تعريف بكتاب إكمال المعلم وخطة تحقيقه
مقدمة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:" الذي اتفق عليه أهل العلم أنه ليس بعد القرآن أصح من كتاب البخاري ومسلم ".
وتواطأت كلمات العلماء على مثل ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله، ولما كان الصحيحان بهذه المثابة فقد تداولتها أيد العلماء بالخدمة شرحًا واختصارًا وجمعًا وتحشيته، وبيان غريبٍ ورجالٍ ونحو ذلك، ومع ذلك فإنها على كثرتها لم توف الصحيحين حقهما، حتى قال ابن خلدون:" إن شرح كتاب البخاري دين على الأمة، أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ". ولقد وفَّى بهذا الدين عن الأمة علماء كثر منهم تلميذ ابن خلدون الحافظ ابن حجر في كتابه "فتح الباري"، وكذلك العيني في "عمدة القاري"، وابن الملقن في "شواهد التوضيح".
أما "صحيح مسلم" فلم يف أحد بشرحه على هذا النمط وبهذا التوسع، وقد بلغ ما يعرف من شروحه نحوًا من 45 شرحًا. إذا جمعت كلها فإن أباها وأمها هو شرح القاضي عياض المسمى إكمال المعلم، ولئن كان أحد قضى دين مسلم على الأمة فهو أبو الفضل القاضي عياض، كما قضى دين البخاري أبو الفضل ابن حجر.
التعريف بالكتاب:
أصل هذا الكتاب هو كتاب المعلم للمازري، والذي كان تدوينًا لكلماته في أثناء قراءة "صحيح مسلم" عليه في شهر رمضان، فلمّا فرغ من القراءة عرض عليه الطلبة ما أملاه، فنظر فيه وهذبه، فجاءت تعليقات مختصرة على مواضع متفرقة من أحاديث مسلم، ولذا قال عياض: إنّ كتاب المعلم لم يكن تأليفًا استجمع له مؤلّفه، وإنما هو تعليق ما تضبطه الطلبة من مجالسه.(1/1)
ومع ذلك فقد تضمّن هذا الشرح فوائد مهمّة ونكات بديعة، وحظي بالقبول والعناية في المشرق والمغرب، فرأى القاضي عياض أن يجعله أساسًا يبني عليه شرحه لـ"صحيح مسلم"، وأن يكون ما يذكره كالتذييل لتمامه، والصلة لإكمال كلامه، فيبدأ بما قاله قائلاً: قال الإمام. ثمّ يضيف إليه ما استتب وتوالى، فإذا جاءت الزيادة، فصلها بإضافتها إليه قائلاً: قال القاضي، وهكذا يتطارد الكلام بينهما نوبًا.
ولقد فجّر القاضي من الشرح عيونًا وأنهارًا، وحين صحبت كتاب الإكمال أثناء عملي في القسم المحقَّق من المفهم، رأيت عجبًا من العجب، فقد صنع القاضي من شرحه هذا معلمة معرفيّة ضخمة، وعملاً مؤصلاً ؛ إذ الشيخ إمام في علومه متمكّن من فنونه، بحيث لا يظهر ضعف ولا إعواز في علم من علومه التي يحتاج إليها في كلامه على الأحاديث.
بدأ القاضي شرحه بخطبة بيّن فيها سبب تأليفه، وخطّته في كتابه، ومضامين شرحه لـ"صحيح مسلم" من "الوقوف على معاني أخباره، والبحث عن أغواره، والكشف عن أسراره، وإثارة الفقه ودقائق العلم وآثاره، والاقتباس للهدى وحقائق الدين من حلاه وأنواره، وتقصّي ألفاظه عن حكمه واعتباره، وبيان غامضه ومشكله، وتقييد مبهمه ومهمله، والتنبيه على ما وقع من اختلال لبعض رواته في أسانيده ومتونه، والبسط لما أشار إليه مسلم رحمه الله في مقدمته من أصول علم الأثر وفنونه ".
ثم انتقل بعد إلى شرح مقدّمة مسلم، فشرحها شرحًا مطولاً حرّر فيها مقاصد مسلم في كتابه، وحقّق كثيرًا من قضايا المصطلح بنَفَس المحقّق، وليس الناقل المقلّد.(1/2)
ثم شرح أحاديث مسلم، فيذكر كلام المازري، ثم يعقّبه بالتأييد حينًا، وبالتعقيب حينًا، وبالتتميم أحيانًا كثيرة، مع العناية بالجوانب الحديثية، والاستيعاب في القضايا اللغويّة، وتقرير المسائل الاعتقاديّة، وبسط الخلافات الفقهيّة، كل ذلك مع التدقيق في قضيّة مهمّة تولاها القاضي رحمه الله في كتابه هذا، وهي ضبط نص الصحيح، فقد اعتنى بذكر الروايات والتنبيه على الأوهام والتصحيفات، وذلك بتحرير بالغ ساعده عليه كثرة رواياته للصحيح، وكامل تيقظه في المقارنة بينهما.
هذا عدا ما شحن به القاضي شرحه من فرائد الفوائد، ونفائس النكت، وبديع التحقيقات.
ولقد طال استغرابي وأنا أقرأ هذا الكتاب أن بقي وهين المحبسين إلى الآن، في حين طبعت شروح لبعض كتب السنة ليس في كثير منها ما يبلغ معشاره.
خطة العمل في الكتاب:
1 - إثبات نص "صحيح مسلم" مقرونًا بالشرح مع عزو أحاديث "صحيح مسلم" المتفق عليها إلى مكان تخريجها في "صحيح البخاري". مع التنبيه على ما وقع في طبعة عبدالباقي في "صحيح مسلم " من أوهام.
2 - مقابلة نسخ كتاب "إكمال المعلم" مع النسخة التامة المعتمدة في العمل، وإثبات الفروق في الحاشية.
3 - تخريج الأحاديث التي يوردها القاضي في شرحه ببيان مصدرها والحكم عليها. وكذلك الآثار عن الصحابة.
4 - التعليق على الأخطاء العقدية التي تمر أثناء الشرح، وبيان الحق الذي تتابع عليه أهل السنة في هذه المسائل سواء في ذلك ما يتعلق بتوحيد العبادة أو توحيد الأسماء والصفات، فإن هؤلاء الشُّراح على جلالتهم وإمامتهم يقعون في مزالق في هذه المسائل، ولذا فإن التعقيب وبيان الصواب ونقل أقوال المحققين من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن القيم من أعظم ما يتممها ويسد خللها.
5 - قد يتجاوز القاضي جملاً من الحديث فلا يشرحها في حين يشرحها من جاء بعده كالنووي والقرطبي في شرحيهما على " صحيح مسلم " فينقل كلامهما على هذه الجمل،(1/3)
بحيث يكون القارئ لهذا الكتاب محيطًا بكلام شرّاح الصحيح على كل جمل الحديث وفقره.
6 - قد يتعقب النووي أو القرطبي أو الحافظ في "الفتح" بعض آراء القاضي وترجيحاته، فتنقل تعقباتهم عليه عند مواضعها من كلام القاضي، وبهذا تكتمل الفائدة للقارئ لإحاطته بكلام القاضي وما أورد عليه.
7 - التقديم للكتاب بمقدمة تتضمن التعريف بالإمام مسلم وصحيحه وأهم شروحه، ثم التعريف بالقاضي عياض وشرحه لـ"صحيح مسلم"، والمقارنة بينه وبين أهم شروح مسلم بعده.
أما التعليق بذكر التعريف بالأعلام أو التفصيل في المسائل الفقهية فهو مما نضرب عنه صفحًا إذ فيه إثقال للكتاب وإطناب غير مستطاب.
الهدف من خدمة الكتاب
ليس الهدف مجرد إخراج الكتاب، فإن الكتاب قد طبع قريبًا، ولكن الهدف هو خدمته عقديًا بالدرجة الأولى وحديثيًا بعد ذلك، بالإضافة لإخراج النص كاملاً سالمًا من التصحيف والسقط، وذلك أن هذا الكتاب الضخم المهم لا يستغني عنه طالب علم، ولابد من وجوده في كل مكتبة، فعندما يطعّم بالتصويبات العقدية المحررة الموثقة في طبعة مخدومة محققة فإن في ذلك أعظم خدمة لنشر العقيدة السلفية في أوساط طلبة العلم والمتعلمين.
وقد سلك هذا النهج الشيخ عبدالعزيز بن باز عندما حقق "فتح الباري"، فكانت تعليقاته على قلتها واختصارها تسديدًا هامًّا في جانب لم يحسنه الحافظ ابن حجر.
وعلى النقيض من ذلك عمل زاهد الكوثري، فإنه قد سمم الجو العلمي في وقته مع أنه ليس له تلك الكتب المنتشرة التي يرجع إليها، ولكن سلك إلى ذلك سبيل التعليق على الكتب عند طباعتها فلوث كتب أهل السنة بالتعليقات الجانحة، كما فعل في كتاب "الأسماء والصفات" للبيهقي وغيره، فراج بهرجه واشتهر ضلاله.
تنبيه(1/4)
وصلت قبل شهر رمضان طبعة لكتاب "إكمال المعلم" بتحقيق د. يحيى إسماعيل في تسع مجلدات، إلا أن أهم ما يعنى به ليس موجودًا في هذه الطبعة، وهو التصويبات العقدية والتخريجات الحديثية، بالإضافة لوجود تصحيفات وسقط في النص المثبت، كما أن النسخة الخطية الكاملة لكتاب "إكمال المعلم" لم تكن بين أيديهم عند طباعة الكتاب ولم يذكروها، وهي موجودة لدينا.
تقدير التكلفة
تقدر قيمة الكتاب بمقارنته بغيره، فقد سبق أن اشترت مكتبة المعارف كتاب "المفهم" مكتوبًا باليد، وعلى أن تقوم هي بصفّه طباعيًّا وتصويبه بسعر (800 ريال ) للملزمة، والملزمة 16 صفحة، ويمكن أن يسلك بهذا الكتاب نفس السبيل، مع أننا سنتولى صفّه طباعيًّا وتصويبه بحيث يسلم مصفوفًا مصوبًا في صورته النهائية، ومسجل على أقراص الحاسب الآلي، ومسحوبًا على الورق .
وفق الله الجميع لما فيه الخير.
مُقَدِّمَةٌ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَعَلَى جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ ….
ــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
حدثني(1) الشيخ الحافظ بقية السلف،وعدة الخلف، الصالح الفقيه، الإمام العالم العامل، الورع الزاهد، أبو العباس أحمد بن محمد بن حسن بن علي بن تامتيت اللواتي، قراءة مني عليه في يوم الاثنين رابع ذي الحجة سنة ست وخمسين وستمائة، بعد أن نقلتُه من أصله قال:" حدثنا الشيخ الحافظ أبو محمد عبدالله بن محمد الفهري بفاس قراءة مني عليه في الثالث عشر من ذي القعدة سنة تسعين وخمسمائة بعد أن نقلته من أصله قال: أخبرنا القاضي أبو الحسن علي بن فليح قال: أخبرنا الشيخ الحافظ أبو الفضل عياض بن موسى ابن عياض اليحصبي رحمه الله ".
__________
(1) السند ليس في (ط).(1/5)
وحدثني الشيخ الحافظ المتقن محي الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن حسن بن علي بن تامتيت اللواتي رحمه الله، في يوم الاثنين رابع ذي الحجة سنة ست وخمسين وستمائة قال: حدثنا بهذا الديوان مناولة وإجازة الشيخ الحافظ أبو الحسين يحيى بن محمد بن علي الأنصاري -كرم الله وجهه-، وحدثني به عن الشيخ الحافظ القاضي أبي الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي، وذلك في شهور سنة أحدى وتسعين وخمسمائة، والحمد لله حق حمده، والصلاة على سيدنا محمد نبيه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما قال: الحمد لله المستفتح بحمده كل أمر ذي بال، والصلاة على محمد المصطفى نبيه(1) وعلى آله خير آل، والضراعة إليه جل اسمه في توفيقي وتسديدي لما أدبّره وأحبره من مقال، وأن يخلصه عن التصنع لغير وجهه(2) ذي الجلال، وبعد:
__________
(1) في (ح):" على المصطفى محمد نبيه ".
(2) في (ط):" وجه ".(1/6)
فإني عند اجتماع طلبة العلم لدي في التفقه في صحيح الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله، والوقوف على معاني أخباره، والبحث عن أغواره، والكشف عن أسراره، وإثارة الفقه، ودقائق العلم من آثاره، والاقتباس للهدي وحقائق الدين من حذاه(1) وأنواره، وتقصي(2) ألفاظه عن حِكَمِه، واعتباره، وبيان غامضه ومشكله، وتقييد مبهمه ومهمله، والتنبيه على ما وقع من اختلال لبعض رواته في أسانيده ومتونه، والبسط لما أشار(3) إليه -رحمه الله - في مقدمته من أصول علم الأثر وفنونه، ولم يكن في ذلك كتاب مختص بهذه الأم، ولا تأليف اعتنى به كالاعتناء بغيره من(4) تقدم إلا كتاب(5) شيخنا الحافظ أبي علي الحسين بن محمد الغساني الجياني في الكلام على مشكل أسانيده في كتابه الذي ألفه على هذا الكتاب، وكتاب "الصحيح" للإمام أبي عبدالله البخاري(6) المسمى بـ" تقييد المهمل "، وكتاب الإمام أبي عبدالله محمد بن علي بن إبراهيم التميمي المازري(7) في شرح معانيه المسمى بـ:" المعلم "، وإن كان قد أودعه جملة صالحة مما في كتاب الحافظ أبي علي من الكلام على إسناده.
وكلا الكتابين نهاية في فنه، بالغ في بابه، مودع من فنون المعارف وفوائدها، وغرائب علوم الأثر وشواردها ما تُلُقّي كل واحد منهما بالقبول، وبلغ الطالب بهما من رغبته المأمول. وكل واحد من الكتابين أجازه لنا مؤلفه، أعظم الله بذلك أجورهما وأشرق(8) بما سعيا فيه بين أيديهما وبأيمانهما نورهما.
__________
(1) في (ح):" حلاه ".
(2) في (ط):" ونقص ".
(3) في (ط):" إلى ما أشار "، وفي (ح):" لما ما أشار ".
(4) في (ط):" لمن ".
(5) في (ط):" كتابي ".
(6) في (ح):" محمد بن إسماعيل البخاري ".
(7) في (أ) و(ح):" المازري التميمي ".
(8) في (أ):" أشرف ".(1/7)
لكن الإحاطة على البشر ممتنعة، ومطارح الألباب والأذهان(1) للبحث متسعة، وكثيرًا(2) ما وقفنا في الكتاب المذكور على أحاديث مشكلة لم يقع لها هناك تفسير، وفصول محتملة تحتاج معانيها إلى تحقيق وتقرير، ونكت مجملة(3) لابد لها من تفصيل وتحرير، وألفاظ مهملة تضطر إلى الإتقان والتقييد، وكلمات غيّرها النقَلة من حقها أن يخرج صوابها إلى الوجود.
وعند الوقوف على ما أودعناه هذا التعليق، وضمّنّاه الكتاب الآخر الذي بين أيدينا المسمى بـ " مشارق الأنوار على صحاح الآثار " المشتمل عليها الأمهات الثلاث:
موطأ الإمام أبي عبدالله مالك بن أنس المدني.
وصحيح الإمام أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري.
وصحيح الإمام(4) أبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري رضي الله عن جميعهم، ووفاهم جزاء صنيعهم، تقف على مقدار ما أشرنا إليه، وكثرة ما أغفل الكلام في الكتابين من الفنين عليه.
والعذر بيّن، فإن كتاب " المُعْلِم " لم يكن تأليفا استجمع له مؤلفه، وإنما هو تعليق ما تضبطه الطلبة من مجالسه وتتلقفه.
وكذلك كتاب " تقييد المهمل " حال بين الشيخ فيه وبين استيفاء غرضه ما دَهِمَه من مزمن مرضه.
فكثرت الرغبات في تعليق لما يمضي من تلك الزيادات والتنبيهات يضم نشرها ويجمع، والقواطع عن الإجابة تقطع، وشغل المحنة التي طوقت عنق الإنسان تمنع، والرجاء لوقت فراغ ذلك(5) يسوّف ويطمع، إلى أن من الله بإحسانه بحل تلك القلادة وزوالها، وفرغ البال من عهدها(6) القادحة وأشغالها، فتوجه الأمر وانقطع العذر، وانبعثت همة العبد الفقير بمعونة مولاه وتوفيقه إلى الإجابة، راغبة لمولاها جل اسمه في المعونة، وتوخي الإصابة.
__________
(1) في (أ):" والآذان ".
(2) في (ط):" فكثيرًا ".
(3) قوله:" وتقرير ونكت مجملة " ليس في (ط).
(4) قوله:" الإمام " ليس في (أ).
(5) في (ح) و(ط):" لذلك ".
(6) في (أ):" عهودها ".(1/8)
ثم ترددت في عمله، ورأيت أن إفراد كتاب لذلك مقتطع عن الكتاب "المعلم " وما ضُمّنه غير موفّ بالغرض، وأن تأليف كتاب جامع لشرحه لا معنى له مع ما قد تقرر(1) في "المعلم" من فوائد جمة لا تضاهى، ونكت متقنة وقف عندها حسن التأليف وتناهى، فيأتي الكلام في ذلك ثانية غير مُفاد أو كالحديث المعاد، فاستتب الرأي بعد استخارة الله تعالى وسلوك سبيل(2) العدل والإنصاف أن يكون ما نذكر من ذلك كالتذييل لتمامه والصلة لإكمال كلامه، فنبدأ بما قاله - رضي الله عنه - ونضيفه إليه ما استتب وتوالى، فإذا جاءت الزيادة فصلناها بالإضافة إلينا، إلى أن تنتهي(3) منتهاها، ثم عطفنا على سوق ما يليه من قوله، ويتطارد الكلام هكذا بيننا نُوًبا بقوة الله وحوله.
وكان في " المعلم " تقديم وتأخير عن ترتيب كتاب مسلم فسقناه مساق الأصل، ونظمنا فصوله على الولاء فصلاً بعد فصل.
وأنا أتبرأ لقارئه من التعاطي لما لم أحط به علمًا، والإغفال عما لا ينفك عنه البشر سهوًا ووهمًا، وأرغب لمن حقق فيه خللاً أن يصلحه، أو وجد فيه مغفلاً أن يبينه ويفصحه، أو رأى فيه متأولاً(4) أن يحسن تأويله، أو ألفى(5) فيه محتملاً أن يوضح دليله.
وقد اخترت للكتاب سمة على وفقه، تشهد بالإنصاف وبالاعتراف لذي السبق بسبقه(6)، ووسمته بكتاب " إكمال المعلم بفوائد مسلم ".
وتحريت فيه جهدي(7) الصواب بفضل الله المنعم، وأودعته من الغرائب والعجائب ما يعرف قدره كل معتن بها متهمم (8)، ومن الحقائق والدقائق ما تنير(9) كل مبهم، وتسير مع كل منجد ومتهم.
__________
(1) في (ط):" مع ما تقرر ".
(2) في (أ):" سبل ".
(3) في (ح):" ينتهي "، وفي (ط):" ننتهي ".
(4) في (ح):" تأويلاً "، وفي الهامش:" متأولاً " وعليها:"خ".
(5) في (ط):" أو لفتى ".
(6) في (أ):" لسبقه ".
(7) في (أ):" بجهدي ".
(8) في (ط):" مهتم ".
(9) في (ح):" ينير ".(1/9)
وإلى الله أرغب أن يجعلنا ممن انتفع بما علم وهدي إلى الصراط المستقيم وأُلهم.
وقد تركنا كثيرا مما تعلق بعلم الإسناد مما لم يذكره الشيخ الفقيه الحافظ أبو علي، أو ذكره ولم يذكره الإمام أبو عبدالله ؛ إذ غالب ما ذكره في هذا الباب مما في كتاب الحافظ أبي علي، ولم نتتبعه(1) لاستقصائه في الكتاب الآخر.
لكنا(2) ذكرنا من العلل طرفا مما لم يقع في كتاب الحافظ أبي علي مما هو من شرطه، أو تركه عن قصد مما ذكره الإمام أبو الحسن الدارقطني في كتابه المسمى بـ:"التتبع والاستدراكات على البخاري ومسلم"؛ الذي حدثنا به قراءة مني عليه: القاضي أبو علي الحسين بن محمد الصدفي(3) عن أبي بكر محمد بن عبد(4)الباقي عن القاضي أبي الغنائم(5) بن الدجاجي عن الدارقطني.
وحدثني به أيضًا هو وغير واحد من شيوخنا عن(6) القاضي أبي(7) الوليد الباجي عن أبي عبدالله الصوري عن أبي بكر البرقاني عن الدارقطني ؛ إذ لم يكن غرض الحافظ أبي علي في الغالب إلا ذكر مالم يذكره.
ولولا ذكر الإمام أبي عبدالله لأطراف مما ذكره الحافظ أبو علي من ذلك لتركنا الكلام على هذا الفن في هذا التعليق جملة ؛ إذ هو باب واسع، والتصانيف فيه كثيرة موجودة، ولاقتصرنا على الشروح والمعاني دون العلل والأسامى.
وأنا أقدم بين يدي الكلام أسانيدي في هذا الكتاب ليعرف أثناءه عند اختلاف الألفاظ من نضيف إليه رواية أحدها والطريق إليه إن شاء الله، وهو المستعان لا إله غيره ولاخير إلا خيره(8).
ذكر أسانيدنا في كتاب صحيح مسلم رحمه الله(9)
__________
(1) في (ط):" يتبعه ".
(2) في حاشية (ح):"لأنا "، وكتب فوقها:" خ".
(3) قوله:" محمد الصدفي " لم يتضح في (ط).
(4) قوله:" عبد " ليس في (ط).
(5) في (ط):" القاسم ".
(6) قوله:" عن " ليس في (أ).
(7) في (أ):" أبو ".
(8) قوله:" ولا خير إلا خيره " من (ح).
(9) قوله:" رحمه الله " ليس في (ط).(1/10)
سمعت جميع الصحيح لمسلم يقرأ بجامع مدينة مرسية - حماها الله تعالى- على قاضي القضاة الحافظ(1) أبي علي الحسن بن محمد الصدفي، نا به عن أبي العباس أحمد بن عمر العذري(2) المعروف بالدلائي.
وسمعت جميعه أيضًا بقرطبة حرسها الله على الشيخ المحدث أبي بحر سفيان بن العاصي الأسدي، حدثني(3) به أيضًا عن أبي العباس العذري، عن أبي العباس أحمد بن الحسن الرازي.
قال أبو بحر: وحدثني(4) به أيضًا الشيخ أبو الليث نصر بن الحسن(5) الشاشي السمرقندي، عن أبي الحسين(6) عبدالغافر بن محمد الفارسي.
وقرأت جميعه على الفقيه أبي محمد عبدالله بن أبي جعفر الخشني، حدثني به سماعه بمكة عن الإمام أبي علي الحسين بن علي الطبري عن أبي الحسين الفارسي.
قال ابن أبي جعفر: وحدثني به أيضًا أبي(7) رحمه الله عن أبي حفص الهوزني، عن أبي محمد عبدالله بن سعيد الشنتجالي،عن أبي سعيد عمر بن محمد السجزي.
وقد حدثني(8) به أيضًا الفقيه أبو محمد عبدالرحمن بن عتّاب(9) عن أبي محمد الشنتجالي إجازة. وحدثني به أيضًا قراءة لبعضه وسماعًا، وإجازة لما فاتني منه: الفقيه القاضي أبو عبدالله محمد(10) بن عيسى التميمي عن أبي العباس الدلائي إجازة له، وعن الشيخ الحافظ أبي علي الحسين بن محمد الجياني سماعًا عن الدلائي(11) عن الرازي.
وقال الجياني: وحدثني به أيضًا أبو القاسم حاتم بن محمد الطرابلسي عن أبي سعيد السجزي.
قال هو والرازي والفارسي: نا أبو أحمد محمد بن عيسى الجلودي، نا إبراهيم بن سفيان المروزي، نا مسلم بن الحجاج.
__________
(1) قوله:" الحافظ " ليس في (أ).
(2) قوله:" العذري " ليس في (ط).
(3) في (ح):" حدثنا ".
(4) في (ح):" وحدثنا ".
(5) في (ح):" الحسين ".
(6) في (ط):" الحسن ".
(7) قوله:" أبي " ليس في (ط).
(8) في (أ):" وحدثني ".
(9) في (أ):" غياث ".
(10) قوله:" محمد " ليس في (أ) و(ط).
(11) من قوله:" إجازة له...." إلى هنا ليس في (ط).(1/11)
وكتب إلي الشيخ(1) الحافظ أبو علي الحسين بن محمد الجياني يحدثني(2) بهذا الكتاب بسنده المتقدم، قال: وحدثني به أيضًا حاتم بن محمد عن عبدالملك بن الحسن الصقلي عن أبي بكر محمد بن إبراهيم الكسائي عن ابن سفيان.
وأما رواية القلانسي فيه فحدثني بها قراءة وسماعا وإجازة: القاضي أبو عبدالله التميمي عن أبي علي الجياني عن القاضي أبي(3) عمر أحمد بن محمد بن الحذاء.
وهو لي من الجياني وابن عتاب(4) وغيرهما، إجازة عن ابن الحذاء عن أبيه، عن أبي(5) العلاء ابن ماهان، عن أبي بكر محمد بن يحيى بن الأشقر، عن أبي محمد أحمد بن علي القلانسي، عن مسلم.
وحدثني به أيضًا(6) قراءة عليه: الفقيه أبو محمد ابن أبي جعفر عن أبيه عن أبي حفص عمر بن الحسن(7) الهوزني، عن القاضي أبي عبدالله محمد بن أحمد الباجي عن ابن ماهان.
وبهذين الطريقين وصل إلينا كتاب مسلم رحمه الله.
وها أنا أبتدئ بنقل ما تقدم في " المعلم " ثم أتبعه بما تضمنت إن شاء الله تعالى.
قال الإمام أبو عبدالله محمد بن علي بن إبراهيم المازري رحمه الله(8): كتاب مسلم من أصح كتب الحديث، قال مؤلفه: انتقيته من نحو ثلاثمائة ألف حديث، وقال بعض الناس: ما تحت أديم السماء أصح منه، يريد في كتب الحديث.
وكان مسلم من جملة أصحاب البخاري لما ورد البخاري نيسابور، ولما امتحن فيها البخاري بالمسألة المشهورة نفر(9) عنه أصحابه إلا مسلمًا فإنه لزمه.
وتوفي الإمام(10) مسلم رحمه الله في العشر الآخر(11) من رجب من سنة مائتين وإحدى وستين.
__________
(1) قوله:" الشيخ " ليس في (أ).
(2) في (أ):" حدثني ".
(3) في (ط):" أبو ".
(4) في (أ):" غياث ".
(5) في (ط):" ابن ".
(6) قوله:" أيضًا " ليس في (أ) و(ط).
(7) في (ح):" الحسين ".
(8) في (ط):" وفقه الله ".
(9) في حاشية (ح):" نفر ".
(10) قوله:" الإمام " ليس في (ح).
(11) في (أ) يشبه أن تكون:" الأخير ".(1/12)
قال الفقيه(1) القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي(2) رحمه الله (3): وإذ قد ذكر الإمام أبو عبدالله - رضي الله عنه - من أخبار مسلم رحمه الله(4) طرفًا فسنذكر من ذلك ما حضر ونضيف إلى ذلك مقصد مسلم رحمه الله(8) في تأليف هذا الكتاب، ونضطر إلى تفسير الصحيح والسقيم، وفصول من علوم(5) الحديث نبسط من الكلام فيها طرفًا، ونتكلم على كل فصل من ذلك حيث يأتي من إشارة مسلم، ونعرّف بمذهبه في ذلك، ونبين غرضه بما(6) يهدي الله إليه ويعين عليه، إن شاء الله تعالى، فأقول:
هو مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النسب، النيسابوري الدار، يكنى بأبي الحسين: أحد أئمة المسلمين، وحفاظ المحدثين، ومتقني المصنفين، أثنى عليه غير واحد من الأئمة المتقدمين، وأجمعوا على إمامته وتقديمه، وصحة حديثه ومَيْزِه، ومعرفته(7)، وثقته وقبول كتابه.
قال أبوبكر أحمد بن ثابت الخطيب البغدادي الحافظ: كان أبو زُرعة وأبو حاتم يقدمانه في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما.
وقال أبو عبدالله الحاكم: إن إسحاق بن إبراهيم بن راهويه نظر إلى مسلم - يعني في شبيبته - فقال بالفارسية كلامًا ترجمته: أيّ رجل يكون هذا ! قال الحاكم: رحم الله إسحاق، لقد صدقت فراسته الزكية.
وبعض الناس يقول(8) الذي كنى عنه الإمام أبو عبدالله هو أبو علي الحسين(9) بن علي النيسابوري، ولفظه: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم في الحديث، كذا ذكره عنه أبوبكر بن ثابت الخطيب.
وقال الشيخ المحدث أبو مروان الطبني: كان من شيوخي من يفضل كتاب مسلم على كتاب البخاري.
__________
(1) قوله:" الفقيه " ليس في (ح).
(2) قوله:" اليحصبي" ليس في (ط)، وفي (ح):" أبو الفضل عياض رحمه الله ".
(3) في (ط):" وفقه الله ".
(4) في (ط):" رضي الله عنه ".
(5) في (ح):" علم ".
(6) في (أ):" فيما ".
(7) في (أ):" معرفته " بدون واو.
(8) قوله:" يقول " ليس في (أ) و(ط).
(9) في (ح) و(ط):" الحسن ".(1/13)
وقال مسلمة بن قاسم في تاريخه: مسلم جليل القدر ثقة، من أئمة المحدثين، وذكر كتابه الصحيح فقال: لم يضع(1) أحد مثله.
وقال(2) أبو عبدالله بن البيع: أهل الحجاز والعراق والشام يشهدون لأهل خراسان بالتقدم في معرفة الحديث ؛ لسبق الإمامين البخاري ومسلم إليه، وتفردهما بهذا النوع.
وقال أبو حامد الشرقي: سمعت مسلما يقول: ما وضعت شيئًا في هذا المسند إلا بحجة وما أسقطت منه شيئًا إلا بحجة.
وقال ابن سفيان: قلت لمسلم :حديث ابن عجلان عن زيد بن أسلم: "إذا قرأ الإمام فأنصتوا "؟ قال: صحيح، قلت: لِمَ لَم تضعه في كتابك ؟ قال(3): ليس كل صحيح وضعت هاهنا، إنما وضعت ما أجمعوا عليه.
قال [الفقيه القاضي أبو الفضل بن عياض رحمه الله: و](4)قد وقع هذا الكلام في "الأم" في بعض الروايات عن ابن سفيان.
وقال محمد بن الحسين: أراد شيخ من مشايخ نيسابور - يعني محمد بن إسحاق بن خزيمة(5) أن يخرِّج على كتاب مسلم، فقال له عبدالله(6) بن الرازي: " لا تفضح نفسك.
وقال مسلم: لو أن أهل الحديث يكتبون الحديث مائتي سنة فمدارهم على هذا المسند، ولقد عرضت كتابي على أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار أن له علة تركته، وما قا ل هو صحيح ليس له علة أخرجته.
ولمسلم رحمه الله تواليف أخر رويناها عن شيوخنا، منها: كتاب تمييز الكنى والأسماء، وكتاب الطبقات، وكتاب الوحدان وكتاب العلل، وكتاب شيوخ مالك، وسفيان، وشعبة، وكتاب رجال(7) عروة بن الزبير.
__________
(1) في (أ):" نضع"، وفي (ح):" يصنع ".
(2) في (ح):" فقال ".
(3) في (ح):" فقال ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (ط)، وفي (ح):" قال القاضي وقد ".
(5) قوله:" ابن خزيمة " ليس في (ح).
(7) في (ح) يشبه أن تكون:" برجال ".(1/14)
قال ابن سفيان: كان مسلم أخرج ثلاثة كتب من المسندات، واحدًا(1) هذا الذي قرأه(2) على الناس، والثاني يدخل فيه عكرمة وابن إسحاق صاحب "المغازي" وأمثالهما، والثالث يدخل فيه من الضعفاء.
وتوفي مسلم رحمه الله في التاريخ الذي تقدم، وذلك عشية الأحد لست بقين من رجب المذكور،[ ودفن يوم الاثنين بعده ](3)، قال أبو عبدالله الحاكم: وهو بعد(4) في حد الكهولة [ رحمه الله ورضي عنه بمنه وكرمه ](5).
ذكر مقصده فيما جمع في هذا الكتاب من الصحيح:
قال أبو عبدالله محمد بن عبيدالله، ابن البَيِع: إن مسلمًا رحمه الله أراد أن يخرج الصحيح على ثلاثة أقسام وثلاث طبقات من الرواة، وقد ذكر مسلم هذا في صدر خطبته، حيث ننبه عليه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
قال ابن البيع : فلم يقدر له رحمه الله إلا الفراغ من الطبقة(6) الأولى، واخترمته المنية قبل أن يتم غرضه إلا من القسم الأول المتفق عليه من الصحيح، وهو شرط محمد بن إسماعيل البخاري أيضًا، وهو ألا يذكر من الحديث إلا ما رواه صحابي مشهور عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، له راويان ثقتان فأكثر، ثم يرويه عنه تابعي مشهور بالرواية عن الصحابة، له هو أيضًا روايان ثقتان فأكثر ثم يرويه عنه من أتباع التابعين الحافظ المتقن المشهور على ذلك الشرط، ثم كذلك من بعدهم.
وقال أبو علي الجياني: وليس مرادهما(7) أن يكون كل خبر روياه يجتمع فيه راويان عن صحابيه وتابعيه ومن بعده فإن ذلك يعز وجوده، وإنما المراد أن هذا الصحابي وهذا التابعي قد روى عنه رجلان خرج بهما عن حد الجهالة برواية الواحد.
__________
(1) في (ح):" واحدها ".
(2) في (أ):" قرأ ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(4) في (ط):" يعد ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(6) في (أ):" طبقة ".
(7) في (أ):" مراده ".(1/15)
[قال القاضي أبو الفضل ابن عياض رحمه الله](1): وقد شذ على(2) البخاري ومسلم الشيء اليسير من هذا النوع الذي شرطاه، فألزمهما أهل الصنعة ذكر ذلك على شرطهما، وألف عليهما في ذلك: أبو الحسن الدارقطني وأبو ذر الهروي وألزموهما ذكر ذلك.
وكذلك ألف في الصحيح بعدهما غير واحد من الأئمة والحفاظ (3)، كأبي بكر الإسماعيلي الجرجاني، وأبي شيخ بن حيان الأصبهاني وأبي بكر البرقاني الخوارزمي، وأبي عبدالله ابن البيع النيسابوري، وإبراهيم بن حمزة الحافظ، وأبي نعيم الأصبهاني، وأبي الحسن العتيقي، وأبي بكر بن خزيمة، وأبي عمران الجويني، وأبي ذر الهروي، وخلف الواسطي، وغيرهم.
كما أن البخاري ومسلمًا(4) قد أخلا أيضًا بشرطهما في أشياء نزلت عن درجة ما التزماه إلى ما دونها استدركت عليهما، وفيها(5) ألف أبو الحسن الدارقطني كتابه المسمى بـ:" الاستدراكات والتتبع"، وذلك في(6) مائتي حديث مما في كتابيهما.
ولأبي مسعود الدمشقي عليهما أيضًا استدراك في ذلك.
ولأبي علي الجياني بأخرة في كتابه المسمى بـ:" تقييد المهمل " في جزء العلل منه استدراك أكثره على الرواة عنهما، وفيه ما يلزمهما.
فهذا هو النوع الأول من الصحيح الذي اقتصر عليه كتابا هذين الإمامين، وهو أرفع أنواع الحديث(7) الصحيح وأول أقسامه المتفق عليه، وليس هو جملة الصحيح وكله.
وسنذكر أنواع الصحيح وننبه على رتبه عند أئمة هذا الشأن في موضعه من تنبيه مسلم عليه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(2) في حاشية (ح):"على "، وكتب فوقها:" خ".
(3) في (ح):" الأئمة الحفّاظ ".
(4) في (ط):" مسلم ".
(5) في (ط):" وبها ".
(6) في حاشية (ح):"وفي ذلك "، وكتب فوقها:"صح".
(7) قوله:" الحديث" من (ح) فقط.(1/16)
قال القاضي رحمه الله: هذا الذي تأوله أبو عبدالله الحاكم على مسلم من اخترام المنية له قبل استيفاء(1) غرضه، مما قبله الشيوخ وتابعه عليه الناس في أنه لم يكمل غرضه إلا من الطبقة الأولى ولا أدخل في تأليفه سواها.
وأنا أقول: إن هذا غير مسلَّم لمن حقق نظره ولم يتقيد بتقليد ما سمعه، فإنك إذا نظرت تقسيم مسلم في كتابه الحديث كما قال، على ثلاث طبقات من الناس على غير تكرار(2)، فذكر أن القسم الأول: حديث(3) الحفاظ، ثم قال إنه(4) إذا تقصى(5) هذا أتبعه بأحاديث من لم يوصف بالحذق والإتقان، مع كونهم من أهل الستر والصدق وتعاطي العلم، وذكر أنهم لاحقون بالطبقة الأولى، وسمى أسماء من كل طبقة من الطبقتين المذكورتين، ثم أشار إلى ترك حديث من أجمع أو اتفق الأكثر على تهمته، وبقي من اتهمه بعضهم وصححه بعضهم، فلم يذكره هنا(6) ووجدته(7) رحمه الله قد ذكر في أبواب كتابه وتصنيف أحاديثه حديث الطبقتين الأوليين التي ذكر في أبوابه، وجاء بأسانيد الطبقة الثانية التي سماها وحديثها كما جاء بالأولى على طريق الإتباع لأحاديث الأولى والاستشهاد بها، أو حيث لم يجد في الباب(8) للأولى شيئًا.
وذكر أقوامًا تكلم قوم(9) فيهم وزكاهم آخرون، وخرج حديثهم ممن ضُعِّفَ أو اتُّهم ببدعة، وكذلك فعل البخاري رحمه الله.
فعندي أنه رحمه الله قد أتى بطبقاته الثلاث في كتابه على ما ذكر ورتب في كتابه وبينه(10) في تقسيمه، وطرح الرابعة كما نص عليه.
__________
(1) في (ط):" استرعاء ".
(2) قوله:" على غير تكرار" ليس في (أ).
(3) في (ط):" على حديث ".
(4) في (ح):" فإنه "، وفي (أ):" بأنه ".
(5) في (ط) رسمت هكذا:" اتفضا ".
(6) في (ح):" هاهنا ".
(7) في (ط):" وكذلك " بدل:" ووجدته".
(8) في (ح):" الكتاب ".
(9) في (ح):" أقوام ".
(10) في (ط):" ونبه ".(1/17)
فتأول الحاكم أنه إنما أراد أن يفرد لكل طبقة كتابًا، ويأتي(1) بأحاديثها خاصة مفردة، وليس ذلك مراده، بل إنما أراد بما ظهر من تأليفه، وبأن من غرضه أن يجمع ذلك في الأبواب، ويأتي بأحاديث الطبقتين [من غير تكرار كما قال في كلامه](2)، فيبدأ بالأولى ثم يأتي بالثانية على طريق الاستشهاد والإتباع حتى استوفى جميع الأقسام الثلاثة.
ويحتمل أن يكون أراد بالطبقات الثلاث من الناس: الحفاظ، ثم الذين يلونهم، والثالثة التي(3) طرح، والله أعلم بمراده.
وكذلك أيضًا علل الحديث التي ذكر، ووعد أنه يأتي بها، قد جاء بها في مواضعها من الأبواب من اختلافهم في الأسانيد، والإرسال والإسناد، والزيادة والنقص(4)، وذكر تصاحيف المصحفين، وهذا يدل على استيفائه(5) غرضه في تأليفه، وإدخاله في كتابه كل ما وعد به.
وقد فاوضت في تأويلي هذا ورأيي فيه من يفهم هذا الباب، فما وجدت منصفًا إلا صوبه، وبان له ما ذكرت، وهو ظاهر لمن تأمل الكتاب وطالع مجموع الأبواب، والله الموفق للصواب.
ولا يعترض على هذا بما(6) تقدم عن ابن سفيان من أن مسلمًا خرَّج ثلاثة كتب، فإنك إذا تأملت ما ذكر ابن سفيان لم يطابق الغرض الذي أشار إليه الحاكم مما ذكر مسلم في صدر كتابه، فتأمله تجده كذلك إن شاء الله.
__________
(1) في (ح):" أو يأتي ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).
(3) في جميع النسخ:" الذي"، وفي حاشية (ح):" التي ".
(4) في (ط):" والتقصير ".
(5) قوله:" استيفائه " ليس في (ط).
(6) في (ط):" لما ".(1/18)
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ بِتَوْفِيقِ خَالِقِكَ ذَكَرْتَ أَنَّكَ هَمَمْتَ بِالْفَحْصِ عَنْ تَعَرُّفِ جُمْلَةِ الأَخْبَارِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سُنَنِ الدِّينِ وَأَحْكَامِهِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صُنُوفِ الأَشْيَاءِ بِالأَسَانِيدِ الَّتِي بِهَا نُقِلَتْ وَتَدَاوَلَهَا أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَأَرَدْتَ أَرْشَدَكَ اللَّهُ أَنْ تُوَقَّفَ عَلَى جُمْلَتِهَا مُؤَلَّفَةً مُحْصَاةً، وَسَأَلْتَنِي ــــــــــــــــــ
قال مسلم رحمه الله في افتتاح كتابه:" أما بعد فإنك يرحمك الله بتوفيق خالقك ذكرت أنك هممت بالفحص عن تعرف جملة الأخبار ".
قال القاضي رحمه الله: يحتمل أن يكون دعا(1) له بأن يرحمه الله بتوفيقه وهدايته، فإنها من جملة رحمة الله وفضله.
ويحتمل أن يعلق قوله " بتوفيق خالقك " إما إلى ما ذكره،أو هم به من الفحص، والله أعلم. وقد سقط هذا الدعاء(2) عندنا في رواية شيخنا(3) الخشني.
قال مسلم: " لو عُزِمَ لي عليه ".
قال الإمام رحمه الله: لا يظن بمسلم أنه أراد(4): " لو عزم الله لي عليه"(5)، لأن إرادة الله عز وجل لا تسمى عزمًا، ولعله أراد: لو سهَّل لي سبيل العزم أو خلق في قدرة عليه.
قال القاضي رحمه الله: قد جاء هذا اللفظ في الكتاب من كلام أم سلمة في كتاب الجنائز، قالت: " ثم عزم الله لي فقلتها ".
__________
(1) في حاشية (ح):"الدعاء"، وكتب فوقها:" خ".
(2) في (ح) و(ط):" الكلام ".
(3) قوله:" شيخنا " ليس في (أ).
(4) في (ح):" أنه إنما أراد ".
(5) قوله:" الله لي عليه " لم يتضح في (ط).(1/19)
وأصل العزم القوة، ويكون(1) بمعنى الصبر وتوطين النفس وحملها على الشيء. والمعنى متقارب، ومنه قوله تعالى:{ فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل }.
أَنْ أُلَخِّصَهَا لَكَ فِي التَّأْلِيفِ بِلا تَكْرَارٍ يَكْثُرُ، فَإِنَّ ذَلِكَ زَعَمْتَ مِمَّا يَشْغَلُكَ عَمَّا لَهُ قَصَدْتَ مِنْ التَّفَهُّمِ فِيهَا وَالاسْتِنْبَاطِ مِنْهَا، وَلِلَّذِي سَأَلْتَ أَكْرَمَكَ اللَّهُ حِينَ رَجَعْتُ إِلَى تَدَبُّرِهِ وَمَا تَئُولُ بِهِ الْحَالُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَاقِبَةٌ مَحْمُودَةٌ وَمَنْفَعَةٌ مَوْجُودَةٌ، وَظَنَنْتُ حِينَ سَأَلْتَنِي تَجَشُّمَ ذَلِكَ أَنْ لَوْ عُزِمَ لِي عَلَيْهِ وَقُضِيَ لِي
ــــــــــــــــــ
وقوله قبل: " سألتني تجشم ذلك " أي تكلفه والتزام مشقته.
وقوله: " فذلك إن شاء الله ينهجم بما(2) أوتي من ذلك على الفائدة "، ويروى: " يَهْجُم ".
ومعناها: يقع عليها ويبلغ إليها وينال بغيته منها، يقال: هجمت على القوم إذا دخلت عليهم.
قال ابن دريد: يقال: انهجم الخباء إذا وقع، وهَجَمْتُ ما في خِلْفِ الناقة إذا استقصيتُ حَلْبَه.
قال مسلم رحمه الله إنه يقسم الأحاديث على(3) ثلاثة أقسام وثلاث طبقات من الناس، إلى آخر كلامه.
قد قدمنا قول من قال إنه لم يتسع عمره إلا لذكر الطبقة الأولى كما ذكرنا،[ وذكرنا رأينا في خلافه بما ألهم الله إليه، له الحمد ](4).
ونحن نذكر الآن أقسام الصحيح على ما رتبه أئمة أهل الصنعة، فذكر أبو عبدالله محمد بن عبيدالله الحاكم النيسابوري في المدخل إلى كتاب الإكليل أن الصحيح من الحديث على عشرة أقسام، خمسة متفق عليها، وخمسة مختلف فيها:
__________
(1) في (ح):" وتكون ".
(2) في (ط):" ما ".
(3) في (ط):" عليهم على ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (ط).(1/20)
تَمَامُهُ كَانَ أَوَّلُ مَنْ يُصِيبُهُ نَفْعُ ذَلِكَ إِيَّايَ خَاصَّةً قَبْلَ غَيْرِي مِنْ النَّاسِ لأَسْبَابٍ كَثِيرَةٍ يَطُولُ بِذِكْرِهَا الْوَصْفُ، إِلاَّ أَنَّ جُمْلَةَ ذَلِكَ أَنَّ ضَبْطَ الْقَلِيلِ مِنْ هَذَا الشَّأْنِ، وَإِتْقَانَهُ أَيْسَرُ عَلَى الْمَرْءِ مِنْ مُعَالَجَةِ الْكَثِيرِ مِنْهُ، وَلا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ لا تَمْيِيزَ عِنْدَهُ مِنْ الْعَوَامِّ، إِلاَّ بِأَنْ يُوَقِّفَهُ عَلَى التَّمْيِيزِ غَيْرُهُ، فَإِذَا كَانَ الأَمْرُ فِي هَذَا كَمَا وَصَفْنَا فَالْقَصْدُ مِنْهُ إِلَى الصَّحِيحِ الْقَلِيلِ أَوْلَى بِهِمْ مِنَ ازْدِيَادِ السَّقِيمِ، ــــــــــــــــــ
فالقسم الأول من المتفق عليه اختيار البخاري ومسلم، قال: " وهو الدرجة الأولى من الصحيح"، وفسره بما قدمناه قبل، قال:" والأحاديث المروية بهذه الشريطة(1) لا يبلغ عددها عشرة آلاف حديث(2)".
القسم الثاني: مثل الأول، لكن ليس لراويه من الصحابة إلا راو واحد.
القسم الثالث: مثل الأول، إلا أن راويه من التابعين ليس له إلا راو واحد.
القسم(3) الرابع: الأحاديث الأفراد الغرائب التي رواها الثقات العدول.
القسم(1) الخامس: أحاديث جماعة من الأئمة عن آبائهم عن أجدادهم، ولم تتواتر الرواية عن آبائهم عن أجدادهم بها إلا(4) عنهم ؛ كصحيفة عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده، وبهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وإياس بن معاوية بن قرة عن أبيه عن جده.
وأجدادهم صحابيون وأحفادهم ثقات.
قال الحاكم رحمه الله: " فهذه الأقسام الخمسة مخرجة في كتب الأئمة، محتج بها وإن لم يخرج منها في الصحيحين(5) حديث(6)".
__________
(1) في (ح):" الشروط ".
(2) قوله:" حديث " ليس في (ح).
(3) قوله:" القسم " ليس في (أ) و(ط).
(4) في (ح):" لا " بدل:"إلا".
(5) في (ط):" الصحيح ".
(6) في (ط):" من حديث ".(1/21)
وَإِنَّمَا يُرْجَى بَعْضُ الْمَنْفَعَةِ فِي الاسْتِكْثَارِ مِنْ هَذَا الشَّأْنِ، وَجَمْعِ الْمُكَرَّرَاتِ مِنْهُ لِخَاصَّةٍ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ رُزِقَ فِيهِ بَعْضَ التَّيَقُّظِ وَالْمَعْرِفَةِ بِأَسْبَابِهِ وَعِلَلِهِ، فَذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ يَهْجُمُ بِمَا أُوتِيَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْفَائِدَةِ فِي الاسْتِكْثَارِ مِنْ جَمْعِهِ، فَأَمَّا عَوَامُّ النَّاسِ الَّذِينَ هُمْ بِخِلافِ مَعَانِي الْخَاصِّ مِنْ أَهْلِ التَّيَقُّظِ وَالْمَعْرِفَةِ فَلا مَعْنَى لَهُمْ فِي طَلَبِ الْكَثِيرِ، وَقَدْ عَجَزُوا عَنْ مَعْرِفَةِ الْقَلِيلِ.
ــــــــــــــــــ
قال القاضي: يريد غير القسم الأول الذي ذكر أنهما شرطاه، وقد وقع لهما أشياء من هذه الأقسام يوقف عليها في كتابيهما.
قال الحاكم: " والخمسة المختلف فيها: المراسيل، وأحاديث المدلِّسين إذا لم يذكروا سماعهم، وما أسنده ثقة وأرسله جماعة من الثقات غيره، وروايات الثقات غير الحفاظ العارفين،وروايات المبتدعة(1) إذا كانوا صادقين".
قال القاضي رحمه الله: فهذه الأقسام الخمسة - كما قال - مما اختلف في قبولها والحجة بها: الفقهاء والمحدثون، ووقع في الصحيحين منها شيء هو مما استدرك كما ذكرنا.
وقد ترك الحاكم منها(2) مما اختلف فيه رواية المجهولين.
وقال أبو سليمان الخطابي: " الحديث عند أهله على(3) ثلاثة أقسام: صحيح وحسن وسقيم.
فالصحيح ما اتصل سنده، وعدلت نقلته.
والحسن ما عُرف مَخرَجَهُ، واشتهر رجاله، وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلماء، ويستعمله عامة الفقهاء.
والسقيم على طبقات: شرُّها الموضوع، ثم المقلوب، ثم المجهول ".
__________
(1) في (ط):" المسرعة ".
(2) قوله:" منها " ليس في (أ) و(ط).
(3) قوله:" على " ليس في (ح).(1/22)
ثُمَّ إِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ مُبْتَدِئُونَ فِي تَخْرِيجِ مَا سَأَلْتَ وَتَأْلِيفِهِ عَلَى شَرِيطَةٍ سَوْفَ أَذْكُرُهَا لَكَ، وَهُوَ إِنَّا نَعْمِدُ إِلَى جُمْلَةِ مَا أُسْنِدَ مِنْ الأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَنَقْسِمُهَا عَلَى ثَلاثَةِ أَقْسَامٍ، وَثَلاثِ طَبَقَاتٍ مِنْ النَّاسِ عَلَى غَيْرِ تَكْرَارٍ، إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ مَوْضِعٌ لا يُسْتَغْنَى فِيهِ عَنْ تَرْدَادِ حَدِيثٍ فِيهِ زِيَادَةُ مَعْنًى،
ــــــــــــــــــ
وقال أبو عيسى الترمذي :" الحسن من الحديث ما(1) ليس في إسناده من يتهم(2)، وليس بشاذ ، وروي من غير وجه ".
وقال أبو علي الغساني: " الناقلون سبع طبقات: ثلاث مقبولة، وثلاث متروكة، والسابعة مختلف فيها.
فالأولى: أئمة الحديث وحفاظه، وهم الحجة على من خالفهم، ويقبل انفرادهم.
الثانية: دونهم في الحفظ والضبط، لحقهم في بعض روايتهم وهم وغلط، والغالب على حديثهم الصحة، ويصحح ما وهموا فيه من رواية الطبقة الأولى، وهم لاحقون بهم.
الثالثة: جنحت إلى مذاهب من الأهواء، غير غالية، ولا داعية، وصح حديثها وثبت صدقها، وقل وهمها، فهذه الطبقة احتمل بعض(3) أهل الحديث الرواية عنهم.
وعلى هذه الطبقات(4) الثلاث يدور نقل الحديث، وإليه أشار مسلم في صدر الكتاب إلى قسمة الحديث على ثلاثة أقسام، وثلاث طبقات ،[ فلم يقدر له إلا الفراغ من الطبقة الأولى، واخترمته المنية.
وثلاث طبقات](5) أسقطهم أهل المعرفة:
__________
(1) في (ط):" من ".
(2) في حاشية (ح) زيادة هذا نصها:" قال أبو عيسى: والغريب لأهل الحديث فيه معانٍ، منها: أن يقبل ولا يروى إلا بمعنى واحد، ومنها أن يحدث به واحد من الأئمة لا يوجد إلا من حديثه، أو الزيادة تكون فيه إذا كانت ممن يعتمد على حفظه وليس بشاذ ".
(3) قوله:" بعض" مثبت من (ك) فقط.
(4) في (أ):" طبقات ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (ط).(1/23)
أَوْ إِسْنَادٌ يَقَعُ إِلَى جَنْبِ إِسْنَادٍ، لِعِلَّةٍ تَكُونُ هُنَاكَ لأَنَّ الْمَعْنَى الزَّائِدَ فِي الْحَدِيثِ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ يَقُومُ مَقَامَ حَدِيثٍ تَامٍّ، فَلا بُدَّ مِنْ إِعَادَةِ الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ مَا وَصَفْنَا مِنْ الزِّيَادَةِ، أَوْ أَنْ يُفَصَّلَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِيثِ عَلَى ــــــــــــــــــ
الأولى: من وُسِمَ بالكذب، ووضْع الحديث.
الثانية: من غلب عليه الوهم والغلط حتى استغرق روايته.
الثالثة: من(1) غلت في البدعة، ودعت إليها، وحرفت الروايات، وزادت فيها ليحتجوا بها.
والسابعة : قوم مجهولون، انفردوا بروايات لم يتابعوا عليها، فقبلهم قوم وأوقفهم(2) آخرون ".
قال القاضي: وتفسير شيخنا أبي علي لغرض مسلم وتقسيمه أسعد بكلام مسلم من شرح الحاكم، وإن كنا خالفناهما في التأويل على مسلم كما قدمناه.
وأما قول الحافظ أبي علي: " إن حديث أهل البدع الأثبات، الذين لا يدعون إلى بدعتهم متفق عليه "، فلا يسلم له، بل قد اختلف في ذلك المحدثون والفقهاء والأصوليون، وسنبين ذلك بعد(3) عند تنبيه مسلم عليه.
قال مسلم:" أو أن(4) نفصل ذلك المعنى من جملة الحديث على اختصاره إذا أمكن(5)".
وهذا الفصل الذي ذكره، أيضًا اختلف فيه: المحدثون، والفقهاء، والأصوليون، في اختصار الحديث، والتحديث(6) به على المعنى، وفي الحديث بفصل منه دون كماله.
__________
(1) قوله:" من " ليس في (ط).
(2) في (أ):" ووقفهم ".
(3) قوله:" بعد " ليس في (أ).
(4) في (ح):" وأن ".
(5) قوله:" إذا أمكن " من (ط) فقط.
(6) في (ح) و(ط):" التحدث ".(1/24)
اخْتِصَارِهِ إِذَا أَمْكَنَ، وَلَكِنْ تَفْصِيلُهُ رُبَّمَا عَسُرَ مِنْ جُمْلَتِهِ فَإِعَادَتُهُ بِهَيْئَتِهِ إِذَا ضَاقَ ذَلِكَ أَسْلَمُ، فَأَمَّا مَا وَجَدْنَا بُدًّا مِنْ إِعَادَتِهِ بِجُمْلَتِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنَّا إِلَيْهِ، فَلا نَتَوَلَّى فِعْلَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ــــــــــــــــــ
فأجاز هذا كله على الجملة قوم، وهو مذهب مسلم.
ومنعه على الجملة آخرون، وهو تحري البخاري.
ورخص قوم فيما يقع من الكلمات موقع أمثالها، كالجلوس عوض القعود، والقيام عوض الوقوف، وشبهه، دون ما يمكن أن يختلف اختلافا ما.
وخفف آخرون [في نقل](1) الحديث على المعنى في غير لفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومنعه في لفظه عليه الصلاة والسلام، وذكر هذا عن مالك.
وذهب المحققون إلى أن الراوي إذا كان ممن يستقل بفهم الكلام ومعانيه، ويعرف مقاصده ويفرق بين الظاهر والأظهر، والمحتمل والنص، فجائز لهذا الحديث على المعنى إذا لم يحتمل عنده سواه وانفهم له فهمًا جليًّا معناه.
وحكى غير واحد معنى هذا عن مالك، وأبي حنيفة، والشافعي،.
وكذلك جوزوا الحديث ببعض الحديث، إذا لم يكن مرتبطًا بشيء قبله ولا بعده ارتباطا يُخِلّ بمعناه.
وكذلك إن جمع(2) الحديث حكمين، أو أمرين، كل واحد مستقل ينفسه، غير مرتبط بصاحبه، فله الحديث بأحدهما، وهذا عليه(3) كافة الناس، ومذاهب الأئمة، وعليه صنف المصنفون كتبهم في الحديث على الأبواب وفصلوا الحديث الواحد أجزاء بحكمها، واستخرجوا النكت والسنن من الأحاديث الطوال، وهو معنى قول مسلم في هذا الفصل إلى آخر كلامه،
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في النسخ، والمثبت من (ك).
(2) في (ط):" جميع ".
(3) في (أ) و(ح):" وعلى " بدل:" وهذا عليه ".(1/25)
فَأَمَّا الْقِسْمُ الأَوَّلُ: فَإِنَّا نَتَوخَّى أَنْ نُقَدِّمَ الأَخْبَارَ الَّتِي هِيَ أَسْلَمُ مِنْ الْعُيُوبِ مِنْ غَيْرِهَا، وَأَنْقَى مِنْ أَنْ يَكُونَ نَاقِلُوهَا أَهْلَ اسْتِقَامَةٍ فِي الْحَدِيثِ، وَإِتْقَانٍ لِمَا نَقَلُوا لَمْ يُوجَدْ فِي رِوَايَتِهِمْ اخْتِلافٌ شَدِيدٌ وَلا تَخْلِيطٌ فَاحِشٌ،كَمَا قَدْ عُثِرَ فِيهِ عَلَىكَثِيرٍ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَبَانَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِهِمْ، فَإِذَا نَحْنُ تَقَصَّيْنَا أَخْبَارَ هَذَا الصِّنْفِ مِنْ النَّاسِ أَتْبَعْنَاهَا أَخْبَارًا يَقَعُ فِي أَسَانِيدِهَا بَعْضُ مَنْ لَيْسَ بِالْمَوْصُوفِ بِالْحِفْظِ وَالإِتْقَانِ، كَالصِّنْفِ الْمُقَدَّمِ قَبْلَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا فِيمَا وَصَفْنَا دُونَهُمْ، فَإِنَّ اسْمَ السَّتْرِ وَالصِّدْقِ وَتَعَاطِي الْعِلْمِ يَشْمَلُهُمْ كَعَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، وَيَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، وَلَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، وَأَضْرَابِهِمْ مِنْ حُمَّالِ
ــــــــــــــــــ
[وعمله البخاري كثيرًا في "صحيحه"](1).
ولهذا روي الحديث الواحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بألفاظ مختلفة في القصة الواحدة، والمقالة الفذة، والقضية المشهورة، من عهد الصحابة - رضي الله عنهم - فمن بعدهم.
لكن لحماية الباب من تسلط من لا يحسن، وغلط الجهلة في نفوسهم، وظنهم المعرفة مع القصور(2)، يجب سد هذا الباب ؛ إذ(3) فعل هذا على من لم يبلغ درجة الكمال في معرفة المعاني حرام باتفاق (4).
وقوله: " فإنا(5) نتوخى الأخبار ".
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(2) في (ح):" قصورهم ".
(3) في (ط):" أو ".
(4) قوله:" باتفاق " ليس في (ط).
(5) في (ح):" أنا ".(1/26)
أي نتحرى ونقصد، قال الهروي: فلان يتوخى الحق ويتأخاه، أي: يقصده ويتحراه، وتقول العرب: خذ على هذا الوَخْي، أي: هذا(1) القصد والصَّواب(2).
وقوله: " كما قد عثر فيه ".
الآثَارِ وَنُقَّالِ الأَخْبَارِ ؛ فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا بِمَا وَصَفْنَا مِنْ الْعِلْمِ وَالسَّتْرِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَعْرُوفِينَ، فَغَيْرُهُمْ مِنْ أَقْرَانِهِمْ مِمَّنْ عِنْدَهُمْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الإِتْقَانِ وَالاسْتِقَامَةِ فِي الرِّوَايَةِ يَفْضُلُونَهُمْ فِي الْحَالِ وَالْمَرْتَبَةِ؛ لأَنَّ هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ دَرَجَةٌ رَفِيعَةٌ وَخَصْلَةٌ سَنِيَّةٌ.
أَلا تَرَى أَنَّكَ إِذَا وَازَنْتَ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةَ الَّذِينَ سَمَّيْنَاهُمْ عَطَاءً وَيَزِيدَ وَلَيْثًا ــــــــــــــــــ
كذا في الأصل، وهو الصحيح ومساق الكلام، ووقع في "المعلم": " فإن عُثِر"، قال الإمام أبو عبدالله: " معناه: اطُّلِعَ، من قول الله تعالى: " فإن عثر على أنهما استحقا إثما "، يقال: عثرت منه على خيانة، أي: اطلعت، وأعثرت غيري، أي: أطلعته، قال الله تعالى:{ وكذلك أعثرنا عليهم }؛ أي: أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمن، قال: " وذكر مسلم قومًا مشهورين بالعدل والضبط، كمالك وابن عيينة، وذكر أن قومًا لا يبلغون إلى رتبتهم في ذلك، وإن لم يخرجوا عن كونهم عدولاً، مثل: عطاء بن السائب، ويزيد ابن أبي زياد، وليث بن أبي سُلَيْم ".
__________
(1) في (ح):" على هذا ".
(2) في (ح) و(ط):" الصوب ".(1/27)
قال القاضي: رأيت بعض المتعقبين(1) قد تتبع عليه ما حكاه عن مسلم هذا(2)، مما هو(3) ليس قول مسلم، فإن مسلمًا لم يذكر في هذا الفصل مالكًا ولا ابن عيينة، وإنما ذكر في القسم الأول أهل الإتقان والاستقامة، وذكر بعدهم صنفًا آخر، ذكر أنهم ليسوا موصوفين بالحفظ والإتقان كالصنف الأول، قال: " وإن كانوا دونهم فيما وصفنا، فاسم الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم(4)؛ كعطاء بن السائب، ويزيد بن أبي زياد، وليث بن أبي سليم، وأضرابهم من حمال الآثار "، هذا لفظه.
ثم قال آخر الفصل: " ألا ترى أنك إذا وازيت(5) هؤلاء الثلاثة بمنصور ابن المعتمر، وسليمان الأعمش، وإسماعيل بن أبي خالد، في إتقان الحديث
بِمَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ وَسُلَيْمَانَ الأَعْمَشِ وَإِسْمَعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ فِي إِتْقَانِ الْحَدِيثِ وَالاسْتِقَامَةِ فِيهِ وَجَدْتَهُمْ مُبَايِنِينَ لَهُمْ لا يُدَانُونَهُمْ لا شَكَّ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ لِلَّذِي اسْتَفَاضَ عِنْدَهُمْ مِنْ صِحَّةِ حِفْظِ مَنْصُورٍ
ــــــــــــــــــ
والاستقامة فيه وجدتهم متباينين فيه(6)".
ثم ذكر أسماء أخر(7) من الطبقتين، ولم يجر لمالك ولا ابن عيينة هنا ذكر(8)، وإنما ذكرهما بعد هذا مع أقرانهم، في فصل آخر،في ذمّهم الرواية عن الضعفاء، والعذر عن هذا الإمام(9) وفقه الله أحد وجهين:
__________
(1) في (ط):" المتفقهين ".
(2) قوله:" هذا " ليس في (ح).
(3) قوله:" هو " ليس في (أ) و(ح).
(4) في (ح) و(ط):" شملهم ".
(5) في (ح):" وازنت ".
(6) قوله:" فيه" من (ط) فقط.
(7) في (ح):" أسمًا آخر ".
(8) في (ح) و(ط):" ذكرًا ".
(9) في (ح):" للإمام ".(1/28)
إما أن يقال إن المعلق عنه اقتصر على المعنى والمطلوب، ومن الكلام على النكتة ؛ إذا(1) كان المطلوب منها(2) سؤال الشيخ بعد: كيف يستجاز هذا التفضيل والتمييز، ولا يُعَدّ غِيبة ؟، والجواب عنه على ما سنذكره من قوله بعد، ونزيده وضوحًا إن شاء الله.
أو يكون هو نفسه رحمه الله قصد ذلك تمثيلاً، لا حكاية للفظ مسلم ؛ إذ لا فرق بين الكلام على الوضع، إذا لم يقصد حكاية اللفظ مع إتفاق المعنى؛ إذ مالك وابن عيينة من تلك الطبقة الرفيعة المتقنة الحافظة بغير خلاف، ومثل هذا مما يتضح العذر فيه ؛ إذ هو كتاب شرح لا كتاب رواية لفظ.
قال الإمام:" إن قيل :كيف استجاز هنا أن يقال: فلان أعدل من فلان، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في الطبيبين:« لولا غيبتهما لأعلمتكما أيهما أطبّ ».
__________
(1) في (أ) و(ح):" إذ ".
(2) في (ح):" منها ".(1/29)
وَالأَعْمَشِ وَإِسْمَعِيلَ، وَإِتْقَانِهِمْ لِحَدِيثِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ عَطَاءٍ وَيَزِيدَ وَلَيْثٍ. وَفِي مِثْلِ مَجْرَى هَؤُلاءِ إِذَا وَازَنْتَ بَيْنَ الأَقْرَانِ كَابْنِ عَوْنٍ وَأَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ مَعَ عَوْفِ بْنِ أَبِي جَمِيلَةَ وَأَشْعَثَ الْحُمْرَانِيِّ وَهُمَا صَاحِبَا الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، كَمَا أَنَّ ابْنَ عَوْنٍ وَأَيُّوبَ صَاحِبَاهُمَا، إِلاَّ أَنَّ الْبَوْنَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ هَذَيْنِ بَعِيدٌ فِي كَمَالِ الْفَضْلِ وَصِحَّةِ النَّقْلِ وَإِنْ كَانَ عَوْفٌ وَأَشْعَثُ غَيْرَ مَدْفُوعَيْنِ عَنْ صِدْقٍ وَأَمَانَةٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَكِنَّ الْحَالَ مَا وَصَفْنَا مِنْ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا مَثَّلْنَا هَؤُلاءِ فِي التَّسْمِيَةِ لِيَكُونَ تَمْثِيلُهُمْ سِمَةً يَصْدُرُ عَنْ فَهْمِهَا مَنْ غَبِيَ عَلَيْهِ طَرِيقُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَرْتِيبِ أَهْلِهِ فِيهِ، فَلا يُقَصَّرُ بِالرَّجُلِ الْعَالِي الْقَدْرِ عَنْ دَرَجَتِهِ وَلا يُرْفَعُ مُتَّضِعُ الْقَدْرِ فِي الْعِلْمِ فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ، وَيُعْطَى كُلُّ ذِي حَقٍّ فِيهِ حَقَّهُ، وَيُنَزَّلُ مَنْزِلَتَهُ وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نُنَزِّلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ، مَعَ مَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } فَعَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ نُؤَلِّفُ مَا سَأَلْتَ مِنْ الأَخْبَارِ عَنْ
ــــــــــــــــــ(1/30)
قيل: دعت الضرورة هاهنا(1) لذكر هذا، لأنه موضع تعليم، والحاجة ماسة إليه، لأن العلماء إذا تعارضت الأخبار(2) عندهم قدموا خبر من كان أعدل، وعولوا عليه، وأفتوا به، ولم تدع ضرورة إلىذكر الأطبّ من هذين الطبيبين، كما دعت مسلمًا هاهنا، وقد يجوز استرشاد الطبيب الموثوق(3) بعلمه، المرجو النفع بمداواته، وإن كان هناك أوسع منه علمًا بالطب، ولا يجوز الأخذ برواية الناقص في العدالة، وأن يُقَدَّم(4) على رواية الأعدل منه.
وقد أجيز التجريح للشهود للضرورة إليه، ولم يمنع لكونه غيبة، وقال - صلى الله عليه وسلم - فيمن استُشير في نكاحه: " إنه صعلوك " وقال في الآخر: " لا يضع(5) عصاه عن عاتقه " ولم ير(6) ذلك غيبة، لما كان مستشارًا في(7) النكاح، ودعت الضرورة إليه.
رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهَا عَنْ قَوْمٍ هُمْ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ مُتَّهَمُونَ أَوْ عِنْدَ الأَكْثَرِ مِنْهُمْ، فَلَسْنَا نَتَشَاغَلُ بِتَخْرِيجِ حَدِيثِهِمْ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِسْوَرٍ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَدَائِنِيِّ، وَعَمْرِو بْنِ خَالِدٍ، وَعَبْدِ الْقُدُّوسِ الشَّامِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَصْلُوبِ، وَغِيَاثِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ عَمْرٍو أَبِي دَاوُدَ النَّخَعِيِّ وَأَشْبَاهِهِمْ مِمَّنْ اتُّهِمَ بِوَضْعِ الأَحَادِيثِ وَتَوْلِيدِ الأَخْبَارِ.
__________
(1) في (أ):" هنا ".
(2) في (ح):" للأخبار ".
(3) في (ح):" الموثق ".
(4) في (ح):" تقدم ".
(5) في (أ):" إنه لا يضع ".
(6) في (ح):" يرد ".
(7) قوله:" في " ليس في (أ).(1/31)
وَكَذَلِكَ مَنْ الْغَالِبُ عَلَى حَدِيثِهِ الْمُنْكَرُ، أَوْ الْغَلَطُ أَمْسَكْنَا أيضًا عَنْ حَدِيثِهِمْ، وَعَلامَةُ الْمُنْكَرِ فِي حَدِيثِ الْمُحَدِّثِ إِذَا مَا عُرِضَتْ رِوَايَتُهُ لِلْحَدِيثِ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْحِفْظِ وَالرِّضَا خَالَفَتْ رِوَايَتُهُ رِوَايَتَهُمْ، أَوْ لَمْ تَكَدْ تُوَافِقُهَا، فَإِذَا كَانَ الأَغْلَبُ مِنْ حَدِيثِهِ كَذَلِكَ كَانَ مَهْجُورَ الْحَدِيثِ غَيْرَ مَقْبُولِهِ وَلا مُسْتَعْمَلِهِ.
ــــــــــــــــــ
وقد اعتذر صاحب الكتاب عن نفسه في ذلك أن القصد بيان منازلهم، اتباعا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:« أنزلوا الناس منازلهم »، والذي قلناه أبسط.
قال القاضي: حديث « أنزلوا الناس منازلهم »، الذي ذكره مسلم عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يسنده، أسنده أبوبكر البزار في"مسنده" عن ميمون بن أبي شبيب، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وذكره(1) أبو داود في "مصنفه" عن ميمون بن أبي شبيب أيضًا: أن عائشة رضي الله عنها مر بها سائل فأعطته كِسرة، ومر بها رجل(2) عليه ثياب
__________
(1) في (ح):" وذكر ".
(2) في (ح):" رجل آخر ".(1/32)
فَمِنْ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَرَّرٍ وَيَحْيَى بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ، وَالْجَرَّاحُ بْنُ الْمِنْهَالِ أَبُو الْعَطُوفِ، وَعَبَّادُ بْنُ كَثِيرٍ، وَحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ ضُمَيْرَةَ، وَعُمَرُ بْنُ صُهْبَانَ، وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُمْ فِي رِوَايَةِ الْمُنْكَرِ مِنْ الْحَدِيثِ، فَلَسْنَا نُعَرِّجُ عَلَى حَدِيثِهِمْ، وَلا نَتَشَاغَلُ بِهِ لأَنَّ حُكْمَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالَّذِي نَعْرِفُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ فِي قَبُولِ مَا يَتَفَرَّدُ بِهِ الْمُحَدِّثُ مِنْ الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ قَدْ شَارَكَ الثِّقَاتِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحِفْظِ فِي بَعْضِ مَا رَوَوْا وَأَمْعَنَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمُوَافَقَةِ لَهُمْ، فَإِذَا وُجِدَ كَذَلِكَ ثُمَّ زَادَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا لَيْسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ قُبِلَتْ زِيَادَتُهُ.
ــــــــــــــــــ
فأقعدته فأكل، فقيل لها في ذلك، فقالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنزلوا الناس منازلهم ".
قال البزار: " وهذا الحديث لايُعلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من هذا الوجه، وقد روي عن عائشة من غير هذا الوجه موقوفًا ".
ومعنى الحديث بين في إيتاء كل ذي حق حقه، وتبليغه منزلته في كل باب، كما احتج به مسلم في تطبيق الرواة، وتعريف مراتبهم، ومزية بعضهم
على بعض، إلا ما ساوى الله عز وجل بينهم فيه(1) من الحدود والحقوق.
وقول مسلم في هذا الفصل: " إلا أن البون بينهما وبين هذين بعيد " أي الفرق، وأنهما لا يقرنان في علمهما وفضلهما.
قال صاحب العين: " البون مسافة ما بين الشيئين "، وهذا مثل قول مسلم في الفصل نفسه: " وجدتهم متباينين لا يدانونهم ".
وفي هذا الفصل من قول مسلم: " وأضرابهم من حمال الآثار(2)".
__________
(1) في (أ):" فيه بينهم ".
(2) في (ح):" للآثار ".(1/33)
وجه العربية فيه: " وضربائهم "؛ إذ لم يأت جمع فعيل على أفعال في
فَأَمَّا مَنْ تَرَاهُ يَعْمِدُ لِمِثْلِ الزُّهْرِيِّ فِي جَلالَتِهِ وَكَثْرَةِ أَصْحَابِهِ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِينَ لِحَدِيثِهِ وَحَدِيثِ غَيْرِهِ، أَوْ لِمِثْلِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ وَحَدِيثُهُمَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَبْسُوطٌ مُشْتَرَكٌ قَدْ نَقَلَ أَصْحَابُهُمَا عَنْهُمَا حَدِيثَهُمَا عَلَى الاتِّفَاقِ مِنْهُمْ فِي أَكْثَرِهِ، فَيَرْوِي عَنْهُمَا أَوْ عَنْ أَحَدِهِمَا الْعَدَدَ مِنْ الْحَدِيثِ مِمَّا لا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِمَا، وَلَيْسَ مِمَّنْ قَدْ شَارَكَهُمْ فِي الصَّحِيحِ مِمَّا عِنْدَهُمْ فَغَيْرُ جَائِزٍ قَبُولُ حَدِيثِ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ النَّاسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ــــــــــــــــــ
الصحيح إلا في كلمات قليلة.
وقوله: " وازيْتَ هؤلاء "، ويُروى:" وازنْتَ " بالنون، ومعناهما: قارنتَ ومثَّلْتَ.
وقوله: " غبي عليه طريق العلم " أي خفي، قال ابن القُوطِيّة: " غبي خفي، وأيضًا : قلّتْ فطنتُه " قال ابن(1) دريد: " في فلان غبوة وغباوة، أي غفلة وحماقة "، وقال الخليل: " غَبِي فهو غَبٌّ، إذا لم يفطن ".
وذكر مسلم في أسماء المتهمين، عبدالقدوس الشامي، رواه العذري بالسين المهملة، وهو خطأ، وصوابه بالمعجمة، وهي رواية الجماعة.
وذكر فيهم: عبدالله بن محرز، كذا سمعناه من جماعة شيوخنا، عن شيوخهم الرواة للكتاب، بحاء ساكنة مهملة، وكسر الراء، وآخره زاي.
وهو غلط، وصوابه " محرَّر "، بفتح الحاء المهملة، وراءين مهملتين، أولاهما مفتوحة مشددة.
وكذا ذكره البخاري في تاريخه، وقيده الأمير أبو نصر ابن ماكولا، والحافظ الجياني في كتابيهما، وكذا وقع في روايتنا على الصواب هنا عن
__________
(1) قوله:" ابن " ليس في (أ).(1/34)
قَدْ شَرَحْنَا مِنْ مَذْهَبِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ بَعْضَ مَا يَتَوَجَّهُ بِهِ مَنْ أَرَادَ سَبِيلَ الْقَوْمِ وَوُفِّقَ لَهَا، وَسَنَزِيدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى شَرْحًا وَإِيضَاحًا فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْكِتَابِ عِنْدَ ذِكْرِ الأَخْبَارِ الْمُعَلَّلَةِ إِذَا أَتَيْنَا عَلَيْهَا فِي الأَمَاكِنِ الَّتِي يَلِيقُ بِهَا الشَّرْحُ وَالإِيضَاحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَبَعْدُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَلَوْلا الَّذِي رَأَيْنَا مِنْ سُوءِ صَنِيعِ كَثِيرٍ مِمَّنْ نَصَبَ نَفْسَهُ مُحَدِّثًا فِيمَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ طَرْحِ الأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ وَالرِّوَايَاتِ الْمُنْكَرَةِ، وَتَرْكِهِمْ الاقْتِصَارَ عَلَى الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ مِمَّا نَقَلَهُ الثِّقَاتُ الْمَعْرُوفُونَ بِالصِّدْقِ وَالأَمَانَةِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ وَإِقْرَارِهِمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّا يَقْذِفُونَ بِهِ إِلَى الأَغْبِيَاءِ مِنْ النَّاسِ هُوَ مُسْتَنْكَرٌ وَمَنْقُولٌ عَنْ قَوْمٍ غَيْرِ مَرْضِيِّينَ مِمَّنْ ذَمَّ الرِّوَايَةَ عَنْهُمْ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِثْلُ: مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَشُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، وَعَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ الأَئِمَّةِ لَمَا سَهُلَ عَلَيْنَا الانْتِصَابُ لِمَا سَأَلْتَ مِنْ التَّمْيِيزِ وَالتَّحْصِيلِ.
ــــــــــــــــــ
الفارسي وحده، فيما سَمَّعته على سفيان بن العاصي عن الشاشي عنه، وكذا سمعناه من جماعة شيوخنا في كتاب مسلم بعد هذا بيسير، في حديث عبدالله بن المبارك، وذكره له في الضعفاء، إلا فيما حدثنا به القاضي الشهيد أبو علي عن العذري(1)، فإنه قال فيه :" محرز " كما رووه هنا.
__________
(1) قوله:" عن العذري " ليس في (ح).(1/35)
وذكر مسلم رواية المنكر من الحديث، ومن تُقبل زيادته، ومن يُطرح.
اختلف الناس في الراوي الثقة إذا انفرد بزيادة في الحديث عن سائر رواة شيخه.
فذهب معظم الفقهاء والأصوليين والمحدثين إلى قبول زيادته.
وَلَكِنْ مِنْ أَجْلِ مَا أَعْلَمْنَاكَ مِنْ نَشْرِ الْقَوْمِ الأَخْبَارَ الْمُنْكَرَةَ بِالأَسَانِيدِ الضِّعَافِ الْمَجْهُولَةِ، وَقَذْفِهِمْ بِهَا إِلَى الْعَوَامِّ الَّذِينَ لا يَعْرِفُونَ عُيُوبَهَا خَفَّ عَلَى قُلُوبِنَا إِجَابَتُكَ إِلَى مَا سَأَلْتَ.
بَاب وُجُوبِ الرِّوَايَةِ عَنْ الثِّقَاتِ وَتَرْكِ الْكَذَّابِينَ
وَالتَّحْذِيرِ مِنْ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -
وَاعْلَمْ وَفَّقَكَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ عَرَفَ التَّمْيِيزَ بَيْنَ صَحِيحِ الرِّوَايَاتِ وَسَقِيمِهَا وَثِقَاتِ النَّاقِلِينَ لَهَا مِنْ الْمُتَّهَمِينَ أَنْ لا يَرْوِيَ مِنْهَا إِلاَّ مَا ــــــــــــــــــ
وذهب بعض أصحاب الحديث إلى ردّها، وهو مذهب معظم أصحاب أبي حنيفة.
وكذلك جاء اختلافهم متى أسند الحديث واحد وأرسله الباقون، فأكثر(1) المحدثين على رد هذا الوجه.
__________
(1) في (ح):" وأكثر ".(1/36)
والصواب في ذلك كله ما ذهب إليه أهل التحقيق من الفريقين، وأشار إليه مسلم في هذا الفصل، من جواز قبوله، إذا كان الراوي شارك الثقات في الحفظ والرواية، بخلاف إذا لم يشاركهم ولا وافقهم فيما رووه، ثم انفرد هو برواية الكثير مما لم يرووه عن أشياخهم، ولا عرفه أولئك المشاهير من حديثهم، فهذا يُنْكَر ولا يُقْبَل، ويستراب جملة حديثه ويترك(1)، لتهمتنا له، إما لسوء(2) الحفظ والوهم، أو التساهل، بخلاف الزيادة في الحديث نفسه، أو رواية الحديث الواحد من هذا الفن، فإن مثل هذا يقبل منه لثقته، فإن ظهر فيها وهمه(3) لم يقدح(4) في عدالته، واحتمل؛ لصحة حديثه واستقامة روايته لغيره،
وقد بيّن مسلم الغرض فيه وأجاد(5)، وحملنا زيادته هذه التي لم نر
عَرَفَ صِحَّةَ مَخَارِجِهِ وَالسِّتَارَةَ فِي نَاقِلِيهِ وَأَنْ يَتَّقِيَ مِنْهَا مَا كَانَ مِنْهَا عَنْ أَهْلِ التُّهَمِ وَالْمُعَانِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الَّذِي قُلْنَا مِنْ هَذَا هُوَ اللاَّزِمُ دُونَ مَا خَالَفَهُ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ
ــــــــــــــــــ
ما يبطلها ويعارضها على أنه حفظ ما لم يحفظ غيره، وضبط ما لم يضبط أصحابه.
وعلى هذا ثبتت(6) زيادة الشاهد على غيره من الشهداء معه، ما لم تكن الشهادتان في صورة المعارضة.
وعلى هذا ما ألف أئمة الحديث الغرائب والأفراد من الحديث وعدوه في(7) الصحيح.
فأما متى جاء ما يعارضه، وروت الجماعة خلافه، فالرجوع إلى قول الجماعة والحفاظ أولى من باب الترجيح.
__________
(1) في (ح):" وتترك ".
(2) في (ح):" يسوء ".
(3) في (ح):" وهم ".
(4) في (أ):" نقدح ".
(5) في (ح):" وأجاد لصحة حديثه ".
(6) في (ط):" يثبت ".
(7) في (ط):" من ".(1/37)
وهذا أيضًا أصل في الشهادة المتعارضة في مراعاة الأعدل على المشهور، واختلف المذهب في الترجيح(1) فيها بالكثرة.
وقوله: " بما يتوجه به من أراد سبيل القوم ". أي يقصد طريقهم ويسلك مذهبهم، قال الله تعالى: " إني وجهت وجهي"، وقال: " فأقم وجهك للدين حنيفا " أي قصدك.
وقوله: " وسنزيده إن شاء الله تعالى شرحًا وإيضاحًا عند الأخبار المعللة".
قيل: هذا الكلام الذي وعد به ليس منه شيء في الكتاب، وأنه مما اخترمته المنية قبل جمعه ؛ إذ ما أدخله في كتابه من الصحيح المتفق عليه، ليس يحتاج إلى شيء من الكلام(2)، لعلو رتبته، وقلة غلط رواته، وحفظهم
فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}، وَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:{ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ}، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:{ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ }، فَدَلَّ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الآيِ أَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ سَاقِطٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَأَنَّ شَهَادَةَ غَيْرِ الْعَدْلِ مَرْدُودَةٌ، وَالْخَبَرُ وَإِنْ فَارَقَ مَعْنَاهُ مَعْنَى الشَّهَادَةِ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ فَقَدْ يَجْتَمِعَانِ فِي أَعْظَمِ مَعَانِيهِمَا ؛ إِذْ كَانَ خَبَرُ الْفَاسِقِ غَيْرَ
ــــــــــــــــــ
وإتقانهم، وقد قدمنا الكلام عليه، وأنه قد ذكره في أبوابه.
وقوله :" يقذفون به إلى الأغبياء ".
أي يلقون ذلك إليهم، قال الله تعالى:{ بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه(3) }.
وقد يكون: " يقذفون " بمعنى: يقولون ما لا يعلمون ؛ كما قال الله تعالى: " ويقذفون بالغيب من مكان بعيد ".
__________
(1) في (ح):" بالترجيح ".
(2) في (أ):" من الكلام عليه ".
(3) قوله:" فيدمغه " زيادة في (ط).(1/38)
واختلفت روايات شيوخنا في هذا الحرف الأخير(1)، وصوابه: " الأغبياء "، بالغين المعجمة والباء بواحدة تحتها، وهي روايتنا من طريق السمرفندي، ومعناه: الجهلة الأغفال، ويدل عليه قوله آخر الفصل :" وقذفهم بها إلى العوام ".
وقول مسلم: " والخبر وإن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه، فقد يجتمعان في أكثر معانيها ".
ما أحسن قول مسلم هذا وأبينه في الدلالة على كثرة علمه وقوة فهمه(2).
فاعلم أن الشهادة والخبر يجتمعان عندنا في خمسة أحوال، ويفترقان في خمسة أحوال.
مَقْبُولٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَا أَنَّ شَهَادَتَهُ مَرْدُودَةٌ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ،وَدَلَّتْ السُّنَّةُ عَلَى نَفْيِ رِوَايَةِ الْمُنْكَرِ مِنْ الأَخْبَارِ كَنَحْوِ دَلالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى نَفْيِ خَبَرِ الْفَاسِقِ.
ــــــــــــــــــ
فالخمسة الجامعة لهما: العقل، والبلوغ، والإسلام، والعدالة، وضبط الخبر أو الشهادة حين السماع والأداء.
فمتى اختل وصف من هذه الأوصاف في أحد لم يقبل خبره ولا شهادته.
وأما الخمسة التي يفترقان فيها: فالحرية، والذكورية، والعدد، ومراعاة الأهلية، والعدالة(3).
فخبر العبد مقبول وإن لم تقبل شهادته عندنا، وكذلك خبر المرأة والواحد(4) مقبول، ولا تقبل(5) شهادتهما مجردة إلا في مواضع مستثناة، وبشرائط(6) معلومة.
وخبر الرجل وروايته فيما ينتفع به خاص أهله، أو يضر به عدوه مقبول.
[ولهذا لا يعذر في مكشِّفي القضاة ومجرِّحي السر ](7).
__________
(1) في (ح):" للآخر ".
(2) في (أ):" فقهه ".
(3) في النسخ:" والعداوة"، والمثبت من (ك) فقط.
(4) في (أ):" الواحد والمرأة ".
(5) في (ح):" ولن تقبل ".
(6) في (ح) و(ط):" وشرائط ".
(7) مابين المعكوفين تقدم في (ط) قبل قوله:" وخبر الرجل ".(1/39)
وكذلك تجوز(1) رواية الابن عن أبيه وأمه وروايتهما عنه وإن لم يجزه بعض العلماء في نقل الشهادة، وفي مذهبنا فيها وجهان.
ولأن الرواية والخبر يعم(2) ولا يخص(3) شخصًا دون شخص، والشهادة خاصة، ولهذا نُعمِل الشهادة العامة كيف كانت، ولا نردها بظنة منفعة ولا عداوة، كالشهادة على العدو من أهل الكفر، وعلى الأمور العامة للمسلمين، في سككهم ومرافقهم، وإن كان الشاهد واحدًا منهم.
وَهُوَ الأَثَرُ الْمَشْهُورُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ ».
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ،ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ أيضًا، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ وَسُفْيَانَ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ، عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَلِكَ.
ــــــــــــــــــ
وشرط الشافعي البصر في الشهادة دون الخبر، ولا حجة له في ذلك قائمة.
وشرط بعض الأصوليين البلوغ حين السماع، والإجماع يخالفه(4).
__________
(1) في (ح) جاءت بعد قوله:" وأمه ".
(2) في (ح):" تعم ".
(3) في (ح):" تخص ".
(4) في (ح):" بخلافه ".(1/40)
[ولم يشرط بعضهم الضبط للخبر حين السماع. وهذا غير صحيح، ولا حجة لهم في سماع الصغار، ومن لا يحفظ، عند من أجازه، فإن التعويل في ذلك على إذن الشيخ لهم، وتحقيقه رواية ما قرئ عليه بعد، على صحة القول بالإجازة، بخلاف لو حضر قراءة شيء على الشيخ لا يعلم ما هو بعينه، ولا حجة لهم في حديث أبي شاه(1)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اكتبوا له "، لأنه قد تعين له ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابه له بعد ذلك، وإن لم يضبطه(2) حين السماع منه - عليه السلام - ](3).
وشرط الجبائي(4) وبعض القدرية العدد في الخبر(5)، فلابد عنده من اثنين عن اثنين في الخبر كالشهادة، وعند الآخرين أربع عن أربع في كل خبر، وهذا مما يتعذر، ولا يفيد معنى في باب النقل (6).
وأسقط أبو حنيفة شرط العدالة، ورأى أن مجرد الإسلام عدالة في الخبر والشهادة (7)، لمن لم يعلم فسقه وجهل أمره.
ورأى بعض أهل الحديث أن رواية رجلين عمن روي عنه يخرجه عن حد الجهالة، وإن لم يعرف حاله، والصواب أن الجهالة لا ترتفع عنه(8) بروايتهما حتى يعرف حاله، وتتحقق عدالته، وإن جُهِلَ نسبه.
__________
(1) في (ط):" أيوب " بدل:" أبي شاه ".
(2) في (أ) و(ح):" يضبط ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(4) في (ط):" الجياني".
(5) قوله:" في الخبر" ليس في (أ) و(ح).
(6) في (أ):" الفعل".
(7) في (أ):" الشهادة والخبر".
(8) في (ح):" عنده ".(1/41)
(1) - وحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ،ح، و حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ: أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيًّا - رضي الله عنه - يَخْطُبُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لا تَكْذِبُوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَكْذِبْ عَلَيَّ يَلِجِ النَّارَ ».
ــــــــــــــــــ
قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من كذب علي متعمدًا (2)".
قال الإمام: الكذب عند الأشعرية: الإخبار عن الأمر على ما ليس هو به، هذا هو(3) حد الكذب عندهم، لا يشترطون في كونه كذبًا: العمد والقصد إليه(4)، خلافا للمعتزلة في اشتراطهم ذلك، ودليل هذا الخطاب يرد عليهم ؛ لأنه يدل على أن(5) ما لم يتعمد يقع عليه اسم كذب.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - :" فليتبوأ مقعده من النار "، فإن الهروي قال في قوله تعالى: { والذين تبوأوا الدار }: أي(6) اتخذوها منازل، وقوله: { نتبوأ من الجنة حيث نشاء }، أي نتخذها منازل، ومنه الحديث:« فليتبوأ مقعده
وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ،حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ- يَعْنِي ابْنَ عُلَيَّةَ-،عَنْ عَبْدِالْعَزِيزِ ابْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ».
ــــــــــــــــــ
من النار »، أي: لينزل منزله(7) منها ".
__________
(2) بعده في (ح):" فليتبوأ مقعده من النار ".
(3) قوله:" هو " ليس في (أ) و(ح).
(4) قوله:" إليه" ليس في (ح).
(5) قوله:" أن" ليس في (أ) و(ح).
(6) قوله:" أي" ليس في (ح).
(7) في (ح):" منزلته ".(1/42)
قال القاضي: اختلف في المراد بهذا القول، فقيل: ورد مورد الدعاء منه - صلى الله عليه وسلم -، أي: فبوأه الله ذلك، وأخرج الدعاء عليه مخرج الأمر، وعلى هذا يحمل معنى الحديث الآخر من رواية البخاري عن علي - رضي الله عنه -:« من كذب علي فليلج النار ».
قيل(1): هو على الخبر، أي: فقد استوجب ذلك واستحقه، فليُوطّن نفسه عليه، ويدل عليه رواية مسلم في الحديث الآخر:« يلج(2) النار »، وفي رواية غيره:« بني له بيت في النار ».
وقد اختلف في معنى هذا الحديث: السلف والخلف.
فذهب بعضهم إلى أنه عام في كل شيء كان، في(3) الدين أو غيره.
وذهب آخرون إلى أن ذلك خاص في الكذب عليه في الدين، وتعمده
3 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ».
ــــــــــــــــــ
الخبر عنه بتحليل حرام، أو تحريم حلال، أو إثبات شريعة، أو نفيها. وقد روي في هذا الحديث زيادة:" ليضل الناس "، ولكنها منكرة، غير صحيحة.
قال الطحاوي :" ولو صحت لكان معناها التأكيد، كما قال تعالى: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس }.
قال ابن البيع: " وهذا حديث واه ".
وقد روي قوم أيضًا تفسير الكذب عليه(4) في حديث آخر أنه إنما هو فيمن كذب عليه في عيبه وشين(5) الإسلام.
قال: " وهو حديث باطل أيضًا، في رواية جماعة لا يحتج بحديثهم(6)".
__________
(1) في (ط):" وقيل ".
(2) في (ح):" فليلج ".
(3) في (أ):" من ".
(4) قوله:" عليه" ليس في (ح).
(5) في (ح):" في غيبه وسنن".
(6) في (ح):" لا يحتج بهم ".(1/43)
وذهب آخرون إلى أن الحديث ورد في رجل بعينه كذب عليه في حياته(1)، وادعى لقوم أنه رسوله إليهم، يحكم في أموالهم ودمائهم، فأمر - صلى الله عليه وسلم - بقتله إن وُجد حيًّا، وإحراقه إن وُجد ميتًا.
وحجة أصحاب القول الأول: تهيب عمر والزبير وغيرهما(2) الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - واحتجاجهم بهذا الوعيد(3)، ولو كان في رجل بعينه، أو مقصورًا على سبب، أو في فن مفرد لما حذروا ذلك، والصواب عمومه في كل خبر تُعُمِّدَ به الكذبُ عليه - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا قال في الحديث الآخر: " إن(4) كذبًا علي ليس ككذب على أحد ".
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تكذبوا علي "، وقوله - صلى الله عليه وسلم - :" من قال علي ما لم أقل"، وهذه الألفاظ كلها في الصحيحين.
وإذا كان الكذب ممنوعا في الشرع جملة، فهو على النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد، لأن حقه أعظم، وحق الشريعة آكد، وإباحة الكذب عليه ذريعة إلى إبطال شرعه، وتحريف دينه.
ومن أجل حديث علي والزبير هاب من سمع الحديث أن يحدث بما سمع(5) - وقد اعتذر الزبير -؛ لأنهما لم يذكرا في حديثهما " متعمدًا "، ونحوه في حديث سلمة بن الأكوع.
وترخص(6) من ترخص(1) في الرواية بذكره العمد في حديث أبي هريرة وأنس والمغيرة بن شعبة، وكرهوا الإكثار، توقيًا وحذرًا من الوقوع في ذلك بغير قصد، وإن كان الخطأ والنسيان مما لا تؤاخذ(7) به هذه الأمة، لكن لشدة الأمر، وأنه ليس كغيره من الكذب كما قال - عليه السلام -.
__________
(1) في (ح):" كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته".
(2) في (ط):" وغيرهم ".
(3) في (ح):" الحديث"، وفي حاشيتها:" الوعيد" وعليها (خ).
(4) في (ط):" إن كان ".
(5) في (ح):" أن يحدث بكل ما سمع ".
(6) في (ط):" يرخص ".
(7) في (ح):" يؤاخذ ".(1/44)
وتحرزًا(1) أن يكون في الإكثار ضرب من التفريط والتكلف وقلة التوقي، فيشبه العمد والقصد، ويقع في حمى النهي، فلا(2) يعذر بالوهم، ولهذا ذم
4 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ رَبِيعَةَ قَالَ: أَتَيْتُ الْمَسْجِدَ وَالْمُغِيرَةُ أَمِيرُ الْكُوفَةِ، قَالَ: فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ?- صلى الله عليه وسلم -:« يَقُولُ إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ».
وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ الأسْدِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ الأسَدِيِّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِهِ. وَلَمْ يَذْكُرْ:« إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ ».
ــــــــــــــــــ
الأئمة الإكثار ونهوا عنه، وقل ما سلم مكثر من الطعن عليه، مع ما فيه من التقرير بمن لا يميز الصحيح من السقيم، كما أشار إليه مسلم رحمه الله قبل(3) هذا، مما يبين ما قلناه.
قال الطحاوي: واختلاف هذه الأحاديث بزيادة لفظة(4) الكذب أو نقصها لا يوجب خلافًا في معناها، وإنما هو على التأكيد، كما يقال: رأيت ذلك بعيني، وسمعته بأذني.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:« كفى بالمرء كذبًا(5) أن يحدث بكل ما سمع ».
__________
(1) في (ح):" وتحرز ".
(2) في (ح):" ولا ".
(3) في (ح):" قيل ".
(4) في (ط):" لفظة عند ".
(5) في (ح):" إثمًا".(1/45)
قال الإمام: رواه شعبة عن حبيب بن عبدالرحمن عن حفص بن عاصم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - … فأتى به مرسلاً، لم يذكر فيه أبا هريرة، هكذا روي من حديث معاذ بن معاذ وغُنْدُر وعبدالرحمن بن مهدي عن شعبة عن حبيب(1).
وفي نسخة أبي العباس الرازي وحده في هذا الإسناد: عن شعبة عن حبيب عن حفص عن أبي هريرة مسندًا، ولا يثبت هذا.
5 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ قَالا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ ».
وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِ ذَلِكَ.
ــــــــــــــــــ
وقد أسنده مسلم بعد هذا من طريق علي بن حفص(2) المدائني عن شعبة، قال علي بن عمر الدارقطني: " والصواب مرسل عن شعبة، كما رواه معاذ
وغندر وابن مهدي ".
قال القاضي :معناه أن من حدث بكل ما سمع، وفيه الحق والباطل، والصدق والكذب، نقل عنه - هو أيضًا - ما حدث به من ذلك، فكان من جملة من يروي الكذب، وصار كاذبًا لروايته إياه، وإن لم يتعمده(3) ولا عرف أنه كذب، وهو أقوى في الحجة للأشعرية في أنه لا يشترط في الكذب العمد من دليل خطاب الحديث المتقدم.
__________
(1) قوله:" عن حبيب " ليس في (أ) و(ح).
(2) قوله:" حفص" ليس في (ح).
(3) في (ح):" يتعمد ".(1/46)
وأما حديثه الآخر الذي ذكر مسلم أول الفصل من حديث سمرة والمغيرة: " من حدث عني حديثا يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين " فبيِّنُ المعنى(1)؛ لأنه محدث عنه - صلى الله عليه وسلم - بما يقطع أو يغلب على ظنه باطله، والمحدث بمثل هذا عنه مفتر عليه، وكمتعمد الكذب عليه، مرتكب لما نُهي عنه، فهو أحد الكاذبين.
قال أبو جعفر الطحاوي(2): " هو داخل في وعيد الحديث فيمن كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - ".
قال أبو عبدالله الحاكم:" هذا وعيد للمحدث إذا حدَّث بما يعلم أنه كذب وإن لم يكن هو الكاذب ".
قال القاضي: وكيف لا يكون كاذبا وهو داخل تحت حد الكاذب، وكلامه داخل تحت حد الكذب.
والرواية فيه عندنا: " الكاذبين " على الجمع.
وذكر قول إياس بن معاوية:" إني أراك كلفت بهذا العلم"، ورويناه من طريق الطبري:" علقت "، لكن وقع عند الخشني عنه بضم اللام، وهو وهم، وصوابه كسر اللام في الحرفين.
ومعنى " كَلِفْتَ ": أي ولعت به، حكاه صاحب العين.
قال ابن دريد: " كلف بالشيء أحبه "، وهو معنى علقت أيضًا، والعلاقة: الحب، قال صاحب الأفعال : " علق الشيء بالشيء، والحب بالقلب، وعلقت أفعل كذا أي أدمته " كله بكسر اللام.
وقوله: " إياك والشناعة في الحديث "، معناه: أن يأتي منه بما ينكر، ويقبح الحديث عنه، يقال :شنعت بالشيء، أي: أنكرته، بكسر النون، وشنع الشيء بضمها :قبح، وشنعت على الرجل، إذا ذكرت عنه قبيحًا.
وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ لِي مَالِكٌ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ يَسْلَمُ رَجُلٌ حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ، وَلا يَكُونُ إِمَامًا أَبَدًا وَهُوَ يُحَدِّثُ بِكُلِّ مَا سَمِعَ.
ــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" بالمعنى ".
(2) في (ح):" الطحان ".(1/47)
حذره بهذا أن يحدث بالأحاديث المنكرة التي يشنع الحديث بها، وينكر، ويقبَّح على صاحبه، فيكذَّب، ويُستراب، فتسقط منزلته، ويذل في نفسه، كما قال في آخر الخبر.
وقوله: " دجالون، كذابون ".
قال ثعلب :" كل كذاب دجال، وبه سمي الدجال، لتمويهه على الناس وتلبيسه، يقال: دجل إذا موَّه ولَبَّس، ودجَل فلان الحق بباطله، أي غطاه".
وقال أيضًا: " سمي بذلك، لضربه في الأرض وقطعه نواحيها"، يقال: دجل الرجل - بالفتح والضم - إذا فعل ذلك (1).
وقال مسلم: " حدثني أبو سعيد الأشج، قال(2): حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش عن المسيب بن رافع عن عامر بن عبدة...".
أكثر رواة مسلم يقولونه:"عبد(3)" بغير هاء، والصواب إثباتها، وكذا نبهنا عليها الحافظ أبو علي، وغيره من متقني شيوخنا، وكذا قرأته في الأم على ابن أبي جعفر، وكذا ذكره الجياني، وهو قول الحفاظ: أحمد بن حنبل وابن ا لمديني وابن معين والدارقطني وعبدالغني بن سعيد وغيرهم.
ثم اختلفوا في فتح الباء وإسكانها، فروينا عن علي بن المديني(4)، ويحيى ابن معين، وأبي مسلم المستملي: الفتح، وهو الذي حكاه عبدالغني في كتابه، وكذا وجدته بخط شيخنا القاضي(5) الشهيد متقنا في تاريخ البخاري.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَقَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بِحَسْبِ الْمَرْءِ مِنْ الْكَذِبِ أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ.
ــــــــــــــــــ
وروينا الإسكان عن أحمد بن حنبل، وغيره.
وبالوجهين ذكره الدارقطني في "مؤتلفه"، وقيده ابن ماكولا في "إكماله".
والفتح أشهر، وكذا رويناه عن أبي علي الطبري.
__________
(1) في (ح):" إذا فعل مثل ذلك ".
(2) قوله:" قال" ليس في (ح).
(3) قوله:" عبد " ليس في (ح).
(4) في (ح):" بين المديني وغيره ".
(5) قوله:" القاضي" ليس في (أ).(1/48)
وذكر مسلم قول عبدالله بن عمرو بن العاص في خبر الشياطين، وأنه يوشك أن تخرج، فتقرأ للناس قرآنا.
قد حفظ الله تعالى كتابه، وضمن ذلك، فقال :{ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }، وقد ثبت القرآن، ووقع عليه الإجماع، فلا يزاد فيه حرف ولا ينقص حرف، وقد رام الروافض والملحدة ذلك فما تمكن لهم، ولا يصح أن يقبل مسلم من أحد قرآنا يدعيه مما ليس بين الدفتين.
فإن كان لهذا الخبر أصل صحيح، فلعله يأتي بقرآن فلا يقبل منه، كما لم يقبل ما جاءت به القرامطة، ومسيلمة، وسجاح وطليحة، وشبههم.
أو يكون أراد بالقرآن ما يأتي به ويجمعه من أشياء يذكرها ؛ إذ أصل القرآن الجمع، سمي بذلك لما جمعه من القصص والأمر والنهي والوعد والوعيد(1)، وكل شيء جمعته فقد قرأته.
وقوله: " يوشك " أي يقرب ويسرع، والوشك السرعة، بالفتح، وحكى بعضهم الكسر، وأنكره الأصمعي.
وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه -:" بِحَسْبِ الْمَرْءِ مِنْ الْكَذِبِ أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ ".
ــــــــــــــــــ
وذكر قول ابن عباس :" فلما ركب الناس الصعب [ والذلول، وقوله أيضًا(2):" ركبتم كل صعب وذلول فهيهات ".
هذا مثل، وأصله في الإبل، أي سلكوا كل مسلك من الحديث، مما يحمد ويرضى سلوكه كالذلول من الإبل المستحسن الركوب، ومما ينكر ويشق سلوكه كالصعب](3) منها.
ومعنى " هيهات " أي(4): ما أبعد استقامة أمركم، أو: فما أبعد أن نثق حديثكم(5) ونسمع(6) منكم، ونُعول على روايتكم.
__________
(1) في (أ):" والوعيد والوعد ".
(2) قوله:" أيضًا " ليس في (ح).
(3) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(4) قوله:" أي " ليس في (ح).
(5) في (ح):" بحديثكم ".
(6) في (ح):" أو نسمع ".(1/49)
ويقال: هيهاه، بالهاء أيضًا، وهذه الكلمة موضوعة للإبعاد [للطلب واليأس منه.
ومن الناس من يكسر تاءها في الوصل، ويقف عليها بالتاء، ومن فتحها وقف عليها هاء ](1)، قال الله تعالى: { هيهات هيهات لما توعدون }.
ويقال: أيهات، بالهمزة(2) أيضًا(3) بفتح الهمزة وكسرها معًا، وقد جاء في الكتاب بعد هذا في حديث المرأة والمزادتين: " أيآت أيآت(4)"، بهمزة مكان الهاء الثانية.
وقوله: " فجعل لا يأذن لحديثه " أي لا يستمع، ومنه:{ وأذنت لربها وحقت } أي سمعت، ومنه سُمِّيت الأُذُن.
وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى قَالا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ: أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ:" مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً ".
ــــــــــــــــــ
وذكر مسلم عن ابن أبي مليكة: " كتبت إلى ابن عباس أسأله أن يكتب إلي كتابا ويحفي عني "، ثم قال ابن عباس في الخبر: " أختار له الأمور اختيارا وأحفي(5) عنه ".
هكذا روينا هذين(6) الحرفين عن جميع شيوخنا بالحاء المهملة، إلا عن أبي محمد الخشني، فإني قرأتها(7) عليه بالخاء المعجمة، وكان أبو بحر يحكي لنا عن شيخه القاضي أبي الوليد الكناني أن صوابه بالخاء المعجمة.
__________
(1) مابين المعكوفين ساقط من (ط)، ويوجد إشارة لحق، ولم يظهر شيء بالهامش.
(2) في (أ):" بالهمز ".
(3) قوله:" أيضًا " ليس في (ح). ومن قوله:" قال الله تعالى...." إلى هنا ليس في (ط) جاء بعد قوله:" مكان الهاء الثانية ".
(4) قوله:" أيآت" الثانية ليس في (ح).
(5) في (ط):" وأخفى ".
(6) قوله:" هذين " ليس في (أ).
(7) في (ح):" قرأتهما ".(1/50)
ومعناه عندي(1): أي لا تحدثني(2) بكل ما رويته، ولكن أحف(3) بعضه عني مما لا أحتمله ولا تراه صوابًا، ويدل عليه قوله: أختار له.
ويظهر لي أن رواية الجماعة هي الصواب، وأن معنى أحفى(4): أنقص، من إحفاء الشوارب، وهو جَزُّها، ومنه قولهم: في قوله إحفاء(5) أي تنقص(6).
أي أمسك عني من حديثك ولا تكثر علي.
ويكون الإحفاء: الإلحاح والاستقصاء، ويكون " عني " بمعنى عليّ، أي: استقصِ ما تحدِّثني به، ونخِّله(7) علي، ومن أجلي.
وحكى المفجَّع اللغوي في " المنقذ ": " أحفى فلان على فلان في الكلام إذا أربى عليه وزاد ".
وفي هذا الحديث(8):" ولد ناصح "، ووقع عند العذري: " ولك
6- وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالا: حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو هَانِئٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: « سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي أُنَاسٌ يُحَدِّثُونَكُمْ مَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ ».
ــــــــــــــــــ
ناصح "، وهو تصحيف.
__________
(1) في (ح):" عنده ".
(2) في (ح):" تحدثنا ".
(3) في (ح):" أخفي ".
(4) في (أ):" أخفى ".
(5) قوله:" إحفاء " ليس في (ح).
(6) في (أ):" نقص ".
(7) في (أ) يشبه أن تكون:" نحله "، وفي (ح):" تحله " و"تجلد".
(8) قوله:" الحديث" ليس في (ح).(1/51)
وذكر مسلم عن بعض أصحاب علي:" قاتلهم الله، أي علم أفسدوا ". إشارة(1) إلى ما أدخلته الروافض والشيع(2) في علم علي - رضي الله عنه - وحديثه، وتقولوه(3) من الأباطيل، وإضافته(4) إليه من الروايات المفتعلة عليه(5)، حتى خلطت الحق بالباطل، واخطأ بالصواب، ولم يتميز ما روته عنه حقيقة مما افتعلته (6).
ومعنى " قاتلهم الله " أي: لعنهم، وقيل: باعدهم، وقيل قتلهم.
وهؤلاء استوجبوا عنده ذلك لشنعة(7) ما أتوه، كما فعله كثير منهم، وتخطوا إلى الكفر بقولهم، وإلا فلعنة(8) المسلم غير جائزة.
وقوله :" ما قضى بهذا علي إلا أن يكون ضل ".
المعنى: إنه لا يقضي به إلا ضال، وعليّ غير ضال، فلا يصح(9) أن يكون قضى به ؛ لا أنه حكم بضلالة(10) إن صح أنه قضى به(11)، أو يكون الضلال هنا بمعنى الخطأ، كما قال تعالى: { فعلتها إذا وأنا من الضالين }، أي من المخطئين، وقيل: من الناسين.
قال مسلم:حدثنا حسن بن الربيع، حدثنا حماد بن زيد،عن أيوب وهشام عن محمد، وحدثنا فضيل عن هشام، وحدثنا مخلد بن حسين عن هشام.
__________
(1) في (ط):" ايثار ".
(2) قوله:" الشيع " ليس في (ح).
(3) في (أ):" وما تقولوه ".
(4) في (ح):" إضافته " بدون واو.
(5) قوله:" عليه " ليس في (ح).
(6) في (ح):" ما افتعلته ".
(7) في (أ):" لشناعة ".
(8) في (أ):" فلغته ".
(9) في (ح):" يصلح ".
(10) في (ح):" بضلالته ".
(11) من قوله:" لا أنه حكم...." إلى هنا ليس في (ح).(1/52)
7- وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَرْمَلَةَ بْنِ عِمْرَانَ التُّجِيبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو شُرَيْحٍ أَنَّهُ سَمِعَ شَرَاحِيلَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي مُسْلِمُ ابْنُ يَسَارٍ أَنَّهُ?سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ يَأْتُونَكُمْ مِنَ الأحَادِيثِ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ لا يُضِلُّونَكُمْ وَلا يَفْتِنُونَكُمْ ».
ــــــــــــــــــ
"هشام" - أولاً - مخفوض، معطوف على أيوب،والقائل: حدثنا فضيل وحدثنا مخلد هو: حسن بن الربيع.
وفضيل هذا هو ابن عياض الزاهد، وهشام هو الدستوائي(1)، ومحمد الذي حدث عنه أولاً هو ابن سيرين، وهو مفسَّر في حديث فضيل ومخلد.
وقوله: " وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم "، مع ما ذكره عن السلف والأئمة من مثل هذا، يؤيد ما قلناه في ترك حديثهم، خلاف ما حكاه الغساني من الاتفاق على قبوله إذا لم يكونوا دعاة ولا غلاة وظهر صدقهم.
وقد ذكرنا أن أبا عبدالله ابن البيع ذكرهم في القسم الخامس(2).
قال القاضي: وإلى قبول روايتهم وشهادتهم مال الشافعي.
وقال مالك: " لا يؤخذ الحديث عن صاحب هوى يدعو إلى هواه "، فانظر اشتراطه الدعاء: هل هو ترخيص في الأخذ عنه إذا لم يدع إلى بدعته(3)، أو أن البدعة سبب لتهمته أن يدعو الناس إلى هواه ؟ أي: لا يأخذ(4) عن ذي بدعة، فإنه ممن يدعو إلى هواه، أو أن هواه يحمله أن يدعو إلى هواه ونتهمه لذلك، وهذا المعروف من مذهبه.
__________
(1) في حاشية (أ):"القردوسي"، وكتب فوقها:"صح".
(2) زاد في حاشية (أ):"يريد من الأقسام المختلف فيها ".
(3) قوله:" إلى بدعته " مثبت من (ك) فقط.
(4) في (أ):" تأخذوا ".(1/53)
وَحَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ،عَنْ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبَدَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ:" إِنَّ الشَّيْطَانَ لِيَتَمَثَّلُ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ، فَيَأْتِي الْقَوْمَ فَيُحَدِّثُهُمْ بِالْحَدِيثِ مِنْ الْكَذِبِ فَيَتَفَرَّقُونَ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ سَمِعْتُ رَجُلاً أَعْرِفُ وَجْهَهُ وَلا أَدْرِي مَا اسْمُهُ يُحَدِّثُ ".
ــــــــــــــــــ
وقد تأول الباجي أن معنى " يدعو " يظهرها وتحقق(1) عليه، فأما من دعا فلم يختلف في ترك حديثه، وقد ذم مسلم بعد هذا الرواية عنهم.
وأما القاضي أبوبكر الباقلاني في طائفة من المحققين من الأصوليين والفقهاء والمحدثين من السلف والخلف فأبوا قبول خبر المبتدعة والفساق المتأولين، ولم يعذروهم بالتأويل، وقالوا: هو فاسق بقوله، فاسق بجهله فاسق(2) ببدعته فتضاعف فسقه.
وعلى هذا وقع خلاف الفقهاء في شهادتهم، فقبلها الشافعي وابن أبي ليلى، وردّها مالك وغيره.
وكذلك لا يشترط فيمن دعا إلى بدعته ما ذكره الغساني من افتعاله الحديث وتحريفه الرواية لنصرة مذهبه، فإن هذا ثبت كذبه وطُرح قولُه ولو لم يكن ذا بدعة، ومن شُهر بالبدعة اتهمناه أن يفعل هذا وإن لم يفعله ؛ لثبوت فسقه ببدعته، قال مالك: " لايؤخذ الحديث عن أربعة، ويؤخذ عمن(3) سواهم: رجل معلن بفسقه، وإن كان أروى الناس، ورجل يكذب في أحاديث الناس، وإن كنت لا تتهمه(4) على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصاحب بدعة يدعو إلى بدعته، ورجل له فضل لا يعلم ما يحدث به ".
ذكر مسلم عن طاوس: " إن كان صاحبك مليًّا فخذ عنه ".
__________
(1) في (أ) و(ح):" يحقق ".
(2) قوله:" فاسق " ليس في (أ) و (ط).
(3) في (ح):" عن ".
(4) في (ح):" نتهمه ".(1/54)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ:" إِنَّ فِي الْبَحْرِ شَيَاطِينَ مَسْجُونَةً أَوْثَقَهَا سُلَيْمَانُ، يُوشِكُ أَنْ تَخْرُجَ فَتَقْرَأَ عَلَى النَّاسِ قُرْآنًا ".
ــــــــــــــــــ
يريد ثقة يعتمد على ما عنده، فهو كالملي الذي يعتمد معامله ومودعه على ما في أمانته وذمته ؛ لأن هذا بملائه(1) في ثقته ودينه مثله في ماله.
وذكر مسلم عن أبي(2) الزناد قال(3): " أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون ما يؤخذ عنهم الحديث، يقال: ليس من أهله ".
قال القاضي(4): ليس يشترط في رواية الثقة عندنا، وعند المحققين من الفقهاء والأصوليين والمحدثين، كون المحدث من أهل العلم، والفقه، والحفظ، وكثرة الرواية
ومجالسة العلماء، بل يشترط ضبطه لما رواه، إما من حفظه أو كتابه، وإن كان قليلا علمه(5)؛ إذ علم من إجماع الصدر الأول قبول خبر العدل وإن كان أُميًّا، وممن جاء بعد قبول الرواية من صاحب الكتاب، وإن لم يحفظه، والرواية عن الثقات، وإن لم يكونوا أهل علم.
وقد ذكر أبو عبدالله الحاكم في أقسام الحديث(6) الصحيح المختلف فيه: رواية الثقات المعروفين بالسماع وصحة الكتاب(7)، غير ا لحفاظ ولا العارفين، قال: " كأكثر محدثي زماننا " قال:" فهذا يحتج به(8) عند أكثر أهل الحديث(9)"، قال: " ولم ير ذلك مالك ولا أبو حنيفة ".
__________
(1) في (ح):" في ملائه ".
(2) في حاشية (ح):"ابن"، وكتب فوقها:"صح".
(3) قوله:" قال" ليس في (ح) و(ط).
(4) قوله:" قال القاضي " من (ك) فقط.
(5) قوله:" علمه " ليس في (أ).
(6) قوله:" الحديث" ليس في (أ).
(7) في (ح):" الكتب ".
(8) في (أ):" محتج به ".
(9) في (ح):" العلم ".(1/55)
قال القاضي: والذي أقول: إن معنى قول ابن أبي ا لزناد هذا - وقد روي نحوه عن مالك وغيره - أن هؤلاء لم يكونوا أهل ضبط لما رووه، لا من حفظهم ولا من كتبهم، أو قصدوا إيثار أهل العلم وترجيح الرواية عن وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ وَسَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ جَمِيعًا، عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ سَعِيدٌ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: جَاءَ هَذَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَعْنِي بُشَيْرَ بْنَ كَعْبٍ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: عُدْ لِحَدِيثِ كَذَا وَكَذَا، فَعَادَ لَهُ، ثُمَّ حَدَّثَهُ، فَقَالَ لَهُ: عُدْ لِحَدِيثِ كَذَا وَكَذَا، فَعَادَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا أَدْرِي أَعَرَفْتَ حَدِيثِي كُلَّهُ وَأَنْكَرْتَ هَذَا، أَمْ أَنْكَرْتَ حَدِيثِي كُلَّهُ وَعَرَفْتَ هَذَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّا كُنَّا نُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ لَمْ يَكُنْ يُكْذَبُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ تَرَكْنَا الْحَدِيثَ عَنْهُ.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا كُنَّا نَحْفَظُ الْحَدِيثَ وَالْحَدِيثُ يُحْفَظُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَمَّا إِذْ رَكِبْتُمْ كُلَّ صَعْبٍ وَذَلُولٍ فَهَيْهَاتَ.
ــــــــــــــــــ
أهل الإتقان والحفظ، لكثرتهم حينئذ، والاستغناء بهم عن سواهم، فأما أن لا يقبل حديثهم فلا، وقد وجدنا هؤلاء رووا عن جماعة ممن لم يشتهر(1) بعلم ولا إتقان.
وذكر مسلم حديث:" إن من البر بعد البر أن تصلي لأبويك مع صلاتك وتصوم لهما مع صومك(2)"، وكلام ابن المبارك فيه.
__________
(1) في (ط):" يشهر ".
(2) في (ح):" صيامك ".(1/56)
اختلف العلماء فيما يجوز أن يفعله المرء عن غيره من أعمال البر البدنية، واتفقوا في الأفعال المالية، من الصدقات والعتق وشبهه أنها جائزة ماضية، وأجرى بعضهم الحج هذا المجرى لعلة النفقة فيه، وكرهه مالك ابتداء، وأجازه في الوصايا به، وأجمعوا على أنه لا يصلي أحد عن أحد، إلا شيئًا روي عن
وَحَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ سُلَيْمَانُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْغَيْلانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ يَعْنِي الْعَقَدِيَّ، حَدَّثَنَا رَبَاحٌ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: جَاءَ بُشَيْرٌ الْعَدَوِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَعَلَ يُحَدِّثُ وَيَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ لا يَأْذَنُ لِحَدِيثِهِ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ: مَالِي لا أَرَاكَ تَسْمَعُ لِحَدِيثِي أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلا تَسْمَعُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّا كُنَّا مَرَّةً إِذَا سَمِعْنَا رَجُلاً يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ابْتَدَرَتْهُ أَبْصَارُنَا وَأَصْغَيْنَا إِلَيْهِ بِآذَانِنَا، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ لَمْ نَأْخُذْ مِنْ النَّاسِ إِلاَّ مَا نَعْرِفُ.
ــــــــــــــــــ
ابن عباس في امرأة نذرت صلاة فقال لابنها: " صل عنها ".
وكذلك اتفقوا في الصيام ابتداء، واختلفوا إذا كان نذرا أو واجبا على الميت، فالجمهور أنه لا يصام عنه، واحتجوا بما ورد من ذلك في الحديث.
وحجة الأول أن الأحاديث الواردة في ذلك مضطربة الألفاظ، ولم يجتمع فيها على ذكر الصوم. وسنزيد ذلك بيانا عند الكلام على الحديث في كتاب الصوم إن شاء الله تعالى.(1/57)
وذكر أبا عقيل صاحب بُهيَّة، وأبو عقيل هذا بفتح العين، واسمه يحيى ابن المتوكل الضرير، يعرف بصاحب بُهيَّة، امرأة روى عنها، كانت تروي عن عائشة.
وقد خرَّج عنها أبو داود، وروي أن عائشة رضي الله عنها سمَّتها بذلك. وضبط اسمها بباء بواحدة(1) مضمومة(2)، وهاء مفتوحة، بعدها ياء التصغير.
وذكر في هذا الحديث قول يحيى للقاسم بن عبيدالله: لأنك ابن إمامي
حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ عَمْرٍو الضَّبِّيُّ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَسْأَلُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابًا وَيُخْفِي عَنِّي، فَقَالَ وَلَدٌ نَاصِحٌ: أَنَا أَخْتَارُ لَهُ الأُمُورَ اخْتِيَارًا، وَأُخْفِي عَنْهُ، قَالَ: فَدَعَا بِقَضَاءِ عَلِيٍّ ــــــــــــــــــ
هدى أبي بكر وعمر، وقال بعد هذا في الحديث الآخر:يعني عمر وابن عمر.
والقاسم هذا هو ابن عبيدالله(3) بن عبدالله(4) بن عمر بن الخطاب، فهو ابنهما.
وأما على قوله: أبي بكر وعمر، فأم القاسم هذا هي: أم عبدالله(5) بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وباسم جده هذا لأمه سمي(6)، فأبو بكر جده الأعلى لأمه، وعمر جده الأعلى لأبيه.
ذكر مسلم عن جماعة من الأئمة التصريح بتجريح جماعة من الناس، وبيان جرحهم، فأما وجه جواز هذا(7) فقد مر، بل هو واجب كما ذكروه، وليس من باب الغيبة والأذى ؛ إذ دعت إلى هذا الضرورة لحياطة الشريعة، وحماية الملة، ونصيحة الدين، كما نجيز تجريح الشهود لمراعاة(8) إقامة(9) الحقوق ودفع الشبهات.
__________
(1) في (ح):" واحدة ".
(2) قوله:" مضمومة " ليس في (ح).
(3) في (ح):" هو أبو عبيدالله ".
(4) قوله:" ابن عبدالله " ليس في (ح).
(5) في (ح):" أم عبيدالله ".
(6) في (ح):" يسمى ".
(7) في (ح):" الجرح " بدل:" هذا ".
(8) قوله:" لمراعاة " ليس في (ح).
(9) في (ح):" لإقامة ".(1/58)
[ وقد روي في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ليس لفاسق غِيبة »، وفي حديث عنه أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:« أترغبون عن ذكر الفاجر حتى(1) يعرفه الناس، اذكروه بما فيه حتى يحذره الناس](2)».
وأما تعيين سبب الجرح في الخبر والشهادة فقد اختلف فيه العلماء من الفقهاء والأصوليين، فأوجبه بعضهم مطلقًا،وهو اختيار الشافعي وبعض أئمتنا، ولم يوجبه آخرون، وهو اختيار القاضي أبي بكر، وجماعة غيره من أئمتنا، ورأوا قبول الجرح مطلقًا دون ذكر السبب.
فَجَعَلَ يَكْتُبُ مِنْهُ أَشْيَاءَ وَيَمُرُّ بِهِ الشَّيْءُ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا قَضَى بِهَذَا عَلِيٌّ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ضَلَّ.
ــــــــــــــــــ
وذهب بعضهم إلى أن المجرِّح إذا كان عالِمًا، بصيرًا بوجوه التجريح لم نستفسره، وإلا استفسرناه.
وهو في الشهادة أضيق، والميل فيها(3) إلى الاستفسار أصوب ؛ إذ قد يجرَّح الشاهد - وإن كان مجرحه بصيرا بوجوه التجريح - بما يعتقد(4) جرحه، ولعل الحاكم لايراه لاختلاف الاجتهاد.
أما الخبر إذا أطلق عارف بصير فيه بالجرح فقد عدمت به الثقة.
وذكر مسلم عن ابن عون قوله: " إن شهرًا نزكوه "، هكذا الرواية الصحيحة بالنون والزاي، وهكذا سماعنا فيه من الأسدي عن السمرقندي عن الفارسي، وكذا قرأناها على(5) ابن أبي جعفر عن الطبري عن الفارسي عن الجلودي، وسمعناها من القاضي الصدفي وغيره عن العذري وسائر الرواة: "تركوه " بالتاء والراء.
__________
(1) في (ط) يشبه أن تكون:" متى".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(3) في (ط):" بها ".
(4) في (ط):" يعتقده ".
(5) في (أ) و(ح):" عن ".(1/59)
وبالنون والزاي ذكر هذا الحرف الهروي ، وفسره، وهو الأشبه بمساق الكلام، ومعناه: طعنوا فيه، وهو(1) مأخوذ من النيزك، وهو الرمح القصير، ومنه الحديث [ في صفة الأبدال: " ليسوا بنزاكين ولا معجبين " أي عيابين للناس، ومنه الحديث ](2):" يقتل عيسى الدجالَ بالنيزك " وقد وقع مفسَّرًا في الحديث نفسه من رواية العُقيلي، فقال: " أي نَخَسُوه ".
وذكره الترمذي أيضًا هكذا من قول النضر.
حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: أُتِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِكِتَابٍ فِيهِ قَضَاءُ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - فَمَحَاهُ إِلاَّ قَدْرَ، وَأَشَارَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ بِذِرَاعِهِ.
ــــــــــــــــــ
وكان شهر تولى بعض عمل ا لسلطان فتكلم فيه، لكن البخاري قال فيه: " حسن الحديث، وصحح حديثه أحمد بن حنبل ويحيى بن سعيد(3).
وقوله في هذا الحديث :" على أُسْكُفَّةِ الباب"، يريد عتبته السفلى التي تُوطأ.
ذكر مسلم قول يحيى بن سعيد: " لم نر أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث ".
" يقول: يجري الكذب على لسانهم، ولا يتعمدون الكذب، يعني أنهم يحدثون بما لم(4) يصح، لقلة معرفتهم بالصحيح والسقيم والعلم بالحديث، وقلة حفظهم وضبطهم لما سمعوه، وشغلهم بعبادتهم، وإضرابهم عن طريق العلم، فكذبوا من حيث لم يعلموا(5) وإن لم يتعمدوا.
وعلى هذا يأتي قولهم " كَذَبَ " في صالح المري، وشبهه، فيما ذُكر في الأم، أي: أخطأ وقال ما ليس هو وإن لم(6) يتعمد.
__________
(1) قوله:" وهو " ليس في (ط).
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(3) في (أ):" معين ".
(4) في (ح):" لا ".
(5) في (ح):" لا يعلمون ".
(6) مابين المعكوفين ليس في (ح).(1/60)
وقد يقع في الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم من غلبت(1) عليه العبادة، ولم يكن معه علم، فيضع ا لحديث في فضائل الأعمال ووجوه البر، ويتساهلون في رواية ضعيفها ومنكرها وموضوعها، كما قد حُكي عن كثير منهم،واعترف به بعضهم، وهم يحسبون - لقلة علمهم - أنهم يحسنون صنعا، وربما احتجوا في ذلك بالحديث المأثور عن أبي هريرة يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي إِسْحَقَ قَالَ: لَمَّا أَحْدَثُوا تِلْكَ الأَشْيَاءَ بَعْدَ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ: قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَيَّ عِلْمٍ أَفْسَدُوا.
ــــــــــــــــــ
أنه قال: " إذا حُدِّثتم عني حديثا تعرفونه ولا تنكرونه، فصدقوا به، قلته أو لم أقله، فإني أقول ما يعرف ولا ينكر ".
وهو حديث ضعّفه الأصيلي وغيره من الأئمة، وتأوله الطحاوي وغيره، ومعناه - لو صح - ظاهر، وهو أنه ما جاء عنه موافقًا لكتاب الله عز وجل، وما عرف من سنته، غير مخالف لشريعته، ولاتحقق أنه قاله بلفظه فيصدق به، أي بمعناه لا بلفظه ؛ إذ قد صح من أصول الشريعة أنه قاله بغير هذا اللفظ ولا يكذب به ؛ إذ يحتمل أنه قاله.
وذكر حديث عبدالله بن عمرو: " يوم الفطر يوم الجوائز " يريد الحديث الذي يروي:" إذا كان يوم الفطر وقفت الملائكة على أفواه الطرق(2)، ونادت: يا معشر المسلمين، اغدوا إلى رب رحيم، يأمر بالخير ويثيب عليه الجزيل، أمركم بالصيام فصمتم وأطعتم ربكم فاقبلوا جوائزكم، فإذا صلوا العيد نادى مناد من السماء: ارجعوا إلى منازلكم راشدين، فقد غفرت ذنوبكم كلها، ويسمى ذلك اليوم يوم ا لجائزة.
__________
(1) في (أ) يشبه أن تكون:" غلبته ".
(2) في (ح):" الطريق ".(1/61)
وذكر مسلم عن ابن المبارك: " رأيت روح بن غطيف "، كذا صوابه، بالغين المعجمة ا لمضمومة، والطاء المهملة المفتوحة، ورواية كافة شيوخنا فيه عن العذري والطبري والسمرقندي: بضاد معجمة، وهو خطأ، وثبتنا(1) متقنوهم على الصواب المتقدم فيه، وقد ذكره البخاري في تاريخه الكبير وقال: " هو منكر الحديث ".
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ يَعْنِي ابْنَ عَيَّاشٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ يَصْدُقُ عَلَى عَلِيٍّ - رضي الله عنه - فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ إِلاَّ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.
ــــــــــــــــــ
وقوله فيه: " صاحب الدم قدر الدرهم "، يريد الحديث الذي رواه روح هذا عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة يرفعه: " تعاد الصلاة من قدر الدرهم "، وهو حديث باطل، لا أصل له عند أهل الحديث.
وقد اختلف العلماء في إزالة النجاسة، هل هي واجبة أم لا ؟ وهل هي شرط في صحة الصلاة أم لا ؟ وعلى هذا اختلفوا فيمن صلى بها، فأوجب بعضهم الإعادة بكل حال، وبعضهم راعى الوقت في الإعادة، وفرق بعضهم بين الساهي والعامد، فيعيد عنده الساهي في الوقت والعامد أبدا، واضطرب مذهبنا على هذه الأقوال [ إلا الإعادة جملة ](2).
__________
(1) في (ط):" وثبتها ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (ط).(1/62)
وكذلك اختلفوا في العفو عن يسيرها، فذهب أهل العراق إلى أن قدر الدرهم من جميع النجاسات معفو عنه قياسًا على موضع الاستجمار، وذهب الشافعي إلى أنه لا يعفى عن شيء منها، دم ولا غيره، ويغسل قليلها وكثيرها، وذهب مالك إلى ذلك إلاَّ في الدم، فرأى العفو عن يسيره للضرورة ا للازمة منه، من ا لبراغيث(1)، وحكّ [البثرة](2)، وشبهه، واختلف عنه في العفو عن يسير دم الحيض، وفي(3) المذهب في يسير دم غير الإنسان، ويسير القيح(4) والصديد قولان، واختلف قول من رخص في يسيره: هل الدرهم قليل أو كثير، واختلف قول مالك في ذلك، فمرة قلله ومرة كثره، ومرة وقف فيه، وقال: " لا أجيبكم إلى هذا الضلال ".
حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ وَهِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، وَحَدَّثَنَا فُضَيْلٌ عَنْ هِشَامٍ قَالَ: وَحَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ.
ــــــــــــــــــ
وحدد أحمد الكثير بشبر في شبر، ونقل المخالف عن مذهبنا في ذلك قولاً منكرًا عندنا.
__________
(1) قوله:" منه من البراغيث " ليس في (ح).
(2) في (أ) (ط):" البتر"، وفي (ح):" البشرة" وعليها "صح"، وفي حاشيتها وهو المثبت: "البثرة" وكتب فوقها "صح".
(3) في (ح):" في " بدون الواو.
(4) في (ط):" القيح " بدل:" ويسير القيح ".(1/63)
وذكر مسلم قول الحارث الأعور :" تعلمت الوحي في سنتين " وقوله: " القرآن هين والوحي أشد "، وأورده في جملة ما أُنكر من قوله وشناعات مذهبه وأخذ عليه فيه(1) الغلو، والشنع(2)، والكذب، ومذاهب الروافض، وأرجو أن يكون(3) هذا من أخف أقواله، لاحتماله الصواب، فقد فسره بعضهم أن المراد بالوحي هنا: الكتاب والخط، وعن ا لخطابي مثله.
قال ابن دريد :" وحى يحي وحيا "، إذا كتب "، وقال الهروي(4): "قوله تعالى:{ فأوحى إليهم أن سبحوا } أي كتب لهم في الأرض إذ كان لا يتكلم "، وقيل أوحى : رمز، وقال بعض اللغويين: وحى وأوحى واحد، وقاله صاحب الأفعال.
وعلى هذا فليس على الحارث درك، وعليه الدرك في غير ذلك، لكنه لما عرف من [شنيع](5) مذهبه في غلو الشيع(6) ودعواهم من ا لوصية إلى علي وسر النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه من الوحي وعلم الغيب مما(7) لم يطلع عليه غيره بزعمهم، ودعوى بعضهم - من غلاتهم(8)- الوحي إلى علي - رضي الله عنه - سيء الظن بالحارث في كلامه هذا، وذُهب به ذلك المذهب.
حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنْ الإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ، فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلا يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ.
ــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" وأخذ فيه عنه "، وفي (ط):" وأخذ فيه من ".
(2) في (أ):" التشيع ".
(3) قوله:" يكون " ليس في (ح) و(ط).
(4) في (ح):" قال ".
(5) في (أ):" تشنع "، وفي (ح):" تشفيع "، وفي (ط):" شنع "، والمثبت من (ك).
(6) في (ح) و(ط):" التشيع ".
(7) في (أ):" ما ".
(8) في (ط) رسمت هكذا:" غالاتهم ".(1/64)
وقد أنكر علي - رضي الله عنه - ما ادعته شيعته من ذلك، وقال ابن عباس: " لا وحي إلا القرآن "، ولعله فهم من الحارث معنى منكرًا فيما أراده، والله أعلم.
وقوله: " غلمة(1) أيفاع " أي شببة بالغون(2)، يقال: غلام يافع، ويَفَع، ويَفَعَة، إذا شب وبلغ، أو كاد يبلغ، واسم الغلام ينطلق على الصبي من حين يولد على اختلاف حالاته إلى بلوغه.
قال(3) الثعالبي: " فإذا قارب البلوغ أو بلغه، يقال(4) له حينئذ: يافع، وقد أَيْفَعَ، وهو نادر ".
قال(5) أبو عبيد:" أيفع الغلام، إذا شارف الاحتلام(6)، ولم يحتلم ".
وقد جاء في الحديث:" والنبي(7) - صلى الله عليه وسلم - قد أيفع أو كرب "، وهذا يدل على ما قاله الثعالبي ويصححه، وأن أيفع بمعنى بلغ، وإلا فلا معنى لقوله "كرب" إذًا (8).
وذكر مسلم قول الشعبي: " حدثني الحارث الأعور، وهو يشهد أنه من الكاذبين ": إنما حدث هؤلاء الأئمة عن مثل هؤلاء، مع اعترافهم بكذبهم، وسمعوا منهم مع علمهم بجرحتهم، لوجوه، منها:
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا عِيسَى - وَهُوَ ابْنُ يُونُسَ -، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى قَالَ: لَقِيتُ طَاوُسًا فَقُلْتُ: حَدَّثَنِي فُلانٌ كَيْتَ وَكَيْتَ، قَالَ: إِنْ كَانَ صَاحِبُكَ مَلِيًّا فَخُذْ عَنْهُ.
__________
(1) قوله:" غلمة " لم تتضح في (ط).
(2) في (ط):" بالغين "، وكذا في حاشية (ح)، وكتب فوقها:"صح ".
(3) في (ح):" وقال ".
(4) في (ح) و(ط):" فيقال ".
(5) في (ط):" وقال ".
(6) في (ط):" الأحلان ".
(7) في (أ) و(ح):" وابني ".
(8) قوله:" إذًا " ليس في (ط).(1/65)
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا مَرْوَانُ - يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ الدِّمَشْقِيَّ -، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى قَالَ: قُلْتُ لِطَاوُسٍ: إِنَّ فُلانًا حَدَّثَنِي بِكَذَا وَكَذَا، قَالَ: إِنْ كَانَ صَاحِبُكَ مَلِيًّا فَخُذْ عَنْهُ.
ــــــــــــــــــ
أن يعلموا صور حديثهم وضروب رواياتهم، لئلا يأتي مجهول أو مدلس فيبدل اسم الضعيف ويجعل(1) مكانه قويًّا، فيدخل بروايته اللبس، فيعلم المحقق لها العارف بها أن مخرجها من ذلك الطريق، فلا ينخدع بتلبيس ملبس بها، وبهذا احتج ابن معين في روايته صحيفة معمر عن أبان.
والثاني: أن يكون الرجل إنما ترك لأجل غلطه وسوء حفظه، أو يكون ممن أكثر فأصاب وأخطأ، فتروى أحاديثه، والحفاظ يعرفون وهمه وغلطه، وما وافق فيه الأثبات وما خالفهم فيه، فيدعون تخليطه(2)، ويستظهرون بصحيح حديثه، لموافقته(3) غيره، وبهذا احتج الثوري حين نهى عن الكلبي فقيل له: " أنت تروي عنه ! " قال: " أنا أعلم صدقه من كذبه ".
وهم لا يروون شيئًا منها(4) للحجة بها والعمل بمقتضاها.
وذكر مسلم نهي أبي عبدالرحمن السلمي عن مجالسة شقيق، قال: " وليس بأبي وائل "، وشقيق هذا الذي نهى عن مجالسته، لتهمته برأي الخوارج هو شقيق الضبي القاص، كوفي، ضعفه النسائي ، ويُكنى بأبي عبدالرحيم، قال بعضهم:" وهو أبو عبدالرحيم الذي حذر منه إبراهيم في الكتاب قبل هذا بشيء (5)".
__________
(1) في (ح):" فيجعل ".
(2) في (ح):" تخبيطه ".
(3) في (ح):" لموافقة ".
(4) في (ط):" منها شيئًا ".
(5) قوله:" بشيء " ليس في (أ).(1/66)
حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا الأَصْمَعِيُّ، عَنْ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَدْرَكْتُ بِالْمَدِينَةِ مِائَةً كُلُّهُمْ مَأْمُونٌ مَا يُؤْخَذُ عَنْهُمْ الْحَدِيثُ، يُقَالُ: لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ.
ــــــــــــــــــ
وقيل: " إن أبا عبدالرحيم الذي حذر منه إبراهيم قبل هذا هو : سَلمة ابن عبدالرحمن النخعي " ذكر ذلك ابن أبي حاتم الرازي في كتابه عن ابن المديني(1).
وقول مسلم: " وليس بأبي وائل " يعني: ليس شقيق هذا الذي نهى عن مجالسته بشقيق بن سلمة، أبي وائل الأسدي، المشهور، معدود في كبار التابعين، وقد أدرك(2) النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يسمع منه، قاله البخاري، وغيره، قال أبو وائل :" بُعث النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن عشر سنين ".
وذكر مسلم جابرًا الجُعْفِي، وأنه أظهر الإيمان بالرجعة.
هذه الكلمة بفتح الراء، وقد حكي فيها الكسر كرِجْعة المطلَّقة، تلك بالكسر.
معنى(3) ذلك نحو ما فسره عنه بعد هذا سفيان، من قول الرافضة: " إن عليًّا في السحاب، فلا يُخْرَج(4) مع من خرج من ولده، حتى ينادي من السماء(5) أن اخرجوا معه "، ويتأولون فيه(6) آية إخوة يوسف(7):{ فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي }.
وأما الطائفة المعروفة بالسبئية،[ والأخرى المعروفة بالناروسية منهم](8) فيدعون أن عليًّا لم يمت، وأنه سيخرج فيملؤها عدلا كما ملئت جورًا.
__________
(1) في (ح):" إبراهيم بن المديني ".
(2) في (ح):" لقي ".
(3) في (ح):" ومعنى ".
(4) في (أ):" تخرج ".
(5) في (ط):" من في السماء ".
(6) قوله:" فيه " ليس في (ط).
(7) في (أ) و(ح):" أنه أخو يوسف ".
(8) مابين المعكوفين ليس في (ح)، وقوله:" منهم" ليس في (أ).(1/67)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،ح، وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلاَّدٍ الْبَاهِلِيُّ - وَاللَّفْظُ لَهُ - قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ، عَنْ مِسْعَرٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ يَقُولُ لا يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلاَّ الثِّقَاتُ.
ــــــــــــــــــ
وقال ابن سبأ للذي جاءه بنعي علي - رضي الله عنه -: " لو جئتنا بدماغه في تسعين صُرَّة لعلمنا أنه لا يموت حتى يسوق العرب بعصاه " فذُكر ذلك لابن عباس - رضي الله عنه - فقال: " لو علمنا ذلك ما زوجنا نساءه ولا قسمنا ماله ".
قال الإمام أبو عبدالله:" قال مسلم: " نا سلمة بن شبيب، نا الحميدي نا سفيان قال(1): سمعت جابرًا يحدث بنحو ثلاثين حديثًا، ما أستحل أن أذكر منها شيئًا ".
قال الإمام أبو عبدالله(2): " قال بعضهم: سقط ذكر سلمة بن شبيب بين مسلم والحميدي عند ابن ماهان، والصواب رواية أبي أحمد(3) الجلودي بإثباته، فإن مسلمًا لم يلق الحميدي،[ ولا حدث عنه ](4)".
قال القاضي: الذي رواه شيوخنا في هذا الخبر عن سفيان " ثلاثين ألف حديث ".
وبعضهم الذي حكى عنه هذا الكلام، ويحكي(5) عنه ما تعلق بالإسناد هو الجياني أبو علي، شيخنا.
وقد جاء عن جابر في الأم قبل هذا: "عندي سبعون ألف حديث عن أبي جعفر ".
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُهْزَاذَ مِنْ أَهْلِ مَرْوَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَانَ بْنَ عُثْمَانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ يَقُولُ: الإِسْنَادُ مِنْ الدِّينِ، وَلَوْلا الإِسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ.
__________
(1) قوله:" قال " ليس في (ط).
(2) قوله:" أبو عبدالله " ليس في (ح).
(3) في (ح):" يحيى ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).
(5) في (ح):" يحكى " بدون واو.(1/68)
وقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ أَبِي رِزْمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْقَوَائِمُ - يَعْنِي الإِسْنَادَ -.
وَقَالَ مُحَمَّدُ: سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَقَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عِيسَى الطَّالَقَانِيَّ، قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ! الْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ: إِنَّ مِنْ الْبِرِّ بَعْدَ الْبِرِّ أَنْ تُصَلِّيَ لأَبَوَيْكَ مَعَ صَلاتِكَ، وَتَصُومَ لَهُمَا مَعَ صَوْمِكَ ؟ قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: يَا أَبَا إِسْحَقَ ! عَمَّنْ هَذَا ؟ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: هَذَا مِنْ حَدِيثِ شِهَابِ بْنِ خِرَاشٍ، فَقَالَ: ثِقَةٌ، عَمَّنْ ؟ قَالَ: قُلْتُ: عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: ثِقَةٌ، عَمَّنْ ؟ قَالَ: قُلْتُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: يَا أَبَا إِسْحَقَ! إِنَّ بَيْنَ الْحَجَّاجِ بْنِ دِينَارٍ وَبَيْنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَفَاوِزَ تَنْقَطِعُ فِيهَا أَعْنَاقُ الْمَطِيِّ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الصَّدَقَةِ اخْتِلافٌ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ شَقِيقٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ يَقُولُ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ:دَعُوا حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ ثَابِتٍ فَإِنَّهُ كَانَ يَسُبُّ السَّلَفَ.
ــــــــــــــــــ
قال القاضي: وقال أبو عبدالله بن الحَذَّاء، وهو أحد رواة كتاب مسلم: " سألت عبدالغني بن سعيد: " هل روى مسلم عن الحميدي ؟ " فقال: " لم أره إلا في هذا ا لموضع، وما أبعد ذلك، أو يكون سقط قبل الحميدي رجل " وعبدالغني إنما رأى من مسلم نسخة ابن ماهان فلذلك قال ما قال، ولم تكن(1) بعد دخلت نسخة الجلودي، وقد ذكر مسلم قبل هذا:" نا سلمة،
__________
(1) في (ط):" يكن ".(1/69)
وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ النَّضْرِ بْنِ أَبِي النَّضْرِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ ابْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَقِيلٍ صَاحِبُ بُهَيَّةَ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، فَقَالَ يَحْيَى لِلْقَاسِمِ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ! إِنَّهُ قَبِيحٌ عَلَى مِثْلِكَ عَظِيمٌ أَنْ تُسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ هَذَا الدِّينِ فَلا يُوجَدَ عِنْدَكَ مِنْهُ عِلْمٌ وَلا فَرَجٌ أَوْ عِلْمٌ وَلا مَخْرَجٌ، فَقَالَ لَهُ الْقَاسِمُ: وَعَمَّ ذَاكَ ؟ قَالَ: لأَنَّكَ ابْنُ إِمَامَيْ هُدًى ابْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، قَالَ: يَقُولُ لَهُ الْقَاسِمُ: أَقْبَحُ مِنْ ذَاكَ عِنْدَ مَنْ عَقَلَ عَنْ اللَّهِ أَنْ أَقُولَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَوْ آخُذَ عَنْ غَيْرِ ثِقَةٍ، قَالَ: فَسَكَتَ فَمَا أَجَابَهُ.
وَحَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ الْعَبْدِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: أَخْبَرُونِي عَنْ أَبِي عَقِيلٍ صَاحِبِ بُهَيَّةَ: أَنَّ أَبْنَاءً لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ سَأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فِيهِ عِلْمٌ، فَقَالَ لَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: وَاللَّهِ إِنِّي لأُعْظِمُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُكَ وَأَنْتَ ابْنُ إِمَامَيْ الْهُدَى يَعْنِي عُمَرَ وَابْنَ عُمَرَ تُسْأَلُ عَنْ أَمْرٍ لَيْسَ عِنْدَكَ فِيهِ عِلْمٌ، فَقَالَ: أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَاللَّهِ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ مَنْ عَقَلَ عَنْ اللَّهِ أَنْ أَقُولَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَوْ أُخْبِرَ عَنْ غَيْرِ ثِقَةٍ، قَالَ: وَشَهِدَهُمَا أَبُو عَقِيلٍ يَحْيَى بْنُ الْمُتَوَكِّلِ حِينَ قَالا ذَلِكَ.
ــــــــــــــــــ
نا الحميدي" في حديث آخر، كذا هو عند جميعهم، وهو الصواب هنا أيضًا، إن شاء الله.(1/70)
وذكر مسلم عن أيوب أنه قال في رجل: " لم يكن مستقيم اللسان " وعن آخر أنه " يزيد في الرقم "، هذا كله تعريض بالكذب في نفي استقامة اللسان، وفي استعارة الزيادة في الرقم، كالتاجر الذي يزيد في رقم السلعة،
وَحَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ أَبُو حَفْصٍ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ قَالَ: سَأَلْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ وَشُعْبَةَ وَمَالِكًا وَابْنَ عُيَيْنَةَ عَنْ الرَّجُلِ لا يَكُونُ ثَبْتًا فِي الْحَدِيثِ فَيَأْتِينِي الرَّجُلُ فَيَسْأَلُنِي عَنْهُ، قَالُوا: أَخْبِرْ عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِثَبْتٍ.
ــــــــــــــــــ
ويكذب فيها، ليربح على الناس، ويغرهم بذلك الرقم، ليشتروا عليه.
وذكر مسلم قول قتادة: " زمن(1) طاعون الجارف ".
قال القاضي: كان طاعون الجارف سنة تسع عشرة ومائة بالبصرة، وسمي بذلك، لكثرة من مات فيه من الناس، وسمي الموت جارفا، لاجترافه الناس، والسيل جارفًا ؛ لاجترافه ما على وجه الأرض، والجَرْف: الغَرْف من فوق الأرض واكتساح(2) ما عليها.
ذكر(3) مسلم إنكار عوف على عمرو بن عبيد روايته عن الحسن(4): "من حمل علينا السلاح فليس منا "، وقوله: " كذب والله " و " أراد أن يحوزها لقوله الخبيث(5)"، يعني لمذهبه في الاعتزال، بإخراج أهل المعاصي من اسم الإيمان.
قال بعض شيوخنا: " العجب من مسلم كيف أدخل هذا فيما أنكر على عمرو، والحديث صحيح، قد أخرجه(6) هو بعد هذا(7) في كتاب الإيمان ".
قال القاضي: لا عتب على مسلم، ولا عجب مما آتاه، فإنه لم يدخله لوهن الحديث وضعفه، وإنما أ ورده لقول عوف في عمرو وتجريحه.
__________
(1) في (أ) و(ح):" زمان ".
(2) في (ح):" واكشاح ".
(3) في (ح):" وذكر ".
(4) في (أ):" الحسين ".
(5) في (ط):" الحنث ".
(6) في (أ) و(ح):" خرجه ".
(7) قوله:" هو بعد هذا " ليس في (ح).(1/71)
ولو كان التعجب من عوف كان أولى، ولعل عوفا إنما كذبه في روايته هذا الحديث عن الحسن وأنه ليس من حديثه، وكان عوف من كبار أصحاب الحسن، والحافظين لحديثه، أو لم يكن عند عوف من الحديث علم،
وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّضْرَ يَقُولُ: سُئِلَ ابْنُ عَوْنٍ عَنْ حَدِيثٍ لِشَهْرٍ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى أُسْكُفَّةِ الْبَابِ، فَقَالَ: إِنَّ شَهْرًا نَزَكُوهُ، إِنَّ شَهْرًا نَزَكُوهُ، قَالَ مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: أَخَذَتْهُ أَلْسِنَةُ النَّاسِ تَكَلَّمُوا فِيهِ.
وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ قَالَ: قَالَ شُعْبَةُ: وَقَدْ لَقِيتُ شَهْرًا فَلَمْ أَعْتَدَّ بِهِ.
ــــــــــــــــــــ
ولا بلغه، وقد خرجه مسلم من طرق كثيرة، ليس منها عن الحسن شيء.
وقد يكون إنما كذبه في تأويله لمعناه على مذهبه.
ومعنى هذا الحديث - عند أهل العلم - وأشباهه من الأحاديث الواردة على مثل هذا: أنه ليس ممن اهتدى بهدينا واقتدى بعلمنا.
وقال الطحاوي، " كان(1) الله تعالى اختار لنبيه - صلى الله عليه وسلم - الأمور المحمودة، ونفى عنه المذمومة، فمن عَمِلَ المحمودة فهو منه، ومن عمل المذمومة ليس(2) منه، كما قال تعالى عن إبراهيم - عليه السلام -: { فمن تبعني فإنه مني } الآية(3)"، وهذا راجع إلى المعنى الأول، وكما يقول(4) الرجل لولده، إذا لم يرض حاله:لست مني.
وذكر مسلم قول أيوب: " إنما نفرّ أو نفرق من تلك الغرائب ".
أي نفزع وتحاشى من روايتها، لئلا نكون أحد الكاذبين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن كانت الغرائب من الأحاديث، وإن كانت من الآراء والمذاهب والفتوى، فحذرا من البدع، ومخالفة الجمهور، باتباعه الغريبَ الذي لا يُعْرَف.
__________
(1) في (ح):" وكان ".
(2) في (أ):" فليس ".
(3) قوله:" الآية " ليس في (ح).
(4) في (أ):" كما كان يقول ".(1/72)
وذكر مسلم الاختلاف عن الحسن في جلد السكران من النبيذ.
لم يختلف العلماء أنه إذا سكر حد، وأن كل مسكر لشدته المطربة حرام، كان خمرا أو غيره، وأما إن شرب من الشراب المختلف فيه، ولم
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُهْزَاذَ - مِنْ أَهْلِ مَرْوَ - قَالَ: أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: قُلْتُ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: إِنَّ عَبَّادَ بْنَ كَثِيرٍ مَنْ تَعْرِفُ حَالَهُ، وَإِذَا حَدَّثَ جَاءَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، فَتَرَى أَنْ أَقُولَ لِلنَّاسِ: لا تَأْخُذُوا عَنْهُ، قَالَ سُفْيَانُ: بَلَى، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَكُنْتُ إِذَا كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ ذُكِرَ فِيهِ عَبَّادٌ أَثْنَيْتُ عَلَيْهِ فِي دِينِهِ وَأَقُولُ: لا تَأْخُذُوا عَنْهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ: قَالَ أَبِي: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: انْتَهَيْتُ إِلَى شُعْبَةَ، فَقَالَ: هَذَا عَبَّادُ بْنُ كَثِيرٍ فَاحْذَرُوهُ.
وَحَدَّثَنِي الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ قَالَ سَأَلْتُ مُعَلًّى الرَّازِيَّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الَّذِي رَوَى عَنْهُ عَبَّادٌ فَأَخْبَرَنِي عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ قَالَ كُنْتُ عَلَى بَابِهِ وَسُفْيَانُ عِنْدَهُ فَلَمَّا خَرَجَ سَأَلْتُهُ عَنْهُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ كَذَّابٌ.
ــــــــــــــــــ
يسكر، فمن يبيح شربه لا يحده، ومن يمنعه يحده، وهو قول مالك والشافعي، وتأول بعضهم قول مالك أنه في غير ا لمجتهد، وأما المجتهد الذي يرى إباحته فلا يحُدُّه، لأنه قد ناظر في المسألة جماعة من الأئمة الذين كانوا يشربونه، ولم يأمر بحدهم، وقد كانت الأمور تجري بأمره، وعلى رأيه.
ونص الشافعي على حد المجتهد، وقال: " أحُدُّه ولا أرُدُّ شهادته ".(1/73)
وذكر مسلم كتاب شعبة لمعاذ العنبري: " لا تكتب عن أبي شيبة(1)".
قال القاضي: وقوله:"ومزق كتابي "، لعله أمره بتمزيقه حذرا أن يعتقد عليه ذلك(2) أبو شيبة، أو من له أمر الطعن على من قدموه.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَتَّابٍ، قَالَ:حَدَّثَنِي عَفَّانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمْ نَرَ الصَّالِحِينَ فِي شَيْءٍ أَكْذَبَ مِنْهُمْ فِي الْحَدِيثِ، قَالَ: ابْنُ أَبِي عَتَّابٍ: فَلَقِيتُ أَنَا مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ فَسَأَلْتُهُ عَنْهُ، فَقَالَ عَنْ أَبِيهِ: لَمْ تَرَ أَهْلَ الْخَيْرِ فِي شَيْءٍ أَكْذَبَ مِنْهُمْ فِي الْحَدِيثِ. قَالَ مُسْلِم:يَقُولُ يَجْرِي الْكَذِبُ عَلَى لِسَانِهِمْ وَلا يَتَعَمَّدُونَ الْكَذِبَ.
ــــــــــــــــــ
وذكر مسلم هنا في صدركتابه حديث الصلاة على قتلى أحد وعلى أولاد الزنا.
جاءت الآثار الصحاح عن جابر " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل على قتلى أحد، ولم يغسَّلوا "، ومثله عن أنس.
وروى عقبة بن عامر " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوما فصلى على أهل(3) أحد صلاته على الميت ".
وعن ابن عباس وابن الزبير - رضي الله عنهم - " أنه صلى يوم أحد على قتلى أحد(4)".
فاختلف العلماء في غسلهم والصلاة عليهم باختلاف هذه الأحاديث:
فذهب مالك والشافعي وأحمد والليث في جماعة أنهم لا يغسلون، ولا يصلى عليهم.
وذهب أبو حنيفة والأوزاعي والثوري إلى أنهم لا يغسلون ويصلى عليهم.
__________
(1) في (ط):" ابن أبي شيبة ".
(2) في (ح):" ذلك عليه ".
(3) في (ط):" قتلى ".
(4) في (ح):" جاءت هذه العبارة هكذا:" جاءت الآثار الصحاح عن جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل على قتلى أحد، ومثله عن أنس، وروى عقبة بن عامر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يومًا فصلى على أهل أحد ولم يغسَّلوا ".(1/74)
وذهب ابن المسيب والحسن إلى غسلهم والصلاة عليهم.
وحجة مالك ومن وافقه الأحاديث المتقدمة، وأن حديث عقبة كان بعد دفنهم بسنين(1)، وبمعنى الدعاء والترحم عليهم، ولأن الصلاة إنما تكون(2)
حَدَّثَنِي الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: أَخْبَرَنِي خَلِيفَةُ بْنُ مُوسَى قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى غَالِبِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَجَعَلَ يُمْلِي عَلَيَّ: حَدَّثَنِي مَكْحُولٌ، حَدَّثَنِي مَكْحُولٌ، فَأَخَذَهُ الْبَوْلُ فَقَامَ، فَنَظَرْتُ فِي الْكُرَّاسَةِ فَإِذَا فِيهَا: حَدَّثَنِي أَبَانٌ عَنْ أَنَسٍ، وَأَبَانُ عَنْ فُلانٍ، فَتَرَكْتُهُ وَقُمْتُ.
قَالَ: وَسَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيَّ يَقُولُ: رَأَيْتُ فِي كِتَابِ عَفَّانَ: حَدِيثَ هِشَامٍ أَبِي الْمِقْدَامِ حَدِيثَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ هِشَامٌ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ يَحْيَى بْنُ فُلانٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَفَّانَ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: هِشَامٌ سَمِعَهُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، فَقَالَ: إِنَّمَا ابْتُلِيَ مِنْ قِبَلِ هَذَا الْحَدِيثِ، كَانَ يَقُولُ: حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ ادَّعَى بَعْدُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ مُحَمَّدٍ.
ــــــــــــــــــ
على الموتى، وقد أخبر الله تعالى أن الشهداء أحياء، ولأنهم يُبْعَثُون في دمائهم، وريحها ريح مسك، والغسل يذهبها فوجب أن لا تغير أحوالهم، ولم تصح عندهم الأحاديث الأخر حتى يعارض(3) بها تلك الأحاديث الصحيحة.
__________
(1) في حاشية (ح):" دفن الشهداء ".
(2) قوله:" إنما يكون " ليس في (أ) و(ط).
(3) في (أ):" نعارض ".(1/75)
وأما ولد الزنا فليس فيه أثر يعوَّل عليه، وعامة العلماء على الصلاة عليه، كغيره من أولاد المسلمين، إلا قتادة، فقال: " لا يصلى عليه " وسيأتي هذا الباب كله، والصلاة على الأطفال(1) في كتاب الجنائز إن شاء الله تعالى.
وذكر مسلم حديث العطارة، ولم يفسره، هو حديث رواه زياد بن ميمون، أبو عمار، عن أنس،أن امرأة يقال لها الحولاء، عطارة كانت بالمدينة، فدخلت على عائشة وذكرت خبرها مع زوجها، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر لها(2) في فضل الزوج، وهو حديث طويل، غير صحيح، ذكره ابن وضاح
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُهْزَاذَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ جَبَلَةَ يَقُولُ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي رَوَيْتَ عَنْهُ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو:" يَوْمُ الْفِطْرِ يَوْمُ الْجَوَائِزِ "؟ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْحَجَّاجِ: انْظُرْ مَا وَضَعْتَ فِي يَدِكَ مِنْهُ.
قَالَ ابْنُ قُهْزَاذَ: وَسَمِعْتُ وَهْبَ بْنَ زَمْعَةَ يَذْكُرُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ - يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ -: رَأَيْتُ رَوْحَ بْنَ غُطَيْفٍ صَاحِبَ الدَّمِ قَدْرِ الدِّرْهَمِ، وَجَلَسْتُ إِلَيْهِ مَجْلِسًا فَجَعَلْتُ أَسْتَحْيِي مِنْ أَصْحَابِي أَنْ يَرَوْنِي جَالِسًا مَعَهُ كُرْهَ حَدِيثِهِ.
ــــــــــــــــــ
بكماله، في كتاب "القطعان" له، ويقال: إن هذه العطارة الحولاء هي بنت(3) تويت(4) المذكورة في غير هذا الحديث.
__________
(1) في (ح):" أطفال المسلمين ".
(2) قوله:" لها " ليس في (ح).
(3) في (ح):" العطارة هي الحولاء بنت ".
(4) في (ط):" ثويب ".(1/76)
وذكر مسلم عن عبدالقدوس أنه كان يقول: " سويد بن عقلة، بالعين المهملة والقاف، و" أن يتخذ الروح عرضا "، بفتح الراء في(1) الأولى والعين المهملة وسكون الراء في الثانية، وتفسيره لذلك بما ذكره.
وإنما أراد مسلم أنه صحف في ذلك، وأخطأ في الرواية والتفسير، وإنما صوابه: سويد بن غفلة، بالغين المعجمة والفاء، و " الروح "، بضم الراء، و " غرضا "، بالغين المعجمة وفتح الراء، أي: يُتخذ ما فيه روح غرضا للرمي وشبهه.
وقد ذكره في كتاب الصيد على الصواب، وهذا مثل نهيه - عليه السلام - عن قتل المصبورة والمجثَّمة، وهي ذوات(2) الروح من الطير وغيره، تصبر، أي تحبس ليرمى عليها، وسيأتي هذا في كتاب الصيد.
حَدَّثَنِي ابْنُ قُهْزَاذَ قَالَ: سَمِعْتُ وَهْبًا يَقُولُ: عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: بَقِيَّةُ صَدُوقُ اللِّسَانِ، وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ عَمَّنْ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ.
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ الأَعْوَرُ الْهَمْدَانِيُّ، وَكَانَ كَذَّابًا.
حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَرَّادٍ الأَشْعَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ مُفَضَّلٍ، عَنْ مُغِيرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يَقُولُ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ الأَعْوَرُ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنَّهُ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ.
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قَالَ عَلْقَمَةُ: قَرَأْتُ الْقُرْآنَ فِي سَنَتَيْنِ، فَقَالَ الْحَارِثُ: الْقُرْآنُ هَيِّنٌ الْوَحْيُ أَشَدُّ.
ــــــــــــــــــ
ولم يختلف العلماء في منع أكلها وأنها غير ذكية.
__________
(1) قوله:" في " ليس في (ط).
(2) في (أ) و(ح):" ذات ".(1/77)
وفائدة الحديث النهي عن قتل الحيوان لغير منفعة، والعبث بقتله، قال الطبري: " فيه دليل على منع قتل ما أحل أكله من الحيوان ما وجد إلى تذكيته سبيل، ثم فيه فساد المال ".
وذكر أبا سعيد الوحاظي، وهو بضم الواو، ووحاظة(1) بطن من بطون حمير، كذا قيدناه عن شيوخنا، وحكي عن أبي الوليد الباجي فيه فتح الواو.
وذكر مسلم عن حمزة الزيات " أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فعرض عليه ما سمع من أبان، فما عرف منها(2) إلا شيئًا يسيرا ".
هذا ومثله استئناس واستظهار على ما تقرر من ضعف أبان، لا أنه يقطع بأمر المنام، ولا أن يبطل(3) بمثله سنة ثبتت، ولا تثبت(4) سنة(5) لم تثبت بإجماع من العلماء.
وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ - يَعْنِي ابْنَ يُونُسَ -، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، عَنْ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: أَنَّ الْحَارِثَ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْقُرْآنَ فِي ثَلاثِ سِنِينَ، وَالْوَحْيَ فِي سَنَتَيْنِ، أَوْ قَالَ: الْوَحْيَ فِي ثَلاثِ سِنِينَ، وَالْقُرْآنَ فِي سَنَتَيْنِ.
وحَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ وَهُوَ ابْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ مَنْصُورٍ وَالْمُغِيرَةِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: أَنَّ الْحَارِثَ اتُّهِمَ.
وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ، قَالَ: سَمِعَ مُرَّةُ الْهَمْدَانِيُّ مِنْ الْحَارِثِ شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ: اقْعُدْ بِالْبَابِ، قَالَ: فَدَخَلَ مُرَّةُ وَأَخَذَ سَيْفَهُ، قَالَ: وَأَحَسَّ الْحَارِثُ بِالشَّرِّ فَذَهَبَ.
__________
(1) في (ح):" وحاظة " بدون الواو الأولى.
(2) في (ح):" منه ".
(3) في (أ):" تبطل ".
(4) في (ط):" يثبت ".
(5) في (أ):" ولا يثبت به ".(1/78)
وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ - يَعْنِي ابْنَ مَهْدِيٍّ _، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ: قَالَ لَنَا إِبْرَاهِيمُ: إِيَّاكُمْ وَالْمُغِيرَةَ بْنَ سَعِيدٍ، وَأَبَا عَبْدِ الرَّحِيمِ، فَإِنَّهُمَا كَذَّابَانِ.
ــــــــــــــــــ
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من رآني في المنام فقد رآني " أو " فقد(1) رأى الحق، فإن الشيطان لا يتمثل بي " أي: إن رؤياه - صلى الله عليه وسلم - حق، ليس فيها للشيطان عمل ولا تلبيس، وأن الشيطان غير متسلط(2) على التصور في المنام على صورته، أو يكون ما رؤي فيه من الرؤيا الصحيحة، لا من أضغاث الأحلام(3)، وقيل: فقد رآني حقا،ورأى شخصه المكرم حقيقة.
وسيأتي كلام الإمام أبي عبدالله على هذا الحديث، وما ذيلناه به في كتاب العبارة إن شاء الله تعالى.
وذكر مسلم عن جماعة من الأئمة رموا جماعة بالكذب.
حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ - وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ - قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمٌ قَالَ: كُنَّا نَأْتِي أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ- وَنَحْنُ غِلْمَةٌ أَيْفَاعٌ -، فَكَانَ يَقُولُ لَنَا: لا تُجَالِسُوا الْقُصَّاصَ غَيْرَ أَبِي الأَحْوَصِ، وَإِيَّاكُمْ وَشَقِيقًا قَالَ وَكَانَ شَقِيقٌ هَذَا يَرَى رَأْيَ الْخَوَارِجِ وَلَيْسَ بِأَبِي وَائِلٍ.
حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الرَّازِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ جَرِيرًا يَقُولُ: لَقِيتُ جَابِرَ بْنَ يَزِيدَ الْجُعْفِيَّ فَلَمْ أَكْتُبْ عَنْهُ كَانَ يُؤْمِنُ بِالرَّجْعَةِ.
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ يَزِيدَ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ مَا أَحْدَثَ.
__________
(1) في (ط):" وفقد ".
(2) في (ط):" مسلط ".
(3) في (ط):" أحلام ".(1/79)
وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ،حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ:كَانَ النَّاسُ يَحْمِلُونَ عَنْ جَابِرٍ قَبْلَ أَنْ يُظْهِرَ مَا أَظْهَرَ، فَلَمَّا أَظْهَرَ مَا أَظْهَرَ اتَّهَمَهُ النَّاسُ فِي حَدِيثِهِ، وَتَرَكَهُ بَعْضُ النَّاسِ، فَقِيلَ لَهُ: وَمَا أَظْهَرَ ؟ قَالَ: الإِيمَانَ بِالرَّجْعَةِ.
وَحَدَّثَنَا حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ، حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ وَأَخُوهُ أَنَّهُمَا سَمِعَا الْجَرَّاحَ بْنَ مَلِيحٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: عِنْدِي سَبْعُونَ أَلْفَ حَدِيثٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كُلُّهَا.
وحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ: سَمِعْتُ زُهَيْرًا يَقُولُ: قَالَ جَابِرٌ أَوْ سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: إِنَّ عِنْدِي لَخَمْسِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ مَا حَدَّثْتُ مِنْهَا بِشَيْءٍ، قَالَ:ثُمَّ حَدَّثَ يَوْمًا بِحَدِيثٍ فَقَالَ هَذَا مِنْ الْخَمْسِينَ أَلْفًا.
ــــــــــــــــــ
اعلم أن الكاذبي(1)ن على ضربين: ضرب عرفوا بذلك في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم على(2) أنواع :- منهم من يضع عليه ما لم يقله أصلا:
إما ترافعا واستخفافًا، كالزنادقة وأشباههم، ممن لم يرج للدين وقارًا.
وَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدٍ الْيَشْكُرِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْوَلِيدِ يَقُولُ: سَمِعْتُ سَلاَّمَ بْنَ أَبِي مُطِيعٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ جَابِرًا الْجُعْفِيَّ يَقُولُ: عِنْدِي خَمْسُونَ أَلْفَ حَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) في (ط):" الكذابين ".
(2) قوله:" على " ليس في (ح).(1/80)
وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلاً سَأَلَ جَابِرًا عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:{ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ }، فَقَالَ جَابِرٌ: لَمْ يَجِئْ تَأْوِيلُ هَذِهِ، قَالَ سُفْيَانُ: وَكَذَبَ، فَقُلْنَا لِسُفْيَانَ: وَمَا أَرَادَ بِهَذَا ؟ فَقَالَ: إِنَّ الرَّافِضَةَ تَقُولُ: إِنَّ عَلِيًّا فِي السَّحَابِ فَلا نَخْرُجُ مَعَ مَنْ خَرَجَ مِنْ وَلَدِهِ حَتَّى يُنَادِيَ مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ يُرِيدُ عَلِيًّا أَنَّهُ يُنَادِي: اخْرُجُوا مَعَ فُلانٍ، يَقُولُ جَابِرٌ: فَذَا تَأْوِيلُ هَذِهِ الآيَةِ، وَكَذَبَ، كَانَتْ فِي إِخْوَةِ يُوسُفَ - صلى الله عليه وسلم -.
ــــــــــــــــــ
أو حسبة - بزعمهم - وتدينا(1)، كجهلة المتعبدة الذين وضعوا الأحاديث في الفضائل والرغائب.
أو إغرابا وسمعة، كفسقة المحدثين.
أو تعصبا واحتجاجا، كدعاة المبتدعة، ومتعصبي المذاهب.
أو اتباعا لهوى أهل الدنيا فيما أرادوه، وطلب العذر لهم فيما أتوه.
وقد تعين جماعة من كل طبقة من هذه الطبقات عند أهل الصنعة وعلم الرجال.
- ومنهم من لا يضع متن الحديث، ولكن ربما وضع للمتن الضعيف إسنادا صحيحا مشهورا.
وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ، حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرًا يُحَدِّثُ بِنَحْوٍ مِنْ ثَلاثِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ، مَا أَسْتَحِلُّ أَنْ أَذْكُرَ مِنْهَا شَيْئًا، وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا.
قَالَ مُسْلِم: وَسَمِعْتُ أَبَا غَسَّانَ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرٍو الرَّازِيَّ قَالَ: سَأَلْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ الْحَمِيدِ، فَقُلْتُ: الْحَارِثُ بْنُ حَصِيرَةَ لَقِيتَهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ شَيْخٌ طَوِيلُ السُّكُوتِ يُصِرُّ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ.
__________
(1) في (أ):" أو تدينًا ".(1/81)
ــــــــــــــــــ
ومنهم من يقلب الأسانيد، أو يزيد(1) فيها، ويتعمد ذلك، إما للإغراب على غيره، أو لرفع الجهالة عن نفسه.
- ومنهم من يكذب، فيدعي سماع ما لم يسمع، أو لقاء من لم يلق، ويحدث بأحاديثهم الصحيحة عنهم.
- ومنهم من يعمد إلى كلام الصحابة - رضي الله عنهم -، أو غيرهم، وحكم العرب، والحكماء، فينسبها للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
فهؤلاء كلهم(2) كذابون متروكو(3) الحديث.
وكذلك من تجاسر بالحديث بما لم يحققه ولم يضبطه، أو هو شاك فيه، فلا يحدث عن هؤلاء، ولا يقبل ما حدثوا به، ولو لم يكن منهم مما جاءوا به من هذه الأمور إلا المرة الواحدة، كشاهد الزور إذا تعمد ذلك مرة واحدة(4) سقطت شهادته، واختلف هل تقبل(5) في المستقبل إذا ظهرت توبته أو زادت في الخير حالته، ولم [أرهم يختلفون في الكذاب في الحديث أنه لا يقبل حديثه](6).
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: ذَكَرَ أَيُّوبُ رَجُلاً يَوْمًا فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ بِمُسْتَقِيمِ اللِّسَانِ، وَذَكَرَ آخَرَ فَقَالَ: هُوَ يَزِيدُ فِي الرَّقْمِ.
حَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ أَيُّوبُ: إِنَّ لِي جَارًا، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ فَضْلِهِ، وَلَوْ شَهِدَ عِنْدِي عَلَى تَمْرَتَيْنِ مَا رَأَيْتُ شَهَادَتَهُ جَائِزَةً.
ــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" ويزيد ".
(2) قوله:" كلهم " ليس في (ح).
(3) في (ط):" متركون ".
(4) قوله:" مرة واحدة " ليس في (أ).
(5) في (ح):" يقبل ".
(6) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).(1/82)
والصنف الآخر: من لا يستجيز شيئًا من هذا كله في الحديث، ولكنه يكذب في حديث الناس، قد(1) عرف بذلك، فهذا أيضًا لا يقبل حديثه ولا شهادته، قاله مالك وغيره، وتنفعه التوبة، ويرجع إلى القبول.
فأما من يندر منه القليل من الكذب، ولم يعرف به، فلا يقطع بتجريحه بمثله ؛ إذ(2) يتأول(3) عليه ا لغلط أو الوهم(4)، وإن اعترف متعمد(5) ذلك المرة الواحدة، مما لم يضر بها مسلمًا، فلا يلحق(6) بمثله الجرحة، وإن كانت معصية، لندورها، ولأنها لا تلحق بالكبائر الموبقات، ولأن أكثر الناس قلما يسلمون من مواقعة(7) بعض(8) الهنات، ولهذا قال مالك فيمن ترد شهادته: " أن يكون كاذبا في غير شيء "، وقال(9) سحنون في الذي يقارف بعض الذنب كالزلة: " تجوز شهادته ؛ لأن أحدا لا يسلم من مثل هذا، فإذا تكرر هذا منه سقطت به شهادته ".
وكذلك لا يسقطها كذبه فيما هو من باب التعريض، أو الغلو في القول؛ إذ ليس بكذب(10) على الحقيقة، وإن كان في صورة الكذب، لأنه لا يدخل تحت حد ا لكذب، ولا يريد المتكلم به الإخبار عن ظاهر لفظه، وقد وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ قَالا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: قَالَ مَعْمَرٌ: مَا رَأَيْتُ أَيُّوبَ اغْتَابَ أَحَدًا قَطُّ إِلاَّ عَبْدَ الْكَرِيمِ - يَعْنِي أَبَا أُمَيَّةَ، فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ فَقَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ، لَقَدْ سَأَلَنِي عَنْ حَدِيثٍ لِعِكْرِمَةَ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ.
__________
(1) قوله:" قد " ليس في (ح).
(2) في (أ):" إذا ".
(3) في (ط):" تناول ".
(4) في (ح):" والوهم " بدل:" أو الوهم ".
(5) في (ط):" معتمد ".
(6) في (ط):" تلحق ".
(7) في (أ):" موافقات ".
(8) في (ح):" بعض هذه ".
(9) في (ح):" قال ".
(10) في (ح):" يكذب ".(1/83)
حَدَّثَنِي الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا أَبُو دَاوُدَ الأَعْمَى فَجَعَلَ يَقُولُ: حَدَّثَنَا الْبَرَاءُ، قَالَ: وَحَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِقَتَادَةَ فَقَالَ: كَذَبَ مَا سَمِعَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ سَائِلاً يَتَكَفَّفُ النَّاسَ زَمَنَ طَاعُونِ الْجَارِفِ.
وَحَدَّثَنِي حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا هَمَّامٌ قَالَ: دَخَلَ أَبُو دَاوُدَ الأَعْمَى عَلَى قَتَادَةَ، فَلَمَّا قَامَ قَالُوا: إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّهُ لَقِيَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ بَدْرِيًّا، فَقَالَ قَتَادَةُ: هَذَا كَانَ سَائِلاً قَبْلَ الْجَارِفِ لا يَعْرِضُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا وَلا يَتَكَلَّمُ فِيهِ، فَوَاللَّهِ مَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ عَنْ بَدْرِيٍّ مُشَافَهَةً، وَلا حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ بَدْرِيٍّ مُشَافَهَةً، إِلاَّ عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ.
ــــــــــــــــــ
قال - صلى الله عليه وسلم -: " أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه "، وقال إبراهيم - عليه السلام -: " هذه أختي "، وقد أشار مالك رحمه الله لنحو هذا.
ذكر(1) مسلم عن بقية بن الوليد أنه يكني الأسماء(2) ويسمي الكُنَى، هذا نوع من التدليس، فإذا فعله صاحبه في الضعفاء ليوهم أمرهم على الناس، فهو قبيح، لأنه يلبس بذلك، ويخيل أن ذلك الراوي ليس هو ذاك الضعيف، لتركه اسمه أو كنيته التي عرف واشتهر بها، ويسميه أو يكنيه بما لا يعرف به،
__________
(1) في (أ):" وذكر ".
(2) في (أ):" الأسامي ".(1/84)
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ رَقَبَةَ: أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ الْهَاشِمِيَّ الْمَدَنِيَّ كَانَ يَضَعُ أَحَادِيثَ كَلامَ حَقٍّ، وَلَيْسَتْ مِنْ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَكَانَ يَرْوِيهَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
ــــــــــــــــــ
فيخرجه إلى حد الجهالة من حد المعرفة بالجرحة والترك، فيرفع(1) رتبته عن الاتفاق(2) إلى الخلاف، وعن القطع على طرح حديث المتروك، إلى المسامحة في رواية حديث المجهول، وأشد منه أن يكنى الضعيف أويسميه بكنية الثقة أو اسمه، لاشتراكهما في ذلك، وشهرة الثقة بذلك الاسم أو الكنية فهذا الباب مما يقدح في فاعله، وسنزيد الكلام فيه بسطا في فصل التدليس.
[ ولهذا كان أبو مسهر(3) يقول: " احذروا أحاديث بقية، فإنها غير نقية، وكونوا من بقيتها على تقية ](4)".
وذكر(5) مسلم صالِحًا مولى التوأمة، كذا صوابه: بفتح التاء المشددة، وإسكان الواو بعدها همزة مفتوحة، وقد تسهل، فتفتح الواو، وتثقل عليها حركة الهمزة، فيقال: التَّوَّمة، ومن ضم التاء وهمز الواو أخطأ، وهي رواية أكثر المشايخ والرواة.
وكما قلناه قيده أصحاب المؤتلف(6)، وكذلك أتقناه على(7) أهل المعرفة من شيوخنا.
والتوأمة هذه هي بنت أمية بن خلف الجمحي، قاله البخاري وغيره.
قال الواقدي(8):" وكانت في بطن مع أخت لها، فلذلك سميت التوأمة.
وهي مولاة أبي صالح من فوق، وأبو صالح هذا اسمه نبهان.
__________
(1) في (ح):" يرفع ".
(2) في (ط):" الايقان ".
(3) في (ط):" أبو شهر ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(5) في (ط):" ذكر ".
(6) في حاشية (ح):"والمختلف "، وكتب فوقها:" خ".
(7) في حاشية (ح):"عن "، وكتب فوقها:"صح، خ".
(8) في (ح):" قال القاضي قال الواقدي ".(1/85)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ الْحُلْوَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: أَبُو إِسْحَقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: كَانَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ يَكْذِبُ فِي الْحَدِيثِ.
حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ أَبُو حَفْصٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاذَ بْنَ مُعَاذٍ يَقُولُ: قُلْتُ لِعَوْفِ بْنِ أَبِي جَمِيلَةَ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا عَنْ الْحَسَنِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا، قَالَ: كَذَبَ وَاللَّهِ عَمْرٌو، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَحُوزَهَا إِلَى قَوْلِهِ الْخَبِيثِ.
وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ قَدْ لَزِمَ أَيُّوبَ وَسَمِعَ مِنْهُ فَفَقَدَهُ أَيُّوبُ، فَقَالُوا: يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّهُ قَدْ لَزِمَ عَمْرَو بْنَ عُبَيدٍ، قَالَ حَمَّادٌ: فَبَيْنَا أَنَا يَوْمًا مَعَ أَيُّوبَ وَقَدْ بَكَّرْنَا إِلَى السُّوقِ فَاسْتَقْبَلَهُ الرَّجُلُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ أَيُّوبُ وَسَأَلَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ أَيُّوبُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ لَزِمْتَ ذَاكَ الرَّجُلَ ؟ قَالَ حَمَّادٌ: سَمَّاهُ يَعْنِي عَمْرًا، قَالَ: نَعَمْ يَا أَبَا بَكْرٍ ! إِنَّهُ يَجِيئُنَا بِأَشْيَاءَ غَرَائِبَ، قَالَ: يَقُولُ لَهُ أَيُّوبُ: إِنَّمَا نَفِرُّ أَوْ نَفْرَقُ مِنْ تِلْكَ الْغَرَائِبِ.
ــــــــــــــــــ
ذكر(1) مسلم عن مالك رحمه الله وسئل عن رجل فقال :" لو كان ثقة لرأيته في كتبي(2) ".
__________
(1) في (ح):" وذكر ".
(2) في (ح):" كتابي ".(1/86)
هذا ترجيح من مالك رحمه الله وتعديل منه صريح لكل من أدخله في كتبه.
وقد اختلف العلماء في رواية الثقة عن المجهول، فذهب بعضهم إلى أنه تعديل له، وذهب الأكثر إلى أنه ليس بتعديل حتى يصرح بعدالته بقوله، أو وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ،حَدَّثَنَا ابْنُ زَيْدٍ - يَعْنِي حَمَّادًا -، قَالَ: قِيلَ لأَيُّوبَ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ رَوَى عَنْ الْحَسَنِ، قَالَ: لا يُجْلَدُ السَّكْرَانُ مِنْ النَّبِيذِ، فَقَالَ: كَذَبَ أَنَا سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ يُجْلَدُ السَّكْرَانُ مِنْ النَّبِيذِ.
وَحَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَلاَّمَ بْنَ أَبِي مُطِيعٍ يَقُولُ: بَلَغَ أَيُّوبَ أَنِّي آتِي عَمْرًا، فَأَقْبَلَ عَلَيَّ يَوْمًا فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلاً لا تَأْمَنُهُ عَلَى دِينِهِ كَيْفَ تَأْمَنُهُ عَلَى الْحَدِيثِ.
وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى يَقُولُ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ.
ــــــــــــــــــ
ما يدل على ذلك، فأما من عُرف بمثل(1) حال مالك، ونُقل عنه مثل قوله، فروايته عنه وإدخاله في كتبه(2) تصريح بعدالته.
قال الإمام أبو عبدالله: " قال مسلم في حديث آخر " حدثني بشر بن الحكم، قال(3): سمعت يحيى القطان ضعف حكيم بن جبير وعبدالأعلى، وضعف يحيى موسى بن دينار "، كذا صواب هذا الكلام.
وفي أكثر النسخ: " وضعف يحيى بن موسى بن دينار "، وهذا وهم، وموسى بن دينار، هو المكي، ضعفه يحيى، وقد نقل أبو جعفر العقيلي في كتابه في الضعفاء كلام يحيى هذا في موسى بن دينار، وعبدالأعلى، وحكيم ابن جبير ".
__________
(1) في (ط):" بمثل هذا ".
(2) في (ح):" كتابي ".
(3) قوله:" قال " ليس في (أ).(1/87)
حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى شُعْبَةَ أَسْأَلُهُ عَنْ أَبِي شَيْبَةَ قَاضِي وَاسِطٍ، فَكَتَبَ إِلَيَّ لا تَكْتُبْ عَنْهُ شَيْئًا، وَمَزِّقْ كِتَابِي.
وَحَدَّثَنَا الْحُلْوَانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ عَفَّانَ قَالَ: حَدَّثْتُ حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ، عَنْ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ بِحَدِيثٍ عَنْ ثَابِتٍ فَقَالَ: كَذَبَ، وَحَدَّثْتُ هَمَّامًا عَنْ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ بِحَدِيثٍ فَقَالَ: كَذَبَ.
وَحَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ غَيْلانَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ: قَالَ لِي شُعْبَةُ: ائْتِ جَرِيرَ بْنَ حَازِمٍ فَقُلْ لَهُ لا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ فَإِنَّهُ يَكْذِبُ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: قُلْتُ لِشُعْبَةَ: وَكَيْفَ ذَاكَ ؟ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَنْ الْحَكَمِ بِأَشْيَاءَ لَمْ أَجِدْ لَهَا أَصْلاً. قَالَ: قُلْتُ لَهُ: بِأَيِّ شَيْءٍ ؟ قَالَ: قُلْتُ لِلْحَكَمِ: أَصَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ ؟ فَقَالَ: لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى عَلَيْهِمْ وَدَفَنَهُمْ. قُلْتُ لِلْحَكَمِ: مَا تَقُولُ فِي أَوْلادِ الزِّنَا ؟ قَالَ: يُصَلَّى عَلَيْهِمْ. قُلْتُ: مِنْ حَدِيثِ مَنْ يُرْوَى ؟ قَالَ: يُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، فَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ عَنْ عَلِيٍّ.
ــــــــــــــــــ(1/88)
قال القاضي: رواية جميع شيوخنا في الأم بغير واو على الوهم، وهذا يصح أنه من رواة مسلم، والصواب عندهم، ما تقدم، وكذا صححه(1) الجياني، والصدفي، وغيره من شيوخنا، ويحيى هو ابن سعيد القطان المذكور أولا.
ذكر مسلم قول ابن عُلَيَّة، وقد تكلم رجل في رجل، فقال له آخر: " اغتبته " فقال :" ما اغتابه(2)، ولكنه حكم أنه ليس بثبت".
وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ الْحُلْوَانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ وَذَكَرَ زِيَادَ بْنَ مَيْمُونٍ فَقَالَ: حَلَفْتُ أَلاَّ أَرْوِيَ عَنْهُ شَيْئًا، وَلا عَنْ خَالِدِ بْنِ مَحْدُوجٍ، وَقَالَ: لَقِيتُ زِيَادَ بْنَ مَيْمُونٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ حَدِيثٍ، فَحَدَّثَنِي بِهِ عَنْ بَكْرٍ الْمُزَنِيِّ، ثُمَّ عُدْتُ إِلَيْهِ، فَحَدَّثَنِي بِهِ عَنْ مُوَرِّقٍ، ثُمَّ عُدْتُ إِلَيْهِ فَحَدَّثَنِي بِهِ عَنْ الْحَسَنِ، وَكَانَ يَنْسُبُهُمَا إِلَى الْكَذِبِ.
قَالَ الْحُلْوَانِيُّ: سَمِعْتُ عَبْدَ الصَّمَدِ وَذَكَرْتُ عِنْدَهُ زِيَادَ بْنَ مَيْمُونٍ، فَنَسَبَهُ إِلَى الْكَذِبِ.
__________
(1) في (ط):" رواه صححخ ".
(2) في (أ):" ما أعاتبه اغتابه ".(1/89)
وَحَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلانَ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ: قَدْ أَكْثَرْتَ عَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ، فَمَا لَكَ لَمْ تَسْمَعْ مِنْهُ حَدِيثَ الْعَطَّارَةِ الَّذِي رَوَى لَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ لِيَ: اسْكُتْ فَأَنَا لَقِيتُ زِيَادَ بْنَ مَيْمُونٍ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ فَسَأَلْنَاهُ فَقُلْنَا لَهُ: هَذِهِ الأَحَادِيثُ الَّتِي تَرْوِيهَا عَنْ أَنَسٍ، فَقَالَ: أَرَأَيْتُمَا رَجُلاً يُذْنِبُ فَيَتُوبُ، أَلَيْسَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ ؟ قَالَ: قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: مَا سَمِعْتُ مِنْ أَنَسٍ مِنْ ذَا قَلِيلاً وَلا كَثِيرًا، إِنْ كَانَ لا يَعْلَمُ النَّاسُ فَأَنْتُمَا لا تَعْلَمَانِ أَنِّي لَمْ أَلْقَ أَنَسًا.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: فَبَلَغَنَا بَعْدُ أَنَّهُ يَرْوِي، فَأَتَيْنَاهُ أَنَا وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: أَتُوبُ، ثُمَّ كَانَ بَعْدُ يُحَدِّثُ فَتَرَكْنَاهُ.
ــــــــــــــــــ
وقد تقدم الكلام أن مثل هذا ليس بغيبة، بل لو لم يحسن مقصده، وقصد محض التنقص(1) والعيب، لا بيان الحال، لأجل الحديث لكان غيبة، وكذلك لو لم يكن المتكلم من أهل هذا الشأن، ولا ممن يلتفت إلى قوله فيه، لما جاز له ذكر ذلك، ولكان غيبة، وهذا كالشاهد، ليس تجريحه(2) غيبة، ولو عابه قائل(3) بما جرح(4) به على طريق المشاتمة والنقص له أدب له، وكانت غيبة
__________
(1) في (ح):" التنقيص ".
(2) في (ط):" تجرحه ".
(3) قوله:" قائل " ليس في (ح).
(4) في (أ):" خرج ".(1/90)
حَدَّثَنَا حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ شَبَابَةَ قَالَ: كَانَ عَبْدُ الْقُدُّوسِ يُحَدِّثُنَا فَيَقُولُ: سُوَيْدُ بْنُ عَقَلَةَ، قَالَ شَبَابَةُ: وَسَمِعْتُ عَبْدَ الْقُدُّوسِ يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُتَّخَذَ الرَّوْحُ عَرْضًا، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: أَيُّ شَيْءٍ هَذَا ؟ قَالَ: يَعْنِي تُتَّخَذُ كُوَّةٌ فِي حَائِطٍ لِيَدْخُلَ عَلَيْهِ الرَّوْحُ.
قَالَ مُسْلِم: وَسَمِعْت عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيَّ يَقُولُ:سَمِعْتُ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ لِرَجُلٍ بَعْدَ مَا جَلَسَ مَهْدِيُّ بْنُ هِلالٍ بِأَيَّامٍ، مَا هَذِهِ الْعَيْنُ الْمَالِحَةُ الَّتِي نَبَعَتْ قِبَلَكُمْ ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَبَا إِسْمَاعِيلَ.
ــــــــــــــــــ
وقد قيل ليحيى بن سعيد:"أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله يوم القيامة(1)؟" فقال:"لأن يكونوا خصمائي أحب إلي من أن يكون خصمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2)، يقول:" لم حدثت عني حديثا ترى أنه كذب ؟...".
ذكر مسلم تجريح قوم لجماعة، فيهم من يوجد تعديلهم لآخرين من الأئمة.
وهذه مسألة اختلف فيها المحدثون والفقهاء والأصوليون(3)، في باب الخبر وباب الشهادة، وقالوا: إذا عدل معدلون رجلا وجرحه آخرون فالجرح أولى، وحكوا في ذلك إجماع العلماء، مع الحجة بأن المجرح زاد ما لم يعلمه المعدِّل، وهو بين، ولا خلاف في هذا إذا كان عدد المجرِّحين أكثر، فإن تساووا فكذلك عند القاضي أبي بكر والجمهور، وذهب بعض المالكية إلى توقف الأمر عند التكافئ، وقيل: يقضى بالأعدل.
__________
(1) قوله:" يوم القيامة " ليس في (أ) و(ح).
(2) في (ح):" أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خصمي ".
(3) في (ح):" والأصوليون والفقهاء ".(1/91)
فإن كان عدد المعدلين أكثر، فالجمهور على تقديم الجرح للعلة المتقدمة، وذهبت طائفة إلى ترجيح التعديل، قال الباجي: " وهذا عندي يحتاج إلى وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ الْحُلْوَانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ عَفَّانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَوَانَةَ قَالَ: مَا بَلَغَنِي عَنْ الْحَسَنِ حَدِيثٌ إِلاَّ أَتَيْتُ بِهِ أَبَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ فَقَرَأَهُ عَلَيَّ.
ــــــــــــــــــ
تفصيل، فإذا قال المعدل: " هو عدل رضِيّ"، وقال المجرح: "فاسق رأيته أمس يشرب الخمر " فلا تنافي بين الشهادتين، وقد أثبت هذا فسقا لم يعلمه الآخر، فأما لو قال المعدل: " ما فارقني أمس من الجامع "،ومثل هذا، فقد تعارضت الشهادتان، ولعل توقف من توقف من أصحابنا لهذا الوجه ".
وقال اللخمي: "إذا كان اختلافهما في ذلك عن كلام قاله في مجلس، أو فعل فعله، قضي بالأعدل، لأنه تكاذُب "، وهذا نحو ما أشار إليه الباجي، "وإن كان عن مجلسين متباينين غُلِّب الجُرْح "، وإليه يرجع قول الجمهور.
" وإن تباعدت شهادة المعدل(1) من شهادة المجرح قضي بآخرهما "، وهذا مما(2) لا يُختلف فيه إلا أن يعلم أنه كان حين شهد عليه بتقدم الجرح ظاهر العدالة إذ ذاك(3)، حسب ما هو عليه الآن، فيغلَّب الجرح.
قال القاضي: ثم يرجع(4) إلى الأصل عند تعارض الشهادتين، فإن كان قبل محمولاً(5) على العدالة، وجاءت بعد مثل هذه الشهادة، مضت عدالته على ما تقدم له وعرف من حاله ؛ إذ سقطت الشهادتان، وإن كان على غير ذلك بقي على حكمه الأول.
وهل يترجح التعارض - مع القول بالتوقف - بالكثرة ؟ على الخلاف المتقدم.
__________
(1) قوله:" المعدل" لم يظهر منه إلا "الألف واللام " في (ط).
(2) في (ط):" ما ".
(3) قوله:" إذ ذاك " في مكانه بياض في (ط).
(4) في (ح):" وذكر ".
(5) قوله:" محمولاً " لم يظهر في (ط).(1/92)
وقال(1) مسلم في النهي عن التحدث بالأخبار الضعيفة كلاما قال في آخره: " أو يستعمل بعضها، وأقلها أو أكثرها أكاذيب لا أصل لها ".
وَحَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَا وَحَمْزَةُ الزَّيَّاتُ مِنْ أَبَانَ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ نَحْوًا مِنْ أَلْفِ حَدِيثٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَلَقِيتُ حَمْزَةَ فَأَخْبَرَنِي: أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَنَامِ فَعَرَضَ عَلَيْهِ مَا سَمِعَ مِنْ أَبَانَ، فَمَا عَرَفَ مِنْهَا إِلاَّ شَيْئًا يَسِيرًا خَمْسَةً أَوْ سِتَّةً.
ــــــــــــــــــ
كذا رواية شيوخنا عن الدلائي، وهو مختل(2) مصحَّف غير مستقيل(3)، والصواب روايتهم عن الفارسي: " ولعلها أو أكثرها أكاذيب " وأظن اللام انفصلت مما بعدها من" لعلها "، فقرأه:" أقلها"، وغره ذكر " أكثرها " بعد.
وذكر مسلم كلام بعض الناس في المعنعن، وهو قولهم: " فلان عن فلان، لا(4) يقول: نا، ولا أنا، ولا سمعت، وقولهم: " لا يحمل منه على المسند إلا ما كان بين متعارصرين، يعلم أنهما قد التقيا من دهرهما، مرة فصاعدا، وما لم يعرف ذلك فلا تقوم الحجة منه إلا بما شهد له لفظ السماع والتحدث ".
وأنكر مسلم هذا ورده ولم يشترط غير التعاصر لا أكثر.
والقول الذي رده مسلم، هو الذي عليه أئمة هذا العلم: علي بن المديني والبخاري، وغيرهما، ولابد أن يشترطا أن يكون الراوي مع ذلك ممن لا يعرف بالتدليس.
قال أبو عمر ابن عبدالبر: " وجدت أئمة الحديث أجمعوا(5) على قبول المعنعن بغير تدليس، إذا جمع شروطًا ثلاثة: عدالتهم(6)، ولقاء بعضهم بعضا، وبراءتهم من التدليس "، على خلاف بينهم في ذلك.
__________
(1) في (ح):" وذكر ".
(2) في (ط):" كلام مختل ".
(3) في حاشية (ح):"مستقيم "، وكتب فوقها:"صح، خ".
(4) في (ح):" ولا ".
(5) في (ح):" اجتمعوا ".
(6) في (ط) يشبه أن تكون:" عدولتهم ".(1/93)
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيٍّ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو إِسْحَقَ الْفَزَارِيُّ: اكْتُبْ عَنْ بَقِيَّةَ مَا رَوَى عَنْ الْمَعْرُوفِينَ، وَلا تَكْتُبْ عَنْهُ مَا رَوَى عَنْ غَيْرِ الْمَعْرُوفِينَ، وَلا تَكْتُبْ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ مَا رَوَى عَنْ الْمَعْرُوفِينَ وَلا عَنْ غَيْرِهِمْ.
وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ بَعْضَ أَصْحَابِ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: نِعْمَ الرَّجُلُ بَقِيَّةُ لَوْلا أَنَّهُ كَانَ يَكْنِي الأَسَامِيَ، وَيُسَمِّي الْكُنَى، كَانَ دَهْرًا يُحَدِّثُنَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْوُحَاظِيِّ، فَنَظَرْنَا فَإِذَا هُوَ عَبْدُ الْقُدُّوسِ.
وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْدِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّزَّاقِ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ ابْنَ الْمُبَارَكِ يُفْصِحُ بِقَوْلِهِ كَذَّابٌ إِلاَّ لِعَبْدِ الْقُدُّوسِ، فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ لَهُ: كَذَّابٌ.
ــــــــــــــــــ
وقال ابن البيع: " المعنعن بغير تدليس متصل بإجماع أهل النقل على
تورع رواته عن التدليس ".
وإلى ما ذهب إليه مسلم ذهب القاضي أبو بكر الباقلاني وغيره من أئمة النظار.
وكذلك اختلفوا في لفظة " أن فلانا " هل هي مثل " عن فلان " فيقضى لها بالاتصال حتى(1) يثبت الانفصال(2)، أو بضد ذلك، فقال جمهورهم(3): إن: " أن " و " عن " سواء على ا لشروط ا لمذكورة في " عن "، وزعم البرديجي أنها على الانقطاع حتى يتبين فيها السماع بخلاف " عن ".
قال مسلم: "والمرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة ".
__________
(1) في (أ):" حيث "، وفي (ح):" حين ".
(2) في (ح):" الاتصال ".
(3) في (ح):" جمهرتهم ".(1/94)
قال القاضي : اختلف العلماء في المرسل على ما يقع من الحديث، وفي ثبوت الحجة به.
فأما الفقهاء والأصوليون فيطلقون المرسل علىكل(1) ما لم يتصل سنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأرسله راو من رواته، تابعيا كان أو من(2) دونه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأو سكت فيه عن راو من رواته أو أكثر، وارتفع إلى من فوقه، فهو داخل عندهم في المرسل.
وكذلك إذا قال: " عن رجل "، ولم يسمه.
وأما أصحاب الحديث فلهم تفريق في ذلك، واصطلاحات بنوا عليها صنعتهم. ورتبوا أبوابهم وتراجمهم، فلا يطلقون المرسل إلا على ما أرسله التابعي، وقال فيه:" قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، دون ذكر الصحابي.
وقال أبو عبدالله الحاكم في كتاب علوم الحديث:" لم يختلف مشايخ الحديث في هذا ".
فأما ما أرسله الراوي دون التابعي فهو عندهم المنقطع، وكذلك يسمون الحديث عن رجل لم يسم.
وذكر في كتاب المدخل إلى كتاب الإكليل :" المرسل أن يقول التابعي أو تابع التابعي : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا نُعَيْمٍ وَذَكَرَ الْمُعَلَّى بْنَ عُرْفَانَ فَقَالَ: قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو وَائِلٍ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا ابْنُ مَسْعُودٍ بِصِفِّينَ، فَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: أَتُرَاهُ بُعِثَ بَعْدَ الْمَوْتِ.
حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ وَحَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ كِلاهُمَا عَنْ عَفَّانَ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ فَحَدَّثَ رَجُلٌ عَنْ رَجُلٍ فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِثَبْتٍ، قَالَ: فَقَالَ الرَّجُلُ: اغْتَبْتَهُ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ: مَا اغْتَابَهُ وَلَكِنَّهُ حَكَمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِثَبْتٍ.
ــــــــــــــــــ
__________
(1) قوله:" على كل " ليس في (ح).
(2) قوله:" من " ليس في (ح).(1/95)
فإن كان بين المرسل والنبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من رجل سموه معضلا، كذا لقبه ابن المديني وغيره، وأدخل البلاغات وشبهها عندهم في باب العضل.
وكل هذا بالحقيقة داخل في باب المرسل ؛ إذ أصل ذلك إضافة الراوي الحديث إلى من لم يرو عنه، وإرسال سنده، وسقوط اتصاله.
وأما الحجة به، فذهب السلف الأول إلى قبوله والحجة به، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، وعامة أصحابهما(1)، وفقهاء الحجاز والعراق.
وذهب الشافعي، وأسماعيل القاضي، في عامة أهل الحديث، وكافة أصحاب الأصول، وأهل النظر، إلى ترك ا لحجة بها(2)، وحكاه الحاكم عن ابن المسيب، ومالك، وجماعة أهل الحديث، وفقهاء الحجاز، ومن بعدهم من فقهاء المدينة(3)، وعن الأوزاعي والزهري وابن حنبل.
والمعروف من مذهب مالك وأهل المدينة خلاف ما ذكر،[فلهم تفريق في ذلك ](4).
وشرط بعض من لم ير الحجة به: مراسيل التابعين جملة، وخص بعضهم مراسيل كبار التابعين، وبعضهم مراسيل الصحابة إذا قالوا(5): حدثني رجل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) قوله:" وعامة أصحابهما " ليس في (ط).
(2) في (ح):" به ".
(3) في (أ):" أهل المدينة ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).
(5) في (أ):" وإذا قالوا ".(1/96)
وَحَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: سَأَلْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الَّذِي يَرْوِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فَقَالَ: لَيْسَ بِثِقَةٍ، وَسَأَلْتُهُ عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ فَقَالَ: لَيْسَ بِثِقَةٍ، وَسَأَلْتُهُ عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ فَقَالَ: لَيْسَ بِثِقَةٍ، وَسَأَلْتُهُ عَنْ شُعْبَةَ الَّذِي رَوَى عَنْهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ فَقَالَ: لَيْسَ بِثِقَةٍ، وَسَأَلْتُهُ عَنْ حَرَامِ بْنِ عُثْمَانَ فَقَالَ: لَيْسَ بِثِقَةٍ، وَسَأَلْتُ مَالِكًا عَنْ هَؤُلاءِ الْخَمْسَةِ فَقَالَ: لَيْسُوا بِثِقَةٍ فِي حَدِيثِهِمْ، وَسَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ آخَرَ نَسِيتُ اسْمَهُ، فَقَالَ: هَلْ رَأَيْتَهُ فِي كُتُبِي ؟ قُلْتُ: لا. قَالَ: لَوْ كَانَ ثِقَةً لَرَأَيْتَهُ فِي كُتُبِي.
ــــــــــــــــــ
وخص الشافعي مراسيل سعيد بن المسيب، وبعضهم مراسيل الأئمة، وجعلها حجة كالمسندات(1)؛ إذ أكثرها كذلك، وإذ لا يرسلون إلا ما صح.
ومنهم من جعل هذه أقوى من المسانيد ؛ لأن الإمام لا يرسل الحديث إلا مع نهاية الثقة به والصحة.
واختار بعض المحققين من المتأخرين قبول مرسل الصحابي والتابعي، إذا عُرف من عادته أنه لا يروي إلا عن صحابي.
قال أبو عمر وأبو الوليد: " ولا خلاف أنه لا يجوز العمل به إذا كان مرسلة غير متحرز، يرسل عن غير الثقات ".
والتابعي هو من أدرك أصحاب(2) النبي - صلى الله عليه وسلم - أو واحدا منهم، وعاصرهم، وإن لم يرو عنهم.
وأما الصحابي فاختلف في من يُطلق(3) عليه هذا الاسم.
__________
(1) قوله:" كالمستندات" لم تظهر كاملة في (ط).
(2) قوله:" أصحاب" ليس في (ط)، وفي موضعه إشارة لحق ولم يظهر شيء في التصوير.
(3) في (ط):" ينطلق ".(1/97)
وَحَدَّثَنِي الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ سَعْدٍ وَكَانَ مُتَّهَمًا.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُهْزَاذَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَقَ الطَّالَقَانِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ الْمُبَارَكِ يَقُولُ: لَوْ خُيِّرْتُ بَيْنَ أَنْ أَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَبَيْنَ أَنْ أَلْقَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَرَّرٍ لاخْتَرْتُ أَنْ أَلْقَاهُ ثُمَّ أَدْخُلَ الْجَنَّةَ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ كَانَتْ بَعْرَةٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُ.
وَحَدَّثَنِي الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ، حَدَّثَنَا وَلِيدُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: قَالَ زَيْدٌ: يَعْنِي ابْنَ أَبِي أُنَيْسَةَ لا تَأْخُذُوا عَنْ أَخِي.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ السَّلامِ الْوَابِصِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كَانَ يَحْيَى بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ كَذَّابًا.
ــــــــــــــــــ
فذهب البخاري إلى أن من صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو رآه فله منزلة(1) الصحبة، وقاله غيره، وهو مذهب أحمد بن حنبل، قال: "وكل من صاحبه(2) شهرًا(3)، أو يومًا، أو ساعة، أو رآه ؛ فهو من أصحابه، وله من صحبته بقدر ذلك وسابقته(4)".
وإلى هذا ذهب القاضي أبوبكر بحكم(5) التسمية ومقتضى الصحبة في اللغة، قال: " ولكن لا يجري في حكم الاستعمال وإطلاقه إلا لمن كثرت صحبته واتصل لقاؤه له، لا لمن لقيه ساعة ومشى معه خطوة ".
__________
(1) في (ط):" مزية ".
(2) في (ط):" صحبه ".
(3) في (ط):" ولو شهرًا ".
(4) قوله:" وسابقته " ليس في (ط).
(5) في (أ) و(ح):" وحكم ".(1/98)
وإلى نحو هذا ذهب ابن المسيب، قال: " ولا(1) يعد في الصحابة إلا من صحبه عليه الصلاة والسلام سنة أو سنتين، أو غزوة أو غزوتين(2)".
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: ذُكِرَ فَرْقَدٌ عِنْدَ أَيُّوبَ فَقَالَ: إِنَّ فَرْقَدًا لَيْسَ صَاحِبَ حَدِيثٍ.
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الْقَطَّانَ، ذُكِرَ عِنْدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ فَضَعَّفَهُ جِدًّا، فَقِيلَ لِيَحْيَى: أَضْعَفُ مِنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَطَاءٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ قَالَ: مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ أَحَدًا يَرْوِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ.
ــــــــــــــــــ
وذهب الواقدي إلى أنه لا يعد في الصحابة إلا من أدركه - عليه السلام -، بعد حلمه، أسلم(3)، وعقل أمر الدين، وصاحبه(4) ولو ساعة من نهار، قال(5): "ورأيت أهل العلم يقولونه ".
وذهب أبو عمر ابن عبدالبر في آخرين إلى أن اسم الصحبة وفضيلتها خاصة لكل من رآه - صلى الله عليه وسلم - وأسلم(6) في حياته، أو ولد(7) وإن لم يره، ولو كان ذلك قبل وفاته - صلى الله عليه وسلم - بساعة، لكونه معه في زمن(8) واحد، وجمعه وإياه عصر(9).
وسيأتي بقية الكلام في هذا في كتب الفضائل(10) إن شاء الله تعالى.
__________
(1) في (ط):" لا " بدون الواو.
(2) في (ط):" غزاة أو غزاتين ".
(3) في (ط):" وأسلم ".
(4) في (ط):" وصحبه ".
(5) قوله:" قال " ليس في (أ) و(ح).
(6) في (ط):" أو أسلم ".
(7) في (أ) و(ح):" أو ولد فيه ".
(8) في (أ) و(ح):" زمان ".
(9) في (ط):" غصر مخصص ".
(10) في (ط):" وسيأتي بقية الكلام عليه في كتاب الفضائل ".(1/99)
قال مسلم :"خبر الواحد الثقة عن الواحد حجة يلزم به العمل".
هذا الذي قاله هو مذهب جمهور المسلمين من السلف والفقهاء والمحدثين والأصوليين، وأن وجوب ذلك من جهة الشرع، كان نقله بواحد عن واحد أو أكثر، ما لم يبلغ عدد التواتر، وإن أوجب غلبة الظن دون اليقين والعلم.
حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الْقَطَّانَ ضَعَّفَ حَكِيمَ بْنَ جُبَيْرٍ وَعَبْدَ الأَعْلَى، وَضَعَّفَ يَحْيَى بْنَ مُوسَى بْنِ دِينَارٍ قَالَ: حَدِيثُهُ رِيحٌ، وَضَعَّفَ مُوسَى بْنَ دِهْقَانَ وَعِيسَى بْنَ أَبِي عِيسَى الْمَدَنِيَّ.
قَالَ: وَسَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ عِيسَى يَقُولُ: قَالَ لِي ابْنُ الْمُبَارَكِ: إِذَا قَدِمْتَ عَلَى جَرِيرٍ فَاكْتُبْ عِلْمَهُ كُلَّهُ، إِلاَّ حَدِيثَ ثَلاثَةٍ، لا تَكْتُبْ حَدِيثَ عُبَيْدَةَ بْنِ مُعَتِّبٍ، وَالسَّرِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سَالِمٍ.
ــــــــــــــــــ
وذهبت الروافض، والقدرية، وبعض أهل الظاهر إلى أنه لا يجب به عمل، واختلفوا بعد، فمنهم من قال: مانع ذلك(1) العقل، ومنهم من قال: الشرع.
وقالت طائفة: يجب العمل بمقتضاه عقلا.
وذهب الجُبَّائِيّ من المعتزلة إلى أنه لا يلزم العمل إلا بما رواه اثنان عن اثنين... هكذا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقال غيره: " لا يلزم إلا بما رواه أربع عن أربع(2)"، ومثل هذا غير موجود، وإن(3) وجد منه شيء فقليل(4) ولو التزم هذا لأبطلت السنن.
وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنه يوجب العلم، وحكي هذا عن أحمد بن حنبل، ثم قالت منهم طائفة: " إنما(5) يوجب العلم الظاهر دون الباطن".
__________
(1) في (ح):" في ذلك ".
(2) في حاشية (أ):"أربعة عن أربعة "، وكتب فوقها:"صح ".
(3) في (ح):" فإن ".
(4) في (أ):" قليل ".
(5) قوله:" إنما " ليس في (أ).(1/100)
وهذه الأقاويل كلها غير قول الجمهور باطلة ؛ إذ لا يقطع بمغيَّبه وصدق ناقله،[وإذ يعلم بالضرورة ترك الطمأنينة إلى القطع بصدق ناقله](1)؛ لاحتمال الوهم والغلط والآفات على الآحاد، كما لا يقطع بصحة شهادة الشهود، قَالَ مُسْلِم: وَأَشْبَاهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَلامِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي مُتَّهَمِي رُوَاةِ الْحَدِيثِ وَإِخْبَارِهِمْ عَنْ مَعَايِبِهِمْ كَثِيرٌ يَطُولُ الْكِتَابُ بِذِكْرِهِ عَلَى اسْتِقْصَائِهِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ لِمَنْ تَفَهَّمَ وَعَقَلَ مَذْهَبَ الْقَوْمِ فِيمَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ وَبَيَّنُوا.
وَإِنَّمَا أَلْزَمُوا أَنْفُسَهُمْ الْكَشْفَ عَنْ مَعَايِبِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ وَنَاقِلِي الأَخْبَارِ، وَأَفْتَوْا بِذَلِكَ حِينَ سُئِلُوا لِمَا فِيهِ مِنْ عَظِيمِ الْخَطَرِ، إِذْ الأَخْبَارُ فِي أَمْرِ الدِّينِ إِنَّمَا تَأْتِي بِتَحْلِيلٍ أَوْ تَحْرِيمٍ، أَوْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ، أَوْ تَرْغِيبٍ أَوْ تَرْهِيبٍ، فَإِذَا كَانَ الرَّاوِي لَهَا لَيْسَ بِمَعْدِنٍ لِلصِّدْقِ وَالأَمَانَةِ، ثُمَّ أَقْدَمَ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْهُ مَنْ قَدْ عَرَفَهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا فِيهِ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ جَهِلَ مَعْرِفَتَهُ كَانَ آثِمًا بِفِعْلِهِ ذَلِكَ، غَاشًّا لِعَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ، إِذْ لا يُؤْمَنُ عَلَى بَعْضِ مَنْ سَمِعَ تِلْكَ الأَخْبَارَ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا أَوْ يَسْتَعْمِلَ بَعْضَهَا، وَلَعَلَّهَا أَوْ أَكْثَرَهَا أَكَاذِيبُ لا أَصْلَ لَهَا، مَعَ أَنَّ الأَخْبَارَ الصِّحَاحَ مِنْ رِوَايَةِ الثِّقَاتِ وَأَهْلِ الْقَنَاعَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُضْطَرَّ إِلَى نَقْلِ مَنْ لَيْسَ بِثِقَةٍ وَلا مَقْنَعٍ.
ــــــــــــــــــ
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ح).(1/101)
وإن لزمنا العمل بها إجماعا، ولعلمنا قطعا إجماع الخلفاء والصحابة(1)، ومن بعدهم من السلف(2) على امتثال خبر الواحد ؛ إذا أخبرهم بسنة أو قضاء من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورجوعهم إليه، وقضائهم(3) وفتياهم به دون تلعثم، وطلبهم - عند عدم الحجة - ذلك ممن بلغهم أن ذلك عنده، واحتجاجهم برواية من روى ذلك عند خلافهم.
وكذلك علمنا بالضرورة والخبر ا لمتواتر إنفاذ من نأى(4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأوامره بإخبار رسله وتبليغ كتبه، وكل هذا لاخفاء بصحته.
والعقل لا يحيل التكليف بالعمل به، والشرع لم يمنعه، بل أوجبه
أَحْسِبُ كَثِيرًا مِمَّنْ يُعَرِّجُ مِنْ النَّاسِ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ هَذِهِ الأَحَادِيثِ الضِّعَافِ وَالأَسَانِيدِ الْمَجْهُولَةِ، وَيَعْتَدُّ بِرِوَايَتِهَا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِمَا فِيهَا مِنْ التَّوَهُّنِ وَالضَّعْفِ، إِلاَّ أَنَّ الَّذِي يَحْمِلُهُ عَلَى رِوَايَتِهَا وَالاعْتِدَادِ بِهَا إِرَادَةُ التَّكَثُّرِ بِذَلِكَ عِنْدَ الْعَوَامِّ، وَلأَنْ يُقَالَ:مَا أَكْثَرَ مَا جَمَعَ فُلانٌ مِنْ الْحَدِيثِ وَأَلَّفَ مِنْ الْعَدَدِ.
وَمَنْ ذَهَبَ فِي الْعِلْمِ هَذَا الْمَذْهَبَ وَسَلَكَ هَذَا الطَّرِيقَ فَلا نَصِيبَ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ بِأَنْ يُسَمَّى جَاهِلاً أَوْلَى مَنْ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى عِلْمٍ.
ــــــــــــــــــ
وعبر بعض ا لمتفقهة ومن لم يحصل لفظه بأنه يوجب العمل، وهو تجوز في اللفظ ؛ إذ الشيء لا يكون حجة لوجوبه، وإنما تلقينا(5) وجوب العمل به من سيرة السلف، وأجماعهم، وأوامر النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما قدمناه.
__________
(1) في (ح):" إجماع العلماء والصحابة والخلفاء ".
(2) قوله:" السلف " ليس في (ح).
(3) قوله:" قضائهم " ليس في (ط).
(4) في (ح):" يأتي ".
(5) في (أ):" بلغنا ".(1/102)
وتفريق من فرق بين العلم الظاهر(1) والباطن فيه: فإن أراد بالظاهر غلبة ا لظن دون القطع فهو ما أردناه(2) وصوبناه، فهو خلاف في عبارة.
قال مسلم: " فإن عزب علي "، معناه: بعد عني، يقال: عزب يعزب ويعزب، قال الله عز وجل:{ وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة }؛ أي: يبعد ويغيب، ومنه سمي العزب لبعده عن(3) النساء.
ذكر مسلم حديث عروة عن عائشة: " كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحله ولحرمه(4)"، أي: لإحرامه ولإحلاله(5) منه.
بالوجهين قيدناه عن شيوخنا: ضم الحاء وكسرها(6)، وبالضم قيده الهروي والخطابي، وخطأ الخطابي أصحاب الحديث في كسره، وقيده ثابت بالكسر، وحكى عن أصحاب الحديث ضمه وخطأهم، وقال: " صوابه الكسر، كما قال: " لحله ".
وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ مُنْتَحِلِي الْحَدِيثِ مِنْ أَهْلِ عَصْرِنَا فِي تَصْحِيحِ الأَسَانِيدِ وَتَسْقِيمِهَا بِقَوْلٍ لَوْ ضَرَبْنَا عَنْ حِكَايَتِهِ، وَذِكْرِ فَسَادِهِ صَفْحًا لَكَانَ رَأْيًا مَتِينًا وَمَذْهَبًا صَحِيحًا.
__________
(1) في (ح):" والظاهر ".
(2) في حاشية (ح):"أوردناه "، وكتب فوقها:"صح، خ".
(3) في (ح):" من ".
(4) في (ح):" وحرمه ".
(5) في (ط):" وإحلاله ".
(6) في (ح):" بكسر الحاء وضمها "، وفي (ط):" بضم الحاء هو حرمه وكسرها ".(1/103)
إِذْ الإِعْرَاضُ عَنْ الْقَوْلِ الْمُطَّرَحِ أَحْرَى لإِمَاتَتِهِ، وَإِخْمَالِ ذِكْرِ قَائِلِهِ، وَأَجْدَرُ أَنْ لا يَكُونَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا لِلْجُهَّالِ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّا لَمَّا تَخَوَّفْنَا مِنْ شُرُورِ الْعَوَاقِبِ، وَاغْتِرَارِ الْجَهَلَةِ بِمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، وَإِسْرَاعِهِمْ إِلَى اعْتِقَادِ خَطَإِ الْمُخْطِئِينَ،وَالأَقْوَالِ السَّاقِطَةِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، رَأَيْنَا الْكَشْفَ عَنْ فَسَادِ قَوْلِهِ وَرَدَّ مَقَالَتِهِ بِقَدْرِ مَا يَلِيقُ بِهَا مِنْ الرَّدِّ،أَجْدَى عَلَى الأَنَامِ،وَأَحْمَدَ لِلْعَاقِبَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
ــــــــــــــــــ
وقد جاء في قراءة عبدالله بن مسعود وابن عباس: وحِرْم على قرية(1)" أي حرام(2)، والحِرم والحرام واحد.
اختلف الصحابة وأئمة الفتوى في تطييب المحرم عند الإحرام، فأجازه جماعة من الصحابة، ومن بعدهم من أئمة الفتوى، وكرهه آخرون، وهو قول مالك.
وحجة مجيزيه هذا الحديث.
وحجتنا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي سأله عنه بغسله ثلاث مرات، وتأولوا حديث عائشة رضي الله عنها خصوصًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - لملكه إربه ؛ إذ الطيب من دواعي الجماع، ولحاجته للقاء الملائكة، ولأنه روي في حديث عائشة رضي الله عنها: " ثم طاف على نسائه، ثم أصبح محرما فهذا يدل على أنه(3) غسله، وأن طيبه كان لطوافه على نسائه، لا لإحرامه، وسيأتي الكلام عليه في الحج.
__________
(1) في (ط) تشبه أن تكون:" قوله ".
(2) قوله:" أي حرام " ليس في (ح).
(3) في (ح):" أن ".(1/104)
وَزَعَمَ الْقَائِلُ الَّذِي افْتَتَحْنَا الْكَلامَ عَلَى الْحِكَايَةِ عَنْ قَوْلِهِ، وَالإِخْبَارِ عَنْ سُوءِ رَوِيَّتِهِ، أَنَّ كُلَّ إِسْنَادٍ لِحَدِيثٍ فِيهِ فُلانٌ عَنْ فُلانٍ وَقَدْ أَحَاطَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُمَا قَدْ كَانَا فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَى الرَّاوِي عَمَّنْ رَوَى عَنْهُ قَدْ سَمِعَهُ مِنْهُ وَشَافَهَهُ بِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لا نَعْلَمُ لَهُ مِنْهُ سَمَاعًا، وَلَمْ نَجِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُمَا الْتَقَيَا قَطُّ أَوْ تَشَافَهَا بِحَدِيثٍ أَنَّ الْحُجَّةَ لا تَقُومُ عِنْدَهُ بِكُلِّ خَبَرٍ جَاءَ هَذَا الْمَجِيءَ، حَتَّى يَكُونَ عِنْدَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُمَا قَدْ اجْتَمَعَا مِنْ دَهْرِهِمَا مَرَّةً فَصَاعِدًا، أَوْ تَشَافَهَا بِالْحَدِيثِ بَيْنَهُمَا أَوْ يَرِدَ خَبَرٌ فِيهِ بَيَانُ اجْتِمَاعِهِمَا، وَتَلاقِيهِمَا مَرَّةً مِنْ دَهْرِهِمَا فَمَا فَوْقَهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمُ ذَلِكَ، وَلَمْ تَأْتِ رِوَايَةٌ صَحِيحَةٌ تُخْبِرُ أَنَّ هَذَا الرَّاوِيَ عَنْ صَاحِبِهِ قَدْ لَقِيَهُ مَرَّةً وَسَمِعَ مِنْهُ شَيْئًا، لَمْ يَكُنْ فِي نَقْلِهِ الْخَبَرَ عَمَّنْ رَوَى عَنْهُ عِلْمُ ذَلِكَ، وَالأَمْرُ كَمَا وَصَفْنَا حُجَّةٌ، وَكَانَ الْخَبَرُ عِنْدَهُ مَوْقُوفًا حَتَّى يَرِدَ عَلَيْهِ سَمَاعُهُ مِنْهُ لِشَيْءٍ مِنْ الْحَدِيثِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ فِي رِوَايَةٍ مِثْلِ مَا وَرَدَ.
ــــــــــــــــــ
ذكر مسلم حديث عروة عن عائشة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله وأنا حائض ".
في هذا الحديث دليل على طهارة جسد الحائض، ولقوله- صلى الله عليه وسلم -: " إن حيضتك ليست في يدك ".
وحجة على الشافعي - رضي الله عنه - أن يسير الملامسة غير معتبرة إلا مع مقارنة اللذة.(1/105)
وجواز ترجيل المعتكف شعره لحاجته وضرورته إليه، خلافا لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وحده.
بَاب صِحَّةِ الاحْتِجَاجِ بِالْحَدِيثِ الْمُعَنْعَنِ
وَهَذَا الْقَوْلُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فِي الطَّعْنِ فِي الأَسَانِيدِ قَوْلٌ مُخْتَرَعٌ مُسْتَحْدَثٌ، غَيْرُ مَسْبُوقٍ صَاحِبُهُ إِلَيْهِ، وَلا مُسَاعِدَ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْلَ الشَّائِعَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالأَخْبَارِ وَالرِّوَايَاتِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا: أَنَّ كُلَّ رَجُلٍ ثِقَةٍ رَوَى عَنْ مِثْلِهِ حَدِيثًا، وَجَائِزٌ مُمْكِنٌ لَهُ لِقَاؤُهُ وَالسَّمَاعُ مِنْهُ لِكَوْنِهِمَا جَمِيعًا كَانَا فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ فِي خَبَرٍ قَطُّ أَنَّهُمَا اجْتَمَعَا وَلا تَشَافَهَا بِكَلامٍ فَالرِّوَايَةُ ثَابِتَةٌ، وَالْحُجَّةُ بِهَا لازِمَةٌ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ دَلالَةٌ بَيِّنَةٌ أَنَّ هَذَا الرَّاوِيَ لَمْ يَلْقَ مَنْ رَوَى عَنْهُ، أَوْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئًا، فَأَمَّا وَالأَمْرُ مُبْهَمٌ عَلَى الإِمْكَانِ الَّذِي فَسَّرْنَا، فَالرِّوَايَةُ عَلَى السَّمَاعِ أَبَدًا حَتَّى تَكُونَ الدَّلالَةُ الَّتِي بَيَّنَّا.
فَيُقَالُ لِمُخْتَرِعِ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي وَصَفْنَا مَقَالَتَهُ، أَوْ لِلذَّابِّ عَنْهُ قَدْ أَعْطَيْتَ فِي جُمْلَةِ قَوْلِكَ: أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الثِّقَةِ عَنْ الْوَاحِدِ الثِّقَةِ حُجَّةٌ يَلْزَمُ بِهِ الْعَمَلُ، ثُمَّ أَدْخَلْتَ فِيهِ الشَّرْطَ بَعْدُ فَقُلْتَ: حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهُمَا قَدْ كَانَا الْتَقَيَا مَرَّةً فَصَاعِدًا أَوْ سَمِعَ مِنْهُ شَيْئًا، فَهَلْ تَجِدُ هَذَا الشَّرْطَ الَّذِي اشْتَرَطْتَهُ عَنْ أَحَدٍ يَلْزَمُ قَوْلُهُ، وَإِلاَّ فَهَلُمَّ دَلِيلاً عَلَى مَا زَعَمْتَ.
ــــــــــــــــــ(1/106)
وفيه: أن الحائض لا تدخل المسجد لإخراج النبي - عليه السلام - فيه رأسه منه إليها، وفيه خروج المعتكف من المسجد لحاجته، وجواز شغله(1) الخفيف بما فيه مصلحته(2)، وجواز اجتماعه بأهله ونسائه، ما لم يتلذذ منهن بشيء(3) إذا كان يملك إربه، وعرف من نفسه القوة والسلامة.
وأن الاعتكاف لا يكون في غير المسجد.
وسيأتي بقية الكلام عليه في الاعتكاف.
فَإِنْ ادَّعَى قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ بِمَا زَعَمَ مِنْ إِدْخَالِ الشَّرِيطَةِ فِي تَثْبِيتِ الْخَبَرِ طُولِبَ بِهِ، وَلَنْ يَجِدَ هُوَ وَلا غَيْرُهُ إِلَى إِيجَادِهِ سَبِيلاً، وَإِنْ هُوَ ادَّعَى فِيمَا زَعَمَ دَلِيلاً يَحْتَجُّ بِهِ، قِيلَ لَهُ: وَمَا ذَاكَ الدَّلِيلُ ؟ فَإِنْ قَالَ: قُلْتُهُ لأَنِّي وَجَدْتُ رُوَاةَ الأَخْبَارِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا يَرْوِي أَحَدُهُمْ عَنْ الآخَرِ الْحَدِيثَ وَلَمَّا يُعَايِنْهُ وَلا سَمِعَ مِنْهُ شَيْئًا قَطُّ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ اسْتَجَازُوا رِوَايَةَ الْحَدِيثِ بَيْنَهُمْ هَكَذَا عَلَى الإِرْسَالِ مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ، وَالْمُرْسَلُ مِنْ الرِّوَايَاتِ فِي أَصْلِ قَوْلِنَا وَقَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالأَخْبَارِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، احْتَجْتُ لِمَا وَصَفْتُ مِنْ الْعِلَّةِ إِلَى الْبَحْثِ عَنْ سَمَاعِ رَاوِي كُلِّ خَبَرٍ عَنْ رَاوِيهِ، فَإِذَا أَنَا هَجَمْتُ عَلَى سَمَاعِهِ مِنْهُ لأَدْنَى شَيْءٍ ثَبَتَ عَنْهُ عِنْدِي بِذَلِكَ جَمِيعُ مَا يَرْوِي عَنْهُ بَعْدُ، فَإِنْ عَزَبَ عَنِّي مَعْرِفَةُ ذَلِكَ أَوْقَفْتُ الْخَبَرَ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدِي مَوْضِعَ حُجَّةٍ لإِمْكَانِ الإِرْسَالِ فِيهِ.
__________
(1) في (ط):" أمره ".
(2) في (ح):" مصلحة ".
(3) في (ح):" بشيء منهن ".(1/107)
فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ فِي تَضْعِيفِكَ الْخَبَرَ وَتَرْكِكَ الاحْتِجَاجَ بِهِ إِمْكَانَ الإِرْسَالِ فِيهِ، لَزِمَكَ أَنْ لا تُثْبِتَ إِسْنَادًا مُعَنْعَنًا حَتَّى تَرَى فِيهِ السَّمَاعَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ.
ــــــــــــــــــ
قال مسلم: " روى الزهري وصالح بن أبي حسان عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها:" كان(1) النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبّل، وهو صائم ".
قال الإمام: " قال بعضهم في نسخة الرازي: روى الزهري وصالح بن كيسان، وهو وهم، والصواب: صالح بن أبي حسان.
وهذا الحديث ذكره النسائي وغيره، من طريق ابن وهب عن ابن أبي ذئب عن صالح بن أبي حسان ".
وَذَلِكَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ عَلَيْنَا بِإِسْنَادِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، فَبِيَقِينٍ نَعْلَمُ أَنَّ هِشَامًا قَدْ سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ، وَأَنَّ أَبَاهُ قَدْ سَمِعَ مِنْ عَائِشَةَ، كَمَا نَعْلَمُ أَنَّ عَائِشَةَ قَدْ سَمِعَتْ مِنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَقَدْ يَجُوزُ إِذَا لَمْ يَقُلْ هِشَامٌ فِي رِوَايَةٍ يَرْوِيهَا عَنْ أَبِيهِ: سَمِعْتُ، أَوْ أَخْبَرَنِي ؛ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ إِنْسَانٌ آخَرُ أَخْبَرَهُ بِهَا عَنْ أَبِيهِ، وَلَمْ يَسْمَعْهَا هُوَ مِنْ أَبِيهِ، لَمَّا أَحَبَّ أَنْ يَرْوِيَهَا مُرْسَلاً، وَلا يُسْنِدَهَا إِلَى مَنْ سَمِعَهَا مِنْهُ.
وَكَمَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ، فَهُوَ أيضًا مُمْكِنٌ فِي أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ.
وَكَذَلِكَ كُلُّ إِسْنَادٍ لِحَدِيثٍ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ سَمَاعِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ.
__________
(1) في (أ):" قالت كان ".(1/108)
وَإِنْ كَانَ قَدْ عُرِفَ فِي الْجُمْلَةِ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْ سَمِعَ مِنْ صَاحِبِهِ سَمَاعًا كَثِيرًا، فَجَائِزٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَنْزِلَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَةِ فَيَسْمَعَ مِنْ غَيْرِهِ عَنْهُ بَعْضَ أَحَادِيثِهِ، ثُمَّ يُرْسِلَهُ عَنْهُ أَحْيَانًا وَلا يُسَمِّيَ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ، وَيَنْشَطَ أَحْيَانًا فَيُسَمِّيَ الرَّجُلَ الَّذِي حَمَلَ عَنْهُ الْحَدِيثَ، وَيَتْرُكَ الإِرْسَالَ وَمَا قُلْنَا مِنْ هَذَا مَوْجُودٌ فِي الْحَدِيثِ مُسْتَفِيضٌ مِنْ فِعْلِ ثِقَاتِ الْمُحَدِّثِينَ وَأَئِمَّةِ ــــــــــــــــــ
قال القاضي: قال الجياني: وصالح بن أبي حسان مدني ثقة(1)"، وقال البخاري: " صالح بن أبي حسان سمع سعيد بن المسيب، وأبا سلمة، روى عنه بكير بن الأشج وابن أبي ذئب ".
قال القاضي: وكذا رويناه على الصواب عن أبي بحر عن أبي الفتح الشاشي عن عبدالغافر(2) الفارسي، وكذا(3) روايتنا عن أبي محمد الخشني عن أبيه عن أبي حفص الهوزني عن أبي عبدالله الباجي عن ابن ماهان.
وقوله في الحديث: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل وهو صائم ".
أَهْلِ الْعِلْمِ، وَسَنَذْكُرُ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا عَدَدًا يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى أَكْثَرَ مِنْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيَّ وَابْنَ الْمُبَارَكِ، وَوَكِيعًا، وَابْنَ نُمَيْرٍ، وَجَمَاعَةً غَيْرَهُمْ رَوَوْا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِحِلِّهِ وَلِحِرْمِهِ بِأَطْيَبِ مَا أَجِدُ.
__________
(1) في (ح):" ثقة مدني ".
(2) في (ح):" عن أب الفتح عن عبدالغفار ".
(3) في (ح):" كذا " بدون الواو.(1/109)
فَرَوَى هَذِهِ الرِّوَايَةَ بِعَيْنِهَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَدَاوُدُ الْعَطَّارُ، وَحُمَيْدُ بْنُ الأَسْوَدِ، وَوُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُثْمَانُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا اعْتَكَفَ يُدْنِي إِلَيَّ رَأْسَهُ فَأُرَجِّلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ.
فَرَوَاهَا بِعَيْنِهَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ وَصَالِحُ بْنُ أَبِي حَسَّانَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ.
ــــــــــــــــــ
اختلف العلماء في إباحة القبلة للصائم، فأباحها قوم على الإطلاق وكرهها آخرون، وهو قول مالك، ورخصت فيه طائفة للشيخ دون الشاب، وحكاه الخطابي عن مالك، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وروى ابن وهب عن مالك إباحتها في النافلة وكراهيتها(1) في الفريضة ونحوه لابن حبيب عنه.
فَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ فِي هَذَا الْخَبَرِ فِي الْقُبْلَةِ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخْبَرَهُ: أَنَّ عُرْوَةَ أَخْبَرَهُ: أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ. وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَطْعَمَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لُحُومَ الْخَيْلِ، وَنَهَانَا عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ.
__________
(1) في (ح):" كراهتها ".(1/110)
فَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وَهَذَا النَّحْوُ فِي الرِّوَايَاتِ كَثِيرٌ يَكْثُرُ تَعْدَادُهُ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنْهَا كِفَايَةٌ لِذَوِي الْفَهْمِ.
ــــــــــــــــــ
وقوله في الرواية الأخرى(1) " يقبلها "، فيه جواز الإخبار عما يكون من مثل بين(2) من الرجل وعياله على الجملة دون التفسير، فإن ذلك منهي عنه، ولفائدة تحمل على ذكره.
وسيأتي الكلام على المسألتين في الطهارة والصيام.
وذكر في حديث جابر: " أطعمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحوم الخيل ونهاناعن لحوم الحمر الأهلية ".
اختلفت الأحاديث في لحوم الخيل، ففي حديث جابر هذاما رأيت، وفي حديث خالد بن الوليد النهي عن لحوم الخيل والبغال والحمير.
وكره أكل لحوم الخيل: مالك وأهل الرأي، وروي عن ابن عباس وقال الحكم(3): هي حرام.
ورخصت في ذلك طائفة من التابعين، وذهب إليه الشافعي(4).
__________
(1) قوله:" الأخرى " ليس في (أ).
(2) في (أ) و(ط):" من ".
(3) في (ط):" الحاكم ".
(4) في (ح):" وإليه ذهب الشافعي ".(1/111)
فَإِذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ عِنْدَ مَنْ وَصَفْنَا قَوْلَهُ مِنْ قَبْلُ فِي فَسَادِ الْحَدِيثِ وَتَوْهِينِهِ إِذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ سَمِعَ مِمَّنْ رَوَى عَنْهُ شَيْئًا إِمْكَانَ الإِرْسَالَ فِيهِ، لَزِمَهُ تَرْكُ الاحْتِجَاجِ فِي قِيَادِ قَوْلِهِ: بِرِوَايَةِ مَنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ سَمِعَ مِمَّنْ رَوَى عَنْهُ، إِلاَّ فِي نَفْسِ الْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ السَّمَاعِ، لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ عَنْ الأَئِمَّةِ الَّذِينَ نَقَلُوا الأَخْبَارَ أَنَّهُمْ كَانَتْ لَهُمْ تَارَاتٌ يُرْسِلُونَ فِيهَا الْحَدِيثَ إِرْسَالاً، وَلا يَذْكُرُونَ مَنْ سَمِعُوهُ مِنْهُ، وَتَارَاتٌ يَنْشَطُونَ فِيهَا فَيُسْنِدُونَ الْخَبَرَ عَلَى هَيْئَةِ مَا سَمِعُوا، فَيُخْبِرُونَ بِالنُّزُولِ فِيهِ إِنْ نَزَلُوا، وَبِالصُّعُودِ إِنْ صَعِدُوا، كَمَا شَرَحْنَا ذَلِكَ عَنْهُمْ.
ــــــــــــــــــ
وحجة المانعين لأكل جميعها: نص الله على منافعها، ولم يذكر فيها الأكل كما ذكر في الأنعام.
وأما لحوم الحمر فمكروهة عند بعضهم، محرمة عند الأكثر، إلا شيئًا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفي المذهب عندنا فيها الوجهان.
وسيأتي الكلام عليها متسعا في الأطعمة.
قال مسلم عن ا لرواة: " فيخبرون بالنزول إذا نزلوا، وبالصعود إذا صعدوا ".
يريد بذلك في الروايات، والنزول فيها هي الرواية عن الأقران وطبقة المحدث ومن دونه(1)، أو سند يوجد أعلى منه وأقل رجالا.
والصعود: الرواية بالسند العالي، والقرب فيه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقلة عدد رجاله، أو من إمام مشهور حدث به.
__________
(1) قوله:" ومن دونه " ليس في (أ).(1/112)
وَمَا عَلِمْنَا أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ مِمَّنْ يَسْتَعْمِلُ الأَخْبَارَ، وَيَتَفَقَّدُ صِحَّةَ الأَسَانِيدِ وَسَقَمَهَا مِثْلَ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ وَابْنِ عَوْنٍ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَشُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، فَتَّشُوا عَنْ مَوْضِعِ السَّمَاعِ فِي الأَسَانِيدِ كَمَا ادَّعَاهُ الَّذِي وَصَفْنَا قَوْلَهُ مِنْ قَبْلُ.
ــــــــــــــــــ
هذا هو طريق أهل الصنعة ومذهبهم، وهو غاية جهدهم وحرصهم، وبمقدار علو حديث الواحد منهم تكثر الرحلة إليه والأخذ عنه، مع أن له في طريق التحقيق والنظر وجها ، وهو أن أخبار الآحاد وروايات الأفراد لا توجب - كما قدمنا - علما، ولا يقطع على مغيب صدقها، لجواز الغفلات والأوهام والكذب على آحاد الرواة، لكن لمعرفتهم بالصدق ظاهرا، وشهرتهم بالعدالة والستر غلب على الظن صحة حديثهم وصدق خبرهم فكلفنا العمل به، وقامت الحجة بذلك بظاهر الأوامر الشرعية، ومعلوم إجماع سلف هذه الأمة، ومغيب أمر ذلك كله لله تعالى.
وتجويز الوهم والغلط(1) غير مستحيل في كل راو ممن سمي في سند الخبر، فإذا كثروا، وطال السند كثرت مظان(2) النجويز، وكلما قل العدد قلت، حتى إن من سمع الحديث من التابعي المشهور عن الصحابي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أقوى طمأنينة بصحة حديثه، ثم من سمعه من الصحابي كان أعلى درجة في قوة الطمأنينة، وإن كان الوهم والنسيان جائزا على البشر، حتى إذا سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ارتفعت أسباب التجويز، وانسدت أبواب احتمالات الوهم وغير
__________
(1) في (ح):" والخطأ ".
(2) في (ح):" مطاعن "، وفي الحاشية:"مظان "، وكتب فوقها:"صح، خ".(1/113)
وَإِنَّمَا كَانَ تَفَقُّدُ مَنْ تَفَقَّدَ مِنْهُمْ سَمَاعَ رُوَاةِ الْحَدِيثِ مِمَّنْ رَوَى عَنْهُمْ إِذَا كَانَ الرَّاوِي مِمَّنْ عُرِفَ بِالتَّدْلِيسِ فِي الْحَدِيثِ وَشُهِرَ بِهِ، فَحِينَئِذٍ يَبْحَثُونَ عَنْ سَمَاعِهِ فِي رِوَايَتِهِ، وَيَتَفَقَّدُونَ ذَلِكَ مِنْهُ، كَيْ تَنْزَاحَ عَنْهُمْ عِلَّةُ التَّدْلِيسِ.
فَمَنْ ابْتَغَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مُدَلِّسٍ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي زَعَمَ مَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ فَمَا سَمِعْنَا ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ سَمَّيْنَا وَلَمْ نُسَمِّ مِنْ الأَئِمَّةِ.
ــــــــــــــــــ
ذلك، للقطع أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز عليه شيء من ذلك في باب التبليغ والخبر، وأن جميع ما يخبر به - صلى الله عليه وسلم - صدق وحق(1).
قال مسلم: " إذا كان الراوي عرف بالتدليس ".
قال القاضي: التدليس لقب وضعته أئمة هذه الصنعة(2) على من أبهم بعض رواياته لمعان مختلفة، وأغراض متباينة، وقد كان هذا من عصر التابعين إلى هلم جرا، وذكر عن جماعة من جلة الأئمة، ولم يضر ذلك حديثهم لصحة أغراضهم وسلامتهما، وأضر ذلك بغيرهم، وهو على أمثلة:
فمنه أن سفيان بن عيينة - على جلالته - من كبار أصحاب الزهري، وسمع منه كثيرا، وأخذ عن أصحابه كثيرا مما لم يسمعه من(3) الزهري، فربما حدث فقال: " الزهري "، أو قال: "قال الزهري عن فلان(4)" وقد عرف بالتدليس، فسئل فمرة يقول :" سمعته منه "، ومرة يقول: " حدثني به عنه فلان، أو فلان عن فلان عنه ".
ومن لا يدلس مثل مالك، وشعبة، لا يقول مثل هذا، بل يبين من حدثه(5) عنه، أو يقول: " بلغني "، قال شعبة: " لأن أزني أحب إلي من أن أدلس ".
__________
(1) في (أ):" حق وصدق ".
(2) في (ح):" وضعته أئمة الفتوى وأئمة هذه الصنعة ".
(3) في (ح):" عن ".
(4) في (ط):" قال الزهري أو عن الزهري عن فلان ".
(5) في (ح):" حدث ".(1/114)
فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ الأَنْصَارِيَّ، وَقَدْ رَأَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَدْ رَوَى عَنْ حُذَيْفَةَ، وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ، وَعَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثًا يُسْنِدُهُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُمَا ذِكْرُ السَّمَاعِ مِنْهُمَا، وَلا حَفِظْنَا فِي شَيْءٍ مِنْ الرِّوَايَاتِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ شَافَهَ حُذَيْفَةَ وَأَبَا مَسْعُودٍ بِحَدِيثٍ قَطُّ، وَلا وَجَدْنَا ذِكْرَ رُؤْيَتِهِ إِيَّاهُمَا فِي رِوَايَةٍ بِعَيْنِهَا.
ــــــــــــــــــ
ولكن أمثال أولئك الجلة ممن استسهل(1) التدليس إذا سئلوا أحالوا على الثقات، فحمل حديثهم، وقام تدليسهم مقام المرسل.
وحجة بعضهم أن يكونوا قد سمعوه من جماعة من الثقات عن هذا الرجل، فاستغنوا بذكره عن ذكر أحدهم أو ذكر جميعهم لتحقيقهم صحة الحديث عنه، كما يفعل في المراسيل (2).
ومنهم من أراد أن لا ينزل حديثه، وأن يعلو بذكره الشيخ دون من دونه(3): لصحة روايته عنه غير هذا، وتحقيقه أن الثقات حدثت به عنه.
[لكن هذا كله غير محمود، وعمل لغير الله ؛ بل للظهور، وصرف القلوب، وترغيب الطالب للأخذ عنهم، دون غيرهم ممن يبيِّن نزوله ولم يدلس ](4).
__________
(1) في (ح):" استهلوا ".
(2) في (ح):" بالمراسيل "، وفي الحاشية (ح):"في"، وكتب فوقها:"صح، خ"..
(3) في (ح):" ما دونه ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ).(1/115)
وطبقة أخرى جاءوا إلى رجال مشاهير، ثقات، أئمة، سمعوا حديثهم، وجرت بينهم مباعدة(1) حملتهم على إبهامهم، وأن لا يصرحوا بأسمائهم المشهورة(2) ولم تحملهم ديانتهم على ترك الحديث عنهم، كما صنع البخاري في حديثه عن محمد بن يحيى الذُّهْلي، لما جرى بينه وبينه، فمرة تجده(3) يقول: " حدثنا محمد "، لا يزيد، وثانية يقول: " حدثنا محمد بن خالد " وَلَمْ نَسْمَعْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِمَّنْ مَضَى، وَلا مِمَّنْ أَدْرَكْنَا أَنَّهُ طَعَنَ فِي هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ اللَّذَيْنِ رَوَاهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ عَنْ حُذَيْفَةَ وَأَبِي مَسْعُودٍ بِضَعْفٍ فِيهِمَا، بَلْ هُمَا وَمَا أَشْبَهَهُمَا عِنْدَ مَنْ لاقَيْنَا مَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ مِنْ صِحَاحِ الأَسَانِيدِ وَقَوِيِّهَا، يَرَوْنَ اسْتِعْمَالَ مَا نُقِلَ بِهَا، وَالاحْتِجَاجَ بِمَا أَتَتْ مِنْ سُنَنٍ وَآثَارٍ.
ــــــــــــــــــ
ينسبه إلى جده(4) الأعلى، ومرة يقول(5): " نا محمد بن عبدالله " ينسبه إلى جده الأدنى.؟
[وربما فرقوا اسم الشيخ أيضًا وخالفوا به، تجميلا للإسناد: لئلا يتكرر الحديث عنه](6).
وطبقة أخرى رووا الحديث عن ضعيف أو مجهول(7) عن الشيخ، فسكتوا عنه، واقتصروا على ذكر الشيخ ؛ إذ عرف سماعهم منه لغير(8) هذا الحديث.
__________
(1) في (أ):" بمناعدة ".
(2) في (أ):" المشهدة ".
(3) في (ط):" نجده ".
(4) في (ح):" الجد ".
(5) من قوله:" حدثنا محمد لا يزيد...." إلى هنا ليس في (ط).
(6) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(7) في (ح):" عن مجهول أو ضعيف ".
(8) في (أ):" بغير ".(1/116)
وطبقة أخرى رووا عن ضعفاء لهم أسماء أو كنى مشهورة(1) عرفوا بها، فلو صرحوا بأسمائهم المشهورة، أو كناهم المعلومة، لم يشتغل بحديثهم، فأتوا بالاسم الخامل مكان الكنية المشهورة، أو بالكنية المجهولة عوض الاسم المعلوم، ليبهموا(2) الأمر ولئلا يعرف ذلك الراوي وضعفه، فيزهد في حديثهم.
وطبقة أخرى رووا عن ضعيف له كنية أو اسم(3) يشاركه فيها رجل مقبول الحديث، وقد حدث عنهما جميعا، فيطلق الحديث بالكنية أو الاسم(4) ليدخل الإشكال، ويقع على السامع اللبس، ويظن أنه ذلك القوي.
وَهِيَ فِي زَعْمِ مَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ مِنْ قَبْلُ وَاهِيَةٌ مُهْمَلَةٌ، حَتَّى يُصِيبَ سَمَاعَ الرَّاوِي عَمَّنْ رَوَى، وَلَوْ ذَهَبْنَا نُعَدِّدُ الأَخْبَارَ الصِّحَاحَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِمَّنْ يَهِنُ بِزَعْمِ هَذَا الْقَائِلِ وَنُحْصِيهَا لَعَجَزْنَا عَنْ تَقَصِّي ذِكْرِهَا وَإِحْصَائِهَا كُلِّهَا.
وَلَكِنَّا أَحْبَبْنَا أَنْ نَنْصِبَ مِنْهَا عَدَدًا يَكُونُ سِمَةً لِمَا سَكَتْنَا عَنْهُ مِنْهَا.
ــــــــــــــــــ
وهذه الطرق كلها - غير الأوليين(5)- رديئة، قد أضرت بأصحابها، وسببت الوقوف في كثير من حديثهم، إلا ما(6) صرح به الثقات منهم بالسماع عن(7) الثقات ونصوا عليه وبينوه.
ولهذا ما وقفوا(8) فيما دلسه الأعمش لروايته عن الضعفاء، وفيما دلسه بقية بن الوليد، لخلطه الأسماء والكنى.
ولم يستريبوا فيما دلسه ابن عيينة والثوري، وضرباؤهم(9) ممن لايروي إلا عن ثقة.
__________
(1) في (أ):" مشهدة ".
(2) في (ح):" وليبهموا ".
(3) قوله:" أو اسم " ليس في (أ) و(ح).
(4) قوله:" أو الاسم " ليس في (أ) و(ح).
(5) في (ط):" الأولتين ".
(6) في (ط):" بما ".
(7) في (ح):" من ".
(8) في (ح):" وقفوا به ".
(9) في (أ):" وضربائهما ".(1/117)
واختلف(1) أئمة الحديث في قبول حديث(2) من عرف بالتدليس إذا لم ينص على سماعه، فجمهورهم على قبول حديث من عرف منهم أنه لا يروي إلا عن ثقة [ كما قالوا في حديث من علم أنه لا يرسل إلا عن ثقة](3)، وعلى ترك حديث المسامحين في الأخذ، وترك الحجة به حتى ينص على سماعه.
وقد ذكر أبو عبدالله الحاكم الاختلاف في ذلك، كما قدمناه.
ذكر مسلم في حجته في صحة إسناد حديث المتعاصرين، آخر صدر كتابه، رواية قوم من الصحابة، والمخضرمين، وأئمة التابعين، عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحاديث عدها ولم يعينها.
وَهَذَا أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ وَأَبُو رَافِعٍ الصَّائِغُ، وَهُمَا مَنْ أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ، وَصَحِبَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْبَدْرِيِّينَ هَلُمَّ جَرًّا، وَنَقَلا عَنْهُمْ الأَخْبَارَ حَتَّى نَزَلا إِلَى مِثْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَذَوِيهِمَا، قَدْ أَسْنَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثًا، وَلَمْ نَسْمَعْ فِي رِوَايَةٍ بِعَيْنِهَا أَنَّهُمَا عَايَنَا أُبَيًّا، أَوْ سَمِعَا مِنْهُ شَيْئًا.
ــــــــــــــــــ
ومن حق الباحث المفتش لفوائد كتابه، والحق عليه، أن يجد في البحث، ويجيد النظر حتى يتعين له مجهولها، ويتفسر(4) مبهمها، وتتعرف(5) نكرتها.
وقد بحثنا عن ذلك حتى وقفنا على حقيقة منها، ورحم الله شيخنا القاضي الشهيد أبا علي الحافظ(6) فقد كفانا في ذلك تعبا طويلاً، وأوضح لنا هنالك سبيلاً.
__________
(1) في (ح):" اختلف ".
(2) قوله:" حديث " ليس في (ح).
(3) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(4) في (ط):" وتتفسر ".
(5) في (ح):" ويتعرف ".
(6) قوله:" أبو علي الحافظ " ليس في (أ) و(ح).(1/118)
وقد رأينا أن نبين هذه الأحاديث بذكر أطرافها، ليعلم أعيانها من لم يمهر في هذه الصنعة، ولا جعل شغله حفظ أصولها(1).
قال مسلم: " فمن ذلك أن عبدالله بن يزيد الأنصاري - وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - - قد(2) روى عن حذيفة وأبي مسعود الأنصاري عن كل واحد منهما حديثا يسنده(3) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - "، ولم يفسر مسلم الحديثين.
قال القاضي: أما حديثه عن أبي مسعود رضي الله عنهما فهو حديث " نفقة الرجل على أهله "، وقد خرجه الإمامان في "صحيحيهما".
وأما حديثه عن حذيفة فهو قوله: " أخبرني النبي - صلى الله عليه وسلم - بما هو كائن... الحديث " خرجه(4) مسلم.
وَأَسْنَدَ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ، وَهُوَ مِمَّنْ أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ، وَكَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً، وَأَبُو مَعْمَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَخْبَرَةَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - خَبَرَيْنِ.
ــــــــــــــــــ
وذكر مسلم أن أبا عثمان النهدي وأبا رافع الصائغ، وأنهما ممن أدرك الجاهلية وصحب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -من البدريين هلم جرا، وذكر أن كل واحد منهما أسند عن أبي هريرة وأبي بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا.
فأما حديث أبي عثمان عن أبي(5)، فقوله: " كان رجل(6) لا أعلم أحدًا أبعد بيتا من المسجد منه... الحديث "، وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - له: " أعطاك الله من احتسبت "، خرجه(7) مسلم.
__________
(1) في (ط):" الحديث " بدل كلمة:" أصولها ".
(2) في (ح):" وقد ".
(3) في (ح):" نسبه"، وفي (أ):" بسنده ".
(4) في (ح):" أخرجه ".
(5) في (ح):" أبي هريرة ".
(6) في (ح):" رجلاً ".
(7) في (ح):" أخرجه ".(1/119)
وأما حديث أبي رافع عنه فهو(1): " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف في العشر الأخر، فسافر عامًا، فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين يومًا "، خرجه(4) ابن أبي شيبة في مسنده.
وقول مسلم هنا " هلم جرا "، ليس موضعه ؛ لأنها إنما تستعمل فيما اتصل إلى زمان المتكلم بها، وإنما أراد بها مسلم: فمن بعدهم من الصحابة.
وذكر مسلم أن أبا عمرو الشيباني، وأبا(2) معمر عبدالله بن سخبرة(3) أسند كل واحد منهما عن أبي مسعود الأنصاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خبرين.
أما خبرا الشيباني فأحدهما: حديث " جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنه أبدع بي ".
والآخر: " جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بناقة مخطومة، فقال: لك بها يوم القيامة سبعمائة [ ناقة ](4)".
وَأَسْنَدَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثًا، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وُلِدَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
ــــــــــــــــــ
انفرد بهما(5) مسلم في "صحيحه".
وأما حديثا(6) أبي معمر، فأحدهما: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح مناكبنا في الصلاة " خرجه(7) مسلم. والآخر: " لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل صلبه فيها في الركوع " خرجه(5) ابن أبي شيبة.
قال مسلم: " وأسند عبيد بن عمير عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا "، هو قولها: " لما مات أبو سلمة، قلت: " غريبة(8) في أرض غربة، لأبكينه بكاء يتحدث به ". خرجه(1) مسلم.
__________
(1) قوله:" فهو " ليس في (ح).
(2) في (ط):" وأبو ".
(3) في (ح):" صخيرة ".
(4) قوله:" ناقة " ليس في (أ)و(ط).
(5) في (ح):" بها ".
(6) في (ح):" حديث ".
(7) في (ح):" أخرجه ".
(8) في (ح):" غريب " وكذا في "صحيح مسلم".(1/120)
قال مسلم: " وأسند قيس بن أبي حازم عن أبي مسعود الأنصاري ثلاثة أخبار ".
هي: حديث الإيمان ههنا(1).
وحديث " إن الشمس والقمر لا يكسفان لموت أحد(2)".
وحديث " لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان ".
أخرجها ثلاثتها(3) الإمامان.
قال مسلم: " وأسند عبدالرحمن بن أبي ليلى عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -حديثا "، هو حديث(4): " أمر أبو طلحة أم سليم: اصنعي طعاما للنبي - صلى الله عليه وسلم -"، خرجه(1) مسلم.
وَأَسْنَدَ قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَقَدْ أَدْرَكَ زَمَنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثَلاثَةَ أَخْبَارٍ.
وَأَسْنَدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى، وَقَدْ حَفِظَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَصَحِبَ عَلِيًّا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثًا.
ــــــــــــــــــ
قال: " وأسند ربعي بن حراش(5) عن عمران بن حصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثين".
أحدهما: في إسلام حصين أبي عمران .
والآخر قوله: " كان عبدالمطلب(6) خيرًا لقومك منك "، ذكره ابن أبي شيبة.
وذكر له عن أبي بكرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا، هو: " إذا المسلمان(7) حمل أحدهما على أخيه ا لسلاح، فهما(8) على جرف جهنم" رواه مسلم، وأشار إليه البخاري في الإيمان.
قال: " وأسند نافع بن جبير بن مطعم عن أبي شريح الخزاعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا.
__________
(1) في (أ):" هنا ".
(2) قوله:" لموت أحد " ليس في (ط).
(3) قوله:" ثلاثتها " ليس في (ح).
(4) قوله:" حديث " ليس في (أ) و(ط).
(5) في (ح):" خراش ".
(6) في (ح):" عبدالملك "، وفي حاشيتها:"المطلب"، وكتب فوقها:" خ".
(7) في (ط):" إذا التقى المسلمان ".
(8) في (ح):" فهو ".(1/121)
هو قوله: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره " خرجه مسلم.
قال :" وأسند النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أحاديث هي: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه من النار سبعين خريفا ".
وَأَسْنَدَ رِبْعِيُّ بْنُ حِرَاشٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثَيْنِ، وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثًا، وَقَدْ سَمِعَ رِبْعِيٌّ مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَرَوَى عَنْهُ.
ــــــــــــــــــ
والثاني: " إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها..." خرجهما معا الإمامان.
والثالث: " إن أدنى أهل الجنة منزلة من صرف الله وجهه عن النار " الحديث خرجه(1) مسلم.
قال:" وأسند سليمان بن يسار عن رافع بن خديج عن النبي - صلى الله عليه وسلم -حديثا ".
هو حديثه في المحاقلة ، خرجه مسلم.
قال: " وأسند حميد بن عبدالرحمن الحميري(2) عن أبي هريرة أحاديث"، ولم يعدها مسلم، قال القاضي رحمه الله: منها في هذا الكتاب:" أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم ".
هذه جملة الأحاديث التي نبه عليها مسلم، ولم يعينها، وقد(3) نبهنا على(4) أطرافها، ليتنبه بها من طالع شيئًا من علم الحديث، واشتغل به، وعرف الأحاديث على الجملة، فيعلم بالطرف بقية الحديث، وليهتدي بما ذكرناه من لا علم عنده منها، فيطلبها في مظانها من هذه الكتب.
وإنما اقتصرنا على ذكرها في المواضع التي نبهنا عليها من هذه ا لكتب، وإن كانت موجودة فيها وفي غيرها من التصانيف، لكن بأسانيد غير التي أشار إليها مسلم.
وسيأتي الكلام على ما خرج منها مسلم في مواضعه، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) في (ح):" أخرجه ".
(2) قوله:" االحميري " ليس في (ح).
(3) في (ح):" قد " بدون واو.
(4) في (ح):" عن ".(1/122)
وَأَسْنَدَ نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ، عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثًا.
وَأَسْنَدَ النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ثَلاثَةَ أَحَادِيثَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
وَأَسْنَدَ عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثًا.
ــــــــــــــــــ
ذكر مذهب(1) مسلم في كتابه في أداء الحديث، والفرق بين " نا" و " أنا" و " أنبأنا ".
وذهب معظم الحجازيين والكوفيين إلىأن " نا " و" أنا " واحد، وأن القراءة على الشيخ كالسماع من لفظه، يجوز في ذلك: " نا " و " أنا " و "أنبأنا "، وهو قول مالك، والزهري وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، ومنصور، وأيوب، ومعمر، والحسن، وعطاء بن أبي رباح، واختلف فيه على أبي حنيفة وابن جريج، والثوري، وهو مذهب البخاري، وجماعة من المحدثين والمحققين، وهو قول الحسن(2) في القراءة، وذكر مالك أنه مذهب متقدمي أئمة المدينة، وروي عن علي وابن عباس - رضي الله عنهم -: " القراءة على العالم كقراءته عليك ".
وأجاز بعضهم في القراءة :" سمعت فلانا " وهو قول الثوري.
وروي عن مالك أن القراءة على العالم أحب إليه من السماع منه، لأنه أثبت للراوي، وعلل ذلك بأن ا لشيخ قد يهم، فلا يرد عليه ؛ إذ لا
وَأَسْنَدَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثًا.
ــــــــــــــــــ
يعلم وهمه، وقد يعلم فيوقر، ومثل هذا لا يتخيل من الشيخ للقارئ، فهو يعلم ما أخطأ القارئ فيه من حديثه، ويرده عليه، واحتج لذلك بقراءة الصكوك على من عليه الحق، وأن(3) إقراره بذلك يلزمه.
__________
(1) قوله:" مذهب " ليس في (ح).
(2) في (ح):" الحسين ".
(3) في (ح):" أن " بدون واو.(1/123)
وأبى جمهور أهل المشرق من إطلاق " نا " في القراءة على العالم، وأجازوا فيه " أنا "، ليفرقوا بين الموضعين، وسموا القراءة عرضا، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي في آخرين وإليه ذهب مسلم.
وقالوا: " إن أول من أحدث الفرق بين هذين ا للفظين: ابن وهب بمصر".
وقالوا:« لا يكون " نا " إلا في المشافهة من المخبر(1)».
وقال بعضهم: " لا يقول "حدثنا " و " أخبرنا " إلا فيما سمع من الشيخ، وليقل: " قرأت "، و " قرئ(2) عليه وأنا أسمع "، وإلى هذا ينحو يحيى بن يحيىالتميمي، وابن المبارك، وابن حنبل، والنسائي، وجماعة.
وحكي عن إسحق بن راهويه، وغيره، أنه اختار في السماع والقراءة: "أنا "، وأنه أعم من " نا ".
وشرط بعض أهل الظاهر في صحة الإخبار بالقراءة أن يقول القارئ للشيخ(3):" هو كما قرأته عليك ؟ "، فيقول: " نعم "، وأباه إذا سكت القارئ ولم يقرره هذا التقرير.
وَأَسْنَدَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَحَادِيثَ.
فَكُلُّ هَؤُلاءِ التَّابِعِينَ الَّذِينَ نَصَبْنَا رِوَايَتَهُمْ عَنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ سَمَّيْنَاهُمْ لَمْ يُحْفَظْ عَنْهُمْ سَمَاعٌ عَلِمْنَاهُ، مِنْهُمْ فِي رِوَايَةٍ بِعَيْنِهَا، وَلا أَنَّهُمْ لَقُوهُمْ فِي نَفْسِ خَبَرٍ بِعَيْنِهِ.
ــــــــــــــــــ
وقد جاء داخل الأم أشياء من هذا الباب في حديث يحيى بن يحيى عن مالك وغيره، وإن كان قد روي عن مالك إنكار مثل هذا لمن سأله، وقال له: " ألم أفرِّغ لكم(4) نفسي، وسمعت عرضكم، وأقمت سقطه وزلَلَهُ(5)؟".
وإلى ما ذهب إليه مالك من جواز الحديث بالقراءة دون التقرير(6) ذهب الجمهور.
__________
(1) في (ح):" الخبر ".
(2) في (ط):" أو قرئ ".
(3) في (ح):" الشيخ للقارئ ".
(4) في (ح):" لك ".
(5) في (ح):" زلَله وسقطه ".
(6) قوله:" بالقراءة دون التقرير " تكرر في (ك).(1/124)
ولم يختلفوا أنه يجوز أن يقول فيما سمع من لفظ الشيخ: " نا "، و" أنا "، و " سمعت "، و " قال لنا "، و" ذكرلنا".
واختار القاضي أبوبكر في أمة(1) من المحققين، أن يفصل بين السماع والقراءة(2)، فيطلق فيما سمع(3): " نا "، ويقيد فيما يقرأ: " نا أو أنا قراءة "، أو " قرأت عليه "، أو " سمعت يقرأ عليه "، ليزول إيهام(4) اختلاط أنواع الأخذ، وتظهر نزاهة الراوي وتحفظه.
وقد اصطلح متأخرو المحدثين على تفريق في هذا، فقال الحاكم أبو عبدالله: " الذي أختاره في الرواية، وعهدت عليه أكثر(5) مشايخي وأئمة عصري، أن يقال فيما يأخذه من المحدث لفظا وحده: " حدثني "، وإن كان معه غيره: " حدثنا "، وفيما قرأ عليه وحده: " أخبرني "، وما قرئ
وَهِيَ أَسَانِيدُ عِنْدَ ذَوِي الْمَعْرِفَةِ بِالأَخْبَارِ وَالرِّوَايَاتِ مِنْ صِحَاحِ الأَسَانِيدِ، لا نَعْلَمُهُمْ وَهَّنُوا مِنْهَا شَيْئًا قَطُّ وَلا الْتَمَسُوا فِيهَا سَمَاعَ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، إِذْ السَّمَاعُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُمْكِنٌ مِنْ صَاحِبِهِ غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ ؛ لِكَوْنِهِمْ جَمِيعًا كَانُوا فِي الْعَصْرِ الَّذِي اتَّفَقُوا فِيهِ.
ــــــــــــــــــ
عليه وهو حاضر: " أنا "، وما عرض عليه فأجازه له(6) شفاها: " أنبأني"، وما كتب به إليه ولم يشافهه: " كتب إلي ".
وعن الأوزاعي نحو ما ذكره الحاكم، قال: في السماع :" نا"، وفي القراءة: " أخبرنا "، وفي الإجازة: " خبَّرنا "، وفي رواية أخرى عنه:" أنبأنا "، وفرق بين حديثه وحده أو في جماعة، كما قال الحاكم.
وقال الأوزاعي أيضًا: " قل في المناولة: قال فلان عن فلان، ولا تقل نا".
__________
(1) في (ح):" حملة ".
(2) في (ح):" القراءة والسماع ".
(3) في (ح):" يسمع ".
(4) في (أ):" إبهام ".
(5) قوله:" أكثر " ليس في (ح).
(6) قوله:" فأجاز له " ليس في (ح).(1/125)
قال القاضي: وقد جوَّز قوم إطلاق " نا " و " أنا " في الإجازة، وحكيت(1) عن جماعة من السلف، وحكى الوليد بن بكر، في كتاب " الوجازة " له، أنه مذهب مالك وأهل المدينة ".
وقال: " شعبة مرة يقول: " أنبأنا "، وروي عنه أيضًا:" وأخبرنا(2)".
واختار أبو حاتم الرازي أن يقول في الإجازة مشافهة: " أجاز لي "، وفيما كتب إليه(3): " كتب إلي ".
وذهب الخطابي إلى أن يقول في الإجازة: " أنا فلان أن فلانا حدثه "، ليبين بهذا أنه إجازة.
وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ الَّذِي أَحْدَثَهُ الْقَائِلُ الَّذِي حَكَيْنَاهُ فِي تَوْهِينِ الْحَدِيثِ بِالْعِلَّةِ الَّتِي وَصَفَ أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُعَرَّجَ عَلَيْهِ وَيُثَارَ ذِكْرُهُ.
إِذْ كَانَ قَوْلاً مُحْدَثًا وَكَلامًا خَلْفًا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ سَلَفَ وَيَسْتَنْكِرُهُ مَنْ بَعْدَهُمْ خَلَفَ، فَلا حَاجَةَ بِنَا فِي رَدِّهِ بِأَكْثَرَ مِمَّا شَرَحْنَا إِذْ كَانَ قَدْرُ الْمَقَالَةِ وَقَائِلِهَا الْقَدْرَ الَّذِي وَصَفْنَاهُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى دَفْعِ مَا خَالَفَ مَذْهَبَ الْعُلَمَاءِ وَعَلَيْهِ التُّكْلانُ.
ــــــــــــــــــ
وذكر ابن خلاد القاضي في كتابه " الفاصل " مثل هذا عن بعض أهل الظاهر، قال: " ولا يقل: إن فلانا قال: نا فلان ؛ لأن هذا ينبئ عن السماع ".
وهذه كلها اصلطلاحات لا تقوم على تحقيقها حجة، إلا من وجه(4) الاستحسان والمواضعة بين أهل الصنعة، لتمييز أنواع الروايات. وقد رأيت القدماء والمتأخرين يقولون في الإجازة: " نا فلان إذنًا "، و " فيما أَذِنَ لي(5) فيه ".
__________
(1) في (ح):" وحكي ".
(2) في (ط):" أو أنا ".
(3) في (ح):" له " وفوقها "صح"، وفي حاشيها:"إليه "، وكتب فوقها:"صح، خ".
(4) في (ح):" جهة ".
(5) في (ح):" له " وعليها "صح"، وفي حاشيها:"لي "، وكتب فوقها:"صح، خ".(1/126)
وبعضهم يقول فيما كتب له(1) بخطه، لقيه أو لم يلقه: " نا فيما(2) كتبه لي "، و " نا كتابة "، و " من كتابه " ، و" نا فيما أطلق لي الحديث به(3)".
والتمييز بين الإجازة، وبين السماع أولى، للخلاف في صحتها والعمل بها، وهو الذي شاهدته من أهل التحري في الرواية، ممن أخذنا عنه.
فقد اختلف في الإجازة وجواز(4) الرواية والعمل بها، دون قراءة(5) ولا سماع ولا دفع كتاب، وتنوزع فيها.
…………………………………………………
ــــــــــــــــــ
فالمشهور عن عامة الفقهاء والمحدثين جوازها، كالزهري، ومنصور ابن المعتمر، وأيوب السختياني، وشعبة بن الحجاج، وربيعة، وعبدالعزيز بن الماجشون، والأوزاعي، والثوري، وابن عيينة، والليث.
وأباها بعض أهل الظاهر، وحكي ذلك عن الشافعي، وروي الوجهان عن مالك، والجواز عنه أشهر، وهو مذهب أصحابه من أهل الحديث وغيرهم [ وظاهر رواية الكراهة عنه لمن لا يستحقها، لا لنفسها](6).
وقال أحمد بن ميسَّر من أئمتنا: " الإجازة عندي خير من السماع الرديء ".
واختلف من أجازها في وجوب العمل بها، فالجمهور على وجوبه، كالسماع والقراءة، وقال قوم من أهل الظاهر: " لا يجب عمل بما روي بها".
والمناولة أقوى درجة منها، وهو الذي يسميه بعضهم: العرض، وهو أن يحضر الشيخ بعض حديثه، أو بعض كتبه، أو يكون(7) عند الطالب، ويقول له: "هذا سماعي من فلان فاحمله(8) عني، أو أجزتها(9) لك "، فيذهب بها ويرويها عنه.
__________
(1) في (أ) و(ح):" لي "، وفي حاشية (أ):" له "، وكتب فوقها:" خ".
(2) في (ح) كتب الناسخ بين:"حدثنا " وبين "فيما" حرف الواو، وكتب فوقها "صح،خ".
(3) في (ح):" الحديث لي به ".
(4) في (أ) و(ح):" وجهان ".
(5) في (أ):" فقد اختلف في الإجازة والعمل بها " دون "قراءة".
(6) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(7) في (ط):" تكون ".
(8) في (ح):" فاحملها ".
(9) في (ح):" فأجزتها ".(1/127)
فأجازها معظم الأئمة والمحدثين، وهو مذهب يحيى بن سعيد الأنصاري، وحيوة بن شريح(1)، والزهري، وهشام بن عروة، وابن جريج، ومالك بن أنس، وعبيدالله العمري، والأوزاعي، في آخرين، وكافة أهل النقل والأداء والتحقيق ؛ لأن الثقة بكتابه مع إذنه أكثر من الثقة من السماع(2) وأثبت.
…………………………………………………
ــــــــــــــــــ
واختلفوا(3) إذا قال له: " هذا مسموعي " و " روايتي "، ولم يقل له: " اروه عني ".
فمنع بعضهم الرواية به، كالشاهد إذا لم يشهد على شهادته وسمع يذكرها.
وأجازها بعضهم وإليه ذهب بعض أهل الظاهر، وطائفة من أئمة المحدثين والنظار، وقاله القاضي ابن خلاد، وهو مذهب ابن حبيب من أصحابنا، وهي التي نعى(4) عليه من لا(5) يعرف مذهبه.
قال ابن خلاد: " حتى لو قال له: " هذه روايتي، ولكن لا تروها عني "، لم يلتفت إلى نهيه، وكان له أن يرويها عنه، كما لو سمع منه حديثا، ثم قال له: " لا تروه عني "، و " ولا أجيزه لك "، لم يضر ذلك روايته، والصواب جواز هذا(6) كله، لأنه إخبار وشهادة على إقرار.
قال القاضي : بخلاف الشهادة على الشهادة التي لا تصح إلا مع الإشهاد، ويضر الرجوع عنها.
ولا فرق في التحقيق بين سماعه كتابا عليه، وقراءته أو فعه إليه، بخطه أو تصحيحه، وقوله له: " اروه عني " أو " هذه روايتي" ؛ إذ كله إخبار بأن ما سمع منه وما رأى عنده من حديثه، فيجوز له التحديث(7) به عنه.
وما مثل هذا الفصل إلا القراءة على الشيخ وهو ساكت، عند من لا يشترط التقرير، وهو - كما قدمنا - الصحيح، ومذهب الجمهور(8).
…………………………………………………
ــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" حيوة بن شريح الخزاعي ".
(2) في (ح):" بالسماع ".
(3) في (ح):" واختلف ".
(4) في (ح):" بغى "، وكتب في حاشيتها:" لعله بقي ".
(5) في (ح) و(ط):" لم ".
(6) في (ح):" ذلك ".
(7) في (ح) و(ط):" التحدث ".
(8) في (ح):" وهو مذهب الجمهور ".(1/128)
وعلى هذا يأتي الحديث عن الكتب الموصى بها، فقد روي عن أيوب، أنه قال لمحمد، يعني ابن سيرين -: " إن فلانا أوصى إلي بكتبه، أفأحدث بها عنه ؟ " قال " نعم "، ثم قال لي بعد ذلك(1): " لا آمرك ولا أنهاك ".
فهذا إن كان قد أعلمه أنها روايته، فهو من هذا الباب، أو يكون في معنى الوصية إذن بالحديث(2) بها، أو الإعلام بأنها من حديثه.
وأما المناولة المجردة، من كتاب لم يتركه الشيخ عند الراوي، ولا دفعه إليه حتى يحدث منه، أو ينقل نسخة منه، كما أحدثه بعض المتأخرين، وتمالأ عليه الناس اليوم، فلا معنى له زائد على الإجازة، وإن كان بعض المشايخ(3) قد ذهب إلى أنه متى عيَّن الكتاب أو سماه فهي(4) مناولة صحيحة، وذكر أنه لا يختلف فيها، وإنما الخلاف في الإجازة المطلقة لغير شيء معين.
ولا فرق بين: حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا، وخبَّرنا، ونبَّأنا(5) في اللغة وعرف الكلام لمن فرَّق، لكن تفريق القاضي ولمُتِهِ ؛ لتنويع الرواية أنزه للحدث(6)، وأميز لمناخي روايته، وبالله التوفيق.
اختلف بعد(7) من أجاز الإجازة:
في الإجازة للمجهول بشرط، كقولك: " أجزت لكل من قرأ علي"، أو " من كان من طلبة العلم "، أو " من دخل بلد كذا من طلبة العلم"، أو " من شاء أن يروي عني ".
وفي الإجازة للمعدوم، كقولك: " لكل من يولد لفلان "، أو " لجميع قريش "، أو "قيس " أو " أهل بغداد "، أو " أهل(8) مصر ".
…………………………………………………
ــــــــــــــــــ
فلم يقع فيها للصدر الأول كلام، ووقع إجازتها لبعض من جاء من بعدهم من شيوخ المحدثين.
__________
(1) في (ح):" هذا ".
(2) في (ح):" في الحديث ".
(3) في (أ):" الناس والمشايخ ".
(4) في (أ):" فهو ".
(5) في (ح):" وأخبرنا وخبّرنا وأنبأنا ونبأنا ".
(6) في (أ):" للحديث ".
(7) في (ح):" يعد ".
(8) قوله:" أهل " ليس في (أ).(1/129)
واختلف فيها متأخرو الفقهاء، فأجازها للمعدوم منهم جماعة، وإلى إجازتها ذهب أبو الفضل ابن عمروس البغدادي، من أئمتنا والقاضي الدامغاني من أصحاب أبي حنيفة.
وذهب القاضي أبو الطيب الطبري الشافعي إلى جوازها للمجهول الموجود، كقوله: " أجزت لأهل بلد كذا "، و " لبني هاشم "، فتجوز لمن كان موجودا، ولم يجزها للمعدوم منهم، ولا لمن لم(1) يولد بعد.
ومنع ذلك كله القاضي أبو الحسن الماوردي.
وكذلك منع أبو الطيب تعليقها بشرط، كقوله: " أجزت لمن شاء أن يحدث عني "، أو " لمن(2) شاء فلان "، وأجازها ابن عمروس، والدامغاني.
والمعروف من مذهب(3) مشايخ المغاربة جواز هذا كله، وقد رأيته في إجازات جماعة(4) من متقدميهم ومتأخريهم، وممن أدركناه، وهو مذهب أبي بكر بن ثابت الحافظ الخطيب(5) وغيره(6).
ومنعوا كلهم الإجازة للمجهول المبهم جملة، كقوله: " أجزت لبعض الناس ".
أو إجازة ما لم يصح(7) له روايته عند الإجازة، كقوله: " أجزت له ما رويت وما أرويه ".
…………………………………………………
ــــــــــــــــــ
والكلام في هذا الباب كثير، يحتاج إلى بسط، وقد ذكرنا منه ما يحتاج إليه من له تهمُّم(8) بهذا الباب وعلمه، وبسطنا الكلام في هذه الفصول(9) في كتاب " الإلماع لمعرفة أصول الرواية والسماع "، وأشرنا فيه إلى نكت غريبة، لعلك لا تجدها مجموعة في غير هذين الكتابين.
**********
بسم الله الرحمن الرحيم
1- كتاب الإيمان
__________
(1) في (ح):" لا "، وفي (أ) في موضعها إشارة إلحاق، ولم يظهر شي في التصوير.
(2) في (ح):" ولمن ".
(3) في (ح):" مذاهب ".
(4) قوله:" جماعة " ليس في (ح).
(5) قوله:" الخطيب " ليس في (ح).
(6) في (ح):" وغيرهم " وفي حاشيتها:" وغيره" وعليها "صح، خ ".
(7) في (ح):" تصح ".
(8) في (ح):" فهم ".
(9) في (ح):" الأصول " وفوقها "صح"، وفي الحاشية "الفصول" وكتب فوقها "صح، خ).(1/130)
بَاب بَيَانِ الإِيمَانِ وَالإِسْلامِ وَالإِحْسَانِ وَوُجُوبِ الإِيمَانِ بِإِثْبَاتِ قَدَرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَبَيَانِ الدَّلِيلِ عَلَى التَّبَرِّي مِمَّنْ لا يُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ وَإِغْلاظِ الْقَوْلِ فِي حَقِّهِ
قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: بِعَوْنِ اللَّهِ نَبْتَدِئُ، وَإِيَّاهُ نَسْتَكْفِي، وَمَا تَوْفِيقُنَا إِلاَّ بِاللَّهِ جَلَّ جَلالُهُ.
1 - حَدَّثَنِي أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ كَهْمَسٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ،ح، وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، وَهَذَا حَدِيثُهُ، حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا كَهْمَسٌ، عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَاجَّيْنِ أَوْ مُعْتَمِرَيْنِ، فَقُلْنَا: لَوْ لَقِينَا أَحَدًا ــــــــــــــــــ
كتاب الإيمان(1)
قوله في الحديث: " ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن، ويتقفرون العلم" وفي رواية أخرى: " ويقتفرون العلم " يزعمون(2) أن لا قدر، وأن الأمر أنف.
__________
(1) جاء في (ح) قبل قوله:" كتاب الإيمان":" بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً ".
(2) في (ح):" وذكر من شأنهم أنهم يزعمون ".(1/131)
أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلاءِ فِي الْقَدَرِ، فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ دَاخِلاً الْمَسْجِدَ، فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ وَالآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ، فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِي سَيَكِلُ الْكَلامَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ، وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لا قَدَرَ، وَأَنَّ الأَمْرَ أُنُفٌ، قَالَ: فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ،وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي،وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ أَنَّ لأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ ! أَخْبِرْنِي عَنْ الإِسْلامِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: الإِسْلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً، قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ:(1/132)
فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ الإِيمَانِ ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ ــــــــــــــــــ
قال الإمام: " يقال(1): تقفرت الشيء إذا قفوته، قال أبوعبيد: يقال(1): قفوته إذا اتبعت أثره، واقتفرت الأثر تبعته "، قال ابن السكيت: " يقال: قفر(2) أثره، واقتفر أثره ".
قال القاضي: أكثر روايتنا عن شيوخنا في هذا الحرف في الأم: "يتقفرون"، بنقديم القاف، كما ذكر أولاً، وكذلك(3) رويناه في
وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ الإِحْسَانِ ؟ قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ السَّاعَةِ ؟ قَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا ؟ قَالَ: أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ، فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا عُمَرُ ! أَتَدْرِي مَنْ السَّائِلُ ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ.
ــــــــــــــــــ
[كتاب أبي داود، من طريق ابن داسة.
ورويناه في الأم من بعض طرق ابن ماهان: " يتفقرون "، بتقديم الفاء، ورويناه](4) من طريق ابن الأعرابي في المصنف: " يتقفون ". بلا راء، وكل صحيح متقارب المعنى.
__________
(1) قوله:" يقال " ليس في (ح).
(2) في (ح):" أقفر ".
(3) في (ح):" كذا ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (ح).(1/133)
وقد فسر الشارحون: الهروي، والخطابي، وغيرهم(1)، الرواية الأولى بما حكاه الإمام، أي: يطلبونه ويتبعونه، ومنه حديث شريح: إنما اقتفر(2) الأثر " أي أتبعه.
ومثله رواية من روى: " يتقفون "، قال الهروي: قفوته(3) وقفيته(4) اتبعت أثره ومنه سموا(5) القافة، قال الله تعالى: " وقفينا على آثارهم".
وحكى ابن دريد في الجمهرة: " التقفير جمعك الشيء، قفرته تقفيرًا، فمعناه على هذا: يجمعونه.
وأما من رواه: " يتفقرون " بتقديم الفاء فصحيح أيضًا، وهو عندي أشبه ببساط الحديث ونظم الكلام، ومراده أنهم يخرجون غامضة، ويبحثون عن(6)
2 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ، وَأَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ قَالُوا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ: لَمَّا تَكَلَّمَ مَعْبَدٌ بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ فِي شَأْنِ الْقَدَرِ أَنْكَرْنَا ذَلِكَ، قَالَ: فَحَجَجْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَجَّةً. وَسَاقُوا الْحَدِيثَ بِمَعْنَى حَدِيثِ كَهْمَسٍ وَإِسْنَادِهِ، وَفِيهِ بَعْضُ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانُ أَحْرُفٍ.
ــــــــــــــــــ
أسراره، ويفتحون مغلقه، ومنه قول عمر - وذكر امرأ القيس - فقال: افتقر(7) عن معان عور أصح بصر ". قال الهروي: " أي فتح عن معان غامضة ".
__________
(1) في (أ):" وغيرهما ".
(2) في (ح):" افتفر ".
(3) في (ح):" وقفوته ".
(4) في (ط):" قفيته وقفوته ".
(5) في (ح):" سميت ".
(6) في (ط):" على ".
(7) في (ح):" اقتفر ".(1/134)
فلما كان هؤلاء القوم في طلب العلم، وصحة القرايح، وتدقيق النظر بهذه الصفة، ثم قالوا تلك المقالة المبتدعة المستشنعة استعظمت منهم بخلاف لو سمعت من غيرهم من الجهلة، ألا تراه(1) كيف وصفهم بما تقدم، فقال: " يقرؤون القرآن، وذكر من شأنهم(2)، يريد فرطهم(3) بالذكاء، والجد في طلب العلم، وشبه هذا.
وقيل: يتفقرون(4) أي يطلبون فقره(5) وغرائبه.
ورأيت بعضهم قال: " يتقعرون " بالعين، وفسره بأنهم يطلبون قعره، أي غامضة وخفيّه، ومنه: تقعَّر في كلامه، إذا(6) جاء بالغريب منه.
وقوله: " الأمر أنف "، قال الإمام: " قال الهروي: " أي مستأنف(7) استئنافًا، من غير أن يسبق به سابق قضاء وتقدير، وإنما هو مقصور على اختيارك، ودخولك فيه.
وأنف الشيء أوله، قال امرؤ القيس:
قد غدا يحملني(8) في أنفه لاحق الصقلين محبوك ممر
3 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ ابْنُ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، وَحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ قَالا لَقِينَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَذَكَرْنَا الْقَدَرَ وَمَا يَقُولُونَ فِيهِ فَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ كَنَحْوِ حَدِيثِهِمْ عَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه -، عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ زِيَادَةٍ وَقَدْ نَقَصَ مِنْهُ شَيْئًا.
ــــــــــــــــــ
وفي الحديث: " لكل شيء أنفة، وأنفة الصلاة التكبيرة الأولى ".
قوله: " أنفة الشيء ابتداؤه، هكذا(9) الرواية، والصحيح: أنفة.
__________
(1) في (ح):" تراهم ".
(2) في (أ):" من شأنهم ما ذكر ".
(3) في (أ):" وصفهم ".
(4) في (ح):" يتقفرون ".
(5) في (ح):" قفره ".
(6) في (ط):" أي ".
(7) في (أ):" استأنف "، وفي (ح) و(ط):" يستأنف ".
(8) في (ح):" يجملني ".
(9) في (أ):" وهكذا "، وفي (ح):" وكذا ".(1/135)
وفي حديث أبي مسلم الخولاني: " وضعها في أنف من الكلأ " يقول: يتبع(1) بها المواضع التي لم ترع قبل الوقت الذي دخلت فيه ". وفي الحديث: « أنزلت علي سورة آنفًا »، أي: مستأنفًا.
وقال تعالى:{ ماذا قال آنفًا }، أي ماذا قال الساعة، مأخوذ من استأنفت الشيء إذا ابتدأته.
وروضة أنف: لم ترع(2). وكأس أنف: ابتدئ الشرب منها، ولم يشرب بها قبل ذلك ".
قال الإمام: " وأما قوله " لا قدر " فلا تقول به المعتزلة على الإطلاق، وإنما يقولون: " الشر والمعاصي تكون بغير قدر الله تعالى " لكن من(3) لم يتشرع من الفلاسفة ينفي القدر جملة.
قال القاضي: ذكر أصحاب المقالات أن ما حكي في الحديث هو مذهب القدرية.
4 - وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ.
ــــــــــــــــــ
وحكى زرقان في مقالاته التي شرحها أبو عثمان ابن الحداد(4) أن منهم من يقول(5):" الاستطاعة قبل الفعل، والعلم محدث ". قال: " وهم القدرية المحض ".
وحكى أبو القاسم البلخي في مقالاته، ومحمد بن زيد الواسطي عن طائفة من المعتزلة تسمى السكنية مثله، قالا: " وقد انقرضوا، ولم يبق منهم(6) أحد يذكر "، قالا: " وهو قول قوم من الرافضة والجهمية " وذكروا حجتهم أنه تعالى لو كان عالما بتكذيبهم لكان في إرسال الرسل إليهم عابثا، تعالى(7) الله عن قولهم.
فهذا هو أصل القدرية، كما ذكر في الحديث.
__________
(1) في (ط):" تتبع ".
(2) في (ح):" ترع قبل الوقت التي دخلت فيه ".
(3) في (ط):" لمن ".
(4) في (ح):" أبو عثمان الحداد ".
(5) قوله:" يقول " ليس في (أ).
(6) في (أ) و(ح):" أحد منهم ".
(7) في (ح):" تعالى عما يقولون علوًا كبيرًا ".(1/136)
وحكى(1) هذا القول: أبو محمد ابن أبي زيد(2) في رده على المعتزلي البغدادي، وأنهم يقولون:" إن أفعال العباد لا يعلمها الله حتى تكون".
وقد روى بعض أصحاب مالك - من القرويين وغيرهم - عنه في تفسير مذهب القدرية مثله، وروى عنه ابن وهب أنه احتج على القدرية بقوله - صلى الله عليه وسلم -، « الله أعلم بما كانوا عاملين »، وقد احتج البخاري(3) بذلك.
وهذا كله يبين أنه كان مذهبهم قديمًا والقدرية اليوم والمعتزلة تأبى هذا وتنكره من مذهبهم، ولا شك أنه كان أصل مذهبهم كما ذكروا(4)، وأخذوه من الفلاسفة الذين بنوا أكثر مذاهبهم(5) على منازعتهم في الإلهيات، ومأخذهم لم(6) يقل(7) به المعتزلة ؛ إذ عرفت عظم ما فيه: إذ كانت 5 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ قَالَ: زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! مَا الإِيمَانُ ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكِتَابِهِ وَلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الأخِرِ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا الإِسْلامُ؟
__________
(1) في (ط):" وقد حكي ".
(2) بعدها في (ط):" عن بعض القدرية ".
(3) في (ط):" البخاري وغيره ".
(4) في (ح):" ذكروه آخرون "، وعليها "صح"، وكتب في حاشيتها:" ذكروا وأخذوه" وعليها (صح،خ).
(5) في (ح):" وذهبهم ".
(6) في (ط):" ولم ".
(7) في (ح):" تقل "، وفي (ط):" ولم يقل ".(1/137)
قَالَ: الإِسْلامُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! مَا الأحْسَانُ ؟ قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنَّكَ إِنْ لا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! مَتَى السَّاعَةُ ؟ قَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا: إِذَا وَلَدَتِ الأمَةُ رَبَّهَا فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، ــــــــــــــــــ
القدرية أولاً غير المعتزلة، وكان القدر هوى بذاته، والاعتزال هوى بذاته، وفي أصلين مفترقين، ثم قالت المعتزلة بعد ذلك بالقدر ورجعت إليه، وأطبقت طوائفها على اختلافها على القول به، مع الاعتزال الذي أصله: المنزلة بين المنزلتين، وسموا هذا بالعدل، ثم أخذوا من مذاهب الفلاسفة(1) نفي الصفات، وأطبقوا على نفيها، فسموا هذا أيضًا بالتوحيد، ليزيلوا عنهم اسم البدعة والشرك والمجوسية التي وسمهم بها صاحب الشريعة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وزعموا أن القدر المذموم هو ذلك.
وبالحقيقة فالقدرية التي وسمهم عليه - عليه السلام - بما وسم(2)، وأنهم(3) مجوس هذه الأمة هم معتزلة هذا الوقت وقدريته، لأنهم جعلوا(4) أفعال العباد بين فاعلين، وأن الخير من الله والشر من عبيده(5)، فأدخلوا مع الله شركاء في قدرته، وضاهوا المجوس والثنوية في كفرهم.
والقدرية الأولى(6) داخلون في هذه الرذيلة، زائدون عليهم بتلك الأشنوعة.
__________
(1) في (أ):" ثم أخذوا مذهب الفلاسفة ".
(2) في (أ):" وسمهم ".
(3) في (ح):" أنهم ".
(4) لم تتضح هذه الكلمة في (أ).
(5) في (ح):" عبده " وعليها "صح"، وفي حاشيتها:" عبيده " وعليها "صح، خ ".
(6) في (ط):" الأول ".(1/138)
قال الإمام: " وأما ما ذكر من تبري ابن عمر منهم، وقوله: " لا يقبل من أحدهم ما أنفق "، فلعله فيمن ذكرنا من الفلاسفة، أو على جهة التكفير للقدرية، على أحد القولين في تكفيرهم عندنا، إن كان أراد بهذا الكلام تكفير من ذكر. قال القاضي: قول ابن عمر: " لو كان لأحدهم(1) مثل أُحُد ذهبًا فأنفقه ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر "، يصحح(2) أن تبري ابن عمر منهم لاعتقاده بتكفيرهم(3)؛ إذ لا يحبط الأعمال عند أهل السنة شيء سوى الكفر، والقائل بذلك القول كافر بلا خلاف. وإنما الخلاف في القدرية الآن.
وقال الخطابي: " في تبري ابن عمر منهم دليل على أن الخلاف إذا وقع في أصول الدين، وتعلق بالمعتقدات يوجب البراءة(4)، بخلاف ما تعلق بأصول الأحكام وفروعها.
وقوله في هذا الحديث: " الإسلام أن تشهد(5) أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله "، وذكر الصلاة والصوم والحج والزكاة، وقال: " الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله... إلى آخر ما ذكر، يفرق(6) بين الإسلام والإيمان، وقال مثله في حديث ضمام النجدي، ثم ذكر بعد هذا حديث وفد عبد القيس، وفيه:" أتدرون ما الإيمان ؟"، ففسَّره بما فسر به الإسلام في الحديثين الأولين.
__________
(1) في (ح):" لأحد منهم ".
(2) في (ح):" يصح ".
(3) في (أ) و(ح):" تكفيرهم ".
(4) في (ح):" التبرئ ".
(5) في (ط):" يشهد ".
(6) في (أ):" ففرق ".(1/139)
وَإِذَا كَانَتِ الْعُرَاةُ الْحُفَاةُ رُءُوسَ النَّاسِ، فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَإِذَا تَطَاوَلَ رِعَاءُ الْبَهْمِ فِي الْبُنْيَانِ، فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا فِي خَمْسٍ لا يَعْلَمُهُنَّ إِلا اللَّهُ، ثُمَّ تَلا - صلى الله عليه وسلم -: { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}،
ــــــــــــــــــ
فسر(1) مجرد الإيمان الذي هو التصديق، والذي محله القلب(2)، وفسر الإسلام الذي هو العمل الظاهر من شهادة اللسان وأعمال البدن، والذي بمجموعها يتم الإيمان والإسلام ؛ إذ إقرار القلب وتصديقه دون نطق اللسان لا ينجي من النار، ولا يستحق صاحبه اسم الإيمان في الشرع، وإذ(3) نطق اللسان دون إقرار القلب وتصديقه لا يغني شيئًا، ولا يسمى صاحبه مؤمنًا، وهو النفاق والزندقة.
وإنما يستحق هذا الاسم من جمعها(4)، ثم تمام إيمانه وإسلامه بتمام أعمال الإيمان المذكورة في الحديثين، والتزام(5) قواعده، وهو المراد بإطلاق اسم الإيمان على جميع ذلك في حديث وفد عبد القيس، فقد أطلق الشرع على الأعمال اسم الإيمان ؛ إذ هي منه وبها يتم.
ولكن حقيقته في وضع اللغة: التصديق، وفي عرف الشرع: التصديق بالقلب واللسان، فإذا حصل هذا حصل الإيمان المنجي من الخلود في النار، لكن كماله المنجي بالجملة(6) من دخولها رأسًا بكمال خصال الإسلام.
__________
(1) في (ح):" وفسر ".
(2) كذا في (ح)، وفي حاشيتها:" التصديق الذي " بدون الواو، وعليها "خ".
(3) في (ح):" وإذا ".
(4) في (أ):" جمعهما ".
(5) في (ح):" إلتزام "، والحق الناسخ الووا في الهماش وكتب عليها "صح،خ".
(6) في (ح):" بالجملة المنجي "، وقوله:" بالجملة " ليس في (أ).(1/140)
وبهذا المعنى جاءت زيادته ونقصانه على مذهب أهل السنة.
ولهذه المعاني يأتي اسم الإيمان والإسلام في الشرع مرة مفترقًا ومرة متفقًا، قال الله تعالى: " قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا "، وقال:
قَالَ: ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« رُدُّوا عَلَيَّ الرَّجُلَ فَأَخَذُوا لِيَرُدُّوهُ» فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ دِينَهُمْ.
ــــــــــــــــــ
{ فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين(1)...} إلى قوله:{ المسلمين }(2).
وذلك أن الإيمان إذا كان بمعنى التصديق، والإسلام بمعنى الاستسلام، صح أن يكون الإسلام(3) بالجوارح وأعمال الطاعات إيمانًا وتصديقًا، وصح أن يكون الإقرار باللسان عن تصديق القلب استسلامًا، فأطلق اسم كل واحد منهما على الآخر.
بخلاف إذا اختلفا ففارق الباطن الظاهر، والنطق والعمل العقد والنية، فيسمى الظاهر إسلامًا، ولا يسمى إيمانًا، كما قال تعالى: " قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ".
وقوله(4): " ما الإحسان ؟ "، وفسره في الحديث بما معناه: الإخلاص ومراقبة الله في السر والإعلان.
وهذا الحديث قد اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات، الظاهرة والباطنة، من عقود الإيمان، وأعمال الجوارح، وإخلاص السرائر، والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إن علوم الشريعة كلها منه إليه، ومتشعبة منه.
وعلى هذا الحديث وأقسامه الثلاث ألفنا كتابنا الذي سميناه بـ " المقاصد الحسان فيما يلزم الإنسان " ؛ إذ لا يشذّ شيء من الواجبات، والسنن، والرغائب، والمحظورات، والمكروهات، عن أقسامه الثلاث.
__________
(1) في (ح) زيادة:{ فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين }.
(2) الآية:( ) من سورة.
(3) في (ط) وحاشية (ح):"الاستسلام "، وكتب فوقها:"صح، خ".
(4) في (ح):" قوله " بدون واو.(1/141)
وقوله(1) في الحديث:" وأن تلد الأمة ربتها "، وفي موضع(1) آخر: " ربها ".
6 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُوحَيَّانَ التَّيْمِيُّ بِهَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّ فِي رِوَايَتِهِ إِذَا وَلَدَتِ الأمَةُ بَعْلَهَا -يَعْنِي السَّرَارِيَّ -.
ــــــــــــــــــ
قال الإمام: " أي مولاتها، قيل معناه: أن يكثر أولاد(2) السراري حتى تكون الأم كأنها أمة لابنتها كما(3) كانت ملكًا لأبيها.
وقيل: يحمل على أنه يكثر بيع أمهات الأولاد في آخر الزمان حتى يملك المشتري أمه وهو يعلم، لكثرة تداول الأملاك لها، وفي بعض طرق الحديث: " تلد الأمة بعلها"، وهو من هذا المعنى ؛ إذا كثر(4) بيعهن قد يقع الإنسان في تزويج أمه وهو لا يعلم ".
قال القاضي: أما قوله: " تلد الأمة ربتها "، أو " ربها "، فقيل فيه ما ذكره، وبيانه أن الرجل الحسيب إذا أولد أمة كان ابنها منها(5) بمنزلة أبيه من مولاتها (6).
وقيل: المراد به فشو العقوق، وأن يكون الولد في الصَّوْل على أمه وقلة بره بها كأنه مولاها، كما قال في الحديث الآخر: " ويكون الولد غيظًا، لكن لا معنى إذا لتخصيص أولاد الإماء بهذا إلا أن يقال: إن(7) سبب الأموية أقرب إلى استدعاء العقوق والاستحقار.
وقيل: هو تنبيه على فشو النعمة آخر الزمان وكثرة السبي، كما قال في بقية الحديث عن تطاول رعاء الشاء في البنيان.
__________
(1) في (ح):" مواضع ".
(2) في حاشية (ح):"استيلاد "، وكتب فوقها:"صح، خ".
(3) في (ح) و(ط):" لما ".
(4) في (ط):" لأنه إذا كثر ".
(5) في (ط):" منه ".
(6) في (ط):" في مواليها ".
(7) في (ط):" لأن ".(1/142)
وقيل: المراد به ارتفاع أسافل الناس، وأن الإماء والسبايا يلدن من ساداتهن أمثالهم فيشرفن بسببهم، كما قال في الحديث الآخر(1): " حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع.
7 - حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ - وَهُوَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ -، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَلُونِي فَهَابُوهُ أَنْ يَسْأَلُوهُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَجَلَسَ عِنْدَ رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! مَا الإِسْلامُ ؟ قَالَ: لا تُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! مَا الإِيمَانُ ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ ــــــــــــــــــ
وقال الحربي: " معناه: أن(2) تلد(3) الإماء الملوك، فيصير لها رباًّ كما قال: " اذكرني عند ربك " أي الملك.
قال الخطابي: " قد يحتج بهذا الحديث من يرى بيع أمهات الأولاد، ويحتج بأنهن لم يبعن بعد موت السيد ؛ لأنهن يصرن في التقدير ملكًا لأولادهن، فيعتقن عليهم ".
قال القاضي: ولا حجة له في هذا ؛ إذ ليس في الحديث شيء يدل عليه، بل قد نوزع في استدلاله.
وقال أبو زيد المروزي: " وهو(4) ردّ على من يرى بيعهن، لإنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تلد الأمة من يملكها، وجعله ذلك من أشراط الساعة، ومعناه عنده أن يبيع أمه آخر الزمان ".
__________
(1) قوله:" الآخر " ليس في (ط).
(2) قوله:" أن " ليس في (أ).
(3) في (ط):" يلد ".
(4) في (ح) و(ط):" هو ".(1/143)
وليس ما قال بشيء ؛ لأن ليس كل ما أخبر عنه أنه من أشراط الساعة لا تببيحه الشريعة، ألا ترى أن تطاول الرعاء في البنيان ليس بحرام، ولا أن يكون اللكع(1) أسعد بالدنيا(2) ليس مما يحرمها عليه، ولا فشو المال جملة مما يحرمه(3)، ولا أن يكون لجماعة النساء القيم الواحد مما يحرم ذلك.
وَمَلائِكَتِهِ وَكِتَابِهِ وَلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ. قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! مَا الأحْسَانُ ؟ قَالَ: أَنْ تَخْشَى اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنَّكَ إِنْ لا تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ ؟ قَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ وَسَأُحَدِّثُكَ عَنْ ــــــــــــــــــ
وليس في الكلام دليل على إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم -، ذلك كما زعم، ولا فيه غير إخبار عن حال يكون.
وأما قوله إن معناه أن يبيع الولد أمه آخر الزمان فليس فيه دليل على منع بيعها قبل ملك ابنها ؛ إذ من يجوز بيعها من أهل الظاهر يوافق الجماعة في أنها لا تباع ما دامت حاملاً، ولا إذا تصيرت ملكًا لابنها بميراث أو غيره.
وقول الإمام في تأويل بعلها حسن، وقد يكون بالمعنى الأول، أي بمعنى "ربها "، قال ابن دريد: " بعل الشيء ربه ومالكه، وقال ابن عباس وجماعة من أهل التفسير في قوله تعالى:{ أتدعون بعلاً }، أي رباًّ وقال أبو عبيدة والضحاك: " هو صنم ".
__________
(1) في (ح):" اللكع ابن اللكع ".
(2) في (أ) و(ح):" أسعد الناس بالدنيا ".
(3) في (ط):" تحرمه ".(1/144)
وحُكي عن ابن عباس أنه قال: " لم أدر ما البعل في القرآن حتى رأيت أعرابيًّا(1) فقلت: لمن هذه الناقة ؟ فقال: أنا بعلها ". أي ربها ". فيتأول فيه(2) ما يتأول في تلك اللفظة الأخرى من الوجوه المتقدمة.
وقوله: " وترى العالة رعاء الشاء(3)".
قال الإمام: " قال الهروي: " العالة الفقراء. وفي حديث آخر " خير من أن تتركهم عالة " أي فقراء، والعائل: الفقير، والعيلة: الفقر، ومنه قوله تعالى: " وإن خفتم عيلة "، يقال عال الرجل يعيل عيلة إذا افتقر ".
أَشْرَاطِهَا: إِذَا رَأَيْتَ الْمَرْأَةَ تَلِدُ رَبَّهَا، فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَإِذَا رَأَيْتَ الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الصُّمَّ الْبُكْمَ مُلُوكَ الأرْضِ، فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَإِذَا رَأَيْتَ رِعَاءَ الْبَهْمِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ، فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، فِي خَمْسٍ مِنَ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهُنَّ إِلا اللَّهُ، ثُمَّ قَرَأَ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ ــــــــــــــــــ
وقال غيره: " وأعال الرجل إذا كثر(4) عياله ". قال القاضي: ذكر مسلم في رواية زهير: " وإذا رأيت الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض، وإذا رأيت رعاء البهم يتطاولون في البنيان ".
فالمراد(5) بالصم البكم هنا: الجهلة الرعاع، كما قال تعالى: " صم بكم عمي، أي لما لم ينتفعوا(6) بجوارحهم هذه فيما خلقها الله تعالى له فكأنهم عُدِمُوها.
__________
(1) في (ح):" ناقة " بدل:" أعرابيًا ".
(2) في (ح):" فيها ".
(3) في حاشية (ح):"يتطولون في البنيان "، وكتب فوقها:"صح، خ".
(4) في (ح):" إّا كثر ".
(5) في (أ) و(ح):" فالمراد ".
(6) أشار ناسخ (ح) إلى أنه في نسخة أخرى :" أي لم ينتفعوا ".(1/145)
وقد أشار الطحاوي إلى أن معناه: صم بكم عن الخير، وذكر غيره أنهم صم بكم لشغلهم بلذاتهم ودنياهم.
وما ذكرناه أولى ؛ إذ ليس في الحديث ما يدل أن هذه صفتهم إذا(1) كانوا ملوكًا، وإنما أراد أنه سيملك من هذه صفته.
وأما قوله: " إذا تطاول رعاء البهم في البنيان "، فكذلك هو هنا بفتح الباء، ومعناه: " رعاء الشاء " كما وقع مفسرًا في الحديث قبله ؛ لأن البهم ولد الضأن والمعز، وقد يختص بالمعز، وأصله كل ما استبهم عن الكلام، ومنه سميت البهيمة(2)؛ لأنها مبهمة عن العقل والتمييز.
ووقع في أول صحيح البخاري:" إذا تطاول رعاء الإبل البُهُم في البنيان"،
عَلِيمٌ خَبِيرٌ }، قَالَ: ثُمَّ قَامَ الرَّجُلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« رُدُّوهُ عَلَيَّ » فَالْتُمِسَ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« هَذَا جِبْرِيلُ أَرَادَ أَنْ تَعَلَّمُوا إِذْ لَمْ تَسْأَلُوا ».
ــــــــــــــــــ
رويناه بضم الميم وكسرها، فمن ضمها جعلها صفة للرعاء، أي إنهم سود، وهو قول أبي الحسن القابسي، وقال غيره: معناه الذين لا شيء لهم، كما وصفهم هنا، وكما قال: " يحشر الناس يوم القيامة عراة بهمًا ".
وقال الخطابي: " هو جمع بهيم، وهو المجهول الذي لا يعرف، ومنه أبهم الأمر واستبهم ".
وقد وقع عند بعض رواة البخاري بفتح الباء، ولا وجه له بعد ذكر الإبل.
وفي بعض روايات الحديث يعني: " العُريب، فلا يبعد أن يريد بالبهم هنا: العالة من العرب(3)، أو السود، كما قال: " بُعثت إلى الأحمر والأسود "، والأسود(4) هنا: العرب - لأن الغالب على ألوانهم الأدمة - وسائر الأدم والسودان، وبالأحمر من عداهم من البيضان.
وقد قيل إن المراد بالأسود: الشياطين، وبالأحمر: بنو آدم.
__________
(1) في (أ):" إذ ذ ".
(2) في (ط):" البهمة ".
(3) في (ط):" الغرب ".
(4) في (أ) و(ط):" الأسود ".(1/146)
ومن كسر الميم جعلها صفة للإبل أي السود، لأنها سود الإبل.
وقوله: " وتصوم(1) رمضان " يرد قول من كره أن يقال: صمنا رمضان، حتى يقول(2): شهر، وقال: إنه اسم من أسماء الله، وهذا لا يصح.
وحكى القاضي أبو الوليد الباجي عن القاضي أبي الطيب أنه إنما يكره ذلك فيما يدخل لبسًا، مثل: جاء رمضان، ودخل رمضان، وأما صمنا رمضان فلا بأس بقوله.
…………………………………………………
ــــــــــــــــــــ
قال القاضي رحمه الله: في جملة هذا الحديث إنكار صدر هذه الأمة مقالة أهل القدر، وأنها محدثة وبدعة، كما جاء في الحديث: " أول من تكلم به معبد بالبصرة.
وفيه فزع السلف في الأمور الطارئة عليهم في الدين إلى ما عند أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ إذ هم الذين أمر(3) بالاقتداء بهم، ولما عندهم عنه في ذلك من علم وأثر، ولهذا نقل مالك في "جامعه" من قول الصحابة في هذا ما نقل.
وفيه من حسن أدب المتعلم مع العالم، وتوقيره، ما ذكر من صفة جلسة السائل.
ويستدل منه أن جبريل - عليه السلام - كان يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - أحيانًا في صورة لم يعهدها، ولا حصل له علم بأنه جبريل لأول وهلة، وهو دليل ظاهر هذا الحديث، ولقوله: " ما المسؤول عنها بأعلم من السائل " - وسيأتي الكلام بعد على تصور الملائكة وذواتهم إن شاء الله تعالى -، وقوله:" ردوا علي الرجل ".
وقد يحتمل علمه به عليهما السلام، لكن لم يعلم به الناس(4) لحكمة الله تعالى في ذلك، ويكون قوله: " ما المسؤول عنها بأعلم من السائل "، إما لأن أمرها أيضًا يخفى(5) عن جبريل - عليه السلام - ، أو المراد(6) به: السامعون، ويكون قوله: " ردوا علي الرجل " ليتحققوا بتلاشيه أنه ليس بآدمي.
…………………………………………………
ــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ط):" ويصوم ".
(2) في (ط):" يقال ".
(3) في (أ):" أمرنا "، وفي (ح):" أمروا ".
(4) في (ح):" الناس به ".
(5) في (ط):" مخفي ".
(6) في (ح):" والمراد ".(1/147)
والتأويل الأول أصح لأنه قد جاء في صحيح البخاري التصريح بأنه لم يدر أنه جبريل.
وقوله: " وسأحدثك عن أشراطها "، أي علاماتها، واحدها شَرَط، قال أبو جعفر الطبري: " ومنه سمي الشرط ؛ لجعلهم لأنفسهم علامة يعرفون بها.
وقيل: أشراطها: مقدماتها، وأشراط الأشياء أوائلها، ومن ذلك سمي الشَرَطان لتقدمها(1) أول الربيع.
وقيل: الأشراط جمع شرط، وهو الدون من كل شيء، فأشراط الساعة: صغار أمورها قبل قيامها، ولهذا سمي الشَّرْط.
وقوله فيه: " بارزًا للناس، أي ظاهرًا بالبراز، وهو الفضاء من الأرض، ومنه المبارزة في القتال، ومنه البروز لصلاة العيد والاستسقاء.
وقوله: " تعبد الله لا تشرك(2) به شيئًا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة ".
قال الإمام: " أما التقييد للصلاة بأنها مكتوبة فبيِّنٌ وجهُه ؛[ لأن منها نوافل ليست بمكتوبة](3)، وأما التقييد في الزكاة بأنها مفروضة فيحتمل(4) أن يكون تحرزًا(5) من زكاة الفطر ؛ لأنها ليست بفرض مكتوب على أحد القولين، وتحرزًا من الزكاة المقدمة(6) قبل الحول(7)، فإنها تجزيء عند بعض أهل العلم، وليست بمفروضة حينئذ، ولكنها(8) تسمى زكاة ".
قال القاضي: يظهر لي أن تخصيصه الصلاة بالمكتوبة ؛ لقوله تعالى: " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا "، قال المفسرون(9): فريضة
…………………………………………………
ــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" لتقدمهما ".
(2) في (ط):" يشرك ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).
(4) في (ط):" فيمكن ".
(5) في (ح):" تحرز ".
(6) في (ح):" المتقدمة ".
(7) في (ط):" الحلول ".
(8) في (ح):" ولكن ".
(9) في (ح):" أهل التفسير "، في حاشيتها:"المفسرون "، وكتب فوقها:" خ".(1/148)
مفروضة، وقيل موقتة، وقد جاء ذكرها بالمكتوبة مكررًا في غير حديث، كقوله: " أفضل الصلاة بعدالصلاة المكتوبة قيام الليل(1)"، وفي الحديث: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد".
وتخصيصه الزكاة بالمفروضة، أي المقدرة، لأنها مالية محتاجة إلى التقدير في غير وجه، من النصاب والجزء المخرج من المال وغير ذلك، ولهذا يسمى(2) ما يخرج في الزكاة من(3) الحيوانات فرائض.
وفي كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصدقة: " هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
وفي الحديث: " فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر "، معناه: قدر، وقيل: أوجب.
وقد يكون تفريقه بين هاتين الكلمتين مراعاة لعيب تكرير الواحدة منهما وترديدها عليهما، وترديد اللفظ الواحد في الكلام مذموم إلا أن يفيد معنى زائدًا.
وقوله في هذا الحديث: " سلوني " من رواية زهير بن حرب غير مخالف لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن كثرة السؤال، وهذا فيما يحتاج إليه، لقوله(4) تعالى:{ فاسألوا أهل الذكر... } الآية(5).
قال الإمام: " خرجه مسلم عن زهير بن حرب، عن جرير، عن(6) عمارة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث، ثم قال مسلم: " جرير كنيته أبو عمرو، وأبو زرعة اسمه عبيدالله، وأبو زرعة هذا
…………………………………………………
ــــــــــــــــــــ
روى عنه الحسن بن عبيد الله، وأبو زرعة كوفي من أشجع، قال بعضهم. " وقع هذا الكلام لمسلم في رواية ابن ماهان خاصة، وليس في رواية الجلودي ولا الكسائي منه شيء، قال: " وبين أهل العلم خلاف في هذه الجملة:
وأما قوله: " أبو زرعة اسمه عبيدالله "، فقد قاله أيضًا في كتاب الطبقات، قال: وقال البخاري في تاريخه ومسلم في كتاب الكُنَى:
__________
(1) في (ط):" بالليل ".
(2) في (ط):" سمي ".
(3) في (ح):" في ".
(4) في (أ) و(ح):" كقوله ".
(5) الآية:() من سورة.
(6) في (ح):" ابن ".(1/149)
" أبو زرعة اسمه هرم "، وخالفهما يحيى بن معين، فقال: " أبو زرعة ابن عمرو واسمه عمرو بن عمرو، وكذا(1) ذكره النسائي في الأسماء والكنى من تأليفه.
وأما قوله: " أبو زرعة روى عنه الحسن "، فقد قاله البخاري أيضًا، وقد خولفا(2) في ذلك، فقيل: الذي يروي عنه الحسن رجل آخر يروي عن ثابت بن قيس اسمه هرم، قاله ابن المديني،وإليه ذهب ابن الجارود في كتاب الكنى، قال: ثم ذكر ابن الجارود ترجمة أخرى فقال:" أبو زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة - رضي الله عنه - روى عنه عمارة بن القعقاع والحارث العكلي وأبو حيان التيمي "، وكذا ذكر(3) النسائي ترجمتين كما فعل ابن الجارود سواء.
وأما قوله في رواية ابن ماهان: " أبو زرعة كوفي من أشجع"، فقال بعضهم: لا أعلم ما يقول، كيف يكون من أشجع، وأبو زرعة الذي في الإسناد هو ابن عمرو بن جرير بن عبدالله البجلي(4)، وأين يجتمع(5) أشجع وبجيلة إلا أن يريد رجلاً آخر ؟ ". انتهى كلامه.
8 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جَمِيلِ بْنِ طَرِيفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ- فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ-، عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأْسِ، نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ وَلا نَفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَإِذَا هُوَ ــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" كذا " بدون واو.
(2) في (ح):" وخولفا ".
(3) في (ط):" ذكره ".
(4) في (ح):" ابن عبدالله بن عبيدالله البجلي ".
(5) في (ط):" تجتمع ".(1/150)
قال القاضي: وهذا نص ما ذكره الشيخ الحافظ أبو علي الجياني من أوله إلى آخره، وهو الذي كنى عنه ببعضهم، وذكرناه في هذا الموضع، إذ هو موضع إدخاله في جملة حديث السائل، وهو آخر طريق ذكره مسلم في الحديث، وأُخِّرَ في المعلم ذكره بعد هذا، بعد حديث ضمام ووفد عبدالقيس، وليس بموضعه.
وفي جملة حديث السائل من الفقه سوى ما تقدم: أمر العالم الناس بسؤاله عما يحتاجون إليه ليبينه لهم، وأنهم إن لم يحسنوا السؤال ابتدأ التعليم من قبل نفسه، كما فعل جبريل، أو يجعل من يسأل فيجيب بما يلزمهم علمه.
وقوله في هذا الحديث: " وتؤمن(1) بالبعث الآخر "، مبالغة في البيان، ولأن خروج الإنسان للدنيا(2) بعث أول.
وقوله: " ولقائه "، مع ذكر البعث إشارة إلى الحساب والحشر، وهو غير البعث والنشر.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - للذي سأله عن الفروض فأجابه، فقال السائل(3):" لا أزيد على هذا ولا أنقص منه(4)"، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " أفلح إن صدق ".
يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ»، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ ؟ قَالَ:« لا إِلا أَنْ تَطَّوَّعَ، وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ »، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ ؟ فَقَالَ:« لا إِلا أَنْ تَطَّوَّعَ »، وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الزَّكَاةَ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا ؟ قَالَ:« لا إِلا أَنْ تَطَّوَّعَ »، قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلا أَنْقُصُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ ».
ــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ط):" يؤمن ".
(2) في (ح):" إلى الدنيا ".
(3) في (ط):" للسائل ".
(4) قوله:" منه " ليس في (أ).(1/151)
قال الإمام: " أما فلاحه أن لا ينقص فبيّن، وأما بأن لا يزيد فكيف يصح هذا وكيف يقره(1) عليه ؟، والتمادي على ترك سائر السنن مذموم، يوجب الأدب عند بعض أهل العلم، فلعله قال هذا ولم السنن حينئذ، أو يكون فهم عنه أنه(2) لا يغير الفروض التي(3) ذكر بزيادة ولا نقصان، وأن ذلك مراده بهذا القول.
قال القاضي: ورد في هذا الحديث من رواية البخاري عن إسماعيل بن جعفر آخر(4) الحديث: " فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشرائع الإسلام، فأدبر الرجل وهو يقول: " والله لا أزيد ولا أنقص مما فرض الله عليّ شيئًا، ونحوه في حديث محمد بن إسحق.
فعلى عموم قوله: " بشرائع الإسلام "، يسقط كل اعتراض، ويذهب كل إشكال مما لم ينص عليه في الحديث.
وهذا النجدي لم يسمه مالك ولا مسلم(5)، وسماه البخاري في حديث الليث، فقال فيه:" وأنا ضمام بن ثعلبة، أخو بني سعد بن بكر ".
ولم يأت ذكر الحج في حديث ضمام النجدي من رواية طلحة بن عبيدالله،
9 - حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ جَمِيعًا، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِهَذَا الْحَدِيثِ، نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ، أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ ».
ــــــــــــــــــ
ولا من رواية أبي هريرة في حديث الأعرابي.
وجاء في رواية ثابت عن أنس عند مسلم.
ولم يأت من رواية شريك عن أنس عند البخاري.
__________
(1) في (ط):" نقره ".
(2) في (ح):" أن "، وفي حاشيتها:" أنه "، وكتب فوقها:"صح، خ"..
(3) في (أ):" الذي ".
(4) في (ح):" آخره ".
(5) في (ح):" مسلم ولا مالك "، وكذا في (ط).(1/152)
وكذلك(1) لم يذكر جابر الحج في حديث السائل، ولا الزكاة في رواية أبي الزبير عنه.
ولم يذكر الصوم في حديث(2) الأغر عنه، ولم يذكر غير الصلاة، وذكر تحليل الحلال وتحريم الحرام، ولم يرد هذا في حديث ضمام جملة.
وكذلك لم يرد في حديث أبي أيوب في هذا الباب ذكر الحج وصوم رمضان، وفيه ذكر صلة الرحم.
وكذلك لم يرد في حديث وفد عبد القيس ذكر الحج جملة، ولا ورد فيه الصوم من رواية حماد بن زيد عند مسلم، وهو في روايته عند البخاري، وفيه ذكر أداء الخمس من المغنم والنهي عن أربع.
وليس في حديث معاذ ذكر(3) الصوم ولا الحج.
وكذلك لم يرد في حديث جبريل ذكر الحج عن أبي هريرة، وورد فيه من حديث ابن عمر.[ولم يأت في حديث النجدي ذكر الجهاد](4)، ولم يأت في حديث النجدي
__________
(1) في (ح):" وكذا ".
(2) في (ح):" رواية ".
(3) قوله:" ذكر " ليس في (ح).
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).(1/153)
10 - حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بُكَيْرٍ النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ شَيْءٍ، فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ فَيَسْأَلَهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! أَتَانَا رَسُولُكَ فَزَعَمَ لَنَا أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ، قَالَ:« صَدَقَ ». قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ ؟ قَالَ:« اللَّهُ ». قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الأرْضَ ؟ قَالَ: «اللَّهُ». قَالَ: فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ، وَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ ؟ قَالَ:« اللَّهُ»، قَالَ: فَبِالَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَخَلَقَ الأرْضَ وَنَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ، آللَّهُ أَرْسَلَكَ ؟ قَالَ:« نَعَمْ »، قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا، قَالَ:« صَدَقَ »، قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: ــــــــــــــــــ
ذكر الإيمان، إما لأنه كان مسلمًا أو إنما سأل عن الفروع، بدليل قوله في الرواية الأخرى(1):" يا رسول الله ! أخبرني بما فرض الله علي من الصيام"، وذكر مثله في الزكاة.
وقد اختلف في وقت فرض الحج، فقيل سنة تسع، وقيل سنة خمس، والأول أصح، وذكر الواقدي أن وفادة ضمام كانت سنة خمس.
__________
(1) في حاشية (ح) كتب تاء مربوطة يشير إلى أن:" الآخرة " بدل:" الأخرى".(1/154)
فمعنى هذه الآثار كلها، وزيادة بعضها على بعض في أعداد الوظائف التي وعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بنجاة من اقتصر عليها وفلاحه ودخوله الجنة أن نضم(1) هذه الزيادة التي زادها الثقة، ويحكم بصحتها، ويحمل(2) إسقاط من أسقطها على الوهم والنسيان، إلا ما لم تختلف(3) الرواية في إسقاطه فيحمل أن فرضه بعد هذا، أو يكون قوله: " إلا أن تطوع " في حديث النجدي منبهًا(4) على ما زاد على الفرائض من السنن، فيكون قوله: " لا أزيد "، أي على ما ذكرت من
وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا زَكَاةً فِي أَمْوَالِنَا، قَالَ:« صَدَقَ »، قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ، آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا ؟ قَالَ:« نَعَمْ ». قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي سَنَتِنَا، قَالَ:« صَدَقَ ». قَالَ فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ، آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا ؟ قَالَ:« نَعَمْ »، قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً، قَالَ:« صَدَقَ »، قَالَ: ثُمَّ وَلَّى قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ وَلا أَنْقُصُ مِنْهُنَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - « لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ ».
ــــــــــــــــــــ
الفرائض إلا أن أتطوع(5).
وقد قيل: قد يكون معناه: لا أزيد على تبليغ ما ذكرت لي إلى قومي، ولا أنقص منه.
__________
(1) في (ط):" يضم ".
(2) في (أ):" ونحمل ".
(3) في (ح):" يختلف "، وفي (أ) منقوطة من فوقها وتحتها.
(4) في (ح) و(ط):" منبه ".
(5) في (ط):" تطوع ".(1/155)
وإذا نظرنا إلى زيادة حديث جابر، من قوله: " وأحللت الحلال وحرمت الحرام "، اشتملت هذه اللفظة على وظائف الإيمان وسنن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يبق سؤال على(1) قوله " لا أزيد على هذا(2) ولا(3) أنقص منه "، ومثله قوله في رواية البخاري: " فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشرائع الإسلام ".
وأما اختصاصه في حديث أبي أيوب: صلة الرحم، وفي حديث وفد عبدالقيس: والأوعية(4)، فذلك - والله أعلم - بحسب ما يخص السائل ويعنيه من ذلك، وسيأتي الكلام عليه.
[ وقوله:" تؤخذ من أغنيائنا وترد على فقرائنا احتج به بعضهم أن حدّ ما فيه الزكاة حد ما بين الغني والفقير وإنّ من له عشرون دينارًا فلا تحل له الزكاة ولا يجوز أن يأخذ الفقير من الزكاة أكثر من النصاب وهو قول المغيرة من أصحابنا قال بعض شيوخنا يريد أو قيمة ذلك مما لا ضرورة له فيه من دار أو أمة أو فرس يجاهد عليه عند بعضهم ](5).
وقوله: " يا محمد "، لعل هذا كان قبل أن ينهى الناس عن دعائه بمثل هذا، وقبل نزول قوله تعالى: " لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا "، على أحد التفسيرين، قال قتادة: " أمروا أن يعظموه ويفخموه "،
11- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ ابْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُهِينَا فِي الْقُرْآنِ أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ شَيْءٍ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِهِ.
__________
(1) في حاشية (ح):"عن"، وكتب فوقها:"صح، خ".
(2) قوله:" لا أزيد على هذا " ليس في (أ)و(ح).
(3) في (ط):" لا " بدون الواو.
(4) في (أ):" الأوعية ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).(1/156)
12 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا مُوسَى ابْنُ طَلْحَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَأَخَذَ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ أَوْ بِزِمَامِهَا، ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْ يَا مُحَمَّدُ! أَخْبِرْنِي بِمَا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ وَمَا يُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَكَفَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ نَظَرَ فِي أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ:« لَقَدْ وُفِّقَ أَوْ لَقَدْ هُدِيَ »، قَالَ: كَيْفَ قُلْتَ ؟ قَالَ: فَأَعَادَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:« تَعْبُدُ اللَّهَ لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ دَعِ النَّاقَةَ ».
ــــــــــــــــــــ
قال غيره: " ويدعوه بأشرف ما يحب أن ينادى به:
"يا رسول الله، يا نبي الله "، وقيل ذلك أيضًا في قوله تعالى: " ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض " الآية.
وقد ورد في هذا الحديث أيضًا أنه ناداه: " يا رسول الله "، ولعل ذلك كان بعد تعليمه ما يجب عليه، أو تمكن إسلامه معرفة(1) حق الرسالة، لأنه لأول وروده كان مسترشدًا ومستفسرًا (2).
وقوله في حديث النجدي: " أتانا رسولك "، وتحليفه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما سأله عنه، يستدل به من يقول: أول الواجبات مجرد التصديق، وقد يكون هذا الرجل لأول ما جاء أراد الاستثبات وكشف الأمر، فلما(3) كان في أثناء ذلك ظهر له من دلائل النبوة ما ثبت(4) له اليقين وتصحيح الإيمان والمعرفة،
__________
(1) في (ط):" ومعرفة ".
(2) في (ط):" أو مستفسرًا ".
(3) في (ط):" كما ".
(4) في (ح) و(ط):" يثبت ".(1/157)
13 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ قَالا: حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ، وَأَبُوهُ عُثْمَانُ أَنَّهُمَا سَمِعَا مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ.
14 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الأحْوَصِ، ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَقَ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْنِينِي مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ قَالَ:« تَعْبُدُ اللَّهَ لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ ذَا رَحِمِكَ»، فَلَمَّا أَدْبَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:إِنْ تَمَسَّكَ بِمَا أُمِرَ بِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ إِنْ تَمَسَّكَ بِهِ.
ــــــــــــــــــــ
ألا تراه كيف استثبت فيمن خلق الأرض والسماء ونصب الجبال، وهذا أقوى طرق للحجة(1) على إثبات الصانع.
وظاهر الحديث أنه لم بعد يأت إلا بعد إسلامه وإجابته، وإنما جاء مستثبتًا ومشافهًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - بدليل(2) أنه لما فارقه إنما التزم أن لا يزيد ولا ينقص، لكن جاء في صحيح البخاري أنه قال في آخر الحديث: " آمنت بما جئت به وأنا(3) رسول من ورائي "، والكل محتمل للوجهين.
__________
(1) في (ط):" الحجة ".
(2) في (أ):" به قيل ".
(3) في (ح):" وإنما أنا ".(1/158)
وقد قال الحاكم أبو عبدالله: " هذا الحديث دليل على الرحلة في علو الإسناد ؛ إذ لم يقنع هذا البدوي ما سمعه عن(1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما بلغه، حتى رحل بنفسه إليه وسمع(2) منه"، قال: " ولو كان طلبه غير مستحب لأنكر - صلى الله عليه وسلم - سؤاله إياه عما أخبره به رسوله عنه وأمره بالاقتصار على ما سمع منه ".
15 - وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَقَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ،قَالَ تَعْبُدُ اللَّهَ لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ »، قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا أَزِيدُ عَلَى هَذَا شَيْئًا أَبَدًا وَلا أَنْقُصُ مِنْهُ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:« مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا ».
16 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَاللَّفْظُ لأَبِي كُرَيْبٍ قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - النُّعْمَانُ ابْنُ?قَوْقَلٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَرَأَيْتَ إِذَا صَلَّيْتُ الْمَكْتُوبَةَ، وَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ، وَأَحْلَلْتُ الْحَلالَ أَأَدْخُلُ الْجَنَّةَ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:« نَعَمْ ».
ــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" من ".
(2) في (ح):" وسمعه ".(1/159)
قال القاضي(1): ولا حجة له(2) في هذا ؛ لأن الرجل فعل ما يجب عليه، ورغب عن الاقتصار على غلبة الظن مما أخبره به الرسول عن النبي(3) - صلى الله عليه وسلم - من الشرائع الذي يمكن للمبلغ أن يغلط فيها ويهم(4) ويدخل(5) عليه الآفات، وحرص(6) على اليقين بسماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يجوز عليه الوهم في باب التبليغ -وقد تقدم الكلام في علو الإسناد قبل- مع ما كان يجب من الهجرة والرحلة على المسلمين إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - - أول الإسلام، ويتعين عليهم من لقائه والتبرك برؤيته.
وقوله: " كنا نهينا أن نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، وقوله في الحديث قبله: " سلوني، فهبنا(7) أن نسأله "، ليس فيه تعارض: نهوا عن سؤاله عن
17 - وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ وَالْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ قَالا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ ابْنُ مُوسَى، عَنْ شَيْبَانَ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَأَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ النُّعْمَانُ بْنُ قَوْقَلٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! بِمِثْلِهِ. وَزَادَا فِيهِ: وَلَمْ أَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا.
ــــــــــــــــــــ
أشياء إن تبد لهم تسؤهم، ولم ينهوا عن غير ذلك، وإذا أذن لهم في السؤال فلم يرتكبوا نهيًا.
وقوله: " ثائر الرأس "، أي قائمة منتفشه،[ وفيه أن قول مثل هذا على غير وجه التنقص ليس بغيبة ](8).
وقوله: " يسمع دوي صوته " بفتح الدال، أي بعده في الهواء مأخوذ من دوي الرعد.
__________
(1) قوله:" القاضي" ليس في (ط).
(2) قوله:" له " ليس في (ح).
(3) في (ط):" عنه عليه السلام ".
(4) قوله:" يهم " ليس في (ط).
(5) في (ط):" تدخل ".
(6) في (ح):" حرصًا ".
(7) في (ح):" فذهبنا ".
(8) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).(1/160)
وقوله: " أفلح إن صدق "، أو " دخل الجنة إن صدق "، هذه الجملة الآخرة تفسير الأولى، وقد وردت في الرواية الأخرى مفردة بمعناها، والفلاح البقاء، ومنه: حي على الفلاح، أي العمل المؤدي إلى الجنة والبقاء فيها، وهو الفلح والفلاح، قال الأعشى:
" هل لحي يا لقومي من فَلَح "، أي من بقاء.
قال الهروي: " العرب تقول لكل من أصاب خيرًا: مفلح، وأفلح الرجل إذا فاز بما يغبط به، وقيل في قوله: " قد أفلح المؤمنون " أي فازوا ".
قال ابن دريد: " أفلح الرجل وأنجح إذا أدرك مطلوبه ".
وقال القاضي أبو الوليد الباجي:" استعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -الصدق هنا في خبر المستقبل، وقد قال القتبي: " الكذب في مخالفة الخبر في الماضي،
18 - وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ-وَهُوَ ابْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ -، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِذَا صَلَّيْتُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ، وَصُمْتُ رَمَضَانَ، وَأَحْلَلْتُ الْحَلالَ، وَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ، وَلَمْ أَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا، أَأَدْخُلُ الْجَنَّةَ ؟ قَالَ: « نَعَمْ ». قَالَ: وَاللَّهِ لا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا.
ــــــــــــــــــــ
والخلف في مخالفته في المستقبل"، فيجب على هذا أن يكون الصدق في الخبر عن الماضي والوفاء في المستقبل](1)، وما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا(2) يرد على ابن قتيبة ".
__________
(1) في (ح):" عن المستقبل ".
(2) قوله:" هنا " ليس في (ح).(1/161)
وفي قوله: " أفلح إن صدق " رد على المرجئة ؛ إذ فيه فلاحه بشرط صدقه في أن لا(1) ينقص مما ألزمه(2) من الأعمال والفرائض.[ومعناه هنا: دخول الجنة أبدًا والخلاص من النار، ولهذا قرن دخول الجنة هنا بالفلاح ](3).
وقوله: " وتصل ذا(4) رحمك ".
قال الإمام: " ينبغي أن يتأمل هذا مع قول النحاة: إن لفظة " ذا " إنما تضاف إلى الأجناس، فلعل الإضافة ها هنا مقدر انفصالها، والإضافة بمعنى
تقدير الانفصال موجودة ".
قال القاضي(5): لفظة " ذا " و " ذي " و " ذو " عند أهل العربية إنما تضاف إلى الأجناس، ولا تضاف عندهم لغيرهما من الصفات، والمضمرات، والأفعال، والأسماء المفردات ؛ لأنها في نفسها لا تنفك عن إضافة، وقد جاءت مفردة، ومضافة إلى مفرد، وإلى فعل، ومجموعة ومثناة، وكله عندهم شاذ، كقولهم: ذو يزن، وذو نواس، وقالوا فيهم:الذوين، والأذواء(6)،
19 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ يَعْنِي سُلَيْمَانَ بْنَ حَيَّانَ الأحْمَرَ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأشْجَعِيِّ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسَةٍ عَلَى أَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَالْحَجِّ »، فَقَالَ رَجُلٌ: الْحَجُّ وَصِيَامُ رَمَضَانَ، قَالَ: لا، صِيَامُ رَمَضَانَ وَالْحَجُّ، هَكَذَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.
ــــــــــــــ
وقالوا: افعل كذا بذي تسلم.
__________
(1) قوله:" لا " ليس في (ط).
(2) في (ح):" لزمه ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(4) قوله:" ذا " ليس في (ح).
(5) في (ط):" عياض ".
(6) في (ح):" الذواء والذوين ".(1/162)
وتقدير هذا عندهم على الانفصال - كما قال - أي الذي له كذا(1)، أو الذي تسلم(2)، كذلك قوله: " ذا رحمك "، أي الذي له رحم معك أو يشاركك فيها ونحوه، ومعنى " ذو ": صاحب، قيل(3): وأصله ذوو(4)، لأنهم قالوا في تثنيته: ذوا مال، والله أعلم.
قال القاضي: استدل البخاري وغيره من حديث النجدي على جواز القراءة على العالم والعرض عليه والتحدث(5) بها، بقوله(6): " وأخبر به من ورائي"، وهو الصحيح، والحجة فيه من هذا الحديث بينة، وقد تقدم الكلام على هذا المعنى.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه: " نعم "، قد يحتج به من يلزم من الظاهرية الشيخ الإقرار ب-: " نعم "، بعد تقرير الراوي له، وقوله له: " هو كما قرأناه عليك"، ولا حجة فيه(7)؛ لأن هذا مستفهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، طالب منه جواب نعم، بخلاف القارئ والذي يعرض الحديث على الشيخ.
قال غيره: وفيه بسط الكلام بين يدي الحاجة، لقوله:"إني سائل فمشدد
20 - وَحَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ طَارِقٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ السُّلَمِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: عَلَى أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَيُكْفَرَ بِمَا دُونَهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ ».
ــــــــــــــــــــ
عليك ".
وفيه جواز التحليف والتأكيد للأمور المهمة والأخبار الهائلة، وجواز الحلف في ذلك، كما قال تعالى: { ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق }.
__________
(1) في (ح):" قال كذا ".
(2) في (ح):" والذي تسلم ".
(3) قوله:" قيل " ليس في (ح).
(4) في (أ):" ذو ".
(5) في (أ):" التحديث ".
(6) في (ط):" لقوله ".
(7) في (ح):" ولا حجة في ذلك ".(1/163)
وفيه صبر العالم على جفاء السائل الجاهل، وبيان ما يلزمه للمتعلم المسترشد، وإجابته لما يرى أنه ينفعه ويحتاج إليه في دينه.
وفيه جواز قول ما تدعو إليه الضرورة من خشن(1) الكلام وجواز الاعتذار منه، لقوله ما قال، ثم قال: " فلا تجدن علي " وتسويغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك له.
وقوله: " أفلح وأبيه(2)"، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحلف بالآباء ؛ قيل(3): لعله كان قبل النهي، أو يكون على غير اعتقاد نية الحلف والتعظيم لمن(4) حلف به، على ما جرت به عادة العرب وانطلقت(5) به ألسنتهما، ونهي عن اعتقاد ذلك وقصده.
[وقيل كان ذلك في أول الإسلام وقرب عهدهم بسيرة الجاهلية فنهوا عن ذلك، وقيل لعله أضمر: " ورب أبيه "، كما قيل في إقسام الله في كتابه بمخلوقاته، أي وربّ { الليل إذا يغشى }، ورب " الضحى "، ونحوه ](6).
21 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ ».
ــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث بني الإسلام على خمس، ورد ابن عمر على الراوي لما قدم حج البيت على رمضان(7)، إلا أن يقدم ذكر رمضان، وقال(8):" هكذا "سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
__________
(1) في (ح):" خشين ".
(2) في (ح):" أفلح وأبيه إن صدق ".
(3) قوله:" قيل " ليس في (أ) و(ح).
(4) في (ط):" بمن ".
(5) في (ح):" ونطقت ".
(6) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(7) في (ح):" على ذكر رمضان ".
(8) في (ح):" فقال ".(1/164)
قال الإمام: " يحتمل أن يكون(1) مشاحة ابن عمر في هذا ؛ لأنه كان لا يرى نقل الحديث بالمعنى وإن أداه بلفظ يحتمل(2)، أو يكون يرى الواو توجب الترتيب كما قال بعضهم، فيجب التحفظ على الرتبة المسموعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه قد يتعلق(3) بذلك أحكام، فقد يستدل(4) على تقدمة إطعام الفطر في رمضان على الهدايا الواجبة في الحج - إذا أوصى بهما(5) وضاق الثلث عنهما(1) - بهذه التقدمة الواقعة في الحديث، لإشعارها بأن ما قدم آكد، والمعتبر في الوصايا الآكد.
قال القاضي: قد مر من الكلام في هذه المسألة واختلاف الناس فيها ما فيه(6) كفاية، والصواب والاستحسان حماية هذا الباب - كما تقدم -، لئلا يتسلط الجاهل(7) بأنه جاهل على ما لم يحط به علمًا، وأما في أداء الرواية فآكد، وقد ذكرنا أنه مذهب مالك في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه كان يتحرى فيه الباء(8) والواو، وروي مثله عن أمثاله، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - :" نضر الله امرأ سمع مقالتي فأداها كما سمعها "، لكنه قد يسهل(9) في إصلاح الحرف الذي لا يشك في سقوطه،
__________
(1) في (أ):" لكون ".
(2) في (ط):" لا يحتمل ".
(3) في (ح):" تتعلق ".
(4) في حاشية (ح):"فقد يستدل "، وكتب فوقها:"صح، خ".
(5) في (ح):" بها ".
(6) قوله:" ما فيه " ليس في (ط).
(7) في حاشية (ح):" بما هو به جاهل "، وكتب فوقها:"صح، خ".
(8) في (ح):" الباء والتاء ".
(9) في حاشية (ح):"يتساهل "، وكتب فوقها:"صح، خ".(1/165)
22 - وَحَدَّثَنِي ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا حَنْظَلَةُ قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ بْنَ خَالِدٍ يُحَدِّثُ طَاوُسًا: أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَلا تَغْزُو، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« إِنَّ الإِسْلامَ بُنِيَ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ».
ــــــــــــــــــــ
وقد روي هذا عن مالك، وكذلك اللحن البين ، قال الشافعي(1): "يعرب"، وقاله أحمد بن حنبل، قال: " لأنهم لم يكونوا يلحنون ". وقال النسائي: " إذا كان شيئًا(2) تقوله العرب فلا يغير، وإن لم يكن من لغة قريش، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يكلم الناس بألسنتهم، وإن كان لا يوجد في كلام العرب فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يلحن".
وقد هاب(3) بعضهم أيضًا هذا، ورووا الحرف على ما وجدوه، ونبهوا عليه، وهذا موجود في الموطأ وكتب الصحيح وغيرها، حتى في حروف القرآن، تركوها فيها كما رووها ووقع الوهم فيها ممن وقع.
وقد يكون رد ابن عمر الرجل(4) إلى تقديم رمضان على الحج(5) لتقدم فريضة رمضان على فريضة الحج، فجاء بالفرائض على نسقها في التاريخ، والله أعلم.
قول(6) حنظلة: " سمعت عكرمة بن خالد، يحدث طاووسًا أن رجلاً قال لعبدالله بن عمر: " ألا تغزو(7)؟ ".
__________
(1) في (ط):" الشعبي ".
(2) في (ح):" شيء ".
(3) في حاشية (ح):"عاب"، وكتب فوقها:"صح، خ".
(4) في (أ):" على الرجل ".
(5) قوله:" على الحج " ليس في (ح).
(6) في (ح):" وقول ".
(7) في (أ):" تعرف ".(1/166)
قال الإمام: " هكذا أتى مجودًا(1) في رواية الجلودي، وفي نسخة ابن الحذاء عن أبي العلاء: " سمعت عكرمة يحدث عن طاووس(2)"، وهذا وهم، والصحيح الأول.
23 - حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ،ح، وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى - وَاللَّفْظُ لَهُ-، أَخْبَرَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّا هَذَا الْحَيَّ مِنْ رَبِيعَةَ، وَقَدْ حَالَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ، فَلا نَخْلُصُ إِلَيْكَ إِلا فِي شَهْرِ الْحَرَامِ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نَعْمَلُ بِهِ وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا، قَالَ:« آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: الإِيمَانِ بِاللَّهِ »، ثُمَّ فَسَّرَهَا لَهُمْ فَقَالَ:« شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ: الدُّبَّاءِ، وَالْحَنْتَمِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْمُقَيَّرِ ». زَادَ خَلَفٌ فِي رِوَايَتِهِ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَعَقَدَ وَاحِدَةً.
ــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" مجردًا ".
(2) في (ح):" عن طاووس أن رجلاً ".(1/167)
قال القاضي: وقول ابن عمر لهذا السائل عن الغزو: " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، وذكر حديث بني الإسلام على خمس، يستدل به على سقوط فرض الجهاد الآن، وأنه ليس من مباني الإسلام، وإنما هو من فروض الكفايات، وهو قول جماعة من العلماء أن فرضه نسخ بعد فتح مكة، وذكر أنه مذهب ابن عمر والثوري وابن شبرمة، ونحوه لسحنون من من أصحابنا، إلا أن ينزل العدو بقوم، أو يأمر الإمام بالجهاد ويستنفر الناس فيلزمهم(1) طاعته.
وقال الداودي: " لما فتحت مكة سقط فرض الجهاد عمن بعد من الكفار، وبقي فرضه على من يليهم، وكان أولاً فرضًا على الأعيان ".
قوله(2): في حديث عبد القيس:" آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله..."، ثم فسرها لهم، فذكر الشهادتين والصلاة والزكاة وأداء الخمس.
24 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ - وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ - قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ، وَقَالَ الأخَرَانِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، قَالَ: كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ يَدَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَيْنَ النَّاسِ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ تَسْأَلُهُ عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ، فَقَالَ: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَنِ الْوَفْدُ أَوْ مَنِ الْقَوْمُ ؟»، قَالُوا: رَبِيعَةُ. قَالَ:« مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ، أَوْ بِالْوَفْدِ غَيْرَ خَزَايَا وَلا النَّدَامَى »، قَالَ: فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّا نَأْتِيكَ مِنْ شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ، وَإِنَّ بَيْنَنَا ــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" فتلزم ".
(2) في (أ) و(ح):" وقوله ".(1/168)
وفي بعض طرقه: " أمرهم بأربع ونهاهم(1) عن أربع: أمرهم بالإيمان بالله وحده ، وقال(2): هل(3) تدرون ما الإيمان ؟ شهادة أن لا إله إلا الله "، وذكر الصلاة والزكاة والصوم(4) وأداء الخمس.
وفي رواية أخرى: " اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا "، وذكر الصلاة والزكاة والصوم وأداء الخمس.
قال الإمام:"ظن بعض الفقهاء أن في هذا دلالة على أن الصلاة والزكاة من الإيمان خلافًا للمتكلمين من الأشعرية القائلين بأن ذلك ليس من الإيمان.
وهذا الذي ظنه غير صحيح، لاحتمال أن يكون الضمير في قوله: " ثم فسرها له(5) " عائدًا(6) على الأربع لا على الإيمان - كما ظن هذا الظان -، ويحتمل في الحديث الثاني أن يكون قوله: " وإقام الصلاة(7)" معطوفًا على الأربع (8).
قال القاضي: أشكل معنى هذا الحديث على بعض الناس حتى تكلف له
__________
(1) في (ح):" وأنهاهم ".
(2) في (ح):" قال ".
(3) في (ح):" وهل ".
(4) في (ط):" الصوم والزكاة ".
(5) في حاشية (ح):"لهم "، وكتب فوقها:"صح، خ".
(6) في (ط):" عائد ".
(7) في (ط):" وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ".
(8) في (ح):" أيضًا على الأربع ".(1/169)
وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيَّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، وَإِنَّا لا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ إِلا فِي شَهْرِ الْحَرَامِ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا نَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ، قَالَ: فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ، قَالَ: أَمَرَهُمْ بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَقَالَ:« هَلْ تَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ ؟»، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ:« شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسًا مِنَ الْمَغْنَمِ »، وَنَهَاهُمْ عَنِ: الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ. قَالَ شُعْبَةُ: وَرُبَّمَا قَالَ: النَّقِيرِ، قَالَ شُعْبَةُ: وَرُبَّمَا قَالَ: الْمُقَيَّرِ، وَقَالَ:« احْفَظُوهُ وَأَخْبِرُوا بِهِ مِنْ وَرَائِكُمْ »، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَتِهِ مَنْ: وَرَاءَكُمْ وَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ الْمُقَيَّرِ.
ــــــــــــــــــــ
ما لا يحتاج إليه، لما ذكر أربعًا، ثم جاء في الروايات الأخر بأربع غير الشهادتين، وقال(1): " وفىّ لهم بما وعدهم، ثم زادهم "، وهذا ليس بسديد، بل الأربع التي(2) أخبرهم بها لا يعد فيها الإيمان، ولا عبادة الله وترك الإشراك المذكور في الحديث ؛ إذ كان هذا قد تقرر عندهم وأتوه، وإنما سألوه عن غيره مما لم يعلموا من قواعد الشريعة، ويدل عليه قوله: " آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله، ثم فسره لهم بالشهادتين ثم ذكر الأربع بعد ذلك.
__________
(1) في (ح):" قال ".
(2) في (ح):" الذي ".(1/170)
وأما على الرواية الأولى فهي أربع بالشهادة، وقد قال في آخر الحديث - وذكر الشهادة - قال: " وعقد واحدة ". وقوله: " وعقد واحدة " يفسر ما وقع مبهمًا في رواية البخاري، وقوله "[ وعقد بيده هكذا " وتفسير من فسره بالعهد الذي أخذ الله على عباده، وإنما أراد ما فسره في هذه الراوية من عد الأربع، فلا نتكلف تفسيره ](1).
25 -وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي،ح، وَحَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي قَالا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِهَذَا الْحَدِيثِ نَحْوَ حَدِيثِ شُعْبَةَ، وَقَالَ:« أَنْهَاكُمْ عَمَّا يُنْبَذُ فِي الدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ »، وَزَادَ ابْنُ مُعَاذٍ فِي حَدِيثِهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِلأَشَجِّ-أَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ-: « إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالأنَاةُ ».
ــــــــــــــــــــ
وإسقاط الصوم منه وهم - والله أعلم - ؛ لاتفاق الروايات الأخر عليه، وأما الحج فلم يكن فرض بعد ؛ لأن وفادة عبد القيس كانت عام الفتح قبل خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة، وفريضة الحج بعدها سنة تسع على الأشهر، والله أعلم.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).(1/171)
وقد يحتمل أن يكون الأربع التي أمرهم بها: الشهادتين والصلاة والزكاة والصيام، التي سألوا عنها، وهي قواعد الإسلام وأصول العبادات وفروض الأعيان، ثم أخبرهم أنه يلزمهم إخراج خمس ما غنموه، وأداؤه للمسلمين، لما أخبروه بمجاورتهم كفار مضر وعداوتهم لهم، ولم يقصد إلى ذكر مجاهدتهم فيعدها من قواعد الإسلام(1)، والجهاد بعد لم يكن فرض، لأن فرضه العام نزل في سورة براءة سنة ثمان بعد الفتح، بل نبههم على أداء خمس ما يأخدونه منهم.
ولا يبعد إطلا ق اسم الإيمان على هذه الجملة ؛ إذ بها يتم الإيمان ويكمل الإسلام، ويكون قوله: " آمركم بالإيمان بالله... " عائد(2) على كل
26 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْ لَقِيَ الْوَفْدَ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، قَالَ سَعِيدٌ: وَذَكَرَ قَتَادَةُ أَبَا نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي حَدِيثِهِ هَذَا: أَنَّ أُنَاسًا مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: ــــــــــــــــــــ
ما أمرهم به ونهاهم عنه(3)، أو يكون إضرابًا عن تفصيل الأعداد وأمرًا بالإيمان الشامل لها ولغيرها، والله وأعلم.
وقوله: " مرحبًا بالقوم أو بالوفد غير خزايا(4) ولا ندامى "، ويروى: " ولا الندامى ".
قال الإمام: " معنى خزايا: أذلاء ومهانين، ومنه قول الله تعالى: " من قبل أن نذل ونخزى "، يقال: خزي الرجل يخزى خزيًا إذا هلك(5) وهان، وخزي خزاية إذا استحيى، وخزايا جمع خَزْيان مثل حيارى جمع حيران.
__________
(1) في (ط):" الإيمان ".
(2) في (ح):" عائدًا ".
(3) في (ح):" ما نهاهم عنه وأمرهم به ".
(4) في (أ):" حزانا ".
(5) في (أ):" ذل ".(1/172)
وقوله: " ولا ندامى "، مراده به جمع الواحد الذي هو نادم، ولكنه جاء ههنا على غير القياس إتباعًا لخزايا.
قال ابن قتيبة وغيره: قال الفراء وغيره: العرب إذا ضمت حرفًا إلى حرف فربما أجروه على بنيته، ولو أفردوا(1) لتركوه على جهته الأولى من ذلك قولهم:" إني لا آتيه بالغديا والعشايا " فجمعوا(2) الغداة غدايا، لما ضُمت إلى العشايا، وأنشد:
هتاك أخبية ولاج أبوبة يخلط بالجد فيه البر واللينا
فجمع: الباب أبوبة إذ كان متبعًا لأجنبية، ولو أفرده لم يجز(3)، قال الفراء: وأرى قوله في الحديث:" ارجعن مأزورات غير مأجورات من هذا، ولو أفردوا لقالوا: موزورات ".
قال غيره: " وإنما يجمع على ندامى الندمان الذي هو النديم "، وقال القزاز في "جامعه": " يقال في النادم ندمان "، فعلى هذا يكون الجمع جاريًا على الأصل لا على جهة الإتباع.
قال القاضي: قال الهروي: " في الحديث المأثور: " غير خزايا ولا نادمين "، أي غير مستحيين، مأخوذ من الخزاية، وهي(4) الاستحياء "،
يَا نَبِيَّ اللَّهِ ! إِنَّا حَيٌّ مِنْ رَبِيعَةَ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ، وَلا نَقْدِرُ عَلَيْكَ إِلا فِي أَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نَأْمُرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، وَنَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ إِذَا نَحْنُ أَخَذْنَا بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ، وَآتُوا الزَّكَاةَ، وَصُومُوا رَمَضَانَ،
ــــــــــــــــــــ
فجاءت رواية الهروي هذه على جمع نادم.
__________
(1) في (أ):" أفردوا ".
(2) في حاشية (ح):"فجمّعوا "، وكتب فوقها:"صح، خ".
(3) في (ح):" لم يجره ".
(4) في (ح):" وهو ".(1/173)
والمعنى أنكم بادرتم بإسلامكم دون حرب تفضحكم وتخزيكم(1) أو توجب(2) الاستحياء من تأخر إسلامكم أو من عنادكم وحربكم لنا، والندم على ما فاتكم من المبادرة.
وقوله: " مرحبًا، نصب على المصدر، لفظ(3) استعملته العرب في البر وحسن اللقاء، ومعناه: صادفت(4) رحبًا وسعة وبرًّا (5)، وفيه جواز قول مثل هذا، وقد جاء في غير حديث.
وقوله فيه: " وأنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمقير " هذا موضع ذكره، ووقع في المعلم مقدمًا في غير موضعه.[ وبالنهي عن هذه الأوعية وغيرها مما ذكر في هذا الحديث وغيره ؛ قال عبدالله بن عمر، ولم ير ذلك منسوخًا. وقال به طائفة من أهل العلم، وهو ظاهر قول مالك، وذهب كافة أهل العلم إلى نسخ ذلك كله بالأحاديث الأخر. وقال ابن حبيب من أصحابنا، وقد روي عن مالك أيضًا الرخصة في الحنتم والزقاق والمزفتة ](6).
قال الإمام: الدباء ممدود، قال الهروي: الدباء القرعة كانت ينتبد(7) فيها وتضرى(8).
قال أبو عبيد: الحنتم جرار خضر كانت يحمل فيها إلى المدينة الخمر"، وذكر ابن حبيب أن الحنتم الجر وكل ما كان من فخار أبيض أو أخضر(9)، قال بعض أهل العلم: ليس كما قال ابن حبيب، وإنما الحنتم ما طُلي من الفخار بالحنتم المعمول من الزجاج وغيره، وهو يعجل الشدة في الشراب وأما الفخار
__________
(1) في (ط):" يفضحكم ويخزيكم ".
(2) في (ط):" يوجب ".
(3) قوله:" لفظ" ليس في (أ).
(4) في (أ):" صادف ".
(5) قوله:" وبرًّا " ليس في (ح).
(6) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(7) في (ط):" تنتبذ ".
(8) في (ح) بتشديد الراء المفتوحة، وفي الحاشية:" تضرِّي " بكسر الراء المشددة.
(9) في (أ) و(ح):" وأخضر ".(1/174)
وَأَعْطُوا الْخُمُسَ مِنَ الْغَنَائِمِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ وَالنَّقِيرِ »، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ ! مَا عِلْمُكَ بِالنَّقِيرِ ؟ قَالَ:« بَلَى، جِذْعٌ تَنْقُرُونَهُ فَتَقْذِفُونَ فِيهِ مِنَ الْقُطَيْعَاءِ - قَالَ سَعِيدٌ: أَوْ قَالَ مِنَ التَّمْرِ -، ثُمَّ تَصُبُّونَ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ حَتَّى إِذَا سَكَنَ غَلَيَانُهُ شَرِبْتُمُوهُ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَكُمْ أَوْ إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَضْرِبُ ابْنَ عَمِّهِ بِالسَّيْفِ »، قَالَ: وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ أَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ كَذَلِكَ، قَالَ: وَكُنْتُ أَخْبَؤُهَا حَيَاءً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْتُ: فَفِيمَ نَشْرَبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ:« فِي أَسْقِيَةِ الأدَمِ الَّتِي يُلاثُ عَلَى أَفْوَاهِهَا »، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَرْضَنَا كَثِيرَةُ الْجِرْذَانِ، وَلا تَبْقَى بِهَا أَسْقِيَةُ الأدَمِ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« وَإِنْ أَكَلَتْهَا الْجِرْذَانُ، وَإِنْ أَكَلَتْهَا الْجِرْذَانُ، وَإِنْ أَكَلَتْهَا الْجِرْذَانُ »، قَالَ: وَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم - لأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ:« إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالأنَاةُ».
ــــــــــــــــــــ
الذي لم يطل فليس كذلك وحكمه حكم الجر، قال أبو عبيد:" النقير أصله النخلة ينقر جوفها ثم يشدخ فيه الرطب والبُسْر، يدعونه حتى يهدر ثم يموت".
وفي كتاب مسلم أن النقير جذع ينقر فيه فيقذفون فيه من القطيعاء، قال ابن ولاد وغيره: " القطيعاء نوع من التمر يقال له الشهريز "، قال غيره: "والمقيَّر ما طلي بالقار وهو الزفت ".(1/175)
قال الإمام: " أما(1) الحنتم فروى ابن حبيب عن مالك أنه أرخص في الحنتم وروى القاضي أبو محمد المنع منه على التحريم، وأما المنقور فروي عن مالك الكراهية والرخصة فيه، وأما الدباء والمزفت فكره مالك نبيذهما، قال ابن حبيب: " والتحليل(2) أحب إلي".
27 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ قَالا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ لَقِيَ ذَاكَ الْوَفْدَ، وَذَكَرَ أَبَا نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ، غَيْرَ أَنَّ فِيهِ:« وَتَذِيفُونَ فِيهِ مِنَ الْقُطَيْعَاءِ أَوِ التَّمْرِ وَالْمَاءِ »، وَلَمْ يَقُلْ: قَالَ سَعِيدٌ، أَوْ قَالَ مِنَ التَّمْرِ.
ــــــــــــــــــــ
[ قال القاضي: حكى الداودي أن الحنتم الفخار كله، وقيل:ومعنى قول من قال: الجرار الخضر كما جاء من تفسير أبي هريرة في تفسير الحديث أن المراد به السود المقيرة بالزفت، وذكره الزفت مع ذلك يرد قوله، وقول الداودي أيضًا يرده ذكر الجر، وهو الفخار ](3).
قال القاضي: حكى أبو إسحق الحربي عن أنس بن مالك: " الحناتم قلال يجاء بها من مصر مقيرات الأجواف " وذكر نحوه عن ابن أبي ليلى، وزاد: حمرًا، قال(4): وليست بالخضر، طويلة(5) آذانها، ضيقة أفواهها، يساق فيها الخمر، وفي رواية أخرى عنه: يؤتى بها من الشام.
وعن عائشة رضي الله عنها : هي جرار حمر، أعناقها في جنوبها، يجلب فيها الخمر من مصر.
وعن أبي هريرة وابن مغفل: هو كل جر أخضر وأبيض.
__________
(1) في (ط):" وأما ".
(2) كتب الناسخ فوق الواو:"خ،صح" إشارة إلى أن في نسخة أخرى:" التحليل" بدون واو.
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(4) قوله:" قال" ليس في (ح).
(5) في (أ):" الطويلة ".(1/176)
وعن ابن أبي ليلى أيضًا: " أفواهها في جنوبها يجلب فيها الخمر من الطائف، وكان ناس ينتبذون فيها يضاهون به الخمر.
وعن إبراهيم: " هي حمر(1) مقيرة(2) يوتى بها من الشام ".
28 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارٍ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ،ح، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ -، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو قَزَعَةَ: أَنَّ أَبَا نَضْرَةَ أَخْبَرَهُ وَحَسَنًا، أَخْبَرَهُمَا أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أَخْبَرَهُ: أَنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوْا نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ ! جَعَلَنَا اللَّهُ فِدَاءَكَ مَاذَا يَصْلُحُ لَنَا مِنَ الأشْرِبَةِ ؟ فَقَالَ:« لا تَشْرَبُوا فِي النَّقِيرِ »، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ ! جَعَلَنَا اللَّهُ فِدَاءَكَ، أَوَ تَدْرِي مَا النَّقِيرُ ؟ قَالَ:« نَعَمْ، الْجِذْعُ يُنْقَرُ وَسَطُهُ، وَلا فِي الدُّبَّاءِ، وَلا فِي الْحَنْتَمَةِ، وَعَلَيْكُمْ بِالْمُوكَى.
ــــــــــــــــــــ
وعن ابن المسيب: " مزفتة يؤتى بها من الشام، فحدثت هذه الخضر فشرب فيها ناس وكرهه آخرون ".
وقال أبو سلمة: " الحنتم الجركله، وعن ابن عمر وسعيد بن جبير نحوه.
وعن عطاء: " كانت تعمل من طين يعجن بالدم والشعر.
فلنهيه - صلى الله عليه وسلم - عنها ثلاثة وجوه(3):
__________
(1) في (أ):" خمر ".
(2) في (أ):" مغيرة ".
(3) في (أ):" أوجه ".(1/177)
إما لكونها مزفتة فتعين(1) على شدة ما يلقى فيها وينبذ لأجل الزفت، أو لأن الخمر كان يحمل فيها فنهى عن ذلك مخافة أن ينبذ فيها قبل حسن غسلها وذهاب طعم الخمر منها، ومخافة ضراوتها بالخمر. قيل: أو لنجاستها وقذارتها لعملها بالدم والشعر وليمتنع من عملها بذلك(2) إذا نهى عن استعمالها.
وقوله لأشج عبد القيس - واسمه المنذر بن عائذ - بذال(3) معجمة-، وقيل: عائذ بن المنذر، وقيل: المنذر بن الحارث، وقيل عبدالله بن عوف -
…………………………………………………
ــــــــــــــــــــ
" إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة ".
الحلم: العقل، والأناة: التثبت وترك العجلة، ويقال: تأنى يتأنى تأنيًا، ومنه قول الشاعر:
أناة وحلمًا وانتظارًا بهم غدًا(4)
وإنما قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا لأنه ورد في هذا الخبر في غير "الأم" أن وفد عبد القيس لما وصلوا المدينة بادروا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقام الأشج فجمع رحالهم(5)، وعقل ناقته، ولبس ثيابًا جددًا، ثم أقبل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقربه النبي وأجلسه بجانبه(6)، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم:" تبايعون على أنفسكم وقومكم؟" فقال القوم: نعم، فقال الأشج:" يا رسول الله ! إنك لم تزاول(7) الرجل عن شيء أشد عليه من دينه (8)، نبايعك على أنفسنا، وترسل معنا من يدعوهم، فمن اتبعنا كان منا، ومن أبى قاتلناه "، قال:" صدقت، إن فيك لخصلتين... " الحديث.
__________
(1) في (ط):" فيعين ".
(2) في (ح):" بذلك من عملها ".
(3) في (ح):" بالذال ".
(4) في (أ) جاء عجز البيت:" فما أنا بالواني ولا الضرع الغَمْر ".
(5) في (ط) يشبه أن تكون:" رجالهم ".
(6) في (أ):" لجانبه "، وفي (ح) و(ط):" إلى جانبه ".
(7) في حاشية (ح):"تزول "، وكتب فوقها:"صح، خ".
(8) في (ح):" عليهم من دينهم " وفوقها "صح"، في حاشيتها:"عليه من دينه "، وكتب فوقها:"صح، خ"..(1/178)
فالأولى: تربصه(1) حتى نظر في مصالحه ولم يعجل، وهي الأناة .
والثانية: الحلم، وهي هذه الآخرة الدالة على صحة عقله وجودة نظره للعواقب.
وقوله: " اشربوا في آنية الأدم التي يلاث على أفواهها.
قال الإمام: " الأدم جمع أديم، وهو(2) الجلد الذي قد(3) تم دباغه وتناهى. قال السيرافي:" لم يجمع فعيل على فُعل إلا أديم وأدم، وأفيق وأفق، وقضيم وقضم، القضيم الصحيفة، والأفيق الجلد الذي لم يتم دباغه.
…………………………………………………
ــــــــــــــــــــ
قال القاضي: وقوله:" يلاث على أفواهها " أي يربط ويلف بعضها على بعض، قال القتبي(4):" أصل(5) اللوث الطي، ولثت العمامة أي لففتها "
وهذا بمعنى(6) اللفظ الوارد في الرواية الأخرى: " عليكم بالموكى " مقصور، أي بالأسقية التي توكأ، أي تربط أفواهها بالوكاء، وهو الخيط الذي تربط به.
والقضيم الصحيفة كما قال، لكنها البيضاء التي لم يكتب فيها بعد. وإنما حضهم - صلى الله عليه وسلم - على الشرب في آنية الأدم وهي الأسقية والموكى - المذكور في الآحاديث الأخر(7) وفي كتاب الأشربة - لأنها، لرقة جلودها، لا يمكن أن يتم فيها فساد الأشربة وتخميرها حتى تنشق ويظهر فيها، بخلاف غيرها من الأواني، فكانت آمن من هذا(8)، وقد بيناه في كتاب الأشربة.
وقوله: " وتديفون فيه(9) من(10) القطيعاء " رويناه بالدال المهملة،
__________
(1) في (ط):" هي تربصه ".
(2) في (ح):" وهي ".
(3) قوله:" قد " ليس في (ط).
(4) في (ط):" القتيبي ".
(5) في (ط):" أصول ".
(6) في (أ):" معنى ".
(7) في (ح):" الثلاثة ".
(8) في (ط):" في هذا ".
(9) في (ح):" به ".
(10) قوله:" من " ليس في (أ).(1/179)
والذال المعجمة، وبضم التاء مع المهملة، ثلاثي (1)، وكلاهما صحيح بمعنى(2)، وقال بعض المتعقبين: " صوابه: تدوفون إذا أهملت، أو تذيفون إذا أعجمت، كله ثلاثي، وخلاف هذه الرواية هو(3) خطأ ؛ لأنه ثلاثي وغيره قد حكى " أذاف(4)" فالرواية صحيحة، قال ابن دريد: " دفت الدواء وغيره بالماء أدوفه " بإهمال الدال. وقال غيره: " وذفته أذيفه، وسُمٌّ مذوف ومذيف ومذوف(5) ومذؤوف، من ذأفت، وهو السم المذاف ".
وقوله: " إنهم اعتذروا بكثرة الجرذان في أرضهم وأنها(6) تأكلها فلم يعذرهم بذلك ".
…………………………………………………
ــــــــــــــــــــ
قال الإمام: " يحتمل أن يكون إنما راجعوه لأنهم اعتقدوا أنه إنما يبني كثيرًا من شرعه على المصالح، وأن من المصلحة الرخصة عند الضرورات فلم يعذرهم - صلى الله عليه وسلم - لأنه اعتقد أنه ليس بأمر غالب يشق التحرز منه، وأن هذا ليس مما يباح للضرورة.
وواحد الجرذان جرذ، بضم الجيم وفتح الراء وبالذال المعجمة، على مثال نغر وصرد ".
قال القاضي:[ قد جاء النسخ لذلك للأنصار، وذكره مسلم في كتاب الأشربة، وقولهم " ليس كل الناس يجد "، فأرخص لهم في الجر غير المزفت. وفي البخاري نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الظروف فقالت الأنصار: " إنه لا بد لنا منها، قال: " فلا إذن"، وقوله: " نهيتكم عن الأنبذة إلا في سقاء، فاشربوا في الأسقية كلها "، وفي الرواية الأخرى: " في كل وعاء "، وفي الحديث الآخر: " نهيتكم عن الظروف، وإن الظروف لا تحل شيئًا ولا تحرمه، وكل مسكر حرام ". وبيان هذا يأتي فيما بسط في الأشربة ](7).
__________
(1) قوله:" ثلاثي " ليس في (ط).
(2) في (ح):" بمعنى صحيح ".
(3) في (ح):" وهو ".
(4) في (ط):" أداف ".
(5) في (ط):" مدوف ".
(6) في (أ):" فأنها ".
(7) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).(1/180)
ذكر في هذا الحديث قول أبي جمرة: " كنت أترجم بين يدي ابن عباس ترجم عليه البخاري:"الترجمة بين يدي الحاكم "، قال بعضهم: كان أبو حمزة يتكلم بالفارسية، فكان يترجم لابن عباس عمن يتكلم بها ".
وفيه جواز الترجمة وقبولها والعمل بها، وجواز المترجم الواحد، لأنه من باب الخبر لا من باب الشهادة، وفي هذا الأصل تنازع وخلاف في مذهبنا، والأشهر الجواز. وفيه جواز قول الرجل لأخيه: مرحبًا، وقد ترجم البخاري عليه بذلك.
…………………………………………………
ــــــــــــــــــــ
وفيه وفود الرعية على إمامها وتبليغها عنه أوامره لغيرها، كما قالوا في الحديث: " ونبلّغه مَنْ وراءَنا " كذا روينا فيه [ بكسر: مِن، وقد روي](1) بنصب " من "، ونصب "وراءنا " على الظرف، وفي آخر الحديث في الأم الخلاف في قوله: "[ وأخبروا به من وراءكم ](2)" أو " مِنْ ورائِكُم " مفسر في الأم، وكلاهما صحيح بمعنى.
[ وفي هذاالحديث وشبهه أن فرض الهجرة لم يكن عامة، وإنما كان فرضًا على أهل مكة وعلى من خاف أن يؤذى ويغلب على دينه، وإنما كان الفرض على غيرهم النفير(3) ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم(4) وسيأتي هذا في كتاب السير والجهاد إن شاء الله تعالى ](5).
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(3) قوله:" النفير " ليس في (ط).
(4) قوله:" إليهم " ليس في (ط)، وفيها بعد قوله:" إليهم ":" وفرض الجهاد ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).(1/181)
وقوله في الحديث:" وفي القوم رجل أصابته جراحة "، قيل اسمه: جهم بن قثم، ذكر ذلك ابن أبي خيثمة، وكانت الجراحة في ساقه، وفيه علم من أعلام النبوة؛ لإخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم لحالة(1) من شرب النبيذ،ووصف لهم صفة قد وقعت لهم على نص ما أخبر - صلى الله عليه وسلم - به، وظاهره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم بما جرى لهم، لكنه لم يواجههم بذلك أدبًا وحسن عشرة.
واختصاصه في هذا الحديث النهي(2) عن هذه الأربع من الأشربة دون غيرها من المحرمات، لأنهم سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عما يصلح لهم منها، فأجابهم بذلك، وهو مذكور في الأم في حديث محمد بن بكار.
وقوله في حديث يحيى بن أيوب: قال سعيد: وذكر قتادة أبا نضرة عن أبي سعيد الخدري، معناه: أن قتادة حدث بالخبر عن أبي نضرة عن أبي سعيد، وكذا ذكره سعيد بن منصور مفسرًا: عن سعيد بن أبي عروبة قال قتادة: فذكر أبو نضرة عن أبي سعيد.
وقوله في حديث محمد بن بكار البصري: " نا أبو عاصم عن ابن جريج"، ثم قال فيه: " أخبربي أبو قزعة أن أبا نضرة أخبره وحسنًا أخبرهما أن أبا سعيد الخدري أخبره أن وفد عبد القيس...".
…………………………………………………
ــــــــــــــــــــ
قال الإمام: " في هذا الضمير من قوله: " أخبرهما " إشكال، على من يرجع ؟ فقال بعضهم: " أبو نضرة هو المخبر لأبي قزعة وللحسن معه "، وإنما اغتر هذا بظاهر سياقة مسلم، والصواب في الإسناد عن ابن جريج، ثم قال فيه(3): أخبرني أبو قزعة أن أبا نضرة وحسنًا أخبراه أن أبا سعيد أخبره "، وإنما قال أخبره ولم يقل أخبرهما، لأنه رد الضمير إلى أبي نضرة وحده، وأسقط الحسن لموضع الإرسال، والحسن ههنا: هو الحسن البصري، ولم يسمع من أبي سعيد.
__________
(1) في (أ) و(ح):" بحاله ".
(2) في (ح):" للنهي ".
(3) قوله:" ثم قال فيه " ليس في (أ) و(ح).(1/182)
وبهذا اللفظ خرَّجه ابن السكن في مصنفه عن ابن جريج أخبرني أبو قزعة أن أبا نضرة العبدي وحسنًا أخبراه أن أبا سعيد أخبره، وأظنه من إصلاح ابن السكن.
وكذلك خرجه أبو مسعود الدمشقي عن مسلم بن الحجاج عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن أبي قزعة عن أبي نضرة وحده(1) عن الخدري، ولم يذكر الحسن ؛ لأنه لم يلق الخدري ولا سمع منه.
وفي مسند البزار الكبير عن ابن جريج اخبرني أبو قزعة، نا أبو نضرة وحسن عن الخدري أن وفد عبد القيس... الحديث، قال البزار: " حسن هذا هو الحسن البصري ".
قال القاضي: بعضهم المذكور أولاً هو عبد الغني بن سعيد الحافظ المصري(2)، ولم يقل شيئًا، والصواب ما ذكره الإمام مما ردّه(3) عليه أبو علي الجياني بنص ما تقدم.
وأبو قزعة يقال(4) بفتح الزاي وسكونها.
29 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ وَإِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ جَمِيعًا، عَنْ وَكِيعٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ إِسْحَقَ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ، عَنْ أَبِي?مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رُبَّمَا قَالَ وَكِيعٌ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ مُعَاذًا قَالَ: بَعَثَنِي ــــــــــــــــــ
وقوله في حديث معاذ: " حدثني يحيى بن عبدالله بن صيفي عن أبي معبد عن ابن عباس عن معاذ - رضي الله عنهم - .
قال الإمام: " وقع عند ابن ماهان عن أبي معبد الجهني، والجهني ههنا وهم، وإنما هو أبو معبد مولى ابن عباس، واسمه نافذ، يعني بالنون والفاء والذال المعجمة.
__________
(1) قوله:" وحده " ليس في (ح).
(2) في (ح):" البصري ".
(3) في (ح):" ردّ ".
(4) قوله:" يقال " ليس في (ح).(1/183)
وقوله(1):" ستأتي(2) قومًا أهل كتاب(3) إلى قوله: " فإذا عرفوا الله فأخبرهم، هذا يدل على(4) أنهم غير عارفين بالله تعالى، وهو مذهب حذاق المتكلمين، في اليهود والنصارى أنهم غير عارفين بالله تعالى وإن كانوا يعبدونه ويظهرون معرفته، لدلالة السمع عندهم على هذا، وإن كان العقل لا يمنع أن يعرف الله تعالى من كذب رسوله وظنه ساحرًا ومجنونًا وممخرقًا لأنهما معلومان لا يشترط ارتباط كل واحد منهما بالآخر، ودلالة السمع الواردة بالمنع عند هؤلاء ما ورد من الظواهر المخالفة لها مستقصاة في أصول الديانات ".
قال القاضي: ما عرف الله تعالى من شبهه وجسمه من اليهود، أو أجاز عليه البدء(5) أو أضاف إليه الولد منهم، أو أضاف إليه الصاحبة والولد وأجاز الحلول عليه والانتقال والامتزاج من النصارى، أو وصفه(6) بما لا يليق
رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ ».
ـــــــــــ
__________
(1) في (أ):" وقوله فيه ".
(2) في (ط):" سيأتي ".
(3) في (ح):" وقوله فيه لمعاذ إنك ستأتي قومًا من أهل كتاب ".
(4) قوله:" على " ليس في (أ) و(ح).
(5) في (أ) و(ح):" اليد ".
(6) في (ط):" ووضعه ".(1/184)
به أو أضاف إليه الشريك والمعاند في خلقه وملكه من المجوس والثنوية(1) فمعبودهم الذي عبدوه ليس بالله، وإن سموه به ؛ إذ ليس موصوفًا بصفات الإله الواجبة له، فإذًا ما عرفوا الله ولا عبدوه(2).
فتحقق هذه النكتة واعتمد عليها، وقد رأيت معناها لمتقدمي أشياخنا، وبها قطع الكلام أبو عمران الفاسي بين(3) عامة أهل القيروان عند تنازعهم في هذه المسألة.
وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ دليل بين ألا يطالب أحد بفروع الشريعة إلا بعد ثبات الإيمان، وحجة لمن يقول: إن الكفار غير مخاطبين بفروع الشرائع(4)؛ لقوله: " فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات "، وفي الرواية الأخرى: " فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات ".
وقد يحتج من يقول بالقول الآخر بأن هذا على تقديم الآكد في التعليم، ألا تراه كيف رتب ذلك في الفروع، وبدأ بعضها على بعض.
30 - حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَقَ،ح، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ إِسْحَقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ:« إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا بِمِثْلِ حَدِيثِ وَكِيعٍ».
ــــــــــــــ
[ وفيه أن قول " لا إله إلا الله محمد رسول الله " يعصم الدم، وأن أحدهما دون الأخرى(5) لا يعصم ؛ لأنه قد شرطهما جميعًا.
__________
(1) في (ط):" والتنوية ".
(2) في (أ):" عهدوه ".
(3) في (ح):" عند"، في حاشيتها:"بين"، وكتب فوقها:"صح ".
(4) في (ح):" الشريعة ".
(5) في (ط):" الآخر ".(1/185)
وفيه أن تمام الإيمان بها وصحته باعترافه بأركانه(1) وقواعده بعدهما، وأن من لم يؤمن بذلك غير مؤمن ولا تنفعه الشهادتان](2).
وفيه ترتيب الفروض(3) في التأكيد وتبدئة(4) حقوق الأبدان على حقوق الأموال.
وفيه دليل على أن الإيمان لا يصح إلا بالمعرفة وانشراح الصدر، ولا يكفي فيه نطق اللسان كما تقوله الجهمية ولا التقليد المجرد كما تظنه الجهلة.
ولم يجئ في حديث معاذ فرض الصيام والحج، ولا يصح أن يقال إن إرسال معاذ كان قبل فرضهما، فإن توجيه معاذ إلى اليمن كان من آخر أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - [ سنة تسع، وفيها فرض الحج، والصيام فرض سنة ثنتين ](5)، ومات - صلى الله عليه وسلم - ومعاذ باليمن، وهذه الفروض متقدمة.
[ قال الداودي: " في قوله(6):" إن أطاعوا لكذا فأعلمهم كذا " أنهم إن جحدوا واحدة من ذلك لم يكونوا مؤمنين ".
وفي قوله:" تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" أنه(7) حد ما بين الغني والفقير، وأن من ملك ما فيه زكاة فهو غني لا تحل له الصدقة وتؤخذ منه لغيره.
__________
(1) في (ط):" بأركان الإيمان ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(3) في (ح):" الفرض ".
(4) في (أ):" تبدنة " بدون واو.
(5) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(6) في (ط):" وفي قولهم ".
(7) قوله:" أنه " ليس في (ط).(1/186)
31 - حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ الْعَيْشِيُّ،حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ -وَهُوَ ابْنُ الْقَاسِمِ -، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: « إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا فَعَلُوا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ،فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ».
ــــــــــــــ
وفيه حجة لجمهور العلماء أن الزكاة تفرق في موضعها ولاتنقل لغيره](1)، وسيأتي تفصيله في الزكاة.
وفيه إيجاب الزكاة في مال الصبي والمجنون، لعموم قوله " من أغنيائهم(2)".
وقوله:" إياك وكرائم أموالهم " نهاه عن أن يأخذ في الصدقة فوق السن الذي يلزمه(3)، أو كريمة ماله ونخبته إن كانت في ذلك السن، وليأخذ الوسط منه كما نبينه في الزكاة(4).
وقوله: " واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب"، أي إنها مسموعة مستجابة لاترد، وقد ورد مفسَّرًا من قول عمر بن الخطاب في الموطأ، وروى أيضًا في حديث رفعه أبوهريرة.
__________
(1) في (ط):" إلى غيره ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(3) في (أ):" يلزمها ".
(4) في (ح):" كتاب الزكاة ".(1/187)
32 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لأَبِي بَكْرٍ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: « أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ
ــــــــــــــ
وقوله(1) في حديث أبي بكر مع عمر رضي الله عنها في الردة: " والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة الزكاة ".
قال الإمام: " فيه دليل على القول بالقياس، وكذلك في قوله: " أرأيت لو لم يصلوا " فكأنه إذا سلَّم له القتالَ على الصلاة قاس الزكاة عليها(2) لما وردا في القرآن موردًا واحدًا ".
[ قال الخطابي(3): في دليل قوله هذا أن قتال الممتنع من الصلاة كان إجماعًا من الصحابة، فلذلك رد المختلف فيه إليه](4). قال القاضي(5): وقد(6) ورد في الحديث نفسه وخرجه في الكتاب من رواية عبدالله بن عمر: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم..." الحديث(7).
__________
(1) في (ح):" قوله ".
(2) في (ح):" عليها الزكاة ".
(3) في (ط):" قال القاضي قال الخطابي ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(5) قوله:" القاضي " ليس في (ط).
(6) في (أ):" قد ".
(7) في (ح):"... وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ".(1/188)
فعلى هذا هو نص في قتال من لم يصلِّ ولم يؤت الزكاة، وأن من لم يفعل ذلك لم يعصم دمه وماله كمن لم يشهد بالشهادتين، لكن يدل من احتجاج عمر على أبي بكر بالحديث وليس فيه غير ذكر الشهادتين دون غيرهما أنهما لم يسمعاه، وأن ابن عمر سمع ذلك في موطن آخر، والله أعلم، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ » ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لاُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلا أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ.
ــــــــــــــ
ولو سمع ذلك عمر لما احتج بالحديث دونها، إذ تلك الزيادة عليه حجة، ولو سمعها أبو بكر لاحتج بها على عمر ولم يحوج إلى الحجة بالقياس ولا(1) بعموم قوله: " إلا بحقها ".
وفيه الحجة للقول بالعموم، لاحتجاج أبي بكر بقوله: " إلا بحقها "، وقوله لعمر: " فإن الزكاة حق المال ".
وقد أجمع المسلمون على قتل الممتنع عن أداء الصلاة والزكاة مكذبًا بهما، وجمهورهم على قتل الممتنع من الصلاة أو المتهاون بها مع اعترافه بوجوبها.
وأجمعوا على قتال الممتنع من(2) أداء الزكاة.
وقال(3) - صلى الله عليه وسلم - : " بني الإسلام على خمس "، فهي دعائم الإسلام فمن جحد واحدة منها كفر، ومن ترك واحدة منها لغير عذر وامتنع من فعلها مع إقراره بوجوبها قتل عندنا وعند الكافة، وأخذت الزكاة من الممتنع كرهًا، وقوتل إن امتنع إلا الحج ؛ لكونه على التراخي.
__________
(1) قوله:" بالقيا ولا " ليس في (أ) و(ح).
(2) في (أ) و(ط):" عن ".
(3) في (ح):" وقوله ".(1/189)
واختلف العلماء في قتل تارك(1) غير الشهادتين: فأكثرهم على أن ذلك حدًّا لا كفرًا(2)، وهو الصحيح.
33 - وَحَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ الأخَرَانِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« قَالَ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَمَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ ».
ــــــــــــــ
وقيل: كُفْرًا، والقول بهذا في تارك الصلاة أكثر، وعليه تأولوا سبي أبي بكر لنساء مانعي الزكاة وأموالهم، لاعتقاده كفرهم، ولقوله:{ فإن تابوا وأقاموا الصلاة(3)... } الآية، وللحديث المتقدم، وحكم فيهم حكم الناقض للعهد، فلما توفي وولي عمر رد عليهم ذريتهم وحكم فيهم(4) حكم المرتدين.
وكان أهل الردة ثلاثة أصناف:
صنف كفر بعد إسلامه ولم يلتزم شيئًا، وعاد لجاهليته أو اتبع(5) مسيلمة أو العنسي وصدق بهما.
وصنف أقر بالإسلام إلا الزكاة فجحدها، وأقر بالإيمان والصلاة، وتأول بعضهم أن ذلك كان خاصاًّ للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولقوله: " خذ من أموالهم صدقة... " الآية.
وصنف اعترف بوجوبها ولكن امتنع من دفعها إلى أبي بكر - رضي الله عنه - وقال: إنما كان قبضها للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، لا لغيره ممن يقوم مقامه بعده، وفرقوا صدقاتهم بأيديهم.
__________
(1) في (أ) و(ط):" تاركها ".
(2) في (ح):" حد... كفر ".
(3) في (ط) زيادة:{ وآتوا الزكاة }.
(4) في (ح):" عليهم " وعليها "صح"، في حاشيتها:" فيهم "، وكتب فوقها:"صح ".
(5) في (ط):" ومنهم من اتبع ".(1/190)
34 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ، عَنِ الْعَلاءِ، ح، وَحَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ - وَاللَّفْظُ لَهُ -، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، عَنِ الْعَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ».
ــــــــــــ
فرأى أبوبكر والصحابة - رضي الله عنهم - قتال جميعهم: الصنفان الأولان لكفرهم، والثالث لامتناعه بزكاته، وشمل جميعهم اسم الردة ؛ إذ كانوا الأكثر حتى لم يكن يصلي(1) لله إلا في المدينة ومكة وجواثى.
وفيمن كفر منهم اختلف في سبي ذراريه لا في مانعي الزكاة، قاله الخطابي، قال: " ثم لم ينقرض العصر حتى أجمعوا على أنه لا يسبى المرتد ".
وإنما اختلف العلماء في سبي أولاد المرتدين، وإلى مذهب أبي بكر فيهم وتأويله ذهب أصبغ بن الفرج من أصحابنا، وبرأي عمر - رضي الله عنه - قال جمهور العلماء.
ولا يصح(2) أن يكون خلافًا(3) بين الصحابة في قتال(4) الصنف الأول؛ إذ هم كفار بغير خلاف، وإنما وقع النزاع أولاً في هذين الصنفين الآخرين ؛ إذ هم بغاة متأولون(5)، ولعذرهم بجهلهم بحقيقة أركان الشريعة لقرب عهد كثير منهم بالإسلام، وقصر مدتهم فيه.
__________
(1) في (أ) و(ح):" صلى ".
(2) في (ط):" قال الإمام: ولا يصح...".
(3) في (ط):" خلاف ".
(4) في (ح):" قتل ".
(5) في (ح):" متأولين ".(1/191)
35 - وَحَدَّثَنَا حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ..». بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،ح، وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ،ح، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَعْنِي ابْنَ مَهْدِيٍّ قَالا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوا لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ، ثُمَّ قَرَأَ:{إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ }.
ــــــــــــــ
وأما الآن فقد وقع(1) الإجماع أنه من جحد فريضة من الفرائض فهو كافر.
وقول عمر - رضي الله عنه -: " فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق ". يعني بما ظهر له من حجته عليه وبيّنه له من ذلك لا أن عمر - رضي الله عنه - قلده واعتقد عصمته كما تذهب إليه الروافض من عصمة الإمام وتحتج بمثل هذا.
وفيه حجة بإجماع الصحابة على قتال أهل البغي والتأويل،وتمييز قتالهم خاصة من زمن علي - رضي الله عنه -.
__________
(1) في (ح):" انعقد ".(1/192)
وقد اختلف في فعل عمر في رد سبي عيال أهل الردة: هل هو نقض لفعل(1) أبي بكر واجتهاد آخر منه ؟ فذهب بعضهم إلى هذا،وأنه لم ير إمضاء ذلك الحكم فيهم، وقال آخرون: ليس كذلك، ولا يصح نقض حكم أجمع عليه أبوبكر والصحابة؛ إذ لم يؤثر عن(2) أحد منهم حينئذ خلاف رأيه في 36 - حَدَّثَنَا غَسَّانَ الْمِسْمَعِىُّ مَالِكُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الصَّبَّاحِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ».
ــــــــــــــ
ذلك(3)، وإنما رأى عمر المن عليهم وعتقهم تفضلاً عليهم للقرابة والرحم لما فتح الله عليهم بما فداهم به، وعوض من تملكهم منهم، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبي هوازن وقريش من منه عليهم، ولو كان نقضًا لما فداهم(4) ولأخرجهم من أيدي مالكيهم دون فداء، وكذلك(5) فعل عمر بكل من ملك من العرب، وقال: " ليس على عربي ملك،ولسنا بنازعين من يد رجل(6) أسلم عليه، ولكنا نقومهم خمسًا من الإبل، فأخرجهم من الملك بها(7) وردهم على(8) أهليهم(9).
__________
(1) في (ط):" ما فعل ".
(2) في (ط):" على ".
(3) قوله:" ذلك " ليس في (ح).
(4) في (ط):" فداهم عمر ".
(5) في (ط):" ولذلك ".
(6) في (ط):" رجل شيئًا ".
(7) في (ح) و(ط):" بهذا ".
(8) في (ط):" إلى ".
(9) في (ط) كلمة تشبه أن تكون:" ابنسائهم ". ومن قوله:" وقد اختلف في فعل عمر...." إلى هنا جاء ملحقًا بهامش (ح).(1/193)
قال الإمام: " وقوله(1): " لو(2) منعوني عقالاً "، قيل المراد به صدقة عام، يقال: أخذ منه عقال هذا العام إذا أخذ صدقته قاله(3) الكسائي ؛ قال الشاعر:
سعى عقالاً فلم يترك لنا سبدًا فكيف لو قد سعى عمرو عقالين
قال أبو عبيد: " والعقال أيضًا اسم لما يعقل به البعير "، قال: " وقد بعث - صلى الله عليه وسلم - محمد بن مسلمة على الصدقة، فكان يأخذ مع كل فريضتين عقالهما وقرانهما، وكان أيضًا عمر يأخذ مع كل فريضة عقالاً ورواء ".
[قال الإمام(4):" فيحتمل أن يكون هذا هو المراد بالحديث وقاله على جهة
37 - وَحَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ وَابْنُ أَبِي عُمَرَ قَالا: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ يَعْنِيَانِ الْفَزَارِيَّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ ».
ــــــــــــــ
المبالغة في التقليل](5)".
قال القاضي: قال الواقدي عن مالك وابن(6) أبي ذئب: " العقال هنا عقال الناقة ".
وروى ابن وهب أنه(7) الفريضة من الإبل،ونحوه عن النضر بن شميل.
[ وحكى الداودي عن مالك أنه القلوص من الإبل،وهو بمعنى ما تقدم، وقيل سعاية عام ](8).
وقال أبو سعيد الضرير: " العقال كل شيء يؤخذ للزكاة من أنعام وثمار، لأنه عقل عن مالكه ".
__________
(1) في (ط):" ولقوله ".
(2) في (ح):" ولو ".
(3) في (ح):" قال ".
(4) قوله:" قال الإمام " ليس في (ط).
(5) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(6) إلى هنا نهاية اللوحة (14) من نسخة (ط)، وهناك لوحة مفقودة، لأن الكلام غير متصل. وسوف نضم نسخة (ك) في المقابلة لهذا الجزء المفقود.
(7) في (ك):" أن ".
(8) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).(1/194)
وقال المبرد: " العقال ما أخذ المصدق من الصدقة بعينها، فإن أخذ عوضًا عنها قيل أخذ نقدًا، ومنه قول الشاعر: فرد(1) ولم يأخذ عقالاً ولا نقدًا ".
[وقيل المراد ما يجب في العقال إذا كان من عروض التجارة فبلغ مع غيره ما فيه زكاة](2).
وقد روي في هذا الحديث(3):" لو منعوني عناقاً(4)"، وروي: " جديًا "، وهو تفسير عناق،وقد احتج من يرى أخذ العناق في الزكاة من الغنم إذا كانت سخالاً كلها بهذا، وهو أحد الأقوال عندنا،[ وهو قول الشافعي والأوزاعي وأبي يوسف وإسحق، ومشهور مذهبنا أنه يأتي بمسنة، وهو قول
38 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الأحْمَرُ،ح، وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ كِلاهُمَا، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« مَنْ وَحَّدَ اللَّهَ..»، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِهِ.
ــــــــــــــــــــ
الثوري وأبي حنيفة(5) وأصحابه، وروي أيضًا عن الثوري وأحمد: لا شيء فيها](6)، ولا حجة فيه لأنه إنما ورد على ضرب المثل للتقليل على الصحيح.
واحتج بعضهم في الزكاة في العروض إذا كانت للتجارة بقوله: " لو منعوني عقالاً ". وفيه حجة أن الردة لا تسقط الزكاة عن مال المرتد.
وفيه حجة على أن حول الأولاد حول الأمهات ؛ إذ لم يأت للعناق حول.
__________
(1) قوله:" فرد " ليس في (أ) و(ح).
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(3) في (ك):" الكتاب".
(4) في (ك):" عقالاً ".
(5) في (ك):" وقال أبو حنيفة ".
(6) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).(1/195)
ومعنى " عصموا ": منعوا، قال الله تعالى: " والله يعصمك من الناس "، و " لا عاصم اليوم من أمر الله "، و " يعصمني من الماء " وقد فسره بعد في الحديث الآخر بقوله: " حرم ماله ودمه(1)"، واختصاصه ذلك بمن قال: " لا إله إلا الله " تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد بهذا(2) مشركوا العرب وأهل الأوثان ومن لا يقر بالصانع ولا يوحده، وهم كانوا أول من دعي إلى الإسلام وقوتل عليه، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد والصانع فلا يكتفى في عصمة دمه بقوله ذلك ؛ إذ كان يقولها في كفره، وهي من اعتقاده، فلذلك جاء في الحديث الآخر:"وأني رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ".
وفيه من الفقه: اجتهاد الأئمة في النوازل وردها إلى الأصول والمناظرة فيها، ورجوع من ظهر له الحق وتركه رأيه الأول، كما فعل عمر وغيره، وترك تخطئة المتناظرين المجتهدين المختلفين في الفروع بعضهم لبعض، أو إنكار
__________
(1) في (ح):" دمه وماله ".
(2) في (ح):" بها ".(1/196)
39 - وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ ابْنِ الْمُغِيرَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« يَا عَمِّ قُلْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ »، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ ! أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيُعِيدُ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَمَا وَاللَّهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ »، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ }، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}.
ــــــــــــــــــــ(1/197)
بعضهم لبعض ذلك ؛ إذ كل واحد منهم مجتهد، فإن عمر - رضي الله عنه - لم يخطِّئ أولاً أبا بكر - رضي الله عنه -،وإنما احتج عليه،[ ثم إن أبابكر لم يخطّئ عمر، ولا أنكر خلافه إذ خالفه، لكنه احتج عليه](1) حتى بان له الحق ورجع إلى قوله.
وفيه الحجة لمن ذهب إلى(2) أن فعل الإمام، إذا لم يعرف له مخالف(3)، إجماع؛ لشهرة فعله، وأنهم كانوا ممن لا يقرون على باطل،ويقومون بما عندهم من حق، ولا يكتمون ما عندهم من علم، ولا يداهنون في دين الله تعالى، فإذا ظهر فعل إمام من الأئمة بحضرتهم،ولم يسمع من أحد منهم له
40 - وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ،ح، وَحَدَّثَنَا حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحٍ كِلاهُمَا، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّ حَدِيثَ صَالِحٍ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الأيَتَيْنِ، وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: وَيَعُودَانِ فِي تِلْكَ الْمَقَالَةِ، وَفِي حَدِيثِ مَعْمَرٍ مَكَانَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ: فَلَمْ يَزَالا بِهِ.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ك).
(2) قوله:" إلى " ليس في (أ) و(ح).
(3) في (ك):" يعلم أنه مخالف " بدل:" يعرف له مخالف".(1/198)
41 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ وَابْنُ أَبِي عُمَرَ قَالا: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ، عَنْ يَزِيدَ وَهُوَ ابْنُ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِعَمِّهِ عِنْدَ الْمَوْتِ:« قُلْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ »، فَأَبَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ » الأيَةَ.
ــــــــــــــــــــ
نكير دل على موافقتهم له وإجماعهم على صواب فعله، وأكثر الأصوليين لا يرون هذا إجماعًا.
وفيه أن الواحد إذا خالف الجماعة فخلافه معتبر، ولا ينعقد به إجماع، خلافاُ لمن رأى غير ذلك من الأصوليين.
وفيه أن الخلاف إذا وقع ثم انعقد الإجماع قبل انقراض العصر أن الخلاف غير معتبر،[ وفيه خلاف بين الأصوليين أيضًا، وهو الصحيح.
وقوله:" وحسابهم على الله "؛ أي: حساب سرائرهم إن أظهروا ما يحقن دمائهم ويعصمهم وأبطنوا خلافه، كما فعل(1) المنافقون، فذلك إلى المطلع على السرائر، وإن حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - والأئمة بعده إنما كان على الظاهر.
وقوله في حديث أبي طالب كله:" أشهد لك بها عند الله لقوله تعالى: { إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا }، وشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - له بذلك لو كان لطيب قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلمه(2) بموته على الإسلام ؛ لقوله في شهداء أحد:" أما أنا فشهيد على هؤلاء "، وقال في الآخر:" لا أدري ما تحدثون(3) بعدي"](4). وهي أيضًا(5) فضيلة لمن رزقها، كما قال في المقيم بالمدينة والصابر على شدتها: " كنت له شهيدًا أو شفيعًا يوم القيامة ".
__________
(1) في (أ) و(ح):" فعله ".
(2) في (أ) و(ح):" بعلمه ".
(3) في (ح):" يحدثون ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح)، والمثبت من (ك).
(5) قوله:" أيضًا " ليس في (ح).(1/199)
ويكون هذا أيضًا لتطييب قلب عمه إن قالها، لما يرجوه من الخير بشهادته له، وطلبه بها له من ربه تعالى جزيل ثوابه، مع ما تقدم له من نصره 42 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ الأشْجَعِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِعَمِّهِ:« قُلْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ »، قَالَ لَوْلا أَنْ تُعَيِّرَنِي قُرَيْشٌ يَقُولُونَ: إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْجَزَعُ لأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ }.
ــــــــــــــــــــ
والذب عنه، كما قال في الرواية الأخرى: " أحاج لك بها يوم القيامة "، وإن كانت الإعمال في الكفر غير نافعة، لكن رجا له - صلى الله عليه وسلم - بموته على الإسلام من تفضل الله بما شاء من ثوابه، وشفاعته له، ومكانته منه، وقد نالته بركته مع موته على الكفر وخفف عذابه بذلك، فكيف لو أسعده الله باتباعه، وسيأتي إكمال الكلام على هذا الفصل في حديث حكيم وحديث الشفاعة.
وقوله: " إنما حمله على ذلك الجزع "، كذا روايتنا فيه(1) في هذا الموضع في الأم وغيرها من كتب الحديث والخبر عن(2) جملة شيوخنا ؛ بالجيم والزاي، إلا فيما قرأناه على أبي الحسين سراج(3) بن عبدالملك اللغوي الحافظ في كتاب أبي عبيد الهروي، فإنه(4) ذكر(5)" الخرع " بالخاء والراء، وكذا نبهنا عليه غير واحد من شيوخنا أنه الصواب، وحكى أبو سليمان الخطابي أن ثعلبًا، كان يقول ذلك، وفسره بالضعف والخور.
__________
(1) قوله:" فيه " ليس في (أ) و(ح).
(2) في (ح):" عند ".
(3) في (ح):" بن سراج ".
(4) في (ح):" فإنما ".
(5) في (أ) و(ح):" ذكره ".(1/200)
وقال شمر بن حمدويه: " كل رخو(1) ضعيف خريع وخرع "، قال: " والخرع الدهش،ومنه قول أبي طالب... " فذكره وفسره بالضعف والخور.
وقوله: " حين حضرته الوفاة " أي قرب حاله، وظهرت دلائل موته، وذلك كله قبل المعاينة،ولو كان بعد المعاينة والحضور الحقيقي لما نفعه ؛ لقوله
43 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ كِلاهُمَا، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ حُمْرَانَ، عَنْ عُثْمَانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ ».
ــــــــــــــ
تعالى: " وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن } الآية(2).
ويدل على أنه لم يكن(3) يعاين ما جرى من محاورة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكفار قريش معه(4)، ومجاوبتهم بما جاوب، وقد رأيت بعض المتكلمين على الحديث جعل الحضور على حقيقة الاحتضار، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجا بقوله ذلك حينئذ أن تناله الرحمة ببركته - صلى الله عليه وسلم - ، ولهذا قال:" اشهد، وأحاج لك بها(5)"، ولا يصح لما قدمناه.
__________
(1) في حاشية (ح):"وخر "، وكتب فوقها:" خ".
(2) قوله:" الآية " ليس في (أ) و(ح).
(3) قوله:" يكن " ليس في (ك).
(4) في (ك):" له ".
(5) في (ك):" بها لك ".(1/201)
وقوله(1):" لأقررت(2) بها عينك "، قال ثعلب: " معنى(3) أقر الله عينه، أي بلغه أمنيته حتى ترضى نفسه وتقر(4) عينه، فلا تستشرف(5) لشيء، ومنه قولهم لمن أدرك ثأره: وقعت بقرك، أي أدرك قلبك ما كان يتطلع إليه ".
وقال الأصمعي: " معناه: أبرد الله دمعته، لأن دمعة الفرح باردة ".
وسمعت الأستاذ أبا الحسن بن الأخضر النحوي يقول في تفسير هذا إنه من البرد، كما أن ضده(6) من السخن بقولهم(7): " أسخن الله عينه "، وذلك أن الذي يرى ما يسوؤه يبكي فتسخن عينه بالدموع، والذي يرى ما يسره لا يبكي، فتبقى عينه باردة، فيكون معنى " أقر الله عينه " أي أراه الله(8) ما يسره.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنِ الْوَلِيدِ أَبِي بِشْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ حُمْرَانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: مِثْلَهُ سَوَاءً.
ــــــــــــــــــــ
وقوله: " فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة"، كذا في كافة الأصول وعند جماعة شيوخنا، وفي نسخة: " ويعيدان له تلك المقالة "، وهو أشبه، يعني أبا جهل وابن أبي أمية، المذكورين أول الحديث،
المناقضين للنبي - صلى الله عليه وسلم - في أمره، ويصححه قوله في الأم في الحديث الآخر: " ويعودان بتلك المقالة ".
وقوله: " من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة ".
__________
(1) في (أ):" قوله " بدون واو.
(2) في (أ) و(ك):" أقررت ".
(3) في (ح):" معناه ".
(4) في (ك):" ويقر ".
(5) في (ك):" يستشرف"، في (ح) نقطت من أعلاها ومن أسفلها.
(6) في (أ):" كما قال في ضده ".
(7) في (أ):" بقوله ".
(8) لفظ الجلالة ليس في (ك).(1/202)
قال الإمام: " اختلف الناس فيمن عصى الله من أهل الشهادتين، فقالت المرجئة:"لا تضره المعصية مع الإيمان "، وقالت الخوارج: " تضره ويكفر بها"، وقالت المعتزلة: " يخلد في النار إذا كانت معصيته كبيرة، ولا يوصف بأنه مؤمن ولا كافر، ولكن يوصف بأنه فاسق "، وقالت الأشعرية: " بل هو مؤمن، وإن لم يغفر له وعذب فلا بد من إخراجه من النار وإدخاله الجنة ".
وهذا الحديث حجة على الخوارج والمعتزلة، وأما المرجئة فإن احتجت بظاهره على صحة ما قالت به قلنا: محمله أنه غفر له، أو أخرج من النار بالشفاعة ثم أدخل الجنة، فيكون المعنى في قوله: " دخل الجنة " أي دخلها بعد مجازاته(1) بالعذاب،وهذا لا بد من تأويله، لما جاءت به ظواهر كثيرة من عذاب بعض العصاة، فلا بد من تأويل هذا الحديث على ما قلناه، لئلا تتناقض(2) ظواهر(3) الشريعة.
__________
(1) في (ح):" بعد مجازاة الله له ".
(2) في (ك):" يتناقض ".
(3) في (أ):" ظاهر ".(1/203)
44 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ النَّضْرِ بْنِ أَبِي النَّضْرِ قَالَ:حَدَّثَنِي أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ الأشْجَعِيُّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَسِيرٍ قَالَ: فَنَفِدَتْ أَزْوَادُ الْقَوْمِ، قَالَ: حَتَّى هَمَّ بِنَحْرِ بَعْضِ حَمَائِلِهِمْ، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! لَوْ جَمَعْتَ مَا بَقِيَ مِنْ أَزْوَادِ الْقَوْمِ فَدَعَوْتَ اللَّهَ عَلَيْهَا، قَالَ: فَفَعَلَ، قَالَ: فَجَاءَ ذُو الْبُرِّ بِبُرِّهِ، وَذُو التَّمْرِ بِتَمْرِهِ، قَالَ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَذُو النَّوَاةِ بِنَوَاهُ، قُلْتُ: وَمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ بِالنَّوَى قَالَ كَانُوا يَمُصُّونَهُ وَيَشْرَبُونَ عَلَيْهِ الْمَاءَ، قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهَا حَتَّى مَلا الْقَوْمُ أَزْوِدَتَهُمْ، قَالَ: فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ:« أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ لا يَلْقَى اللَّهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فِيهِمَا إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ ».
ــــــــــــــــــــ
وفي قوله في هذا الحديث: "[ وهو يعلم أن لا إله إلا الله ](1)" إشارة إلى الرد على من قال من غلاة المرجئة: " إن مظهر الشهادتين يدخل الجنة وإن لم يعتقد ذلك بقلبه "، وقد قيد ذلك في حديث آخر بقوله: " غير شاك فيها "، وهذا أيضًا يؤكد ما قلناه ".
[ قال القاضي: فيه دليل أن الإيمان لا يصح إلا بالمعرفة وانشراح الصدر - كما تقدم - لقوله: " وهو يعلم أن لا إله إلا الله ](2).
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ)، وقوله:" أن لا إله إلا الله " ليس في (ح).
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).(1/204)
وقد يحتج به أيضًا من يرى أن معرفة القلب مجردة نافعة دون النطق بالشهادتين، لاقتصاره على العلم، ومذهب أهل السنة أن المعرفة مرتبطة بالنطق(1) بالشهادتين، لا تنفع إحداهما ولا تنجي من النار دون الأخرى، إلا لمن لم يقدر(2) عليها لآفة(3) بلسانه أو لم تمهله المدة لقولها(4) حتى اخترم.
45 - حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ وَأَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاءِ جَمِيعًا، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - شَكَّ الأعْمَشُ - قَالَ: لَمَّا كَانَ غَزْوَةُ تَبُوكَ أَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ! لَوْ أَذِنْتَ لَنَا فَنَحَرْنَا نَوَاضِحَنَا فَأَكَلْنَا وَادَّهَنَّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« افْعَلُوا »، قَالَ: فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ فَعَلْتَ قَلَّ الظَّهْرُ، وَلَكِنِ ادْعُهُمْ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، ثُمَّ ادْعُ اللَّهَ لَهُمْ عَلَيْهَا بِالْبَرَكَةِ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« نَعَمْ قَالَ فَدَعَا بِنِطَعٍ فَبَسَطَهُ ثُمَّ دَعَا بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ قَالَ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِكَفِّ ذُرَةٍ، قَالَ: وَيَجِيءُ الأخَرُ بِكَفِّ تَمْرٍ، قَالَ: وَيَجِيءُ الأخَرُ بِكَسْرَةٍ، حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَى النِّطَعِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ يَسِيرٌ، قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِ بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ قَالَ:« خُذُوا فِي أَوْعِيَتِكُمْ »، قَالَ: فَأَخَذُوا فِي أَوْعِيَتِهِمْ حَتَّى مَا تَرَكُوا
__________
(1) قوله:" بالنطق " ليس في (أ) و(ك).
(2) في (ح):" لا يقدر ".
(3) في (ح):" من آفة ".
(4) في (ك):" لقولهما ".(1/205)
فِي الْعَسْكَرِ وِعَاءً إِلا مَلَئُوهُ، قَالَ: فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، لا يَلْقَى اللَّهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فَيُحْجَبَ عَنِ الْجَنَّةِ ».
ــــــــــــــــــــ
ولا حجة للمخالف للجماعة بهذا اللفظ ؛ إذ قد ورد مفسرًا في الحديث الآخر بقوله: " من قال لا إله إلا الله (1)"، و " من شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله "،[ وزاد في الحديث الآخر: " مستيقنًا بها قلبه "، وفي الآخر: " صادقًا من قلبه "، وفي الآخر: " غير شاك فيهما ](2)".
وقد جاء هذا الحديث وأمثلة له كثيرة، في ألفاظها اختلاف، ولمعانيها عند أهل التحقيق ائتلاف، وللناس فيها خبط كثير،وعن السلف خلاف مأثور:
46 - حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ يَعْنِي - ابْنَ مُسْلِمٍ -، عَنِ ابْنِ جَابِرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَيْرُ ابْنُ هَانِئٍ قَالَ: حَدَّثَنِي جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، حَدَّثَنَا عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَنْ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ أَمَتِهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ ».
ــــــــــــــ
فجاء هذا اللفظ في هذا الحديث،وجاء في رواية معاذ عنه - صلى الله عليه وسلم -: " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ".
__________
(1) في (ح) زيادة:" دخل الجنة ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).(1/206)
وعنه في رواية أخرى:" من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة ".
وعنه في رواية(1) أخرى - صلى الله عليه وسلم -:"[ من لقيته(2) يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه فبشره بالجنة ".
وفي حديث آخر عنه(3):" ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صادقًا من قلبه إلا حرمه الله على النار](4)".
ونحوه في حديث عبادة بن الصامت وعتبان بن مالك، وزاد في حديث عبادة عنه(5): " على ما كان من عمل ".
وفي حديث أبي هريرة: " لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة "، وفي حديث آخر(6):" فيحجب عن الجنة "، وفي حديث آخر عن(7) أبي ذر، وعن(8) أبي الدرداء: " ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة وإن زنى وإن سرق ".
وفي حديث أنس: " حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله(9)".
وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا مُبَشِّرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الأوْزَاعِيِّ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ هَانِئٍ فِي هَذَا الإسْنَادِ بِمِثْلِهِ. غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ:« أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ عَمَلٍ ». وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ.
ــــــــــــــــــــ
__________
(1) قوله:" رواية " ليس في (أ) و(ح).
(2) في (ح):" لقيت ".
(3) قوله:" في حديث آخر عنه" ليس في (أ).
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ)، وجاء بعده في (ح):" وعنه في أخرى - صلى الله عليه وسلم -: إلا حرمه البتة على النار ".
(5) قوله:" عنه " ليس في (أ) و(ح).
(6) في (ح):" أخرى ".
(7) قوله:" آخر عن " ليس في (أ) و(ح).
(8) قوله:" وعن " ليس في (أ) و(ح).
(9) في (ح):" وجهه ".(1/207)
وهذه الأحاديث كلها قد(1) سردها مسلم في كتابه، فحكي عن جماعة من السلف منهم سعيد(2) ابن المسيب والزهري(3)، أن هذا كان قبل أن تنزل الفرائض والأمر والنهي.
وذهب بعضهم إلى أنها مجملة تحتاج إلى شرح، ومعناه: من قال الكلمة فأدى حقها وفريضتها، وهو قول الحسن البصري.
وذهب بعضهم إلى أن ذلك لمن قالها عند التوبة والندم، ومات على ذلك، وهو قول البخاري.
وهذه التأويلات كلها إذا حملت الأحاديث على ظاهرها، وأما إذا نزلت تنزيلها لم يشكل تأويلها على ما بينه المحققون: د
فنقرر أولاً أن مذهب أهل السنة بأجمعهم من السلف الصالح، وأهل الحديث، والفقهاء، والمتكلمين على مذهبهم من الأشعريين أن أهل الذنوب في مشيئة الله تعالى، وأن كل من مات على الإيمان ويشهد(4) مخلصًا من قلبه بالشهادتين فإنه يدخل الجنة.
فإن كان تائبًا، أو سليمًا(5) من المعاصي والتباعات دخل الجنة(6) برحمة ربه، وحرم على النار بالجملة، فإن حملنا اللفظين الواردين على هذا فيمن هذه صفته كان بينا، وهو التفات الحسن(7) والبخاري في تأويلهما (8).
__________
(1) قوله:" قد " ليس في (ك).
(2) قوله:" سعيد " ليس في (أ) و(ح).
(3) في (أ):" وغيره "، وكذا في (ح) وعليها "صح"، وفي حاشيتها:"الزهري "، وكتب فوقها: "صح".
(4) في (ح):" وشهد "، وفي (ك):" تشهد ".
(5) في (أ) و(ح):" سليما ".
(6) في (ح):" فإنه يدخل الجنة ".
(7) في (ح):" الحسن البصري ".
(8) في حاشية (ح):"وهذا معنى تأويلي الحسن البصري والبخاري"، وكتب فوقها:"صح،خ".(1/208)
47 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنِ ابْنِ عَجْلانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ، عَنِ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: مَهْلاً لِمَ تَبْكِي فَوَاللَّهِ لَئِنِ اسْتُشْهِدْتُ لأَشْهَدَنَّ لَكَ، وَلَئِنْ شُفِّعْتُ لأَشْفَعَنَّ لَكَ، وَلَئِنِ اسْتَطَعْتُ لأَنْفَعَنَّكَ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا مِنْ حَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَكُمْ فِيهِ خَيْرٌ إِلا حَدَّثْتُكُمُوهُ إِلا حَدِيثًا وَاحِدًا، وَسَوْفَ أُحَدِّثُكُمُوهُ الْيَوْمَ وَقَدْ أُحِيطَ بِنَفْسِي: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ ».
ــــــــــــــ
وإن كان(1) هذا من المخلطين بتضييع ما أوجب الله عليه، أو فعل ما حرم عليه فهو في المشيئة، لا يقطع في أمره بتحريمه على النار ولا باستحقاقه لأول حاله الجنة، بل يقطع أنه لا بد له من دخول الجنة آخرا، ولكن حاله قبل في خطر المشيئة وبرزخ الرجاء والخوف، إن شاء ربه عذبه بذنبه أو غفر له بفضله، وإلى هذا التفت من قدم قوله من السلف.
__________
(1) قوله:" كان" ليس في (ك).(1/209)
لكن قد يصح استقلال ألفاظ هذه الأحاديث بأنفسها على هذا التنزيل، فيكون المراد باستحقاق الجنة ما قدمناه(1) من إجماع أهل السنة من(2) أنه لا بد له من دخول كل موحد لها، إما معجلاً معافى، أو مؤخرًا بعد عقابه. وينزل حديث:" من كان آخر كلامه لا إله إلا الله " خصوصًا لمن كان هذا آخر نطقه وخاتمة لفظه وإن كان قبل مخلطًا فيكون سببًا لرحمة اله له ونجاته رأسًا من النار وتجريمه عليها(3) بخلاف من لم يكن ذلك آخر كلامه من الموحدين المخلطين.
والمراد بتحريم النار تحريم الخلود خلافًا للخوارج والمعتزلة في الوجهين.
__________
(1) في (ك):" قدمنا ".
(2) قوله:" من " ليس في (ح).
(3) قوله:" عليها " ليس في (ا).(1/210)
وكذلك ما ورد في حديث عبادة من مثل هذا، ودخوله من أي أبواب الجنة شاء، خصوصًا لمن قال ما ذكره - صلى الله عليه وسلم - وقرن بالشهادتين من حقيقة الإيمان والتوحيد الذي ورد في حديثه،فيكون له من الآجر ما يرجح سيئاته ومعاصيه، 48 - حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ الأزْدِيُّ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلا مُؤْخِرَةُ الرَّحْلِ، فَقَالَ: يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ! قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ:« يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ !» قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ:« يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ !» قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ:« هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ ؟» قَالَ: قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ:« فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا »، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً قَالَ:« يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ !» قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ:« هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ »، قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ:« أَنْ لا يُعَذِّبَهُمْ ».
ــــــــــــــ
ويوجب له المغفرة والرحمة، ودخول الجنة لأول وهلة إن شاء الله - كما أشار إليه في الحديث(1)- والله أعلم بمراد نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
ذكر مسلم حديث طلحة بن مصرف عن أبي صالح(2) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: " كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ...".
__________
(1) في (ك):" مسلم في الحديث ".
(2) قوله:" أبي صالح " ليس في (أ) و(ح).(1/211)
قال القاضي(1): هذا الحديث مما(2) استدركه الدارقطني على مسلم، فقال:" خالفه أبو أسامة وغيره، فأرسلوه من هذا الطريق عن أبي صالح، واختلف فيه عن الأعمش، فقيل: " عن أبي صالح عن جابر "، وكان الأعمش يشك فيه، ورواه أيضًا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة وأبي سعيد ".
وفي هذا الحديث قال، وقال مجاهد:"وذو(3) النواة بنواه "، قال عبدالغني ابن سعيد:"طلحة بن مصرف هو الذي قال ذلك عن مجاهد"، وكذا جاء في 49 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأحْوَصِ سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى حِمَارٍ?يُقَالُ لَهُ: عُفَيْرٌ، قَالَ: فَقَالَ:« يَا مُعَاذُ ! تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ ؟»، قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:« فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ: أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَلا يُشْرِكُوا?بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: أَنْ لا يُعَذِّبَ مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ». قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَفَلا أُبَشِّرُ النَّاسَ ؟ قَالَ:« لا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا?».
ــــــــــــــ
الأمهات:" ذو النواة بنواه "، ووجهه: " وذو النوى(4) بنواه "، كما قال قبله(5): " فجاء ذو التمر(1) بتمره، وذو البر ببره ".
__________
(1) قوله:" قال القاضي " ليس في (أ) و(ح).
(2) في (أ):" ما ".
(3) في (ح):" ذو ".
(4) في (ح):" النواة ".
(5) في (ح):" قبل ".(1/212)
وفي الحديث(1):" حتى ملأ القوم أزودتهم "، كذا الرواية فيه(2) في جميع أصول شيوخنا، والأزودة غير الأوعية،[ كما قال في الحديث الآخر: " أوعيتهم "، ولعله:" مزاودهم "، أو سمى الأوعية](3) بما فيها، كما سميت الأسقية " روايا " بحامليها، وإنما الروايا الإبل التي تحملها، وسمي النساء " ظعائن " باسم الهوادج التي حملت(4) فيها.
قوله فيه: " لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا ".
قال(5) الإمام: " النواضح من الإبل العاملة في السقي، قال أبو عبيد: " الناضح البعير الذي يسقي الماء، والأنثى ناضحة "، قال غيره: " ومنه الحديث:" وما سقي من الزرع نضحًا ففيه نصف العشر ".
وقوله:"حمائلهم"، قال القاضي: يعني ما يحمل أثقالهم، واحدتها(6) حمولة، قال الله تعالى: " حمولة وفرشًا "، وهو بمعنى(7) النواضح في الرواية الأخرى.
50 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ وَالأشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ: أَنَّهُمَا سَمِعَا الأسْوَدَ بْنَ هِلالٍ يُحَدِّثُ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ?جَبَلٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« يَا مُعَاذُ! أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ ؟» قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:« أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَلا يُشْرَكَ بِهِ شَيْءٌ »، قَالَ:« أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ ؟» فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:« أَنْ لا يُعَذِّبَهُمْ ».
ــــــــــــــ
__________
(1) في (أ):" وفي هذا الحديث ".
(2) قوله:" فيه " ليس في (ح).
(3) مابين المعكوفين ليس في (ك).
(4) في (ح):" حلت ".
(5) إلى هنا نهاية المفقود من نسخة (ط)، وبداية المقابلة منها، وإبعاد نسخة (ك).
(6) في (ح):" واحدها ".
(7) قوله:" بمعنى " ليس في (أ).(1/213)
وهذا الحديث من أعلام النبوة الظاهرة، وهو باب علم على القطع والتواتر ؛ لترادف الأحاديث بمعناه من تكثير الطعام القليل - وقد جمعنا مشهور أحاديث هذا الباب، ومن رواه من الصحابة، وحمله عنهم(1) من التابعين في باب معجزات نبينا - صلى الله عليه وسلم - من كتابنا(2) المسمى بـ:" الشفا بتعريف حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - "-؛ ولأن(3) هذا الحديث ومثله إذا رواه الصاحب الواحد، وذكره عن المواطن المشهورة والغزوات المحضورة والجموع الحفلة(4)، وحدث به عنهم بما شاهدوه وجرى بحضرته(5)، وهم غير منكرين ولا مكذبين - مع أنهم الملأ لا يقرون على منكر ولا يداهنون في غير الحق - كان إقرارهم على خبره وسكوتهم عمَّا(6) حدَّث به عن ملئهم كالنطق، ولحق خبره، وإن كان واحدًا، بخبر(7) التواتر الصدق.
وفي الحديث من الفقه: ترك أفتيات(8) أهل العسكر بنحر(9) ما يحملون عليه، وإخراجه(10) عن أيديهم، إلا بإذن الإمام ؛ لأن ذلك يضعفهم عن غزوهم وسفرهم، وكذلك الحكم في أسلحتهم، وجميع ما يحتاجون إليه في غزوهم.
وقوله(11):" وأن عيسى عبدالله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه".
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنِ الأسْوَدِ بْنِ هِلالٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاذًا يَقُولُ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَجَبْتُهُ فَقَالَ:« هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ نَحْوَ حَدِيثِهِمْ ».
__________
(1) في (ح):" ومن حمله منهم ".
(2) في (ط):" من القسم الأول من كتابنا ".
(3) في (أ) و(ح):" لأن ".
(4) في (ح):" الحفيلة ".
(5) في (ط):" بحضرتهم ".
(6) في (أ) و(ح):" على ما ".
(7) في (أ):" خبر " بدون الباء، وفي (ط):" بخير ".
(8) في (أ):" اقتيات ".
(9) في (ح):" لنحر ".
(10) في (ح):" أو إخراجه ".
(11) في (ح):" قولهم ".(1/214)
ــــــــــــــ
سمي(1) عيسى - عليه السلام - كلمة، لأنه كان بكلمة الله، قيل هي(2) قوله:"كن"، فكان، وقيل هي الرسالة التي جاء بها(3) الملك لأمه مبشرًا به عن أمر الله، كما ذكر في كتابه،وقال ابن عباس رضي الله عنهما:" الكلمة اسم لعيسى".
ومعنى " ألقاها إلى مريم "، أي: أعلمها بها(3)، يقال: ألقيت إليك كلمة أي أعلمتك بها.
وسمي عيسى روح الله، وروح منه "، فقيل لأنه حدث من نفخة جبريل في درع مريم، فنسبه الله إليه ؛ لأنه كان عن أمره، وسمي النفخ روحًا، لأنه ريح يخرج من الروح، قاله مكي، وفي هذه العبارة مسامحة، وقيل: روح منه: حياة منه، وقيل: رحمة منه، والروح الرحمة، كما قال فيه:{ ولنجعله آية للناس ورحمة منا }، وقيل: روح منه: برهان لمن اتبعه، وقيل: لأنه لم يكن(4) من أب، كما قال في آدم: " ونفخت فيه من روحي "، وإنما كان جعل الروح فيه بلا واسطة، قاله الحربي.
وقوله في حديث عبادة: " دخلت عليه في الموت فبكيت، فقال: مهلاً، ليس فيه نهي عن البكاء ؛ لأن النهي إنما وقع بعد الوجوب والموت، وفي بكاء بصفة مخصوصة تأتي مفسرة إن شاء الله في الجنا ئز.
__________
(1) في (ح) و(ط):" وسمي ".
(2) في (ح):" هو ".
(3) في (ط):" به ".
(4) في (أ):" تكن ".(1/215)
وقوله: " ما من حديث لكم فيه خير إلا حدثتكموه "، دليل على أنه كتم ما خشي عليهم المضرة فيه والفتنة، مما لا يحتمله كل أحد، وذلك فيما 51 - حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ ابْنُ عَمَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنَّا قُعُودًا حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي نَفَرٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا فَأَبْطَأَ عَلَيْنَا، وَخَشِينَا أَنْ يُقْتَطَعَ دُونَنَا، وَفَزِعْنَا فَقُمْنَا، فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَزِعَ، فَخَرَجْتُ أَبْتَغِي رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَتَيْتُ حَائِطًا لِلأَنْصَارِ لِبَنِي النَّجَّارِ ــــــــــــــ
ليس تحته عمل، ولا فيه حد من حدود الشريعة، ومثل هذا عن الصحابة كثير في(1) ترك الحديث بما ليس تحته عمل، ولا تدعو إليه ضرورة، أو لا تحمله(2) عقول الكافة، أو خشيت مضرته على قائله أو سامعه، لا سيما بما تعلق بأخبار المنافقين والإمارة وتعيين(3) أقوام وصفوا بأوصاف غير مستحسنة وذم آخرين ولعنهم.
وقوله في حديث معاذ: " كنت ردف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " رويناه بإسكان الدال وكسر الراء، وبفتح الراء وكسر الدال عند الطبري، وفي الحديث الآخر:" رديف "، بزيادة ياء الردف، والرديف هو الراكب خلف الراكب، يقال منه: ردفته وأردفته - بكسر الدال في الماضي، وفتحها في المستقبل -؛ إذا ركبت خلفه، وتقول(4): أردفته أنا، رباعي، وأصله من ركوبه على الردف وهو العجز.
__________
(1) في (أ):" من ".
(2) في (ح) و(ط):" تحتمله ".
(3) في (ط):" وتعين ".
(4) في (ح):" ويقال ".(1/216)
ولا وجه لرواية الطبري إلا ان يكون فعل ههنا اسم(1) فاعل مثل: عجز وزمن وفرق، إن صحت روايته (2).
فَدُرْتُ بِهِ هَلْ أَجِدُ لَهُ بَابًا، فَلَمْ أَجِدْ، فَإِذَا رَبِيعٌ يَدْخُلُ فِي جَوْفِ حَائِطٍ مِنْ بِئْرٍ خَارِجَةٍ - وَالرَّبِيعُ: الْجَدْوَلُ -، فَاحْتَفَزْتُ كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلَبُ فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ:« أَبُو هُرَيْرَةَ !»، فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:« مَا شَأْنُكَ ؟ »، قُلْتُ: كُنْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَقُمْتَ، فَأَبْطَأْتَ عَلَيْنَا، فَخَشِينَا أَنْ تُقْتَطَعَ دُونَنَا فَفَزِعْنَا، فَكُنْتُ أَوَّلَ مِنْ فَزِعَ، فَأَتَيْتُ هَذَا الْحَائِطَ ــــــــــــ
وقوله(3) فيه: " مؤخرة الرحل "، قيل: معروف كلام العرب آخرة الرحل، وكذا وقع في حديث أبي ذر - رضي الله عنه - ، وقد جاء مؤخرة(4)، وفي شعر أبي ذؤيب:
رِدْفٌ بِمؤْخِرَة الرَّحل: وهو العود الذي خلف الراكب
وحكى أبو عبيد فيه الوجهين، وكله بكسر الخاء وضم المميم، وأنكر ابن قتيبة فتح الخاء، وقال ثابت: " مؤخرة الرحل ومقدمته(5)، بفتحهما "، قال: " ويجوز قادمته وآخرته "، وأنكر ابن(6) مكي الكسر، وقال: " لا يقال(7) مقدم ولا مؤخر إلا في العين ".
__________
(1) في (ط):" هنا ".
(2) في (ح) زاد بعد هذا:" ويكون في الحديث الآخر رديف بزيادة ياء ".
(3) في (ح):" وفي قوله " وكتب فوقها "خ".
(4) في (أ):" مؤخرة الرحل ".
(5) في (أ):" وكقدمة ".
(6) قوله:" ابن " ليس في (ط).
(7) في (ح):" قال ولا يقال ".(1/217)
وقوله:" هل تدري(1) ما حق العباد على الله "، قال الإمام: " يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون أراد حقاًّ شرعياًّ لا واجبًا بالعقل كما تقوله(2) المعتزلة، وكأنه لما وعد به تعالى وعد الصدق(3) صار حقا من هذه الجهة.
والوجه(4) الثاني: أن يكون خرج مخرج المقابلة منه للفظ الأول:[ كما قال في أوله: " ما حق الله على العباد " ولا شك أن لله على عباده حقا فأتبع اللفظ الثاني الأول ](5)، كما قال تعالى: " ومكروا ومكر الله "، وكما(6) قال تعالى:{ فيسخرون(7) منهم سخر الله منهم }.
فَاحْتَفَزْتُ كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلَبُ، وَهَؤُلاءِ النَّاسُ وَرَائِي، فَقَالَ:« يَا أَبَا هُرَيْرَةَ!»، وَأَعْطَانِي نَعْلَيْهِ، قَالَ:« اذْهَبْ بِنَعْلَيَّ هَاتَيْنِ فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ »، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيتُ عُمَرُ، فَقَالَ: مَا هَاتَانِ النَّعْلانِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ فَقُلْتُ: هَاتَانِ نَعْلا رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، بَعَثَنِي بِهِمَا مَنْ لَقِيتُ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ بَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ، ــــــــــــــــــــ
وأما قوله في الحديث: " فأخبر بها(8) معاذ عند موته تأثمًا "، قال الهروي في تفسير غير هذا الحديث:" تأثم الرجل إذا فعل فعلاً يخرج به من الإثم "، وكذلك تحنث(9): ألقى الحنث عن نفسه، وتحرج: ألقى الحرج عن نفسه.
__________
(1) في (أ) و(ح):" هل تدرون ".
(2) في (أ) و(ط):" تقول ".
(3) في (ح):" وعده صدق ".
(4) قوله:" والوجه " ليس في (ح).
(5) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).
(6) قوله:" كما " ليس في (ح) و (ط).
(7) في (أ):" ويسخرون ".
(8) في (أ):" به ".
(9) في (ح) إشارة إلحاق في هذاالموضع، وكتب في الحاشية:" إذا ".(1/218)
قال الإمام: " والأظهر عندي أنه لم يرد في هذا الحديث هذا المعنى ؛ لأن في سياقه ما يدل على خلافه ".
قال القاضي: لعله لم ير هذا التفسير بينًا ؛ لما ورد أول الحديث: " ألا أبشر الناس ؟ قال:" لا تبشرهم فيتكلوا "، فأي إثم في كتم ما أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتمه ؟ لكني(1) أقول: لعل معاذا لم يفهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي لكن كسر عزمه عما عرض عليه من بشراهم به، بدليل حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - حين قال له(2): " من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه فبشره بالجنة "، ثم لما قال عمر - رضي الله عنه - للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " أخشى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون(3)"، قال: " فخلهم ".
أو يكون معاذ بلغه بعد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك لأبي هريرة - رضي الله عنه -، وحذر أن يكتم علمًا علمه ويأثم من ذلك فأخبر به.
فَضَرَبَ عُمَرُ بِيَدِهِ بَيْنَ ثَدْيَيَّ فَخَرَرْتُ لاسْتِي، فَقَالَ: ارْجِعْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَجْهَشْتُ بُكَاءً، وَرَكِبَنِي عُمَرُ فَإِذَا هُوَ عَلَى أَثَرِي، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَا لَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ !» قُلْتُ: لَقِيتُ عُمَرَ ــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" لكن ".
(2) قوله:" له " ليس في (أ).
(3) قوله:" عليها فخلهم يعملون " ليس في (أ)، وفي (ح):" يعملوا " بدل:" يعملون".(1/219)
أو يكون حمل النهي على إذاعته للعموم كما كان قال له أولاً:" كل من لقيت" ورأى هو أن يخص به هو كما خصه هو به - صلى الله عليه وسلم -، ويكون(1) أمره بذلك لأبي هريرة - رضي الله عنه - على الخصوص للذين كانوا معه قبل قيامه بدليل قوله: " من لقيت وراء هذا الحائط "، وقد أخبره أبو هريرة - رضي الله عنه - أنه جاء والناس وراءه، وسياق الحديث يدل أنهم الذين كانوا معه، ويكون قوله: " من يشهد(2) أن لا إله إلا الله " حذرًا أن يكون فيمن يلقىغير من يقولها من كافر، أو لا يعتقدها(3) من منافق، ولهذا ترجم البخاري :" من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا "، واحتج بعض الشارحين بالحديث على هذا الفصل.
وأما على قوله: " فبشر من لقيت " ليس فيه تخصيص.
__________
(1) في (ح):" أو يكون ".
(2) في (ح) و(ط):" شهد ".
(3) في (أ):" يعتقدوها ".(1/220)
وقوله في هذا الحديث من رواية القاسم بن زكريا حدثنا حسين حدثنا زائدة، كذا هو في أكثر النسخ والأصول، ووقع في بعضها " حصين "، وكذا وجدته مصلحًا في كتابي بخطي "حصين"، بالصاد المهملة، ولست أدري من أين كتبته،وهو خطأ، والصواب " حسين " بالسين،وكذا وجدته مصلحًا مغيرًا من "حصين " في كتاب شيخنا القاضي أبي عبدالله التميمي، وهو حسين بن علي مولى الجعفيين، قال البخاري: " سمع القاسم بن الوليد وزائدة وأخاه الوليد، وقال أحمد(1) بن أبي رجاء: توفي سنة ثلاث ومائتين"، فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي بَعَثْتَنِي بِهِ، فَضَرَبَ بَيْنَ ثَدْيَيَّ ضَرْبَةً خَرَرْتُ لاسْتِي، قَالَ: ارْجِعْ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ:« يَا عُمَرُ ! مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ »، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَبَعَثْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ بِنَعْلَيْكَ مَنْ لَقِيَ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ ؟ قَالَ:« نَعَمْ »، قَالَ: فَلا تَفْعَلْ، ــــــــــــــ
وقد تكررت روايته عن زائدة في غير موضع من الأم، ولا يعرف " حصين " بالصاد عن زائدة.
وقوله: " فاحتفزت(2) كما يحتفز(3) الثعلب " رواه عامة شيوخنا في الثلاث كلمات عن العذري وغيره بالراء، وسمعناه على الأسدي عن أبي الليث الشاشي عن عبدالغافر الفارسي عن الجلودي بالزاي، وهو الصواب، ومعناه: تضاممت وتداخلت، ليسع من مدخل الجدول الذي ذكر، ومنه حديث علي: " إذا صلت المرأة فلتحتفز "، أي لتضام وتنزوي إذا سجدت، ويدل عليه تشبيهه إياه بفعل الثعلب، وهو تضاممه للدخول من المضايق.
__________
(1) في (ح):" محمد " وعليها "صح"، وفي حاشيتها:" أحمد " وعليها "خ".
(2) في (ح):" فاحتفرت ".
(3) في (ط):" فاحتفرت كما يحتفر ".(1/221)
وقوله: " كنت بين أظهرنا "، وفي رواية الفارسي: " ظهرينا "، قال الأصمعي:"العرب تقول: نحن بين ظهريكم،على لفظ الاثنين، وظهرانيكم"، قال الخليل:" أي بينكم "، قال غيره: " والعرب تضع الاثنين موضع الجمع ".
وقوله: " ففزعنا وكنت أول من فزع "، الفزع يكون بمعنى الروع، وبمعنى الهبوب للشيء والاهتمام به، وبمعنى الإغاثة، فتصح ههنا(1) المعاني الثلاثة، أي ذعرنا لاحتباس النبي - صلى الله عليه وسلم - عنا، ألا تراه كيف قال: " وخشينا أن يقتطع دوننا "، أي يحوزه العدو عنا، وتكون(2) بمعنى الوجهين الآخرين بدليل قوله: "ففزعنا وقمنا وكنت أول من فزع، فخرجت أبتغي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَيْهَا، فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَخَلِّهِمْ».
ــــــــــــــــــ
وقوله فيه: " فجهشت بالبكاء "، هو فزع الإنسان إلى آخر وهو متغير الوجه متهيء للبكاء، ولما(3) يبك بعد يقال فيه: جهشت وأجهشت جهشًا وإجهاشًا، قال الطبري: " هو الفزع والاستغاثة"، وقال أبو زيد(4): "جهشت(5) للبكاء والحزن والشوق جهوشًا ".
وقوله: " ركبني عمر فإذا هو على أثري " أي اتبعني في الحين دون تمهل ولا تثبت، ومنه حديث حذيفة: " إنما تهلكون إذا صرتم تمشون الركبات، كأنكم يعاقيب(6) حجل، قال القتبي: " أراد أنكم تمضون على وجوهكم دون تثبت ولا روية ولا استئذان من هو أسن منكم، يركب(7) بعضكم بعضًا فعل اليعاقيب".
__________
(1) في (ط):" هنا ".
(2) في (ح):" ويكون "، وفي (أ) لم تنقط.
(3) في (ح) وضع فوق قوله:" لما " حرف "خ" إشارة إلى أنه يوجد فرق في إحدى النسخ ولم يظهر في التصوير هذا الفرق جيدًّا.
(4) في (أ):" ابن زيد ".
(5) في (ط):" أجهشت ".
(6) في (ح):" يعاقيب ".
(7) في (ح):" فركب ".(1/222)
وقوله:" فضربني عمر بيده بين ثديي، فخررت لإستي "، أي سقطت على عجزي(1)" وقال ارجع(2)" الأولى أن عمر - رضي الله عنه - لم يقصد بضربه في صدره إلا رده والدفع في صدره ليرجع، كما قال له، لا ليؤذيه ويوقعه، وكان سقوطه من غير تعمد لذلك، بل لشدة الدفع.
وليس فعل عمر ومراجعته النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك اعتراضًا عليه، ورداًّ لأوامره ؛ إذ ليس فيما وجه به أبا هريرة(3) غير تطييب قلوب أمته وبشراهم، فرأى عمر أن كتم هذا عنهم أصلح لهم، وأزكى لأعمالهم، وأوفر لأجورهم، وأحرى ألا يتكلوا، وأنه أعود بالخير عليهم من معجل هذه البشرى، فلما عرض ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - صوبه له.
000000000000000000000000000000000000000000
ــــــــــــــ
وقد يكون رأي عمر - رضي الله عنه - للعموم وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - للخصوص، وخشي عمر إن حصل في الخصوص أن يفشو ويتسع.
وفي هذا الحديث من الفقه،والذي قبله: إدخال المشورة على الإمام من أهل العلم والدين ومن وزرائه وخاصته، وعرض النصائح له وإن لم يستشرهم(4).
وفيه توقيف أمثال(5) هؤلاء لما لم ينفذ بعد من أوامر(6) حتى يعرضوا عليه ما ظهر لهم ورأوه في(7) ذلك من رأي، ورجوع الإمام إلى ما رآه من الصواب في ذلك.
وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدنيا كان يأخذ باجتهاده، ويرجع عن رأيه فيها أحيانا إلى رأي غيره(8) كما فعل في تلقيح النخل وفي النزول ببدر، وفيما همّ به من مصالحة الأحزاب ولاخلاف في ذلك.
__________
(1) في (أ) و(ح):" وجهي "، وفي حاشية (ح):"عجزي "، وكتب فوقها:" خ".
(2) قوله:" وقال ارجع " جاء في (ط) قبل قوله:" أي سقطت ".
(3) في (أ):" معاذ " بدل:" أبا هريرة ".
(4) في (أ):" يستشيرهم ".
(5) قوله:" أمثال " ليس في (أ).
(6) في (ط):" اوامره ".
(7) في (ح):" من ".
(8) في (ح):" عمر ".(1/223)
واختلف العلماء هل كان يجتهد برأيه في الشرعيات فيما لم ينزل عليه فيه شئ أم لا ؟ وهل هو معصوم في اجتهاده أو(1) هو(2) كسائر المجتهدين ؟.
والصواب جواز الاجتهاد له، ووقوعه منه، وعصمته فيه على كل حال، وقد قال تعالى:{ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله}، ودلت الآثار الصحيحة على اجتهاده في نوازل وحكمه فيها(3) برأيه كقمة أسرى بدر.
وأما كونه أبدًا مصيبًا في اجتهاده في ذلك على القول بأن كل مجتهد مصيب الذي هوالحق والصواب، أوعلى المذهب الآخر فإن اجتهاده أصل من 53 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ، قَالَ:« يَا مُعَاذُ ! » قَالَ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ:« يَا مُعَاذُ !» قَالَ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ:« يَا مُعَاذُ !» قَالَ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ:« مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إِلا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ »، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَفَلا أُخْبِرُ بِهَا النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا ؟ قَالَ:« إِذًا يَتَّكِلُوا »، فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا.
ــــــــــــــ
__________
(1) في (ط):" أم ".
(2) قوله:" هو " ليس في (ح).
(3) في (ط):" فيه ".(1/224)
أصول الحق، وركن من أركان الشريعة الذي يجتهد المجتهدون في الاستنباط منها، والقياس عليها، ويكون خطؤهم وصوابهم بقدر توفيقهم إلى فهمهما، ومعرفتهم بمراده - عليه السلام - فيها، فكيف يتصور الخطأ عليه في ذلك(1) ومخالفة الصواب ؟ وإنما الحق والصواب مافعله، وإنما الشرع مااجتهد فيه.
وقد تقصينا هذا الباب في القسم الرابع من كتاب الشفا.
وفيه من الفقه: قول الرجل للآخر بأبي أنت وأمي : وقد كرهه بعض السلف وقال: لايفدى بمسلم والأحاديث الصحيحة تدل على جوازه، كان المفدى بهما مسلمَين أوغير ذلك، كانا حيّيين أوميتَين ؛[ لأنه ليس المراد بهذا حقيقة اللفظ، أو إنما هو كلامهم جاري مجرى الحفاوة والبر ](2).
وفيه جواز قول الرجل للرجل في الجواب عند دعائه له لبيك وسعديك ومعنى لبيك: إجابة لك بعد إجابة، وقيل: لزومًا لطاعته وطوعاُ بعد لزوم، و " سعديك ": أي إسعادًا لك بعد إسعاد، وقيل " لبيك ": مداومة على طاعتك، و" سعديك " أي مساعدة أوليائك عليها.
54 - حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ يَعْنِي ابْنَ الْمُغِيرَةِ قَالَ: حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ ابْنِ مَالِكٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، عَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَلَقِيتُ عِتْبَانَ، فَقُلْتُ حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ، قَالَ: أَصَابَنِي فِي بَصَرِي بَعْضُ الشَّيْءِ فَبَعَثْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنِّي أُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنِي فَتُصَلِّيَ فِي مَنْزِلِي، فَأَتَّخِذَهُ مُصَلًّى، قَالَ: فَأَتَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَدَخَلَ وَهُوَ يُصَلِّي فِي مَنْزِلِي وَأَصْحَابُهُ يَتَحَدَّثُونَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ أَسْنَدُوا ــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" عليه الخطأ في ذلك ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).(1/225)
وقال سيبويه: " معناه(1): قربًا منك ومتابعة لك، من ألب فلان على كذا، إذا داوم عليه ولم يفارقه، وأسعد فلان فلانًا على أمره وساعده "، قال: " وإذا استعمل في حق الله تعالى فمعناه: لا أتأنى(2) عنك في شيء تأمرني به، وأنا متابع امرك وإرادتك ".
وقوله في حديث ابن الدخشم: " أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله "، فقالوا: يقول ذلك وما هو في قلبه ": فقال عليه الصلاة والسلام: " لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار(3)".
قال الإمام: " إن احتجت به الغلاة من المرجئة في أن الشهادتين تنفع وإن لم يعتقد(4) بالقلب، قيل لهم: معناه أنه لم يصح عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ما حكوا عنه من أن ذلك ليس في قلبه، والحجة في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو لم يقل ذلك ولم يشهد به عليه ".
قال القاضي: قد ورد في الحديث من رواية البخاري: " ألا تراه قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله "، فهذه الزيادة تخرس غلاة المرجئة عن الحجة بهذا الحديث.
عُظْمَ ذَلِكَ وَكُبْرَهُ إِلَى مَالِكِ بْنِ دُخْشُمٍ، قَالُوا: وَدُّوا أَنَّهُ دَعَا عَلَيْهِ فَهَلَكَ، وَوَدُّوا أَنَّهُ أَصَابَهُ شَرٌّ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصَّلاةَ، وَقَالَ:« أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ؟» قَالُوا: إِنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ وَمَا هُوَ فِي قَلْبِهِ، قَالَ:« لا يَشْهَدُ أَحَدٌ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَيَدْخُلَ النَّارَ أَوْ تَطْعَمَهُ»، قَالَ أَنَسٌ: فَأَعْجَبَنِي هَذَا الْحَدِيثُ، فَقُلْتُ: لابْنِي اكْتُبْهُ فَكَتَبَهُ
ــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" معناها ".
(2) في (أ) و(ح):" أنأى ".
(3) في (ح):" فيدخل النار أو تطعمه ".
(4) في (أ) و(ح):" تعتقد ".(1/226)
وفعل عتبان وطلبه للنبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة(1) في بيته لعذره الذي ذكر في الحديث، وليحصل له الفضل في أمر الصلاة، حيث رسم له عليه - عليه السلام - وصلى في بيته بعض ما فاته من الصلاة في جماعة قومه، وإن كان إمامهم لعذر(2) بصره وأن ذلك ربما منعه من النهوض إلى مسجد قومه إذا كان السيل والظلام، كما قال في الحديث نفسه من غير هذه الرواية.
وفيه إباحة مثل هذا العذر(3) التخلف عن الجماعة، وإباحة التحدث مع المصلين في غير المساجد، ما لم يكن المتحدثان(4) عن يمين المصلي وشماله ؛ لقوله: " فهو يصلي وأصحابه يتحدثون ".
وقد وقع في هذا الحديث من طرق كثيرة - ذكر مسلم منها في كتاب الصلاة(5)-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أم بأهل الدار، فلعل حديثهم وصلاتهم هذه كان في حين آخر، غير الصلاة التي أمهم فيها، أو يكون أم بجماعة ممن كان على طهارة وجلس قوم يتحدثون.
ففي تلك الزيادة أن الإمام أحق بالإمامة من صاحب الدار ومن كل من حضر، وقد ترجم عليه البخاري بإمامة الزائر، وقد جاء في الحديث النهي عن ذلك، وعن أن يؤم الرجل في سلطانه، وأن صاحب الدار أحق بالإمامة، لكنه حق له فإن تركه وقدم غيره جاز ذلك، بل يستحب له أن يقدم أفضل
__________
(1) في (أ) يشبه أن تكون:" للصلاة ".
(2) في (ح):" بعذر ".
(3) في (أ):" إباحته كمثل هذا العذر ".
(4) في (ح):" المحدثان ".
(5) قوله:" ذكر مسلم في كتاب الصلاة " ليس في (أ) و(ح).(1/227)
حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ حَدَّثَنِي عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَّهُ عَمِيَ فَأَرْسَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: تَعَالَ فَخُطَّ لِي مَسْجِدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَاءَ قَوْمُهُ، وَنُعِتَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُمِ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ.
ــــــــــــــ
من حضر، فإن لم يفعل وكان ممن تجوز إمامته كان أولى، إلا أن يحضره الإمام أو أبو رب المنزل أو عمه- وهما ممن تصلح(1) إمامتهما - فهؤلاء أولى منه.
__________
(1) في (ط):" يصلح ".(1/228)
والنبي - صلى الله عليه وسلم - هنا هو الإمام، وهو المدعو ليصلي ويتقدم، فلا حجة فيه لترجمة البخاري إلا على تخصيص عموم الحديث.وفيه جواز الصلاة جماعة في المنازل(1) وفي النوافل، وجواز التنبيه على أهل الريب في الدين والمتهمين فيه على طريق النصيحة للمسلمين وإمامهم،[ وإن ذلك ليس بغيبة فيه](2)، وذلك لما رأوا(3) من تخلف هذا عنهم في موطن مشهود كثير البركة، ولا ظهر عنه من الاغتباط به والفرح(4) بوصول النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى دارهم والاستكثار منه والمبادرة إلى لقيه والسلام عليه ما(5) يجب، مع ما رأوا منه قبل هذا من الصغو إلى المنافقين، كما ذكر في هذا(6) الحديث من غير هذا الطريق، فقوي سوء ظنهم به واشتد غيظهم عليه، ولكنه لما كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل الشهادتين وممن لم يظهر منه(7) نفاق لم تسقط(8) صحة الظاهر لريبة الباطن، بل قد قال - عليه السلام - في رواية البخاري: " ألا تراه قد(9) قال(10) لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله.[ فهذا يدل بصحة إيمانه عنده - عليه السلام - فما كان ينطق عن الهوى، وفيه مجانبة أهل الريب وأن من صحب قومًا عد منهم ](11).
وقوله: " فيدخل النار " على ما قدمنا من الحكم على الظاهر وحسن الظن بكمال إيمانه وصحة إسلامه،فلا يدخلها بالوفاء بحق(12) الشهادتين ؛ إذ
__________
(1) في (أ):" المنزل ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(3) في (أ):" رأوه ".
(4) في (ط):" الفرج ".
(5) في (ح):" بما ".
(6) قوله:" هذا " ليس في (أ) و(ح).
(7) في (ط):" به ".
(8) في (أ):" بلى " بدل:" يسقط ".
(9) قوله:" قد " ليس في (أ) و(ط).
(10) في (ح):" كيف قال ".
(11) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(12) في (أ):" لحق ".(1/229)
56 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ وَبِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ قَالا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً ».
ــــــــــــــ
كان ذلك في أول الإسلام(1) وتخفيفه وقبل نزول الشدائد(2) والأوامر(3) والنواهي، أو دخول خلود.
وكذا(4) تأويل اللفظ الآخر: " فتطعمه النار "، أو يكون: تطعم(5) جميعه لما جاء أن أهل التوحيد لا تأكل النار جملة أجسادهم، وأنها تتحاشى عن مواضع سجودهم وقلوبهم ودارات وجوههم ومواضع من أجسادهم، كما نص في الحديث.
وقوله:" فتغيب رجل منهم يقال له: مالك بن الدخشم "، هكذا رواية العذري والجماعة، ورويناه من طريق السمرقندي: "فنعت "، وهو وهم، والأول الصواب، بدليل افتقاده في الأحاديث الأخر، وقولهم في بعض الروايات:" أين مالك بن الدخشم ؟ ".
ورويناه في الأم بالميم مكبرًا، وجاء مصغرًا في رواية السمرقندي في حديث أبي بكر بن نافع،ورويناه أيضًا بالنون(6) مكان الميم مكبرًا ومصغرًا في غير الأم.
وقوله:" وأسندوا عظم ذلك وكبره "، أي جل حديثهم، بمعنى " عظم " المتقدم، قال الخليل: " كبر كل شيء معظمه "، ويقال بالكسر أيضًا،
__________
(1) في (ح):" للإسلام ".
(2) في (أ):" وقبل التشديد ".
(3) في (ح):" وللأوامر ".
(4) في (ح):" وكذلك ".
(5) في (ط):" يطعم ".
(6) في (أ) و(ط):" بالنون أيضًا ".(1/230)
57 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلالٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ ».
ــــــــــــــ
قال تعالى:{ والذي تولى كبره منهم }، وقيل: الكبر الإثم في الآية.
وقوله - عليه السلام -:" ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا.. " الحديث، معناه صح إيمانه واطمأنت به نفسه وخامر باطنه، لأن رضاه بالله ربًّا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا وبالإسلام دينًا ؛ دليل على ثبوت معرفته، ونفاذ بصيرته بما رضي به من ذلك ومخالطة بشاشته(1) قلبه.
وهذا كالحديث الآخر:" وجد حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما(2) سواهما " الحديث، وذلك أن الإنسان إذا رضي أمرًا واستحسنه سهل عليه أمره، ولم يشق عليه شيء منه، فكذلك المؤمن إذا دخل(3) قلبَه الإيمانُ سهلت عليه طاعات ربه، ولذت له، ولم يشق عليه معاناتها.
وقوله - عليه السلام -:" الإيمان بضع وسبعون شعبة "، البضع والبضعة واحد، بكسر الباء ويقال بفتحها أيضًا فيهما، فأما من اللحم(4) فالبضعة بالفتح لا غير، وهو القطعة من الشيء والفرقة منه، واستعملت العرب البضع فيما بين الثلاث إلى العشر، قيل(5) من ثلاث إلى تسع، وقال الخليل:" البضع سبع،وقيل هو ما بين اثنين إلى عشرة وما بين اثني عشر إلى عشرين، ولا يقال في أحد عشر ولا اثني عشر "، وقال أبو عبيدة: "هو ما بين نصف العقد " يريد من واحد إلى أربع.
__________
(1) في (ح):" بشاشة ".
(2) في (ط):" ممن ".
(3) في (ط):" داخل ".
(4) في (أ):" وأم اللحم ".
(5) في (ط):" وقيل ".(1/231)
58 - حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والشعبة أيضًا أصلها القطعة من الشيء والفرقة منه، ومنه شعب الإناء وشعوب(1) القبائل، وشعبها الأربع،وواحد شعوب القبائل شعب بالفتح وقيل بالكسر،وهم القبائل العظام، وشعب الإناء أيضًا: صدعه، بالفتح، ومنه قوله في الحديث: " واتخذ مكان الشعب سلسلة ".
قال الخليل:" الشعب الاجتماع، والشعب الافتراق "، قال الهروي: "هو من الأضداد "،وقال ابن دريد: " ليس كذلك، لكنها لغة لقوم ". فمراده والله أعلم أنه(2) سبع وسبعون خصلة.
وقد تقدم أن أصل الإيمان في اللغة: التصديق، وفي عرف الشرع:تصديق القلب واللسان، وظواهر الشرع تطلقه على الأعمال، كما وقع هنا: أفضلها شهادة أن لا إله إلا الله، وآخر ها إماطة الأذى عن الطريق، وقد(3) قدمنا أن تمام الإيمان بالأعمال وكماله بالطاعات، وأن(4) التزام الطاعات وضم هذه الشعب من جملة التصديق ودلائل عليه، وأنها خلق أهل التصديق فليست خارجة عن اسم الإيمان الشرعي ولا اللغوي.
__________
(1) في (ح):" وشعب ".
(2) في (ح):" أنها ".
(3) قوله:" قد " ليس في (أ) و(ح).
(4) في حاشية (ح):"أنه "، وكتب فوقها:"صح ".(1/232)
وقد نبه عليه - عليه السلام - على أفضلها بالتوحيد المتعين على كل مسلم والذي لا يصح شيء من هذه الشعب إلا بعد صحته، وأدناها ما يتوقع ضرره(1) بالمسلمين من إماطة الأذى عن طريقهم، وإن لم يقع الأذى بعد، وبقي بين 59 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ ؛ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً يَعِظُ أَخَاهُ?فِي الْحَيَاءِ، فَقَالَ:« الْحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ ».
حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الإسْنَادِ، وَقَالَ: مَرَّ بِرَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ يَعِظُ أَخَاهُ.
ــــــــــــــــــ
هذين الطرفين(2) من أعداد أبواب الإيمان ما لو تكلف حصرها بطريق الاجتهاد تعيينها بغلبة الظن إلى حصر عدته - عليه السلام - لأمكن، وقد أشار إلى نحو هذا بعض من تقدم،وعليه بنى الفقيه إسحاق بن إبراهيم القرطبي كتابه المسمى بالنصائح، ولكن القطع أن تعيين(3) ما نقحه الاجتهاد وترتيبه على تلك الأبواب هو(4) مراد النبي- صلى الله عليه وسلم - يصعب ولن يعدم من يرتب ترتيبًا آخر ويداخل بعض الأبواب في بعض ويفصل بعض الأقسام من بعض، والله أعلم، لكنه قد جاء في الأحاديث النص على بعض تلك الشعب، كما سيأتي.
__________
(1) في (ط):" ضروروة ".
(2) في (ح):" الطريقين ".
(3) في (ح):" يعين ".
(4) في (ط):" هي ".(1/233)
ووقع في الأم في حديث زهير الشك في سبعين(1) أو ستين، وكذلك وقع في البخاري من رواية أبي زيد المروزي أول الكتاب:"ستون "، والصواب ما وقع في سائر الأحاديث ولسائر الرواة(2): سبعون، ولايلزم معرفة تعيينها، ولا يقدح جهل ذلك في الإيمان ؛ إذ أصول الإيمان وفروعه معلومة محققة، والإيمان بأنها هذا العدد من هذا(3) الحديث واجب على الجملة، وتفصيل تلك الأصول وتعيينها على هذا العدد يحتاج إلى توقيف.
وقوله: " والحياء شعبة من الإيمان"، قال الإمام: إنما كان الحياء - وهو في الأكثر غريزة - من الإيمان الذي هو اكتساب ؛ لأن الحياء يمنع(4) من
60 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَاللَّفْظُ لابْنِ الْمُثَنَّى قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا السَّوَّارِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ يُحَدِّثُ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: الْحَيَاءُ لا يَأْتِي إِلا بِخَيْرٍ »، فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ: أَنَّ مِنْهُ وَقَارًا، وَمِنْهُ سَكِينَةً. فَقَالَ عِمْرَانُ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صُحُفِكَ.
المعصية كما يمنع الإيمان منها، والحياء ههنا - ممدود - من الاستحياء.
__________
(1) في (ح):" لسبعين ".
(2) قوله:" ولسائر الرواة " ليس في (ح).
(3) قوله:" هذا " ليس في (أ).
(4) في (ط):" تمنع ".(1/234)
قال القاضي: الحياء أحد الشعب المحصورة، فهذا من العدد بالنص(1)، وقد يعد الحياء من الإيمان بمعنى التخلق به والتزام ما يوافق الشرع ويحمد منه، فرب حياء مانع من الخير مجبن(2) عن قول الحق وفعله مذموم، ورب حياء عن المآثم والرذائل مأمور به مجازى عليه، كما جاء في الحديث الآخر:" لكل دين خلق وخلق الإسلام الحياء " وكان الحياء من خلق نبينا - عليه السلام -، وقد يكون الحياء في بعض الناس غريزة وطبعًا(3) جبل عليه، لكن استعماله على قانون الشريعة وحيث يجب يحتاج إلى اكتساب ونية وعلم،وقد يكتسبه من لم يجبل عليه ويتخلق به، ولهذا كله قال: " الحياء لا يأتي إلا بخير ".
وقول عمران بن حصين لبشير بن كعب - لما حدثه بهذا الحديث فقال بشير: " إنا لنجد في بعض الكتب أن منه سكينة ووقارًا ومنه ضعف(4)" -: " أحدثك(5) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعارض فيه وتحدثني عن صحيفتك "، وغضب(6) عليه، كما جاء في الحديث، حتى شهد له الحاضرون أنه لا بأس به، حماية أن يذكر مع السنة ما ليس منها أو تعارض(7) بغيرها مما يخالفها،
__________
(1) في (ح):" فهذا من الأعداد المحصورة بالنص ".
(2) في (ح):" مجير ".
(3) في (ح):" عزيزة في بعض الناس وطبعًا ".
(4) في (ح):" قال: ومنه ضعف ".
(5) في (ح):" فقال: أحدثك ".
(6) في (أ) و(ط):" وغضبه ".
(7) في (ط):" يعارض ".(1/235)
61 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ إِسْحَقَ -وَهُوَ ابْنُ سُوَيْدٍ -: أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ حَدَّثَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي رَهْطٍ مِنَّا وَفِينَا، بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ، فَحَدَّثَنَا عِمْرَانُ يَوْمَئِذٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:«الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ »، قَالَ: أَوْ قَالَ:« الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ »، فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّا لَنَجِدُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ، أَوِ الْحِكْمَةِ: أَنَّ مِنْهُ سَكِينَةً وَوَقَارًا لِلَّهِ، وَمِنْهُ ضَعْفٌ، قَالَ: فَغَضِبَ عِمْرَانُ حَتَّى احْمَرَّتَا عَيْنَاهُ، وَقَالَ: أَلا أَرَانِي أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَتُعَارِضُ فِيهِ. قَالَ: فَأَعَادَ عِمْرَانُ الْحَدِيثَ قَالَ: فَأَعَادَ بُشَيْرٌ، فَغَضِبَ عِمْرَانُ قَالَ: فَمَا زِلْنَا نَقُولُ فِيهِ: إِنَّهُ مِنَّا يَا أَبَا نُجَيْدٍ، إِنَّهُ لا بَأْسَ بِهِ.
حَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ، حَدَّثَنَا أَبُو نَعَامَةَ الْعَدَوِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ حُجَيْرَ بْنَ الرَّبِيعِ الْعَدَوِيَّ يَقُولُ: عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. نَحْوَ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ.
ــــــــــــــــــ
لقوله: " ومنه ضعف "، ولئلا يتطرق من في(1) قلبه ريب إلى مثل هذا.
وأبو نجيد المذكور هنا في كنية عمران بن حصين بضم النون وفتح الجيم مصغرًا، وآخره دال مهملة.
ومعنى يعارضه أي يأتي بمقال يضاهيه، ويعترض عليه بما يخالفه.
__________
(1) قوله:" في " ليس في (أ).(1/236)
وقوله: " يعظ أخاه في الحياء "، أي يؤنبه ويقبح له كثرته، وأنه من العجز، وينهاه عنه، ولذلك قال له: " دعه فإن الحياء من الإيمان "، ولم يقل مسلم " دعه "، وقاله البخاري، أي إنما فعله خير كله، كما قال في الحديث
الآخر، فلم يأت ما يزجرعنه(1) ويلام عليه(2).
62 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالا: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ،ح، وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ جَمِيعًا، عَنْ جَرِيرٍ،ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ كُلُّهُمْ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: قُلْ لِي فِي الإِسْلامِ قَوْلاً لا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ - وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ غَيْرَكَ -، قَالَ:« قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِمْ ».
63 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ،ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ?- صلى الله عليه وسلم - أَيُّ الإِسْلامِ خَيْرٌ ؟ قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ?».
ــــــــــــــــــ
__________
(1) في (أ):" عليه ".
(2) في (أ) و(ح):" فيه ".(1/237)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - للذي سأله قال(1):" قل آمنت بالله ثم استقم"، هذا من جوامع كلمه - عليه السلام -، وهو مطابق لقوله تعالى:{ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا}(2)، أي وحدوا الله وآمنوا به، ثم استقاموا فلم يحيدوا عن توحيدهم، ولا أشركوا به غيره، والتزموا طاعته إلى أن توفوا على ذلك، وعلى ما قلناه أكثر المفسرين من الصحابة فمن بعدهم وهو معنى الحديث إن شاء الله تعالى، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " استقاموا والله على طاعة الله، ولم يروغوا روغان الثعالب ".
وقوله - عليه السلام - للسائل(3):" أي الإسلام خير ؟ " قال: " تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن(4) لم تعرف ".
64 - وَحَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ الْمِصْرِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: إِنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ ؟ قَالَ:« مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ».
ــــــــــــــــــ
__________
(1) قوله:" قال " ليس في (ط).
(2) الآية:() من سورة.
(3) في (ح):" لما سأله السائل عن ".
(4) في (ط):" وعلى من ".(1/238)
معناه: أي خصال الإسلام خير ؟ وهذا حض منه - صلى الله عليه وسلم - على تألف قلوب المؤمنين، وأن أفضل خلقهم الإسلامية ألفة بعضهم بعضًا، وتحببهم وتوادهم، واستجلاب ما يؤكد ذلك بينهم بالقول والفعل، وقد حض - عليه السلام - على التحاب(1) والتودد(2) وعلى أسبابهما(3) من التهادي، وإطعام الطعام، وإفشاء السلام، ونهى عن أضدادها من التقاطع، والتدابر والتحسس والتجسس(4) والنميمة وذي الوجهين.
والألفة أحد فرائض الدين وأركان الشريعة ونظام شمل الإسلام.
وفي بذل السلام لمن عرفت ومن لم تعرف إخلاص العمل فيه لله تعالى(5)، لا مصانعة ولا ملقًا لمن تعرف دون من لا تعرف، وقد(6) جاء في الحديث أن السلام آخر الزمان يكون معرفة(7).
وفيه مع ذلك استعمال خلق التواضع، وإفشاء شعار هذه الأمة، من لفظ السلام، ومن قوله:" أفشوا السلام بينكم ".
وقوله:" تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف، أي تسلم، قال أبو حاتم:" تقول اقرأ - عليه السلام -، وأقرئه الكتاب، ولا تقول: أقرئه السلام إلا في لغة سوء، إلا أن يكون مكتوبًا فتقول(8): أقرئه السلام، أي اجعله يقرؤه ".
65 - حَدَّثَنَا حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ جَمِيعًا، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ قَالَ عَبْدٌ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الزُّبَيْرِ يَقُولُ: سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ».
__________
(1) في (ح):" التحابب ".
(2) في (ح):" والتوادد ".
(3) في (ح):" أشباههما ".
(4) في (أ) و(ح):" والتجسس والتحسس ".
(5) في (ح):" تعالى بحبه ".
(6) قوله:" قد" ليس في (أ) و(ط).
(7) في (ح):" بمعرفته ".
(8) في (ط):" فيقول ".(1/239)
66 - وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأمَوِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَيُّ الإِسْلامِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ:« مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ».
وَحَدَّثَنِيهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ حَدَّثَنِي بُرَيْدُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِهَذَا الإسْنَادِ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَيُّ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ فَذَكَرَ مِثْلَهُ ».
ــــــــــــــــــ
وقوله: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده "، أي الكامل الإسلام والجامع لخصاله: من لم يؤذ مسلمًا بقول ولا فعل ؛ إذ أكثر الأفعال بالأيدي فأضيفت(1) عامتها إليها، وهذا من جامع كلامه وفصيحه ومحاسنه - صلى الله عليه وسلم -، ولا يفهم من هذا أن من ليس بهذه الصفة فليس بمسلم، وهو(2) كما يقال: المال(3) الإبل(4)، والناس العرب، على التفضيل لا على الحصر.
وجوابه بعد هذا بأن(5) هذا أفضل الإسلام، وقد تقدم في الحديث الآخر جواب آخر، دل أنه - عليه السلام - أجاب كل واحد من السائلين بما رآه أنفع له وأخص به، فقد(6) يكون ظهر من أحدهما كبر وإمساك وانقباض عن الناس فأجابه بما في الحديث الأول: من إطعام الطعام، وإفشاء السلام،
__________
(1) في (ح):" فأضيف ".
(2) قوله:" وهو " ليس في (ح).
(3) في (ح):" للمال ".
(4) في (ح):" الإبل المال ".
(5) في (ح):" فإن "، في حاشيتها:"بأن "، وكتب فوقها:"صح، خ".
(6) في (أ):" وقد ".(1/240)
67 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ جَمِيعًا، عَنِ الثَّقَفِيِّ، قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ ».
ــــــــــــــــــ
وظهر من الآخر(1) قلة مراعاة ليده ولسانه فأجابه بالجواب الآخر(2)، أو يكون - عليه السلام - تخوف عليهما ذلك، أو كانت الحاجة في وقت سؤال كل واحد منهما للعامة أمس بما جاوب به.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان.. " الحديث(3)، هو بمعنى الحديث المتقدم(4)، " ذاق طعم الإيمان..."، وذلك أنه لا تصح محبة الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - حقيقة، والحب للغير في الله عز وجل، وكراهة الرجوع إلى الكفر إلا لمن قوي بالإيمان يقينه، واطمانت به نفسه، وانشرح له صدره، وخالط دمه ولحمه(5)، وهذا هو الذي وجد حلاوته،والحب في الله عز وجل من ثمرات الحب لله عز وجل، ومعنى حب العبد لله عز وجل استقامته في طاعته، والتزامه لأوامره ونواهيه في كل شيء، ولهذا قال بعضهم: المحبة مواطأة القلب على ما يرضي الرب(6)، فتحب(7) ما أحب وتكره ما كره.
__________
(1) في (ح):" للآخر ".
(2) في (ح):" آخر ".
(3) في (ح):" هذا الحديث ".
(4) في (ح):" الحديث للأول المتقدم ".
(5) في (ح):" لحمه ودمه ".
(6) في (ط):" الله ".
(7) في (ح):" فيحب ".(1/241)
واختلفت عبارات المتكلمين في هذا الباب بما لا يؤول إلى اختلاف إلا من حيث اللفظ والالتفات إلى أسباب المحبة أو إلى(1) ثمراتها، وبالجملة فأصل(2) المحبة الميل لما يوافق المحب، والله جل اسمه منزه عن أن يميل أو يمال إليه، وأما 68 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:« ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ كَانَ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ ».
ــــــــــــــــــ
المحبة للرسول - صلى الله عليه وسلم - فيصح منها(3) الميل ؛ إذ ميل الإنسان لما يوافقه: إما لأنه يستلذه ويستحسنه، كميله للصور(4) الجميلة والأصوات(5) الحسان والمطاعم الشهية وأشباهها من المستلذات بالحواس الظاهرة، أو لما(6) يستلذه بحاسة عقله من المعاني الباطنة الجميلة والأخلاق الرفيعة(7)، كمحبة الصالحين والعلماء وأهل الفضائل والخصال العلية، وإن لم يرهم ولا قارب زمانهم، أو ميله لمن يحسن إليه وينعم عليه ويدفع المضار والمكاره عنه، فقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها.
__________
(1) في (ح):" وإلى ".
(2) قوله:" فأصل " ليس في (ط).
(3) في (أ):" منه ".
(4) في (ح):" للصور ".
(5) في (ح):" وللأصوات ".
(6) قوله:" لما " ليس في (أ).
(7) في (ح):" الربيعة ".(1/242)
وهذه المعاني كلها موجودة في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - مسببة حبه ؛ لما خلق عليه من كمال صورة الظاهر والباطن(1)، وكمال خلال الجلال وجمال الفضائل، وإحسانه إلى جميع(2) المسلمين بهدايته(3) إياهم إلى الصراط المستقيم ودوام النعيم والإبعاد من الجحيم.
وقد أشار بعضهم إلى أن هذا متصور في حق الله، وحب العبد له على قدر معرفته بجلاله وكمال صفاته وتقدسه عن النقائص وفيض إحسانه،وأن الكل منه، وكل جمال وجلال فمضاف إليه،وكل فضل وإجمال فمن بسط يديه لا إله غيره.
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَنْبَأَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، أَنْبَأَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا ».
69 - وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ،ح، وَحَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ كِلاهُمَا، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لا يُؤْمِنُ عَبْدٌ وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الْوَارِثِ الرَّجُلُ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ».
ــــــــــــــــــ
ومن محبته سبحانه ومحبة رسوله - صلى الله عليه وسلم -: التزام شريعته، ووقوفه(4) عند حدوده، ومحبة أهل ملته،وهو تمام محبته، فيحب العبد لا يحبه إلا لله عز وجل؛ لأن من أحب شيئًا أحب ما يحبه ومن يحبه ومن هو من(5) سببه، قال النبي - عليه السلام -: " من أحب العرب فبحبي أحبهم ".
__________
(1) في (ح):" الباطن الظاهر ".
(2) قوله:" جميع " ليس في (أ).
(3) في (ح):" لهدايته ".
(4) في (ح):" ورقوبه ".
(5) قوله:" من " ليس في (ح).(1/243)
وإذا حصل هذا بين المؤمنين حصلت منه الألفة(1) الموجبة للتعاون على البر والتقوى، والمؤيدة(2) لأمر الدين والدنيا.
والمحبة في الله عز وجل والبغض فيه من واجبات الإسلام، وهو قول مالك وغيره من العلماء.
وقوله - عليه السلام -: " لا يؤمن أحدكم بالله حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " الحديث.
قال الإمام: " خرَّج مسلم هذا الحديث عن محمد بن المثنى قال: نا رجل أراه غندر، نا شعبة عن قتادة عن أنس، هكذا عند ابن ماهان،
70 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ».
71 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ، أَوْ قَالَ لِجَارِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ».
ــــــــــــــــــ
ورواه أبو أحمد الجلودي: نا ابن مثنى وابن بشار، نا محمد ابن جعفر، نا شعبة... مجود(3) الإسناد(4).
__________
(1) في (ح):" الرحمة والألفة ".
(2) في (ح):" المودة ".
(3) في حاشية (ح):"فجود "، وكتب فوقها:"صح، خ".
(4) في (ح):" للإسناد ".(1/244)
قال القاضي: قال بعض المتكلمين على الحديث: " جمع - عليه السلام - تحت لفظه هذا القليل معاني كثيرة ؛ إذ أقسام المحبة ثلاثة: محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد، ومحبة رحمة وإشفاق كمحبة الولد، ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبة الناس بعضهم بعضًا، فجمع - عليه السلام - ذلك كله في محبته "، وهو من نحو ما أشرنا إليه في أسباب محبته.
ومن الإشفاق في محبته نصرة سنته، والذَّب عن شريعته، وتمني حضور حياته فيبذل نفسه وماله دونه.
وإذا تحقق ما ذكرناه(1) تبين أن حقيقة الإيمان لا تتم(2) إلا بذلك، ولا يصح الإيمان إلا بتحقيق إنافة قدر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنزلته على كل والد وولد ومحسن ومفضل، ومن لم يعتقد هذا واعتقد سواه فليس بمؤمن.
72 - وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ أَوْ?قَالَ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ?».
73 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ جَمِيعًا، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْعَلاءُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ».
ــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" ذكرنا ".
(2) في (ط):" يتم ".(1/245)
وقوله - عليه السلام -:" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه أو لجاره ما يحب لنفسه"، أي لا يتم إيمان(1) حتى يكون(2) بهذه(3) الصفة للمؤمنين من كفه الأذى عنهم، وبذله المعروف لهم، ومودته(4) الخير لجميعهم، وصرف الضر عنهم.
قيل: ظاهره التسوية وباطنه التفضيل،لأن كل أحد يحب أن يكون أفضل الناس(5)، فإذا أحب لغيره ما يحب لنفسه كان هو من المفضولين،وقد روي هذا المعنى عن الفضيل بن عياض أنه قال لسفيان بن عيينة حمهما الله: " إن كنت تريد أن يكون الناس كلهم مثلك فما أديت لله الكريم(6) نصيحة، فكيف وأنت تود أنهم دونك ".
وقوله - عليه السلام -:" لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه "، البوائق: الغوائل والدواهي، أي من لا يؤمن شره ولا مضرته، ومن كان بهذه الصفة من سوء الاعتقاد للمؤمن- فكيف بالجار وتربصه به الدوائر وتسبيبه له المضار- فهو من العاصين المتوعدين(7) بدخول النار،وأنه لا يدخل الجنة حتى يعاقب ويجازى بفعله إلا أن يعفو الله عنه، وهذا وعيد شديد، وفيه من تعظيم حق الجار ما فيه.
74 - حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ».
ــــــــــــــــــ
__________
(1) في (أ):" إيمان ".
(2) في (ح):" تكون ".
(3) في (ط):" هذه ".
(4) في (ح):" ومودة ".
(5) قوله:" الناس " ليس في (ح).
(6) قوله:" الكريم " ليس في (ح).
(7) في (ح):" المتوعدين به ".(1/246)
وفي الحديث الآخر: " والله لا يؤمن - ثلاثًا - من لا يأمن جاره بوائقه، أي لا يتم إيمانه ولا يكمل.
وقد تكون هذه الأحاديث، إن حملت على ظاهرها، خصوصًا فيمن جاور المسلمين من المنافقين.
وقوله: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره:، وفي الحديث الآخر: " فليحسن إلى جاره "، وفي الآخر:" فليكرم جاره "، معنى ذلك أن من التزم شرائع الإسلام لزمه إكرام جاره وبره وأمر أهل الإيمان بذلك، وكل هذا تعريف بحق الجار وحض على حفظه، وقد أوصى الله تعالى بالإحسان إليه في كتابه،وقال - عليه السلام -: " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه "، وعن عائشة أنها قالت(1): " قلت يا رسول الله، إن لي جارين فإلىأيهما أهدي ؟ قال:" إلى إقربهما منك بابًا.
وكذا(2) قوله أيضًا(3): " فليكرم ضيفه "، بمعنى ما تقدم، والضيافة من أدب(4) الإسلام وخلق النبيين والصالحين،وقد أوجبها الليث،وقال: هي حق واجب ليلة واحدة، واحتج بالحديث(5): " ليلة الضيف حق واجب على كل
75 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأحْوَصِ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخِرِ فَلا يُؤْذِي جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ ».
ــــــــــــــــــ
مسلم "، وبحديث عقبة:" إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بحق الضيف فاقبلوا، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم ".
__________
(1) قوله:" أنها قالت " ليس في (أ). وفي (ط):" عن عائشة قالت: يارسول الله ".
(2) في (ط):" وكذلك ".
(3) قوله:" أيضًا " ليس في (ط).
(4) في (ط):" آداب ".
(5) قوله:" بالحديث " ليس في (أ).(1/247)
وعامة الفقهاء على أنها من مكارم الأخلاق، وحجتهم قوله - عليه السلام - : "جائزته يوم وليلة "، والجائزة العطية والمنحة والصلة، وذلك لا يكون إلا مع الاختيار،وقوله: " فليكرم" و"ليحسن" يدل عليه ؛ إذ ليس يستعمل مثله في الواجب، مع أنه جمعه مع إكرام الجار والإحسان إليه، وذلك غير واجب، فهو مثله، وتأولوا الأحاديث أنها كانت في أول الإسلام ؛ إذ كانت المواساة واجبة، وقيل لعل هذا كان للمجاهدين أول الإسلام ولم يكن لهم سعة الزاد(1) فألزم من مرّ بهم ضيافتهم، وقيل لعل ذلك على من ألزم الضيافة من أهل الذمة لمن يجوز بهم.
واختلف: هل الضيافة على الحاضر والبادي ؟ فذهب لكون ذلك عليهما: الشافعي ومحمد بن عبدالحكم، وقال مالك وسحنون: إنما ذلك على أهل البوادي، ولا تلزم(2) أهل الحاضرة ؛ لأن المسافر يجد في الحضر المنازل في الفنادق ومواضع النزول وما يشتري في الأسواق، وقد جاء في حديث: " الضيافة على أهل الوبر وليست على أهل المدر "، لكن هذا الحديث عند أهل المعرفة موضوع.
وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنِ?الأعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي حَصِينٍ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ?».
__________
(1) في (ط) تشبه أن تكون:" للزاد ".
(2) في (ط):" يلزم ".(1/248)
77 - حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو؛ أَنَّهُ سَمِعَ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ يُخْبِرُ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ ».
ــــــــــــــــــ
وقد تتعين الضيافة لمن اجتاز محتاجًا وخيف عليه،وعلى أهل الذمة إذا شرطت عليهم في الأصل.
وقوله: " فليقل خيرًا أو ليصمت "، أي ليقل خيرًا يثاب عليه أو يصمت عن الشر فيسلم،وهو مثل الحديث الآخر:" من صمت نجا ".
فعرفك بهذا أن من آمن بالله واليوم الآخر فليلزم هذه الأخلاق الحسنة من إكرام الضيف والجار، ودفع أذاه عنه، وإمساك لسانه إلا في خير ينفعه، وقد قال الله تعالى:" ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ".
واختلف السلف والعلماء هل يكتب على العبد جميع ما يتكلم به، أو إنما يكتب ما يجازى عليه من خير أو شر، دون لغو الكلام وما يعني الإنسان منه، وإلى هذا ذهب ابن عباس رضي الله عنهما وغيره في تفسير الآية.(1/249)
78 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ،ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ كِلاهُمَا، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ - وَهَذَا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ - قَالَ: أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلاةِ مَرْوَانُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ الصَّلاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ ».
ــــــــــــــــــ
وقوله(1): " أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان(2)".
قال القاضي: اختلف في هذا، فوقع هنا(3) ما تراه،ونحوه في حديث أبي سعيد، وروي: أول من بدأ بالخطبة فيها عثمان - رضي الله عنه -، وروي: أول من فعل ذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما رأى الناس يذهبون عند تمام الصلاة ولا ينتظرون الخطبة، وقيل: بل ليدرك الصلاة من تأخر(4)، وبعد منزله، وقيل: أول من فعل ذلك معاوية، وروي أن ابن الزبير فعله أيضًا، وتؤول في فعل بني أمية في ذلك لما أحدثوا من سب علي فيها - رضي الله عنه -، فكان الناس يتفرقون لئلا يسمعوا ذلك، فأخروا الصلاة ليحبسوا الناس.
__________
(1) في (أ):" وقوله ".
(2) في (ط):" مرون ".
(3) في (ح):" هاهنا ".
(4) في (ح):" من تأخر عن الصلاة ".(1/250)
والذي ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - تقديم الصلاة، وعليه جماعة فقهاء الأمصار،وقد عده بعضهم إجماعًا، يعني - والله أعلم - بعد الخلاف، أو لم يلتفت إلى خلاف بني أمية بعد إجماع الخلفاء والصدر الأول قبل(1).
79 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الأعْمَشُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي قِصَّةِ مَرْوَانَ، وَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَسُفْيَانَ.
ــــــــــــــــــ
قال مالك: " وهي السنة "، قال أشهب: " إن بدأ بالخطبة أعادها بعد الصلاة ".
وقوله: " فقام إليه رجل(2)"، ثم قال بعد: فقال أبو سعيد:" أما هذا فقد قضى ما عليه "، يدل أن الرجل غير أبي سعيد، وجاء في الحديث الآخر أن أبا سعيد هو الذي جبذ بيد مروان(3) ؛ إّ رآه يصعد المنبر، وكان جاءا معًا فرد مروان بمثل ما قال هذا الرجل، فيحتمل أنهما حديثان جرى أحدهما لأبي سعيد والآخر لغيره بحضرته.
__________
(1) قوله:" قبل " ليس في (أ) و(ح).
(2) في حاشية (ح):"الصلاة قبل الخطبة "، وكتب فوقها:"صح ".
(3) في (ط):" مرون ".(1/251)
وقوله: " فقد قضى ما عليه " بمحضر ذلك الجمع دليل على استقرار السنة عندهم على خلاف ما فعل مروان، ويبينه(1) احتجاجه بقوله:" سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من رأى منكم منكرًا فليغيره(2)..." الحديث، ولا يسمي منكرًا ويعتقده هو ومن حضر ما(3) استمر به عمل أو مضت به سنة، وفيه أدل دليل على أنه لم يعمل به خليفة قبل،وأن ما(4) روي فيه عمن ذكرناه لا يصح ؛ إذ(5) لا ينبغي للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر أن يحمل الناس على اجتهاده ومذهبه، وإنما يغير منه ما اجتمع على إنكاره وإحداثه.
واختلف العلماء فيمن(6) قلده السلطان الحسبة في ذلك: هل يحمل الناس على رأيه ومذهبه إن كان من أهل الاجتهاد أم لا يغير على غيره ما خالف مذهبه ؟ على قولين.
......................................................................
ــــــــــــــــــ
وقوله: " فليغيره بيده..." الحديث، أصل في هذا الباب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجبات الإيمان ودعائم الإسلام بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولا خلاف في ذلك إلا ممن لا يعتد بخلافه من الرافضة، ووجوبه شرعًا لا عقلاً، خلافًا للمعتزلة.
__________
(1) في (ط):" تبيينه ".
(2) في (ح):" فليغيره بيده ".
(3) في (أ):" إلا ما استمر "، وفي حاشية (ح):"إلا"، وكتب فوقها:"خ".
(4) في (ط):" من ".
(5) في (ط):" وإذ ".
(6) في (ح):" العلماء مختلفون فيمن ".(1/252)
وقوله: " فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه..." الحديث، أصل في صفة تغيير المنكر، وعَلَم على العلم في عمله، فمن حق المغير أولاً أن يكون عالمًا بما يغيره، عارفًا(1) بالمنكر من غيره، فقيهًا بصفة التغيير ودرجاته، فيغيره بكل وجه أمكنه زواله به وغلب على ظنه منفعة تغييره بمنزعه في(2) ذلك من فعل أو قول(3)، فيكسر آلات الباطل، ويريق ظروف المسكر بنفسه، أو يأمر بقوله من يتولى ذلك، وينزع المغصوب(4) من أيدي المعتدين بيده، أو يأمر بأخذها منهم ويمكن منها أربابها، كل هذا إذا أمكنه، ويرفق في التغيير(5) جهده بالجاهل أو ذي العزة الظالم المخوف شره ؛ إذ ذلك أدعى إلى قبول قوله وامتثال أمره، وأسمع لوعظه وتخويفه، كما يستحب أن يكون متولي ذلك من أهل الفضل والصلاح لهذا المعنى.
ويغلظ على المعنق(6) منهم في غيه والمسرف في بطالته إذا أمن أن يثير(7) إغلاظه منكرًا أشد مما غيره، أو كان جانبه محميًا عن سطوة الظالم، فإن غلب على ظنه أن تغييره بيده يسبب منكرًا أشد منه: من قتله أو قتل غيره بسببه كف يده واقتصر على القول باللسان(8) والوعظ والتخويف، فإن(9)
__________
(1) في (ح):" وعارفًا ".
(2) قوله:" في " ليس في (ح).
(3) في (ح):" من قول أو فعل ".
(4) في (ح):" الغصوبات "، وفي (ط):" العضوب ".
(5) في (أ):" بالتغيير ".
(6) في (ح):" المغتر "، وفي (ط):" المعلن ".
(7) في (أ) و(ح):" يؤثر ".
(8) في (ح):" بلسانه ".
(9) في (ح):" فمن ".(1/253)
80 - حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ النَّضْرِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ - وَاللَّفْظُ لِعَبْدٍ - قَالُوا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ،عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، ــــــــــــــــــ
خاف أيضًا أن يسبب قوله مثل ذلك غير بقلبه وكان(1) في سعة، وهذا هو المراد بالحديث إن شاء الله تعالى.
وإن وجد من يستعين به على ذلك استعان ما لم يؤد ذلك إلى إظهار سلاح وحرب، وليرفع ذلك إلى من له الأمر إن كان المنكر من غيره، أو يقتصر على تغييره بقلبه، هذا(2) هو فقه المسألة وصواب العمل فيها عند العلماء والمحققين، خلافًا لمن رأى الإنكار بالتصريح بكل حال وإن قتل ونيل منه كل أذى.
__________
(1) قوله:" وكان " ليس في (ط).
(2) في (ح):" وهذا ".(1/254)
وقوله في حديث ابن(1) مسعود - رضي الله عنه -: " ما من نبي بعثه الله..." الحديث، وفيه: " إلا كان له من أمته حواريون "، قال الأزهري: " الحواريون خلصان الأنبياء عليهم السلام، ومعناه الذين أخلصوا ونقوا من كل عيب، وحوارى الدقيق: الذي نخل "، وقال يونس: " هم خلصاؤهم(2) وخاصتهم "، وقال السلمي: " هم الأخلاء "، وقال ابن الأنباري(3):" هم المختصون المفضلون،
وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ ». قَالَ أَبُو رَافِعٍ: فَحَدَّثْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَأَنْكَرَهُ عَلَيَّ، فَقَدِمَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَنَزَلَ بِقَنَاةَ فَاسْتَتْبَعَنِي إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَعُودُهُ فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا جَلَسْنَا سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ، عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَحَدَّثَنِيهِ كَمَا حَدَّثْتُهُ ابْنَ عُمَرَ. قَالَ صَالِحٌ: وَقَدْ تُحُدِّثَ بِنَحْوِ ذَلِكَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ.
ــــــــــــــــــ
وسمي خبز الحواري ؛ لأنه أشرف الخبز وأرفعه "، وقال غيره: " إنما سمي بذلك أنصار عيسى - عليه السلام - ؛ لأنهم كانوا يغسلون الثياب ويحورونها أي يبيضونها، وقيل لكل ناصر لنبيه حواري تشبيهًا بأولئك(4)".
قال ابن الأنباري: " في الحواريين خمسة أقوال، قال أهل اللغة: هم(5) البيض الثياب، وقيل: هم(6) المجاهدون، وقيل: هم(3) الصيادون، وقيل: القصارون،وقيل الملوك ".
__________
(1) في كل النسخ:" أبي "، وسيأتي على الصواب.
(2) في (ط):" خلصانهم ".
(3) في (ح) و(ط):" وقال الأنباري ".
(4) في (ح):" وقيل لكل ناصر سنة تشبيهًا بأولئك حواري ".
(5) قوله:" هم " ليس في (ط).
(6) قوله:" هم " ليس في (ح) و(ط).(1/255)
وقوله: " وتخلف(1) من بعدهم خلوف "، هو جمع خلف بالإسكان، وهو الذي يأتي بعد الآخر، قال الله تعالى: " فخلف من بعدهم خلف "، ويقال فيه:" خلف " بالفتح أيضًا، ومنه الحديث: " يحمل هذا العلم من كل(2) خلف عدوله "، وحكى الفراء الوجهين في الذم، والفتح في المدح لا غير، وحكى أبو زيد الوجهين جميعًا فيهما معًا، وقاله الحربي عنه وغيره.
وقوله:"من جاهدهم بيده فهو مؤمن..." الحديث، من معنى الأول، وأن أقل التغيير تغيير القلب، وهو(3) أضعف(4) مراتب تغيير أهل الإيمان، وأن من لم يفعل ذلك ولا أنكره بقلبه فقد رضيه، وليس ذلك من الإيمان.
وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَقَ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَارِثُ بْنُ الْفُضَيْلِ الْخَطْمِيُّ،عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« مَا كَانَ مِنْ نَبِيٍّ إِلا وَقَدْ كَانَ لَهُ حَوَارِيُّونَ يَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ وَيَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِهِ، مِثْلَ حَدِيثِ صَالِحٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ قُدُومَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَاجْتِمَاعِ ابْنِ عُمَرَ مَعَهُ.
ــــــــــــــــــ
__________
(1) في (أ) و(ط):" ويخلف ".
(2) في (ط):" كان ".
(3) قوله:" هو " ليس في (ح) و(ط).
(4) في (ح):" أضعاف ".(1/256)
وقوله:" قال صالح: وقد تحدث بنحو ذلك عن أبي رافع "، يريد أن صالح بن كيسان راوي(1) الحديث عن الحارث - وهو ابن فضيل الخطمي - عن جعفر بن عبدالله بن الحكم عن عبدالرحمن بن المسور عن أبي رافع عن ابن(2) مسعود قال: إن هذا الحديث تحدث به عن أبي رافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لم يذكر فيه ابن مسعود، وقد ذكره البخاري في تاريخه كذلك مختصرًا عن أبي رافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -،وقد قال الجياني عن أحمد بن حنبل أنه قال: " الحارث بن فضيل الخطمي ليس بمحفوظ الحديث، وهذا كلام لا يشبه كلام ابن مسعود، وابن مسعود يقول: اصبروا حتى تلقوني ".
وقوله في هذا الحديث:" فنزل بقناة "، كذا للسمرقندي، وهو الصواب، وقناة واد من أودية المدينة عليه مال من أموالها،وجاء في رواية الجمهور " بفنائه "، وهو خطأ وتصحيف.
وقوله في حديث أبي مسعود - وأشار نحو اليمن -:" ألا إن الإيمان ههنا، وإن القسوة(3) وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل، حيث يطلع قرنا الشيطان، في ربيعة ومضر "، وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -:
__________
(1) قوله:" راوي " ليس في (أ) و(ح).
(2) في (ح):" أبي ".
(3) قوله:" وإن القسوة " ليس في (ح).(1/257)
81- حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ،ح، وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي،ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ كُلُّهُمْ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ،ح، وَحَدَّثَنَا يَحْيَى ابْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: سَمِعْتُ قَيْسًا يَرْوِي، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: أَشَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ نَحْوَ الْيَمَنِ فَقَالَ:« أَلا إِنَّ الإِيمَانَ هَهُنَا، وَإِنَّ الْقَسْوَةَ وَغِلَظَ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الأبِلِ، حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ ».
ــــــــــــــــــ
" رأس الكفر قبل المشرق، والفخر والخيلاء - ويروى: والرياء - في أصحاب الخيل والإبل، الفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم "، ويروى: " والوقار في أصحاب الشاء "، وفي حديث آخر: " الفخر والخيلاء في الفدادين أهل الوبر، قبل مطلع الشمس "، ومن طريق آخر:" أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة وأضعف قلوبًا "، ويروى: وألين(1) قلوبًا وأرق أفئدة، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية "، وفي حديث جابر: " غلظ القلوب والجفاء في المشرق والإيمان في أهل الحجاز".
__________
(1) في (ط):" ألين " بدون واو.(1/258)
قال الإمام: " الخيلاء - بالمد - مشية مكروهة، هي التبختر في المشي، وهو من أفعال الجبابرة، قال أبو عبيدة(1): الفدادون: المكثرون من الإبل، وهم جفاة أهل خيلاء، واحدهم فداد، وهو الذي يملك من المأتين إلى الألف"، قال أبو العباس: " الفدادون هم الجمالون والبقارون والحمارون والرعيان "، وقال أبو عمرو في الفدادين:" بتخفيف الدال، واحدهم فدان(2) - بتشديد الدال، وهي البقر التي يحرث بها، وأهلها أهل جفاء،
82 - حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، أَنْبَأَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« جَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً الإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْفِقْهُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ ».
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ،ح، وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الأزْرَقُ كِلاهُمَا، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« بِمِثْلِهِ ».
ــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ط) يشبه أن تكون " أبو عبيدة ".
(2) في حاشية (ح):" د "، وكتب فوقها:"صح " إشارة إلى انه في نسخة أخرى:" فداد ".(1/259)
لبعدهم عن الأمصار والناس "، قال ابن الأنباري: " أراد في أصحاب الفدادين، فحذف الأصحاب وأقام الفدادين مقامهم "، وأنكر أبو عبيد قول أبي عمرو(1) هذا(2)، وقال: " لا أرى أبا عمرو حفظ هذا، وليس الفدادون من هذا بشيء، كذا جاء وصوابه الفدادين، ولا كانت العرب تعرفها، إنما هذا للروم وأهل الشام، وإنما افتتحت الشام بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -،و لكنهم " الفدادون " بالتشديد، وهم الرجال،والواحد فداد "، قال الأصمعي: الفدادون(3) هم الذين تعلو أصواتهم في حروثهم وأموالهم ومواشيهم، من فدّ الرجل يفد فديدًا إذا اشتد صوته "، وقوله: " أهل الوبر "، يريد أهل ذات الوبر، وهي الإبل".
قال القاضي: الخيلاء: البأو(4) والتكبر(5) في كل شيء،ومنه قول طلحة لعمر: " إنا لا نخول عليك "، قال الهروي:" أي لا نتكبر عليك(6)،[ يقال: خال الرجل واختال،فهو خال، وذو خال ومخيلة "، وقال ابن دريد: "الخيلاء التكبر ](7)، ولا يكون ذلك إلا مع جر الإزار "، قال سيبويه: " وزن الخيلاء: فعلاء، اسم(8)، وبكسر الخاء لغة "، وحكى ابن الصابوني أنه التجبر(9) والاستحقار للناس.
__________
(1) في (ح):" أبي عمر ".
(2) قوله:" هذا " ليس في (أ).
(3) قوله:" الفدادون " ليس في (ح).
(4) قوله:" البأو " ليس في (أ).
(5) أشار ناسخ (ح) إلى ان في نسخة:" النار والتكبر ".
(6) قوله:" عليك " ليس في (أ) و(ح).
(7) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(8) في (ط):" اسمًا ".
(9) في (ح):" التبختر ".(1/260)
84 - وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ وَحَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ قَالا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ الأعْرَجِ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَضْعَفُ قُلُوبًا وَأَرَقُّ أَفْئِدَةً الْفِقْهُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ ».
ــــــــــــــــــ
وأما قوله: " الفدادون "، فالقول فيه إن شاء الله تعالى ما قاله أبو عبيد من أنه المكثر، لكن لا يختص هنا بالإبل وحدها، بل الإكثار الموجب للخيلاء والكبر(1) والاحتقار لمن لامال له، ولكن لما(2) كانت الإبل(3) أفضل(4) أموال مكثري العرب وأعزها، - ولهذا قال تعالى: " وإذا العشار عطلت " - وكان أصحابها أهل بداوة وجفاء وجهالة وغلظ قلوب وصفهم(5) النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك.
وفي الحديث: " تقول الأرض للميت ربما مشيت علي فدادًا"، قيل في تفسيره: أي ذا مال كثير وذا خيلاء، وقيل: ذا وطء شديد، قال تعالى: " ولا تمش في الأرض مرحًا "، وقد جاء في تفسير هذه اللفظة عن مالك: " سألت عنها فقيل لي: هم أهل الجفاء "، وقال ابن دريد: " هو الشديد الوطء من نشاط أو مرح(6)، وهذا من الخيلاء "، وذكر عن الأصمعي أيضًا: " يقال للرجل إذا كان جافي الكلام إنه(7) لفداد "،وحكى عن بعضهم أن الفديد من الإبل: الكثير، وهذا حجة لقول أبي عبيد، وفي الحديث الآخر: " هلك الفدادون إلا من أعطى من نجدتها ورسلها "، فهم أصحاب الإبل كما قال.
__________
(1) قوله:" الكبر " ليس في (ح).
(2) في (أ):" ولما ".
(3) قوله:" الإبل " في مكانها بياض في (ط).
(4) قوله:" أفضل " ليس في (ح).
(5) قوله:" وصفهم " في مكانها بياض في (ط).
(6) في (ح):" فرح "، وفي حاشيتها:"مرح"، وكتب فوقها:"صح ".
(7) في (ح):" إنك ".(1/261)
قال القاضي: فالفدادون إذن الذين عنى النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث، ووصفهم بهذه الأوصاف من الجفاء والقسوة وغلظ القلوب والفخر والخيلاء، هم كما 85 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« رَأْسُ الْكُفْرِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلاءُ فِي أَهْلِ الْخَيْلِ وَالأبِلِ الْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْوَبَرِ، وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ ».
ــــــــــــــــــ
فسرهم في الحديث: أهل نجد، وأهل الخيل والإبل والوبر، ومن(1) ربيعة ومضر، وهو نحو ما قال مالك وأبو عبيد، ولا يبعد منه قول الأصمعي والقتبي من أن الفدادين أصحاب الأصوات المرتفعة في حروثهم وأموالهم ومواشيهم؛ لأن فيه الرياء والخيلاء، ولا يبعد أيضًا قول أبي عمرو، لما ذكره من الجفاء والتبدي، وبالجملة ففي هؤلاء كلهم من الخيلاء والكبر(2) ما قال، بسبب كثرة المال، ومن الجفاء والغلظة والقسوة، بسبب التبدي والاشتعال بأموالهم وحبها والإقبال عليها عن التفقه في دين الله عز وجل، والاهتبال بمصالح دنياهم وأخراهم، وقد تكون القسوة والجفاء من طبيعة هؤلاء الذين أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم، ويكون وصفهم بكونهم أصحاب إبل وخيل للتعريف بهم والتعيين لهم.
وقوله فيهم: " من حيث يطلع قرنا الشيطان "، و" رأس الكفر قبل المشرق "، إشارة(3) إلى من نبه عليه من أهل نجد وربيعة ومضر ؛ لأنهم الذين عاندوا النبوة، وقسوا عن إجابة الحق وقبول الدعوة، وهم بالصفة التي وصف أهل خيل وإبل وأصحاب وبر،ونجد مشرق من المدينة أو من تبوك، على ما ذكر أنه قال بعض هذا الحديث بتبوك.
__________
(1) في (ح):" من ".
(2) في (ح):" والرياء ".
(3) في (ح):" وأشادة ".(1/262)
86 - وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ وَابْنُ حُجْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: ابْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْعَلاءُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« الإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْكُفْرُ قِبَلَ الْمَشْرِقِ، وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ، وَالْفَخْرُ وَالرِّيَاءُ فِي الْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْخَيْلِ وَالْوَبَرِ ».
ــــــــــــــــــ
والمراد برأس الكفر: معظمه وشره، وقد تأول بعضهم أنه قال ذلك وأهل المشرق يومئذ أهل كفر، وأن مراده(1) بقوله، " رأس الكفر نحو(2) المشرق": فارس،وما ذكرناه أولى، لقوله في الحديث:" أهل الوبر قبل مطلع الشمس"، وفارس ليسوا أهل وبر،وقوله: " من ربيعة ومضر "، وأن الموصوفين بعد ذلك بالجفاء والخيلاء، هم أولئك لا غيرهم، ويؤيده قوله في الحديث الآخر: " اللهم اشدد وطأتك على مضر "، قال في الحديث:" وأهل المشرق يومئذ من مضر مخالفون له "، ويكون هذا الكفر ما كانوا عليه من عداوة الدين والتعصب عليه، ويعضده حديث ابن عمر عنه - عليه السلام - حيث قال:" اللهم بارك لنا في يمننا وفي شأمنا "، قالوا يا رسول الله، وفي نجدنا، فأظنه قال في الثالثة: " هناك الزلازل والطاعون،وبها يطلع قرن الشيطان ".
وقوله:" قرنا الشيطان "، فالقرنان: ناحيتا الرأس،وهو مثل كما يقول(3): يتحرك بحركتهم ويتسلط كالمعين لهم، وهذا على تأويل الحربي في أن الشمس تطلع بين قرني الشيطان.
__________
(1) في (ح):" المراد ".
(2) في (ح):" قبل " وعليها "صح"، وفي حاشيتها:" نحو "، وكتب فوقها:"صح ".
(3) في (ط):" ما تقول ".(1/263)
وقد يكون القرنان هنا(1) ربيعة ومضر، وأضافهما إلى الشيطان لاتباعهما له، ويكون القرن أيضًا(2) هنا يعني(3) الجماعة الناجمة والفئة الطالعة، كما قال في الحديث الآخر:" هذا قرن قد طلع "، أي أصحاب بدعة حدثوا.
87 - وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« الْفَخْرُ وَالْخُيَلاءُ فِي الْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْوَبَرِ، وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ ».
ــــــــــــــــــ
ويكون القرن: القوة، فيكون معناه هنا إضافة قوتهما إلى الشيطان وعونهما له على ما يهم به(4).
وقال الخطابي:" القرن يضرب به المثل فيما لا يحمد من الأمور "
وقد ذهب بعض المتكلمين على الحديث(5) أن المراد بهذا ما طلع من جهة المشرق ببلاد العراق من الفتن المبيرة في صدر الإسلام، من وقعة الجمل وصفين وحروراء وفتون(6) بني أمية، وكل ذلك كان بمشرق نجد والعراق، وقد جاء في حديث الخوارج: " يخرج قوم من المشرق"، ثم خروج دعاة بني العباس من أقصى المشرق، وارتجاج الأرض فتنة، ويكون الكفر ههنا كفر النعم، وأكثر الفتن والأحداث والبدع إنما كانت من قبل المشرق.
قال: " وقد يكون الكفر على وجهه، والمراد برأس الكفر الدجال ؛ لأن خروجه من قبل(7) المشرق.
أو يكون(8)- على ما ذكره(9) من قدمناه - من أهل فارس.
__________
(1) في (أ) و(ط):" ههنا ".
(2) قوله:" أيضًا " ليس في (ط).
(3) قوله:" يعني " ليس في (ح)، وفي حاشيتها:" بمعنى "، وكتب فوقها:"صح".
(4) في حاشية (ح):" هم بهم " بدل:" يهم به ".
(5) في (ح):" هذا الحديث ".
(6) في حاشية (ح):"وفتن ".
(7) في (ط):" جهته ".
(8) في (ح):" قال وقد يكون ".
(9) في (ط):" ذكر ".(1/264)
وقد جاء في الحديث الصحيح في الموطأ وغيره بمعنى ما تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وهو يشير إلى المشرق:" إن الفتنة من حيث يطلع قرن(1) الشيطان " أو قال: " قرن الشمس(2)"، وهو محمول على ما تقدم من الوجوه كلها، ويدل على صحة هذا التأويل أيضًا دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - على مضر في غير موطن.
88 - وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَزَادَ:« الإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ ».
ــــــــــــــــــ
وقوله في حديث حذيفة:" لا تدع مضر عبدالله مؤمنًا إلا فتنوه أو قتلوه "، وقد بينه حذيفة حين دخلوا عليه عند قتل عثمان، حتى ملأوا حجرته وبيته من ربيعة ومضر، فقال: " لا تبرح ظلمة مضر بكل(3) عبد مؤمن تفتنه أو تقتله ".
قال الطحاوي: " المراد بمضر هنا(4) بعضهم،كما بينه حذيفة، والعرب تقول مثل هذا في الأشياء الواسعة، تضيف ما كان من بعضها إلى جملتها، كما قال تعالى:"وكذب به قومك وهو الحق "، ولم يرد الجميع "، وكذلك(5) يحمل على هذا ما ورد في الحديث المتقدم، والأحاديث تصدق بعضها بعضًا على ما رجحناه من التأويل.
وقوله: " الإيمان يمان والحكمة يمانية "، فعلى قول أبي عبيد أنه أراد مكة وما والاها ؛ لأن منها كان مبتدأ(6) الإسلام.
وقيل: ما والاها من تهامة ؛ لأن تهامة من أرض اليمن، وهكذا قال سفيان بن عيينة: " أراد تهامة ".
__________
(1) في (ح):" قرنا ".
(2) في (ح):" قرن الشيطان ".
(3) في (أ):" كل ".
(4) في (ح):" ها هنا ".
(5) في (ط):" ولذلك ".
(6) في (ح):" ابتداء "، وفي حاشيتها:"مبتدأ"، وكتب فوقها:"صح، خ".(1/265)
وقيل: قاله - عليه السلام - وهو بتبوك، ومكة والمدينة بينه وبين اليمن، فأشار إليهما(1)، ويعضد هذا قوله المتقدم في حديث جابر:" الإيمان في أهل الحجاز".
89 -حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ جَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَضْعَفُ قُلُوبًا الإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ السَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْيَمَنِ وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلاءُ فِي الْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْوَبَرِ قِبَلَ مَطْلِعِ الشَّمْسِ ».
ــــــــــــــــــ
وقيل أراد بهذا القول: الأنصار ؛ لأنهم يمانيون(2)، وهم نصروا الإسلام، وبادروا إليه، ودخلوا فيه طوعًا، ويدل عليه قوله: " أتاكم أهل اليمن.." ولأن أهل تهامة أكثرهم مضر وربيعة الذين وصفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بضد هذا، ووصف هؤلاء الآخرين - عليه السلام - بلين القلوب ورقة الأفئدة، وهو ضد ما وصف به الآخرين: ربيعة ومضر من قسوة القلوب وغلظها وجفائهم، ثم قال: " الإيمان يمان..." فبين أنه أراد غيرهم.
فالحديث يحكم بعضه على بعض ويبين مفسره مشكله، وأن المراد باليمن هنا: الأنصار واليمانيون(3) النسب الذين استجابوا لله ورسوله طوعًا(4) وبدارًا، للين قلوبهم ورقة أفئدتهم، بخلاف(5) أهل الحجاز القاسية قلوبهم عن ذكر الله عز وجل والإيمان به، كما وصف - عليه السلام - الطائفتين في الحديث نفسه.
__________
(1) في (أ):" إليها ".
(2) في (ط):" يمانون ".
(3) في (ط):" اليمانون ".
(4) قوله:" طوعًا " ليس في (أ).
(5) في (أ):" خلاف ".(1/266)
وإلى نحو ما ذكرناه ذهب الطحاوي،وروى فيه حديثًا يفسره، أن عيينة فضل أهل نجد فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كذبت، بل هم أهل اليمن، الإيمان يمان..."، وهو الذي يغلب على الظن ويحلو(1) في النفس بشواهد الحال من الفريقين، والله سبحانه أعلم.
90 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَلْيَنُ قُلُوبًا وَأَرَقُّ أَفْئِدَةً، الإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ، رَأْسُ الْكُفْرِ قِبَلَ الْمَشْرِقِ ».
وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأعْمَشِ بِهَذَا الإسْنَادِ، وَلَمْ يَذْكُرْ رَأْسُ الْكُفْرِ قِبَلَ الْمَشْرِقِ.
ــــــــــــــــــ
ومعني: أرق أفئدة وقلوبًا، وألين، وأضعف " متقارب، وكلها راجع إلى ضد القسوة والغلظ، وذلك أن من رق قلبه ولان قبل المواعظ، وخضع للزواجر، وسارع إلى الخير وصفا للإيمان والفقه والحكمة، بخلاف من قسا قلبه وغلظ، وكثفت حجب الكبر والفخر والعجب عليه.
وقد يكون ذكر القلوب والأفئدة ههنا بمعنى واحد، تكررت باختلاف لفظ، كما اختلف اللفظ الذي قبلها، وقد يكون بينهما فرق، إذ(2) قيل: إن الفؤاد داخل القلب فوصف القلب باللين والضعف، والفؤاد بالرقة، أي إن قلوبهم أسرع انعطافًا وتقلبًا للإيمان من غيرها ؛ إذ أفئدتها أرق وأصفى لقبول الإيمان والحكمة، وأقل حجبًا وأغشية من غيرها.
__________
(1) في حاشية (ح):"ويحسن "، وكتب فوقها:"صح ".
(2) في (ط):" إذا ".(1/267)
وقيل(1): تكون الإشارة بلين القلب إلى خفض الجناح ولين الجانب والانفياد والاستسلام وترك العلو(2)، وهذه صفة الظاهر،والإشارة برقة الأفئدة إلى الشفقة على(3) الخلق والعطف عليهم والنصح لهم،وهذه صفة الباطن، فكأنه أشار إلى أنهم أحسن أخلاقًا ظاهرًا وباطنًا،وقد تكون الإشارة بلين القلوب ورقة الأفئدة إلى كثرة الخوف والانزعاج للمواعظ والأذكار.
91 -وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ،ح، وَحَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ يَعْنِي ابْنَ جَعْفَرٍ قَالا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الأعْمَشِ بِهَذَا الإسْنَادِ مِثْلَ حَدِيثِ جَرِيرٍ. وَزَادَ:« وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلاءُ فِي أَصْحَابِ الأبِلِ وَالسَّكِينَةُ، وَالْوَقَارُ فِي أَصْحَابِ الشَّاءِ ».
ــــــــــــــــــ
ومعنى قوله: " الإيمان يمان "، أي معظم أهله يمانون(4) والقائمون به يمانون والناصرون له(5)، أو مستقره إن كان المراد الأنصار، أو مبتدؤه وظهوره عندهم على ما أشار إليه من قال إن المراد به مكة والمدينة، وقيل معناه: أهل اليمن أكمل الناس إيمانًا.
وقوله:" والحكمة يمانية "، الحكمة عند العرب ما منع من الجهل، والحكيم من منعه عقله وحكمته عن الجهل، حكاه ابن عرفة، مأخوذ من حَكَمَة الدابة، وهي الحديدة التي في لجامها ؛ لمنعها إياها.
وقيل في قوله تعالى: " يؤتي الحكمة من يشاء " إنها الإصابة في القول والفقه والفهم.
وقيل الحكمة: طاعة الله والاتباع له والفقه في الدين.
وقيل الحكمة: الفهم عن الله(6) في أمره ونهيه، وقال مالك الحكمة(7): " الفقه في الدين يدخله الله عز وجل في القلوب ".
__________
(1) في (أ):" وقد ".
(2) في (أ):" للغلو "، وفي (ط):" الغلو ".
(3) في (ح):" إلى ".
(4) في (ح):" يمانيون ".
(5) في (ح):" والناصرون له يمانيون".
(6) قوله:" عن الله " ليس في (ح).
(7) في (أ) و(ح):" في الحكمة ".(1/268)
وقيل غير هذا، وقد مر في بعض روايات الأم. " الفقه يمان والحكمة يمانية ".
92 - وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ الْمَخْزُومِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غِلَظُ الْقُلُوبِ وَالْجَفَاءُ فِي الْمَشْرِقِ، وَالإِيمَانُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ?».
ــــــــــــــــــ
وقوله: " والإيمان في أهل الحجاز " في تلك الرواية إشارة إلى ما تقدم، وحجة لمن قال أراد مكة والمدينة،وأن المراد مبتدؤه ومستقره وظهوره ؛ لأن مكة والمدينة من بلاد الحجاز، وقد قالوا إن حد الحجاز من جهة الشام: شغب وبدا، ومما يلي تهامة: بدر وعكاظ.
قال القتبي: " سمي(1) حجازًا لحجزه بين نجد وتهامة "، وقال(2) ابن دريد:" لحجزه بين نجد والسراة "، قال الأصمعي: " إذا انحدرت من نجد من(3) ثنايا ذات عرق(4) فقد أتهمت إلى البحر، فإذا استقبلتك(5) الحرار وأنت بنجد(6) فذلك الحجاز، سميت بذلك لأنها حُجِزَتْ بالحرار الخمس.
وقد يكون المراد بالحجاز هنا المدينة فقط، ويؤيده قوله في الحديث الآخر: " إن الإيمان ليأرز إلى المدينة... " الحديث.
وفي هذا الحديث دليل على ترجيح فقه أهل الحجاز وأهل المدينة وترجيح فقه مالك رحمه الله ؛ إذ هو يماني النسب رحمه الله، يماني البلد، والمدينة دار أهل اليمن الذين نسب إليهم - عليه السلام - الفقه والحكمة.
__________
(1) في (أ) و(ح):" يسمى ".
(2) في (ح):" وقد قال ".
(3) قوله:" من " ليس في (أ).
(4) في (ط):" غرق ".
(5) قوله:" استقبلتك " ليس في (ح).
(6) قوله:" بنجد " ليس في (أ).(1/269)
وقوله:" والسكينة والوقار في أهل الغنم "، السكينة: السكون والطمأنينة والوقار،كما جاء في الحديث نفسه، وهو ضد معنى " الفدادين"، و" أهل الخيلاء"، وقد تكون السكينة بمعنى الرحمة، حكاه شمر، فتكون(1)
93 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَوَكِيعٌ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ، أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ ».
94 - وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأعْمَشِ بِهَذَا الإسْنَادِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَوَكِيعٍ ».
ــــــــــــــــــ
ضد معنى " القسوة " و" الجفاء " و" الغلظ(2)" في وصف الآخر.[ ويكون هنا لفظ الوقار بمعنى(3)، وأصله من الثقل والثياب ](4).
وقوله - عليه السلام -:" لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا..."، أي لا يتم إيمانكم ولا يكمل ولا تصلح حالتكم في الإيمان إلا بالتحاب والألفة، ويعضده قوله بعد: " ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم ".
__________
(1) في (ط):" فيكون ".
(2) في (ح):" والجفاء والغلظ والجفاؤ ".
(3) في (ط):" لمعنى ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).(1/270)
وفيه حض على ما تقدم من إفشاء السلام على من عرف ومن لم يعرف(1)، والسلام أول درجات البر، وأول خصال التآلف(2)، ومفتاح استجلاب المودة، وفي إفشائه تمكن ألفة المسلمين بعضهم من بعض، وإظهار شعارهم المميز لهم بينهم، وإلقاء الأمن والطمأنينة فيهم(3) وهو معنى السلام، واستدراج محبة كافتهم كما قال - عليه السلام -،ودليل التواضع والتواصل بسبب الإسلام لا لغرض الدنيا، بخلاف(4) ما أنذر به - صلى الله عليه وسلم - آخر الزمان من كون السلام للمعرفة، فيقطع سبب التواصل.
95 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: قُلْتُ لِسُهَيْلٍ: إِنَّ عَمْرًا حَدَّثَنَا، عَنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِيكَ قَالَ: وَرَجَوْتُ أَنْ يُسْقِطَ عَنِّي رَجُلاً قَالَ: فَقَالَ: سَمِعْتُهُ مِنِ الَّذِي سَمِعَهُ مِنْهُ أَبِي كَانَ صَدِيقًا لَهُ بِالشَّامِ ثُمَّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ:أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« الدِّينُ النَّصِيحَةُ » قُلْنَا: لِمَنْ ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ ».
ــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" وعلى من لم يعرف ".
(2) في (ح):" التآليف ".
(3) في (أ):" بينهم ".
(4) في (أ) و(ح):" خلاف ".(1/271)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الدين النصيحة "، قال الإمام: " النصيحة يحتمل(1) أن تكون مشتقة من نصحت العسل إذا صفيته، ويحتمل أن تكون(2) من النصح وهي الخياطة، والإبرة: المنصحة، والنصاح: الخيط(3) الذي يخاط به، والناصح: الخياط، ومعناه أنه يلم شعث أخيه بالنصح كما تلم المنصحة خرق الثوب، قال نفطويه: " يقال نصح الشيء إذا خلص، ونصح له القول أي أخلصه له"، وهذا الذي قاله(4) نفطويه يرجع إلى الاشتقاق الأول ؛ لأنه يصفو لأخيه كما يصفو العسل ".
قال القاضي: قال الخطابي: " النصيحة كلمة [ يعبر بها عن جملة إرادة الخير للمنصوح له، وليس يمكن أن يعبر عنها بكلمة واحدة ](5) تحصرها، ومعناها في اللغة: الإخلاص، من قولهم نصحت نصحت العسل إذا صفيته".
وقال أبو بكر الصوفي: " النصح فعل الشيء الذي به الصلاح والملاءمة(6). مأخوذ من النصاح وهو الخيط "، وقال نحوه الزجاج.
96 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِهِ.
وحَدَّثَنِي أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ - يَعْنِي ابْنَ زُرَيْعٍ -، حَدَّثَنَا رَوْحٌ -وَهُوَ ابْنُ الْقَاسِمِ -، حَدَّثَنَا سُهَيْلٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، سَمِعَهُ وَهُوَ يُحَدِّثُ أَبَا صَالِحٍ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِهِ ».
ــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" يحتمل وجهين ".
(2) في (ط):" يكون ".
(3) في (ح):" والخيط النصاح ".
(4) في (أ):" قال ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(6) في (ح):" الملازمة ".(1/272)
فالنصح لله تعالى صحة الاعتقاد له بالوحدانية، ووصفه بصفات الإلهية، وتنزيهه عن النقائص،والرغبة في محابه، والبعد من(1) مساخطه، والإخلاص في عبادته.
ونصيحة كتابه: الإيمان به، والعمل بما فيه، والتخلق بآدابه، وتحسين تلاوته والخشوع عند ذلك، وتوقيره،وتعظيمه، وتفهم معانيه، وتدبر آياته، والتفقه في علومه، والدعاء إليه، والذب عنه من تأويل الغالين وتحريف المبطلين وطعن الملحدين.
والنصيحة لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: التصديق بنبوته وطاعته فيما أمر به ونهى عنه، ونصرته حيا وميتا،ومعاداة من عاداه، ومحاربة من حاربه، وبذل النفوس والأموال دونه في حياته، وإحياء سنته بعد موته بالبحث عنها والتفقه فيها والذب عنها ونشرها والدعاء إليها، والتخلق بأخلاقه الكريمة، والتأدب بآدابه الجميلة، وتوقيره وتعظيمه، ومحبة آل بيته وأصحابه، ومجانبة من ابتدع في سنته.
97 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى إِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ».
98 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ نُمَيْرٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلاقَةَ، سَمِعَ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ».
__________
(1) في (ح):" عن ".(1/273)
99 - حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، وَيَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ قَالا: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ سَيَّارٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَلَقَّنَنِي فِيمَا اسْتَطَعْتَ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. قَالَ يَعْقُوبُ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ: حَدَّثَنَا سَيَّارٌ ».
ــــــــــــــــــ
ونصيحة أئمة المسلمين: طاعتهم(1) في الحق، ومعونتهم عليه، وأمرهم به، وتذكيرهم إياه على أحسن الوجوه، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من أمور المسلمين وترك الخروج عليهم، وتأليف قلوب الناس لطاعتهم.
والنصح لعامة المسلمين(2): إرشادهم لمصالحهم ومعونتهم في أمر دينهم ودنياهم، بالقول والعمل، وتنبيه غافلهم، وتعليم جاهلهم، ورفد محتاجهم، وستر عوراتهم، ودفع المضار عنهم، وجلب المنافع في الدين والدنيا إليهم.
وقول سفيان فيه: " قلت لسهيل: إن عمرًا أخبرنا عن القعقاع عن أبيك، ورجوت أن تسقط عني رجلاً، فقال: " سمعته ممن سمعه منه أبي "، فيه دليل على طلب الأئمة علو الإسناد(3) واختصار الطريق، كما قدمناه،
100 - حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِمْرَانَ التُّجِيبِيُّ، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِالرَّحْمَنِ وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولانِ: قَالَ?أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ».
__________
(1) في (أ) و(ح):" وطاعتهم ".
(2) في (ح):" والنصح لعامتهم من المسلمين ".
(3) قوله:" علو الإسناد " في مكانه بياض في (ط).(1/274)
ــــــــــــــــــ
واتفق لسفيان في هذا سقوط رجلين أكثر مما طلب ؛ لأنه ظن أن سهيلاً سمعه من أبيه، فإذا به سمعه من شيخ أبيه.
وقول جرير: " بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، وفي الرواية الأخرى:".. على السمع والطاعة، فلقنني: فيما استطعت "، ومثله في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في "صحيح البخاري".
اختلفت ألفاظ بيعة النبي - صلى الله عليه وسلم - فروي ما ذكرناه(1)، وفي حديث سلمة أنهم بايعوه(2) يوم الحديبية على الموت، وفي حديث عبادة: " بايعنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بيعة الحرب على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول أو نقوم بالحق "، وهذه قصص بحسب اختلاف الأحوال.
فأما حديث عبادة في المنشط والمكره فهي كانت بيعة الأنصار، في العقبة الثانية، على بذل الأنفس والأموال دونه، وكذلك بيعة الشجرة.
وأما قوله:"فيما استطعت"، فلقوله تعالى:"لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها".
وذكر جرير الصلاة والزكاة من بين سائر دعائم الإسلام فلكونهما(3) قرينتين، وأهم أمور الإسلام وأظهرها، ولم يذكر الصوم وغيره من الشرائع ؛ لأنه داخل في السمع والطاعة.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُحَدِّثُهُمْ هَؤُلاءِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، ثُمَّ يَقُولُ: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُلْحِقُ مَعَهُنَّ:" وَلا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ".
ــــــــــــــــــ
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن..." الحديث.
__________
(1) قوله:" ما ذكرناه" في مكانه بياض في (ط).
(2) في (ح):" كانوا بايعوه ".
(3) في (ح):" فلكونها ".(1/275)
قال الإمام: " قيل معنى مؤمن أي آمِن من عذاب الله، ويحتمل أن يكون معناه: مستحلاً لذلك.
وقيل معناه: كامل الإيمان، وهذا على قول(1) من يرى أن الطاعات(2) تسمى إيمانًا، وهذه التأويلات تدفع قول الخوارج إنه كافر بزناه، وقول المعتزلة إن الفاسق الملي لا يسمى مؤمنًا تعلقًا من الطائفتين بهذا الحديث،وإذا احتمل ما قلناه لم تكن لهم فيه حجة ".
قال القاضي: قال أبو جعفر الطبري: " يحكى عن محمد بن يزيد بن واقد بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إنكار هذا الحديث، وتغليط الرواة(3) فيه، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قال:" لا يزني مؤمن ولا يسرق مؤمن ".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: " لا يفعل ذلك مستحلا لفعله مؤمن".
وقال الحسن: " ينزع منه اسم المدح الذي يسمى به أولياء الله المؤمنين(4) ويستحق اسم الذم الذي يسمى به المنافقون"، واختاره الطبري قال: " يقال له: زان وسارق وفاجر وفاسق، ويزول عنه اسم الإيمان بالكمال ".
101 - وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« لا يَزْنِي الزَّانِي..»، وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ بِمِثْلِهِ، يَذْكُرُ مَعَ ذِكْرِ النُّهْبَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَاتَ شَرَفٍ.
__________
(1) في (ح):" وعلى هذا قول ".
(2) في (ح):" الطاعة ".
(3) في (ط):" الرواية ".
(4) في (ط):" المؤمنون ".(1/276)
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ هَذَا، إِلا النُّهْبَةَ.
ــــــــــــــــــ
وحكى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما:" ينزع منه نور الإيمان "، وروى في ذلك حديثًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من زنى نزع الله نور الإيمان من قلبه، فإن شاء أن يرده إليه رده.
وقال أبو القاسم المهلب:"معنى هذا أي ينزع(1) منه بصيرته في طاعة الله".
وسئل الزهري عن معنى الحديث(2) فقال: " أمروا هذه الأحاديث كما أمرها من كان(3) قبلكم، فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمروها "، ورآها(4) من المشكل.
قال القاضي(5): وقيل(6): هو على النهي لا على الخبر، وهذا بعيد، لا يعطيه نظم الكلام، ولا تساعد الرواية، وهو من نحو ما تقدم لابن واقد.
__________
(1) في (ط):" نزع ".
(2) في (ح):" هذا الحديث ".
(3) قوله:" كان " ليس في (أ) و(ط).
(4) في (ح):" ورواها ".
(5) قوله:" قال القاضي " ليس في (ط).
(6) في (ح):" قيل ".(1/277)
قال القاضي(1): ولا خلاف بين أهل السنة أن هذا الحديث ليس على ظاهره، وأن المعاصي لا تخرج أحدًا من سواد أهل الإيمان على ما قدمناه، ثم اختلفوا في تأويله أو إمراره(2) على ما جاء بعد تحقيق الأصل المتقدم، ويفسره(3) حديث أبي ذر:" من قال لا إله الله دخل الجنة،وإن زنى وإن 102 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا الأوْزَاعِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِ حَدِيثِ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَذَكَرَ النُّهْبَةَ، وَلَمْ يَقُلْ ذَاتَ شَرَفٍ.
103 - وَحَدَّثَنِي حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُطَّلِبِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ مَوْلَى مَيْمُونَةَ، وَحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -،ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
ــــــــــــــــــ
سرق"، ومعلوم أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، فالحديث الأول يقطع حجة المرجئة القائلين إن المعاصي لا تضر المؤمن، والحديث الآخر يقطع حجة المعتزلة والخوارج وبعض الرافضة القائلين إن المعاصي تخرج من الإيمان وتوجب الخلود في النار.
__________
(1) قوله:" قال القاضي" ليس في (أ) و(ح).
(2) في (ح):" وإمراره ".
(3) في (ط):" تفسيره ".(1/278)
وأهل السنة والهدى جمعوا بين معانيها،وقرروا الأحاديث على أصولها، واستدلوا من حديث أبي ذر على منع التخليد، ومن هذا الحديث على نقص الإيمان بالمعاصي،كما وردت مفسرة في أحاديث كثيرة وآي من القرآن منيرة(1).
وقد جاء بعد ذلك(2) في آخر الحديث: " ولا ينتهب نهبة ذات شرف "، أي يستشرف الناس للنظر(3) إلى نهبته،ويرفعون أبصارهم إليها، كما فسره في الحديث.
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ، عَنِ الْعَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كُلُّ هَؤُلاءِ بِمِثْلِ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، غَيْرَ أَنَّ الْعَلاءَ وَصَفْوَانَ ابْنَ سُلَيْمٍ لَيْسَ فِي حَدِيثِهِمَا: يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ. وَفِي حَدِيثِ هَمَّامٍ: يَرْفَعُ إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ أَعْيُنَهُمْ فِيهَا وَهُوَ حِينَ يَنْتَهِبُهَا مُؤْمِنٌ. وَزَادَ:" وَلا يَغُلُّ أَحَدُكُمْ حِينَ يَغُلُّ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَإِيَّاكُمْ إِيَّاكُمْ ".
104 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ ».
__________
(1) قوله:" منيرة " ليس في (ط).
(2) في (ط):" ذلك بعد ".
(3) في (ح):" النظر ".(1/279)
105 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ قَالَ:« لا يَزْنِي الزَّانِي …»، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ شُعْبَةَ.
ــــــــــــــــــ
كذا هو: " شرف "، بالشين المعجمة عندنا في الأم، ورواه الحربي " سرف "، بالسين المهملة،وقال: " معناها ذات سرف، أي ذات قدر كبير ينكره الناس، ويستشرفون له، كنهب الفساق في الفتن الحادثة المال(1) العظيم القدر، مما يستعظمه الناس، بخلاف التمرة والفلس وما لا خطر له ".
وقد أشار بعض العلماء أن في هذا الحديث تنبيهًا على جماع(2) أبواب المعاصي والتحذير منها، فنبه بالزنا على جميع الشهوات ؛ إذ ورد أن جميع الجوارح تزني، وبالسرق على الرغبة في الدنيا والحرص على جميع ما حرم الله 106 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ،ح، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأعْمَشُ،ح، وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْ نِفَاقٍ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ ». غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ:« وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ ».
ــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ط):" والمال ".
(2) في حاشية (ح):"جميع "، وكتب فوقها:"صح ".(1/280)
تعالى، وبشرب(1) الخمر على جميع ما يصد عن الله عز وجل،ويوجب الغفلة عن حقوقه،وبالانتهاب الموصوف على(2) الاستخفاف بعباد الله سبحانه،وترك توقيرهم والحياء منهم، وجمع(3) أمور الدنيا من غير وجهها، سرًّا أو علنًا، بذكر السرق(4) والنهبة.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أربع من كن فيه كان منافقًا "، وفي بعضها:"خالصًا "،وفي الحديث الآخر:" ثلاث "، وفي بعضه:" وإن صام وصلى وذكر أنه(5) مسلم الحديث.
قال الإمام:" قد توجد هذه الأوصاف الآن فيمن لا يطلق عليه اسم النفاق، فيحتمل أن يكون الحديث محمولاً علىزمنه - صلى الله عليه وسلم -،وكان ذلك علامة للمنافقين من أهل زمانه، ولا شك أن أصحابه كانوا مبرئين من هذه النقائص مطهرين منها، وإنما كانت تظهر في زمانه في أهل النفاق.
107 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ - وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى - قَالا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سُهَيْلٍ نَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ».
ــــــــــــــــــ
أو يكون - صلى الله عليه وسلم - أراد بذلك من غلب عليه فعل هذه، واتخذها عادة تهاونًا بالديانة.
__________
(1) في (ح) و(ط):" وشرب ".
(2) في حاشية (ح):"عن"، وكتب فوقها:"صح ".
(3) في (ط):" وجميع ".
(4) في (ح):" السرقة ".
(5) قوله:" أنه " ليس في (أ) و(ح).(1/281)
أو يكون أراد النفاق اللغوي الذي هو إظهار خلاف المضمر، وإذا تأملت هذه الأوصاف وجدت فيها معنى ذلك ؛ لأن الكاذب يظهر إليك(1) أنه صادق(2) ويبطن خلافه، والخصم يظهر أنه أنصف ويضمر الفجور،والواعد يظهر أنه سيفعل وينكشف الباطن بخلافه.
وقد قال ابن الأنباري: " في تسمية المنافق منافقًا ثلاثة أقوال: أحدها أنه سمي بذلك ؛ لأنه يستر كفره،فأشبه الداخل للنفق،وهو السرب يستتر فيه.
والثاني أنه شبه باليربوع الذي له جحر يقال له: النافقاء(3)، وآخر يقال له: القاصعاء، فإذا طلب من القاصعاء خرج من النافقاء، وكذلك المنافق ؛ لأنه يخرج من الإيمان من غير الوجه الذي يدخل فيه.
والثالث أنه شبه باليربوع أيضًا،ولكن من جهة أن اليربوع يخرق الأرض، حتى إذا كاد(4) يبلغ ظاهرها أرق التراب، فإذا رابه ريب رفع ذلك التراب برأسه فخرج، فظاهر جحره تراب على وجه الأرض، وباطنه حفر، فكذلك المنافق ظاهره الإيمان، وباطنه الكفر ".
108 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْعَلاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ مَوْلَى الْحُرَقَةِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مِنْ عَلامَاتِ الْمُنَافِقِ ثَلاثَةٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ».
ــــــــــــــــــ
قال القاضي: اختلف تأويل العلماء لهذا الحديث على الوجوه التي ذكرها وغيرها،وأظهرها التشبيه بهذه الخصال بالمنافقين والتخلق بأخلاقهم في إظهار خلاف ما يبطنون،وهو معنى النفاق.
__________
(1) في (ط):" لك ".
(2) في (أ) و(ط):" صدق ".
(3) في (أ) زيادة:" وكذلك المنافق ".
(4) في (ط):" فكذلك ".(1/282)
ومعنى " كان منافقًا خالصًا "، أي في هذه الخلال المذكورة في الحديث فقط، لا في نفاق الإسلام العام، ويكون نفاقه في ذلك على من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس، لا أنه(1) منافق على المسلمين بإظهار الإسلام وهو يبطن خلافه.
وقد قال بعضهم: إن الحديث إنما ورد في منافقي زمان(2) النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين حدثوا بأنهم آمنوا وكذبوا،وائتمنوا على دينهم فخانوا، ووعدوا في أمر(3) الدين ونصره فأخلفوا،وهو قول عطاء بن أبي رباح في تفسير الحديث،وإليه رجع الحسن البصري،وهو مذهب سعيد ابن جبير وابن عمر وابن عباس، [وقد روي في معناه حديث: أن ابن عمر وابن عباس ](4) أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكرا له ما أهمهما من هذا الحديث، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال(5):" مالكم ولهن، إنما خصصت بهن(6) المنافقين، أما قولي: إذا حدث كذب، فذلك فيما أنزل الله علي:{ إذا جاءك المنافقون(7)} الآية، أفأنتم كذلك ؟ قلنا: لا، قال: لا عليكم، أنتم من ذلك براء، وأما قولي: ‘إذا وعد أخلف فذلك فيما أنزل الله علي:" ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله..." الآيات الثلاث... " 109 - حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمِّيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ أَبُو زُكَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْعَلاءَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُحَدِّثُ بِهَذَا الإسْنَادِ وَقَالَ:« آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ، وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ ».
__________
(1) في (ط):" لا من أنه ".
(2) في (ط):" زمن ".
(3) في (ح):" نصر ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(5) في (ح):" فقال ".
(6) في (ح):" بها ".
(7) في (ح) زيادة:{ قالو انشهد إنك لرسول الله }.(1/283)
110 - وَحَدَّثَنِي أَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ، وَعَبْدُ الأعْلَى ابْنُ حَمَّادٍ قَالا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ ابْنُ سَلَمَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« بِمِثْلِ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْعَلاءِ ذَكَرَ فِيهِ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ ».
ــــــــــــــــــ
الآيات الثلاث، أفأنتم كذلك ؟ قلنا: لا، قال: لا عليكم، أنتم من ذلك برآء، وأما قولي: إذا ائتمن خان، فذلك فيما أنزل الله علي: " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال(1)... " الآية، فكل إنسان مؤتمن على دينه، فالمؤمن يغتسل من الجنابة في السر والعلانية(2)، ويصوم ويصلي في السر والعلانية، والمنافق لا يفعل ذلك إلا في العلانية، أفأنتم كذلك ؟ قلنا: لا، قال: لا عليكم أنتم من ذلك برآء(3)"، وإلى هذا المعنى مال كثير من أئمتنا(4)، ورجحه الشيخ أبو منصور في كتاب " المقنع"،وغيره.
وقوله في حديث ابن عمرو: " إذا عاهد غدر "، فبمعنى:" إذا ائتمن خان " ؛ لأن الغدر خيانة فيما ائتمن عليه من عهده.
وأما الخصلة الرابعة قوله(5):" إذا خاصم فجر " أي مال عن الحق وقال الباطل والكذب(6)، قال الهروي وغيره:" أصل الفجور: الميل عن القصد، ويكون أيضًا الكذب ".
__________
(1) قوله:" الجبال " ليس في (أ) و (ط).
(2) قوله:" في السر والعلانية " ليس في (ح).
(3) في (ط):" أنتم برآء من ذلك ".
(4) في (ح):" العلماء ".
(5) في (ح):" فقوله ".
(6) في (ح):" الكذب والباطل ".(1/284)
111 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ قَالا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « إِذَا كَفَّرَ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا ».
وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ،وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ جَمِيعًا، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ: يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، إِنْ كَانَ كَمَا »، قَالَ:« وَإِلا رَجَعَتْ عَلَيْهِ ».
ــــــــــــــــــ
" ومعنى آية المنافق "؛ أي: علامته، وذكره مرة ثلاثًا ومرة أربعًا، ذكر في بعضها ما لم يذكر في الآخر، فقال في الأربع:" إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا وعد أخلف "، وقال في الثلاث: " إذا حدث كذب،وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان "، فذكر اثنين من الأربع وزاد واحدة(1) قال(2) الداودي: " فهذه خمس خصال،وذلك يدل أن ليس ما ذكر(3) جملة خصال النفاق ".
وقوله:" إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما "، وفي الحديث الآخر: " إن كان كما قال وإلا رجعت عليه ".
__________
(1) في (ح) و(ط):" واحدة من الأربع وزاد اثنتين ".
(2) في (ح):" وقال ".
(3) في (ح):" ما ذكر ليس ".(1/285)
قال الإمام:" يحتمل أن يكون قال ذلك في المسلم مستحلاً فيكفر باستحلاله، وإذا احتمل ذلك لم يكن(1) فيه حجة لمن كفر بالذنوب، ويحتمل أيضًا أن يكون مراده بقوله:" باء بها "، أي بمعصية الكذب في حق القائل إن كذب، قال الهروي:" أصل(2) البوء اللزوم "، وقال في قوله - صلى الله عليه وسلم - في دعائه:" أبوء بنعمتك علي ": " أي أقر بها وألزمها(3) نفسي "، قال ابن أبي زمنين: 112 - وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ أَنَّ أَبَا الأسْوَدِ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إِلا كَفَرَ، وَمَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ، أَوْ قَالَ: عَدُوَّ اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلا حَارَ عَلَيْهِ ».
ــــــــــــــــــ
"أصل باء في اللغة رجع،ولا يقال: باء إلا بشرٍّ "، ذكره في تفسير قوله تعالى:" فباؤا بغضب على غضب ".
وأما قوله: "إلا حار عليه" فمعناه: رجع عليه، والحور: الرجوع ومنه قول الله تعالى: " إنه ظن أن لن يحور" وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أعوذ بك(4) من الحور بعد الكون "، يأتي تفسيره.
قال القاضي: يكون " باء " ههنا بمعنى رجع، كما جاء في الحديث نفسه، وقيل معناه: رجعت عليه نقيصته لأخيه كما قال - إذا لم يكن لذلك أهلاً - بكذبه عليه.
وقيل: إذا قاله لمؤمن صحيح الإيمان مثله، ورماه بالكفر فقد كفر نفسه؛ لأنه مثله وعلى دينه.
__________
(1) في (ح):" تكن ".
(2) في (ح):" وأصل ".
(3) في (ط):" وألزمه ".
(4) في (ح):" أعوذ بالله ".(1/286)
وقد يكون مراده - صلى الله عليه وسلم - بهذا: الخوارج، لتكفيرهم المؤمنين، وهذا(1) تأويل مالك بن أنس.
113 - حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« لا تَرْغَبُوا، عَنْ آبَائِكُمْ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ أَبِيهِ فَهُوَ كُفْرٌ».
114 - حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ أَخْبَرَنَا خَالِدٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: لَمَّا ادُّعِيَ زِيَادٌ لَقِيتُ أَبَا بَكْرَةَ فَقُلْتُ لَهُ: مَا هَذَا الَّذِي صَنَعْتُمْ إِنِّي سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ: سَمِعَ أُذُنَايَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَقُولُ:«مَنِ ادَّعَى أَبًا فِي الإِسْلامِ غَيْرَ أَبِيهِ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ»، فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: وَأَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.
ــــــــــــــــــ
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من رغب عن أبيه فقد كفر، يريد: ترك الانتساب إليه وجحده وانتسب لسواه، يقال: رغبت عن الشيء: تركته وكرهته، ورغبت فيه: أحببته وطلبته.
قال الإمام: " هذا يتأول على ما تقدم من الاستحلال(2)، أو يكون أراد الكفر اللغوي، بمعنى: جحد حق الله(3) وستره ".
__________
(1) في حاشية (ح):"وهو "، وكتب فوقها:"صح، خ".
(2) في (ح):" استحلال ".
(3) في حاشية (ح):"أبيه "، وكتب فوقها:"صح، خ".(1/287)
وقوله: " فالجنة عليه حرام "، قال القاضي: تأويله على ما تقدم من أصول أهل السنة من أن الذنوب لا تحرم على أحد الجنة البتة، بل إن شاء الله تعالى واخذ وعاقب وحرمها للمذنب مدة، ثم يدخلها، وإن شاء عفا، أو يكون تأويل الحديث لفاعله مستحلاً.
وقوله:" ليس منا "، على ما تقدم، أي ليس مهتديًا بهدينا ولا مستنًّا بسنتنا.
115 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَعْدٍ وَأَبِي بَكْرَةَ كِلاهُمَا يَقُولُ: سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ ».
116 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارِ بْنِ الرَّيَّانِ، وَعَوْنُ بْنُ سَلامٍ قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ،ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ كُلُّهُمْ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ ». قَالَ زُبَيْدٌ: فَقُلْتُ لأَبِي وَائِلٍ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ يَرْوِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ شُعْبَةَ قَوْلُ زُبَيْدٍ لأَبِي وَائِلٍ.
ــــــــــــــــــ
وقوله:" فليتبوأ مقعده من النار "، أي استحق ذلك بقوله واستوجبه بمعصيته، إلا أن يعفو عنه، وقد تقدم قول من قال إنه دعاء على فاعله.(1/288)
وفي الحديث دليل أنه لا يحل لأحد أخذ(1) شيء يعلم باطله(2)، وأنه مأثوم(3) حكم له به حاكم أم(4) لا، وأن حكم الحاكم به لا يحلله(5)، كما قال في الحديث الآخر: " فإنما أقطع له قطعة من النار "، خلافًا لأبي حنيفة، ألا ترى قول أبي بكرة في هذا الحديث بعد حكم معاوية لزياد بما حكم.
وقوله عن سعد(6) يقول:" سمع أذني، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "، كذا ضبطناه هنا على بعضهم بسكون الميم وفتح العين على المصدر، كأنه قال:" قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع أذني "، وضبطناه من طريق الجياني كذا بضم 117 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ،ح، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الأعْمَشِ كِلاهُمَا، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِهِ ».
ــــــــــــــــــ
الميم، وهو الوجه، وقال سيبويه:" العرب تقول:سمع أذني لكذا وكذا(7) زيدًا(8) يقول ذاك(9)، بالرفع " وضبطناه(10) على القاضي أبي علي " سمع " بكسر الميم، فعل ماض، وما تقدم هو(11) الصواب.
وقوله:" سباب المسلم فسوق "، أي خروج عن الطاعة وواجب الشرع، وبه سمي الفاسق فاسقًا لخروجه عن ثقاف الإسلام، وانسلاخه عن أعمال البر، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها.
__________
(1) قوله:" أخذ " ليس في (أ) و(ط).
(2) في (أ):" باطنه ".
(3) في حاشية (أ):" صوابه إثم ".
(4) في (ح):" أو ".
(5) في (أ):" يحله ".
(6) في (ح):" أبي سعيد ".
(7) قوله:" لكذا وكذا " ليس في (ط).
(8) في (أ):" زيدًا ".
(9) في (ح):" كذا ".
(10) في (ط):" وضبطاه ".
(11) قوله:" هو " ليس في (أ) و(ط).(1/289)
وقوله:" وقتاله كفر "، أي قتاله من أجل إسلامه واستحلال ذلك منه كفر، وقيل: ذلك من أفعال أهل الكفر، أو يكون كفر طاعة، وكفر نعمة وغمطها(1): بأن جعلهما الله مسلمين وألف(2) بين قلوبهما، ثم صار هو بعد يقاتله، وقيل: كفر بحق المسلم وجحد له بالمعنى ؛ لإظهاره إباحة ما أنزل الله من تحريم دمه وقتاله، وترك ما أمر به من محبته وإكرامه وصلته، فهو كفر(3) بفعله وعمله، لا بقوله واعتقاده، وقد يكون القتال: المشارَّة(4) والمدافعة، كما قال في الحديث في المار بين يدي المصلي: " فليقاتله "، وكله منهي عنه، وفاعله جاحد حق أخيه المسلم وحق الله سبحانه فيه.
وقوله:" لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، قال الإمام: تعلق بهذا من أنكر حجة الإجماع من أهل البدع، قال:" لأنه نهى الأمة بأسرها(5) عن الكفر، لولا جواز إجماعها عليه لما نهاها عنه، وإذا جاز إجماعها على الكفر فغيره من الضلالات أولى، وإذا كان ممنوعًا اجتماعها
118 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ جَمِيعًا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ،ح، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ -وَاللَّفْظُ لَهُ-، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ سَمِعَ أَبَا زُرْعَةَ يُحَدِّثُ، عَنْ جَدِّهِ جَرِيرٍ قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ:« اسْتَنْصِتِ النَّاسَ »، ثُمَّ قَالَ: لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ ».
__________
(1) في (ح):" وعمصها ".
(2) في (ح):" ألف " بدون واو.
(3) في (ح):" كافر ".
(4) في (ح):" المشاررة "، وفي حاشيتها:"المشارة "، وكتب فوقها:"صح، خ"..
(5) في (ح):" كلها "، وفي حاشيتها:" بأسرها "، وكتب فوقها:"صح، خ"..(1/290)
وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِهِ ».
ــــــــــــــــــ
عليه لم يصح النهي عنه "، وهذا الذي قاله خطأ ؛لأ لأنا إنما نشترط في التكليف أن يكون ممكنًا، متأتيًا من المكلف، هذا أيضًا على رأي من منع تكليف ما لا يطاق، واجتماع الأمة على الكفر](1)، وإن كان ممتنعًا فإنه لم يمتنع من جهة أنه لا يمكن ولا يتأتى، ولكن من جهة خبر الصادق عنه أنه لا يقع،وقد قال الله(2) تعالى:{ لئن أشركت ليحبطن عملك }، والشرك قد عصم منه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعد هذا أنزل(3) عليه مثل هذا على أن المراد بهذا خطاب كل واحد في عينه أوجمهور الناس،وهذا لا ينكر أحد أن يكون مما يصح حمل هذا الخطاب عليه، فإما أن يكون ظاهرًا فيه أو محتملاً، فتسقط(4) بهذا حجته.
وقد ذكر أنه مما يتأول عليه قوله: " كفارًا "، أي متسلحين، وأصل الكفر التستر، والمتسلح متستر بسلاحه ".
قال القاضي: رواه من لم يضبط: " يضرب " بالإسكان، وهو إحالة(5) المعنى، والصواب ضم الباء، نهاهم عن التشبيه بالكفار في حالة قتل بعضهم
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(2) لفظ الجلالة ليس في (أ) و(ط).
(3) في (أ):" يدل"، وفي (ح):" نزل ".
(4) في (أ):" فسقط ".
(5) في (ح):" إخالة ".(1/291)
120 - وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ خَلادٍ الْبَاهِلِيُّ قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يُحَدِّثُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «وَيْحَكُمْ، أَوْ قَالَ: وَيْلَكُمْ لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ ».
ــــــــــــــــــ
بعضًا، ومحاربة بعضهم لبعض، وهذا أولى ما يتأول عليه الحديث، ويؤيده ما روي مما جرى بين الأنصار بمحاولة يهود وتذكيرهم أيامهم ودخولهم في الجاهلية حتى ثار بعضهم إلى بعض في السلاح، فنزلت:{ وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله (1)...}؛ أي تفعلون فعل الكفار.
أو نهاهم عن إظهار جحد ما أمرهم به من تحريم دمائهم، وكفرهم في ذلك [بقتالهم لا بقولهم](2) واعتقادهم(3)، أو أن يتكفروا في السلاح لقتل بعضهم بعضًا، أو عن كفر نعمة الله بتأليف(4) قلوبهم وتوددهم [ وتراحمهم الذي به صلاحهم](1) بأن رجعوا إلى ضد ذلك.
وعلى سكون الباء، فإنما نهى عن الكفر مجردًا، ثم يجيء ضرب الرقاب جواب النهي ومجازاة الكفر، و[مساق الخبر ومفهومه](1) يدل على النهي عن ضرب الرقاب والنهي عما قبله بسببه.
وقال الخطابي: " معناه: لا يكفر بعضكم بعضًا فتستحلوا [ قتال بعضكم بعضًا ](1)، وقيل المراد بالحديث أهل الردة "، وهذا القول إنما قاله - عليه السلام - في خطبته يوم النحر إثر قوله:" إن دماءكم وأموالكم وأعرا[ضكم عليكم حرام](1)..." الحديث،
__________
(1) في (ط) زيادة:{ وفيكم رسوله }.
(2) مابين المعكوفين في مكانه بياض في (ط).
(3) قوله:" واعتقادهم أو " ليس في (ح).
(4) في (أ):" بتألف ".(1/292)
حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ وَاقِدٍ ».
ــــــــــــــــــ
ثم قال: " ليبلغ الشاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفارًا..." الحديث، فهو شرح لما تقدم منه - صلى الله عليه وسلم - من تحريم(1) بعضهم على بعض ما أقاموا على الإسلام.
قال الطبري: قوله "بعدي(2)"، أي بعد فراقي من موقفي هذا"، ويكون معنى " بعدي ": خلافي، أي لا تخلفوني في أنفسكم بعد الذي أمرتكم به، أو لأنه حقق - صلى الله عليه وسلم - أن هذا لا يكون في حياته فنهاهم عنه(3) بعد مماته.
وقوله:" ويحكم "، أو قال: " ويلكم "، كلمتان استعملتهما(4) العرب بمعنى التعجب والتوجع، قال سيبويه: " ويل " كلمة لمن وقع في هلكة، و" ويح " ترحم بمعنى " ويل "، وحكي عنه: " ويح " زجر لمن أشرف على الهلكة "، قال غيره: "ولا يراد بهما الدعاء بإيقاع الهلكة، ولكن للترحم والتعجب ".
وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: " ويح " كلمة رحمة "، وقال الهروي: " ويح " لمن وقع في هلكة لا يستحقها، فيترحم عليه ويرثى له، و "ويل " للذي يستحقها ولا يترحم عليه "، وقال الأصمعي:" ويح " ترحم "، وقال ابن عباس رضي الله عنهما:" الويل المشقة "، قال ابن عرفة:" الويل الحزن، وقيل الهلاك".
__________
(1) في (ح):" تحريم قتال ".
(2) في (أ):" بعدهم ".
(3) قوله:" عنه " ليس في (أ).
(4) في (ط) يشبه أن تكون:" استعلتها ".(1/293)
121 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ،ح، وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ -، حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ كُلُّهُمْ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ ».
ــــــــــــــــــ
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" اثنتان في الناس هما بهم(1) كفر ": الطعن في الأنساب والنياحة على الميت "، أي من أعمال أهل الكفر وعادتهم وأخلاق الجاهلية، وهما خصلتان مذمومتان محرمتان في الشرع، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذ على النساء في بيعتهن أن لا ينحن، وقال:" ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية ".
وكذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن السحرية واللمز والنبز والغيبة والقذف، وكل هذا من أعمال أهل الجاهلية، وقال(2) - صلى الله عليه وسلم -:" إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية(3)..." الحديث(4)، وقال:{ إنا خلقناكم من ذكر وأنثى...} الآية، فعرَّف نعمته بالأنساب للتعارف والتواصل فمن تسور على قطعها والغمص(5) فيها فقد كفر نعمة ربه وخالف مراده.
وكذلك أمر تعالى بالصبر، وأثنى على الصابرين، ووعدهم رحمته وصلاته، ووصفهم بهدايته، وحتَّم الموت على عباده، فمن أبدى السخط والكراهة لقضاء ربه، وفعل ما نهاه عنه فقد كفر نعمته فيما أعد للصابرين من ثوابه، وتشبه بمن كفر من الجاهلية به(6).
__________
(1) قوله:" بهم " ليس في (ح) و(ط).
(2) في (أ):" قال " بدون واو.
(3) في (ح):" أهل الجاهلية ".
(4) قوله:" الحديث " ليس في (ح).
(5) في (ح):" والغمض ".
(6) قوله:" به " ليس في (ح).(1/294)
122 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ يَعْنِي ابْنَ عُلَيَّةَ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَرِيرٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ:« أَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ مِنْ مَوَالِيهِ فَقَدْ كَفَرَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ »، قَالَ مَنْصُورٌ: قَدْ وَاللَّهِ رُوِيَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يُرْوَى عَنِّي هَهُنَا بِالْبَصْرَةِ.
123 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ?».
ــــــــــــــــــ
وقوله:" أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع "، أي جحد حقه وغطَّاه، وهذا أصل معنى(1) الكفر، قال الله تعالى:{ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به }، أو يفعل ذلك مستحلاًّ لما حرم عليه من حق سيده.
وقوله:" برئت منه الذمة "، الذمة: العهد، أي عهد الإيمان، يريد خرج عنه إن فعل ذلك مستحلاًّ له(2)، ووجب قتله، يقال في هذا وغيره من الأشياء والدين وسواه: برئ - بكسر الراء، ويهمز ويسهل - يبرأ، ويقال في المرض بالوجهين: بكسر(3) الراء وفتحها، والفتح لغة الحجازيين، وتميم تكسر وتهمز ولا تهمز، وجاءت لغة: برؤ بالضم، ومستقبله: يبرأ ويبرؤ، بالفتح والضم، على الوجهين المتقدمين.
وفي الحديث:" من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله ".
__________
(1) في (ح):" معنى أصل ".
(2) قوله:" له " ليس في (أ) و(ح).
(3) في (ح) و(ط):" كسر ".(1/295)
أو تكون الذمة التي هي الأمان والضمان الذي جعله الله للمؤمنين من كفاية الأعداء من الجن والإنس في بعض الحالات، أي أخفر(1) بإباقة هذه الذمة 124 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« إِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ?».
ــــــــــــــــــ
التي هي الأمان والضمان، ومنه سمي أهل الذمة ؛ لأنهم في أمان المسلمين وضمانهم.
أو يكون هذا لمن كان على غير دين الإسلام من(2) العبيد، فيأبقوا إلى بلد العدو، فقد سقطت عنه ذمة الإسلام من حقن دمه بسبب استحيائه قبل واسترقاقه، وصار حكمه حكم الحربيين، الذين لا ذمة لمن عثر عليه منهم.
وقول منصور:" أكره أن يروى عني هذا(3) بالبصرة "، لما كان فشا بها من الاعتزال والقول بإنفاذ الوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، وسلب اسم الإيمان عن المذنبين، والقول بتخليدهم في النار، وهذا الحديث وأشباهه مما تقدم مما يتمسكون بظواهرها.
وقوله:" لم تقبل له صلاة "، قال الإمام:" يحتمل أن يحمل على المستحل لذلك فيكفر باستحلاله فلا تقبل صلاته(4) ولا غير ذلك من عمله، وكنى بالصلاة عن غيرها. وفيه أيضًا معنى خفي، وذلك أنه يحتمل أن يكون ذكرالصلاة لأنه منهي عن البقاء في المكان الذي يصلي فيه لكونه مأمورًا بالرجوع إلى سيده،فصارت صلاته في بقعة منهي عن المقام بها تضارع(5) الصلاة في الدار المغصوبة ".
__________
(1) في (ط):" خفر ".
(2) في (أ) أقحمت هنا:" حقن دمه بسبب " الآتية بعد.
(3) في (ح):" هذا عني ".
(4) في (ح):" له صلاة ".
(5) في (ح):" يضارع ".(1/296)
125 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي إِثْرِ السَّمَاءِ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ:« هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ؟»، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ:« قَالَ أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ ».
ــــــــــــــــــ
قال مسلم:" نا يحيى بن يحيى قال(1): قرأت على مالك عن صالح بن كيسان عن الزهري عن عبيدالله بن عبدالله...، حديث أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي ".
قال الإمام:" قال بعضهم: وقع(2) في نسخة ابن ماهان:" صالح بن كيسان عن الزهري عن عبيدالله "، وإدخال الزهري هنا خطأ، وصالح بن كيسان أسن من الزهري،وهو يروي هذا الحديث عن عبيدالله دون واسطة".
وقوله:"صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية...".
__________
(1) قوله:" قال " ليس في (أ) و (ط).
(2) قوله:" وقع" ليس في (أ) و(ح).(1/297)
قال القاضي رحمه الله: أكثر رواة الحديث والخبر يشددون الياء(1) من الحديبية، والحذاق منهم يخففونها، وكذا قرأناها بالوجهين، وبالتخفيف سمعناها من متقنيهم وحفاظهم:أبي الحسين بن سراج اللغوي، وأبي عبدالله بن سليمان النحوي(2)، والقاضي الشهيد الحافظ(3) أبي علي السكري(4)، والراوية أبي بحر بن العاص، وغيرهم.
126 - حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، وَعَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ الْعَامِرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ، قَالَ الْمُرَادِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، وَقَالَ الأخَرَانِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ ؛ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: « أَلَمْ تَرَوْا إِلَى مَا قَالَ رَبُّكُمْ ؟ قَالَ: مَا أَنْعَمْتُ عَلَى عِبَادِي مِنْ نِعْمَةٍ إِلا أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِهَا كَافِرِينَ يَقُولُونَ الْكَوَاكِبُ وَبِالْكَوَاكِبِ ».
__________
(1) في (أ):" الباء ".
(2) في (ح):" الحافظ النحوي ".
(3) قوله:" الحافظ " ليس في (ح).
(4) في (أ):" السكوني ".(1/298)
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ،ح، وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ: أَنَّ أَبَا يُونُسَ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ بَرَكَةٍ إِلا أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنَ النَّاسِ بِهَا كَافِرِينَ، يُنْزِلُ اللَّهُ الْغَيْثَ، فَيَقُولُونَ: الْكَوْكَبُ كَذَا وَكَذَا ». وَفِي حَدِيثِ الْمُرَادِيِّ:« بِكَوْكَبِ كَذَا وَكَذَا ».
ــــــــــــــــــ
وحكى لنا أبو الحسين أن الأصمعي يخففها والكسائي يشددها، وروى لنا القاضي الشهيد عن إسماعيل القاضي عن ابن المديني أن أهل المدينة يشددونها وأهل العراق يخففونها.
وكذلك اختلفوا في " الجعرانة "، فأهل المدينة يكسرون العين ويشددون الراء، وأهل العراق يخففون العين والراء.
وكذلك اختلفوا في ابن المسيب، فأهل المدينة يكسرون الياء، وأهل العراق يفتحونها.
وهذا عن أهل العراق في " الحديبية " خلاف ما قاله لنا أبو الحسين.(1/299)
127 - وَحَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ وَهُوَ ابْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو زُمَيْلٍ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: مُطِرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:« أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شَاكِرٌ، وَمِنْهُمْ كَافِرٌ، قَالُوا: هَذِهِ رَحْمَةُ اللَّهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا »، قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الأيَةُ { فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } حَتَّى بَلَغَ { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ }».
ــــــــــــــــــ
وقوله: " إثر سماء(1)"، السماء: المطر، وجمعه أسمية، وسمي، والسماء: السحاب، وأصل السماء كل ما ارتفع فأظل وعلا، وسماء كل شيء ما علا منه، وبه سميت السماء والسحاب، ثم سمي المطر به لمجيء السحاب به، كما سمي مزنًا، والمزن السحاب.
وقوله: " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي(2)... " الحديث.
قال الإمام: " هذا يحمل على أن المراد به تكفير من اعتقد أن المطر [ من فعل](3) الكواكب وخلقها دون أن يكون خلقا لله تعالى، كما تقوله(4) بعض الفلاسفة من أن الله تعالى لم يخلق إلا شيئًا واحدًا(5)، وهو العقل الأول [عندهم، وكان](1) عن العقل الأول غيره، وهكذا عن كل واحد آخر، إلى أن كان عن كل فلك ما تحته حتى ينتهي الأمر إلى الأمطار وإلينا... في تخليط [ طويل ليس ](1) هذا موضع ذكره.
__________
(1) في (ح):" في إثر سماء ".
(2) قوله:" بي " ليس في (ح).
(3) مابين المعكوفين مكانه بياض في (ط).
(4) في (ح):" يقوله ".
(5) في (أ):" لم يخلق من الأشياء إلا واحدًا ".(1/300)
وأما من اعتقد أن لا خالق إلا الله سبحانه، ولكن جعل في بعض الاتصالات من الكواكب دلالة على وقوع المطر [ من خلقه](1) تعالى على عادة جرت في ذلك(1) فلا يكفر بهذا(2) إذا عبر عنه بعبارة لايمنع الشرع منها، 128 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبْرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« آيَةُ الْمُنَافِقِ بُغْضُ الأنْصَارِ، وَآيَةُ الْمُؤْمِنِ حُبُّ الأنْصَارِ ».
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ - يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ -، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «حُبُّ الأنْصَارِ آيَةُ الإِيمَانِ، وَبُغْضُهُمْ آيَةُ النِّفَاقِ».
ــــــــــــــــــ
والظن بمن قال من العوام:" هذا نوء الثريا،[ ونوء الراعي](3)" أنه إنما يريد هذا المعنى(4)، وقد أشار مالك رحمه الله في "موطئه" إلى هذين المعنيين، وأوردهما في بابين، وأورد في المعنى الأول الحديث(5) الذي نحن فيه، وفي المعنى الثاني:" إذا أنشأت(6) بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة ".
__________
(1) قوله:" في ذلك " ليس في (ح).
(2) في (ح):" بها ".
(3) مابين المعكوفين مكانه بياض في (ط).
(4) قوله:" المعنى " ليس في (ح).
(5) قوله:"الحديث " في مكانه بياض في (ط)، وكذلك طمست "ال" من كلمة:"الحديث".
(6) في حاشية (ط):"نشأت "، وكتب فوقها:"صح ".(1/301)
قال القاضي: قال الحربي: " إنما جاءت الآثار(1) بالتغليظ ؛ لأن العرب كانت تزعم أن ذلك المطر من فعل النجم(2)، ولا يجعلونه من سقي الله تعالى، فأما من نسبه إلى الله تعالى، وجعل النوء وقتًا مثل أوقات(3) الليل والنهار، كان ذلك واسعًا، كما قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: " سقانا الله ولم يسقنا النجم ".
قال القاضي: من طريق ابن عباس رضي الله عنهما في "الأم" في هذا الحديث:" أصبح من الناس شاكر وكافر ". فمقابلته لـ " شاكر " بـ" كافر " يدل أن المراد كفر النعمة وجحدها ؛ إذ(4) لم يضفها إلى ربه ويشكره(5) عليها، ولا ولى الأمر أهله، واقتصر على ذكر عادة غير مؤثرة، ومخلوقات مسخرة، وآلات مدبرة غير مدبرة(6).
129 - وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ،ح، وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ -، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ فِي الأنْصَارِ:« لا يُحِبُّهُمْ إِلا مُؤْمِنٌ، وَلا يُبْغِضُهُمْ إِلا مُنَافِقٌ، مَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ ». قَالَ شُعْبَةُ: قُلْتُ لِعَدِيٍّ: سَمِعْتَهُ مِنَ الْبَرَاءِ ؟ قَالَ: إِيَّايَ حَدَّثَ.
ــــــــــــــــــ
__________
(1) طمست:" ال " من هذه الكلمة في (ط).
(2) في (ح):" ذلك النجم ".
(3) في (ح):" وقت ".
(4) في (ح):" إذا ".
(5) في (ح):" شكره ".
(6) قوله:" غير مدبرة " ليس في (ط).(1/302)
وكذلك يدل عليه قوله أيضًا في الحديث الآخر: " ما أنزل الله من السماء من بركة "، وفي اللفظ الآخر:" ما أنعمت على عبادي(1) من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين "، فدل أنه كفر نعمة لا كفر بالله، وإنما يجوز من هذا أن يذكر بمعنى الوقت أو الآلة،كما قال - عليه السلام -:" تلك عين غديقة "، وكما قال عمر - رضي الله عنه -: " كم بقي لنوء الثريا ؟ ".
فأما القول: " مطرنا بنوء كذا "، وإن لم يعتقد قائله تأثير النجوم وفعلها ففيه مشابهة لقول من يعتقد ذلك، والشرع قد حمى(2) التشبه بالكفار، قال الله تعالى:" يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا"؛ إذ كانت كلمة اليهود والمنافقين معرضين بها.
وورد في آخر الحديث المتقدم أن في هذا نزلت: " فلا أقسم بمواقع النجوم " إلى قوله: " وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ".
وقد اختلف المفسرون في معنى هذه الآية، ومعنى النجوم فيها، ومعنى الرزق،فذهب الحسن ومجاهد وقتادة أن النجوم فيها: نجوم السماء، ومواقعها:
130 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيَّ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« لا يُبْغِضُ الأنْصَارَ رَجُلٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخِرِ ».
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ،ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ كِلاهُمَا، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لا يُبْغِضُ الأنْصَارَ رَجُلٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخِرِ ».
ــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" عبدي ".
(2) في حاشية (ح):"حرم"، وكتب فوقها:"صح ".(1/303)
إما مغاربها وإما مطالعها، أو انكدارها أو انتشارها يوم القيامة، على اختلاف تأويلاتهم في ذلك.
وقيل مواقع النجوم منازل(1) القرآن، أنزل نجومًا،وعن مجاهد: " مواقع النجوم: محكم القرآن ".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما:{ وتجعلون(2) رزقكم...} الآية، أي شكركم. فيقولون(3): مطرنا بنوء كذا ونجم كذا.
قال قطرب: الرزق هنا الشكر، وقيل: تجعلون شكر رزقكم وتحقيقه، وتجعلون عوض شكر رزق ربكم ونعمه قولكم هذا وإضافة رحمته لكم لغيره.
وعن الهيثم بن عدي في لغة أزد(4) شنوءة: ما رزق فلان فلانًا أي ما شكره.
وذكر مسلم آخر الباب:" نا عباس بن عبدالعظيم العنبري "، كذا الرواية(5)، وعند العذري:" الغبري "، وهو تصحيف، والأول الصواب(6).
وقوله:" آية المنافق بغض الأنصار... " الحديث(7)، وقوله مثل ذلك في علي - رضي الله عنه -، معناه بين ؛ لأن من عرف حق الأنصار، ومكانهم من الدين،
131 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأعْمَشِ،ح، وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى - وَاللَّفْظُ لَهُ -، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ زِرٍّ قَالَ قَالَ عَلِيٌّ: وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الأمِّيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيَّ أَنْ لا يُحِبَّنِي إِلا مُؤْمِنٌ وَلا يُبْغِضَنِي إِلا مُنَافِقٌ.
ــــــــــــــــــ
ومبادرتهم إلى نصره وإظهاره، وقتال كافة الناس دونه، وذبهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) مواقع النجوم في ذلك بمنازل
(2) في (ط):" تجعلون " بإسقاط الواو.
(3) في (ح):" فتقولون ".
(4) قوله:" أزد " ليس في (ط).
(5) في (ط):" للراوة ".
(6) قوله:" والأول الصواب " ليس في (أ)، وفي (ح):" والأول أصح ".
(7) قوله:" الحديث " ليس في (ح).(1/304)
ونصرهم(1) إياه(2) أحبهم ضرورة، بحكم صحة إيمانه وحبه للإسلام(3) وأهله، وعظموا في نفسه بمقدار عظم الإسلام في قلبه(4)، ومن كان منافق السريرة(5)، غير مسرور بما كان منهم، ولا محب في إظهارهم للإيمان ونصره أبغضهم لا شك لذلك. وكذلك من حقق مكان علي - رضي الله عنه - من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحبه له، وغناءه في الإسلام وسوابقه أحبه إن كان مؤمنًا محبًا في النبي - صلى الله عليه وسلم - وآله - رضي الله عنهم -، وإن كان بخلاف ذلك أبغضه بفضل بغضه للنبي - صلى الله عليه وسلم - [وأهل ملته، ومثل هذا(6) قوله - صلى الله عليه وسلم - ](7) في الحديث الآخر في الصحابة رضوان الله عليهم:" فبحبي أحبهم وببغضي أبغضهم ".
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار... " الحديث، حض على الأمر بالصدقة والاستغفار، وأمره بذلك دليل أن العصاة ليسوا بكفار، وأنهم في مشيئة الله، وأن الحسنات يذهبن(8) السيئات.
وفيه دليل على أن كفران العشير واللعن من الذنوب المتوعد عليها بالنار.
وفيه: " فقالت امرأة منهن جزلة "، أي ذات عقل ودين، قال ابن دريد:" الجزالة: الوقار والعقل ". وفي العين:" امرأة جزيلة، أي ذات عجيزة عظيمة "، وأصله العظيم من كل شيء، ومنه عطاء جزل.
__________
(1) في (ح) و(ط):" نصره ".
(2) قوله:" إياه " ليس في (ح) و(ط).
(3) في (أ):" الإسلام ".
(4) في (ح) و(ط):" بقلبه ".
(5) في (ح):" للسريرة ".
(6) قوله:" هذا " ليس في (أ) و(ح).
(7) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(8) في (ح):" تذهبن ".(1/305)
132 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ الْمِصْرِيُّ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ:« يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الاسْتِغْفَارَ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ »، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ جَزْلَةٌ: وَمَا لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ ؟ قَالَ: « تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَمَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ »، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! وَمَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ ؟ قَالَ: « أَمَّا نُقْصَانُ الْعَقْلِ: فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ، فَهَذَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ، وَتَمْكُثُ اللَّيَالِي مَا تُصَلِّي وَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ، فَهَذَا نُقْصَانُ الدِّينِ ».
وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو الطَّاهِرِ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ بَكْرِ بْنِ مُضَرَ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ بِهَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ.
ــــــــــــــــــ
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" تكثرن(1) اللعن وتكفرن العشير "، اللعن في اللغة: الطرد والإبعاد، ومعناه في الشرع: الإبعاد من رحمة الله.
والعشير هنا: الزوج، يسمى بذلك الذكر والأنثى ؛ لأن كل واحد منهما يعاشر صاحبه، والعشير أيضًا: الخليط والصاحب، وقد قال الباجي: " يحتمل أن يريد به الزوج خاصة، ويحتمل أن يريد به كل من يعاشرهن، ودليل الحديث خلاف ما قاله من شرحه بمعنى الزوج بعد هذا دون غيره، واستحقاقهن النار بكفران إحسان العشير وجحد حقه يدل أنه الزوج ؛ لعظيم(2) حقه عليهن.
__________
(1) في (أ) و(ط):" يكثرن اللعن ويكفرن ".
(2) في (ح):" لعظم ".(1/306)
وإدخال مسلم هذا الحديث في كتاب الإيمان لفائدتين:
وَحَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ قَالا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -،ح، وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ وَقُتَيْبَةُ وَابْنُ حُجْرٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ-،
ــــــــــــــــــ
إحداهما: بيان أن الكفر قد ينطلق على كفر النعمة وجحد الحق وتغطيته، وهو أصل الكفر في اللغة، ككفران العشير المذكور هنا(1)، وكفر الإحسان المذكور في الحديث في غير الأم ؛ إذ لا إشكال أنه لم يرد به هنا الكفر بالله، ففسر به كل ما أطلق(2) عليه اسم الكفر على أهل المعاصي فيما تقدم من الأحاديث، وقال(3) أحمد بن نصر:" قوله(4): " يكفرن العشير ويكفرن الزوج " كلام واحد، أي يكفرن إحسان الزوج، قال: " وكفر النعمة من أكبر المعاصي، ولو كان خروجًا من الإيمان لم يمكن الزوج من التمسك بها وموارثتها(5).
قال القاضي(6): والثانية: إظهار نقص الإيمان وزيادته بقوله: " ناقصات عقل ودين ".
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لذي لب "، أي لذي عقل، ومنه تكرار قول النبي - صلى الله عليه وسلم - قول الأعشى في امرأته:
وهنّ شرّ غالبٍ لمن غَلَب، وقول صاحبة أم زرع: " وأغلبه والناس يغلب "، وقول معاوية(7):" يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام ".
__________
(1) في (ح):" هاهنا ".
(2) في (ح):" انطلق ".
(3) في (أ):" قال ".
(4) قوله:" قوله " ليس في (أ).
(5) في (ط):" وموارثها ".
(6) قوله:" القاضي" ليس في (ط).
(7) قوله:" معاوية " ليس في (أ).(1/307)
وقوله:" ناقصات عقل(1)... أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل ".
عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِ مَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
ــــــــــــــــــ
قال الإمام: " هذا تنبيه منه - صلى الله عليه وسلم - على ما وراءه ؛ لأنه ليس في الوصف بقصور شهادتهما عن شهادة الرجل بمجرده دليل على نقص العقل حتى يتم بما نبه الله عليه سبحانه(2) في كتابه من أن ذلك لأجل(3) قلة ضبطها، وذلك قوله تعالى:" أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ".
وقد اختلف الناس في العقل ما هو ؟ فقيل: العلم(4)، وهذه طريقة من اتبع حكم اللغة ؛ لأن العلم والعقل في اللسان بمعنى واحد، ولا يفرقون بين قولهم: "عقلت " و " علمت ".
وقيل: العقل بعض العلوم الضرورية، وقيل: هو قوة يميز بها بين حقائق المعلومات.
فأما على قول من قال هو العلم، فيكون وصفهن بنقص العقل لأجل النسيان وقلة الضبط على ظاهره ؛ لأن ذلك نقص من العلوم.
وعلى رأي من(5) رأى أن العقل غير ذلك، يكون(6) قلة الضبط والنسيان وشبه(7) ذلك علمًا على القصور والنقص في ذلك المعنى الطبيعي، الذي هو شرط في(8) تلقي التكاليف وكثرة العلوم.
وأما وصفه إياهن بنقص الدين لأجل ترك الصلاة في المحيض(9) فيصح إذا قلنا إن العبادات كلها تسمى دينًا(10)، إلا أنه لا لوم عليهن في ذلك ؛ لأن تركهن الصلاة حينئذ طاعة.
__________
(1) قوله:" ناقصات عقل " ليس في (ط).
(2) في (ح):" سبحانه عليه ".
(3) في (ح):" من أجل ".
(4) في (ح):" هو العلم ".
(5) قوله:" من " مكانه بياض في (ط).
(6) في (ح):" تكون ".
(7) في (ط):" شبيه ".
(8) قوله:" في" مكانه بياض في (ط).
(9) في (ح):" الحيض ".
(10) قوله:" تسمى دينًا " ليس في (ط).(1/308)
133 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:«إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ - وَفِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ يَا وَيْلِي - أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ ».
ــــــــــــــــــ
فإن قيل: قد يقلن: نحن كالمسافر في القصر والفطر، وليس بناقص الدين(1)، قيل: قد يفرق بأن الحيض يستقذر، ولعل ترك التعبد بالصلاة فيه(2) تنزيه لله سبحانه أن يتقرب إليه في تلك الحالة، فيصير النقص(3) من هذه الجهة، على أن السفر أمر يكتسب، وفي وسع الإنسان أن لا يسافر، فلا تسقط عنه الصلاة(4)، والحيض ليس في وسع المرأة رفعه، فسقوط الصلاة عنها(5) أمر ضروري لها(6)، وهذا كله قد لا يحتاج إليه ؛ لأن المسافر لا تسقط(7) عنه الصلاة أصلاً، وإنما يغير(8) عدة الفرض، والمرأة الحائض تسقط عنها بكل حال ".
__________
(1) قوله:" بناقص الدين " في مكانه بياض في (ط).
(2) في (ح):" ترك التعبد بترك الصلاة فيه ".
(3) قوله:" التنقص " في مكانه بياض في (ط).
(4) في (ح):" الصلاة عنه ".
(5) قوله:" عنها " ليس في (ح).
(6) في حاشية (ح):"بها ".
(7) في (ط):" يسقط ".
(8) في (أ):" تغير ".(1/309)
قال القاضي: وقد ينكسر كلام من قال: منعت من الصلاة للتنزيه بعبادة(1) الله لأجل الاستقذار الذي ذكر بما أباح الله لها من سائر العبادات غير الصوم والصلاة في تلك الحال، وفيها ما هو من نوع الصلاة، كقراءة القرآن ظاهرًا، على خلاف فيه عندنا، وفي الإقبال على الذكر وسائر أفعال الحج، ما خلا الطواف، ولالتزام الحائض في اعتكافها ما كانت تلتزمه(2) قبل طروء(3) الحيض عليها(4) غير الصوم، ولزوم المسجد على أحد القولين عندنا.
وقوله في سند هذا الحديث: " عن عمرو بن أبي عمرو عن المقبري عن أبي هريرة "، قال أبو مسعود الدمشقي:" المقبري هنا هو أبو سعيد، والد حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الأعْمَشُ بِهَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَعَصَيْتُ فَلِيَ النَّارُ.
ــــــــــــــــــ
سعيد "، قال الجياني:" وهذا في رواية إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو "، وقال(5) الدارقطني: " وخالفه سليمان بن بلال فرواه عن عمرو بن أبي عمرو عن سعيد المقبري، قال(6):" وقول سليمان أصح ".
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" إذا قرأ ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي..." الحديث.
قال الإمام: " احتج به أصحاب أبي حنيفة في أن سجود التلاوة واجب لتشبيه إبليس إياه بسجوده(7) لآدم، قلنا: يحتمل أن يكون لم يرد المشابهة في الإحكام، بل في كونه سجودًا، فذكر ما سلف له، ولكن إنما تصح لهم الحجة، إذا وجب التعلق بما قال، بقوله(8): " أمر ابن آدم بالسجود(9)" على قول الأشعري وغيره: " إن المندوب إليه غير مأمور به ".
__________
(1) في (ح):" لعباده ".
(2) في (أ) و(ح):" تلزمه ".
(3) قوله:" طروء " ليس في (ط).
(4) قوله:" عليها " ليس في (أ).
(5) في (ط):" قال " بدون واو.
(6) قوله:" قال" ليس في (أ)و(ح).
(7) في (أ):" سجوده " بدون الباء.
(8) في (أ):" لقوله ".
(9) قوله:" بالسجود " ليس في (ط).(1/310)
قال القاضي: أصل السجود في اللغة: الميل والخضوع، قال يعقوب: " أسجد الرجل إذا طأطأ رأسه، وسجد إذا وضع جبهته في الأرض "، وقال ابن دريد:" أصل السجود: إدامة النظر مع إطراق إلى الأرض "، وكذلك أسجد "، وقال غيره: "سجدت النخلة إذا مالت(1)، وسجدت الناقة: طأطأت رأسها ".
قال المفسرون: إنما كان سجود الملائكة لآدم تحية لا عبادة له، وطاعة لله تعالى، وقد كان - فيما ذكر - قبلُ السجودُ للتحية والتكرمة مباحًا(2)، وقيل ذلك في قوله تعالى: " وخروا له سجدًا "، أي ليوسف - عليه السلام -، وقيل: لله سبحانه(3)، والهاء(4) في " له " عائدة عليه تعالى.
…………………………………………………
......................................................................
ــــــــــــــــــ
وقيل: أمرهم الله تعالى بالسجود له ليظهر فضله عليهم ؛ إذ ظنت الملائكة أنه لا يفضلهم أحد، وقيل: هو معنى قوله: " وما كنتم تكتمون "، ذكر هذا عن قتادة، فلما خلق الله تعالى آدم - عليه السلام - وأعلمه(5) من الأسماء بما(6) لم يعلموه بان أنه أعلم منهم، فلما أمرهم بالسجود له(7) بأن فضله عليهم.
__________
(1) في (أ):" إذا مالت ".
(2) في (ط):" مباح ".
(3) قوله:" سبحانه " ليس في (أ) و(ط).
(4) في (ح):" وقيل الهاء ".
(5) في (ح):" وأعلمهم ".
(6) في (ح):" ما ".
(7) قوله:" له " ليس في (ح).(1/311)
وقول الإمام في تصحيح الحجة للحنفي على قول(1) الأشعري: " إن المندوب غير مأمور به(2)" فلا ينتزع من هذا الحديث جملة ؛ لأن ذلك إنما هو فيما ورد من أمر الله عز وجل أو رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو حكاه(3) الرسول عن ربه، وأما هذا فإنما هو حكاية عن قول إبليس، وقد يكون مخطئًا في تعبيره عن ذلك بـ " الأمر "، فلا يحتج بقوله، كما أخطأ في قوله محتجًّا لفضيلته(4) بزعمه:" أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين "، إلا أن يقول قائل: " إن ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك عنه ولم ينكره كالإقرار له والتصويب(5)"، فما ذلك(6) ببين، فقد حكى الله تعالى، وحكى هو - عليه السلام - عن أهل الكفر مقالات كثيرة ولم يكن ذلك تصويبًا لها، وكذلك ليس في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فله الجنة " دليل على وجوبها ؛ إذ ليس كل ما يدخل بفعله(7) الجنة واجبًا، فالمندوب يثاب عليه بالجنة وليس بواجب.
134 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ كِلاهُمَا، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاةِ ».
ــــــــــــــــــ
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " بين الرجل والكفر والشرك ترك الصلاة، معناه: بين المسلم وبين اتسامه باسم الكفار، واستحقاقه من القتل ما استحقوه ترك الصلاة.
__________
(1) في حاشية (ح):" بقول "، وكتب فوقها:"صح، خ".
(2) قوله:" به " ليس في (ط).
(3) في (أ):" وحكاه ".
(4) في (ح):" بفضيلته ".
(5) في (أ):" والتصوبة ".
(6) في (ط):" ذاك ".
(7) في حاشية (ح):"بعلمه "، وكتب فوقها:"صح، خ".(1/312)
وقد يكون معنى الحديث: إن بالصلاة والمواظبة عليها، وتكرار ذلك في يومه وليلته يفترق(1) المسلم من الكافر، ومن ترك ذلك ولم يهتبل به، ولا تميز بسيماء المؤمنين دخل في سواد أضدادهم من الكفرة والمنافقين.
وفيه دليل لمن كفر تارك الصلاة من السلف والعلماء، وإن كان معتقدًا وجوبها، وهو قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -،وجماعة من السلف،وذهب إليه فقهاء أهل الحديث: أحمد بن حنبل، وابن المبارك، وإسحق، وابن حبيب من أصحابنا.
وجماعة العلماء على أنه ليس بكافر، وأكثرهم يرى قتله إن أبى منها.
والكوفيون لا يرون قتله، ويعزر حتى يصلي،ونحوه للمزني،[ واختاره بعض شيوخنا، قال: يضرب حتى يموت أو يصلي ](2).
ثم اختلفوا في استتابته،[ ومن لم يكفره يقتله حدًا ](3).
قال ابن القصار: " واختلف أصحابنا في استتابته، فمن لم يستتبه يجعله كسائر الحدود التي لا تسقطها التوبة "، وقال غيره:"[ يؤخر حتى يمر(4) وقت الصلاة، فإن لم يصل قتل ](5).
حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاةِ ».
ــــــــــــــــــ
وكذلك اختلفوا في قتله إذا تركها متهاونًا وإن قال أصلي، وفي استتابته وتأخيره، فمذهب(6) مالك رحمه الله أنه يؤخر حتى يخرج الوقت، فإن خرج ولم يصل قُتل.
__________
(1) في (ح):" يفرق ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(3) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(4) في (ط):" تمر ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(6) في (أ):" ومذهب "، وفي (ح):" فذهب "..(1/313)
والصحيح أنه عاص غير كافر ؛ لقوله تعالى:" إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء "، وأن يقتل إن أبى منها، لقوله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة(1)...} الآية، ولقوله - عليه السلام -: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها(2).
واختلف العلماء في أخوات الصلاة من الفرائض كالزكاة، والصيام، والحج، والوضوء، والغسل: هل يقتل الآبي منها المعترف بفرضها(3) أم يعاقب؟ وهل هو كافر أو عاص ؟.
ومذهب مالك رحمه الله فيمن أبى من ذلك فقال: " لا أتوضأ ولا أصوم"، يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وإن قال:" لا أزكي، أخذت منه كرها، فإن امتنع قوتل، وإن قال:" لا أحج " لم يجبر، لكون فرضه على التراخي دون الفور.
135 - وَحَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، ح، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ ابْنِ زِيَادٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ - يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ -، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّ الأعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ:« إِيمَانٌ بِاللَّهِ » قَالَ: ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ »، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ:« حَجٌّ مَبْرُورٌ ».
وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ: قَالَ:« إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ».
ــــــــــــــــــ
__________
(1) قوله:"{ وآتوا الزكاة }" ليس في (أ) و(ح).
(2) قوله:" وأموالهم إلا بحقها " ليس في (ط)، وقوله:" إلا بحقها " ليس في (أ).
(3) في (ح):" بوجوبها " وعليها "خ".(1/314)
وقال ابن حبيب: " من قال عند الإمام:" لا أصلي وهي فرض علي " قتل، ولا يستتاب، وكذلك من قال عنده: " لا أتوضأ، ولا أغتسل من جنابة،ولا أصوم رمضان ".
قال ابن حبيب:" من ترك الصلاة متعمدًا(1) أو مفرطًا فهو(2) كافر، ومن ترك أخواتها متعمدًا من زكاة وصوم وحج فهو كافر"، وقاله الحكم بن عتيبة(3)، وجماعة من السلف.
وقال غيره:" لا يكفر إلا بجحد هذه الفرائض، وإلا فهو ناقص الإيمان فاسق "، واحتجوا بإجماع الصدر الأول علىموارثة من لا يصلي ودفنهم مع المسلمين.
وهكذا(4) الخلاف في الزكاة إذا امتنع بها ولم يقدرأن تؤخذ منه، وإلا فمتى منعها أخذت منه كرها وجوهد على ذلك إن امتنع.
ولا خلاف في جاحد فرض من هذه الفرائض أنه كافر.
وقوله - عليه السلام - وقد سئل: أي الأعمال أفضل؟ فقال: " إيمان بالله..."، فجعله من العمل، والإيمان غير العمل في عرف الكلام، وإن كان
وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ.
ــــــــــــــــــ
في الحقيقة من(5) الأعمال.
وقد فرق بين الإيمان والأعمال في الكتاب وفي أحاديث أخر، وأطلق اسم الإيمان مجردًا على التوحيد وعمل القلب، والإسلام على النطق وعمل بالجوارح، وقد(6) أطلق الشرع في غير موضع الإيمان على العمل.
__________
(1) في (ح):" عمدًا ".
(2) قوله:" فهو " ليس في (أ) و(ط).
(3) في (ح):" عيينة ".
(4) في (أ):" وكذا "، وفي (ح):" وكذلك "..
(5) قوله:" من " لم يظهر في تصوير (ط).
(6) قوله:" قد " ليس في (أ) و(ح).(1/315)
وقد تقدم أن حقيقة الإيمان مجرد التصديق المطابق للقول والعقد، وتمامه(1) بتصديق(2) العمل بالجوارح، فلهذا(3) أجمعوا أنه لا يكون مؤمن تام الإيمان إلا باعتقاد وقول وعمل، وهو الإيمان الذي ينجي رأسًا من نار جهنم(4)، ويعصم المال والدم.
وإن كان هكذا من الارتباط والاشتراط صلح إطلاق اسم الإيمان على جميعها وعلى بعضها، من عقد أو قول أو(5) عمل(6)، وعلى هذا فلا شك أن التصديق والتوحيد أفضل الأعمال ؛ إذ هو شرط فيها.
وقد يحتمل أن يشير بقوله:" أفضل الأعمال الإيمان(7) بالله ورسوله " إلى الذكر الخفي، وتعظيم حق الله عز وجل، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وإدامة ذكر الله وتفهم كتابه، وتدبر آياته، وهي من أعمال القلب ومحض الإيمان(8)، كما جاء في الحديث الآخر: " خير الذكر الخفيُّ ".
__________
(1) قوله:" بتمامه " لم يظهر في تصوير (ط).
(2) في (ط) يشبه أن تكون:" تصديق".
(3) في (ح):" ولهذا ".
(4) قوله:" من نار جهنم " لم يظهر في تصوير (ط).
(5) قوله:" عقد أو " لم يظهر في تصوير (ط).
(6) قوله:" أو عمل " ليس في (ح).
(7) قوله:" الإيمان " لم يظهر في تصوير (ط).
(8) قوله:" الإيمان " لم يظهر في تصوير (ط) جيدًا.(1/316)
وأما ذكره في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بعد الإيمان: الجهاد، ولم يذكر الصلاة والزكاة(1)، فلأنهما قرينتا التوحيد، لجمعهما في القرآن والحديث مع الإيمان بالله، فيكون اسم الإيمان منطلقًا عليهما، ولعله المراد بالإيمان أولاً، 136 - حَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ ح و، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مُرَاوِحٍ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَيُّ الأعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ: الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ »، قَالَ: قُلْتُ: أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ:« أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا»، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ ؟ قَالَ:« تُعِينُ صَانِعًا، أَوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ »، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ ؟ قَالَ:« تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ ».
ــــــــــــــــــ
كما وقع في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - فبدأ بالصلاة لميقاتها، ثم ذكر ما عداها(2)، فذكر الجهاد والحج، ولم يذكر الحج في حديث أبي ذر - رضي الله عنه -، وفي حديث ابن مسعود بدأ بالصلاة، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد.
__________
(1) في (ح):" ولا الزكاة ".
(2) في (أ) و(ط):" عداهما ".(1/317)
قيل: إنما اختلفت الأجوبة في هذه الأحاديث والأحاديث المتقدمة:" أي الإسلام أفضل ؟ "، لاختلاف الأحوال، وأعلم كل قوم بما بهم(1) الحاجة إليه، وترك ما لم تدع حاجتهم إليه أو مما كان علمه السائل قبل، فأعلم بما تدعو الحاجة إليه أو بما لم يكمله بعد من دعائم الإسلام ولا بلغه علمه.
وقيل: قدم في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - فضل الجهاد على الحج؛ لأنه كان أول الإسلام ومحاربة عداه والجد في إظهاره(2).
وقوله:" حج مبرور "، قال شمر: " هو الذي لا يخالطه شيء من المآثم(3)"، كما قال تعالى:"فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج "، ومنه: برت يمينه، إذا سلم من الحنث، وبر بيعه إذا سلم
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَبِيبٍ مَوْلَى عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي مُرَاوِحٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِنَحْوِهِ. غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ:« فَتُعِينُ الصَّانِعَ، أَوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ ».
ــــــــــــــــــ
من الخداع والخلابة، وقال الحربي:" بر حجك - بضم الباء -، وبر الله حجك - بفتحها - إذا رجع مبرورًا مأجورًا ".
وقيل: المبرور المتقبل، وفي الحديث: " سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:ما بر الحج ؟ قال: إطعام الطعام وطيب الكلام "، فعلى هذا يكون من البر الذي هو فعل الجميل فيه، والبذل، ومنه بر الوالدين(4) والمؤمنين.
__________
(1) في (ح):" تهم "، وفي حاشيتها:"بهم "، وكتب فوقها:"صح، خ".
(2) في (ح):" إظهاره كلمة الإسلام ".
(3) في (ح):" الإثم ".
(4) في (ح):" والبذل منه ومنه بر الوالدين "، وفي (أ):" والبذل منه بر الوالدين ".(1/318)
ويكون أيضًا في هذا كله بمعنى الطاعة، ويكون بمعنى الصدق وضده الفجور، ومنه برت يمينه، فيكون الحج المبرور: الصادق الخالص لله تعالى على هذا.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" أنفسها عند أهلها "، أي أغبطها وأرفعها، ومنه شيء(1) نفيس أي رفيع.
قال الأصمعي:" مال نفيس: مرغوب فيه ".
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" تعين صانعًا، أو تصنع لأخرق ".
قال الإمام(2): " الأخرق هنا(3) الذي لا صنعة له، يقال: رجل أخرق وامرأة خرقاء، فإن كان صانعًا(4) حاذقًا قيل: رجل صنع - بغير ألف -، وامرأة صناع - بألف بعد النون.
قال أبو ذؤيب في المذكر:
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْعَيْزَارِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِيَاسٍ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ:« الصَّلاةُ لِوَقْتِهَا» قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ:« بِرُّ الْوَالِدَيْنِ »، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ:« الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ »، فَمَا تَرَكْتُ أَسْتَزِيدُهُ إِلا إِرْعَاءً عَلَيْهِ.
ــــــــــــــــــ
وعليهما مسرودتان قضاهما داود أو صنع السوابغ تبع
وقال آخر في المؤنث:
صنَاع بإشفاها حَصان بشَكْرِها جَواد بقُوت البطن والعِرْق زاخر
قال المبرد وغيره(5): الشَّكْر: الفَرْج ".
__________
(1) في (ط):" سمي ".
(2) في (ط):" وقوله ".
(3) في (ط):" ههنا ".
(4) في (ح):" رجلاً صانعًا ".
(5) قوله:" في (هـ):" غيره "." ليس في (ح).(1/319)
قال القاضي: روايتنا في هذا(1): " ضائعًا " - من طريق هشام - أولاً بالضاد المعجمة، وبياء بعد الألف(2)، وكذلك في الحديث الآخر: " الضائع " من(3) جميع طرقنا عن مسلم في حديث هشام والزهري، إلا من رواية أبي الفتح الشاشي عن عبدالغافر الفارسي، فإن شيخنا أبا بحر حدثنا عنه فيهما بالصاد المهملة كما تقدم،وهو صواب الكلام، لمقابلته(4) بأخرق، وإن كان المعنى من جهة معونة الصانع(5) أيضًا صحيح(6)، لكن صحة الرواية هنا عن هشام بالصاد(7)، وكذا رويناه في صحيح البخاري.
قال ابن المديني: " الزهري يقول: " الصانع "، بالصاد المهملة "، ويرون أن هشامًا صحف قوله(8): " ضائعا "،[ قال الدارقطني عن معمر: "كان الزهري يقول: صحف هشام ](9)".
138 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو يَعْفُورٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْعَيْزَارِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ ! أَيُّ الأعْمَالِ أَقْرَبُ إِلَى الْجَنَّةِ ؟ قَالَ: «الصَّلاةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا »، قُلْتُ: وَمَاذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ ؟ قَالَ:« بِرُّ الْوَالِدَيْنِ »، قُلْتُ: وَمَاذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ ؟ قَالَ:« الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ».
ــــــــــــــــــ
قال الدارقطني: " وكذا رواه(10) أصحاب هشام عنه بالضاد المعجمة، وهو تصحيف، والصواب ما قاله الزهري ".
__________
(1) في (ح):" هذا الحديث ".
(2) في (ح):" ألف ".
(3) في (ح):" في ".
(4) في (ح):" لما تقدم لمقابلته ".
(5) في (ط):" الضائع ".
(6) في (أ):" صحيحة "، وفي (ح):" صحيحًا ".
(7) في (ح):" بالصاد المهملة ".
(8) في (ح) و(ط):" في قوله ".
(9) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(10) قوله:" رواه " ليس في (أ).(1/320)
[ وفي "الموطأ" من رواية التنيسي وابن وهب وغيرهما عن الزهري](1): " أن تصنع لضائع " - بالمعجمة -، وقد يصحح هذه الرواية أيضًا قوله في حديث أبي موسى:" وأعن ذا الحاجة ".
وقوله: " فما تركت أن أستزيده إلا إرعاء عليه "، أي إبقاء عليه لئلا أحرجه، أو أكثر عليه بالسؤال، وقد قال في الحديث الآخر: " ولو استزدته لزادني "، قال صاحب العين:" الإرعاء: الإبقاء على الإنسان ".
وقوله - صلى الله عليه وسلم - وقد سئل: أي الذنب أعظم عند الله (2) ؟ قال: " أن تجعل(3) لله ندًّا وهو خلقك(4).. " الحديث.
قال الإمام: " قوله " ندًّا "، الند هو المثل، وجمعه أنداد، ومنه قوله تعالى:{ فلا تجعلوا لله أندادا }.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" وأن تقتل ولدك(5) مخافة أن يطعم معك "، إشارة إلى معنى ما في القرآن من قوله تعالى: " ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق "، وقوله(6): " من إملاق"، وهما يفيدان معنيين، فقوله تعالى:{ من إملاق } خطاب 139 - وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْعَيْزَارِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَمْرٍو الشَّيْبَانِيَّ قَالَ: حَدَّثَنِي صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ - وَأَشَارَ إِلَى دَارِ عَبْدِ اللَّهِ?- قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَيُّ الأعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ ؟ قَالَ:« الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا »، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ:« ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ»، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ:« ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ »، قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(2) في (ح) زيادة كلمة:" الحديث ".
(3) في (ط):" نجعل ".
(4) قوله:" وهو خلقك " ليس في (ط).
(5) قوله:" وان تقتل ولدك " ليس في (ح).
(6) في (ط):" أو قوله ".(1/321)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بِهَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ. وَزَادَ وَأَشَارَ إِلَى دَارِ عَبْدِ اللَّهِ وَمَا سَمَّاهُ لَنَا.
ــــــــــــــــــ
للفقراء، وقوله تعالى:{ خشية إملاق } خطاب للأغنياء، والذي في الحديث: الأشبه(1) بظاهره مطابقة الآية التي للأغنياء.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" حليلة جارك "، أي امرأة جارك.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" وعقوق الوالدين "، العقوق قطع البر الواجب، قال الهروي وغيره: أصل العق: القطع والشق،وقيل للذبيحة عقيقة لأنها يشق حلقومها".
قال القاضي: قدم النبي - عليه السلام - هذه الثلاثة الأشياء لاعتياد الجاهلية بها، من الكفر بالله عز وجل،وفاحشة الزنا،ووأد البنات، وهي الإشارة بقتل الولد، والله أعلم ؛ لأن العرب إنما كانت تئد البنات لوجهين: لفرط الغيرة، ومخافة فضيحة السبي والعار بهن، أو لتخفيف نفقاتهن ومؤنتهن،وهو معنى قوله تعالى:"خشية إملاق" الآية،ومعنى قوله - عليه السلام -:"مخافة أن يطعم معك"، وكانوا يتحملون ذلك في الذكور لما يؤملون فيهم من شد العضد،وحماية الجانب،
140 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« أَفْضَلُ الأعْمَالِ أَوِ الْعَمَلِ الصَّلاةُ لِوَقْتِهَا وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ ».
ــــــــــــــــــ
وكثرة العشيرة،وبقاء النسل والذكر، وقد نبه الله تعالى على هذا بقوله:"وإذا بشر أحدهم بالأنثى..." الآية.
ثم ذكر الزنا وخصه بحليلة الجار ؛ لأنه عظم بابه ؛ إذ لا يزاني الرجل غالبًا إلا من(2) يمكنه لقاؤه، ويجاوره في محلته وقريته.
__________
(1) في (ح):" أشبه ".
(2) في (ط):" بمن ".(1/322)
ونبه بإضافة الحليلة إلى الجار على عظيم حقه، وأنه يجب له عليك من الغيرة عليه من الفاحشة ما يجب لحليلتك، والحديث الآخر يبينه.
وذكر في حديث أبي بكرة(1) الإشراك وعقوق الوالدين وشهادة الزور أو قول الزور، وزاد في حديث أنس: قتل النفس، وذكر في حديث أبي هريرة: السبع الموبقات، فذكر الشرك، والسحر، والقتل، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات.
وفي غير مسلم في(2) حديث أيوب: " تسع "، وزاد: عقوق الوالدين، واستحلال البيت الله الحرام(3).
وفي حديث عبدالله بن عمرو - رضي الله عنه -:" من الكبائر شتم الرجل والديه..." الحديث، وفي غير مسلم فيه ذكر اليمين الغموس.
هذه تعيين(4) الكبائر، وأكبر الكبائر المذكورة هنا(5)، وقد بقيت كبائر لم تذكر في هذه الأحاديث.
141 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ إِسْحَاقُ:أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، وَقَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ:« أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ »، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ:« ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ »، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ:« ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ ».
ــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" بكر "، وفي حاشية (ح):"بكرة"، وكتب فوقها:" في الأم ".
(2) قوله:" مسلم في " ليس في (أ) و(ط).
(3) في (ح)و(ط):" بيت الله الحرام ".
(4) في (أ):" لتعيين ".
(5) في (ح):" هاهنا ".(1/323)
وقد اختلفت الآثار وأقوال السلف والعلماء في أعداد الكبائر، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: " كل ما نهى الله عز وجل عنه فهو كبيرة(1)"، وسئل: " أهي سبع ؟ "، فقال " هي إلى سبعين(2)"، ويروى: " إلى سبعمائة أقرب "، وقال أيضًا: " الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب "، ونحوه عن الحسن.
وقيل: " هي ما أوعد الله عليه بنار أو بحد في الدنيا "، وعدوا الإصرار على الصغائر من الكبائر، فروي عن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم -: " لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار ".
وعن ابن مسعود وجماعة من العلماء: " الكبائر جميع ما نهى الله عنه من أول سورة النساء إلى قوله:": إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ".
وقيل يحتمل ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر من الكبائر أن ثم كبائر أخر لم تبين ليكون الناس من اجتناب جميع المنهيات على حذر لئلا يواقعوا كبيرة.
وإلى ما نحا ابن عباس إليه من أن كل ما عصي الله به كبيرة مال(3) المحققون وبه قالوا.
واختصاص النبي - عليه السلام - ما سماه الكبائر وأكبر الكبائر ليس فيه دليل على أن لا كبيرة سواها.
__________
(1) في (ط):" كبير ".
(2) في (ح):" السبعين ".
(3) في حاشية (ح):"قال "، وكتب فوقها:"صح، خ".(1/324)
142 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ جَمِيعًا، عَنْ جَرِيرٍ قَالَ عُثْمَانُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ ؟ قَالَ:« أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ »، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ:« أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ »، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ »، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَصْدِيقَهَا:{ وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا }.
ــــــــــــــــــ
وأما ترتيبُه أكبرَ الكبائر: فأما تقديم الشرك فلا خفاء به،وترتيب ما رتب(1) بعده بحكم ما(2) يكون أعظم(3) ارتكابًا في ذلك الوقت،وما يخشى(4) مواقعته وتمس الحاجة إلى بيانه،وليس يقتضي أن لا كبيرة إلا ما نص عليه، أو: لا كبيرة بعد الإشراك(5) أكبر مما نص على تواليه في تلك الأحاديث ؛ إذ قد وجدنا اللواط أعظم من الزنا ولا ذكر له في الأحاديث، والقتل أعظم من عقوق الوالدين، ولم يذكره في بعض الأحاديث، بل اختلافهما يدل على ما ذكرناه من ذكر الأهم وما تمس الحاجة إليه، كما تقدم في ذكر(6) أفضل الأعمال.
__________
(1) قوله:" رتب " ليس في (ح)، وفي (ط):" يرتب ".
(2) في (ط):" بما ".
(3) في (ح):" أكبر " وعليها "صح"، وفي حاشية (ح):"أعظم"، وكتب فوقها:"صح، خ".
(4) في (أ):" يخشى ".
(5) في (ط):" الشرك ".
(6) في (أ):" وذكر ".(1/325)
وقد يكون ما نص من أكبر الكبائر بعد الشرك من القتل، ثم ذكر بعده في بعضها(1) العقوق، وفي بعضها عقوق الوالدين بعد الإشراك، ثم ذكر يمين الغموس في حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما.
على ترتيب آخر، وهو أن القتل جاء ثانيًا للشرك في حديث، وعقوق الوالدين جاء ثانيًا في حديث آخر، فيفهم من هذا المعنى أن إثمهما واحد، ودرجتهما في العقوبة سواء.
143 - حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بُكَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:« أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلاثًا: الأشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، أَوْ قَوْلُ الزُّورِ »، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ.
ــــــــــــــــــ
ثم كذلك اليمين الغموس مع الزنا في درجة ثالثة، وإلى هذا الجمع نحا أبو جعفر الطحاوي.
وقيل أيضًا: قد يكون القتل ثم الزنا مقدمين(2) على العقوق واليمين الغموس، لكن الراوي لم يحفظهما فذكر ما حفظ، وإليه مال بعض من لقيناه من الجلة، وليس هذا عندي بالسديد ؛ لأن تحميل الراوي ما لم يرو، أو إلزامه(3) الغلط فيما رواه دون حجة(4) صعب، وبابٌ إن فُتح دخل منه على الشريعة خَطْب.
__________
(1) في (ح):" فصلها ".
(2) في (ط):" مقدمان ".
(3) في (ح):" وإلزامه ".
(4) قوله:" حجة " ليس في (أ) و(ط).(1/326)
وقد يكون التنبيه بالزنا على اللواط وشبهه، وان كان بعضه أشد من بعض وأعظم، ولكن درجته واحدة في باب تشابه جنس المعصية،وإن كانت آثام أنواعها مختلفة، والعقوبات(1) عليها متفاوتة،كما نبه بقتل الابن مخافة أن يأكل معه على قتل غيره وعلى جميع أنواع القتل،وان كان قتل الولد أشد، وبالزنا بالجارة على غيرها من الأجانب، وعن شبهه(2) من فعل الرجال بالرجال والنساء بالنساء، وإن كان بعضها أشد من بعض.
ويعضد هذه الاشارة قوله في الأم آخر الحديث:"فأنزل الله عز وجل تصديقها:"والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله 144 - وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ - وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ -، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْكَبَائِرِ قَالَ:« الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَقَوْلُ الزُّورِ ».
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْكَبَائِرَ أَوْ سُئِلَ عَنِ الْكَبَائِرِ، فَقَالَ:« الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَالَ:« أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ؟» قَالَ: « قَوْلُ الزُّورِ، أَوْ قَالَ شَهَادَةُ الزُّورِ ». قَالَ شُعْبَةُ: وَأَكْبَرُ ظَنِّي أَنَّهُ:" شَهَادَةُ الزُّورِ ".
ــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" العقوبة ".
(2) في (أ) يشبه أن تكون:" شبههم ".(1/327)
إلا بالحق ولا يزنون000 الآية "، فقد عم ما خص، وتأكد أمر الجارة لحرمتها وحرمة زوجها أو وليها، ولما ورد في حديث المقداد: " لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره ".
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" الموبقات "، أي المهلكات، يقال: وبق الرجل - بالفتح -: يبق، ووبق - بضم الواو - يوبق، إذا هلك، قال الله تعالى:{ وجعلنا بينهم موبقًا }، أي من العذاب، وقيل: موعدًا، وقيل: محبسًا.
وعده في الكبائر: التولي يوم الزحف، حجة لمذهب الجماعة في ذلك، خلاف ما ذهب إليه الحسن أن ذلك ليس من الكبائر، وأن الآية الواردة في ذلك في أهل بدر خاصة، وحجة في الرد على من ذهب(1) أن الآية منسوخة بقوله:{ إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا(2) مائتين }، ثم نسخ ذلك 145 - حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلالٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ » قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! وَمَا هُنَّ ؟ قَالَ:« الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصِنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ».
ــــــــــــــــــ
وخفف بقوله: " الآن خفف الله عنكم "، والصواب كون الآية محكمة، ثم بين وخفف بما جاء في الآية الأخرى(3).
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" من الكبائر شتم الرجل والديه.." الحديث.
__________
(1) في (أ):" ذهب إلى ".
(2) في (ح):" تغلبوا ".
(3) في (ح) و(ط):" الآخرة ".(1/328)
قال الإمام:" يؤخذ من هذا الحديث الحجة لأحد القولين في منع بيع ثياب الحرير لمن يلبسها وهي لا تحل له، وبيع العنب ممن يعصره خمرًا ويشربها؛ لأنه ذكر فيه أن من فعل السبب فكأنه الفاعل لذلك الشيء مباشرة".
قال القاضي: جعل هذا من الكبائر ؛ لأنه سبب لشتمهما، وشتمهما من العقوق، وقد تقدم أن عقوقهم من أكبر الكبائر.
[ وفيه حجة لقطع الذرائع ومنعها، ومنه(1) قوله تعالى:" ولا تسبوا الذين يدعون الله فيسبوا الله (2)}](3).
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر".
قال الخطابي:" يتأول على وجهين(4)، أحدهما: أنه أراد كبر الكفر يعني الكبر عن الإيمان، بدليل قوله آخر الحديث: " ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان "، فقابل الإيمان بالكفر.
146 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ حُمَيْدِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ » قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! وَهَلْ يَشْتِمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ:« نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ ».
وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ جَمِيعًا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ،ح، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى ابْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ كِلاهُمَا، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بِهَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ.
__________
(1) في (أ):" ومثله ".
(2) زاد في (أ):"{ عدوًا بغير علم }".
(3) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(4) في (أ):" على هذا وجهين ".(1/329)
ــــــــــــــــــ
والثاني: أنه أراد أن كل من يدخل الجنة ينزع ما في قلبه من كبر وغل".
قال: " وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا(1) يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان "، أي دخول خلود(2)".
قال القاضي: وكذلك أيضًا يتأول: " لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر " أي دون مجازاة إن جازاه الله تعالى بكبره.
وأما التأويل الثاني فبعيد في هذا الحديث، ومفهومه خلافه، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -:" ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ".
وذكر مثقال الذرة هنا من الإيمان، وهو لا يتجزأ إذا أريد به حقيقته من المعرفة وتصديق القلب، ومعناه هنا - إن شاء الله - التمثيل بأقل درجات الإيمان، وهو مجرد التصديق بأقل مثاقيل الوزن.
أو تكون الإشارة بالتجزي إلى ما زاد على ذلك من أذكار القلب وإيمانه بما زاد على التوحيد ومفهوم الشهادتين وغير ذلك، وسيأتي بسط هذا في
147 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ جَمِيعًا، عَنْ يَحْيَى ابْنِ حَمَّادٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبَانَ بْنِ تَغْلِبَ، عَنْ فُضَيْلٍ الْفُقَيْمِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ »، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ:« إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ ».
ــــــــــــــــــ
أحاديث الشفاعة.
__________
(1) في (ح):" ولا ".
(2) في حاشية (ح):"ورود "، وكتب فوقها:"صح ".(1/330)
وقوله:" قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال "، الرجل: مالك بن مرارة الرهاوي.
وقوله:" إن الله جميل يحب الجمال ".
قال الإمام:" أطلق - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث تسمية الباري جميلاً، ويحتمل أن يكون سماه بذلك ؛ لأنتفاء النقص عنه ؛ لأن الجميل منا من حسنت صورته، ومضمون حسن الصورة انتفاء النقص(1) والشين عنها، ويحتمل أن يكون " جميل " ههنا بمعنى مجمل، أي محسن، كما أن كريمًا بمعنى مُكرِم.
وأما الحديث الذي فيه أن ترك الصلاة كفر، ومذهب من تعلق به، فقد تقدم الكلام عليه ".
148 - حَدَّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ، وَسُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ كِلاهُمَا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، قَالَ مِنْجَابٌ: أَخْبَرَنَا ابْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَلا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرِيَاءَ ».
149 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبَانَ بْنِ تَغْلِبَ، عَنْ فُضَيْلٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ».
ــــــــــــــــــ
قال القاضي: ذكر أبو القاسم بن هوازن القشيري أن جميلاً يكون بمعنى جليل.
وحكى الخطابي أنه بمعنى ذي النور والبهجة أي مالكهما وربهما.
__________
(1) في (ط):" النقائص ".(1/331)
وذكر أبوبكر(1) الصوفي أن معناه:" جميل الأفعال بكم والنظر لكم، يكلفكم اليسير ويعين عليه، ويثيب عليه الجزيل ويشكر عليه، فهو يحب الجمال منكم، أي التجمل في قلة إظهار الحاجة إلى غيره ".
قال القاضي: ورد في هذا الحديث تسميته تعالى بهذا، وكذلك في حديث الأسماء المأثورة، من رواية عبدالعزيز بن حصين بن الترجمان، وهو ضعيف.
واختلف أهل العلم والنظر من أهل السنة في تسمية الله تعالى ووصفه من أوصاف الكمال والجلال والمدح بما لم يرد به شرع ولا منعه، فأجازه بعضهم، ومنعه آخرون إلا أن يرد به شرع من نص كتاب، أو سنة متواترة،
150 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي وَوَكِيعٌ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ وَكِيعٌ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ »، وَقُلْتُ أَنَا: وَمَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ.
151 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! مَا الْمُوجِبَتَانِ ؟ فَقَالَ:« مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ ».
ــــــــــــــــــ
أو أجمعت(2) على إطلاقه الأمة.
__________
(1) في (ح):" أبو داود ".
(2) في (ح):" اجتمعت ".(1/332)
ثم اختلفوا إذا ورد به شرع غير مقطوع به كخبر الآحاد، فأجازه بعضهم، ورأى أن الدعاء به والثناء، والذكر لله، من باب العمل الذي يستند(1) إلى خبر الواحد، ومنعه آخرون ؛ لأنه راجع إلى اعتقاد ما يجب ويجوز ويستحيل على الله، وباب هذا: القطع، والصواب جوازه، لاشتماله على العمل، ولقوله تعالى:{ ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } الآية (2).
والجمال(3) المذكور في هذا(4) الحديث وغيره هو الحسن، والجميل الحسن من كل شيء.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الكبر بطر الحق، وغمط الناس ".
قال الإمام:" وفي رواية أخرى:" وغمص(5) الناس "، قال(6): " ومعنى بطر الحق إبطاله، مأخوذ من قول العرب:" ذهب دمه بِطْرًا وبَطَرًا "، أي باطلاً،
152 - وَحَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ الْغَيْلانِيُّ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ قَالا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا قُرَّةُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ دَخَلَ النَّارَ ». قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: عَنْ جَابِرٍ.
وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا مُعَاذٌ - وَهُوَ ابْنُ هِشَامٍ - قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ، بِمِثْلِهِ.
ــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" يسند ".
(2) قوله:" فادعوه به " ليس في (ح).
(3) في (ح):" الجميل ".
(4) قوله:" هذا " ليس في (ح).
(5) في (ح):" غمص " بدون واو.
(6) قوله:" قال " ليس في (ح).(1/333)
قال الهروي:" قال الأصمعي: البطر الحيرة، ومعناه: أن يتحير عند الحق فلا يراه حقا، وقال الزجاج: البطر أن يتكبر عن(1) الحق فلا يقبله ".
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" وغمط الناس "، معناه استحقارهم واستهانتهم، يقال: غمط الناس - بطاء غير معجمة -، وغمصهم - بصاد غير معجمة -، ومعناهما واحد، وكذلك غمط النعمة وغمصها ".
قال القاضي: لم يرو هذا الحديث عن جميع شيوخنا هنا وفي "البخاري" إلا بالطاء، وبالطاء ذكره أبو داود في مصنفه أيضًا، وذكره أبو عيسى الترمذي(2) وغيره بالصاد.
وقوله في حديث جابر:" ما الموجبتان ؟... " الحديث.
قال القاضي: هي ما يوجب الجنة ويوجب(3) النار، قال الهروي: " الموجبات: الأمور(4) التي أوجب الله عز وجل عليها النار أو الرحمة ".
أخبر في هذا الحديث أن من مات على الشرك دخل النار، ومن مات على الإيمان دخل الجنة، وعلى هذا إجماع المسلمين.
153 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاصِلٍ الأحْدَبِ، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ:« أَتَانِي جِبْرِيلُ - عليه السلام - فَبَشَّرَنِي أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ ».
ــــــــــــــــــ
وأما قول ابن مسعود:" وقلت أنا: من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة"، فمعناه أنه لم يسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا اللفظ كما سمعه غيره، ولكنه
__________
(1) في (ح):" على ".
(2) في (ط):" اليزبدي ".
(3) في (ح) و(ط):" وما يوجب ".
(4) قوله:" الأمور " ليس في (ح).(1/334)
قاله لما تقرر عنده من معنى ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الله عز وجل من كتابه ووحيه، وأخذه من مقتضى ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومفهوم قوله - عليه السلام -: " من مات يشرك بالله شيئًا(1) دخل النار "، استدل(2) به بعضهم على صحة دليل الخطاب، وفي الاستدلال به ضعف، وهو كلام من لم يميز دليل الخطاب ؛ إذ لا يدل وجوب النار لمن مات على الكفر بوجوب(3) الجنة لمن كان(4) على ضده، وإنما دليل خطابه أنه لا يدخل النار، وأما صحة قول ابن مسعود فمن دليل صحة التقسيم لا من دليل الخطاب ؛ لأنه لما قال(5) - عليه السلام -:" من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار "، وصح أنه ليس ثم منزل ثالث سوى الجنة والنار، وتميز بهذا اللفظ نازل أحدهما بقي الصنف المخالف له للأخرى، فكيف وقد جاء بنصه بعد هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر، وجاءت النصوص والظواهر البينة، وإجماع أهل السنة على صحة ذلك.
__________
(1) قوله:" شيئًا " ليس في (ط).
(2) في (ط):" وقد استدل ".
(3) في (أ):" على وجوب ".
(4) في حاشية (ح):" مات "، وكتب فوقها:"صح، خ".
(5) جاء بعدها في (ط):" خطاب قوله ".(1/335)
154 - حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ خِرَاشٍ قَالا:حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ ؛ أَنَّ يَحْيَى بْنَ يَعْمَرَ حَدَّثَهُ ؛ أَنَّ أَبَا الأسْوَدِ الدِّيلِيَّ حَدَّثَهُ ؛ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ حَدَّثَهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ نَائِمٌ عَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَإِذَا هُوَ نَائِمٌ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَقَدِ اسْتَيْقَظَ، فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ:« مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ »، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ ؟ قَالَ:« وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ »، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ ؟ قَالَ:« وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ:« عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ ». قَالَ فَخَرَجَ أَبُو ذَرٍّ وَهُوَ يَقُولُ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ.
ــــــــــــــــــ
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" وإن زنى وإن سرق "، على ما تقدم من أن الذنوب لا توجب التخليد(1) في النار، وأن كل من مات على الإيمان يدخل الجنة حتمًا، لكن من له ذنوب في مشيئة الله من معاقبته عليها أو عفوه، ثم لا بد له من دخول الجنة.
ويأتي في تأويل هذا الحديث ما تقدم، وقول البخاري:" هذا عند الموت أو قبله إذا تاب وندم "، وغير ذلك مما قدمناه.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" وإن رغم أنف أبي ذر "، بفتح الغين وكسرها، أصل الرغم - بفتح الراء وضمها -: الذل، من الرغام - بالفتح أيضًا -، وهو التراب، يقال: أرغم الله أنفه، أي أذله، كأنه يلصقه بالتراب من الذل.
__________
(1) في (ح):" الخلود ".(1/336)
فيكون هذا في الحديث(1) على وجه الاستعارة والإعياء في الكلام، أي وإن خالف سؤال أبي ذر واعتقاده واستعظامه الغفران(2) للمذنبين وترداده
155 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ،ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ -وَاللَّفْظُ مُتَقَارِبٌ -، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ، عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الأسْوَدِ ؛ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ؛ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلاً مِنَ الْكُفَّارِ فَقَاتَلَنِي فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا، ثُمَّ لاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ فَقَالَ: أَسْلَمْتُ لِلَّهِ، أَفَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لا تَقْتُلْهُ »، قَالَ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ قَدْ قَطَعَ يَدِي، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَطَعَهَا، أَفَأَقْتُلُهُ ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لا تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ ».
ــــــــــــــــــ
السؤال عن ذلك، فأشبه من أرغم بما لا يريد ذلاًّ وقهرًا.
وقيل معناه: وإن اضطرب أنفه يعني(3) لكثرة ترداده وسؤاله، ومنه قوله تعالى:" مراغمًا كثيرًا(4)"، أي اضطرابًا في الأرض.
__________
(1) في (ط):" هذا في هذا الحديث ".
(2) في (ح):" العفو ".
(3) قوله:" يعني " ليس في (أ).
(4) في (ح):" كثيرة ".(1/337)
وقيل معناه: وإن كره، يقال: ما أرغم منه شيئًا، أي ما أكرهه، ومعنى هذا كله في التجوز بمعنى الأول ؛ إذ لا يكره أبو ذر رحمة الله لعباده، ولا ما أخبر به نبيه - صلى الله عليه وسلم - من فضل الله(1) عز وجل، وسعة مغفرته.
وقوله في حديث المقداد:" أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فضرب إحدى يدي فقطعها، ثم قال: أسلمت(2)، أفأقتله ؟ "، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال ".
قال القاضي: زاد في كتاب البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما:
156 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ ابْنُ حُمَيْدٍ قَالا: أَخْبَرَنَا عَبْدُالرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ،ح، وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الأنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الأوْزَاعِيِّ،ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ جَمِيعًا، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الإسْنَادِ. أَمَّا الأوْزَاعِيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ فَفِي حَدِيثِهِمَا قَالَ: أَسْلَمْتُ لِلَّهِ، كَمَا قَالَ اللَّيْثُ فِي حَدِيثِهِ. وَأَمَّا مَعْمَرٌ فَفِي حَدِيثِهِ: فَلَمَّا أَهْوَيْتُ لأَقْتُلَهُ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ.
ــــــــــــــــــ
"قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمقداد: إذا كان مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته، فكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل ".
__________
(1) في (ح):" ربه ".
(2) في (ح):" أسلمت لله ".(1/338)
فحمل بعضهم تأويل الحديث(1) على هذا، أي إنه بمنزلتك قبل أن تقتله، لقوله الكلمة، وثبات إيمانه وعصمته من القتل بها، وأنت بمنزلته قبل أن تقتله، أي كنت كذلك إذ كنت بمكة بين المشركين تكتم إيمانك فلعله هو ممن كتم إيمانه وخرج مع(2) المشركين كرهًا، كما أخرج أهل مكة من كان معهم من المسلمين لبدر كرهًا، وقطعه يده لمدافعته عن نفسه من يقتله، فهو يتأول جواز ذلك له، كما أنت متأول جواز قتله بعد الكلمة.
وقال ابن القصار وغيره: " معناه أنه بمنزلتك قبل أن تقتله من تحريم الدم، والعصمة من القتل، لإيمانه، وأنت مثله من إباحة دمه ؛ لكفره، قبل أن يقولها، وأنت بعد قوله من إباحة دمك - لقتلك إياه - والقصاص له، يريد لولا علة التأويل المسقط عنك حكم القصاص ".
وقيل معناه:" إنك مثله قبل أن يقولها في مخالفة الحق وارتكاب الإثم، وإن اختلفت أنواع المخالفة والإثم، فيسمى(3) إثمه كفرًا وشركًا، وإثمك معصية وفسقًا.
157 - وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ، ثُمَّ الْجُنْدَعِيُّ: أَنَّ عُبَيْدَاللَّهِ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الأسْوَدِ الْكِنْدِيَّ، وَكَانَ حَلِيفًا لِبَنِي زُهْرَةَ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؛ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلاً مِنَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ اللَّيْثِ.
ــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" فتأول بعضهم حمل الحديث ".
(2) في (ح):" من ".
(3) في (ح):" فسمى ".(1/339)
وقوله في الحديث(1): " المقداد بن الأسود "، ومرة:" المقداد بن عمرو بن الأسود الكندي، حليف بني زهرة "، فيه تجوز، أما قوله: " ابن الأسود، فإن الأسود بن عبد يغوث الزهري كان تبناه في الجاهلية، فلما نهى الله عن التبني انتسب لأبيه عمرو، كما جاء في الرواية الأخرى، ثم قال فيه(2):" ابن الأسود "، على التعريف والقطع والبدل من المقداد والبيان له، لا على النعت والصفة لعمرو ورد النسب إليه، كأنه قال: الذي يقال له ابن الأسود، أو: المعروف بابن الأسود، فقال:" ابن الأسود "، بدلاً من نسبه الأول لشهرته به، ويجب على هذا كتابة " ابن الأسود " بالألف، ويتبع في إعرابه: المقداد، لا عمرًا، وقد شهرت معرفته بذلك، ونسبه إلى الأسود أكثر من نسبته إلى عمرو .
وأما قوله: " الكندي حليف بني زهرة "، فحقيقة نسبه: بهراني، من قضاعة، لا خلاف بين أهل النسب في ذلك، ولكنهم(3) يطلقون عليه النسب بـ" كندي" مرة، و"بهراني" أخرى، وقد جاء ذلك في الصحيحين نسبه كندي، وفي تاريخ البخاري والطبري فيه: الكندي البهراني.
__________
(1) في (ح):" حديث ".
(2) قوله:" فيه " ليس في (أ).
(3) في (ح):" ولكن ".(1/340)
158 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الأحْمَرُ،ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَإِسْحَقُ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ كِلاهُمَا، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظِبْيَانَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - وَهَذَا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ - قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَرِيَّةٍ فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلاً فَقَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَقَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ ؟» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! ــــــــــــــــــ
وكندة وبهراء لا ترجع إحداهما إلى الأخرى، وإنما تجتمع في حمير لمن جعل قضاعة منها، أو فيما فوق ذلك لمن نسب قضاعة من معد.
وذكر ثابت عن موسى بن هارون:" كان المقداد كنديا، حليفا لبني زهرة "، وهذا وهم صريح ؛ إذ جعل أصل نسبه من كندة، ولعله مع كونه بهرانيا صليبة، كنديا بالحلف أو بالجوار.
وأما قول موسى بن هارون فيه: " حليفًا لبني زهرة "،[ وكذلك جاء في حديث هند بن الحارث في "البخاري ](1)"، فقد ذكرنا سبب نسبه لزهرة(2) [أنه بتبني(3) الأسود بن عبد يغوث، لكن ذكر ابن إسحق وأبو عمر بن عبدالبر أنه خالفه أيضًا، وإنما](4) الكندي حقيقة من الصحابة : المقدام - بالميم - ابن معدي كرب، وهو أبو كريمة.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(2) في (ط) زيادة:" أيضًا ".
(3) في (أ):" تبناه ".
(4) مابين المعكوفين بعضه لم يظهر في (ط) بسبب التصوير وباقيه ساقط.(1/341)
وقوله:" فلما أهويت لأقتله "، قال الخليل: " أهوى إليه بيده(1)"، وقال أبوبكر ابن القوطية:" هوى إليه بالسيف والشيء هويا، وأهويته(2) أي أملته"، وقال أبو زيد: " الإهواء: التناول باليد والضرب ".
وقوله في سنده:" نا إسحق بن إبراهيم وعبد بن حميد قالا: أنا عبدالرزاق أنا معمر، ونا إسحق بن موسى الأنصاري، أنا الوليد
إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلاحِ، قَالَ:« أَفَلا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لا »، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: فَقَالَ سَعْدٌ: وَأَنَا وَاللَّهِ لا أَقْتُلُ مُسْلِمًا حَتَّى يَقْتُلَهُ ذُو الْبُطَيْنِ يَعْنِي أُسَامَةَ. قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ:{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونُ فِتْنَةٌ.
ــــــــــــــــــ
عن الأوزاعي، ونا محمد(3) بن رافع، نا عبدالرزاق أنا ابن جريج، جميعًا عن الزهري ".
لم يقع هذا السند عند(4) ابن ماهان، قال أبو مسعود الدمشقي:" هذا ليس بمعروف عن الوليد بهذا الإسناد، عن عطاء بن يزيد عن عبيد الله، وفيه خلاف على الوليد وعلى الأوزاعي ".
__________
(1) قوله:" بيده " لم تظهر في (ط).
(2) في (ط):" وأهويت ".
(3) في (ح):" عبد " بدل:" محمد".
(4) في (ط):" عن ".(1/342)
وبين الدارقطني في كتاب العلل الخلاف فيه، وذكر أن الأوزاعي يرويه عن إبراهيم بن مرة، واختلف عنه: فرواه أبو إسحق الفزازي، ومحمد بن شعيب، ومحمد بن حمير(1)، والوليد بن مزيد(2)، عن الأوزاعي، عن إبراهيم بن مرة، عن الزهري، عن عبيدالله بن الخيار، عن المقداد(3)، ولم(4) يذكروا فيه عطاء بن يزيد.
واختلف عن الوليد بن مسلم، فرواه أبو الوليد القرشي، عن الوليد، عن الأوزاعي والليث بن سعد، عن الزهري، عن عبيدالله بن عدي، عن المقداد، لم يذكر فيه عطاء بن يزيد، وأسقط إبراهيم بن مرة.
159 - حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ، حَدَّثَنَا أَبُو ظِبْيَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ يُحَدِّثُ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ رَجُلاً مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَكَفَّ عَنْهُ الأنْصَارِيَّ، وَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ لِي: « يَا أُسَامَةُ ! أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ؟» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا، قَالَ: فَقَالَ:« أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ » قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
ــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" جبير ".
(2) في (ح):" مرثد ".
(3) في (ح):" المقدام ".
(4) في (ح) (ط):" لم ".(1/343)
وخالفه عيسى بن مساور، فرواه عن الوليد، عن الأوزاعي، عن حميد بن عبدالرحمن، عن عبيدالله بن عدي، عن المقداد، لم يذكر فيه إبراهيم بن مرة، وجعل مكان عطاء بن يزيد حميد بن عبدالرحمن.
ورواه الفريابي عن الأوزاعي عن إبراهيم بن مرة عن الزهري مرسلاً عن المقداد.
قال أبو علي الجياني:" والصحيح في إسناد هذا الحديث ما ذكر مسلم أولاً من رواية الليث ومعمر ويونس وابن جريج، وتابعهم صالح بن كيسان".
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لأسامة:" أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله ؟ ".
قال الإمام:" لم يذكر فيه قصاصا ولا عقلا، فيحتمل أن يكون إنما أسقط ذلك عنه ؛ لأنه متأول، ويكون ذلك حجة في إسقاط العقل - على إحدى الروايتين عندنا - في خطإ الإمام ومن أذن له في شيء فأتلفه غلطًا، كالأجير والخاتن ".(1/344)
160 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ خِرَاشٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ أَنَّ خَالِدًا الأثْبَجَ ابْنَ أَخِي صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ حَدَّثَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ ؛ أَنَّهُ حَدَّثَ ؛ أَنَّ جُنْدَبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ بَعَثَ إِلَى عَسْعَسِ بْنِ سَلامَةَ زَمَنَ فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: اجْمَعْ لِي نَفَرًا مِنْ إِخْوَانِكَ حَتَّى أُحَدِّثَهُمْ، فَبَعَثَ رَسُولاً إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا جَاءَ جُنْدَبٌ وَعَلَيْهِ بُرْنُسٌ أَصْفَرُ، فَقَالَ: تَحَدَّثُوا بِمَا كُنْتُمْ تَحَدَّثُونَ بِهِ حَتَّى دَارَ الْحَدِيثُ، فَلَمَّا دَارَ الْحَدِيثُ إِلَيْهِ حَسَرَ الْبُرْنُسَ عَنْ رَأْسِهِ فَقَالَ: إِنِّي أَتَيْتُكُمْ وَلا أُرِيدُ أَنْ أُخْبِرَكُمْ عَنْ نَبِيِّكُمْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ بَعْثًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنَّهُمُ الْتَقَوْا، فَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِذَا شَاءَ أَنْ يَقْصِدَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَصَدَ لَهُ فَقَتَلَهُ، وَإِنَّ رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَصَدَ غَفْلَتَهُ، ــــــــــــــــــ(1/345)
قال القاضي: لا امتراء أن أسامة إنما قتله متأولاً وظانًا أن الشهادة عند معاينة القتل لا تنفع، كما لا تنفع عند حضور الموت، ولم(1) يعلم بعد حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه، ألا تراه كيف قال:" إنما قالها(2) متعوذًا " فحكمه حكم الخاطئ، فسقوط القصاص عنه بين، وأما سقوط الدية فلكونه من العدو، ولعله لم يكن له ولي من(3) المسلمين تكون له ديته، كما قال تعالى:{ وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة }، فلم يجعل عليه قصاصا ولا دية سوى الكفارة،وهذا مذهب ابن عباس وجماعة في الآية أنها في المؤمن يقتل خطأ وقومه كفار، فليس على قاتله سوى الكفارة.
قَالَ: وَكُنَّا نُحَدَّثُ: أَنَّهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَلَمَّا رَفَعَ عَلَيْهِ السَّيْفَ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَقَتَلَهُ، فَجَاءَ الْبَشِيرُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ، حَتَّى أَخْبَرَهُ خَبَرَ الرَّجُلِ كَيْفَ صَنَعَ، فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ:« لِمَ قَتَلْتَهُ ؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَوْجَعَ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَقَتَلَ فُلانًا وَفُلانًا، وَسَمَّى لَهُ نَفَرًا، وَإِنِّي حَمَلْتُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى السَّيْفَ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَقَتَلْتَهُ ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ:« فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ »، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ:« وَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » قَالَ: فَجَعَلَ لا يَزِيدُهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ:« كَيْفَ تَصْنَعُ بِلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ».
ــــــــــــــــــ
__________
(1) في حاشية (ح):"ولا "، وكتب فوقها:"صح، خ".
(2) في (ط):" قاله ".
(3) في (ط):" في ".(1/346)
وذهب بعضهم إلى أنها فيمن أولياؤه معاهدون، وذكر عن مالك، والمشهور عنه أنها فيمن لم يهاجر من المسلمين، لقوله تعالى:{ ما لكم من ولايتهم من شيء }.
فيكون هذا الحديث ومثله حجة لهذه المقالات، أو يكون قتله هذا لم يعلم إلا(1) بقول أسامة، والعاقلة لا تحمل اعترافًا، ولم يكن عند أسامة مال تكون فيه ديته أو يكون قد تحقق النبي - صلى الله عليه وسلم - بوحي الله أن المقتول لم يقل " لا إله إلا الله " مخلصًا، بل قالها معتصمًا بها من القتل، غير معتقد لها، فكان كافرا في الباطن، لكن شدد النبي - صلى الله عليه وسلم - على أسامة الأمر وعظمه عليه، لئلا يواقعه(2) ثانية في قائلها عن صحة وحقيقة، وممن(3) يكتم إيمانه، كما قال للمقداد، فلهذا كان أسامة بعد لا يقاتل مسلمًا وحلف على ذلك، ولهذا قعد عن نصرة علي - رضي الله عنه -، ولهذا قال سعد - وهو ابن أبي وقاص - في الحديث:" فأنا لا أقاتل حتى يقاتل ذو البطين " يعني أسامة، وقيل له ذو
161 - حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالا:حَدَّثَنَا يَحْيَى - وَهُوَ الْقَطَّانُ -،ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ كُلُّهُمْ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ح، وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى - وَاللَّفْظُ لَهُ - قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا ».
__________
(1) في (أ):" ولا ".
(2) في (ح):" يوافقه ".
(3) في (ح):" ومن ".(1/347)
162 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ قَالا: حَدَّثَنَا مُصْعَبٌ - وَهُوَ ابْنُ الْمِقْدَامِ -، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« مَنْ سَلَّ عَلَيْنَا السَّيْفَ فَلَيْسَ مِنَّا ».
163 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَرَّادٍ الأشْعَرِيُّ، وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا ».
ــــــــــــــــــ
البطين - مصغرا - لأنه كان له بطن، قال ابن ماكولا:" أسامة بن زيد، يقال له ذو البطين ".
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:"أفلا شققت عن قلبه " دليل على حمل الناس على الظواهر ؛ لأن البواطن لا يوصل إليها، ولا يعلم ما فيها إلا علام السرائر،[ لا إله إلا هو](1).
وذكر الشق(2) هنا تنبيه على ذلك، وكناية عن امتناع الاطلاع ؛ إذ لا يوصل إلى ذلك وإن شق.
واقتداء سعد بن أبي وقاص في هذا بأسامة، ومذهبهما في ذلك، بسطناه مع مذاهب غيرهما في كتاب الفتن، آخر الكتاب.
وقوله(3) - صلى الله عليه وسلم -:" ليس منا(4) من حمل علينا السلاح "، ومن فعل كذا فليس منا.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).
(2) في (ط) كلمة تشبه أن تكون:" السو ".
(3) في (أ):" قوله " بدون واو.
(4) قوله:" ليس منا " ليس في (ح).(1/348)
164 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ، ح، حَدَّثَنَا أَبُو الأحْوَصِ مُحَمَّدُ بْنُ حَيَّانَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ كِلاهُمَا، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا ».
وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ وَابْنُ حُجْرٍ جَمِيعًا، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْعَلاءُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً، فَقَالَ:« مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ ؟» قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ:« أَفَلا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي ».
ــــــــــــــــــ
قال الإمام:" لا حجة فيه لمن يقول إن العاصي خرج من الإيمان؛ لأنه يحتمل أن يكون أراد من فعل ذلك مستحلا له، أو " ليس منا " بمعنى: ليس بمتبع هدينا ولا سنتنا، كما يقول القائل لولده: لست مني، إذا سلك غير أسلوبه.
قال القاضي: تقدم بيانه صدر في(1) الكتاب.
والإشارة بحمل السلاح علينا، أي على المسلمين لقتالهم.
ودعوى الجاهلية في هذا الحديث هي النياحة، وندبة الميت والدعاء بالويل وشبهه، وقد ذكرناه،[ وقد يحتمل دعوى الجاهلية قولهم مال فلان للعصبية كما جاء مفسرًا في غير هذا الحديث لكنه هنا بمعنى(2) الأول أظهر لما قارنه](3).
__________
(1) قوله:" في " ليس في (أ) و(ط).
(2) في (ط):" بالمعنى ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).(1/349)
165 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ،ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَوَكِيعٌ،ح، وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي جَمِيعًا، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، أَوْ شَقَّ الْجُيُوبَ، أَوْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ ».
هَذَا حَدِيثُ يَحْيَى، وَأَمَّا ابْنُ نُمَيْرٍ وَأَبُو بَكْرٍ فَقَالا:"وَشَقَّ وَدَعَا "، بِغَيْرِ أَلِفٍ.
166 - وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ،ح، وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ قَالا: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ جَمِيعًا، عَنِ الأعْمَشِ بِهَذَا الإسْنَادِ، وَقَالا: وَشَقَّ وَدَعَا.
ــــــــــــــــــ
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" أنا بريء من الصالقة والحالقة والشاقة "، وفي الحديث الآخر: "ممن حلق أو صلق أو خرق(1)".
قال الإمام:" قال أبو عبيد: الصالقة بالصاد والسين، والسلق هو الصوت الشديد ،من قوله تعالى:" سلقوكم بألسنة حداد "، قال الهروي:" فالصالقة التي ترفع صوتها في المصيبات، والحالقة التي تحلق رأسها(2) عند المصيبات(3)، قال غيره:" الشاقة التي تشق ثوبها في تلك الحال، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر:" ليس منا من شق الجيوب ".
قال القاضي: ويبين تفسير الصالقة قوله في نفس الحديث:" فأقبلت امرأة تصيح برنة "، فقال لها هذا الكلام، وهو معنى " دعوى الجاهلية " في الحديث الآخر.
__________
(1) في (ح):" أنا بريء ممن حلق وصلق وخرق ".
(2) في (أ):" شعرها "، وفي (ح):" شعر رأسها ".
(3) في (ط):" المصائب ".(1/350)
167 - حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى الْقَنْطَرِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ ؛ أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُخَيْمِرَةَ حَدَّثَهُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى قَالَ: وَجِعَ أَبُو مُوسَى?وَجَعًا، فَغُشِيَ عَلَيْهِ وَرَأْسُهُ فِي حَجْرِ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِهِ، فَصَاحَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْئًا، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: أَنَا بَرِيءٌ مِمَّا بَرِئَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَرِئَ مِنَ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَإِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالا: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا صَخْرَةَ يَذْكُرُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، وَأَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى قَالا: أُغْمِيَ?عَلَى أَبِي مُوسَى، وَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ أُمُّ عَبْدِاللَّهِ تَصِيحُ بِرَنَّةٍ، قَالا: ثُمَّ أَفَاقَ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمِي - وَكَانَ يُحَدِّثُهَا -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ حَلَقَ وَسَلَقَ وَخَرَقَ ».
ــــــــــــــــــ
قال(1) أبو زيد:" الصلق، الولولة بالصوت الشديد "، وذكر عن ابن الأعرابي أنه ضرب الوجه، فإذا كان على هذا فيفسره إذن الحديث الآخر: " ليس منا من ضرب الخدود "، يريد عند المصيبة.
وقوله:" أنا بريء "، أي من تصويب فعلهن، أو مما يستوجبن عليه من العقوبة، أو من عهدة ما لزمني من بيانه عليهن وتعريفهن ما فيه من الإثم.
وأصل البراءة: الانفصال والبينونة، ومنه بارأ الرجل امرأته إذا فارقها.
__________
(1) في (ح):" وقال ".(1/351)
وقوله في سنده: " حدثني الحسن بن علي الحلواني، نا عبدالصمد أنا شعبة "، قال أبو الحسن الدارقطني:" أصحاب شعبة يخالفون عبدالصمد ويروونه عن شعبة موقوفًا، لم يرفعه عنه غير عبدالصمد ".
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عِيَاضٍ الأشْعَرِيِّ، عَنِ امْرَأَةِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -.ح، وَحَدَّثَنِيهِ حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا دَاوُدُ - يَعْنِي ابْنَ أَبِي هِنْدٍ-، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ح، وَحَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُالصَّمَدِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِهَذَا الْحَدِيثِ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ عِيَاضٍ الأشْعَرِيِّ قَالَ:" لَيْسَ مِنَّا "، وَلَمْ يَقُلْ:" بَرِيءٌ ".
168 - وَحَدَّثَنِي شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ قَالا: حَدَّثَنَا مَهْدِيٌّ - وَهُوَ ابْنُ مَيْمُونٍ -، حَدَّثَنَا وَاصِلٌ الأحْدَبُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ ؛ أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ رَجُلاً يَنُمُّ الْحَدِيثَ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ ».(1/352)
169 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، وَإِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَنْقُلُ الْحَدِيثَ إِلَى الأمِيرِ، فَكُنَّا جُلُوسًا فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ الْقَوْمُ: هَذَا مِمَّنْ يَنْقُلُ الْحَدِيثَ إِلَى الأمِيرِ، قَالَ: فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْنَا، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ ».
ــــــــــــــــــ
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" لا يدخل الجنة قتات "، وفي الحديث الآخر:"نمام"، وهو تفسير " قتات "، وأصله من تقتت الحديث إذا سمعته(1)، وتقتت الشيء: جمعته، وكذلك فعل النمام.
170 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَوَكِيعٌ، عَنِ الأعْمَشِ،ح، وَحَدَّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ - وَاللَّفْظُ لَهُ-، أَخْبَرَنَا ابْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ حُذَيْفَةَ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ رَجُلٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْنَا، فَقِيلَ لِحُذَيْفَةَ: إِنَّ هَذَا يَرْفَعُ إِلَى السُّلْطَانِ أَشْيَاءَ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ إِرَادَةَ أَنْ يُسْمِعَهُ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ ».
__________
(1) في (ط):" تسمعته ".(1/353)
171 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ »، قَالَ فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَلاثَ مِرَارًا، قَالَ أَبُو ذَرٍّ:خَابُوا وَخَسِرُوا مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:« الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ ».
ــــــــــــــــــ
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم..." الحديث.
هذا مثل قوله تعالى: " إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلاً..." الآية، معنى " لا يكلمهم الله " أي بكلام أهل الخير وإظهار الرضا والبر، بل بكلام أهل السخط والغضب، وقيل: لا يسمعهم كلامه بغير سفير، وقيل: معنى ذلك الإعراض والغضب، وهو معنى:" لا ينظر إليهم "، ونظر(1) الله تعالى لعباده: رحمته لهم وعطفه عليهم.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" ولا يزكيهم "، قال الزجاج:" لا يثني عليهم(2)، ومن لم يثن عليه خيرا عذبه "، وقيل: لا يطهرهم من خبيث(3) أعمالهم لعظم جرمهم ؛
__________
(1) في (ح):" فنظر ".
(2) في (ح):" عليهم خيرًا ".
(3) في (ح) و(ط):" خبث ".(1/354)
وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلادٍ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى - وَهُوَ الْقَطَّانُ -، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الأعْمَشُ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْمَنَّانُ الَّذِي لا يُعْطِي شَيْئًا إِلا مَنَّهُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْفَاجِرِ، وَالْمُسْبِلُ إِزَارَهُ ».
وَحَدَّثَنِيهِ بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ يَعْنِي ابْنَ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بِهَذَا الإسْنَادِ. وَقَالَ:« ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ».
ــــــــــــــــــ
لأن ذنوبهم جمعت ذنوبا كثيرة.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" المسبل إزاره "، أي المرخي له، الجار طرفه خيلاء، كما جاء مفسرا في الحديث الآخر:" لا ينظر الله إلى من يجر ثوبه بطرًا، وفي آخر: "إزاره خيلاء "، والخيلاء: " الكبر، وقد تقدم قول من قال: إنه لا يكون إلا مع جر الإزار، قال الله تعالى:{ والله(1) لا يحب كل مختار فخور }، وتخصيص جره على وجه الخيلاء، يدل أن من(2) جره لغير ذلك فليس(3) بداخل تحت الوعيد، وقد رخص في ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - (4) لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، وقال: لست منهم ؛ إذ كان جره إياه لغير الخيلاء، بل لأنه كان لا يثبت على عاتقه.
قال الطبري وغيره:" وخص الإزار ؛ لأنه كان عامة اللباس، وحكم غيره من القمص وغيرها حكمه ".
__________
(1) في (ح):" إن الله ".
(2) في (ح):" أنه من ".
(3) في (ح):" ليس ".
(4) في (ح):" وقد رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ".(1/355)
قال القاضي(1): وأما على ما جاء في الحديث الآخر:" ثوبه " فهو عام، وقد ورد مفسرا في كتاب أبي داود في حديث فذكر فيه الإزار والقميص والعمامة.
172 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ - قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ -: وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ ».
ــــــــــــــــــ
وقوله: " والمنان " وفسره في الحديث أنه " الذي لا يعطي شيئًا إلا منه"، قال تعالى:" يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى "، وقد ورد في حديث آخر:" البخيل المنان "، فقد جمع البخل المذموم، لا سيما إن كان بالواجبات، ثم المن بالقليل الذي يسمح به، وأذى من وصله به واستكثاره واستطالته عليه، وفي نفس المنّ البخلُ ؛ لأنه لا يمن إلا بما عظم في نفسه إخراجه عن يده، وشحه عليه عظمه عنده، والجواد لا يعظم عنده شيء مما يمنحه، ولا يذكره ولا يمن به.
وقيل: إن المن هنا بمعنى القطع والنقص، فيوافق معنى البخيل الذي لا يعطي الحقوق من ماله وينقصها ويقطع رحمه، وهو أحد التأويلين في قوله عز وجل:" فلهم أجر غير ممنون "، أي غير منقوص ولا مقطوع، والأظهر الأول، لقول - صلى الله عليه وسلم -:" لا يعطي شيئًا إلا منه ".
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " والمنفق سلعته بالحلف الفاجر "، وفي الرواية الأخرى:" الكاذب "، وهو تفسير الفاجر، وقد جمعت الاستخفاف بحق الله تعالى والكذب فيما يحلف(2) عليه، وأخذ مال الآخر بغير حقه، وغروره إياه بيمينه.
__________
(1) قوله:" القاضي " ليس في (ط).
(2) في (ح) و(ط):" حلف ".(1/356)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر في تفسير الثلاثة:" شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر ".
173 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - وَهَذَا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« ثَلاثٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالْفَلاةِ يَمْنَعُهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلاً بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ لَهُ بِاللَّهِ لأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لا يُبَايِعُهُ إِلا لِدُنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وَفَى، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ ».
ــــــــــــــــــ
خص هؤلاء الثلاثة بأليم العذاب وعقوبة الإبعاد ؛ لالتزام كل واحد منهم المعصية التي ذكر على بعدها منه، وعدم ضرورته إليها، وضعف دواعيها عنده، وإن كان لا يعذر أحد بذنب ولا في معصية الله تعالى، لكن لما لم تدعهم إلى هذه المعاصي ضرائر مزعجة، ولا دواعي معتادة، ولا حملتهم عليها(1) أسباب لازمة أشبه إقدامهم عليها المعاندة والاستخفاف بحق المعبود محضًا، وقصد معصيته لا لغير معصية.
__________
(1) في (ح):" عليه ".(1/357)
فإن الشيخ مع كمال عقله وإعذار الله له في عمره وكثرة معرفته بطول ما مر عليه من زمنه، وضعف أسباب الجماع والشهوة للنساء واختلال دواعيه لذلك وبرد مزاجه، وإخلاق جديده، عنده(1) من ذلك ما يريحه من دواعي الحلال في هذا الباب من ذاته ويخلي سره منه بطبيعته، فكيف بالزنا الحرام ؛ إذ دواعي ذلك الكبرى: الشباب، وحرارة الغريزة، وقلة المعرفة، وغلبة الشهوة بضعف العقل وصغر السن.
وكذلك الإمام لا يخشى من أحد من رعيته، ولا يحتاج إلى مداهنته(2)
وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ،ح، وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأشْعَثِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْثَرٌ كِلاهُمَا، عَنِ الأعْمَشِ بِهَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ:" وَرَجُلٌ سَاوَمَ رَجُلاً بِسِلْعَةٍ ".
174 - وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أُرَاهُ مَرْفُوعًا قَالَ:« ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بَعْدَ صَلاةِ الْعَصْرِ عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ فَاقْتَطَعَهُ …» وَبَاقِي حَدِيثِهِ نَحْوُ حَدِيثِ الأعْمَشِ.
ــــــــــــــــــ
ومصانعته(3)؛ إذ إنما يداهن(4) الإنسان ويصانع بالكذب وشبهه من يحذره، ويخشى معاقبته(5) أو أذاه أو معاتبته، أو يطلب عنده بذلك منزلة أو منفعة، فهو غني عن الكذب(6) جملة.
__________
(1) في (ح):" وعنده ".
(2) في (ح):" مداهنة ".
(3) في (ح):" مصانعة ".
(4) في (ط):" يدافع ".
(5) في (ح):" منه قننه ".
(6) في (ح):" عن ذلك "، في حاشيتها:"عن الكذب "، وكتب فوقها:"صح، خ".(1/358)
وكذلك العائل الفقير قد عدم بعدمه المال ولعاعة الدنيا سبب الفخر والخيلاء والاستكبار على القرناء ؛ إذ إنما يكون ذلك بأسباب الدنيا والظهور فيها، وحاجات أهلها إليه، فإذا لم تكن(1) عنده أسبابها فلماذا يستكبر ويستحقر غيره ؟ فلم يبق إلا أن في استكبار هذا وكذب الثاني وزنا الثالث ضربًا(2) من الاستخفاف بحق الله تعالى، ومعاندة نواهيه وأوامره(3)، وقلة الخوف من وعيده، إذ لم يبق ثم حامل لهم على هذا سواه مع سبق القدر لهم بالشقاء.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر في تفسيرهم:" رجل(4) له فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل... "، وذكر معنى المنفق سلعته(5) بالحلف، وذكر فيه "بعد صلاة العصر "، " ورجل بايع إمامًا لا يبايعه إلا لدنيا " الحديث.
175 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ الأشَجُّ قَالا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ ؛ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ».
ــــــــــــــــــ
فأما مانع الماء من ابن السبيل فلأنه منعه حقه وما ليس بملك للمانع، وعرضه للتلف فأشبه قاتله، ولهذا رأى مالك إقادته به إن هلك، وتقدم عظيم إثم الحالف الموصوف.
__________
(1) في (ح):" يكن ".
(2) في (ح):" ضرب ".
(3) في (ح):" أوامره ونواهيه ".
(4) في (أ):" ورجل ".
(5) في (ح):" لسلعته ".(1/359)
وقوله:" بعد العصر "؛ لشدة(1) الأمر فيها، وحضور ملائكة الليل والنهار عندها، وشهادتهم على مجاهرته ربه بيمينه واستخفافه عظيم حقه، [ وقيل بعد العصر يكون قيام الأسواق غالبًا، فذكره كذلك ](2).
وأما مبايع الإمام الموصوف فلغشه المسلمين وإمامهم، وتسبيبه الفتن عليهم بنكثه بيعته ولنقضه عهود ربه عز وجل المأخوذة عليه، وغروره من نفسه، لا سيما إن كان ممن يتبع ويقتدى به، ويظن أنه بايع ديانة ونظرًا للمسلمين، وهو بضد ذلك.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا..." الحديث، وذكر فيه من شرب سمًا، ومن(3) تردى من جبل، ومن ذبح نفسه.
معنى(4)" يتوجأ "، أي يطعن ويدفع، وهو مهموز ويسهل أيضًا.
وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ،ح، وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأشْعَثِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْثَرٌ ح و حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ كُلُّهُمْ بِهَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ. وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ ذَكْوَانَ.
ــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" لشدة عظيم ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (ح) و(ط).
(3) في (أ):" أو ".
(4) في (ح):" ومعنى ".(1/360)
وقوله فيه:" خالدًا مخلدًا "، لمن فعل ذلك مستحلاًّ، أو خلود طول إقامة لا خلود دوام وتأبيد، ويدخل فيها من التأويلات ما يدخل آية قاتل النفس، وقد يقال في أدعية الملوك:" خلد الله ملكك وأبد أيامك "، أي أطالها، وشرح هذه الألفاظ ما وقع مجملاً في الحديث الآخر: " من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة "، وفيه دليل لمالك رحمه الله ومن قال بقوله على أن القصاص من القاتل بما قتل به، محدَّدًا كان أو غير محدَّد، خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله، اقتداء بعقاب الله تعالى لقاتل نفسه في الآخرة، وبحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليهودي الذي رض رأس الجارية بين حجرين، فأمر برض رأسه بين حجرين، وبحكمه - صلى الله عليه وسلم - في العُرنيين ؛ ولأن العقوبات والحدود وضعت للزجر ومقابلة الفعل بالفعل، والتغليظ على أهل الاعتداء(1) والشر.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - فيمن حلف على(2) يمين بملة غير الإسلام(3) كاذبًا - زاد شعبة(4): متعمدًا -:"فهو كما قال "، قيل معناه: فهو كاذب في يمينه، وزيادة شعبة(3) في الحديث(5)" متعمدا " حسنة(6)، فإن(7) كان المتعمد للحلف بها قلبه مطمئن بالإيمان فهو كاذب فيما حلف عليه، كاذب في تعظيم ما لا يعتقد تعظيمه، وإن كان قوله " متعمدًا " أي لتعظيمها واعتقاد اليمين بها لكونها حقا فهو كافر كما اعتقد فيها وقاله في الحلف بها.
__________
(1) في (ط):" الاعداء ".
(2) قوله:" على " ليس في (ط).
(3) في حاشية (ح):"بغير ملة الإسلام"، وكتب فوقها:"صح، خ".
(4) في (أ):" سفيان ".
(5) في (أ):" هذا الحديث ".
(6) في (ط):" حسن ".
(7) في (ح):" وأن ".(1/361)
176 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلامِ بْنِ أَبِي سَلامٍ الدِّمَشْقِيُّ، عَنْ يَحْيَى ابْنِ أَبِي كَثِيرٍ أَنَّ أَبَا قِلابَةَ، أَخْبَرَهُ: أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الضَّحَّاكِ أَخْبَرَهُ ؛ أَنَّهُ بَايَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإِسْلامِ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِي شَيْءٍ لا يَمْلِكُهُ».
ــــــــــــــــــ
وعن ابن المبارك فيما ورد في مثل هذا مما ظاهره تكفير أصحاب الذنوب أن ذلك على طريق التغليظ.
وقد اختلف العلماء في إيجاب الكفارة على من قال: هو يهودي، أو نصراني أو كفر بالله، أو أشرك به، أو هو بريء من الإسلام(1)، وشبه هذا، وأن لا كفارة أصوب، وهو مذهب مالك، ويستحب له أن يفعل من الخير ما يكفر سيئته(2) بقول ذلك، ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -:" من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله "، فلم يجعل عليه كفارة، وأمره بمقابلة ذلك القول السيء، وإتباعه بالقول الحسن فـ" إن الحسنات يذهبن السيئات "، وهي حجتنا في أن لا كفارة في اليمين الغموس، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عظم الخطأ(3) في هذه الأيمان، وشدد الوعيد فيها، ولم يجعل لها كفارة، ولأن الكفارة لحل(4) الأيمان المنعقدة لا لإزالة المأثم، وهذه ليست بأيمان منعقدة.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" ليس على رجل في شيء لا يملكه نذر(5)".
__________
(1) في (أ):" إسلامه ".
(2) في (أ):" سببه"، وفي (ط):" يمينه"، وفي حاشية (ح):" يمينه "، وكتب فوقها:"صح، خ".
(3) في حاشية (ح):"الخطب "، وكتب فوقها:" خ".
(4) في (ط):" تحل ".
(5) في (ط):" نذر في شيء لا يملك ".(1/362)
قال الإمام:" يحتج به المخالف على أن من حلف بصدقة ما يملك، أو عتق ما يملك في المستقبل، أو طلاق من(1) يتزوج لا يلزم وإن خص، وهذا عندنا محمول على أنه أراد ألا صدقة فيما هو ملك للغير الآن، ليس على أنه حَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاذٌ وَهُوَ ابْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ يَحْيَى ابْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو قِلابَةَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« لَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِيمَا لا يَمْلِكُ، وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنِ ادَّعَى دَعْوَى كَاذِبَةً لِيَتَكَثَّرَ بِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إِلا قِلَّةً، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ فَاجِرَةٍ ».
ــــــــــــــــــ
بعد(2) مصيره إليه، ونحن إنما ألزمناه فيه ما يحقه(3) على نفسه بعد أن صار ملكا له فلم يقع في الحقيقة طلاقه وصدقته إلا فيما ملك، وهذه المسائل يتسع الكلام فيها وليس هذا موضع بسطه ".
قال القاضي: أما من حلف بصدقة مال غيره، أو طلاق امرأة ليست بزوجته، أو عتق عبد غيره، دون تعلق بشرط فلا خلاف بين العلماء أنه لا يلزمه شيء إلا شيء حكي عن ابن أبي ليلى في العتق: إذا كان موسرًا أعتقوا عليه، ثم رجع عنه.
وإنما اختلفوا إذا علق اليمين بملكه، فلم يلزمه الشافعي وأصحابه شيئًا مما حلف عليه، وألزمه أبو حنيفة كل شيء حلف عليه خص أو عم، ووافقه مالك في المشهور عنه إذا خص، وخالفه إذا عم وأدخل على نفسه الحرج(4)، وله قول كقول الشافعي.
__________
(1) في (أ):" ما ".
(2) في (أ):" تعمد ".
(3) في حاشية (ح):"ما عقد "، وكتب فوقها:"صح، خ".
(4) في (ح):" وخالفه مالك رحمه الله إذا عم وأدخل على نفسه الحرج ووافقه في المشهور عنه إذا خص ".(1/363)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" لعن المؤمن كقتله "، كذا هو في الحديث عند مسلم.
قال الإمام:" الظاهر من الحديث بشبيهه في الإثم، وهو بشبيه واقع ؛ لأن اللعنة قطع عن الرحمة، والموت قطع عن التصرف ".
177 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، كُلُّهُمْ عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ الأنْصَارِيِّ،ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:« مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ سِوَى الإِسْلامِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهْوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عَذَّبَهُ اللَّهُ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ». هَذَا حَدِيثُ سُفْيَانَ، وَأَمَّا شُعْبَةُ فَحَدِيثُهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ سِوَى الإِسْلامِ كَاذِبًا فَهْوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ ذَبَحَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ ذُبِحَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ».
ــــــــــــــــــ
قال القاضي: قيل: لعنه(1) له يقتضي(2) قصده إخراجه من جماعة المسلمين، ومنعهم منافعه وتكثير عددهم به، كما لو قتله.
وقيل: لعنه يقتضي قطع منافعه الأخروية عنه، وبعده منها بإجابته
لعنته في الدنيا(3)، فهو كمن قتل في الدنيا وقطعت عنه منافعه فيها.
وقيل: معناه استواؤهما في التحريم.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله بها إلا قلة ".
__________
(1) في (ح):" لعنته ".
(2) في (ح):" تقتضي ".
(3) قوله:" في الدنيا " ليس في (ح) و(ط).(1/364)
قال القاضي: " هذا عام في كل دعوى يتشبع بها المرء بما لم يعط، من مال يحتال في التجمل به من غيره، أو نسب ينتمي(1) إليه ليس من جذمه، أو علم يتحلى(2) به ليس من حملته، أو دين يرائي به ليس من أهله، فقد أعلم النبي(3) - صلى الله عليه وسلم - أنه غير مبارك له في دعواه ولا زاك ما اكتسبه بها.
......................................................................
ــــــــــــــــــ
ومثله في(4) الحديث الآخر:" اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب".
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" من حلف على يمين صبر فاجرة ".
قال الإمام:" أصل الصبر الحبس والإمساك، يقال: صبر فلان فلانًا إذا حبسه، وكل من حبسته لقتل أو يمين فهو قتل صبر ويمين صبر، وأصبره الحاكم على اليمين(5) أكرهه على يمين صبر، قاله(6) الهروي وغيره، وقال أبو العباس: " الصبر ثلاثة أشياء: الإكراه، ومنه أصبره الحاكم، والحبس، ومنه صبرته إذا حبسته، والجرأة، ومنه قوله تعالى:" فما أصبرهم على النار ".
قال القاضي: يمين الصبر هي التي يصبر صاحبها، أي يحبس ويكره حتى يحلفها، وقد يكون من معنى الجرأة والإقدام عليها، كما قال ثعلب ومعنى فاجرة، أي كاذبة.
[ ولم يأت في الحديث هنا الخبر عن هذا الحالف إلا أن يعطفه على قوله قبل:" ومن ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله بها إلا قلة "، أي وكذلك الحالف اليمين الفاجرة مثل هذا ](7).
وقد ورد معنى هذا الحديث مبينا تاما في حديث آخر:" من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله تعالى وهو عليه غضبان ".
__________
(2) في (ح):" يتخلق "، وفي حاشيتها:"يتحلى "، وكتب فوقها:"صح ".
(3) قوله:" النبي " ليس في (ط).
(4) قوله:" في " ليس في (ط).
(5) في (ح):" اليمين أي "، وفي حاشيتها:"الشيء "، وكتب فوقها:" خ".
(6) في (أ) و(ح):" قال ".
(7) مابين المعكوفين ليس في (ط).(1/365)
ويستدل من هذا الحديث أن الأيمان كلها التي تقتطع بها الحقوق لا تنفع فيها المعاريض والنيات، وإنما هي(1) على نية صاحب الحق المحلوف له، لا على نية الحالف.
178 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ جَمِيعًا، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ قَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حُنَيْنًا فَقَالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ يُدْعَى بِالإِسْلامِ:« هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ »، فَلَمَّا حَضَرْنَا الْقِتَالَ، قَاتَلَ الرَّجُلُ قِتَالاً شَدِيدًا، فَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! الرَّجُلُ الَّذِي قُلْتَ لَهُ آنِفًا: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَإِنَّهُ قَاتَلَ الْيَوْمَ قِتَالاً شَدِيدًا وَقَدْ مَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:« إِلَى النَّارِ »، فَكَادَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرْتَابَ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ، وَلَكِنَّ بِهِ جِرَاحًا شَدِيدًا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْجِرَاحِ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ فَقَالَ:« اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ »، ثُمَّ أَمَرَ بِلالاً فَنَادَى فِي النَّاسِ:« أَنَّهُ لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ ».
ــــــــــــــــــ
__________
(1) ، قوله:" هي " ليس في (ط)، وفي حاشية (ح):"وإنها على "، وكتب فوقها:" خ".(1/366)
قال شيخنا القاضي أبو الوليد(1) رحمه الله:" وهذا مما(2) لا يختلف فيه أنه آثم فاجر في يمينه متى اقتطع بها حق مسلم، واختلف إذا حلف لغيره تبرعا متطوعا أو مستحلفا أو مكرها(3)، فقيل: ذلك كله على نية المحلوف له، وقيل: على نية الحالف، وقيل: للمتطوع نيته بخلاف المستحلف، وقيل بعكسه، وكل هذه الأقوال في مذهبنا ولأئمتنا ".
وقوله في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -:" شهدنا(4) مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حنينًا، كذا وقعت الرواية فيها عن عبدالرزاق في الأم، وقد رواه الذهلي:" خيبر "، وهو الصواب.
وقوله:" لا يدع شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه ](5)".
__________
(1) في حاشية (ح):" ابن رشد "، وكتب فوقها:" أظنه ".
(2) في (ط):" ما ".
(3) قوله:" أو مكروهًا " ليس في (ط).
(4) في (ح):" وشهدنا " بدون واو.
(5) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).(1/367)
179 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ- وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ حَيٌّ مِنَ الْعَرَبِ-، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فَاقْتَتَلُوا، فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى عَسْكَرِهِ، وَمَالَ الأخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ لا يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً إِلا اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ، فَقَالُوا: مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلانٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ »، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَنَا صَاحِبُهُ أَبَدًا، قَالَ: فَخَرَجَ مَعَهُ، كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ، وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ، قَالَ: فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ: الرَّجُلُ الَّذِي ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ، ــــــــــــــــــ
الشاذ: الخارج عن الجماعة، والشاذ: المتفرق أيضًا، والفاذ: الفرد، معناه: لا يخلص منه من خرج وفر(1).
وأنث(2) الكلمة على معنى النسمة(3)، أو تشبيه الخارج بشاذة الغنم وفاذتها.
__________
(1) في (ح):" وقد ".
(2) في (ح):" أتت ".
(3) في حاشية (ح):"النسبة "، وكتب فوقها:" خ".(1/368)
وهو بمعنى أنه متقص(1) للقتل حتى لا يدع أحدًا، على طريق المبالغة، قال(2) ابن الأعرابي: " يقال(3) فلان لا يدع شاذة ولا فاذة إذا كان شجاعًا لا يلقاه أحد إلا قتله ".
وفيه دليل على جواز الإبلاغ والغلو في الكلام، وأن يعبر بالعموم عن(4) الكثرة والغالب، كقوله - صلى الله عليه وسلم -:" لا يضع عصاه عن عاتقه".
وقوله:" ما أجزأ منا اليوم(5) أحد ما أجزأ فلان ".
فَقُلْتُ: أَنَا لَكُمْ بِهِ، فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهِ حَتَّى جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ:« إِنَّ الرَّجُلَ لِيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لِيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ».
ــــــــــــــــــ
قال الإمام:" قال الهروي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تجزي عن أحد بعدك ": لا تقضي، يقال جزى عني، بغير همز "، ومعنى قولهم:" جزاه الله خيرًا "، أي قضاه الله ما أسلف، فإذا كان بمعنى الكفاية قلت: جزأ عني - مهموزًا- وأجزأ(6).
قال أبو عبيد: يقال: جزأت بالشيء واجتزأت، أي اكتفيت، وأنشد:
فإن اللؤم في الأقوام عار وإن المرء يُجْزأ بالكُراع
__________
(1) في (ح):" مقتص "، وفي حاشيتها:" متقص" وعليها "خ".
(2) في (ح):" وقال ".
(3) قوله:" يقال " ليس في (ح).
(4) في (ح):" عن "، وفي حاشيتها:" عن" وعليها "صح،خ".
(5) في (ح):" اليوم منا ".
(6) في حاشية (ح) إشارة إلى زيادة:"فلان ".(1/369)
قال القاضي: كذا روينا هذا الحرف هنا(1) بالهمز، وهو بمعنى الكفاية والغناء، وعن أبي زيد:" هذا الشيء يجزي عن هذا، أي يقوم مقامه، وقد يهمز "، قال الخليل:" جزيت عن كذا: أغنيت عنه، وجزيته: كافيته، وأجزأني(2): كفاني، يقال: جزأت الإبل بالرطب إذا استغنت به عن الماء تجزأ إجزاءً (3)".
وقول الآخر: " أنا صاحبه أبدا "، أي لا أفارقه، وأتتبع(4) أمره حتى أعرف مآله ؛ إذ أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بما دل على سوء عقباه وخاتمته، أو سوء سريرته بكونه من أهل النار، وخبره - صلى الله عليه وسلم - صادق لا شك فيه، وكان ظاهره غير ذلك من نصر الدين وحسن البصيرة فيه، فأراد معرفة السبب الموجب
180 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا الزُّبَيْرِيُّ- وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ -، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ:« إِنَّ رَجُلاً مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ خَرَجَتْ بِهِ قُرْحَةٌ، فَلَمَّا آذَتْهُ انْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَنَكَأَهَا، فَلَمْ يَرْقَأِ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ، قَالَ رَبُّكُمْ: قَدْ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ »، ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَقَالَ: إِي وَاللَّهِ، لَقَدْ حَدَّثَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ جُنْدَبٌ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي هَذَا الْمَسْجِدِ.
__________
(1) قوله:" هنا " ليس في (ح).
(2) في (ح):" وجزأني ".
(3) في (ط):" جزاء ".
(4) في (أ):" أتبع ".(1/370)
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: حَدَّثَنَا جُنْدَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، فَمَا نَسِينَا، وَمَا نَخْشَى أَنْ يَكُونَ جُنْدَبٌ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« خَرَجَ بِرَجُلٍ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ خُرَاجٌ..» فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
ــــــــــــــــــ
لكونه من أهل النار، ليزداد يقينًا وبصيرة، كما فعل وذكر في نفس الحديث وتجديد شهادته بالنبوة.
ودل من مجموع(1) هذا أن الأعمال بخواتيمها، كما أشار إليه - عليه السلام - آخر الحديث، وهذا يرجح هذا التأويل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " حتى ما يبقى بينه وبين الجنة إلا ذراع "، وذكر في النار مثله، على من تأول أن معناه الحيف في الوصية.
وذكر الذراع هنا والشبر تمثيل للقرب(2) وسرعة اللحاق واستعارة لذلك.
ويعقوب بن عبدالرحمن القاري، المذكور في سنده، مشدد الياء منسوب إلى القارة، قبيلة معروفة في العرب.
__________
(1) في (أ):" بمجموع " بدل:" من مجموع ".
(2) في (ح):" القرب ".(1/371)
182 - حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ أَبُو زُمَيْلٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: فُلانٌ شَهِيدٌ، فُلانٌ شَهِيدٌ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا: فُلانٌ شَهِيدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« كَلا إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا، أَوْ عَبَاءَةٍ »، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« يَا ابْنَ الْخَطَّابِ اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاسِ أَنَّهُ لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلا الْمُؤْمِنُونَ »، قَالَ: فَخَرَجْتُ فَنَادَيْتُ أَلا إِنَّهُ لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلا الْمُؤْمِنُونَ.
ــــــــــــــــــ
وقوله:" فنكأها "، يقال: نكأت القرحة، مهموز، أي قشرتها.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - عن ربه تعالى:" حرمت عليه الجنة "، يحتمل أنه كان مستحلاًّ، أو يمنعها حتى(1) يدخلها السابقون والأبرار والناجون وأصحاب اليمين حتى تنفذ فيه مشيئة الله تعالى ويعاقبه بذنبه في نار جهنم، أو يطيل حسابه، أو يحبس في الأعراف.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" في بردة غلها أو عباءة ".
قال الإمام: " قال أبو عبيد:" الغلول الخيانة في المغنم خاصة، يقال منه: غل يغل - بفتح الياء وضم الغين -، وقرئ:" وما كان لنبي أن يَغُلّ "، و "يُغَلّ "، فمن قرأ " يُغَلّ " بضم الياء وفتح الغين(2)، فإنه يحتمل معنيين:
__________
(1) في (أ) و(ط):" حين ".
(2) في (ح):" بفتح الياء وضم الغين ".(1/372)
أن يكون " يُغَلّ ": يُخان، يعني: يؤخذ من غنيمته، ويكون " يُغَل " ينسب إلى الغلول، وقال: لم نسمع أحدا قرأ بكسر الغين ؛ لأن " يغِلّ " بكسر الغين وفتح الياء، من الغِل، وهو الشحناء، ومنه قوله في الحديث 183 - حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدُّؤَلِيِّ، عَنْ سَالِمٍ أَبِي الْغَيْثِ مَوْلَى ابْنِ مُطِيعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،ح، وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ - وَهَذَا حَدِيثُهُ -، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ، عَنْ ثَوْرٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى خَيْبَرَ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْنَا، فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلا وَرِقًا، غَنِمْنَا الْمَتَاعَ وَالطَّعَامَ وَالثِّيَابَ، ثُمَّ انْطَلَقْنَا إِلَى الْوَادِي وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَبْدٌ لَهُ، وَهَبَهُ لَهُ ــــــــــــــــــ
الآخر: " ثلاث(1) لا يغل عليهن قلب مؤمن "، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر: " لا إغلال ولا إسلال "، فالإغلال: الخيانة، والإسلال: السرقة، يقال: رجل مِغَلّ مِسَلّ، أي صاحب خيانة وسرقة ".
قال القاضي: ويقال غل الرجل إذا خان، قال ابن قتيبة: " وأصله من إدخال ما غل على أثناء رجله(2)، ومنه الغَلَل: الماء الذي يجري بين الثمار ".
والبردة كساء مربع أسود فيه صفر، وقيل: هي الشملة المخططة، وهي كساء، يؤتزر به، والعباءة، ممدود: الكساء.
__________
(1) قوله:" ثلاث " ليس في (ط).
(2) في (ح):" رحله ".(1/373)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" إن الشملة لتلتهب عليه نارًا "، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " شراك أو شراكان من نار "، تنبيه على المعاقبة عليهما، وقد تكون المعاقبة بهما أنفسهما، فيعذب بهما ، وهما من نار، وقد يكون ذلك على أنهما سبب لعذاب النار.
وفي هذا الحديث دليل لإحدى الروايتين عن مالك رحمه الله في منع الانتفاع بغير الطعام من المغانم(1)؛ إذ قد يحتمل أخذ هذين الشملة والشراكين(2) للحاجة، أو يقال(3): إنهما أخذاهما(4) لغير حاجة فلا يكون
رَجُلٌ مِنْ جُذَامَ يُدْعَى: رِفَاعَةَ بْنَ زَيْدٍ مِنْ بَنِي الضُّبَيْبِ، فَلَمَّا نَزَلْنَا الْوَادِي قَامَ عَبْدُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَحُلُّ رَحْلَهُ، فَرُمِيَ بِسَهْمٍ فَكَانَ فِيهِ حَتْفُهُ، فَقُلْنَا هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« كَلا، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَارًا، أَخَذَهَا مِنَ الْغَنَائِمِ يَوْمَ خَيْبَرَ، لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ »، قَالَ: فَفَزِعَ النَّاسُ، فَجَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ ».
ــــــــــــــــــ
في ذلك حجة، وهو دليل لفظ الحديث ؛ لأنها أخرجت من الرحل، ولو أخذت للحاجة لاستعملت(5) فيما أخذت له ولم تستر ولم تغل(6)، أو تكون أمسكت بعد أن قضيت منها الحاجة ولم تصرف للمغانم.
__________
(1) في (أ):" الغنائم ".
(2) في (ح):" الشراكين والشملة ".
(3) في (ط):" ويقال " بدل:" أو يقال ".
(4) في (ح):" أخذاها ".
(5) في (ح):" استعملت ".
(6) في (ط):" يغل ".(1/374)
وسمي هذا العبد في الموطأ في هذا الحديث نفسه(1) بسند مالك فيه بعينه: " مدعم "، وكذا سماه أبو عمر بن عبدالبر، وقال غيره: هو غير مدعم، وورد في حديث مثل هذا اسمه: كركرة، ذكره البخاري.
وقوله في هذا الحديث: " إلى خيبر " هو الصواب، وكذا عند أكثر أصحاب الموطأ، وعند بعضهم:" حنين ".
وفي قبول النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الغلام هدية، وقد كرهها في حديث ابن اللتبية(2)، وقال:" هدية الأمراء غلول "، وقبلها أيضًا من المقوقس وغيره،
وفي صفته - صلى الله عليه وسلم - أنه يأكل الهدية، وردها على بعضهم ممن لم يسلم، وقال:" لا نقبل زبد المشركين ".
184 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ جَمِيعًا، عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ حَجَّاجٍ الصَّوَّافِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنْعَةٍ ؟ قَالَ: ــــــــــــــــــ
وقد كرهها بعض أهل العلم للأمراء، وقالوا: هذا كان(3) خاصًّا للنبي(4) - صلى الله عليه وسلم - أن يقبلها من المسلمين والمشركين، ولا يجوز ذلك لغيره.
وأبى بعضهم هذا، وقال: لا يقبلها ممن في عمله، وأما من مشرك فيجوز(5)، ما لم تكن مصانعة على توهين أمر المسلمين وصدهم عن الظهور على العدو فتكون رشوة، وسيأتي بقية الكلام على ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
__________
(1) في (أ):" بنفسه ".
(2) في حاشية (ح):"اللبيبة "، وكتب فوقها:"خ".
(3) في (أ) و(ط):" كان هذا ".
(4) في (ح) و(ط):" بالنبي ".
(5) في (ح):" فتجوز ".(1/375)
ذكر مسلم ثور بن يزيد(1) الدولي - بضم الدال وسكون الواو - وكذا ضبطناه عن أبي بحر، وضبطناه على غيره: " الديلي "، وكذا ذكره مالك في "الموطأ"، والبخاري في التاريخ، وغيرهم، وهو المقول في نسبه.
قال بعض أهل هذا الشأن(2): " الدول " في حنيفة وفي الأزد وفي غيره وفي الرباب، وينسب(3) إلى كل هؤلاء:" دولي " بسكون الواو.
و " الديل " بكسر الدال، في إياد وتغلب وضبة وعبد القيس، وفي الأزد أيضًا، والنسبة إليها كلها: ديلي، بكسر الدال.
واختلف في الذي في كنانة(4) الذي(5) ينسب إليه أبو الأسود الدؤلي(6)، فقيل فيه: " الديلي "، بكسر الدال كما تقدم، والنسب إليه كما تقدم، وهو قول أكثر أهل النسب، وأهل العربية يقولون فيه: "الدئل"، بضم الدال حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَبَى ذَلِكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِلَّذِي ذَخَرَ اللَّهُ لِلأَنْصَارِ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْمَدِينَةِ هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ فَمَرِضَ، فَجَزِعَ فَأَخَذَ مَشَاقِصَ لَهُ فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ، فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ، فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي ــــــــــــــــــ
وهمزة بعدها مكسورة، وينسبون إليه " دؤلي "، بضم الدال وفتح الهمزة، وقال بعضهم: " الدئلي " بضم الدال وكسر الهمزة، وأنكرها النحاة.
وسائر من ينسب إلى هذا البطن، حاشا أبي(7) الأسود، فإنما يقال له: " دِيلِي " أو " دُوِلي "، كالنسبين المتقدمين أولاً، ساكن(8) الأوسط فيهما.
__________
(1) في (أ):" زيد ".
(2) في (أ):" اللسان ".
(3) في (ح):" ونسب ".
(4) في (ح):" كتابه ".
(5) في (أ):" في الذي ".
(6) قوله:" الدؤلي " ليس في (أ) و(ط).
(7) في (ط):" أبوه ".
(8) في (ح):" سكتن ".(1/376)
والذي في الهون بن خزيمة: " دئل "، بضم الدال وكسر الهمزة، بينه محمد بن حبيب وغيره.
وقوله في حديث الطفيل:" هل لك في حصن حصين ومنعة، كذا رويناه بالفتح هنا، أي جماعة تمنعك من عداك، جمع مانع.
قال الخليل:" ويقال أيضًا:" منعة " بالإسكان،،، أي: حال تمنعك(1)، أو في تمنّع على من رمك، أو قوم عندهم منعة لك من عداك.
وذكر أبو حاتم فيه الفتح، قال:" والعامة تسكن النون، ومنهم من يكسر الميم "، قال:" وذلك غلط ".
وقوله:" فكان فيه حتفه "، الحتف: الموت، لم يشتق منه فعل.
وقوله في الذين اجتووا المدينة، قال الإمام: " قال أبو عبيد: "اجتويت البلاد إذا كرهتها وإن كانت موافقة لك(2) في بدنك، واستوبلتها(3) إذا أحببتها وإن لم توافقك في بدنك "، قال الإمام: " ومنه قول ابن دريد:
مَنَامِهِ، فَرَآهُ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ ؟ قَالَ: قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ ؟ فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ ».
ــــــــــــــــــ
في كل يوم منزل مستوبل يشتف ماء مهجتي أو مجتوى "
قال القاضي: أصل الاجتواء استيبال(4) المكان وكراهة المقام به لضر يلحق، وأصله من الجوى، داء يصيب الجوف، قاله الخطابي.
وقوله:" فأخذ مشاقص "، قال الإمام: " المشقص نصل السهم إذا كان طويلا ليس بعريض ".
__________
(1) في (ط):" يمنعك ".
(2) في (ح):" لك موافقة ".
(3) في (ح):" واستوليتها ".
(4) في (ح) و(ط):" استوبال ".(1/377)
وقوله: " فقطع بها براجمه "، قال أبو عبيد في الغريب المصنف: " الرواجب والبراجم جميعًا مفاصل الأصابع كلها "، وقال أبو مالك الأعرابي: في كتاب خلق الإنسان:" الرواجب رؤوس العظام في ظهر الكف، والبراجم المفاصل التي تحتها ".
قال القاضي: قال الخليل: " المشقص سهم فيه نصل عريض "، وغيره يقول: الطويل ليس بالعريض، كما تقدم، وإنما العريض: المعبل، وقطع هذا بها البراجم يشهد لعرضها(1)؛ إذ لا يتأتى الذبح والقطع إلا بالعريض.
وقال الداودي: " هو السكين "، ولم يقل شيئًا.
وقوله:" فشخبت يداه "، أي سال دمها، قال ابن دريد: " كل شيء سال فقد شخب، والشخب،بالضم والفتح، لما(2) خرج من الضرع من اللبن،
185 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَأَبُو عَلْقَمَةَ الْفَرْوِيُّ قَالا: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ رِيحًا مِنَ الْيَمَنِ أَلْيَنَ مِنَ الْحَرِيرِ فَلا تَدَعُ أَحَدًا فِي قَلْبِهِ - قَالَ أَبُو عَلْقَمَةَ -: مِثْقَالُ حَبَّةٍ - وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ -: مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ إِلا قَبَضَتْهُ.
ــــــــــــــــــ
وكأنه الدفعة منه "، وكذلك قالوا في المثل:" شُخْب في الأرض وشُخْب في الإناء "، وكأنه سمي بذلك من صوت وقعته في الإناء.
في هذا الحديث: غفران الله تعالى لهذا قتله نفسه، وفيه دليل لأهل السنة على غفران الذنوب لمن شاء الله تعالى، وشرح للأحاديث قبله الموهم ظاهرها التخليد وتأبيد الوعيد على قاتل نفسه، ورد على الخوارج والمعتزلة.
وفيه: مؤاخذته بذنبه ومعاقبته، وهو رد على المرجئة.
__________
(1) في (ح):" يعرضها ".
(2) في (ط):" ما ".(1/378)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله يبعث ريحا من اليمن..." الحديث. هو(1) بمعنى الحديث الآخر:" لا تقوم الساعة على أحد يقول: الله " أو " لا إله إلا الله"، وسيأتي الكلام عليه.
وقال في سنده: " نا صفوان بن سليم عن عبدالله بن سلمان عن أبيه، كذا في الرواية عندنا.
قال البخاري في باب عبيدالله: " عبيدالله بن سلمان الأغر المدني مولى جهينة، وهو ابن أبي عبدالله، وقيل أصلهم من أصبهان، عن أبيه، روى(2) عنه مالك وابن عجلان وسليمان بن بلال "، قال:" ويقال: عبدالله "، وقال في باب عبدالله:" عبدالله بن سلمان،أخو عبيدالله بن سلمان الأغر
186 - حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ وَقُتَيْبَةُ وَابْنُ حُجْرٍ جَمِيعًا، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْعَلاءُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« بَادِرُوا بِالأعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا ».
__________
(1) في (ط):" هي ".
(2) في (ح):" وروي ".(1/379)
187 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الأيَةُ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } إِلَى آخِرِ الأيَةِ، جَلَسَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فِي بَيْتِهِ وَقَالَ: أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَاحْتَبَسَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَسَأَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، فَقَالَ:« يَا أَبَا عَمْرٍو ! مَا شَأْنُ ثَابِتٍ اشْتَكَى ؟» قَالَ سَعْدٌ: إِنَّهُ لَجَارِي، وَمَا عَلِمْتُ لَهُ بِشَكْوَى، قَالَ: فَأَتَاهُ سَعْدٌ، فَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ ثَابِتٌ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الأيَةُ وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْفَعِكُمْ صَوْتًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدٌ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ »،
ــــــــــــــــــ
المدني، مولى جهينة "، وذكر له هذا الحديث من رواية صفوان بن سليم عنه، كما ذكره مسلم.
ونقل الجياني بعد نقله بعض كلام البخاري الذي ذكرناه، وزاد " وعبيدالله أصح "، ولم يكن هذا عندنا في تاريخ البخاري،ولا في أصل شيخنا الشهيد رحمه الله.
188 - وَحَدَّثَنَا قَطَنُ ابْنُ نُسَيْرٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ خَطِيبَ الأنْصَارِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الأيَةُ بِنَحْوِ حَدِيثِ حَمَّادٍ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِ ذِكْرُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ.(1/380)
وَحَدَّثَنِيهِ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ صَخْرٍ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا حَبَّانُ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ { لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ }، وَلَمْ يَذْكُرْ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي الْحَدِيثِ.
وَحَدَّثَنَا هُرَيْمُ بْنُ عَبْدِ الأعْلَى الأسَدِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَذْكُرُ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الأيَةُ …، وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ، وَلَمْ يَذْكُرْ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ. وَزَادَ: فَكُنَّا نَرَاهُ يَمْشِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
ــــــــــــــــــ
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم "، الحديث بين المعنى كله، وفائدة المبادرة بالعمل إمكانه قبل شغل البال والجسد بالفتن، وقطعها عن العمل.
وذكر حديث ثابت بن قيس(1)، وخوفه حين نزلت: " لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي..." الآية.
كان ثابت خطيب الأنصار جهير الصوت، وكان يرفع صوته، فلذلك اشتد حذره أكثر من غيره حتى سكن النبي - صلى الله عليه وسلم - روعه وأمن خوفه، وقد(2) قيل إن بسببه نزلت هذه(3) الآية، ولهذا روي أن أبابكر وعمر رضي الله عنهما كانا لا يكلمانه بعد(4) إلا كأخي السرار، وقد قيل بسببهما نزلت الآية، وفي
__________
(1) في (ح):" ثابت بن قيس خطيب الأنصار ".
(2) قوله:" قد " ليس في (ح).
(3) قوله:" هذه " ليس في (أ).
(4) قوله:" بعد " ليس في (أ).(1/381)
189 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ أُنَاسٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؟ قَالَ: أَمَّا مَنْ أَحْسَنَ مِنْكُمْ فِي الإِسْلامِ فَلا يُؤَاخَذُ بِهَا، وَمَنْ أَسَاءَ أُخِذَ بِعَمَلِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالإِسْلامِ.
190 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي وَوَكِيعٌ،ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ - وَاللَّفْظُ لَهُ -، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؟ قَالَ:« مَنْ أَحْسَنَ فِي الإِسْلامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الإِسْلامِ أُخِذَ بِالأوَّلِ وَالأخِرِ ».
191 - حَدَّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الأعْمَشِ بِهَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ.
ــــــــــــــــــ
محاورة جرت بينهما بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، واختلاف ارتفعت فيه أصواتهما، وقيل نزلت في وفد تميم، وقيل في غيرهم.
وقول الصحابة - رضي الله عنهم - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية ؟ "، فقال:" أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ به، وأما من أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام ".
قال الإمام:" قال بعض الشيوخ: معنى الإساءة هنا: الكفر، فإذا ارتد عن الإيمان أخذ بالأول والآخر ".(1/382)
قال القاضي: ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -:"أما من أحسن في الإسلام فلا يؤاخذ به(1)"، أي أحسن بإسلامه ؛ لأنه يجب ما قبله، أو أحسن في إجابته إلى
192 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، وَأَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ، وَإِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ كُلُّهُمْ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ -وَاللَّفْظُ لابْنِ الْمُثَنَّى-، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ -يَعْنِي أَبَا عَاصِمٍ - قَالَ: أَخْبَرَنَا حَيْوَةُ ابْنُ شُرَيْحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنِ ابْنِ شِمَاسَةَ الْمَهْرِيِّ قَالَ: حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ، فَبَكَى طَوِيلاً وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ! أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِكَذَا، أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِكَذَا، قَالَ: فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ: شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلاثٍ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنِّي، وَلا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَقَتَلْتُهُ، فَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الإِسْلامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي، قَالَ:« مَا لَكَ يَا عَمْرُو ؟» قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ،
ــــــــــــــــــ
الإسلام، أو في الاستقامة عليه دون تبديل ولا تغيير.
__________
(1) في (ح):" بها ".(1/383)
وقول عمرو بن العاص:" لقد كنت(1) على أطباق ثلاث أي منازل وأحوال، ولهذا جاء بـ: " ثلاث " التي تكون للمؤنث، والطبق مذكر، لكن(2) أنثه على المعنى، قال الله تعالى: " لتركبن طبقا عن طبق".
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" الإسلام يجبّ ما قبله والهجرة تهدم ما قبلها "، وذكر في الحج مثله، أي من أعمال الشرك ؛ إذ عنها طلب عمرو الغفران، ثم من مقتضى عموم اللفظ يأتي على الذنوب، لا سيما مع ذكره الحج، فقد يكون ذكره الهجرة كناية عن الإسلام، فيجب(3) ما قبله من الكفر وأعماله، وهي قَالَ:« تَشْتَرِطُ بِمَاذَا ؟» قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي. قَالَ:« أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ »، وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَلا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلالاً لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ ؛ لأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ، وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ وَلِينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا، فَإِذَا أَنَا مُتُّ فَلا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ وَلا نَارٌ، فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا، حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ، وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي.
ــــــــــــــــــ
مسألة عمرو، وذكر الحج ليعلمه أيضًا أن " الحسنات يذهبن السيئات "، كما قال تعالى.
__________
(1) في (أ):" إني قد كنت ".
(2) في (أ):" لكنه ".
(3) في (أ):" فجب ".(1/384)
وقوله:" إذا مت فلا تصحبني(1) نائحة ولا نار "، امتثال لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - " لا تُتبَع(2) الجنازة بصوت ولا نار "، وقد تقدم منع الشرع من النياحة وذمها، وكره أهل العلم إتباع الميت بالنار، وأوصت أسماء بنت أبي بكر ألا تتبع(3) به(4) جنازتها.
قال ابن حبيب:" تفاؤلا من خوف النار والمصير إليها، وأن يكون آخر ما يصحبه من الدنيا النار "، وقال غيره: يحتمل أن هذا كان من فعل الجاهلية فشرعت مخالفتهم، ويحتمل أنه كان فعل على وجه الظهور والتعالي(5) فمنع لذلك.
وقوله:" فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب "، بالشين والسين معا، وهو
193 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ - وَاللَّفْظُ لإِبْرَاهِيمَ قَالا: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ - وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ -، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا، ثُمَّ أَتَوْا مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو لَحَسَنٌ، وَلَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً، فَنَزَلَ: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا }، وَنَزَلَ:{ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ }.
ــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" لا يصحبني ".
(2) في (أ) و(ح):" ولا تتبع ".
(3) في (ط):" يتبع ".
(4) في حاشية (ح):"بها "، وكتب فوقها:"صح، خ".
(5) في (أ):" أو التعالي ".(1/385)
الصب(1)، وقيل بالمهملة: الصب في سهولة، وبالمعجمة: التفريق.
وهذه سنة(2) في صب التراب على الميت في القبر.
وكره مالك في العتبية الترصيص على القبر بالحجارة والطين(3) أو الطوب.
وقوله:" ثم أقيموا على قبري قدر ما تنحر جزور [ويقسم لحمها](4)..."، الجزور - بفتح الجيم - من الإبل والجزرة من غيرها، وفي كتاب العين: " الجزرة من الضأن والمعز خاصة ".
وفي الحديث(5) حجة لفتنة القبر، وأن الميت تصرف(6) روحه إليه إذا أدخل قبره لسؤال الملكين وفتنتهما، وأنه يعلم حينئذ ويسمع، ولا يعترض على هذا بقوله تعالى:" إنك لا تسمع الموتى..." الآية، للاختلاف في معناها واحتمال تأويلها، ولأنه قد يكون المراد بها في وقت غير هذا، لما وردت به الآثار الصحاح من فتنة القبر، وسؤال الملكين، ولا ينافي هذا السماع، وسيأتي الكلام عليه بعد هذا.
194 - حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ؛ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَخْبَرَهُ ؛ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، هَلْ لِي فِيهَا مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:«أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ ». وَالتَّحَنُّثُ التَّعَبُّدُ.
ــــــــــــــــــ
وفي حديث عمرو معرفة حال الصحابة - رضي الله عنهم - في توقير النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه، كما أمر تعالى به(7) المؤمنين، فقال تعالى:" وتعزروه وتوقروه ".
__________
(1) في (ح):" الصب معا ".
(2) في (ح):" السنة ".
(3) في (ح):" أو الطين ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).
(5) في (أ) و(ط):" وفي هذا الحديث ".
(6) في (أ) و(ط):" يصرف ".
(7) في (ط):" كما أمر الله به ".(1/386)
وفي قول ابنه له:" يا أبتاه أما بشّرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا(1)؟"، سنة(2) في(3) ترجي المحتضر، وأن يذكر له عند احتضاره خير عمله، ويذكر(4) له سعة رحمة الله، وتتلى عليه آيات الرجاء(5)، وأحاديث العفو حتى يغلب عليه عند الموت الرجاء ويموت عليه.
وقول حكيم بن حزام:" أرأيت أمورًا كنت أتحنث بها في الجاهلية..." الحديث.
قال الإمام:" تحنث الرجل إذا فعل فعلاً خرج به عن الحنث، والحنث الذنب، وكذلك تأثم إذا ألقى عن نفسه الإثم(6)، ومثله(7) تحرج وتحوب إذا فعل فعلا خرج به من(8) الحَرَج والحوْب، وفلان يتهجد إذا كان يخرج من الهجود، ويتنجس إذا فعل فعلا يخرج به من النجاسة، وامرأة قذور إذا كانت تتجنب الأقذار، ودابة ريِّض إذا لم ترض(9)، هذا كله عن الثعالبي، إلا تأثم فإنه عن الهروي، وأنشد غيرهما:
تجنبت إتيان الحبيب تأثمًا ألا إن هجران الحبيب هو الإثم
__________
(1) قوله:" بكذا " ليس في (أ) و (ط).
(2) في (ح):" السنة ".
(3) قوله:" في " ليس في (ط).
(4) في (ح):" وتذكر ".
(5) في (ح):" آيات الرجاء عليه ".
(6) في (ح):" الذنب ".
(7) في (ح):" كذلك ".
(8) في حاشية (ح):"يخرجه من "، وكتب فوقها:"صح، خ".
(9) في (أ):" تراضى ".(1/387)
195 - وَحَدَّثَنَا حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ الْحُلْوَانِيُّ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ عَبْدٌ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ - وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ -، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَخْبَرَهُ ؛ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ ! أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ، أَفِيهَا أَجْرٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ ».
ــــــــــــــــــ
قال القاضي: فسَّر مسلم التحنث: التعبد(1)، وما فسره به مسلم به(2) فسره أبو إسحق الحربي، قال: " يقول أدين وأتعبد " وذكر نحوه عن ابن إسحاق.
وقوله: " أسلمت على ما أسلفت من خير(3)".
قال الإمام: " ظاهره خلاف ما تقتضي(4) الأصول ؛ لأن الكافر لا يصح منه التقرب(5) فيكون مثابا على طاعته، ويصح أن يكون مطيعًا غير متقرب، كنظره في الإيمان، فإنه مطيع فيه من حيث كان موافقًا للأمر، والطاعة عندنا موافقة الأمر، ولكنه لا يكون متقربا لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفًا بالمتقرب إليه، وهو في حين نظره لم يحصل له العلم بالله تعالى بعد(6)، فإذا تقرر هذا علم أن الحديث متأول وهو يحتمل(7) وجوهًا:
__________
(1) في (ح):" قال هو التعبد ".
(2) قوله:" به " ليس في (ط).
(3) في (أ) و(ح):" ما سلف لك من خير ".
(4) في (ح):" تقتضيه ".
(5) في (ح):" التقريب ".
(6) قوله:" بعد " ليس في (أ) و(ح).
(7) في (أ):" محتمل ".(1/388)
أحدها: أن يكون المعنى أنك اكتسبت طباعًا جميلة وأنت تنتفع بتلك الطباع في الإسلام، وتكون تلك العادة(1) تمهيدًا لك، ومعونة على فعل الخير والطاعات.
والثاني: أن يكون المعنى أنك اكتسبت(2) بذلك ثناء جميلاً فهو باق عليك في الإسلام.
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الإسْنَادِ،ح، وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَشْيَاءَ كُنْتُ أَفْعَلُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ - قَالَ هِشَامٌ: يَعْنِي أَتَبَرَّرُ بِهَا -، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ لَكَ مِنَ الْخَيْرِ »، قُلْتُ: فَوَاللَّهِ لا أَدَعُ شَيْئًا صَنَعْتُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلا فَعَلْتُ فِي الإِسْلامِ مِثْلَهُ.
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَعْتَقَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِائَةَ رَقَبَةٍ، وَحَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ، ثُمَّ أَعْتَقَ فِي الإِسْلامِ مِائَةَ رَقَبَةٍ، وَحَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِهِمْ.
ــــــــــــــــــ
والثالث: أنه لا يبعد أن يزاد في حسناته التي يفعلها في الإسلام ويكثر أجره لما تقدم له من الأفعال الجميلة، وقد قالوا في الكافر إذا كان يفعل الخير فإنه يخفف عنه به، فلا يبعد أن يزاد هذا في الأجور ".
__________
(1) في (ط):" العبادة ".
(2) في (أ) و(ح):"... ".(1/389)
قال القاضي: وقيل معناه: ببركة ما سبق لك من خير هداك الله إلى الإسلام، أي سبق لك عند الله من الخير ما حملك على فعله في جاهليتك، وعلى خاتمة الإسلام لك، وأن من ظهر منه خير في مبتدئه فهو دليل على سعادة أخراه وحسن عاقبته.
وقال الحربي: معناه: ما تقدم لك من خير عملته فذلك(1)، كما تقول: أسلمت على ألف درهم، أي على أن أعطاها.
197 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ وَوَكِيعٌ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ:{ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالُوا: أَيُّنَا لا يَظْلِمُ نَفْسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ، إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ:{ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }.
ــــــــــــــــــ
وقول الصحابة - رضي الله عنهم - لما نزلت:" الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم }: "أينا لم يظلم نفسه..." الحديث.
قال الإمام:" هذا(2) يدل بظاهره عند بعض أهل الأصول على أنهم كانوا يقولون بالعموم ؛ لأن الظلم عندهم يعم الكفر وغيره، فلهذا أشفقوا.
وفيه [أيضًا](3) تأخير البيان إلى وقت الحاجة ".
قال القاضي: الظلم في كلام العرب: وضع الشيء في غير موضعه، ثم استعمل في كل عسف، فمن كفر بالله وجحد آياته وعبد غيره فقد عدل عن الحق، وتعسف في فعله، ووضع عبادته في(4) غير موضعها، وكذلك في غير ذلك من الأشياء.
__________
(1) في (أ):" فهو لك ".
(2) قوله:" هذا " ليس في (ح).
(3) قوله:" أيضًا " ليس في (أ) و(ط).
(4) قوله:" في " ليس في (أ) و(ط).(1/390)
ومنه قولهم: ظلمت السقاء إذا سقيته قبل إخراج زبده، وظلمت الأرض إذا حفرت(1) غير موضع الحفر، وقولهم: لزموا(2) الطريق فلم يظلموه، أي لم يعدلوا عنه إلى غير طريق.
فإطلاقه على الكفر والشرك كثير، كما في هاتين الآيتين، وقيل ذلك في قوله تعالى:{ فمنهم ظالم لنفسه }، وقوله تعالى:{ فتلك بيوتهم خاوية بما
198 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ قَالا: أَخْبَرَنَا عِيسَى -وَهُوَ ابْنُ يُونُسَ،ح، وَحَدَّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ مُسْهِرٍ، ح، حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ كُلُّهُمْ، عَنِ الأعْمَشِ بِهَذَا الإسْنَادِ قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: قَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ: حَدَّثَنِيهِ أَوَّلاً أَبِي، عَنْ أَبَانَ ابْنِ تَغْلِبَ، عَنِ الأعْمَشِ ثُمَّ سَمِعْتُهُ مِنْهُ.
ــــــــــــــــــ
ظلموا }.
والمؤمن العاصي ظالم من حيث تعديه الأوامر والنواهي ووضعها غير موضعها ونقص إيمانهم بذلك.
وقد يقع الظلم بمعنى النقص، وقد قيل ذلك في قوله تعالى:{ وما ظلمونا}، الآية، وليس قوله سبحانه:{ فمنهم ظالم لنفسه }، وهو بمعنى الأول.
__________
(1) في (ط):" حفر ".
(2) في (ح):" إذا لزموا ".(1/391)
وليس يظهر لي في هذا الحديث حجة للعموم، ومن(1) حمل بعض الصحابة الآية على ظلم الإنسان نفسه وكل ظلم كما تقدم، بل أقول إن طريقهم - رضي الله عنهم - فيه(2) الطريقة المثلى والنظر الأولى من حملهم(3) لفظ الظلم على أظهر(4) معانيه وأكثر استعمالاته في محتملاته، فإنه وإن كان ينطلق على الكفر وغيره لغة وشرعًا، فعرف استعماله(5) غالبًا والأظهر من مفهومه إطلاقه في العسف والتعدي والعدول عن الحق في غير الكفر، كما أن لفظ الكفر ينطلق على معان من جحد النعم والحقوق وسترها، لكن مجرد إطلاقه وغالب شيوعه على ضد الإيمان، فعلى هذا وقع فهم الصحابة المراد بالظلم وتأويلهم الآية، وإشفاقهم من ذلك ؛ إذ ورد دون قرينة ولا بيان يصرفه عن أظهر وجوهه إلى بعض
__________
(1) في (ط):" من ".
(2) في (ح):" في هذه ".
(3) في (ح):" حمل ".
(4) في (ح):" إظهار ".
(5) في (ح):" فاستعماله " بدل:" فعرف استعماله "،، وفي حاشيتها:" فعرف استعماله" وعليه " خ".(1/392)
199 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ الضَّرِيرُ، وَأُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ الْعَيْشِيُّ - وَاللَّفْظُ لأُمَيَّةَ - قَالا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ وَهُوَ ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنِ الْعَلاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:{ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }، قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ ! كُلِّفْنَا مِنَ الأعْمَالِ مَا نُطِيقُ الصَّلاةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ، وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الأيَةُ وَلا نُطِيقُهَا، قَالَ ــــــــــــــــــ
محتملاته حتى بين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - مراد ربه بما ذكر في الحديث.
وأما قوله: فيه تأخير البيان إلى وقت الحاجة فما يتوجه عندي في هذه القضية ؛ لأنها ليست قضية تكليف عمل وإن كان فيها تكليف اعتقاد بتصديق الخبر عن المؤمن الآمن، واعتقاد التصديق بذلك يلزم لأول وروده، فمتى هي(1) الحاجة المؤخر لها البيان ؟، لكنهم(2) لما أشفقوا منه بين لهم المراد به كتبيين سائر ما بين من المشكلات.
__________
(1) قوله:" هي " ليس في (أ).
(2) في (ح):" لكن ".(1/393)
وقوله في الحديث:" لما أنزل(1) على النبي - صلى الله عليه وسلم -:{ قل إن تبدوا(2) ما في أنفسكم...} الآية، اشتد ذلك على الصحابة..." الحديث، إلى قوله: "نسخها الله فأنزل الله(3):{ لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها }، الآية.
قال الإمام: " إشفاقهم وقولهم: لا نطيقها يحتمل أن يكون اعتقدوا أنهم يؤاخذون بما لا قدرة لهم على دفعه من الخواطر التي لا تكتسب، فلهذا رأوه(4) من قبيل ما لا يطاق، فإن كان المراد هذا كان الحديث دليلاً على
__________
(1) في (ح):" نزل ".
(2) في (أ) و(ح):" وإن تبدوا " بدل:" قل إن تبدوا ".
(3) لفظ الجلالة ليس في (أ).
(4) في (أ):" رواه ".(1/394)
رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ »، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي إِثْرِهَا:{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:{ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قَالَ: نَعَمْ { رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } قَالَ: نَعَمْ {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قَالَ: نَعَمْ { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } قَالَ: نَعَمْ.
ــــــــــــــــــ
أنهم كلفوا ما لا يطاق(1)، وعندنا أن تكليفه جائز عقلاً، واختلف: هل وقع التعبد به في الشريعة أم لا ؟.
وأما قول(2) الراوي:" إن ذلك نسخ "، ففي النسخ ههنا نظر ؛ لأنه إنما يكون النسخ إذا تعذر البناء ولم يمكن رد إحدى الآيتين إلى الأخرى.
__________
(1) في (أ):" يطيقون يطاق ".
(2) في (ط):" وقول " بدل:" واما قول "..(1/395)
وقوله تعالى:{ وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله(1)}. عموم يصح أن يشتمل على ما يملك من الخواطر وما لا يملك، فتكون الآية الأخرى مخصصة، إلا أن يكون فهم الصحابة بقرينة الحال أنه تقرر تعبدهم بما لا يملك من الخواطر، فيكون حينئذ نسخًا لأنه رفع ثابت مستقر ".
200 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ - وَاللَّفْظُ لأَبِي بَكْرٍ - قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الأخَرَانِ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ آدَمَ بْنِ سُلَيْمَانَ مَوْلَى خَالِدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يُحَدِّثُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الأيَةُ { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ }، قَالَ: دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يَدْخُلْ قُلُوبَهُمْ مِنْ شَيْءٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:« قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا »، قَالَ: فَأَلْقَى اللَّهُ الإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا }، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ { رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا }، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ { وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا } قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ.
ــــــــــــــــــ
__________
(1) قوله:"{ يحاسبكم به الله }" ليس في (ط).(1/396)
قال القاضي: لا وجه لإبعاد النسخ في هذه القضية، وراويها قد روى فيها النسخ ونص عليه لفظًا ومعنى بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم بالإيمان والسمع والطاعة لما أعلمه الله عز وجل من مؤاخذته(1) لهم، فلما فعلوا ذلك وألقى الله الإيمان في قلوبهم وذلت بالاستسلام(2) لذلك ألسنتهم(3)- كما نص في الحديث نفسه - رفع الله الحرج عنهم، ونسخ هذه الكلفة بالآية الأخرى كما قال.
وطريق علم النسخ إنما هو بالخبر عنه أو بالتأريخ، وهما مجتمعان في هذه الآية.
وقول الإمام وفقه الله: " إنما يكون النسخ إذا تعذر البناء " كلام صحيح فيما لم يرد به النص بالنسخ، وأما إذا ورد وقفنا عنده، لكن قد اختلف 201 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وُمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ - وَاللَّفْظُ لِسَعِيدٍ - قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ ».
__________
(1) في (ح):" بمؤاخذته " وعليها "صح"،، وفي حاشيتها:" من مؤاخذته " وعليه "صح، خ".
(2) في حاشية (ح):" بالإسلام " وعليها "صح ".
(3) في (ح):" أنفسهم " وعليها "صح"، وفي حاشيتها:" ألسنتهم " وكتب فوقها " في الأم صح، خ".(1/397)
202 - حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ،ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، وَعَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ،ح، وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ قَالا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ كُلُّهُمْ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَكَلَّمْ بِهِ ».
ــــــــــــــــــ
أرباب الأصول في قول الصحابي:" نسخ حكم كذا بكذا": هل هو(1) حجة يثبت به النسخ أم لا يثبت بمجرد قوله ؟ وهو(2) قول القاضي أبي بكر والمحققين منهم؛ لأنه قد يكون قوله هذا عن اجتهاده وتأويله حتى ينقل ذلك نصًّا عن النبي- صلى الله عليه وسلم -.
وقد اختلف الناس في هذه الآية، فأكثر المفسرين من الصحابة ومن بعدهم على ما تقدم فيها من النسخ.
وأبعده بعض المتأخرين، قال:" لأنه خبر، ولا يدخل النسخ الأخبار "، ولم يحصّل ما قال، فإنه وإن كان خبرًا فهو خبر عن تكليف ومؤاخذة بما تكنّ النفوس والتعبد بما أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث بذلك، وأن يقولوا:" سمعنا وأطعنا "، وهذه أقوال وأعمال للسان والقلب، ثم نسخ ذلك عنهم برفع الحرج والمؤاخذة.
وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ وَهِشَامٌ،ح، وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ شَيْبَانَ جَمِيعًا، عَنْ قَتَادَةَ بِهَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ.
ــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ط):" هي ".
(2) في (ط):" وهذا ".(1/398)
وروي عن بعض المفسرين أن معنى النسخ هنا: إزالة ما وقع في قلوبهم من الشدة والفرق من هذا الأمر، فأزيل عنهم بالآية الأخرى واطمأنت نفوسهم، وكأن(1) هذا يرى أنهم لم يلزموا ما لا(2) يطيقون لكن ما يشق(3) عليهم من التحفظ من خواطر النفس وإخلاص الباطن، فأشفقوا أن يكلفوا من ذلك ما لا يطيقون، فأزيل عنهم الإشفاق، وبين(4) أنهم لم يكلفوا إلا وسعهم، وهذا غير ما أشار إليه الإمام أولاً، وعلى هذا لا حجة فيه لجواز تكليف ما لا يطاق ؛ إذ ليس فيه نص على تكليفه.
واحتج بعضهم باستعاذتهم منه بقوله تعالى:" ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، ولا يستعيذون إلا مما يجوز تكليفه، وأجاب عن هذا بعضهم بأن معنى ذلك: أي ما لا نطيقه إلا بمشقة وكلفة.
وذهب بعضهم إلى أن الآية محكمة في إخفاء اليقين والشك للمؤمنين والكافرين، فيغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين، وقيل: هو الهم بالمعصية.
وقوله:" إصرًا "، أي عهدًا، وقيل:ذنبًا، وقيل: ثقلاً، أي تكليفًا يشق، وقيل: عقوبة.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" إن الله تجاوز لأمتي ما(5) حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم(6) به "، كذا هو: " أنفسها " بالفتح، ويدل عليه قوله:" إن أحدنا يحدث نفسه ".
__________
(1) في (أ):" كأن " بدون واو.
(2) في (ح):" لم "، وعليها "صح، خ".
(3) في (ط):" شق ".
(4) في (أ):" بين لهم ".
(5) في (ح):" عما ".
(6) في (ح):" تتكلم "، وفي حاشيتها:" يتكلم " وعليها "صح، خ".(1/399)
203 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ -وَاللَّفْظُ لأَبِي بَكْرٍ - قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، وَقَالَ الأخَرَانِ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأعْرَجِ، عَنْ?أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا سَيِّئَةً، وَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَشْرًا ».
204 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ -، عَنِ الْعَلاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبْتُهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبْتُهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ أَكْتُبْهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبْتُهَا سَيِّئَةً وَاحِدَةً ».
ــــــــــــــــــ
قال الطحاوي: " وأهل اللغة يقولون: أنفسها - بالضم - يريدون بغير اختيارها، كما قال تعالى:{ ونعلم ما توسوس به نفسه(1)}.
__________
(1) في (أ) زيادة:"{ ونحن أقرب إليه }".(1/400)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر:" إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإن هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشرًا "،[ وفي حديث آخر](1):" إلى سبعمائة ضعف، وفي حديث آخر-وذكر السيئة -: " فإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جراي ".
قال الإمام: " مذهب القاضي أبي بكر بن الطيب أن من عزم على المعصية بقلبه ووطن عليها آثم(2) في اعتقاده وعزمه، وقد يحمل ما وقع في هذه الأحاديث وأمثالها على أن ذلك فيمن لم يوطن نفسه على المعصية، وإنما مر 205 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَمْ يَعْمَلْ، فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَإِذَا تَحَدَّثَ بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا، فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِمِثْلِهَا ».
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« قَالَتِ الْمَلائِكَةُ: رَبِّ ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ، فَقَالَ: ارْقُبُوهُ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ».
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(2) في (ط):" مأثوم ".(1/401)
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلامَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِمِثْلِهَا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ ».
ــــــــــــــــــ
ذلك بفكره من غير استقرار، ويسمى مثل هذا: الهم، ويفرق بين الهم والعزم، فيكون معنى قوله في الحديث:" أن من هم لم يكتب عليه " على هذا القسم الذي هو خاطر غير مستقر.
وخالفه كثير من الفقهاء المحدثين أخذًا بظاهر الأحاديث.
ويحتج للقاضي بقوله - صلى الله عليه وسلم -:" إذا التقي المسلمان بسيفيهما(1).." الحديث، وقال فيه: " لأنه كان حريصًا على قتل صاحبه "، فقد جعله آثما(2) بالحرص على القتل.
206 - وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الأحْمَرُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَعَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ، وَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ ».
ــــــــــــــــــ
وهذا قد يتأولونه على خلاف هذا التأويل فيقولون: قد قال:" إذا التقى المسلمان بسيفيهما(3)"، فالإثم إنما تعلق بالفعل والمقاتلة، وهو الذي وقع عليه اسم الحرص هنا.
__________
(1) في (ح):" بسيفهما ".
(2) في (ط):" مأثومًا ".
(3) في (ح):" بسيفهما ".(1/402)
ويتعلق بالكلام في الهم ما في قصة يوسف - عليه السلام -، وهو قوله تعالى: {ولقد همت به وهم بها }، أما على طريقة الفقهاء فذلك مغفور له غير مؤاخذ به، إذا كان شرعه كشرعنا في ذلك، وأما على طريقة القاضي فيحمل ذلك على الهم الذي ليس بتوطين النفس، ولو حمل على غيره لأمكن أن يقال هي صغيرة، والصغائر تجوز على الأنبياء على أحد القولين.
وقد قيل في تأويل الآية غير ذلك مما يتسع بسطه، ولا يحتاج إلى ذكره هنا(1).
قال القاضي: عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين على ما ذهب إليه القاضي أبوبكر، وقد قال ابن المبارك:" سئل سفيان عن الهمة أَيُؤاخَذ(2) بها ؟ فقال: إن كانت عزمًا وُوخِذ بها".
والأحاديث الدالة على المؤاخذة بأعمال القلوب كثيرة، لكنهم قالوا: إن هذا الهم يكتب سيئة، وليست السيئة التي هم بها ونواها ؛ لأنه لم يعملها بعد، وقطعه عنها قاطع غير خوف الله تعالى والإنابة، لكن نفس الإصرار والعزم معصية فتكتب(3) سيئة، فإذا عملها كتبت معصية تامة، فإن تركها خشية الله كتبت
__________
(1) في (ط):" هاهنا ".
(2) في (ح):" أنؤاخذ ".
(3) في (ح):" فيكتب ".(1/403)
207 - حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنِ الْجَعْدِ أَبِي عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ:« إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً ».
208 - وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْجَعْدِ أَبِي عُثْمَانَ فِي هَذَا الإسْنَادِ بِمَعْنَى حَدِيثِ عَبْدِ الْوَارِثِ. وَزَادَ: وَمَحَاهَا اللَّهُ، وَلا يَهْلِكُ عَلَى اللَّهِ إِلا هَالِكٌ ».
ــــــــــــــــــ
حسنة، على ما جاء في الحديث الآخر، ومعناه: تركها خشية لله(1) تعالى، ويفسره قوله في الحديث الآخر:" إنما تركها من جَرّاي "، فصار تركه لها خوف الله(2) تعالى ومجاهدته نفسه الأمارة بالسوء في ذلك(3) وعصيانه هواه: حسنة.
وأما الهم الذي لا يكتب فهي الخواطر التي لا توطن عليها النفس، ولا يصحبها عقد ولا نية وعزم.
وقد ذكر بعض المتكلمين أنه يختلف إذا تركها لغير خوف الله، بل لخوف الناس: هل تكتب حسنة ؟ قال: " لا(4) لأنه إنما حمله على تركها الحياء "، وهذا ضعيف لا وجه له.
__________
(1) في (أ) و(ح):" الله ".
(2) في (ح):" خشية الله ".
(3) قوله:" في ذلك " ليس في (أ).
(4) قوله:" لا " ليس في (أ) و(ح).(1/404)
وأما قصة يوسف - عليه السلام - فالكلام في تأويلها كثير، وأحسنه قول أبي(1) حاتم ومن وافقه: أنه ما هم ؛ لأنه رأى برهان ربه عز وجل، وإنما(2) همت هي، 209 - حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، قَالَ:« وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ »، قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ:« ذَاكَ صَرِيحُ الإِيمَانِ ».
210 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ،ح، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو الْجَوَّابِ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ رُزَيْقٍ كِلاهُمَا، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِهَذَا الْحَدِيثِ ».
ــــــــــــــــــ
والكلام عنده فيه تقديم وتأخير، والمعنى: ولقد همت به، ولولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها.
وقد أشبعنا القول عليها، وما قيل فيها، وفي إبعاد جواز الصغائر على الأنبياء، ونصرة هذا القول، والأجوبة عن مشكلات هذا الباب، ومعاني ظواهر الآي والأحاديث الموهمة لجواز ذلك في كتابنا المسمى بـ:" الشفا".
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" إنما تركها من جراي "، بتشديد الراء(3) وفتح الياء، قال الإمام: " أي من أجلي، وفيه لغتان: جراء، بالمد، وجرى، بالقصر، ومنه الحديث: " إن امرأة دخلت النار من جرّى هرة "[ أي من أجل هرة](4).
__________
(1) في (ح):" ما قال أبو ".
(2) في (ح):" ولقد "، وفي حاشيتها:" وإنما " وعليها "صح، خ".
(3) في (ط):" الراي ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ).(1/405)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث:" ولن يهلك على الله إلا(1) هالك ".
قال القاضي: أي من حتم عليه الهلاك، وسد عليه أبواب الهدى، لسعة رحمة الله تعالى وكرمه ؛ إذ جعل السيئة حسنة، ولم يكتبها حتى يعمل بها(2)، فإذا عملت(3) كتبت واحدة، وكتب الهم بالحسنة حسنة، وكتبها إذا عملها 211 - حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عَثَّامٍ، عَنْ سُعَيْرِ ابْنِ الْخِمْسِ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سُئِلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، عَنِ الْوَسْوَسَةِ قَالَ تِلْكَ مَحْضُ الإِيمَانِ ».
212 - حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ- وَاللَّفْظُ لِهَارُونَ- قَالا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يُقَالَ: هَذَا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ».
ــــــــــــــــــ
عشرًا إلى سبعمائة ضعف(4)، وأضعافًا كثيرة، وكل هذا فضل(5) الله سبحانه ؛ إذ ضاعف الحسنات حتى تكثر وتزيد على السيئات ؛ لكثرة سيئات ابن(6) آدم، فمن حرم هذه السعة وضيق عليه رحبها حتى غلبت(7) سيئاته مع إفرادها حسناته مع تضعيفها، فهو الهالك الذي سبق عليه ذلك في أم الكتاب.
__________
(1) قوله:" إلا " ليس في (ح).
(2) في حاشية (ح):" علها " وعليها "صح، خ".
(3) في (ط):" عملت بها ".
(4) قوله:" ضعف " ليس في (ط).
(5) في (ح):" من فضل ".
(6) في (أ):" بني ".
(7) في (ح):" غلبت عليه ".(1/406)
قال أبو جعفر الطبري: وفي الحديث دليل على أن الحفظة يكتبون أعمال القلوب وعقدها(1)، خلافًا لمن قال إنها لا تكتب إلا الأعمال الظاهرة.
وقوله عن الصحابة - رضي الله عنهم -: " إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به "، ثم قال - عليه السلام -:" ذلك(2) صريح الإيمان ".
وفي الحديث الآخر:"سئل - عليه السلام - عن الوسوسة فقال:" تلك محض الإيمان"، وزاد في حديث آخر:" من وجد من ذلك(3) شيئًا فليقل: آمنت بالله ".
قال الإمام:" بوب على هذا الحديث في بعض نسخ مسلم:" باب الوسوسة محض الإيمان "،[ أما قوله: " ذلك محض الإيمان ](4)" فلا يصح أن 213 - وَحَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلانَ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْمُؤَدِّبُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بِهَذَا الإسْنَادِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ ؟ مَنْ خَلَقَ الأرْضَ ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ …»، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِهِ، وَزَادَ:" وَرُسُلِهِ ".
214 - حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ جَمِيعًا، عَنْ يَعْقُوبَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولَ: مَنْ خَلَقَ كَذَا وَكَذَا ؟ حَتَّى يَقُولَ لَهُ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ ؟ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ ».
ــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" وعقودها ".
(2) في (ط):" ذاك ".
(3) قوله:" من ذلك " ليس في (ح).
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).(1/407)
يراد به أن الوسوسة هي الإيمان ؛ لأن الإيمان اليقين، وإنما الإشارة إلى ما وجدوا من الخوف من الله تعالى أن يعاقبوا على ما وقع في نفوسهم، فكأنه يقول: جزعكم من هذا هو محض الإيمان ؛ إذ الخوف من الله سبحانه ينافي الشك فيه، فإذا تقرر هذا تبين أن هذا التبويب المذكور غلط على مقتضى ظاهره.
وأما أمره - عليه السلام - عند وجود ذلك بأن يقولوا: " آمنت بالله "، فإن ظاهره أنه أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالإعراض عنها، والرد لها من غير استدلال ولا نظر في إبطالها، والذي يقال في هذا المعنى أن الخواطر على قسمين:
فأما التي ليست بمستقرة ولا اجتلبتها شبهة طرأت فهي التي تدفع بالإعراض عنها، على هذا يحمل الحديث، وعلى مثلها ينطلق اسم الوسوسة،
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« يَأْتِي الْعَبْدَ الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا وَكَذَا ؟ مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ.
215 - حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« لا يَزَالُ النَّاسُ يَسْأَلُونَكُمْ عَنِ الْعِلْمِ حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللَّهُ خَلَقَنَا، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟»، قَالَ: وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ رَجُلٍ، فَقَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، قَدْ سَأَلَنِي اثْنَانِ، وَهَذَا الثَّالِثُ، أَوْ قَالَ: سَأَلَنِي وَاحِدٌ وَهَذَا الثَّانِي.
ــــــــــــــــــ(1/408)
فكأنه لما كان أمرًا طارئًا على غير أصل دفع بغير نظر في دليل ؛ إذ لا أصل له ينظر فيه.
وأما الخواطر المستقرة التي أوجبتها الشبهة فإنها لا تندفع إلا باستدلال ونظر في إبطالها.
ومن هذا المعنى حديث " لا عدوى "، مع قول الأعرابي: " فما بال الإبل الصحاح تجرب بدخول الجمل الأجرب فيها "، وعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اغتر بهذا المحسوس وأن الشبهة قدحت في نفسه أزالها عنه - عليه السلام - من نفسه بالدليل فقال له: " فمن أعدى الأول ".
بسط هذا أنه - صلى الله عليه وسلم - كأنه قال له: إذا كنت تقول إن هذه الجربة جربت من هذا العادي عليها، فهذا العادي أيضًا ممن تعلق به الجرب(1)، فإن قلت من غيره ألزمناك فيه ما ألزمناك في الأول، حتى يؤدي ذلك إلى ما لا يتناهى، أو يقف وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَيَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ قَالا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ -، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لا يَزَالُ النَّاسُ بِمِثْلِ حَدِيثِ عَبْدِ الْوَارِثِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الإسْنَادِ، وَلَكِنْ قَدْ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
__________
(1) في (ط):" الجربى ".(1/409)
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الرُّومِيِّ،حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ،حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ -وَهُوَ ابْنُ عَمَّارٍ -، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لا يَزَالُونَ يَسْأَلُونَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللَّهُ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ ؟»، قَالَ فَبَيْنَا أَنَا فِي الْمَسْجِدِ إِذْ جَاءَنِي نَاسٌ مِنَ الأعْرَابِ فَقَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ! هَذَا اللَّهُ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ ؟ قَالَ: فَأَخَذَ حَصًى بِكَفِّهِ فَرَمَاهُمْ، ثُمَّ قَالَ: قُومُوا، قُومُوا، صَدَقَ خَلِيلِي.
ــــــــــــــــــ
الأمر عند(1) جمل وجد الجرب فيه من غير أن ينتقل إليه من غيره، وإذا(2) صح وجود جرب من غير عدوى، بل من الله سبحانه، صح أن يكون جرب هذه الإبل من نفسها لا من غيرها.
قال المتكلمون: وهذا الدليل(3) الذي أشار إليه - عليه السلام - هو الذي يعتمد عليه في إبطال من جوز وجود حوادث لا أول لها، فيقال لهم: لو كان لا يصح وجود الشيء إلا من الشيء لأدى ذلك إلى ما لا يتناهى، وإذا علق وجود ما نحن فيه بوجود ما لا يتناهى شيئًا بعد شيء لم يصح وجود ما نحن فيه ".
قال القاضي: الترجمة التي ذكر وفقه الله لم تقع في كتبنا بذلك النص، لكن نصها في "الأم" من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من رواية ابن مسعود:" سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) في (ح):" على ".
(2) في (ح):" فإذا ".
(3) قوله:" الدليل" ليس في (ح).(1/410)
216 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ ابْنُ الأصَمِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لَيَسْأَلَنَّكُمُ?النَّاسُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى يَقُولُوا: اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَمَنْ خَلَقَهُ?».
217 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ زُرَارَةَ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ مُخْتَارِ ابْنِ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّ أُمَّتَكَ لا يَزَالُونَ يَقُولُونَ: مَا كَذَا، مَا كَذَا، حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ ؟ ».
ــــــــــــــــــ
عن الوسوسة فقال: تلك محض الإيمان ".
وما ذكره وفقه الله من التأويل في قوله - صلى الله عليه وسلم -:" ذلك(1) صريح الإيمان " بين مع المقدمة التي في ذلك الحديث الآخر الذي ذكرناه ولم(2) يذكره ؛ إذ ليس فيه ذكر
__________
(1) في (ط):" ذاك ".
(2) في (ح):" وإن لم ".(1/411)
إنكار ولا استعظام إلا أن نرده إلى الحديث الأول ونجعله قاضيًا عليه وهذا مختصر منه، أو نطلب(1) له تأويلاً آخر يجمع الأحاديث كلها، وهو ما أشار إليه بعضهم مما بسطه أن وسوسة الشيطان وتحدثه في نفس المؤمن إنما هو لإياسه(2) من قبول إغوائه(3)، وتزيينه الكفر له، وعصمة المؤمن منه، فرجع إلى نوع من الكيد والمخاتلة بالإيذاء(4) بحديث النفس بما يكره المؤمن من خفي الوساوس، إذ لا(5) يطمع(6) من موافقته له على كفره(7)، وهذا لا يكون منه إلا مع مؤمن صريح الإيمان، ثابت اليقين، على(8) محض الإخلاص، بخلاف غيره من كافر وشاك وضعيف الإيمان، فإنه يأتيه من حيث شاء، ويتلاعب به كما أراد، والمؤمن معصوم منه منافر له، فلما لم يمكنه منه مراده رجع إلى حَدَّثَنَاه إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ،ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ كِلاهُمَا، عَنِ الْمُخْتَارِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِهَذَا الْحَدِيثِ، غَيْرَ أَنَّ إِسْحَاقَ لَمْ يَذْكُرْ:" قَالَ: قَالَ اللَّهُ: إِنَّ أُمَّتَكَ ".
ــــــــــــــــــ
__________
(1) في (أ):" يطلب ".
(2) في (ط):" اياسه ".
(3) في (أ):" وإغوائه ".
(4) في (ح):" بالأذى ".
(5) في (ح):" ما "، وفي (ط):" لم ".
(6) في (ط):" ".
(7) في (أ):" كفر ".
(8) قوله:" على " ليس في (أ) و(ط).(1/412)
شغل سره بتحديث نفسه(1) ودس(2) كفره، بحيث يسمعه المؤمن فيشوش(3) بذلك فكره، ويكدر نفسه، ويؤذيه باستماعه له، كما قال - صلى الله عليه وسلم -:" الحمدلله الذي رد كيده إلى الوسوسة "؛ إذ حقيقة هذه اللفظة: الصوت الخفي، ومنه وسواس الحلي، لخفي صوته عند حركته، وبناء هذه الكلمة على التضعيف يدل على تكرار مقتضاها، فإذن سبب الوسوسة محض الإيمان وصريحه، والوسوسة لمن وجدها علامة له على ذلك، كما قال - صلى الله عليه وسلم -،[ وكأنه - صلى الله عليه وسلم - ](4) لما سئل عن الوسوسة وما يوجد في النفس منها أخبر أن موجبها وسببها محض الإيمان، أو أنها(5) علامة على ذلك.
ولا يبقى بعد هذا التقرير والتفسير إشكال في متون هذا الحديث، على اختلاف ألفاظه، واطردت على معنى سوي قويم، وعلى هذا يحمل ما جاء في الأحاديث الأخر(6):" يأتي الشيطان أحدكم فيقول له: من خلق كذا وكذا، حتى يقول: من خلق ربك ؟، فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته "، وفي حديث آخر:" فليقل آمنت بالله(7)".
أما استعاذته منه فليلجأ إلى الله تعالى أن يكفيه شغل سره ووسوسته، بما لا يرضاه.
__________
(1) قولم:" نفسه " ليس في (أ)، وفي (ط):" يتحدث بنفسه ".
(2) في (ط) و(هـ):" ودرس ".
(3) في (أ):" فيشةش عليه ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(5) في (ح):" الإيمان وأنها ".
(6) في (ح):" في الحديث الآخر ".
(7) في (ح):" بالله ورسوله ".(1/413)
218 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ جَمِيعًا، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْعَلاءُ - وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى الْحُرَقَةِ -، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبٍ السَّلَمِيِّ، عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ »، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ:« وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ ».
ــــــــــــــــــ
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -:" ولينته "، أي ليقطع التفكر والنظر فيما زاد على إثبات الذات، وليقف هناك عن التخطي إلى ما بعد، وليعلم أن إثبات ذاته وعلم ما يجب له ويستحيل عليه منتهى العلم وغاية مبلغ العقل.
وقال بعضهم: قوله: " ذاك(1) صريح الإيمان "، يعني الوقوف والانقطاع في إخراج الأمر إلى ما لا نهاية له، فلا بد من إيجاب خالق لا خالق له، فلا يزال
يقول: " من خلق كذا ؟ " فيستدل بآثار الصنعة فيه على أنه مخلوق فيقول: خلقه الله، إلى أن يقول: " من خلق الله؟" فيستدل على أنه لو كان له خالق لتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية له، وأن الله(2) الخالق لكل شيء(3) [ لا يشبه صفات المخلوقين](4)، ولا يصح عليه الحدث والخلق، فالوقوف هنا هو محض الإيمان.
__________
(1) في (ح):" ذلك ".
(2) لفظ الجلالة ليس في (ح).
(3) في (ح) زيادة :" هو الله تعالى ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (ح).(1/414)
وأما ما أخبر - عليه السلام - من أن الناس سيتساءلون(1) عن هذا فليس فيه إلا إخبار عما يكون، وقد كان، فإما أن يكون إخبارًا عن جهل السائلين أو تنبيهًا على تعسف المجادلين.
219 - وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ جَمِيعًا، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ يُحَدِّثُ: أَنَّ أَبَا أُمَامَةَ الْحَارِثِيَّ حَدَّثَهُ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِهِ ».
ــــــــــــــــــ
وقوله:" من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة "، ثم قال: " وإن كان قضيبًا من أراك ".
إنما كبرت هذه المعصية بحسب اليمين الغموس التي هي من الكبائر الموبقات، وتغييرها في الظاهر حكم الشرع، واستحلاله بها الحرام، وتصييرها المحق في صورة المبطل، والمبطل في صورة المحق، ولهذا عظم أمرها وأمر شهادة الزور.
وإيجاب النار فيها على حكم الكبائر إلا أن يشاء الله تعالى أن يعفو عن ذلك لمن يشاء، وتحريم الجنة عند دخول السابقين لها والمتقين وأصحاب اليمين، ثم لابد لكل موحد من دخولها إما بعد وقوف وحساب، أو بعد نكال وعذاب.
وتخصيصه هنا المسلم ؛ إذ هم المخاطبون وعامة المتعاملين في الشريعة، لا أن غير المسلم بخلافه، بل حكمه حكمه في ذلك.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" لقي الله وهو عليه غضبان "، وفي آخر بمعناه: " وهو عنه معرض ".
__________
(1) في (ح):" يتساءلون ".(1/415)
قال القاضي: الإعراض والغضب والسخط من الله تعالى على من شاء وعن من شاء من عباده إرادته عذابهم، أو إيعاده بعذابهم، أو إنكاره أفعالهم 220 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ،ح، وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ،ح، وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ -وَاللَّفْظُ لَهُ -، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الأعْمَشُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ »، قَالَ فَدَخَلَ الأشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ: مَا يُحَدِّثُكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؟ قَالُوا: كَذَا وَكَذَا. قَالَ: صَدَقَ أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ، فِيَّ نَزَلَتْ، كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ أَرْضٌ بِالْيَمَنِ فَخَاصَمْتُهُ إِلَى ــــــــــــــــــ
وذمها فيكون ذلك من صفات الذات، ويرجع إلى الإرادة أو الكلام، أو أن يفعل بهم فعل المسخوط عليه، المعرض عنه، المغضب(1) عليه، من النقمة والعذاب والإبعاد عن الرحمة فيكون من صفات الفعل، وهي في المخلوق تغير حاله لإرادة(2) السوء أو فعله بمن غضب عليه، والله جل اسمه يتعالى عن التغيير واختلاف الحال.
ذكر مسلم حديث الحضرمي والكندي، ومنازعتهما في الأرض بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، الحديث بطوله.
__________
(1) في (أ):" المغضوب ".
(2) في (ح):" لإرادته ".(1/416)
قال الإمام: " علق بعض أهل العلم من متأخري الفقهاء(1) على هذا الحديث ما فيه من الفوائد فقال: في هذا الحديث دلالة(2) أن(3) صاحب اليد أولى بالشيء المدعى فيه ممن لا يد له عليه.
وفيه أن الدعوى في المعين لا تفتقر إلى خلطة.
وفيه التنبيه على صورة الحكم في هذه الأشياء، وذلك أنه بدأ بالطالب فقال له: " ليس لك إلا يمين الآخر "، ولم يحكم بها للمدعى عليه، إذا حلف، بل إنما جعل اليمين لصرف دعوى المدعي لا غير، فكذلك ينبغي لمن حكم النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:« هَلْ لَكَ بَيِّنَةٌ »، فَقُلْتُ: لا. قَالَ:« فَيَمِينُهُ »، قُلْتُ: إِذَنْ يَحْلِفُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ:« مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ »، فَنَزَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً } إِلَى آخِرِ الأيَةِ.
ــــــــــــــــــ
بعده إذا حلف المدعى عليه ألا يحكم له بملك ذلك الشيء ولا بحيازته أيضًا، بل يقره على حكم يمينه.
فإن قيل: فكيف يجيء مذهبكم على هذا إذا كنتم ترون أن من ادعي عليه بغضب أو استهلاك لم يحلف المدعى عليه، إلا أن يكون ممن يتهم بالغضب والتعدي، ويليق به ما ادعي عليه من ذلك، وقد أحلفه النبي - عليه السلام - في هذا الحديث ولم يسأله عن حاله ؟.
__________
(1) في حاشية (ح):" أصحابنا " وعليها "صح، خ".
(2) في (ح):" دليل ".
(3) في (ط):" على أن ".(1/417)
قيل له: ليس في هذا الحديث ما يدل على خلاف ما ذهبنا إليه، وذلك أنه يجوز أن يكون صلى الله عليه قد علم من حاله ما أغناه عن السؤال عنه، وفي الحديث ما يدل على أنه كان كذلك، ألا ترى إلى قول خصمه: " إنه رجل فاجر، ليس(1) يتورع عن شيء "، ثم لم ينكر - صلى الله عليه وسلم - شيئًا من قوله، فلو كان عنده بريئا مما قال ما ترك النكير عليه، على أن في الحديث ما يغني عن هذا كله، وذلك أنه إنما ادعى عليه بالغصب في الجاهلية، وكذلك نقول فيمن ادعى على رجل لا بأس به أنه كان غصبه مالا في حال كان فيها فاسقا ظالما فإنا نحلّفه له(2) إذا كان ظلمه وغصبه معلوما.
وفي هذا(3) الحديث أن يمين الفاجر تسقط عنه حكم دعوى المدعي، كيمين من ليس بفاجر، وأنه ليس يجري(4) يمينه مجرى شهادته.
221 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالاً هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الأعْمَشِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ، فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: « شَاهِدَاكَ، أَوْ يَمِينُهُ ».
ــــــــــــــــــ
وفيه أن الفاجر في دينه لا يوجب فجوره الحجر عليه ولا إبطال إقراره، ولولا ذلك لم يكن لليمين معنى.
وفيه أن المدعي وإن أقر بأن أصل الشيء الذي ادعى فيه لغيره لم يكلف بتثبيت(5) جهة مصيره إليه مالم يعلم إنكاره لذلك، وذلك أنه قال: " غلبني على أرض كانت لأبي "، فأمكنه من المطالبة.
__________
(1) في (ح):" لا ".
(2) في (أ):" لها ".
(3) قوله:" هذا " ليس في (ح).
(4) في (أ):" تجزي ".
(5) في (ط) و(هـ):" تثبيت ".(1/418)
وفيه أن من جاء بالبينة قضي له بحقه من غير يمين ؛ لأنه محال أن يسأله دون ما يجب له الحكم به، ولو كان من تمام الحكم اليمين لقال له: بينتك ويمينك على تصديق بينتك.
قال الإمام وفقه الله تعالى:" أما قوله: إن المقر بأن أصل الشيء لغيره لا يكلف تثبيت جهة مصيره إليه فإن وجه القضاء عندنا أن من ادعى شيئًا في يد غيره وزعم أنه صار إليه من أبيه فإنه يكلف إثبات وفاة أبيه وعدة ورثته، ولعل هذا الذي في ا لحديث علم موت أبيه وأنه وارثه، أو يكون من بيده الأرض سلم له ذلك، ولعل قوله ههنا:" مالم يعلم إنكاره لذلك "، وأشار إلى ما قلناه من تسليم المطلوب له ما قال على أن قوله: مالم يعلم إنكاره لذلك(1) كلام فيه إجحاف نقلناه كما وجدناه، ولعل معناه ما بيناه، أو يكون الضمير في قوله:" إنكاره " عائدًا على من(2) نسب إليه الملك أولاً، 222 - وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ جَامِعِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ ابْنِ أَعْيَنَ، سَمِعَا شَقِيقَ بْنَ سَلَمَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« مَنْ حَلَفَ عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقِّهِ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ »، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ:{ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً } إِلَى آخِرِ الأيَةِ.
ــــــــــــــــــ
كأبي هذا الرجل، فيكون إنكار المنسوب إليه الملك أو لانتقال(3) ملكه إلى هذا المدعي مانعا من توجيه دعوى هذا المدعي على من في يده الشيء المطلوب إلا أن يثبت انتقال الملك.
__________
(1) قوله:" لذلك " ليس في (أ).
(2) في (أ):" ما ".
(3) في (ح):" أولاً انتقال ".(1/419)
قال القاضي وفقه الله: قوله وفقه الله:" أو يكون من بيده الأرض سلم له ذلك "، لا يوجب عندنا في الحكم شيئًا إلا رفع يد(1) المسلم دون الحكم للمدعي ؛ إذ قد يكون الأب حيا، أو يكون له ورثة غير القائم، فكيف يحكم الحاكم بين اثنين في مال ثالث قد أقر الطالب أنه له، أو يسمع(2) دعوى فيه ؟، ولعل الأب المعترف له لو كان حيا لا يطلب هذا المال، أو يعترف أنه صيره لمن هو في يده، فكيف وقد ورد في هذا(3) الحديث في كتاب أبي داود ما يرفع هذا(4) الإشكال، وهو أن الحضرمي قال:" إن أرضي اغتصبنيها أبو هذا "، فغلب
223 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَهَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، وَأَبُو عَاصِمٍ الْحَنَفِيُّ، وَاللَّفْظُ لِقُتَيْبَةَ قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو الأحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ، وَرَجُلٌ مِنْ ــــــــــــــــــ
ذكر الأب، وفيه في ذكر اليمين: " أحلفه أنه ما يعلم أنها أرضي اغتصبنيها أبوه ".
وقوله فيما يحتاج إليه هذا المدعي من إثبات موت أبيه وعدة ورثته صحيح، ويحتاج أيضًا إلى إثبات ملك الأب الذي ادعى التصيير إليه من قبله لما ادعى فيه أنه تصير إليه.
وبقي في هذا الحديث من استخراج نكت الفقه وسيرة(5) القضاء مما لم يخرجه من ذكر مما ظهر لنا من بيان سيرة القضاء:
البداية بالسماع من الطالب، ثم السماع من المطلوب هل يقر أو ينكر، كما جاء في الحديث، ثم طلب(6) البينة من الطالب إذا أنكر المطلوب، ثم توجيه اليمين على المطلوب إذا لم يجد الطالب بينة.
__________
(1) في (ط):" يدي ".
(2) في (ح):" تسمع ".
(3) قوله:" هذا " ليس في (ط).
(4) قوله:" هذا " ليس في (ح).
(5) في (ح):" وسير ".
(6) في (ح):" طلبه ".(1/420)
وأن الخصم إذا اعترف أن المدعى فيه في يد خصمه استغني باعترافه عن تكليف خصمه(1) إثبات كون يده عليه، لقول الحضرمي: " إن هذا غلبني على أرض لي "، فقال الآخر: " أرضي في يدي أزرعها"، فلم يكلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - إثباتا.
وفيه دليل على أن الزراعة يد وحوز.
وفيه أن الرجل إذا رمى خصمه في حال الخصومة بجرحة أو خلة سوء لمنفعة يستجرها(2) في خصامه - وإن كان في ذلك أذى خصمه - لم يعاقب إذا كِنْدَةَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي كَانَتْ لأَبِي، فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: لِلْحَضْرَمِيِّ:« أَلَكَ بَيِّنَةٌ ؟» قَالَ: لا. قَالَ: ــــــــــــــــــ
عرف صدقه في ذلك، بخلاف لو قاله(3) على سبيل المشاتمة والأذى المجرد، وذلك إذا كان ما رماه به من نوع دعواه، ولينبه بها على حال المدعى عليه، لقول الحضرمي: " إنه فاجر لا يبالي ما حلف عليه، ولا يتورع من شيء "، ولم ينكر ذلك عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا زجره.
ولو رمى خصمه بالغضب، وهو ممن لا يليق به، أدب عندنا، ولم تعلق به الدعوى، والكندي إنما نسب إلى الحضرمي(4) من الغصب في الجاهلية ما لا ينكر عليهم.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن ما يجري بين المتخاصمين من سباب بخيانة وفجور واستحلال وشبهه هدر لا حكومة فيه، واحتج بهذا الحديث.
وفيه وعظ الحاكم الحالف، عساه أن يكون يحلف باطلاً(5) فيرده وعظه إلى الحق، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قام الحضرمي ليحلف.
__________
(1) في (ح):" صاحبه ".
(2) في (أ):" يستخرجها ".
(3) في (أ):" قال ".
(4) في حاشية (ح):" والحضرمي إنما نسب إلى الكندي " وعليها "صح، خ".
(5) في (ح):" حانثًا ".(1/421)
وفيه التنبيه على صورة سؤال الحاكم الطالب، بأن يقول له: " ألك(1) بينة"، ولا يقول له: " قرب بينتك "؛ إذ قد لا تكون(2) له بينة، وإلى هذا ذهب بعض حذاق الجدليين والنظريين في سؤال أحد المتناظرين صاحبه عن مذهبه ودليله، بأن يقول له: " ألك دليل على قولك ؟ "، فإن قال: " نعم " سأله عنه ما هو، وهو اختيار القاضي أبي بكر، ولم يره لازمًا الأستاذ أبو إسحق.
«فَلَكَ يَمِينُهُ »، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ لا يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ، فَقَالَ:« لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلا ذَلِكَ »، فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا أَدْبَرَ:« أَمَا لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا لَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ ».
ــــــــــــــــــ
وفيه دليل على أن من ادعي عليه دعوى في مال ورثه، أو تصير إليه عن غيره أن يمينه على نفي علم دعوى المدعي كما ذكر في صفة اليمين في زيادة أبي داود،[ لا على القطع إلا أن يدعي عليه خصمه معرفة ذلك](3).
وفيه دليل على أن للأيمان مواضع تحلف(4) فيها، وتختص(5) بها، لقوله: " فانطلق ليحلف(6)"، وذلك عندنا لازم فيما له بال من الأموال، وذلك ما يوجب القطع في السرقة: ربع دينار فصاعدًا، فلا يكون اليمين فيه إلا في المساجد الجامعة، وحيث يعظم منها، وعند منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله في قوله:" اليمين حيث كان الحاكم ".
__________
(1) في (أ):" بأن يقول لك "، وفي (ح):" بأن يقول ألك ".
(2) في (أ):" يكون ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(4) في (ط):" يحلف ".
(5) في (ح):" ويختص ".
(6) في (ط):" لتحلف ".(1/422)
وقد احتج أبو سليمان الخطابي من هذا الحديث على وجوب اليمين عند المنبر، قال: " لأنه إنما كان مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، وقيام هذا إنما كان للمنبر، وإلا فلماذا قام ؟ "، وهذا محتمل وفيه نظر.
وفيه دليل على أن الحالف يكون قائما، لقوله:" فلما قام ليحلف"، لكن في قيامه هنا احتمال: هل لنفس اليمين أو لينهض لموضعها كما تقدم، وقد اختلف المذهب عندنا في قيام الحالف فيما له بال.
وفيه دليل على أن الكفار إذا أسلموا وفي أيديهم أموال لغيرهم من أهل الكفر غصبوها: أنها ترجع إلى أربابها بخلاف ما أسلموا عليه من أموال
224 - وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ جَمِيعًا، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِالْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَتَاهُ رَجُلانِ يَخْتَصِمَانِ فِي أَرْضٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إِنَّ هَذَا ــــــــــــــــــ
المسلمين عندنا ؛ لتقرر(1) ملكهم لها باستحلالهم أموالنا خلافًا للشافعي في قوله:" ترجع إلى أربابها المسلمين ولا تملك عليهم "، وقد يحتج بهذا الحديث.
وفيه دليل على أن الخصم الصالح والطالح في سيرة الحكم سواء بمطالبة الطالب بالبينة والمطلوب باليمين.
وقول المتكلم أولاً على الحديث:" إن فيه دليلاً على أن الدعوى في المعين لا تفتقر إلى خلطة " صحيح، لكنها على من يراعي الخلطة فيما في الذمم: يراعي في المعينات ما يشبه، وقد يحتج(2) بهذا الحديث ؛ إذ فيه دعوى ما يشبه من غصوب الجاهلية.
__________
(1) في (أ):" لتقرير ".
(2) في (ط):" احتج ".(1/423)
ومشهور المذهب مراعاة الخلطة فيما في الذمم وما يشبه في المعيَّنَات وغيرها من الدعاوى، وتسميتهم لهذا خلطة تجوز، والقول الآخر: قبول الدعوى وإلزام(1) اليمين دون خلطة ولا شبهة، وهو قول جماعة من العلماء.
وقوله أيضًا: " ينبغي لمن حكم إذا حلف المدعى عليه أن لا يحكم له بملك ذلك الشيء ولا حيازته " أصل متنازع فيه عندنا، ومشهور المذهب خلاف ما ذهب إليه من تعجيز الحاكم للطالب إذا قام بذلك المطلوب، والحكم به للمطلوب، إلا فيما كان من حقوق الله تعالى كالطلاق، والعتاق،
انْتَزَى عَلَى أَرْضِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ عَابِسٍ الْكِنْدِيُّ، وَخَصْمُهُ رَبِيعَةُ بْنُ عِبْدَانَ، قَالَ:« بَيِّنَتُكَ »، قَالَ: لَيْسَ لِي بَيِّنَةٌ، قَالَ:« يَمِينُهُ »، قَالَ: إِذَنْ يَذْهَبُ بِهَا، قَالَ: لَيْسَ لَكَ إِلا ذَاكَ، قَالَ: فَلَمَّا قَامَ لِيَحْلِفَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَنِ اقْتَطَعَ أَرْضًا ظَالِمًا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ »، قَالَ إِسْحَاقُ فِي رِوَايَتِهِ: رَبِيعَةُ بْنُ عَيْدَانَ.
ــــــــــــــــــ
والنسب، والأحباس، وطرق العامة، وشبهها مما ليس تختص منفعته بالقائم فيه وحده، وتعلق فيه حق الله تعالى.
والقول الآخر: إن الطالب لا يعجز في شيء، ولا يحكم للمطلوب، والطالب على حقه أبدًا متى قامت له حجة(2)، إلا إن أثبت المدعى عليه ما يدفعه به ويعجز عن حله، فيحكم عليه للمدعى عليه، إلا فيما كان من حقوق الله تعالى كما تقدم.
ويعضد القولَ الأول قولُ عمر - رضي الله عنه - في رسالته لأبي موسى التي هي عماد السيرة وعروة القضاء:" اجعل للمدعي أجلاً ينتهي إليه، فإن أحضر بينة أخذ بحقه، وإلا وجهت عليه القضاء ".
__________
(1) في (ط):" والتزام ".
(2) في (ح):" الحجة ".(1/424)
وقوله:" انتزى على أرضي "، أي أخذها، وأصل النَّزْو: الوثْب(1)، ثم كثر استعمالهم له في كل ما أشبهه، فاستعملوه في الجماع فقالوا: نزا الفحلُ على الأنثى، واستعملوه في كل من حصل على أمر من سلطان أو خرج عليه، ونحو هذا.
وذكر الحديث الآخر عن وائل بن حجر بمعناه، وسمى فيه الكندي: " امرأ القيس بن عابس(2) بباء واحدة وسين مهملة،وصاحبه:" ربيعة بن عيدان"، 225 - حَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاءِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ يَعْنِي ابْنَ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي ؟ قَالَ:« فَلا تُعْطِهِ مَالَكَ »، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي ؟ قَالَ:« قَاتِلْهُ »، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي ؟ قَالَ: فَأَنْتَ شَهِيدٌ، قَالَ: أَرَأَيْتَ?إِنْ قَتَلْتُهُ ؟ قَالَ:« هُوَ فِي النَّارِ?».
ــــــــــــــــــ
بفتح العين المهملة، وياء باثنتين تحتها، هذا هو صوابه، واختلفت الراوية فيه في الأم، فقال زهير: "ربيعة(3) بن عِبْدان "، بكسر العين، وباء بواحدة، وقال ابن راهويه:"عَيْدان" على الصواب كما تقدم، كذا ضبطناه في الحرفين عن شيوخنا رحمهم الله.
ووقع عند ابن الحذاء عكس ما ضبطناه، فقال في رواية زهير:" عَيْدَان" بالفتح والياء(4) باثنتين، وفي رواية إسحق بن راهويه: " عِبْدان " بالكسر والباء بواحدة عكس ما تقدم، قال الجياني:" وكذا في الأصل عن الجلودي ".
__________
(1) في (ط):" الأخذ " بدل:" الوثب ".
(2) في (ح):" عباس ".
(3) في (ح):" بن ربيعة ".
(4) في (ح):" وياء ".(1/425)
والذي صوبناه أولاً هو قول الدارقطني، وكذا قيده هو وأبو نصر بن ماكولا في المؤتلف، وابن يونس في التاريخ، وكذا قاله عبد الغني بن سعيد، قال:" ويقال فيه: عِبْدان ".
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " شاهداك أو يمينه " مما يحتج به الحنفي في ترك العمل بالشاهد واليمين ؛ إذ لم يجعل وساطة(1) بينهما في اقتطاع الحقوق، وحصرها في هذا الحديث بهذه الطريقتين.
226 - حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، وَإِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ - وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ -، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الأخَرَانِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ الأحْوَلُ ؛ أَنَّ ثَابِتًا مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ ؛ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَبَيْنَ عَنْبَسَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ مَا كَانَ، تَيَسَّرُوا لِلْقِتَالِ، فَرَكِبَ خَالِدُ بْنُ الْعَاصِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَوَعَظَهُ خَالِدٌ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ».
وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ،ح، وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ كِلاهُمَا، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِهَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ.
ــــــــــــــــــ
والحديث الآخر يرد عليهم، ويفسر مجمله، وهو قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشاهد واليمين، وعمل الخلفاء بذلك بعده، وقضاؤهم به، وسيأتي الكلام عليه في موضعه.
وارتفع شاهداك بفعل مضمر، قال سيبويه: " معنى الكلام: ما أثبت شاهداك ".
__________
(1) في (ح):" واسطة ".(1/426)
وقوله - عليه السلام -:" من قتل دون ماله فهو شهيد " وقوله: "لا تعطه مالك، فقال: إن قاتلني ؟ قال: قاتله " الحديث.
أصل الشهادة: التبيين، ومنه قوله تعالى: " شهد الله أنه لا إله إلا هو"، أي بين، وسمي الشاهد ؛ لأن من شهادته تبيين الحكم، قال النضر بن شميل: " سمي الشهيد شهيدًا بمعنى أنه حي "، تأول قوله تعالى: " ولا تحسبن الذين
227 - حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأشْهَبِ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: عَادَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ الْمُزنِيَّ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، قَالَ: مَعْقِلٌ إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ لِي حَيَاةً مَا حَدَّثْتُكَ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ».
ــــــــــــــــــ
قتلوا في سبيل الله... " الآية، كأن أرواحهم أحضرت دار السلام وغيرهم لا يشهدها إلا يوم القيامة.
وقال(1) ابن الأنباري:" سمي بذلك لأن الله وملائكته يشهدون له بالجنة"، فشهيد على هذا بمعنى مشهود له.
وقيل سمي بذلك لأنه يشهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة على الأمم المتقدمة، قال الله عز وجل: " لتكونوا شهداء على الناس "، وقد جاء هذا في جماعة المسلمين.
ويحتمل أن يكون شهد عند موته(2) ما له عند الله تعالى من النجاة والثواب والبشرى وحقق ذلك، كما قال تعالى:" فرحين بما آتاهم الله من فضله ".
__________
(1) في (ط):" قال ".
(2) في (ط):" شهد على نفسه عند موته ".(1/427)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تعطه مالك "، وأمره بقتاله إن قاتله دليل على جواز قتاله وإن طلب المال أو(1) على وجوبه بكل حال، قال ابن المنذر: " عوام العلماء على جواز قتال المحارب على كل وجه، ومدافعته عن المال والأهل والنفس ".
228 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: دَخَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ عَلَى مَعْقَلِ بْنِ يَسَارٍ وَهُوَ وَجِعٌ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا لَمْ أَكُنْ حَدَّثْتُكَهُ?؛ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« لا يَسْتَرْعِي اللَّهُ عَبْدًا رَعِيَّةً يَمُوتُ حِينَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهَا إِلا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ »، قَالَ: أَلا كُنْتَ حَدَّثْتَنِي هَذَا قَبْلَ الْيَوْمِ، قَالَ: مَا حَدَّثْتُكَ، أَوْ لَمْ أَكُنْ لاُحَدِّثَكَ.
ــــــــــــــــــ
واختلف المذهب عندنا إذا طلب الشيء الخفيف: الثوب والطعام، هل يعطوه(2) أو يقاتلوا(3) دونه، وهو مبني على الخلاف في أصل المسألة: هل قتالهم مأمور به ؛ لأنه تغيير منكر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " قاتله "، أو هو مباح غير مأمور به.
وكذلك الخلاف في دعوتهم قبل القتال، وقال في الكتاب(4):" يدعون"، وهو مبني على الخلاف في أصل مسألة الدعوة بعد العلم(5) بما يدعي إليه(6).
__________
(1) في (ح):" و "، وفي حاشيتها:" أو " وعليها "صح، خ".
(2) في (أ):" يعطاه ".
(3) في (أ):" يقاتل " وكتب فوقها:" يقاتلوا ".
(4) في (ح):" الكتب ".
(5) في (أ):" الدعوة للعلم ".
(6) قوله:" إليه " ليس في (أ).(1/428)
وفيه دليل على أنه لا دية في قتلى المحاربين ولا قود ؛ لأنه إذا كان مقتوله شهيدًا، وأمر بقتاله، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - إن قتل في النار فما يأمر الشرع به لا تعقب على فاعله بعد، ولا تباعة في دنيا ولا آخرة.
وأما ما ذكر في الحديث مما كان بين عبدالله بن عمرو وعنبسة بن أبي سفيان(1).
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت وهو غاش لها إلا حرم الله عليه الجنة ".
هذا الحديث وما في معناه، قد تقدم معنى تحريم الجنة والتأويل في مثله. ومعناه بين في التحذير من غش المسلمين لمن قلده الله شيئًا من أمرهم، 229 - وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ يَعْنِي الْجُعْفِيَّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ هِشَامٍ قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: كُنَّا عِنْدَ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ نَعُودُهُ،فَجَاءَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ: إِنِّي سَأُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. ثُمَّ ذَكَرَ بِمَعْنَى حَدِيثِهِمَا ».
__________
(1) في حاشية (ح):" بياض في أصل المؤلف رحمه الله "،، وفي حاشيتة (ط):" بياض من الأصل هنا ".(1/429)
وَحَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَإِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الأخَرَانِ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ، عَادَ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ فِي مَرَضِهِ، فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ بِحَدِيثٍ لَوْلا أَنِّي فِي الْمَوْتِ لَمْ أُحَدِّثْكَ بِهِ ؛ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ لا يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ، إِلا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ ».
ــــــــــــــــــ
واسترعاه عليهم، ونصبه خليفة لمصلحتهم، وجعله واسطة بينه وبينهم في تدبيرأمورهم في دينهم ودنياهم، فإذا خان فيما اؤتمن عليه(1)، ولم ينصح فيما قلده واستخلف عليه، إما بتضييع لتعريفهم ما يلزمهم من دينهم وأخذهم به، أو القيام بما يتعين عليه من حفظ شرائعهم، والذب عنها لكل متصد لإدخال داخلة فيها، أو تحريف لمعانيها، أو إهمال حدودهم، أو تضييع حقوقهم، أو ترك حماية حوزتهم ومجاهدة عدوهم، أو ترك سيرة العدل فيهم فقد غشهم.
وقد نبه - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك من كبائر الذنوب الموبقة المبعدة عن الجنة إذا دخلها السابقون والمقربون إن أنفذ الله عليه وعيده الموجب لعذابه بالنار، أو إيقافه(2) بالبرزخ والأعراف المدة التي يشاء الله، أو يحرم الجنة رأسا إن فعل ذلك مستحلا.
__________
(1) قوله:" عليه " ليس في (ح).
(2) في (ح):" ايباقه ".(1/430)
230 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَوَكِيعٌ،ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثَيْنِ، قَدْ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا، وَأَنَا أَنْتَظِرُ الأخَرَ، حَدَّثَنَا:« أَنَّ الأمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ فَعَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ وَعَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ »، ثُمَّ حَدَّثَنَا، عَنْ رَفْعِ الأمَانَةِ، قَالَ: «يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ، كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى ــــــــــــــــــ
وقول معقل لعبيدالله بن زياد: " لولا أني في الموت لم أحدثك به(1)"، إما لأنه علم قبل أنه ممن لا تنفعه العظات، كما ظهر منه مع غيره، ثم خرج آخرا من كتمه الحديث ورأى تبليغه لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالبلاغ، أو لأنه خافه من ذكره مدة حياته لما يهيج عليه ذكر هذا الحديث ويثبِّته في قلوب الناس من سوء حاله.
قوله - صلى الله عليه وسلم -:" إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال " الحديث.
قال الإمام: " قال الهروي في باب الجيم والذال المعجمة:" قال أبو عبيد: " الجذر الأصل من كل شيء "، وقال ابن الأعرابي:" الجذر أصل حساب ونسب، وأصل شجرة ".
قال القاضي:مذهب الأصمعي في هذا الحرف فتح الجيم، وأبو عمرو يكسرها.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فيظل أثرها مثل الوكت ".
__________
(1) في (ح):" ما حدثتك به ".(1/431)
رِجْلِكَ فَنَفِطَ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ أَخَذَ حَصًى فَدَحْرَجَهُ عَلَى رِجْلِهِ، فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ لا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأمَانَةَ، حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ فِي بَنِي فُلانٍ رَجُلاً أَمِينًا، حَتَّى يُقَالَ لِلرَّجُلِ: مَا أَجْلَدَهُ، مَا أَظْرَفَهُ، مَا أَعْقَلَهُ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ ». وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا أُبَالِي أَيَّكُمْ بَايَعْتُ، لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا لَيَرُدَّنَّهُ عَلَيَّ دِينُهُ، وَلَئِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا أَوْ يَهُودِيًّا لَيَرُدَّنَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتُ لأُبَايِعَ مِنْكُمْ إِلا فُلانًا وَفُلانًا.
وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، وَوَكِيعٌ،ح، وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ جَمِيعًا، عَنِ الأعْمَشِ بِهَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ.
ــــــــــــــــــ
قال الإمام (1):" قال الهروي:" الوكت الأثر اليسير، يقال(2) للبُسْر إذا وقعت فيه نكتة من إرطاب: قد وَكَّت ".
قال القاضي (3): قال صاحب العين: " الوَكْت - بفتح الواو - نكتة في العين، وعين موكوتة، والوكت: سواد اللون "، قال أبو عبيدة:" هو اليسير منه"، ويقال: قد وَكَّتَ البسر والزهو إذا ظهرت فيه نكتة من الإرطاب من جانبها، وبسرة موكتة، فإذا كانت من طرفها فهي مُذَنِّبة.
وقوله:" مثل المجل "، بفتح الميم، قال الإمام:" هو أن يكون بين الجلد واللحم ماء، يقال: مَجَلَتْ يدُه تمجُل مَجْلاً،[ ومَجِلَت تمَجَل مَجَلاً ](4)، قال غيره: " ذلك إذا تنفطت من العمل ".
__________
(1) في (ط):" القاضي ".
(2) في (أ):" ويقال ".
(3) في (ط):" الإمام ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (ح).(1/432)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" فنَفِطَ فتراه مُنْتَبِرًا معناه(1) مرتفعًا، وأصل هذه اللفظة من الارتفاع، ومنه انتبر الأمير إذا صعد على المنبر، وبه سمي المنبر منبرًا لارتفاعه، 231 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ يَعْنِي سُلَيْمَانَ بْنَ حَيَّانَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ: أَيُّكُمْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُ الْفِتَنَ، فَقَالَ قَوْمٌ: نَحْنُ سَمِعْنَاهُ، فَقَالَ: لَعَلَّكُمْ تَعْنُونَ فِتْنَةَ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَجَارِهِ، قَالُوا: أَجَلْ. قَالَ: تِلْكَ تُكَفِّرُهَا الصَّلاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ، وَلَكِنْ أَيُّكُمْ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُ الْفِتَنَ الَّتِي تَمُوجُ مَوْجَ الْبَحْرِ، قَالَ حُذَيْفَةُ: فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ، فَقُلْتُ: أَنَا. قَالَ: أَنْتَ، لِلَّهِ أَبُوكَ ! قَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، ــــــــــــــــــ
ونبر الجرح أي ورم، والنِّبْر نوع من الذباب يلسع الإبل فيرم مكان لسعه(2)، ومنه سمي الهمز نبرًا لكون الصوت على حال من الارتفاع لا يوجد في غير هذا الحرف، وكل شيء ارتفع فقد نبر، قال أبو عبيد: " منتبرًا متنفطًا ".
__________
(1) في (ح):" فمعناه ".
(2) في (ح):" لسعته ".(1/433)
وقوله:" ما أبالي أيكم بايعت "، قال القاضي: حمله بعضهم على بيعة الخلافة، ويرد تأويله قوله: لئن كان يهوديًّا أو نصرانيًّا ليردنه(1) على ساعيه يعني(2) عامله، ولأنه أيضًا لا تجوز مبايعة اليهودي والنصراني للخلافة، ولا كل مسلم، والصواب أن مراده البيع والشراء، أراد أن الأمانة قد ذهبت من الناس، فلا يؤتمن اليوم على البيع والشراء إلا القليل، لعدم الأمانة.
وقوله:" فتنة الرجل في أهله وجاره "، وقوله:" تكفرها الصلاة.." الحديث.
أصل الفتنة في كلام العرب: الابتلاء والامتحان الاختبار(3)، ثم صارت في عرف الكلام لكل أمر كشفه الاختبار عن سوء، قال أبو زيد: " فُتِنَ الرجل يفتَن فُتُونًا إذا وقع في الفتنة، وتحول عن حال حسنة إلى سيئة ".
وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ، وَالأخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ »، قَالَ حُذَيْفَةُ: وَحَدَّثْتُهُ: أَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا يُوشِكُ أَنْ يُكْسَرَ، قَالَ عُمَرُ: أَكَسْرًا، لا أَبَا لَكَ ! فَلَوْ أَنَّهُ فُتِحَ لَعَلَّهُ كَانَ يُعَادُ، قُلْتُ: لا، بَلْ يُكْسَرُ، وَحَدَّثْتُهُ: أَنَّ ذَلِكَ الْبَابَ رَجُلٌ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ، حَدِيثًا لَيْسَ بِالأغَالِيطِ.
ــــــــــــــــــ
__________
(1) في (أ) و(ط):" ليرده ".
(2) في (ح):" أي ".
(3) في (ط):" والاختبار ".(1/434)
وفتنة الرجل في أهله وماله وولده ضروب(1) من فرط محبته لهم(2) وشحه عليهم، وشغله بهم عن كثير من الخير، كما قال الله تعالى:" إنما أموالكم وأولادكم فتنة"، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الولد مجبنة مبخلة(3)"، أو لتفريطه في القيام بما يلزم من حقوقهم، ومن تأديبهم وتعليمهم، كما قال - صلى الله عليه وسلم -:" والرجل راع على أهله وكلكم مسئول عن رعيته "، وكذلك فتنته في جاره من هذا.
فهذه كلها فتن تقتضي المحاسبة، ومنها ذنوب يرجى تكفيرها بالحسنات كما قال تعالى:" إن الحسنات يذهبن السيئات ".
وقوله:" أجل "، بمعنى نعم.
وقوله:" التي تموج كموج البحر "، أي تضطرب ويدفع بعضها بعضا كموج البحر، وكل شيء اضطرب فقد ماج، ومنه قوله تعالى:" وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض(4)".
وقوله: " فأسكت القوم " قال الإمام:" قال الأصمعي:" سكت القوم بمعنى صمتوا، وأسكتوا بمعنى أطرقوا "، قال أبو علي البغدادي وغيره:
قَالَ أَبُو خَالِدٍ: فَقُلْتُ لِسَعْدٍ: يَا أَبَا مَالِكٍ ! مَا أَسْوَدُ مُرْبَادًّا ؟ قَالَ: شِدَّةُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ، قَالَ: قُلْتُ: فَمَا الْكُوزُ مُجَخِّيًا ؟ قَالَ: مَنْكُوسًا.
ــــــــــــــــــ
"سكت وأسكت بمعنى صمت "، قال الهروي:" ويكون سكت في غير هذا بمعنى سكن، ومنه قوله تعالى:" ولما سكت عن موسى الغضب "، ويكون سكت بمعنى انقطع، حكي عن العرب: جرى الوادي ثلاثًا ثم سكت، أي انقطع، ويقال هو السكوت والسُّكات، وسكت يسكت سكتا وسكوتا وسكاتا ".
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عَوْذًا عَوْذًا".
__________
(1) في (أ):" فرطه ".
(2) قوله:" لهم " ليس في (ط).
(3) في (ح):" مبخلة مجبنة ".
(4) قوله:" في بعض " ليس في (أ).(1/435)
قال القاضي: كذا روينا هذا الحرف عن(1) القاضي الشهيد، بفتح العين والذال المعجمة في الأم، وضبطناه على ابن العاصي وغيره: " عُودًا، عُودًا، بضم العين ودال مهملة، ووقع عند بعضهم:" عَوْدًا، عَوْدًا "، بفتح العين وبالدال المهملة أيضًا(2)، وهو اختيار شيخنا أبي الحسين بن سراج من جميع وجوه رواياته، قال لي: " ومعنى "تُعْرَض(3)"، أي كأنها تلصق بعرض القلوب، أي جانبها، كما يلصق الحصير بجنب النائم، ويؤثر فيه شدة لصقها به "، قال: " وقوله:" عودا، عودا، أي تعاد وتكرر عليه شيئًا بعد شيء "، قال:
" ومن رواه بالذال المعجمة فمعناه سؤال الإعاذة منها، كما يقال: غَفْرًا غَفْرًا، وغفرانك، وبذلك انتصب، أي نسألك أن تعيذنا من ذلك وأن تغفر لنا".
وأما غيره ممن باحثناه من شيوخنا وكاشفناه عن هذا - وهو الأستاذ أبو عبدالله بن سليمان - فقال: " معناه تعرض على القلوب، أي تظهر لها فتنة بعد أخرى، وقوله: " كالحصير "، أي كما ينسج الحصير عودًا عودًا(4)، وَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ الأشْجَعِيُّ، عَنْ رِبْعِيٍّ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ حُذَيْفَةُ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ جَلَسَ، فَحَدَّثَنَا فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمْسِ لَمَّا جَلَسْتُ إِلَيْهِ، سَأَلَ أَصْحَابَهُ أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْفِتَنِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي خَالِدٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَفْسِيرَ أَبِي مَالِكٍ لِقَوْلِهِ:" مُرْبَادًّا مُجَخِّيًا ".
ــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" على "، وفي حاشيتها:" عن " وعليها "صح، خ".
(2) قوله:" أيضًا " ليس في (ح).
(3) في (ط):" يعرض ".
(4) قوله:" عودًا " ليس في (أ).(1/436)
وشطبة بعد أخرى، وعلى هذا تترجح رواية ضم العين، وذلك أن ناسج الحصير عند العرب يحتاج إلى مُنَقٍّ للقُضبان(1) لأخذ الشطب، وهو قشورها ولحاؤها(2) التي تصنع(3) منه، ومصلح لها، ثم يمكّنها الناسجُ الحصيرَ ويعرضها واحدًا واحدًا، كلما صنع واحدة ونسجها ناوله أخرى، قال الشاعر:
تذرُّع خُرْصانٍ بأيدي الشواطب
[ أي: تكسرها قدر ذراع ذراع ](4)، والخرصان: القضبان.
فشبه عرض الفتن على القلوب واحدة بعد أخرى بعرض شطب الحصير على صانعيها قضيبا قضيبا، وشطبة شطبة، وهو معنى قوله:" عودا عودا " وهكذا معنى الحديث عندي، وهو الذي يدل عليه سياق لفظه وصحة تشبيهه.
وقال الهروي:" معناه أنها تحيط بالقلوب، يقال، حصر به القوم أي(5) أطافوا به، وقال الليث: " حصير الجنب عرق يمتد معترضا على جنب الدابة إلى ناحية بطنها، شبهها به "، قال: " وقيل إنه أراد عرض السجن، والحصير السجن، قال الله عز وجل:" وجعلنا جهنم للكافرين حصيرًا "، ومراده عرض أهل السجن على قيِّمه".
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، وَعُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمِّيُّ، قَالُوا:حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ: أَنَّ عُمَرَ قَالَ: مَنْ يُحَدَّثَنَا، أَوْ قَالَ: أَيُّكُمْ ــــــــــــــــــ
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" فأي قلب أشربها "، أي حلت فيه محل الشراب، كقوله تعالى: " وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم "، أي حب العجل.
وقوله:" نكتت(6) "، أي نقطت، قال ابن دريد: " كل نقط في شيء بخلاف لونه فهو نكت ".
__________
(1) في (ح):" منف القضبان ".
(2) في (ط):" ولحاها ".
(3) في (ح):" الذي يصلع "، وفي حاشيتها:" التي تصنع ".
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(5) في (ح):" إذا ".
(6) في (ط):" نكتت فيه ".(1/437)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" على قلبين: أبيض مثل الصفا..."، ليس تشبيهه بالصفا لما تقدم من بياضه لكن أخذ في وصف آخر من شدته على عقد الإيمان وسلامته من الخلل، وأن الفتن لم تلصق به ولم تؤثر فيه: كالصفا، وهو الحجر الأملس الذي لا يعلق به شيء، بخلاف الآخر الذي شبهه بالكوز الخاوي الفارغ من الإيمان(1)، كما قيل في قوله تعالى: " وأفئدتهم هواء "، قيل: لا تعي خيرا.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" والآخر أسود مُرْبَئِدّ كالكوز مُجَخِّيًا ".
قال الإمام:" وقع تفسير ذلك في كتاب مسلم، قال أبو خالد: قلت لسعد بن طارق: " ما الأسود المربئد ؟ " قال: " شدة البياض في سواد "، قلت: " ما(2) معنى مجخيا ؟ "، قال: " منكوسًا "، قال الهروي:" المجخي: المائل، وجخى إذا فتح عضديه في السجود، وكذلك [ جَخَّ.
قال شمر:" جخى في صلاته إذا رفع بطنه عن الأرض في السجود ، وكذلك](3) خوى، قال غيره: " جخى وخوى، إذا جلس مستوفزًا(4) في الغائط".
يُحَدَّثَنَا، وَفِيهِمْ حُذَيْفَةُ، مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْفِتْنَةِ ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا، وَسَاقَ الْحَدِيثَ كَنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: قَالَ حُذَيْفَةُ: حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالأغَالِيطِ. وَقَالَ: يَعْنِي أَنَّهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.
ــــــــــــــــــ
__________
(1) في حاشية (ح):" من الماء " وعليها " خ".
(2) في (ط):" فما ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(4) في (ح):" مستدبرًا "، وفي حاشيتها:" مستوفزًا " وعليها " خ".(1/438)
قال القاضي: ما وقع من(1) التفسير في الأم، مما ذكره مسلم، في بعضه تلفيف، وفي بعضه تصحيف، قال لي ابن سراج: " ليس قوله:" كالكوز مجخيا " تشبيهًا(2) لما تقدم من سواده، لكنه أخذ في وصف آخر من صفاته من أنه قلب ونكس حتى لا يعلق به خير ولا حكمة، ومثله بالكوز المجخي، يبينه قوله:" لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا ".
وقال أبو عبيد:" المجخي المائل، ولا أحسبه أراد بميله إلا أنه منخرق الأسفل، شبه به القلب الذي لا يعي خيرا،كما لا يثبت الماء في الكوز المنخرق ".
قال القاضي: إذا كان مقلوبا منكوسا لم يثبت فيه شيء وإن لم يكن منخرقا.
وأما قوله في المربئد: " شدة البياض في سواد(3)" فإن بعض شيوخنا كان يقول إنه تصحيف، وهو قول أبي الوليد(4) الكناني قال: " أرى صوابه شبه البياض في سواد، وذلك أن شدة البياض في السواد(5) لا يسمى ربدة، وإنما يقال لهذا بلق إذا كان في الجسم، وحور إذا كان في العين، والربدة إنما هو شيء من بياض يسير يخالط السواد، كلون أكثر النعام، ومنه قيل للنعامة: ربداء، فصوابه: شبه البياض، لا شدة البياض، فيوافق تفسير مربئد.
…………………………………………………
......................................................................
ــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" في ".
(2) في (أ) و(ط):" تشبيه ".
(3) في (أ):" السواد ".
(4) في (ط):" القاضي أبو الوليد ".
(5) في (أ):" سواد ".(1/439)
قال أبو عبيد عن أبي عمرو وغيره: " الربدة لون بين السواد [والغبرة "، قال(1) ابن دريد: " الربدة لون أكدر "، قال غيره :" الربدة: أن يختلط السواد](2) بكدرة "، قال الحربي:" الربدة لون النعام، بعضه أسود، وبعضه أبيض، ومنه اربد لونه، إذا تغير ودخله سواد، وإنما سمي النعام أربد؛ لأن أعالي ريشه إلى السواد "، وقال نفطويه:" المربد الملمع بسواد وبياض، ومنه تربد لونه، أي تلون فصار كلون الرماد "، وهذا أيضًا تفسير قول الحربي.
وكذا روينا قوله: " مربئد " بالهمز عن أكثر شيوخنا عن العذري، وكذا ذكره الحربي، وأصله أن لا يهمز، ويكون " مربد "، مثل: مسود، ومحمر، وكذا ذكره أبو عبيد والهروي، وصححه بعض شيوخنا عن أبي مروان بن سراج ؛ لأنه من " اربد(3)" إلا على لغة من قال: " احمأرّ " لالتقاء الساكنين، فيقال: اربأد، ومربئد.
وروايتنا فيه عن الأسدي عن السمرقندي، وعن الخشني عن الطبري، وهي رواية أبي(4) سعيد أيضًا: " مرباد "، بألف غير مهموز، قال(5) الحربي: " يقال: اصفر واحمر واخضر وابيض واسود، هذه الخمسة بغير ألف وما سواها بألف مثل: ادكان واشهاب واصهاب "، فعلى هذا لا يقال إلا ارباد.
وقال(6) أبو عبيد: " مربد مثل محمر ومصفر ومبيض "، وفي حديث بيع الثمرة: حتى تحمار وتصفار(7).
وقال بعضهم:" يقال احمر الشيء فإذا قوي قيل: احمار، فإذا زاد قيل: احمأر "، فعلى هذا تصوب جميع الروايات، ويكون بعضها أبلغ من بعض.
__________
(1) في (ح):" وقال ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(3) في حاشية (ح):" إذا تغير " وعليها "صح ".
(4) كذا في حاشية (ح)، وعليها "خ"، وفي (ط):" ابن ".
(5) في (ط):" وقال ".
(6) في (ط):" قال ".
(7) في (ط):" يصفار ".(1/440)
232 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ جَمِيعًا، عَنْ مَرْوَانَ الْفَزَارِيِّ، قَالَ ابْنُ عَبَّادٍ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ، عَنْ يَزِيدَ يَعْنِي ابْنَ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ ».
ــــــــــــــــــ
وقوله:" إن بينك وبينها بابا مغلقا..."، الحديث، وذكر كسر الباب، وفسره في غير هذا الحديث أن الباب " عمر "، واستعظام عمر كسره، وخوفه منه؛ لأن الكسر لا يكون إلا عن إكراه وغلبة وخلاف عادة، فكان الباب المغلق عن دخول الفتن على الإسلام عمر، وكسره قتله.
وقوله:" ليس بالأغاليط "، قال ابن دريد:" المغالط(1) الكلم التي يغالط بها، واحدها مغلطة وأغلوطة، وجمعها أغاليط "، معناه: حدثته حديثًا صدقا ليس فيه غلط لقائله ولا سامعه، كما بينه قبل بقوله:" إن عمر كان يعلم من الباب "، يعني أنه كان عنده وعند عمر من قبل(2) النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس من رأيه وحديثه، ولا من صحف الكتابيين حيث تتصور الأغاليط.
وقال(3) الداودي:" معناه ليس بالصغير الأمر(4) ولا اليسير الرزية "، والصواب الأول.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء ".
روى ابن أبي أويس عن مالك أن معناه في المدينة، وأن الإسلام بدأ بها غريبًا ويعود إليها.
وظاهر الحديث العموم، وأن الإسلام بدأ في آحاد من الناس وقلة(5)، ثم انتشر وظهر، ثم سيلحقه النقص والاختلال حتى لا يبقى أيضًا إلا في آحاد
__________
(1) في (ط):" المغاليط ".
(2) في (ح):" قول "، وفي حاشيتها:" قبل " وعليها "صح، خ".
(3) في (ط):" قال ".
(4) في (ط):" للأمر ".
(5) قوله:" وقلة " ليس في (ط).(1/441)
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ وَالْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ الأعْرَجُ قَالا: حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ - وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ الْعُمَرِيُّ -، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« إِنَّ الإِسْلامَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ فِي جُحْرِهَا ».
233 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ وَأَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،ح، وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« إِنَّ الإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا ».
ــــــــــــــــــ
وقلة، غريبا كما بدأ.
وأصل الغربة: البعد، به(1) سمي الغريب لبعد داره، وسمي النفي تغريبا لذلك، وورد تفسير(2) الغريب في الحديث، قال: " هم النزاع من القبائل ".
قال الهروي:" أراد بذلك المهاجرين الذين هجروا أوطانهم إلى الله تعالى، وسمي الغريب نازعا ونزيعا ؛ لأنه نزع عن أهله وعشيرته وبعد عن ذلك ".
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" إن الإيمان ليأرز إلى المدينة "، وفي الحديث الآخر:" ليأرز ما بين المسجدين ".
قال الإمام:" قال أبو عبيد " أي ينضم ويجتمع بعضه إلى بعض "، كما تنضم الحية في جحرها ".
قال القاضي: وقال ابن دريد:" أرز الشيء يأرز إذا ثبت في الأرض، وشجرة آرزة وأرزة ".
__________
(1) في (ط):" وبه ".
(2) في (ح):" في تفسير ".(1/442)
234 - حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لا يُقَالَ فِي الأرْضِ اللَّهُ اللَّهُ?».
235 - حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ اللَّهُ اللَّهُ?».
ــــــــــــــــــ
ومعناه أن الإيمان أولاً وآخرا بهذه الصفة ؛ لأنه في أول الإسلام كان كل من خلص إيمانه وصح إسلامه أتى المدينة إما مهاجرًا مستوطنًا لها، وإما متشوقا لرؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ومتعلمًا منه، ومتقربًا(1) إلى الله تعالى(2) بلقياه، ثم بعده هكذا في زمان الخلفاء(3) وأخذ سيرة العدل منهم والاقتداء بجمهور الصحابة فيها، ثم بمن بعدهم من(4) علمائها الذين كانوا سرج الوقت وأئمة الهدى، وأخذ السنن المنتشرة بها عنهم، فكان كل ثابت الإيمان ومنشرح الصدر به يرحل إليها ويفد عليها، ثم بعد في كل وقت وإلى زماننا(5) هذا لزيارة قبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، والتبرك بمشاهده وآثاره الكرام، فلا يأتيها(6) إلا مؤمن، ولا يحمل أحدًا على قصدها إلا إيمانه وصحة يقينه.
وقال أبو مصعب الزهري في معنى هذا الحديث:" إن المراد بالمدينة أهل المدينة وأنه تنبيه على صحة مذهبهم وسلامتهم من البدع والمحدثات واقتدائهم بالسنن، فالإيمان مجتمع عندهم حيث كانوا ومن سلك مسلكهم واتبع سبيلهم ".
__________
(1) في (ح):" ومتبركًا ومتقربًا ".
(2) قوله:" إلى الله " ليس في (أ).
(3) في (ح):" زمان النبي والخلفاء ".
(4) في (ح):" فيها ".
(5) في (ط):" زمننا ".
(6) في (ح):" يأتي ".(1/443)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله، الله"، وفي حديث آخر: " على أحد يقول: الله، الله "، كذا لجماعة شيوخنا، ولابن
236 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ - وَاللَّفْظُ لأَبِي كُرَيْبٍ - قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:« أَحْصُوا لِي كَمْ يَلْفِظُ الإِسْلامَ »، قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَتَخَافُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ مَا بَيْنَ السِّتِّ مِائَةٍ إِلَى السَّبْعِ مِائَةٍ ؟ قَالَ:« إِنَّكُمْ لا تَدْرُونَ، لَعَلَّكُمْ أَنْ تُبْتَلَوْا »، قَالَ: فَابْتُلِيَنَا حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ مِنَّا لا يُصَلِّي إِلا سِرًّا ».
ــــــــــــــــــ
أبي جعفر: " يقول: لا إله إلا الله ".
هو(1) إشارة إلى معنى ما في الحديث الآخر أنها لا تقوم إلا على شرار الخلق وحثالتهم، وأن الله تعالى يتوفى المؤمنين قبل قيامها ويرسل ريحا من اليمن لقبض أرواحهم، ولا يخالف هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر(2): " لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة "، وأن هؤلاء يقاتلون(3) الدجال ويجتمعون بعيسى - عليه السلام -، ثم لا يزال(4) هذه الطائفة على الصفة التي وصفها به إلى أن يقبضهم الله تعالى فيمن يقبض من المؤمنين قرب الساعة، وإذا ظهرت أشراطها فقد حان يومها وقرب وقتها.
__________
(1) قوله:" هو " ليس في (ط).
(2) قوله:" في الحديث الآخر " ليس في (ح).
(3) في (أ):" ممن يقاتلون ".
(4) في (ط) و(هـ):" تزال ".(1/444)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" أحصوا لي كم يلفظ بالإسلام، فقلنا: يا رسول الله، أتخاف علينا ونحن ما بين الستمائة إلى السبعمائة ؟، فقال: إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا، قال: فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرا ".
هذا الأمر لم يكن في مدته - عليه السلام - بعد أن حصل الإسلام في هذه العدة المذكورة ودونها بكثير، ولعل قول حذيفة هذا كان [ بعد موته - عليه السلام - ](1)،
236 - حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَسْمًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَعْطِ فُلانًا فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:« أَوْ مُسْلِمٌ »، أَقُولُهَا ثَلاثًا، وَيُرَدِّدُهَا عَلَيَّ ثَلاثًا:« أَوْ مُسْلِمٌ »، ثُمَّ قَالَ:« إِنِّي لاُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ ».
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ)، وكتب الناسخ بدلاً منه:" كذا "؛ أي: كذا بالأصل الذي نقل منه.(1/445)
237 - حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَعْطَى رَهْطًا وَسَعْدٌ جَالِسٌ فِيهِمْ، قَالَ سَعْدٌ: فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُعْطِهِ وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! مَا لَكَ عَنْ فُلانٍ ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لاَرَاهُ مُؤْمِنًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَوْ مُسْلِمًا» قَالَ: فَسَكَتُّ قَلِيلاً، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! مَا لَكَ عَنْ فُلانٍ ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لاَرَاهُ مُؤْمِنًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَوْ مُسْلِمًا»، قَالَ: فَسَكَتُّ قَلِيلاً، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا عَلِمْتُ مِنْهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا لَكَ عَنْ فُلانٍ ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لاَرَاهُ مُؤْمِنًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَوْ مُسْلِمًا، إِنِّي لاُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَّ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ ».
ــــــــــــــــــ
وقوله في حديث سعد حين قال:" أعط فلانا فإنه مؤمن "، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:" أو مسلم ".(1/446)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ - وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ -، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ ؛ أَنَّهُ قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَهْطًا وَأَنَا جَالِسٌ فِيهِمْ، بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّهِ، وَزَادَ: فَقُمْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَسَارَرْتُهُ، فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُلانٍ.
ــــــــــــــــــ
قال الإمام:" قال بعضهم: قال أبو مسعود الدمشقي:" هذا الحديث إنما يرويه ابن عيينة عن معمر عن الزهري، قاله الحميدي، وسعيد بن عبدالرحمن، ومحمد بن الصباح الجرجرائي(1)، كلهم عن سفيان عن معمر عن الزهري بإسناده سواء.
وهذا هو المحفوظ عن سفيان، وكذلك قال أبو الحسن الدارقطني في كتاب الاستدراكات في هذا الإسناد ".
قال القاضي: هذا الحديث أصح دليل على الفرق بين الإيمان والإسلام، وأن الإيمان باطن ومن عمل القلب، والإسلام ظاهر ومن عمل الجوارح، لكن لا يكون مؤمن(2) إلا مسلمًا، وقد يكون مسلم غير مؤمن، ولفظ هذا الحديث يدل عليه.
وفيه رد على الكرامية وغلاة المرجئة في حكمهم بصحة الإيمان لمن نطق بالشهادتين وإن لم يعتقدها بقلبه، لنفي النبي - صلى الله عليه وسلم - اسم الإيمان عنه واقتصاره به على الإسلام.
وفيه حجة لقول من يجيز إطلاق:" أنا مؤمن " دون استثناء، ورد على من أبى ذلك، وهي مسألة اختلف فيها من زمان الصحابة - رضي الله عنهم - إلى هلمّ جرا،
__________
(1) في (أ) و(ح):" الجرجاني ".
(2) في (ح):" مؤمنًا ".(1/447)
وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سَعْدٍ يُحَدِّثُ هَذَا، فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ بَيْنَ عُنُقِي وَكَتِفِي، ثُمَّ قَالَ:« أَقِتَالاً أَيْ سَعْدُ، إِنِّي لاُعْطِي الرَّجُلَ … ».
ــــــــــــــــــ
وكل قول إذا حقق كان له وجه، وفي طرف لا ينافي القول الآخر، فمن لم يستثن أخبر عن حكم نفسه في الحال، وأما المآل فإلى العالم(1) به، ومن استثنى أشار إلى غيب ما سبق له في اللوح المحفوظ.[ قال القاضي رحمه الله](2) وإلى التوسعة في القولين ذهب من السلف: الأوزاعي وغيره، وهو قول أهل التحقيق، نظرا إلى ما قلناه(3) ورفعا للخلاف.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -، آخر الحديث:" إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار ".
وهذه(4) الرواية الصحيحة: " يكبه "، بفتح الياء، وضم الكاف، فعل ثلاثي من: كب، ولم يأت في لسان العرب فعل ثلاثيه معدى ورباعيه غير معدى، على نقيض المتعارف إلا كلمات قليلة منها هذا، يقال: أكب الرجل، وكببته أنا، قال الله تعالى: " أفمن يمشي مكبا على وجهه "، وقال تعالى: " فكبت وجوههم في النار ".
ومثله: أقشع الغيم وقشعته الريح، وانسل ريش الطائر ووبر البعير ونسلته(5) أنا(6)، وأنزفت البئر: قل ماؤها، ونزفتها أنا، وأمرت الناقة درت(7) لبنها، ومريتها أنا، وأشنق البعير: رفع رأسه، وشنقته أنا.
__________
(1) في (أ):" العلامة ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).
(3) في (ح):" لما قلناه ".
(4) في (ط):" هذه ".
(5) في (ح):" وسللته ".
(6) قوله:" أنا " ليس في (أ).
(7) في (أ):" إذا درت ".(1/448)
238 - وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ قَالَ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى، قَالَ: أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ». قَالَ:« وَيَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا، لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ لَبْثِ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدَّاعِيَ ».
ــــــــــــــــــ
وقوله فيه: " أقتالاً ؟ أي سعد(1)! "، أي: مدافعة ومكابرة، وعليه تأول بعضهم قوله(2) في المار بين يدي المصلي:" فليقاتله "، أي: فليدافعه، ويدرؤه عن المرور بين يديه.
ولما كرر سعد كلامه على النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة بعد أخرى، وكل ذلك لا يقبله النبي - صلى الله عليه وسلم - منه، وهو يردده أشبه المدافعة.
وليس مقال سعد مناقضًا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن(3) لما قطع سعد على إيمانه، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -:" أو مسلما "، بمعنى أن هذه اللفظة التي تطلق على الظاهر أولى في الاستعمال ؛ إذ السرائر مخفية لا يعلمها إلا الله عز وجل، وحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمته على الظواهر.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" أو مسلما "، بسكون الواو، على أنها " أو " التي للتقسيم(4) والتنويع أو الشك(5) والتشريك، ومن فتحها أخطأ وأحال المعنى. والله أعلم(6)
__________
(1) قوله:" أي سعد " ليس في (ح) و(ط).
(2) قوله:" قوله " ليس في (أ) و(ح).
(3) في (ط):" لكن ".
(4) في (أ):" للقسم ".
(5) في (أ):" والشك ".
(6) قوله:" والله أعلم " ليس في (ط).(1/449)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" نحن احق بالشك من إبراهيم ".
قال الإمام: " يحتمل أن يكون لما رأى إبراهيم - عليه السلام - سأل زيادة يقين بأن يعلم بالعيان ما علم بالدليل - ومعلوم أن بين العلمين في العادة من انتفاء الشكوك تباينا - عبر عن المعنى الذي بين العلمين بالشك مجازًا "، وقد تكلم
وَحَدَّثَنِي بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَأَبَا عُبَيْدٍ أَخْبَرَاهُ، ــــــــــــــــــ
الإمام أبو عبدالله أيضًا آخر الكتاب على قضية إبراهيم - عليه السلام - ومضمن هذا الحديث بأشبع من هذا فقال: " من الناس من ذهب إلى أن إبراهيم - عليه السلام - إنما أراد بهذا اختبار منزلته واستعلام قبول دعوته، فسأل الباري سبحانه أن يخرق له العادة ويحيي له(1) الموتى ليعلم بذلك قدر منزلته عند الله تعالى، ويحمل هؤلاء قوله تعالى:" أو لم تؤمن " على أن المراد به: بقربك مني وبفضيلتك لدي.
فيكون التقدير - لو ثبت حمل الآية على هذا المعنى -: " نحن أولى أن نختبر حالنا عند الله من إبراهيم - عليه السلام - "، على جهة الإشفاق منه - عليه السلام - والتواضع لله تعالى.
__________
(1) قوله:" له " ليس في (ط).(1/450)
وإن قلنا بما يقتضيه أصل المحققين، وأن المراد أن ينتقل من اعتقاد إلى اعتقاد آخر هو أبعد من طريان الشك ونزغات الشيطان(1)؛ لأنا نساوي(2) بين العلوم الضرورية والعلوم النظرية، ونمنع التفاضل بينهما في نفس التعلق، وإنما يصرف(3) التفاضل إلى أن الشك لا يطرأ على الضروري في العادة، والنظري قد يطرأ عليه،فيكون إبراهيم - عليه السلام - قد(4) سأل ربه عز وجل زيادة في الطمأنينة وسكون النفس، حتى تنتفي الشكوك أصلاً، ويكون المراد من نبينا - صلى الله عليه وسلم -:" أنا أحق بالشك في هذا منه "، على جهة الإشفاق أيضًا، أو يكون(5) المراد بذلك أمته ليحضهم على الابتهال إلى الله تعالى بالتعوذ من نزغات الشيطان في عقائد الدين.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَفِي حَدِيثِ مَالِكٍ:( وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ). قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الأيَةَ حَتَّى جَازَهَا. ــــــــــــــــــ
قال القاضي: للناس في معنى سؤال إبراهيم - عليه السلام - أجوبة كثيرة، منها الجوابان المتقدمان في إرادته اختبار المنزلة أو زيادة اليقين.
وقيل: أراد علم كيفيته واطمئنان القلب لمشاهدتها، فكان(6) له علم بالوقوع، وأراد علما ثانيا بكيفيته ومشاهدته، وطمأنينة قلبه، لما كان ينازعه من حب مشاهدة ذلك.
وقيل: إنه لما احتج على الذي حاجه بأن ربه يحيي ويميت طلب ذلك من ربه عز وجل، ليصح استدلاله عيانا بعد أن كان إيمانا .
وقيل: هو(7) سؤال على طريق الأدب، والمراد: أقدرني على إحياء الموتى، وطمأنينة القلب هنا ببلوغ الأمنية.
__________
(1) في (ط):" الشياطين ".
(2) في حاشية (ح):" لا " وعليها "خ" إشارة إلى أنه في نسخة:" لا نساوي ".
(3) في (ح):" نعرف ".
(4) قوله:" قد " ليس في (أ) و(ط).
(5) في (أ):" أيضًا ويكون ".
(6) في (أ):" وكان ".
(7) قوله:" هو " ليس في (أ).(1/451)
وذهب بعض أصحاب الإشارات إلى أن المعنى أنه أرى من نفسه الشك وما شك، لكن ليجاوب فيزداد بذلك قربة.
وقيل في قوله - عليه السلام -:" نحن أحق بالشك من إبراهيم "، سوى ما تقدم: نفي لشك إبراهيم، وإبعاد الخواطر الضعيفة أن يظن بسؤاله ذلك شكا فيما سأل، أي: نحن موقنون بالبعث وإحياء الموتى، فلو شك إبراهيم في ذلك لكنا أولى بالشك على طريق الأدب، وكلاهما لا يجوز عليه الشك.
وقد بسطنا الكلام في هذا وشبهه في القسم الثالث من كتاب "الشفا "، وسيأتي منه آخر الكتاب.
حَدَّثَنَاه عَبْدُ ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ يَعْنِي ابْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُوَيْسٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ كَرِوَايَةِ مَالِكٍ بِإِسْنَادِهِ، وَقَالَ: ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الأيَةَ حَتَّى أَنْجَزَهَا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي ".
قال الإمام: " هو تنبيه على فضل يوسف - عليه السلام - وصبره على المصائب.(1/452)
قال القاضي: الداعي هنا(1) رسول الملك ليأتيه به، فقال له يوسف - عليه السلام -: " ارجع إلى ربك... " الآية، ولم يخف(2) للخروج من السجن الطويل والراحة من البلية العظيمة لأول ما أمكنه حتى تثبت وتوقر(3)، وراسل(4) الملك في كشف الأمر الذي سجن(5) بسببه، ومكاشفة النسوة الحاضرات له، وتظهر براءته، ويلقى الملك غير مرتاب ولا خجل(6) مما عساه يقع بقلبه مما رفع عنه، فنبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على فضيلة يوسف - عليه السلام -، وقوة نفسه، وتوقره، وصدق نظره للعواقب، وجودة صبره، وأخبر على نفسه هو بما أخبر عن طريق التواضع والإنافة(7) بمنزلة يوسف، وأنه - عليه السلام - كان يغلب الراحة من المحنة أولاً على غير ذلك.
ولا يظن أن إجابة الداعي هنا هي مراودة المرأة ودعاؤها يوسف لما دعته له.
وقوله في لوط - عليه السلام -:" إنه كان يأوي إلى ركن شديد ".
قال الإمام:" يريد الباري تعالى ؛ لأنه الكافي في الحقيقة ".
__________
(1) في (أ) و(ط):" ههنا ".
(2) في (ح):" يجب "، وفي حاشيتها:" يخف " وعليها "صح".
(3) لم تتضح هذه الكلمة في (أ).
(4) في (ط):" وأرسل ".
(5) في (ط):" من ".
(6) في (ح):" غير خجل ولا مرتاب ".
(7) حاشية (ح):" الإنابة " وعليها "خ"، وذكذا في (ط).(1/453)
قال القاضي(1): كأن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتقد عليه قوله هذا، وطلب رحمة الله له من هذا القول ؛ إذ أراد لوط(2) - عليه السلام - بالركن عشيرته ليمنعوه من قومه، ويحموا أضيافه عن مرادهم السوء بهم، وأن ضيق صدره بذلك وحرجه لما 239 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« مَا مِنَ الأنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلا قَدْ أُعْطِيَ مِنَ الأيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لقي منهم أنساه اللجأ إلى ربه والاعتصام به، وحمله على سنة الله في خلقه وعادته من اعتصام بعضهم ببعض، والله تعالى أشد الأركان وأقواها وأمنعها، وقد تكرر الحديث آخر الكتاب.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا [ أوحى الله إلي](3)... " الحديث.
__________
(1) قوله:" القاضي " ليس في (ط).
(2) قوله:" لوط " ليس في (ح).
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ).(1/454)
قال الإمام: " أشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " وحيا " إلى معنى بسطه العلماء فقالوا: لأن(1) معجزته - صلى الله عليه وسلم - يبعد أن يتخيل(2) فيها أنها ضرب من السحر، وإنما هو كلام معجز، ولا يقدر السحرة أن يأتوا بما يتخيل تشبيها به، كما فعل في عصا موسى - عليه السلام -، وغيرها ؛ لأنهم أتوا بعصي وحبال يتخيل أنها تسعى، فيحتاج التمييز بينها وبين ما أتى به موسى - عليه السلام - إلى نظر، والنظر عرضة الزلل، فيخطئ الناظر فيعتقد أن ذلك سواء ".
قال القاضي: وفيه وجه آخر، وهو أن سائر معجزات الأنبياء عليهم السلام انقرضت بانقراضهم،ولم يشاهدها إلا من كان حاضرا لها، ومعجزة نبينا - صلى الله عليه وسلم - من القرآن وخرقه العادة في أسلوبه وبلاغته بينة لكل من يأتي(3) إلى يوم القيامة، إلى ما انطوى عليه من الأخبار عن الغيوب، فلا يمر عصر ولا
240 - حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عَمْرٌو ؛ أَنَّ أَبَا يُونُسَ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
زمن(4) إلا وتظهر فيه معجزة مما أخبر أنها تكون، تدل على صدقه وصحة نبوته، وتجدد الإيمان في قلوب أمته.
__________
(1) في حاشية (ح):" فإن ".
(2) في (ح):" تخيل "، وفي حاشيتها:" يتخيل " وعليها "صح، خ".
(3) قوله:" لكل من يأتي " ليس في (ح).
(4) في (ح):" زمان ".(1/455)
ووجه آخر على أحد المذهبين في القول بالصرفة وأن المعارضة كانت من جنس قوة البشر،[ لكنهم لم يقدروا عليها، على أحد قولي الأشعري، وصرفوا عنها أو من قدرة البشر ](1) فمنعوا منها على قول المعتزلة.
فعدولهم عن المعارضة لأحد الوجهين المتقدمين، ورضاهم بالقتل والجلاء، ونكولهم عن ذلك وهو من مقدورهم أو(2) جنس مقدورهم أبين في الدلالة من غيرها من الأمور التي تختلج في الظنون الكاذبة ويموه(3) فيها الملحدة(4) بالشبه المخيلة ؛ إذ العجز عن المقدور أوقع في النفوس، وأوضح في الدلالة من إبداء الغريب، والمجيء بما لم يعهد عند هؤلاء، وإليه نحا أبو المعالي في بعض كتبه.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - :" لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار ".
فيه دليل على أن من في أطراف الأرض وجزائر البحر(5) المنقطعة، ممن لم تبلغه دعوة الإسلام ولا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن الحرج عنه في عدم الإيمان به ساقط، لقوله: " لا يسمع بي " ؛ إذ طريق معرفته والإيمان به - عليه السلام - مشاهدة معجزته
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(2) بعدها في (ح) ملحقًابالحاشية:" من ".
(3) في (ح):" تموه ".
(4) في (أ) و(ط):" الملحد ".
(5) في (ح):" البحار "، وفي حاشيتها:" البحر " وعليها "صح، خ".(1/456)
241 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ صَالِحِ بْنِ صَالِحٍ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ سَأَلَ الشَّعْبِيَّ فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرٍو ! إِنَّ مَنْ قِبَلَنَا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ يَقُولُونَ فِي الرَّجُلِ إِذَا أَعْتَقَ أَمَتَهُ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا: فَهُوَ كَالرَّاكِبِ بَدَنَتَهُ، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« ثَلاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وصدقه أيام حياته، أو صحة النقل بذلك والخبر لمن لم يشاهده أو جاء بعده، بخلاف الإيمان بالله تعالى وتوحيده الذي يوصل إليه بمجرد النظر الصحيح ودليل العقل السليم.
وذكر مسلم قول بعضهم في الرجل إذا أعتق أمته ثم تزوجها أنه كراكب بدنته.
لا خلاف بين أهل العلم في جواز تزويج الرجل معتقته، وإنما اختلفوا فيمن جعل صداقها عتقها، وهل يكون صداقًا أم لا(1)؟ وبسطه يأتي في النكاح.
واختلفوا في ركوب الرجل بدنته، وبابه في الحج.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" لينزلن فيكم ابن مريم(2) حكمًا مقسطًا... " الحديث.
__________
(1) في (ح):" صداقها عتقها وهل يكون صداقها عتقها، وقيل يكون صداقا أم لا ؟".
(2) في (أ):" عيسى ابن مريم ".(1/457)
قال الإمام: " قال الهروي وغيره:" الإقساط والقسط: العدل، ومنه قوله تعالى: " وأقسطوا إن الله يحب المقسطين "، ومنه الحديث:" إذا حكموا عدلوا، وإذا قسموا أقسطوا "، ومنه قوله تعالى:" ذلكم أقسط عند الله "، أي أعدل، وقال الله سبحانه وتعالى: " قل أمر ربي بالقسط "، أي بالعدل، كقوله تعالى:{ إن الله يأمر بالعدل(1) }"، قال ابن قتيبة:" وسمي الميزان رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَأَدْرَكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ وَصَدَّقَهُ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقَّ سَيِّدِهِ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ فَغَذَّاهَا فَأَحْسَنَ غِذَاءَهَا، ثُمَّ أَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ أَدَبَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ »، ثُمَّ قَالَ الشَّعْبِيُّ لِلْخُرَاسَانِيِّ: خُذْ هَذَا الْحَدِيثَ بِغَيْرِ شَيْءٍ، فَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِيمَا دُونَ هَذَا إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ،ح، وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،ح، وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ كُلُّهُمْ، عَنْ صَالِحِ بْنِ صَالِحٍ بِهَذَا الإسْنَادِ نَحْوَهُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القسط لأن القسط العدل "، وبالميزان يقع العدل في القسمة ،وقوله سبحانه: { ونضع الموازين القسط(2)}، وهو العدل ". قال غيره:" وأما قسط بغير ألف فمعناه جار، ومنه قوله سبحانه وتعالى:{ وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبًا }، يقال: قسط يقسط قسطًا وقسوطًا، إذا جار، والإقساط والقسط: العدل والقسوط والقسط: الجور ".
__________
(1) في (ح):"{ بالعدل والإحسان }".
(2) في (ح):"{ القسط ليوم لقيامة }".(1/458)
قال القاضي: وفي قوله: " ويقتل الخنزير " دليل على قتلها إذا وجدت ببلاد الكفر(1)، أو بأيدي من أسلم من أهل الذمة، وقيل تُسَرَّح.
وفي(2) قوله:" ويكسر الصليب " دليل على تغيير آلات الباطل وكسرها، ودليل على تغيير ما نسبته النصارى إلى شرعهم وترك إقرارهم على شيء منه، وأنه يأتي ملتزما لشريعتنا.
وقيل معنى قوله: " ويكسر الصليب " أي يبطل أمره ويسقط حكمه، كما يقال كسر حجته.
242 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ،ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم -?:« وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ - صلى الله عليه وسلم - حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضُ الْمَالُ حَتَّى لا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ ».
__________
(1) في (ط):" الكفرة ".
(2) في (ح):" وقيل " وفوقها:"صح، خ".(1/459)
وَحَدَّثَنَاه عَبْدُ الأعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ،ح، وَحَدَّثَنِيهِ حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ،ح، وَحَدَّثَنَا حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ كُلُّهُمْ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الإسْنَادِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ:« إِمَامًا مُقْسِطًا، وَحَكَمًا عَدْلاً »، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ:« حَكَمًا عَادِلاً »، وَلَمْ يَذْكُرْ:" إِمَامًا مُقْسِطًا ". وَفِي حَدِيثِ صَالِحٍ:« حَكَمًا مُقْسِطًا »، كَمَا قَالَ اللَّيْثُ، وَفِي حَدِيثِهِ مِنَ الزِّيَادَةِ:«وَحَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا »، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ:{ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } الأيَةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" ويضع الجزية،ويفيض المال " قيل: يسقطها فلا يقبلها من أحد ؛ لأن المال حينئذ يفيض، وتقيء الأرض أفلاذ كبدها منه، كما جاء في الحديث الآخر، فلهذا أسقطها هو، إذ لم يكن في أخذها منفعة للمسلمين، فلم يقبل من أحد إلا الإيمان بالله عز وجل.
وقد يكون فيض المال هنا من وضع الجزية، وهو ضربها على سائر الكفرة ؛ إذ لم يقاتله أحد، وإذ وضعت الحرب أوزارها، وإذ أذعن جميع(1/460)
243 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« وَاللَّهِ لَيَنْزِلَنَّ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَادِلاً، فَلَيَكْسِرَنَّ الصَّلِيبَ، وَلَيَقْتُلَنَّ الْخِنْزِيرَ، وَلَيَضَعَنَّ الْجِزْيَةَ، وَلَتُتْرَكَنَّ الْقِلاصُ فَلا يُسْعَى عَلَيْهَا، وَلَتَذْهَبَنَّ الشَّحْنَاءُ وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ، وَلَيَدْعُوَنَّ إِلَى الْمَالِ فَلا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الناس له، إما بإسلام، أو إلقاء يد، فيضع عليه الجزية ويضربها.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " حتى تكون السجدة الواحدة خيرًا(1) من الدنيا وما فيها "، من معنى ما تقدم أن أجرها خير لمصليها من صدقته بالدنيا وما فيها، لفيض المال حينئذ ولهذا لا يوجد من يقبله، ولهوانه وقلة الشح به، وقلة الحاجة إليه للنفقة في الجهاد، لوضع الحرب أوزارها حينئذ.
وتكون السجدة الواحدة(2) بعينها، أو عبارة عن الصلاة، وأهل الحجاز يسمون الركعة سجدة، ومنه في الحديث:" صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سجدتين قبل الظهر، وسجدتين بعدها ".
وقوله - صلى الله عليه وسلم - " ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها ".
قال الإمام رحمه الله:" القلاص جمع قلوص، وهي من الإبل كالفتاة من النساء والحدث من الرجال ".
قال القاضي: معناه أن يزهد فيها ولا يرغب، لكثرة المال، وكانت القلاص أحب أموال العرب، وهذا مثل قوله تعالى:" وإذا العشار عطلت ".
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يسعى عليها "، أي لا تطلب زكاتها ؛ إّ لا يوجد من يقبلها كما جاء في الحديث، والساعي: العامل على الزكاة، وهذا يؤيد التأويل الأول في قوله:" ويضع الجزية ".
__________
(1) في (ح):" خير ".
(2) قوله:" الواحدة " ليس في (أ).(1/461)
244 - حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ الأنْصَارِيِّ ؛ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ ».
245 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ الأنْصَارِيِّ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَأَمَّكُمْ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:"ولتذهبن(1) الشحناء "، قال الإمام: " أي العداوة والضغن(2)".
وقول أبي هريرة:" اقرءوا إن شئتم:{ وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته... } الآية.
قال القاضي: يريد: يؤمن بعيسى - عليه السلام - قبل موته، وتقدير الآية: وإن من أهل الكتاب أحد إلا يؤمن به، وقيل: وإن من أهل الكتاب إلا من يؤمن(3) به قبل موته، أي موت عيسى - عليه السلام - عند نزوله إلى الأرض وتصيير(4) الملل(5) كلها واحدة على ملة الإسلام، وقيل: الهاء عائدة على الكتابي، أي قبل أن يموت هو وعند رؤيته الحق يؤمن بعيسى - عليه السلام - كل من كذب به منهم، وقد قرئ: " قبل موتهم "، وهو على هذا التأويل.
وقيل: الهاء في " به " عائدة على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وفي " موته " على الكتابيين.
__________
(1) في (ح):" لتذهبن ".
(2) في (ح):" والبغض ".
(3) في (ح):" ليؤمنن " بدل:" من يؤمن ".
(4) في (ح):" وتصير ".
(5) في (أ):" الملك ".(1/462)
وقوله:" وإمامكم منكم "، وفي الحديث الآخر: " فأمكم منكم"، فسره في الكتاب ابن أبي ذئب فقال:" فأمكم(1) بكتاب الله وسنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - "، 246 - حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ فَأَمَّكُمْ مِنْكُمْ »، فَقُلْتُ لابْنِ أَبِي ذِئْبٍ: إِنَّ الأوْزَاعِيَّ حَدَّثَنَا، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ »، قَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ: تَدْرِي مَا أَمَّكُمْ مِنْكُمْ ؟ قُلْتُ: تُخْبِرُنِي، قَالَ: فَأَمَّكُمْ بِكِتَابِ رَبِّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَسُنَّةِ نَبِيِّكُمْ - صلى الله عليه وسلم -.
247 - حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ قَالُوا: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ - وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ -، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ »، قَالَ: فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - صلى الله عليه وسلم - فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ صَلِّ لَنَا، فَيَقُولُ: لا، إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ تَكْرِمَةَ اللَّهِ هَذِهِ الأمَّةَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" أمكم ".(1/463)
وهذا كلام حسن ؛ لأن عيسى - عليه السلام - ليس يأتي لأهل الأرض رسولاً ولا نبيًّا مبعوثًا، ولا بشريعة جديدة ؛ لأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين، وشريعته ناسخة لجميع الشرائع، راسخة إلى يوم القيامة، وإنما يحكم عيسى - عليه السلام - بها.
وأما قوله:" وإمامكم(1) منكم " فهو مفسر أيضًا في الحديث من رواية جابر في الأم حيث قال:" فينزل(2) عيسى - عليه السلام - فيقول أميرهم: "تعال فصلّ لنا "، فيقول: " لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله(3) لهذه الأمة ".
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " حكمًا مقسطًا وإمامًا عدلاً "، دليل على أنه لم يأت بشرع محدث، ولا أرسل بملة جديدة، ولا جاء نبيا مبعوثًا.
248 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ يَعْنُونَ ابْنَ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلاءِ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ مِنْ مَغْرِبِهَا آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ».
__________
(1) في (أ) و(ط):" إمامكم " بدون واو.
(2) في (ح):" ينزل ".
(3) في (ح):" تكرمة من الله ".(1/464)
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ،ح، وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ كِلاهُمَا، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -.ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -.ح، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ ابْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِ حَدِيثِ الْعَلاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين "، أي غالبون عالون، قال الله تعالى:" ليظهره على الدين كله ".
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها "، وقع تفسيره في الحديث، وهو على ظاهره عند أهل الفقه والحديث والمتكلمين من أهل السنة، خلافًا لمن تأوله من المبتدعة والباطنية، وهو أحد الأشراط المنتظرة.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسًا(1) إيمانها لم تكن آمنت من قبل: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض ".
__________
(1) في (أ):" نفس ".(1/465)
249 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، ح، وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الأزْرَقُ جَمِيعًا، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ،ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاءِ- وَاللَّفْظُ لَهُ-، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« ثَلاثٌ إِذَا خَرَجْنَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الأرْضِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واختلف(1) في أول الآيات: فقيل أولها طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة، من رواية ابن أبي شيبة عن عبدالله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " وأيهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها ".
وفي حديث أنس:" أول أشراط الساعة نار تحشر الناس تخرج من اليمن(2)".
وفي حديث حذيفة بن أسيد:" آخر ذلك النار ".
وسيأتي هذا كله بأكثر(3) شرحا آخر الكتاب(4) عند ذكر أحاديثه.
ذكر(5) في الحديث قوله(6): " تجري لمستقر لها "، قال: مستقرها تحت العرش "، وقد اختلفت أقاويل المفسرين في هذا، فقال القتبي: " مستقرها: أقصى منازلها في الغروب، لا تجاوزه ثم ترجع "، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ هذا الحرف:" لا مستقر لها "، أي أنها جارية أبدًا لا تثبت في موضع واحد.
__________
(1) في (ح):" واختلف ".
(2) في (ح):" نار تخرج من اليمن تحشر الناس ".
(3) قوله:" بأكثر " ليس في (ط).
(4) في (ح):" الباب "، وفي حاشيتها:" الكتاب " وعليها " خ".
(5) في (أ):" وذكر ".
(6) قوله:" قوله " ليس في (ح).(1/466)
قال بعض أصحاب المعاني:" وعلى جمع القراءتين جريها بحسبان، لا مستقر لها حتى ترتفع إلى أبعد غاياتها، وجريها تحت العرش، وهو مستقرها
250 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَإِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ التَّيْمِيِّ سَمِعَهُ فِيمَا أَعْلَمُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي?ذَرٍّ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يَوْمًا:« أَتَدْرُونَ أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ الشَّمْسُ ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:« إِنَّ هَذِهِ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَخِرُّ سَاجِدَةً?،?فَلا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالَ لَهَا: ارْتَفِعِي، ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا، ثُمَّ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَخِرُّ سَاجِدَةً، وَلا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالَ لَهَا: ارْتَفِعِي، ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا، ثُمَّ تَجْرِي لا يَسْتَنْكِرُ النَّاسَ مِنْهَا شَيْئًا حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا ذَاكَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَيُقَالُ لَهَا: ارْتَفِعِي أَصْبِحِي طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِكِ، فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِهَا »، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَتَدْرُونَ مَتَى ذَاكُمْ ؟ ذَاكَ حِينَ { لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا }.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على القراءة الأخرى.(1/467)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" أتدري(1) أين تذهب هذه(2)؟" الحديث. استدل الطحاوي منه على(3) أنها تغرب في السماء، وذكر قراءة من قرأ: " حامية "، يعني حارة، وحمئة " من الحمأة والطين، وقال: " لا يبعد أن يوجد الطين في السماء "، واستشهد بقوله تعالى: " لنرسل عليهم حجارة من طين... " الآيتين، ولا حجة له في هذا كله، فقد جاءت الآثار بأن(4) العين الحمئة في
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ الْوَاسِطِيُّ،أَخْبَرَنَا خَالِدٌ-يَعْنِي ابْنَ عَبْدِاللَّهِ -، عَنْ يُونُسَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يَوْمًا:« أَتَدْرُونَ أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ الشَّمْسُ ؟» بِمِثْلِ مَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ.
وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ - وَاللَّفْظُ لأَبِي كُرَيْبٍ قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الأعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ، فَلَمَّا غَابَتِ الشَّمْسُ قَالَ: « يَا أَبَا ذَرٍّ ! هَلْ تَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ ؟» قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:« فَإِنَّهَا تَذْهَبُ فَتَسْتَأْذِنُ فِي السُّجُودِ، فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَكَأَنَّهَا قَدْ قِيلَ لَهَا ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا »، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِاللَّهِ: { وَذَلِكَ مُسْتَقَرٌّ لَهَا }.
__________
(1) في (ح) عليها "صح، خ"، وفي حاشيتها:" أتدرون" وعليها "صح، خ".:
(2) في (أ) و(ح):" هذا ".
(3) قوله:" على " ليس في (ح) و(ط).
(4) في (أ):" أن ".(1/468)
251- حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأشَجُّ، وَإِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الأشَجُّ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الأعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا }، قَالَ:« مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ?».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأرض، وهو ظاهر القرآن في قوله تعالى:{ حتى إذا بلغ مغرب الشمس [وجدها تغرب في عين حمئة }](1)..." الآية، وأما إرسال الحجارة فيرسلها الله عز وجل من حيث يشاء، ويخلقها حيث يشاء(2).
وقوله:" تسجد تحت العرش "، و: " مستقرها تحت العرش "، فالسموات والأرض كلها تحت العرش.
252 - حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَتْهُ ؛ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاءُ، فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ أُوْلاتِ الْعَدَدِ -، قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(2) قوله:" يشاء " ليس في (أ).(1/469)
وقوله: " أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصادقة "، في هذا حكمة من الله تعالى وتدريج لنبيه - صلى الله عليه وسلم - لما أراده(1) الله به جل اسمه(2)، لئلا يفجأه الملك ويأتيه صريح النبوة بغتة فلا تحتملها(3) قوى البشرية، فبدأ أمره بأوائل خصال النبوة وتباشير الكرامة، من صدق الرؤيا، وما جاء في الحديث الآخر من رؤية الضوء، وسماع الصوت، وسلام الحجر والشجر عليه بالنبوة، حتى استشعر عظيم ما يراد به، واستعد لما ينتظره، فلم يأته الملك إلا لأمر عنده مقدماته وبشاراته.
وفيه أن الرؤيا الصادقة(4) أحد(5) خصال النبوة وجزء منها، وأول منازل الوحي، وأن رؤيا الأنبياء عليهم السلام وحي وحق صدق، لا أضغاث فيها ولا تخييل(6)، ولا سبيل للشيطان إليها.
وقال أبو عبدالله(7) القزاز:" قوله: " من الوحي "، " من "، هنا لإبانة الجنس، كأنه قال:" من جنس الوحي "، وليست من الوحي فتكون " من " للتبعيض، ولذلك قال: " في النوم "، ورؤيا الأنبياء عليهم السلام في الصحة كالوحي ".
__________
(1) في (ح):" أراد ".
(2) في (ح):" جل اسمه به ".
(3) في (أ):" تحملها ".
(4) في حاشية (ح):" الصالحة " وعليها "صح، خ".
(5) في (ط) تشبه أن تكون :" محل ".
(6) في (أ):" تخيل ".
(7) في (ح):" عبيدالله ".(1/470)
لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ:« مَا أَنَا بِقَارِئٍ »، قَالَ:« فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: قُلْتُ:« مَا أَنَا بِقَارِئٍ ؟» قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: أَقْرَأْ، فَقُلْتُ:« مَا أَنَا بِقَارِئٍ »، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ:{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ( خَلَقَ الأنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ( اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ ( الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ( عَلَّمَ الأنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ }، فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ، فَقَالَ: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال القاضي: قد جاء في الحديث أنها جزء من أجزاء النبوة، وقد(1) قدمنا أنها من جملة خصالها. والوحي أنواع وضروب، وينطلق على معان، فلا يبعد أن تكون " من " للتبعيض على هذا، وأصله: الإعلام، ورؤيا المنام إعلام وإنذار وبشارة.
وفلق الصبح وفرقه: ضياؤه.
وقوله:" فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه، وهو التعبد .
قال الإمام:" حراء - بالمد - جبل بينه وبين مكة قدر ثلاثة أميال. عن يسارك إذا سرت إلى منى، ويجوز فيه التذكير والتأنيث، وتذكيره أكثر ".
__________
(1) قوله:" قد " ليس في (أ) و(ط).(1/471)
قال القاضي: فمن ذكّره صرفه، ومن أنثه(1) لم يصرفه، وهو جبل مذكر ومؤنث(2)، إذا(3) أراد البقعة التي فيها الجبل أو الجهة، وقد قال بعضهم فيه(4)" حرى " بالقصر وفتح الحاء، وكذا ضبطه الأصيلي في كتاب البخاري بخطه بالوجهين، والأول أعرف، وهو الصحيح، وقال الخطابي:" أصحاب «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي »، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، ثُمَّ قَالَ لِخَدِيجَةَ:« أَيْ خَدِيجَةُ ! مَا لِي » وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ، قَالَ:« لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي »، قَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: كَلا، أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ ابْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ، أَخِي أَبِيهَا، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ، وَيَكْتُبُ مِنَ الأنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: أَيْ عَمِّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث يخطئون فيه في ثلاثة مواضع: يفتحون الحاء وهي مكسورة، ويكسرون الراء وهي مفتوحة، ويقصرون الألف وهي ممدودة ".
قال الإمام: " وقوله: " يتحنث "، أي يتعبد، قاله مسلم، وقد تقدم أن يتحنث معناه(5): يفعل فعلا يخرج به من(6) الحنث، والحنث: الإثم.
__________
(1) في (ح):" أنث ".
(2) قوله:" ومؤنث " ليس في (أ) و(ط).
(3) في (أ):" إنما ".
(4) في (أ):" فيها ".
(5) قوله:" معناه " ليس في (أ) و(ح).
(6) في (ح):" عن ".(1/472)
واختلف الناس: هل كان متعبدًا قبل نبوته بشريعة(1) أم لا ؟
فقال بعضهم: إنه غير متعبد أصلاً، ثم اختلف هؤلاء: هل ينتفي ذلك عقلاً أم نقلاً ؟
فقال بعض المبتدعة: ينتفي عقلا ؛ لأن ذلك تنفير عنه وغض(2) من قدره إذا(3) تنبأ عند أهل تلك الشريعة التي كان من جملتهم، ومن كان تابعًا فيبعد منه أن يكون متبوعًا.
وهذا خطأ، والعقل لا يحيل هذا.
اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: يَا ابْنَ أَخِي ! مَاذَا تَرَى ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَبَرَ مَا رَآهُ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى - صلى الله عليه وسلم -، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ ؟!» قَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال الآخرون من حذاق أهل السنة: إنما ينتفي ذلك من جهة أنه لو كان لنقل ولتداولته الألسن وذكر في سيرته، فإن هذا مما جرت العادة(4) بأنه لا ينكتم.
وقال غير هاتين الطائفتين: بل هو متعبد، ثم اختلفوا أيضًا(5): هل كان متعبدا بشريعة إبراهيم - عليه السلام - أو غيره من الرسل - عليه السلام - ؟، فقيل في ذلك أقوال، ويحتمل أن يكون المراد بقوله:" أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا " في توحيد الله تعالى وصفاته.
__________
(1) في (ح):" شريعة "، وفي حاشيتها:" بشريعة " وعليها "صح، خ".
(2) في (ط):" تنفيرًا عنه وغضًا ".
(3) في (ح):" إذ "، وفي حاشيتها:" إذا " وعليها "صح، خ".
(4) في (ط):" جرت به العادة ".
(5) قوله:" أيضًا " ليس في (ح).(1/473)
قال القاضي: ولا خلاف بين أهل التحقيق أنه قبل نبوته - عليه السلام - وسائر الأنبياء عليهم السلام منشرح الصدر بالتوحيد والإيمان بالله، لا يليق به الكفر ولا الشك في شيء من ذلك، ولا الجهل به، ولا خلاف في عصمتهم من ذلك، خلافًا لمن جوزه.
وحجة المانعين منه الطريقان المتقدمان، والصحيح منهما(1): النقل، فلو كان شيء من ذلك لنقل، بل تظاهرت الأخبار الصحيحة عنه - عليه السلام - وعن غيره من الأنبياء بصحة معرفتهم بالله، وهدايتهم من صغرهم، وتجنبهم عبادة(2) غير الله تعالى، فقد عيرت قريش نبينا - صلى الله عليه وسلم - والأمم أنبياءهم ورمتهم بكل آفة، ورامت نقصهم بكل جهة، وبرأهم الله عز وجل مما قالوا، 253 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْوَحْيِ...، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَوَاللَّهِ لا يُحْزِنُكَ اللَّهُ أَبَدًا، وَقَالَ: قَالَتْ خَدِيجَةُ: أَيِ ابْنَ عَمِّ ! اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقصَّ(3) الله تعالى علينا من ذلك في كتابه، فقالوا: " أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا "، و: " إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء..."، ولو كان أحدهم عبد معهم معبودهم، وأشرك بشركهم قبل نبوته لعيروه بتلونه في معبوده، وقرعوه بفراق ما كان جامعهم عليه من ديانته، وكان ذلك أبلغ في تأنيبهم لهم من أمرهم بمفارقة معبود آبائهم.
__________
(1) في (أ):" منها ".
(2) في (ط):" عبادتهم ".
(3) في (أ) و(ح):" ونص ".(1/474)
وقد بسطنا الكلام في هذا الفصل(1) بما فيه مقنع في غير هذا الكتاب، وجئنا بالأجوبة عما يعترض به على هذا من ظواهر القرآن، كقوله تعالى: {ووجدك ضالاً فهدى }، وقوله:{ وإن كنت من قبله لمن الغافلين(2)}(3)، وقول إبراهيم - عليه السلام -:{ هذا ربي }، وأشباه هذا، ومعاني هذه الآي(4) وتأويلاتها(5) في كتابنا(6) " الشفا ".
وخلوه - صلى الله عليه وسلم - بغار حراء، وتحنثه فيه أول مبادئ بشارات(7) نبوته، وذلك أن تحبيب الخلوة له إلهام من الله تعالى، لما أراد الله به من خلوه بنفسه، وتفرغه للقاء رسل ربه عز وجل، وسماع وحيه، وقطعه العلائق الشاغلة عن ذلك كما كان.
254 - وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: سَمِعْتُا عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: قَالَتْ عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: فَرَجَعَ إِلَى خَدِيجَةَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ، بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ، وَمَعْمَرٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَوَّلَ حَدِيثِهِمَا مِنْ قَوْلِهِ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ، وَتَابَعَ يُونُسَ عَلَى قَوْلِهِ: فَوَاللَّهِ لا يَخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، وَذَكَرَ قَوْلَ خَدِيجَةَ: أَيِ ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) قوله:" في هذا الفصل " ليس في (ح).
(2) في النسخ الثلاث:" الضالين " وهو تصحيف ظاهر ؛ إذ ليس في القرآن آية هكذا.
(3) الآية ( 3) من سورة يوسف.
(4) في (ط):" الآي كثيرة ".
(5) في (ح):" وتأويلها ".
(6) في (ح):" كتاب ".
(7) في (ح):" بشارة ".(1/475)
وفيه تنبيه على فضل الخلوة والعزلة وثمرة التفرغ لذكر الله تعالى، فإن ذلك يريح السر من الشغل بغير الله عز وجل، ويقل الهم بأمور الدنيا، ويخلي القلب عن التعلق والركون بأهلها(1) فيصفو، وتنفجر ينابيعه بالحكمة، وتشرق جوانبه بالحقائق والمعرفة، وتفيض(2) عليه من نفحات فضل الله تعالى وأنوار رحمته ما قدر له.
وقوله: " حتى فجئه الحق "، أي أتاه بمرة، يقال: فجئ - بكسر الجيم- يفجَأ، وفَجَأَ، بفتحها أيضًا.
وقوله: " اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ ".
قال الإمام:" قيل " ما " ههنا نافية، وقيل: استفهامية، كأنه قال: " أيّ شيء أقرأ "، وقد ضعفوا الاستفهام بإدخال الباء، ولو كان استفهاما لقال:" ما أنا قارئ "، وإنما تدخل الباء على " ما " النافية، فتكون الباء تأكيدا للنفي ".
قال القاضي: يصحح قول(3) من قال إنها للاستفهام رواية من روى: " ما أقرأ "، وقد يصح أيضًا أن تكون " ما " هنا نافية(4).
255 - وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؛ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأنْصَارِيَّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، كَانَ يُحَدِّثُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (أ):" لأهلها ".
(2) في (ط):" يفيض "، ويشبه أن تكون كذلك في (أ)..
(3) قوله:" قول " ليس في (ط).
(4) في (ط):" هنا ما نافية ".(1/476)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فغطَّني "، أي غمَّني وعصرني، ورواه بعضهم: " فغتني"، وهما بمعنى، قال(1) ابن الأنباري:" معنى غتني: ضغطني، وكأنه يضارع غطني ؛ لأن المضغوط يبلغ منه الجهد(2)، فكذلك المغتوت.
وفي العين: " غطَّه في الماء: غرَّقه وغمسه، وفي حديث آخر: " يغتهم الله في العذاب الأليم "، أي يغمسهم، ويقال: غطه وغته وخنقه بمعنى واحد".
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" حتى بلغ مني الجهد "، أي الغاية والمبالغة والمشقة، يقال بفتح الجيم وضمها.
وهذا الغط من جبريل له(3) عليهما السلام إشغال له عن الالتفات إلى شيء من أمر الدنيا، وإشعار بالتفرغ(4) لما أتاه به.
وفعل ذلك ثلاثًا فيه تنبيه على استحباب تكرار التنبيه ثلاثًا، وقد استدل به بعضهم على جواز تأديب المعلم للمتعلمين ثلاثًا، وقال أبو سليمان: " وإنما كان ذلك ليبلو صبره، ويحسن تأديبه، فيرتاض لاحتمال ما كُلّفه من أعباء النبوة، ولذلك كان يعتريه مثل حال المحموم، وتأخذه(5) الرُّحَضَاء، أي البُهْر والعرق "، قال :" وذلك يدل على ضعف القوة البشرية، والوجل لتوقع تقصير فيما أُمر به، وخوف أن يقول غيره"، هذا معنى ما أطال به في هذا.
__________
(1) في (ح):" وقال ".
(2) في (ح):" الجد ".
(3) قوله:" له " ليس في (ح).
(4) في (ح):" التفرغ ".
(5) في (أ):" يأخذه "، وفي (ح) بالياء والتاء.(1/477)
سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« فَجُئِثْتُ مِنْهُ فَرَقًا فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ:« زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَدَثَّرُونِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:{ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ( قُمْ فَأَنْذِرْ ( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ }، وَهِيَ الأوْثَانُ »، قَالَ:« ثُمَّ تَتَابَعَ الْوَحْيُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال القاضي أبو الحسن ابن القصار: " وفي(1) قوله:" اقرأ باسم ربك الذي خلق " رد على الشافعي أن " بسم الله الرحمن الرحيم " آية من كل سورة، وهذه(2) أول سورة نزلت، وليس ذلك فيها.
قال القاضي: وقد اختلف في أول ما نزل من القرآن: فقيل: " اقرأ باسم ربك "، على مقتضى ظاهر هذا الحديث(3)، وهو قول عائشة رضي الله عنها وجماعة من المفسرين.
وقيل: إن الذي نزل منها أولاً إلى قوله: " علم الإنسان ما لم يعلم "، وهو مفسر في الحديث، ثم نزل بعد ذلك: " يا أيها المدثر "و " يا أيها المزمل" و" ن والقلم "، وفي رواية جابر أن أول ما نزل عليه:" يا أيها المدثر".
وقوله: " ترجف بوادره ".
قال الإمام:" ترجف أي ترعد، وبوادر الإنسان وغيره: اللحمة التي بين المنكب والعنق، قاله أبو عبيد في الغريب المصنف ".
__________
(1) في (ح):" في " بدون واو.
(2) في (أ):" وهذا ".
(3) في (ح):" ظاهر المحديث ".(1/478)
قال القاضي: قد رواه في "الأم" أيضًا في الحديث الآخر:"يرجف فؤاده"، وذكره البخاري أيضًا، أي يخفق، والرجفان(1): الاضطراب وكثرة الحركة، وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلُ ابْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: « ثُمَّ فَتَرَ الْوَحْيُ عَنِّي فَتْرَةً، فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي..»، ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ يُونُسَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَجُئِثْتُ مِنْهُ فَرَقًا حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الأرْضِ. قَالَ: وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَالرُّجْزُ: الأوْثَانُ. قَالَ:« ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ بَعْدُ وَتَتَابَعَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومنه قوله تعالى: " يوم ترجف الأرض والجبال "، وهذا هو سبب طلبه أن يزمَّل ويدثَّر، أي يغطى ويلف بالثياب، لشدة ما أصابه من هول الأمر ولحقه من شدة الغط وثقل الوحي، وإن كان قد قال بعض المفسرين: إنه إنما كان يفعل هذا فَرَقًا من جبريل - عليه السلام - لأول ما يلقاه حتى أنس به.
وقيل: بل قيل له:" يا أيها المدثر " و " المزمل " ؛ لأنه حين أتاه الملك وجده متزملا ملتفا بثوبه، فنودي بصفة حاله.
والأول أصح وأولى لفظا ومعنى، والتزمل والتدثر واحد، ويقال لكل ما يلقى على الجسد: دثار، وللفافة القربة: زمال، ومعنى المزمل والمدثر: المتزمل والمتدثر، أدغمت التاء فيما بعدها، وقد جاء في أثر أنهما من أسمائه - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) في (ح):" والخفقان ".(1/479)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لقد خشيت على نفسي "، ليس بمعنى الشك فيما أتاه من(1) الله لكنه عساه خشي أنه لا يقوى على مقاومة هذا الأمر، ولا يقدر على حمل أعباء الوحي، فتزهق نفسه، أو ينخلع قلبه، لشدة ما لقيه أولاً عند لقاء الملَك، أو يكون(2) قوله هذا لأول ما رأى التباشير في النوم واليقظة،
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الإسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ يُونُسَ، وَقَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } إِلَى قَوْلِهِ:{ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ }، قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلاةُ "وَهِيَ الأوْثَانُ "، وَقَالَ:« فَجُئِثْتُ مِنْهُ » كَمَا قَالَ عُقَيْلٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وسمع الصوت، قبل لقاء الملك وتحقيقه رسالة ربه عز وجل، فيكون ما خاف أولاً أن يكون من الشيطان، فأما منذ جاءه الملك برسالة ربه عز وجل فلا يجوز عليه الشك فيه، ولا يخشى من تسلط الشيطان عليه، وعلى هذا الطريق يحمل كل ما ورد من مثل هذا في حديث المبعث.
وقول خديجة رضي الله عنها:" لا يخزيك الله أبدا "، كذا(3) قال يونس وعقيل: بالخاء المعجمة والياء، وقال معمر: " يحزنك(4)" بالحاء المهملة والنون.
ومعنى " يخزيك ": يفضحك ويهينك، بل يثبتك حتى لا ينسب إليك كذب فيما قلته، ولا يسلط عليك شيطان بتخبطه الذي حذرته.
ومعنى " يحزنك " أي يوقع(5) ما تخافه من ذلك.
__________
(1) قوله:" من " ليس في (ط)، وموضعها إِارة لحق ولم يظهر شيء بالحاشية.
(2) في (أ):" أو أن يكون ".
(3) في (ط):" كذلك ".
(4) في (ط):" لا يحزنك ".
(5) في (ط):" بوقوع ".(1/480)
وهذا تأنيس منها(1) للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن كان هذا لأول ما رأى من المقدمات والتباشير، وقبل تحقيقه الرسالة ولقاء الملك، أو يكون بعده(2) لما خشي من ضعف جسمه عن حمل ذلك.
وقولها: " وتحمل الكل وتكسب المعدوم ".
قال الإمام: " قال ابن النحاس:" الكل الثقل(3) من كل شيء في المؤنة والجسم، والكل أيضًا اليتيم "، قال ابن النحاس:" ويقال: كسبت الرجل مالا، وأكسبته مالا، وأنشد:
257 - وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا الأوْزَاعِيُّ، قَالَ سَمِعْتُ يَحْيَى يَقُولُ: سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ ؟ قَالَ:{ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } فَقُلْتُ: أَوِ اقْرَأْ ؟ فَقَالَ:??سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، أَيُّ الْقُرْآنِ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فأكسبني مالاً وأكسبته حمدًا ".
قال القاضي: أصل الكل هنا - بفتح الكاف -: الثقل، وقيل(4): أرادت به الضعيف، وقال بعضهم: أرادت به اليتيم(5)، والمسافر، وهو الذي أصابه الكلال، والكل هو الذي هو عيال على صاحبه، قال الله تعالى:" وهو كل على مولاه ".
وروايتنا في(6) هذا عن أكثر شيوخنا: " تكسب " - بفتح التاء -، وعند بعضهم: بضمها(7) وبالوجهين قرأنا الحرف على الحافظ أبي الحسين في غير هذا الكتاب.
وحكى أبو عبدالله ابن(8) القزاز أن " كَسَبَ "، حرف نادر، يقال: كسبت المال، وكسبته غيري، ولا يقال: أكسبت(9).
__________
(1) في (ط):" منه ".
(2) في (أ):" قوله "،، وفي حاشيتها:" بعده ".
(3) في (ح):" الثقيل ".
(4) في (ط):" قيل ".
(5) في (ط):" أراد به هنا اليتيم "، وفي (ح):" أراد به التيم ".
(6) قوله:" في " ليس في (أ).
(7) في (أ):" تكسب بضمها ".
(8) قوله:" ابن " ليس في (ح).
(9) في (أ):" اكتسبت ".(1/481)
وحكى الهروي والخطابي: " كسبت مالا وكسبته زيدًا(1)، وحُكي عن ثعلب وابن الأعرابي: " أكسبت زيدا مالاً(2)".
وذكر ثابت في دلائله في معنى هذا: إنك تصيب وتكسب ما يعجز غيرك عن كسبه ويعدمه، والعرب كانت تتمادح بكسب المال، لا سيما قريش، وقد عرفوا بـ: قريش التجار "، وسموا بذلك من التقرش، وهي التجارة على أحد الاقوال، وعلى هذا لا تكون التاء إلا مفتوحة ؛ لأنه معدى لمفعول واحد، وكان(3) - صلى الله عليه وسلم - مجدودًا في تجارته، وخبره بذلك مشهور.
أُنْزِلَ قَبْلُ ؟ قَالَ:{ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ }، فَقُلْتُ: أَوِ اقْرَأْ ؟ قَالَ جَابِرٌ: أُحَدِّثُكُمْ مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ شَهْرًا،?فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي نَزَلْتُ فَاسْتَبْطَنْتُ بَطْنَ الْوَادِي، فَنُودِيتُ، فَنَظَرْتُ أَمَامِي وَخَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ، فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل معناه: تكسب(4) الناس ما لا يجدونه من معدومات الفوائد، وهذا معدى إلى مفعولين، والتاء هنا مفتوحة على قول الأكثر، وتضم على قول بعضهم كما تقدم، وهذا أبلغ في المدح وأشهر في خلق نبينا - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة وبعدها.
وقوله: " هذا الناموس "، قال الإمام: " قال أبو عبيد في مصنفه: " الناموس جبريل - عليه السلام - ".
وقال المطرز: " قال ابن الأعرابي: لم يأت في الكلام " فاعول " لام الفعل سين إلا: الناموس، والجاسوس، والجاروس، والفاعوس، والبابوس، والداموس، والقاموس، والقابوس، والغاطوس(5)، والفانوس، والجاموس.
__________
(1) في (ح):" غيري ".
(2) في (ح):" مالاً زيدًا ".
(3) في (أ):" فكان النبي ".
(4) في (أ):" وتكسب ".
(5) في (ح):" والعاطوس ".(1/482)
فالناموس: صاحب سر الخير، والجاسوس: صاحب سر الشر، والجاروس: الكثير الأكل، والفاعوس: الحية، والبابوس: الصبي الرضيع.
قال غيره: " وجاء في شعر ابن أحمر يذكر ولد الناقة:
حنّت قلوصي إلى بابوسها جزعا وما حنينك أم ما أنت والذكر"
قال الهروي: " لم يعرف في شعر غيره، والحرف غير مهموز "، قال: " ومنه حديث كعب أن عابد بني إسرائيل مسح رأس الصبي فقال: يا بابوس ".
والداموس: القبر، والقاموس: وسط البحر، والقابوس: الجميل الوجه،
نُودِيتُ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ فِي الْهَوَاءِ يَعْنِي جِبْرِيلَ - عليه السلام -، فَأَخَذَتْنِي رَجْفَةٌ شَدِيدَةٌ، فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي، فَدَثَّرُونِي، فَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:{ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ( قُمْ فَأَنْذِرْ ( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ }.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والغاطوس: دابة يتشاءم بها، والفانوس: النمام، والجاموس: ضرب من البقر ".
قال ابن دريد في الجمهرة: " جاموس أعجمي، وقد تكلمت به العرب، قال الراجز:
والأقهبَيْن الفيلَ والجاموسا.
والجاسوس كلمة عربية، فاعول من تجسس ".
قال غيره: " والحاسوس - بالحاء غير معجمة - من تحسس، وهو بمعنى الجاسوس ".
قال الإمام: " وفي كتاب مسلم: " إن هؤلاء الكلمات بلغن فاعوس البحر "، وقال ابن دريد في الجمهرة: " الكابوس هو الذي يقع على الإنسان في نومه، والناموس: موضع الصائد، وناموس الرجل: صاحب سره ".
قال القاضي: وحكى الحربي عن ابن الأعرابي: " الناموس: الخداعة "، قال الهروي: " وسمي جبريل - عليه السلام - ناموسا ؛ لأن الله تعالى خصه بالوحي والغيب ".
وسيأتي الكلام على قوله في الكتاب " قاعوس البحر "، والخلاف فيه، في موضعه بعد هذا إن شاء الله تعالى.(1/483)
258 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ بِهَذَا الإسْنَادِ، وَقَالَ:« فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى عَرْشٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " يا ليتني فيها جذعا "، قال الإمام: " قوله " فيها "، يعني في النبوة، وقوله: " جذعا "، يعني شابا، يعني(1) حين تظهر النبوة حتى أبالغ في نصرته، والأصل في الجذع من الدواب، وهو ههنا استعارة والظاهر أن يكون " جذعا " منصوبًا(2) على أنه خبر كان المخذوقة، والتقدير: يا ليتني أكون فيها جذعا، وهذا على طريقة الكوفيين.
ومثل ما تضمر فيه كان عندهم قول الله تعالى: " انتهوا خيرا لكم "، تقديره عند الكسائي(3): يكن الانتهاء خيرا لكم.
ومذهب البصريين أن " خيرا " إنما انتصب ههنا بإضمار فعل دل عليه قوله " انتهوا "، والتقدير عندهم: انتهوا، وافعلوا خيرا لكم(4).
وحكي عن أبي عبيد كقول الكسائي فيه.
وقال الفراء: " هو نعت لمصدر محذوف تقديره: انتهوا انتهاء خيرا لكم".
قال القاضي:كذا وقع هذا الحرف في أكثر الروايات في الأم وفي كتاب البخاري: " جذعا " بالنصب، ووقع هنا عندنا لابن ماهان: "جذع " على خبر ليت، وكذلك هو في البخاري عند الأصيلي.
ووجه النصب عندي فيه وأظهره(5) كونه على الحال، وخبر ليت مضمر في " فيها "، تقديره: ليتني في أيام نبوتك حي، أو لأيامها مدرك، وفي حال شبيبة وصحة وقوة(6) لنصرتك ؛ إذ كان قد(7) أسن وعمي(8) عند قوله هذا،
كما جاء في الحديث.
__________
(1) قوله:" يعني " ليس في (أ) و(ح).
(2) في (أ) و(ح):" منصوب ".
(3) في حاشية (ح):" الكوفيون ".
(4) قوله:" لكم " ليس في (ح).
(5) في (ح):" وأظهر ".
(6) في (أ):" وقوة وصحة ".
(7) قوله:" قد " ليس في (ح).
(8) قوله:" وعمي " ليس في (ح).(1/484)
......................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " أنصرك نصرا مؤزرا "، قال الإمام: " أي بالغا ".
قال القاضي: كذا جاءت الرواية: " مؤزرا "، قال بعضهم: "أصله: موازرًا ؛ لأنه من وازرت، أي عاونت، ويقال فيه: آزرت "، قال: "ويحتمل أن الألف سقطت(1) أمام الواو على التأويل ؛ إذ لا أصل لـ:"مؤزر" في الكلام ".
قال القاضي: وقد ظهر لي أنه صحيح على ما جاءت به الرواية، وأنه أولى وأليق بالمعنى، والمراد: نصرا قويا، مأخوذ من الأزر، وهو القوة، ومنه تأزر النبت إذا اشتد وطال ، قال الله تعالى: " اشدد به أزري "، قيل: قوتي، وقيل: ظهري، ولو كان على ما ذهب إليه هذا القائل لكان صواب الكلام: " موازرا " بكسر الزاي.
وبعد أن ظهر لي هذا وجدت معناه معلقا عن بعض المشايخ،ووجدته للخطابي رحمه الله، وهو صحيح(2).
وقوله:" فجثثت منه فرقا "، قال الإمام: يروى: "فحثثت " بالحاء غير معجمة، ومعناه: أسرعت خوفًا منه، ويروى: " فجئثت(3)"، قال الهروي: " يقال: جوث(4) الرجل وجئث وجُثَّ أي فَزِعَ(5)".
قال القاضي: أكثر روايات(6) الرواة في هذا الحرف في الموضعين الأولين في "الأم":" فجثئت " بالجيم وهمزة مكسورة بعدها ثاء مثلثة، وكذا للعذري في الموضع الثالث، وعند الجماعة فيه(7):" فجثثت "، بالجيم وثائين معجمتين بثلاث(8)، وكذا عند السمرقندي في الثلاثة ومواضع.
وكذلك(9) اختلفت فيه الرواية عن(10) البخاري.
__________
(1) في (ط):" سقط ".
(2) في (ح):" كلام صحيح ".
(3) في (ح):" فجثثت "، وفي (ط):" ويروى فجتثت ويروى فجئثت ".
(4) في (ح):" جثا ".
(5) في (ط):" وقع ".
(6) في (ح):" الرواة ".
(7) قوله:" فيه " ليس في (ح).
(8) في (ح):" بثائين معجمتين بثلاث والجيم ".
(9) في (أ):" وكذا ".
(10) في (ح):" اختلف فيه عن ".(1/485)
ومعنى الروايتين المذكورتين: فزعت، كما يفسر(1) في الحديث من بعض رواية البخاري: " فرعبت(2)" مكان " جئثت ".
قال الكسائي:" المجئوث والمجثوث: المذعور الفزع ".
ولم نقيده عن أحد من شيوخنا بالحاء المهملة في مسلم، لكنه وقع كذلك للقابسي(3) في موضع في البخاري، وفسره ب-: " أسرعت ولايصح معناه، وكيف يصح تفسيره ب-: " أسرعت "، وهو قد قال في الحديث: " حتى هويت إلى الأرض "، ؟ أي سقطت من الفزع، فكيف يجتمع السقوط والإسراع ؟.
قال بعضهم: " صوابه أهويت "، قال القاضي (4): وقد جاء كذا في موضع في البخاري، وهو(5) أشهر وأصح، وقال غيره: " هوى من قريب، وأهوى من بعيد "، وقال الخليل:" هَوَى يهْوِي هُوِيا وهَوِيا "، قال الهروي:" وقد يكون الصعود والهبوط، يقال فيه: هويا - بالفتح - إذا هبط، وبالضم إذا صعد "، وكذا قال الخطابي وغيره، وقال لنا شيخنا أبو الحسين بالعكس، قال غيره:"هوت العقاب إذا انقضت على صيد، فإذا راوغته قيل: أهوت".
وقيل(6) في قوله تعالي: " والمؤتفكة أهوى "، أي أهوى بها جبريل - عليه السلام - إلى الأرض، أي ألقى بها فيها بعد أن رفعها إلى السماء.
وقيل في قوله تعالى:" والنجم إذا هوى "، أي سقط.
وقال أبو الهيثم: " هويتُ أهوِي إذا سقطت "، وقال غيره: " أهويت يدي إلى السيف وغيره، أي: أملت، ويقال: هويت فيه أيضًا(7)".
وقوله في الحديث(8): " والرجز فاهجر "، وفسره(9): هي الأوثان، وقيل فيه: الإثم.
__________
(1) في (ح):" تفسر ".
(2) في حاشية (ح):" فزعت ".
(3) قوله:" للقابسي " ليس في (ح) و(ط).
(4) قوله:" قال القاضي " ليس في (ط).
(5) في (ط):" وهوى ".
(6) في (ح):" قيل ".
(7) في (ط):" أيضًا فيه ".
(8) في (ح):" الحديث الآخر ".
(9) في (ح):" وفسره في الحديث الآخر ".(1/486)
وقوله: " فأخذتني رجفة "، وعند السمرقندي: " وجفة "- بالواو، ومعناهما متقارب، هو(1) كله من كثرة الاضطراب، قال الله تعالى: " قلوب يومئذ واجفة "، وقال تعالى: " يوم ترجف الأرض والجبال ".
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإذا هو على العرش في الهواء "، وفي الحديث الآخر: "على عرش بين السماء والأرض "، وفي الآخر: " على كرسي "، هذا يفسر(2) معنى العرش في الحديثين المتقدمين، وأنه كالكرسي والسرير، وليس بعرش الرحمن العظيم، قال الله تعالى: " ولها عرش عظيم "، قال أهل اللغة: العرش السرير، وقيل سرير الملك.
وقوله:" ثم حمي الوحي وتتابع "، الكلمتان بمعنى واحد، أي كثر نزوله وقوي أمره وازداد، من قولهم: حميت النار والشمس، إذا زاد حرها، ومنه حمي الوطيس، أي قوي حره واشتد، ثم استعير في الحرب.
وفي هذا الحديث وشبهه تحقيق العلم بتصور(3) الملائكة على صور مختلفة، وإقدار الله تعالى لهم على التركيب في أي شكل شاءوا من صور بني آدم وغيرها، وأن لهم صورا في أصل خلقتهم مخصوصة بهم، كل منهم(4) على ما خلق عليه وشكل.
__________
(1) في (ح):" وهو ".
(2) في (ط):" تفسير ".
(3) في (ط):" بتصوير ".
(4) في (ح):" كل صنف منهم ".(1/487)
259 - حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، قَالَ: فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، قَالَ: فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الأنْبِيَاءُ، قَالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ، فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ - عليه السلام - بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ - صلى الله عليه وسلم -: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذكر حديث الإسراء
قال الإمام رحمه الله:" اختلف الناس في الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل: إنما كان جميع ذلك مناما، واحتجوا بقوله سبحانه: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ".
وقيل: بل جميعه كان حقيقة في اليقظة، واستدلوا بقوله تعالى: " أسرى بعبده "، ولم يقل بروح عبده، ولا ينتقل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل، واحتجوا أيضًا بأن ذلك لو كان مناما لما استبعدته الكفار ولما كذبوه فيه، وافتتن به أيضًا بعض من كان أسلم من الضعفاء حتى ارتد، وغير بعيد أن يرى الإنسان مثل ذلك في المنام.
وقيل: إنما(1) الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كان في اليقظة، وما بعد ذلك منام(2)، ويصح لقائل هذا القول أن يبني فيقول: قوله: " أسرى بعبده " نهايته، كما قال: " إلى المسجد الأقصى " كان بالجسد،
__________
(1) في (ح):" إنّ "، وفي (ط):" وقيل معناه إنما ".
(2) في (ح):" في المنام ".(1/488)
فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ، فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ - عليه السلام -، فَقِيلَ مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِابْنَيِ الْخَالَةِ: عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا، فَرَحَّبَا وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله:{ وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } يريد ما كان في المنام بعد ذلك، احتج القائل بهذا التفصيل بأن ذلك خرج مخرج التمدح والإخبار بتشريفه - صلى الله عليه وسلم -، ولا يقع التمدح بالأدون مع وجود الأرفع، فلو كان قد صعد بجسده إلى السماء(1) لكان يقول:" أسرى بعبده إلى السماء " فهو أبلغ في المدح من أن يقول: " إلى المسجد الأقصى ".
قال القاضي: الحق(2) الذي(3) عليه أكثر الناس ومعظم السلف وعامة ا لمتأخرين من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، أنه أسري بالجسد، والآثار تدل عليه لمن طالعها وبحث عنها، ولا يعدل عن ظاهرها إلا بالدليل(4)، ولا استحالة في حملها عليه فيحتاج إلى تأويل.
__________
(1) في (أ):" إلى السماء بجسده ".
(2) في (أ) تشبه أن تكون:" نحن ".
(3) في (أ):" والذي ".
(4) في (أ):" بدليل ".(1/489)
وقد جاء في مسلم من رواية شريك في هذا الحديث اضطراب وأوهام أنكرها عليه العلماء، وقد نبه مسلم على ذلك بقوله: " فقدم(1) وأخر، وزاد ونقص "، منها:
وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ - صلى الله عليه وسلم -، إِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ - عليه السلام -، قِيلَ: مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قَالَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:{ وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا }، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " وذلك قبل أن يوحى إليه "، وهو غلظ لم يوافق عليه، فإن الإسراء أقل ما قيل فيه أنه كان بعد مبعثه بخمسة عشر شهرًا، وهو قول الذهري(2)، وقال الحربي: " كان ليلة سبع وعشرين من ربيع الآخر، قبل الهجرة بسنة "، وقال الزهري: " كان ذلك بعد مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -: بخمس سنين "، وقال ابن أسحق: " أسري به وقد فشا الإسلام بمكة والقبائل.
__________
(1) في (ح):" قدم ".
(2) في (أ) و(ح):" الذهبي "، وكتب في حاشية (ح):" كأنه الزهري ".(1/490)
وأشبه هذه الأقاويل قول الزهري وابن إسحق ؛ إذ لم يختلفوا أن خديجة صلت معه بعد فرض الصلاة عليه، ولا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة بمدة(1)، قيل بثلاث سنين، وقيل بخمس، كما أن العلماء مجمعون أن فرض الصلاة كان(2) ليلة الإسراء، فكيف يكون هذا كله قبل أن يوحى إليه ؟.
وكذلك ذكره في الحديث شرح صدره وغسله، مع قوله:" انطلقوا به إلى زمزم"، مع قوله في الحديث الآخر: " إن ذلك فعل به وهو مع الغلمان"، وما ذكر في كتاب مسلم أن ذلك كان وهو عند مرضعته في بني سعد، ويصحح هذا قوله في كتاب مسلم:"وجاء الغلمان إلى أمه يعني ظئره،
فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ - صلى الله عليه وسلم -، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ - عليه السلام -، قِيلَ: مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى - صلى الله عليه وسلم -، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهي حليمة بنت أبي(3) ذؤيب، وهذا أصح: من كون ذلك بمكة وأنه كان في صغره وقبل نبوته - صلى الله عليه وسلم - وفي غير حديث الإسراء.
وإن صح ذكر غسله عند زمزم فلا يبعد ذهاب الملائكة به كذلك، ثم رده إلى موضعه، ويجمع بين الحديثين.
__________
(1) في حاشية (ح):" بمكة " وعليها "صح، خ".
(2) في (ح):" كانت ".
(3) قوله:" أبي " ليس في (ح).(1/491)
وقد وافق شريكا في هذا عن أنس غيره، وقد جوَّد الحديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس، وأتقنه، وفصله فجعله(1) حديثين، وجعل شق البطن في صغره، والإسراء بعد ذلك بمكة، وهو المشهور الصحيح.
وأما قوله في رواية شريك: " وهو نائم "، وقوله في الرواية الأخرى: "أنا عند البيت بين النائم واليقظان "، فقد يحتج به من يجعلها رؤيا نوم ولا حجة فيه ؛ إذ قد يكون ذلك حاله أول وصول الملك إليه، وليس في الحديث ما يدل على كونه نائما في القصة كلها.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في صفة البراق: " وهو دابة طويل "، جاء بوصف المذكر لأنه وصف(2) البراق، ولو أتى به على لفظ الدابة لقال: طويلة، قال ابن دريد: "البراق: الدابة التي حمل عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -، اشتقاقها من البرق، إن شاء الله تعالى ".
قَالَ: مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ - صلى الله عليه وسلم - مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لا يَعُودُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ، وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلالِ، قَالَ: فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى، فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلاةً، قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) قوله:" فجعله " ليس في (أ) و(ط).
(2) في حاشية (ح):" على " وعليها "صح، خ".(1/492)
قال القاضي: كأنه يعني لما وصفت به من السرعة، ويحتمل عندي أن تسمى بذلك لكونها ذات لونين، يقال: شاة برقاء، إذا كان في خلال صوفها الأبيض طاقات سود، وجاء وصف البراق في الحديث أنه أبيض، فقد يكون من نوع الشاة البرقاء، وهي معدودة في البيض، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " أبرقوا فإن دم عفراء عند الله أزكى(1) من دم سوداوين "، أي ضحوا بالبرقاء، وهي البيضاء(2)، وهي هنا العفراء.
وقوله:" فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال: اخترت الفطرة ".
أصل الفطرة في كلام العرب: الخلقة، ومنه: " فاطر السموات والأرض"، أي خالقهما(3)، وقيل: الفطرة الابتداء.
وقوله:{ فطرة الله التي فطر الناس عليها }، أي أقم وجهك للدين الذي فطر الله الناس عليه، قيل: الجبلة التي جبلهم عليها من التهيُّء لمعرفة الله تعالى: والإقرار به.
ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي، فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، قَالَ: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل: ما أخذ عليهم في ظهر آدم - عليه السلام - من الاعتراف بربوبيته.
__________
(1) في (ح):" أزكى عند الله ".
(2) قوله:" وهي البيضاء " ليس في (ح).
(3) في (أ):" خالقها ".(1/493)
وقيل: معناها الاستقامة ؛ لأن الحنيف عند بعضهم: المستقيم، وسمي الأحنف على القلب ،كما سميا للديغ سليمًا(1) والحنيفية المستقيمة عن الميل لأديان أهل(2) الشرك، كما قال تعالى: " قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين"، وكما قال تعالى: " فأقم وجهك للدين حنيفا ".
وقيل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " كل مولود يولد على الفطرة " هذه الأقوال كلها.
وقيل: ما كتب عليه في بطن أمه.
وقيل(3): الإسلام، وسيأتي الكلام على هذا الحديث.
ويحتمل أن المراد بالفطرة في قوله: " اخترت الفطرة "، بعض هذه المعاني: الإسلام، أو الاستقامة، أو الحنيفية.
ويكون أيضًا : لما كان اللبن كله حلالا في هذه الشريعة والخمر كله حراما، فعدل عما حرم فيها إلى ما أحل فيها، دل ذلك على هدايته لها.
وقيل: هو من باب التفاؤل(4) الحسن، لما كان اللبن أول شيء يدخل جوف الرضيع ويفتح فمه عليه سمي فطرة لشقه الأمعاء، وما تقدم أوجه.
__________
(1) قوله:" سليمًا " ليس في (أ) و(ط).
(2) قوله:" أهل " ليس في (أ).
(3) في (أ):" وقبل ".
(4) في (ط):" الفأل ".(1/494)
فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَبَيْنَ مُوسَى - عليه السلام - حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ صَلاةٍ عَشْرٌ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلاةً، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً، قَالَ: فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: فَقُلْتُ قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في الرواية الأخرى: " أصبتها أصاب الله بك "، أي أصبت الفطرة أو الملة، ومعنى " أصاب الله بك " أي قصد بك طريق الهداية، وقد يكون " أصاب " هنا بمعنى أراد، أي أراد الله بك الخير واعتمدك به.
وقوله في الخمر: " لو أخذته لغوت أمتك " دليل على تحريمها، وأنها من الغي، وسبب الغي، وضد الهدى وليست منه.(1/495)
ذكر(1) في الحديث أبواب السماء، واستفتاحها ، وسؤال ملائكتها لجبريل - عليه السلام -، فيه دليل على أن للسماء أبوابا حقيقة، وحفظة موكلين(2) بها، ودليل على الاستئذان، وأن ما ينزل من الوحي وعلم الغيب بها لا يعلمه إلا من أعلمه الله به ؛ لاستفهام الملائكة جبريل - عليه السلام - عن بعث محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان بعث منذ مدة، وقيل: بل معنى قوله: " وقد أرسل إليه ؟"، أي للعروج للسماء ؛ إذ كان إرساله بالنبوة قبل مستفيضا(3)، فجاء أنهم قد علموا بعضًا دون بعض، علموا بنبوته(4) - صلى الله عليه وسلم - وأنه سيرسل، ولم يعلموا وقت إرساله، أو علموا جميع ذلك ولم يعلموا إسراءه.
260 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أُتِيتُ فَانْطَلَقُوا بِي إِلَى زَمْزَمَ فَشُرِحَ، عَنْ صَدْرِي ثُمَّ غُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ أُنْزِلْتُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفيه: لقاء أهل الفضل بالترحيب والبشر والكلام الحسن، يقول(5) الأنبياء والملائكة(6) له: " مرحبا ونعم المجيء جاء(7)"، ودعائهم له، وقولهم: " الابن الصالح " و " الأخ الصالح ".
وانتصب " مرحبا " على إضمار فعل، أي صادفت رحبا وسعة بِرّ.
__________
(1) في (أ):" وذكر ".
(2) في (ط):" موكلون ".
(3) في (ط):" مستفيض ".
(4) في (ط):" نبوته ".
(5) في (ح):" بقول ".
(6) في (ح):" الملائكة والأنبياء ".
(7) في (ح):" جئت ".(1/496)
وقوله عن إدريس - عليه السلام - في قوله لنبينا - صلى الله عليه وسلم -: " والأخ الصالح"، مخالفا لما يقوله أهل النسب والتاريخ من أنه أب وأنه جد أعلى لنوح، وأن نوحا هو ابن لامِك بن مَتُّوشَلَخ(1) بن خنوخ، وهو عندهم: إدريس بن يرد بن مهلايل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم - عليه السلام -، ولا خلاف عندهم في عدد هذه الأسماء وسردها على ما ذكرناه، وإنما الخلاف في ضبط بعضها وصورة لفظه.
وجاء جواب الآباء هنا(2)، كنوح وإبراهيم وآدم عليهم السلام: " مرحبا بالابن الصالح "، وإنما قال عن إدريس(3): " بالأخ الصالح "، كما ذكر عن موسى وعيسى ويوسف وهارون ويحيى عليهم السلام ممن ليس بأب باتفاق للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
[ قال بعضهم: وقد قيل عن إدريس إنه إلياس، وهذا يدل أيضًا أنه ليس بجد لنوح - عليه السلام -، واحتج لصحة ذلك بقوله: " وإن إلياس لمن المرسلين "، وبقوله تعالى: " ومن ذريته "، يعني إبراهيم - عليه السلام -، وذكر فيهم إلياس.
261 - حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَتَاهُ جِبْرِيلُ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً، فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لأَمَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ - يَعْنِي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في حاشية (ح):" منشولخ " وعليها "خ".
(2) في (أ):" ههنا ".
(3) في (أ):" عيسى عن إدريس ".(1/497)
وفي حديث الشفاعة أن نوحا - عليه السلام - أول رسول لأهل الأرض وسيأتي الكلام بعد على هذا إن شاء الله تعالى ](1).
وقوله: " وإذا إبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور " يستدل به على جواز الاستناد إلى القبلة وتحويل الظهر إليها.
وقوله في آدم - عليه السلام -: عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة... " الحديث.
قال الإمام: " أسودة جمع سواد، مثل: قذال وأقذلة، وزمان وأزمنة، وسنام وأسنمة، قال الهروي: " السواد الجماعات"، قال غيره: " فكأنه قال فإذا رجل عن يمينه جماعة وعن يساره جماعة"، والسواد أيضًا: الشخص، يقال: لا يفارق سوادك سوادي، أي شخصك شخصي ".
قال القاضي: ذكر في الحديث نفسه أن الأسودة نَسَم بنيه، فأهل اليمين أهل الجنة، فلذلك قال(2): " إذا نظر إليهم ضحك "، وذكر أن أهل الشمال أهل النار، فلذلك قال(1): " إذا نظر إليهم بكى".
والنسم جمع نسمة، قال الخطابي: " وهي نفس(3) الإنسان، يريد أرواح بني آدم ".
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط).
(2) قوله:" قال " ليس في (ح).
(3) في (ح):" تفسير ".(1/498)
ظِئْرَهُ -، فَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ. قَالَ أَنَسٌ: وَقَدْ كُنْتُ أَرْئِي أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ - وَهُوَ ابْنُ بِلالٍ - قَالَ: حَدَّثَنِي شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدَّثَنَا، عَنْ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ ؛ أَنَّهُ جَاءَهُ ثَلاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ …، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقِصَّتِهِ، نَحْوَ حَدِيثِ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، وَقَدَّمَ فِيهِ شَيْئًا وَأَخَّرَ، وَزَادَ وَنَقَصَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذكر أنه وجد آدم- عليه السلام - في السماء الدنيا ونسم بنيه من أهل الجنة والنار.
وقد جاء أن أرواح الكفار في سجين، قيل: في الأرض السابعة، وقيل تحتها، وقيل في سجن، وأن أرواح المؤمنين منعَّمَة في الجنة.
فيحتمل أنها تعرض على آدم - عليه السلام - أوقاتا فوافق وقت عرضها مرور النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) به(2)، ويحتمل أن كونهم في النار والجنة أوقاتا دون أوقات ؛ بدليل قوله تعالى: " النار يعرضون عليها غدوا وعشيا..." الآية، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - في المؤمن وعرض منزله(3) من الجنة عليه:" هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه ".
ويحتمل أن الجنة كانت في جهة يمين آدم - عليه السلام -، والنار في جهة شماله، وكلاهما حينئذ حيث شاء الله تعالى.
__________
(1) في (أ):" النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ".
(2) قوله:" به " ليس في (ط).
(3) في (ح):" منزلته ".(1/499)
وفيه دليل على وجود الجنة والنار، وخلقهما، وعلى ما ذهب إليه أهل السنة والحديث، وأن الجنة في السماء أو فوقها(1) جهتها، على ما جاءت به ظواهر الأحاديث وأن العرش سقفها.
263 - وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ - صلى الله عليه وسلم - فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في ذكر الأنهار الأربعة، وأنه رآها تخرج من أصلها، كذا جاء في الأم، أي من أصل سدرة المنتهى، وكذا جاء مبينا في البخاري.
وقوله:" وأما النهران الظاهران: فالنيل والفرات " يشعر أن أصل(2) سدرة المنتهى في الأرض، والله أعلم.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في موسى - عليه السلام -: " فبكى "، وقوله:" رجل يدخل من أمته الجنة أكثر من أمتي "، بكاؤه هذا إشفاق على أمته وقومه(3)، وما تقدم من ضلالهم وعدم توفيقهم وهدايتهم، وما فاته من ثواب كثرة من يؤمن به منهم ومن(4) ذريتهم، ويدخر له من أجورهم لذلك(5) لو وفقهم الله تعالى.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" ففرض علي في كل يوم وليلة خمسين صلاة "، ثم ذكر مراجعته ربه حتى ردها إلى خمس صلوات.
__________
(1) في (ح):" السماء وفوقها ".
(2) قوله:" أصل " ليس في (ح).
(3) في (أ):" قومه وأمته "، وقوله:" وقومه " ليس في (ط).
(4) في (ح):" من ".
(5) في (ح):" ويخر لهم ذلك ".(1/500)
قال الإمام: " هذا يستدل به علىمن منع نسخ الشيء قبل فعله ؛ إذ لم يفعل من هذه الصلوات شيء بعد ".
قال القاضي (1): ذكر مسلم في حديث ثابت عن أنس أنه حط عنه أولاً خمس صلوات، ثم لم يزل يرجع بين ربه تعالى وبين موسى حتى قال: " يا محمد إنها خمس...".
فَلَمَّا جِئْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، قَالَ جِبْرِيلُ - عليه السلام - لِخَازِنِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا: افْتَحْ، قَالَ: مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ، قَالَ: هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ ؟ قَالَ: نَعَمْ، مَعِيَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فَأُرْسِلَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَفَتَحَ، قَالَ: فَلَمَّا عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَإِذَا رَجُلٌ عَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، قَالَ: فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، قَالَ: فَقَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالابْنِ الصَّالِحِ، قَالَ: قُلْتُ يَا جِبْرِيلُ ! مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ - صلى الله عليه وسلم -، وَهَذِهِ الأسْوِدَةُ، عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَالأسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذكر من رواية الزهري عن أنس - رضي الله عنه - أنه حط عنه أولاً(2) من الخمسين شطرها ثم ردها إلى خمس، وقد ذكر البخاري الحديثين جميعًا.
وقد يجمع بينهما أن يجعل الشطر في الحديث الآخر بمعنى الجزء، لا بمعنى النصف، وإن كان أصله النصف فقد يعبر به عن غير النصف، كما قالوا: أشطار الناقة، وهي أربعة، وأشْطُر(3) الدهر، وهي كثيرة.
__________
(1) قوله:" القاضي " ليس في (ط).
(2) في (ط):" حط أولاً عنه ".
(3) في (ح):" وأشطار ".(2/1)
واختصاص نبينا - صلى الله عليه وسلم - بموسى(1) - عليه السلام - في هذه القصة ؛ لأنه - كما قال - وجده في السماء السابعة(2)، فكان أول من لقيه من الأنبياء صلوات الله عليهم.
وفيه إشفاقهم على عباد الله عز وجل، ورفقهم بهم، وحبهم هدايتهم، ونصيحتهم لجميعهم.
وقوله في شرح صدره: " فاستخرج منه علقة، وقال: هذا حظ الشيطان منك "، دليل بين على عصمة نبينا - صلى الله عليه وسلم - من الشيطان وكفايته إياه أن يسلط(3) عليه، لا في علمه، ولا يقينه، ولا جسمه، ولا شيء من أمره،
قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، قَالَ: ثُمَّ عَرَجَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ خَازِنُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَفَتَحَ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي السَّمَاوَاتِ آدَمَ وَإِدْرِيسَ وَعِيسَى وَمُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَلَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ وَجَدَ آدَمَ - عليه السلام - فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، قَالَ: فَلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِإِدْرِيسَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأخِ الصَّالِحِ، قَالَ: ثُمَّ مَرَّ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ، قَالَ: ثُمَّ مَرَرْتُ بِمُوسَى - عليه السلام - فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأخِ الصَّالِحِ، قَالَ: قُلْتُ مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: هَذَا مُوسَى، قَالَ: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (أ):" لموسى ".
(2) في (أ):" السادسة ".
(3) في (ط):" يتسلط ".(2/2)
لا بالأذى والوساوس(1) ولا غيره، وقد ادعى بعض العلماء الإجماع على ذلك، ويصحح ما قلناه ما جاء من الآثار الصحيحة أنه قد أعانه الله عليه، فلا يأمره إلا بخير، وأنه " أسْلَمَ " على من رواه بفتح الميم، أو " أسلمُ " على من رواه بالضم، أو " استسلم " على من رواه كذا، وأنه قد أخذه حين تعرض له في صلاته.
ولقوله:" لم يكن ليسلط علي "، وعلى هذا لا يصح أن يحمل قوله تعالى: { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ } على الإغواء والوسوسة، بل على ما قاله بعض المحققين: أنه راجع إلى قوله:{ وأعرض عن الجاهلين }، ثم قال: {فإما ينزغنك من الشيطان نزغ(2)} الآية، أي يستخفنك غضب يحملك على ترك الإعراض.
وقيل: النزغ أدنى الوسوسة، فأمره الله تعالى بالاستعاذة من ذلك فيكفيه(3) له ؛ إذ لم يسلط على أكثر من ذلك.
ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأخِ الصَّالِحِ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا قَالَ: هَذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، قَالَ: ثُمَّ مَرَرْتُ بِإِبْرَاهِيمَ - عليه السلام - فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالابْنِ الصَّالِحِ قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ ».
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ ؛ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا حَبَّةَ الأنْصَارِيَّ كَانَا يَقُولانِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« ثُمَّ عَرَجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأقْلامِ »، قَالَ ابْنُ حَزْمٍ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلاةً، قَالَ فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتَّى أَمُرَّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" والوسواس ".
(2) قوله:"{ من الشيطان نزغ }" ليس في (أ).
(3) في (أ):" فتكفيه ".(2/3)
وكذلك أنكر محققو المفسرين والعلماء أن يكون الشيطان تسلط على مُلك سليمان - عليه السلام - وأهله، وردوا ما حكاه بعضهم وذكره المؤرخون من ذلك.
وكذلك لا تصح: " قصة(1) الغرانقة العلى "، وما ذكر(2) من إلقاء الشيطان لها على فم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتأويل من تأول ذلك في قوله تعالى:" وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي... " الآية ؛ إذ تلك الأحاديث لا أصل لها.
والآية مختلف في تأويلها ومعناها، فقد قيل: ألقى في أمنيته، أي سها في تلاوته،[ وقيل: بل الآية على ظاهرها في غيره من الأنبياء والرسل صلى الله عليه](3).
ولإجماع المسلمين أنه لا يجوز أن يسلط(4) عليه في شيء من أمور(5) شريعته، ولا شيء أعظم من مدح آلهة غير الله تعالى وتشريكها معه، لا سهوًا ولا عمدًا، وقد بسطنا الكلام في هذا وشبهه في كتاب الشفا بما لامزيد عليه، وتقصينا فيه ما لا تكاد تجده في سواه، والحمد لله.
__________
(1) في (أ):" قصة تلك ".
(2) في (أ):" ذكره ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(4) في (ح):" يتسلط ".
(5) قوله:" أمور " ليس في (ح).(2/4)
بِمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى - عليه السلام -: مَاذَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ ؟ قَالَ: قُلْتُ: فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ صَلاةً، قَالَ لِي مُوسَى - عليه السلام -: فَرَاجِعْ رَبَّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا تُطِيقُ ذَلِكَ، قَالَ: فَرَاجَعْتُ رَبِّي، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى - عليه السلام - فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا تُطِيقُ ذَلِكَ، قَالَ: فَرَاجَعْتُ رَبِّي فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ، لا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ، فَقُلْتُ: قَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى نَأْتِيَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لا أَدْرِي مَا هِيَ، قَالَ: ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤَ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله:" وغسله في طست من ذهب "، يقال: " طِسْت " بفتح الطاء، وهو أشهرها، وقيل بكسرها، وطَسّ وطِسّ وطَسَّة.
استدل به بعض فقهائنا على جواز تحلية(1) ما كان من آلات الطاعات بالذهب والفضة، كالمصحف والسيف [ وسكين الغزو والرمح ](2) وشبهه(3)، ويرد قوله ما وقع عليه الاتفاق من منع تحلية المحابر والأقلام وكُتُب العلم ما عدا المصاحف ؛ إذ خلاف العلماء في الأسلحة الحربية وآلاتها ما عدا السيف، وما استمر عليه عمل المسلمين من تحلية الكعبة والمساجد وآلاتها بالذهب والفضة.
وقوله:" ثُمّ َلأَمَهُ " أي جمعه وألزقه وضم بعضه إلى بعض حتى التأم.
__________
(1) في (ط):" وروى مطرف أن مالكًا استدل به في جواز تحلية ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(3) قوله:" وشبهه " ليس في (ط).(2/5)
قوله:" منتقع ا للون "، قال الهروي:" يقال: انتقع لونه وامتقع واهتقع والتُمِع واستنقع والتُمِئَ وانتسف(1) وابتسر والتهم، بمعنى واحد، كلها عن الفراء ".
264 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، لَعَلَّهُ قَالَ: عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ، قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« بَيْنَا أَنَا عِنْدَ الْبَيْتِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ، إِذْ سَمِعْتُ قَائِلاً يَقُولُ: أَحَدُ الثَّلاثَةِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، فَأُتِيتُ فَانْطُلِقَ بِي، فَأُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال الأزهري:" التمغ - بالغين المعجمة أيضًا - وانتشف(2) بالمعجمة أيضًا ".
قال القاضي: وأصل انتقع - والله أعلم - من النقع وهو التراب، أي تغير وجهه وزال عنه نور ا لحياة حتى أشبه التراب وكأنما(3) ذر عليه.
__________
(1) في (ح):" وانتشف ".
(2) في (ح):" واستشف ".
(3) في (ط):" أو كأنما ".(2/6)
وفي هذه القصة أدل حجة وأوضح برهان وأصح دليل على مذهب أهل الحق من أن الموت والحياة وسائر الأشياء من فعل الله تعالى وخلقه محضا ، ليس يوجبها(1) سبب، ولا تقتضيها(2) طبيعة، ولا يشترط لوجودهما شرط لا يوجدان إلا معه البتة، إلا من حيث أجرى الله العادة، حتى إذا شاء خرقها وأنفذ قدرته كيف شاء، وكانت بمجرد قدرته وإرادته خلافًا للفلاسفة ومن ضارع مذهبها(3) من المعتزلة، فإن شق الجوف، وإخراج الحشوة، وإخراج القلب، وشقه ومعاناته وغسله وإخراج شيء منه، كل ذلك(4) مقتل في العادة، وسبب يوجد معه الموت لا محالة، وقد اجتمعت هذه كلها في هذه القصة ولم يمت صاحبها ؛ إذ لم يرد الله تعالى موته ولا قضاه، بل كانت هذه المهالك في حق غيره أسبابًا لحياة نفسه وقوة روحه وكمال أمره.
ويحتمل أن تكون هذه العلقة التي استخرجت من قلبه هي أحد أجزاء القلب المختص بها حب الدنيا والنزوع للشهوات التي منها يأتي الشيطان، ذَهَبٍ فِيهَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، فَشُرِحَ صَدْرِي إِلَى كَذَا وَكَذَا - قَالَ قَتَادَةُ: فَقُلْتُ لِلَّذِي مَعِي: مَا يَعْنِي ؟ قَالَ: إِلَى أَسْفَلِ بَطْنِهِ -، فَاسْتُخْرِجَ قَلْبِي فَغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ أُعِيدَ مَكَانَهُ، ثُمَّ حُشِيَ إِيمَانًا وَحِكْمَةً، ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ أَبْيَضَ يُقَالُ لَهُ: الْبُرَاقُ، فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، يَقَعُ خَطْوُهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ، فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ انْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ - صلى الله عليه وسلم -، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" يوجبهما ".
(2) في (ح):" تقضيهما ".
(3) في (ط):" مذهبهما ".
(4) في (ط):" كل شيء من ذلك ".(2/7)
أو ما يختص بها عوارض السهو والغفلة، كل ذلك بتدبير العزيز الحكيم، وهي الأبواب التي يأتي منها الشيطان، فطرحت عنه، فلا يجد الشيطان إليه سبيلا، كما طرح عن يحيى - عليه السلام - شهوة النساء.
أو تكون تلك العلقة إذا كانت في القلب هي القابلة لوسواس الشيطان والمحركة للنفس بما ركب الله فيها من القوى لما يوافقه، فأزيحت عنه - صلى الله عليه وسلم - ليسلم من دواعيه الخبيثة، ونُقِّي القلبُ وغُسِلَ منها حتى لا يبقى(1) لها أثر في القلب جملة.
وقوله:" مملوءة حكمة وإيمانا "، فالحكمة قد جاءت بمعنى النبوة، كما قيل في قوله تعالى:" ادع إلى سبيل ربك بالحكمة "، وفي قوله: " وآتيناه الحكم صبيا " إنه الحكمة، ومعناها النبوة.
والحكمة أيضًا: كل(2) ما منع من الجهل، وقيل ذلك في قوله تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء }.
فإن قيل: الحكمة والإيمان معنيان ووصفان، فكيف يملأ بهما طست، [قيل: تجوز منه صلى الله عليه](3) وهذه صورة الأجسام ؟ فاعلم أنه قد يكون أن الله لما طهر قلبه(4) عن مضغة الشر(5) وعلقة(6) الشيطان القابلة لغير فَقِيلَ: مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفَتَحَ لَنَا، وَقَالَ: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: فَأَتَيْنَا عَلَى آدَمَ - صلى الله عليه وسلم -...، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقِصَّتِهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَقِيَ فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ عِيسَى وَيَحْيَى عَلَيْهَا السَّلام، وَفِي الثَّالِثَةِ يُوسُفَ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (أ):" تبقى ".
(2) قوله:" كل " ليس في (أ).
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).
(4) في (ح):" لما طهر الله قلبه ".
(5) قوله:" الشر " ليس في (أ).
(6) في (ح):" غفلة ".(2/8)
العلم والحكمة عوضه منها بفضله ما شاء مما أودعه قلبه وما جعله متعلقًا لقبول حكمته وألطاف نبوته والإيمان بمجامع(1) غيبه وشهادته، وعبر عن ذلك بمتعلقه وهو الإيمان والحكمة، فسماها بذلك ؛ إذ كانت تقوم به.
وأما قوله في الرواية الأخرى: " ثم حُشِيَ إيمانًا وحكمة " فعلى طريق الاستعارة لعظيم ما علمه الله من ذلك.
وفي هذا دليل على صحة قول المحققين أن الكفر لا يصح قبل النبوة على الأنبياء، وأن نبينا وسائرهم معصومون منه ومن سائر المعاصي، ثابتو الإيمان من صغرهم، ألا ترى كيف حشي صدره وقلبه حكمة وإيمانا من صغره، وهو عند ظِئْره، وقد أشرنا إلى هذه النكتة قبل.
وقوله: " إلى مراق البطن "، قال الإمام: " قال ابن قتيبة: " هو بتشديد القاف "، قال غيره:" مراق البطن هو ما سفل منه ".
قال القاضي: أصله كل ما رق من الجلد، وقد عبر عنه في غير هذا الحديث بلفظ آخر بمعنى أسفل البطن.
وقوله في هذا الحديث من رواية عبدالله بن هاشم المختصرة عن ثابت عن أنس - رضي الله عنه - قال(2)" قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " انطلقوا بي إلى زمزم فشرح عن صدري ثم غسل بماء زمزم ثم أنزلت ".
__________
(1) في (ح):" بجامع ".
(2) قوله:" قال " ليس في (ح).(2/9)
وَفِي الرَّابِعَةِ إِدْرِيسَ، وَفِي الْخَامِسَةِ هَارُونَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، قَالَ:« ثُمَّ انْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَأَتَيْتُ عَلَى مُوسَى - عليه السلام - فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالأخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، فَلَمَّا جَاوَزْتُهُ بَكَى، فَنُودِيَ: مَا يُبْكِيكَ ؟ قَالَ: رَبِّ هَذَا غُلامٌ بَعَثْتَهُ بَعْدِي، يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِهِ الْجَنَّةَ أَكْثَرُ مِمَّا يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَأَتَيْتُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ »، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: وَحَدَّثَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَنَّهُ رَأَى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(2/10)
كذا رويناه عن جميعهم بضم الهمزة وكسر الزاي وضم التاء، وحكى لنا بعض شيوخنا عن القاضي أبي الوليد الوقشي - وكان أكثر اعتنائه بأمثال هذه الألفاظ المشكلة والجسارة على تقويمها بزعمه وإصلاحها: أن اللفظة وَهْم من الرواة(1) وتصحيف، وصوابها: " ثم تُرِكْتُ "، فعرضت هذا على شيخنا أبي الحسين بن سراج الحافظ اللغوي فقال لي: " هذا تكلف، و"أنزلت " بمعنى " تركت " في كلام العرب معروف "، فاتفقا في المعنى واختلفا في صحة اللفظ، ثم ظهر لي أنا بعد ذلك أن " أنزلت " على بابها المستعمل الذي هو ضد " رُفِعْتُ"، ألا تراه كيف قال في أول الحديث: "انطلقوا بي(2)"، أي رفعوه من مضجعه وحملوه إلى حيث فعل به هذا، ثم رد إلى مكانه(3) وأنزل في مضجعه، ولم أزل أعدّ هذا وما قبله أنا وغيري من غرائب المعاني، ودقائق أسرار كشف المشكل، إلى أن أوقفتني المطالعة على الجلاء فيه، وإذا اللفظ طرف من الحديث الطويل المتقدم وقف عليها الراوي معلقا بقية الحديث بما تقدم ومحيلا عليه، فذكرها الإمام أبوبكر الخوارزمي
__________
(1) في (أ) تشبه أن تكون:" الرواية ".
(2) قوله:" بي " ليس في (ح).
(3) في (ح):" المكان ".(2/11)
أَرْبَعَةَ أَنْهَارٍ، يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا نَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، وَنَهْرَانِ بَاطِنَانِ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ ! مَا هَذِهِ الأنْهَارُ ؟ قَالَ: أَمَّا النَّهْرَانِ الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ: فَالنِّيلُ، وَالْفُرَاتُ، ثُمَّ رُفِعَ لِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ! مَا هَذَا ؟ قَالَ: هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، إِذَا خَرَجُوا مِنْهُ لَمْ يَعُودُوا فِيهِ آخِرُ مَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ، أَحَدُهُمَا خَمْرٌ وَالأخَرُ لَبَنٌ، فَعُرِضَا عَلَيَّ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقِيلَ: أَصَبْتَ أَصَابَ اللَّهُ بِكَ أُمَّتُكَ عَلَى الْفِطْرَةِ، ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسُونَ صَلاةً، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّتَهَا إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المعروف بالبرقاني في الصحيح فقال فيه: " ثم أنزلت طست مملوءة حكمة وإيمانا، فحشي بها صدري، ثم عرج بي... "، وذكر تمام الحديث.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام "، معنى(1)" ظهرت " أي علوت، ومنه قوله تعالى:" فأصبحوا ظاهرين " و: " ليظهره على الدين كله "، وقول النابغة:
وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا
__________
(1) في (ح):" ومعنى ".(2/12)
والمستوى يكون بمعنى العلو والمصعد، قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: " ثم استوى إلى السماء "، قال: " صعد أمره "، وقد يكون بمعنى موضع متوسط مما شاء الله تعالى من ملكوته، وقيل في قوله تعالى:" مكانا سوي(1)"، أي متوسطا، وقد يكون " مستوى "، أي: حيث يظهر عدل الله وحكمته(2) لعباده هناك، ويقال للعدل: " سواء " ممدود مفتوح، و " سِوى " مكسور مقصور، وقيل ذلك في قوله تعالى:" كلمة سواء بيننا وبينكم ".
265 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ...، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَزَادَ فِيهِ:« فَأُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَشُقَّ مِنَ النَّحْرِ إِلَى مَرَاقِّ الْبَطْنِ، فَغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وصريف الأقلام: تصويتها فيما يكتب بها فيه، وكذلك صريف الفحل بأنيابه: صوت حك بعضها ببعض.
__________
(1) في (أ) و(ح):" سويا ".
(2) في (ح):" وحكمه ".(2/13)
وفيه حجة لمذهب أهل السنة في الإيمان بصحة كتابة الوحي والمقادير في كتاب(1) الله تعالى من اللوح المحفوظ وما شاء بالأقلام التي هو تعالى يعلم كيفيتها على ما جاءت به الآيات من كتاب الله تعالى،والأحاديث الصحيحة، وأن ما جاء من ذلك على ظاهره، لكن كيفية ذلك وجنسه وصورته مما لا يعلمه إلا الله أو من اطلعه على غيبه من ذلك من ملائكته ورسله، ومما لا يتأوله(2) ويحيله(3) عن ظاهره إلا ضعيف النظر والإيمان ؛ إذ جاءت به الشريعة، ودلائل العقول لا تحيله، والله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، حكمة من الله، وإظهارا لما شاء من غيبه لمن شاء من ملائكته وخلقه، وإلا فهو الغني عن الكتب(4) والاستذكار لا إله غيره.
وفي علو منزلة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وارتفاعه فوق منازل سائر الأنبياء وبلوغه حيث بلغ من ملكوت السموات دليل على علو درجته وإبانة فضله، بل ذكر البزار خبرا في الإسراء عن علي - رضي الله عنه - وذكر فيه مسير جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - على البراق حتى أتى الحجاب، وذكر كلمة، وقال: " خرج ملك من وراء الحجاب،
......................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقال جبريل - عليه السلام -: " والذي بعثك بالحق إن هذا الملك(5) ما رأيته منذ خُلِقْتُ وإني أقرب الخلق مكانًا ".
وفي حديث آخر: " فارقني جبريل، وانقطعت عني الأصوات(6)".
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ ".
__________
(1) في (أ):" كتب ".
(2) في (أ):" وما لا يناوله ".
(3) في (ح):" ولا يحيله ".
(4) في (ط):" الكتاب ".
(5) في (أ):" لملك ".
(6) في (ح):" الأصوات عني ".(2/14)
قال الإمام: " قال الهروي " قال ابن الأعرابي: " الجُنْبُذة، القبة، وجمعها جنابذ " "، قال الإمام: " ووقع(1) في كتاب البخاري: “ حبائل اللؤلؤ"، وقيل: إن الصواب ما في كتاب مسلم ".
قال القاضي: قد وقع في كتاب البخاري:" جنابذ "، كما ذكره مسلم، كذا ذكره في كتاب الأنبياء، وإنما وقع له(2): " حبائل " في كتاب الصلاة، قيل: هو تصحيف، والصواب " جنابذ "، وهي شبه(3) القباب، وقال ثابت عن يعقوب:" هو ما ارتفع من البناء "، وقد وقع المعنى مفسرا بالقباب في بعض طرق حديث الإسراء من رواية أبي جعفر محمد بن جرير الطبري(4) قال: " فإذا بنهر بجنبتيه قباب اللؤلؤ ".
وقول ابن عباس رضي الله عنهما وأبي(5) حبة الأنصاري، كذا في الأم: بالباء بواحدة، ووقع في البخاري من رواية القابسي عن المروزي:" حية " بالياء باثنتين، وليس بشيء.
واختلف أصحاب المغازي(6) في أبي حبة الأنصاري وفي أبي حبة البدري، وهل هما بالباء أو بالنون، وهل هو واحد أو اثنان، والأكثر فيه بالباء بواحدة، والاختلاف فيه(7) كثير.
......................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث محمد بن مثنى بسنده عن أنس - رضي الله عنه -:" لعله عن مالك بن صعصعة ".
قال الإمام:" قال بعضهم:" هذا الحديث محفوظ عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة دون شك ولا ارتياب، قال الدارقطني: " لم يروه عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة غير(8) قتادة " ".
ذكر في ا لحديث صفة موسى - عليه السلام -: " ضرب من الرجال ".
__________
(1) في (ح):" وقع ".
(2) قوله:" له " ليس في (ح).
(3) في (ح):" تشبه ".
(4) كذا في حاشية (ح) وعليها "صح، خ". وفي المتن كلمة تشبه أن تكون "الإمام".
(5) في (ط):" وأبا ".
(6) في (ط):" المغاي ".
(7) في (ح):" في ".
(8) في (أ):" إلا ".(2/15)
قال الإمام: " الضرب الرجل(1) الذي له جسم بين جسمين، ليس بالضخم ولا بالضئيل، قال طرفة:
أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه خشاش كرأس الحية المتوقد
الخشاش، بكسر الخاء وفتحها وضمها، كلها بمعنى واحد، وهو اللطيف الرأس، قاله ابن السكيت، وقال أبو عبيد في مصنفه: “ الخشاش الرجل الخفيف، وأيضًا الحية، وأيضًا ما يحش(2) به أنف البعير، فأما الخشاش بالفتح فشرار الطير(3)".
قال القاضي: غيره يقول: صغار الطير، وكذا ذكره صاحب العين، قال:" والخشاش أيضًا صغار دواب الأرض "، وقال الأصمعي:" الخشاش النذل من كل شيء كالرخم وما لا يصيد(4) من الطير، وأما الشجاع من كل شيء فبكسر الخاء، والخشاش من دواب الأرض والطير: ما لا دماغ له "، وقال غيره:" الخشاش - بفتح الخاء - الصغير الرأس اللطيف من الدواب " قال أبو حاتم: " هذا بالكسر ".
266 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ يَقُولُ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ - صلى الله عليه وسلم - - يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ - قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أُسْرِيَ بِهِ فَقَالَ:« مُوسَى آدَمُ طُوَالٌ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ »، وَقَالَ: «عِيسَى جَعْدٌ مَرْبُوعٌ »، وَذَكَرَ مَالِكًا خَازِنَ جَهَنَّمَ، وَذَكَرَ الدَّجَّالَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" رجل ".
(2) في (ح):" يُحشى ".
(3) في حاشية (ح) كلمة تشبه أن تكون:" الصير "
(4) في (ح):" يصاد ".(2/16)
وقوله: الخشاش ما يحشى(1) به أنف البعير، هو عود يدخل في أنف البعير الصعب عرضا، ويخرج طرفاه من الجهتين، فيشد به(2) حبل يقاد به، فإذا استصعب شد به فعقره وآلمه فانقاد، ومنه قوله في حديث أبي اليسر آخر الكتاب في خبر الشجرة: " فانقادت عليه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده ".
وقوله في صفته: " جعد " من رواية شيبان عن قتادة، ومن رواية مجاهد عن ابن عباس، وذكره البخاري أيضًا عن قتادة،[ وورد ذلك أيضًا في الحديث الآخر من رواية شعبة عن قتادة ](3) في صفة عيسى - عليه السلام -، وإنما ذلك في سائر الأحاديث في صفة الدجال، وورد في أكثر ا لروايات في صفة عيسى: " سبط الرأس "، وهو الصحيح، لكن يصح حمله هنا في صفتهما على جعودة الجسم والنزارة(4)، كما قال في موسى - عليه السلام -:" ضرب من الرجال "، وهو الرجل بين الرجلين في كثرة اللحم وقلته(5)، لكن ذكر البخاري فيه من(6) بعض الروايات: " مضطرب "، وهو الطويل غير الشديد، وهو ضد الجعد اللحم المكتنز، لكن يحتمل أن الرواية الأولى أصح ؛ لقوله في هذه في الأم: “ حسبته قال: مضطرب "، فقد ضعف هذه الرواية الشك ومخالفة الأخرى 267 - وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ - صلى الله عليه وسلم - ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ - عليه السلام - رَجُلٌ آدَمُ طُوَالٌ جَعْدٌ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ مَرْبُوعَ
__________
(1) في (أ):" يخش ".
(2) في (أ):" بهما ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(4) قوله:" والنزارة " ليس في (ط).
(5) في (ح):" قلة اللحم وكثرته ".
(6) قوله:" من " ليس في (أ).(2/17)
الْخَلْقِ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، سَبِطَ الرَّأْسِ »، وَأُرِيَ مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ وَالدَّجَّالَ فِي آيَاتٍ أَرَاهُنَّ اللَّهُ إِيَّاهُ { فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ }، قَالَ: كَانَ قَتَادَةُ يُفَسِّرُهَا: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ لَقِيَ مُوسَى - عليه السلام -.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التي لا شك فيها، وفي الرواية الأخرى: " جسيم(1) سبط "، وهذا يرجع إلى الطول، قال الشاعر:
فجاءت به سبط البنان كأنما عمامته بين الرجال لواء ولا يتأول "جسيم " بمعنى " سمين " ؛ لأنه ضد "ضرب"، وهذا إنما جاء في صفة الدجال من حديث ابن عمر، ويكون في موسى أيضًا " الجعد " هنا إذا صرفناه للشعر نحو " الرجل وليس بالقطط ولا بالسبط " كما جاء في صفة شعر نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وكما ذكر البخاري في بعض الطرق عن موسى - عليه السلام -: " رجل الشعر ".
وقوله في عيسى(2) - عليه السلام - من رواية أبي هريرة: " أحمر كأنما خرج من ديماس، وهو الحمّام "، وقد أنكر هذا ابن عمر، وحلف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقله، خرجه البخاري، وفيه وفي(3) كتاب مسلم عنه أنه: " آدم كأحسن ما أنت راء من أُدْم الرجال "، وذكر:" أحمر " في صفة الدجال.
__________
(1) في (ح):" جسم ".
(2) قوله:" عيسى " ليس في (أ).
(3) في (أ):" في ".(2/18)
268 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَسُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ قَالا: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِوَادِي الأزْرَقِ فَقَالَ:« أَيُّ وَادٍ هَذَا ؟»، فَقَالُوا: هَذَا وَادِي الأزْرَقِ، قَالَ:« كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى - عليه السلام - هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ، وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ»، ثُمَّ أَتَى عَلَى ثَنِيَّةِ هَرْشَى فَقَالَ:« أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ ؟»، قَالُوا: ثَنِيَّةُ هَرْشَى، قَالَ:« كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى - عليه السلام - عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ جَعْدَةٍ، عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ، خِطَامُ نَاقَتِهِ خُلْبَةٌ، وَهُوَ يُلَبِّي ».
قَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ فِي حَدِيثِهِ: قَالَ هُشَيْمٌ: يَعْنِي لِيفًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " ينطف(1) رأسه، أي يقطر، والنَّطْف القَطْر يقال: نطف ينطُف(2) وينطِف، بضم الطاء وكسرها في المستقبل، وجاء في الحديث الآخر: " يقطُرُ رأسُهُ ماءً ".
__________
(1) في (ح):" تنطف ".
(2) قوله:" ينطف " ليس في (ح).(2/19)
قال الإمام: " وقوله في صفة الدجال:" جعد قطط "، أي شديد الجعودة، يقال: شعر جعد، ورجل جعد، قال الهروي:" الجعد في صفة(1) الرجال يكون مدحا ويكون ذما، فإذا كان ذما فله معنيان: أحدهما القصير المتردد، والآخر: البخيل، يقال: رجل جعد اليدين وجعد الأصابع، أي بخيل، والجعد إذا كان(2) مدحا له أيضًا معنيان: أحدهما أن يكون شديد الخلق: والآخر: أن يكون شعره جعدا غير سبط، فيكون مدحا ؛ لأن السبوطة أكثرها في شعور العجم "، وقال(3) غيره: " فالجعد في صفة الدجال ذم، وفي صفة موسى - عليه السلام - مدح ".
قال القاضي: رويناه " القطط " بفتح ا لطاء الأولى وكسرها.
269 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَمَرَرْنَا بِوَادٍ، فَقَالَ:« أَيُّ وَادٍ هَذَا ؟»، فَقَالُوا: وَادِي الأزْرَقِ، فَقَالَ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - »، فَذَكَرَ مِنْ لَوْنِهِ وَشَعَرِهِ شَيْئًا لَمْ يَحْفَظْهُ دَاوُدُ «وَاضِعًا إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، لَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ، مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي »، قَالَ: ثُمَّ سِرْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى ثَنِيَّةٍ، فَقَالَ:« أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ ؟»، قَالُوا: هَرْشَى، أَوْ لِفْتٌ، فَقَالَ:« كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ عَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ خِطَامُ نَاقَتِهِ لِيفٌ خُلْبَةٌ، مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي مُلَبِّيًا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (أ):" صفات ".
(2) في (ح):" والجعد أيضًا إّا كان ".
(3) في (أ):" قال ".(2/20)
وقول قتادة في آخر الحديث:"فلا تكن في مرية من لقائه"،أي(1) أن نبي(2) الله، يعني محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لقي موسى - عليه السلام - يعني: ليلة الإسراء، فالهاء على هذا عائدة على موسى - عليه السلام -، وقال غيره من المفسرين: الهاء عائدة على الكتاب، أي: فلا تكن في مرية من تلقي موسى الكتاب الذي أوتي.
وعن الحسن: " معناه ولقد آتينا موسى الكتاب فأوذي وكُذِّب، فلا تكن في مرية أنك ستلقى مثل ما لقيه من الأذى والتكذيب "، وقيل: في الآية تقديم وتأخير: يعود إلى الرجوع للآخرة(3) والبعث وما تقدم من قوله:" قل يتوفاكم ملك الموت " إلى قوله:" تُرجَعون "، واعترضت قصة موسى - عليه السلام - بين كلامين.
وقوله في وصف يونس بن متى: " على ناقة حمراء جعدة "، قال الإمام: " هي(4) المجتمعة الخلق الشديدة الأسر ".
وقوله:" خِطامها خُلْبَة "، قال الإمام: " الخلبة - بخاء معجمة مضمومة، وهو الليف، وفيه لغتان: بإسكان ا للام وضمها، قاله ابن السكيت ".
270 - وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرُوا الدَّجَّالَ، فَقَالَ: إِنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ، قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ أَسْمَعْهُ قَالَ ذَاكَ، وَلَكِنَّهُ قَالَ « أَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَانْظُرُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ، وَأَمَّا مُوسَى فَرَجُلٌ آدَمُ جَعْدٌ، عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ مَخْطُومٍ بِخُلْبَةٍ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذَا انْحَدَرَ فِي الْوَادِي يُلَبِّي ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال القاضي: جاء مفسَّرا في الحديث الآخر: " خطامها ليف خلبة ".
__________
(1) قوله:" أي " ليس في (ط).
(2) قوله:" نبي " ليس في (أ).
(3) في (ط):" الآخرة ".
(4) في (ح):" يعني ".(2/21)
وقوله:" ثنية هرشى أو لَفَت "، هرشى - بفتح الهاء وسكون الراء - جبل(1) من بلاد تهامة على طريق الشام والمدينة، قريب من الجحفة.
و " لفت " سمعنا هذا الحرف من القاضي الشهيد بفتح اللام والفاء، ومن الشيخ أبي بحر هنا بفتح اللام فقط، وسكون الفاء [ ومن الحافظ أبي الحسين بكسر اللام وسكون الفاء ](2)، وأنشدنا بعضهم في ذلك:
مررنا بلفت والثريا كأنها قلائد در حل(3) عنها نظامها
وروينا هذا البيت في كتاب مشاهد ابن هشام عن أشياخنا: التميمي والأسدي وابن سراج : ولِفْتًا سددناه وَفَجَّ صَلاح(4)
كذا سمعناه(5) بالكسر، وكذا كان في المشاهد عند أبي بحر، وكذا قيدناه عنه.
وقوله في موسى - عليه السلام -:" له جُؤَار إلى الله بالتلبية ".
قال الإمام: " الجؤار، رفع ا لصوت، مهموز، من قول الله تعالى: {فإليه تجأرون(6)}، أي ترفعون أصواتكم وتستغيثون، يقال: جأر يجأر، قال عدي بن زيد:
إنني، والله، فاقبل حلفتي بأبيل(7) كلما صلى جأر ".
__________
(1) في حاشية (ح):" ثنية ".
(2) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(3) في (ح):" قلائد رحل ".
(4) في حاشية (ح):" علاج " وعليها " خ".
(5) في (ح):" رويناه ".
(6) في (ط):" { ثم إليه تجأرون }".
(7) في كل النسخ:" بأبيل"، ولعل الصواب:" بأبيك ".(2/22)
271 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ. ح، وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« عُرِضَ عَلَيَّ الأنْبِيَاءُ، فَإِذَا مُوسَى ضَرْبٌ مِنَ الرِّجَالِ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ - عليه السلام - فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا: عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي نَفْسَهُ -، وَرَأَيْتُ جِبْرِيلَ - عليه السلام - فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا دَحْيَةُ ». وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ رُمْحٍ: دَحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال القاضي: ذكر هذا في موسى، وذكر نحوه في يونس، وأكثر الروايات في وصفه لهم يدل أن ذلك رآه ليلة أسري به، وقد وقع ذلك مبينا في رواية أبي العالية عن ابن عباس، وفي رواية ابن المسيب عن أبي هريرة، وليس فيها ذكر التلبية.
فإن قيل: كيف يتوجه ما ذكر من حجهم وتلبيتهم وهم أموات، وفي الأخرى وليست دار(1) عمل؟ فاعلم وفقك الله أن للمشايخ وفيما ظهر لنا عن هذا أجوبة:
أحدها: إنا إذا قلنا إنهم كالشهداء - بل هم أفضل من الشهداء - أحياء عند ربهم فلا يبعد أن يحجوا، ويصلوا كما ورد في الحديث الآخر، وأن يتقربوا إلى الله تعالى بما استطاعوا وكتب لهم(2) بعد - وإن كانوا في الأخرى- فهم في هذه الدنيا التي هي دار العمل، حتى إذا فنيت مدتها وأعقبتها الأخرى التي هي دار الجزاء انقطع العمل.
__________
(1) في (ح):" بدار ".
(2) في (ط):" وكتب لهم لأنهم ".(2/23)
272 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَتَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ، قَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:« حِينَ أُسْرِيَ بِي لَقِيتُ مُوسَى - عليه السلام - - فَنَعَتَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - - فَإِذَا رَجُلٌ حَسِبْتُهُ قَالَ: مُضْطَرِبٌ رَجِلُ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ قَالَ، وَلَقِيتُ عِيسَى - فَنَعَتَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - - فَإِذَا رَبْعَةٌ أَحْمَرُ، كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ - يَعْنِي حَمَّامًا - قَالَ: وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ، قَالَ: فَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا لَبَنٌ، وَفِي الأخَرِ خَمْرٌ، فَقِيلَ لِي: خُذْ أَيَّهُمَا شِئْتَ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ، فَقَالَ: هُدِيتَ الْفِطْرَةَ، أَوْ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ، أَمَّا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الوجه الثاني: إن عمل الآخرة ذكر ودعاء، قال الله تعالى: “ دعواهم فيها سبحانك اللهم ".
الوجه الثالث: أن يكون(1) هذا(2) رؤية منام في غير ليلة الإسراء، أو في بعض ليلة الإسراء، كما قال في روية عبدالله بن عمر: " بينا أنا نائم رأيتني أطوف بالكعبة "، وذكر الحديث في قصة عيسى - عليه السلام -.
__________
(1) في (ط):" تكون ".
(2) في (أ):" هذه ".(2/24)
الوجه الرابع: إنه - صلى الله عليه وسلم - أري حالهم قبل هذا ومُثِّلوا له في حال حياتهم وكيف تلبيتهم حينئذ وحجهم، كما قال في الحديث: " كأني أنظر إلى موسى " و: " كأني أنظر إلى يونس "، و: " كأني أنظر إلى عيسى ".
الوجه الخامس: أن يكون أخبر بتحقيق حال ما أوحي إليه من أمرهم وما كان منهم، وإن لم يرهم رؤية عين، ويدل عليه قوله: " كأني أنظر "، قصار يقينه بذلك كالمشاهدة.
273 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« أَرَانِي لَيْلَةً عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَرَأَيْتُ رَجُلاً آدَمَ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ?رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ، لَهُ لِمَّةٌ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ اللِّمَمِ، قَدْ رَجَّلَهَا فَهِيَ تَقْطُرُ مَاءً، مُتَّكِئًا عَلَى رَجُلَيْنِ، أَوْ عَلَى عَوَاتِقِ رَجُلَيْنِ، يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَسَأَلْتُ: مَنْ هَذَا ؟ فَقِيلَ: هَذَا الْمَسِيحُ ابْنُ?مَرْيَمَ، ثُمَّ إِذَا أَنَا بِرَجُلٍ جَعْدٍ قَطَطٍ أَعْوَرِ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، فَسَأَلْتُ: مَنْ هَذَا ؟ فَقِيلَ: هَذَا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ?».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي هذه الجملة من الفقه: رفع الصوت بالتلبية لقوله:" له(1) جؤار إلى الله بالتلبية "، وهي سنتها في شرعنا للحاج(2) من غير إسراف، إلا في المساجد فليخفض بها صوته ويسمع من يليه، إلا مسجدي مكة ومنى فليرفع فيهما بها(3) صوته عند مالك رحمه الله ؛ لاستواء كل من في ذينك المسجدين في ذلك الحكم، بخلاف غيرهما(4) من مساجد البلاد، الذي الحاج فيه قليل، فتشتهر بذلك فيها فتحذر فساد عمله.
__________
(1) قوله:" له " ليس في (ح) و(ط).
(2) في (أ):" إلا لحاج ".
(3) قوله:" بها " ليس في (ح).
(4) في (أ):" غيرها ".(2/25)
وفيه من الفقه: التلبية ببطن المسيل وأنه من سنن المرسلين وشرائعهم، وبه احتج البخاري في المسألة، لقوله: " إذ(1) انحدر من الوادي ".
ووقع في كتاب مسلم وبعض روايات البخاري:" إذا انحدر(2)"، بفتح الذال وألف بعدها، فتوهم بعضهم فيه أنه لما يستقبل ووهم راويه، وقال: " الصواب رواية من روى: " إذ انحدر "، بكسر الذال "، قال: " أو يكون وهم وجعل موسى موضع عيسى، فإن موسى بعد لا يحج البيت وإنما يحج عيسى ".
__________
(1) في (أ) و(ح):" إذا ".
(2) في (ح):" إذا انحدر من الوادي "، وجاء ملحقًا في حاشيتها وعليه "صح، خ".(2/26)
274 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمُسَيَّبِيُّ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ يَعْنِي ابْنَ عِيَاضٍ، عَنْ مُوسَى - وَهُوَ ابْنُ عُقْبَةَ -، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا بَيْنَ ظَهْرَانَيِ النَّاسِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَقَالَ:« إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيْسَ بِأَعْوَرَ، أَلا إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُمْنَى، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ »، قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَرَانِي اللَّيْلَةَ فِي الْمَنَامِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ كَأَحْسَنِ مَا تَرَى مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ، تَضْرِبُ لِمَّتُهُ بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ، رَجِلُ الشَّعْرِ يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً، وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ، وَهُوَ بَيْنَهُمَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا فَقَالُوا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَرَأَيْتُ وَرَاءَهُ رَجُلاً جَعْدًا قَطَطًا أَعْوَرَ عَيْنِ الْيُمْنَى، كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ مِنَ النَّاسِ بِابْنِ قَطَنٍ، وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ، يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا ؟ قَالُوا: هَذَا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا من هذا القائل تعسف بعيد، وجسر على التوهيم لغير ضرورة، وعدم فهم بمعاني الكلام ؛ إذ لا فرق بين " إذ " و " إذا " هنا ؛ لأنه إنما وصف حاله حين انحداره فيما مضى.
وفيه من الفقه: جواز وضع الأصبع في الأذن عند الآذان، ورفع الصوت، لقوله ذلك عن موسى - عليه السلام -.
وقوله في عيسى:" المسيح " وكذلك في الدجال.(2/27)
قال الإمام: " قال عيسى بن دينار وغيره: " سمي الدجال مسيحا ؛ لأنه ممسوح إحدى العينين "، فهو(1) فعيل بمعنى مفعول، وسمي عيسى مسيحا من أجل سياحته في الأرض وأنه لم يكن له موضع يستقر فيه من الأرض، قال 275 - حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا حَنْظَلَةُ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« رَأَيْتُ عِنْدَ الْكَعْبَةِ رَجُلاً آدَمَ سَبِطَ الرَّأْسِ، وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى رَجُلَيْنِ?يَسْكُبُ رَأْسُهُ، أَوْ يَقْطُرُ رَأْسُهُ، فَسَأَلْتُ: مَنْ هَذَا ؟ فَقَالُوا: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، أَوِ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ - لا نَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَ -، وَرَأَيْتُ وَرَاءَهُ رَجُلاً أَحْمَرَ جَعْدَ الرَّأْسِ أَعْوَرَ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، أَشْبَهُ مَنْ?رَأَيْتُ بِهِ ابْنُ قَطَنٍ، فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا ؟ فَقَالُوا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ?».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهروي:" قال ابن الأعرابي: المسيح الصدّيق، وبه سمي عيسى - عليه السلام -، والمسيح الأعور، وبه سمي الدجال "، قال الحربي(2):" سمي عيسى مسيحا بمسح زكريا إياه، أو يكون اسما خصه الله به، وقال ابن عباس:" سمي بذلك لأنه لا يمسح ذا عاهة إلا برأ "، قال غيره(3):" من قال في الدجال: مسيح على فعيل بكسر الميم، فليس بشيء(4)".
قال القاضي:وقيل في تسمية عيسى - عليه السلام - مسيحا ما ذكر، وقول ابن الأعرابي: " المسيح الصديق(5)" هو في صحيح البخاري من قول إبراهيم.
__________
(1) في (ح):" وهو ".
(2) في (ط):" وقال ".
(3) في (ط):" وقال ".
(4) في (ح):" فقد أخطأ فليس بشيء ".
(5) في (ح):" هو الصديق ".(2/28)
وقيل: لأنه كان ممسوح القدمين لا أخمص له، وقيل لأن الله مسحه، أي خلقه خلقا حسنا، فيكون بمعنى جميل وحسن، وقيل:سمي بذلك لمسحه الأرض أي قطعها، وقيل: لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن، وقيل مسح بالبركة حين وُلد.
وأما تسمية الدجال بذلك فقيل ما تقدم، وقيل:لمسحه الأرض حين خروجه، وقال أبو الهيثم: " المسيح - بالحاء - ضد المسيخ - بالخاء -، فبالحاء(1) مسحه الله أي خلقه حسنا، وبالخاء مسخه(2) أي خلقه خلقا ملعونا ".
276 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ، فَجَلا اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولا خلاف عند أحد من الرواة في اسم عيسى أنه بفتح الميم وكسر السين مخففة، واختلف في الدجال فأكثرهم يقول مثله(3)، وأنه لا فرق بينهما، وأن عيسى مسيح هدى، والدجال مسيح ضلالة.
وكان عند بعض شيوخنا، وهو أبو إسحق بن جعفر في كتابه: المسيح(4)، بكسر الميم والسين وتشديدها، وكذلك عند غير واحد.
__________
(1) في (ح):" فبالخاء ".
(2) قوله:" مسخه " ليس في (ح).
(3) في (ط):" يقوله مثله ".
(4) في (ح):" المسمى المسيح ".(2/29)
وبعضهم يقوله كذا بالخاء المعجمة، وبعضهم بكسر الميم ويخفف السين(1)، وكذا(2) وجدت الأصيلي ضبط هذا الحرف بخطه في صحيح البخاري، ورأيت(3) بخط شيخنا القاضي أبي عبدالله محمد(4) بن أحمد التجيبي عن أبي مروان(5) بن سراج: " من كسر الميم فيه شدد السين ".
وأما تسميته دجالا فقال ثعلب: " سمي بذلك لضربه في الأرض وقطعه أكثر(6) نواحيها، يقال منه دجل، وهذا مثل أحد التأويلات في تسميته مسيحا.
وقيل: بل لتمويهه على الناس وتلبيسه، يقال: دَجَلَ إذا موَّه، وقيل كل كذاب دجال، وهو من هذا المعنى أو قريب منه.
وقوله في صفة عيسى من رواية ابن عمر: " آدم "، ومن رواية غيره: " أحمر "، وقد تقدم وقد يحتج لكونه:" أحمر " بقوله: “ كأنما خرج من ديماس"، يعني لحمرته، وإنما ورد " آدم " في صفة موسى - عليه السلام -، والآدَم الأسمر، 277 - حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ فَإِذَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهو خلاف الأحمر، وقد يرجع قوله: " كأنما خرج من ديماس " إلى ما يأتي بعده من ذكره أن " لمته تقطر(7) ماء "، واللِّمة - الشعر - بكسر اللام، وهي التي تلُمّ بالمنكبين.
__________
(1) في (ط):" بكسر الميم والسين وتشديدها ".
(2) في (ط):" وكذلك ".
(3) في (أ):" فرأيت ".
(4) قوله:" محمد " ليس في (ط).
(5) في (ط):" مرون ".
(6) قوله:" أكثر " ليس في (ح).
(7) في (أ):" يقطر ".(2/30)
وقوله:" رجَّلَها "، يريد - والله أعلم - بالماء أو بالمشط، يقال: شعر مُرَجّل إذا مشط، وشعر رَجَ-ل إذا كان في خلقته وتكسيره(1) على هيئة الممشوط.
وقوله:" يقطر ماء " يحتمل أن يكون على ظاهره، أي يقطر(2) بالماء الذي رجّلها به، لقرب ترجيله إياه، وإلى هذا نحا القاضي الباجي، وقال: "لعله نبه بذلك على أن ذلك مشروع لطواف الورود، ومعناه عندي أن يكون ذلك عبارة عن نضارته وحسنه وترجيله، واستعارة لجماله.
وقوله في حديث الدجال: " إنه أعور وإن الله ليس بأعور"، تنبيه على سمات الحدث والنقص على الدجال، وعلى تنزيه الرب جل اسمه عن النقائص، وأن من تعتريه النقائص وتحِلّ به الآفات لا يستحق الربوبية، وأنه أوضح دليل على حَدْثِه.
وقوله فيه:" أعور العين اليمنى "، وهو المشهور، وفي رواية أخرى: "أعور العين اليسرى "، وقد ذكرهما معا مسلم آخر الكتاب،[ ويأتي الكلام عليه ](3).
رَجُلٌ آدَمُ سَبِطُ الشَّعْرِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ يَنْطِفُ رَأْسُهُ مَاءً أَوْ يُهَرَاقُ رَأْسُهُ مَاءً قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا هَذَا ابْنُ مَرْيَمَ ثُمَّ ذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ فَإِذَا رَجُلٌ أَحْمَرُ جَسِيمٌ جَعْدُ الرَّأْسِ أَعْوَرُ الْعَيْنِ كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا الدَّجَّالُ أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " كأن عينه عِنَبَةٌ طافية "، قال الإمام: " قال الأخفش: " طافية - بغير همز - أي ممتلئة قد طفت وبرزت "، قال غيره:" وطافئة - بالهمز - أي قد ذهب ضوؤها وتقبضت ".
__________
(1) في (ط):" وتكسر ".
(2) في (ط):" تقطر ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ح).(2/31)
قال القاضي: روايتنا في هذا الحرف عن أكثر شيوخنا بغير همز، وتفسيرها بما تقدم، وهو الذي صححه أكثرهم، وأنها ناتهة كنُتُوء حبّة العنب من بين صواحبها، ووقع عند بعض شيوخنا مهموزا، وأنكره بعضهم، ولا وجه لإنكاره، وقد وصف في الحديث أنه " ممسوح العين "، وأنها " ليست حجراء ولا ناتئة، وأنها(1)" مطموسة "، وهذه صفة حبة العنب إذا طفئت وسال ماؤها، وبهذا فسر الحرف عيسى بن دينار، وهذا يصحح رواية الهمز.
وعلى ما جاء في الأحاديث الأخر:" جاحظ العين " و " كأنها(2) كوكب"، وفي رواية:" عوراء نجفاء ولها حدقة جاحظة كأنها نخاعة في حائط مُجصَّص " تصح(3) رواية غير الهمز.
لكن يجمع بين الأحاديث، وتصح الروايتان جميعًا بأن تكون المطموسة والممسوحة والتي ليست بجحراء ولا ناتئة هي العوراء الطافئة - بالهمز - والعين اليمنى، على ما جاء هنا، وتكون الجاحظة والتي كأنها كوكب
278 - وحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُالْعَزِيزِ - وَهُوَ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ -، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ، وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ، فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا، فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ »، قَالَ:« فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، مَا يَسْأَلُونِي عَنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ط):" بأنها ".
(2) في (ح):" العين كأنها ".
(3) في حاشية (ح):" فصح " وعليها " خ".(2/32)
وكأنها نخاعة هي الطافية بغير همز: العين الأخرى، فتجتمع الروايات والأحاديث ولا تختلف، وعلى هذا تجتمع رواية " أعور العين اليمنى " مع " أعور العين اليسرى " ؛ إذ كل واحدة منهما بالحقيقة عوراء، إذ الأعور من كل شيء المعيب، ولا سيما بما يختص بالعين، وكلى عيني الدجال معيبة عوراء، فالممسوحة(1) والمطموسة والطافئة - بالهمز - عوراء حقيقة، والجاحظة التي كأنها كوكب هي الطافية - بغير همز - معيبة عوراء لعيبها، فكل واحدة منهما عوراء: إحداهما:إحداهما بذهابها، والأخرى بعيبها.
قال القاضي: وأما طواف عيسى بالبيت، فإن كانت رؤيا عين فعيسى - عليه السلام - حي لم يمت، وإن كانت رؤيا منام، كما بينه ابن عمر رضي الله عنهما في حديثه، فهو(2) محتمل لما تقدم، وللتأويل للرؤيا.
وعلى هذا يحمل ما ذكر من طواف الدجال بالبيت، وأن ذلك رؤيا، إذ ورد في الصحيح أنه لا يدخل مكة ولا المدينة، مع أنه في رواية مالك لم يذكر طواف الدجال، وهو(3) أثبت ممن روى طوافه، لما قلناه، وقد يقال: إن تحريم دخول المدينة عليه إنما هو زمن فتنته.
شَيْءٍ إِلا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الأنْبِيَاءِ، فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي، فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَإِذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - عليه السلام - قَائِمٌ يُصَلِّي، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ - عليه السلام - قَائِمٌ يُصَلِّي أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ يَعْنِي نَفْسَهُ، فَحَانَتِ الصَّلاةُ فَأَمَمْتُهُمْ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلاةِ، قَالَ قَائِلٌ: يَا مُحَمَّدُ ! هَذَا مَالِكٌ صَاحِبُ النَّارِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَبَدَأَنِي بِالسَّلامِ ».
__________
(1) في (ح):" فالممسوخة ".
(2) في (ح):" فهذا ".
(3) في (ح):" وهي ".(2/33)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد يحتج به من يجيز الطواف على الدابة وللمحمول لغير(1) عذر، لما(2) ذكر من طواف عيسى - عليه السلام - على مناكب رجلين، ومالك لا يجيزه إلا لعذر، وجوابه عن طواف النبي - صلى الله عليه وسلم - على الراحلة أن ذلك كان لعذر، ففي كتاب أبي داود أنه - صلى الله عليه وسلم - (3) ورد مكة وهو يشتكي، وساق الحديث.
وقد يقال: لأنه كان يُعَلِّم الناس أمور حجهم فركب ليظهر لجميعهم ولا يخفى عمله عليهم كما أراهم صلاته على المنبر لئلا يخفى على جميعهم، والله أعلم، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -:"خذوا عني مناسككم"، و:"صلوا كما رأيتموني أصلي ".
ويجاب عنه في قصة عيسى - عليه السلام - بأنها منام - كما روي - أو محتملة للمنام، أو أنه ليس في الواجب، أو لعله لعذر، أو لأن شرع من قبلنا غير لازم لنا.
وقوله في الحديث الآخر: " فإذا بموسى قائم يصلي "، وذكر(4) مثله عن عيسى وإبراهيم عليهما السلام، وفي آخر كتاب مسلم بعد هذا: " مررت على موسى وهو قائم في قبره يصلي "، فالجواب عن صلاتهم قد تقدم في ذكر حج موسى وعيسى عليهما السلام، وقد تكون الصلاة هنا بمعنى الدعاء
......................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والذكر، وهي من أعمال الآخرة، ويؤكد أحد التأويلات فيه وأنها الصلاة المعهودة ما ذكر من أنه أمَّ - صلى الله عليه وسلم - الأنبياء عليهم السلام.
__________
(1) في (أ):" بغير ".
(2) في (ح):" بما ".
(3) في (أ):" عنه عليه السلام ".
(4) في (ح):" وذكره ".(2/34)
وقد [قال بعضهم](1): يحتمل أن موسى - عليه السلام - لم يمت، وأنه حي فتكون صلاته حقيقة كصلاة عيسى - عليه السلام -، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أكون أول من تنشق عنه الأرض، فإذا موسى آخذ بساق العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور ".
لكن يرد هذا التأويل قوله - صلى الله عليه وسلم -:" يصلي في قبره عند(2) الكثيب الأحمر "، والقبر لا يكون إلا للميت، والحديث الوارد في قصة وفاته وخبره مع ملك الموت، وسيأتي آخر الكتاب.
فإن قيل: فكيف رأى موسى - عليه السلام - في قبره يصلي ؟، وكيف صلى بالأنبياء عليهم السلام في حديث الإسراء ببيت المقدس على ما جاء في الحديث، وقد(3) جاء في الحديث(4) نفسه أنه وجدهم على مراتبهم في السموات وسلموا عليه ورحبوا به ؟
قيل: يحتمل أن رؤيته لموسى - عليه السلام - في قبره عند الكثيب الأحمر كانت قبل صعوده إلى السماء وفي(5) طريقه إلى بيت المقدس، ثم وجد موسى قد سبقه إلى السماء، ويحتمل أنه رأى الأنبياء عليهم السلام وصلى بهم على تلك الحال، لأول ما رآهم، ثم سألوه ورحبوا به، أو يكون اجتماعه بهم وصلاته ورؤيته(6) موسى - عليه السلام - بعد انصرافه ورجوعه عن سدرة المنتهى فلا تتناقض الأحاديث وتستمر على الصواب.
__________
(1) مابين المعكوفين جاء في حاشية (ح) وعليها (ح) مع قوله:" أن موسى ".
(2) في (أ):" وعند ".
(3) قوله:" قد " ليس في (ح).
(4) قوله:" في الحديث " ليس في (أ).
(5) في (ح):" في ".
(6) في (ط):" ورؤية ".(2/35)
279 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ. ح - وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ جَمِيعًا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ، قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - انْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الأرْضِ، فَيُقْبَضُ مِنْهَا، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُهْبَطُ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا، فَيُقْبَضُ مِنْهَا، قَالَ:{ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى }، قَالَ: فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: فَأُعْطِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَلاثًا أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَغُفِرَ لِمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا الْمُقْحِمَاتُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث عبدالله في سدرة المنتهى: " إليها ينتهي علم ما يعرج من الأرض وما يهبط من فوقها فيقبض فيها"، وذكر أنها في السماء السادسة، وقد قيل: إنها في(1) الجنة، وإنها في السماء الرابعة، وتقدم(2) في حديث أنس أنها فوق السماء السابعة، وهو الأصح وقول(3) الأكثر والذي يقتضيه المعنى.
__________
(1) قوله:" في " ليس في (ط).
(2) في (ح):" وقد تقدم "، وقوله:" قد " ليس في (أ).
(3) قوله:" الأصح وقول " ليس في (أ).(2/36)
وتسميتها بـ" المنتهى "، قال كعب: هي في أصل العرش إليها ينتهي علم كل(1) ملك مقرب أو نبي مرسل، وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله تعالى"، وقيل: إليها تنتهي أرواح الشهداء، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: " هي عن يمين العرش "، وقيل: إليها ينتهي كل من كان على سنة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقال الخليل: " هي سدرة في السماء السابعة لا يجاوزها ملك ولا نبي، قد أظلت السموات والجنة "، وفي الحديث: " نبقها مثل قلال هجر، وورقها كآذان الفيلة ".
280 - وَحَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبَّادٌ - وَهُوَ ابْنُ الْعَوَّامِ -، حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:{ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى }، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله:{ إذ يغش السدرة ما يغشى }، قال فراش من ذهب "، وفي رواية ابن جريج: " غشيها فراش من ذهب، وأُرْخِيَتْ عليها ستور من لؤلؤ وياقوت وزبرجد "، وزاد بعضهم في روايته:" فلما غشيها من أمر ربها ما غشي تحولت ياقوتا " أو نحو هذا.
والفراش كل ما يطير من الحشرات الصغار والديدان.
وقوله:" وغفر لمن لم يشرك بالله شيئًا المقحمات "، بكسر الحاء، أي غفر الذنوب العظام المهلكات أصحابها ، أي التي تقحمهم النار، وتوردهم إياها.
قال ابن دريد: " يقال اقتحم اقتحاما إذا هوى من علو إلى سُفْل ودَخَل في شيء عن(2) غير هداية، ولذلك سميت المهالك قُحَمًا"، قال الهروي: "والقحم الأمور الشاقة، وقال شمر: التقحم التقدم والوقوع في أهوية ".
__________
(1) قوله:" كل " ليس في (ح).
(2) قوله:" عن " ليس في (ح).(2/37)
وقول عائشة رضي الله عنها للذي سألها: " هل رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه ؟": " لقد قف شعري لما قلت..." الحديث.
قال الإمام: " قال ابن الأعرابي: " تقول العرب عند إنكار الشيء: قَفَّ شعري، واقشعر جلدي، واشمأزت نفسي ".
281 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:{ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى }، قَالَ: رَأَى جِبْرِيلَ - عليه السلام - لَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ.
282 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ الشَّيْبَانِيِّ سَمِعَ زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:{ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى }، قَالَ: رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ لَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال القاضي: قال الهروي في " قف شعري ": " قام من الفزع، قال أبو زيد(1): " قف الرجل من البرد، وعلته(2) قفة، والقُفُوف أيضًا: القُشعريرة من الحمى "، وقال النضر: " القفة كهيئة:القشعريرة، وعلته قفة أي رِعْدَة "، قال الخليل: " القَفْقَفْة(3): الرعدة "، وهو كما قال، وأصله الإنقباض والاجتماع ؛ لأن الجلد ينقبض عند البرد والفزع والاستهوال، فيقوم(4) الشعر لذلك، وبذلك سميت القفة، لضم بعضها إلى بعض ولما يضم(5) فيها.
__________
(1) في حاشية (ح):" ابن دريد " وعليها " خ".
(2) في (ح):" وعليه ".
(3) في (ح):" القفة ".
(4) في (أ):" فتقوم ".
(5) في (ط):" تضم ".(2/38)
قال الإمام: " وإنكارهما في هذا الحديث وفي غيره(1) على من سألها عن الرؤية محتملة(2) عند أهل العلم على أنها إنما أنكرت الرؤية في الدنيا، لا أنها ممن تحيل جواز رؤيته سبحانه كما قالت المعتزلة ".
قال القاضي: اختلف السلف والخلف، هل رأى نبينا - صلى الله عليه وسلم - ربه تعالى ليلة الإسراء، فأنكرته عائشة رضي الله عنها، كما تقدم، ووقع هنا وأنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن آية النجم فقال:" ذاك جبريل "، ونحوه عن أبي هريرة وجماعة من السلف والمشهور عن ابن مسعود، وإليه ذهب جماعة من المحدثين والمتكلمين من امتناع رؤيته تعالى في الدنيا، على ظاهر قوله تعالى: “ لا تدركه الأبصار(3)}.
283 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:{ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى }، قَالَ: رَأَى جِبْرِيلَ.
284 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَآهُ بِقَلْبِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رآه بعينه، وقال: " اختص الله موسى بالكلام، ومحمدا بالرؤية، وإبراهيم بالخُلَّة صلى الله عليهم وسلم "، وحجته ظاهر قوله تعالى:" ما كذب الفؤاد ما رآى " الآيات، ومثله عن كعب وأبي ذر والحسن، وكان يحلف على ذلك، وحكي مثله عن ابن مسعود وأبي هريرة أيضًا.
وحكي عن ابن حنبل وغيره أنه رآه، وحكى أصحاب المقالات عن أبي الحسن الأشعري وجماعة أصحابه أنه رآه، ووقف بعض مشايخنا في هذا، وقال: " ليس عليه دليل واضح، ولكنه جائز ".
__________
(1) في (أ):" الحديث وغيره ".
(2) في (ط):" محتملاً ".
(3) في (ط) زيادة:" { وهو يدرك الأبصار }".(2/39)
ورؤية الله تعالى في الدنيا جائزة غير مستحيلة، وسؤال موسى - عليه السلام - إياها أدل دليل على جوازها ؛ إذ لا يجهل نبي ما يجوز على ربه عز وجل ويمتنع، وجواب الله تعالى له: " لن تراني " عند بعضهم نفي الاستطاعة على ذلك والاحتمال.
وكذلك اختلفوا في تأويل(1) قوله تعالى: " لا تدركه الأبصار".
وقد اختلفوا في رؤية موسى ربه، ومقتضى الآية، ورؤية الجبل، ففي جواب القاضي أبي بكر رحمه الله ما يقتضي أنهما رأياه تعالى، ولبعض
285 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو سَعِيدٍ الأشَجُّ، جَمِيعًا، عَنْ وَكِيعٍ، قَالَ الأشَجُّ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الأعْمَشُ، عَنْ زِيَادِ بْنِ الْحُصَيْنِ أَبِي جَهْمَةَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:{ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى }،{ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى }، قَالَ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ.
286- حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الأعْمَشِ، حَدَّثَنَا أَبُو جَهْمَةَ بِهَذَا الإسْنَادِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المفسرين نحو منه.
والكلام في هذه الفصول يتسع، وهو متسع في كتب أئمتنا، وقد ذكرنا نخبة منه في كتابنا " الشفا ".
وكذلك اختلفوا: هل كلم محمد - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء ربه سبحانه بغير واسطة أم لا ؟ فحكي عن الأشعري وقوم من المتكلمين أنه كلمه، وعزا بعضهم هذا إلى جعفر بن محمد، وابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهم - وحجتهم ظاهر قوله تعالى: " فأوحى إلى عبده ما أوحى ".
والأكثر على القول بغير هذا، وأن الموحي(2) ههنا(3) إلى العبد: الله إلى جبريل، أو جبريل(4) إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) قوله:" تأويل " ليس في (ح).
(2) في حاشية (ح):" الواحي هنا ".
(3) قوله:" ههنا " ليس في (ح).
(4) في (ح):" وجبريل ".(2/40)
وكذلك اختلفوا في تأويل قوله تعالى:" ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى "، فأكثر المفسرين أن هذا(1) الدنو والتدلي مقسم ما بين جبريل ومحمد عليهما السلام، أو مختص بأحدهما من الآخر، أو من سدرة(2) المنتهى.
وذكر عن ابن عباس والحسن ومحمد بن كعب وجعفر بن محمد وغيرهم أنه دنو من محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه، أو من الله وتدلى(3) إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) قوله:" هذا " ليس في (ح).
(2) في (ط):" السدرة ".
(3) قوله:" وتدلى " ليس في (ح).(2/41)
287 - حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنْتُ مُتَّكِئًا عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَائِشَةَ، ثَلاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، قُلْتُ: مَا هُنَّ ؟ قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، قَالَ: وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ، فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْظِرِينِي وَلا تَعْجَلِينِي، أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:{ وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ }، { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}، فَقَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الأمَّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ:« إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ، لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ، رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ، سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ »، فَقَالَتْ: أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }، أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ:{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ }، قَالَتْ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَتَمَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، وَاللَّهُ يَقُولُ:{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا(2/42)
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ }، قَالَتْ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، وَاللَّهُ يَقُولُ:{ قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ }.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعلى هذا القول فيكون الدنو والتدلي متأولا ليس على وجهه، كما قال جعفر بن محمد:" الدنو من الله لا حد له، ومن العباد بالحدود"، فيكون معنى دنو النبي - صلى الله عليه وسلم - من ربه تعالى وقربه منه ظهور عظيم منزلته لديه(1)، وإشراق
288 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بِهَذَا الإسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَزَادَ قَالَتْ: وَلَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - كَاتِمًا شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ لَكَتَمَ هَذِهِ الأيَةَ:{ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ }.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنوار معرفته عليه، وإطلاعه من غيبه وأسرار ملكوته على ما لم يطلع سواه عليه، والدنو من الله تعالى له أظهار ذلك له(2) وعظيم بره وفضله العظيم لديه، ويكون قوله: " قاب قوسين أو أدنى " على هذا عبارة عن لطف المحل، واتضاح(3) المعرفة، والإشراف على الحقيقة من نبينا - صلى الله عليه وسلم -، ومن الله تعالى إجابة الرغبة وإنافة المنزلة، ويتأول في ذلك ما يتأول في قوله - عليه السلام - عن ربه تعالى: " من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا.. " الحديث.
__________
(1) في (ط):" لربه ".
(2) في (ح):" عليه ".
(3) في (ح):" ايضاح ".(2/43)
وقول عائشة رضي الله عنها واحتجاجها بالآية: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا.. " الآية، فقد استدل بالآية نفسها بعض المشايخ على أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه دون حجاب، وكلمه دون واسطة(1) ولا رسول، وقال: " هي ثلاثة أقسام: من وراء حجاب، كتكليم(2) موسى - عليه السلام -، وبإرسال الملائكة بالوحي، كحال جميع الأنبياء وأكثر أحوال نبينا - صلى الله عليه وسلم -، الثالث قوله: "وحيا "، ولم يبق من تقسيم صور المكالمة إلا كونها مع المشاهدة "، وقد قيل: الوحي هنا هو ما يلقيه في قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - دون واسطة.
وقولها: " لو كان كاتما شيئًا لكتم(3) قوله تعالى:{ وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه } الآية(4).
289 - حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - رَبَّهُ ؟ فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ لَقَدْ قَفَّ شَعَرِي لِمَا قُلْتَ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقِصَّتِهِ، وَحَدِيثُ دَاوُدَ أَتَمُّ وَأَطْوَلُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال القاضي: لا يجب أن يتأول في قول عائشة رضي الله عنها وفي الآية ما ذكر عن بعض من لم يحقق من المفسرين فيها من الشناعة من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر زيدا بإمساكها وهو يحب تطليقها، وأنه الذي أخفى في نفسه ؛ إذ لا يصح عنه، فلا تستربّ أنه - صلى الله عليه وسلم - منزه عن مثل هذا، ومن(5) مد عينه إلى ما نهاه الله عنه مما متع الله به غيره من زهرة الدنيا.
__________
(1) في (ط):" وساطة ".
(2) في (ط):" كتكلم ".
(3) في (ح):" لكتم هذه الآية ".
(4) قوله:" الآية " ليس في (ح).
(5) في (ح):" من ".(2/44)
وأصح ما في هذا ما حكي(1) عن علي بن حسين أن الله تعالى أعلم نبيه - صلى الله عليه وسلم - بكونها له زوجا، فلما شكاها زيد قال له:" أمسك"، وأخفى في نفسه ما أعلمه الله به مما الله مبديه بطلاق زيد لها وتزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد لها، ونحوه عن الزهري، وغيره.
والذي خشيه: إرجاف(2) المنافقين بأنه نهى عن تزويج نساء الأبناء، وتزوج زوجة ابنه.
وألفاظ الآية تدل على صحة هذا الوجه، لقوله تعالى: " ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له "، ولو كان ما ذكر أولئك لكان فيه أعظم الحرج، وبقوله تعالى:{ لكيلا(3) يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم(4)}.
وإلى ما قلناه نحا القاضي بكر بن العلاء القشيري وغيره من المحققين، وأنكروا سواه.
290 - وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، عَنِ ابْنِ أَشْوَعَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: فَأَيْنَ قَوْله { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى }؟ قَالَتْ: إِنَّمَا ذَاكَ جِبْرِيلُ - صلى الله عليه وسلم -، كَانَ يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ الرِّجَالِ، وَإِنَّهُ أَتَاهُ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ فِي صُورَتِهِ الَّتِي هِيَ صُورَتُهُ فَسَدَّ أُفُقَ السَّمَاءِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكتم النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه الآية لو كتمها - وقد نزهه الله عن ذلك كما قالت عائشة رضي الله عنها - لما اشتملت عليه من عتبه، وإبداء ما أسره من
زواجها، وأمره زيدا بإمساكها وقد أعلمه الله أنه سيطلقها، وخشيته(5) تشنيع المنافقين عليه زواجها، كما تقدم، لا لغير ذلك.
__________
(1) في (ط):" يحكى ".
(2) في (ح):" إ{حاف ".
(3) في (أ) و(ط):" لئلا ".
(4) في (أ) زيادة:"{ إذا قضوا منهن وطرًا }".
(5) في (ح):" خشية ".(2/45)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - حين سأله أبو ذر:"هل رأيت ربك ؟ " قال: " نور أنى أراه".
قال الإمام: " وفي نسخة: " نوراني(1)"، وفي طريق آخر أنه قال(2) له(3): "رأيت نورًا ".
قال الإمام: " إن قيل ظاهر الخبرين متناقض ؛ لأن الأول فيه أن النور يمنع رؤيته، والثاني أن النور مرئي، قلنا: يصح أن(4) يكون الضمير في قوله: " أراه " عائدا على الله سبحانه، وقوله: " أنى أراه " يعني أن النور أغشى بصري ومنعني من الرؤية، كما جرت العادة بإغشاء الأنوار الأبصار ومنعها من إدراك ما حالت بين الرائي وبينه(5)، فيكون انتهاء رؤيته - صلى الله عليه وسلم - إلى النور خاصة وهو الذي أدرك، فإذا أمكن هذا التأويل لم يكن ذلك مناقضا للخبر الأول: بل هو مطابق له ؛ لأنه أخبر فيه أنه رأى نورا، وكذلك في الأول.
291 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ ؟ قَالَ:«?نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ?».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والرواية التي فيها " نوراني(6)" أشكال، ويحتمل أن يكون معناه راجعا إلى ما قلناه(7)، أي خالق النور المانع لي من رؤيته، فيكون من صفات الأفعال ".
__________
(1) في (ح) إشارة لحق، وتوجد كلمة تشبه أن تكون:" إنه "، أو:" أراه ".
(2) في (أ):" قال له ".
(3) قوله:" له " ليس في (ح).
(4) قوله:" يصح أن " ليس في (ح)، وتوجد إشارة لحق ولم يظهر شيء في الحاشية.
(5) في (ح):" بينه وبين الرائي ".
(6) في (ح):" نورًا إلى " وبجانبها في الحاشية "ظ".
(7) في (أ):" قلنا ".(2/46)
قال القاضي: هذه الرواية: " نوراني " لم تقع إلينا، ولا رأيتها في شيء من الأصول إلا ما حكاه الإمام أبو عبدالله، ومن المستحيل أن تكون ذات الله نورا ؛ إذ النور من جملة الأجسام، والله تعالى يتعالى عن الاتصاف بذلك، هذا مذهب جميع أئمة المسلمين، خلافًا لبعض المجسمة: هشام الجوالقي، ولُمَّته(1) ممن قال: " نور لا كالأنوار ".
ومعنى قوله عز وجل: " الله(2) نور السموات والأرض "، وما جاء في الحديث المأثور من تسميته بالنور، فمعناه: ذو نورهما، وربه وخالقه، وقيل: هادي أهل السموات والأرض، وقيل: منوِّر السموات والأرض و(3)قلوب عباده المؤمنين، وقيل: معناه ذو البهجة والجمال، وهذا يرجع إلى المعنى الأول، أي مالكهما وربهما، أو لنفي النقائص والغِيَر والحوادث.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " حجابه النور "- وفي رواية أخرى: "... النار"- لو كشفه(4) لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه "،[ قيل معنى " كشفه ": رفعه، وقيل " كشفه ": أظهر الحجاب](5).
292 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، ح. وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ كِلاهُمَا، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي ذَرٍّ: لَوْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: عَنْ أَيِّ شَيْءٍ كُنْتَ تَسْأَلُهُ ؟ قَالَ: كُنْتُ أَسْأَلُهُ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ ؟ قَالَ أَبُو ذَرٍّ: قَدْ سَأَلْتُ فَقَالَ:« رَأَيْتُ نُورًا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" وأمته ".
(2) قوله:" لفظ الجلالة ليس في (أ) و(ط)، وجاء مدرجًا بين السطور في (ح).
(3) قوله:" السموات والأرض و" ليس في (أ) و(ط).
(4) في (ح):" كشفها ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (أ).(2/47)
قال الإمام: " الهاء في " وجهه " تعود على المخلوق لا على الخالق سبحانه ؛ إذ الحجاب بمعنى الستر إنما يكون على الأجسام المحدودة، والباري
جلت قدرته ليس بجسم ولا محدود، والحجاب في اللغة: المنع، ومنه سمي المانع من الأمير حاجبا ؛ لمنعه الناس عنه، ومنه الحاجب في الوجه ؛ لأنه يمنع الأذى عن العين، والإنسان ممنوع من رؤية الخالق سبحانه في الدنيا فسمي منعه حجابا، ولما كان النور والنار مانعين في العادة من الإدراك، وهما من أشرف الأشياء المانعة أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه لو كشف عن النور والنار المانعين من الإدراك في العادة لأحرقت وجوه المخلوقين، وإن كان الباري سبحانه لا تقابله الأنوار وتقابل المخلوقين وتمنعهم من الرؤية.
وأما(1) تفسير " السُّبُحَات " فقال الهروي:" سبحات وجهه نور وجهه"، وفي كتاب العين: " سبحة وجهه هي نور وجهه وجلاله "، وإنما نقلنا هذا لتعلم قول أهل اللغة في هذا اللفظ، لا على اتباعه فيما يرجع الضمير إليه وإطلاق هذا اللفظ الذي قالوه ".
__________
(1) في (ح):" في أما ".(2/48)
قال القاضي:" ما قاله الإمام رحمه الله(1) صحيح، لكنه يضيق حمله على وجه المخلوق مع اتفاق الرواية على رفع " السبحات"، وأنها المحرقة لما انتهى 293 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الأعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يَنَامُ وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ - وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ النَّارُ -، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ -وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ عَنِ الأعْمَشِ وَلَمْ يَقُلْ: حَدَّثَنَا -.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إليها البصر، كما قال: " ما انتهى إليه بصره من خلقه "، فالخلق هنا هو المحرق، وسبحات الوجه هي المحرقة.
والسبحات - بضم السين والباء - جمع سبحة، وهي النور والجلال - كما قالوا - وما في معناها من البهاء والجمال(2) والكبرياء والعظمة ونعوت التعالي، وبمعنى(3) ذلك قوله في الحديث الآخر: " وما منعهم أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه "، فإضافتها إلى الله تعالى، وعود الضمير إليه هو مقتضى نظم الكلام ووجه اللفظ العرفي(4)، وإلا اختل الكلام، وتناقض مفهموم اللفظ.
__________
(1) في (ط):" وفقه الله ".
(2) في حاشية (ح):" والجلال " وعليها "صح، خ".
(3) في (أ):" معنى ".
(4) في (أ):" العربي ".(2/49)
وإذا كان هذا نظرنا إلى تأويل ذلك فإذا جعلنا معنى وجه الله تعالى ذاته ووجوده على ما اختاره الجويني وغيره من أئمتنا كانت إضافة السبحات إليها على معنى إضافة النور إليه في الآية، وفي قوله: " أعوذ بنور وجهك ": إما على المِلك أو الاختصاص، وتكون هذه السبحات هي تلك الحُجُب التي ذكر من النور أو النار وجلال الملكوت وعظيم القدرة، لو كشفها لأحرقت 294 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأعْمَشِ بِهَذَا الإسْنَادِ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْ خَلْقِهِ، وَقَالَ:« حِجَابُهُ النُّورُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كل من رآها وأدركها، وهو معنى قوله إن شاء الله:" ما انتهى إليه بصره من خلقه "، الهاء في " بصره " عائدة على خلقه، أي: لأحرقت من خلقه كل ما(1) انتهى إليه بصره منهم ورأى ذلك.
ويُتأول في ذلك ما يُتأول في قوله:" نور السموات والأرض "، وفي تسميته " نورا "، ويستقيم المعنى الحقيقي، وينطبق على اللفظ العربي، وعلى تفسير أهل اللغة التي لا بد لنا من الرجوع إليهم في معاني هذه الألفاظ.
ومن سلك من مشايخنا في الوجه أنه صفة، وهو قول شيخنا أبي الحسين(2) كانت إضافة(3) السبحات إليها، والمراد الذات، لا سيما على القول(4) بتقسيم القول في الصفات، وأن منها ما يقال هو نفس الذات.
وإذا جعلنا الوجه بمعنى الجهة حسن أيضًا أن يقال: لأحرقت السبحات والأنوار أو النار التي في الجهة التي ينظر إليها الناظر إذا كشفها الله له وأراه إياها كل من نظر إليها.
وهذه الوجوه كلها بينة حسنة ظهرت بعون الله وتوفيقه.
__________
(1) في (ط):" من ".
(2) في (ط):" الحسن ".
(3) في حاشية (ح):" نسبة " وعليها " خ".
(4) في (ح):" قوله "، وفي حاشيتها:" القول " وعليها " خ".(2/50)
وقد قال بعض المشايخ في تصحيح كون الضمير في " بصره " عائدًا على(1) الله تعالى أن الكلام إشارة إلى العموم بقوله: " ما انتهى إليه بصره من خلقه " ولا شيء من خلقه إلا ورؤية الله تنتهي إليه فكأنه قال: لو كشفها لاحترق(2) جميع الخلق.
295 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَرْبَعٍ:« إِنَّ اللَّهَ لا يَنَامُ وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَرْفَعُ الْقِسْطَ وَيَخْفِضُهُ، وَيُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ، وَعَمَلُ اللَّيْلِ بِالنَّهَارِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال النضر بن شُمَيْل: " معنى " سبحات وجهه " كأنه ينزهه يقول: سبحان وجهه ".
وقد يقال على مذهب من تأول من المتصوفة حجب النور بحجب(3) العلوم التي لم تبلغ الحقيقة وصدها عن المعرفة الحقيقية(4)؛ لشغل الفكر وتشويش العقل بها، فلو كشفها عن المخلوقين وأزاحها عنهم وظهرت المعارف والأنوار التي من وجه الحقيقة وجهة الحق لأحرقتهم ولأهلكتهم ولم يحتملها ضعف(5) تركيبهم، كما قال تعالى:" فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا "، ولكنه تعالى إنما يكشف منها اليسير بقدر احتمال قواهم الضعيفة حتى إذا شاء الله وقواها وربط على قلوبهم احتملوا رؤيته ومشاهدة عجائب ملكوته وعظيم عظمته وقدرته وجلال سلطانه وبهائه، ويدل على صحة(6) ما أشرنا إليه قوله في الحديث الآخر:" فلا يسمع حس ذلك أحد لا يربط على قلبه إلا خلع أفئدته "، وفي الحديث الآخر " إلا زهقت نفسه ".
__________
(1) في (ح):" عائد إلى ".
(2) في (ح):" لأحترق ".
(3) في (ح):" تحجب ".
(4) في (أ) و(ح):" الحقيقة ".
(5) في (ح):" ضعيف ".
(6) في (ح):" حجته ".(2/51)
واعلم أن في ذكر الحجاب هنا، والحجب وتكثيرها في غير هذا الحديث، من النور والنار والظلمة والماء مما جاء في أحاديث أخر تنبيه لأولي الألباب على أن الحجب ليست حجبا لأنفسها ووجودها، وإنما حجب الخلق عن ذلك فعل الله وإرادته ومشيئته وقدرته(1)؛ لأنه حجب بالأشياء(2) وأضدادها من 296 - حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، وَأَبُو غَسَّانَ الْمَسْمَعِيُّ، وَإِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ جَمِيعًا، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ - وَاللَّفْظُ لأَبِي غَسَّانَ قَالَ -: حَدَّثَنَا أَبُوعَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (أ):" وقدره ".
(2) في (ح):" عن الأشياء ".(2/52)
النور والظلمة، والماء والنار، وهذا مذهب أهل الحق أن الرؤية والإدراك فعل الله تعالى وخلقه في المدرك للشيء ولا يشترطون في المرئي والمدرك سوى وجوده إلا من حيث مجرى العادة(1)، خلافًا للفلاسفة ومن اقتفى أثرها(2) من ضلال المعتزلة،؛ لاشتراطهم في الرؤية رفع الموانع من الحجب الثخينة، والبعد والقرب(3) والمفرطين، واشتراطهم اتصال الأشعة ومقابلة المرئي، وافتقار الإدراك لبنية مخصوصة، وهي العين، وهذه الدعاوى حملتهم على نفي رؤية العباد لله تعالى أصلاً، وساقت بعضهم إلى أن الله سبحانه لا يَرى ولا يُرى، تعالى الله سبحانه عن قولهم.
فأبان - صلى الله عليه وسلم - أن حجب الله لأبصار خلقه بمشيئته، وخلقه، لا أنه يحجبه شيء، وأن النور الذي هو في العادة سبب الإدراك والموجب للرؤية يحجب بمشيئته عنه العباد، كما يحجبهم ضده من الظلمة، وكذلك الماء بشفوفه ورقته والنار بضوئها.
وقد أشار بعضهم أن قوله: " حجابه النور " إشارة إلى معرفة العارفين
بأنه(4) لا كيفية له ولا مثل، وأنه:{ ليس كمثله شيء }، فحجبت هذه المعرفة - وهي ا لنور - قلوب العارفين عن تخييله(5) وتمثيله، وأعلمهم أن العجز عن إدراكه إدراك، كما قال الصديق - رضي الله عنه -، قال الله تعالى:" أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه "، وقال تعالى: " مثل نوره كمشكاة.. " الآية.
وقوله: " يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار بالليل، وعمل الليل بالنهار "، وفي الرواية الأخرى:" عمل(6) النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار ".
قال الهروي:" قال ابن قتيبة: القسط الميزان، وسمي به ؛ لأن القسط العدل، وبالميزان يقع العدل في القسمة، فلذلك سمي به ".
__________
(1) في (أ):" العادة به ".
(2) في (أ):" آثارها ".
(3) في (أ):" والقرب والبعد ".
(4) في (ح):" فأنه ".
(5) في (ط):" تحليته ".
(6) في (ح):" يرفع إليه عمل ".(2/53)
والمراد أن الله تعالى يخفض الميزان ويرفعه بما يوزن من أعمال العباد المرتفعة إليه، ويوزن من أرزاقهم النازلة إليهم، قال الله تعالى: " وما ننزله إلا بقدر معلوم "، والقسط أراد الوزن(1).
خفض يده ورفعها فهذا تمثيل لما يقدر ثم ينزله(2)، فشبه بوزن الوَزَّان(3).
والقسطاس - بضم القاف وكسرها - أقوم الموازين.
وقال بعضهم: أراد بالقسط: الرزق الذي هو قسط كل مخلوق، يخفضه فيقتره(4)، ويرفعه فيوسعه(5)،[ والقسط: الحصة والمقدار](6)، وقوله: وما(7) بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه ".
قال الإمام: " كان - صلى الله عليه وسلم - يخاطب العرب بما تفهم،ويخرج لهم الأشياء إلى الحس حتى يقرب تناولهم لها فعبر عن زوال الموانع ورفعه عن الأبصار بذلك".
__________
(1) في حاشية (ح):" وزن " وعليها "صح، خ".
(2) في (ط):" نزله ".
(3) في (ح):" الوأزن ".
(4) في (ح):" أي يقتره ".
(5) في (ح):" أي يوسعه ".
(6) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(7) في (ح):" ما " بدون واو.(2/54)
قال القاضي: كانت العرب تستعمل في كلامها الاستعارة كثيرا، وهو أحد أنواع مجازات كلامها، وأرفع أبواب بديع(1) فصاحتها وإيجازها، وهو التجوز باللفظة، ونقلها عن أصل موضوعها، واستعمالها في غيره مما له به شبه استعمال الموضوع، ونحا الرماني إلى أنها نوع من التشبيه إلا أنه بغير أداة، فالعرب تستعملها في كلامها استعمال غيرها، وتفهم المقصد بها، كما قال تعالى:{ واخفض لهما(2) جناح الذل }، فمخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم بـ:" رداء الكبرياء على الوجه(3)" وشبهه من المشكلات من هذا المعنى، ومن لم يفهم مقاصد العرب وكلامها ممن غلبت عليه العجمة تاه في هذا المَهْمَهِ، فمن بليد(4) محض أجرى الأمر على ظاهره فقال بالتجسيم والتشبيه، وممن(5) خضرم في النباهة استهول(6) ظواهرها ولم تتضح(7) له وجوهها ؛ لجهله بكلام العرب ومنازعهم، فإما كذَّب بالأصل كالمعطلة ، أو كذب بهذه الآثار واطرحها وجَهَّلَ نَقَلَتَها كالمعتزلة.
فاستعار النبي - صلى الله عليه وسلم - لعظيم سلطان الله وكبريائه وعظمته وهيبته(8) وجلاله المانع من(9) إدراك أبصار البشر ذاتَه لضعفها عن ذلك، حتى إذا شاء ذلك قوى أبصارهم، وثبت عقولهم، وشجع أنفسهم، وربط على قلوبهم، وكشف عنهم حجب هيبته، وموانع عظمته، فاحتملوا رؤيته، واستقووا لمشاهدته، فعبر(10) عن ذلك بـ " رداء الكبرياء "، كما عبر به ا لشارع عن أشياء كثيرة، من قوله: " فليخفف الرداء " يعني الدين.
__________
(1) في (ط):" بدائع ".
(2) قوله:" واخفض لهما " ليس في (أ) و(ط).
(3) في (ح):" وجهه ".
(4) في (ح):" هو " بدل:" لبيد ".
(5) في حاشية (ح):" ومن " وعليها "صح، خ".
(6) في (ح):" فاستهول ".
(7) في (ط):" يتضح ".
(8) في (ح):" وسلطانه وهيبته ".
(9) قوله:" من " ليس في (ح).
(10) في (ط):" وعبر ".(2/55)
297 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ صُهَيْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا ؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " في جنة عدن "، معناه راجع إلى الناظرين، أي: وهم في جنة(1) عدن، لا إلى(2) المرئي، وهو الله تعالى ، فإنه(3) لا تحويه الأمكنة، تعالى عن ذلك.
ذكر(4) مسلم حديث عبيدالله بن عمر بن(5) ميسرة، عن ابن مهدي: نا حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن ابن أبي ليلى عن صهيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:" إذا دخل أهل الجنة الجنة..".
قال أبو عيسى الترمذي: " هذا ا لحديث إنما أسنده حماد بن سلمة، ورواه سليمان بن المغيرة، وحماد بن زيد عن ثابت، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى قوله ".
__________
(1) في (ط):" جنات ".
(2) في (ح):" لأن "، وفي حاشيتها:" إلى " وعليها "صح، خ".
(3) قوله:" فإنه " ليس في (ح).
(4) في (أ):" وذكر ".
(5) في حاشية (ح):" عن " وعليها " خ".(2/56)
قال القاضي: ذكر في هذا الحديث نظر أهل ا لجنة إلى ربهم: مذهب أهل السنة بأجمعهم جواز رؤية الله عقلا، ووجوبه في الآخرة للمؤمنين سمعا، نطق بذلك الكتاب العزيز، وأجمع عليه سلف الأمة، ورواه بضعة عشر من الصحابة بألفاظ مختلفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، خلافًا للمعتزلة والخوارج وبعض المرجئة؛ إذ نفوا ذلك عقلا بناء على شروط يشترطونها في الرؤية من البنية 298 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهَذَا الإسْنَادِ، وَزَادَ ثُمَّ تَلا هَذِهِ الأيَةَ:{ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والمقابلة واتصال الأشعة وزوال الموانع، في تخليط لهم طويل، وأهل الحق(1) لا يشترطون شيئًا من ذلك سوى وجود المرئي، وأن الرؤية إدراك يخلقها(2) الله للرائي فيرى المرئي، لكن بجري العادة تكون(3) على صفات، وليست بشروط.
وقوله:" هل(4) تُضَارُّون في الشمس "، وفي الحديث الآخر:" تضامون".
قال الإمام: " فيه رد على المعتزلة في إحالتهم رؤية الله تعالى، ويروى بتشديد الراء وبتخفيفها، فالتخفيف مأخوذ من الضير، والأصل فيه: تضيرون، والمعنى: لا يخالف بعضكم بعضا ولا تتنازعون، يقال: ضاره(5) يضيره ويضوره، وأما " تُضارُّون " - بالتشديد فمعناه ومعنى التخفيف واحد، فيكون على معنى: لا تُضارِرُون أحدا، تُسَكَّن الراء الأولى وتدغم في التي بعدها، ويحذف المفعول لبيان معناه، وقيل: لا يحجب بعضكم بعضا عن رؤيته(6) فيضره بذلك.
__________
(1) في (ح):" السنة ".
(2) في حاشية (ح):" يخلقه " وعليها "صح، خ".
(3) في (ط):" يكون ".
(4) في (ط):" وهل ".
(5) في (ح):" ضره ".
(6) في (ط):" رؤية ".(2/57)
ويجوز أن يكون على معنى: لا تضارَرُون - بفتح الراء الأولى- أي: لا تنازعون(1) ولا تجادلون فتكونون أحزابا يضر بعضكم بعضا في الجدل، ويقال: ضاررته مضارة إذا خالفته.
وأما من روى: " لا تُضامُّون " - بالميم وتشديدها - فمعناه: لا ينضم بعضكم لبعض في وقت النظر كما تفعلون بالهلال.
299 - حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ: أَنَّ نَاسًا قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ؟»، قَالُوا: لا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:«هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ ؟»، قَالُوا:لا يَارَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:« فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ، يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْهُ، فَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ، وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ، وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا،
__________
(1) في (ح):" تتنازعون ".(2/58)
فَيَتَّبِعُونَهُ وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ، وَلا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلا الرُّسُلُ، وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ : اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وَفِي جَهَنَّمَ كَلالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، هَلْ رَأَيْتُمُ السَّعْدَانَ ؟»، قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غَيْرَ أَنَّهُ لا يَعْلَمُ مَا قَدْرُ عِظَمِهَا إِلا اللَّهُ، تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن رواه بتخفيف الميم فمعناه: لا ينالكم ضيم في رؤيته فيراه بعض دون بعض، بل تستوون(1) في الرؤية، وأصله: تُضْيَمُون، على وزن تُفعلون، وأُلقيت فتحة الياء على الضاد، فصارت الياء ألفا ؛ لأنفتاح ما قبلها. والضَّيْم :الذُّل ".
__________
(1) في (أ) نقطت من أعلى وأسفل.(2/59)
الْمُؤْمِنُ بَقِيَ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمُ الْمُجَازَى حَتَّى يُنَجَّى، حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ بِرَحْمَتِهِ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ؛ أَمَرَ الْمَلائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَرْحَمَهُ، مِمَّنْ يَقُولُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَيَعْرِفُونَهُمْ فِي النَّارِ، يَعْرِفُونَهُمْ بِأَثَرِ السُّجُودِ، تَأْكُلُ النَّارُ مِنِ ابْنِ آدَمَ إِلا أَثَرَ السُّجُودِ، حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ، فَيُخْرَجُونَ مِنَ النَّارِ وَقَدِ امْتَحَشُوا، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ مِنْهُ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، ثُمَّ يَفْرُغُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَيَبْقَى رَجُلٌ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ، وَهُوَ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ، فَإِنَّهُ قَدْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال القاضي : وقال فيه بعض أهل اللغة: " تضامون " و " تضارون "، بفتح التاء وتشديد الراء والميم، ومعناه: تتضاررون وتتضاممون(1)، قال بعضهم: ومعناه في اللغة يضار بعضكم بعضا.
قال الزجاج:"الذي جاء في الحديث "تضارون" و" تضامون " بالتخفيف، أي لا ينالكم ضيم ولا ضير(2) في رؤيته، أي تستوون(3) في الرؤية ".
__________
(1) كذا في حاشية (ح) وفي المتن:" تضامون ".
(2) في (ح):" ضير ولا ضيم ".
(3) في (ط):" تستووا ".(2/60)
وقد ذكر البخاري هذا الحرف في بعض رواياته: " لا تضامون أو لا تضاهون "، على الشك، ومعناه بالهاء قريب من معنى الأول، أي لا يعارض بعضكم بعضا في الارتياب(1) برؤيته أو نفيها، وقد يكون معناه: لا يشبهونه في رؤيته(2) بغيره من المرئيات، سبحانه وتعالى.
وقوله:" كما ترون القمر "، وقوله بعد ذكر الشمس والقمر: " إنكم ترونه كذلك " تشبيه الرؤية بالرؤية، والإدراك بالإدراك في الوضوح ورفع الشك واتساع مسرح النظر، قَشَبَنِي رِيحُهَا، وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا، فَيَدْعُو اللَّهَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَهُ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: هَلْ عَسَيْتَ إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ بِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ، فَيَقُولُ: لا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، وَيُعْطِي رَبَّهُ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ، فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْجَنَّةِ وَرَآهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ قَدِّمْنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ لا تَسْأَلُنِي غَيْرَ الَّذِي أَعْطَيْتُكَ، وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ وَيَدْعُو اللَّهَ، حَتَّى يَقُولَ: لَهُ فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ، فَيَقُولُ: لا، وَعِزَّتِكَ، فَيُعْطِي رَبَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ، فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا قَامَ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ انْفَهَقَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، فَرَأَى مَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالسُّرُورِ، فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ
__________
(1) في (ط):" الإثبات ".
(2) في (ح):" في الرؤية ".(2/61)
وَتَعَالَى لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ أَنْ لا تَسْأَلَ غَيْرَ مَا أُعْطِيتَ، وَيْلَكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا تشبيه المرئي بالمرئي(1) والمدرك بالمدرك، ألا تراه كيف قال: " كما ترون القمر "، ولم يقل: كالقمر.
وتأولت ا لمعتزلة أن معنى الرؤية هنا العلم، وأن المؤمنين يعرفون الله يوم القيامة ضرورة، وهذا خطأ ؛ لأن رؤية العلم(2) تتعدى إلى مفعولين، ورؤية العين إلى واحد، وكذا ههنا، ولأن تمثيلها برؤية القمر - وهي رؤية(3) عين - تدل أنها(4) رؤية عين، ولأن اختصاص المؤمنين بها وأهل الجنة يدل أنها غير العلم، وأما الكفار يومئذ فهم يشاركون المؤمنين في العلم، ولأن الأثبات قد رووه: " ترون ربكم عيانا ".
يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ لا أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ، فَلا يَزَالُ يَدْعُو اللَّهَ حَتَّى يَضْحَكَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْهُ، فَإِذَا ضَحِكَ اللَّهُ مِنْهُ قَالَ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَإِذَا دَخَلَهَا قَالَ اللَّهُ لَهُ: تَمَنَّهْ، فَيَسْأَلُ رَبَّهُ وَيَتَمَنَّى، حَتَّى إِنَّ اللَّهَ لَيُذَكِّرُهُ مِنْ كَذَا وَكَذَا، حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ بِهِ الأمَانِيُّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله:" فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس "، وذكر مثله في القمر والطواغيت(5)، تمام هذا الفصل في الحديث الآخر: " ثم يتساقطون في النار ".
__________
(1) في (ح):" والمرئي ".
(2) كذا في حاشية (ح)، وفي المتن:" الله سبحانه ".
(3) في (ح):" رويا ".
(4) في (ح):" على أنها ".
(5) في (ح) تشبه أن تكون:" الكواكب ".(2/62)
وقوله: " وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها "، لتسترهم في الدنيا بدخولهم في جملتهم ونفاقهم بذلك ظنوا تجويز ذلك لهم في الآخرة إذا اتبع كل معبود من عبده ؛ جهلا منهم بالله تعالى واطلاعه على أسرارهم، كما جهل المشركون ذلك وقالوا: " والله ربنا ما كنا مشركين "، وظنوا أن ذلك يجوز لهم، كذلك المنافقون تستروا بجماعة المؤمنين فاتبعوهم ومشوا في نورهم حتى ضرب " بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب "، وانقطعت عنهم أضواؤهم، و " ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ".
واستدل بعضهم بأن هؤلاء هم المطرودون عن الحوض والذين يقال لهم:" سحقا سحقا "، فالله أعلم(1).
وقوله: " فيأتيهم الله في صورة لا يعرفونها، وفي رواية أخرى: " في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول : أنا ربكم".
قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ: لا يَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِهِ شَيْئًا، حَتَّى إِذَا حَدَّثَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ:« وَمِثْلُهُ مَعَهُ »، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ مَعَهُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا حَفِظْتُ إِلا قَوْلَهُ ذَلِكَ:« لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ »، قَالَ أَبُوسَعِيدٍ: أَشْهَدُ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَوْلَهُ:« ذَلِكَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ »، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَذَلِكَ الرَّجُلُ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً الْجَنَّةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الإمام: " يحتمل أن تأتيهم صورة مخلوقة فيقول: " أنا ربكم "، على سبيل الاختبار والامتحان، فيقولون: " نعوذ بالله منك...فيأتيهم الله في صورته التي يعرفونها ".
__________
(1) قوله:" فالله أعلم " ليس في (ح).(2/63)
الإتيان هنا عبارة عن رؤيتهم الله تعالى، وقد جرت العادة في المحدثين أن من كان غائبا عن غيره فلا يمكنه التوصل إلى رؤيته إلا بإتيان أو مجيء، فعبر بالإتيان(1) ههنا(2) والمجيء عن الرؤية على سبيل(3) المجاز.
وقوله: " في صورته التي يعرفونها "، أحسن ما يتأول فيه أنها صورة اعتقاد، كما يقال : صورة اعتقادي في هذا الأمر، والاعتقاد ليس بصورة مركبة، فيكون المعنى: يرون الله على ما كانوا يعتقدونه عليه من الصفات [التي هو عليها](4).
قال القاضي: وقيل: إن الإتيان هنا فعل من فعل الله سماه إتيانا وصف نفسه به، قيل: ويحتمل أن يكون الإتيان المعهود فيما بيننا جعله تعالى لغيره من ملائكته فأضافه إلى نفسه كما يقول القائل: " قطع الأمير اللص "، وهو لم يل ذلك بنفسه، إنما أمر به، وهذا أشبه الوجوه عندي بالحديث مع مايأتي 300 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُمَا: أَنَّ النَّاسَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ مَعْنَى حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ط):" الاتيان ".
(2) في (ح):" هنا ".
(3) قوله:" سبيل " ليس في (أ).
(4) مابين المعكوفين ليس في (أ).(2/64)
بعده، ويكون هذا المَلَك هو الذي جاءهم في الصورة التي أنكروها من سمات الحدث الظاهرة على الملك والمخلوق، أو يكون " يأتيهم الله في صورة "، أي: يأتيهم بصورة ويظهرها لهم من صور ملائكته أو مخلوقاته التي لا تشبه صفات الإله والخالق ليمتحنهم ويختبر(1) صحة إيمانهم، وهذه آخر امتحان المؤمنين، " ليميز الله الخبيث من الطيب "، ول- " بثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة " كما ضمن لهم في كتابه.
وإذا قال لهم هذا الملك أو هذه الصورة التي عرضها عليهم: " أنا ربكم " رأوا عليه من دليل الحدث وسيماء الخلقة ما ينكرونه، ويعلمون أنه ليس بربهم، ويستعيذون بالله منه، كما جاء في الحديث، ويقولون: " هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه "، وكما جاء في حديث آخر: " وكيف تعرفونه ؟ قالوا: إنه لا شبيه له ".
وقوله في الحديث الآخر في هذا الموضع: " قالوا: يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم، ولم نصاحبهم "، قال بعضهم: " لعله(2) قالوا: إننا(3)"؛ لأنهم بعد لم يروا ربهم فيخاطبونه"، وعندي أنه يصح(4) على وجهه أنهم تضرعوا إلى الله في كشف حالهم، ألا ترى كيف قال بعد هذا: " فيقول يعني الصورة التي ظهرت لهم : أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك".
__________
(1) في (ح):" بها ويختبر ".
(2) في (ح) يشبه أن تكون:" لعلهم ".
(3) في (ح):" يا ربنا ".
(4) في حاشية (ح):" لم يصح " وعليها "خ".(2/65)
301 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِنَّ أَدْنَى مَقْعَدِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ أَنْ يَقُولَ لَهُ: تَمَنَّ، فَيَتَمَنَّى وَيَتَمَنَّى، فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَمَنَّيْتَ ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَا تَمَنَّيْتَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله:" فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم "، فيه تقديم وتأخير وتغيير ؛ لأنه(1) وقع هذا الموضع في البخاري: " فارقناهم ونحن أحوج منا إليه اليوم"، وهو أشبه بالصواب وأبين، أي فارقناهم في معبوداتهم، ولم نصاحبهم، ونحن اليوم أحوج لربنا، أي محتاجون، كما قال تعالى: " وهو أهون " أي هين، والهاء في " إليه " عائدة على الله تعالى.
ويكون قوله: ".. غير صورته التي يعرفون "، وقوله:" فيأتيهم في صورته التي يعرفون، مقابلة لفظة الصورة هنا التي المراد بها في حق الله الصفة - على ما تقدم - للفظة الصورة الحقيقة(2) الواردة في صفة الملك والمخلوق، وتجنيس اللفظ باللفظ، كما قال تعالى:{ مستهزئون(3) الله يستهزئ بهم(4)}، { ومكروا ومكر الله }، وقد جاءت هذه اللفظة في البخاري: "فيأتيهم الله(5) في الصورة التي لا يعرفونها " و " في الصورة التي يعرفون" من غير إضافة وهي أبين وأقرب لتأويل الصفة.
__________
(1) قوله:" لأنه " ليس في (ط).
(2) في (ط):" الحقيقة ".
(3) في (أ):" يستهزئون ".
(4) في (ح) زيادة:"{ ويمدهم في طغيانهم }".
(5) لفظ الجلالة ليس في (أ).(2/66)
والصورة قد(1) ترجع في اللسان إلى معنى الصفة ومعنى الحقيقة، كقولهم: صورة هذا(2) الأمر، وصورة هذا الحديث كذا، أي حقيقته وصفته، وإليه يرجع قوله: " الصورة التي رأوه فيها أولاً"، أي علموه من تنزيهه وتقديسه 302 - وَحَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ زَيْدِ ابْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ ابْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ نَاسًا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« نَعَمْ »، قَالَ:« هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ مَعَهَا سَحَابٌ ؟ وَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ ؟»، قَالُوا: لا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:« مَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا، إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ: لِيَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، فَلا يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واعتقدوه من أنه لا يشبهه شيء، وقد زل من لم يحصل كلامه ممن تقدم في هذا الباب، فأثبت صورة لا كالصور، وهذا تناقض وتجسيم محض نعوذ بالله.
وكذلك يرجع معنى قوله في الحديث الآخر: " في أدنى صورة من التي رأوه فيها أولاً ".
__________
(1) كذا في حاشية (ح) وعليها "خ"، وفي المتن:" وقد ".
(2) قوله:" هذا " ليس في (ح).(2/67)
قال الخطابي: " ويحتمل أن يكون إنما حجبهم في ا لمرة الأولى لأجل من كان معهم من المنافقين [ حتى تميزوا عنهم "، قال: " ويحتمل أن تكون ا الاستعاذة من المنافقين ](1)، وهم المراد وإن كان اللفظ عموما، كما قال الله تعالى:" الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم.." وإنما قاله المنافقون "، قال: وفحوى(2) الكلام يدل أنه قول المنافقين "، يعني في الحديث.
قال القاضي: لا يصح أن يكون من قول المنافقين،[وهم المرادون وإن كان اللفظ عمومًا](3) ولا يستقيم الكلام به، فتأمله، وعوِّل على ما ذكرناه.
غَيْرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الأصْنَامِ وَالأنْصَابِ إِلا يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، وَغُبَّرِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَيُدْعَى الْيَهُودُ فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ، فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ، مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلا وَلَدٍ، فَمَاذَا تَبْغُونَ ؟ قَالُوا: عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا، فَاسْقِنَا، فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ أَلا تَرِدُونَ، فَيُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ، كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ، ثُمَّ يُدْعَى النَّصَارَى، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ، مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلا وَلَدٍ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَاذَا تَبْغُونَ، فَيَقُولُونَ: عَطِشْنَا يَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(2) في (ح):" ومجرى ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ط).(2/68)
وقوله: " فيرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أولاً، فيقولون: أنت ربنا "، كله إن شاء الله راجع إلى عظيم ما أراهم من عجائب قدرته وباهر سلطانه، فأراهم أولاً ما امتحنهم به حتى ظهر صحة إيمانهم ويقينهم ومعرفتهم، ثم قلب لهم ذلك، وحول محنتهم بأمانهم، وفتنتهم بثبيتهم، وأظهر لهم من حقيقة سلطانه وباهر آياته وعظيم ملكوته ما لا يشكون في صحته، ويستدلون على أن ذلك الذي عرفوه وحققوه قبل(1) له، ولا يليق بغيره، فيتجلى لهم عند ذلك فيقول: " أنا ربكم "، فيقولون: "أنت ربنا ".
وفي هذا الحديث إيمان المؤمنين حينئذ برؤية الله تعالى، كما آمنوا بذلك قبل ؛ لأنتظارهم إياها، فإذا أراهم نفسه وكشف عن أبصارهم حجبها رأوه وشاهدوا ذاته المقدسة عن التشبيه وصفاته المنزهة عن التكييف، وجلاله وكبرياءه وعظيم سلطانه تحققوا لا محالة أنه ربهم فيقولون: " أنت ربنا ".
__________
(1) في حاشية (ح):" قيل" وعليها "خ".(2/69)
رَبَّنَا فَاسْقِنَا، قَالَ: فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ: أَلا تَرِدُونَ، فَيُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا، قَالَ: فَمَا تَنْتَظِرُونَ، تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، قَالُوا: يَا رَبَّنَا، فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ، وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، لا نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا -، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ، فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ، فَلا يَبْقَى مَنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " فيتبعونه "، أي يتبعون رسله وأمره وملائكته الذين وكَّلهم بهم(1) كما وكل بمن تقدم من كانوا(2) يعبدون، ومن يقذف بهم في النار.
وقوله في الحديث الآخر: " هل بينكم وبينه علامة ؟، فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق ".
قيل: معناه الشدة التي يظهرها تعالى حينئذ على الخلائق، ونحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: " يوم يكشف عن ساق "، وقالوا: قامت الحرب على ساق، وقيل نحوه في قوله عز وجل:" والتفت الساق بالساق ".
وقيل هو نور عظيم، ورد ذلك في حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن فُورَك: "ومعنى ذلك ما يتجدد للمؤمنين عند رؤية الله تعالى من الفوائد والألطاف".
__________
(1) في (ح):" بها ".
(2) في (ح):" كان ".(2/70)
وقيل: قد تكون(1) الساق علامة بينه وبين المؤمنين من ظهور جماعة من الملائكة على خلقة عظيمة شنيعة ؛ لأنه يقال: ساق من الناس وقدم، كما قيل: رجل من جراد.
كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالسُّجُودِ، وَلا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً ؛ إِلا جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً، كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ، وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ، وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ، وَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ »، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! وَمَا الْجِسْرُ ؟ قَالَ:« دَحْضٌ مَزِلَّةٌ فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلالِيبُ وَحَسَكٌ تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا: السَّعْدَانُ، فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل: قد تكون(2) ساقًا(3) مخلوقة، جعلها الله علامة للمؤمنين(4) خارجة عن السوق المعتادة.
وقيل: هو مثل يضرب للعزم على المراد، كما يقال: شمر فلان في كذا عن ساقه.
وقيل(5): معناه كشف الخوف وإزالة الرعب عنهم، وما كان غلب على عقولهم من هول الحال، فتطمئن حينئذ نفوسهم عند ذلك، ويتجلى لهم فيخرون سجدا.
وقيل: هي عبارة عن التحلي.
__________
(1) في (ح):" يكون ".
(2) في (أ):" يكون ".
(3) في (ح):" ساقة " وفوقها "صح"، وفي حاشيتها:"ساق" وعليها "صح،خ"، وفي (ط):"ساق".
(4) في (ح):" للمؤمنين علامة ".
(5) قوله:" قيل " ليس في (ح).(2/71)
وقال الخطابي:" وهذه الرؤية التي في هذا(1) المقام يوم القيامة غير الرؤية التي في الجنة لكرامة أوليائه، وإنما هذه للامتحان(2)".
وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ! مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ فِي اسْتِقْصَاءِ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لإِخْوَانِهِمِ الَّذِينَ فِي النَّارِ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ، فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدْ أَخَذَتِ النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ، وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا ! مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ، فَيَقُولُ: ارْجِعُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله:" فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقا، فكلما أراد أن يسجد خر على قفاه ".
الطبق فقار الظهر، يقال(3): صار فقارة واحدة، فلا يقدرون على السجود قاله الهروي، وقيل: هو عظم رقيق بين الفقارين.
بين في هذا الحديث أنهم المنافقون بقوله: " اتقاء "، وفي حديث آخر: " رياء وسمعة ".
__________
(1) قوله:" هذا " ليس في (ح).
(2) في (ح):" هذه الرؤية للامتحان ".
(3) في (أ):" يقول ".(2/72)
ويستدل بعضهم من هذا مع قوله(1) تعالى: " يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون " على جواز تكليف ما لا يطاق ؛ لأنهم دعوا إلى السجود ومنعوا من التمكن منه لجعل ظهورهم(2) طبقًا واحدًا.
وأجاب عن هذا من منع تكليف ما لا يطاق بأن هذا(3) الدعاء دعاء تبكيت وتعجيز، لا دعاء تكليف، كما قال لهم(4):" ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا"، و" قل كونوا حجارة أو حديدا ".
فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا ! لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا، ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا ! لَمْ نَذَرْ فِيهَا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا أَحَدًا، ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا ! لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا ».
وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ يَقُولُ: إِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي بِهَذَا الْحَدِيثِ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا }،« فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: شَفَعَتِ الْمَلائِكَةُ، وَشَفَعَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" بقوله ".
(2) في (ح):" ظهرهم ".
(3) قوله:" هذا " ليس في (ح).
(4) في (ح):" كما قيل لهم ".(2/73)
وقد شبه على قوم من منتحلي الحديث والسنة بظاهر هذا الحديث، وهو قول السالمية، على أن المنافقين وبقايا من أهل الكتاب يرون الله مع المؤمنين، لذكرهم في هذه الجملة بقوله: " وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله "، وفي الحديث الآخر: " حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله، من بر وفاجر، وغير(1) أهل الكتاب "، كذا للسمرقندي، ولغيره " غُبَّر " أي بقايا.
ولا جلاء فيما قالوه، وهذا الظاهر يصرفه ما هو أجلى منه مما أجمع أهل السنة عليه قبل مقالة هذا القائل وعلى حمله على ظاهره من حجب الكفار عن الرؤية لله، وقوله: " كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " ثم يرد عليه ما وقع مفسرا في هذا الحديث(2) من أن رؤيتهم لربهم إنما كانت(3) بعد رفع المؤمنين رؤوسهم من السجود الذي منعه غيرهم، وحينئذ يقول لهم: " أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا "، فهو في هذه الرواية بين وخاص بمن كان يسجد لله
__________
(1) في (ح):" غبر ".
(2) في (ح):" في هذا الحديث مفسرًا ".
(3) في (ح):" كان ".(2/74)
النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ، قَدْ عَادُوا حُمَمًا، فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهَرٍ فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ: نَهَرُ الْحَيَاةِ، فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، أَلا تَرَوْنَهَا تَكُونُ إِلَى الْحَجَرِ أَوْ إِلَى الشَّجَرِ، مَا يَكُونُ إِلَى الشَّمْسِ أُصَيْفِرُ وَأُخَيْضِرُ، وَمَا يَكُونُ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ يَكُونُ أَبْيَضَ »، فَقَالُوا: يَارَسُولَ اللَّهِ! كَأَنَّكَ كُنْتَ تَرْعَى بِالْبَادِيَةِ ؟ قَالَ:« فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِمُ يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، هَؤُلاءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ أَدْخَلَهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ، وَلا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ، ثُمَّ يَقُولُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، فَمَا رَأَيْتُمُوهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعالى من تلقاء نفسه كما قال في الحديث، ولصحة إيمانه دون غيرهم، ولذكره تساقط اليهود والنصارى في النار قبل هذا.
وقوله: " ثم يضرب الصراط على ظهراني جهنم "،[ ويروى:" ظهري جهنم ](1)"، وهما لغتان، قاله الأصمعي، وقال الخليل: " هو بين ظهري القوم وظهرانيهم أي بينهم ".
وفيه صحة أمر الصراط والإيمان به، والسلف مجمعون على حمله علىظاهره دون تأويل، والله أعلم بحقيقة صفته، وهو الجسر، كما جاء في الحديث الآخر، ويقال بكسر الجيم وفتحها.
ويجوز أن يحدثه الله حينئذ ويجوز أن يكون الله تعالى قد خلقه قبل هذا حين خلق جهنم، قال بعضهم: فيكون قوله على هذا " يُضْرَب " أي يؤذن بالمرور عليه، كما يقال: ضرب الأمير البعث، وضربت عليهم الجزية أي جعلت.
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ط).(2/75)
فَهُوَ لَكُمْ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا ! أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، فَيَقُولُ: لَكُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا، فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا ! أَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا ؟ فَيَقُولُ: رِضَايَ فَلا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا ».
قَالَ مُسْلِم: قَرَأْتُ عَلَى عِيسَى بْنِ حَمَّادٍ ؛ زُغْبَةَ الْمِصْرِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الشَّفَاعَةِ، وَقُلْتُ لَهُ: أُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْكَ ؛ أَنَّكَ سَمِعْتَ مِنَ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ لِعِيسَى بْنِ حَمَّادٍ: أَخْبَرَكُمُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلالٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّهُ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَنَرَى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في صفته:" دَحْضٌ مَزلّة "، أي زلق تزل فيه الأقدام.
والكلاليب والخطاطيف جمع كُلاَّب وكَلُّوب وخُطَّاف.
وقوله: " فأكون أنا وأمتي أول من يجيز "، أي يمضي عليه ويقطعه، يقال: أجزت الوادي وجزته، لغتان صحيحتان، وحكي عن الأصمعي الفرق بينهما، قال: " أجزته قطعته، وجزته مشيت فيه(1)".
وقوله: " ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل "، يعني في حين الإجازة، وإلا ففي يوم القيامة: تجادل كل نفس عن نفسها.
وقوله: " فمنهم الموبَق، يعني(2) بعمله "، كذا للعذري: بالباء بواحدة(3)، وللطبري: " الموثق " بالثاء مثلثة، وللسمرقندي: " المؤمن بقي(4) بعمله "، وأصحها(5) الوجه الأول، ومعناه: ا لمهلك الذي أهلكه عمله السيء.
__________
(1) في (ط):" مشيته ".
(2) قوله:" يعني " ليس في (ح).
(3) في (ح):" الواحدة ".
(4) في حاشية (ح):" يعني " وعليها " خ".
(5) في (ح):" وأصحهما ".(2/76)
وقوله (1): " ومنهم المخردَل "، بالخاء المعجمة لأبي(2) سعيد، وللعذري وغيره:" المجُازَى "، وقد رواه بعضهم في البخاري:" المجردَل "، بالجيم.
رَبَّنَا ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ إِذَا كَانَ يَوْمٌ صَحْوٌ ؟»، قُلْنَا: لا، وَسُقْتُ الْحَدِيثَ حَتَّى انْقَضَى آخِرُهُ، وَهُوَ نَحْوُ حَدِيثِ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ:« بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ، وَلا قَدَمٍ قَدَّمُوهُ »، «فَيُقَالُ لَهُمْ: لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ وَمِثْلُهُ مَعَهُ ».
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: بَلَغَنِي أَنَّ الْجِسْرَ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ، وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ اللَّيْثِ:« فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا ! أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ »، وَمَا بَعْدَهُ، فَأَقَرَّ بِهِ عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ.
303 - وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ ابْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ بِإِسْنَادِهِمَا، نَحْوَ حَدِيثِ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ إِلَى آخِرِهِ، وَقَدْ زَادَ:« وَنَقَصَ شَيْئًا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فبالخاء معناه: ا لمقطع، يعني بالكلاليب، يقال: خردلت اللحم، أي قطعته وفصلته، وقيل: خردلت بمعنى صرعت، والمخردل: المصروع، والخردلة: قطعة من اللحم، ويقال بالذال المعجمة أيضًا، حكاه يعقوب.
وقيل: الجردلة - بالجيم -: الإشراف على الهلاك والسقوط.
__________
(1) في (ط):" وقولهم ".
(2) في (أ):" لابن "، وكذا في حاشيتة:" ح " وعليها "صح، خ".(2/77)
وقوله في الحديث الآخر:" ومكدوس(1) "، بالسين المهملة لأكثر الرواة، وبالمعجمة للعذري، ومعنى الكدش - بالشين(2) المعجمة - : السَّوْق، وبالمهملة: كون الأشياء بعضها على بعض، تكدست الدواب في سيرها إذا ركب بعضها بعضا.
وفي الحديث الآخر بعد هذا: " ومكردس(3)"، ويحتمل أن يكون معناه: المكسور الظهر والفقار(4)، والكردوس فقار الظهر، وقد يكون "
304 - وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« يُدْخِلُ اللَّهُ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ بِرَحْمَتِهِ، وَيُدْخِلُ أَهْلَ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُولُ: انْظُرُوا مَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا حُمَمًا قَدِ امْتَحَشُوا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الْحَيَاةِ أَوِ الْحَيَا، فَيَنْبُتُونَ فِيهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ إِلَى جَانِبِ السَّيْلِ، أَلَمْ تَرَوْهَا كَيْفَ تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مُكردَس " بمعنى مكدوس، كردس الرجل خيله إذا جمعها كراديس، أي قطعا كبارا.
وفي هذه الجملة تفصيل صور الناجين في السرعة والسلامة، ثم من يصيبه الخدش وتسفعه النار، ثم الموبق فيها، والمكردس الملقى في قعرها، نعوذ بالله منها.
__________
(1) في (ح):" ومكدوس في النار ".
(2) قوله:" بالشين " ليس في (أ).
(3) في (ح):" ومكردس في النار ".
(4) في (ح):" والقفار ".(2/78)
وقوله: " فيخرجون من النار قد امتحشوا "، كذا ضبطناه، بفتح التاء والحاء(1)، عن متقني شيوخنا، وهو وجه الكلام، وكذا ذكره الهروي والخطابي، قالا في معناه: " أي احترقوا، والمحش(2) لهيب من النار يحرق الجلد ويبدي العظام "، قال غيره: امتحش الخبز أي(3) احترق.
قال أبو علي والقتبي: " محشته النار، أي أحرقته "، وقال غيرهم: " المعروف أمحشته "، وقال صاحب العين: " محشته لغة، والمعروف أمحشته ".
وقد رواه لنا بعض شيوخنا: " امتُحِشُوا ".
305 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، ح. حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، أَخْبَرَنَا خَالِدٌ كِلاهُمَا، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى بِهَذَا الإسْنَادِ، وَقَالا:« فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرٍ يُقَالَ لَهُ الْحَيَاةُ »، وَلَمْ يَشُكَّا. وَفِي حَدِيثِ خَالِدٍ:« كَمَا تَنْبُتُ الْغُثَاءَةُ فِي جَانِبِ السَّيْلِ ». وَفِي حَدِيثِ وُهَيْبٍ:« كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِئَةٍ أَوْ حَمِيلَةِ السَّيْلِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الإمام:" الحُمَم الفحم، واحدتها حُمَمَة، قال طرفة:
أشجاك الرَّبْع أم قِدَمُه أم رمادٌ دارسٌ أم(4) حُمَمَهُ
وقوله: " كما تنبت الحبة في حميل السيل"، بكسر الحاء(5).
__________
(1) قوله:" بالحاء " ليس في (أ).
(2) في (ح):" والمتحش ".
(3) قوله:" أي " ليس في (أ) و(ط).
(4) قوله:" أم " ليس في (أ)، وجاءت ملحقة في حاشية (ح) وعليها "خ".
(5) في (ط):" بكسر الحاء في حميل السيل ".(2/79)
قال الإمام: " قال الهروي: " قال ابن شميل:" الحبة - بكسر الحاء - اسم جامع لحبوب البقول التي تنتشر إذا هاجت الريح، ثم إذا مطرت من قابل نبتت(1)"، وقال أبو عمرو: " الحبة نبت ينبت في الحشيش صغارًا(2)"، قال غيره: قال ابن دريد في الجمهرة: " كل ما كان من بزر العشب فهو حبة والجمع حبب " ".
قال القاضي: وقال الكسائي: " هو حب الرياحين، الواحدة حبة، فأما الحِنْطة ونحوها، فهو الحب لا غير "، وقال ابن شميل: " والحُبَة - بضم الحاء وتخفيف الباء - القضيب من الكرم يغرس، والحَبَّة من العنب، وحَبّ الحَبَّة يسمى حبة بالتخفيف "، وقال الأصمعي: " ما كان من النبت له حب فاسم ذلك الحب حبة، وأما الحنطة فالحب لا غير ".
306 - وَحَدَّثَنِي نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ يَعْنِي ابْنَ الْمُفَضَّلِ، عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَإِنَّهُمْ لا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلا يَحْيَوْنَ، وَلَكِنْ نَاسٌ أَصَابَتْهُمُ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ، أَوْ قَالَ: بِخَطَايَاهُمْ، فَأَمَاتَهُمْ إِمَاتَةً، حَتَّى إِذَا كَانُوا فَحْمًا أُذِنَ بِالشَّفَاعَةِ، فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ، فَبُثُّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ قِيلَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ، فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ تَكُونُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ »، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: كَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ كَانَ بِالْبَادِيَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " في حميل السيل ".
__________
(1) في (ح):" تنبت ".
(2) في (ط):" صغار ".(2/80)
قال الإمام: " قال أبو سعيد الضرير: " حميل السيل: ما جاء به من(1) طين أو غُثاء، فإذا اتفق فيه الحبة، واستقرت على شطّ مجرى السيل فإنها تنبت في يوم وليلة، وهي أسرع نابتة نباتا، وإنما أخبر - صلى الله عليه وسلم - عن سرعة نباتهم".
قال القاضي: وجاء في الحديث الآخر بعد هذا: " كما تنبت الغثاءة في جانب ا لسيل "، وهو(2) بمعنى ا لحِبَّة، وفي رواية السمرقندي: " القثاءة(3)" وهي تصحيف.
وفي رواية وُهَيْب: " في حَمْأة السيل "، وهذه رواية الشاشي، ورواه العذري - هنا - وغيره: " حَمِئَة "، وكله من الحَمَأَة، وهو ما تغير لونه من الطين، وهو معنى ما تقدم.
وقوله: " آخر أهل الجنة دخولاً(4) " و: " آخر أهل النار خروجا رجل يخرج منها زحفا "، وجاء مثله في آخر من يجوز على(5) الصراط.
307 - وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِهِ، إِلَى قَوْلِهِ:« فِي حَمِيلِ السَّيْلِ »، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال القاضي: فيحتمل أنهما اثنان، إما شخصان أو نوعان(6) وجنسان، وعبر بالواحد فيه عن الجماعة، وقد يحتمل أن(7) المراد بآخر أهل النار خروجًا يعني من الورود والجواز على الصراط، لا فيمن أوبق ودخلها، فيكون بمعنى واحد، إما في شخص واحد، أو جماعة، كما قلناه، والله أعلم.
__________
(1) في حاشية (ح):" في " وعليها " خ".
(2) في (ح):" وهي ".
(3) في (ح):" القتاة "، وفي (ط):" القناة ".
(4) في (ح):" دخولاً الجنة ".
(5) قوله:" على " ليس في (ط).
(6) في (ح):" وإما نوعان ".
(7) في (ح):" بأن ".(2/81)
وقوله: " قشبني ريحها "، قال الإمام: " قال الهروي: " كل مسموم(1) قشيب ومُقْشَب "، وقال الليث: " القَشْب اسم السمّ(2)"، وقال عمر - رضي الله عنه - لبعض بنيه:" قَشَبَك المالُ "، أي ذهب بعقلك، والقشب: خلط السم بالطعام، وروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه وجد من معاوية ريحا طيبة وهو محرم، فقال:" من قشبنا "، أراد أن ريح الطيب على هذا الحال قِشْب(3)، كما أن ريح النَتَن قشب، يقال: ما أقشب بيتهم، أي ما أقذره ".
قال القاضي: قال الخطابي: " يقال قشبه الدخان، إذا ملأ خياشيمه وأخذ يكظمه(4)"، وهذا أبين في معنى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وحديث عمر - رضي الله عنه - مما قاله الهروي.
ووقع في روايتي في كتاب الهروي فيما حكاه عن الليث:"القشب السم(5)"، والذي رأيت في كتاب الليث:" القشب "، بكسر القاف، وكذا ذكره غيره، ووقع في " المعلم(6)" بفتح القاف، وقال أبو عبيد في تفسير 308 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، كِلاهُمَا عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: عُثْمَانُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِنِّي لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً الْجَنَّةَ ؛ رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْوًا، فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ ! وَجَدْتُهَا مَلأَى، فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ:
__________
(1) في (ح):" مشموم ".
(2) في (ح):" القشيب اسم الشم ".
(3) في (ح):" قشبه ".
(4) في (أ):" بكظمه ".
(5) في (ح):" الشم ".
(6) قوله:" في المعلم " ليس في (ط).(2/82)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حديث عمر - رضي الله عنه - المتقدم(1): " قشبك المال، أي أهلكك، مأخوذ من القشب، وهو السم"، فعلى هذا يتفسر " قشبني "بـ: أهلكني، وقال الداوودي: " قشبني غيَّر جلدي وصورتي وسودني وأحرقني ".
وقوله:" وأحرقني ذكاؤها "، روايتنا فيه في الأم بالمد، والمشهور القصر، وحكى أبو حنيفة رحمه الله فيه المد(2) وخطأه علي بن حمزة.
قال الإمام:" أي تلهِّبها، وقال ابن قتيبة في تفسيره: " اشتعالها "، قال ابن ولاد: " الذكى تلهب النار، مقصور ".
وقوله: " لا وعزتك "، قال القاضي : فيل دليل على جواز الحلف بصفات الله تعالى، وكذلك في الحديث الآخر بعده في قوله:" وعزتي وكبريائي ".
وسؤاله بعد أن حلف وأعطى من العهود والمواثيق ما أعطى، قال بعضهم: " فيه دليل على جواز حل اليمين، وفعل ما حلف عليه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -:" إلا أتيت الذي هو خير "، ولكن دليل الحديث عندي غير هذا، إذ ذكر أن الله سبحانه
اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلْأَى فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا أَوْ إِنَّ لَكَ عَشَرَةَ أَمْثَالِ الدُّنْيَا قَالَ فَيَقُولُ أَتَسْخَرُ بِي أَوْ أَتَضْحَكُ بِي وَأَنْتَ الْمَلِكُ قَالَ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ قَالَ فَكَانَ يُقَالُ ذَاكَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) قوله:" المتقدم " ليس في (ح).
(2) في حاشية (ح):" الوجهين " وعليها "صح، خ".(2/83)
عذره، وبعد أن عتبه على غدره(1)؛ إذ بان له عذره، لعظيم ما رأى مما لا صبر له(2) عليه، كما قال في الحديث، ولا في قوته الثبات عنده.
وقوله:" انفهقت له الجنة "، قال الإمام: " أي اتسعت وانفتحت ".
وقوله:" فيرى فيها من الخير والسرور "، قال القاضي: وروايتنا فيه من طريق الغساني(3): " الحبر "، بالباء بواحدة مفتوحة، وهو بمعنى السرور.
وقوله:" لا يزال يدعو حتى يضحك الله منه، فإذا ضحك منه(4) قال: ادخل الجنة ".
قال الإمام:" الضحك من الله سبحانه محمول على إظهار الرضى والقبول ؛ إذ هو في البشر علامة على ذلك(5)، ويقال ضحكت الأرض إذا ظهر نباتها، وفي بعض الحديث:" فيبعث الله سحابًا فيضحك أحسن الضحك "، فجعل انجلاءه عن البرق ضحكًا على الاستعارة، كأنه تعالى لما أظهر له رحمته استعير له اسم الضحك مجازًا ".
__________
(1) في (ح):" عذره ".
(2) قوله:" له " ليس في (ح).
(3) في (ح):" فيه عن الغساني ".
(4) في (ح):" فإذا اضحك الله منه ".
(5) في (ح):" علامة لذلك ".(2/84)
قال القاضي: " الضحك في البشر أمر اختصوا به وحالة تغير أوجبها سرور القلب(1) فتنبسط له عروق القلب فيجري الدم فيها فيفيض إلى سائر عروق الجسد فتثور لذلك حرارة ينبسط لها الوجه ويضيق عنها الفم فينفتح، 309 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَاللَّفْظُ لأَبِي كُرَيْبٍ قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِنِّي لأَعْرِفُ آخَرُ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنَ النَّارِ ؛ رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْهَا زَحْفًا، فَيُقَالُ لَهُ: انْطَلِقْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ، قَالَ: فَيَذْهَبُ، فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَيَجِدُ النَّاسَ قَدْ أَخَذُوا الْمَنَازِلَ، فَيُقَالُ لَهُ: أَتَذْكُرُ الزَّمَانَ الَّذِي كُنْتَ فِيهِ، فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَالُ لَهُ: تَمَنَّ، فَيَتَمَنَّى، فَيُقَالُ لَهُ: لَكَ الَّذِي تَمَنَّيْتَ وَعَشَرَةَ أَضْعَافِ الدُّنْيَا، قَالَ: فَيَقُولُ: أَتَسْخَرُ بِي وَأَنْتَ الْمَلِكُ ؟!». قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهو التبسم، فإذا زاد السرور وتمادى ولم يضبط الإنسان نفسه واستخفه سروره قهقه، والتغيرات وأوصاف الحدث منفية عن الله تعالى.
وجاءت الآثار الصحيحة بإضافة الضحك إليه، فحمل(2) العلماء ذلك على الرضى بفعل عبده ومحبته للقاء ربه(3) وإظهار نعمه وفضله عليه وإيجابها له، وقد حملوه أيضًا على التجلي للعبد وكشف الحجاب عن بصره حتى يراه، والضحك يعبر به عن الظهور، ومنه: ضَحِكَ المَشِيبُ برأسه فبكى.
__________
(1) في (ط):" يغلب"، وكذا في حاشية (ح) وعليها " خ".
(2) في (ح):" فجعل ".
(3) في (أ):" للقائه ".(2/85)
وقال في صفة طعنة: تضحك عن نجيع قاتم(1).
وفي الحديث الآخر: " قول الله للرجل: إذهب فادخل الجنة، فيخيل إليه أنها ملأى، فيقول الله له: اذهب فادخل الجنة، فيقول: أتسخر بي أو تضحك بي، وأنت الملك ".
قال الإمام: " ويتعلق بهذا الحديث سؤالان:
310 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ فَهْوَ يَمْشِي مَرَّةً، وَيَكْبُو مَرَّةً، وَتَسْفَعُهُ النَّارُ مَرَّةً، فَإِذَا مَا جَاوَزَهَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: تَبَارَكَ الَّذِي نَجَّانِي مِنْكِ، لَقَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ شَيْئًا مَا أَعْطَاهُ أَحَدًا مِنَ الأوَّلِينَ وَالأخِرِينَ، فَتُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا ابْنَ آدَمَ لَعَلِّي إِنَّ أَعْطَيْتُكَهَا سَأَلْتَنِي غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: لا، يَا رَبِّ ! وَيُعَاهِدُهُ أَنْ لا يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لأَنَّهُ يَرَى مَا لا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ هِيَ أَحْسَنُ مِنَ الأولَى، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ ! أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ لأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، وَأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، لا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ ! أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: لَعَلِّي إِنْ أَدْنَيْتُكَ مِنْهَا تَسْأَلُنِي غَيْرَهَا، فَيُعَاهِدُهُ أَنْ لا
__________
(1) في (ح):" قائم ".(2/86)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيقال: ما معنى قوله: " تسخر بي أو تضحك بي وأنت الملك "؟ وهَبْ(1) أنكم تأولتم الضحك على ما ذكرتم(2) من الرضى وغيره، وهذا غير متأت هنا.
والسؤال(3) الثاني أن يقال: كيف يقال للباري تعالى ابتداء: " أتسخر مني "؟، وإنما جاز ذلك في الشرع على طريق المقابلة، كقوله تعالى: {فيسخرون منهم سخر الله منهم }،و:{ مستهزئون(4) الله يستهزئ بهم}.
فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: من عادة المستهزئ من المخلوقين والساخر أن يضحك، فيوضع ههنا "يضحك" موضع(5) يستهزئ ويسخر لما كانت حالة الساخر.
__________
(1) في (أ):" وهبكم ".
(2) في (ح):" تأولتم "،، وفي حاشيتها:" ما ذكرتم " وعليها "صح، خ".
(3) قوله:" والسؤال " ليس في (ح).
(4) في النسخ الثلاث:" يستهزئون ".
(5) كذا في حاشية (ح) وعليها "صح، خ"، وفي المتن:" معنى ".(2/87)
يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لأَنَّهُ يَرَى مَا لا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ هِيَ أَحْسَنُ مِنَ الأولَيَيْنِ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ ! أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ لأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، لا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ ! أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا، قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ ! هَذِهِ لا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لأَنَّهُ يَرَى مَا لا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهَا، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا، فَإِذَا أَدْنَاهُ مِنْهَا فَيَسْمَعُ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ ! أَدْخِلْنِيهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ ! مَا يَصْرِينِي مِنْكَ أَيُرْضِيكَ أَنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيَا وَمِثْلَهَا مَعَهَا ؟ قَالَ: يَا رَبِّ ! أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟». فَضَحِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: أَلا تَسْأَلُونِي مِمَّ أَضْحَكُ ؟ فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ ؟ قَالَ: هَكَذَا ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ يَارَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ:« مِنْ ضِحْكِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حِينَ قَالَ: أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَيَقُولُ: إِنِّي لا أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(2/88)
وأما الجواب عن السؤال الثاني: فإن هذا ههنا لم يقع إلا على جهة المقابلة، وهي وإن لم تكن موجودة في اللفظ فهي موجودة في معنى الحديث ؛ لأنه ذكر فيه أنه عاهد الله مرارا أن لا يسأله غير ما سأل ثم غدر، فحل غدره محل الاستهزاء والسخرية، فقدر أن قول الله تعالى له: " ادخل الجنة "، وتردده إليها، وتخيله أنها ملأى ضرب من الإطماع له أو السخرية به جزاء على ما تقدم من غدره وعقوبة له، فسمى الجزاء على السخرية سخرية، فقال: أتسخر مني ! " أي: تعاقبني بالإطماع ".
311 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً رَجُلٌ صَرَفَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ قِبَلَ الْجَنَّةِ، وَمَثَّلَ لَهُ شَجَرَةً ذَاتَ ظِلٍّ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ ! قَدِّمْنِي إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ أَكُونُ فِي ظِلِّهَا...، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ:« فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ مَا يَصْرِينِي مِنْكَ...» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. وَزَادَ فِيهِ:« وَيُذَكِّرُهُ اللَّهُ سَلْ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا انْقَطَعَتْ بِهِ الأمَانِيُّ، قَالَ: اللَّهُ هُوَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، قَالَ: ثُمَّ يَدْخُلُ بَيْتَهُ فَتَدْخُلُ عَلَيْهِ زَوْجَتَاهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، فَتَقُولانِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَاكَ لَنَا وَأَحْيَانَا لَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُعْطِيتُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(2/89)
قال القاضي ذهب أبوبكر الصوفي أن قوله:" أتهزأ مني، أو تسخر مني " نفي للاستهزاء والسخرية التي لا تجوز على الله تعالى"، قال: " كأنه قال: أعلم أنك لا تهزأ مني ؛ لأنك رب العالمين، وما أعطيتني من جزيل العطاء وأضعاف مثل الدنيا حق، لكن العجب أن فعلت لي هذا وأنا غير مستأهل له"، قال: " فالألف في " أتهزأ "، " أوَ(1) تَسْخَر " ألف نفي على هذا التأويل، كما قال تعالى: " أتهلكنا(2) بما فعل السفهاء منا "، معناه: لا تهلكنا بفعلهم وهذا كلام منبسط متدلل قد علم مكانه من ربه وبسطه له بأن جعل(3) يسأل ويتمنى وهو يعطيه(4)، ويعرض عليه ما أعد له ويشهِّيه، ويحب أن يلحف في سؤاله ليعلي منزلته ويدنيه ويردده بالبسط والقبض، تدلل الابن
__________
(1) في (أ):" و".
(2) في (ح):" أفتهلكنا ".
(3) في (ط):" جعله ".
(4) في (ط):" يعظمه ".(2/90)
312 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأشْعَثِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ أَبْجَرَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، رِوَايَةً إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ح. وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مُطَرِّفُ بْنُ طَرِيفٍ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ سَعِيدٍ، سَمِعَا الشَّعْبِيَّ يُخْبِرُ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُهُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَرْفَعُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: وحَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ وَابْنُ أَبْجَرَ سَمِعَا الشَّعْبِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ: سُفْيَانُ رَفَعَهُ أَحَدُهُمَا، أُرَاهُ ابْنَ أَبْجَرَ قَالَ:« سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً، قَالَ: هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ ! كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ، وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ، فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحبيب على أبيه، ثم يجعله يتمنى حتى تنقطع أمانيه، فسبحانه ما أعظم بره وأوسع خيره وأكثر لطفه بعبده المؤمن وتَحَفّيه(1)".
__________
(1) في (ح):" وتحفته ".(2/91)
قال القاضي: وقد يكون قول هذا الرجل لما قال من هذا اللفظ الشنيع(1) وهو غير ضابط لما قاله بما وَلِهَ عقلُه من السرور(2) وبلوغ ما لم يخطر بباله(3)؛ إذ كان أولاً عاهد الله تعالى أن لا يسأل غير ما رغب فيه، ثم أعطي من غير مسألة ما لم يتوهمه، فيكون قوله هذا لما قاله(4) وهو لا يضبط(5) لسانه دهشا وسرورا وفرحا، ولا يعتقده قلبه(6) في حق بارئه سبحانه، وظن أنه على عادته يخاطب غيره، كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - عن الآخر في الحديث الصحيح أنه لم يضبط نفسه من الفرح فقال: " أنت عبدي وأنا ربك ".
فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ، وَلَذَّتْ عَيْنُكَ، فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، قَالَ: رَبِّ فَأَعْلاهُمْ مَنْزِلَةً قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، قَالَ: وَمِصْدَاقُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:{ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } الأيَةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر:" عطشنا(7)"، وقوله لهم:" هل تردون(8)"، وذكر تساقطهم في النار، هذا(9) من مكر الله بالكافرين.
__________
(1) في (ط):" البشيع ".
(2) في (ط):" ولد عليه من السرور ".
(3) كذا في حاشية (ح) وعليها:" صح، خ "، وفي المتن:" يخطر على قلبه ".
(4) في حاشية (ح):" هذه المقالة " وعليها "صح، خ".
(5) في (ط):" يضبطه ".
(6) في (أ):" وهو يعقد قلبه ".
(7) في (ط):" عطشًا ".
(8) في (ح):" تدرون ".
(9) قوله:" هذا " ليس في (ط).(2/92)
وقوله في جهنم: " يحطم بعضها بعضا ".
قال القاضي(1): " يحطم ؛ أي: تأكل(2)، والحطمة: اسم النار ؛ لأنها تأكل ما ألقي فيها، والحطم: الذي يأكل ولا يشبع.
قال الإمام:" قال الهروي: " سميت الحطمة لأنها تحطم كل شيء، أي تكسره وتأتي عليه ".
قال القاضي: والصحو صفاء الجو من الغيم والسحاب، وهو بمعنى(3) قوله: " ليس دونها سحاب ".
وقوله: " فما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار " كذا هي الرواية، وكذا في جميع النسخ، وفيه تغيير ووهم، وصوابه ما وقع في كتاب البخاري عن ابن بكير: " بأشد مناشدة لي في استقصاء الحق - يعني في الدنيا - من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم..." وبه يتم الكلام ويتوجه.
313 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ الأشْجَعِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبْجَرَ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: « إِنَّ مُوسَى - عليه السلام - سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، عَنْ أَخَسِّ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْهَا حَظًّا وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) كذا في حاشية (ح) وعليها:" صح، خ "، وفي المتن:" الإمام ".
(2) في (أ):" يأكل ".
(3) في (ح):" معنى ".(2/93)
وذكر(1) في هذه الأحاديث في المعذبين من المؤمنين أن النار لا تأكل أثر السجود، وفي الحديث الآخر: " إلا(2) دارات(3) وجوههم "، وفي الحديث الآخر: "تحرم صورهم على النار "، دليل أن عذاب المؤمنين المذنبين بالنار(4) خلاف عذاب الكافرين، وأنها لا تأتي على جميعهم، ألا تراه كيف قال: "قد(5) امتحشوا "، وذكر أنها لا تأكل منهم ما ذكر، إما إكراما لمواضع السجود ولعظم(6) مكانه من الإيمان والخضوع إلى غايته لله تعالى، أو لكرامة تلك الصورة التي خلق آدم والبشر عليها وفضلهم بها من سائر(7) خلقه، وخص أهل الإيمان بهذه الفضيلة.
وذكره الصور ودارات الوجوه في الأحاديث الأخر يدل أن(8) المراد بأثر السجود في الوجه، خلاف ما ذهب إليه بعضهم أنه في سبعة أعضاء السجود.
وقد ذكر في الحديث أن منهم من تأخذه النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه، فدل أن عذاب المؤمنين فيها بخلاف عذاب غيرهم.
وقوله في أهل الذنوب :" فأماتهم الله إماتة، حتى إذا كانوا فحمًا(9) أذن بالشفاعة "، وأن أهلها هم الذين لا يموتون فيها ولا يحيون.
وقال بعض المتكلمين: " يحتمل معنيين:
__________
(1) في (ط):" وقوله ".
(2) قوله:" إلا " ليس في (ط).
(3) في (أ):" درات ".
(4) في (ح):" في النار ".
(5) قوله:" قد " ليس في (أ).
(6) في (ح):" أو لعظم ".
(7) في (ح):" بين سائر ".
(8) في (ط):" بأن ".
(9) كذا في حاشية (ح) وعليها:" صح، خ "، وفي المتن:" حممًا ".(2/94)
314 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأعْمَشُ، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِنِّي لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً الْجَنَّةَ، وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا ؛ رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ، وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا، فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ، فَيُقَالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا ؛ كَذَا وَكَذَا، وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا ؛ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: نَعَمْ، لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ، وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، فَيَقُولُ: رَبِّ قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لا أَرَاهَا هَا هُنَا ». فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحدهما : أن المذنبين يميتهم الله موتا حقا حتى لا يحسون النار، فيكون عقابهم حبسهم في النار عن دخول الجنة كالمسجونين، وأما أهل النار الذين هم أهلها فهم أحياء حقيقة، ولقوله(1) تعالى: " لا يموت فيها "، أي فيستريح، "ولا يحيى" حياة(2) ينتفع بها، وهي في الكفار ؛ لقوله تعالى:"ويتجنبها الأشقى".
الوجه الثاني: أن الإماتة لأهل الذنوب ليس على الحقيقة(3) لكن غيب منهم إحساسهم للآلام(4) بلطف منه.
__________
(1) في (ط):" وقوله ".
(2) في (ح):" حياة طيبة " وفوقها علامة لم تتبين.
(3) في (ح):" الذنوب ليست حقيقة ".
(4) في (ح):" اللألم ".(2/95)
ويجوز أن تكون آلامهم أخف كالنوام، وقد سمى الله النوم لإعدامه الحس وفاة، فقال الله تعالى(1): " الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها "، لكن قد قال: " حتى إذا كانوا فحمًا(2)"، فدل أن النار مع هذا تعمل(3) في أجسادهم أو بعضها.
وقد جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -:" إذا أدخل الله الموحدين النار(4)
315 - وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ، ح. وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، ح. وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُومُعَاوِيَةَ كِلاهُمَا، عَنِ الأعْمَشِ بِهَذَا الإسْنَادِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أماتهم فيها، فإذا أراد أن يخرجهم منها أمسهم ألم العذاب تلك الساعة "، وفي حديث آخر أنها تنزوي منهم وتقول: " ما لي ولأهل بسم الله ".
وقوله في الذي هو آخر دخولا الجنة:" فيكبو(5) مرة "، أي يسقط لوجهه، " ويمشي مرة وتسفعه النار(6) مرة "، أي تضرب وجهه أو تسوده على أحد التأويلات في قوله تعالى: " لنسفعًا بالناصية ".
وقوله فيه: " يخرج منها زحفا "، أي مشيا على إليتيه، كما يفعل الصبي قبل أن يمشي، وهو مثل قوله في الحديث الآخر: " حبوا ".
وقوله: " يا ابن آدم ما يصريني منك "، قال الحربي:" إنما هو: " ما يصريك عني "، أي ما يقطعك عن مسألتي، والصري: القطع ثلاثي "، وكذا قاله الهروي: " يصريك مني "، وفسره بما تقدم، قال: " يقال: صريت الشيء، إذا قطعته ".
__________
(1) قوله:" الله تعالى " ليس في (ط).
(2) في (ط):" حُمَمًا ".
(3) في (ح):" تعمل مع هذا ".
(4) في (ح):" في النار ".
(5) في (ح):" فيكب ".
(6) قوله:" النار " ليس في (أ).(2/96)
وقوله: " فجيء بهم ضبائر ضبائر "، قال الإمام: " قال ا لهروي: " ضبائر جمع ضبارة، بكسر الضاد، مثل عمارة وعمائر، والضبائر جماعات الناس، يقال: رأيتهم ضبائر، أي جماعة في تفرقة ".
قال القاضي: قال الكناني:" الصواب: أَضابرُ أَضابرُ، جمع إضبارة "، وما حكاه الهروي قبل يرد قوله ؛ لأنه لم يعرف ضبارة، فلذلك أنكر جمعها ضبائر.
316 - حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، وَإِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ، كِلاهُمَا عَنْ رَوْحٍ، قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ الْقَيْسِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنِ الْوُرُودِ، فَقَالَ: نَجِيءُ نَحْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ كَذَا وَكَذَا، انْظُرْ أَيْ ذَلِكَ فَوْقَ النَّاسِ، قَالَ: فَتُدْعَى الأمَمُ بِأَوْثَانِهَا، وَمَا كَانَتْ تَعْبُدُ الأوَّلُ فَالأوَّلُ، ثُمَّ يَأْتِينَا رَبُّنَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: مَنْ تَنْظُرُونَ، فَيَقُولُونَ: نَنْظُرُ رَبَّنَا، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقال: ضبارة وضبارة معا، كذا قيدناه على أبي الحسين الحافظ رحمه الله.
وقوله: " نزلوا منازلهم، وأخذوا أخذاتهم، بفتح الهمزة والخاء(1)، جمع أخذة، وهو ما أخذوا من كرامة مولاهم وحصلوه، أو يكون: قصدوا مقاصدهم(2) وساروا سبلهم إلى منازلهم، كما ذكر ذكر أول اللفظ.
وذكره ثعلب بكسر الهمزة: ما أخذ إخذه، أي ما قصد قصده، وإخذ القوم: طريقهم وسبيلهم.
__________
(1) في (ط):" وفتح الخاء ".
(2) في (ح):" مقاصدكم ".(2/97)
وقول أبي هريرة: " ذلك لك، ومثله معه "، وقول أبي سعيد: " وعشرة أمثاله معه "، وكلاهما ذكر أنه الذي حفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل في الجمع بين الحديثين: لعل أبا هريرة سمع ذلك أولاً، ثم زيد:" وعشرة أمثاله "، فضلا من الله تعالى، فسمعه أبو سعيد ولم يسمعه أبو هريرة.
وظاهره أن المثل والعشرة أمثال زائد على قوله: " هذا لك، وقيل: يحتمل أن تكون العشرة الأمثال فقط، أي : وتمام عشرة أمثاله، والأول أظهر.
فَيَقُولُونَ: حَتَّى نَنْظُرَ إِلَيْكَ، فَيَتَجَلَّى لَهُمْ يَضْحَكُ، قَالَ: فَيَنْطَلِقُ بِهِمْ وَيَتَّبِعُونَهُ، وَيُعْطَى كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مُنَافِقٍ أَوْ مُؤْمِنٍ نُورًا، ثُمَّ يَتَّبِعُونَهُ وَعَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ كَلالِيبُ وَحَسَكٌ، تَأْخُذُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُطْفَأُ نُورُ الْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ يَنْجُو الْمُؤْمِنُونَ، فَتَنْجُو أَوَّلُ زُمْرَةٍ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ؛ سَبْعُونَ أَلْفًا لا يُحَاسَبُونَ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ كَأَضْوَإِ نَجْمٍ فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ كَذَلِكَ، ثُمَّ تَحِلُّ الشَّفَاعَةُ، وَيَشْفَعُونَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً، فَيُجْعَلُونَ بِفِنَاءِ الْجَنَّةِ، وَيَجْعَلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ يَرُشُّونَ عَلَيْهِمُ الْمَاءَ، حَتَّى يَنْبُتُوا نَبَاتَ الشَّيْءِ فِي السَّيْلِ، وَيَذْهَبُ حُرَاقُهُ، ثُمَّ يَسْأَلُ حَتَّى تُجْعَلَ لَهُ الدُّنْيَا وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهَا مَعَهَا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله (1): " كلاليب "، قال الإمام: " هو جمع كَلُّوب على وزن فعول، مثل سَفُّود، والحسك جمع حسكة، وهي شوكة حديدة صلبة ".
__________
(1) في (أ):" وقوله ".(2/98)
قال القاضي: والخطاطيف مثل الكلاليب، إلا أن واحدها خطاف، بضم الخاء.
وقوله في الحديث: " وتحِلّ الشفاعةُ ".
قال القاضي: " مذهب أهل السنة جواز الشفاعة عقلاً ووجوبها بصريح قوله تعالى:{ يومئذ(1) لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن(2)}، { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى }، وأمثالها، وبخبر الصادق سمعا، وقد جاءت الآثار التي بلغت(3) بمجموعها التواتر بصحتها في الآخرة لمذنبي المؤمنين، وأجمع السلف الصالح ومن بعدهم من أهل ا السنة عليها، ومنعت الخوارج وبعض المعتزلة منها، وتأولت الأحاديث الواردة فيها، واعتصموا بمذاهبهم في تخليد المذنبين في النار، 317 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِأُذُنِهِ يَقُولُ:« إِنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ نَاسًا مِنَ النَّارِ فَيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واحتجوا بقوله: " فما تنفعهم شفاعة الشافعين "، وبقوله: " ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع "، وهذه الآيات في الكفار.
وتأولوا أحاديث الشفاعة في زيادة الدرجات وإجزال الثواب، وألفاظ الأحاديث التي في الكتاب وغيره تدل على خلاف ما ذهبوا إليه، وأنها في المذنبين، وفي إخراج من استوجب النار.
لكن ا لشفاعة بمجموعها على خمسة أقسام:
- أولها: مختصة بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهي الإراحة من هول الموقف وتعجيل الحساب، كما سيأتي بيانها عند ذكرها من الكتاب بعد هذا.
- الثانية: في إدخال قوم الجنة دون حساب، وهذه أيضًا وردت لنبينا - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكرها مسلم، وسننبه عليها في موضعها.
__________
(1) قوله:" يومئذ " ليس في (ح).
(2) قوله:" الرحمن " ليس في (ح)، وزيد بعدها في (ط):"{ ورضي له قولاً }".
(3) في حاشية (ح):" تغلب ".(2/99)
- الثالثة: قوم استوجبوا النار فيشفع فيهم نبينا - صلى الله عليه وسلم -، ومن شاء الله له أن يشفع، وسننبّه على موضعها من الكتاب أيضًا.
- الرابعة: فيمن دخل النار من المذنبين(1)، فقد جاء في مجموع هذه الأحاديث إخراجهم من النار بشفاعة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وغيره من الأنبياء والملائكة وإخوانهم المؤمنين(2) ثم يخرج الله كل من قال لاإله إلا الله، كما جاء في الحديث، حتى لا يبقى فيها إلا الكافرون ومن حبسه القرآن ووجب عليه الخلود، كما جاء في الحديث.
318 - حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: أَسَمِعْتَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ قَوْمًا مِنَ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ قَالَ نَعَمْ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- والشفاعة الخامسة: هي في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها، وهذه لا تنكرها المعتزلة، ولا تنكر شفاعة الحشر الأولى.
وعُرف بالنقل المستفيض سؤال السلف الصالح لشفاعة النبي(3) - صلى الله عليه وسلم - ورغبتهم فيها، وعلى هذا لا يلتفت لقول من قال: إنه يكره أن تسأل الله أن يرزقك شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنها لا تكون إلا للمذنبين، فإنها قد تكون كما قدمنا لتخفيف الحساب وزيادة الدرجات، ثم كل عاقل معترف بالتقصير، محتاج إلى العفو، غير معتدّ بعمله، مشفق أن يكون من الهالكين، ويلزم هذا القائل أن لا يدعو بالمغفرة والرحمة ؛ لأنها لأصحاب الذنوب أيضًا(4)، وهذا كله خلاف ما عرف من دعاء السلف والخلف.
__________
(1) كذا في حاشية (ح) وعليها:" صح، خ "، وفي المتن:" المؤمنين ".
(2) في (أ):" من المؤمنين ".
(3) في (ح):" الشفاعة للنبي ".
(4) قوله:" أيضًا " ليس في (أ).(2/100)
وقوله: " من وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان " و(1) " من خير " و: " أدنى أدنى " على ما وردت في ألفاظ الأحاديث.
قيل: من اليقين، والصحيح أن معناه شيء زائد على مجرد الإيمان ؛ لأن مجرد الإيمان الذي هو التصديق لا يتجزأ، وإنما يكون هذا التجزي لشيء(2) زائد عليه من عمل صالح أو ذكر خفي، أو عمل من أعمال القلب، من شفقة على مسكين، وخوف من الله، ونية صادقة في عمل فاته.
ويدل عليه قوله في الكتاب في حديث محمد بن المنهال الضرير وحديث المسمعي وابن مثنى بأسانيدهم عن أنس - رضي الله عنه -: " يخرج من النار من قال لاإله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن كذا "، وكذلك(3) في حديث أبي الزبير عن جابر، وكذلك دليل حديث أبي سعيد الخدري، الحديث الطويل: " 319 - حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ سُلَيْمٍ الْعَنْبَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ الْفَقِيرُ، حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِنَّ قَوْمًا يُخْرَجُونَ مِنَ النَّارِ يَحْتَرِقُونَ فِيهَا إِلا دَارَاتِ وُجُوهِهِمْ حَتَّى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" أو ".
(2) في (ح):" في شيء ".
(3) في (ح):" وكذا ".(2/101)
يقول الله تعالى: شفعت الملائكة وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط"، وقوله بعد في حديث الحسن عن أنس وغيره: " لأخرجن(1) من قال: لا إله إلا الله "، فهؤلاء هم الذين معهم مجرد الإيمان، وهم الذين لم يؤذن في الشفاعة فيهم، وإنما دلت الآثار أنه أذن لمن عنده شيء زائد من العمل على مجرد الإيمان، وجعل للشافعين من الملائكة والنبيين دليل(2) عليه، وتفرد الله جل جلاله بعلم ما تكنه القلوب والرحمة لمن ليس عنده سوى الإيمان ومجرد شهادة أن لا إله إلا الله.
وضرب بمثقال الذرة وأدناها المثل لأقل الخير والشر ؛ إذ تلك أقل المقادير.
وقوله: " من كان في قلبه ذرة وكذا(3)"، دليل على أنه لا ينفع(4) من العمل إلا ما حضر(5) له ا لقلب وصحبته النية.
وفيه كله دليل على القول بزيادة الإيمان ونقصه، وهو ما(6) اختلف فيه السلف والخلف، ومذهب أهل السنة القول بأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وتوقف مالك مرة في نقصانه، وقال مرة: " أما الكلمة فلا "، يعني أنه ليس فيها زيادة ولا نقص، يعني والله أعلم: مجرد الإيمان والمعرفة، وإلى هذا ذهب من لم يقل فيه بالنقص والزيادة.
320 - حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ - يَعْنِي مُحَمَّدَ ابْنَ أَبِي أَيُّوبَ -، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ الْفَقِيرُ قَالَ: كُنْتُ قَدْ شَغَفَنِي رَأْيٌ مِنْ رَأْيِ الْخَوَارِجِ، فَخَرَجْنَا فِي عِصَابَةٍ ذَوِي عَدَدٍ نُرِيدُ أَنْ نَحُجَّ، ثُمَّ نَخْرُجَ عَلَى النَّاسِ، قَالَ: فَمَرَرْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ فَإِذَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ
__________
(1) في (ح):" لأخرجن من النار ".
(2) في (أ):" دليلاً ".
(3) في (ح):" كذا وكذا ".
(4) في (ط):" تنفع ".
(5) في (ح):" اخضر ".
(6) في (ح):" مما ".(2/102)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله:" فيقبض قبضة "، أي يجمع جماعة.
وقوله: " غرست كرامتهم بيدي "، هذا ومثله مما لا يجب(1) حمله على الجارحة ؛ لأنها لا تليق إلا بمخلوق محدود، والله جل اسمه متعال عن ذلك، وقد اختلف أهل التأويل في ذلك، فذهب بعضهم إلى أن اليد واليدين صفتان من صفات الله تعالى علمناها من طريق السمع ونكل علم تفسيرها إلى الله تعالى، وذهب بعضهم إلى تحميل اللفظ ما يحتمله في(2) لغة العرب، فإن اليد تقع على القدرة وعلى النعمة وعلى المِلْك، لكن حملها على القدرة هنا بعيد عند كثير منهم ؛ إذ كل شيء بقدرته لا يختص منه شيء دون شيء، لكن لا يبعد أن يرد هذا ومثله في كلام العرب على طريق التأكيد والبيان، أو يكون اختصاص هذا بالقدرة ؛ لأنه خلقها ابتداء دون وساطة(3) بقدرته، وأوجدها دون معاناة غراسة بإرادته، وأنشأها بقوله: " كُنْ "، بخلاف غيرها من الجنات التي في الدنيا، التي خلقها وأظهرها بوسائط ومقدمات، وجعل لها غارسا وأسبابا ومناقل، وكل بقدرته وإرادته، فخص هذه بالقدرة لإبرازها بها دون واسطة، واستعار لذلك اسم الغراسة وأضافها إلى نفسه ؛ إذ لم يكن لها غارس سوى قدرته.
ومثله يتأول في قوله في آدم: " لما خلقت بيدي ".
يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَالِسٌ إِلَى سَارِيَةٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« فَإِذَا هُوَ قَدْ ذَكَرَ الْجَهَنَّمِيِّينَ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ ! مَا هَذَا الَّذِي تُحَدِّثُونَ وَاللَّهُ يَقُولُ:{ إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } وَ { كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا }، فَمَا هَذَا الَّذِي تَقُولُونَ ؟ قَالَ: فَقَالَ: أَتَقْرَأُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" يجوز ".
(2) في (أ):" من ".
(3) في (ح):" واسطة ".(2/103)
وقوله في الحديث: " خلقك الله بيده "، أي ابتداء دون أب ولا أم، كما أجرى العادة في خلق غيره، ونحوه قوله: "[ خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون "، وقوله هنا: " خلقك الله(1) بيده " يبين أنه بمعنى قوله](2): "خلقت بيدي "، وأن اليد واليدين هنا بمعنى واحد، فإن العرب تأتي بالجمع والتثنية كثيرا بمعنى الواحد.
وأما النعمة فقد أبعدها بعضهم في مثل هذا أيضًا إلا على(3) تأويل أن تكون الباء بمعنى اللام، أي: لنعمتي، وهو ههنا بين المعنى، أي لنعمتى التي أعددتها لهم وادخرتها، ألا تراه كيف قال: " وختمت عليها ".
وقوله من رواية أبي كريب في حديث المغيرة: " أن موسى - عليه السلام - سأل الله تعالى عن(4) أخس أهل الجنة حظا "، كذا للرواة، ولأبي العباس الدلائي: " أحسن "، وهو تصحيف، والصواب الأول، كما قيل(5) في رواية بشر(6) بن الحكم عن أدنى أهل الجنة منزلة، ثم قال آخر الحديث: قال: " رب فأعلاهم منزلة ".
وقوله في الذي تعرض عليه صغار ذنوبه، ويقال له: " لك بكل سيئة حسنة "، هو حجة لمن قال مثله(7) في الإيمان(8) في(9) قوله تعالى: " فأولئك يبدل الله
__________
(1) لفظ الجلالة ليس في (أ).
(2) مابين المعكوفين ليس في (ط) وتوجد إشارة لحق ولم يظهر شيء في الهامش.
(3) في (أ):" لا على ".
(4) قوله:" عن " ليس في (ط).
(5) في (أ):" قال قيل ".
(6) في (أ):" عيسى ".
(7) في (ح):" قال له مثله ".
(8) قوله:" في الإيمان " ليس في (ط).
(9) قوله:" في " ليس في (أ).(2/104)
الْقُرْآنَ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ سَمِعْتَ بِمَقَامِ مُحَمَّدٍ - عليه السلام - يَعْنِي الَّذِي يَبْعَثُهُ اللَّهُ فِيهِ، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهُ مَقَامُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - الْمَحْمُودُ الَّذِي يُخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مَنْ يُخْرِجُ، قَالَ: ثُمَّ نَعَتَ وَضْعَ الصِّرَاطِ، وَمَرَّ النَّاسِ عَلَيْهِ قَالَ: وَأَخَافُ أَنْ لا أَكُونَ أَحْفَظُ ذَاكَ، قَالَ: غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ زَعَمَ أَنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سيئاتهم حسنات "، فضلا منه وطولا، وأكثر القول أن معنى الآية تبديل أعمالهم السيئة في(1) الكفر بحسنات الإيمان.
وقوله: " يا رب قد عملت أشياء لا أراها ههنا "، استكثار(2) منه لفضل الله وتكثير حسناته ؛ إذ علم أنه لا يؤاخذ بسيئة(3) وأنها تبدل له حسنات.
وقوله:" فضحك حتى بدت نواجذه "، قال الإمام: " أي ضواحكه، والنواجذ هنا: الضواحك، وليست بالنواجذ التي هي الأضراس ؛ لأن ضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان تبسما، قال الأصمعي: هي الأضراس.
وفي حديث آخر: " إن الملكين قاعدان على ناجذي العبد يكتبان "، قال أبو العباس: النواجذ: الأنياب، وهو أحسن ما قيل في النواجذ ؛ لأن في الخبر أنه - صلى الله عليه وسلم - كان جل ضحكه التبسم(4)".
قال القاضي: هذا إن شاء الله هو الصواب ؛ لأنه عبر عن أكثر ضحكه بالمبالغة في كشر أسنانه حتى تبدو أنيابه ؛ إذ لا تبدو عند التبسم الخفيف الذي كان جل ضحكه، وإنما تبدو منه الثنايا، وقد قال القاضي أبو عبدالله في شرحه:" إنه انفتح فوه من الضحك حتى رأى آخر أضراسه من استقبله "، وحمل النواجذ ههنا على أسنان العقل، وهذا خلاف المعروف من ضحكه - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) قوله:" في " ليس في (أ).
(2) في (ح):" استكثارًا ".
(3) في حاشية (ح):" بسيئاته ".
(4) في (ح):" تبسمًا ".(2/105)
بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا فِيهَا، قَالَ: يَعْنِي فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمْ عِيدَانُ السَّمَاسِمِ، قَالَ: فَيَدْخُلُونَ نَهَرًا مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ فَيَغْتَسِلُونَ فِيهِ، فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمُ الْقَرَاطِيسُ، فَرَجَعْنَا قُلْنَا: وَيْحَكُمْ أَتُرَوْنَ الشَّيْخَ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَرَجَعْنَا فَلا وَاللَّهِ مَا خَرَجَ مِنَّا غَيْرُ رَجُلٍ وَاحِدٍ، أَوْ كَمَا قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث جابر - وقد سئل عن الورود - فقال:" نجيء(1) نحن يوم القيامة عن كذا وكذا انظر، أي فوق الناس، قال: فتدعى الأمم بأوثانها..." الحديث.
هذا صورة الحديث في جميع النسخ، وفيه تغيير كثير وتصحيف، وصوابه: " نحن يوم القيامة على كوم "، هكذا رواه بعض أهل الحديث وفي كتاب ابن أبي خيثمة من طريق كعب بن مالك: " يحشر الناس يوم القيامة على تلّ وأمتي على تلّ، وذكر الطبري في التفسير من حديث ابن عمر: "فيرقى هو - يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - - وأمته على كوم فوق الناس "، وذكر من حديث كعب بن مالك: " يحشر الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تلّ، فهذا كله(2) يبين ما تغير من الحديث، وأنه كأنه(3) أظلم هذا الحرف على الراوي، أو امحى له(4) فعبر عنه بـ: " كذا وكذا "، وفسره بقوله(5):" أي فوق الناس "، وكتب عليه: " انظر " تنبيها، فجمع النقلة الكل ونسقوه على أنه من متن الحديث كما تراه(6).
__________
(1) في (ح):" نحن نجيء ".
(2) قوله:" كله " ليس في (ح).
(3) في (أ):" تأنه ".
(4) كذا في حاشية (ح) وعليها:" صح، خ "، وفي المتن:" عليه ".
(5) في (ح):" يقوله له ".
(6) في (ح):" ترى ".(2/106)
وقوله:" فيتجلى لهم يضحك " قال الإمام:" التجلي في لسان العرب: الظهور، فيكون المعنى ههنا: يظهر لهم، ومنه قوله تعالى: " فلما تجلى ربه للجبل "، معناه ظهر، والضحك ذكرنا أنه يعبر به عن الرضا(1) وإظهار 321 - حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ الأزْدِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ وَثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ أَرْبَعَةٌ فَيُعْرَضُونَ عَلَى?اللَّهِ، فَيَلْتَفِتُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ ! إِذْ أَخْرَجْتَنِي مِنْهَا فَلا تُعِدْنِي فِيهَا، فَيُنْجِيهِ اللَّهُ مِنْهَا?».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرحمة، فيكون المعنى على هذا: يظهر لهم وهو راض، ويكون ذلك مجازا خاطب به - صلى الله عليه وسلم - العرب على ما اعتادت من لغتها ".
قال القاضي: " وقيل: معنى " يضحك " يبين ويبدي لهم ما أخفى(2) لهم من فضله ورحمته.
وقوله في هذا الحديث: " ويعطىكل إنسان مؤمن أو منافق نورا ".
قال القاضي: ذاك بظاهر إيمانهم ودخولهم في جملتهم كما كانوا في الدنيا، وكما حشروا غُرًّا محجَّلين معهم حتى فضحهم الله بإطفاء نورهم على الصراط، وسقوطهم في نار جهنم، وصدهم عن الحوض، وتصييرهم ذات الشمال.
وقوله:" فيتبعونه(3)" تقدم الكلام فيه قبل.
وقوله:" وينبتون نبات(4) الشيء في السيل "، علىما تقدم من قوله:" كالحِبّة في حميل السيل "، واختصره هنا، وعند ابن سعيد عن السجزي: " نبات الدمن في ا لسيل ".
__________
(1) في (ح):" يعبر عنه بالرضا ".
(2) في (أ):" من أخفي ".
(3) في (ط):" ثم يتبعونه ".
(4) في (ح):" فيه نبات ".(2/107)
وقوله: " ويذهب حراقه "، الهاء عائدة فيه على المخرج من النار(1)، يعني: أثر النار والمحرق منه يذهب بما رشّ عليهم أهل الجنة من مائها، كما قال في الحديث الآخر:" فيلقون في نهر الحياة(2)"، وفي الحديث الآخر:
322 - حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ، وَاللَّفْظُ لأَبِي كَامِلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَهْتَمُّونَ لِذَلِكَ - وَقَالَ ابْنُ عُبَيْدٍ: فَيُلْهَمُونَ لِذَلِكَ -، فَيَقُولُونَ لَوِ اسْتَشْفَعْنَا عَلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، قَالَ: فَيَأْتُونَ آدَمَ - صلى الله عليه وسلم - فَيَقُولُونَ: أَنْتَ آدَمُ أَبُو الْخَلْقِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلائِكَةَ فَسَجَدُوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
" فيصب عليهم من ماء الحياة(3)" وكله راجع إلى معنى واحد، وهو مضاف إلى الجنة ومائها.
__________
(1) في حاشية (ح):" على المخرج من النار والمحرقة فيه ".
(2) في حاشية (ح):" الحباة " وعليها "صح، خ".
(3) كذا في حاشية (ح):" من ماء الحياة" وعليها:" صح، خ "، وفي المتن:" من نهر الجنة ".(2/108)
وهذا الحديث جاء في الأم كله من كلام(1) جابر موقوفا عليه، وهذا ليس من شرط مسلم ؛ ليس فيه ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنما دخل في المسند وصار من شرطه ؛ لأنه روي مسندا من غير هذا الطريق، فذكر ابن أبي خيثمة يرفعه عن ابن جريج بعد قوله " يضحك " قال :" سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:" فينطلق بهم "، وقد نبه على هذا مسلم بعد في حديث ابن أبي شيبة وغيره في الشفاعة وإخراج من يُخرج من النار، وذكر إسناده وسماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعنى بعض(2) ما في هذا الحديث.
وذكر(3) مسلم من حديث جابر المقام المحمود أنه الذي يخرج الله به من يُخرج من النار، ومثله(4) عن أبي هريرة وابن عباس وابن مسعود وغيرهم.
وقد روي في الصحيح عن ابن عمر ما ظاهره أنها شفاعة المحشر، قال: "فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود ".
__________
(1) في (ح):" حديث ".
(2) قوله:" بعض " ليس في (ط).
(3) في (ط):" ذكر ".
(4) في (ط):" وسلمة ".(2/109)
لَكَ، اشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ، فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنْهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ قَالَ فَيَأْتُونَ نُوحًا - صلى الله عليه وسلم - فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنْهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلاً، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ - صلى الله عليه وسلم - فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنْهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ، وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاةَ قَالَ: فَيَأْتُونَ مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنْهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى رُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ، فَيَأْتُونَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن حذيفة وذكر المحشر وكون الناس فيه(1) سكوت ؛ لا تكلم نفس إلا بإذنه "، فينادي محمدا فيقول: " لبيك وسعديك والخير في يديك "، إلى آخر كلامه، قال:" فذلك المقام المحمود ".
وعن كعب بن مالك: " يحشر الناس على تل، فيكسوني ربي حلة خضراء، ثم نودي بي، فأقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود ".
وعن عبدالله بن سلام:" محمد - صلى الله عليه وسلم - على كرسي الرب بين يدي الله عزّ وجلّ ".
وقد روي عن مجاهد في ذلك قولا منكرا لا يصح، ولو صح لكان له تأويل على غير(2) ظاهره، ويقرب بالتأويل من قول عبدالله بن سلام.
__________
(1) قوله:" فيه " ليس في (ح).
(2) قوله:" غير " ليس في (أ).(2/110)
والذي يستخرج من جملة الأحاديث أن مقامه المحمود هو كون آدم وفي ولد تحت لوائه يوم القيامة، من أول عرصاتها إلى دخولهم الجنة وإخراج من يخرج من النار، فأول مقاماته(1): إجابته المنادي، وتحميده ربه وثناؤه عليه بما فَيَأْتُونَ عِيسَى رُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - عَبْدًا قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« فَيَأْتُونِي فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي، فَإِذَا أَنَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ! ارْفَعْ رَأْسَكَ، قُلْ تُسْمَعْ، سَلْ تُعْطَهِ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ رَبِّي، ثُمَّ أَشْفَعُ، فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ، وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَقَعُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ يَا مُحَمَّدُ ! قُلْ تُسْمَعْ، سَلْ تُعْطَهِ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ، فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُخْرِجَهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، قَالَ: فَلا أَدْرِي فِي الثَّالِثَةِ، أَوْ فِي الرَّابِعَةِ، قَالَ: فَأَقُولُ: يَا رَبِّ ! مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ، أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ - قَالَ ابْنُ عُبَيْدٍ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) كذا في حاشية (ح) وعليها:" صح، خ "، وفي المتن:" مقامه ".(2/111)
ذكر وبما ألهمه من محامده، ثم الشفاعة من إراحة العرض(1) وكرب المحشر، وهذا مقامه الذي حمده فيه الأولون والآخرون، ثم شفاعته لمن لا حساب عليه من أمته، ثم لمن يخرج من النار حتى لا يبقى فيها من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ثم يتفضل الله تعالى بإخراج من قال: " لا إله إلا الله "، ومن لم يشرك به، ولا يبقى في النار إلا المخلدون، وهذه آخر عرصات القيامة، ومناقل الحشر، فهو في جميعها له المقام المحمود وبيده فيها لواء الحمد.
323 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« يَجْتَمِعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَهْتَمُّونَ بِذَلِكَ، أَوْ يُلْهَمُونَ ذَلِكَ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: ثُمَّ آتِيهِ الرَّابِعَةَ، أَوْ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ ! مَا بَقِيَ إِلا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول يزيد في هذا الحديث: " شغفني رأي من رأي الخوارج" أي لصق بشغاف(2) قلبي، وهو غلافه، وقيل: سويداؤه، قال الله عز وجل في مثله: { قد شغفها حبًّا }.
وروي أيضًا(3):" شَعَفَنِي " بالعين المهملة، وهو بمعناه.
وقد قرئ أيضًا:" شَعَفَها "، وحقيقة معناه برَّح بها، وقيل(4): أخذ قلبها حبه من أعلاه(5)، وشَعَفُ(6) كل شيء أعلاه، وقيل: بلغ داخل قلبها.
__________
(1) في حاشية (ح):" العرض " وعليها "صح، خ".
(2) في (ح):" شغاف ".
(3) قوله:" أيضًا " ليس في (ح).
(4) في (أ):" وقيل معناه ".
(5) قوله:" من أعلاه " ليس في (ح).
(6) في (ح):" شغف ".(2/112)
وقوله بعد: " فرجعنا فوالله ما خرج منا غير رجل واحد(1)"، يعني أن الله نفعهم بما حدثهم به جابر - رضي الله عنه -، وصرفهم عن الخروج مع الخوارج لما كان خامرهم من محبة رأيهم.
وقوله في هذا الحديث في الجهنميين:" كعيدان(2) الساسَم "، كذا في جميع النسخ، ولا نعرف(3) له معنى ههنا، ولعل(4) صوابه: عيدان السَّاسم، وهو أشبه، وهو عود أسود. وقيل: هو الأبنوس، وقد قال(5) بعضهم في وصف البياض والسواد:
فجاءت بلونين مستحسنَيْنِ أبهى من العاج والسَّاسَمِ
وبه يشبَّه من صار حُمَمَةً.
324 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« يَجْمَعُ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْهَمُونَ لِذَلِكَ »، بِمِثْلِ حَدِيثِهِمَا، وَذَكَرَ فِي الرَّابِعَةِ: « فَأَقُولُ: يَا رَبِّ ! مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ، أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما السماسم فنمل حمر صغار، أو جمع الحب المأكول، أو الأخفاء السراع، هذا جملة ما فسر هذه الكلمة بها أهل اللغة، ولا مدخل لها ههنا، ودليل أنه أراد تشبيههم بهذه الأعواد لسوادها.
قوله بعد: " فيغتسلون فيه "، يعني نهر الجنة: " فيخرجون كأنهم القراطيس ".
وقوله في حديث أنس الطويل في الشفاعة، تقدم معنى قوله: " خلقك بيده(6)".
وقوله: " ونفخ فيك من روحه " إضافة ملك وتخصيص وتشريف.
وذكر آدم وغيره في الحديث، خطاياهم.
__________
(1) في (أ):" واحد أو كما قال ".
(2) في (ط):" كأنهم عيدان ".
(3) في (ح):" يعرف ".
(4) كذا في حاشية (ح) وعليها:" صح، خ "، وفي المتن:" قيل ".
(5) في (ح):" الأبنوس وقال ".
(6) في (ح):" خلقك الله بيده ".(2/113)
قال الإمام: " احتج بها(1) من أجاز الصغائر على الأنبياء ".
قال القاضي:" ولا خلاف أن الكفر عليهم من بعد النبوة غير جائز عليهم(2) وأنهم معصومون منه، واختلف فيه قبل النبوة، والصحيح أنه لا يجوز كما قدمناه قبل هذا واحتججنا عليه.
ثم اختلف في المعاصي، فلا خلاف أن كل كبيرة من الذنوب(3) لا تجوز عليهم وأنهم معصومون منها، واختلف مشايخنا وغيرهم: هل ذلك من طريق العقل أو الشرع، فذهب الأستاذ أبو إسحق ومن تبعه أن ذلك ممتنع من 325 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ الضَّرِيرُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ وَهِشَامٌ صَاحِبُ الدَّسْتَوَائِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. ح، وَحَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالا: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ - وَهُوَ ابْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ بُرَّةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ ذَرَّةً ».
__________
(1) في (ح):" بهذا ".
(2) في (ح):" أن الكفر عليهم غير جائز من بعد النبوة ".
(3) في (ط):" الذنب ".(2/114)
زَادَ ابْنُ مِنْهَالٍ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ يَزِيدُ: فَلَقِيتُ شُعْبَةَ فَحَدَّثْتُهُ بِالْحَدِيثِ. فَقَالَ شُعْبَةُ: حَدَّثَنَا بِهِ قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِالْحَدِيثِ، إِلا أَنَّ شُعْبَةَ جَعَلَ مَكَانَ:" الذَّرَّةِ " " ذُرَةً ". قَالَ يَزِيدُ: صَحَّفَ فِيهَا أَبُو بِسْطَامَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقتضى دليل المعجزة، وذهب القاضي أبوبكر فيمن وافقه أن ذلك من طريق الإجماع، وذهبت المعتزلة إلى أن ذلك من طريق العقل ونفور الناس عنهم لذلك.
وكذلك اتفقوا على أن كل ما كان طريقه البلاغ في القول فإنهم معصومون فيه على كل حال، وما كان طريقه البلاغ في الفعل(1) فذهب بعضهم(2) إلى العصمة فيه رأسا وأن السهو والنسيان لا يجوز عليهم فيه، وتأولوا أحاديث السهو وغيرها بما سنذكره في موضعه، وهو مذهب الأستاذ أبي المظفر الإسفراييني من شيوخنا الخراسانيين من أئمة المتكلمين، وغيره من مشايخ المتصوفة.
__________
(1) في (ح):" العقل ".
(2) في (ح):" طائفة ".(2/115)
326 - حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ هِلالٍ الْعَنَزِيُّ. ح، وَحَدَّثَنَاه سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ -، حَدَّثَنَا حَمَّادُ ابْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ هِلالٍ الْعَنَزِيُّ، قَالَ: انْطَلَقْنَا إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَتَشَفَّعْنَا بِثَابِتٍ، فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي الضُّحَى، فَاسْتَأْذَنَ لَنَا ثَابِتٌ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ، وَأَجْلَسَ ثَابِتًا مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ ! إِنَّ إِخْوَانَكَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَسْأَلُونَكَ أَنْ تُحَدِّثَهُمْ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ لَهُ: اشْفَعْ لِذُرِّيَّتِكَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ - عليه السلام - فَإِنَّهُ خَلِيلُ اللَّهِ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذهب معظم المحققين وجماهير العلماء إلى جواز ذلك ووقوعه منهم، وهذا هو الحق، ثم لا بد من تنبيههم عليه وذكرهم إياه، إما في الحين على رأي جمهور المتكلمين، أو قبل وفاتهم على رأي بعضهم، ليسُنُّوا حكمَ ذلك ويبينوه قبل انخرام مدتهم وليصح تبليغهم ما أنزل(1) إليهم، كما قال - صلى الله عليه وسلم -:" إني لأَنْسَى أو أُنَسَّى لأسُنَّ".
وكذلك لا خلاف أنهم معصومون من الصغائر التي تزري بفاعلها وتحط منزلته وتسقط مروءته.
__________
(1) في (ح):" نزا ".(2/116)
واختلفوا في وقوع غيرها من الصغائر منهم، فمعظم الفقهاء والمحدثين والمتكلمين من السلف والخلف على جواز وقوعها منهم، وحجتهم ظواهر القرآن(1) والأخبار.
بِمُوسَى - عليه السلام - فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ، فَيُؤْتَى مُوسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى - عليه السلام - فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ، فَيُؤتَى عِيسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فَأُوتَى فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا، فَأَنْطَلِقُ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي، فَأَقُومُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لا أَقْدِرُ عَلَيْهِ الآنَ يُلْهِمُنِيهِ اللَّهُ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ لِي: يَا مُحَمَّدُ ! ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: انْطَلِقْ فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ بُرَّةٍ أَوْ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنْهَا، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَى رَبِّي فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذهب جماعة من أهل التحقيق والنظر من الفقهاء والمتكلمين من أئمتنا إلى عصمتهم من الصغائر كعصمتهم من الكبائر، وأن منصب النبوة يجل عن مواقعتها جملة ومخالفة الله عمدا، وتكلموا على الآيات والأحاديث الواردة في ذلك وتأولوها، وأن ما ذكر عنهم من ذلك إنما هو ما كان منهم على تأويل أو سهو أو غير إذن من الله تعالى في أشياء أشفقوا من المؤاخذة بها، وأشياء(2) كانت منهم قبل النبوة.
__________
(1) في (ح):" ظاهر القرآن ".
(2) في (ط):" أو أشياء ".(2/117)
وهذا هو الحق لما قدمناه، ولأنه لو صح ذلك منهم لم يلزمنا الاقتداء بأفعالهم وإقرارهم(1) وكثير من أقوالهم، ولا خلاف في الاقتداء بذلك، وإنما اختلاف(2) العلماء: هل ذلك على الوجوب أو على الندب أو الإباحة أو التفريق فيما كان من باب القرب أو غيرها.
وقد بسطنا الكلام على هذا الباب في كتاب " الشفا " وبلغنا فيه المبلغ الذي لا يوجد في غيره، وتكلمنا(3) على الظواهر في ذلك لما فيه كفاية ولا فَيُقَالُ لِي: يَا مُحَمَّدُ ! ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ لِي: انْطَلِقْ فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنْهَا، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ إِلَى رَبِّي فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ لِي: يَا مُحَمَّدُ ! ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ ! أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ لِي: انْطَلِقْ فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِنْ مِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يهولنك أنْ نَسَبَ(4) قومٌ هذا المذهب إلى الخوارج والمعتزلة وطوائف(5) من المبتدعة؛ إذ منزعهم فيه هو منزع آخر من التكفير بالصغائر، ونحن نتبرأ إلى الله من هذا المذهب.
__________
(1) في (أ):" وأقوالهم ".
(2) في (ح):" اختلف ".
(3) في (ح):" تكلمنا فيه ".
(4) في (ح):" أن ينسب ".
(5) في (ح):" طائف ".(2/118)
وانظر هذه الخطايا التي ذكرت للأنبياء: من أكل آدم من شجرة نهي(1) عنها ناسيا، ومن دعوة نوح على قوم كفار، وقتل موسى لكافر(2) لم يؤمر بقتله، ومدافعة إبراهيم الكفار بقول عرض به، هو فيه من وجه صادق، وهذه كلها في حق غيرهم ليست بذنوب، لكنهم أشفقوا منها ؛ إذ لم تكن عن أمر الله وعتب على بعضهم فيها بقدر منزلتهم من معرفة الله. وانظر هناك تجد منه مزيدًا وشرحًا إن شاء الله.
وقوله عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: " ائتوا محمدًا عبدًا غفر له(3) ما تقدم من ذنبه وما تأخر ".
اختُلف في معنى هذا في قوله تعالى: " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر "، فقيل: ما كان(4) قبل النبوة، والمتأخر عصمتك بعدها.
وقيل: المراد به ذنوب أمته - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) في (ح):" آدم الشجرة التي نهي ".
(2) في (ح):" للكافر ".
(3) في (ح):" غفر الله له ".
(4) في (ح):" فقيل ما تقدم ما كان ".(2/119)
هَذَا حَدِيثُ أَنَسٍ الَّذِي أَنْبَأَنَا بِهِ فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ، فَلَمَّا كُنَّا بِظَهْرِ الْجَبَّانِ، قُلْنَا: لَوْ مِلْنَا إِلَى الْحَسَنِ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ، وَهُوَ مُسْتَخْفٍ فِي دَارِ أَبِي خَلِيفَةَ، قَالَ: فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَقُلْنَا: يَا أَبَا سَعِيدٍ ! جِئْنَا مِنْ عِنْدِ أَخِيكَ أَبِي حَمْزَةَ، فَلَمْ نَسْمَعْ مِثْلَ حَدِيثٍ حَدَّثَنَاهُ فِي الشَّفَاعَةِ، قَالَ: هِيَهِ فَحَدَّثَنَاهُ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: هِيَهِ، قُلْنَا: مَا زَادَنَا، قَالَ: قَدْ حَدَّثَنَا بِهِ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً وَهُوَ يَوْمَئِذٍ جَمِيعٌ، وَلَقَدْ تَرَكَ شَيْئًا مَا أَدْرِي أَنَسِيَ الشَّيْخُ أَوْ كَرِهَ أَنْ يُحَدِّثَكُمْ فَتَتَّكِلُوا، قُلْنَا لَهُ: حَدَّثَنَا، فَضَحِكَ وَقَالَ:{ خُلِقَ الأنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ }، مَا ذَكَرْتُ لَكُمْ هَذَا إِلا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُحَدِّثَكُمُوهُ:« ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَى رَبِّي فِي الرَّابِعَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل: المراد ما وقع منه عن سهو وغفلة وتأويل، حكاه(1) الطبري واختاره القشيري.
وقيل: ما تقدم لأبيك آدم، وتأخر(2) من ذنوب أمتك.
وقيل: المراد أنك(3) مغفور لك غير مؤاخذ بذنب أن لو كان.
وقيل: هو تنزيه(4) له من الذنوب.
وقوله عن آدم: " ائتوا نوحًا فهو أول رسول بعثه الله ".
قال الإمام: " قد ذكر المؤرخون أن إدريس جد نوح عليهما السلام، فإن قام الدليل على أن إدريس بعث أيضًا لم يصح قول النسابين أنه قبل نوح لم أخبر - صلى الله عليه وسلم - من قول آدم أن نوحا أول رسول بُعث، وإن لم يقم دليل جاز ما قالوا، وصح أن يحمل أن إدريس كان نبيا غير مرسل ".
__________
(1) في (ط):" وحكاه ".
(2) في (ح):" وما تأخر ".
(3) قوله:" أنك " ليس في (ح).
(4) في حاشية (ح):" توقية " وعليها "صح، خ".(2/120)
قال القاضي: قد يجمع بين هذا بأن يقال: اختص بعث نوح لأهل الأرض - كما قال في الحديث - كافة، كنبينا - صلى الله عليه وسلم -، ويكون إدريس لقومه، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ لِي: يَا مُحَمَّدُ ! ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ ! ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ لَكَ، أَوْ قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ إِلَيْكَ، وَلَكِنْ وَعِزَّتِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي وَجِبْرِيَائِي لأُخْرِجَنَّ مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ».
قَالَ: فَأَشْهَدُ عَلَى الْحَسَنِ أَنَّهُ حَدَّثَنَا بِهِ: أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، أُرَاهُ قَالَ قَبْلَ عِشْرِينَ سَنَةً وَهُوَ يَوْمِئِذٍ جَمِيعٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كموسى وهود وصالح ولوط عليهم السلام وغيرهم، وقد استدل بعضهم على هذا بقوله تعالى: " وإن إلياس لمن المرسلين إذ قال لقومه ألا تتقون "، وقد قيل إن إلياس هو إدريس، وقد قرئ: " سلام على إدراسِينَ(1)".
__________
(1) في (ح):" إدريس ".(2/121)
وكذلك إن قيل إن إدريس هو إلياس، وأنه كان نبيا في بني(1) إسرائيل - كما جاء في بعض الأخبار - مع يوشع بن نون، وإذا كان هذا فقد سقط الاعتراض، وبمثل هذا أيضًا يسقط(2) الاعتراض بآدم وشيث ورسالتهما إلى من معهم(3)، وإن كانا رسوليْن فإن آدم إنما أرسل لبنيه ولم(4) يكونوا كفارًا، بل أمر بتعليمهم الإيمان والتوحيد وطاعة الله تعالى، وكذلك خلفه شيث بعده فيهم، بخلاف رسالة نوح إلى كفار أهل الأرض، وقد رأيت أبا الحسن(5) ابن بطال ذهب إلى أن آدم ليس برسول ليسلم من هذا الاعتراض، وحديث أبي ذر الطويل ينص على أن آدم وإدريس رسولان(6).
وقوله: " ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلا ".
__________
(1) في (أ):" من بني ".
(2) كذا في حاشية (ح) وعليها:" صح، ن "، وفي المتن:" سقط ".
(3) في (أ):" معهما ".
(4) في حاشية (ح):" وإن لم " وعليها "صح، خ".
(5) في (ح):" الحسين ".
(6) في (ح):" رسولين ".(2/122)
327 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَاتَّفَقَا فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ، إِلا مَا يَزِيدُ أَحَدُهُمَا مِنَ الْحَرْفِ بَعْدَ الْحَرْفِ قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو حَيَّانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا بِلَحْمٍ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ، وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ، فَنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً فَقَالَ:« أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ بِمَ ذَاكَ ؛ يَجْمَعُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأوَّلِينَ وَالأخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ، فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لا يُطِيقُونَ وَمَا لا يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: أَلا تَرَوْنَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ، أَلا تَرَوْنَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أصل الخلة الاختصاص والاستصفاء(1)، وقيل: أصلها الانقطاع إ‘لى من يخاللك، مأخوذ من الخلة وهي الحاجة،فسمي إبراهيم بذلك لأنه قصر حاجته على ربه حين أتاه الملك وهو في المنجنيق ليرمى في النار فقال:" ألك(2) حاجة ؟ قال: أما إليك فلا ".
وقيل: الخلة صفاء المودة(3) التي توجب تخلل الأسرار، وقيل: معناها المحبة والإلطاف، وقال الشاعر:
قد تخلَّلْتَ مَوْضع(4) الروح مني ولذا سُمي الخليلُ خليلا
__________
(1) كذا في حاشية (ح) وعليها:" صح، خ "، وفي المتن:" الاصطفاء ".
(2) في (أ):" لك ".
(3) في (ط):" الصفاء للمودة ".
(4) في (ح):" مسلك ".(2/123)
وقوله في الحديث الآخر:" إنما كنت خليلا من وراء وراء "، إشارة إلى تفضيل محمد - صلى الله عليه وسلم -، وفيه حجة على زيادة منزلة محمد - صلى الله عليه وسلم - في القرب على إبراهيم - عليه السلام -، وليس ذلك إلا(1) بالرؤية والمناجاة والله أعلم بقوله: " مِنْ وراءَ وراءَ ".
مَا قَدْ بَلَغَكُمْ أَلا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ، فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: ائْتُوا آدَمَ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ ! أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا، فَيَقُولُ آدَمُ ! إِنَّ رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ، فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ ! أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى الأرْضِ، وَسَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
" وذكر كذباته "، وكانت كلها تعريضا في جنب الله، فتسميتها كذبات دليل لأهل السنة ومتكلميهم في أنه لا يشترط في الكذب العمد.
__________
(1) قوله:" إلا " ليس في (ح).(2/124)
وهذه وإن لم تكن كذبات حقيقة، فهي في صورة الكذبات، وهي عند المخبر بها خلاف ما اعتقده المخبر، ألا ترى الحديث الآخر: " لا يحل الكذب إلا في ثلاث "، فسمى ذلك كذبا، وإنما هو من باب ا لمعاريض، ألا ترى الحديث الآخر: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد غزوة ورى(1) بغيرها "، فهذا ومثله كذب الحرب، وكذلك أخواتها، والمعاريض جائزة عند الضرورات، وفيها مندوحة عن الكذب، وقد فعلها كثير من السلف وأجازها، لكن أشفق إبراهيم - عليه السلام - من المؤاخذة بها على ما قدمناه.
وقد يضطر إلى الكذب بالحقيقة، ولا تتفق فيه معاريض عند دفع مظلمة عظيمة أو رفع مضرة أو معصية بذلك، فالكاذب هنا - وإن كان كاذبا -
فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُ بِهَا عَلَى قَوْمِي، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ - صلى الله عليه وسلم -، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الأرْضِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا، فَيَقُولُ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَذَكَرَ كَذَبَاتِهِ، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى، فَيَأْتُونَ مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى ! أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَضَّلَكَ اللَّهُ بِرِسَالاتِهِ وَبِتَكْلِيمِهِ عَلَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فغير آثم ولا مؤاخذ، بل مأجور محمود، وقصة إبراهيم وسارة من هذا الباب.
__________
(1) في (ح):" وارى ".(2/125)
وكذلك قوله: " إني سقيم "، على أحد التأويلات، على ما سنذكره في موضعه.
وقوله في موسى: " الذي كلمه الله تكليما "، لا خلاف بين أهل السنة في حمل هذا على ظاهره وحقيقته ؛ لتأكيده بالمصدر وأن لله كلاما هو صفة من صفاته لا يشبه كلام غيره.
وقوله في عيسى:{ روح الله وكلمته(1)}، تقدم الكلام عليه أول الكتاب.
وقول كل واحد(2):" لست بصاحب ذلك " و" لست لها "، و" لست هناكم " تواضعا وإكبارا لما سئله، وقد يكون(3) إشارة من كل واحد منهم إلى
أَلا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا، فَيَقُولُ لَهُمْ مُوسَى - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى - صلى الله عليه وسلم -، فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى ! أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ، وَكَلِمَةٌ مِنْهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا، فَيَقُولُ لَهُمْ عِيسَى - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ ذَنْبًا، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فَيَأْتُونِّي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح) زيادة:"{ وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه }".
(2) في (ح):" كل واحد منهم ".
(3) في (ح):" تكون ".(2/126)
أن هذه الشفاعة وهذا المقام ليس له، بل لغيره، ودل كل واحد منهم على الآخر، حتى انتهى الأمر إلى صاحبه، بدليل قوله: " أنا لها(1)".
ويحتمل أنهم علموا أن صاحبها محمد - صلى الله عليه وسلم - معينا، وتكون إحالة كل واحد منهم على الآخر على تدريج الشفاعة في ذلك إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وفيه تقديم ذوي الأسنان، والآباء على الأبناء في الأمور التي لها بال، وعلى هذا جاء تدريج سؤال الأنبياء عليهم السلام في هذا الحديث.
ومبادرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك(2) وإجابته لرغبتهم(3) لما حققه - عليه السلام - من أن هذه الكرامة والمقام له خاصة، كما وعده بها ربه تعالى.
وما ذكر في هذا الحديث من غضب الله سبحانه وشدته في هذا الموقف وأنه لم يغضب غضبا قبله مثله، فهو في حق الله تعالى ما يظهر من انتقامه ممن عصاه وخالف أمره، ويريهم من أليم عذابه، لا أنه تبارك وتعالى يتغير له حال في الغضب ولا في الرضى.
__________
(1) في (ح):" أنا لها أنا لها ".
(2) في (أ):" لذلك ".
(3) في (ح):" لدعواهم ".(2/127)
فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ ! أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتَمُ الأنْبِيَاءِ، وَغَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا، فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي، ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ، وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ لأَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ! ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهِ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ ! أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ! أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَابِ الأيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأبْوَابِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ! إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ لَكَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرٍ، أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فأستأذن على ربي فيؤذن لي "، معناه - والله أعلم - في الشفاعة التي وعده بها والمقام المحمود الذي ادخره له وأعلمه أنه يبعثه فيه.
وجاء في حديث أنس وحديث أبي هريرة ابتداء النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد سجوده وحمده والإذن له في الشفاعة بقوله:" أمتي، أمتي ".
وجاء في حديث حذيفة بعد هذا، وذكر الحديث نفسه وقال(1): " فيأتون محمدا فيقوم ويؤذن له، وترسل الأمانة والرحم فيقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا، فيمر أولهم كالبرق.."، وساق الحديث.
__________
(1) في (ح):" فقال ".(2/128)
وبهذا يتصل الحديث ؛ لأن هذه هي الشفاعة التي لجأ الناس إليه فيها، وهي الإراحة من الموقف والفصل بين العباد، ثم بعد ذلك حلت الشفاعة في أمته وفي المذنبين، وحلّت شفاعة الأنبياء وغيرهم(1) والملائكة والنبيين(2)، كما جاء في الأحاديث الأخر(3).
328 - وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ وُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَصْعَةٌ مِنْ ثَرِيدٍ وَلَحْمٍ، فَتَنَاوَلَ الذِّرَاعَ، وَكَانَتْ أَحَبَّ الشَّاةِ إِلَيْهِ، فَنَهَسَ نَهْسَةً، فَقَالَ:« أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ »، ثُمَّ نَهَسَ أُخْرَى فَقَالَ:« أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ »، فَلَمَّا رَأَى أَصْحَابَهُ لا يَسْأَلُونَهُ، قَالَ:« أَلا تَقُولُونَ كَيْفَهْ »، قَالُوا: كَيْفَهْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ:« يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ...، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي حَيَّانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ. وَزَادَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: وَذَكَرَ قَوْلَهُ فِي الْكَوْكَبِ:{ هَذَا رَبِّي } و قَوْله لآلِهَتِهِمْ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا }، و قَوْله:{ إِنِّي سَقِيمٌ }، قَالَ:« وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ إِلَى عِضَادَتَيِ الْبَابِ لَكَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرٍ، أَوْ هَجَرٍ وَمَكَّةَ »، قَالَ لا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ط):" وغيره ".
(2) قوله:" والنبيين " ليس في (ح).
(3) في (ح):" الحديث الآخر ".(2/129)
وجاء في الأحاديث المتقدمة في الرؤية وحشر الناس: اتباع(1) كل أمة ما كانت تعبد، ثم تمييز(2) المؤمنين من المنافقين، ثم حلول الشفاعة ووضع الصراط.
فيحتمل أن الأمر باتباع الأمم ما كانت تعبد هو أول الفصل، والإراحة من هول الموقف أول المقام المحمود، وأن الشفاعة التي ذكر حلولها هي الشفاعة في(3) المذنبين على الصراط، وهو ظاهر الأحاديث(4)، وأنها لمحمد نبينا - صلى الله عليه وسلم - وغيره، كما نص في الأحاديث، ثم ذكر بعدها الشفاعة فيمن دخل النار، وبهذا تجتمع متون الأحادث، وتترتب(5) معانيها ولا تتنافر ولا تختلف إن شاء الله تعالى.
329 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَرِيفِ بْنِ خَلِيفَةَ الْبَجَلِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ الأشْجَعِيُّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبُو مَالِكٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« يَجْمَعُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى النَّاسَ، فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى تُزْلَفَ لَهُمُ الْجَنَّةُ، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: يَا أَبَانَا ! اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلا خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ آدَمَ، لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، اذْهَبُوا إِلَى ابْنِي إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ، قَالَ: فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلاً مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ، اعْمِدُوا إِلَى مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ تَكْلِيمًا، فَيَأْتُونَ مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - فَيَقُولُ: لَسْتُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (ح):" واتباع ".
(2) في (ح):" تميز ".
(3) في (ح):" التي في ".
(4) في (ح):" الأحاديث الواردة ".
(5) في (ط):" وترتب ".(2/130)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" لم يبق في النار إلا من حبسه القرآن، أي وجب عليه الخلود"، وفي الرواية الأخرى:" من وجب عليه الخلود" حجة لما أجمع عليه المسلمون إلا من اتبع هواه من الخوارج والمعتزلة بقولهم بتخليد المذنبين ؛ إذ قد ذكر إخراج من في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان، ومن قال: لا إله إلا الله.
وقوله: " ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، قال: ليس ذلك إليك، لكن وعزتي وكبريائي وعظمتي وجِبْرِيائي لأخرجن من قال: لا إله إلا الله "، أي أتفضل بإخراجهم دون شفاعة شافع، كما قال في الحديث المتقدم: "تشفع الملائكة ويشفع النبيون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين...".
وقوله:" وجبريائي "، أي: جبروتي، والجبروت العظمة، والجبار العظيم الشأن، الممتنع، وقيل القاهر، ومنه النخلة(1) الجبار الطويل الذي فات المتناول، يقال: جبار بيّن الجبرية والجَبْرُوَّة والجُبُورة والجَبُّورة، مخفف ومثقل، ولم يأت فعال من أفعلت إلا جبّار ودرّاك وسئّار(2).
__________
(1) في (ط):" النخل "، وكذا في حاشية (ح) وعليها "صح، خ".
(2) في (ح):" ستار ".(2/131)
بِصَاحِبِ ذَلِكَ، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى كَلِمَةِ اللَّهِ وَرُوحِهِ، فَيَقُولُ عِيسَى - صلى الله عليه وسلم -: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم -، فَيَقُومُ، فَيُؤْذَنُ لَهُ، وَتُرْسَلُ الأمَانَةُ وَالرَّحِمُ، فَتَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالاً، فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ، قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ! أَيُّ شَيْءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ ؟ قَالَ: أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ وَشَدِّ الرِّجَالِ، تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ، وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ، حَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فَلا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلا زَحْفًا، قَالَ: وَفِي حَافَتَيِ الصِّرَاطِ كَلالِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ، فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ، وَمَكْدُوسٌ فِي النَّارِ، وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ: إِنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ لَسَبْعُونَ خَرِيفًا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والجبروت مثله، وزيدت فيه التاء للمبالغة، مثل ملكوت في المُلْك، ورحموت ورهبوت من الرحمة والرهبة.
وجاء " جبريائي " هنا لمطابقة كبريائي، كما قالوا: الغدايا والعشايا.
وقيل أيضًا في معنى اسمه " جبار " أي مصلح، من قولهم: جبرت العظم، وقيل: الذي جبر فقر عباده ورزقهم(1)، فيكون بمعنى المحسن.
__________
(1) كذا في (ط) وحاشية (ح) وعليها:" صح، خ "، وفي (أ) و(ح):" ورحمهم ".(2/132)
وقوله في هذا الحديث بعد: " ما يزن ذرة... إلا أن شعبة جعل مكان الذرة: ذرة "، كذا عند أبي علي الصدفي والسمرقندي، بذال معجمة مرفوعة وراء مخففة، وكذا قاله شعبة، صحفه من الذرة، وهو مما نُقِمَ(1) عليه، وذكره أبو الحسن الدارقطني عنه في كتابه في تصحيف(2) المحدثين، وإنما أوقعه في هذا والله أعلم قوله في هذا الحديث أولاً: " مثقال شعيرة"، 330 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَإِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ يَشْفَعُ فِي الْجَنَّةِ، وَأَنَا أَكْثَرُ الأنْبِيَاءِ تَبَعًا?».
331 - وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاءِ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَنَا أَكْثَرُ الأنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم(3) قال:" مثقال برة "، ثم:" مثقال ذرة(4)"، فقرأه هو:" ذرة(5)"، لموافقته(6) الحبوب قبل(7) في الجنس، والله أعلم.
__________
(1) في حاشية (ح):" تغم " وعليها "صح، خ".
(2) كذا في حاشية (ح) وعليها:" صح، خ "، وفي المتن:" تصحيح ".
(3) في (أ):" ثم قال ".
(4) في (ح):" مثقال ذرة ثم مثقال برة ".
(5) في (ط):" هو من التصحيف ذرة ".
(6) في (ح):" لموافقة ".
(7) في حاشية (ح):" قيل " وعليها " خ".(2/133)
وقد وقع هذا عن شعبة عند العذري والشنتجالي(1) والخشني: "درة "، بدال مهملة وراء مشددة، وهذا تصحيف من التصحيف(2)، والصواب في هذا كله "ذرة " بفتح الذال المعجمة.
ومعنى " يزن " يعدل ويثقل(3).
قال مسلم: " نا أبو الربيع العتكي، نا حماد بن زيد"، هو أبو الربيع سليمان بن داود الزهراني، مشهور، ونسبه مسلم مرة زهرانيا، ومرة عتكيا، ومرة(4) جمع له النسبين، ولا يجتمعان بوجه، وكلاهما يرجع إلى الأزد(5)، إلا أن يكون للجمع بينهما سبب من جوار أو حلف، والله أعلم.
وقوله في أنس(6):" وهو يومئذ جميع "، أي مجتمع الذكر والقوة، لم(7) يأخذ منه السن والكبر.
وقوله في الذراع: " فنهس منها(8) نهسة "، كذا لأكثر الرواة، بسين مهملة، ووقع لابن ماهان بالمعجمة، وكلاهما صحيح بمعنى(9).
قال الإمام: " أي أخذ بأطراف أسنانه، قال الهروي: " قال أبو العباس: النَّهْسُ - بالسين غير معجمة - بأطراف الأسنان، وبالشين هو(10) بالأضراس ".
قال القاضي: قال غيره: " هو نثر ا للحم، قال النضر: " نهشت(11) عضداه أي دقتا ".
وقال القتبي في تفسير لعنه - صلى الله عليه وسلم - المنتهشة والحالقة، قال: " هي التي تخمش وجهها فتأخذ لحمه بأظفارها، ومنه نهشته الكلاب.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة "، قيل: السيد الذي يفوق قومه، والذي يفزع إليه في الشدائد.
__________
(1) في (ح):" السنتجالي ".
(2) قوله:" من التصحيف " ليس في (ط).
(3) في (ط):" تزن تعدل ويثقل ".
(4) قوله:" ومرة " ليس في (ح).
(5) كذا في حاشية (ح)، وفي المتن:" الأسد ".
(6) في (ح):" أسن "، وفي حاشيتها:" السن ".
(7) في (ح):" ولم ".
(8) في حاشية (ح):" منه " وعليها "صح، خ".
(9) قوله:" بمعنى " ليس في (ط).
(10) قوله:" هو " ليس في (ح).
(11) في (ح):" نهست ".(2/134)
هو سيدهم - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة، لكن خصص القيامة لارتفاع دعوى السؤدد فيها، وتسليم الكل له ذلك، وكون آدم - عليه السلام - ومن ولد تحت لوائه، كما قال تعالى:" لمن الملك اليوم لله الواحد القهار "،[ أي انقطعت دعاوى الدعاة في المُلك ذلك اليوم، وبقي الملك الحق لله وحده ](1)، الذي قهر جميع الجبابرة والمدعين الملك، وأفناهم، ثم(2) أعادهم، وحشرهم عراة فقراء إليه.
ومحبته - صلى الله عليه وسلم - في الذراع وإعجابه بها، لنضج لحمها، وسرعة استمرائه له، مع زيادة لذته، وحلاوة مذاقه على سائر لحم الشاة، وبعده من(3) مواضع الأذى الذي كان يتقيه - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه حين لم يسألوه حين قال: " أنا سيد ولد آدم ": "ألا تقولون: كيف هو ؟ "، وعند العذري: " كَيْفَهْ ؟ قالوا :كَيْفَهْ ".
332 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ قَالَ: قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:« أَنَا أَوَّلُ شَفِيعٍ فِي الْجَنَّةِ لَمْ يُصَدَّقْ نَبِيٌّ مِنَ الأنْبِيَاءِ مَا صُدِّقْتُ، وَإِنَّ مِنَ الأنْبِيَاءِ نَبِيًّا مَا يُصَدِّقُهُ مِنْ أُمَّتِهِ إِلا رَجُلٌ وَاحِدٌ ».
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (ح).
(2) في (ح):" و ".
(3) في (ح):" عن ".(2/135)
333 - وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالا: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ ابْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَسْتَفْتِحُ، فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ لا أَفْتَحُ لأَحَدٍ قَبْلَكَ ».
334 - حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأعْلَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُوهَا، فَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه ا لهاء هاء السكت، عند أهل العربية، الملحقة في الوقف، وهي تلحق الأسماء والحروف والأفعال لثلاث علل:
- لصحة الحركة التي قبلها آخر الكلمة، كقولهم: غلاميه، وكتابيه، " ولم يتسنه "، على(1) قول بعضهم، وأينه(2)، وكيفه.
- أو لتمام الكلام المنقوص، كقوله: عمَّه، ولِمَه، وقِهْ.
- أو للحاجة عند مدّ الصوت في النداء والندبة.
فيه تنبيه العالم الطالب(3) على موضع السؤال، وبسطه للسؤال إذا انقبض.
__________
(1) في (ح):" وعلى ".
(2) في (ح):" وأنيه ".
(3) في (أ):" للطالب ".(2/136)
335 - وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّهِ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ، وَأَرَدْتُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ».
336 - حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّهِ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيُّ مِثْلَ ذَلِكَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ».
337 - وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّ عَمْرَو بْنَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيَّ أَخْبَرَهُ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ لِكَعْبِ الأحْبَارِ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُوهَا فَأَنَا أُرِيدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ »، فَقَالَ كَعْبٌ لأَبِي هُرَيْرَةَ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: نَعَمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وتعظيم القوم العالم أن يسألوه عن(1) كل شيء، ولعل هذا كان بعد نهيهم عن السؤال إلا فيما أُذِنَ لهم فيه.
__________
(1) كذا في حاشية (ح) وعليها:" صح، خ "، وفي المتن:" عن".(2/137)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " حتى تُزْلَفَ لهم الجنةُ "، قال الإمام: " أي تُقَرَّب لهم وتُدْنَى منهم، وجَنَبَتَا الصراط: ناحيتاه، ويقال: جنبتا الوادي وجانباه وضفتاه وناحيتاه(1)".
338 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ - وَاللَّفْظُ لأَبِي كُرَيْبٍ - قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا ».
339 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ - وَهُوَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ-، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ يَدْعُو بِهَا?فَيُسْتَجَابُ لَهُ فَيُؤْتَاهَا، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ?».
340 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدٍ - وَهُوَ ابْنُ زِيَادٍ -، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ دَعَا بِهَا فِي أُمَّتِهِ فَاسْتُجِيبَ لَهُ، وَإِنِّي أُرِيدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ أُؤَخِّرَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في حاشية (ح):" وحاشيتها " وعليها " خ".(2/138)
و " المكردس "، قال القاضي: تقدم تفسيره بمعنى المنقطع أو المكسور الظهر.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " كالبرق وطرفة العين ومرّ الريح ومرّ الطير وشد الرجال "، وعند ابن ماهان: " الرحال " بالحاء المهملة، وهو متقارب المعنى إذا سميت به الراحلة، وجمعها رواحل، وأما الرحال فجمع رحل، والمعروف: "الرجال " بالجيم.
وقوله: " تجري بهم أعمالهم "، يعني أن سرعة مرهم على الصراط بقدر
341 - حَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَانَا - وَاللَّفْظُ لأَبِي غَسَّانَ -، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ - يَعْنُونَ ابْنَ هِشَامٍ -، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ دَعَاهَا لأُمَّتِهِ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
342 - وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ أَبِي خَلَفٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ بِهَذَا الإسْنَادِ.
343 - ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ. ح، وَحَدَّثَنِيهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ جَمِيعًا، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ بِهَذَا الإسْنَادِ. غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ وَكِيعٍ قَالَ:" أُعْطِيَ "، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
344 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ..، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(2/139)
أعمالهم ومبادرتهم لطاعة ربهم، ألا تراه كيف قال: " حتى تعجز أعمال العباد "، وهذا كله من عدل الله تعالى، وإظهار ذلك لعباده، وإلا فالكل برحمته لا إله غيره. وعند بعض رواة مسلم: " تجري بهم بأعمالهم "، ولا وجه لدخول الباء هنا.
وقوله:"إن قعر جهنم لسبعين خريفا"، يفسره الحديث الآخر:"إن الصخرة العظيمة لتلقى في شفير جهنم فتهوي فيها سبعين عاما ما(1) تفضي إلى قرارها.
345 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -:« لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ قَدْ دَعَا بِهَا فِي أُمَّتِهِ، وَخَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ».
__________
(1) قوله:" ما " ليس في (ح).(2/140)
346 - حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأعْلَى الصَّدَفِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ ؛ أَنَّ بَكْرَ بْنَ سَوَادَةَ حَدَّثَهُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو ابْنِ الْعَاصِ: أَنَّ?النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَلا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ:{ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } الأيَةَ. وَقَالَ عِيسَى - عليه السلام -:{ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ:« اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي »، وَبَكَى، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:« يَا جِبْرِيلُ ! اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ - عليه السلام - فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللَّهُ يَاجِبْرِيلُ ! اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلا نَسُوءُكَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله:" لكل نبي دعوة يدعو بها وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي(1).
قال الإمام:" أي ادخرتها لأمتي ".
قال القاضي: يقال(2): وكم من دعوة استجيبت للرسل عليهم السلام ولنبينا - صلى الله عليه وسلم - فما معنى هذا ؟ فيقال: إن المراد - والله أعلم - أن لهم دعوة هم من استجابتها على يقين وعلم بإعلام الله تعالى لهم ذلك، وغيرها من الدعوات بمعنى الطمع في الاستجابة، وبين الرجاء والخوف.
__________
(1) في (ح):" لأمتي يوم القيامة ".
(2) في (أ):" فقال ".(2/141)
347 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَيْنَ أَبِي ؟ قَالَ:« فِي النَّارِ »، فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ فَقَالَ:« إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبينه(1) قوله في رواية أبي صالح عن أبي هريرة - رضي الله عنه -:" لكل نبي دعوة مستجابة،
فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي(2) " الحديث.
وبمعناه في حديث شعبة(3) سبعة أحرف(4) قوله: " فلك بكل ردة رددتكها مسألة تسألنيها، فقلت: اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي، وأخَّرتُ الثالثة ليوم يرغب إلي الخلق كلهم "، وبمعناه من رواية أبي زرعة عنه.
أو تكون هذه الدعوة لكل نبي مخصوصة بأمته، ويدل عليه رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - في هذا الحديث: " لكل نبي دعوة دعا بها في أمته فاستجيبت له..." الحديث، ونحوه في حديث أنس وجابر.
وقوله:" إن ا لنبي - صلى الله عليه وسلم - تلا قول الله عز وجل في إبراهيم - عليه السلام -:" رب إنهن أضللن كثيرا من الناس " الآية، وقال عيسى - عليه السلام -:" إن تعذبهم فإنهم عبادك(5)"، كذا في الأم، وكذا(6) عند النسائي(7):" وقال عيسى(8)"، قال بعضهم هو - والله أعلم - اسم للقول لا فعلا(9)، يقال: قال قَوْلاً وقالاً وقِيلاً، كأنه قال: وتلا قول عيسى - عليه السلام -.
__________
(1) في (أ):" ويبينه ".
(2) في (ح):" دعوتي شفاعة لأمتي ".
(3) قوله:" شعبة " ليس في (ط).
(4) قوله:" سبعة أحرف " ليس في (ح).
(5) قوله:" فإنهم عبادك " ليس في (ح).
(6) في (ح):" وكذلك ".
(7) في (أ):" في النسائي ".
(8) في حاشية (ح):" قال غيره ".
(9) في (ح):" لا للفعل ".(2/142)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - للذي سأله: أين أبي ؟ فقال: " في النار "، فلما قفىَّ دعاه فقال " إن أبي وأباك في النار "، من أعظم حسن الخلق والمعاشرة والتسلية ؛ لأنه لما أخبره بما أخبر، ورآه عظم عليه، أخبره أن مصيبته بذلك كمصيبته ليتأسى به. ومعنى " قفى " ولَّى قفاه منصرفا.
348 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الأيَةُ { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُرَيْشًا فَاجْتَمَعُوا، فَعَمَّ وَخَصَّ، فَقَالَ:« يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ ! أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَابَنِي مُرَّةَ بنِ كَعْبٍ ! أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ ! أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ ! أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي هَاشِمٍ ! أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ! أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ ! أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلالِهَا ».
346 - وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِالْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ بِهَذَا الإسْنَادِ. وَحَدِيثُ جَرِيرٍ أَتَمُّ وَأَشْبَعُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(2/143)
وقوله: " غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها "، كذا رويناه بكسر الباء، قال أبو عمر: " يقال(1): بلَلْتُ رحمي بلاً وبِلالاً وبلَلاً"، قال الأصمعي: " أي وصلتها وندَّيتها بالصلة "، وإنما شبهت قطيعة الرحم بالحرارة تُطفَأ بالبرد، كما يقال: سقيته شربة برَّدت بها عطشه.
ورأيت للخطابي أنه: " ببَلالها(2)" بالفتح، كالمَلال، وقال الهروي: " البِلال جمع بَلَلٍ كجمل وجمال "، وقيل: إن معنى هذا ما ورد في مثله من قوله:" وصاحبهما في الدنيا معروفا ".
وقوله:"إلى رضمة من جبل "، قال الإمام: " هي صخور بعضها على بعض، يقال: بنى داره فرضم(3) فيه الحجارة رضما، ومنه الحديث: " وكان
350 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَيُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ قَالا: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ }، قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الصَّفَا فَقَالَ:« يَافَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ ! يَا صَفِيَّةُ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ! يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ! لا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ ».
__________
(1) في (أ):" قال ابو عمرو ويقال ".
(2) في (ح):" بلالها ".
(3) في (أ):" يرضم ".(2/144)
351 - وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ}:« يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ! اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ، لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ! لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ! لا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ! لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ ! سَلِينِي بِمَا شِئْتِ، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
البناء الأول من الكعبة رَضْمًا ".
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فانطلق يربأ أهلَه "، الربيئة الطليعة، والعين، وأنشد أبو عمرو(1):
فأرسلنا أبا عمرو ربيئا
قال القاضي: هكذا الرواية الصحيحة كما ضبطة وفسره، وكذا كان عند شيخنا الخشني، وكان عند العذري وغيره من الرواة:" يرنو(2)"، ولا وجه له هنا.
352 - وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ذَكْوَانَ، عَنِ الأعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - نَحْوَ هَذَا ».
__________
(1) في (ح):" أبو عمر ".
(2) في (أ):" يرثوا "، وفي (ح):" بربوا ".(2/145)
353 - حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ، وَزُهَيْرِ بْنِ عَمْرٍو قَالا: لَمَّا نَزَلَتْ { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ }، قَالَ: انْطَلَقَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى رَضْمَةٍ مِنْ جَبَلٍ فَعَلا أَعْلاهَا حَجَرًا، ثُمَّ نَادَى يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافَاهْ:« إِنِّي نَذِيرٌ إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ، كَمَثَلِ رَجُلٍ رَأَى الْعَدُوَّ فَانْطَلَقَ يَرْبَأُ أَهْلَهُ، فَخَشِيَ أَنْ يَسْبِقُوهُ فَجَعَلَ يَهْتِفُ يَا صَبَاحَاهْ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: " لما نزلت هذه الآية:" وأنذر عشيرتك الأقربين "، ورهطك منهم المخلصين "، بفتح اللام، هذا إن صح أنه قرآن(1) مما نسخ لفظه،
وسَفْحُ الجبل: عَرْضُه، وبالصاد: جانبه.
وقول أبي لهب: " تبًّا " أي هلاكا وخسارة وشقاءً.
وقوله: " فنزلت تبت يدا أبي لهب " استُدِلَّ(2) به على جواز تكنية المشرك، وقد اختلف العلماء(3) في ذلك، واختلفت الرواية عن مالك في تكنية الذمي بالجواز والكراهة، وقال بعضهم: إنما يجوز من ذلك ما جاء(4) في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان على وجه التألف، وإلا فلا ؛ إذ في ا لتكنية تعظيم وتكبير، وتكنية الله لأبي لهب ليس من هذا.
ولا حجة فيه ؛ إذ كان اسمه عبد العزى، ولا يسميه الله بعبد لغيره فلذلك كنَّى.
354 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ عَبْدِ الأعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ عَمْرٍو وَقَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِنَحْوِهِ.
__________
(1) في (ط):" قرآنا ".
(2) في (ح):" واستدل ".
(3) قوله:" العلماء " ليس في (ط).
(4) في (أ):" ذلك وجاء ".(2/146)
355 - وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الأيَةُ { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } وَرَهْطَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا، فَهَتَفَ:« يَا صَبَاحَاهْ »، فَقَالُوا: مَنْ هَذَا الَّذِي يَهْتِفُ ؟ قَالُوا: مُحَمَّدٌ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ:« يَا بَنِي فُلانٍ ! يَابَنِي فُلانٍ ! يَا بَنِي فُلانٍ ! يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ ! يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ !»، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ:« أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً تَخْرُجُ بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ ؟»، قَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا، قَالَ:« فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ »، قَالَ: فَقَالَ: أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ ! أَمَا جَمَعْتَنَا إِلا لِهَذَا، ثُمَّ قَامَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ:{ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَقَدْ تَبَّ}،كَذَا قَرَأَ الأعْمَشُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
356 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأعْمَشِ بِهَذَا الإسْنَادِ. قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ الصَّفَا، فَقَالَ: « يَا صَبَاحَاهْ »، بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ نُزُولَ الأيَةِ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ }.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل: بل كنيته الغالبة عليه، فصار كالاسم له، وقيل: بل أبو لهب لقب له ليس بكنية، وكنيته أبو عتبة، فجرى مجرى اللقب والاسم لا مجرى الكنية.(2/147)
357 - وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الأمَوِيُّ قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ ؟ قَالَ:« نَعَمْ هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ ».
358 - حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: سَمِعْتُ الْعَبَّاسَ يَقُولُ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَنْصُرُكَ، فَهَلْ نَفَعَهُ ذَلِكَ ؟ قَالَ:« نَعَمْ، وَجَدْتُهُ فِي غَمَرَاتٍ مِنَ النَّارِ، فَأَخْرَجْتُهُ إِلَى ضَحْضَاحٍ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل: بل جاء ذكر أبي لهب لمجانسة:" ناراً ذات لهب(1)" في ا لسورة، من باب البلاغة وتحسين العبارة.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" اشتروا أنفسكم من الله "، قد يكون بمعنى: بيعوا، قال الله تعالى: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم "، وقد يكون على وجهه، أي أنقذوها من عذابه(2).
قال الإمام: " وقوله - صلى الله عليه وسلم - في أبي طالب: " وجدته في غُبَّرَاتٍ من النار"، الغبرات، البقايا، وفي رواية أخرى: " غمرات منها "، أي شيء كثير ".
__________
(1) في (أ):" نار ذات لهب"، وفي (ط):" نارًا في لهب ".
(2) في (أ):" من عذاب الله ".(2/148)
قال القاضي: لم نَرْوِهِ إلا " غَمَرَات "، وهو الذي يصح به المعنى، ولا وجه هنا للبقايا، والغمر كل شيء كثير، والغَمْر الماء الكثير، وفَرَسٌ غَمْرٌ كثيرُ الجري، ورجل غمر: كثير الجود،[ وغمار الناس جماعتهم ](1).
359 - وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ. حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ح و، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ بِهَذَا الإسْنَادِ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ.
360 - وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُوطَالِبٍ، فَقَالَ:« لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويبين صحته ذكره بعد الضحضاح(2)، وأنه أخرجه من الغمرات إليه، وهو الماء القليل،[ وحديث عمرو بن العاص الذي ذكره بعد هذا ](3).
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(2) في (ح):" الضفضاح ".
(3) مابين المعكوفين ليس في (ط). وفي (أ) زيادة:" وغمار الناس جماعتهم ".(2/149)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:" فأخرجته إلى ضحضاح "، قال الإمام: " الضحضاح ما رقّ من الماء على وجه الأرض، ومنه وصف عمرو بن العاص يذكر عمر رضي الله عنهما:" جانب(1) غمرتها(2)، ومشى ضحضاحها(3)، وما ابتلّت(4) قدماه "، يقول: لم يتعلق من الدنيا بشيء ".
قال القاضي: وقوله فيه: " هل نفعته بشيء "، ثم ذكر هذا، وقوله بعد في الحديث الآخر: " لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة "، وقد قال الله تعالى في الكفار:" فما تنفعهم شفاعة الشافعين "، وقال تعالى: " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ".
361 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَنْتَعِلُ بِنَعْلَيْنِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي دِمَاغُهُ مِنْ حَرَارَةِ نَعْلَيْهِ ».
362 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ، وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ ».
__________
(1) في (ح):" جانه ".
(2) في (أ):" عمرتها ".
(3) في (ح):" ضحضاخها ".
(4) في (أ):" انبلت ".(2/150)
363 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لابْنِ الْمُثَنَّى- قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ يَقُولُ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَخْطُبُ، وَهُوَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: « إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَرَجُلٌ تُوضَعُ فِي أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فالجواب أنه(1) ليس فيه نص على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شفع فيه، وإنما أخبر(2) أنه نفعه قربه منه وذبه عنه، كما سُقي أبو لهب بعتقه ثويبة مرضعته - عليه السلام - بركة منه فاضت عليهم فخفف بذلك من عذابهم، وكانت هذه الحالة هي الشافعة لهم، لا رغبته وسؤاله - صلى الله عليه وسلم -، كما قال:
في وجهه شافع تمحو(3) إساءته إلى القلوب وجيه حيث ما شفعا.
ومع هذا فما يرى أن أحدا أشد منه عذابًا(4)، لشدة ما يلقاه،كما جاء في الحديث نفسه.
364 - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مَنْ لَهُ نَعْلانِ وَشِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِ الْمِرْجَلُ، مَا يَرَى أَنَّ أَحَدًا أَشَدُّ مِنْهُ عَذَابًا، وَإِنَّهُ لأَهْوَنُهُمْ عَذَابًا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) قوله:" فالجواب أنه " ليس في (ط).
(2) في (ح):" أخبره ".
(3) في (أ):" يمحو ".
(4) في (ط):" منه عذابًا منه ".(2/151)
وعلى هذا أيضًا(1) يحمل قوله: " هل نفعه ذلك "، يعني ذبه ونصره للنبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا أنه(2) جُوزِيَ على ذلك وعوض عنه بتخفيف العذاب، خلافًا لمن قال هذا من الشارحين، للإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم ولا يثابون عليها بنعيم ولا بتخفيف عذاب لكنهم بإضافة بعضهم للكفر كبائر المعاصي وأعمال الشر وأذى المؤمنين وقتل الأنبياء والصالحين يزدادون عذابا، كما قال تعالى: " ما سلككم في سقر..." الآيات.
وكذلك الكافر يعذب بكفره ثم يزاد(3)، لعظيم(4) إجرامه وإفساده في الأرض وعتوه وكثير إحداثه في العباد والبلاد، فذاك يعذب " أشد العذاب " كما قيل في آل فرعون.
ومن لم يكن بهذه السبيل عذِّب بقدر كفره، فكان أخف عذابا ممن عُذِّب أشد العذاب، فليس إذن عذاب أبي طالب كعذاب أبي جهل وإن اجتمعا في الكفر، ولا عذاب عاقر الناقة من قوم ثمود كعذاب غيره من قومه، ولا عذاب قتلة عيسى ويحيى وزكريا(5) وغيرهم من الأنبياء كغيرهم من الكفار، فبهذا يتوجه خفة العذاب، لا أنه(6) على المجازاة على أفعال الخير.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار "، قيل: الطبقة السفلى من طباق جهنم، وقيل: توابيت من نار تطبق عليهم.
__________
(1) قوله:" أيضًا " ليس في (أ).
(2) في حاشية (ح):" لأنه " وعليها " خ".
(3) في (أ):" يزاذ ".
(4) قوله:" لعظيم " ليس في (أ).
(5) في (ط):" وزكريا ويحيى ".
(6) في (أ):" لا أنه ".(2/152)
365 - حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ ؟ قَالَ:« لا يَنْفَعُهُ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ».
366 - حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جِهَارًا غَيْرَ سِرٍّ يَقُولُ:« أَلا إِنَّ آلَ أَبِي - يَعْنِي فُلانًا - لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ، إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ألا إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء "، كذا للسمرقندي، ولغيره: " آل أبي - يعني فلانا - ".
هي كناية عن قوم كره الراوي تسميتهم لما يقع في نفوس ذراريهم، وبقي فقه الحديث وحكمته في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما وليي الله وصالح المؤمنين "، فأفاد - صلى الله عليه وسلم -: " أن أولياءه صالح ا لمؤمنين وإن بعد نسبهم منه، وأن من ليس بمؤمن ولا صالح ليس له بولي وإن قرب نسبه منه.
ودل الحديث أن الولاية في الإسلام إنما هي بالموافقة فيه بخصال الديانة وذمام الشريعة، لا بامتشاج(1) النسب وشُجْنَة الرحِم.
وقيل: إن المكنى عنه الحكم بن أبي العاص.
__________
(1) كذا في حاشية (ح) وعليها:" صح، خ "، وفي المتن:" بانتساج ".(2/153)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث :" يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب"، وذكر أنهم: " الذين لا يسترقون(1)، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون ".
367 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلامِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْجُمَحِيُّ، حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ يَعْنِي ابْنَ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي الْجَنَّةَ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ »، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ:« اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ »، ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ:« سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ».
368 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ...، بِمِثْلِ حَدِيثِ الرَّبِيعِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الإمام: " احتج بعض الناس بهذا الحديث على أن التداوي مكروه، وجل مذاهب العلماء على خلاف ذلك، واحتجوا بما وقع في أحاديث كثيرة من ذكره - صلى الله عليه وسلم - لمنافع الأدوية والأطعمة، كالحبة السوداء والقُسط والصَّبِرِ وغير ذلك.
وبأنه - صلى الله عليه وسلم - تداوى، وبإخبار عائشة رضي الله عنها بكثرة تداويه، وبما عُلِمَ من الاستشفاء برقاه.
وبالحديث الذي فيه أن بعض أصحابه أخذوا على الرقية أجرًا.
__________
(1) في (ح):" الذين لا يرقون ولا يسترقون " وجاءت الزيادة ملحقة بالهامش.(2/154)
فإذا ثبت هذا صح أن يحمل ما في(1) الحديث على قوم يعتقدون أن الأدوية نافعة بطباعها، كما يقول بعض الطبائعيين(2)، لا أنهم يفوضون الأمر إلى الله تعالى، وهذا على نحو التأويل المتقدم في حديث الاستمطار بالنجوم.
قال القاضي : لهذا التأويل ذهب غير واحد ممن تكلم على الحديث، ولا يستقيم على مساق الحديث؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذم هنا من قال بالكي والرقي، 369 - حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:« يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي زُمْرَةٌ هُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الأسَدِيُّ يَرْفَعُ نَمِرَةً عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ »، ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَقَالَ: يَارَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ! ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ ».
370 - وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو يُونُسَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا، زُمْرَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ ».
__________
(1) قوله:" ما في " ليس في (ح).
(2) في (ح) و(ط):" الطبائعين ".(2/155)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولا كفَّرهم، كما جاء في حديث الاستمطار بالنجوم، ولا ذكر سواهما فيستقيم أن يُتأول بذلك ما ذكروه، وإنما أخبر أن هؤلاء لهم مزية وفضيلة بدخولهم الجنة بغير حساب، وبأن وجوههم تضيء إضاءة البدر، فقيل: " ومن هم يا رسول الله ؟ فقال: الذين لا يكتوون.." الحديث، فأخبر أن لهؤلاء مزيد خصوص على سائر المؤمنين، وصفات تميزوا بها، ولو كان على ما تأوله قبل لما اختص هؤلاء بهذه المزية ؛ لأن تلك هي عقيدة جميع المؤمنين، ومن اعتقد خلاف ذلك كفر.
وقد تكلم العلماء وأصحاب المعاني على هذا، فذهب أبو سليمان الخطابي وغيره أن وجه هذا أن يكون تركها على جهة التوكل على الله،
371 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ خَلَفٍ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدٍ - يَعْنِي ابْنَ سِيرِينَ -، قَالَ: حَدَّثَنِي عِمْرَانُ قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ »، قَالُوا: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ:« هُمِ الَّذِينَ لا يَكْتَوُونَ وَلا يَسْتَرْقُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ »، فَقَامَ عُكَّاشَةُ فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ:« أَنْتَ مِنْهُمْ »، قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ ! ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ:« سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والرضى بما يقضيه من قضاء وينزله من بلاء، قال: " وهذا(1) من أرفع درجات المتحققين بالإيمان "، وإلى هذا ذهب جماعة من السلف سماهم.
__________
(1) في (أ):" وهذه ".(2/156)
قال القاضي: وهذا هو ظاهر الحديث، ألا ترى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وعلى ربهم يتوكلون "، ومضمون كلامه أنه لا فرق(1) بين ما ذكر من الكي والرَّقْي، وبين سائر أبواب الطب، وإن لم يذكر منها إلا ما ذكر.
وقال الداودي:" المراد بذلك الذين يفعلونه في الصحة، فإنه يكره لمن ليست به علة أن يتخذ التمائم ويستعمل الرقي، وأما من يستعمل ذلك ممن به مرض فهو جائز(2)".
وقد ذهب غيره إلى أن تخصيص الرقي والكي ههنا من بين سائر أنواع علاج الطب لمعنى، وأن ا لطب غير قادح في التوكل ؛ إذ تطبب النبي - صلى الله عليه وسلم - وطب وتطبب(3) علية الفضلاء ؛ إذ كل سبب مقطوع به كالأكل للغذاء والشرب للري(4) لا يقدح في التوكل، وكذلك المظنون(5)؛ كالطب للبرء(6)، ولبس الدرع للتحصن من العدو غير قادح في التوكل.
372 - حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا حَاجِبُ بْنُ عُمَرَ أَبُو خُشَيْنَةَ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ الأعْرَجِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ »، قَالُوا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ:« هُمِ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ، وَلا يَتَطَيَّرُونَ، وَلا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) في (أ):" ومضمون كلامهم لا فرق ".
(2) في (ح):" ذلك لمن به مرض فذلك جائز ".
(3) في (أ):" وتطبت ".
(4) في (ط):" والشراب الري ".
(5) كذا في حاشية (ح) وعليها:" صح، خ ".
(6) في (ح):" للبر ".(2/157)
وباب الرقي والطيرة والكي باب(1) موهوم، والموهوم قادح في التوكل عند المتكلمين في هذا الباب، فلهذا لم ينف عنهم التطبب، ولهذا لم يجعلوا الاكتساب للقوت وعلى العيال قادحا في التوكل إذا(2) لم تكن ثقته في رزقه باكتسابه، وكان مفوضا في كل ذلك لربه، على ما حده علماء هذا الفن.
والكلام في التفريق بين الطب والكي - وكل قد أباحه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأثنى عليه - يطول، لكنا نذكر منه نكتة تكفي ، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - تطبب في نفسه وطب غيره، ولم يكتو وكوى غيره، ونهى في الصحيح أمته عن الكي، وقال: " ما أحب أن أكتوي ".
وقوله - صلى الله عليه وسلم - :" وعلى ربهم يتوكلون " قال الطبري وغيره: اختلف الناس في التوكل ما هو ؟
فذهبت(3) طائفة إلى أنه لا يستحق اسمه إلا من لم يخالط قلبَه خوفُ غير الله تعالى من سبع أو عدو، حتى(4) يترك السعي في طلب الرزق [ فيما لابد منه من مطعم ومشرب](5)؛ لضمان الله رزقه، واحتجوا بما جاء في ذلك من الآثار.
وقالت طائفة: حده الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه ماض، واتباع سنة(6) نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - في السعي فيما لا بد منه، من مطعم ومشرب، والتحرز من
__________
(1) قوله:" باب " ليس في (ح).
(2) في (أ):" إذ ".
(3) كذا في حاشية (ح) وعليها:" صح، خ "، وفي المتن:" فقالت ".
(4) في (ح):" وحتى ".
(5) مابين المعكوفين ليس في (ح) و(ط).
(6) في (ط):" سنته ".(2/158)
373 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ يَعْنِي ابْنَ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا، أَوْ سَبْعُ مِائَةِ أَلْفٍ - لا يَدْرِي أَبُو حَازِمٍ أَيَّهُمَا قَالَ -، مُتَمَاسِكُونَ آخِذٌ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، لا يَدْخُلُ أَوَّلُهُمْ حَتَّى يَدْخُلَ آخِرُهُمْ، وُجُوهُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ».
374 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ: أَيُّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الَّذِي انْقَضَّ الْبَارِحَةَ ؟ قُلْتُ: أَنَا، ثُمَّ قُلْتُ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلاةٍ، وَلَكِنِّي لُدِغْتُ، قَالَ: فَمَاذَا صَنَعْتَ ؟ قُلْتُ: اسْتَرْقَيْتُ، قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ ؟ قُلْتُ حَدِيثٌ حَدَّثَنَاهُ الشَّعْبِيُّ، فَقَالَ: وَمَا حَدَّثَكُمُ الشَّعْبِيُّ ؟ قُلْتُ: حَدَّثَنَا، عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ حُصَيْبٍ الأسْلَمِيِّ ؛ أَنَّهُ قَالَ:« لا رُقْيَةَ إِلا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ »، فَقَالَ: قَدْ أَحْسَنَ مَنِ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ، وَلَكِنْ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« عُرِضَتْ عَلَيَّ الأمَمُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلانِ، وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العدو، كما فعل - صلى الله عليه وسلم -، وفعله الأنبياء عليهم السلام، فقد نص الله تعالى عنهم الخوف والكسب والتحرز من(1) عداهم.
__________
(1) في (ح):" ممن ".(2/159)