).
(6) في (ح):" يأتي الخلاف "، وفي (ط):" بني الخلاف ".(3/165)
وقوله - عليه السلام -:« صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمسة وعشرين جزءًا(1)»، وفي حديث آخر: أنها تفضلها بسغ وعشرين درجة، قال الإمام: اختلف في بناء هذه الأحاديث، فقيل: اللدرجة أصغر من الجزء فكان الخمسة وعشرين جزءًا إذا جزئت درجات كانت سبعًا وعشرين درجة، وقيل: بل يحمل على أن الباري تبارك وتعالى كتب فيها أنها أفضل بخمسة وعشرين، ثم تفضل بزيادة(2) درجتين، ويؤيد هذا التأويل أن في بعض الأحاديث:" خمسًا وعشرين درجة "، قال: والأشبه عندي أن يكون محمل قوله: " خمسة(3) وعشرين "، و "سبع وعشرين " راجعًا لأحوال المصلي وحال الجماعة، فإذا كانت جماعة متوافرة وكان المصلي على غاية من الحفظ وإكمال الطهارة، كان هو الموعود بسبع وعشرين والله أعلم، وإذا كان على دون تلك الحال، كان هو الموعود بخمسة وعشرين، والله أعلم.
__________
(1) في (ح):" درجة ".
(2) في (ط):" يحمل درجتين " بدل:" تفضل بزيادة ".
(3) في (ط):" بخمسة ".(3/166)
قال في بعض طرق هذه الأحاديث:« تفضل صلاة أحدكم في سوقه »، وحمله بعض شيوخنا على أنه لو كانت جماعة في السوق لكانت كالفذ في غير السوق، وعلى هذا يكون في ذكر السوق زيادة فائدة على ذكر الصلاة في البيت، ويصح(1) أن تكون الصلاة في(2) السوق أخفض منزلة ؛ لأن في بعض الأحاديث: أنها مواضع الشياطين، وقد ترك - صلى الله عليه وسلم - الصلاة في الوادي الذي ناموا فيه وقال:« إن به شيطانًا »، وقد يؤخذ من هذا الحديث الرد على داود في قوله: إن من صلى فذًا وترك الجماعة أنها لا تجزيه تلك الصلاة ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في بعض هذه الأحاديث:« أفضل من صلاة أحدكم وحده »، فأتى بلفظة(3) المبالغة والتفضيل بين صلاة الفذ والجماعة، وأثبت فيها فضلاً، ولو لم تكن مجزية لم تكن جزءًا من الفرض الكامل ولا يتوجه هاهنا له أن يقول: إن(4) لفظة " أفضل(5)"، قد ترد لإثبات صفة في أحد(6) الجهتين ونفيها عن الأخرى، ولعل صلاة الفذ كذلك لا فضل فيها ؛ لأن ذلك إنما يرد فيما أتى مطلقًا ؛ كقوله تعالى:{ أحسن الخالقين }، وشبه ذلك، وهو هاهنا قد خصّ ذلك بعدد فجعلها جزءًا من الفرض الكامل الفضل، وحقيقة التجزئة: أن يكون في الجزء جزء من الفضل الذي في الكل.
قال القاضي: مقتضى الأحاديث أن صلاة المصلي في جماعة تعدل ثمانية وعشرين، أو ستة وعشرين صلاة من صلاة الفذ ؛ لأنها تفضلها بسبع وعشرين أو خمس وعشرين، وتساويها في درجة، لكن جاء في رواية سلمان الأغر: " تعدل خمسًا وعشرين "، فيكون التأويل في هذا كالتأويل فيما بين خمس وعشرين وسبع وعشرين المتقدم.
__________
(1) في (ط):" يصلح ".
(2) قوله:" الصلاة في " ليس في (ح).
(3) في (ح) و(ط):" بلفظ ".
(4) في (ط):" فإن ".
(5) في (أ) و(ط):" أفعل ".
(6) في (ح) و(ط):" إحدى ".(3/167)
وفيه حجة ظاهرة على صحة صلاة الفذ وإجزائها، لا سيما على نص حديث ابن عمر بقوله:" تزيد على صلاته وحده سبعًا وعشرين "، والزيادة إنما تكون على شيء ثابت، وكذلك في بعض طرق أبي هريرة: " يضاعف على صلاته في بيته، وهو مذهب عامة الفقهاء، خلافا لداود في قوله بعدم إجزاء صلاة الفذ إذا ترك الجماعة من غير عذر. وفيه جواز الصلاة في السوق، وقد استدل قوم من أهل العلم بظاهر هذه الأحاديث على أنه لا فضل لكثرة الجماعة يتضاعف بتكثيرها وإذ لا مدخل للقياس في الفضائل، ولما عليه عامة العلماء من أنه من صلى مع آخر، أو في جماعة قليلة فلا يعيد في جماعة أكثر منها، إلا ما روى لمالك وغيره من إعادتها في المساجد الثلاث في جماعة، وقد جاءت آثار بتضعيف الأجر بقدر العدد في الجماعة وليست بالثابتة، وإلى ذلك ذهب ابن حبيب من أصحابنا، وبإعادتها في جماعة أكثر من الأولى(1)، قال أبو حنيفة والشافعي، وقد جاء بعد هذا في حديث أبي بكر بن أبي شيبة قال فيه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:« صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته، وصلاته في سوقه بضعًا وعشرين درجة، وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد(2) لا ينهزه إلا الصلاة - أو(3) لا يريد إلا الصلاة - لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحطت عنه بها خطيئة، حتى إذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة تحبسه، والملائكة يصلون على أحدكم مادام في مجلسه الذي صلى فيه » الحديث، ظاهر هذا المساق الإشارة إلى أن هذه المعانى أسباب الدرجات وتضعيف عدد هذه الصلوات، قال بعضهم: فهذه أربع درجات في حديث أبي هريرة مفسرة، منها قوله: " ثم يخرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة"، فهذه درجة، وقوله:« لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحطت عنه سيئة فهذه ثانية»، وقال الداودي: إن كانت له ذنوب حطت عنه والا
__________
(1) في (ط):" الأول ".
(2) في (ح):" الصلاة ".
(3) قوله:" أو " ليس في (ط).(3/168)
رفعت درجات.
قال القاضي: والأظهر عندي في هذا أنها درجتان لا واحدة وهو بيّن ؛ لأن حط السيئة فضل، ورفع الدرجة فضل آخر، محتمل(1) أن يكون بالباء(2) لقوله في الحديث الآخر:« كتب الله بكل خطوة حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة »، قال: وصلاة الملائكة عليه في مصلاه درجة، وكونه في الصلاة ما انتظر الصلاة درجة، فهذه خمسة في حديث أبي هريرة، ثم إذا كثرت الخطا حصل بكل خطوة ثلاث درجات، ثم حضوره لفضل العتمة والصبح وتنبيه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما في ذلك من أجر درجة، وشهادة الملائكة له بذلك درجة، وكذلك إجابته الداعى درجة، وما ورد من الفضل في الدعاء في طريقه إلى المسجد درجة، وأجره على السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - والدعاء المأثور عند الدخول في المسجد، وعند خروجه درجتان، وسلامه على أهل المسجد أو على عباد الله الصالحين إن لم يجد فيه أحدًا درجة(3)، وتحية المسجد درجة، وإقامة الصفوف درجة، والإنصات للإمام درجة، وإجابته بربنا ولك الحمد، درجة، وامتثال أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في اتباع الإمام درجة، وتسليمه على الإمام درجة، وعلى من يليه درجة، قيل: ويحتمل أن التضعيف بمجرد الجماعة، وهذه كلها زيادة على الدرجات.
وقد قيل: إنه يحتمل أن يختص بهذه الأعداد بعض الصلوات دون بعض،
__________
(1) في (ح) و(ط):" بل يحتمل ".
(2) قوله:" بالباء " ليس في (ح).
(3) قوله:" درجة " ليس في (ح).(3/169)
فذكر بعضهم: أن السبعة والعشرين لصلاة العصر والصبح، والخمسة والعشرين لما عداهما، واستدل بقوله في حديث أبي هريرة بعد ذكره خمسًا وعشرين درجة، قال:« ويجتمع ملائكة الليل والنهار في صلاة الفجر »، فجاء بفضل مستأنف لصلاة الصبح، وقد جاء مثله في صلاة العصر، وقيل: بل يكون السبعة والعشرون لصلاة العشاء والصبح ؛ لما جاء أن:« من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف ليلة(1)، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام ليلة ». ولقوله - عليه السلام -:« ولو يعلمون ما في العتمة والصبح، فتحمل الزيادة لهذه الصلوات المخصوصة، قيل: ويحتمل أن يكون التضعيف بسبعة وعشرين للجماعة في المسجد على الفذ في غيره، وبخمسة وعشرين على الفذ في المسجد.
وابن أبي الخوار: بضم الخاء المعجمة، وأبو عبد الله ختن زيد بن زيان(2) مولى الجهنيين هو: أبو عبد الله الأغر.
واختلفت الرواية عندنا في حديث أبي هريرة،فعند العذري: خمس وعشرون جزءًا، وعند غيره:" خمسة "، على الوجه المعروف، وعند العذري في الحديث الآخر:" خمسًا وعشرين درجة "، وعند غيره:" خمسة "، والوجه حذف التاء مع الدرجة المؤنثة وإثباتها مع الجزء المذكّر(3)، لكن يحتمل الوجه الآخر، وكل كلمة على تقدير الكلمة الأخرى، والمراد بالدرجة الجزء وبالجزء الدرجة، كما قال: ثلاث شخوص لما كن نساء(4).
__________
(1) في (أ):" ليلة ".
(2) في (أ):" ربان "، وفي (ح):" زياد ".
(3) في (ط):" المؤخر ".
(4) في (ح):" نسوة ".(3/170)
وقوله - عليه السلام -:« لقد هممت أن آمر رجلاً يصلى بالناس ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها فأمر بهم فيحرقوا(1) عليهم بحزم الحطب(2) بيوتهم »، قال الإمام: ويحتج(3) به داود على أن صلاة الجماعة فرض على الأعيان، ومحمل هذا عندنا على أنهم منافقون لقوله - عليه السلام -:« لو يعلم أحدهم أن(4) يجد عظمًا سمينا » الحديث، ومعاذ الله أن تكون هذه صفات المؤمنين من الصحابة(5) على فضلهم، ومذهب غيره من الفقهاء أنها فرض على الكفاية، وعلى طريقة القاضي في أنه لو تمالأ أهل بلد على ترك الأذان لقوتلوا، ينبغى أن تكون صلاة الجماعة كذلك.
قال القاضي: واختلف في التمالي على ترك ظاهر السنن، هل يقاتل عليها تاركوها إلى أن يجيبوا لفعلها أم لا ؟ والصحيح قتالهم وإكراههم على ذلك ؛ لأن في التمالي عليها إماتتها، بخلاف مالا يجاهر به منها كالوتر ونحوها(6)، وقد أطلق بعض شيوخنا، القتال(7) على المواطأة على ترك السنن من غير تفضيل والأول أبين.
__________
(1) في (ح):" فتحرق ".
(2) قوله:" بحزم الحطب " ليس في (ح).
(3) في (ح) و(ط):" يحتج ".
(4) في (ح) و(ط):" أنه ".
(5) في (أ):" المؤمنين والصحابة ".
(6) في (ط):" نحو ذلك ".
(7) قوله:" القتال " ليس في (ط).(3/171)
وقد اختلف في هذه الصلاة التي همّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمعاقبة فيها، فقيل: العشاء، وقيل: الجمعة، وكلا القولين مفسر في أحاديث مسلم، وفي بعض روايات الحديث: هى العشاء أو الفجر(1)، وداود وأصحابه يقولون: هو في كل صلاة، على أصلهم. ويتخرج من جملة الأحاديث أنها في التخلف عن الجماعة في جمعة أو غيرها وبوجوب حضور الجماعة، قال عطاء وأحمد وأبو ثور، والحديث حجة على داود لا له ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - همّ ولم يفعل، ولأنه لم يخبرهم أن من تخلف عن الجماعة فصلاته غير مجزية، وهو موضع البيان، لكن في تغليظه ذلك وتشديده وابعاده دليل على تأكيد أمر الجماعة.
وقد اختلف. أئمّتنا في ذلك،. فقيل: إنها واجبة على الكفاية من أجل أن إقامة السنن وإحيائها واجب على الكفاية، إذ تركها مؤدّ إلى إماتتها، وقاله بعض الشافعية، والأكثر عندنا وعندهم وعند عامة العلماء: أنها سنة مؤكدة، كما جاء في الحديث، وإذا كان هذا النهي للمتخلف عن الجمعة كما جاء في حديث عبد الله(2) في الأم فلا حجة فيه لداود جملة، وإذ شهود الجمعة فرض. وقد قيل: إن هذا في المؤمنين، وأما المنافقون فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - معرضًا عنهم عالما بطوياتهم، كما أنه لم يعترضهم في التخلف، ولا عاقبهم معاقبة كعب وصاحبيه من المؤمنين. لكن المعلوم من حال الصحابة التجميع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وعدم التخلف عنه، ويشهد أن المراد به المنافقون قوله في بعض الأحاديث في "الأم":« ثم أحرق بيوتًا على من فيها ».
قال الإمام: وفي حديث تحريق البيوت إثبات العقوبة في المال.
__________
(1) في (أ):" العشاء والفجر ".
(2) في (ح):" عبدالله بن عمر ".(3/172)
قال القاضي: قال الباجي: ويحتمل أن يكون تشبيه عقوبتهم بعقوبة أهل الكفر في تحريق بيوتهم وتخريب ديارهم. وقد ذكر غيره الإجماع على منع العقوبة بتحريق البيوت إلا في المتخلف عن الصلاة، ومن غل في المغانم ففيه اختلاف للعلماء(1)، لكن ظاهر قوله:« ثم(2) يحرق بيوتا على من فيها »، أن العقوبة ليست قاصرة على المال، ففيه دليل على قتل تارك الصلاة متهاونًا، وفيه الإعذار قبل العقوبة بالتهديد بالقول والوعيد، وجواز أخذ أهل الجنايات والجرائم على غرة، والمخالفة إلى منازلهم وبيوتهم.
ومعنى:" أخالف " هنا"، أي: أتخلف عن الصلاة بعد إقامتها لعقوبتهم، وجاء(3) خالف بمعنى تخلّف. ومنه:" وخالف عنا علي والزبير "، أي: تخلفا، ويكون أيضًا أخالف بمعنى: آتيهم من خلفهم وآخذهم علي غرة، ويكون:" أخالف " أيضًا فعلي الذي أظهرت من إقامة الصلاة فأتركها وأسير إليهم لأحرقهم وأخالف ظنهم، أي: في الصلاة بقصدى إليهم. واستدل البخاري به على إخراج أهل المعاصى من بيوتهم، وترجم بذلك عليه، يريد أن من اختفى منهم وطلب أخرج من بيته بما يقدر عليه، كما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - إخراج، هؤلاء بإلقاء النار عليهم في بيوتهم، وذلك فيمن عرف واشتهر بذلك منهم.
وقوله:« لو يعلم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا لشهدها »، تحقيق لما يؤثره عليها المتخلف عنها.
وقوله:" يعني العشاء "، ففيه كله بيان أنها في المنافقين، بدليل قوله في الحديث الآخر فيهم(4):" لا يستطيعونها " يعني العتمة والصبح.
__________
(1) في (ح) و(ط):" اختلف العلماء ".
(2) قوله:" ثم " ليس في (ط).
(3) في (ط):" وقد " بدل:" وجاء ".
(4) في (ط):" فهم ".(3/173)
وقوله للأعمى الذي ذكر له أنه لا قائد له وسأله أن يرخص له فيصلى في بيته، فرخص له ثم قاله لما ولي:« أتسمع النداء ؟»، قال: نعم، قال: «فاجب »، تأكيد في التزام أمر الجماعة، وفيه حجة لعطاء ومن قال بقوله في وجوبها على من سمع النداء، ولأبي ثور وداود والأوزاعي في وجوب حضور الجماعة وحجة للجمهور في وجوب الجمعة من حيث يسمع النداء(1)، وفي تأكيد حضور الجماعة، وليس في قوله:" فأجب " بعد ترخيصه له مطلقًا حجة بينة على الوجوب،لكن جاء في رواية:« لا(2) أجد لك رخصة »، فهذا أقوى من رواية مسلم، لكن في ذلك الحديث:" ولى قائد لا يلائمني "، فقيل: لعله كان ممن(3) يتصرف في أمور دنياه دون قائد ككثير من العميان، وقيل: يحتمل أنه كان ذلك في الجمعة لا في الجماعة، وقيل: كان في أول إلإسلام، وحين الترغيب على الجماعة، وسد الباب على المنافقين في ترك حضورها، للإجماع على سقوط حضور الجماعة عن ذوى الأعذار. وحديث عتبان حجة لذوي الأعذار. وقد ذكر أبو داود وأبو الحسن الدارقطني هذا الحديث، وسمى(4) الأعمى فيه أنه ابن أم مكتوم.
وقول عبد الله بن مسعود:" لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق أو مريض "، دليل على أن الحديث المتقدم في المنافقين.
وقوله:" وإن كان الرجل ليمشي(5) بين الرجلين حتى يأتى الصلاة "، هو تفسير لقوله: " يهادى بين الرجلين "، في الرواية الأخرى، أي: يحملانه بينهما ويمسكانه بعضديه عونًا له على المشي ؛ لضعفه ومرضه، وكله دليل على تأكيد(6) أمر الجماعة. وسنن الهدى: طريقه ومنهجه، بفتح السين، وقد روينا سنن أيضًا جمع سنة، وهى الطريقة بمعنى متقارب.
__________
(1) قوله:" النداء " ليس في (ح).
(2) في (ح):" ما ".
(3) قوله:" ممن " ليس في (ط).
(4) في (ح):" سميا ".
(5) في (ح):" يمشي ".
(6) في (ح):" تأكيدًا على ".(3/174)
وقوله: " وإنكم(1) لو صليتم في بيوتكم كما يصلى هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم "، وفي بعض الروايات: "لكفرتم " تحذير وتنبيه على إقامة الجماعة والاحتفال لها لئلا يتطرق المتخلف عنها إلى تركها وتشديد في ترك السنن.
وقوله:" لضللتم ": ولكفرتم، أي: أن تركها داع إلى التهاون بالشريعة حتى يضل عنها ونسى(2) مؤكدات السنن ويجهل(3)، أو داع إلى ترك غيرها حتى ينسلخ من شرائع الإيمان والإسلام(4)، ويتساهل في قواعده، فيؤول إلى الضلال البين والكفر.
وقوله للذي خرج بعد النداء: أمّا هذا فقد عصى أبا القاسم، تشديد في الخروج من المسجد بعد النداء لغير ضرورة من تجديد طهر أو غيره.
وقوله:« من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف ليلة، ومن صلى الصبح في جماعة، فكأنما صلى الليل كله »، بيان اختصاص بعض الصلوات من الفضل بما لا يختص غيرها، ومعنى هذا: فكأنما قام نصف ليلة أو ليلة لم يصل فيها العتمة أو الصبح ا في جماعة، إذ لو صلى ذلك في جماعة لحصل له فضلها وفضل القيام زائد عليه.
وقوله:" سمعت جندبًا القَسْري يقول " كذا للجلودى، وسقط لغيره، وهو غير معروف في نسبه، وإنما هو بجلي علقي: بطن من بجيلة له. كذا قال البخاري، وقال أبو نصر الحافظ: هو علقة بن عبقر من بجيلة(5)، وقسر بن عبقر من بجيلة.
قال القاضي: ولعل لجندب حلفًا(6) في قسر أو سكنى وجوار فنسب إليها لذلك، أو لعل بني علقة ينسبون إلى عمهم قسر كغير واحد من القبائل نسبت بإخوة أبيها، إما لكثرتهم أو شهرتهم.
__________
(1) في (ح) و(ط):" إنكم ".
(2) في (ح) و(ط):" تنسى ".
(3) في (ح) و(ط):" تجهل ".
(4) قوله:" الإسلام " ليس في (أ) و(ط).
(5) قوله:" من بجيلة " ليس في (ط).
(6) في (ح) و(ط):" حلف ".(3/175)
وقوله:« من صلى الصبح فهو في ذمة الله »، الذمة: الضمان، وقيل: الأمان. وقوله في حديث عتبان بن مالك:فأدنيت فلم يجلس حتى دخل البيت ؛ كما رويناه(1)- ثم قال:« أين تحبُّ أن أصلي من بيتك ؟»، كذا عند جماعة شيوخنا وفي سائر النسخ قال بعضهم: صوابه:" فلم يجلس حين دخل البيت".
قال القاضي: هذا عندي تعسُّف، بل صواب الكلام حتى دخل البيت، كما رويناه، أي: لم يجلس في الدار حتى بادر إلى قضاء حاجته(2) التي جاء لها من الصلاة في بيته، فدخل وسأله: أين نصلى منه ؟ فيه التبرك بالفضلاء، ومشاهد(3) الأنبياء وأهل الخير ومواطنهم، ومواضع صلاتهم، وإجابة أهل الفضل لما رغب إليهم فيه من ذلك، تعاونًا على طاعة الله، وتنشيطًا على عبادته، وفيه إباحة التخلف عن الجماعة لضعف البصر والمطر(4) وشبهه، وقال بعضهم: وفيه جواز صلاة الزائر برب البيت، إذا كان عن إذنه، فلا يعارض بالحديث الآخر بالنهي عن ذلك. وعندى أن هذا لا حجة فيه ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحق بالإمامة حيث كان، وقد قال علماؤنا: إن الأمير إذا حضر أحق بالصلاة، فكيف بالنبى - عليه السلام - والأمر كله إليه، لكنه حق لصاحب المنزل مع غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا قدم غيره جاز.
وفيه اتخاذ المساجد في البيوت، وفيه جواز(5) إمامة الأعمى لقوله:"أنكرت بصري وأنا أصلي لقومي "، وفي "الموطأ" كان يؤم قومه وهو أعمى، وهو مذهب كافة السلف وعامة العلماء، إلا شيئًا روى عن ابن عباس وجابر، وقد تقدم الكلام أول الكتاب عليه.
__________
(1) قوله:" كما روينا " ليس في (ط).
(2) في (ح):" حتى قضى حاجته ".
(3) في (ح):" مشاهدة ".
(4) في (ط):" ولعذر المطر ".
(5) قوله:" جواز " ليس في (ح).(3/176)
وقوله:" فحبسناه على خزير صنعناه له "، وفي رواية:" خزيرة "، بهاء آخره، قال الإمام: قال ابن قتيبة: الخزيرة: لحم يقطع صغارًا ثم يصبّ عليه ماءٌ كثير، فإذا نضج زر عليه الدقيق، فإن لم يكن فيها لحم فعصيدة(1)، وقال أبو الهيثم: إذا كان من دقيق فهى حريرة، وإذا كان من نخالة(2) فهي خزيرة. قال ابن السكيت: الخزيرة: اللفيتة من لبن أو ماء ودقيق بتوسع به.
قال القاضي: وقد جاء في هذا الحديث نفسه:" على جشيشة(3) صنعناها له "، وهى بمعناها، قال شمر: هو أن تطحن الحنطة جليلا، ثم يلقى فيها لحم أو تمر(4) فيطبخ فيه(5)، وفي كتاب البخاري: قال النضر: الخزيرة من النخالة والحريرة من اللبن.
وقوله:" فثاب رجال "، أي: اجتمعوا، قال النضر: المثابة: المجتمع، والمثابة: المرجع، وسرواتهم ساداتهم. وبقية(6) خبر ابن الدخشم تقدم الكلام عليه صدر الكتاب في الإيمان، وكذلك على(7) قوله:« إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله ».
وقول ابن شهاب آخر الحديث: " ثم نزلت بعد ذلك فرائض وأمور نرى أن الأمر انتهى إليها، فمن استطاع ألا يغتر فلا يغتر "، بينا مذهبه في نسخ هذا الحكم ومذهب غيره والصواب من ذلك هناك.
__________
(1) في (ح):" فهي عصيدة ".
(2) في (ط):" نحال ".
(3) في (ح) و(ط):" حشيشة ".
(4) في (ط):" ثمر ".
(5) في (ط):" به ".
(6) قوله:" بقية " ليس في (ح) و(ط).
(7) قوله:" على " ليس في (ح).(3/177)
والمجّ: طرح الماء من الفم، وفي مجّ النبي - صلى الله عليه وسلم - الماء في وجه محمود بن الربيع جوازه على طريق المباسطة والتأنيس وممازحة الصغار وبرَّ آبائهم بذلك، وجواز المزح(1)، وفيه ما كان عليه - عليه السلام - من حسن العشرة(2)، وكما مازح - عليه السلام - أبا عمير، ولعل فعله هذا به ليعقل هذا الفعل منه لصغره فيحصل له بذلك تأكيد في فضيلة الصحبة، ونقل شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما كان، وكان محمود إذ ذاك ابن أربع سنين، وقيل: ابن خمس، وبخبر محمود هذا احتج على جواز سماع الصغير إذا عقل، وجعل بعضهم هذا السن حجة في صحة السماع، وليس كما قال، بل لا يصح ذلك إلا بما عقله من سماعه كما عقل محمود مجة النبي - صلى الله عليه وسلم - في وجهه.
وقوله في حديث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس: أن جدته مليكة: الضمير في "جدته" عائدٌ على إسحاق بن عبد الله، وهى أم أبيه عبدالله بن أبي طلحة، ومالك هو القائل:" أن جدته "، قاله أبو عمر، وغلّط غيره هذا القول وقال: بل مليكة جدة أنس أم أمه، وعليه يعود الضمير وهو القائل:" أن جدته وهى مليكة " بضم الميم وفتح اللام، كذا ضبطناها(3) في الأم وغيره(4)، وكذا ذكره الناس، وحكى ابن عتاب عن الأصيلي: أنها مليكة بفتح الميم وكسر اللام.
__________
(1) في (ح):" المدح ".
(2) في (ح):" المعاشرة ".
(3) في (ح):" ضبطناه ".
(4) في (ط):" وغيرها ".(3/178)
في هذا الحديث وما قبله ما كان - عليه السلام - عليه(1) من حسن الخلق وحسن العشرة(2) والتواضع، وإجابة المساكين والانبساط مع الضعفاء، وحسن العشرة مع الصغير والكبير، وفيه إجابة أهل الفضل للطعام لغير الوليمة، وذلك إذا كان لوجه حسن من تطييب نفس، أو لمن يختص بالرجل، أو يتبرك به، وكره مالك - رحمه الله - إجابة أهل الفضل لكل من دعاهم إلا في الوليمة، وفيه إجابة المرأة الصالحة والمرأة المتجالَّة.
وقوله:" قوموا فلأصلي(3) بكم "، فيه حض الرجل الصالح الناس على الخير والتجميع للنوافل وصلاة الضحى، وفي بابها(4) أدخله مالك في "الموطأ"، قيل: يحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد بذلك لتنالهم بركة الصلاة معه أو لتشاهد المرأة صلاته وتتعلمها منه وتقتدى به في ذلك معاينة ودون واسطة.
__________
(1) قوله:" عليه " ليس في (ط).
(2) قوله:" وحسن العشرة " ليس في (أ) و(ط).
(3) في (ح) و(ط):" فأصلي ".
(4) في (ح):" بابه ".(3/179)
وقوله:" فقمنا إلى حصير لنا قد اسودَّ من طول ما لبس، فنضحته بماء، فقام عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، فيه جواز الصلاة على الحصير وعلى ما تنبت الأرض، ولا خلاف في هذا، وما روي عن عمر بن عبد العزيز من خلاف هذا إنما هو ؛ لأن مباشرة الأرض أبلغ في التواضع، وقد بين في الحديث الآخر أنه كان من جريد، وفيه حجة أن الافتراش لبسٌ وأن المفترش والمتوطأ والمتكأ عليه كله ملبوس، وأن من حلف ألا يلبس ثوبا ولم يكن له نية معينة فافترشه أنه حانث، وفيه حجة أن افتراش الحرير حرام ؛ إذ هو من جملة اللباس المنهي عنه، على أن في الحديث الصحيح النص(1) على النهي عن الجلوس عليه، وهو مشهور مذهب مالك وكافة العلماء، خلافًا لعبد الملك بن الماجشون ومن قال بقوله في إجازة(2) الافتراش على ما نذكره بعد في موضعه. واسوداد الحصير إما لقدمه أو لما يناله من وضَرِ الدوس والأقدام والاستعمال.
ونضحه له، قال إسماعيل القاضي وغيره: إنما نضحه ليلين ويتوطأ للصلاة، والأظهر قول غيره: أن ذلك إما لنجاسة متيقنة فيكون النضح هنا غسلاً، أو متوقعة لامتهانه بطول(3) افتراشه فيكون رشا لزوال الشك، وتطييب النفس، لا سيما(4) وكان عندهم أبو عمير أخو أنس طفلاً صغيرًا حينئذ. وقد جاء في غير مسلم هذا الحديث مبينا ذكر أبي عمير فيه، فيكون نضحه لأجل جلوس الطفل الذي لا يتوقى النجاسة(5) ولا يبعد منه وتصرفه عليه.
وقوله:" فصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا "، حجة لكافة أهل العلم في أن هذا حكم الاثنين خلف الإمام، خلافًا لأبى حنيفة والكوفيين في قولهم: يكونان عن يمينه ويساره، وقد تقدم هذا.
__________
(1) في (ط):" أن النص ".
(2) في (ط):" إجازته ".
(3) في (ح) و(ط):" طول ".
(4) قوله:" لاسيما " ليس في (ط).
(5) في (ح) و(ط):" النجاسات ".(3/180)
وقوله:" والعجوز من ورائنا " حكم قيام المرأة خلف الإمام، ولا خلاف في هذا، وفيه حجة على(1) أن المرأة لا تؤم الرجال ؛ لأنه إذا كان مقامها في الائتمام غير مساو للرجل(2) فتتأخر عنه، فأحرى ألا تتقدمه، وهو قول الجمهور، خلافا للطبرى وأبى ثور في إجازتهما(3) إمامة الرجال والنساء جملة، وحكى عنهما إجازة ذلك لها في التراويح إذا لم يوجد قارئ غيرها. واختلف في إمامتها النساء، فذهب مالك وأبو حنيفة وجماعة من العلماء إلى منع إمامتها للنساء أيضًا، وأجاز ذلك الشافعي، وفيه رواية شاذة عن مالك مثله، واختاره بعض شيوخنا. وقد احتج بعضهم على(4) أحمد وأبى ثور ومن قال بقولهما في: أن صلاة المنفرد خلف الصف لا تجزئ. ولا حجة عليهم فيه؟ إذ يوافقونا(5) في المرأة. وفيه حجة على أن من يعقل الصلاة، من الصبيان حكمهم في القيام خلف الإمام وفي حضور الجماعات حكم الرجال، وهو مذهب الجمهور، وقد روى عن أحمد كراهة ذلك في الفرائض والمساجد، وقال: لا يقوم مع الناس إلا من قد احتلم أو أنبت أو بلغ خمس عشرة سنة، وروى عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كان إذا أبصر صبيًّا في الصف أخرجه، ونحوه(6) عن بعض السلف، وتأول بعضهم هذا على من لا يعقل الصلاة ولا يكف عن العبث فيها، وهو قول الكافة. وفي الحديث الآخر عن أنس: صلاته(7) - عليه السلام - به وبأمه وخالته، وجعله أنسًا عن يمينه، وهذه سنة هذه الصورة، وقد تقدم الكلام عليها، وفيه دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم، وظهور استجابة دعائه لأنس في تكثير ماله وولده، والترغيب في دعاء أهل الخير، وإجابة الله هذه الدعوة فيه.
__________
(1) قوله:" على " ليس في (ح).
(2) في (ط):" للرجال ".
(3) في (ح):" إجازتهما لها ".
(4) في (ح):" احتج به قوم على ".
(5) في (ط):" توافقوا ".
(6) في (ح):" وروى نحوه ".
(7) في (ط):" صلى ".(3/181)
وقوله:« اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه »، والبركة، تمت الدعوة وخلصه الله من الفتنة إن شاء الله، وصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - حذاء ميمونة وصلاته(1) على الخمرة، وقد(2) تقدم في كتاب الطهارة.
وقوله:« لا ينهزه إلا الصلاة »، أي: لا يحركه، وهو من(3) معنى قوله في الحديث:« لا يريد إلا الصلاة «، وقد تقدم الكلام على حديث أبي هريرة، [ ومعنى قوله:" ما لم يحدث "، والخلاف فيه، وفي الحديث نفسه تفسير](4).
وقوله في حديث الأنصاري في كثرة الْخُطا:" والله ما أحب أن بيتي مطنب ببيت محمد، أي: مشدود بالأطناب، وهى حبال البيوت، أي: لا أحب أن يكون ملصقًا فلا تكون لي خطى إلى المساجد أحتسبها(5).
وقول أُبيّ:" فحملت منه حملا "، أي: أكبر كلامه وعظم عليه وثقل حتى أخبر به النبي - عليه السلام - فصوبه بقوله:« لك أجر ما احتسبت »، ويدل على فضل هذا العمل على جوار المسجد نهى النبي - عليه السلام - الذين أرادوا بيع بيوتهم ليتقربوا من المسجد، وقال: " لكم بكل خطوة درجة ".
وقوله لبنى سلمة حين أرادوا الانتقال إلى جوار المسجد:« دياركم تكتب آثاركم، الزموا دياركم »، ومعنى:" نائية "، أي: بعيدة، زاد في كتاب البخاري وكره أن تعرى المدينة، فهذه علة أخرى في حضهم على المقام لئلا يخلو ما حول المدينة فتترك عراء، وهو الفضاء من الأرض، قال الله تعالى:{ فنبذناه بالعراء }، قيل: ذلك لئلا تخلو ناحيتهم من حراسها والله أعلم.
__________
(1) قوله:" وصلاته " ليس في (ح).
(2) قوله:" قد " ليس في (ط).
(3) قوله:" من " ليس في (ح).
(4) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(5) في (ط):" إلى المسجد أحسبها ".(3/182)
واختلف السلف على هذا في التخطى إلى الأبعد عن الأقرب لكثرة الخطى، فروي عن أنس أنه كان يجاوز المساجد المحدثة إلى القديمة، وروي نحوه عن غيره، وروى عن إبراهيم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال « الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرًا »، وكره الحسن وغيره هذا، وقال: لا يدع مسجد قومه ويأتى غيره، وهو مذهبنا، وفي المذهب عندنا في تخطى مسجده إلى الجامع الأعظم قولان.
وقوله:« مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم»، الغمر: بالفتح وسكون الميم، الكثير من كل شيء، وفي "الموطأ":" عذب غمر "، وذلك أن الماء العذب أبلغ في الإنقاء من غيره، كما أن الماء الكثير أبلغ من القليل.
وقوله:« على باب أحدكم »، تنبيه على قرب تناوله وسهولة تأتي استعماله.
وقوله:« هل يبقى من درنه » على معنى التقدير(1) لا على الاستفهام. والدرن: الوسخ، ضربه مثلاً لمحو الصلوات الخطايا كما نصه في الحديث نفسه.
وقوله:" كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلى فيه الصبح حتى تطلع الشمس "، وفي الحديث الآخر:" حسنًا "، أي: ترتفع ويظهر طلوعها وتتمكن وتباح الصلاة، وعند بعضهم:" حينا "، ومعناه - إن صحت - قريب من الأول، أي: تبقى بعد طلوعها وقتا من الزمان حتى تتمكن وترتفع، وهذا من المستحبات والفضائل لزوم موضع صلاة الفجر والإقبال على الذكر والدعاء إلى وقت إباحة الصلاة وكراهة الحديث حينئذ.
وقوله:" وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية(2)" دليل على جواز التحدث بأخبار الزمن(3) وأمور الأمم، وليس المعنى أنهم كانوا يتحدثون في ذلك الوقت فإنه وقت الذكر والدعاء، وإنما هو فصل آخر وسيرة أخرى في وقت آخر وصلهما(4) بالحديث الأول.
__________
(1) في (ط):" التقرير ".
(2) في (ح) زيادة:" فيضحكون ويتبسموا ".
(3) في (ح):" الزمان ".
(4) في (أ) و(ط):" وصلها ".(3/183)
وقوله:« أحب البلاد إلى الله مساجدها »؛ لأنها بيوت خصت بالذكر(1)، وبقع أسست للتقوى والعمل الصالح.
وقوله:« وأبغض البلاد(2) إلى الله أسواقها "؛ لأنها مخصوصة بطلب الدنيا ومخادعة العباد والإعراض عن ذكر الله، ومظان الأيمان الفاجرة، وإذا كان معنى الحب من الله والبغض عائدًا(3) إلى إرادته(4) الخير أو(5) الشر أو فعله ذلك بمن أسعده الله أو أشقاه، استبان لك أن المساجد مواضع نزول رحمة الله وفضله، والأسواق على الضد منها.
قال الإمام: قوله:« وإذا(6) حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم »، دلالة على أن الجماعة مأمورون بالأذان وإن لم يكونوا في مسجد.
قال القاضي: واستدل بعضهم فيه على استحباب الأذان في السفر، وقد يحتمل أنه أراد فعل ذلك في قومهم ؛ لقوله:« ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم »، ثم قال:« فإذا حضرت الصلاة »، وهذا أظهر، والأول يحتمل أن يريد إذا حضرت(7) من فراقكم لي.
قال الإمام: وفيه دلالة على أن الأذان ليس بمستحق للأفضل، ويحتمل أن يكون الفرق بين الأذان والإمامة(8) أن القصد من الأذان الإسماع، وذلك متأت من غير الأفضل كتأتيه من الأفضل، بل ربما كان الأنقص فضلاً أرفع صوتًا، وقد قال - عليه السلام - في حديث آخر:" فاطلبوا لي أنداكم صوتًا »، وهو هاهنا بمعنى: أبلغ في الإسماع، قال الشا عر:
فقلت ادعى وأدعو إن أندى لصوت أن ينادى داعيان
__________
(1) في (ط):" للذكر ".
(2) في (أ):" البقاع ".
(3) في (ط):" عائد ".
(4) في (ط):" إرادة ".
(5) في (ح):" و ".
(6) في (ح) و(ط):" فإذا ".
(7) قوله:" إذا حضرت " ليس في (ح).
(8) في (ط):" الإقامة ".(3/184)
قال القاضي: وقد يكون " أندى " من باب ألين وأسلس، ويدل عليه قوله في بعض الروايات لعبد الله بن زيد - وقد أراد أن يؤذن -:« إنك فظيع الصوت، فألقه على بلال فإنه أندى منك صوتا »، فمقابلة أندى بفظيع تشعر بما ذكرناه، مع قول عمر بن عبد العزيز:" أذن أذانا سمحًا أو اعتزلنا(1)".
وقوله:« وليؤمكم أكبركم »، وفي الحديث الآخر:« وأحقهم بالامامة أقرؤهم »، وفي الحديث الآخر:« أكبرهم ». قال الإمام: أمره بأن يؤم الأكبر، محمله على تساويهم فيما سوى السن من الفضائل المعتبرة في الإمامة، بدليل قوله في الحديث الآخر:« يؤم القوم أفقههم »، وتقديم الأفقه عندنا هو أولى، ثم القارئ بعده، ثم بعد ذلك فضيلة السن، وعند أبي حنيفة: القارئ أولى من الأفقه، وحجتنا عليه(2) قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:« أفقههم »، ولأن الحاجة تمس إلى الفقه في الصلاة أكثر من الحاجة إلى معرفة وجوه القراءة، فإن احتج بقوله - عليه السلام -:« يؤم القوم أقرؤهم »، قلنا: فإن أصحابنا تأولوه على أن الأقرأ هاهنا هو الأفقه ؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يتفقهون في القرآن فأكثرهم قرآنا أكثرهم فقهًا.
[ قال القاضي: وقال بعض علمائنا: إنما هذا الترجيح إذا تشاحوا، وإلا فمتى كان كل واحد منهم يصلح للأمة(3) فلا يحتاج إلى هذا، فمن تقدم منهم لم يكره في حقه وجاز له ذلك ولم يكن مسيئًا(4)](5).
[ وقوله:" شبيبة "، أي: أحدًاث، جمع شاب ](6).
وقوله: " متقاربون "، أي: في الأسنان، وقيل: في العلم والقراءة.
__________
(1) في (ح):" سمحًا وإلا فاعتزلنا ".
(2) قوله:" عليه " ليس في (ح).
(3) في (ط):" للإمامة ".
(4) في (ح):" ولم يلزمه " بدل:" ولم يكن مسيئًا "، وفي (ط) مكانها:"لمن قدمه".
(5) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(6) مابين المعكوفين ليس في (ط).(3/185)
وقوله في حديث أبي مسعود من رواية الأعمش:« يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة »، يقوى قول المخالف، فإنه قد فصل القراءة من السنة، ولم تأت هذه الزيادة في رواية غير الأعمش، ومجملها عندنا وعند الشافعي - والله أعلم - فيمن كان في أول الإسلام، وعند عدم الثقة، وكان المقدم القارئ، حتى وإن كان صبيًّا على ما جاء في حديث عمرو بن سلمة، فلما تفقه الناس في القرآن والسنة قدم الفقيه(1)، بدليل تقديم النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر لخلافته في الصلاة، وقد نص - عليه السلام - أن غيره أقرأ منه، وقيل: قدم التفقه في كتاب الله ؛ لأنه أصل الفقه والعلم أولاً، ثم الزيادة بعلم سنة رسوله(2) من باب تقديم الأفقه على من دونه في الفقه.
وفي(3) قوله:« يؤم القوم أقرؤهم »، حجة لنا في منع إمامة المرأة ؛ لأن القوم ينطلق على الذكور(4) دون الإناث، قال الله تعالى:{ لا يسخر قومٌ من قوم }، ثم قال:{ ولا نساء من نساء }، قال الشاعر:
أقوم آل حصن أم نساء
ففصل بين النساء والقوم. وهذا في إمامتها بالرجال(5)،[ وقد تقدم الكلام في ذلك ](6).
وقوله:« فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة » لزيادة فضلها.
__________
(1) في (ط):" الفقه ".
(2) في (ط):" رسول الله ".
(3) قوله:" في " ليس في (ط).
(4) في (ح):" الذكورية ".
(5) في (ط):" الرجال ".
(6) مابين المعكوفين ليس في (ط).(3/186)
وقوله:« فإن استووا في الهجرة فأقدمهم سلمًا »، وفي الرواية الأخرى: " سنًّا "، وفي الحديث الآخر: " فأكبرهم سنًّا "، والسلم هنا: الإسلام، وقد روي " إسلامًا "، وقدم الإسلام: زيادة فضيلة(1) لا شك مع الاستواء فيما دونها،[ كما أن كبر السن زيادة فضيلة مع الاستواء فيما دونها ](2)، وقد روي عن الزهري في هذا الحديث:« فإن استووا في القراءة فأفقهم في دين الله فإن كانوا في الفقه سواء فأكبرهم سنًّا، فإن كانوا في السن سواء فأصبحهم وأحسنهم وجهًا، فإن كانوا في الصباحة والحسن سواء فأكبرهم حسبًا ». قال الخطابي: وإن كانت الهجرة اليوم قد انقطعت مراعاتها ففضيلتها باقية على أبنائهم، فمن كان من أبناء المهاجرين أو كان في آبائه وأسلافه من له سابقة وقدم في الإسلام فهو مقدم(3) على غيره، ممن ليس له مثل ذلك، أو هو حديث عهد بإسلام ؟ ولهذا قدّم ذو السن ؛ لأنه أقدم إسلامًا، فصار بمنزلة القديم الهجرة.
__________
(1) في (ح):" فضل ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(3) في (ح):" متقدم ".(3/187)
قال بعض المتكلمين: رتب النبي - صلى الله عليه وسلم - الأئمة هذا الترتيب ؛ لأنها خلافة النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ هو إمام الناس في الدنيا والآخرة، فهى بعده للأقرب إليه منزلة، والأشبه به مرتبة، ثم بسط الكلام في أن هذه الصفات والأخلاق من العلم بالقرآن والسنة وقدم الإسلام وحصافة العقل وهيبة(1) القدر - الذي هى معنى السن، وجلالة النسب، وحسن الصورة، وحسن الأخلاق - هى صفات النبي - عليه السلام - وهو المتصف بها حقيقة على الكمال، فمن اتصف بها كان أشبه بالنبى - صلى الله عليه وسلم - وأولى بخلافته، ومن اتصف ببعضها كان من اتصف بجميعها أولى منه، وكان(2) - عليه السلام - خلقه القرآن، وقال:« من قرأ القرآن فكأنما أدّرجت النبوة بين جنبيه(3)»، وكان علمه وعلم السنن إليه ومنه اقتبس، وكان من جمال الصورة وحسن الخلق على ما عرف، وقال الله تعالى:{ إنك لعلى خلق عظيم }.
قيل:" قد(4)" تكون العبارة بصباحة الوجه وحسنه هنا عن بشره وطلاقته فيه(5)، والقلوب إلى الصفات الحسنة أحب والنفوس(6) إلى الأخلاق الحسنة، والوجوه البسيطة(7) أميل، وبالتقديم لها في أمورها وحوائجها أرضى، وقد قال - عليه السلام -:« أقربكم منى مجلسًا أحاسنكم أخلاقًا »، وكذلك الحسيب يقرب إليه بمشاركة شرف حسبه(8) وكرم فخاره(9)، مع أن أهل الحسب أنزه بهممهم(10) عما يشين، وكذلك الكبير السن أتم عقلا، وأقدم إيمانًا، وقد قال - عليه السلام -:« ليلينى منكم ذوو الأحلام والنهى »، فمن جمع هذه الخصال صلح لخلافته الكبرى فكيف الصغرى ؟
__________
(1) في (ح) و(ط):" هيئة ".
(2) في (ح) و(ط):" فكان ".
(3) في (ط):" كتفيه ".
(4) قوله:" قد " ليس في (ح).
(5) قوله:" فيه " ليس في (ح) و(ط).
(6) في (أ) و(ط):" النفس ".
(7) في (ح) و(ط):" المنبسطة ".
(8) في حاشية (ح):" نسبه ".
(9) في (ح) و(ط):" نجاره ".
(10) في (أ):" بهمهم "، وفي (ح):" بهيئتهم ".(3/188)
وأما قوله في الحديث الآخر:« وليؤمكم أكبركم »، فذلك-والله أعلم- فيما قيل لعلمه باستوائهم في القراءة والفقه، لوفودهم معا وتعلمهم عنده عشرين يومًا معًا، وقد جاء مفسرًا في الحديث نفسه من الرواية الأخرى. قال: وكانوا متقاربين في القراءة وكذلك. قوله في الحديث الآخر: «ليؤمكما أكبركما »، ووجه الجمع بين هاتيهن الروايتين من قول مالك بن الحويرث في الحديث الأول:" وفدنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناس ونحن شببة متقاربون "، وفي الآخر:" وفدت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا وصاحب لي" أن(1) يكونا حديثين وفي(2) وفادتين - والله أعلم -.
وقوله:« ولا يؤمن الرجل في سلطانه ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه »، جاء في الحديث تفسير " تكرمته ": فراشه. وفيه حجة على أن الإمام من السلطان أو من جعل له الصلاة أحق بالتقدم(3) حيث كان من غيره. قال الخطابي: وهذا في الجمعات والأعياد، لتعلقها بالسلاطين، فأما في الصلوات المكتوبات فأعلمهم أولاهم.
قال القاضي: هذا ما لا يوافق عليه، والصلاة لصاحب السلطنة حق من حقه وإن حضر من هو(4) أفضل منه وأفقه، وقد تقدم الأمراء من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمن بعدهم على من تحت، أيديهم وفيهم الأفضل. وقد ذكر شيوخنا: أن الإمام على الجملة أولى بالصلاة دون تفضيل في وجه، وحكى الماوردي قولين في الأحق هو(5) أو رب المنزل إذا اجتمعا ؟ ثم صاحب المنزل أحق من زائره ؛ لأنه سلطانه، وموضع تدبيره، ولا خلاف يعلم في هذا، مع نص الحديث فيه، إلا أن يأذن صاحب المنزل للزائر. ويستحب له إن حضر من هو أفضل منه أن يقدمه. قال الخطابي: وكذلك إمام مسجد قومه وقبيلته.
__________
(1) في (ح):" يحتمل أن ".
(2) في (أ):" في ".
(3) في (ح):" بالتقديم ".
(4) قوله:" من هو " ليس في (أ) و(ط).
(5) في (ح):" أهو ".(3/189)
وقوله:« إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما »، وفي(1) رواية الترمذى: «إذا سافرتما فأذنا وأقيما »، فيه حجة للأذان في السفر، ومذهب مالك وأئمة الفتوى وأكثر العلماء على استحبابه وجوازه، وترك وجوبه، إلا ما روي عن عطاء: أنه يعيد إذا لم يؤذن ويقم(1)، احتمالاً على ظاهر الأمر في الحديث، ومثله في الإقامة عن مجاهد، وبوجوبه قال داود وأصحابه، ومحمول الحديث عندنا وعند الجمهور على الندب والفضل. وحكى الطبري عن مالك: إن ترك المسافر الأذان عمدًا فعليه إعادة الصلاة، وهذا نحو قول المخالف.
وقوله: " فلما أردنا الإقفال "، أي: الرجوع، يقال: قفل الجيش إذا رجع، وأقفلهم الأمير، ويقال: قفلهم أيضًا كأنه قال: فلما أردنا أن يؤذن لنا في الرجوع.
أحاديث القنوت
ذكر مسلم عن أبي هريرة قنوت النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الفجر بعد الركوع ودعائه لقوم وعلى آخرين ثم ترك ذلك، وفي رواية عنه: " بينا هو يصلى العشاء " وعند العذري: " العشي"، وفي رواية عنه: " أنه قنت في الظهر والعشاء الآخرة وصلاة الصبح "، وعن أنس(2) أنه:" دعا على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة ثلاثين صباحا "، وعنه: " قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الصبح بعد الركوع يسيرًا "، كذا لهم، وكذا في البخاري، وعند بعضهم: "شهرًا ". قيل: هو أصوب كما جاء في الحديث الآخر ثلاثين ليلة، ولعل "يسيرا " تصحيف منه، وقد يكون صوابًا ؛ لتقليل المدة، وعنه:" أن
__________
(1) في (ط):" يقيم ".
(2) في (ط):" ابن عباس ".(3/190)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما قنت قبل الركوع، وأنكر بعد الركوع ". وقال: " إنما قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع شهرًا "، زاد في البخاري:" ثم تركه "، ولم يذكر مسلم قوله:" بعد الركوع "، وذكره البخاري. وعن البراء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقنت في الصبح والمغرب، وعن خفاف الغفاري أنه قنت بعد الركوع، وفي "كتاب أبي داود" عن ابن عباس:" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت في الصلوات الخمس وسماها "، وفي "الموطأ" عن الأعرج:" ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان ".
قال القاضي: اختلف العلماء في القنوت في صلاة الفجر وفي الوتر في رمضان، وغيره، وما عدا ذلك، فلم يعملوا به إلا أن ينزل(1) نازلة، كما نزلت بأصحاب بئر معونة أو يحتاج(2) إلى الدعاء في أمر مهم، فقد أرخص بعضهم أن يقنتوا في سائر الصلوات ويدعو في ذلك(3)، وقاله الشافعي والطبري، وأنكر هذا الطحاوي [ وقال: لم يقله أحدٌ قبل الشافعي ](4)، وروي عن بعض السلف فعله، وأنكر الشعبي القنوت في الفجر وغيره،[ورواه الواقدي عن مالك والثوري ](1)، واختلف في فعله عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم -، وراه بعضهم بدعة، رُوي عن ابن عمر وعنه خلافه(5)، وذهب مالك والشافعي وأحمد وداود في جماعة إلى العمل بالقنوت في الفجر، ولم يقل به الكوفيون والليث ويحيى بن يحى من المالكية.
__________
(1) في (ح):" تنزل ".
(2) في (ط):" يحتاجوا ".
(3) قوله:" ويدعو في ذلك " ليس في (ح).
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(5) في (ط):" خلاف ".(3/191)
ثم اختلف القائلون في حكمه، فالمعروف من قول مالك وغيره أنه من المستحبات والمرغب فيها، وذهب الحسن وابن سحنون والشافعي أنه سنة، وهو مقتضى رواية على عن مالك بإعادة تاركه الصلاة عمدًا،وقد حكى الطبري الإجماع على أن تركه غير مفسد للصلاة، وعن الحسن في تركه سجود السهو، ثم اختلفوا في موضعه فالمشهور عن مالك استحبابه(1) قبل الركوع، وهو قول إسحاق وابن أبي ليلى وعمر بن عبد العزيز، وروي عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس(2) وجماعة من الصحابة والتابعين وأصحاب الرأي،[ وذهبت طائفة إلى التخيير في ذلك والتوسعة قبل الركوع، وإليه ذهب أحمد(3)، وروى عن أنس، وهو قول مالك، لكنه استحب ما تقدم، وجعلها القزويني روايتين عنه](4)، وحكى الخطابي(5) عن مالك أنه(6) بعد الركوع وهو قول ابن حبيب وابن وهب(7) والشافعي وأحمد، وحكى عن إسحاق أيضًا، وروي عن الخلفاء الأربعة وغيرهم. ثم اختلفوا هل يكبر له ؟ وهل يرفع يديه إذا دعى فيه ؟ ومالك لا يرى شيئًا من ذلك. ثم اختلف القائلون بالقنوت في صلاة الفجر، هل يقنت في الوتر في رمضان أو غيره ؟ فروي عن علي وأبى وابن عمر وجماعة من السلف والفقهاء القنوت في الوتر في النصف الآخر من رمضان من ليلة ست عشرة، وقيل: خمس عشرة، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، ورواية ابن وهب والمدنيين عن مالك. وقالت طائفة: لا يقنت في الوتر جملة وروى عن ابن عمر وطاوس، وهى رواية ابن نافع(8) والمصريين عن مالك، وعن أبي حنيفة: أنه لا يقنت إلا في وتر رمضان فقط، فيستحب في جميعها(9)، وقاله
__________
(1) قوله:" استحبابه " ليس في (أ).
(2) قوله:" وابن عباس " ليس في (أ).
(3) في (ط) زيادة :" ابن حنبل ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(5) في (ح):" وحكى الخطابي في ذلك وحكى الخطابي ".
(6) قوله:" أنه " ليس في (أ) و(ح).
(7) قوله:" ابن وهب " ليس في (أ).
(8) قوله:" ابن نافع " ليس في (أ).
(9) في (ط):" جميعه ".(3/192)
النخعي، وحكى عن إسحاق، وقيل: يقنت في وتر السنة كلها، وهو قول ابن مسعود والحسن والنخعى وإسحاق وأبى ثور، وقال قتادة: يقنت في السنة كلها إلا في النصف الأول من رمضان، وروى أيضًا عن الحسن. ثم اتفقوا على أنه لا يتعين في القنوت دعاء مؤقت، إلا ما روى عن بعض أهل الحديث في تخصيصها بقنوت مصحف أبي بن كعب المروي: أن جبريل - عليه السلام -
علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو:« اللهم إنا نستعينك ونستغفرك » إلى آخره، وأنه لا يصلي خلف من لا يقنت بذلك، لكنه يستحب عند مالك والكوفيين القنوت بذلك، واستحب الشافعي القنوت بالدعاء المروى عن الحسن بن على عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقنت به:« اللهم اهدني فيمن هديت »، إلى آخره، وقد اختار بعض شيوخنا البغداديين الجمع بين الدعائين في القنوت، وذكر ذلك القاضي ابن نصر، وهو قول إسحاق والحسن بن حى. قيل في معنى قول أنس:" قنت شهرًا ثم تركه ":، أي(1): ترك الدعاء على هذه القبائل وفي الصلوات الأربع، ولم يتركه في صلاة الصبح،[ ويدل حديث أنس علىاستدامته - عليه السلام - القنوت في صلاة الصبح ](2)، وأن الاختلاف عنه في قنوته وتركه على هذا، وكذلك الاختلاف عنه في قبل الركوع وبعده، لاختلاف القنوتين، فقيل: في الفجر وبعده(3) في الدعاء على الكفار.
__________
(1) في (ح):" أو ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(3) في (ح) و(ط):" وبعد ".(3/193)
[ واختلف في رفع الأيدي في القنوت، فقيل: لا يرفع، حكاه ابن سفيان(1) وقاله الأوزاعي ويزيد بن أبي مريم، وهو مشهور مذهبنا، وروى ابن أبي أوس عن مالك أنهما من المواضع(2) التي رأى رفع الأيدي فيها كما ترفع في الصلاة ](3)، وفي دعائه - عليه السلام - على من دعا عليه في الحديث من الكفار ولعنهم: جواز(4) لعن الكفرة والدعاء عليهم، وتعين من تعيق منهم، ولا خلاف في الدعاء على الكفرة.
واختلف في الدعاء على أهل المعاصي، فأجازه بعضهم وأباه(5) آخرون، وقالوا: يدعى(6) لهم بالتوبة لا عليهم إلا أن يكونوا منتهكين لحرمة الدين وأهله، وقيل: إنما يجب الدعاء على أهل الانتهاك في حين فعلهم ذلك وإقبالهم، وأما في إدبارهم فيدعى لهم بالتوبة. وحديث زهير بن حرب عن حسين بن محمد: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت بعد الركعة في صلاته شهرًا "، الحديث، لم يقع هذا الحديث عند العذري ولا عند الفارسي، ولا عند ابن ماهان، وهو ثابت في نسخة ابن عيسى وبعض الشيوخ(7) وحوَّق عليه في كتاب الجياني، ثم جاء السند بعينه بعده في حديث:" بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلى العشاء " عند(8) جميعهم بغير خلاف، ووقع هنا عند القاضي الصدفي:" يصلي العشي " فإن صح فمعناه إحدى صلاتي العشي.
وقوله:" لأقرِّبن لكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، أي: لأصلي صلاة تقرب من صفتها، كما قال في حديثه الآخر:" إنى لأقربكم شبها(9) بصلاته(10)"، وقال بعضهم: صوابه لأقتربن، أي: لأتتبعن، وهذا تعسف.
__________
(1) في (ط):" شعبان ".
(2) في (ط):" المواطن ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(4) في (ح):" وجواز ".
(5) في (ح):" ومنعه " بدل:" وأباه ".
(6) في (ط):" يدعو ".
(7) في (أ) و(ط):" النسخ ".
(8) في (ط):" بعض ".
(9) في (ط):" شبيها ".
(10) في (ح):" بصلاة رسول الله ".(3/194)
وقال مسلم: " حدثنى عبيد الله بن معاذ العنبري، وأبو كريب وإسحاق بن إبراهيم ومحمد بن عبد الأعلى واللفظ لابن معاذ، كذا لجميعهم، وفي كتاب العذري ومحمد بن عبد الله مكان عبد الأعلى، وهو خطأ، والصواب ابن عبد الأعلى، وهو الصنعانى خرج له النسائي أيضًا أحاديث النوم عن الصلاة. قال الإمام: إن قيل: ما معنى قوله في الحديث الآخر: «إن عينى تنامان ولا ينام قلبى »، وقد نام في حديث الوادي حتى طلعت الشمس، قلنا(1): إن من أهل العلم من يتأوّل أن(2) قوله - عليه السلام -:« إن عينى تنامان ولا ينام قلبى » على أن ذلك غالب حاله، وقد ينام نادرًا، بدليل حديث الوادي، ومنهم من تأول ذلك أنه على أنه لا يستغرقه النوم حتى يكون منه الحدث، والأولى عندي أن يقال: ما بين الحديثين تناقضٌ ؛ لأنه ذكر في الحديث(3):« أن عينى تنامان ولا ينام قلبي(4)»، وكذلك كان يوم الوادي إنما نامت عيناه فلم ير طلوع الشمس، وطلوعها إنما يدرك بالعين دون القلب.
قال القاضي: قيل: لا ينام قلبه من أجل أنه يوحى إليه، ويدل أن الاستغراق لا يجوز عليه جملة أو غالبًا ؛ أنه كان محروسًا من الحدث كما جاء في الحديث، وأنه كان ينام حتى ينفخ، ويسمع غطيطه ثم يصلي ولا يتوضأ، وقد تكون هذه الغلبة هنا للنوم والخروج عن عادته فيه لما أراد الله تعالى من بيان سنة النائم عن الصلاة كما قال في الحديث الآخر:" لو يشاء(5) الله لأيقظنا "، ولكن أراد أن يكون لمن بعدكم.
__________
(1) في (ح):" قيل ".
(2) قوله:" أن " ليس في (أ) و(ط).
(3) في (ح):" الحديثين ".
(4) قوله:" ولا ينام قلبه " ليس في (ط).
(5) في (ح) و(ط):" شاء ".(3/195)
وقوله في الحديث(1) من رواية الزهري عن سعيد عن أبي هريرة: " حين قفل من غزوة خيبر "، قال الأصيلى: هو غلط، وإنما هو: حين قفل من حنين،[ ولم يعتر ذلك النبي - عليه السلام - إلا مرة حين قفل من حنين ](2) إلى مكة، وقال الباجي وابن عبد البر: إن قول ابن شهاب:" من خيبر " أصح، وهو قول أهل السيرة، وفي حديث ابن مسعود أن نومه ذلك كان عام الحديبية، وذلك في زمن خيبر. قال الباجي: وعليه يدل حديث أبي قتادة، قال غيره:وكذلك قوله بطريق مكة: هو طريق لمكة لمن شاءه، قال أبو عمر: في هذه الأخبار ما يدل أن نومه كان مرة واحدة، ويحتمل أن يكون مرتين ؛ لأن في حديث ابن مسعود: " أنا أوقظكم "، وقد يمكن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجبه إلى ذلك وأمر بلالاً.
قال القاضي: أما حديث أبي قتادة فلا مرية أنه غير حديث أبي هريرة، وكذلك حديث عمران بن حصين، يدل أنها في موطنين، ونبين ذلك(3) آخر الباب. والكرى: النوم.
وقوله:" عرس [ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ](4)"، التعريس: نزول آخر الليل للنوم والراحة، قاله الخليل وغيره. وقال أبو زيد: التعريس النزول، أي: وقت كان من ليل أو نهار. وفي الحديث:" معرسين(5) في نحر الظهيرة "، وهذا حجة له، واستحب أهل العلم أن يكون متنحيا عن الطريق منكبًا عنه للحديث الوارد في ذلك، ولقوله:« لأنه مأوى الهوام وطرق الدواب بالليل»، ولقوله في حديث أبي قتادة: " فمال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الطريق فوضع رأسه ".
__________
(1) في (ح):" الحديث الآخر ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(3) في (ح):" نبينه في ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).
(5) في (ح) و(ط):" معرسون ".(3/196)
وقوله لبلال:« اكلأ لنا الليل »، وفي "الموطأ":" الصبح " قيل: وفيه دليل على صحة قبول خبر الواحد والعمل به، وقد يعترض على هذا بأن الأمر يرجع في خبر بلال بعد إلى العمل باليقين من المشاهدة والضرورة برؤية الفجر بعد تنبيه بلال عليه. وفي الحديث دليل على جواز النوم قبل وقت الصلاة وإن خشى استغراقه حتى يخرج وقتها، إذ لم يتوجه عليه الخطاب بها بعد ؛ ولأن هذا قد يعترى النائم أول الليل، وإن كان الأغلب على النائم آخره الغلبة والاستغراق، لا سيما للمسافر والتعب(1).
وفيه الترفق بالمسلمين، وقد جاء في "البخاري" أنهم طلبوا التعريس منه فقال:« أخاف أن تناموا »، فقال بلال: " أنا أوقظكم "، فكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذهب إلى الأخذ بالاحتياط لهم، فلما رأى حاجتهم واعتمد على إيقاظ بلال وكلائته أباح ذلك لهم.
وفيه استعمال الرجل خادمه في مثل هذا وراحته بتعبه ما لم يجحف(2) به، فكيف وقد روى أن بلالاً قال ذلك ابتداء كما تقدم. وقوله:" فلم يستيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا(3) أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس "، أي: أصابهم شعاعها وحرها على ما جاء في الحديث الآخر(4).
__________
(1) في (ح):" المتعب ".
(2) في (ط):" أو ".
(3) في (ط):" أو لا ".
(4) قوله:" الآخر " ليس في (ح).(3/197)
وقوله:" ففزع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، وفي الحديث الآخر:" فقمنا فزعين "، قال الأصيلي: وذلك لأجل عدوهم خوفًا أن يكون اتبعهم فيجدهم بتلك الحال من النوم والغرة، وقال غيره: بل ذلك لما فاتهم من أمر الصلاة، وأنه لم يكن عنده ولا عندهم حكم من نابه ذلك، وحذروا المأثم والمؤاخذة بذلك، حتى أعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه لا إثم عليهم، بدليل قولهم في الحديث الآخر: ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا ؟، فقال:« أما لكم في أسوة(1)؟»، ثم قال: « أما إنه ليس في النوم تفريط »، وهذا بيِّنٌ في حقهم هم، وقد يكون ذلك حكمه هو، بدليل قوله:« أما لكم في أسوة ؟»، ثم أوحي إليه بزوال الحرج، ألا تراه كيف قال، ثم قال:« إنه ليس في النوم تفريط »، ثم يقتضي المهلة وقد قيل(2): فزعهم بمعنى مبادرتهم للصلاة،كما قال:" فافزعوا للصلاة "، أي: بادروا إليها، وكأنه من معنى الاستغاثة بها من تخويف الله عباده بذلك، وقد يكون فزع النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا [ هيوبه لأول استيقاظه من نومه، قال الخطابي: معناه أنه... أفزعت الرجل ففزع، أي: نبهته فانتبه. قال الهروي في الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نام ففزع وهو... اذهب من نومه، وقد يكون فزع النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا ](3) إجابته الفزعين من أصحابه وإغاثتهم لما نزل بهم. يقال: فزعت: استغثت، وفزعت: أغثت.
وقوله:« أي: بلال »، كذا عند الشّنتجالي وابن أبي جعفر، وعند العذري والسمرقندي:« أين بلال ».
__________
(1) في (ح) زيادة:" حسنة ".
(2) في (ح) و(ط):" يكون " بدل:" قيل ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).(3/198)
وقول بلال: " أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك "، على طريق العذر مما كان قد تكفل بضمانه، لا سيما على ما ذكره البخاري في حديث أبي قتادة من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:« أخاف أن تناموا »، فقال بلال:" أنا أوقظكم ". وقد اختلف الناس في النفس ما هي ؟ وفي الروح على مقالات كثيرة، ومذهب أئمتنا: أنهما(1) بمعنى واحد، وأنها الحياة، ويدل عليه قوله في الرواية الأخرى:" إن الله قبض أرواحنا "، وقوله:{ الله يتوفى الأنفس حين موتها}، وقد ذكرت العرب الروح وأنثته بمعنى النفس.
وقال أبو القاسم القشيري: وقيل الروح: أعيان مودعة في الأجساد لطيفة، أجرى الله العادة بخلق الحياة في الجسد ما دامت فيه تلك الأجساد اللطيفة، فالإنسان حي بالحياة والإنسان مجموع الجسد والروح، وجملة ذلك هو المعاقب والمثاب، وعلى هذا تدل الآثار، وأما النفس فذات الشيء ووجوده، وقد يحتمل أن تكون النفس لطيفة مودعة في الجسم محلاً للأخلاق المعلولة. كما أن الروح محل للأخلاق المحمودة، والإنسان ينطلق على ذلك كله، قال غيره(2): ولها اسم ثالث، وهى النسمة. وقد قيل: إن الروح والنفس هو النفس المتردد في الجسد، وهذا غير صحيح، لا لغة ولا معنى. وقيل: النفس الدم، ولكن لا يصح به تفسير هذا الحديث، وقد يمكن تسميته به. وقيل: هو أمر مجهول لا تعرف ماهيته، كما قال تعالى:{ قل الروح من أمر ربي }، وسيأتى الكلام عليه بعد هذا حيث ذكر منه صاحب "المعلم" إن شاء الله.
__________
(1) في (أ):" أنها ".
(2) قوله:" قال غيره " ليس في (ح).(3/199)
وقوله:« اقتادوا »، فاقتادوا رواحلهم شيئًا، وفي الحديث ا لآخر: «ارتحلوا »، وفي حديث زيد بن أسلم:" فأمرهم أن يركبوا فركبوا "، ومثله في حديث أبي قتادة، وقيل:" فركبوا " محمله أن بعضهم ركب وبعضهم اقتاد، وهذا على من جعل الأحاديث في هذه واحدة، وأما إن كانت في مواطن فلا تعارض في ذلك، وسنذكر هذا بعد. وأمره - عليه السلام - لهم بهذا مع وجوب المبادرة للصلاة، قال الإمام: اختلف في علته، فقيل: لأن كانت طالعة، وإنما أمرهم باقتياد رواحلهم حتى ارتفعت ا الشمس، وقيل: إنما ذلك لما ذكر بعد من قوله:« إن هذا منزل حضرنا فيه شيطان »، وهذا هو الأظهر(1)، ومذهب أبي حنيفة أن المنسيات لا تقضى عند طلوع الشمس، ويحتج بتأخير النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة حتى خرج من الوادي. وهذا لا حجة له به(2)؛ لأنه كان في صلاة ذلك اليوم وهو يوافق على أن صلاة(3) ذلك اليوم تقضى عند طلوع الشمس، والحجة عليه أيضًا قوله - عليه السلام -:« فليصلها إذا ذكرها »، فعم سائر الأوقات.
__________
(1) في (ح):" الظاهر ".
(2) في (ح):" فيه ".
(3) في (ط):" الصلاة ".(3/200)
قال القاضي: لا حجة لأبى حنيفة بما قال من الحديث ؛ لما ورد في الحديث نفسه:"فما أيقظنا إلا حر الشمس"، وقوله في الحديث(1) الآخر: "فضربتنا الشمس "، وهذا كله لا يكون إلا بعد ارتفاعها، وجواز الصلاة حينئذ، وقد قيل في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاقتياد وجوه أخر، منها: أن أمره بذلك ليقوم جميع الناس بحركة الرحيل وينتبه لذلك من غمره النوم وينبه(2) غيره ممن قاربه ويأخذ من قام أهبة الصلاة أثناء ذلك، وقيل: بل كراهة للموضع الذي أصابتهم فيه الغفلة وتشاؤمًا به كما نهى عن الوضوء من ماء ثمود لعصيانهم ونزول العذاب بمكانهم، وكما قال أبو لبابة:" لا أُرى في بلد خنت الله فيه ورسوله "، وكما قال:" أهجر دار قومي التي(3) أصبت فيها الذنب "، ولنهيه عن الصلاة بأرض بابل لأنها ملعونة، وقيل: بل الأمر بذلك منسوخ بقوله: { أقم الصلاة لذكري }، وقوله - عليه السلام -:« من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها [ فإن الله عز وجل يقول:{ أقم الصلاة لذكري}](4)»، لكن قد اعترض على هذا بأن الآية مكية وهذه القصة بعد الهجرة بأعوام، ولا يصح النسخ قبل وروده والأمر به بغير خلاف.
وأما الحديث فإنه مستند إلى الآية مأخوذ(5) منها لقوله - عليه السلام - فإن الله تعالى يقول:{ أقم الصلاة لذكري }، وأيضًا النسخ يحتاج إلى توقيف أو عند عدم الجمع.
__________
(1) في (ح) و(ط):" الأحاديث ".
(2) في (ط):" ينبهه ".
(3) في (ط):" الذي ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).
(5) في (ح) و(ط):" ومأخوذ ".(3/201)
وقوله:" فأمر بلالاً فأقام الصلاة، وفي حديث أبي قتادة:" ثم أذن بلال بالصلاة "، وأكثر رواة "الموطأ" في هذا الحديث على " أقام الصلاة(1)"، وبعضهم قال: " فأذن "، أو "أقام الصلاة"، وكذلك جاء على الشك في حديث زيد بن أسلم في "الموطأ"، ورواية اليقين بالإقامة حجة أنه لا يؤذن للفوائت ويقام لها، وهو مذهب مالك، ويحمل قوله:" فأذن بلال "، أي: أعلم الناس، وقد يختص هذا الموضع بالأذان لتنبيه الناس، وإيقاظ النيام أو لطرد الشيطان الذي أعلم - عليه السلام - أنه بالوادي، وعلى هذا يجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك، ولا تتخالف.
وقد اختلف العلماء في الأذان والإقامة للفوائت، فمذهب الأوزاعي والشافعي كقول مالك المتقدم، وذهب أهل الرأي وأحمد وأبو ثور إلى أنه يؤذن لها ويقيم، وقاله الشافعي مرة، وذهب الثوري إلى أنه لا يؤذن لها ولا يقيم.[ وحكى الأبهري عن مذهبنا أنه يؤذن للأولى من الفوائت ويقيم(2) لما بقي، وحكاه القزويني عنه وعن الشافعي، قال: وقال أيضًا: أن رجاء اجتماع الناس أذن وإلا لم يؤذن، قال: وقاله الأبهري ](3).
__________
(1) قوله:" الصلاة" ليس في (أ) و(ط).
(2) في (ح):" يقام ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ).(3/202)
وقوله: " فصلى بهم الصبح " حجة للتجميع للفوائت. وقوله:« من نسى صلاة فليصلها إذا ذكرها »، فإن الله تعالى يقول:{ أقم الصلاة لذكري}، وكان ابن شهاب يقرؤها:( للذكرى ). وفي الحديث الآخر: «من نسى صلاة أو نام عنها »، وفي الآخر:" أو غفل ". قال بعضهم: فيه تنبيه على ثبوت هذا الحكم، وأخذه من الآية التي تضمنت الأمر لموسى - عليه السلام - وأنه مما يلزمنا اتباعه. وقد يحتج به من يقول بأن شرع من قبلنا لازم لنا، قيل: وفيه تنبيه أن هذا حكم من نزلت به هذه النازلة وأن الشغل بالرحيل وغيره دونها غير مباح، ولا يقاس على ما جرى في قصته - عليه السلام - إذ كان ذلك خاصة للعلل المذكورة في الحديث والمستفادة(1) منه الموجبة للانتقال عن الوادي، كما لو تذكر الصلاة وهو في أرض نجسة لوجب عليه الانتقال إلى موضع طاهر.
واختلف في معنى قوله:{ لذكرى }، فقيل: لتذكرني فيها، وقيل: لأذكرك بالمدح، وقيل: إذا ذكرتني، وقيل: إذا ذكرتها، أي: لتذكيري لك إياها. وهو أولى بسياق الحديث والاحتجاج بها، ويعضده قراءة: {لذكرى } وهو قول أكثر العلماء والمفسرين.
وقوله:« لا كفارة لها إلا ذلك »، فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يكفرها غير قضائها، ولا يجوز تركها إلى بدل آخر، والثانى: أنه لا يلزمه في نسيانه شيء ولا كفارة لها من مال ولا غيره وإنما يلزمه أداؤها.
__________
(1) في (ط):" المستفادة ".(3/203)
قال الإمام: الاتفاق على أن الناسي يقضي، وقد شذ بعض الناس فقال: من زاد على خمس صلوات لم يلزمه قضاؤها، ويصح أن يكون وجه هذا القول أن القضاء يسقط في الكثير للمشقة ولا يسقط فيما لا يشق،كما أن الحائض يسقط عنها قضاء الصلاة، وعلله بعض أهل العلم بالمشقة لكثرة ذلك وتكرر الحيض ولم يسقط الصوم، إذ ليس ذلك موجودا فيه، وأما من ترك الصلاة متعمدا حتى خرجت أوقاتها، فالمعروف من مذهب(1) الفقهاء أنه يقضي، وشذ بعض الناس فقال: لا يقضي، ويحتج له بدليل الخطاب في قوله: « من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها »، ودليله أن العامد بخلاف ذلك، فإن لم نقل بدليل الخطاب سقط احتجاجه. وإن قلنا بإثباته قلنا: ليس هذا هاهنا في الحديث من دليل الخطاب، بل هو من التنبيه بالأدنى على الأعلى ؛ لأنه إذا وجب القضاء على الناسى مع سقوط الإثم فأحرى أن يجب على العامد، فالخلاف في القضاء في العمد كالخلاف في الكفارة في قتل العمد، والخلاف فيهما انبنى على الخلاف هل ما في هذا الحديث المتقدم، والآية المتقدمة من دليل الخطاب أو من مفهوم الخطاب.
__________
(1) في (ح) و(ط):" مذاهب ".(3/204)
قال القاضي: سمعت بعض شيوخنا يحكي أنه بلغه عن مالك قولة شاذة في المفرط كقول داود، ولا يصح عنه ولا عن أحد من الأئمة ولا(1) من يعتزى(2) إلى علم سوى داود وأبي عبد الرحمن والشافعي، وقد اختلف الأصوليون في الأمر بالشىء المؤقت، هل يتناول قضاؤه إذا خرج وقته أو يحتاج إلى أمر ثان؟ وقال بعض المشايخ: إن قضاء العامد مستفاد من قوله - عليه السلام -:« فليصلها إذا ذكرها »؛ لأنه بغفلته عنها بجهله وعمده كالناسي، ومتى ذكر تركه لها لزمه قضاؤها، واحتج أيضًا بعضهم بقوله:{ أقم الصلاة لذكري } على أحد التأويلين، وبقوله في الحديث:« لا كفارة لها إلا ذلك»، والكفارة إنما(3) تكون من الذنب، والنائم والناسي لا ذنب له(4)، وإنما الذنب للعامد.
وقوله في رواية أبي حازم عن أبي هريرة: " ثم سجد سجدتين ثم(5) أقيمت الصلاة فصلى الغداة "، وكذلك في حديث أبي قتادة:"فصلى ركعتين ثم صلى الغداة "، ولم يذكر ذلك في حديث ابن شهاب ولا في حديث عمران بن حصين. وقد اختلف العلماء فيمن فاتته صلاة الصبح، هل يصلى قبلها ركعتى الفجر ؟ فذهب أبو حنيفة والشافعي وأحمد وداود إلى الأخذ بزيادة من زاد صلاة ركعتى الفجر في هذه الأحاديث. وهو قول أشهب، وعلي بن زياد من أصحابنا. ومشهور مذهب مالك: أنه لا يصليها قبل الصبح الفائتة، وهو قول الثوري والليث ؟ أخذا بحديث ابن شهاب ومن وافقه ؛ ولأنها تزاد بصلاة ما ليس بفرض فواتًا، واختلف بعد فيمن نابه مثل هذا في وادٍ، وأدركته فيه الصلاة، فذهب بعض العلماء إلى الأخذ بظاهر الحديث، وأن على كل منتبه في سفر من نوم عن صلاة فاتته بسبب نومه أن يزول عن موضعه، وإن كان واديًا خرج عنه ؛ لأنه موضع مشؤوم ملعون، ولنهيه - عليه السلام - عن الصلاة بأرض بابل فإنها ملعونة.
__________
(1) قوله:" لا " ليس في (ط).
(2) في (ط):" يعزى ".
(3) في (ط):" لها ".
(4) في (ط):" عليهما ".
(5) في (ح):" و ".(3/205)
وقوله في وادى ثمود:" ملعون "، وقال آخرون: إنما يلزم هذا في ذلك الوادي بعينه إن علم ونزلت فيه تلك النازلة، فيجب الخروج منه، كما فعل النبي - عليه السلام - وقال الجمهور، وهو الصواب: إن هذا غير مراعى، وعلى من استيقظ عن صلاة وتذكرها(1) أن يصليها بموضعه، بطن واد كان أو غيره ؛ لقوله - عليه السلام -:« فأينما أدركتني الصلاة صليت ». ثم اختلفوا لو علم ذلك الوادى وتعين ؟ فقال بعضهم: لا يصلى فيه، لقوله - عليه السلام -:« إن هذا واد به شيطان »، وإليه ذهب الداودي من شيوخنا، وغيره يرى جوازها فيه ؛ لأنا لا ندري أبقي فيه ذلك الشيطان أم لا ؛ وأيضًا فإنه - عليه السلام - قال في الرواية الأخرى: " حضرنا به شيطان "، وليس يدل هذا أنه فيه لازم، وأيضًا لا نقطع أن الاقتياد لأجل الشيطان، لاحتمال المعانى الأخر التي ذكرناها، وأن قوله هذا ذمّ للموضع والحال لا علة لترك الصلاة فيه.
وفي حديث أبي قتادة من الفقه زائدًا: سنة تخفيف الوضوء لقوله: "فتوضأ وضوءًا دون وضوئه "، وهذا معناه عندي، ووجدت في كتب بعض شيوخى أن معناه: وضوءًا دون استنجاء، وأنه اكتفى بالاستجمار، وهو محتمل، والأول عندي أظهر.
وفيه من الفقه: النوم على الدابة، وفيه أن ساقى القوم آخرهم شربًا، كما قال - عليه السلام - في هذا الحديث. وقوله:« إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجىء وقت الصلاة الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها »، قال الخطابي: لا أعلم أحدًا قال بهذا وجوبًا، ويشبه أن يكون الأمر به استحبابًا ليحرز فضيلة الوقت، في القضاء ثانيًا.
قال الإمام: يحتمل أن يكون - عليه السلام - لم يرد إعادة تلك الصلاة المنسية حتى يصليها مرتين، وإنما أراد أن هذه الصلاة وان انتقل وقتها بالنسيان إلى وقت الذكر، فإنها باقية على وقتها فيما بعد مع الذكر، لئلا يظن ظان أن وقتها تغير.
__________
(1) في (ح):" صلاته أو تذكرها ".(3/206)
قال القاضي: قد جاء في "كتاب أبي داود" وغيره:« من أدرك منكم صلاة الغد من غد فليقض معها مثلها ». وهذا يدفع الاحتمال المتقدم، ويعضد توجيه الخطابي، ولكن يعارض هذا كله الحديث الآخر أنه لما صلاها بهم قالوا: ألا نقضها لوقتها من الغد ؟ قال:« أينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم »، وقد يحتج على داود بظاهر الحديث(1) على قضاء الصلاة لمن تركها عامدًا ومفرطًا، وهو أظهر فيه، لمساقه بإثر كلامه في المفرط(2).
وقوله: " فمن فعل ذلك " ولا يقال مثل هذا فيمن نام عن صلاته بغير تفريط، ويكون على هذا معنى قوله: " فليصلها حين ينتبه لها "، أي: ينتبه لما عليه في ذلك.
قال الإمام: وقوله:« احفظ علينا ميضاتك(3)»، فسيكون لها نبأ، ثم ذكر بعد ذلك أنهم عطشوا وذكر سقيهم منها حتى رووا كلهم.
فيه للنبى - عليه السلام - معجزتان: قولية، وفعلية، فالقولية إخباره بالغيب، وأنه(4) سيكون لها نبأ، والفعلية تكثير الماء القليل.
قال القاضي: في حديث أبي قتادة ثلاث معجزات غيبية أخرى غير هذه:
أولها: قوله في أول الحديث:« إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم وتأتون الماء إن شاء الله غدا »، وذكر آخر الحديث: أنه كان ذلك، ويدل أنه لم يكن عند أحد من ذلك علم.
قوله:" فانطلق الناس لا يلوي أحد على أحد "، أي: لا يعطف عليه، ولا ينتظره، ولو كان عندهم أو عند أحد منهم علم لبادروا إليه قبل إعلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم بذلك.
__________
(1) في (ح):" هذا الحديث ".
(2) في (ح):" المفرط هنا ".
(3) في (ح) و(ط):" ميضاتنا ".
(4) في (ح) و(ط):" وأنها ".(3/207)
والثانية: قوله:« ما ترى الناس صنعوا »، ثم قال:« أصبح الناس فقدوا نبيهم »، فقال أبو بكر وعمر: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعدكم لم يكن ليخلفكم، وقال الناس:" رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين، أيديكم "، فأخبر عما قاله الناس في مغيبه عنهم، كذا صحيح الرواية:" لِيُخلِّفكم، وعند بعض الرواة فيه تغيير لا معنى له.
والثالثة: قوله: إذ قالوا هلكنا:« لا هلك عليكم ».
وقوله:« كلكم سيروى »، فكان كذلك.
وقوله:" حتى ابهار الليل " تقدم شرحه.
وقوله:" حتى تهوّر الليل "، قال الإمام: قال الهروي: معناه: حتى ذهب أكثره وانهدم كما يتهور البناء، يقال: تهوّر الليل وتوهّر.
وقوله:" حتى كاد ينجفل "، أي: ينقلب.
وقوله - عليه السلام -:« أطلقوا لي غمرى »، قال أبو عبيد: يقال للقعب الصغير: غمر، وتغمّرت، أي: شربت قليلاً قليلاً، قال أعشى بأهلة [ يرثي المنتشر المنتشر بن وهب الباهلي ](1):
تكفيه حزة فلذٍ(2) إن ألم بها من الشواء ويُروى شربه الغمر
وقوله - عليه السلام -:« أحسنوا الملأ »، أي: الخلق، قال الفراء: يقال: أحسنوا ملأكم، أي: عونكم من قولك: ملأت(3) فلانًا، أي: أعنته.
قال القاضي: وفي حديث أبى قتادة من الغريب غير ما ذكر قوله: "فدعمته حتى اعتدل "، أي: أقمت ميله من النوم، وصرت تحته كالدعامة لما فوقها، وتقدم تفسير الميضاة.
وقوله: " فجعل بعضنا يهمس إلى بعض(4)"،: هو الكلام الخفي.
وقوله:" فأتى الناس الماء جامين رواء" معناه: نشاطًا، والجمام: ذهاب الإعياء، والإجمام: ترفيه النفس مدة حتى يذهب عنها التعب وتنشط، وكذلك في الدابة. ورواء ضد عطاش.
وقوله:« لا ضير »، أي: لا يضركم ذلك عند الله، ولا يؤاخذكم به الضُّر، والضَّر، والضِّرار، والضرر والضَّير، بمعنى.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(2) في (ط):" تكفيه فلذة كبدٍ ".
(3) في (ح) و(ط):" مالئت ".
(4) قوله:" إلى بعض " ليس في (ح) و(ط).(3/208)
وقوله في حديث عمران بن حصين:" فسار حتى إذا ابيضت(1) الشمس نزل فصلى(2)"، وفي الحديث الآخر:" فسرنا حتى إذا ارتفعت الشمس نزل ثم صلى "، مما يحتج به الحنفي أن رحيله إنما كان لكون الشمس طالعة، وأنه ليس بوقت صلاة الفوائت، ويدل أنه قد تبين تأثير العلة بزوال الحكم بارتفاعها بابيضاض الشمس، ولا حجة له لما قدمناه من العلل الأخر، ولأن الغاية(3) بالابيضاض والارتفاع، إنما كان لتمام رحيلهم من الوادى وفراغهم من أخذ أهبتهم للصلاة، وطهورهم لها، كما جاء عند البخاري في هذا الحديث: " فقضوا حوائجهم وتوضؤوا إلى أن طلعت الشمس وابيضت، فقام ثم(4) صلى ".
__________
(1) في حاشية (ح):" ارتفعت".
(2) في (ح):" ثم صلى ".
(3) في (ح):" العلة ".
(4) قوله:" ثم " ليس في (ط).(3/209)
وقد جاء من(1) رواية عطاء:" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركع ركعتين في معرسهم ثم سار، ثم صلى الصبح "، ففيه دليل واضح أن حركته عن الموضع لم تكن لامتناع الصلاة لطلوع الشمس، لصلاته هو الركعتين، وقد تقدم قول من قال من العلماء: إن نومه - عليه السلام - إنما كان مرة، وطلبة تلفيق الأحاديث، وتحميل(2) من حملها(3) مرتين، ولا مرية عندي أنها في مواطن بدليل الآثار المعتبرة التي ذكر(4) مسلم وغيره، فأما حديث أبي قتادة فغير حديث أبي هريرة فى قصة بلال ؛ لأنه ذكر في خبر أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أولهم استيقاظًا، وفي حديث "الموطأ": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أبا بكر بحال بلال في نومه وسؤال أبي بكر بلالاً عن(5) ذلك، وفي خبر أبي قتادة أن القصة لم يحضرها أبو بكر ولا عمر، ولا عامة الجيش، وإنما اقتطع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سبعة من الناس مع أبي قتادة كما قال: وإنهم هم الذين نزلت بهم النازلة دون أهل الجيش وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم حينئذ عن مقال أبي بكر وعمر في مغيب النبي - صلى الله عليه وسلم - عنهم، وأنهم اجتمعوا بهم من الغد، فهو حديث آخر لا شك فيه ووافقه حديث عمران بن حصين من رواية [ عبد الله بن رباح عنه.
__________
(1) في (ح):" في ".
(2) في (ح):" تجهيل ".
(3) في (ح):" جعلها ".
(4) في (ح):" ذكرها ".
(5) في (ح):" في ".(3/210)
وأما حديث عمران بن حصين من رواية ](1) أبي رجاء العطاردى فهو غير حديثه من رواية عبد الله بن رباح الأول،فإن في هذا حضور أبي بكر بنحو ما في حديث أبي هريرة،وإن أول مستيقظ أبو بكر ثم عمر، وأنه رفع صوته بالتكبير حتى استيقظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس فيه خبر الميضاة، وفيه قصة المزادتين، فهو أوفق لحديث أبي هريرة، فيحتمل(2) أن عمران روى الحديثين والقصتين، وروى كل واحد منهما عنه قصة دون الأخرى، أو تكون هذه القصة غير قصة أبي قتادة، وغير قصة أبي هريرة وبلال ؛ لقوله: " ونحن أربعون "، وظاهر الخبر أنهم كانوا جملة من حضر القصة، على أنه لا يعلم(3) مخرجًا للنبى - صلى الله عليه وسلم - خرج فيه في هذا العدد، فلعل قوله في الحديث:" فشربنا(4) ونحن أربعون رجلا عطاشًا، يعني الركب الذين عجَّلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بين يديه لطلب الماء الذين وجدوا المرأة، وأنهم استسقوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الناس فشربوا، ثم شرب الناس بعدهم.
وقوله في حديث عمران:" أدلجنا ليلتنا "، هو سير الليل كله بسكون الدال، والإدِّلاج بكسره وتشديده: سير آخره. وقد تقدم الخلاف فيه وتسوية من سوى بينهما، وتفرقة(5) من فرق.
وقوله:" حين بزغت الشمس "، أي: حين طلعت، وبزوغها ابتداء طلوعها ومثله بزقت أيضًا.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(2) في (ط):" يحمل ".
(3) في (ح) و(ط):" نعلم ".
(4) في (ح):" فسرنا ".
(5) في (ط):" تفريق ".(3/211)
وقوله:" وكنا لا نوقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نومه "، وذلك لأنه كان يوحى إليه فيه. وفي حديثه تيمم الجنب بالصعيد عند عدم الماء، وقد تقدم الكلام عليه، وقد جاء في حديث أبي هريرة وأبى قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، وفي غيره:" أنهم توضؤوا "، فإن كان هذا في ذلك الموطن فلعله لم يبق لهم من الماء ما يغسلوا هذا به، ألا ترى كيف أمر برفع ما بقى من الميضاة، ووصفه بالقلة ؟ وإن كان حديث عمران بن حصين(1) هذا غير حديث أبي قتادة، أو لم يكن عندهم [ من الماء في هذا الموطن إلا ما توضأ به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتيمم غيره، أو لم يكن عندهم ](2) ماء جملة إذ لم يذكر في حديث عمران هذا من رواية العطاردى وضوءًا جملة.
وقوله:" فإذا نحن بامرأة سادلة رجليها بين مزادتين " كذا عندهم، أي: مرسلة مدلية رجليها بينهما، وللعذرى:" سابلة "، والأول الصواب ؛ لأنه لا يقال: سبلت إنما يقال: أسبلت، والمزادتان القربتان، وقيل: المزادة: القربة الكبيرة التي تحمل على الدابة، سميت بذلك لأنه يزاد فيها جلد(3) من غيرها لتكبر به، مفعلة من ذلك.
وقولها لما سألوها(4) عن الماء:" أيْهَاه(5)، أيْهَاه " كذا رويناه هنا بالهمز وبالهاء آخره وبالتاء آخره أيضًا، وفي غير هذا الكتاب بالهاء في أوله، قال الله تعالى:{ هيهات هيهات لما توعدون }، يقال: هيهات، بالكسر والضم والفتح والسكون، وأيهات وأيهات، ومن وقف وقف(6) عليها بالهاء، ومن الناس من يكسر تاءها في الوصل، ويقف عليها بالتاء من فتحها في الوصل، ومعناه: البعد للمطلوب واليأس منه، كما قالت بإثر هذا الكلام: لا ماء لكم، أي: حاضر قريب.
__________
(1) قوله:" بن حصين " ليس في (أ) و(ط).
(2) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(3) في (ط):" جلدا ".
(4) في (ط):" سألوا ".
(5) في (ح):" أيهاء ".
(6) قوله:" وقف " ليس في (ط).(3/212)
وقوله: " وأخبرته أنها مؤتمة " بكسر التاء، أي: ذات أيتام، فسره في الحديث.
وقوله:" فأمر براويتها فانيخت "، أي: الجمل الذي كانت عليه، وعند السمرقندي:" راويتيها "، فها هنا هى المزادتان اللتان للماء، والراوية: القربة الكبيرة التي تروى. قال أبو عبيد: وهى المزادة، وقال يعقوب: لايقال: راوية إلا للجمل الذي يستقى(1) عليه، إنما يقال: مزادة.
وقوله:" أنيخت " معناه على هذه الرواية - إن صحت -، أي: الراحلة بهما، وسميا بذلك ؛ لأن الذي يكون عما تحمله هذه عليها وهذه فيها.
وقوله:" فمجّ في العزلاوين "، أي: طرح من فيه ماء فيهما.
قال الإمام: قوله:" في العزلاوين العلياوين "، قال ابن ولاد: العزلاء بالمدّ عزلاً، المزادة، وهو موضع يخرج الماء منه، وقال الهروي: هو فمها الأسفل، والذي في "كتاب مسلم" يؤيد ما ذكره ابن ولاد.
قال القاضي: وقوله:" فشربنا ونحن أربعون وغسَّلنا صاحبنا "، بالتشديد، أي: أعطيناه غسلاً.
وقوله:" وملأنا كل قربة وإداوة وهى تكاد تنضرج [ بالماء "، وعند ابن ماهان:" من الملأ(2)"، وهما راجعان إلى معنى واحد ؛ لأن امتلأها](3) من الماء، كذا لعامة شيوخنا بالنون، وعند ابن أبي جعفر: تتضرج بالتاء(4)، وكلاهما صحيح، ومعناه: تنشق من الماء والامتلاء منه، ووقع بين رواة البخاري فيه اختلاف، وكله خطأ، وكذلك من رواه في "مسلم" بالحاء خطأ.
قال الإمام: قوله:" فهدى الله ذلك الصِّرم ". قال يعقوب: الصِّرم، هو بكسر الصاد، أبيات مجتمعة.
قال القاضي: في هذا الحديث معجزة عظيمة في تكثير القليل من الماء من نحو معجزة الميضأة.
وقوله عن عمر:" وكان أجوف جليدًا "، أي: بعيد الصوت، كان(5) إذا صاح خرج صوته من جوفه، وجوف كل شيء داخله، والجليد: القوي.
__________
(1) في (أ) و(ح):" يستقى ".
(2) في (أ):" الملء ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(4) قوله:" بالتاء " ليس في (أ) و(ط).
(5) قوله:" كان " ليس في (أ) و(ط).(3/213)
وقوله:" وكان من أمره ذيت وذيت"، أي: كذا وكذا.
************
أحاديث قصر الصلاة
قال الإمام: قول عائشة رضي الله عنها:" فرضت الصلاة ركعتين(1)" الحديث، اختلف في القصر في السفر، فقال إسماعيل القاضي: هو فرض، وقال ابن سحنون: القياس فيمن أتم في السفر أن يعيد أبدًا، وقال غيرهما من الفقهاء: الغرض التخيير بين القصر والإتمام، واختلف هؤلاء أيهما أفضل ؟ فقال بعضهم: القصر أفضل، وهو قول الأبهري من أصحابنا، وبلَّغه غيره من أصحابنا في الفضل إلى(2) رتبة السنن. وقال الشافعي: الإتمام أفضل، ويحتج من قال: إن القصر أفضل بحديث عائشة المتقدم، ويصح الانفصال عنه بأن يقال:يحتمل أن يريد بقولها: " فرضت الصلاة "، أي: قدرت، ثم تركت صلاة السفر على هيئتها في المقدار لا في الايجاب. والفرض في اللغة يكون بمعنى التقدير، ويحتج من قال إنه ليس بفرض بقول الله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة }. ولا(3) يقال في الواجب: لاجناح عليكم أن تفعلوا ذلك.
__________
(1) في (ح):" ركعتين ركعتين ".
(2) قوله:" إلى " ليس في (ح).
(3) في (ح):" وليس ".(3/214)
قال القاضي: ذكر مسلم حديث إتمام عائشة، وإتمام عثمان، واختلف الناس في تأويل فعلهما، وقد قال عروة: تأولت عائشة ما تأول عئمان، وأشبه مايقال في فعل عثمان وفعلها أنهما تأولا أن القصر رخصة غير واجبة، وأخذا بالأتم والأكمل، ومن تأول أنها اعتقدت أنها أم المؤمنين وعثمان أنه إمامهم، فحيث حلاَّ فكأنهما في منازلهما، يردّه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أولى بذلك ولم يتم، وماروي عن عثمان أنه تأهل بمكة، يردّه سفر النبي - صلى الله عليه وسلم - بزوجاته، وقد قصر، وماروي أنه فعل ذلك لأجل الأعراب وخوفًا أن يظنوا أن فرض الصلاة أبدًا ركعتين(1)، يردّه أيضًا صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم ركعتين وهو القدوة للأعراب وغيرهم، وأمر الصلاة حينئذ أشهر من أن يخفى عددها، وقد كان في زمن النبي - عليه السلام - الأعراب، وماروي أن عثمان أزمع على المقام بمكة بعد الحج، يردّه تحريم المقام للمهاجر بمكة أكثر من ثلاث، وقيل: بل كان لعثمان بمنى أرض ومال، فرأى أنه كالمقيم، وذكر في إتمام عائشة أيضًا أنها كانت لاترى القصر في السفر إلا في الخوف، والتأويل الآخر في سفر عائشة أبعد، فهي أتقى لله أن تخرج في سفر لايرضاه، وإنما خرجت مجتهدة في سفرها(2) محتسبة في خروجها للدين(3)، أصابت أو أخطات، وأولى ما يتأول في ذلك ماقدّمناه.
__________
(1) في (ح):" أن الفرض أبدًا ركعتان ".
(2) قوله:" مجتهدة في سفرها " ليس في (أ) و(ط).
(3) في (ط):" للذي ".(3/215)
وقد ذكر الطحاوي وابن عبد البر وغيرهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قصر وأتم، وروى الوجهان عن جماعة من الصحابة والسلف، وحكى ابن الجهم أن أشهب روي عن مالك أن القصر فرض، وهو قول الكوفيين، وعمر بن عبد العزيز والمشهور من مذهب مالك وأكثر أصحابه وأكثر العلماء من السلف والخلف أن القصر سنة، وهي رواية أبي مصعب عنه، ومقتضى رواية ابن القاسم عنه بإعادته إذا أتم في الوقت، وهو قول الشافعي ومذهب عامة البغداديين من أصحابنا: أن الفرض التخيير، وهو قول أصحاب الشافعي، وقد أجمع العلماء مع هذا الخلاف على جواز التقصير في سفر الحج والعمرة والغزو، إلا شيئًا روي عن عائشة أيضًا،وبعضهم أن لا قصر إلا في الخوف، واختلفوا في غير ذلك: فذهب عامتهم إلى جوازه في كل سفر مباح، ومنعه في سفر المعصية، وهو قول مالك والشافعي والطبري(1) وأصحابهم، وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري إلى جوازه في كل سفر طاعة كان أو معصية، وفيه رواية شاذة عن مالك أخذًا بعموم الآية، وذهب داود إلى أنه لايجوز إلا في الحج والعمرة والغزو لا في غيرها، وروي مثله عن ابن مسعود، واختلف أصحاب داود، فمنهم من قال بقوله، ومنهم من قال بقول الكوفيين، واختلف عن ابن حنبل، فمرة قال بقول مالك، ومرة قال: لايقصر إلا في حج أو عمرة. وقال عطاء: لايقصر إلا في سبيل من سبل الله، وكره مالك التقصير للمتصيد للهو، وحكى الإمام أبو القاسم الكيا(2) عنه المنع فيه وفي سفر النزهة. ثم اختلفوا في مدة السفر الذي يقصر فيه(3).
__________
(1) في (ح):" الطحاوي ".
(2) في (ح):" الكياه ".
(3) في (ط):" فيه الصلاة ".(3/216)
قال الإمام: فبعض الناس لم يحدده(1)، واحتج بقوله تعالى:{ وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح } الآية، وأكثر الناس على تحديده، وكأنهم(2) فهموا أنه(3) إنما خفف عن المسافر للمشقة، ولم يكن عندهم القصر إلا في سفر تلحق فيه المشقة، واختلفوا في تقديره، واختلافهم مذكور في كتب الفقهاء.
قال القاضي: اختلفت الآثار واختلف السلف وأئمة الفتوى في ذلك، فمذهب(4) مالك والشافعي وأصحابهما والليث والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث: أنها لاتقصر إلا في اليوم التام،[ وقد قال بعضهم: يومًا وليلة، وروي عن مالك، وهو راجع إلى معنى اليوم التام ](5)، وهو قول ابن عباس وابن عمر، وقدره مالك بأربعة برد ثمانية(6) وأربعين ميلاً، وقال الشافعي والطبري: ستة وأربعون ميلا، وهو أمر متقارب. والتفت هؤلاء إلى ما يسمى سفرًا، وقد سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا سفرًا فقال:« لايحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الأخر تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة »؛ ولأن مسيرة يوم وليلة أو مسيرة اليوم التام لا يمكن الخارج من منزله الرجوع إليه ويبيت ضرورة عنه فخرج(7) عن القرار إلى السفر وهو قول ابن عمر وابن عباس، وقال الكوفيون: لايقصر في أقل من مسيرة(8) ثلاثة أيام، وهو قول عثمان وابن مسعود وحذيفة، وقال الحسن وابن شهاب: يقصر في مسيرة يومين، وحكاه الخطابي، وتأوله على مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وهذا قريب من القول الأول باليوم التام، وباليوم والليلة، وقالت طائفة من أهل الظاهر: يقصر في كل سفر قصير أو طويل، ولو كان ثلاثة أميال، وهو قول داود في سفر الطاعة.
__________
(1) في (ط):" يحده ".
(2) في (ح):" كلهم ".
(3) قوله:" أنه " ليس في (أ).
(4) في (ط):" فذهب ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(6) في (ط):" يمانية ".
(7) في (ط):" وخرج ".
(8) في (ط):" مسير ".(3/217)
وقول عائشة: " فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر "، فقد خالف عائشة غيرها من الصحابة في هذا اللفظ منهم عمر، وابن عباس، وجبير بن مطعم. وأن الفرض في الحضر أربع وفي السفر ركعتان، وقد ذكره مسلم عن ابن عباس، وقد يجمع بين الحديثين على أن هذا الذي استقر عليه الفرضان، وحديث عائشة على أول الأمر.
وقولها:" فأتمت صلاة الحضر "، وفي الرواية الأخرى:" وزيد في صلاة الحضر "، قال الطبري: يحتمل قول عائشة أن المسافر إن اختار القصر فهو فرضه، وإن اختار التمام فهو فرضه. قال الباجي: يحتمل النسخ ؛ لأن زيادة الركعتين فيها يمنع إجزاء الركعتين.
وقولها: " فأقرت صلاة السفر ": أي بقيت على ماكانت قبل النسخ من وجوبها ركعتين وهذا على قول من يقول: إن القصر هو الفرض، وأما من جعله سنة فمعناه: أنها أقل ما يجزئ، لا بمعنى الوجوب، فيكون الوجوب قط في السفر منسوخًا، والقصر في الحضر منسوخًا وجوبه وجوازه، وهذا على قول من يرى أن الوجوب إذا نسخ بقي الأمر على الجواز.(3/218)
قال القاضي: وهذه مسألة اختلف فيها أهل الأصول، وكذلك اختلفوا في الزيادة على النَّص هل هو نسخ أم لا ؟ وقوله في حديث عمر في قوله تعالى: { ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } الآية، وسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال:« صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته(1)»، تفسير من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتوقيف أن الآية متضمنة لقصر الصلاة في السفر مع الخوف، ومع غير(2) الخوف، ورخصة من الله وتوسعة، وأن المراد القصر في الركعات لا فى الصفات، ومعارض لقول عائشة وأقوى في الحجة منه ؛ لأنه أخبر به نصًّا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد(3) ويحتمل قول عائشة أنه من استنباطها وفقهها وتأويلها، لاسيما وقد خالفت ظاهره بما روي عنها من الإتمام، ومثله في حديث على أنها نزلت، فيمن سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في السفر إلى قوله:{ أن تقصروا من الصلاة }، فلما كان بعد حول وغزا النبي - صلى الله عليه وسلم - المشركين وطلبوا غرته وقت الصلاة أنزل الله:{ إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا }، فالآية في قصتين وحكمين، قال بعضهم: وقوله:{ إن خفتم }، ابتداء كلام للقصة الأخرى. وقوله:{ فأقمت لهم الصلاة، وروي عن ابن عباس وغيره: أنها في صلاة الخوف فقط بظاهر مساق الأية وتعليق(4) الكلام بعضه ببعض، وأن التقصير المذكور في الصفات وحدود الصلاة ونقلها إلى الإتمام لأجل الخوف، وقيل: بل في(5) تخفيفها وترك التطويل فيها لأجل الخوف، وقيل: بل قصرها إلى ركعة أو ركعتين لأجل الخوف، وقيل: بل المراد قصرها إلى ركعتين للمأمومين، وصلاة الإمام أربعًا(6)، ركعتان بكل. طائفة على ماجاء في الحديث، وإليه ذهب الطبري واختاره أبو
__________
(1) قوله:" فاقبلوا صدقته " ليس في (أ).
(2) قوله:" غير " ليس في (أ) و(ط).
(3) قوله:" وقد " ليس في (أ) و(ط).
(4) في (ط):" تعلق ".
(5) قوله:" في " ليس في (ح).
(6) في (ح):" أربع ".(3/219)
بكر الرازي ورجحه لأنه قال:{ لاجناح }، وفريضة المسافر ركعتين(1)، ولايقال في الفرض: لاجناح، وقد يتخلص عن هذا بشرع فرض(2) الإتمام للحاضر أو عمومه فيهما على القول الآخر، ويبقى(3) القصر رخصة.
وقول عمر:" فقد أمن الناس " دليل على أنها القصر في الركعات.
وقوله: " وفي الخوف ركعة "، يحتمل أنه يعني في الشدة هو مذهب جماعة من السلف أن تجزئ في صلاة الخوف ركعة واحدة يومئ بها إيماء، وهو قول إسحاق، قال: أما عند الشدة(4) فركعة، فإن لم يقدر فسجدة، فإن لم يقدر فتكبيرة. وقال الضحاك: إن لم يقدر على ركعة فتكبيرتان. وقال الأوزاعي: لاتجزيه التكبيرة، ويحتمل أنه زيد(5) في حكم المأمومين على ماجاء في بعض الروايات في صلاة الخوف، وكانت(6) لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتان وللقوم ركعة ركعة، وبهذا أخذ إسحاق أيضًا في صلاة الخوف مع الإمام.
وأما قوله في هذا الحديث:" إن الله فرض الصلاة على لسان نبيكم على المسافر(7) ركعتين وعلى المقيم أربعًا، والخوف ركعة "، فما يحتج به من يقول: إن ركعتين فرض المسافر، ويكون هذا الترتيب على ما استقرت عليه أحكام هذه الصلوات لا في ابتداء الأمر وورود فرض الصلاة، ولقول عائشة: " فرضت الصلاة ركعتين(8) فزيد في صلاة الحضر "، وإنما بين ذلك كله النبي(9) - عليه السلام - ولعل قوله أيضًا: "وفي الخوف ركعة" يعني مع الإمام، فلايكون مخالفًا لغيره من الأحاديث الصحيحة، وسيأتى الكلام على هذا الباب في صلاة الخوف إن شاء الله تعالى.
__________
(1) في (أ) و(ح):" ركعتان ".
(2) في (ح):" بفرض شرع ".
(3) في (ط):" بفعل ".
(4) في (ط):" الشك ".
(5) في (ط):" يريد ".
(6) في (ح) و(ط):" فكانت ".
(7) في (ط):" المسافر الصلاة ".
(8) في (ح):" ركعتين ركعتين ".
(9) قوله:" النبي " ليس في (أ) و(ط).(3/220)
وقوله:" كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصل مع الإمام ؟ قال: ركعتين سنة أبي القاسم "، مفهومه أن الإمام إذا أتم أنه يتم معه، وقد جاء في الأم بعده مبينًا، وهو قول كافة العلماء. واختلفوا بما يلزمه الإتمام معه، فمالك يراه بعقد ركعة تامة معه، وأبو حنيفة وصاحباه والشافعي لايراعون الركعة ويلزمه التمام بالدخول معه. واختلف بالقولين على الأوزاعي، وذكر أبو القاسم الطبري الشافعي عن مذهبهم أنه ينظر إلى نية الداخل، فإن نوى الإتمام وراءه لزمه، وفي هذا كله حجة أن الركعتين ليست فرضًا على المسافر، إذ لو كان ذلك لم يصح اتباع إمامه في غير فرضه كما لايصح له(1) اتباعه لو صلى الظهر خمسا.
وعبد الله بن بابيه: كذا ضبطناه هنا، ويقال فيه: باباه، ويقال فيه: ابن بابا، قاله: ابن عبدالبر، وقال يحيى بن معين: عبد الله بن بابي يروي عنه ابن إسحاق، وعبد الله بن بابيه يروي عنه ابن أبي عمار، وعبد الله بن باباه(2) يروي عنه حبيب بن أبي(3) ثابت، قال(4): فهؤلاء ثلاثة مختلفون.
قال الإمام: وقول ابن عمر: " لو كنت مسبحًا لأتممت صلاتي "، يحتمل أن يكون، لأن الصلاة إنما قصرت للتخفيف، فإذا عاد هؤلاء يتنفلون فإن الإتمام كان أولى، والمسبح: المتنفل، والسبحة: صلاة النافلة، وجاء في الحديث الآخر:" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسبح على الراحلة ويوتر عليها ولايصلى عليها المكتوبة ". قال الهروي: تسمى الصلاة تسبيحًا، قال الله تعالى:{ فلولا أنه كان من المسبحين }، أي من المصلين.
__________
(1) قوله:" له " ليس في (ح).
(2) في (ح):" بابا ".
(3) قوله:" أبي " ليس في (ح).
(4) قوله:" قال " ليس في (ح).(3/221)
قال القاضي: اختلف العلماء في التنفل في السفر، فمذهب ابن عمر منعه بالنهار جملة، وجوازه بالليل في الأرض وعلى الراحلة، ومذهب عامة السلف وأئمة الفتوى على جوازه بالليل والنهار على الراحلة وبالأرض، وهذا المروي من فعل النبي - عليه السلام - في السفر في آثار كثيرة خلاف(1) ماجاء(2) في حديث ابن عمر، فظاهر مذهب ابن عمر وتعليله إنما منع التنفل بالنهار وبالليل قبل الصلاة وبعدها إلا لمن يصلي صلاة الليل في جوفه لقوة أمرها، وكونها أولاً فرضًا، وهكذا(3) نقل أهل الخلاف مذهبه، وعلى هذا يدل فعله بعد هذا في الحديث الآخر:" أنه كان يصلي بمنى ركعتين ثم يأتي فراشه. وقول حفص بن عاصم له: أي عم: لو صليت بعدها ركعتين، قال: لو فعلت لأتممت صلاتي. فقد فرق بين الصلاة بإثرها وبين الصلاة جوف الليل، لأن الفراش غالبًا إنما هو بالليل(4)، وعلى هذا التنزيل من فعل ابن عمر وروايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع روايته تنفله على راحلته تجتمع الأخبار ولا تتضاد، وقد تأول بعضهم أن كراهة ابن عمر إنما هو التنفل بالنهار على الأرض.
__________
(1) في (ح):" بخلاف ".
(2) قوله:" جاء " ليس في (ط).
(3) في (ح):" وكذا ".
(4) في (ط):" الليل ".(3/222)
قال القاضي: وقوله:" ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله "، وقد جاء عنه في الحديث الآخر:" ومع(1) عثمان صدرا من خلافته ثم أتمها، وقوله في الآخر(2):" ثماني سنين أو ست سنين "، وهذا هو(3) المعروف عنه، وإن عثمان أتم بعد(4) سبع من خلافته، فلعل ابن عمر في هذه الرواية أراد إتمام عثمان في سائر أسفاره في غير منى ؛ لأن إتمام(5) عثمان إنما كان بمنى على ما فسره عمران بن حصين في حديثه وهو ظاهر سائر الأحاديث، وكذا قال ابن حبيب: إتمام عثمان بمنى خاصة، ويكون قول ابن عمر في غير(6)، هذا الحديث صدرًا من خلافته، وقول غيره راجع إلى الإتمام(7) بمنى.
__________
(1) في (أ):" مع " بدون واو.
(2) في (ح):" الحديث الآخر ".
(3) قوله:" هو " ليس في (ح) و(ط).
(4) قوله:" بعد " ليس في (ح).
(5) في (ط):" تمام ".
(6) قوله:" غير " ليس في (ح).
(7) في (ح) و(ط):" الائتمام ".(3/223)
وقد ذكر مسلم في حديث حرملة عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن ابن عمر ؟ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين بمنى وغيره، ثم ذكر عن عثمان في الحديث أنه أتمها أربعًا، فليس فيه بيان إتمام عثمان في غير منى، ولم يتابع حرملة على قوله وغيره، وهذا يدل على أنه اجتهاد من عثمان، وأخذ بالأفضل، لا أنه اعتقده واجبًا وفرضًا. قال عمران ابن حصين:حججت مع عثمان سبعًا من إمارته لايصلي إلا ركعتين ثم صلى بمنى أربعًا، ولاخلاف أن هذا حكم الحاج من غير أهل مكة بمنى وعرفة، يقصرون. وكذلك(1) عند مالك حكم الحاج من أهل مكة يقصرون بعرفة وبمنى كتقصيرهم(2) مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك أهل عرفة ومنى(3) بمكة، ولخطبة عمر أهل مكة بالتمام دونهم، وذهب أبو حنيفة والشافعي وجماعة من العلماء إلى أن أهل مكة بمنى وعرفة وأهل عرفة ومنى بمكة يتمون كغير الحاج منهم، إذ ليس في المسافة مدة قصر الصلاة، وحجتنا ما تقدم من السنة والاتباع ؛ ولأن في تكراره بمشاعر الحج ومناسكه مقدار المسافة التي يجوز فيها قصر الصلاة عند الجميع.
قوله (4):" صلى الظهر بالمدينة أربعًا، وبذى الحليفة ركعتين ". بين ذى الحليفة والمدينة ستة أميال، ويقال: سبعة، احتج بظاهره بعض من لم يحصل من الظاهرية ممن يرى التقصير في قصير السفر وطويله، ولاحجة فيه ؛ لأن هذا إنما كان في حجته - عليه السلام -، وهو مفسر في الأحاديث الصحيحة في تمام هذا الحديث عن أنس وغيره، فإنما قصر في سفر طويل.
__________
(1) في (ط):" لذلك ".
(2) في (ط):" لتقصيرهم ".
(3) في (ح):" وأهل منى ".
(4) في (ح):" وقوله ".(3/224)
وقوله في الحديث الآخر:" كان إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين(1)"، هذا أيضًا مما قد يحتج به أولئك، ولكن الشك فيه يضعف الحجة به ولعله أراد ابتداء القصر في السفر الطويل وعليه يحمل قوله في "الأم" عن ابن عمر:" أنه صلى بذى الحليفة ركعتين "، وعن شرحبيل بن السِمط - ويقال ابن السَّمِط -:" أنه قصر على سبعة عشر ميلاً أو ثمانية عشر، وقد اختلف العلماء متى يبدأ المسافر الذي يباح له القصر بالتقصير ؟ فذهب جمهور السلف والعلماء: أنه إذا خرج من بيوت المدينة قصر، وإذا دخلها راجعا من سفره أتم، وهو قول أئمة الفتوى، ومحصول مذهب مالك ومشهوره، وروي عنه أنه لايقصر حتى يجاوز ثلاثة أميال إن كانت القرية مما يجمع فيها، فإذا انصرف أتم من هناك، وروي عن عطاء وغيره وجماعة من أصحاب عبد الله: إذا أراد السفر قصر قبل خروجه، وروي عن مجاهد: لاتقصر إذا خرجت يومك إلى الليل، فلم يوافقه أحد على هذا.
وقوله في هذا الحديث عن شرحبيل: " رأيت ابن عمر صلى بذى الحليفة ركعتين "، قال الإمام: كذا في نسخة ابن الحذاء: ابن عمر، والصواب: رأيت عمر، كذا رواه الجلودي: رأيت عمر، وهو محفوظ لعمر، وكذا(2) خرَّجه ابن أبي شيبة والبزار وغيرهما عن عمر.
قال القاضي: وقع في أول هذا الكلام في بعض النسخ:" فقلت له فقال: لعله قال(3): رأيت عمر، وفي بعضها:" لعله قال: رأيت عمر "، وسقط هذا الحرف عند أكثر شيوخنا، وعندي أنه(4) لفظ ألحقه بعض الشيوخ لإصلاح وهم الرواية في ابن عمر، فقال: لعله قال: رأيت عمر، ولم يفهم الكلام لبعضهم فضبطه لعلة، وليس بشىء.
وقوله:" أرضًا يقال لها دومين(5)"، ضبطناه عن الشهيد وغيره بالضم، وعن الأسدي والطبري بالفتح في الدال، وكذا رويناه عن البزار.
__________
(1) في (ح):" ركعتين قصر اصلاة ".
(2) في (ح) و(ط):" وكذلك ".
(3) قوله:" قال " ليس في (أ).
(4) قوله:" أنه " ليس في (ط).
(5) في (ح):" ذومين ".(3/225)
وقوله:" خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة فصلى ركعتين ركعتين حتى رجع، قلت: كم أقام بمكة ؟ قال: عشرًا "، قال الإمام: اختلف الناس في الإقامة التي إذا نواها المسافر صار في حكم المستوطن، ماهي؟ فقال ربيعة: يوم وليلة، وقيل: أربعة أيام بلياليها، وهو مذهب مالك وغيره، وقيل: اثنا عشر يومًا، قيل خمسة عشر يومًا، وقيل: سبعة عشر، فوجه قول ربيعة: أنه لما كان ذلك الأمر حدًّا للسفر المبيح للقصر والفطر كان حدًّا للإقامة وللاستيطان، ووجه القول الأوّل بالأربعة: أنه - صلى الله عليه وسلم - أباح للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء(1) نسكه ثلاثا، والمهاجرون لايستوطنون مكة، فدلّ على أن الثلاث حكمها حكم السفر، لا الاستيطان، والخلاف الذي هو بقية الأقوال انبنى(2) على الخلاف في مدة مقامه - عليه السلام - بمكة عام الفتح، ومقامه في حصار الطائف.
__________
(1) قوله:" قضاء " ليس في (ح).
(2) في (ط):" ابتنى ".(3/226)
قال القاضي: بقول مالك قال جماعة من العلماء، الشافعي وأبو ثور ومحمد بن على ابن حسين، الحسين(1) بن صالح، على خلاف عن هذين، وروى مثله عن عطاء وسعيد بن المسيب، واختلف عن سعيد في ذلك، فروي عنه(2) إذا أقام(3) خمسة عشر يومًا أتم، وهو قول الكوفيين، وروي عن ابن عمر وابن عباس، وروي عن سعيد: إذا أقام ثلاثة أتم، وقال الليث: إذا زاد على خمسة عشر أتم، ويقصر في خمسة عشر، وقال الأوزاعي: إذا أقام ثلاثة عشر أتم، وروي عن ابن عمر: إذا أقام اثنى(4) عشر أتم. وذهب أحمد وداود إلى أنه يتم فيما زاد على أربعة أيام، ويقصر في الأربعة فدونه، وروي عن أحمد يقصر إذا نوى إقامة إحدى(5) وعشرين صلاة، ويتم فيما زاد، اعتمادًا على إقامة النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، حتى خرج صبيحة الثامن يوم التروية، وحددها داود بعشرين صلاة، فإذا زاد أتم(6). ونحو هذا لابن الماجشون عندنا، وقال علي: إذا أقام عشرة أيام، ونحوه عن ابن عباس، وعن ابن عباس أيضًا يتم إذا زاد على تسعة عشر يومًا، ويقصر في تسعة(7) عشر، وروي عنه: يتم فيما زاد على سبعة عشر، وروي عنه الحسن أنه يقصر أبدًا إلا أن يقدم مصرًا من الأمصار، وتقدم قول ربيعة، وأكثر اختلافهم في هذا مبني على مدة إقامة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقصيره في حجته وفتحه مكة والطائف.
__________
(1) في (أ) و(ط):" الحسن ".
(2) في (ح):" عنه أنه ".
(3) في (أ):" قام ".
(4) في (ط):" ثنتي ".
(5) في (ح) و(ط):" أحد ".
(6) في (ط):" أثم ".
(7) في (ح):" سبعة ".(3/227)
وقوله في الكتاب:" أقام عشرًا " هذا في حجته، فإنه دخل مكة صبيحة رابعة من ذى الحجة، وخرج صبيحة أربعة عشر على ما تظاهرت به الروايات، لكن بعض شيوخنا قال: كان شارف مكة اليوم الثالث(1) فقصر عنها وبات بذى طوى حتى صلى الصبح ثم دخل نهارًا، والنهار لا اعتداد به عند العرب إذا انقضت ليلته، فأقام بها اليوم الخامس والسادس والسابع وخرج بعد تمام ثلاث كما شرع، فلم يقم بمكة أكثر من ثلاث، وخرج إلى منى للنظر في حجه، وهو فيه في حكم المسافر حتى أكمله، ثم عاد إلى المدينة، فجاء جميع هذا موافقا - أيضًا- لمذهبنا في(2) أن ثلاثة أيام ليس بإقامة، بل يقصر فيها.
واختلف في إقامته في الفتح، فروي عن ابن عباس خمس عشرة، وسبع عشرة، وتسع عشرة، وعن عمران بن حصين ثماني عشرة، قال أهل الصنعة: هو حديث لا تقوم به حجة لمن خالف لكثرة اضطرابه، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحد في ذلك حدًّا يوقف عنده، بل قال:« أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر »، ولأنه في حجه لم ينو الإقامة ولاهي له بدار مقام، إذ ليس للمهاجر المقام بها، ولأنه عازم على الخروج يوم التروية منها قبل كمال أربعة بعد قدومه، ثم يعمل في حجه حتى يقضيه وينصرف، وإقامته أيضًا في الفتح حكم الإقامة ببلد الحرب والخوف(3) من أهلها ومن حولهم، وليس في نيته أولاً إقامة تلك المدة، بل كان مقامه بحسب ماحبسه الحال، حتى توطدت أمورها وخرج إلى هوازن.
__________
(1) في (ط):" الرابع ".
(2) قوله:" في " ليس في (ح).
(3) في (ح):" والخوف فيها ".(3/228)
وأما إقامته بالطائف فلاحجة فيه ؛ لأنه لم ينو الإقامة بها تلك المدة: بل كان كل حين يعتقد فتحها وينصرف، وعلى هذا جاء ماروى أنه أقام بتبوك عشرين ليلة(1) يقصر(2)، وهذا حكم الجيوش في بلاد الحرب يقصرون لأنهم لاينوون إقامة متعينة، ولايعلم متى يأتى مايزعجهم. وقد ذهب بعض شيوخنا إلى أن الجيش الكبير الذي يأمن من يزعجه إذا نوى الإقامة أتم. وبقول مالك في تقصير الجيش قال الشافعي وأبو حنيفة. وللشافعى قول آخر: إنه يقصر في سبعة عشر في دار الحرب، ويتم فيما زاد. واسترجاع أبي(3) مسعود إذ رأى عثمان أتمّ لكراهية خلاف ما عهد من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان قبل، وصلاته فيها خلف عثمان على ماجاء في غير كتاب مسلم، دليل على أن(4) إنكاره ليس أنه رآه خالف الفرض، وإنما خالف الفضل، إذ لو اعتقد أن فرضه ركعتان لم يستبح أن يصليها خلفه، ولقوله: "الخلاف شر "، كما لو رآه صلاها ركعة أو خمسًا لما رأى اتباعه، ولو كان عنده الإتمام بدعة لكان شرًّا، ولم يكن خلافه شرًّا بل خيرًا.
وقوله: " فليت حظي من أربع ركعتان، يدل على هذا ؛ لأن الأربع لولم تكن مشروعة ولامباحه في السفر لم تكن فيها حظ جملة ولاتبعيض، وإنما أشار إلى الرخصة والتخفيف واتباع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك. قال الداودي: خشى أن لاتجزيه الأربع.
__________
(1) في (ح):" يومًا ".
(2) في (ح):" يقصر الصلاة ".
(3) في (ح) و(ط):" ابن ".
(4) قوله:" أن " ليس في (ح).(3/229)
قال القاضي: وفيه بعد ولاخلاف بين المسلمين أن القصر في الصلوات الثلاث الرباعية، وأن الصبح والمغرب لايقصران، أما الصبح فإنها الركعتان اللتان عليهما زيدت في صلاة الحضر على قول عائشة، أو التي ردّت لمثلها(1) صلاة القصر على حديث عمر، فلم يمكن نقصها بعد هذا، ولأنها شفع فلو قصرت عادت وترًا، وصلاة(2) المغرب وتر صلاة النهار، فلو قصرت لقصرت لركعتين فعادت شفعًا، وتغيرت الصلاتان عن حالهما بخلاف الرباعيات الثابتة(3) على وصفها من الشفع بعد القصر.
وقد خرَّج البخاري حديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى المغرب ثلاثًا والعشاء ركعتين، يعني في السفر، وذكر القاضي أبو عبد الله أنه لاخلاف بين العلماء، أن المغرب والصبح فرضتا على حسبهما، وأنه لاقصر فيهما. وقال محمد بن أبي صفرة في المغرب:أنها فرضت ثلاثًا ولم تفرض ركعتين نحو ما(4) قال، وهذا لا أعلم حجة تعينه(5)، ولن يقدم على مثل هذا إلا بحجة.
وقول(6) مسلم: حارثة بن وهب الخزاعي وهو أخو عبيد الله بن عمر بن الخطاب لأمه، كذا في أكثر النسخ وعند عامة شيوخنا، والذى عند القاضي أبي على: أخو عبد الله، والصواب أخو عبيد الله بالتصغير، كذا ذكره البخاري وابن عبد البر وغيره: تزوج أمه مليكة بنت جرول(7) الخزاعى عمر بن الخطاب فولدت له عبيد الله، وأما عبد الله فأمه أم(8) حفصة زينب بنت مظعون.
__________
(1) في (ط):" لمثليها ".
(2) قوله:" وصلاة " ليس في (ح).
(3) في (ط):" الباقية ".
(4) في (ط):" محتومًا " بدل:" نحو ما ".
(5) في حاشية (ح):" تثبته ".
(6) في (ح):" ذكر " بدل:" وقول ".
(7) في (ح):" جدول ".
(8) في (ح) و(ط):" وأم ".(3/230)
ذكر مسلم أحاديث الصلاة في الرحال، وأن ابن عمر أذن بذلك في ليلة ذات برد وريح، وذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوله إذا كانت ليلة باردة ذات مطر في السفر. وفي هذه الآثار حجة للتخلف(1) عن الجماعة لعذر المطر والبرد. وفيه الأذان في السفر وقد تقدم.
وقوله " فقال في آخر أذانه: ألا صلوا في الرحال "، فهذا بين أنه بعد تمام الأذان، وجاء في حديث ابن عباس أنه قال لمؤذنه:" إذا قلت: أشهد أن محمدًا رسول الله، فلا تقل: حى على الصلاة، قل: صلوا في بيوتكم "، وقد استدل بهذا من أجاز الكلام في الأذان، وهو مذهب أحمد بن حنبل، وروي(2) عن الحسن وعروة وعطاء وقتادة وعبد العزيز بن أبي سلمة وابن أبي حازم من المالكية(3)، ومذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وعامة الفقهاء كراهته، ولاحجة لأولئك بهذه الأحاديث، أما حديث ابن عمر فقد بين أنه في آخر أذانه، وظاهره أنه بعد تمامه، وأما حديث ابن عباس فلم يسلك به مسلك الأذان، ألا تراه قال: لا تقل: حي على الصلاة، فإنما أراد بذلك إشعار الناس كما صنع في التثويب للأمراء.
وذكر مسلم: حديث ابن عباس وأمره مؤذنه بمثل ذلك في يوم جمعة مطير(4)، وقال:" قد فعله خير مني " يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقياس الأمرين في السفر والحضر واحد وللجماعة وللجمعة(5) إذا كانت المشقة لكن حضور الجماعة فضيلة وسنة، وحضور الجمعة فريضة وحتم. وقد اختلف العلماء في ذلك، فذهب أحمد إلى التخلف عنها للمطر الوابل، ولم ير ذلك مالك عذرًا يوجب التخلف، وروي عنه كقول أحمد، ومحمل اختلافه عند شيوخنا باختلاف حال المطر.
__________
(1) في (ح):" للمتخلف "، وفي حاشيتها:" في التخلف ".
(2) في (ح):" وقد روي ".
(3) في (ح):" أصحابنا ".
(4) في (ح):" مطيرة ".
(5) في (أ) و(ط):" الجمعة ".(3/231)
وقوله:" في يوم ذي ردغ(1)" قال الإمام: وقع في "كتاب مسلم":" رذغ(1)" بالذال المعجمة، وشرحه الهروي في باب الراء مع الزاي، وقال عن أبي عبيد: الرزغ(2): هو الطين والرطوبة، وقد أرزغت(3) السماء فهى مرزغة(4).
قال القاضي: لم يقع عندنا في الأم لجميع شيوخنا إلا بالدال المهملة، ووقع لنا من رواية أبي الفتح السمرقندى " رزغ(5)" كما قال الهروي، وضبطه بفتح الراء(6)، وكلاهما صحيح بمعنى، وأما الذال المعجمة فقد وقع في بعض النسخ ولاوجه له، والرَّدَغ والرَّدْغ(7) بفتح الدال المهملة وسكونها الطين، والرزغ(8) كذلك الماء القليل، قال صاحب العين: الرزغة(9) أشد من الردغة(10)، وتفسيره في الحديث. وقيل: الردغة(11) بالدال أشد من الرزغة(9) بالزاي، وقال ابن الأعرابي: الردغ والردغة(12): الطين. وقال الداودي: اليوم الرزغ(13): المغيم(14) البارد.
وقوله:" كرهت أن يمشوا في الدحض والزَّلل "، ومعنى الدحض: الزلق، من معنى الزلل.
__________
(1) في (ح) و(ط):" ردع ".
(2) في (ح) و(ط):" الرزع ".
(3) في (ح) و(ط):" أزعت ".
(4) في (ح) و(ط):" مرزعة ".
(5) في (ح) و(ط):" رزع ".
(6) في (أ):" الزاي ".
(7) في (ح) و(ط):" والرَّدَع والرَّدْع ".
(8) في (ح) و(ط):" الرزع ".
(9) في (ح) و(ط):" الرزعة ".
(10) في (ح) و(ط):" الردغة ".
(11) في (ط):" الردعة ".
(12) في (ط):" الرزعة والردعة ".
(13) في (ط):" الرزع ".
(14) في (ط):" المعتم ".(3/232)
وقوله:" كرهت أن أحرجكم ". كذا رويناه هنا، بالحاء المهملة أي أشق عليكم وأضيق، قال الله تعالى:{ وما جعل عليكم في الدين من حرج}، وقوله: في سنده:"حدثني(1) أبو الربيع العتكي، هو الزهراني ": كذا وقع في "الأم" هنا مجتمعين، ومرة يقول فيه: العتكي، ومرة: الزهراني"، ولايجتمع العتك(2) وزهران إلا في جدهما، هما أبناء عم، وليس أحدهما فضيلة من صاحبه، زهران بن الحجر بن عمران بن عمرو من بقيا(3)، والعتك(4) بن الأسد بن عمرو، وقد تقدم تنبيهنا عليه، فلعله صليبة في النسب الواحد، وكان حليفًا للآخر وجارًا(5).
وقوله:" كان يصلى سبحته حيث توجهت به ناقته(6)" بين معناه في الرواية الأخرى، وأزال الاحتمال بقوله حيث كان وجهه، وفي(7) حديث أنس: ووجهه عن يسار القبلة.
وقوله:" لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله(8) مافعلته ": ولاخلاف في هذا بين العلماء في جواز تنفل المسافر حيث توجهت به راحلته كان إلى القبلة أو لا ؟ واختلفوا في ابتداء صلاته، فذهب مالك وغيره إلى(9) أن الابتداء وغيره سواء، وذهب الشافعي وأحمد وأبو ثور أنه يفتتح إلى القبلة استحسانًا، ثم يصلى بعد كيف شاء(10) وأمكنه. ثم اختلفوا في أي سفر يباح هذا ؟ فمالك لايراه إلا في سفر يجوز فيه قصر الصلاة، وعامتهم على أنه يجوز في كل سفر طال أو قصر، وأبو يوسف يجيزه في الحضر، ونحوه عن أنس:" كان يومئ على حمار في أزقة المدينة "، وحكاه بعض الشافعية عن مذهبهم.
__________
(1) في (ح) و(ط):" حدثنيه ".
(2) في (ط):" العتيك ".
(3) قوله:" من بقيا " في مكانها بياض في (ح)، وفي (ط):" ومن بقيا ".
(4) في (ح) و(ط):" العتيك ".
(5) في (ط):" أو جارًا ".
(6) في (ح):" راحلته ".
(7) في (ط):" وما في ".
(8) في (أ) و(ط):" فعله ".
(9) قوله:" إلى " ليس في (ح) و(ط).
(10) قوله:" شاء " ليس في (أ) و(ط).(3/233)
وقوله:" كان يوتر على راحلته ": أصل في جواز الوتر عليها كيف توجهت به، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق(1) وعطاء، خلافًا لأصحاب الرأي.
وقوله:" غير أنه لايصلي عليها المكتوبة "، إجماع من أهل العلم أنه لايصلي على الدابة فريضة لغير عذر من خوف أو مرض.
واختلف في المرض، واختلف فيه قول مالك إذا استوت حالته في الصلاة في الأرض وعليها، واختلف قول مالك هل حكم السفينة في التنفل(2) حيث توجهت به حكم الدابة أو خلافها ؟
وقوله في حديث عمرو بن يحى في الباب:" رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي على حمار، وهم الدارقطني وغيره عمرا في قوله:" على حمار "، والمعروف في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: على راحلته وعلى البعير، والصواب أنه من فعل أنس، كما حكاه مسلم بعد هذا، ولم يخرج البخاري حديث عمرو.
وقوله:" وهو موَّجه إلى خيبر(3)"، أي متوجه، يقال: وجّه هاهنا، أي توجه، وقد يقال: إن معناه: قاصدٌ، يقال: هذا وجهي إليه، أي قصدي، وقد يقال: معناه: أي مقابل بوجهه إليها. ولم يذكر في كتاب مسلم صفة صلاته على الدابة، وقد وقع مفسرًا في "الموطأ" من فعل أنس قال: إيماء، وقال مالك: وتلك سنة الصلاة على الدابة، قال(4): ولايسجد على القربوس.
وقوله: " فلقينا أنسًا حين قدم الشام "، كذا وقع في جميع النسخ لمسلم، قيل: هو وهم، وصوابه: من الشام، وكذا أخرجه(5) ا البخاري، وذلك أنهم خرجوا من البصرة للقائه حين قدم من الشام (6).
__________
(1) قوله:" إسحاق " ليس في (أ) و(ط).
(2) قوله:" في التنفل " ليس في (أ)، وفي (ط):" في النفل ".
(3) في (ط):" حنين ".
(4) في (ط):" قالو ا".
(5) في (أ) و(ط):" خرّجه ".
(6) في (ح):" كمل الجزء الأول من الإكمال والحمد لله ذي الجلال، وصلى الله سيدنا محمد المنعوت بأحمد الجلال، وعلى أصحابه أولي الفضل والإفضال، ويتلوه في أول الثاني أحاديث الجمع بين الصلاتين ".(3/234)
قال الإمام: الجمع بين الصلوات المشتركة الأوقات تكون(1) تارة سنة، وتارة رخصة، فالسنة الجمع بعرفة والمزدلفة، ولاخلاف فيه(2)، وأما الرخصة فالجمع في المرض والسفر والمطر، فمن تمسك بحديث صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع جبريل - عليه السلام - وقدّمه لم ير الجمع في ذلك، ومن خصه أثبت جواز الجمع في السفر بالأحاديث الواردة فيه، وقاس المرض عليه، فيقول: إذا أبيح للمسافر الجمع لمشقة السفر، فاحرى أن يباح للمريض، وقد قرن الله المريض بالمسافر في الترخيص له في الفطر والتيمم، وأما الجمع في المطر فالمشهور من مذهب مالك إثباته في المغرب والعشاء، وعنه قولة شاذة: أنه لايجمع إلا في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومذهب المخالف جواز الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في المطر واحتج القائلون بالجمع بالحديث الذي فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بالمدينة ثمانيًا وسبعًا (3). قال مالك أرى ذلك في المطر، وهذا المعنى قاله غيره، فقال بالجمع بين الظهر والعصر على ماجاء في الحديث، ولم يقل بذلك مالك في صلاة النهار وخص الحديث بضرب من القياس، وذلك أن الجمع للمشقة اللاحقة في حضور الجماعة، وتلك المشقة إنما تدرك الناس في الليل ؛ لأنهم يحتاجون إلى الخروج من منازلهم إلى المساجد، وهم في النهار(4) متصرفون(5) في حوائجهم، فلا مشقة تدركهم في حضور الجماعة، وتأويل الحديث، على أنه كان في مطر، يضعفه مافى أحد طرق(6) هذا الحديث، وهو قول ابن عباس: " جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في المدينة في غير خوف ولامطر "، فقد نص ابن عباس على أنه
__________
(1) في (أ):" يكون ".
(2) قوله:" ولا خلاف فيه " ليس في (أ) و(ط)، والمثبت من (هـ).
(3) في حاشية (هـ):"أو سبعًا "، وكتب فوقها:"خ".
(4) في (أ):" وفي النهار هم ".
(5) في (هـ):" محتاجون متصرفون ".
(6) في (هـ):" كا ورد في بعض طرق ".(3/235)
لم يكن في مطر، قال: وقيل في تأويله: أن ذلك كان في الغيم، فإنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر ثم انكشف له في(1) الحال أنه وقت العصر فصلاها، وهذا يضعفه جمعه في الليل ؛ لأنه لايخفى دخول الليل حتى يلتبس دخول المغرب مع وقت العشاء ولو كان الغيم، قال ويشبه أن يكون فعل ذلك في المرض،والذى ينبغى أن يحمل عليه ما(2) أغنى بناؤه(3) أو تأويله من أحاديث الجمع عند من لا يقول به: إنه أوقع الصلاة الأولى في آخر وقتها والثانية في أول وقتها.
قال القاضي: ذكر مسلم في هذا الباب في السفر حديث ابن عمر: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا عجل به السير جمع بين المغرب والعشاء"، وفي بعض طرقه: " يؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين صلاة العشاء "، وإنما خص ابن عمر جمع(4) صلاتي الليل هنا لأنه أورد الحديث حجة لنازلته (5). وذلك أنه استصرخ على زوجه صفية بنت أبي عبيد، فاستعجل السير وجمع بين المغرب والعشاء.
ذكر في(6) "مسلم ":" بعد أن غاب الشفق "، وفي غيره:" صلى المغرب قبل مغيب الشفق، ثم انتظر حتى غاب فصلى العشاء "، ثم احتج على نازلته بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في(7) ذلك ولم يتعرض لذكر فعله في صلاة النهار، فلا حجة فيه أنه كان لايجمع بالنهار، على أن أبا داود قد رواه:" كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا جدَّ(8) به السير صنع مثل ماصنعت " من غير تعيين صلاة.
__________
(1) قوله:" في " ليس في (ط).
(2) قوله:" ما " ليس في (أ) و(ط).
(3) في (هـ):" بيانه ".
(4) في (هـ):" بين جمع ".
(5) في (هـ):" لنازلة ".
(6) قوله:" في" ليس في (هـ).
(7) في (هـ):" على ".
(8) في (هـ):" أجد ".(3/236)
وذكر مسلم في الباب حديث أنس:" كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ارتحل قبل أن تزيغ(1) الشمس أخر الظهر حتى يدخل وقت العصر، ثم ينزل فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب.
وذكر حديث ابن عباس ومعاذ في جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء وقالا:" أراد ألا يحرج أمته "، ولم يفسرا صورة الجمع، وقد فسره في حديث معاذ في كتاب أبي داود، قال:" كان إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر، وإن ارتحل قبل أن تزيغ أخر الظهر حتى ينزل للعصر وفي المغرب والعشاء مثله "، وفي هذا الباب أحاديث الجمع بعرفة والمزدلفة يجمع بين الظهر والعصر بعرفة حين زالت الشمس وبين المغرب والعشاء بالمزدلفة بعد مغيب الشفق، وفي "الموطأ" من حديث علي بن حسين أن النبي - عليه السلام - كان إذا أراد أن يسير يومه جمع بين الظهر والعصر، واذا أراد أن يسير ليلته جمع بين المغرب والعشاء، وفي "الموطأ" في(2) حديث معاذ في غزوة تبوك: أنه أخر الصلاة يومًا، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعًا، ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعًا، فأفادت ألفاظ هذه الأحاديث معاني متفرقة من الفقه تنبني(3) وتلتئم إن شاء الله تعالى ولا تتنافر (4). ففي حديث معاذ هذا جمعه بين هذه الصلوات وهو نازل دون جدّ سير ولا كونه على ظهر ؛ لقوله:" ثم دخل ثم خرج "، وهذا هو ظاهر الكلام، وقد قيل: يحتمل أن يكون خرج عن الطريق للصلاة ثم دخل فيها للسير، وهذا بعيد، وقيل: لعل هذا كان(5) هذا مع المطر.
__________
(1) في حاشية (هـ):"ترتفع ".
(2) في (أ):" من ".
(3) في (هـ):" تنبئ".
(4) في (ط):" يتنافر ".
(5) في (أ):" لعل هذا كان ".(3/237)
وفي حديث ابن عمر وعلي بن حسين أن الجمع مقتضاه مع ارتفاع جد السير ؛ لقوله:"إذا عجل به السير "، " إذا أراد أن يسير يومه "، " وإذا أراد أن يسير ليله ".
وأفاد حديث ابن عباس ومعاذ في الكتاب: الرخصة، ورفع الحرج وهو يدل على جواز مافعل من ذلك. وأفاد حديث أنس في الكتاب صلاة الأولى في وقت الأخرى لمشقة النزول لحلول وقت الأولى، وأنه إن رحل بعد حلول وقت الأولى صلاها وترك الصلاة الأخرى لنزوله فيصليهما جميعًا لوقتهما، وظاهره أن نزوله في وقت الآخرة.
وأفاد حديث معاذ في كتاب أبي داود بيان صورة الجمع واختلاف أحواله ومضمونه ضم إحدى الصلاتين إلى الأخرى وصلاته كل واحدة في وقت الأخرى، وهذه هى حقيقة الرخصة والتخفيف. وموضع خلاف العلماء، على أنه لا وجه للخلاف ولايجوز مع صحة الآثار بذلك(1) وتظاهرها وهو مضمون حديث ابن عمر وفعله في كتاب مسلم، واحتجاجه بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله، وأنه كان يؤخر المغرب حتى يصليها مع العشاء.
وأفادت أحاديث الجمع بعرفة عند الزوال أن الرحيل إذا كان عند دخول وقت الصلاة الأولى، وكان السير مستمرًا والنزول بعد خروج وقت الآخرة أن يكون الجمع في وقت الأولى ؛[إذ لا نزول لهم في وقت الآخرة ](2).
__________
(1) في (هـ):" بظاهره ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (ط).(3/238)
وأفاد جمع مزدلفة أن الصلاة الأولى إذا حانت والمسافر على ظهر، ونزوله قبل خروج وقت الآخرة أن يكون الجمع في وقت الآخرة ؛ لأن الشمس تغيب عليهم وهم ركبان عاملين عملهم ونزولهم قبل، وهو من معنى حديث أنس ومعاذ فنزَّل بعض شيوخنا مسألة الجمع على مفهوم هذه الأحاديث، فإذا زالت الشمس وهو في المنهل ويعلم أنه إذا رحل لم ينزل إلا بعد الغروب جمع في أول وقت الظهر على ظاهر حديث معاذ، وإن كان نزوله قبل الاصفرار(1) لم يجمع وصلى الأولى وأخر الآخرة حتى ينزل، على ظاهر حديث أنس، وإن زالت الشمس وهو على ظهرٍ، وكان نزوله قبل الاصفرار أخرهما حتى ينزل وجمعهما على مقتضى حديث معاذ.
واختلف إذا كان نزوله بعد الاصفرار وقبل الغروب، وإن كان نزوله بعد الغروب جمع وصلى الأولى في آخر وقتها والثانية أول وقتها، وعليه محمل قول مالك في المدونة إذ لابد من نزولٍ لصلاتهما وجمعهما، فكونه في وقت يمكن أن يصليهما(2) فيه في وقتيهما المختار أولى وهذا نص فعل ابن عمر، وقد قالى:" صنعت مثل ماصنع النبي - صلى الله عليه وسلم - "، وهي كانت سنة نازلة ابن عمر ؛ لأنه قطع في ليلته تلك مسيرة ثلاث، فلم يأخذه وقت صلاة فيهما(3) وهو نازل فنزل لهما(4) نزولاً واحدًا، ويحمل(5) ماجاء في كتاب مسلم في فعله هذا، وقول نافع بعد مغيب الشفق في الآخرة منهما لبيان الرواية الأولى من(6) صلاته للمغرب قبل مغيب الشفق.
__________
(1) في (هـ):" الاسفار " وجاء فيما بعد على الصواب.
(2) في (ط):" يصليها ".
(3) في (أ) (هـ):" فيها ".
(4) في (ط):" لها "، وفي (هـ):" لهما جميعًا ".
(5) في (هـ):" ويحمل على ".
(6) في (هـ):" وهي ".(3/239)
وقوله في رواية سالم في "مسلم":" أخر المغرب حتى جمع بينها وبين العشاء "، ولم يقل في وقت العشاء، وكذلك حكم المغرب والعشاء في هذه الأحوال، وهذا على مذهب من نظر الحيطة للوقت مع الأخذ بالرخصة، وأما غيره فأخذ بمجرد الرخصة ولم يلتفت إلى هذا، وقال أبو الفرج عن مالك: من أراد الجمع بين الصلاتين في السفر جمع بينهما إن شاء في آخر وقت الأولى، أو(1) في أول وقت الآخرة،وإن شاء أخر الأولى فصلاها في آخر وقتها، وذلك لجواز(2) الصلاة بعرفة والمزدلفة، وهذا قول الشافعي وجمهور العلماء. قال أبو الفرج: وهو أصل هذا الباب، فرأى من قال هذا أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك توسعة ورخصه، وأن تقديمه العصر بعرفة كتأخير المغرب بالمزدلفة، وكذلك اختلاف ذلك في الجمع في السفر، وقد اختلف العلماء في الجمع للمسافر على ماتقدم، مع اتفاقهم على الجمع بعرفة والمزدلفة(3) واتفاقهم على منع الجمع بين الصلوات التي لا اشتراك بينها من العصر والمغرب، والعشاء والصبح، والصبح(4) والظهر، فرأى الجمع للمسافر بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء جماعة من(5) السلف والشافعي وفقهاء أصحاب الحديث، وهو معروف مذهب مالك. واختلف عنه مع القول بالجمع هل ذلك بمجرد السفر أو حتى يجد به السير، أو يخاف فوات أمر ؟ وباشتراط جد السير قال الليث والثوري، وباشتراط العذر قال الأوزاعي، وبمجرد السفر قال جمهور السلف وعلماء الحجاز وفقهاء أصحاب الحديث والظاهر، وأنه يجمع أي وقت شاء من الأولى أو(6) الآخرة، وأبى أبو حنيفة وحده الجمع للمسافر، وحكى كراهته(7) عن الحسن وابن سيرين، وروي عن مالك مثله،وروي عنه
__________
(1) في (هـ):" و " بدل:" أو ".
(2) في (ط):" تشبه أن تكون " كجواز "، وفي حاشية:" كجواز ".
(3) في (أ):" مزدلفة ".
(4) قوله:" والصبح " ليس في (ط)و (هـ).
(5) قوله:" من " ليس في (أ) و(ط).
(6) في (هـ):" و " بدل:" أو ".
(7) في (ط):" كراهيته ".(3/240)
كراهته(1) للرجال دون النساء، قال أبو حنيفة: إلا أن للمسافر أن يؤخر الظهر إلى آخر وقتها فيصليها، ويؤخر قليلاً ثم يصلى العصر أول وقتها، فلا صلاة في وقت أخرى تجوز لمسافر ولاحاضر إلا بعرفة ومزدلفة.
وأما ما ذكر(2) مسلم من أحاديث الجمع في غير السفر، فحديث ابن عباس وقال فيه: "جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولاسفر "، وفي الأخرى(3):" ولامطر " مكان: "ولاسفر".
__________
(1) في (أ) و(ط):" كراهيته ".
(2) في (أ):" ذكره ".
(3) في (ط):" أخرى ".(3/241)
وقوله:" كنا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، وتأول(1) مالك الحديث على أنه كان في المطر، وقد(2) تأوله غيره من أهل العلم، وقول ابن عباس في ذلك: " أراد ألا يحرج أمته "، فقد(3) تقدم كلام الإمام(4) أبي عبد الله عليه وبالجمع في المطر بين العشائين(5) كما قال مالك قال الشافعي وأحمد وإسحاق وجمهور السلف، ولم ير ذلك مالك في(6) الظهر والعصر، وقال بالجمع في المطر الوابل: الشافعي وأبو ثور والطبري، وهو ظاهر قول مالك في "الموطأ"، والطين والظلمة عند مالك كالمطر، وقد جاء عنه ذكر الطين مجردًا، وأبى من الجمع للمطر ليلاً ونهارًا(7): الليث وأبو حنيفة وأصحابه وأهل الظاهر، وذهب كافة العلماء إلى منع الجمع بين الصلاتين في الحضر لغير(8) عذر إلا شُذَّاذًا(9) منهم من السلف ابن سيرين، ومن أصاحبنا أشهب، فأجازوا ذلك للحاجة والعذر مالم يتخذ عادة، ونحوه لعبد الملك في الظهر والعصر، وحجتهم في ذلك حديث ابن عباس، وقوله: "أراد ألا يحرج أمته "، وتأول ذلك على تأخير الأولى إلى آخر وقتها، وتقديم الأخرى(10) لأول وقتها، على ما تأوّله أبو الشعثاء وعمرو بن دينار في كتاب مسلم، وبه علل أشهب ؛ قال: لأنه يصلى في أحد الوقتين اللذين وقت جبريل - عليه السلام - في حديث ابن عباس، وإذا كان هذا لم يكن خلافًا، وظاهر حديث ابن عباس يحتمل الوجهين.
__________
(1) في (أ) و(ط):" وتأويل ".
(2) قوله:" قد " ليس في (هـ).
(3) في (هـ):" قد ".
(4) قوله:" الإمام " ليس في (هـ).
(5) في (ط):" المطر بالعشائين ".
(6) في (هـ):" بين ".
(7) في (هـ):" أو نهارًا ".
(8) في (هـ):" من غير ".
(9) في (أ) و(ط):" شذوذًا ".
(10) في (هـ):" الثانية ".(3/242)
وقوله:" أراد ألا يحرج أمته "، أي أن لهم جواز تأخير الصلاة إلى آخر وقتها، وليس في ظاهره مايدل أنه يجمعهما في الحضر في أول وقت الأولى أو يؤخرها لوقت الآخرة. وكذلك الجمع للمريض الذي يخاف أن يغلب على عقله جائز أول الوقت عند مالك (1)، ومنعه الشافعي وسحنون من أصحابنا، فأما الذي الجمع أرفق به فعند مالك يجمع في آخر وقت الأولى وأول وقت الثانية، وكذلك لا(2) يجمع المريض الأولى عند الحنفي على أصله، وعند سحنون وغيره ممن لم ير لهم الجمع.
وقوله:" فحاك في صدري "، أي أخذ به (3)، قال الليث: الحيك أخذ القول بالقلب، وقيل: معناه: تحرك، وقال شمر: الحايك: الراسخ في قلبك مما(4) يهمك، وقال الحربي: هو ما يقع في خلدك ولاينشرح له صدرك، وخفت الإثم فيه، فقال بعضهم: وصوابه: حِك، ولم يقل شيئًا، قال أهل اللغة: يقال(5) حاك يحيك، وحك يحك، واحتك وأحاك لغة، حكاها الخليل، وأنكرها ابن دريد.
وفي أحاديث جمع المغرب إلى العشاء وتأخير ابن عباس لها ؛ دليل على أن لها وقتين، وفعل ابن عباس يدل على أنه رأى الترخيص(6) في الجمع في الحضر كما روى.
قال الإمام: ذكر مسلم في الباب، حدثني أبو الطاهر وعمرو بن سواد(7)، أنبأنا ابن وهب، حدثني جابر بن إسماعيل عن عقيل ؛ حديث أنس، هكذا روى هذا الإسناد مجودًا، ووقع في نسخة ابن ماهان، أنبأنا ابن وهب قال:حدثني إسماعيل عن عقيل، وهذا وهم، وإنما هو جابر بن إسماعيل: شيخ لابن وهب، مصري، ووقع في بعض النسخ أيضًا: ابن وهب عن حاتم بن إسماعيل وليس(8) بشىء.
__________
(1) في (هـ):" جائز عند مالك أول الوقت ".
(2) قوله:" لا " ليس في (ط).
(3) في (هـ):" أخذته " بدل:" أخذ به ".
(4) في (أ) و(ط):" بما ".
(5) قوله:" يقال " ليس في (هـ).
(6) في (ط):" الترخص"، وفي (هـ):" يرى الترخص".
(7) في (هـ):" شداد ".
(8) في (هـ):" وليس هذا ".(3/243)
قال القاضي: كان في النسخ الواصلة إلينا من "المعلم" خلل في آخر هذا الكلام، وصوابه، ما أثبتناه عليه ؛ إذ نقلَهُ مانقل من كتاب الجياني فحققناه وأصلحناه منه، وروايتنا فيه من طريق الجلودي: حاتم بن إسماعيل، ومن طريق ابن ماهان:" إسماعيل "، كذا عند جميع شيوخنا عن العذري، والسمرقندي وابن الحذاء وسائر رواة الجلودي، وابن ماهان، إلا أنه كان في كتاب شيخنا القاضي التميمى رواية ابن الحذاء بخط ابن العسال عن جابر بن إسماعيل بغير خلاف على الصواب، وفي كتاب شيخنا أبي محمد الخشني: حدثنا ابن إسماعيل، دون اسم، فطرح الاسم لأجل الوهم وأبقى النسب الصحيح ليسلم من الوهم في اسم ابن إسماعيل، والصواب: جابر، كما حكى الشيخ، وكذا صوَّبه الجياني أبو علي الحافظ، وكذا(1) ذكره الدمشقي وأبو داود والنسائي في حديث ابن شهاب. وقال البخاري: جابر بن إسماعيل يعد في المصريين عن عقيل، روى عنه ابن وهب.
قال الإمام: وخرّج في الباب حديث قرة(2) بن خالد، ثنا أبو الزبير المكي، عن عمرو بن واثلة أبو الطفيل، ثنا معاذ بن جبل، هكذا أتى(3) هذا الإسناد أبو الطفيل عمرو بن واثلة (4)، والمشهور المحفوظ في اسم أبي الطفيل عامر لا عمرو، وإنما(5) أتى هذا من قبل الراوي عن أبي الزبير، قال بعضهم هو عامر بن واثلة الليثى المكي من ليث بن بكر بن عبد مناة، ومن قال أبو الطفيل البكري ينسبه إلى بكر بن عبد مناة، وليس من بكر بن وائل، وقد نبه عليه البخاري في "تاريخه الكبير" فقال: اسمه عامر، وقال بعضهم: عمرو، وقال في "الأوسط": اسم أبي الطفيل عامر، ونحوه في كتاب(6) "التمييز"(7) لمسلم.
__________
(1) في (هـ):" وكذلك ".
(2) في (هـ) يشبه أن تكون:" قراة ".
(3) في (ط):" أخبرنا ".
(4) في (ط) زيادة:" أبو الطفيل ".
(5) في (هـ):" إنما ".
(6) قوله:" كتاب " ليس في (ط).
(7) في حاشية (هـ):"التحبير ".(3/244)
قال القاضي: عامر على المشهور وقعت(1) روايتنا فيه عن عامة شيوخنا في الكتاب من طريقى مسلم، إلا أن أبا بحر حدثنا عن أبي الفتح الشاشى به فقال: عمرو، وماحكاه(2) الجياني من(3) روايته عمرو، وقد ذكر مسلم في "الأم" عن زهير عن أبي الزبير وسماه عامرا بغير خلاف.
وذكر مسلم عن عبد الله التغليظ فيمن يرى ألا ينصرف إلا عن اليمين، وقال(4):" أكثر مارأيت رسول الله ينصرف عن شماله "، وذكر عن أنس، ضدّه عامة العلماء والسلف على أنه ليس في هذا الباب سنة، وأنه سواء الانصراف من(5) حيث شاء، وهو مقتضى الحديثين، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعلهما معًا، وأخبر كل واحد بما شاهده وعقله من أكثر فعله.
وقوله:" لايجعلن أحدكم للشيطان من نفسه جزءًا "، وفي البخاري: "شيئًا من صلاته لايرى أن عليه حقًا ألا ينصرف إلا عن يمينه " ظاهر(6) أن فعل ذلك عنده بدعة ومن عمل الشيطان، وذهب الحسن إلى استحباب(7) الانصرات عن اليمين، وقال ابن عمر في "الموطأ": إن قائلا يقول: انصرف عن يميك، فدلّ أن الخلاف كان مقولاً حينئذ، ولذلك أنكره ابن عمر.
وذكر مسلم في الباب حديث البراء:" كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحببنا أن نكون عن يمينه(8)، يقبل علينا بوجهه "، وهو محتمل لهذا، ويحتمل للتيامن عند التسليم (9)، وهو أظهر من الأول، وإلا فإذا انصرف عن يمينه أو شماله فقد كانت عادته - عليه السلام - أن يستقبل جميعهم بوجهه على ماجاء في حديث سمرة وأنس وغيرهما.
__________
(1) في (هـ):" ووقعت ".
(2) في (هـ):" وحكاه ".
(3) في (هـ):" عن ".
(4) في (أ):" فقال ".
(5) قوله:" من " ليس في (هـ).
(6) في (هـ):" ظاهرة ".
(7) في (هـ):" استحسان ".
(8) في (أ):"رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنّا عن يمينه "
(9) في (هـ):" السلام ".(3/245)
وإقبال النبي - صلى الله عليه وسلم - يحتمل أن يكون بعد قيامه من مصلاه، أو يكون ينفتل(1) دون قيام، وقد جاء في بعضها:" إذا انصرف أقبل علينا بوجهه "، فيه(2) أن الإمام لا يبقى على حالته في مصلاه، فإما أن يقوم أو ينحرف عن موضعه وينفتل بوجهه لئلا يخلط على الناس، ويظن الداخل أنه في الصلاة بعد، ولأن تقدمه لأجل الصلاة انتقض بتمامها، ومقامه(3) هناك من باب التمييز بمكانه عن غيره، وفيه شيء من العجب والكبر كما كره(4) له الصلاة أرفع مما عليه أصحابه، وإن أمن ذلك في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - ونزه عنه، فهو يشير بما تقتدي به أمته فيه (5).
قوله (6):" إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ": أخذ قوم بظاهر هذا الحديث، وهو قول أبي هريرة، وروي عن عمر أنه كان يضرب على صلاة الركعتين بعد الإقامة، وإليه ذهب بعض الظاهرية، رأوا أنه يقطع صلاته إذا أقيمت عليه الصلاة، وكلهم يقولون: لايبتدئ نافلة بعد الإقامة لنهيه - عليه السلام - المتقدم.
وذهب مالك إلى أنه إذا أقيمت عليه وهو في نافلة، فإن كان ممن يخف عليه ويتمها بقراءة أم القرآن وحدها قبل أن يركع الإمام أتمها، والا قطع، وذهب بعض أصحابنا إلى أنه يتمها.
واختلفوا في صلاة ركعتي الفجر إذا أقيمت الصبح، فذهب جمهور السلف والعلماء إلى أنه لايصليها في المسجد، ثم اختلفوا: هل يخرج لها ويصلى خارجه(7) ؟ وهو قول جماعة من السلف، أم لا يصليها خارجه جملة ويدخل في المكتوبة ؟ وهو قول مالك والشافعي وأحمد والطبري ؛ إذا أقيمت عليه وقد دخل المسجد، وقول ابن سيرين: متى أقيمت عليه، دون تفصيل.
__________
(1) في (هـ):" ينتقل ".
(2) في (هـ):" وفيه ".
(3) في (هـ):" ومكانه ".
(4) في (هـ):" ذكره ".
(5) في (أ):" بعده "، وفي حاشيتها:" فيه ".
(6) في (هـ):" وقوله ".
(7) في (أ):" خارجه أم لا ".(3/246)
واختلف من أباح له الخروج لصلاتها، هل ذلك مالم يخش فوات الركعة الأولى، قإذا خشيها دخل مع الإمام ولم يخرج ؟ وهذا قول مالك والثوري: إذا أقيمت قبل أن يدخل المسجد، وقيل: بل إنما يراعى فوات الآخرة. وقد روي هذا أيضًا(1) عن مالك، أم(2) يصليها وإن فاتته صلاة الإمام إذا كان الوقت واسعًا، قاله ابن الجلاب، وذهبت طائفة من السلف والفقهاء إلى أنه يصليها في المسجد والإمام يصلي، وروي هذا عن ابن مسعود.
ثم اختلف هؤلاء: هل يركعهما في المسجد مالم يخش فوات الركعة الأولى، فإن خشيها دخل مع الإمام، وهذا(3) قول الثوري، وقيل: يركعهما مالم يخش فوات الركعة الثانية، وهو قول الأوزاعي وأبي حنيفة وأصحابه، وقد حكي عن أبي حنيفة أنه يركعهما عند باب المسجد.
وقد ذكر مسلم الاختلاف عن(4) عمرو بن دينار(5) في رفع هذا الحديث وأوقفه(6) على أبي هريرة وبسبب هذا الاختلاف لم يخرجه البخاري. قال الترمذى: ورفعه أصح.
__________
(1) قوله:" أيضًا " ليس في (ط).
(2) في (أ):" أن ".
(3) في (هـ):" وهو ".
(4) في (أ):" على ".
(5) في (ط):" جبير ".
(6) في (أ):" ووقفه "، وفي (هـ):" أو وقفه ".(3/247)
قال الإمام: وقوله - عليه السلام - للرجل الذي راه يصلي والمؤذن يقيم:« أتصلي الصبح أربعًا ؟»، وفي حديث آخر:« يوشك أن يصلي أحدكم(1) الصبح أربعًا»: هذه إشارة إلى أن علّة المنع حماية للذريعة ؛ لئلا يطول الأمر ويكثر ذلك فيظن الظان أن الفرض قد تغير، وهذا يقرب من المعنى الذي ذكرناه عن ابن عمر في إنكاره على المتنفل في السفر، وبنحو(2) ماوجهنا به منع الركوع عند صلاة الصبح اعتذر عن عثمان في إتمامه الصلاة بمنى، إنما(3) ذلك خيفة أن يغتر الجهال إذا صلوا ركعتين، ويظنوا أن الصلاة غيِّرت(4)، وقد شذ بعض الناس، فأجاز أن يركع للفجر في المسجد والإمام في الصلاة، ولعله لم تبلغه هذه الأحاديث، وتأول ذلك على أنه فيمن أخذ يصلي الصبح وحده قبل صلاة الإمام، ثم يعيدها معه وقد ذكر في بعض، هذا الحديث أنه قال له: « بأى الصلاتين اعتددت، أبصلاتك وحدك أم بصلاتك معنا ؟».
وقد اختلف في ركعتي الفجر: هل هما سنة أو فضيلة ؟ وهذا الخلاف إنما هو راجع إلى زيادة الأجر وتأكيد فعلها ؛ لأن هذه الأقسام كلها لايأثم من ترك شيئًا منها وإنما يتفاضل أجره في فعلها، وأعلاها أجرًا هذا المسمى بالسنة.
__________
(1) في (هـ):" يوشك أحدكم أن يصلي ".
(2) في (أ):" وهو ".
(3) في (هـ):" وإنما ".
(4) في (هـ):" قد غيرت "، وفي (ط):" تجزي ".(3/248)
قال القاضي: في هذا الحديث رأى رجلاً يصلى الصبح والمؤذن يقيم فبين أنه صلى الفرض. وقوله في الحديث الآخر في الذي دخل المسجد فصلى ركعتين في جانب(1) المسجد، ثم دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما سلم قال له: «بأي الصلاتين اعتددت أبصلاتك وحدك أم بصلاتك معنا ؟»، إشارة إلى علة أخرى في المسألة بينة، وهو الاختلاف على الأئمة، وحماية الباب وقطع الذريعة لتطرق(2) أهل البدع والشقاق لترك الصلاة خلفهم حتى حمى ذلك في الجمع في المسجد مرتين، وفيه رد على من يجيز صلاة(3) ركعتي الفجر في المسجد والإمام يصلي الصبح(4) وإن أدركها معه ؛ لأن هذا قد صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد، ألا تراه قال له(5):« أو التي(6) صليت معنا »، وقد جاء في حديث ابن بحينة من رواية(7) قتيبة:" أقيمت صلاة(8) الصبح، فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي الصبح "، وذكر الحديث.
وقوله:« أتصلي(9) أربعًا »: فسر هنا أنها صلاة الصبح، وعليه(10) يأتي قوله:« بأي الصلاتين اعتددت(11)»، وفي إنكار النبي - عليه السلام - ذلك(12) عليه وتوبيخه دليل على أنه لايجوز، وأن(13) يقطع ما كان فيه، ويدخل في صلاة(14) الإمام، إلا أن يمكنه تشفيعها قبل أن يصلي الإمام ركعة.
__________
(1) في (أ):" باب "، وأيضًا في هامش (هـ) وكتب فوقها "خ".
(2) في حاشية (هـ):" لئلا يتطرق ".
(3) قوله:" صلاة " ليس في (هـ)، وفي (ط) إشارة إلحاق ولم يظهر شيء في المصورة.
(4) قوله:" يصلي " ليس في (ط).
(5) في (هـ):" ألا ترى كيف قال له "، وكتب فوقها كلمة:" كيف خ ".
(6) في (هـ):" والتي ".
(7) في (هـ):" طريق ".
(8) قوله:" صلاة " ليس في (هـ).
(9) في (أ):" أيصلي ".
(10) في (هـ):" وإليه ".
(11) في (هـ) زيادة:" أبصلاتك وحدك ".
(12) قوله:" ذلك " ليس في (أ).
(13) في (أ):" أن " بدون واو.
(14) في (هـ):" في صلاة مع الإمام ".(3/249)
واختلف المذهب في المغرب، هل يقطع(1) على كل حال إذ لا تنفل(2) قبلها ؟ أو ينصرف عن شفع كغيرها من الصلوات(3)؟ وقول مسلم في الحديث من(4) روايته، عن القعنبي بسنده، عن عبد الله بن مالك بن بحينة، عن النبي - عليه السلام - وما ذكر عن القعنبي من زيادته عن أبيه وأنه خطأ، وأن بحينة أم عبدالله، كله صحيح، ولذلك أسقطها من سند القعنبي مسلم ونبه عليها آخرًا.
قال الدارقطني: الصواب من لم يقل: عن أبيه. قال ابن معين: ليس يروى أبوه عن النبي - عليه السلام - وإنما قال: عن أبيه إبراهيم بن سعد وهذا(5) خطأ، وكما ذكره مسلم ذكره البخاري في "الجامع"، ثم أتبعه بقول من قال: عن رجل من الأزد يقال له: مالك بن بحينة.
قال الجياني: فجعله لمالك والد عبد الله، وهذا قول أصحاب شعبة، قال الجياني: ورواية الأوسي أصح. قال أبو مسعود الدمشقي: أهل العراق يقولون: عن مالك بن بحينة، وأهل الحجاز قالوا في نسبه: عبد الله بن مالك بن بحينة، وهو الأصح، وقال البخاري في "تاريخه":عبد الله بن مالك بن بحينة الأسدي، قال علي: هو ابن مالك بن القشب(6) من(7) أزد(8) شنوءة، وأمه بحينة بن الحارث من المطلب، قال: وقال بعضهم مالك بن بجينة، والأول أصح، وقال أبو عمر بن عبد البر: قيل: إن بحينة أم أبيه مالك والأول أصح، وذكر أباه مالكًا وأثبت صحبته وصحبة ابنه(9).
وقوله:" فلما انصرمنا"، كذا عند بعضهم، وأكثرهم انصرفنا، وهما قريبا المعنى.
__________
(1) في (هـ):" تقطع ".
(2) في (هـ):" يتنفل ".
(3) قوله:" من الصلوات " ليس في (ط).
(4) في (هـ):" عن ".
(5) في (هـ):" وهو ".
(6) في (ط):" الليث ".
(7) قوله:" من " ليس في (هـ).
(8) في (هـ):" أسد "في حاشيتها:" أزد "، وكتب فوقها:"خ".
(9) في (هـ) وحاشية (أ):" أبيه ".(3/250)
وقوله:" إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس "، هذا(1) على الندب والترغيب باتفاق من أهل العلم، إلا داود وأصحابه فرأوه(2) على الوجوب، وعدَّها بعض أصحابنا في السنن، وهذا إذا كان في وقت يجوز فيه التنفل مطلقًا، فإن كان في وقت يمنع فيه التنفل مطلقًا لم يجز له صلاتها(3)، خلافًا لبعض أهل الظاهر في صلاتها كل وقت، وخلافًا للشافعي في جواز صلاتها(7) بعد العصر مالم تصفر الشمس، وبعد الصبح مالم يسفر(4) ؛ إذ هي عنده من النوافل التي لها سبب، وإنما يمنع في هذه الأوقات مالا سبب له ويقصد ابتداء ؛ لقوله - عليه السلام -:« لاتتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولاغروبها »، وإن كان في(5) وقت الضرورة للنوافل كما بعد طلوع الفجر إلى صلاة الصبح، فاختلف فيه قول(6) الفقهاء واختلف فيه مالك فيمن ركع ركعتي الفجر، وخرّجوا الخلاف من قوله فيمن لم يركعهما على مذهب مالك (7)، وبالجواز قال الشافعي وأحمد وداود، وبالمنع قال أبو حنيفة والليث والأوزاعي، وهذا فيمن أراد الجلوس في المسجد، أو أتاه للصلاة، فأما من أراد الابتداء بفرضه فذلك واسع له ؛ أن يترك ركعتي التحية ويبدأ بفرضه أو يصليها، ثم يصلي فرضه، إلا أن يضيق(8) الوقت للفرض فيبدأ به، وأما إن كان لم يدخل المسجد للصلاة بل مجتازًا، فقد اختلف فيه اختيار السلف وخففه أكثرهم، ولم يوجبوا عليه الركوع، وهو قول مالك، واختلف قوله في تحية المسجد في صلاة العيد إذا صليت فيه، ورأى في مسجد مكة تقديم الطواف على التحية، وفي مسجد المدينة تقديم التحية على السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ووسع في ذلك أيضًا.
__________
(1) في (هـ):" الحديث هذا ".
(2) في (ط) و(هـ):" فرآه ".
(3) في (هـ):" صلاتهما ".
(4) في (أ):" تسفر ".
(5) قوله:" في " ليس في (هـ).
(6) قوله:" قول " ليس في (أ).
(7) قوله:" على مذهب مالك" ليس في (أ) و(ط).
(8) في (هـ):" يصير ".(3/251)
قال الإمام: اختلف فيمن أتى المسجد بعد الفجر وقد ركع ركعتي الفجر، هل يحيي المسجد بركعتين، وسبب الخلاف معارضة هذا الحديث بعموم(1) الحديث الآخر، الذي فيه النهي عن الصلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر، وقد قال بعض أصحابنا: إن من تكرر دخوله إلى المسجد [فإنه يسقط](2) عنه تحية المسجد، كما أن المختلفين إلى مكة والمترددين إليها من الحطابين وأهل الفاكهة يسقط عنهم الدخول بالإحرام، وكذلك أسقط(3) سجود التلاوة عن القراء والمقرئين، والوضوء لمسّ المصحف عن المعلمين.
قال القاضي: وذكر مسلم أحاديث صلاة القادم من سفرٍ ركعتين، هي(4) أيضًا من الرغائب ونوافل الصلوات، وذكر فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لها(5) ومواظبته عليها(6) وأمره بها(7)، وهذه(8) طريقة السنن عند بعضهم وتمييزها من سائر النوافل، إذ كل مازاد على الفريضة فهو نافلة، وهو أيضًا من جهة فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أمره سنة، لكن اختصت تسمية السنة عند العلماء بما تقدم من الوصف لما واظب على فعله، أو(9) أمر به، أو قدره بمقدار عند بعضهم ؛ كالوتر، وركعتي الفجر، وزكاة الفطر، أو ما(10) صلاه في جماعة عند بعضهم ؛ كصلاة العيدين والاستسقاء(11).
__________
(1) في (أ):" يعارضه عموم"، وفي (ط):" معارضة عموم ".
(2) في (هـ):" سقط ".
(3) في (هـ):" أسقطوا ".
(4) في (هـ):" هو ".
(5) في (هـ):" لهما ".
(6) في (هـ):" عليهما ".
(7) في (هـ):" بهما ".
(8) في (هـ):" وهي ".
(9) في (هـ):" و".
(10) في (هـ):" ما كان ".
(11) في (هـ):" وصلاة الاستسقاء ".(3/252)
ذكر مسلم الأحاديث في صلاة الضحى وإنكار عائشة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لها إلا أن يجىء من مغيبه، وقولها في الرواية الأخرى:" مارأيته صلاها قط "، وفي حديثها الآخر:" أنه صلاها أربع ركعات ويزيد ماشاء الله "، وفي حديث أم هانئ:" ثماني(1) ركعات "، وفي حديث أبي ذر وأبي هريرة: "ركعتان "، وقد اختلفت الآثار في حكمها وعددها، واختلف العلماء في ذلك، فمعظمهم(2) على أنها مشروعة من نوافل الخير، لما روي من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لها، وإظهاره فعلها وأمره بها، وقد(3) قيل عن ابن عباس: إنها المراد بقوله تعالى:{ يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال(4)}، وعنه: هي المراد بقوله(5):{ يسبحن بالعشي والإشراق(6)}، وروي عن ابن عمر في "الصحيح" أنه كان لايصليها، وحكي ذلك عن أبي بكر وعمر، وقال نحوه(7) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروي عنه - يعني ابن عمر(8)-؛ أنه رأى الناس يصلونها في المسجد فسئل، فقال: بدعة، وعن أنس مثل حديث أم هانئ، وعن ابن مسعود أنه كان لا يصليها، وتأولوا حديث أم هانئ أنها صلاة الفتح، وأنها من السنن ثمان(9) ركعات، وقد صلاها خالد بن الوليد، واحتجوا بقولها أيضًا في الرواية الأخرى(10):" إلا أن يجيء من مغيبه ".
__________
(1) في (هـ):" ثمان ".
(2) في (هـ):" فبعضهم "، وفي حاشيتها:" فمعظمهم ".
(3) مكررة في (هـ).
(4) قوله:" ورجال " ليس في (هـ).
(5) في (هـ):" بقوله تعالى ".
(6) في (أ):" الإبكار ".
(7) في (هـ):" قال ونحو ذلك ".
(8) قوله:" يعني ابن عمر " ليس في (ط).
(9) في (هـ):" وأنها ثمان ".
(10) قوله:" الأخرى " ليس في (أ).(3/253)
وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحاديث في صلاة الضحى وتسميتها ما لا ينكر من قول وفعل، وفي صلاتها من العدد ما تقدم، وروي عنه ست ركعات، واثنتا(1) عشرة، وروى الطبري أنه صلاها - عليه السلام - ركعتين، ثم أربعًا، ثم ستًّا، ثم ثمانيًا، واختار جماعة من السلف صلاتها ثمانيًا على حديث أم هانئ، وجماعة أخرى: صلاتها أربعًا على حديث عائشة، وجاء في فضل من صلاها عشرًا، ومن صلاها اثنتي(2) عشرة(3)، ما جاء، وتنزيل الأحاديث أولى في حكمها أن مجمل قول عائشة " ما صلاها ".
وقولها(4):" وما رأيته صلاها قط " مع قولها(5):" إنه صلاها "، إما على أنها أخبرت في الإنكار عن رؤيتها لذلك ومشاهدتها كما نصت عليه في الحديث الآخر، وعلمت الآخر بغير(6) المشاهدة من خبره، أو خبر غيره عنه، وقيل: قد يكون إنكارها المواظبة على فعلها لا صلاتها بالجملة، وقد صح عنها أنها كانت تصليها وتقول:" لو نشر لي أبواي ما تركتهما ".
__________
(1) في (هـ) و(ط):" اثنى ".
(2) في (هـ) و(ط):" اثني ".
(3) في (ط):" عشر ".
(4) في (أ):" وقوله ".
(5) في (ط):" قوله ".
(6) في (هـ):" من غير ".(3/254)
وقولها:" قط " على المشاهدة منها لا على الصلاة، والأشبه عندي في الجمع بين حديثيها أن تكون إنما أنكرت صلاة الضحى المعهودة حينئذ عند الناس، على الذي اختاره جماعة من السلف من صلاتها ثمان ركعات، وإنه إنما كان يصليها أربعًا كما قالت، ثم يزيد ما(1) شاء، وعلى هذا أيضًا يجمع بين الأحاديث المختلفة في صلاتها، أن أقل ما يكون(2) ركعتين ؛ إذ هي أقل(3) أعداد النوافل والفرائض، ثم كان - عليه السلام - يزيد فيها أحيانًا ماشاء الله كما قالت عائشة، فيصليها مرة أربعًا، ومرة ستًّا، ومرة ثمانيًا، كما جاء في الحديث الآخر، ثم بيّن فضيلة الزيادة فيها إلى اثنتي(4) عشرة ركعة(5)، كما جاء عن أبي ذر، وإن كل أحد أخبر بما رأى وشاهد من ذلك دون ما(6)لم يشاهد(7)، ومن علم فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - للجميع حدّث به، كما جاء في حديث مجاهد، ومحمل من لم يصلها من السلف على ما تقدم إن لم يجعلها مشهورة مقصورة على ذلك العدد والمواظبة ؛ لئلا تلحق(8) بالفرائض. وقد روي في إنكار ابن مسعود عنه نحو هذا.
__________
(1) في (هـ):" على ما ".
(2) في (ط):" تكون "، وفي (أ) منقوطة من أعلى ومن أسفل.
(3) قوله:" أقل " ليس في (هـ).
(4) في (هـ) و(ط):" اثني ".
(5) قوله:" ركعة " ليس في (ط) و(هـ).
(6) في (ط):" من ".
(7) في (هـ):" يشاهده ".
(8) في (ط):" يلحق ".(3/255)
وقول ابن عمر:" إنها بدعة "، أي: ملازمتها وإظهارها في المساجد، مما لم يكن بعد، لاسيما وقد روي عنه:" بدعة ونعمت البدعة "، وروي عنه:" ما ابتدع المسلمون بدعة أفضل من صلاة الضحى "، كما قال عمر في صلاة التروايح، لا على(1) أنها بدعة مخالفة للسنة(2)، وكذلك روي عن ابن مسعود لما أنكرها على هذا الوجه، وقال:" إن كان لابد ففي بيوتكم، لِمَ تحمّلون عباد الله مالم يحمّلهم الله "، كل ذلك خيفة أن يحسبها الجهّال من الفرائض، ولهذا ما رأى جماعة ممن رأى صلاتها في بعض الأيام دون بعض ليخالف بينها وبين الفرائض، واحتجوا بما روي عن أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصليها حتى نقول: لايدعها، ويدعها حتى نقول: لايصليها.
قال الإمام: قول عائشة رضى الله عنها:"ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي سبحة الضحى "، مع قوله في قيام رمضان:« ما منعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن يفرض(3) عليكم » محمله على أنه - عليه السلام - أوحي إليه بذلك وأعلمه الله أنه متى واظب(4) على فعل مثل هذا(5) فرض على أمته فأشفق - عليه السلام - على أمته، وكان - عليه السلام - كما قال الله تعالى:{ بالمؤمنين رءوفٌ رحيم}.
قال القاضي: قد قيل في قوله:" خشيت(6) أن تفرض(7) عليكم » ما قدّمناه أن يحسبها من يأتي بعد للمواظبة عليها من الفرائض، وسيأتي الكلام على هذا الحديث بعد.
__________
(1) قوله:" على " ليس في (هـ).
(2) في (هـ):" السنة ".
(3) في (ط):" يفرض ".
(4) في (ط):" واظبت ".
(5) في (هـ):" هذا أنه ".
(6) في (أ):" خشية ".
(7) في (أ) و(هـ):" يفرض ".(3/256)
وقول عائشة:" سبحة الضحى "، وقولها:" وإنى لأسبِّحها(1)"، وقول عبدالله بن الحارث نحوه، وقول أم هانئ:" فلم أره يسبّحها قبل ولابعد- أي صلاة الضحى -، وإني لأصليها "، والصلاة تسمى تسبيحًا، وقد قيل هذا في قوله تعالى:{ فلولا أنه كان من المسبحين }، أي المصلين، وفي(2) قوله: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون }؛ لكنها أكثر ما تستعمل في النافلة بدليل قوله:" يصلون بسبحتهم "، في الحديث الآخر.
وقوله:« اجعلوا صلاتكم معهم سبحة »، أي نافلة، ومن رواه:" وإني لأستحبها "، من الاستحباب، واحتج الحنفي ومن لا يرى الفضل فيها ولا في صلاة النهار، وأنه(3) لا عدد محصور في صلاتها، بل تصلى(4) ستًّا وثمانيًا وأقل وأكثر بتسليمة واحدة لحديث أم هانئ، وقولها(5):" صلى ثماني(6) ركعات "، ولم تذكر(7) فصلاً، ولا حجة لهم في هذا ؛ لأنها لم تقصد الفصل كما لم تذكر(6) الإحرام ولا القراءة، وإنما أرادت إثبات سنة الصلاة وعدد الركعات، وأطلقت ما سوى ذلك على معهود الصلاة، وقد قال - عليه السلام -: «صلاة الليل والنهار مثنى مثنى »، فكيف وقد جاء الحديث من رواية ابن وهب، وفيه:" يسلم من كل ركعتين "، فقطع بالمتأولين والمتعسفين.
__________
(1) في (هـ):" لأستحبها ".
(2) قوله:" في" ليس في (هـ).
(3) في (ط):" ولأنه ".
(4) في (هـ) و (ط):" يصلى ".
(5) في (ط):" وقوله ".
(6) في (ط):" ثمانيًا ".
(7) في (هـ) و(ط):" يذكر ".(3/257)
قال الإمام: اختلف في العدد الذي يجمع من(1) الركعات في صلاة النافلة من غير فصل، فقال مالك: لا يجمع أكثر من ركعتين، وقال أبو حنيفة: يصلي اثنتين إن شاء، أو أربعًا، أو ستًّا، أو ثمانيًا، ولا يزيد على الثمان، فاعتمد مالك على حديث:" مثنى مثنى "، وعلى حديث ابن عباس حين بات عند خالته ميمونة، وقدم ذلك على غيره من الأحاديث لما ترجح به عنده من مصاحبة العمل وغير ذلك، واحتج المخالف للاثنين بهذه الأحاديث، وللأربع بما(2) وقع في حديث عائشة رضى الله عنها ؛[ أنها قالت:" كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى أربعًا "، وفي صلاته - عليه السلام - في الليل، ولحديث أم هانئ في الثمان، ومالك قد يحمل ذلك على أنه كان يسلم - صلى الله عليه وسلم - من كل ركعتين ؛ إذ ليس في الأحاديث التصريح بأنه يسلم، ويحتج المخالف أيضًا في نفيه العدد المذكور بما في حديث عائشة رضى الله عنها](3) الذي في الكتاب من صلاته - عليه السلام - في الليل سبعًا وثمانيًا، ويرجح المخالف مذهبه بأنه يستعمل جميع الأحاديث ولايسقط منها شيئًا، وبقول(4) المذهب الذي يؤدي إلى استعمال الأحاديث أرجح من الذي يسقط بعضها.
__________
(1) في (أ):" بين ".
(2) في (هـ):" والأربع ما ".
(3) ما بين المعكوفين ساقط من (أ) و(ط).
(4) في (هـ):" ويقول ".(3/258)
قال القاضي: وقوله عن ابن أبي ليلى عن أم هانئ:" أن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - الضحى ثماني ركعات يوم الفتح كان في بيتها "، وهكذا ذكر(1) أيضًا مسلم عن أبي مرة عنها من غير طريق مالك، وذكر حديث مالك وهو في "الوطأ" عنه:" ذهبت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح فوجدته يغتسل"، الحديث، وهذا أصح ؛ لأن نزول النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان بالأبطح، وقد وقع مفسرًا في حديث سعيد بن أبي سعيد عن أبي مرة بمثل حديث مالك، وفيه:" وهو في قبته بالأبطح " ؛ لأن طلب التأمين وقتل المشركين إنما كان قبل دخول النبي - عليه السلام - بنفسه مكة وتأمينه سائرهم بنفسه.
واحتج من لم يجز شهادة الأعمى ولا على الصوت بقوله:" مَن هذه ؟ " ولم يعوّل على صوتها، ولم يعرفه، إذ لم يرها، وهذا لاحجة فيه جملة ؛ لأن من يجيز الشهادة على الصوت إنما ذلك فيما حقق صاحب الصوت وعلمه، فأما مع عدم تحقيقه(2) فلا، والنبي - عليه السلام - لم يحقق صوتها لبعد عهده بها (3)، وقد تختلف الأصوات لعوارض وعلل وطول الزمان، وقيل: إن قوله لها(4) هذا وقد عرفها من نوع اللطف والتودد، وفيه تكنية(5) النساء ومبرتهن(6)، وملاطفة الأهل والمعارف بالقول، والبشر(7) عند اللقاء.
__________
(1) في (أ):" ذكره ".
(2) في (ط):" تحقيق ".
(3) في (هـ):" به ".
(4) قوله:" لها " ليس في (أ).
(5) في (هـ):" كنية ".
(6) في (أ):" وميزتهن ".
(7) في (أ):" التبشر ".(3/259)
وقوله:" مرحبًا " مما يستدل به على جواز هذا القول وبر الزائر والقريب ولقائه بجميل القول، ومعنى:" مرحبًا "، أي: صادفت رحبًا وسعة، نصب: " مرحبًا " على المصدر. وفيه جواز السلام على المغتسل، ومثله المتوضئ بخلاف البائل والمتغوط، وفيه ستر ذات المحرم محرمها عند الغسل، وقربها منه، والسترة بينها وبينه(1)، وفيه جواز كلام المغتسل. وقد كره(2) العلماء كلامه على(3) وضوئه وغسله ولاحجة في هذا الحديث على إباحته إذ(4) الكراهة، إنما هو في كلام المغتسل غسلاً شرعيًّا،[ والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما اغتسل هنا تنظفًا من الغبار ](5)، واغتساله(6) - عليه السلام - هذا إنما كان لما ناله من قترة(7) الجيش ووهج العسكر، وقد جاء مفسرًا في الحديث:" فجاء وعلى وجهه وهج الغبار، فأمر فاطمة أن تسكب له غسلاً ".
وقوله:" ملتحفًا في ثوب "، بيّنه في الرواية الأخرى(8) بقوله:" قد خالف بين طرفيه(9)"، وهذا الاضطباع، فيه جواز الصلاة في الثوب الواحد(10)، وبهذه اللبسة، وقد تقدم الكلام في هذا.
وقولها:" زعم ابن أمي(11) علي " إخبار بأخص النسب وتأكيد الحرمة القربى(12)، لكونه شقيقًا مشاركًا في جواز الرحم من الأم، وأم هانئ هذه شقيقة علي، أمهما فاطمة بنت أسد بن هاشم، وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي، واسم أم هانئ فاختة، وهو الأكثر، وقيل هند.
__________
(1) في (ط):" وبينهما "، وفي (هـ):" بينهما "، وفي حاشيتها:" بينها وبينه".
(2) في (هـ):" ذكره ".
(3) في (هـ):" في ".
(4) في (أ):" أو ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(6) في (هـ):" وغسله ".
(7) في (هـ):" فترة ".
(8) في (هـ):" الحديث الآخرى "، وفي حاشيتها:" الرواية الأخرى ".
(9) في (هـ):" طريفه ".
(10) في (ط):" ثوب واحد ".
(11) في (هـ):" أم ".
(12) في (أ):" الحرقة والقربى "، وفي (طـ):" تأكيدًا الحرمة القربى ".(3/260)
وقوله (1):« قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ »، قال الإمام: هذا(2) يحتمل أن يريد به الخبر عن(3) أن حكم الله من إجارته مجار، ويحتمل أن يكون رأيا رآه في إنفاذ جوارها(4)، وحكم ابتدأه من قبل نفسه - صلى الله عليه وسلم - وقضى به في تلك النازلة، وعلى المراد بهذا اللفظ جرى الخلاف فيمن أجاره(5) أحد من المسلمين، هل يمضي ذلك على الإمام ولايكون له نقضه أم لا ؟ ومن هذا النمط(6) قوله - عليه السلام -:« من قتل قتيلاً فله سلبه »، هل هو إخبار عن الحكم أو ابتداء الحكم في هذه القضية، وعلى هذا جرى الخلاف بيننا وبين الشافعي في القاتل، هل يستحق السلب حكمًا(7)، أو حتى ينفله إياه الإمام إن شاء(8).
__________
(1) في (هـ):" قوله " بدون واو.
(2) في (هـ):" وهذا ".
(3) في (هـ):" على ".
(4) في (هـ):" جوازها ".
(5) في (أ) و(هـ):" أجازه ".
(6) في (هـ):" اللفظ "، وفي حاشيتها:" النمط" وعليها " خ".
(7) قوله:" حكمًا " ليس في (أ).
(8) قوله:" إن شاء " ليس في (ط)، ولم تتضح في (أ).(3/261)
قال القاضي: بالاستدلال(1) بهذا الحديث على جواز أمان المرأة قال به(2) جمهور علماء الأمة، وخالف فيه ابن الماجشون، إذ ليست ممن يقاتل(3)، والدليل من نفس الحديث على جواز(4) ذلك، إذ في قوله:« أجرنا من أجرت » احتمال للوجهين، كما تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليها الجوار، وهو موضع بيان فدل على جوازه، وعلى التأويلين، ففى قوله:" أجرنا من أجرت " من حسن العشرة وتطييب النفس وجميل المخاطبة مافيه ؛ لأنه إن كان حكم الله ذلك فقوله لها هذا بيّنٌ فما ذكرناه، وإن كان ابتداء حكم في إمضاء جوارها(5) فهو أبين(6) في الباب. ولاخلاف في أمان الرجل المقاتل أنه نافذ، واختلف فيمن عداه، وسنذكر ذلك وتحقيق المذهب فيه في الجهاد إن شاء الله تعالى.
وقولها:" فلان ابن هبيرة "، وفي غير هذا الحديث(7)" فرَّ إليَّ رجلان من أحمائي "، قال ابن هشام(8): وهما الحارث بن هشام المخزومي وزهير بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي،[ وكانت عند هبيرة بن أبي وهب المخزومي، ولم أجد من سمى هذا فلان ابن هبيرة ولامن نسبه وإنما زوجها هبيرة ](9)، وقيل: إن الذي أجارته(10) زوجها هبيرة.
__________
(1) في (أ):" الاستدلال ".
(2) قوله:" به " ليس في (ط) و(هـ).
(3) في (أ) يشبه أن تكون:" تقاتل ".
(4) في (أ):" جوار ".
(5) هالامضاء لجوازها
(6) في (أ):" فهو بيّن "، وفي (ط):" فهذا بيّن ".
(7) في (هـ):" الباب ".
(8) في (هـ):" ابن شهاب ".
(9) مابين المعكوفين ليس في (هـ).
(10) هذه اللفظة لم تتضح في (أ).(3/262)
وقولها: " وذلك ضحى "، به استدلوا على أنها كانت صلاة الضحى، [وقد تقدم الكلام في هذا](1) وليس بظاهر، وإنما أخبرت عن وقت قصتها وصلاته فيها اتفاقًا، وقيل: إنما كانت صلاته تلك شكرًا الله على نصره وفتح مكة، وقيل: إنما كان(2) قضاء لما شغل عنه تلك الليلة بالفتح عن حزبه فيها،[ وقد تقدم الكلام في هذا ](3).
وقوله:"يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة » الحديث: أصل السلامى، بضم السين، عظام الأصابع والأكف والأرجل، ثم استعمل في سائر عظام الجسد ومفاصله، وقد جاء في هذا الحديث:« خلق كل إنسان(4) على ستين وثلثمائة مفصل، ففى كل مفصل صدقة »، الحديث، وسيأتى في كتاب الزكاة.
وقوله:« ويجزئ من ذلك ركعتان من الضحى »، أي: يكفى من هذه الصدقات عن(5) هذه الأعضاء، إذ الصلاة عمل بجميع(6) أعضاء الجسد(7)، ففيه بيان عظيم في(8) فضل صلاة الضحى، وجسيم أجرها(9)، وسيأتى الكلام على قوله: "وأن أوتر قبل أن أرقد ".
قال الإمام: وذكر مسلم في الباب: نا الضحاك بن عثمان، عن عبدالله بن حنين(10)، عن أبي مرة مولى أم(11) هانئ، عن أبي الدرداء، هكذا في هذا(12) الحديث عن أبي الدرداء قال بعضهم: وفي نسخة ابن ماهان: عن أم الدرداء، مكان أبي الدرداء، والصواب: عن أبي الدرداء كما في نسخة أبي أحمد الجلودي.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(2) في (أ):" كانت ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(4) في (أ):" خلق الإنسان ".
(5) هعلى
(6) في (ط):" عمل بجمع "، وفي (هـ):" على جميع"، وفي حاشيتها:"على جميع" وعليها"خ".
(7) في (هـ):" أعضاء أجزاء الجسم ".
(8) قوله:" في " ليس في (هـ).
(9) في (هـ):" أمرها ".
(10) في (هـ):" إبراهيم بن عبدالله بن حنين ".
(11) في (ط):" ابن ".
(12) قوله:" هذا " ليس في (ط).(3/263)
قال القاضي: وذكر(1) صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتي الفجر، وأنه لم يكن على شيء من النوافل أشد معاهدة منه عليها، مما(2) استدل به من قال: إنها سنة، وهو قول كافة العلماء وكبراء أصحاب مالك، وروي عن بعضهم أنها من الرغائب، وحكوه عن مالك، واحتجّ بعضهم على ذلك بقوله: من النوافل، ولم يقل: من السنن، لكن(3) كل ماعدا الفرائض ينطلق(4) عليه اسم النفل(5)، والتطوع، والندب، ثم تتنوع درجاته مابين سنة وفضيلة ومستحب مرغب فيه، وسنذكره مبينًا إن شاء الله.
__________
(1) في (هـ):" وذكر مسلم ".
(2) قوله:" مما " ليس في (أ).
(3) في (هـ):" لأن ".
(4) في (هـ):" يطلق ".
(5) في (هـ):" للنفل ".(3/264)
وقد مضى(1) منه وذهب الحسن إلى وجوبهما وماروى من صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهما يوم الوادي قبل صلاة الصبح يدل على تأكيد أمرهما، وقد جاء في الحديث أنهما المراد بقوله:{ ومن الليل فسبّحه وأدبار السجود }، ومن سنتهما(2) التخفيف كما جاء في الحديث، والقراءة فيهما هذا ؛ لقولها:"حتى إني لأقول(3) أقرأ فيهما بأم القرآن أم لا ؟ وهو قول كافة العلماء، وذهب بعضهم إلى الجهر فيهما، وفي هذا دليل أنه كان مستقرًا عندهم أن لابد من قراءة أم القرآن في الصلاة ولذلك خصتها هنا بالذكر، وأنها لاتصلى إلا بعد الفجر إلى أن يصلى الصبح، وهو وقتها المختص بها(4) من دون سائر النوافل على الاختيار دون الاضطرار عندنا، وظاهر حديث عائشة الاقتصار فيها(5) على أم القرآن وهو استحباب مالك وفعله، واختيار جمهور(6) أصحابه، وقد روي عنه استحسان قراءة:{ قل يا أيها الكافرون }، و{ قل هو الله أحد } فيهما على ماجاء في حديث أبي هريرة، وهو قول الشافعي وأحمد وذهب الثوري والحسن وأبو حنيفة إلى أنه يجوز لمن فاته حزبه من الليل أن يقرأه فيهما وإن طوّل، وقد جاء في حديث ابن عباس في الأم أنه كان يقرأ في الأولى قوله تعالى:{ قولوا آمنا بالله } الآية(7)، وفي الآخرة:{ تعالوا إلى كلمة سواء(8)} الآية. وذهب قوم إلى أنه لايقرأ فيهما جملة، حكاه(9) الطحاوي، وذهب النخعي إلى جواز(10) إطالة القراءة فيهما. واختاره الطحاوي.
__________
(1) في (ط):" قضى "، وفي (أ) يشبه أن تكون كذلك:" قضى ".
(2) في (ط):" سنتها ".
(3) في (هـ):" إني أقول ".
(4) في (هـ):" بهما ".
(5) في (هـ):" فيهما ".
(6) في حاشية (هـ):" جميعهم ".
(7) قوله:" الآية " ليس في (هـ).
(8) قوله:" سواء " ليس في (ط).
(9) في (هـ):" وحكاه ".
(10) في (هـ):" إجازة ".(3/265)
وقوله:" كان إذا سكت المؤذن من(1) الأذان لصلاة الصبح وبدأ(2) الصبح ركع ركعتين خفيفتين "،[ وكذلك قوله:" كان يصلي ركعتي الفجر إذا سمع الأذان "](3)، يحتج به(4) من لايجيز الأذان للصبح قبل الفجر، وهو قول الكوفيين، ولاحجة فيه ؛ لأنه يحتمل أن يريد به المؤذن الثاني، ولأن حديث: " إن بلالاً ينادي(5) بليل " يرفع الاحتمال مع عمل(6) أهل المدينة، ولهما(7) رجع أبو يوسف عن قول أصحابه إلى قول مالك حين دخل المدينة، وناظر في هذه المسائل مالكًا.
وقوله في(8) الحديث:" كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا طلع الفجر لايصلي إلا ركعتين " حجة في منع التنفل بعد طلوع الفجر بعد الركعتين للفجر، وهو قول(9) مالك والجمهور، إلا أن مالكًا ومن وافقه يجعله وقت ضرورة لصلاة(10) الليل لمن ترك الوتر حتى أصبح، على خلاف عنه في ذلك سنذكره، ولمن نام عن حزبه من الليل، وقد جاء عنه وعن عجره من أصحابه أنه لابأس أن يصلي بعد الفجر ست ركعات، قالوا: وما خف، وإنما يكره من ذلك ما كثر حماية، لئلا تؤخر صلاة الصبح بسبب تطويل النفل وتكفيره حينئذ، وأجاز غيره التنفل حينئذ مالم يصل(11) الصبح.
__________
(1) في (هـ):" عن ".
(2) في (هـ):" ونداء ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(4) قوله:" به " ليس في (أ) و(ط).
(5) في (ط):" يؤذن ".
(6) قوله:" عمل " ليس في (أ).
(7) قوله:" لهما " لم تتضح في (ط).
(8) في (هـ):" في هذا ".
(9) في (هـ):" مذهب " بدل:" قول ".
(10) في (هـ):" لصلاة الصلاة ".
(11) في (ط):" يصلى ".(3/266)
وذكر مسلم الأحاديث في فضل من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة تطوعًا، وفي بعضها اثنتي عشرة سجدة، وهما بمعنى واحد وذكر حديث عائشة في تفسير تنفل النبي: أنه - عليه السلام - كان يصلي أربعًا قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، واذا طلع الفجر صلى ركعتين، وهذه اثنتى عشرة ركعة، وعن ابن عمر:" سجدتان قبل الظهر، وسجدتان بعدها، وسجدتان بعد المغرب، وسجدتان بعد العشاء، وسجدتان بعد الجمعة "، وزاد في "البخاري" في حديثه:" وسجدتان بعد طلوع الفجر "، ولم يذكر في هذين الحديثين التنفل قبل العصر، وقد جاء في المصنفات في حديث ابن عمر:" حضَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على أربع ركعات قبل العصر، وفي حديث علي:" ركعتين "، وروي:" أربع "، وفي حديث أم حبيبة: "أربع قبل الظهر، وأربع بعدها "، وفي حديث عائشة:" أربع بعد العشاء ".
اختلف العلماء في الاختيار في الأخذ بهذه الأحاديث، فرأى جلُّهم الأخذ بها والعمل بفعل النبي وأمره بذلك، وكونها سنة مع صلوات الفرائض، قال بعضهم: ولأن تلك الأوقات أوقات تفتح فيها أبواب السماء ويستجاب فيها الدعاء ويرغب في تكثير العمل الصالح فيها، واختلاف الأحاديث باختلاف فعله - عليه السلام - ليرى سعة الأمر، وأنه ليس فيه حدّ لازم، والله أعلم. واختلاف(1) اختيارهم في الأربع قبل الظهر وبعدها أو الاثنين على اختلاف الآثار. واختلفوا في اختيار تطوع الراتبة قبل العصر أيضًا في ركعتين أو أربع، وكل هذا قد اختلف فيه اختيار شيوخ مذهبنا، وذهب بعض السلف إلى أنه لا راتبة قبل العصر جملة، وروي عن ابن المسيب والحسن والنخعي وحكاه العبدي من شيوخنا العراقيين عن المذهب.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" اختلف ".(3/267)
وقول عائشة في الحديث عن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الركعات في بيتها، وقول ابن عمر ذلك في رواية(1):" صلاة الليل والجمعة "، مما اختلف الناس(2) أيضًا في اختياره، فذهب بعضهم إلى ترك التنفل بعد الفرائض في المسجد جملة، وإليه ذهب النخعي وعبيدة، واعتل من رأى(3) هذا لئلا يختلط أمرها على الجهال فيعدونها من(4) الفرائض، ولئلا تخلوا(5) بيوتهم من الصلاة، واقتداء بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، ولقوله:« أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة »، وذهب بعضهم إلى كونها في المسجد أجمع، وذهب مالك والثورى إلى كونها في النهار في المسجد وبالليل في البيوت، وكأن(6) هؤلاء اتبعوا حديث(7) ابن عمر، وقوله ذلك في الجمعة أفضل(8)، وهو اختيار مالك وأصحابه: للإمام أن لايتنفل بإثرها في المسجد، ووسَّع في ذلك للمأموم، واختار الشافعي والكوفيون الركوع بعد الجمعة ستًّا أو أربعًا، وقال الشافعي ماكثر فهو أحب إليّ والكلام في الركعتين بعد العصر وقبل المغرب يأتى في موضعه بعد هذا. قال بعض المتكلمين ووجه الحكمة في تقديم هذه النوافل على الفرائض لتوطين النفس فيها وامتحانها بالإقبال على عبادة الله، وإخلاء سره مما كان قبل فيه من أمور الدنيا حتى لا يدخل في فريضته إلا ونفسه مرتاضة بذلك، وظاهره وباطنه جميع لأدائها على وجهها، وليصحبها من النوافل قبلها وبعدها ما يجده لجبر نقص فرضه مما يدخله من(9) وهم أو سهو، على ماجاء في الحديث من جبر نفص فرائض العبد بنوافله.
__________
(1) في (هـ):" رواتب ".
(2) في (ط) و(هـ):" العلماء ".
(3) في (هـ):" يرى ".
(4) في (هـ):" في ".
(5) في (ط) و(هـ):" تخلى".
(6) في (هـ):" كل ".
(7) في (هـ):" قول ".
(8) في (ط):" أيضًا ".
(9) في (أ):" في ".(3/268)
وقوله في هذا الحديث:" حدثني عبدالله(1) بحديث يُتسارُّ إليّ فيه "، قيل: هو من السرور، أي يظهر السرور بما(2) جاء فيه.
وقولها:" كان يصلي ليلاً طويلاً قاعدًا وليلاً طويلاً قائمًا، وأنه كان إذا قرأ قاعدًا ركع قاعدًا "، فيه جواز تنفل القاعد بغير عذر، مانع بالكلية، وركوعه إيماءً هو(3) لطلب التخفيف وزوال الكلفة والمشقة.
وقولها:" بعد ماحطمه البأس ". قال الإمام: قال الهروي: يقال حطم(4) فلانًا أهله، إذا كبر فيهم، كأنه لما حمله من أثقالهم(5) صيروه شيخًا محطومًا(6)، والحطم كسرك الشىء اليابس.
وقولها:" لما بَدَّن وثقل كان أكثر صلاته جالسًا "، قال أبو عبيد بَدّن الرجل تبدينًا إذا أسن، وأنشد:
وكنت خلت الشيب والتبدينا والهمّ مما يذهل القرينا
قال: فمن رواه:" بدن "، فليس له معنى في هذا لأنه خلاف صفته - عليه السلام - ومعناه: كثر لحمه، يقال: بدن يبدن بدانة، وأنكر أبو عبيد ضم الدال. وقد جاء في كتاب مسلم قول عائشة: " فلما أسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذه(7) اللحم أوتر بسبع ".
قال القاضي: روايتنا في مسلم عن جمهورهم:" بدن " كما ذكر عن أصحاب الحديث، وللقاضي الصدفي عن العذري:" بدَّن "، وأراه إصلاحًا، ولاينكر اللفظان في حقه - عليه السلام - فقد جاء ما ذكر قبل من قول عائشة:" وأخذه اللحم "، وقولها:" بدن وثقل "، وفي الحديث الآخر:" ولحم، وفي الآخر: "أسن وكثر لحمه "، وقولها في الحديث الآخر:" بدن في آخر زمانه "، وقول ابن أبي هالة في وصفه:" بادن متماسك ".
__________
(1) في (ط):" عنبسة " بدل:" عبدالله".
(2) في (هـ):" فيما ".
(3) قوله:" هو " ليس في (هـ).
(4) في (هـ):" خطم ".
(5) في (هـ):" لما حمل أثقالهم ".
(6) في (ط):" مخطومًا ".
(7) في (أ) و(ط):" أخذ ".(3/269)
وقوله:« صلاة الرجل قاعدًا نصف الصلاة » معناه: في الأجر وفيه تنشيط على القيام للصلاة، وحمله بعضهم أنه في المصلي قاعدًا فرضه لغير(1) عذر والمصلي نفله لعذر وغير عذر. وهذا اختيار الباجي، وحمله الثوري وابن الماجشون في غير أصحاب الأعذار، والمصلي جالسًا على الاختيار، وأن أجر صاحب العذر غير ناقص، وحمله ابن شعبان على النفل دون الفرض، وحمله بعضهم على من رخص له في الصلاة جالسًا من أصحاب الأعذار، لكنه لو كلف نفسه القيام لقدر عليه بمشقة(2)، وهذا يطرد في الفرض والنفل، وهذا مذهب مالك فيمن يشق عليه القيام في الفريضة، وهو قول أحمد وإسحاق: أنه يصلى قاعدًا، ومنع من ذلك الشافعي إلا مع عدم القدرة على القيام أو(3) احتمال مشقة ذلك، وأما في النفل فيجوز عند جميعهم مع القدرة.
وجاء عنه - عليه السلام - أنه كان يصلى في سبحته قاعدًا، وكان - عليه السلام - لايترك الأفضل، وإنما ذلك للمشقة التي لحقته آخر عمره من السن، وحطم البأس، وكثرة اللحم كما قالت عائشة، وقد علله في حديث عمرو بن العاص:« إنى لست كأحد منكم »، فيكون هذا مما خص به - عليه السلام - وجعلت صلاته قاعدًا في الفضل كصلاته قائمًا، ولعله أشار بقوله:« لست كأحد منكم »، أي: ممن لاعذر له، وممن قلت له ذلك القول، وإنما أراد(4): أنا ذو عذر لهذا الذي ذكر.
__________
(1) قوله:" لغير " ليس في (ط) و(هـ).
(2) قوله:" بمشقة " ليس في (ط).
(3) في (هـ):" و ".
(4) قوله:" أراد " ليس في (ط) و(هـ).(3/270)
وقد اختلف العلماء في هذا مع اتفاقهم أنه ليس ذلك في الفريضة مع عدم العذر، وأنه من صلى جالسًا في موضع القيام في الفريضة لغير عذر أن صلاته لاتجزئه، لفرض القيام عليه إلا ماتقدم من الاختلاف في صلاة المأموم خلف الإمام الجالس لعذر، وفي قيامه عند الركوع جواز القيام والجلوس في الصلاة الواحدة في النفل خلافًا لمن منعه، وعلى جوازه جمهور العلماء إذا كان الابتداء بالجلوس، وأما إن كان الابتداء فيها بالقيام ثم أراد التخفيف على نفسه بالجلوس، فمذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وعامة العلماء جواز تمام صلاته جالسًا وكره ذلك محمد بن الحسن وأبو يوسف في آخرين، واختلف كبراء أصحاب مالك إذا نوى القيام فيها كلها، هل له أن يجلس ؟ فأجازه ابن القاسم ومنعه أشهب، وقد اختلف أشياخنا في تأويل قول أشهب هل هو بمجرد النية أو بإلزامه ذلك نفسه كالنذر ؟ ثم اختلف في صفه جلوسه في حال القيام والركوع، فقيل متربعًا، وهو قول مالك والثوري(1) والليث وأحمد وإسحاق وأحد قولي الشافعي، ووافق أبو يوسف، إلا أنه قال: يثني رجليه عند الركوع كالتشهد وقيل جلوسه كله(2) كهيئة جلوسه في التشهد، قاله ابن المنكدر، وهو قول ابن أبي حازم ومحمد بن عبد الحكم، وأحد قولي الشافعي وربيعة.
وخرَّج البخاري في الباب حديث عمران بن حصين(3): فمن صلى قائمًا فهو أفضل، ومن صلى قاعدًا فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائمًا فله نصف أجر القاعد، كذا رواية الأصيلى وبعضهم، وكذا روى الحديث أبو داود والترمذي، وفي رواية النسائي(4):" مضطجعًا "، وروى هذا(5) بعضهم من تفسير البخاري لقوله:" نائمًا"، وفي رواته القابسي، وبعضهم إيماء، والأول أصح.
__________
(1) في (هـ):" والثوري والأوزاعي ".
(2) قوله:" كله " ليس في (أ).
(3) في (هـ):" الحصين ".
(4) في (ط):" الشعبي ".
(5) في (ط) و(هـ):" ورواه ".(3/271)
ففيه أولاً: أن الحديث كله في المتطوع(1) لقوله:" أفضل "، وأنه مع القدرة على القيام، وبالاختيار(2)، وأما صلاته مضطجعًا في النفل ففي مذهبنا فيه ثلاثة وجوه: جوازه مع الاضطرار والاختيار للصحيح والمريض، لظاهر الحديث، ومنعه جملة لهما، إذ ليس من هيئات الصلاة، وإجازته لضرورة المرض فقط، وأما في الفريضة لمن لم يقدر إلا على ذلك فجائز قولاً واحدًا.
ثم اختلف عندنا، واختلف العلماء في ذلك أيضًا(3)، بم يبتدأ، هل بالظهر(4)؟ وقاله أبو ثور وأصحاب الرأي، أو بالجنب الأيمن ثم الظهر ؟ أو بالجنبين قبل الظهر ؟ وهو قول الشافعي وأما على رواية من رواه إيماء فلا خلاف في جوازه للمضطر في كل حال، ومحتمل أنه يريد به للمضطجع وللجالس(5)، واختلف عندنا للمتنفل جالسًا، هل يجوز إيماؤه للسجود مع القدرة عليه ؟ على قولين.
وقولها في الحديث الآخر:" مارأيته صلى(6) من صلاة الليل جالسًا حتى(7) كبر" غير مخالف للحديث الأول، وأن حاله في الصلاة قاعدًا وجالسًا(8) لما كان بعد كبره وبعد ماحطمه البأس(9)، كما قالت، وبعد أن بدن، وقبل وفاته بعام، كما جاء في الحديث.
__________
(1) في (هـ):" التطوع ".
(2) في (هـ):" الاختيار ".
(3) في (ط):" أنها ".
(4) في (ط):" بالظهر ثم بالجنب الأيمن ".
(5) في (ط):" أو للجالس "، وفي (هـ):" أو الجالس ".
(6) في (هـ):" ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
(7) في (ط):" حتى إذا ".
(8) في (هـ):" نائمًا ".
(9) في (ط):" الناس ".(3/272)
وقولها(1):" كان يصلي جالسًا [فيقرأ وهو جالس](2)، فإذا بقي من قراءته قدر مايكون(3) ثلاثين أو أربعين آية، فقام فقرأ(4)،[ ثم ركع ](9)"، إخبار عن اختلاف أحواله، وأنه كان مرة يقوم ليركع من قيام، ومرة يركع إيماء من جلوس.
وقول عبد الله بن شقيق: كنت شاكيًا(5) بفارس، فكنت أصلي قاعدًا فسألت عن ذلك عائشة.. الحديث كذا لجميعهم، ولم نجد فيه خلافًا في سائر النسخ، وقد نبه بعض المتعقبين عليه، وقال: عائشة لم تدخل قط بلاد فارس، وإنما هو تصحيف، وصوابه: شاكيا نقارس، بالنون والقاف، وهي وجع المفاصل والسبب الذي أوجب صلاته قاعدًا - والله أعلم -، وليس يقتضى ضرورة الكلام أنه سألها بفارس حيث أصابه ذلك، ولعله إنما سألها عن منازلته بفارس بعد وصوله المدينة، أو حيث لقيها، وهل أصاب في صلاته قاعدًا ؟ وهو وجه سؤاله، وظاهره ؛ لأنه إنما سألها عن أمر انقضى لا عن أمر كيف يفعله، لقوله: " وكنت أصلى قاعدًا ".
وقال في هذا الباب: حدثنا إسماعيل بن علية، عن الوليد بن أبي هشام، عن أبي بكر بن محمد.
قال الإمام: هكذا روى في هذا الإسناد، الوليد بن أبي هشام،[ ورده أبو عبد الله بن الحذاء في نسخته الوليد بن هشام ووهم فيه، والصواب ابن أبي هشام ](6)، مكي، وهو مولى عثمان، يعد في البصريين ، وكذلك رواه أبو أحمد وأبو العلاء، وفي الرواية(7) أيضًا الوليد بن هشام المعيطي شامي، روى له مسلم أيضًا.
أحاديث قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل
__________
(1) في (هـ):" قوله ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(3) قوله:" ما يكون " ليس في (أ)، وفي (هـ) مكانها:" من ".
(4) في (ط):" فقرأ وهو قائم ".
(5) في (هـ):" ساكنًا ".
(6) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(7) في (ط):" الرواة ".(3/273)
وذكر في الحديث عن عائشة من رواية سعد بن هشام قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبع(1) ركعات ومن حديث ابن شهاب عن عروة عنها قيامه بإحدى عشرة، فيهن الوتر، يسلم من كل ركعتين ثم ذكر أنه كان(2) يركع ركعتي الفجر إذا جاءه المؤذن، ومن رواية هشام ابنه(3) وغيره عنه: قيامه - عليه السلام - بثلاث عشرة ركعة بركعتي الفجر، وهو نحو ماتقدم. وذكر عن عائشة:" ماكان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة "، أربعًا وأربعًا وثلاثًا، وذكر عنها أيضًا أنه كان يصلي ثلاث عشرة ركعة ثمانيًا ثم يوتر ثم يصلي ركعتين وهو جالس، ثم يصلي، تعني ركعتي الفجر، وقد فسرتها في الحديث الآخر بقولها: " منها ركعتا(4) الفجر "، وعنها عند البخاري: أن صلاته بالليل سبع وتسع.
وذكر مسلم بعد هذا في حديث ابن عباس صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الليل ثلاث عشرة ركعة، ثم ذكر صلاته بعد ركعتي الفجر، وفي الرواية الأخرى عنه ست ركعات وأوتر بثلاث. وذكر حديث زيد بن خالد: أنه - عليه السلام - صلى ركعتين خفيفتين ثم صلى ركعتين طويلتين وذكر الحديث، وقال آخره: " فتلك ثلاث عشرة ركعة ".
__________
(1) في (ط) و(هـ):" بتسع ".
(2) قوله:" كان " ليس في (هـ).
(3) في (هـ):" عن أبيه ".
(4) في (ط):" ركعتي ".(3/274)
قال العلماء: في هذه الأحاديث إخبار كل واحد من ابن عباس وزيد بن خالد وعائشة بما شاهده(1)، لكن ماجاء من الاختلاف فيه عن عائشة قيل: هو منها، وقيل: من الرواة عنها، فيحتمل أن إخبارها بإحدى عشرة(2) في الأغلب على ماروي عنها:" ماكان يزيد في رمضان ولا(3) غيره على إحدى عشرة ركعة"، وخبرها بعد ذلك على ماكان يفعله نادرًا(4)، فأكثره خمس عشرة ركعة، وأقله سبع، وذلك لما كان يتفق(5) من اتساع الوقت له أو ضيقه، إما(6) بتطويل قراءته في بعضها كما جاء، أو طول نومه أو لعذر من مرض أوكبر سن، كما بينته في الحديث بقولها:" فلما أسن صلى سبع ركعات "، وقد ذكرت في غير مسلم أنه كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، ثم إنه صلى إحدى عشرة وترك ركعتين، ثم لما بدَّن نقص من التسع(7) اثنتين، فهذا وجه بيِّن، أو تعد أحيانًا أو نقص(8) رواتها ركعتي الافتتاح الخفيفتين المذكورة في حديث زيد بن خالد وقد روتها هى أيضًا، فيأتي العدد ثلاث عشرة ثم ركعتا الفجر،[ أو تعد ركعتي الفجر أو تتركها، كما جاء مبينا بقولها: منها ركعتي الفجر ](9)، فيكون أيضًا ثلاث عشرة، أو تعدهما معا، فتأتى خمس عشرة وقد يكون هذا مع قوله:" صلى تسعًا "، فقد ذكر مسلم أنه بعد التسع صلى ركعتين جالسًا، ثم ركعتي الفجر، فهذه ثلاث(10) عشرة، أو تعد مع التسع ركعتي راتبة العشاء الآخرة، أو تعدهما(11) مع السبع على رواية من رواها أربعًا(12)، فقد روى فيها أنه إذا انصرف من العتمة صلاها ثم نام.
__________
(1) في (هـ):" يشاهده ".
(2) في (هـ):" عشرة ركعة ".
(3) في (هـ):" ولا في ".
(4) في (هـ):" قادرًا ".
(5) في (هـ):" يتيقن ".
(6) في (هـ):" أو ".
(7) في (ط):" السبع ".
(8) في (هـ):" بعض ".
(9) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(10) في (ط):" ثلاثة ".
(11) في (ط):" تعدهما تعدها ".
(12) في (ط):" أربع ".(3/275)
ولاخلاف أنه ليس في ذلك حدّ لا يزاد عليه ولا(1) ينقص منه، وأن صلاة الليل من الفضائل والرغائب التي كلما زيد فيها زيد في الأجر والفضل، وإنما الخلاف في فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وما اختاره لنفسه، وأشار بعضهم إلى أن تحري النبي - عليه السلام - عدد صلاة الليل أعداد صلوات الفريضة الخمس بعشر ركعات مثنى مثنى، وذلك خمس صلوات على ماكانت قبل، وهي كانت أكثر صلاته - عليه السلام - بالليل غالبًا على ماجاء في الحديث المتقدم،[ وقد يكون على هذا اعتبار نوافل النهار ](2)، أو يكون باعتبار ركعاتها، على ما استقرت عليه الصلوات وهي سبع عشرة ركعة،وهو أكثر ماروي عنه - عليه السلام - في صلاة الليل أو أعداد ركعات الفرائض، وكان عدد ركعات فرض الليل سبعًا وإن(3) لم تعد فيها الصبح وجعلت من النهار، وهو أقل ماصلى النبي - عليه السلام - بالليل، وأقل ماحده العلماء في الأوراد تسع، إن عددنا الصبح في صلاة الليل وهو المروى أيضًا عنه من طريق عائشة، أنه " كان أكثر صلاته أولاً "، ولم تعتبر ركعتي(4) الافتتاح على هذا ؛ لأنها كنافلة تقدّمتها، بدليل أنها(5) خفيفتان، على أصح الروايات، بخلاف صفة صلاته لركعات(6) الليل، قال بعضهم: ولعلها تحية المسجد إن كانت صلاته في المسجد.
__________
(1) قوله:" لا " ليس في (ط).
(2) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(3) في (ط):" سبع إن ".
(4) في (ط):" ركعات "، وفي (هـ):" ركعتا ".
(5) في (هـ):" أنهما ".
(6) في (أ):" لركعتي ".(3/276)
قال القاضي: وقد ذكر أبو داود عن عائشة أن قيامه كان في المسجد ولم يعتبر أيضًا الركعتين اللتين صلاهما جالسًا بعد التسع، ولا ركعتي الفجر، وعلى هذا تأتي صلاته قبل الظهر أربعًا وبعدها أربعًا وقبل العصر ركعتين تمام عشر(1) عدد الصلوات الخمس أيضًا، وقد يكون صلاته قبل الظهر أربعًا وبعدها ركعتين وقبل العصر أربعًا، أي(2) قبلها أربعًا وبعدها أربعًا وقبل العصر ركعتين تتمة(3) عشر ركعات عدد ركعات النهار بحساب الصبح فيها أو أربع قبل الظهر وأربع(4) بعدها، ولايصلى قبل العصر شيئًا أو ثنتين قبل الظهر وثنتين بعدها وأربعا قبل العصر تمام ثمان ركعات، على أن الصبح من الليل ؟ ولعله - عليه السلام - على هذا الاعتبار كان إذا أكثر بالنهار قصر بالليل، أو قلل بالنهار جبر العدد بالليل، والله أعلم.
وقد ذكر مسلم بعد هذا عن عائشة: أنه - عليه السلام - كان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار ثنتى عشرة ركعة.
__________
(1) في (هـ):" عشر ركعات ".
(2) في (هـ):" أو ".
(3) في (هـ):" تمام ".
(4) في (هـ):" أو أربع ".(3/277)
وقوله:" ويوتر منها بواحدة، ظاهر في كون الوتر واحدة على مذهبنا، وسنذكر المسألة بعد. وقوله: في حديث مالك عن ابن شهاب: فإذا فرغ منها - يعني من قيام الليل - اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن فيصلى ركعتين حفيفتين "، وفي حديث غير(1) مالك عنه "أن اضطجاعه كان بعد ركعتي الفجر وقبل الإقامة". وقد(2) قال أئمة الحديث:إذا اختلف أصحاب ابن شهاب فالقول ماقال مالك ؛ لأنه أثبتهم فيه وأحفظهم، ومثله في حديث ابن عباس وفيه ردّ على من رأى الضجعة بعد ركعتي الفجر سنة لهذا الحديث، وهو قول الشافعي وأصحابه، ولم ير بها مالك بأسًا لمن جعلها(3) راحة كالضجعة قبلها، إلا(4) لمن فعلها(5) استنانًا، وإليه يرجع قول ابن حبيب عندي، وإن كان تأوله بعض شيوخنا كقول المخالف، وإلى ما ذهب إليه مالك ذهب جمهور العلماء وجماعة من الصحابة وسموها بدعة وإذا ثبت أنه اضطجع قبل ركوعها(6) أيضًا، ولم يقل أحد في ذلك إنها سنة فلا فرق بين الضجعتين.
وقد ذكر مسلم: عن عائشة:"فإن كنت مستيقطة حدثني(7) وإلا اضطجع، وهذا يدل أن ذلك غير سنة، وأنه كان يضطجع قبل وبعد، وقد لايضطجع، كحاله في غير هذا الحين.
__________
(1) في (ط):" عن " بدل:" غير ".
(2) قوله:" وقد " ليس في (هـ).
(3) في (ط):" فعلها ".
(4) في (ط) و(هـ):" لا ".
(5) في (هـ):" جعلها ".
(6) في (هـ):" ركوعه ".
(7) في (ط):" حدثيني "، وفي (هـ):" جذبني ".(3/278)
وقولها:" وإن(1) كنت مستيقظة(2) جذبني(3)، دليل على جواز الحديث بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح وهو مذهب مالك، وجماعة من العلماء، وكرهه الكوفيون، ويروى مثله عن ابن مسعود وبعض السلف، لما جاء أنه وقت الاستغفار، وماجاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثبت وليدلّ على الجواز، وقد يتحدث مرة ويستغفر أخرى، وقد يكون حديثه(4) معها لينفي النوم عن نفسه، وقد يكون فيما يضطر إليه من شأنه، وفيه الترغيب على كون الاضطجاع على الشق الأيمن، وفائدته لئلا يستغرق في النوم، لتعلق القلب الذي هو في جهة اليسار حينئذ إلى جهة اليمين، وقلق النفس من ذلك(5)، بخلاف قراره في النوم على اليسار ودعة النفس لذلك.
وقوله:" حتى يأتيه المؤذن للإقامة فيصلي ركعتين خفيفتين "، دليل على جواز اتخاذ الأئمة مؤذنين راتبين وأن للمؤذن الإقامة، وقد تقدم هذا، وأن على المؤذنين ارتقاب الأوقات، وجواز إشعار الإمام بالوقت، وأما ماجاء في بعض الأحاديث من صلاته ركعتين بعد الوتر جالسًا، ثم بعدها ركعتي الفجر، فقد يحتج به من يجيز ذلك وهو قول الأوزاعي وأحمد، وأن قال: لا أفعله ولا أضيق على من فعله، وأنكره(6) مالك، والأحاديث الأخر يعارضها، وهي أبين وأصح.
__________
(1) في (هـ):" إن " بدون واو.
(2) قوله:" مستيقظة " ليس في (هـ).
(3) في (ط):" حدثيني ".
(4) في (ط):" حديثها ".
(5) قوله:" من ذلك " ليس في (هـ).
(6) في (ط) و(هـ):" أنكرها ".(3/279)
قوله:" فليجعل آخر صلاته وترًا، وقوله: في صلاة الليل في رواية عمرو ابن الحارث: " ويوتر، يسلم(1) من كل ركعتين، وفي حديث هشام عن أبيه: " يوتر بخمس لايجلس إلا في آخرها "، وفي حديث أبي سلمة:" يصلي أربعًا، ثم يصلى أربعًا، ثم يصلي ثلاثا، وفي حديثه الآخر:" يصلي ثمان(2) ركعات ثم يوتر، ومن رواية القاسم:" كان يصلي عشر ركعات ويوتر بسجدة "، وفي حديث ابن عباس بعد هذا:" فيصلي ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين"، الحديث. تقدم(3) ما للعلماء في ذلك، ومنزع(4) كل واحد وترجيحه ماذهب إليه من الحديث الذي احتج به على مذهبه، فأما الأحاديث المتقدمة المطلقة بأربع، وثمان، وعشر فيقضي على مجملها مفسر الرواية التي فيها:"يسلم من كل ركعتين "، وقوله:"صلاة الليل مثنى مثنى".
__________
(1) في (هـ):" ويسلم ".
(2) في (هـ):" ثماني ".
(3) في (هـ):" قد تقدم ".
(4) في (ط):" شرع ".(3/280)
أما قولها:" يصلى أربعًا ثم أربعًا(1)"، الحديث: فذهب قوم إلى أنه لم يكن بين الأربع سلامٌ، وكذلك الأربع الأخر(2)، وقال آخرون: لم يجلس إلا في آخر كل أربع، وذهب معظم الفقهاء الحجازيين وبعض العراقيين إلى التسليم بين كل اثنتين من الأربع، وهو مذهب مالك، وتأويل معنى ذكر أربع هنا عند بعضهم أنها كانت في التلاوة. والتحسين على هيئة واحدة لم يختلف الركعتان الأوليان من الأخرتين، ثم الأربع بعدها أيضًا مشتبهة(3) في الصفة من الترتيل والتحسين وإن لم تبلغ في طولها قدر الأول(4) كما قال في الحديث الآخر: " يصلى ركعتين طويلتين ثم يصلى ركعتين هما دون اللتين(5) قبلهما "، ثم ذكر في بقية الحديث مثله، وقيل: إنما خصت أربعًا ثم أربعًا ؛ لأنه كان - عليه السلام - ينام بعد كل أربع نومة ثم يقوم، وفي حديث أم سلمة كان يصلى ثم ينام قدر ماصلى، ثم يصلي قدر مانام [وفي حديث حميد الطويل](6)، فيكون هذا معنى تخصيص الأربع، لا(7) أنها متصلة دون سلام، ويدل أيضًا على صحة هذا التأويل قول عائشة:" تنام قبل أن توتر؟"، وقد جاء قولها هذا في صفة صلاته بالليل، وقد يحتمل قولها هذا أنها قالت(8) له لنومه قبل قيامه، وإنما سألته عائشة هذا السؤال لأنها جاءته صغيرة لم تعلم بعد كثيرًا من العلم إلا ماعلمته من أبويها، وكانت عهدت أباها لاينام حتى يوتر على ما عرف وصح الخبر به عنه، فحسبت أن ذلك متعيّن لايجوز خلافه، فلما جاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - وشاهدته ينام ويؤخر وتره سألته عن هذا.
__________
(1) في (هـ) زيادة:" ثم أربعًا ".
(2) في (هـ):" الأخرى ".
(3) في (ط):" مشبهة ".
(4) في (ط) و(هـ):" الأولى ".
(5) في (هـ):" التي ".
(6) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(7) في (هـ):" إلا ".
(8) في (هـ):" قالته ".(3/281)
وقوله لها - عليه السلام -:« إن عينى تنامان ولاينام قلبى »، من خصائصه - عليه السلام - وخصائص الأنبياء، وقد تقدم الكلام على نومه(1) في(2) حديث الوادي، وأما ماجاء في رواية هشام عن أبيه من قوله:" ويوتر بخمس لا يجلس(3) إلا في آخرها "، فقد أنكرها(4) مالك من حديثه، والذي روي عنه مالك في "موطئه" خلاف هذا وكرواية الناس، وقال: مذ صار هشامٌ بالعراق أتانا عنه مالم نعرف منه، وقد ذكر المصنفون هذا أيضًا عن عروة من غير رواية هشام، وذكروا نحوه في حديث(5) ابن عباس وأنه لم يسلم إلا في آخرهن.
وذكر مسلم في حديث عائشة من رواية هشام بن سعد(6): أنه لم يجلس إلا في الثامنة والتاسعة، ولم يسلم إلا في الثامنة(7)، وفي رواية أخرى: يسلم من الثامنة والتاسعة، وقد روى ابن شهاب عن عروة خلافه.
__________
(1) في (هـ):" الكلام عليه قبل ".
(2) في (ط):" قبل في ".
(3) في (ط):" يجلس في شيء ".
(4) في (ط) و(هـ):" أنكر هذا " بدل:" وقد أنكرها ".
(5) في (هـ):" رواية " بدل:" حديث ".
(6) في (ط) و(هـ):" سعد بن هشام ".
(7) في (ط) و(هـ):" التاسعة ".(3/282)
وقوله:" يسلم من كل ركعتين "، مع صحة قوله - عليه السلام -:" صلاة الليل مثنى مثنى "، ومع ماظاهره من الأحاديث الأخر بمعناه، وبخلاف رواية هشام وبن سعد(1). وقول عائشة:" كان ينام أول الليل ويحيى آخره "، وقولها: "وكان إذا سمع الصارخ قام فصلى "، و" كان يحب الدائم(2)"، إشعار بأن الرفق في الأمور وترك طلب النهاية ومبلغ الطاعة والتزام المشقة في العبادة أفضل(3)، وأن خير الأمور أوسطها وشر السير الحقحقة، كما قال، وأن للنفس حقًا، وللعين حقًا، ولأن العمل إذا دام وإن قلّ اجتمع من قليله بطول الزمن كثير، ولأنه قائم الأجر مدة عمله، وما بين عمله وعمله بالنية فيه، ولأنه إذا ارتبط إلى عمل قدَّره، وإن قل وورد وقته جرت عليه عادته ودام عليه، وإذا لم يضبطه. وإن كثَّره مرة فقد يتركه ويشتغل عنه أخرى، فيكون سببًا إلى تركه بالكلية، فإذا كان هذا، فقيام آخر الليل أفضل لما جاء فيه من الآثار والفضل، وأنه أسمع وأقرب للأجابة، فكان - عليه السلام - يقومه.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" هشام وسعد ".
(2) قوله:" وكان يحب الدائم " ليس في (ط) و(هـ).
(3) قوله:" أفضل " ليس في (ط).(3/283)
وبقولها:" ما ألفى السحرُ الأعلى بنبي الله(1) في بيتى إلا نائما ": تعني - والله أعلم - قبل الفجر وبعد قيامه، على ماجاء:" أنه إذا أوتر اضطجع " وعلى ما قالت في الحديث الآخر الصحيح:" أنه قيام داود ينام نصفه، ويقوم ثلثه(2) وينام سدسه "، وعلى قولها في الحديث(3):" ينام أوله ويحيى آخره "، ثم ينام ليستريح من تعب القيام، وينشط لصلاة الصبح والنوم بعد القيام آخر الليل مستحسن، مذهب لكلل السهر وذبول الجسم وصفرة اللون بسببه، بخلاف إيصال(4) السهر بالصباح، وقد يكون فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا في الليالى الطوال، كما قد(5) جاء في الأحاديث الأخر وفي(6) غير شهر رمضان، وماذكر في الحديث من تطويل قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته بالليل، وما ذكر مسلم بعد هذا أيضًا في ذلك وقوله:" يرتلها حتى تكون أطول من أطول منها "، وقوله في الحديث الآخر:" يصلي أربعًا فلا تسئل عن حسنهن وطولهن "، وقوله في الحديث الآخر:" يصلي ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين "، كل ذلك على ما أمر به من الترتيل وما رغب فيه من تطويل القيام في النوافل، ومعنى:" لا تسئل عن حسنهن وطولهن "، أي: أنها(7) في ذلك في النهاية والمبالغة بحيث اكتفى أمرها عن السؤال، واستغنى عن الوصف، وهذا من الإيجاز في الكلام، وكذلك تكرار(8) طول الركعتين ثلاثا مبالغة في الوصف.
__________
(1) في (هـ):" ما ألفى نبي الله على السحر ".
(2) في (ط):" مثله ".
(3) في (ط) و(هـ):" الحديث الآخر ".
(4) في (ط) و(هـ):" اتصال ".
(5) قوله:" قد " ليس في (هـ).
(6) في (هـ):" في ".
(7) في (ط) و(هـ):" أنهما ".
(8) في (ط) و(هـ):" تكراره ".(3/284)
قال الإمام: اختلف أيهما أفضل في النوافل: طول القيام وإن قل الركوع والسجود، أم الإكثار من الركوع والسجود ؟ فقيل: طول القيام أفضل لقوله - عليه السلام -:« أفضل الصلاة طول القنوت »، وقيل: بل الأفضل الإكثار من السجود وإن خف القيام لحديث أم هانئ المذكور قبل ؛ ولقوله - عليه السلام -:« أعني على نفسك بكثرة السجود »، وقيل: أما في النهار فكثرة السجود أفضل لحديث أم هانئ، وأما بالليل فطول القيام أفضل؟ لما روي فيه من فعله - عليه السلام -.(3/285)
وقول عائشة:" ماكان يزيد(1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان ولافى غيره على إحدى عشرة ركعة " الحديث، هذا هو الصحيح في صفة صلاته - عليه السلام - في رمضان، وقد روى أنه كان يصلى في رمضان ثلاثًا وعشرين والوتر، وروى مالك في "موطئه" من حديث السائب بن يزيد:" أن عمر جمع الناس على إحدى عشرة ركعة "، وفي رواية غير مالك:" إحدى وعشرين ركعة "، وقد روى وكيع، عن مالك، عن يحيى بن سعيد:"جمع عمر على عشرين "، وذكره مالك أيضًا من رواية يزيد بن رومان: " ثلاث وعشرين"، قال أبوعمر: وهذا يدل أن إحدى عشرة وهم، قال هو وغيره: وقد(2) يمكن أن تكون إحدى عشرة أول ماجمعهم، وكانوا يطيلون القراءة حتى يعتمدون على العصى، ثم رأى التخفيف عنهم بكثرة الركعات فنقلهم بعد إلى عشرين والوتر، وهذا هو اختيار الشافعي وجمهور العلماء، وبه عمل أصحابنا المالكيون بعد، فلما كان بعد الحرة وذهبوا إلى التخفيف نقصوا أيضًا من القراءة وزادوا في الركعات، فجعلوها ستًّا وثلاثين، وثلاثًا وترًا، واستمر بذلك عمل أهل المدينة، وهو الذي اختار مالك في القيام،وروى أن الأسود بن يزيد كان يقوم بأربعين ركعة ويوتر بسبع، وأما الاختلاف في [إحدى(3) وعشرين، وثلاث وعشرين فعلى الاختلاف](4) في الوتر، فجاء أن أبيًّا هو الذي كان يوتر بثلاث، واختار(5) ابن الجلاّب لمن يصلي وحده أن يصلي إحدى وعشرين وبالمئين إن قدر على ذلك.
__________
(1) في (ط):" يوتر ".
(2) في (هـ):" قد ".
(3) في (ط):" أحد ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (هـ).
(5) في (أ):" واختاره ".(3/286)
قال القاضي: وقوله:" حتى يكون آخر صلاته الوتر "، وماكان في معنى هذا مما(1) في الحديث في "الأم" فهو سنة الوتر، أن يكون آخر صلاة الليل، وآخر الليل، وأنه أفضل لمن قدر عليه وكان له قيام معلوم لقوله - عليه السلام -: «يوتر له ما قد صلى »، وكان أبو بكر يوتر قبل أن ينام وهو اختيار ابن المسيب وفعله عثمان، وكان عمر وعلى يؤخران وترهما وهو اختيار مالك، وقد بين العلة في الحديث بقوله: بأن " قراءة آخر الليل محضورة "، وهو مثل قوله تعالى:{ إن قرآن الفجر كان مشهودًا }، وقد جاء في حديث آخر: "مشهودة "، وهذا لمن جرت عادته بالقيام وقوي عليه، ولم تكن عادته أن تغلبه عيناه، ولهذا قال - عليه السلام - لعمر:" أخذت بالعزم "، أي: بالقوة، ولأبي بكر:" بالحزم "، أي بالاحتياط.
وقوله في الحديث الآخر في وصيته لأبي ذر(2) وأبي هريرة:" وأن أوتر قبل أن أنام ".
__________
(1) في (هـ):" مما جاء ".
(2) في (ط):" الدرداء ".(3/287)
وقد بين - عليه السلام - هذا(1) في آخر الباب في حديث جابر:« أيكم خاف ألا يقوم من آخر الليل فليوتر، ثم ليرقد، ومن وثق بقيام الليل فليوتر من آخره » الحديث، وقد أخبرت عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - من كل الليل أوتر، من أوله وأوسطه وآخره، وانتهى وتره إلى السحر، وهذا بحسب(2) تنفله وما تيسر له منه وغالب أمره، على ماشهدت به الأحاديث أنه في السحر ؛ لأن قيامه كان آخر(3) الليل، ووتره آخر قيامه. واختلفوا فيمن أوتر ثم قام بعد هذا إلى التنفل، فروي عن جماعة كثيرة من الصحابة وغيرهم: أنه يأتى بركعة يشفع بها وتره، ثم يصلى ما قدر له، ثم يوتر آخره. وذهب بعض الصحابة والتابعين وكافة أئمة الفتوى إلى منع نقض الوتر، وأنه إذا بدا له في تنفل(4) بعد الوتر لم ينقضه ولم يشفعه، وصلى مابدا له ولم يعده. وذكر بعض شيوخنا عن مالك الخلاف فيمن تنفل بعد وتره هل يعيد وتره، والمشهور أنه لايعيده، وكذلك اختلف قوله فيمن زاد في وتره ركعة وشفعه ساهيًا، هل يجزيه سجدتا السهو وهو مشهور قوله، وقال أيضًا: يستأنف وتره.
والوتر عندنا سنة مؤكدة غير واجبة لقوله - عليه السلام -: " خمس صلوات كتبهن الله على العباد، وهو قول كافة العلماء والسلف، وذهب بعضهم إلى أنه واجب.
__________
(1) في (هـ):" لأبي ذر هذا ".
(2) في (ط) و(هـ):" بحساب ".
(3) في (هـ):" في آخر ".
(4) في (هـ):" تنفله ".(3/288)
قال الإمام: مذهب أبي حنيفة أن الوتر واجب ليس(1) بفرض، على طريقته وطريقة أصحابه في التفرقة بين الفرض والواجب، مع أنهما جميعًا يأثم تاركهما عنده، وفرق بعضهم بينهما بأن الواجب هو ما واجب بالسنة، والفرض ما وجب بالقرآن. وقال بعضهم: الواجب لا(2) يكفر من خالف فيه، والفرض يكفر(3) من خالف فيه، وهذه التفرقة عندنا غير صحيحة على مقتضى اللسان، بل الأولى على حكم الاشتقاق أن يكون الواجب أكبر من الفرض، وأما الوتر فهو عند مالك سنة وماوقع لبعض أصحابنا من تجريح تاركه، ولبعضهم من تأديبه محمول على أنه(4) استحق ذلك بأن تركه عنده علم على الاستخفاف بالدين لا لأجل أن الوتر فرض.
قال القاضي: قوله:« يوتر منها بواحدة »، وقوله:" الوتر ركعة، ومافى معناه من الأحاديث: دليل على أن الوتر واحدة، لكنها [إنما جاءت بعد صلاة الليل، وهو قول مالك والشافعي وفقهاء أصحاب الحديث والأوزاعي أنها واحدة، لكنه](5) لابد من شفع قبلها وليس هذا الشفع مما يتعين لها. فلو صلى قبلها نوافل اجتزأ بواحدة(6) بعدها عند كل من يقول: "التنفل(7) واحدة ". واختلف المذهب عندنا، هل من شرط الشفع والنافلة قبلها أن تكون متصلة بها ؟ أم يجوز وإن كان بينهما زمن ؟ وفي الحديث: "أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربع وثلاث وست وثلاث وثمان وثلاث وعشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأقل من سبع ولا بأكثر من ثلاث عشرة، فأضاف قيام الليل إلى الوتر، وقد أدخل مسلم من الأحاديث في النص على واحدة من حديث ابن عباس:" الوتر ركعة آخر الليل"، وعن ابن عمر:" فأوتر بواحدة"، وغير ذلك مما يرفع كل إشكال.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" وليس ".
(2) في (هـ):" ما لا ".
(3) في (ط) و(هـ):" ما يكفر ".
(4) في (هـ):" أنه إنما ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(6) في (هـ):" بواحدة منها ".
(7) في (ط):" النفل ".(3/289)
قال الإمام: لايوتر عندنا بواحدة، لاشفع قبلها من غير عذر، وأوتر سحنون في مرضه بواحدة، وأجازه بعض أصحابنا في السفر أيضًا، وقال الشافعي: يوتر بواحدة لا شفع قبلها من غير عذر(1)، فإن احتج له بقول النبي - عليه السلام -:" فأوتر بواحدة "، قلنا: لم يكن ذلك إلا بعد شفع، وإن احتج أن سعدا أوتر بواحدة، قلنا: لعله كان لعذر. ينبني الخلاف بيننا وبينه أيضًا على اختلاف في الوتر، هل هو وتر لصلاة العتمة أو لصلاة النافلة ؟ فان قيل: إنه للعتمة قاد ذلك إلى مذهبه، وإن قيل: هو وتر للنوافل احتيج إلى شفع قبله كما قلنا.
واختلف القائلون بأن لابد من شفع قبل الوتر، هل يفصل بسلام بين الشفع والوتر أم لا ؟ والحجة للفصل بينهما حديث ابن عباس: أن النبي - عليه السلام - صلى ركعتين ثم ركعتين... الحديث، وكذلك " صلاة الليل مثنى مثنى ".
قال القاضي: ذهب ابن نافع من أصحابنا إلى جواز الوتر ابتداء بواحدة ليس قبلها شيء، وذهب بعض شيوخنا إلى تخريج الوتر بثلاث على المذهب من قوله في "المدونة" عن عمل أهل المدينة في قيام رمضان:" يوترون منها بثلاث"، ومن قوله:" هذا الذي أدركت(2) الناس عليه "، وهذا لاحجة فيه ؛ لأنه لم يحكه مالك عن نفسه، بل ذكر عن فعل الأمراء.
__________
(1) في (هـ):" ضرورة " بدل:" عذر ".
(2) في (هـ):" أدركنا ".(3/290)
وقوله:" هذا الذي أدركت الناس عليه " من عدد القيام، لأنه هو الذي أخبر أن الأمير سأله عنه لاعن الوتر، وقد قال:" فإذا جاء الوتر انصرفت "؛ إذ لم يكن مذهبه صلاته(1) معهم ثلاثًا بغير تسليم، وقد تأول ما وقع من فعل عمر وغيره في الوتر بثلاث أنه مراعاة للخلاف في عدد الوتر وليؤتى بالأكمل. وقيل: لعله لم ينصرف إلى منزله فشفع قبل وتره. وقال ابن حبيب: إنما فعل هذا الأمراء وتركوا الفضل(2)؛ لئلا ينفض الناس عند تمام الشفع دون وتر، فحرسوا عليهم آخر شفع بأن وصلوه(3) بالوتر لذلك، وليس يعرف هذا من قول مالك، لكنه مذهب أبي حنيفة. وقال ابن نافع: إذا صلى شفعًا قبل وتره فلا يسلم منه ولايفصل بينهما وليأات بها(4) كصلاة المغرب، وكذلك فعل عمر ابن عبد العزيز، وذكر أنها(5) مذهب الفقهاء السبعة. ومذهب أهل المدينة أن الوتر ثلاث لا فصل بينهن، وقال الأوزاعي: إن فصل وإن وصل فحسن(6)،[ وهو قول عامة العلماء خلافًا للكوفيين ، ويجوز من صلاة الليل والنهار اثنين وأربع وست وثمان خلافًا للأوزاعي في قوله: أربعًا في النهار دون الليل، وإليه نحا أحمد بن حنبل ](7). ولم يذكر مسلم ولا أصحاب الصحيح مايقرأ في الوتر(8) والركعتين قبله، وذكر أصحاب المصنفات في ذلك قراءته - عليه السلام - في الشفع:{ سبح اسم ربك الأعلى }،{ قل يا أيها الكافرون}، وفي الوتر بـ{ قل هو الله أحد} والمعوذتين، وبه أخذ الشافعي وأصحابه، وروي عن مالك، واستحبه أكثر أصحابه(9)، وأخذ به. مالك في ركعة الوتر في المشهور عنه، وفي حديث آخر: أن القراءة في الوتر بـ{ قل هو الله أحد} فقط،
__________
(1) في (ط) و(هـ):" صلاتها ".
(2) في (أ) و(ط):" الفصل ".
(3) في (هـ):" شفع فأوصلوه ".
(4) في (هـ):" بهما ".
(5) في (ط) و(هـ):" أنه ".
(6) في (أ) و(ط):" إن فعل فحسن وإن صلى فحسن ".
(7) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).
(8) في (هـ):" الوتر لا ".
(9) في (ط):" أصحابنا ".(3/291)
وفي الشفع بما تقدم، وبه قال الثوري، وأحمد، وأصحاب الرأي، قال الترمذى: وهو اختيار أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم، وروى أيضًا قراءته في الشفع والوتر بـ{ قل هو الله أحد } في كل ركعة، ويزيد في الوتر المعوذتين، واختاره أبو مصعب من أصحابنا وغيره.
وقوله في حديث سعد ين هشام حين(1) أراد التبتل والانخلاع من ماله ونهيُ الصحابة له عن ذلك، وأخبروه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاهم عن ذلك حجة في النهي عن هذا على الجملة، وأنه ليس على العموم، بل بقوم دون قوم، وأن الزهد في التبتل(2) ليس بفراق النساء، وسيأتي هذا في كتاب الزهد.
وقوله لعائشة: أنبئيني عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقالت:" كان خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن " تعني التأدب بآدابه والتخلق بمحاسنه، والالتزام لأوامره وزواجره، وقد جاء في حديث آخر معنى هذا مفسرًا.
وقوله:" فهممت أن أقوم ولا أسأل أحدًا عن(3) شيء حتى أموت "، اكتفى بذلك، واقتدى(4) بالتخلق بأخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن، ففيه المقنع من كل شيء، والهداية إلى كل رشد، والخلاء من كل شبهة.
وقولها:" إن الله افترض قيام الليل على نبيه في أول سورة المزمل، فقام هو وأصحابه حولاً، وأمسك الله(5) خاتمتها اثني عشر شهرًا، حتى أنزل الله(6) في آخرها التخفيف، فنبه أن قيامه تطوع بعد فرض ".
__________
(1) في (هـ):" حين طلق زوجه ".
(2) في (هـ):" الدنيا " بدل:" التبتل ".
(3) قوله:" عن " ليس في (هـ).
(4) في (هـ):" اكتفاءً بذلك واقتداءً "، وفي (ط):" اكتفاء واقتداءً ".
(5) لفظ الجلالة ليس في (أ).
(6) لفظ الجلالة ليس في (أ) و(ط).(3/292)
قال القاضي: اختلف الناس في حكم قيام الليل كيف كان ؟ والمراد بالآية ماهو ؟ فحكى أبو بكر الأدفوي(1): أن قوله تعالي:{ قم الليل } ليس بفرض ولا على الوجوب عند بعضهم لقوله:{ نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً }، وليس هكذا صفة(2) الفروض وإنما هو ندب. وقيل: حتم وفرض، وقيل: حتم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده.
قال القاضي: ودليل قول عائشة: أنه كان فرضًا عليه وعلى أمته ثم نسخ. قال مكى: وهو قول كافة أهل العلم، وقيل: نسخه بعد عشر سنين وهو الظاهر، لأن نسخها على ماروى آخرها ونزل آخرها بالمدينة، والسورة كلها مكية من أول ما نزل من القرآن إلا الآيتين آخرها، وقيل: بل كان قيام الليل أول مافرضه الله على رسوله وأمته، قالت عائشة:" ثم رحمهم الله فردها بالفريضة وترك قيام الليل ".
ولم يختلف العلماء مع اختلافهم في تأويل الآية وحكم قيام الليل أنه غير واجب، إذ قد سقط فرضه عن المسلمين بالنسخ عند من قال إنه كان عليهم(3) واجبًا، إلا طائفة، روي(4) عنها بقاء فرضه، ولو قدر حلب شاة.
وقوله في صفة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالليل:" يصلي تسعًا لا يجلس فيها إلا في الثامنة، وذكر أنه يسلم في التاسعة، تقدم الكلام عليه.
وقولها:" فلما أسنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذ اللحم "،[ كذا رواية أكثرهم، وعند الطبري:" وأخذه اللحم ](5)"، والمعنى متقارب وقد تقدّم الكلام عليه(6).
وقول ابن عباس في هذا الحديث:" لو كنت أدخل عليها - يعني عائشة(7)- لأتيتها حتى تشافهني بهذا الحديث(8)" حجة في طلب علوِّ الإسناد.
__________
(1) في (هـ):" الأبهري ".
(2) في (ط) و(هـ):" صورة ".
(3) قوله:" عليهم " ليس في (أ).
(4) في (أ):" وروي ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(6) قوله:" عليه " ليس في (هـ).
(7) قوله:" يعني عائشة " ليس في (هـ).
(8) في (ط):" تشافهني بالحديث ".(3/293)
وقول حكيم بن أفلح له:" لو علمت أنك لا تدخل عليها ما حدثتك(1)" على طريق العتب له على ترك الدخول إليها(2) والمكافأة على ذلك بأن يحرمه الفائدة عنها حتى يضطر إلى الدخول عليها(3).
وقوله:" من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل تفضل من الله تفضل عليه به "، ودليل على أن صلاة الليل، والذكر فيها أفضل من صلاة النهار وعمله، إذ لم يجعل له هذه الفضيلة إلا لغلبة نومه عليه(4)، وقد ذكر مالك في "موطئه" عنه - عليه السلام -: «مامن امرئ يكون له صلاة من الليل فغلبه عليها نوم إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة »، وهذا أتم في التفضل ومجازاته بنيته، وهذا لمن كانت عادته ذلك، وظاهره أن له أجره كاملاً كما لو عمله ؛ لأن الله حبسه عنه، وقد جاءت بهذا ظواهر أحاديث كثيرة، ولهذا أجاز مالك لهذا أن يصليه بعد طلوع الفجر، وكان ذلك الوقت عنده وقت ضرورة، لما فاته من نوافل الليل، كقيامه، ووتر ليله، وهو لايجيز التنفل بعد طلوع الفجر، ولا(5) يصلي حينئذ إلا الفجر، وهوقول جماعة من الصحابة والعلماء للأثر الوارد في ذلك، وروي عن الحسن وطاوس وعطاء إجازة ذلك مطلقًا، وروي عن مالك أيضًا إجازة ما خف من ذلك كالست ركعات ونحوها. قال بعض شيوخنا: وقال بعضهم: يحتمل أن يكون أجرها غير مضاعف بعشر بخلاف إذا عملها، إذ(6) الذي يصليها أكمل أجرًا أو يكون له أجر بنيته أو أجر من يتمنى أن يصلى تلك الصلاة أو أجر تأسفه على مافاته منها، والأول أظهر، لاسيما مع قوله: " وكان نومه عليه صدقة "، فلو نقصه النوم من الأجر لم تكن صدقة، بل كان مانعا له من خير ومفترًا(7)
__________
(1) في (هـ):" ما حدثتك حديثها ".
(2) في (ط) و(هـ):" لها ".
(3) في (ط) و(هـ):" إليها ".
(4) قوله:" عليه " ليس في (أ).
(5) في (ط) و(هـ):" وألا ".
(6) في (هـ):" إذا ".
(7) في (ط):" معثرًا "، وفي (هـ):" مغير "..(3/294)
في أجور الفضائل، والأجور ليست على قياس، وإنما هى بفضل من الله بما شاء على من شاء كيف شاء. وهذا الحديث مما تتبعه الدارقطني على مسلم فقال: رواه جماعة سماهم مسندًا، كما ذكره مسلم، ورواه ابن المبارك عن يونس موقوفًا، وكذلك [ رواه معمر عن الزهري عن عروة عن عبد الرحمن بن عبد القارى، وكذلك](1) رواه مالك عن داود، عن الأعرج، عن عبد الرحمن بن عبد القارى، عن عمر(2) موقوفًا.
وقوله: " صلاة الأوابين حين ترمض الفصال ": الأوابون: المطيعون، والأوابون: المسبحون، وقيل: هذا في قوله:{ كل له أواب }، وفي قوله: { أوبي معه }، وقيل الأوّاب: الراحم.[ وقيل: الفقيه، والأول من الوجوه هو اللائق بهذا الحديث ](3).
وقوله:" حين ترمض الفصال ": يعني عند ارتفاع الضحى. وقال الهروي: ورمض الفصال: أن تحترق(4) الرمضاء وهي الرمل، فتبرك الفصال من شدة حرها وإحراقها أخفافها.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(2) قوله:" عن عمر " ليس في (ط).
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(4) في (هـ):" تحتمي ".(3/295)
وقوله: " صلاة الليل مثنى مثنى ": حجة في أن النافلة ركعتين(1) بينهما سلام، ولو كان إنما يسلم في الرابعة لما كان لقوله:" مثنى مثنى " فائدة،كما لايصح أن يقال ذلك عن العصر والظهر والعشاء، مع ماجاء في حديث عائشة وأم هانئ من أنه " يسلّم من كل ركعتين "، وبه فسّر ابن(2) عمر هذا الحديث. ومذهب مالك وكافة العلماء أن نافلة الليل والنهار مثنى مثنى، وذهب الأوزاعي وأحمد إلى اختصاص ذلك بنافلة الليل، وأن نافلة النهار أربع، وذهب الكوفيون إلى جوازها بالليل والنهار اثنتان(3) وأربع وست وثمان(4)، وروي عنه أنه لايزيد في الليل على(5) أربع وفي النهار على(5) ثمان، وأن(6) الاختيار عنده فيه(7) أربع ليلاً ونهارًا، وقال الإسفراييني: الاختيار(8) مثنى مثنى بالليل والنهار، والجواز واحدة، واثنتان، وثلاث، وماشاء، لاينحصر بعدد، ويسلم آخر ذلك، وحكى عن بعض السلف نحوه.
وقد يحتج بهذا الحديث من يقول بقول الأوزاعي وأحمد ؛ أن ذلك بالليل دون النهار، ويصلى بالنهار إن شاء أربعًا، وروي عن ابن عمر والنخعي، وهذا لاحجة له فيه ؛ لأنه إنما خرج كما جاء في الحديث لسائل سأله: كيف صلاة الليل ؟ فأجابه، ولو سأله عن صلاة النهار، فالله أعلم كيف كان يجيبه، لكن الأحاديث الأخر من ذكر رواتب(9) الصلوات ثنتين ثنتين، وتسليمه من صلاة الضحى من كل ثنتين، وصلواته(10) السنن ثنتين، كلها تبين(11) هذا، وأيضًا فقد روي عن ابن عمر الحديث وفيه: " صلاة الليل والنهار مثنى مثنى"، وذكرمسلم فيه: " من صلى فليصل مثنى مثنى "، وقد تقدم هذا.
__________
(1) في (هـ):" ركعتان ".
(2) في (هـ):" أبو ".
(3) في (ط):" اثنتين ".
(4) في (هـ):" اثنتين وستا وثمانيا ".
(5) في (ط) و(هـ):" على صلاة ".
(6) قوله:" أن " ليس في (هـ).
(7) في (ط) و(هـ):" فيها ".
(8) في (هـ):" الاختيار ركعتين ".
(9) في (هـ):" روايات ".
(10) في (أ):" صلاته ".
(11) في (أ):" ثنتين ".(3/296)
وقوله: " فإذا خشيت الصبح فصل ركعة وأوتر بواحدة "، وقوله: "أوتروا قبل الصبح " كلها حجة في أن وقتها المتفق عليه مالم يطلع الفجر، وهذا قول كافة العلماء، واختلفوا هل يصلى بعد طلوع الفجر إلى أن يصلي الصبح ؟ وهل لها ذلك وقت ضرورة لمن تركها أو نام عنها أونسيها ؟ فذهب جمهورهم - وهو مشهور قول مالك والشافعي - إلى جواز ذلك مع كراهية تعمده، وأنه وقت ضرورة لها، وحكى عن ابن مسعود وغيره أن وقتها مابين العشاء إلى صلاة الصبح، وذهب الكوفيون إلى منع صلاته بعد طلوع الفجر، وقاله جماعة من السلف، وأبو مصعب وبعض أصحابنا، وحكاه الخطابي عن مالك لظاهر هذا الحديث، ولقوله في الحديث الآخر:" بادروا الصبح بالوتر"، ولقوله:" فليجعل آخر صلاته وترًا قبل الفجر"، وما أشبهه، وعندنا وعند الشافعي أنها لاتقضى بعد صلاة الصبح، وشذ أبو حنيفة فجعلها تقضى بعد الفجر(1) حينئذ، وقاله طاوس، وعنه أيضًا وعن الأوزاعي وأبي ثور والحسن، وقاله(2) الليث وغيره تقضى بعد طلوع الشمس وحكى عن سعيد بن جبير أنه يوتر من القائلة، واختلفوا إذا صلاها ثم ذكر العشاء ؟ فقال الكوفيون: لايعيدها، وقال مالك وأبو يوسف ومحمد وغيرهم: يعيدها بعد العشاء، واختلف المذهب عندنا(3) إذا ذكرها في صلاة الصبح هل يقطع أم لا؟ فذًّا كان أو مأمومًا، أو يقطع الفذّ دون المأموم(4)؟ واختلف الناس في ذلك أيضًا.
__________
(1) قوله:" بعد الفجر " ليس في (ط) و(هـ).
(2) في (ط):" وقال ".
(3) في (ط):" وعندنا ".
(4) في (هـ):" الإمام ".(3/297)
وقول مسلم آخر الحديث(1): وقال أبو كريب عبيد الله بن عبد الله، ولم يقل: ابن عمر كذا لهم، وعند أبي بحر: عبد الله بن عبد الله، وذكر أيضًا في الباب: ثنا إسحاق بن منصور، أخبرني(2) عبدالله(3) عن شيبان عن يحيى أخبرني أبو نضرة العوفي(4)، كذا لهم، وعند الصدفي: أخبرني عبيدالله وشيبان عن يحيى، فانظره. وقول ابن عمر للذى سأله عن الركعتين قبل صلاة الغداة: أطيل(5) فيهما القراءة - يعني ركعتي الفجر - فذكر له هذا الحديث، فقال: لست عن هذا أسألك، إنك لضخم، ألا تدعني أستقرئ لك الحديث " إنما قال له هذا لتعجيله عليه إذ كان بقى(6) من الحديث قوله: "ويصلى ركعتين قبل الغداة(7) كأن(8) الأذان في أذنيه " يعني من تخفيفهما، وأرى مراده بالأذان هنا الإقامة ؛ لأن عن هذا كان سؤال السائل.
ومعنى قوله: " لضخم ": إشارة إلى البلادة وسوء الأدب، لمداخلته له في الكلام وتركه تمامه، وقطعه عليه،كما قال بعضهم في أحد تأويلات قوله: " إنك لعريض القفا "؛ لأن البلادة والغباوة مع السمن والضخامة.
ومعنى: " أستقرئ لك الحديث " كذا رويناه بالهمز ومعناه على هذا أتلوه وآت به على نسقه، قد يكون غير مهموز، ويكون معناه: أقصد لك إلى ماطلبت، من قولهم: قروت إليه قروا إذا قصدت نحوه ومنه: هو(9) يقتري الأرض ويقروها قروا إذا قطعها إلى أخرى، وهو أشبه بهذا الموضع، ومنه القرو الطلب.
وقوله:" بَهْ بَهْ ": إما أن يكون بمعنى: مه مه، زجرًا، وقد جاء ذلك والباء تبدل من الميم كثيرًا، وقال ابن السكيت: هى لتعظيم الأمر بمعنى: بخ بخ.
__________
(1) في (هـ):" في الحديث ".
(2) في (هـ):" وأخبرني ".
(3) في (أ) و(ط):" عبيدالله ".
(4) في (أ):" العوقي ".
(5) في (ط) و(هـ):" أأطيل ".
(6) في (هـ):" يفتى ".
(7) في (أ) و(ط):" القراءة ".
(8) في (أ) و(ط):" كان ".
(9) قوله:" هو " ليس في (هـ).(3/298)
قال القاضي (1): أو يكون هنا(2) من قولهم: رجل بهبهي، وهو الجسيم الجريء، لاسيما مع قوله:" إنك لضخم "، أو تكون حكاية لاعتراضه عليه وكلامه له من بهبهة الفحل في هديره.
وقوله:« أفضل الصلاة طول القنوت »، قال الإمام: القنوت(3) سبعة معان: الصلاة، والقيام، والخشوع، والعبادة، والسكوت، والدعاء، والطاعة. قال ابن أبي زمنين وغيره: أصله الطاعة.
قال القاضي: قد(4) تقدم من هذا قبل في قوله:{ اقنتي لربك } أي: اعبديه، وقيل: صلى، وقيل في قوله:{ ومن يقنت(5)} من يقيم على الطاعة، وفي قوله:{ قانتات } { عابدات }، أي: قيمات بحقوق أزواجهن، وقيل: مصليات، وقيل: يقع على الإقرار والعبودية وعلى الإخلاص، والمراد به في هذا الحديث القيام، والمعانى كلها متداخلة فيه ؛ لأنه قيام في صلاة وإقامة على طاعة وعبادة تشتمل على إخلاص ودعاء وخشوع وقيام بذلك، وسكوت عن الكلام، واعتراف بالعبودية، قولاً وفعلاً، وقد تقدم الخلاف(6) في تفضيل القيام أو(7) كثرة السجود.
حديث التنزيل
قال الإمام: قوله:« ينزل ربنا كل ليلة »، قيل: معناه: ينزل ملك ربنا، على تقدير حذف المضاف، كما يقال: فعل السلطان كذا، وإن كان الفعل وقع من أتباعه، ويضاف الفعل إليه لما كان عن أمره ويحتمل أن يكون عبر بالنزول عن تقريب(8) الباري تعالى للداعين حينئذ واستجابته لهم، وخاطبهم - عليه السلام - بما جرت به عادتهم ليفهموا عنه وكان المتقرب منا إذا كان في بساط واحد مع من يريد الدنو منه يخبر عنه، بأن يقال: جاء وأتى، وإذا كان في علو قيل: نزل وتجلى، وقد ورد في الكتاب والسنة جاء وأتى ونزل وتجلى.
__________
(1) قوله:" قال القاضي " ليس في (هـ).
(2) قوله:" هنا " ليس في (هـ).
(3) في (هـ):" للقنوت ".
(4) قوله:" قد " ليس في (هـ).
(5) في (هـ):"{ يقنت منكن }".
(6) في (هـ):" الكلام ".
(7) في (هـ):" و ".
(8) في (هـ):" تقرب ".(3/299)
قال القاضي: على هذين الطريقين(1) اختلف تأويل السلف في الحديث، بل قد جاءت مفسرة فيه، فجاء في حديث الأغر أبي مسلم الذي ذكره مسلم عنه عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:« إن الله يمهل، حتى إذا ذهب(2) ثلث الليل الأول ينزل إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من مستغفر »، الحديث رواه الأعمش عن السبيعي(3) عن أبي مسلم بمعناه، وذكر مكان " ينزل،:" ثم يأمر مناديًا ينادي يقول: هل من داع، الحديث خرّجه النسائي، فهذا مفسر لأحد التأويلين، وهو من معنى المروي عن مالك في تفسير هذا الحديث: ينزل أمره ورحمته، وعلى التأويل الآخر قول الأوزاعي فيه: يفعل الله ما يشاء. وإليه الإشارة في الحديث نفسه بقوله: «ثم(4) يبسط يديه » عبارة عن نشر رحمته واستعارة بكثرة عطائه وإجابته وإسباغ نعمته، ولا يعترض على هذا بأن أمره ونهيه وأفعاله في كل حين لا يختص بوقت دون وقت فقد يكون المراد بالأمر هنا في هذه القصة يختص لقائم الليل، كما يختص رمضان ويوم عرفة وليلة القدر وليلة نصف شعبان وغيرها من الأوقات(5) [ بأوامر من أوامره، وقضايا من قضاياه لا تكون في سائر الأوقات ](6)، كما جاء في كتاب الله وحديث نبيه - عليه السلام -. وقيل يكون النزول بمعنى القول كقوله: { سأنزل مثل ما أنزل الله }، وبمعنى الإقبال على النبي، فيكون النزول بإظهار ذلك وتبليغه إلى أهل السماء الدنيا، أو بإقباله على عباده المؤمنين كما(7) في الحديث، وذلك من أفعاله كما تقدم، أو يفعل(8) فعلا يظهر به لطفه لهم، كما جاء في الحديث الآخر:" أن العرش يهتز حينئذ ".
__________
(1) في (هـ):" الطريقتين ".
(2) في (ط):" كان ".
(3) في (ط) و(هـ):" الشعبي "،، وفي حاشيتها:" السبيعي".
(4) في (ط):" لم ".
(5) في (هـ):" الأوقات كلها ".
(6) مابين المعكوفين ليس في (هـ).
(7) في (ط):" كما جاء ".
(8) قوله:" يفعل " ليس في (ط).(3/300)
وقوله:" حتى إذا ذهب ثلث الليل الأول"، في بعض الروايات " وشطره" في بعضها، والصحيح الرواية الأخرى:" حين(1) يبقى ثلث الليل الآخر"، قال شيوخ أهل الحديث: وهو الذي تتظاهر الأخبار بمعناه ولفظه، وقد يحتمل الجمع بين الحديثين أن(2) يكون النزول الذي أراده النبي(3) - صلى الله عليه وسلم - وعناه، والله أعلم بحقيقته عند مضى الثلث الأول. والقول(4):" من يدعوني " إلى آخره في الثلث الآخر.
وقوله:" من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا " الحديث، قال الإمام (5): اختلف ما الأفضل في قيام رمضان لمن قوي(6) عليه، هل إخفاؤه في بيته أم صلاته في المساجد ؟ فاستحب مالك قيامه في بيته، واستحب غيره قيامه في المسجد، ويحتج لمالك بقوله - عليه السلام -: " أفضل الصلاة ما كان في بيوتكم إلا المكتوبة"، وللمخالف بفعله - عليه السلام - وبأن عمر استحسن ذلك من الناس لما رأى قيامهم في المسجد، ومن جهة المعنى أن مالكًا احتاط للنية وآثر المنفعة النفسية، والمخالف رأى الإظهار أدعى إلى القلوب(7) الأبية، وأبقى للمعالم الشرعية.
قال القاضي: اختلف اختيار مالك فيه، فذكر في المدونة أنه كان يقوم أولاً معهم، ثم ترك ذلك ورأى القيام في البيت أفضل، وقال الليث: لو قام الناس في بيوتهم ولم يقم في المسجد أحد لانبغي أن يخرجوا من بيوتهم إليه، لأن قيام رمضان من الأمر الذي لاينبغى تركه، وقد رأى ابن عبد الحكم من أصحابنا أن حضور الجماعة أفضل، كما قال أحمد وأصحاب أبي حنيفة، واختلف فيها أصحاب الشافعي، وقال أبو يوسف كقول مالك.
__________
(1) في (ط):" حتى ".
(2) في (هـ):" أو ".
(3) في (هـ):" أراد به ".
(4) في (هـ):" بقول ".
(5) في (ط):" القاضي ".
(6) في (هـ):" قدر ".
(7) في (هـ):" الإظهار آثر للقلوب ".(3/301)
وفي قوله: " من قام رمضان " حجة لمن أجاز تسمية الشهر برمضان، وقد كره ذلك بعضهم، وقال: رمضان اسم من أسماء الله، وإنما يقال: شهر رمضان، كما جاء في القرآن، وقال بعضهم: إذا جاء بما لايشكل وبما يبين أن المراد به الشهر كقوله(1): صمنا رمضان، وقمنا رمضان،[ لم ينكر هذا، وينكر ما يشكل، كقوله: دخل رمضان، وجاء رمضان ](2)، والصحيح أن هذا كله غير معتبر، لما صرحت به الأحاديث من إطلاق ذلك، وأنه اسم(3) من أسماء الله لايصح.
ومعنى قوله: " إيمانا "، أي: تصديقا بما جاء في ذلك، واحتسابًا أجره وصومه على الله تعالى، وقد روى هذا اللفظ في الحديث، وكذا رواه الرواة في كتاب مسلم يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة إلا الخشني عن الطبري، فرواه لنا: قام، وقد روى: " من صام وقام "، وهذا يدل أن(4) الأعمال بالنيات، وأن الأجور بالاحتساب وإنما لامرئ ما نوى، وهذا مع قوله: "يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمر فيه بعزيمة دليل على الترغيب وقوة الندب فيه لا على الإيجاب(5)، إذ لاخلاف أنه ليس بفريضة.
وقوله (6):" فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأمر على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر "، يريد إبقاء الأمر على صلاتهم، وأوزاعًا متفرقين، ووحدانا وفي بيوتهم، حتى جمعهم عمر بعد على قارئ، ولاخلاف بين المسلمين في أن قيام رمضان من السنن، ومن فضائل الأعمال ومندوبات الخير، وأن الجمع فيه لمرغب فيه غير منكر إلا من لا يلتفت إلى قوله من المبتدعة.
__________
(1) في (أ):" كقولنا ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(3) في (ط) و(هـ):" ذلك وكونه اسما ".
(4) في (هـ):" أن أن ".
(5) في (هـ):" الإيجاب له ".
(6) قوله:" وقوله " ليس في (هـ).(3/302)
وقوله:« ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه »، هذا أيضًا مثل الأول ولعل هذا فيمن لم يقم رمضان فيغفر له لقيامه ليلة القدر، أو من لم يكن قيامه إخلاصًا واحتسابًا.
وذكر مسلم قيام النبي - عليه السلام - بالناس في رمضان، وأنه لم يخرج إليهم في الليلة(1) الثالثة لما كثروا، وقال: " خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها، فيه دليل على جواز الجمع للنوافل عامة ولجمع رمضان خاصة، لكن كره أهل العلم الجمع للنوافل مشهرًا وعلى التوالي إلا قيام رمضان، فلم يختلفوا في استحباب الجمع فيه، قالوا: وفيه جواز الائتمام ممن لم ينو أن يؤمك، وهذا جائز إلا في الصلوات المشروط(2) فيها الجماعة بكل حال ؟ كالجمعة، وصلاة الخوف، والجمع بين الصلاتين لعذر المطر وشبيهه، وتركه - عليه السلام - الخروج(3) والتجمع(4) ليس بنسخ ولا رفض لما تقدم، بل للعلة التي ذكرها من خشية الفريضة عليهم فيعجزوا عنها، لاسيما على القول: إنها كانت عليه هو(5) فريضة، فخشى - عليه السلام - إن داموا عليها أن تفرض عليهم، رفقا بهم، وكان بالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا كما قالت عائشة في حديث سبحة الضحى. قال القاضي أبو بكر بن الطيب: يحتمل أن يكون الله أوحى إليه أنه إن واصل هذه الصلاة فرضها عليهم، ويحتمل أن يكون - عليه السلام - ظن ذلك وحذره من قبل نفسه لما قد اتفق من(6) بعض القرب التي داوم عليها، ويحتمل أن يريد بذلك أنه خاف أن يظن أحد من أمته بعده(7)- إذا داوم عليها - أنها واجبة، وهذه كلها مأمونة بعد النبي - - عليه السلام -.
__________
(1) قوله:" الليلة " ليس في (ح).
(2) في (هـ):" المشروعة ".
(3) في (ط) و(هـ):" الخروج إليهم ".
(4) في (ط) و(هـ):" التجميع ".
(5) قوله:" هو " ليس في (هـ).
(6) في (ط):" من فرض ".
(7) في (هـ):" بعده أنه ".(3/303)
قال القاضي: والتأويل الأول هو الصحيح، وهذا التأويل الآخر يبعد مع قوله: " خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها.
ذكر مسلم: أن صلاته هذه كانت في المسجد، وفي "الموطأ" و"البخاري" أيضًا مثله، وفيها أيضًا أن صلاته هذه كانت في حجرته، وأنه اتخذ حجرة، وكله بمعنى. فحجرته هذه هى التي اتخذها في المسجد ليصلي فيها من الليل، وكانت من حصير، كما جاء في الحديث الآخر:" كان له حصير يبسطه بالنهار ويحتجزه بالليل"، وإنما كان فعل هذا في رمضان كما جاء مفسرًا في الحديث: " وذلك في رمضان "، وأما قيامه في غيره ففى بيته، كما بينته أحاديث قيامه - عليه السلام -. فيه جواز الإمامة بمن بينك وبينه سترة خفيفة.
وذكر مسلم هنا أحاديث ليلة القدر واختلاف الصحابة فيها، ومن قال: إنها في السنة، ومن قال: إنها صبيحة سبع وعشرين.
قال الإمام: من الناس من قال: إنها ليلة من(1) سائر السنة، لكنه قال: إنما قلت ذلك لئلا يتكل الناس. وقال غيره: بل في رمضان، وقول أهل العلم: إنها في العشر الأواخر، وأنها في الأفراد منها، وأحسن ما بنيت عليه الأحاديث المختلفة في تعيينها أن يقال:إنها تختلف حالها فتكون سنة في ليلة، وسنة في ليلة أخرى، وكأنه أجر يكتبه الله للعامل، فيتفضل به في ليلة وفي غيرها من السنين في ليال أخر(2).
قال القاضي: وقول أبيّ في أمارتها:" أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها "، يحتمل وجهين:
أحدهما: أن هذه الصفة اختصت بعلامة صبيحة الليلة التي أنبأهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها ليلة القدر، وجعلها دليلاً لهم عليها في ذلك الوقت، لا أن تلك الصفة مختصة بصبيحة كل ليلة قدر(3) كما أعلمهم أنه يسجد في صبيحتها في ماء وطين.
__________
(1) في (هـ):" في ".
(2) في (هـ):" ليلة أخرى ".
(3) في (أ) و(ط):" القدر ".(3/304)
والثاني: أنها صفة خاصة لها، وقيل في ذلك لما حجبها من أشخاص الملائكة الصاعدة إلى السماء الذي(1) أخبر الله بتنزيلهم(2) تلك الليلة حتى يطلع(3) الفجر، والله أعلم. وسيأتى الكلام على أحاديث ليلة القدر في آخر كتاب الصيام بأشبع مما تقدم، إن شاء الله تعالى.
حديث صلاة ابن عباس مع النبي - صلى الله عليه وسلم -
قوله:" فاضطجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طولها"، قيل الوسادة: الفراش، بدليل قوله:" اضطجعت، قاله الباجي وأبو محمد(4) وغيرهما:[ويؤكد قوله في حديث الليث فاضطجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وميمونة على وسادة من أدم محشوة ليفًا ](5)، وقالوا(6): ويحتمل أن اضطجاع ابن عباس كان في عرضها عند أرجلهم أو رؤوسهم، والعرض هنا- بالفتح - ضد الطول، وقال الداودي: الوسادة هنا الْمِرفْقة، والعرض هنا - بالضم - الجانب أي جعلوا رؤوسهم في طولها وجعل رأسه هو في الجهة الضيقة منها، والأوّل أكثر في الرواية، وأظهر من جهة المعنى.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" الذين ".
(2) في (هـ):" يتنزلهم ".
(3) في (ط):" مطلع ".
(4) في (ط) و(هـ):" عمر ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(6) في (ط) و(هـ):" قال ".(3/305)
وفيه دليل تقريب القرابة والأصهار وتأنيسهم وبرهم، وإدناء من هو في هذا السن، وكان حينئذ نحو ابن عشر سنين من ذوى محارمه، ومنعه من مضاجعتها دون حائل، وفيه جواز اضطجاع الرجال مع زوجاتهم بحضرة غيرهم ممن لا يستحيونه وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث: بت عند خالتى ميمونة في ليلة كانت فيها حائضًا، وهذه الكلمة - وإن لم يصح طريقها - فهى صحيحة المعنى حسنة جدًّا ؛ إذ لم يكن ابن عباس يطلب المبيت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة خالته ولا يرسله أبوه على ما جاء في الحديث إلا في وقت يعلم أنه لا حاجة للنبى - صلى الله عليه وسلم - فيها ؟ إذ كان لا يمكنه ذلك مع مبيته معها في وساد واحد(1)، ولا(2) يتعرض هو لأذاه بمنعه مما يحتاج إليه من ذلك.
وفيه طلب علو السند في الرواية، وطلب اليقين، والقطع في أحكام الشريعة متى قدر على ذلك، ورفعه درجة المشاهدة على درجة خبر الواحد، إذ كان ابن عباس وزيد بن خالد قد يصلان إلى معرفة قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - بسؤال(3) ميمونة وغيرها، ولعلهما لم يسألا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك لنهيه عن كثرة السؤال فتلطفا في مشاهدة ذلك حتى لا يختلجهما ريب ولا يعتريهما شك.
وقوله:" قام من الليل فأتى حاجته يريد الحدث ثم غسل وجهه ويديه، ثم نام "، هذا وضوء للتنظيف وزوال الكسل غير مشروع.
[وقوله:" ثم قام إلى شن "، في الحديث الآخر:" ثم عمد إلي شجب من ماء ](4)"، قال الإمام: الشن(5): السقاء الذي قد استشن وأخلق، وقال بعضهم: سقاء شاجب، أي: يابس. وفي الحديث الآخر:" فقام إلى شن معلق "، فبين أن الشجب هو الشن، والشن هو السقاء الخلق، وجمعه شنان ويقال للقربة: شنة.
__________
(1) في (هـ):" وسادة واحدة ".
(2) في (ط) و(هـ):" ولا أيضًا ".
(3) في (هـ):" بخبر ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(5) في (ط):" الشحب ".(3/306)
وقوله:" فأطلق شناقها "، قال أبو عبيد(1): شناق القربة هو الخيط أو الشىء(2) الذي تعلق به القربة على الوتد، يقال منه: استشنقها استشناقًا وقال غيره: الشناق: خيط يشد به فم القربة.
قال القاضي: وقع هذا الحرف من(3) روايتنا عن الخشني عن الطبري: "سجب " بالسين مهملة وليس بشىء، والأشجاب أيضًا فيما قيل: الأعواد التي تعلق عليها قرب الماء.
__________
(1) في (أ):" قال أبو عبيد قال أبو عبيدة".
(2) في (أ):" الستر "، وفي (ط):" السير".
(3) في (ط):" بين "، وفي (هـ):" في ".(3/307)
وقوله:" توضأ وضوءًا بين الوضوءين "، قد فسره بقوله:" لم يكثر وقد أبلغ " كما قال في الرواية الأخرى:" وضوءًا خفيفًا "، وفي الأخرى:" فلم يكثر من الماء ولم يقصر في الوضوء "، وفي الأخرى:" وضوءًا حسنًا بين الوضوءين "، وفي الأخرى:" فأحسن الوضوء "، وفي الحديث الآخر: "فتوضأ وضوءًا دون وضوء "، مضمون هذا كله أنه أبلغه وأحسنه أي أجاد عمله(1)؛ إذ الإحسان يقع على هذين الوجهين، ثم لم يكثر من الماء فيه ولا من التكرار فيطوله، لكن جاء في "الأم" من رواية سعيد بن مسروق عن سلمة بن كهيل: أنه توضأ وضوءًا بين الوضوءين، ثم أتى فراشه فنام، ثم ذكر أنه قام فتوضأ وضوءًا هو الوضوء، ظاهره أنه بالغ فيه، ولم يأت ذكر الوضوءين في غير هذه الرواية ولا ذكر فيها في الثاني أنه صلى به، لكن ظاهره أنه صلى به، وإنما ذكر نومه أولاً، فيحتمل أنه بعد أن صلى كما جاء في الحديث الآخر من رواية(2) أم(3) سلمة: أنه كان يصلى ثم ينام قدر ماصلى، ثم يصلى قدر ما نام(4)، فعلى هذا يحتمل أنه أعاد الوضوء، وكما قال في الرواية الأخرى فعل ذلك ثلاث مرات كل ذلك يستاك ويتوضأ، أو يكون أراد الوضوء الأول قبل نومه على(5) ماجاء في الرواية الأخرى من حديث سفيان عن سلمة من قوله: فقام فأتى حاجته - أي من الحدث - ثم غسل وجهه ويديه، ثم نام، فهذا القيام للحدث لا للصلاة، وغسله وجهه ويديه تنظفًا ولنفي الكسل، فلعل الراوى اختلط عليه ما جاء في الحديث الآخر: وضوءًا بين الوضوءين، فوضعه هذا الموضع، أو عبر به عنه.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" وعلمه ".
(2) في (هـ):" حديث ".
(3) في (أ):" أبي ".
(4) في (ط) و(هـ):" نام ثم يصلى ".
(5) قوله:" على " ليس في (ط).(3/308)
وقوله " فقمتُ فتمطيت كراهية أن يرى أني كنت أنتبه له " فيه ما كان عليه - رضي الله عنه - وأمثاله من الحرص على الخير وتعلم العلم، والاقتداء به - عليه السلام - والاقتباس منه، وحفظ أفعاله وأقواله من صغره، وحسن الأدب معه، والحياء منه لكونه بقربه، وهو مع أهله، وقد روى في هذا أن العباس أرسله لذلك. وتقدم إليه ألا ينام حتى يحفظ فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاته، واختلف في ضبط هذه اللفظة، فقال هنا:" إنى كنت أنتبه له "، وفي كتاب البخاري:" أبقيه "، كذا عند الأصيلي وابن السكن والقابسي، ومعناه: أرقبه، فقال(1): بقيت الشىء أبقيه ببصري إذا نظرت إليه. قال الشاعر:
ومازلت أبْقِى الظُّعن حتى كأنها [أواقى سدى تغتالُهُن الحوائك](2)
ويقال: بقوت أيضًا، وقد جاءت هذه اللفظة(3) بمثله في كتاب مسلم في الحديث الآخر كما سنبينه بعد هذا، وروى البرقاني هذه الكلمة:" أرتقبه "، نحو رواية القابسى عن البخاري، وهو معنى أبقيه، وهذه الألفاظ أبين من قوله:" أنتبه "، ويشبه أن أنتبه(4) تصحيف وتغيير، والله أعلم.
__________
(1) في (هـ):" ومعناه أن يقال فيه ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).
(3) في (ط):" الألفاظ ".
(4) في (ط):" أثبته ".(3/309)
وقوله:" فتوضأت فقمت عن يساره، فأدارني عن يمينه "، فسر هذه الإدارة في حديث محمد بن حاتم بقوله:" فأخذ بيدي من وراء ظهره يعدلني كذلك إلى الشق الأيمن "، وهي سنة مقام المنفرد(1) مع إمامه وإن كان صغيرًا، وحكم مناولة ما يحتاج عند(2) المصلى أو يضطر هو إليه، وفيه جواز العمل القليل في الصلاة واحتج به أصحابنا في جواز صحة صلاة(3) المأموم لمن لم ينو أن يأتم به، وهو قول مالك والشافعي وجماعة من العلماء، خلافًا لإسحق وأحمد والثوري، وأحد قولى الشافعي في منعهم ذلك على الجملة ولغيرهم في منعه لغير الإمام والمؤذن الداعي إلى الصلاة، ولأبى حنيفة في منعه ذلك للنساء دون الرجال، وقد ينفصل المخالف بأن في الحديث:" فأيقظني"، وفي رواية: " فحركنى "، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحين أيقظه للصلاة معه في طيها النية للائتمام به. وفيه صحة صلاة من يعقل من الصبيان، وأنه مما يحضون عليه ويرغبون فيه لإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - له، ولإيقاظه إياه لذلك على ما جاء في الرواية الأخرى.
وقوله:" فأخذ بأذني اليمنى يفتلها "، قال الإمام: قيل وجهه أنه أراد أن يذكر القصة بعد ذلك لصغر سنه، وقيل: لينفي عنه النوم(4) لما أعجبه قيامه معه، وقيل: في فتل الأذن تنبيه للفهم، وفي بعض طرق حديثه(5):" فكنت إذا أغفيت يأخذ شحمة أذنى يفتلها "، فقد بين بهذا الحديث أنه إنما فعله لينبهه من النوم.
قال القاضي: وفي قوله:" فمسح النوم عن وجهه، وقرأ العشر الآيات من(6) خواتم سورة آل عمران "، دليل على جواز قراءة القرآن ظاهرًا على غير وضوء وهذا لاخلاف فيه.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" المفرد ".
(2) في (هـ):" إليه ".
(3) قوله:" صلاة " ليس في (هـ).
(4) في (أ) و(ط):" العين ".
(5) في (أ):" تحديثه ".
(6) قوله:" من " ليس في (ط) و(هـ).(3/310)
وقوله:" صلى ركعتين ثم ركعتين "، الحديث ظاهره فصله بين كل ركعتين، بدليل الأحاديث الأخر. وفي قوله في رواية واصل بن عبد الأعلى بعده:" فصلى ركعتين أطال فيهما القيام والركوع والسجود ثم انصرف فنام حتى نفخ، ثم فعل ذلك ثلاث مرات ست ركعات، ثم أوتر بثلاث، وقد جاء في غير هذا الطريق من أكثر الروايات: أن صلاته كانت معه ثلاث عشرة ركعة، وفي حديث ابن رافع: "إحدى عشرة ركعة "، وفي حديث مالك:" فصلى ركعتين ثم ركعتين وعدّ ستًّا، ثم أوتر "، وهذا يدل أن وتره(1) واحدة ويحتمل أنه لم يعد في هذه الركعتين الأوليين خفيفتين على ما بين في حديث زيد بن خالد، فيكون العدد بهما(2) ثلاث عشرة(3)، وبترك حسابهما إحدى عشرة، وعليه - إن شاء الله - يحمل حديث واصل الذي ذكر فيه أنه صلى ركعتين وذكر من طولهما، ثم فعل ذلك ثلاث مرات ست ركعات، تحمل على غير الركعتين الأوليين فيكون العدد ثمانيًا، ثم الوتر ثلاث، فهذه إحدى عشرة، ثم يعد ركعتي الاستفتاح الخفيفتين ؛ إذ ليست في هذا العد خفيفة، إذ قدر ذكر تطويل الركعتين الأولتين(4) هنا، فدل أنهما غير الخفيفتين فيتم العدد ثلاث عشرة، وتتفق الأحاديث ولا تختلف - إن شاء الله - على(5) أن حديث واصل الذي خالف الجمهور قد اختلف عليه فيه عن حبيب بن أبي ثابت واضطرب فيه كثيرًا، فعنه فيه - فيما ذكر الدارقطني - سبعة أقاويل، وقد غمزه بذلك، وهو مما استدركه على مسلم لاضطراب قوله واختلاف روايته.
__________
(1) في (هـ):" وتر ".
(2) في (ط) و(هـ):" بها ".
(3) في (هـ):" عشرة ركعة ".
(4) في (أ):" الأولتين ".
(5) في (هـ):" إلا ".(3/311)
وقوله: "حين انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل "، دليل على ما يلزم من تحرى القول في الرواية وترك المسامحة، وهكذا كان وقت قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما كان في الشطر الآخر من الليل، وتحقيق ذلك يخفى على كثير من الناس، لا سيما على صبي ابن عشر سنين، وأما في حق النبي - عليه السلام - فوقت معلوم كما تقدم.
وقوله: " ثم أوتر ثم اضطجع "، تقدم الكلام عليه، وأن هذه الضجعة كالضجعة المذكورة بعد ركعتي الفجر، لكن جاء في بعض روايات مسلم: "ثم احتبى حتى إني لأسمع نفسه "، يحتمل أن احتباءه(1) كان قبل اضطجاعه، فخبر(2) مرة عن حالة، ومرة(3) أخرى(4) عن(5) أخرى.
وقوله:" فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نفخ " ثم ذكر أنه " خرج ولم يتوضأ " يفسره ما قال سفيان: هذا للنبى - صلى الله عليه وسلم - خاصة ؛ لأنه كان تنام عينه ولاينام قلبه. وقد تقدم الكلام على نومه - عليه السلام - قبل، والخلاف في النوم، أهو حدث ؟ أم سبب للحدث ؟ ويكون الفرق بين حاليه في النوم ووضوئه أولاً ما بين الصلاتين زيادة اضطجاعه مع أهله بين صلاتيه وعدمها أخرى.
وقوله: في الرواية الأخرى:" فأخلفني فجعلني عن يمينه "، قال ابن دريد: أخلف الرجل يده إلى سيفه عطفها ليستله، وعندي: أن معناه(6): أدارني من خلفه كما جاء مفسرًا في الرواية المتقدمة.
__________
(1) في (هـ):" الاحتباء ".
(2) في (هـ):" فأخبر ".
(3) قوله:" مرة " ليس في (أ) و(ط).
(4) قوله:" أخرى " ليس في (هـ).
(5) في (هـ):" عن حالة ".
(6) في (ط):" معنى ".(3/312)
وقوله في الرواية الأخرى:" فترقبت كيف يصلى "، كذا رواه أبو الفتح الشاشي، ورواه العذري: " فبغيت "، أي طلبت، ورواه الطبري والهوزني: " فبقيت " بالقاف، ورواه البرقاني في صحيحه:" فرمقت، أي نظرت. قال بعض شيوخنا وأصحها:" فبقيت "، وهو بمعنى ترقبت، على(1) ما تقدم في الحديث الآخر في "صحيح البخاري".
وقوله في دعائه:« اللهم اجعل لي في قلبى نورًا، وفي بصري نورًا » إلى قول كريب: وذكر:" سبعا في التابوت " بمعنى: أنه دعا بسبع في أشياء أنسيها. قال بعضهم: فمعنى " في التابوت "، فنسيتها، كما قص عليه في الحديث الآخر، وقائل هذا عن كريب هو مسلمة(2) بن كهيل وهو القائل بعد: " فلقيت بعض ولد العباس فحدثني بهن، وذكر عصبي ولحمي ودمي وشعري" الحديث. وبهذا يحتمل أنه أشار بالتابوت إلى ما انطوى عليه الجسد من أجزائه، والله أعلم. وبيان ما قلناه بعد هذا في الحديث الآخر.
قوله:" ودعا رسول الله ليلتئذ تسع عشرة كلمة ". قال سلمة: حدثنيها كريب فحفظت منها ثنتى(3) عشرة، ونسيت ما بقى، وظاهر الحديث الأول على التقسيم(4) الأول أن النسيان من كريب، ومعنى ما دعا به هنا: أن يجعل من(5) النور في نفسه وسمعه وبصره وما سمى من أعضائه وفوقه وتحته ويمينه وشماله وأمامه وخلفه.
__________
(1) في (هـ):" وهو على ".
(2) في (هـ):" سلمة ".
(3) في (هـ):" اثنا ".
(4) في (ط) و(هـ):" التفسير ".
(5) قوله:" من " ليس في (ط).(3/313)
وقوله:« واجعلنى نورًا(1)، واجعل(2) لي نورًا، وأعظم لي نورًا، وأعطني نورًا "، معنى النور هنا: بيان الحق والهداية إليه، دعا أن تستعمل جميع أعضائه وجسمه وتصرفاته وتقلباته وجميع حالاته وجملته في جهاته الست في الحق، وضياء الهدى حتى لا يزيغ(3) شيء منها عنه ولا يطغى، وقيل: يحتمل أن يكون المراد بالنور هنا في أعضائه: قوتها بالحلال الذي منه قومها، وأن(4) القلب يصلح بأكل الحلال، وتحسن معه الأخلاق، وينشرح له(5) الصدر، ويصفو الخاطر، وينصقل الفهم(6)، وأكل الحرام ضد هذا.
وفي قوله في بعض روايات هذا الحديث:" فتحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أهله ساعة، ثم رقد "، دليل على جواز هذا مع الأهل، وفيما يحتاج إليه، وفي العلم، وللمسافر، والعروس، ومع الضيف والنهي الوارد فيه إنما هو من أجل التغرير بتطويله حتى يضرب النوم على الإنسان فتفوته صلاة الصبح أو القيام لحزبه إن كان من أهله، ومخافة ما يعتريه من الكسل بالنهار عن عمل البر وسبل الخير بسبب سهر الليل ؛ ولأن عادة العرب إنما كان جلَّ حديثها في أنديتها بالليل لبرد الهواء وحر بلادها بالنهار، وشغلها في طرفيه بالغادات والضيفان، وقد تقدم من هذا وحديث زيد بن خالد في قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عشرة ركعة من نحو حديث ابن عباس، وفي ارتقابه صلاته - عليه السلام -، وقوله في غير "الأم":" فتوسدت عتبته " يحتمل أن هذا كان في حين سمعه قام يصلى لا قبل ذلك لقربه منه، بحيث كان يمكن سماعه لغير ذلك من أمور ماينهى عن التحسس والتجسس فيه، ويكره الاطلاع عليه، وأما لترقبه لصلاته وشبهها فهو من التجسس المحمود الذي لا حرج فيه.
__________
(1) قوله:" نورًا " ليس في (ط).
(2) في (ط):" اجعل ".
(3) في (هـ):" يرتفع "،، وفي حاشيتها:" يزيغ ".
(4) في (ط) و(هـ):" فإن ".
(5) في (ط):" ويشرح له ".
(6) في (هـ):" الذهن ".(3/314)
[وقوله في ابتدائه:" فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين"، هذه الركعتان كان يستفتح بهما - صلى الله عليه وسلم - قيام ليله(1)، وقد ذكره مسلم في الباب](2) من حديث عائشة وذكر في حديث أبي هريرة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -:" من قام من الليل أن يستفتح صلاته بركعتين خفيفتين " بمعنى هذا، والله أعلم.
وبهاتين(3) الركعتين ثم عدد(4) زيد بن خالد ثلاث عشرة(5) فهو بينه على ما ذكرناه في تلفيق الروايات، وفيه أن الوتر واحدة ؛ لأن تمام عددها اثنتا(6) عشرة، ثم قال:" ثم أوتر " فتلك ثلاث عشرة.
وقوله:" فانتهينا إلى مشرعة فقال: ألا(7) تشرع(8)؟" بضم التاء، رباعي ويروى بفتحها.
وقوله:" فاشرعت، المشرعة والشريعة: الطريق إلى ورود الماء من حافة نهر أو بحر، يقول: ألا تأتي للمشرعة(9) فتقضي من الماء حاجتك وتشرب منها بفيك بغير آلة، والمعروف في هذا(10) شرعت، ثلاثي إذا فعلت ذلك، وأشرع ناقته، يحتمل(11) ما جاء رباعيًّا على هذا.
وقوله:" فقمت خلفه، فأخذ بأذني فجعلني عن يمينه "، بمعنى ما جاء في حديث ابن عباس من الفوائد والمعاني.
قال الإمام: وقوله:« لك الحمد أنت نور السموات والأرض »، وقول الله:{ الله نور السموات والأرض }، قيل: معناه: منور السموات والأرض أي خالق نورهما.
__________
(1) في (هـ):" ليلته ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(3) في (أ) و(ط):" هذه ".
(4) في (ط):" تم حديث " بدل:" ثم عدد ".
(5) في (هـ):" عشرة ركعة ".
(6) في (هـ):" اثنا ".
(7) في (ط) و(هـ):" لا ".
(8) في (هـ):" شرعوا ".
(9) في (ط) و(هـ):" المشرعة ".
(10) قوله:" في هذا " ليس في (ح).
(11) في (ط) و(هـ):" يحمل ".(3/315)
قال القاضي: قال أبو عبيد: معناه: بنورك يهتدى أهل السموات والأرض، قال الخطابي في تفسير اسمه النور: معناه الذي بنوره يبصر ذو العماية وبهدايته يرشد ذو الغواية، قال: ومنه قوله تعالى:{ الله نور السموات والأرض }، أي: منه نورهما، قال: ويحتمل أن يكون معناه ذو النور ولا يصح أن يكون النور صفة ذات له وإنما يكون صفة فعل ؟ إذ هو خالقه وموجده. وحكى غيره عن مجاهد وابن عباس معناه: مدبر شمسهما وقمرهما ونجومهما، قال أبو القاسم القشيري: وهو منور الآفاق بالنجوم والأنوار، ومنور القلوب بالدلائل، وقيل: المراد بنور السموات والأرض هنا: القرآن، وقيل: محمد - صلى الله عليه وسلم -، وروي عن ابن عباس معناه: هادي أهل السموات والأرض.(3/316)
قال القاضي: حقيقة النور أنه(1) الذي به تنكشف الأمور وتظهر المخبات وتنكشف(2) الحجب والسواتر به، وهو معنى يقوم بالأجسام، وربما سميت الأجسام الملازمة بالوصف بهذه الأوصاف أنوارًا، إذ لاتخلو منها فهو كله خلق من خلق الله وفعل من أفعاله فهو منوّر الآفاق بهذه الأنوار، فيزيل عنها الظلام، ويكشف اللبس والغشا من الأبصار، فيسلكون به سبلهم ويهتدون به إلى شؤونهم، فيهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وسمى القرآن بذلك ؛ لهداية قلوب المؤمنين به(3)، وكشف الريب والشك، وأيضًاح سبل الحق وطرق الهدى والرشد، وسمى النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ؛ إذ به هداية جميع المؤمنين، وهو المبين لهم عن الله والموضح لهم شريعته(4) ومخرجهم من ظلمات الكفر، والله تعالى فاعل ذلك كله، فهو النور وذو النور، قال الله تعالى:{ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور }، وليست ذاته بنور ولا هو صفة له على هذا المعنى الذي ذكرناه خلافًا لمن قال ذلك من الْمُجَسّمة، بل هو تعالى نور من حيث هو خالق النور، وجاعله أو(5) مدبر خلقه بذلك، فيكون صفة فعل أو من حيث هو مبين وهاد بإرادته وقدره بذلك(6) وقدرته، فيكون صفة ذات، أو على لسان أنبيائه وجعل(7) ذلك في قلوب أوليائه فيكون صفة فعل، وقد مر من هذا أول الكتاب.
__________
(1) قوله:" أنه " ليس في (هـ).
(2) في (ط) و(هـ):" ترتفع ".
(3) قوله:" به " ليس في (أ).
(4) في (ط) و(هـ):" شريعتهم ".
(5) في (هـ):" و ".
(6) قوله:" بذلك " ليس في (ط) و(هـ).
(7) في (ط) و(هـ):" وجاعل ".(3/317)
وقوله:« أنت قيام السموات والأرض »، في أسمائه: قيام، وقيوم، وقد قرئ بهما " قيام " فيعال " وقيوم فيعول من القيام بالأمور على المبالغة، وقائم أيضًا، وقد جاء في القرآن، وقيم أيضًا، وقد جاء في هذا الحديث في "الأم" أيضًا، ويقال: قيم أيضًا، قال الهروي: ويقال في هذا: قوّام أيضًا، وقد جاء عند بعض رواة "الموطأ" من شيوخنا:"قيام ". قيل: أما قيام وقوام فجمع، قال ابن عباس: القيوم الذي لايزول، وقال غيره: القائم على كل شيء، ومعناه:مدبر أمر الخلق فمعنى هذا على القول الأول راجع إلى صفة البقاء والدوام، وعلى الثاني راجع إلى معنى الحفظ والتدبير، قال الله تعالى: { أفمن هو قائمٌ على كل نفس بما كسبت }، وقال:{ ولا يؤده حفظهما(1)}، وهذان المعنيان صحيحان في تفسير الآية والحديث.
وقوله:« أنت رب السموات والأرض »، للرب ثلاثة معان، السيد المطاع والمالك والمصلح لكن إذا كان بمعنى السيد المطاع فقد قال بعضهم: إنه لايقع إلا على من يعقل ولا يصلح هذا التأويل إلا أن يجعل " العالمين " في قوله:{ رب العالمين } على الجن والإنس، والى هذا نحا أبو سليمان، إذ قال: لايصح أن يقال: سيد الجبال والشجر.
قال القاضي: لا معنى لهذا، والكل له طائع منيب، قال الله تعالى: {قالتا أتينا طائعين }.
__________
(1) في (ط) زيادة:"{ وهو العلي العظيم }".(3/318)
وقوله:« أنت الحق »، الحق من أسماء الله تعالى، قيل: معناه: المتحقق وجوده وكل شيء صحّ كونه ووجوده فهو حق، ومنه:{ الحاقة }، أي: الكائنة حقًّا بغير شك، ومنه قوله بعد هذا:« لقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق »، وقد يحتمل أن يكون المراد بهذا أن الخبر عنه حق، أي: صدق، وقيل: يكون بمعنى ذي الحق، وقيل: بمعنى محق الحق، وقيل(1): يحتمل في هذا الحديث أن يكون معناه: أنت الحق دون غيرك ممن يدعي المشركون إلهيته، كما قال تعالى:{ ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو(2) الباطل}، ويعود هذا المعنى إلى(3) أن القول بأنك إله حق، أي صدق، وفي غيرك باطل وكذب.
وقوله:« ووعدك حق »،:يحتمل أنه راجع إلى ما جاء بعده وقوله: «ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق »، فهو من وعد الله تعالى، قال الله تعالى:{ إن وعد الله حق }، ويكون هنا بمعنى كائن ولازم، ويصح أن يكون بمعنى أن(4) الخبر عنه صدق، وقد يحتمل أن(5) يكون الوعد هنا ما وعد به أولياءه من الثواب وحسن الجزاء، وأعداءه من العقاب والشقاء، كما قال: { جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب(6)}، ويكون حق بمعنى: صدق ؛ كما قال: {إنه كان وعده مأتيًا }، { وإن الله لا يخلف الميعاد }، إلا أن يتفضل بالعفو عن من شاء(7).
وقوله:« ولقاؤك حق »، يعني الموت، ويحتمل أنه البعث.
__________
(1) في (هـ):" وقد ".
(2) قوله:" هو " ليس في (ط) و(هـ).
(3) قوله:" إلى " ليس في (هـ).
(4) قوله:" أن " ليس في (هـ).
(5) في (هـ):" وقد " بدل:" أن ".
(6) قوله:" بالغيب " ليس في (أ) و(ط).
(7) في (ط) و(هـ):" شاء قبل ".(3/319)
وقوله:« اللهم لك أسلمت »، أي: استسلمت وانقدت لأمرك ونهيك، وبك آمنت: أي صدقت، وجاء هنا التفريق بين الإيمان والإسلام، وقد تقدم الكلام عليه أول الكتاب. وقوله:« وإليك أنبت »، أي: أطعت ورجعت إلى عبادتك، والإقبال على(1) ما يقرب إليك، والإنابة: الرجوع، وقيل: إليك رجعت في أمري، بمعنى: توكلت واستعنت.
وقوله:« وبك خاصمت »، أي بما آتيتنى من الحجج والبراهين خاصمت من عاندك وكفر بك، وخاصم فيك بسيف أو لسان.
وقوله:« وإليك(2) حاكمت »، أي: كل من أبى قبول الحق إليك أحاكمهم بالحجج والسيف دون غيرك، ممن كان تحاكم(3) إليه الجاهلية من الكهان والأصنام والنيران والشياطين، لا أرضى إلا بحكمك، ولا أتوكل إلا عليك، كما قال تعالى:{ ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين }، و { أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون }، وكما قال في الحديث بعده ودعائه بهذه الآية نفسها.
وقوله:« فاغفر لي ما قدمت وما أخرت »: يحتمل فيما مضى، ويحتمل فيما مضى ويأتي، ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل هذا من المغفرة وشبهها مع إعلام الله تعالى أنه مغفور له، ومع ما قدمناه وصححناه من أصح القولين بعصمته من جميع الذنوب، على طريق الإشفاق والاعتراف والاستسلام وخوف المكر، إنه { لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون }، ولتقتدي به أمته، ويشتد إشفاقهم بحسب حالهم من حاله ومقامهم من مقامه وقد بسطنا هذا الباب(4) في كتاب "الشفا" بما فيه كفاية.
وفي هذا وغيره - من الأحاديث التي ذكر(5) مسلم - مواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - على الذكر بالليل والدعاء والاعتراف لله بحقوقه والإقرار بوعده ووعيده والخضوع له والضراعة إليه ما يقتدى به فيه - عليه السلام -.
__________
(1) في (هـ):" إلى ".
(2) قوله:" إليك " ليس في (ط).
(3) في (هـ):" تتحاكم ".
(4) في (هـ):" بسطنا القول "،، وفي حاشيتها:" هذا الباب".
(5) في (هـ):" ذكرها ".(3/320)
وقوله في الآية في الحديث الأول:« وأنا من المسلمين »، وروي:« أول المسلمين » على ما في التلاوة وعلى ما(1) في الحديث الآخر، وجه قوله من أنه لم يرد تلاوة الآية هنا، بل الاخبار بالاعتراف بحاله.
وقوله في الحديث الآخر:« رب جبريل وإسرافيل وميكائيل »، وتخصيصهم بربوبيته وهو رب كل شيء، وجاء مثل هذا كثير من إضافة كل عظيم الشأن له دون ما يستحضر عند الثناء والدعاء، مبالغة في التعظيم، ودليلاً على القدرة والملك فيقال: رب السموات والأرض، ورب النبيين والمرسلين، ورب المشرق والمغرب، ورب العالمين، ورب الجبال والرياح، ورب(2) البحار، ورب الناس، ومثله مما جاء في القرآن وفي(3) الحديث خصوصًا ولم يأت ذلك خصوصًا فيما يستحقر ويستصغر ويستقذر كالحشرات والكلاب والقردة إلا بسبيل العموم.
وقوله:« اهدني لما اختلف فيه من الحق »، أي ثبتني مثل قوله:{ اهدنا الصراط المستقيم }، وتقدم(4) الكلام على معنى:« لبيك وسعديك ».
وأما قوله:« والخير كله في يديك، والشر ليس إليك » قال الخطابي: معنى هذا الكلام: الإرشاد(5) إلى استعمال الأدب في الثناء على الله والمدح له بأن تضاف محاسن الأمور إليه دون مساوئها ومذامها.
قال الإمام: تتعلق به المعتزلة في أن الله لا يخلق الشر ونحمله نحن على أن معناه: لا يتقرب إليك بالشر.
قال القاضي: وقوله: " أنا بك واليك " اعتراف بالعبودية واللجأ.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" ما جاء ".
(2) قوله:" ورب " ليس في (هـ).
(3) قوله:" في" ليس في (ط) و(هـ).
(4) في (هـ):" وقد تقدم ".
(5) في (هـ):" الإشارة ".(3/321)
وقوله:« لك الحمد ملء السموات والأرض وما بينهما »، قيل: هو محتمل لطريق الاستعارة ؛ إذ الحمد ليس بجسم فيقدر بالمكاييل وتسعه الأمكنة والأوعية، فالمراد تكثير العدد، كما لو كان مما يقدر بمكيال أو ما يملأ الأماكن لكان بهذا المقدار، وقيل: يحتمل أن يعود ذلك التقدير لأجورهما وقيل: يحتمل التعظيم والتفخيم لشأنهما، وقد قيل: جاء(1) أن الميزان له كفتان كل كفة طباق السموات والأرض، وقد جاء في الحديث الآخر: أن الحمد يملأ الميزان، فعلى جمع الحديثين جاء الحمد ملء السموات والأرض والتأويل الأول أظهر لما جاء في الحديث الآخر:" سبحان الله عدد خلقه وزنة عرشه »، الحديث، فظاهره تكثير العدد وكذلك هنا، والملء -بكسر الميم - الاسم، وبفتحها المصدر.
وقوله:« سجد وجهي للذى خلقه وصوره وشق سمعه وبصره ».
قال الإمام: يحتج به من يقول أن الأذنين من الوجه يغسلان ؛ لأنه - عليه السلام - أضاف السمع إلى الوجه واختلف في حكمهما، فقيل: يمسحان لأنهما من الرأس، وقيل: يغسلان كما ذكرنا، وقيل: أما باطنهما فيغسل مع الوجه، وأما ظاهرهما فيمسح مع الرأس.
قال القاضي: وقوله:« أنت المقدم وأنت(2) المؤخر »، قيل: المنزل للأشياء منازلها يقدم ما شاء ويؤخر ما شاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء، وجعل عباده بعضهم فوق بعض درجات، وقيل:هو بمعنى الأول والآخر ؛ لأنه إذا كان مقدم كل شيء متقدم فهو قبله ومؤخر كل متأخر فهو بعده، ويكون المقدم والمؤخر بمعنى الهادي والمضل قدم من شاء لطاعته لكرامته وأخر من شاء بقضائه لشقاوته، وقد تقدم الكلام على التوجيه وعلى الذكر في الركوع والسجود والدعاء فيهما والدعاء في الصلاة. وفي هذه الأحاديث حجة للقائلين بذلك.
__________
(1) قوله:" جاء " ليس في (أ).
(2) قوله:" أنت" ليس في (هـ).(3/322)
وقول ابن مسعود حين طول النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الليل:" هممت بأمر سوء"، وفسره للسائل:" أن أجلس وأدعه "، هذا لما ناله من المشقة والضرورة لطول القيام، وسمّاه مع ذلك سوءًا، ففيه أن الخلاف على الأئمة ومناقضتهم سوء وقد قال - عليه السلام -:« إنما جعل الإمام ليؤتم به »، لكن لم يختلف لمن نابه مثل هذا في النافلة أو الفريضة خلف الإمام، وشق عليه القيام أن يجلس، لكنه في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - وتغيير أمره شديد.
وفي هذا الحديث: ما كان من تطويل النبي - عليه السلام - صلاة النافلة بالليل، وحجة لمن يرى طول القيام أفضل.(3/323)
وقوله: " يقرأ مترسلاً، إذا مر بآية تسبيح سبح، واذا مر بسؤال سأل" الحديث، فيه حكم آداب تلاوة(1) القرآن في الصلاة وغيرها، واستعمال حدود كتاب الله. وتقديمه هنا النساء على ال عمران حجة لمن يقول: إن ترتيب السور اجتهاد من المسلمين حين كتبوا المصحف لم يكن ذلك من تحديد النبي - عليه السلام - وإنما وكله إلى أمته بعده وهو قول جمهور العلماء، وهو قول مالك واختيار القاضي أبي بكر الباقلاني وأصح القولين عنده، مع احتمالهما. قال: والذى نقوله: إن تأليف السور ليس بواجب(2) في الكتابة ولا في الصلاة، ولا في الدرس ولا في التلقين والتعليم، وإنه لم يكن من(3) الرسول في ذلك نص وحدّ لا يحل(4) تجاوزه ؛ فلذلك اختلفت تأليفات(5) المصاحف قبل مصحف عثمان، واستجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - والأمة بعده في سائر الأعصار ترك الترتيب للسور في الصلاة والدرس والتلقين والتعليم، وعلى قول من يقول من أهل العلم: إن ذلك توقيف من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى ما حده ورسمه لهم حسب ما استقر(6) في مصحف عثمان، وأن موجب اختلاف المصاحف قبل في التوقيف، إنما كان قبل الترتيب وعلى ما جاء هنا كانت هاتان السورتان في مصحف أبي، ولا خلاف أنه يجوز للمصلى في الركعة الثانية أن يقرأ بسورة قبل التي صلي بها في الأولى، وإنما يقع الكراهية بذلك في ذلك(7) في ركعة واحدة أو لمن يتلو القرآن وقد أجاز هذا بعضهم وتأرل نهى من نهى من السلف عن قراءة القرآن، منكوسًا أن يقرأ من آخر السورة آية بعد آية إلى أولها كما يفعل من يظهر قوة الحفظ، ولا خلاف أن تأليف كل سورة وترتيب آياتها توقيف من الله تعالى على ما هى عليه الآن في المصحف، وعلى ذلك
__________
(1) قوله:" تلاوة " ليس في (أ).
(2) في (هـ):" واجبًا ".
(3) في (هـ):" عن ".
(4) في (هـ):" يصح ".
(5) في (هـ):" اختلف تأليف ".
(6) قوله:" استقر " ليس في (هـ).
(7) قوله:" ذلك " ليس في (هـ) و(ط).(3/324)
نقلته(1) الأمة عن نبيها - عليه السلام -.
وقوله: " فجعل يقول في ركوعه: سبحان ربى العظيم، وفي سجوده: سبحان ربى الأعلى "، يحتج به الكوفيون والأوزاعي والشافعي، ومن قال بقولهم في اختيار هذا القول في الركوع والسجود للأثر الوارد في الأمر بذلك ولم يوجبوه، ومالك لم يحد في الذكر فيهما حدًّا، إلا أنه كره القراءة في الركوع، وقد مضى ذلك.
وقوله:" إذا قام من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين "، وفي الحديث الآخر:" أمره بذلك لمن قام به(2)"، ووجه الحكمة فيه رياضة النفس والجسد بهما، وذهاب الكسل عنه فيهما(3) ليستقبل(4) قيام ليله بنشاط(5) واجتماع نفس، وعلى أتم وجوه الخشوع والكمال.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للذى نام حتى أصبح:« بال الشيطان في أذنيه(6)»، قال المهلب: هذا على سبيل الإعياء(7) بتحكم الشيطان في العقد على رأسه بالنوم الطويل، وقال ابن قتيبة: يقال: والعرض الآخر فلعل فعله هذا كان قبل التوقيف، بال في كذا إذا أفسده. وأنشد:
كساع إلى أسد الشرا يستبيلها
أي: يطلب مفسدتها.
قال القاضي: وللناس في معنى هذا البيت غير هذا، ليس هذا مكانه، وقال أبو بكر بن أبي إسحاق: يكون معناه: استخف به واستحقره واستعلى عليه، كما قال تعالى:{ استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله }، وقد يقال لمن استخف بالإنسان وخدعه: بال في أذنه، وأصل ذلك دابة يهابها الأسد فتفعل ذلك به.
__________
(1) في (هـ):" نقلت ".
(2) قوله:" به " ليس في (هـ) و(ط)، ويوجد بياض في (أ).
(3) في (هـ):" فيما ".
(4) في (هـ):" يستقبل ".
(5) في (ط):" نشاطا ".
(6) في (هـ):" أذنه ".
(7) في (أ):" الإغماء "، وفي (هـ):" الاعناء ".(3/325)
قال القاضي: ذكر صاحب كتاب "الحيوان" من اليونانيين: أنه النمر، وأنه يستطيل على الأسد في بعض البلاد حتى يفعل ذلك به ليذلّه، قال أبو بكر: ويجوز أن يكون معناه: أخذ بسمعه عن نداء الملك ثلث الليل:" هل من داع فيستجاب له " الحديث، وشغله له بوسوسته وتزينه له النوم وتحديثه بذلك في أذنه كالبول فيهما(1)؛ لأنه قذر نَجس خبيث وأفعاله كلها قذرة خبيثة. وقال الحربي: بال هنا معناه: ظهر عليه وسخر منه. قال الطحاوي: هو استعارة لا على الحقيقة وعبارة عن الطوع وفعل أقبح الفعل بالنوَّام ومن يذل ويقهر.
قال القاضي: ولا يبعد أن يكون على وجهه وقصد الشيطان بذلك إذلاله ونهاية طاعته له، وتأتى ما أراد منه من استغراقه، في نومه حتى فعل به ذلك، وقد يكون " بال في أذنه " كناية عن ضرب النوم واستغراقه، وخص ذلك بالأذن كما خصها في قوله تعالى:{ فضربنا على آذانهم في الكهف }، والله أعلم، ولأن الأذن حاسة المنتبه(2) بكل حال، وموقظة النائم بما يطرأ عليه من الأصوات.
__________
(1) في (هـ):" فيه "، وفي (ط):" فيها".
(2) في (ط):" المتنبه ".(3/326)
قال الإمام: خرّج مسلم في باب الحض على صلاة الليل: حدثني قتيبة بن سعيد، نا الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن على بن حسين، أن الحسن بن علي، حدثه عن علي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طرقه وفاطمة ليلاً(1)، فقال:«ألا تصليان» الحديث. قال الدارقطني: كذا رواه مسلم عن قتيبة: أن الحسن بن على، وقد تابعه على ذلك إبراهيم بن نصر النهاوندي والحنيني، وخالفهم النسائي والسراج وموسى بن هرون عن قتيبة قالوا: أن الحسين بن علي،[ وكذا قال أصحاب(2) الزهري، منهم صالح بن كيسان وابن جريج وإسحاق بن راشد، وابن أبي أنيسة وابن أبي عتيق وغيرهم عن الزهري، عن على بن حسين بن علي، عن أبيه، عن علي، وكذا وقع في نسخة الجلودي: الزهري عن على بن حسن أن الحسن بن علي ](3) حدثه، وفي نسخة ابن ماهان: عقيل، عن الزهري، عن على بن حسين بن على بن أبي طالب، هكذا روي عنه، وأسقط من الإسناد رجلاً قاله عنه أبو زكريا الأشعري، وابن الحذاء، والصواب ما تقدم.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" ليلة ".
(2) قوله:" أصحاب " ليس في (هـ).
(3) مابين المعكوفين ليس في (ط)، ومن قوله:" وكذا وقع... " إلى هنا ليس في (أ).(3/327)
قال القاضي: وفي كتاب ابن الحذاء: الحسن، وذكر أبو الحسن الدارقطني: أن معمرًا أرسله عن الزهري، عن على بن حسين، قال: وكذلك قال مسعر، عن عقبة بن قيس، عن علي بن حسين مرسلاً، وصوّب قول من قال: عن على بن حسين، عن أبيه، عن علي. قال(1): وكان في كتاب الليث: الحسن، فقيل له: إنما هو الحسين فرجع إليه، وقال موسى بن هرون: وكان في كتاب قتيبة: الحسن. وفي الحديث فضل الصلاة بالليل والحض عليها. قال أبو جعفر الطبري: وإيقاظ النبي - صلى الله عليه وسلم - لهما(2) من نومها في وقت جعله الله سكونا ودعة لما علم من ثواب الله في ذلك، وفيه أمر قيم القوم لمن يقوم عليهم بفعل الخيرات ووجوه البر وحضهم على الرغائب وما ليس بواجب، قال غيره: وعنه(3) أنه ليس للإمام أن يشتد في النوافل، وإنما يحض ويحث عليها(4)؛ إذ ليست بواجبة لانصراف النبي - صلى الله عليه وسلم - عنهما ولم يرجع شيئًا، كما جاء في الحديث. وقول(5) علي:" أنفسنا بيد الله "، من قول الله تعالى:{ الله يتوفى الأنفس حين موتها } الآية، وضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - فخذه، وقوله:{ وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً }، استشهاد بقول الله تعالى وتسليم لحجتهما وحجة في صحة الجدل بالحق، قال الله تعالى:{ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن}. وقال المهلب: فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك يدل أنه فهم أنه أحرجهما بإيقاظهما من نومهما.
قال القاضي: وهذا عندي غير بين، بل لا دليل على الحرج، بل إنما استدل بالآية عليٌّ عذرًا بذلك، وانقبضا(6) استحياء منه لطروقه إياهما في حال اضطجاعهما، ويكون فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فعل، وقال تعجبًا من سرعة حجته وإصابة عذره.
__________
(1) قوله:" قال" ليس في (هـ).
(2) قوله:" لهما " ليس في (أ).
(3) في (ط) و(هـ):" وفيه ".
(4) في (ط):" عليهما ".
(5) في (هـ):" وقوله ".
(6) في (هـ):" انقباضه ".(3/328)
وفيه حجة لجواز الضرب على الفخذ عند الأمر ينكر. ومعنى:"طرقه": أي أتاه ليلاً، والطروق ما جاء بالليل.
وقوله:« يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد إذا نام، بكل عقدة: عليك ليل طويل فارقد »، القافية: مؤخر(1) الرأس، وقيل: القفا، وآخر كل شيء قافيته، ومنه: قافية الشعر، وقيل في عقده هذا أنه حقيقة وأنه بمعنى عقد السحر للإنسان ومنعه من القيام، قال الله تعالى:{ ومن شرِّ الثقاثات في العقد }، وأنه قول يقوله فيؤثر فيه كما يقول الساحر، ويحتمل أن يكون فعلاً يفعله، مثل(2) النفاثات في العقد.
وقوله:« يقول: عليك ليل طويل فارقد »، أي: أن ذلك مقصود ذلك العقد، وقيل: هو من عقد القلب وتصميمه وقد فسّر هذا العقد بقوله: "عليك ليل طويل(3)"، كأنه يقولها إذا أراد النائم القيام لحزبه، فيؤثر ذلك في نفسه، ويعقد(4) صدفه حتى يصبح، ويفوته حزبه، وقيل: هو مجاز كنى به عن حبس الشيطان وتثبيطه عن قيام الليل، وقال بعضهم: هذه العقد الثلاث هى الأكل والشرب والنوم ؛ لأن من أكثر الأكل والشرب كثر نومه، وهذا عندي بعيد لقوله في الحديث:« إذا نام »، فإنما جعل العقد حينئذ. وفي رواية أكثرهم عن مسلم:« عليك ليلا طويلا »، على الإغراء بنومه، ومن رفع فعلى الابتداء، أو على الفاعل بإضمار فعل أي بقى عليك.
__________
(1) في (هـ):" مؤخرة ".
(2) في (هـ):" كما تفعل " بدل:" مثل ".
(3) في (هـ):" طويل فارقد ".
(4) في (هـ):" ويعتقد ".(3/329)
وقوله:« فإذا استيقظ فذكر الله انحلت عقدة »، ثم ذكر مثل ذلك إذا توضأ، ثم مثله إذا صلى على ما تقدم ؛ إمّا حل عقدة السحر، أو اعتقاد طول الليل، أو انحلال ما نزغ(1) له به الشيطان وكفايته إياه. وقد اختلفت الرواية في الحرف الآخر بعد قوله:« فإذا صلى انحلت عقدة »،[ في غير مسلم](2) هل على(3) الإفراد كالذي قبله، أو " عقده(4)" على الجمع(5)، ومعناهما واحد ؛ لأن بانحلال العقدة الآخرة انحلت جميع العقد كما رواه مسلم:" انحلت العقد ".
وقوله:« فيصبح نشيطًا طيب النفس »، لسروره بما قدمه(6)، ورجائه في ثواب عمله، ونشاطه بزوال آخر سحر الشيطان عنه وكفايته إياه، ورجوعه خاسئًا عنه خائبًا من كيده.
وقوله:« وإلا أصبح خبيث النفس كسلان » بتأثير سحر الشيطان وبلوغه غرضه فيه وهمه بما فاته من حزبه، وجاز عليه من كيد عدوه. وليس قوله هذا مما يعارض به قوله:« بئس ما لأحدكم أن يقول: خبثت نفسى »، فإن ذلك النهي(7) عن أن يقوله الإنسان عن نفسه لاشتراك لفظة الخبث الذي هو تغير النفس وكسلها بالخبث الذي هو فساد الدين والكفر، قال الله تعالى:{ ليميز الله(8) الخبيث من الطيب } الآية، والنبى - صلى الله عليه وسلم - إنما أخبر بذلك عن صفة غيره فلا تعارض بينهما.
__________
(1) في (أ):" نازغ ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(3) في (ط) و(هـ):" هو ".
(4) قوله:" عقده " ليس في (هـ).
(5) في (هـ):" الجميع ".
(6) في (أ):" يقدم "، وفي (هـ):" تقدم ".
(7) قوله:" النهي " ليس في (هـ).
(8) لفظ الجلالة ليس في (هـ).(3/330)
قال الإمام: بوب البخاري عليه عقد الشيطان على رأس من لم يصل. وفي الحديث أنه يعقد على قافية رأس أحدكم وإن كانت منه الصلاة بعد ذلك. وإنما تنحل عقده بالذكر والصلاة، والذى يفهم من تبويب البخاري أن العقد إنما يكون(1) على رأس من لم يصل فقط، وقد يعتذر عنه بأنه إنما قصد من يستدام العقد على رأسه بترك الصلاة. وقدر من انحلت عقده كأنه لم يعقد عليه.
قال القاضي: قوله - عليه السلام -:« اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تجعلوها(2) قبورا »، هذا من التمثيل البديع حين شبه البيت الذي لا يصلي فيه بالقبر الذي لا يتألى(3) فيه من ساكنه عبادة، وشبه النائم ليله كله بالميت في قبره وكذلك تمثيله بالحي والميت ؛ لأن العمل إنما يتأتى من الحي، وقد يرجع التمثيل إلى صاحب البيت. وللعلماء في معنى الحديث قولان: فقال بعضهم: هذا في الفريضة ومن للتبعيض، أمروا بذلك ليقتدى بهم في صلاتهم من لايخرج من عيالهم ونسوانهم، قالوا: ولأن المتخلف عن الجماعة للصلاة في جماعة دونها غير متخلف، وقيل: بل هو في النافلة للتستر بها وللحديث:« أفضل الصلاة صلاة أحدكم في بيته إلا المكتوبة »، وقد تكون على هذا " من " عندهم زائده، كقوله: ما جاءنى من أحد، ولهذا كان حذيفة وبعض السلف لا يتطوعون في المسجد، وهذا مذهب الجمهور، وعليه يدل حديث مسلم في الباب في سبب ذلك في قيام الليل بالناس بقوله:« ظننت أن تكتب(4) عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم »، الحديث، وقد يصح أن تكون للتبعيض على أصلها، وأن من النافلة ما يصلى في المساجد كتحية المسجد، ورواتب الصلوات وغير ذلك، ومنها ما يصلى في البيوت. قالوا: ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أنكر التخلف عن صلاة الجماعة، وكن النساء يخرجن، وفي التعليم بالقول مقنع، ويصحح هذا قوله في الحديث الآخر: "
__________
(1) قوله:" إنما يكون " ليس في (ط).
(2) في (هـ):" تتخذوها ".
(3) في (ط) و(هـ):" يتأتى ".
(4) في (هـ):" كتب ".(3/331)
صلوا في بيوتكم ". وهذا يدل أنها النافلة ؛ ولقوله:« إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل في بيته نصيبًا من صلاته »، هذا يدل أنها النافلة.
وقوله:« إن الله جاعل في بيته من صلاته خيرًا »، فسر هذا الخير(1) في أحاديث أخر بأنها تحضره الملائكة وتنفر منه الشياطين، ويتسع على أهله، وترجم البخاري على هذا الحديث كراهية الصلاة في المقابر. كأنه استدل من قوله: " ولا تجعلوها قبورًا "؛ لأنها(2) لا تجوز فيها الصلاة. وهذه استثارة في الفقه بعيدة، والذى عليه الناس في تأويل الحديث ما قدّمناه، وأن مراده: لا تجعلوها كالقبور التي لا يصلى من فيها ولم يزد عليها.
وقوله:" احتجر النبي - صلى الله عليه وسلم - حجيرة بخصفة أو حصير "، أي: اقتطع موضعًا حجرة عن غيره، أو لهذه العبادة عن غيرها، والحجر: المنع، ومنه سميت الحجرة، وحجيرة بتصغيرها، والخصفة والحصير بمعنى، والخصف: ما صنع من خوص المقل والنخل.
وقوله:« عليكم من الأعمال ما تطيقون »، أي ما لكم بالمداومة عليه طاقة، ويحتمل الندب إلى تكلف(3) مالنا به طاقة(4) من العمل، ويحتمل النهي عن تكلف مالا نطيق والأمر بالاقتصار على مانطيق، وهو الأليق بنسق الحديث ويحتمل أن المراد بالعمل صلاة الليل ؛ إذ هي من عمل البر، إذ ورد بسببه، ويحتمل أن يحمل على جميع الأعمال الشرعية، قاله الباجي.
وقوله:« فإن الله لا يمل حتى تملوا »، وفي الرواية الأخرى:« لا يسأم حتى تسأموا »، وهما بمعنى السآمة: الملال.
__________
(1) في (ط) و(هـ):" الخبر ".
(2) في (هـ):" أنه ".
(3) في (هـ):" الندب على تكليف ".
(4) قوله:" طاقة " ليس في (ط).(3/332)
قال الإمام: الملالة التي بمعنى السآمة لا تجوز على الله، وقد اختلف(1) في تأويل هذا الحديث، فقيل: إنما ذلك على معنى المقابلة، أي: لايدع الجزاء حتى تدعوا العمل، وقيل: " حتى، هاهنا بمعنى الواو، فيكون قد نفى عنه جلّت قدرته الملل، فيكون التقدير، لا يمل وتملون، وقيل:" حتى " بمعنى حين.
قال القاضي: وقوله في الحديث(2):" فثابوا "، أي رجعوا إلى الصلاة مبادرين كذلك، وتقدم(3) الكلام على:" أحب العمل ما دوِّم عليه وإن قل".
وقولها: " كان عمله ديمة، أي دائم غير منقطع، ومنه سمى المطر المتوالى ديمة، يعني أن ما عمل من خير لم يكن يقطعه، ويتركه بل يداوم عليه، وقلنا: إن فضل ذلك للتخفيف في العبادة، ولأن في اتصال النية بالمداومة على عمله ما يربى على الإكثار من عمله مدة ثم يقطع، ولذلك ذكر مسلم في(4) الحديث:" كان آل محمد إذا عملوا عملا أثبتوه "، أي: لازموه، وداموا عليه. والآل هنا أظهر في القرابة، وآل البيت ألا تراه كيف حكاه بعد عن عائشة(5). ويحتمل أن المراد به من يختص به من فضلاء أصحابه وأتباعه وقد يراد به النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه، ويدل عليه قوله في الحديث الآخر:" وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى صلاة أثبتها ". والآل قد يقع على ذات الشيء، وعلى ما يضاف إليه، كما قال:" لقد أوتى مزمارًا من مزامير آل داود "؛ أي: داود(6)، وكما جاء في الحديث: "آل حم " وهذا نهي عن التكلف لما يشق لئلا يعجز عنه. فينقطع ثوابه وثواب النية فيه.
وقوله: " وكان يحتجزه(7) بالليل ويبسطه بالنهار " يعني الحصير، دليل على ما كان عليه من التقلل من الدنيا ومتاعها، وزهده - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) في (هـ):" اختلفوا ".
(2) في (هـ):" الحديث الآخر ".
(3) في (هـ):" مبادرين وقد تقدم ".
(4) قوله:" في " ليس في (أ).
(5) في (أ):" غائب ".
(6) قوله:" أي داود " ليس في (أ).
(7) في (ط):" يحجره ".(3/333)
وقوله: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد - وحبل ممدود بين ساريتين، قال:« ما هذا ؟» قالوا: لزينب تصلي، فإذا كسلت أو فترت استمسكت به، فقال: « حلوه، ليصلِّ أحدكم نشاطه(1)، فإذا كسل أو فتر قعد »، مما(2) تقدم من كراهية التكلف لما فيه مشقة من العبادة، وقد اختلف السلف في جواز مثل هذا من التعلق بالحبال وشبهها في الصلاة لطول النوافل وتكلف القيام، فنهى عن ذلك أبو بكر وكرهه وقطعها لمن فعلها. وقال حذيفة: إنما يفعل ذلك اليهود، ورخص في ذلك آخرون، وأما الاتكاء على العصى لطول القيام في النوافل فما أعلم أنه اختلف في جوازه والعمل به، إلا ماروي عن ابن سيرين في كراهة ذلك، وقول مجاهد: ينقص(3) من أجره بقدر ذلك، هو من باب قوله:« صلاة القاعد(4) على النصف من صلاة القائم »، واختلف فيه في الفرائض لغير ضرورة، فمذهب مالك وجمهور العلماء: أنه لا يجوز، وأنه لا يجزى من القيام ومن اعتمد على عصى أو حائط اعتمادًا لو زال سقط فسدت صلاته وكأنه لم يقم فيها. وأجاز ذلك جماعة من الصحابة والسلف منهم أبو سعيد الخدرى وأبو ذر، وغيرهم، وأما لضرورة وعند العجز عن القيام فيجوز، وهو أولى من الصلاة جالسًا، قاله مالك وغيره.
وقوله: في حديث الحولاء حين أُخبر أنها لا تنام الليل فقال(5):« لا تنام الليل !» ظاهره الإنكار لما تقدم من تكلف ما لا يطاق ويشق من العبادة، وقد جاء المعنى مفسرًا في حديث مالك في "الموطأ" قال:" فكره ذلك حتى عرفت الكراهية في وجهه ".
__________
(1) في (ط):" بنشاطه ".
(2) في (هـ):" هذا مما "، وفي حاشيتها:" هو".
(3) في (ط):" ينتقص ".
(4) قوله:" القاعد " ليس في (هـ).
(5) قوله:" فقال " ليس في (ط) و(هـ).(3/334)
وقد اختلف اختيار العلماء في إحياء الليل كله بالصلاة، واختلف فيه قول مالك، فمرة كرهه وقال: لعله يصبح مغلوبًا، وفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة، ثم قال: لا بأس به مالم يضر ذلك بصلاة الصبح، وقال: إن كان يأتيه الصبح وهو نائم فلا، وإن كان وهو به فتور أو كسل فلا بأس به.
وقوله:« إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم »؛ دليل على أنه لا يجب أن يقرب الصلاة من لايعقلها، ويؤديها على حقها، وأن يتفرع من كل ما يشغل عن الخشوع فيها، وقيل في(1) قوله تعالى:{ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى }، أنه من النوم، والحديث عام في كل(2) صلاة من الفرض والنفل، وحمله مالك على صلاة الليل، وفي هذا الباب أدخله، وعليه حمله جماعة من العلماء، لأن غالب غلبة النوم إنما هى في الليل، ومن اعتراه ذلك في الفريضة وكان في الوقت سعة، لزمه أن يفعل مثل ذلك وينام، حتى يتفرغ للصلاة، وإن ضاق الوقت عن ذلك صلى على ما أمكنه وجاهد نفسه ودافع النوم عنه جهده، ثم إن تحقق أنه أداها وعقلها أجزأته وإلا أعادها.
__________
(1) قوله:" قيل في " ليس في (ط).
(2) قوله:" كل " ليس في (هـ).(3/335)
قال الإمام: يحتج بهذا الحديث على من يرى أن(1) النوم ينقض الطهارة كالحدث ؛ لأنه لم يعلل بانتقاض الطهارة وإنما علل بأنه يسب نفسه، وقد اختلف الناس في هذه المسألة، فقال المزني(2): النوم ينقض الطهارة، قلَّ أو كثر، وذكر عن بعض الصحابة أنه لا ينقض الطهارة على أي حال كان، وغير هذين من العلماء يقول: ينقض على صفة، وما هذه الصفة ؟ أبو حنيفة يراعي الاضطجاع، ومالك يراعي حالة يغلب على الظن خروج الحدث فيها ولا يشعر، وما وقع بين أصحابه(3) من مراعاة ركوع أو سجود أو استثقال أو غير ذلك فإنما هو خلاف في حال، فبعضهم رأى تلك الحالة لا تشعر بالحدث معها، وبعضهم لم يرها، وأصل الفقه ما قلناه.
قال القاضي: قوله:" نعس ": النعاس: هو خفيف النوم، قال الشاعر:
وسنان أقصده(4) النعاس فرنَّقت في عينه سنة وليس بنائم
استدل بعضهم بقوله:" لعله(5) يذهب يستغفر فيسب نفسه "؛[ إذ ليس للإنسان أن يسب نفسه ](6)، ومعنى "يسب نفسه "، عندي هنا: الدعاء عليها ؛ لأنه إذا ذهب يستغفر ويدعو لنفسه وهو لا يعقل ربما قلب الدعاء فدعا على نفسه.
وقوله في الحديث الآخر:« إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه، فلم يدر ما يقول، فليضطجع »، من معنى الحديث الأول، لئلا يغير كلام الله، ويبدله ولعله يأتى في ذلك بمالا يجوز، من قلب معانيه، وتحريف كلماته، وهذا(7) أشد من الأول. ومعنى: استعجم عليه القرآن، أي: لم يفصح به لسانه، ولا انطلق به لغلبة النوم عليه، وعقلته(8) إياه.
__________
(1) في (هـ):" أن نعس ".
(2) في (هـ):" المدني ".
(3) في (هـ):" وقع لأصحابه ".
(4) في (ط):" أرقد ".
(5) قوله:" لعله " ليس في (ط) و(هـ).
(6) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(7) في (هـ):" وهو ".
(8) في (ط) و(هـ):" غفلته ".(3/336)
وقوله - عليه السلام - في الذي(1) سمعه يقرأ:« لقد أذكرني آية كذا(2)»، وفي الحديث الآخر:« كنت أنسيتها »، قد تقدم الكلام فيما يجوز على النبي - عليه السلام - من النسيان وجواز ذلك عليه ابتداء عند جمهور المحققين فيما ليس طريقه البلاغ، واختلافهم فيما طريقه البلاغ والتعليم، لكنه لايستديم ذلك عند من أجازه فيما كان طريقه البلاغ، بل يستذكره أو يذكر به على كل حال، على خلاف بين(3) أئمتنا، هل من شرط ذلك الفور ؟ أو يصح على التراخي قبل انخرام مدته ؟ وأما نسيان ما قد بلَّغه، كمسألتنا فجائز، ولا مطعن فيه، وقد قال - عليه السلام -:« إني لأنسى أو أُنَسَّى لأسُن »، وقد روي سهوه في الصلاة وغير ذلك، وقد تقدم من هذا(4)، وتقصينا هذا في كتاب الشفاء.
وقول من ذهب من المتصوفة ومن تابعهم إلى أن النسيان لا يجوز عليه جملة، لا فيما طريقه البلاغ ولا فيما ليس طريقه البلاغ، وإنما يقع منه صورته عمدا ليسن، وهذا تناقض وصورة لا تتصور، وهو قول مردود، ولا أعلم مقتدى به وملتفتًا إلى معرفته، استحسنه وأشار إلى تصويبه إلا الأستاذ أبا المظفر الإسفراييني من شيوخنا، فإنه على تحقيقه وتدقيقه مال إلى هذا القول ورجحه على تناقضه وتباغضه.
__________
(1) في (هـ):" وقوله - عليه السلام - للذي ".
(2) في (هـ):" كذا كذا ".
(3) في (هـ):" من ".
(4) في (ط) و(هـ):" هذا قبل ".(3/337)
وقوله بعد في الحديث الآخر:« بئس ما لأحدكم(1) أن يقول: نسيت آية كيت وكيت، ولكنه(2) نُسِّي »، لا يعارضه(3) قوله - عليه السلام - في الحديث المتقدم: "كنت أنسيتها "، وقد أضاف هنا النسيان إلى نفسه الذي نهى عن قوله في الحديث الآخر ونفاه، قيل: إنما أمر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لتضاف الأمور إلى خالقها ومقدرها إقرارًا بالعبودية، ولا يضيفها العبد أبدًا إلى نفسه. والنبي - عليه السلام - وأمثاله، ممن ذكر الله عنه ذلك في كتابه، ممن إذا أطلق اللفظ فهو على بينة من ربه ويقين من تسليمه، وقيل: لأن المنسي(4) المنهي عن قوله وإضافة الإنسان له إلى نفسه، يحتمل أنه ما نسخه الله من القرآن بالنسيان لجميع الناس، فلا يبقى في حفظ أحد، والآخر الذي أضافه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى نفسه هو النسيان المعهود (5).
وقد يقال: إنه كره قول هذا اللفظ لاشتراكه ولما في هذا من الإعراض والغفلة والتهاون. قال الله تعالى:{ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكًا }، ثم قال:{ كذلك أتتك آياتنا فنسيتها }، وهذا مثل ما نبه(6) عليه(7) في الحديث المتقدم.
__________
(1) في (ط):" لأحدهم ".
(2) في (ط) و(هـ):" بل هو " بدل:" ولكنه ".
(3) في (ط) و(هـ):" يعارض ".
(4) في (هـ):" المنفي ".
(5) في (هـ):" المعهود في هذا ".
(6) قوله:" ما نبه " ليس في (ط) و(هـ).
(7) في (ط) و(هـ):" علته ".(3/338)
وقد يظهر في معنى قوله:« بئس ما لأحدكم أن يقول: إني(1) نسيت آية كذا، ولكنه نُسّي » ذم الحال وكراهته، لا ذم القول، أي بئست(2) الحالة والصفة(3) لمن أوتي القرآن فغفل عنه حتى نسيه فقال: نسيته، وهو لم ينسه من قبل نفسه، إذ ليس النسيان من فعله، لكنه من فعل الله الذي نسّاه إياه عقوبة لإعراضه عنه وتوسده إياه، واستخفافه بحقه، كما قال في الحديث الآخر: « لم أر ذنبًا أعظم من آية أو سورة حفظها رجل ثم نسيها »، وهذا عندي أولى ما يتأول(4) في الحديث إن شاء الله.
وقوله:" بل هو نسى"، بالتخفيف ضبطناه عن(5) أبي بحر، وبالتشديد(6) لغيره. وفي الحديث حجة للجهد في صلاة الليل في(7) النافلة، وحجة لمن قال: الإظهار لها أفضل وكان أهل المدينة يتواعدون لقيام القراء.
قال الإمام: قوله في القرآن:« لهو(8) أشد تفصيًا من صدور الرجال من النعم بعقلها »، قال الهروي: كل شيء كان لازمًا للشيء ففصل، قيل: تفصى منه كما يتفصى الإنسان من البلية، أي يتخلص منها.
قال الإمام: وتفسيره في الحديث الآخر:« لهو أشد تفلتًا من النعم بعقلها»، وهو جمع عقال، نحو كتاب وكتب، والنعم تذكر وتؤنث، وهي هاهنا الإبل خاصة.
__________
(1) قوله:" إني " ليس في (ط) و(هـ).
(2) في (أ):" نسيت"، وفي (هـ):" نسيت ".
(3) في (أ) و(هـ):" الصفة ".
(4) في (هـ):" تأول ".
(5) في (ط) و(هـ):" على ".
(6) في (هـ):" وهو بالتشديد".
(7) قوله:" في " ليس في (هـ).
(8) في (ط) و(هـ):" فلهو ".(3/339)
قال القاضي: وقوله:" من النعم بعقلها " كذا رواية الجلودي في حديث زهير، وعند ابن ماهان:" من عقلها "، وصوب بعضهم هذه الرواية، وكلاهما صواب، وقد جاءت الروايتان في غير حديث زهير والباء تأتى بمعنى " من "، وقيل ذلك في قوله تعالى:{ عينًا يشرب بها عباد الله }، أي: منها، وقيل: يشربون هنا بمعنى يروون، فتكون الباء على بابها، وفي رواية أخرى: " في عقلها "، وهي راجعة إلى(1) معنى " من " أيضًا وبمعنى الباء.
وقوله:"صاحب القرآن": هذه لفظة تستعمل لكل من ألف شيئًا واختص به،[ فإن اختص بشخص(2) قيل: فلان صاحب فلان ](3)، وأصحاب النبي - عليه السلام - لإلفهم(4) إياه، وكذلك إن كان ألف صنعة أو عملاً أو علمًا(5)، كقولهم: أصحاب الحديث، وأصحاب الرأي، ومنه هذا الذي في الحديث، وكذلك إن اختص بمكان أو(6) موضع؛ كقوله:{ أصحاب الجنة }، {أصحاب النار}، وأصحاب الصفة، وكذلك من اختص بملك شيء ؛ كقوله: هو صاحب إبل، وصاحب غنم، وكذلك من اختص بصفة لزمته، كقولهم: فلان صاحب كبر، وصاحب همة.
قوله - عليه السلام -:« ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقران »، وفي الرواية الأخرى:« كإذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن، يجهر به »، وفي غير "الأم":« كإذنه لنبي حسن الترنم بالقرآن ». تقول العرب: أذنت للشيء آذن له أذنا - بفتح الهمزة والذال - استمعت.
وذكر مسلم من رواية أخرى: " كإذنه،، فيكون هذا بمعنى الأمر والحضّ.
__________
(1) من هنا يوجد سقط في المخطوطة (هـ) ما يقارب من ( ) صفحة.
(2) في (ط):" بشخص وألفه ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(4) في (ط):" لإلفتهم ".
(5) في (ط):" عمل أو علم ".
(6) في (ط):" و ".(3/340)
قال الإمام: أذن في اللغة بمعنى استمع، فأما الاستماع الذي هو الإصغاء فلا يجوز على الله سبحانه فهو مجاز هاهنا، فكأنه عبر عن تقريبه للقارئ وإجزال ثوابه بالاستماع والقبول، وكذلك سماع البارى سبحانه للأشياء لا يختلف، وإنما المراد هاهنا أنه يقرب الحسن القراءة أكثر من تقريب غيره، والتفاضل في التقريب وزيادة الأجور يختلف، فتعبيره عن ذلك بما يؤدي التفاضل في الاستماع مجاز.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -:« يتغنى بالقرآن »، فتأوّله من يجيز قراءة القرآن بالألحان على ذلك المعنى، وقال الهروي: معنى "يتغنى به ": يجهر به، ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم -: « ليس منا من لم يتغن بالقرآن »، قال سفيان:معناه:من لم يستغن، يقال: تغنيت وتغانيت، بمعنى استغنيت، قال غيره: كل من رفع صوته ووالى به فصوته عند العرب غناء، قال الشافعي: معناه: تحزين القراءة، وترقيقها، ومما يحقق ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر:« زينوا القرآن بأصواتكم »، قال غيره: من ذهب إلى الاستغناء به فهو من الغنى ضد الفقر، وهو مقصور، ومن ذهب به إلى التطريب فهو من الغناء الذي هو مد الصوت وهو ممدود.
قال القاضي: جاء في الحديث:« يتغنى بالقران يجهر به » فحمله بعضهم على التفسير، وهو قول الداودي في الحديث، وحمله بعضهم على تحسين الصوت، وقد قيل في قوله - عليه السلام -:« ليس منا من لم يتغن بالقران » أي: يجعله مكان الغناء الذي كانت تستعمله العرب في سيرها وخلوتها(1)، وأكثر أحوالها.
__________
(1) في (أ):" حلومها ".(3/341)
واختلف من قال: ليستغن به، ما معناه ؟ فقيل: عن الناس، وقيل: عن غيره من الأحاديث والكتب، والقولان عن ابن عيينة. وردّ الطبري تأويل:" يستغنى " وخطأه لغة ومعنى، وقيل:" أذن " بمعنى رضي.[ وقال ابن الأنباري: ومعنى:" حسن الصوت بالقرآن "، أي: الصوت الذي يحسّنه القرآن، وقيل: معناه: الصوت الحزين لما جاء:« فاقرؤوه بحزن»، وقيل: الذي يحسنه القرآن بما يظهر من صاحبه من الخشية، ومنه الحديث:« أحسن الناس صوتًا بالقرآن من إذا سمعته يقرأ علمت أنه يخشى الله »، حمله آخرون على ظاهره ](1).
وذكر مسلم في الباب: حدثني حرملة: أنبأنا ابن وهب، قال: أخبرنا يونس، وحدثني يونس بن عبد الأعلى: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو،كلاهما عن ابن شهاب،كذا للجلودي وغيره، وهو صواب مسلم يقول: حدثني يونس بن عبد الأعلى بعد قوله: أخبرني يونس، يعني: ابن يزيد، فجاء بسند آخر لابن وهب عن عمرو، ثم قال: كلاهما عن ابن شهاب يعني عمرًا، ويونس يعني: ابن يزيد، وسقط من كتاب ابن الحذاء: أخبرني يونس، بعد ذكر ابن وهب أولاً وهو وهم، والصواب إثباته ؛ بدليل قوله: كلاهما عن ابن(2) شهاب.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(2) قوله:" ابن " ليس في (ط).(3/342)
وقوله في أبي موسى الأشعري:« لقد أوتي مزمارًا من مزامير آل داود » مع قوله في غير "الأم":" لو علمت أنك تستمع قراءتي لحبرتها لك تحبيرًا "، مع الأحاديث التي جلب مسلم في ترجيع النبي - صلى الله عليه وسلم - القراءة، لاخلاف في أن حسن الصوت في القراءة مستحسن، والترتيل فيها وتحسين تلاوة القرآن مشروع مندوب إليه. قال أبو عبيد: ومجمل الأحاديث في ذلك إنما هو طريق التحزين والتشويق، واختلف في الترجيع والقراءة بالألحان، فكره(1) مالك وأكثر العلماء؛ لأنه خارج عما وضع له القرآن من الخشية والخشوع والتفهم، وأجازه بعضهم للأحاديث الواردة في ذلك، ولأن ذلك لا يزيده إلا رقة في النفوس، وحسن موقع في القلوب، وإثارة خشية، وإليه ذهب أبو حنيفة وجماعة من السلف، وقاله الشافعي في التحزين. ومعنى "مزمار" هنا: أي صوت حسن، والزمير: الغناء، و "آل داود": هو هنا داود نفسه، والآل تقع على الشيء نفسه، وقد تقدم.
وقوله في الحديث:"وعنده فرس مربوط بشطنين "، أي حبلين، والشطن: الحبل الطويل المضطرب. والمربد للتمر مثل الأندر للطعام.
وقوله:« تلك السكينة تنزلت للقرآن »، وفي الرواية الأخرى:« تلك الملائكة كانت تستمع لك »، قيل في تفسير السكينة في قوله تعالى:{ فيه سكينة من ربكم }: هى الرحمة، وقيل: الطمأنينة، وقيل: الوقار، وما يسكن به الإنسان، وقيل: كانت ريحًا هفافة خجوجا، لها وجه كوجه الإنسان، وقيل: لها رأسان، وقيل: حيوان كالهر، ولها(2) جناحان وذنب، ولعينيها شعاع، فإذا نظرت للجيش انهزم، وقيل: هى سكة من ذهب الجنة، وقيل: هى ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها، وقال وهب: هي روح من الله تتكلم وتبين إذا اختلف في الشىء، وهذا بمعنى ما جاء في الحديث:" أنها الملائكة "، وقد احتج بعضهم باستماعها بهذا الحديث للقرآن أنها روح أو ما فيه روح.
__________
(1) في (ط):" فكرهه ".
(2) قوله:" ولها " ليس في (ط).(3/343)
وفي الحديث: تلك الملائكة " وفي الآخر: تلك السكينة " فإذا كانت السكينة روحًا كما تقدم جاء مثل قوله:{ تنزل الملائكة والروح } على الاختلاف في الروح ما هو ؟ وإلى غير ذلك من التفسير، فقد يكون مع السكينة الملائكة، وتكون هذه الظلة أمرًا من أمر الله وعجائب ملكوته، تنزل معه الرحمة في قلب القارئ(1) الطمأنينة والوقار، كما كان ذلك في الغمامتين والظلتين لقارئ البقرة.
وقوله:" وجعل فرسه ينفر "، ووقع(2) في حديث ابن مهدى وأبي داود: "ينقز " بالقاف والزاي، كذا عند أبي بحر، ومعناه: يثب، وعند غيره هنا: "تنفر" بالتاء باثنتين(3) فوقها والفاء، ولا معنى له، والصواب:"تنفر" من النفور، ولايبعد " تنقز(4)" بمعنى الوثوب لقوله في الرواية الأخرى:" فجالت"، يقال نقر الظبي وقفز بمعنى. وفي الحديث: جواز رؤية بني آدم الملائكة لقوله: " لأصبحت ينظر إليها الناس ما تستتر منهم ".
وقوله:« الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة » يريد الملائكة، قال ابن الأنباري: سمّوا بذلك لأنهم ينزلون بوحي الله وما يقع به الصلاح بين الناس، فشبهوا بالسفير الذي يصلح بين الرجلين، وقال ابن عرفة: سموا بذلك لأنهم يسفرون بين الله وأنبيائه، وقيل: سفرة: كتبة، وسمى الكاتب سافرا لأنه يبين الشىء ويوضحه، والأسفار: الكتب، والماهر: الحاذق بالقراءة، قال الهروي: وأصله الحذق بالسباحة، وقال المهلب: المهارة جودة القراءة بجودة الحفظ، ولايتردد فيه، يسره الله عليه كما يسره على الملائكة فهو معها في مثل حالها من الحفظ وفي درجة واحدة إن شاء الله.
__________
(1) في (ط):" أو الطمأنينة ".
(2) في (ط):" وقع " بدون الواو.
(3) في (ط):" باثنين ".
(4) في (ط):" ينقز ".(3/344)
قال القاضي: يحتمل - والله أعلم - أن له في الآخرة منازل يكون فيها رفيقًا للملائكة السفرة، لاتصافه بوصفهم بحمل كتاب الله، ويحتمل أن يكون المراد: أنه عامل بعمل السفرة وسالك مسلكهم كما يقال: فلان مع بني فلان، إذا كان يرى رأيهم ويذهب مذهبهم كما قال لوط:{ ونجني ومن معي من المؤمنين }، وقد جاء في بعض الأخبار: أن من تعلّمه من صغره وعمل به خلطه الله بلحمه ودمه وكتبه عنده من السفرة الكرام البررة.
وقوله:« والذى يتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران »، معنى يتتعتع: أي يتردد في تلاوته عيًّا، والتعتعة في الكلام: العي والتردد، وأصله الحركة.
قال الإمام: يحتمل أن يريد بالأجرين الأجر الذي يحصل له في قراءة حروف القرآن وأجر المشقة التي تناله في القراءة.
قال القاضي: ليس فيه دليل على أنه أعظم أجرًا من الماهر، ولا يصح هذا إذا كان عالِمًا به، لأن من هو مع السفرة فمنزلته عظيمة وله أجور كثيرة، ولم تحصل هذه المنزلة لغيره ممن لم يمهر مهارته، ولا يستوى أجر من علم بأجر من لم يعلم، فكيف يفضله ؟ وقد يحتج بهذا من يقول بفضل الملائكة على بنى آدم.
وقوله لأُبيّ:« إن الله أمرني أن أقرأ عليك »، قال الإمام: إنما قرأ عليه ليأخذ أُبيّ عنه، فإن كان أبيّ لم يكن حافظًا لما قرأ عليه تعلم ذلك منه، وإن كان حافظًا له تعلم طريق القراءة وترتيبها ؛ لأن القارئ يصح منه أن يقرأ بالتطريب وبغير ذلك فتؤخذ أيضًا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رتبة القراءة ؛ ليعلم القارئ على أي صفة يقرأ القرآن.(3/345)
قال القاضي: الأظهر أنه قرأ عليه ماحصله للوجه الذي ذكر، وأما مالم يحفظه ليحفظه فلم يختص أبي بذلك دون غيره، هذا كان واجبًا عليه - عليه السلام - ليبلغ للمسلين ما نزل إليهم(1) ويتلو عليهم الذي أوحى إليه. قيل: وقد تكون قراءته عليه ليعلّمه كيف العرض وهيئته على من يقرأ عليه، ويجعل ذلك سنة فيه، وقيل: بل ليسمع القرآن من النبي - صلى الله عليه وسلم - دون واسطة، فلا يختلجه شك فيما اختلف فيه. وقول أبيّ:" آلله سمّاني " وبكى، وبكاؤه لذلك بكاء فرح وسرور حين كان ممن يسميه الله ويذكره، ويؤهله لهذه الخاصية والدرجة العلية.
وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن مسعود بالقراءة عليه للعلة التي ذكر:« أحب أن أسمعه من غيرى »، وليعلّمه أيضًا طريقة التلاوة والتجويد، وصورة العرض، وقيل: ليتفهم ما سمعه من غيره ويتفرغ لذلك عن الشغل بتلاوته.
وقوله: حتى بلغت:{ فكيف إذا جئنا من كل أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا }، وذكر بكاء النبي. بكاؤه - عليه السلام - من عظيم ما تضمنته(2) هذه الآية وما قبلها وما بعدها من قوله:{ إن الله لا يظلم مثقال ذرة }. وما(3) بعدها:{ يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول } الآية، وجاء في الصحيح في غير كتاب مسلم: انه قال له لما بلغها: "حسبك"، احتج به أهل التجويد والقراءة على جواز الوقف على الكافي من الآى والمقاطع والفصول ؛ لأن الكلام هناك(4) غير مستقل بنفسه وتمامه في الآية التي بعده، وقد قيل في قوله: " حسبك "، تنبيه له(5) على ما في الآية.
وذكر أن ابن مسعود حد الذي وجد منه رائحة الخمر.
قال الإمام: فيه حجة على أبي حنيفة الذي لايوجب الحدّ بالرائحة.
__________
(1) في (ط):" إليه ".
(2) في (ط):" تضمنت ".
(3) قوله:" ما " ليس في (ط).
(4) في (ط):" هنا جاء ".
(5) في (ط):" يكون تنبيها ".(3/346)
قال القاضي: وهو قول الثوري، وكافة العلماء على الحد بها، وحد عبد الله بن مسعود له، وقد ذكر أنه بحمص، فلعله فعل ذلك لأنه كان قاضيًا بالكوفه زمن عمر وصدر من ولاية عثمان، فلعله رأى إمضاء(1) حكمه حيث حل، أو(2) كان مقدمًا في بعض تلك المغازي، أو حدّه بأمر من له الأمر هناك.
وقوله:" تكذب بالكتاب "، لو كذب به حقيقة قتله ؛ لأن من كذب بحرف من القرآن فهو كافر يقتل، وإنما قال هذا:" ما هكذا أنزلت " جهالة منه، وقلة حفظ، وكابر في ذلك عبدالله، وكان مكذبًا له لا للكتاب حقيقة.
وقوله:« ثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته خير من ثلاث خلفات عظام سمان »، الخلفات: النوق الحوامل إلى أن يمضى لها نصف أمدها،ثم هى عشراء، وقع في الحديث الآخر: « يقرأ آيتين خير له من ناقتين وثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل كذا لهم، وعند الطبري: "وثلاث وأربع " بالخفض، "ومن أعدادهن"، وسقط عنده:" خير له من أربع"، والصواب الأول. ورفع ثلاث وأربع(3) رفع على الابتداء، يعني(4): من النوق، ويدل عليه قوله:« ثلاث آيات وأربع خير له من أربع [ومن أعدادهن](5)»، وعلى رواية الطبري، عطف ثلاث وأربع على اثنين لا مراعاة للأعداد. وفي الحديث الآخر: " ناقتين كوماوين ": الكوماء من الإبل العظيمة السنام، كأنهم - والله أعلم - شبهوا سنامها لعظمه بالكوم وهو الموضع المشرف، وهي بمعنى: عظام سمان في الحديث المتقدم.
وقوله:« اقرؤوا الزهراوين: البقرة وآل عمران » حجة لمن أجاز أن يقال: سورة البقرة وآل عمران، واختار بعضهم أن يقال: السورة التي تذكر فيها كذا، ومعنى " الزهراوين ": المنيرتان إما لهدايتهما قارئهما، أو لما يسبب له أجرها من النور يوم القيامة.
__________
(1) في (ط):" مضاء ".
(2) في (ط):" إذ ".
(3) قوله:" أربع" ليس في (أ).
(4) في (ط):" أيعني ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (أ).(3/347)
وقوله:« فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان» الحديث، قال الإمام: قال بعض أهل العلم: يكون هذا الذي يؤتى به يوم القيامة جزاءً عن قراءتهما، فأجرى اسمهما على ما كان من سببهما كعادة العرب في الاستعارة قال أبو عبيد: الغياية: كل شيء يظل الإنسان فوق رأسه من السحابة والغبرة، ويقال: تغايا القوم فوق رأس فلان بالسيف، كأنهم أظلوه به، قال غيره: والفرقان: القطيعان.
قال القاضي: اختلفت رواية شيوخنا في هذا الحرف في "الأم" في حديث إسحاق ابن منصور، فعند جمهورهم:" فرقان"، وعند الأسدي عن السمرقندي:" حِزقان،، وهما بمعنى واحد، الحزق والحزيقة الجماعة.
وقوله:« أو ظلّتان(1) بينهما شرق »، قيل: معناه: ضياء ونور، رويناه بسكون الراء وفتحها، قيل: معناه: قد يكون يخلق الله خلقًا من قراءته يوم القيامة على صفة الغمامة، أو جماعة الطير يحاج عن القارئ كما جاء في حديث آخر:« من قال عند مضجعه:{ شهد الله أنه لا إله إلا هو } الآية خلق الله سبعين ألف خلق يستغفرون له إلى يوم القيامة ».
وقوله:" فسمع نقيضًا " هو مثل صوت الباب وشبهه، وفي الحديث: «هذا باب من السماء فتح ».
قال الإمام: وقوله:« من قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه »، محتمل أن يريد كفتاه من قيام الليل أو من أن يكون ممن توسد القرآن، أو من أذى الشياطين، كما جاء فيمن قرأ آية الكرسي نزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح، أو مما(2) حصل له لقراءتهما من الأجر؛ لأنهما مشتملتان على أبواب الإيمان والاستسلام والعبودية لله، والدعاء بخير الدنيا والآخرة.
__________
(1) في (ط):" ظلتان توداوان ".
(2) في (ط):" لما ".(3/348)
قال: وذكر مسلم في أسانيد هذا الحديث: حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة وعبد الرحمن بن يزيد، عن أبي مسعود الأنصاري، قال بعضهم: سقط من نسخة أبي العلاء ذكر إبراهيم بين الأعمش وعلقمة، والصواب إثباته وبه يتصل الإسناد، وكذلك خرجه البخاري والنسائى.
قال القاضي: وقوله:« من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف » قيل: لما في قصة أصحاب الكهف من العجب والآيات، فمن علمهما لم يستغرب أمر الدجال، ولا فتن به، أو يكون هذا من خصائص الله لمن حفظ ذلك، فقد روى: " من حفظ سورة الكهف ثم أدرك الدجال لم يسلط عليه، وعلى هذا تنزل(1) الرواية الأخرى من آخر سورة الكهف، وقيل: لما في قوله:{ أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء } وما بعدها. فيه من التنبيه على أمر الدجال، والتنبيه على المفتونين والأخسرين أعمالاً، وفي آخر الآيات من ذكر التوحيد وأن لا يشرك بالله أحدًا.
وقوله - عليه السلام - لأبيّ:« أتدري أي آية من كتاب الله أعظم »، وذكر آية الكرسي، فيه حجة للقول بتفضيل بعض القرآن على بعض وتفضيل القرآن على سائر كتب الله عند من أجازه، منهم إسحاق بن راهويه، وغيره من العلماء والمتكلمين، وذلك راجع إلى عظم أجر قارئ ذلك وجزيل ثوابه على بعضه أكثر من سائره، وهذا مما اختلف أهل العلم فيه، فأبى من ذلك الأشعري والباقلاني وجماعة من الفقهاء وأهل العلم ؛ لأن مقتضى الأفضل نقص المفضول عنه، وكلام الله لا يتبعض، قالوا: وما ورد من ذلك بقوله: " أفضل وأعظم، لبعض الآي والسور فمعناه: عظيم وفاضل، وقيل: كانت آية الكرسي أعظم لأنها جمعت أصول الأسماء والصفات من الألوهية والحياة والوحدانية والعلم والملك والقدرة والإرادة، وهذه السبعة قالوا: هى أصول الأسماء والصفات.
__________
(1) في (أ):" تدل ".(3/349)
وقوله لأبي حين أخبره بذلك، وأنها آية الكرسي:« ليهنك العلم يا أبا المنذر »، وضربه صدره، فيه تنشيط المعلم لمن يعلمه(1) إذا رآه أصاب، وتنويهه به، وسروره بما أدركه من ذلك، وفي الخبر إلقاء المعلم على أصحابه المسائل لاختبار معرفتهم، أو ليعلمهم ما لعلهم لم ينتبهوا للسؤال عنه، ويحتمل جواب أبي مما قد سمعه قبل منه - عليه السلام -.
قوله في { قل هو الله أحد }:« تعدل ثلث القرآن »، وفي الحديث الآخر:« أن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل { قل هو الله أحد} جزءًا من أجزاء القرآن.
قال الإمام: قيل: إن(2) معنى ذلك أن القرآن على ثلاثة أنحاء، قصص، وأحكام، وأوصاف الله جلت قدرته، و{قل هو الله أحد } تشتمل على ذكر الصفات، وكانت(3) ثلثا من هذه الجهة، وربما أسعد هذا التأويل ظاهر الحديث الذي ذكر فيه:« أن الله تعالى جزأ القرآن »، وقيل: معنى ثلث القرآن لشخص بعينه قصده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: معناه: أن الله يتفضل بتضعيف الثواب لقارئها، ويكون منتهى التضعيف إلى مقدار ثلث ما يستحق من الأجر على قراءة القرآن من دون تضعيف أجر، وفي بعض روايات هذا الحديث:" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حشد الناس، وقال:« سأقرأ عليكم ثلث القرآن »، فقرأ:{ قل هو الله أحد }، وهذه الرواية تقدح في تأويل من جعل ذلك لشخص(4).
__________
(1) قوله:" لمن يعلمه " ليس في (ط).
(2) قوله:" إن " ليس في (ط).
(3) في (ط):" فكانت ".
(4) في (ط):" الشخص ".(3/350)
قال القاضي: قال بعضهم: قال الله تعالى:{ الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير }، ثم بين التفصيل فقال:{ ألاّ تعبدوا إلا الله}، فهذا فصل الألوهية، ثم قال في:{ إنني لكم منه نذير وبشير }، وهذا فصل النبوة، ثم قال:{ وأنِ استغفروا ربكم ثم توبوا إليه }، فهذا فصل التكليف، وما رواه من أمر الوعد والوعيد، وعليها أجزأ القرآن بما فيه من القصص من فصل النبوة لأنها من أدلتها، وفيها(1) أيضًا مايدل على أن الله فسرها(2)، و{ قل هو الله أحد } جمعت الفصل الأول.
قال القاضي: وقيل: إن هذا إنما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - للذي رددها، فحصل له من ترديدها وتكرارها قدر تلاوته ثلث القرآن.
وقوله:« احشدوا »، وقوله:" فحشد من حشد "، أي: اجتمعوا، اجتمع من اجتمع وتأهب من تأهب. قال الهروي: يقال حشد(3) القوم لفلان جمعوا له وتأهبوا، قال ابن دريد: حشد القوم يحشد ويحشد إذا جمعهم، والحشد: القوم المجتمعون.
وقوله للذى قال في { قل هو الله أحد }: إنى أحبها:« أن الله يحبه »، قال الإمام: البارئ تعالى لا يوصف بالمحبة(4) المعهودة فينا ؛ لأنه يتقدس عن أن يميل أو يمال إليه، وليس بذي جنس أو(5) طبع فيوصف بالشوق الذي تقتضيه الجنسية والطبيعة البشرية، وإنما معنى محبته سبحانه للخلق: إرادته لثوابهم وتنعيمهم، على رأي بعض أهل العلم، وعلى رأي بعضهم: أن المحبة راجعة إلى نفس الإثابة(6) والتنعيم لا للإرادة. ومعنى محبة المخلوقين له: إرادتهم أن ينعمهم ويحسن إليهم.
__________
(1) في (أ):" وفهمها ".
(2) في (ط):" الألوهية " بدل:" الله فسرها ".
(3) في (ط):" احتشد ".
(4) في (أ):" بالصفة ".
(5) في (ط):" ولا ".
(6) في (ط):" الإنابة ".(3/351)
قال القاضي: أما محبة المخلوقين لله فلا يبعد فيها الميل ؛ لأن الميل يصح منهم وهو يتعالى عنه، وقد قيل: محبتهم له استقامتهم على طاعته، وقد قيل: بل هذا من الخلق ثمرة المحبة، وأن حقيقتها الميل إلى ما يوافق الإنسان، إما لاستلذاذه بإدراكه بحواسه الظاهرة، كمحبة الأشياء الجميلة والمستلذة المستحسنة، أو بحاسة عقله، كمحبته الفضلاء وأهل المعروف والعلم وذوي السير الحسنة، أو لمن يناله إحسان وإفضال من قبله، والله تعالى في جلاله وعظيم سلطانه وبهاء نوره وجلال ملكه وجسيم إحسانه وإنعامه حقيق ألا يحب سواه، وأن تحار العقول والأبصار في جمال ملكوته وجبروته تعالى عن الأنداد والأشباه.
وقوله:« آيات أنزلت عليّ الليلة لم ير مثلهن:{ قل أعوذ برب الفلق } و { قل أعوذ برب الناس }، دليل واضح على أنهما من القرآن، وردّ على من تأول على ابن مسعود غير ذلك، وردٌّ على من زعم أن لفظة:{ قل } ليس من السورتين، وإنما أمر - صلى الله عليه وسلم - أن يقول فقال، وهو شيء روي في حديث تأوله بعض الملحدة على هذا، وكتبها(1) في المصحف، والإجماع عليها أنهما من القرآن يرد قولهم.
وقوله:« لا حسد إلا في اثنتين » الحديث، معناه: لا حسد محمودًا وممدوحًا إلا هذا ؛ لأنه حسد على فعل الخير، والحسد على ثلاثة أضرب: محرم مذموم، ومباح، ومحمود مرغبٌ فيه، فالأول تمني زوال النعمة المحسودة من صاحبها وانتقالها إلى الحاسد، وهذا هو حقيقة الحسد، وهو مذموم شرعًا وعرفًا، وأما الوجهان الآخران: فهو الغبط، وهو أن يتمنى مايراه من خير بأحد أن يكون له مثله، فإن كان من أمور الدنيا المباحة كان تمني ذلك مباحًا، وإن كانت من أمور الطاعات كان محمودًا مرغبًا فيه.
__________
(1) في (ط):" وكتابهما ".(3/352)
وذكر مسلم:حديث عمر مع هشام بن حكيم في اختلافهما في قراءة سورة الفرقان وقول عمر: " فكدت أن أعجل عليه "، يفسره قوله في الرواية الأخرى: " أساوره "، أي: أواثبه، وقيل: معناه هنا: أخذ برأسه، قاله الحربي.
وقوله:" ثم لببته بردائه ": هو الأخذ بمجامع ثوب الرجل في عنقه وجبذه بها، وقيل: أخذ ذلك بجمعها على اللبة وهي النحر، كل هذا يدل على تشدّدهم في أمر القرآن، وقراءته على ما سمعوه من النبي - عليه السلام - والتحري في تلاوة حروفه على ذلك، وردٌّ على من تسامح في القراءة المروية عن ابن مسعود، أو بالفارسية والعجمية إذا لم يحسن ؛ كما ذهب إليه أبو حنيفة، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر بإرساله يحتمل وجهين، إما لأنه لم يستحق عنده بعد أن يفعل ذلك به، إذ لم يثبت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يوجبه، ولأن عمر إنما نسب إليه اختلافًا في القراءة(1)، وعند النبي - عليه السلام - من جواز بعضها علم، فأمره بإطلاقه حتى يسمع منه ما ادّعاه عليه، أو ليرسله ويزول عنه ذلك(2) التلبيب وشغل البال وذُعر صولة عمر، ليتمكن من القراءة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ساكن الجأش طيب النفس.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :« هكذا أنزلت »، تجويز وتصويبه قراءته(3)، وأمره لعمر بعده بالقراءة لئلا يكون الخطأ والغلط منه، فلما قرأ قال له أيضًا:« هكذا أنزلت »، وصوب(4) قراءته ثم بين - عليه السلام - كيفية نزولها بهذا الاختلاف بقوله: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه » تيسيرًا على الأمة في تلاوته، وهذا كله(5) يدل أن هشاما لم يخالف عمر في جميع حروف السورة وإنما خالفه في بعضها، كما أن السبعة أحرف ليست في جميع الكلمات، وإنما هى في بعض القرآن لا في جميعه.
__________
(1) قوله:" القراءة " ليس في (ح).
(2) في (ط):" ضنك ".
(3) في (ط):" تصويب لقراءته ".
(4) في (ط):" صوب ".
(5) قوله:" كله " ليس في (أ).(3/353)
واختلف في معنى قوله: "سبعة أحرف"، فقيل: هو حصر للعدد، وهو قول الأكثر، وقيل: توسعة وتسهيل(1) لم يقصد به الحصر، ثم اختلفوا ما هذه السبعة ؟ فمنهم من جعلها في المعاني، كالوعد والوعيد، والمحكم والمتشابه، والحلال والحرام، والقصص والأمثال والأحكام والأمر والنهي، ثم اختلف هؤلاء في تعيين هذه السبعة منها ومنهم من جعلها في صورة التلاوة ومنحنى النطق بكلماتها، من إدغام وإظهار، وتفخيم، وترقيق وإمالة ومدّ؛ لأن العرب كانت مختلفة اللغات والكلام في هذه الوجوه، فيسر عليهم القراءة ليقرأ كل إنسان بما وافق لغته، وسهل على لسانه، ومنهم من جعلها في الألفاظ والحروف، وإليه أشار ابن شهاب في "الأم"، ويحتج هؤلاء باستزادة(2) النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل وأنه لم يزل يزيده حتى انتهى إلى سبعة أحرف، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ بجميعها. قالوا: وهذا يدل على أنه ليس في صورة التلاوة.
__________
(1) في (ط):" تسهيلاً ".
(2) في (ط):" بأن استزادة ".(3/354)
ثم من جعلها في الألفاظ والحروف اختلفوا، فقيل: سبع قراءات وأوجه، قال أبو عبيد في ذلك: سبع لغات من لغات العرب يمنها ومعدها، وهي أفصح اللغات وأعلاها من كلامهم، وقيل: بل هذه السبعة كلها لمضر لا لغيرها، قالوا: وهذه اللغات متفرقة في القرآن غير مجتمعة في الكلمة الواحدة، وقيل: بل يصح اختراعها(1) في الكلمة الواحدة، وذكروا من ذلك قوله:{ وعبد الطاغوت }، و { نرتع ونلعب }، و { باعد بين أسفارنا }، و { بعذاب بئيس }، وغير ذلك. وذكروا فيها وجوها سبعة ونحوها، وقيل: بل هذه السبعة تختلف الألفاظ على الكلمة الواحدة بمعنى واحد ؛ كقوله(2): أقبل وأسرع، وهلم وعجل وتعالى، وقد جاء هذا مبينًا مفسرًا كما جاء في قراءة أُبيّ:{ انظرونا نقتبس من نوركم }، وأخرونا وآنسونا، و { كلّما أضاء لهم مشوا فيه }، ومروا فيه، وسعوا فيه، وكقوله: {فاسعوا إلى ذكر الله }، وامضوا، وإلى هذا ذهب الطبري وابن عيينة وابن وهب وحكاه عن مالك.
وقال القاضي أبو بكر بن الطيب: الصحيح أن هذه السبعة أحرف قد كانت ظهرت واستفاضت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وضبطتها(3) عنه الأمة وأثبتها عثمان والجماعة في المصحف، وأخبروا بصحتها، وخيروا الناس فيها كما فعل الرسول، وإنما طرحوا منها قراءة(4) لم ثثبت ونقلت نقل آحاد لا تثبت بمثلها القرآن، وأن هذه السبعة الأحرف تختلف معانيها تارة وألفاظها أخرى، ليست متضادة ولا متنافية.
__________
(1) في (ط):" اجتماعها ".
(2) قوله:" كقوله " ليس في (أ).
(3) في (ط):" وضبطها ".
(4) في (ط):" قراءات ".(3/355)
وذكر الطحاوي أن القراءة بالسبعة الأحرف إنما كانت في وقت خاص للضرورة لأول مانزل القرآن، واختلاف لغات العرب ومشقة كل طائفة أن ترجع إلى لغة الأخرى، فلما كثر الناس والكتَّاب وارتفعت الضرورة رجعت(1) إلى حرف واحد، وقيل: السبعة الأحرف يكون اختلافها من تغيير(2) الكلمة بغيرها، أو زيادة حرف ونقصانه، أو يبدل حرف من آخر، أو اختلاف الإفراد والجمع أو المخاطبة والخبر، أو الأمر والخبر(3)، أو تغير إعراب الكلم، أو التقديم والتأخير، أو الاختلاف في لغات الحرف الواحد وتصريف الفعل، فمنه ما تختلف ألفاظه ومعناه واحد، ومنه ما يختلف معنى ولفظًا.
قال الباجي: ولا سبيل لنا إلى تغيير(4) حرف من تلك الأحرف(5) وكلها في المصحف وإلى هذا ذهب غيره. واستدل من قال هذا بمحو عثمان والصحابة وتحريقهم المصاحف الأول ما عدا المصحف، ولو كان في شيء منها بقية من الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن لم تمح. قالوا: وإنما محيت لأجل الترتيب المتفق عليه في المصحف ؛ لأن سائر المصاحف كانت على غير ترتيب، ولأنهم كتبوا صور الحروف على لغاتهم.
__________
(1) في (ط):" رجع ".
(2) في (ط):" تغير ".
(3) قوله:" أو الأمر والخبر " ليس في (ط).
(4) في (ط):" تعيين ".
(5) قوله:" من تلك الأحرف " ليس في (أ).(3/356)
وقال الداودي: والسبع المقارئ التي يقرؤها الناس اليوم ليس كل حرف منها هى أحد تلك السبعة، بل قد تكون مفرقة فيها، وقال أبو عبد الله بن أبي صفرة: هذه السبعة مقارئ إنما شرعت من حرف واحد من السبعة المذكورة في الحديث وهو الذي جمع عليه عثمان المصحف، وذكره ابن النحاس وغيره، قال غيره: ولا تمكن القراءة بهذه السبعة في ختمة واحدة(1)، والقارئ إذا قرأ برواية من روايات القراءة(2) إنما قرأ ببعضها لا بكلها ولايدرى أي هذه السبعة أحرف - يعني القراء ات - كان آخر العرض على النبي - عليه السلام -، وكلها مستفيضة عن النبي - عليه السلام -، وضبطتها الأمة وأضافت كل حرف منها إلى من أضيف إليه من الصحابة ؛ أي أنه كان أكثر قراءة به ؛ كما أضيف كل مقرئ منها إلى من اختار القراءة به والتلاوة من القراءة السبعة وغيرهم.
وقوله:« لك بكل مسألة(3) رددتكها مسألة(4) ردّة(5) تسألنيها، فقلت: اللهم! اغفر لأمتى اللهم اغفر لأمتى، وادخرت الثالثة ليوم يرغب(6) إلي الخلق كلهم حتى إبراهيم - عليه السلام - » يبين(7) مثل ما تقدم قبل في تفسير قوله:« لكل نبى دعوة يدعو بها، وادخرت دعوتى شفاعة لأمتى يوم القيامة »، وأن اختصاصهم بهذه الدعوة - وإن كانت لهم دعوات كثيرة مستجابة - لكونه من هذه خاصة على يقين من إجابتها، وهم في غيرها على الرجاء. وذهب قوم من ضعفة القراء والمنتسبين إلى الحديث وجماعة من المعتزلة: أن عثمان كتب المصحف وجمع الناس على بعض الأحرف السبعة وترك باقيها نظرًا للمسلمين لما حدث من الاختلاف، وأن الذي جمع عليه كان آخر العرض، وهذا قول منكر مهجور، لا يصححه نقل ولا عقل.
__________
(1) قوله:" واحدة " ليس في (ط).
(2) في (ط):" القرا ".
(3) في (ط):" ردة " بدل:" مسألة ".
(4) قوله:" مسألة " ليس في (ط).
(5) قوله:" ردة " ليس في (ط).
(6) في (ط):" يرغب فيه ".
(7) قوله:" يبين " ليس في (أ).(3/357)
قال الإمام: من الناس من ظن أن المراد بهذا سبعة معان مختلفة كالأحكام والأمثال والقصص إلى غير ذلك، وإنما غره في ذلك حديث روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر فيه:« أنزل القرآن على سبعة أحرف »، وفسره بهذا المعنى، وهذا التأويل خطأ ؛ لأنه - عليه السلام - أشار في هذا الحديث إلى جواز القراءة بكل حرف وإبدال حرف من السبعة بحرف آخر، وقد تقرر إجماع المسلمين على أنه لا يحل إبدال آية أمثال بآية أحكام، قال الله تعالى:{ قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي }، وكذلك أيضًا ظن آخرون أن المراد إبدال خواتم الآي، فيجعل مكان:{ غفور رحيم }، { سميع بصير }، مالم يتناقض المعنى، فتبدل آية الرحمة بآية عذاب. وهذا أيضًا فاسد ؛ لأنه قد استقر الإجماع على منع تغيير القرآن، ولو زاد أحد من المسلمين في كلمة منه حرفًا واحدًا أو خفف مشددًا أو شدد مخففًا لبادر الناس إلى إنكاره، فكيف بإبدال كثير من كلماته، وإذا فسد هذان التأويلان، قلنا: ينبغى أن نعلم أن الحرف في اللغة هو الطرف والناحية، ومنه حرف الوادى أي طرفه وناحيته، ومنه تسميتهم الشكل المقطوع من حروف المعجم حرفًا ؛ لأنه ناحية وطرف من الكلام، ومنه قول الله تعالى:{ ومن الناس من يعبد الله على حرف }، يعني على غير طمأنينة ؛ لأن الشاك كأنه على طرف وناحية من الاعتقاد.(3/358)
وإذا ثبت هذا قلنا: قد اتضح أن الحرف من الأسماء المشتركة، فينطلق على المذهب الأول الذي هو بالمعاني المختلفة ؛ لأن كل معنى منها طرف وناحية من صاحبه، وينطلق أيضًا على المذهب الثاني، وهو إبدال خواتم الآي ؛ لأن كل مبدل(1) طرف وناحية من الكلام ولكن منعنا(2) من حمل حديثنا هذا عليه ورود الشرع بمنع إبدال، فلابد من حمله على أحرف يجوز(3) إبدالها، وليس إلا ما يقدر(4) في الشريعة جواز إبداله وهو نحو الإمالة والفتح، فإن أحدهما يبدل بالآخر، والتفخيم والترقيق، والهمزة والتسهيل، والإدغام والإظهار، وما أشبه ذلك، والغرض منه حمل الحديث على أنه أراد ناحية وطرفًا من اللغات، ولكن يبقى على هذا المذهب نظر آخر، هل المراد بذلك وجود قراء ات سبع في كلمة واحدة أو يكون إنما أشار إلى تردد سبع لغات في سائر الكلمات، فهذا مما اختلف فيه أهل هذه الطريقة وللنظر فيه مجال.
قال القاضي: قول ابن شهاب: بلغني أن تلك الأحرف إنما هي في الأمر الذي يكون واحدًا لا يختلف في حلال ولا حرام، خلافًا لمن ذهب إلى أن السبعة في المعاني أو إشارة إلى أن ذلك في الحروف والألفاظ.
__________
(1) في (ط):" مبدول ".
(2) في (ط):" منع ".
(3) في (ط):" بجواز ".
(4) في (ط):" تقرر ".(3/359)
وقول أبيّ:" إنه لما حسّن النبي - صلى الله عليه وسلم - للقارئين المختلفين قراءتهما سقط في نفسى من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية "، قال الإمام: هذا مما ينبغي أن يحمل فيه على أبي أنه وقع في نفسه خاطر ونزغة من الشيطان غير مستقرة ؛ لأن إيمان الصحابة - رضي الله عنهم - فوق إيمان من بعدهم، واختلاف القراءات ليس بعظيم الموقع في النبوات، كيف وقد يتصور في النبوات من القوادح للملحدين ما يتعب الذهن، ويكد الخاطر الانفصال عنه، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه تشكك بسبب ذلك ولا أصغى إليه، وهل تبديل القراءات، إلا أخفض مرتبة من النسخ، الذي هو إزالة القرآن والأحكام رأسًا، ثم لم ينقدح في نفس أحد منهم بسبب ذلك شك مستقرٌ، فوجب لأجل هذا أن يحمل على أبي ما قلناه.
قال القاضي: وقوله:" فضرب(1)- يعني النبي - عليه السلام - - في صدري، ففضت عرقًا وكأنما أنظر إلى الله فرقًا "، ثم ذكر الحديث. ضربه في صدره تنبيه له لما رأى أنه قد غشيه من الخاطر والدهشة التي ظهرت عليه، يقال: فضت عرقًا، وفصت عرقًا، بالضاد والصاد، وقال أبو مروان بن سراج وأنشد:
إذا الجياد فضن بالمسيح
وروايتنا هاهنا بالمعجمة.
ومعنى قوله:" سقط في نفسي "، أي: اعترته حيرة ودهشة. قال الهروي في قوله تعالى:{ ولمّا سقط في أيديهم }، أي: ندموا وتحيروا. يقال للنادم المتحير على فعل فعله: سقط في يده، واسقط، وهو كقوله: قد حصل في يده من هذا مكروه.
وقوله:" ولا إذ كنت في الجاهلية "، يعني الخاطر الذي نزغ به الشيطان له من التكذيب الذي لم يعتقده، وهذه الخواطر إذا لم يصحح عليها غير مؤاخذ بها.
__________
(1) في (ط):" ضرب ".(3/360)
وقوله:" عند أضاة بني غفار ": كذا قيدناه هنا مقصورًا، وهو الماء المستنقع كالغدير، وجمعه أضى مفتوح مقصور، ويجمع إضى وإضاءة مكسور وممدود. قال ابن ولاَّد: هو مكسور الأول ممدود، فإذا فتحوا قصروا فمن كسر ومد جعله جمع إضاءة كأكمة وأيكام، ومن قصر جعله مثل حصاة وحصى.
قوله:« إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف، ثم استزاده إلى أن بلغ سبعًا »، الأمر في قراءته بما زاد على حرف على طريق التوسعة والرفق لا الوجوب، ومن قرأ بحرف منها أصاب.
وقول ابن مسعود للذي قال له: إنى أقرأ المفصل في ركعة -:" هذًّا كهذِّ الشعر، إن أقوامًا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم "، والهذُّ: الإسراع ونصبه على المصدر. وهذا إنكار لمن يهذ القرآن ولا يرتله ولا يتدبره، والترتيل اختيار أكثر العلماء والسلف وذموا الهذّ وأجازه آخرون، وقد تقدم الكلام فيه.
ومعنى قوله:" كهذِّ الشعر "، قيل: في روايته وتحفظه لا في إنشاده والترنم به، ومعنى قوله: " لا يجاوز تراقيهم " استعارة، لأن حظهم منه حركة اللسان دون تدبر القلب وتفهم معانيه. والتراقي: عظام الصدر من ثغرة النحر والحلق، وهو كما قال - عليه السلام - في الخوارج:« لا يجاوز حناجرهم»، ألا تراه كيف قال:" ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع ".
وقوله:" لا يصعد له عمل "، قيل معناه: لا يكون فيه ثواب، ولا له منه حظ سوى الذكر باللسان.
وقوله:" إن أفضل الصلاة الركوع والسجود "، حجة لأحد القولين، وقد تقدم، قال الطحاوي: الذي يجمع به بين ما جاء في فضل السجود والركوع وبين ما جاء في الحديث الآخر أن " أفضل الصلاة طول القنوت "، لمن زاده وجعل أجره زائدًا على أجر(1) السجود والركوع.
__________
(1) قوله:" أجر " ليس في (أ).(3/361)
وقوله:" إنى لا أعرف النظائر التي كان يقرن بينهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورتين كل ركعة، ثم ذكر عشرين سورة من المفصّل في عشر ركعات، دليل صحيح موافق لرواية عائشة وابن عباس: أن قيام النبي - عليه السلام - كان أحد عشر ركعة بالوتر، وعلى ما تقدم، وأن هذا كان قدر قراءته غالبًا، وهو نحو قوله:" قدر خمسين آية "، وأن تطويله - عليه السلام - الوارد إنما كان في التلاوة والترتيل والتدبر، وماورد من غير ذلك في قراءته في ركعة البقرة والنساء في حديث ابن مسعود فنادر، وهذه السور العشرون أكثرها في حديث آخر ذكره أبو داود:" الرحمن والنجم في ركعة، واقتربت والحاقة في ركعة، والطور والذاريات في ركعة، وإذا وقعت ونون في ركعة، وسأل سائل والنازعات في ركعة، وويل للمطففين وعبس في ركعة، والمدثر والمزمل في ركعة، وهل أتى ولا أقسم في ركعة، وعمّ والمرسلات في ركعة، والدخان وإذا الشمس كورت في ركعة(1)"
وسمّي المفصّل مفصّلاً لقصر أعداد سوره من ألآي، ففصلت كل سورة على ذلك من صاحبتها.
وقوله في الرواية الأخرى:" ثمانية عشر من المفصل وسورتين من آل حم" دليل على أن المفصل ما دونهما، وقد قال أصحاب علم القرآن: إن المفصل ما دون المثاني، والمثاني ذوات المائة(2) ما كان فيها من السور مائة آية ودونها قليلاً، وبعد ذوات المائة السبع الطول، وآخرها براءة مضافة إلى الأنفال ؛ لأنها لم يفصل بينهما في المصحف.
واختلف في حدّ المفصل فقيل: من سورة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: من سورة ق.
__________
(1) قوله:" في ركعة " ليس في (أ).
(2) في (أ):" المائة وذوات المائة ".(3/362)
وقوله:" آل حم " يعني من ذوات السور التي أولها حم نسبت السور(1) إلى هذه الكلمة كقولهم(2): آل فلان، وقد يكون أراد " حم " نفسها، وتقع على ذاته، كقوله في الحديث:« لقد أوتي مزمارًا من مزامير آل داود »، أي داود، وقيل: الآل يقع على الشخص، قاله أبو عبيدة، قال: ولو أوصى رجل لآل فلان دخل فلان معهم، والفقهاء يخالفونه في هذا الفصل. وقد تقدم نحو منه في الصلاة على آل محمد وآل إبراهيم. ومن قال معناه: محمد وإبراهيم، وقد قيل: إن " حم " اسم من أسماء الله تعالى، فأ ضيفت هذه السورة إليه، وإن كانت كلها مضافة إليه، ولكن زيادة في التخصيص والتعظيم، كما قيل: بيت الله، والبيوت كلها له.
وقوله حين أعلم بطلوع الشمس:" الحمد لله على إقالتنا يومنا هذا، ولم يهلكنا بذنوبنا " توقع(3) منه لانتظار الساعة وطلوع الشمس من مغربها.
وقول علقمة:" لاقيت أبا الدرداء، فقال لي: هل تقرأ قراءة ابن مسعود؟ قلت: نعم، وذكر قراءته:{ والذكر والأنثى }، وإنكاره قراءة: { وما خلق }.
قال الإمام: يجب أن يعتقد في هذا الخبر وفيما سواه مما(4) هو بمعناه مما جعله الملحدة طعنًا في القرآن ووهنًا في نقله أن ذلك كان قرآنًا ثم نسخ، ولم يعلم بعض من خالف بالنسخ فبقي على الأول، ولعل هذا إنما يقع من بعضهم قبل أن يتصل به مصحف عثمان - رضي الله عنه - المجمع عليه المحذوف منه كل منسوخ قرئ به(5).
__________
(1) في (ط):" السورة ".
(2) في (ط):" لقولهم ".
(3) في (ط):" توقعًا ".
(4) في (ط):" فيما ".
(5) في (ط):" قراءته " بدل:" قرئ به ".(3/363)
وأما بعد ظهور مصحف عثمان - رضي الله عنه - واشتهاره فلا يظن بأحد منهم أنه أبدا فيه خلافًا، وأما ابن مسعود - رحمه الله - فقد رويت عنه روايات كثيرة، منها ما لم يثبت عند أهل النقل وما ثبت(1) منها مما يخالف ظاهره ما قلناه، فإنه محمول على أنه كان يكتب في مصحفه القرآن، ويلحق به من بعض الأحكام أو التفاسير ما يعتقد أنه ليس بقرآن، ولكن لم ير تحريهم ذلك عليه، ورأى أنها صحيفة يثبت فيها ما شاء، وكان من رأي عثمان والجماعة منع ذلك لئلا يتطاول الزمان، وينقل عنه القرآن فيخلط به ما ليس منه فيعود الخلاف إلى مسألة فقهية، وهي جواز إلحاق بعض التفاسير بأثناء المصحف أو منع ذلك، ويحتمل أيضًا ماروي من إسقاط المعوذتين من مصحفه على أنه اعتقد أنه لايلزمه أن يكتب كل ما كان من القرآن، وإنما يكتب منه ما كان له فيه غرض، وكان المعوذتين لقصرهما وكثرة دورهما في الصلاة والتعوّذ بهما عند سائر الناس اشتهرت، فذلك اشتهار يستغنى معه عن إثبات ذلك في المصحف.
قال القاضي: وقوله: " فعرفت فيه تحوش القوم وهيأتهم "، كذا رويناه بالشين، ولعل معناه: انقباضهم، والحوشي الذي لا(2) يخالط الناس، وقد يحتمل أن يكون من الفطنة والذكاء يقال: رجل حوشي الفؤاد، أي حديده، وقد يكون معنى التحوش هنا: الاجتماع حوله يقال: احتوش القوم فلانا إذا جعلوه وسطهم.
ونهيه - عليه السلام - عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وفي الرواية الأخرى حتى تشرق. قال الإمام: التنفل بعد الصبح وبعد العصر من غير سبب يقتضيه منهي عنه.
واختلف العلماء فيما له سبب كتحية المسجد وشبهه، فمنعه مالك أخذًا بعموم هذا الحديث، وأجازه الشافعي تعلقًا بحديث أم سلمة في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد العصر الركعتين اللتين بعد الظهر لما شغل عنهما.
__________
(1) في (ط):" يثبت ".
(2) في (أ) غير واضحة.(3/364)
قال القاضي: تقدم الكلام على هذا، وإباحة داود النافلة(1) لسبب ولغير سبب. النهار كله، وفي رواية:" حتى تشرق " بيان أنه ليس المراد بالطلوع ظهور قرصها، وإنما هو ارتفاعها وإشراقها، ويبينه سائر الأحاديث الأخر، من نهيه عن التحري بالصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، والنهي عن الصلاة إذا بدأ حاجب الشمس حتى برز، وفي ثلاث ساعات حتى تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وهذا كله عندنا وعند جمهور العلماء في النوافل.
وأما الفرائض فلاخلاف في قضاء فرض يومه ومنسيته في هذين الوقتين ؛ مالم تطلع الشمس أو تغرب، فإذا طلعت أو غربت فلا خلاف في قضاء فرض يومه مع طلوعها وغروبها، إلا شيء روي عن أبي حنيفة أنه لا يقضي صلاة صبح يومه مع طلوعها، وأنها إن طلعت وقد عقد ركعة فسدت عليه، ولا يقوله في الغروب ؛ لجواز الصلاة بعد الغروب، والأحاديث الصحيحة ترد قوله، وقد تقدم في حديث " من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصج، الكلام على هذا.
وأما منسيات غير يومه، فجمهور العلماء على صلاتها حينئذ، إلا أبا حنيفة فلا يجيز قضاءها في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، وحمل اللفظ على العموم.
وقوله:" وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس "، يريد حتى يقف الظل، وهو للقائم بالظهيرة، فلا يظهر له زيادة ولا نقص، لأنه قد انتهى نقصه. وقد اختلف العلماء في الصلاة للنوافل حينئذ على ما نذكره في الحديث بعد هذا.
وقوله: " حين تضيف للغروب حتى تغرب، قال الإمام: قال أبو عبيد: معناه: مالت للغروب، يقال منه: ضافت تضيف إذا مالت، وضفت فلانا، أي: ملت ونزلت به وأضفته، أضيفه: أنزلته عليك وأملته إليك، والشىء مضاف إلى كذا، أي ممال إليه، والدعي مضاف إلى قوم ليس منهم، أي: مسند إليهم. وأضفت ظهري، أي أسندته، وضاف السهم عن الهدف وضاف أيضًا.
__________
(1) في (ط):" الصلاة النافلة ".(3/365)
وقوله:" كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن - يعني في هذه الثلاث ساعات - وأن نقبر فيهن موتانا "، يحتمل أن المراد بذلك الصلاة عليها حينئذ، ويحتمل أن يكون على ظاهره من الدفن لما كان الوقت ممنوعًا من العبادات للعلل المتقدمة، تجري أيضًا أن لا يدفن حينئذ المسلم، وأن يكون دفنه في غيرها من الأوقات.
وقد اختلف العلماء في الصلاة عليها حينئذ، وفي الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، وفي الدفن، فأجاز الشافعي الصلاة عليها في كل حين ودفنها في كل حين، وجمهور العلماء على منع الصلاة عليها حينئذ، وعن مالك في ذلك اختلاف سنذكره في الجنائز إن شاء الله تعالى.
وقوله في صلاة العصر:« إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها فمن حافظ عليها كان له أجره مرتين » يحتج به من يراها الصلاة الوسطى.
قال القاضي: وقوله في حديث عمرو بن عبسة حين جاءه للإسلام:« لا ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت أني(1) قد ظهرت فأتنى »، ليس معناه أنه رده دون إسلام، وإنما ردّه عن صحبته واتباعه ؛ لأنه كان في أول الإسلام وقبل قوته، وقد ذكر أنه لم يكن معه على الإسلام حينئذ إلا حر وعبد، فخاف عليه لغربته أن تهلكه قريش أو تفتنه. وقد تقدم ما في ذكر حديثه من معرفة الأوقات في موضعها.
وقوله:« فأنها تطلع حين تطلع بين قرنى شيطان »، قال الإمام: اختلف الناس في المراد بقرن الشيطان هاهنا، فقيل: حزبه وأتباعه، وقيل: قوته وطاقته، ومنه قول الله تعالى:{ وما كنا له مقرنين }، أي: مطيقين، وقيل: إن ذلك استعارة وكناية عن إضراره، لما كانت ذوات القرون تسلط بقرونها على الأذى استعير للشيطان ذلك، وقيل: القرنان: جانبا الرأس، فهو على ظاهره.
__________
(1) في (ط):" بي ".(3/366)
قال القاضي: تقدم من هذا أول الكتاب في حديث الفتنة بالمشرق وبها يطلع قرن الشيطان، وأول كتاب الصلاة في الأوقات، وتقدم الكلام هناك على ما فيه من الأوقات وفي الوضوء على ما فسر من تكفيره للذنوب. وجاء هنا " خرّت خطاياه " بالخاء، أي سقطت وزالت عنه،كذا لجميعهم في هذا الحرف حيث تكرر، وعند ابن أبي جعفر:"جرت" بالجيم في الأول "ويخرج" معناه: أي مع الماء، كما في الحديث الآخر:" خرجت(1) خطاياه مع الماء أو مع آخر قطر الماء ".
وقوله هاهنا في الحديث:« فإنها تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار » يدل على صحة تأويل من جعله على ظاهره، وأن الشيطان يفعل ذلك ويتطاول لها - كما تقدم - ليخادع نفسه أن السجود له، أو على تأويل من تأول أنهم أتباع الشيطان وعبّاد الشمس.
وقوله:« حتى تستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة، فإن حينئذ تسجر جهنم »، قال الإمام: قيل في تفسير قوله تعالى:[{ والبحر المسجور}، قيل: إنه المملوء، وقيل: الموقد.
قال القاضي: وقيل في تفسير قوله تعالى ](2):{ وإذا البحار سجرت } نحو هذا، صارت نارًا كما يسجر التنور، وقيل: فاضت، وقيل: خلطت، وقيل: لا يبعد أن يكون هذا كله أن تخلط وتفيض وتصير نارًا.
__________
(1) في (ط):" أخرجت ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (ط).(3/367)
ومعنى قوله:" حتى تستقل الظل بالرمح "، أن يكون ظله قليلا، كأنه قال: حتى قل(1) ظل الرمح والباء زائدة، جاءت لتحسين الكلام، كما قالوا في قوله تعالى:{ ومن يرد فيه بإلحاد بظلم(2)}، و{ فامسحوا برءوسكم }، وقد رواه أبو داود:" حتى يعدل(3) الرمح ظله. قال الخطابي: هذا إذا قامت الشمس وتناهى قصر الظل. قال القاضي: ما(4) أدرى موافقة هذا " يعدل "، ولعل معنى " يعدل " هنا يكون مثله، في أن الظل حينئذ لايزيد كما لا يزيد الرمح في طوله، أو يكون " يعدل " بمعنى يصرف، كأن الرمح صرفه(5) ظله عن النقصان إلى الزيادة، ومن الليل إلى المغرب إلى الرجوع إلى المشرق، وأضاف ذلك إلى الرمح لما كان من سببه، وهذا وقت وقوف الشمس، وقد سمعناه على الخشني من رواية الهوزني:" حتى يستقيل ظل الرمح "، وهذا له عندي وجه بين، أي يقيم ولا تظهر زيادته، والمقيل(6): المقام وقت القائلة، معنى هذا معنى قولهم: وقف الظل، ووقفت الشمس. وفيه حجة(7) لمن(8) منع الصلاة حينئذ كما منعها طرفي النهار. وقد اختلف العلماء في ذلك فمذهب مالك وجمهور العلماء جواز الصلاة حينئذ، وحجتهم عمل المسلمين في جميع الأقطار في التنفل إلى صعود الإمام يوم الجمعة المنبر بعد الزوال، وذهب أهل الرأي إلى منع الصلاة حينئذ لنهيه في هذا الحديث عن الصلاة حينئذ، ولقوله في الحديث الآخر: " وحين يقوم قائم الظهيرة حتى(9) تميل الشمس " وقد وقع لمالك التوقف في المسألة، وقال: لا أنهى عنه للذى أدركت الناس عليه ولا أحبه للنهى عنه، وتأول المبيحون الحديمث أن يكون منسوخًا بإجماع عمل المسلمين(10)، أو يكون المراد به الفريضة،
__________
(1) في (ط):" تقل ".
(2) قوله:" بظلم " ليس في (ط).
(3) في (ط):" يعتدل ".
(4) في (ط):" لا ".
(5) في (ط):" صرف ".
(6) قوله:" المقيل " ليس في (ط).
(7) بعده في (أ) كلمة غير واضحة.
(8) في (ط):" على من ".
(9) في (ط):" حين ".
(10) في (ط):" الناس ".(3/368)
ويكون موافقا لقوله:« إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة(1)، فإن شدة الحر من فيح جهنم »، ولتعليله هنا: بأن جهنم تسجر حينئذ، وزاد في غير مسلم: " وتفتح أبوابها "، وهذا من معنى:" فيح جهنم "، لكن يرد هذا التأويل قوله بعده:« فإذا زاغت الشمس فصل ما شئت »، فدل أنه لم يرد الإبراد بالفريضة، وأن المراد النافلة إذا لم تجز صلاة الفريضة قبل أن تزيغ الشمس.
قول عائشة:" وهم عمر(2)، إنما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتحرى طلوع الشمس أو غروبها "، مما يحتج به داود، وإنما قالت ذلك عائشة لما روته من صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - الركعتين بعد العصر، وقد أخبرت بعلة ذلك وردت الأمر أيضًا فيها إلى أم سلمة، وهي التي سألته عن القصة. والعلة في صلاتها وما قاله عمر ورواه من ذلك قد رواه أبو هريرة وأبو سعيد الخدري وغير واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. كما قال ابن عباس في "الأم": منهم عمر، وكان أحبهم إليّ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكر الحديث.
وعند الطبري: " وكان أحبهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والأول الصواب، والله أعلم. ووقع في بعض نسخ مسلم: " وهم عمرو، وهو وهم، وإنما وقع الوهم لأن حديث عائشة جاء في الكتاب بإثر حديث عمرو بن عبسة، فظن الظان أنه المراد قوله:« إذا بدا حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تبرز، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروها حتى تغيب »، مما يحتج به أبوحنيفة لعمومه واختصاصه ذلك الوقت حاجب الشمس أول ما يبدو منها، وهذا الصحيح.
وقيل: قرنها: أعلاها، وحواجبها: نواصيها.
__________
(1) قوله:" بالصلاة " ليس في (ط).
(2) في (أ):" ابن عمر ".(3/369)