- -
- - - -
- - - - - -
- - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - -
اقْتِضَابُ العَلاْئِق
بدَرْءِ مُشْكِلِ حَديْثِ: (خمسٌ فواسق)
- - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - -
- - - - - - -
- - - -
- -
مشهور بن مرزوق الحرازي
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
وهو حسبي وبه ثقتي وعليه اعتمادي ونعم الوكيل
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد ..
= تمهيد =
فلا ريب أن دين الله دينٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، مَصونٌ عن أدنى تناقضٍ أو تضاد ، وركناه ودِعامتاه (الكتاب والسنة) اللذان هما أساسا سعادة البشرية ، وأصلا مستمسك من أراد أن يلحق بالزمرة المهدية ، وإن من لوازم ذلك: أنهما محفوظان عن كل ما يخدج في الصحيح الصريح منهما ، بخاصةٍ (السنة المطهرة) ، والتي تناولَ البعضُ بعضاً من أحاديثِها الثابتة المكينة بشيءٍ من الاستشكال إما لقصور فهومهم ، وكساد علومهم ، أو (للاستغلال !!) بقصد الطعن فيها بأي مُتَلَقَفٍ يُسْقَطُ في أيديهم ..
وإنه والحال كما وصفت .. لم يكن العلماء الأعلام من متقدِّمٍ ومتأخرٍ في غفلةٍ عنهم ، بل تناولوا هذه الأحاديث التي اعتاصوا فيها بالدراسة والتحليل ، وعرَّجَ عليها البعضُ في تآليفهم ، "بخاصةٍ علماء المصطلح" ، وأفرد لها بعضهم الآخر كتباً مستقلة ، في مجموعٍ ، أو في رسالةٍ في واحدٍ منها(1) ، فـ: (علم مُختلف الحديث ومُشكله) وعر المسالك ، صعب المرتقى ، قد حُفَّت جنباته بالمزالق ، وأُحيطت مباحثه بألوانٍ من الإبهام والاستغلاق في الكثير الغالب ..
__________
(1) ومن أشهر من تخصص في الإفراد بالتصنيف في هذا العلم من المتقدِّمين: الشافعي في "اختلاف الحديث" ، وابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث" ، والطحاوي في "مشكل الآثار" ، وغيرهم.(1/1)
ولما كان هذا العلم الشريف مما تشتد الحاجة إليه ، ويكثر الغلط واللغط حوله ، وتُنشر الشبهات والمزاعم من بين يديه ومن خلفه .. كانت وريقات هذه الرسالة تسبر غور حديثٍ احتوى المُشكل الذي سيُدرء بها -بإذنه تعالى- ، حال كونها دارسةً له من حيث سنده ومتنه ابتداءً ، مُعرِّجةً على ما فيه من اختلافِ ألفاظٍ أو زياداتٍ فيه ، واضعةً يدها على مَحِلِّ الإشكالات ، مختومةً بدرئه على ضوء ما يُنقل من كلام الأئمة والعلماء -رحمهم الله- ، وذلك على فصولٍ مقتضبةٍ ، ارتأيتُ توضيح المراد فيها وعنها بأخصر سبيل ..
وقد أسميتها: ] اقتضابُ العلائق .. بدرءِ مُشكلِ حديث: "خمسٌ فواسق" [
والرحمنَ أسألُ أن ينفع بها كلَّ ناظرٍ فيها وواقفٍ عليها ، وأن يكتب لها قبولاً ورضواناً من لدنه سبحانه ، وأن يدخرها لي لليوم الذي لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون ..
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
** (فصلٌ) فيإثبات الحديث المراد دراسته:
حدثنا مُسَدَّدٌ حدثنا يَزِيدُ بن زُرَيْعٍ حدثنا مَعْمَرٌ عن الزُّهْرِيِّ عن عُرْوَةَ عن عَائِشَةَ أم المؤمنين -رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ في الْحَرَمِ الْفَأْرَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْحُدَيَّا وَالْغُرَابُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ)). (1)
__________
(1) أخرجه البخاري في باب: خمسٌ من الدواب يُقتلن في الحرم ، وكذا في بدء الخلق عن مسدد ، عن يزيد بن زُريع ، ومسلمٌ في الحج عن القواريري ، عن يزيد بن زُريع به ، وكذا عن عبد بن حُميد ، عن عبد الرزاق كلاهما عن معمر به ، وفي الحج عند الترمذي عن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، عن يزيد بن زُريع به ، وقال: حسنٌ صحيحٌ ، والنسائي في المناسك عن إسحاق بن إبراهيم ، عن عبد الرزاق به.
- ومن طريقٍ أخرى: أخرج مسلمٌ في المناسك عن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار ، ثلاثتهم عن غُنْدَر ، وكذا النسائي في المناسك عن عمرو بن علي ، عن يحيى وعن إسحاق ، عن النضر بن شميل ، وفي المناسك عند ابن ماجه: عن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن بشار بُندار ومحمد بن المثنى ومحمد بن الوليد ، أربعتهم عن محمد بن جعفر غُنْدَر ، ثلاثتهم عن شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيِّب به.(1/2)
** (فصلٌ) في دراسة ألفاظه والاختلاف فيها والزيادات:
وقد دارت ألفاظه في جملة الأحاديث التي وقفت عليها على النحو التالي/
(1) خمسُ فواسقٍ بالإضافة .. وبعض الألفاظ المروية خمسٌ فواسقٌ.
قال النووي -رحمه الله-: هو بإضافة خمس لا بتنوينه , وجوز ابن دقيق العيد الوجهين وأشار إلى ترجيح الثاني ، وقال الطيبي -رحمه الله-: (الأول هو الصحيح) ، قال ابن دقيق العيد -رحمه الله-: ((وبين الإضافة والتنوين فرقٌ دقيقٌ في المعنى لأن الإضافة تقتضي الحكم على خمسٍ من الفواسق بالقتل ، وربما أشعر التخصيص بخلاف الحكم في غيرها بطريق المفهوم ، وأما التنوين فيقتضي وصف الخمس بالفسق من جهة المعنى ليشعر بأن الحكم المترتب على ذلك "وهو القتل" (مُعللٌ) بما جُعِلَ وصفاً وهو الفسق فيقتضي ذلك التعميم لكل فاسق من الدواب وهو ضد ما اقتضاه الأول من المفهوم وهو التخصيص)).(1)
وعند النسائي من طريق عبد الرحمن بن خالد القطان ((خمسٌ من الدواب كلهن فواسق)) ، ومن حديث القاسم عنها -رضي الله عنها- أربعٌ فواسقٌ "فلم يذكر الحية ولا العقرب" ، ورواه أبو صالحٍ عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "فذكر الحية بدل الغراب".
(2) يُقْتَلْنَ في الحرم.
"بالتخصيص" .. وزِيدَ: ((في الحل والحرم)) ، أخرجها مسلمٌ في الحج عن أبي الربيع الزهراني ، والنسائي في المناسك عن أحمد بن عبدة كلاهما عن حماد بن زيد به ، وعند النسائي في الحج عن إسحاق بن إبراهيم ، عن وكيع به.
__________
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري (437) ، عمدة القاري شرح صحيح البخاري (10/183) ، طرح التثريب في شرح التقريب (5/60).(1/3)
قال النووي -رحمه الله-: ((اختلفوا في ضبط الحرم هنا .. فضبطه جماعة من المحققين بفتح الحاء والراء أي الحرم المشهور وهو حرم مكة ، والثاني بضم الحاء والراء ولم يذكر القاضي عياض في المشارق غيره ، قال: وهو جمع حرام ، كما قال الله تعالى: "وأنتم حرم")) ... ثم قال -رحمه الله-: ((والمراد به المواضع المحرمة ، والفتح أظهر ، والله أعلم)). (1)
(3) العَقْرَب.
وفي بعضها: ((الحية)) بدلاً منها.
فقد أخرج مسلم من حديث ابن المسيب عنها -رضي الله عنها- وفيه: "الحية بدل العقرب" ، ورواه الليث وأيوب عن نافع وزاد فيه ، قال نافع: (والحية لا يُختلف فيها).
(4) الغُرَاب.
وفي بعضها: ((الغراب الأبقع))(2) بالتخصيص ، وقد أخذ بهذا القيد طائفةٌ ، وأجاب آخرون: بأنَّ الروايات المطلقة أصحُّ وأظهر.
قال الشنقيطي -رحمه الله-: ((والجاري على الأصول تقييد الغراب بالأبقع وهو الذي فيه بياضٌ لما روى مسلم من حديث عائشةَ في عدِّ الفواسق الخمس المذكورة "والغراب الأبقع" ، والمقرر في الأصول حمل المُطلق على المُقيَّد ، وما أجاب به بعض العلماء من أن روايات الغراب بالإطلاق متفقٌ عليها فهي أصح من رواية القيد بالأبقع لا ينهض !! ، إذ لا تعارض بين مُقيَّدٍ ومُطلقٍ ، لأن القيد بيانٌ للمراد من المُطلق ، ولا عبرةَ بقول عطاءٍ ومُجاهدٍ بمنع قتل الغراب للمحرم ، لأنه خلافُ النصِّ الصريح الصحيح وقول عامة أهل العلم)). (3)
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (8/115) ، حاشية السيوطي على سنن النسائي (5/190).
(2) وهو الذي في ظهره وبطنه بياضٌ ، كما عرَّفه شُرَّاحُ الحديث وكبار علماء اللغة ، قال أبو عبيد -رحمه الله-: ((وأما هذا الأبيض البطن والظهر فإنما هو الأبقع ، وذلك كثير)). غريب الحديث (3/102)
(3) أضواء البيان (1/435) ، تفسير سورة المائدة.(1/4)
قال الجصاص -رحمه الله-: ((وكَرِهَ أصحابنا ]الحنفية[ الغراب الأبقع لأنه يأكل الجِيَف ، ولم يكرهوا الغراب الزرعي ، فخصَّ الأبقع بذلك ، فصار أصلاً في كراهة أشباهه مما يأكل الجِيَف)). (1)
(5) الحِدَأَة.
وفي بعض الألفاظ: ((الحُدَيَّا)) بفتح الدال وتشديد الياء.
قال العيني -رحمه الله-: ((قوله: "والحُدَيَّا" بضم الحاء وفتح الدال وتشديد الياء مقصورة وهو تصغير حِدَأة على وزن عِنَبة ، وقياسه الحدية فزيد فيه الألف للإشباع ، وقد أنكر بعضهم صيغة التصغير ، ولا وجه لإنكاره لما ذكرنا من وجه ذلك ، أو يُقال: إنه موضوعٌ على صيغة التصغير)). (2)
قلتُ: وقد أخرج ابن خزيمة في صحيحه لفظة التصغير محققة الهمز .. ما يعضد أن لا وجه لإنكاره ، قال: ثنا بندار ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة قال سمعت قتادة يحدث عن سعيد بن المسيب عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم ...)) وذكر: (والحُدَيْأَة)
وعن ابن أبي حاتم قال: ((أهل الحجاز يقولون لهذا الطائر الحُدَيَّا ، ويجمعونه الحَدادي ، وكلاهما خطأٌ)) ، وأما الأزهري فصوَّبه وقال: ((الحُدَيْأَة تصغير الحِدَا)). (3)
وفيها قال الجوهري -رحمه الله-: ((الحِدَأَة مثال عِنَبَة ، وجمعها حِدَا مثل عِنَب ، ولا يقال حِدَأة ، ووقع في حديث ابن عمر - رضي الله عنه - الحدأة)). (4)
قال الشيخ السندي -رحمه الله-: ((الحِدَأة أخس أنواع الطيور ، تخطف أطعمة الناس من أيديهم !!)). (5)
__________
(1) أحكام القرآن (4/188).
(2) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (15/196)
(3) فتح الباري شرح صحيح البخاري (6/355).
(4) الصحاح (1/53).
(5) رفع العجاجه في شرح سنن ابن ماجه "المعروف بحاشية السندي" (حاشية الحديث رقم: 3078).(1/5)
وقال بعضهم: ((إنه كان يصيد على عهد سليمان - عليه السلام - ، وكان من أصْيَدِ الجوارح ، فانقطع عنه الصيد لدعوة سليمان - عليه السلام -)). (1)
(6) الفأرة.
وفي بعض النسخ: ((الفارة)) بالتسهيل ويجوز في اللسان.
والتسهيل والإبدال مذهب القرشيين وأهل الحجاز ، وهو مُقدَّمٌ على التحقيق عند جمهور القرَّاء والنحويين.
** أما تَرْتيبُ هذه الدَّواب وعَدَدُها: فاختلفت باختلاف الروايات والطرق ، لم تخرج عما أثبتُّه عند ذكر اختلاف الألفاظ.
مع الإشارة أن عددها في غير مرويات الجماعة بلغت عند الإحصاء: ثلاثةً وعشرين(2) ، وبيانها:
- واحدةٌ في الموطأ.
- ثمانيةٌ في مسند أحمد.
- واحدةٌ في صحيح ابن حبان.
- اثنتان في صحيح ابن خزيمة.
- خمسةٌ في السنن الكبرى للبيهقي.
- واحدةٌ في مسند أبي يعلى.
- واحدةٌ في المعجم الكبير للطبراني ، وأخرى في معجمه الأوسط.
- واحدةٌ في مسند الطيالسي.
- اثنتان في مسند إسحاق.
** وغايةُ المذكورات مجموعةً ما خَلُصَ إليه الإمام النووي -رحمه الله- بقوله:
((وفي رواية الحِدَأة ، وفي رواية العقرب بدل الحية ، وفي الرواية الأولى أربع بحذف الحية والعقرب ، فالمنصوص عليه الست ]أي: الْفَأْرَةُ وَالْعَقْرَبُ والحِدَأةُ وَالْغُرَابُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ والحَيَّة[)).(3)
** (فصلٌ) في حقيقة الإشكال الوارد في الحديث المُثبت:
ابتداءً ما هو الإشكال في هذا الحديث؟
الإشكال المتبادر إلى الذهن في هذا الحديث .. إشكالان:
(الأول) كيف للمحرم أن يقتل وهو محرم ؟؟
(الثاني) أن تقتل لأنها فواسق ، مع أن الفسق والهدى لا يجوز على شيء دون المكلفين من الجن والإنس !!
** (فصلٌ) في الرد على الإشكال الأول:
وهو: كيف للمحرم أن يقتل وهو محرم ، وقد وردت النصوص الصحيحة الصريحة بنهي المحرم وزجره عن القتل والصيد ؟؟
__________
(1) تهذيب اللغة للأزهري (5/121)
(2) على اللفظ المُثبت وما يُقاربه فقط.
(3) شرح النووي على صحيح مسلم (8/113).(1/6)
ومنه قوله تعالى: ((وحُرِّمَ عليكم صيد البَرَّ ما دمتم حرماً)) ..
وقوله: ((يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرُمٌ)) ..
** فكيف نجيز له القتل ؟؟
يُرَدُ على هذا الإشكال بإيراد بعض كلام السادة الفقهاء –رحمهم في هذا بما يلي:
1. قال الزيلعي -رحمه الله-: ((لأنها ليست بصيود ، وليست بمتولدةٍ من البدن ، ثم هي مؤذيةٌ بطِباعها)). (1)
2. وقال الحافظ العراقي -رحمه الله-: ((اختلفوا في المعنى في ذلك .. فقال الشافعية والحنابلة: المعنى فيه كونهن مما لا يُؤكل ، ولا يُنتفع به ، فكل ما لا يؤكل ولا هو متولد من مأكولٍ وغيره ولا منفعةَ فيه فقتله جائزٌ للمحرم ، ولا فديةَ عليه)). (2)
3. وقال الشوكاني -رحمه الله-: ((ورد في لفظٍ عند مسلمٍ أمرٌ ، وعند أبي عوانة "لِيَقتُلَ المحرم" وظاهر الأمر الوجوب ، ويُحتمل الندب والإباحة ، وقد روى البزار من حديث أبي رافع: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل العقرب والفأرة والحية والحدأة" ، وهذا الأمرُ وَرَدَ بعد نهي المحرم عن القتل ، وفي الأمر الوارد بعد النهي خلاف معروف في الأصول: هل يفيد الوجوب أم لا ؟)).(3)
4. وقال الإمام ابن قُدَامة المقدسي -رحمه الله-: ((يُحتمل أنه أراد ما يبدأ المحرم ، فيعدو عليه في نفسه أو ماله ، فهذا لا جناح على قاتله ، سواء كان من جنس طبعه الأذى ، أو لم يكن ... ويُحتمل أنه أراد ما كان طبعه الأذى والعدوان ، وإن لم يوجد منه أذىً في الحال)). (4)
__________
(1) نصب الراية لأحاديث الهداية (5/53).
(2) طرح التثريب في شرح التقريب (5/50).
(3) نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار (5/197) ، قلتُ: لعلَّ إيراده روايات الأمر يُفْهَمُ منه أن الأمر لذات الأمر ، طاعةً و تعبُّداً وتسليماً ، فلا لطلب التعليل فيما خَفِيَت علينا حكمته من التشريعات الربَّانية ، كما جرت عادةُ تقريراته -رحمه الله-.
(4) المُغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (3/164).(1/7)
5. قال القاضي أبو الوليد الباجي -رحمه الله-: ((وقوله - صلى الله عليه وسلم - "ليس على المُحْرمِ في قتلهِنَّ جُناح" يقتضي إباحة ذلك على كل وجهٍ إلا ما خصه الدليل ، لأن الجناحَ اسمٌ واقعٌ على الإثم ، فكأنه قال لا إثم في قتلهن على المحرم ، فإذا أبيح قتلها فلا معنى للكفارة والجزاء بقتلها ، لأن الكفارةَ لا تستعمل في المباح ولا تَعلَّقَ لها به ، والذي ذهب إليه شيوخنا المالكيون من أهل العراق في تفسير هذا الحديث ، أن كل ما يَبتدئ بالضرر غالبا فإن للمحرم قتله ابتداءً ، في الحل والحرم ، ولا شيء عليه في ذلك)). (1)
6. قال ابن دقيقٍ العيد -رحمه الله-: ((نقل بعض الشارحين أن الشافعي -رحمه الله- قال: المعنى في جواز قتلهن كونهن مما لا يؤكل ، فكل ما لا يؤكل ، قتله جائزٌ للمحرم ، ولا فديةَ عليه ، وقال مالكٌ -رحمه الله-: المعنى فيه كونهن مؤذيات ، فكل مؤذٍ يجوز للمحرم قتله ، وما لا فلا)). (2)
7. قال الإمام علاء الدين الكاساني -رحمه الله-: ((وعلة الإباحة فيها للمحرم هي الابتداء بالأذى والعدو على الناس غالباً ، فإن من عادة الحدأة أن تغير على اللحم ، والعقرب تقصد من تلدغه وتتبع حسه وكذا الحية ، والغراب يقع على البعير وصاحبه قريب منه ، والفأرة تسرق أموال الناس ، والكلب العقور من شأنه العدو على الناس)). (3)
8. قال العلاَّمة البُهوتي -رحمه الله-: ((ولا تأثير لحرمٍ ولا إحرامٍ في محرَّمِ الأكلِ غير المتولد ، بين مأكولٍ وغيره ، وتغليباً للحظر)). (4) ثم قسَّمها -رحمه الله- إلى ثلاثة أقسام ، وأدرج المذكورات تحت بعضها.
** (فصلٌ) في الرد على الإشكال الثاني:
__________
(1) المُنتقى شرح الموطا (1/290).
(2) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (3/33).
(3) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (2/197).
(4) كشَّاف القناع على متن الإقناع (2/439).(1/8)
يتمثل الإشكال الثاني المتبادر في هذا الحديث: كون هذه الدواب تُقتَلُ لأنها فواسق !! .. مع أن الوسمَ بالفسق والهُدى لا يجوز على شيءٍ دون المكلفين من الجن والإنس !!
هذا الإشكال درأه عدد من السادة العلماء الأعلام -رحمهم الله- ، ومنهم:
1. قال فخر الدين الرازي -رحمه الله-: ((وثانيها: أنه - صلى الله عليه وسلم - وصفها بكونها فواسق ، ثم حكى بحلِّ قتلها ، والحكم المذكور عَقِيبَ الوصف المناسب مُشعرٌ بكون الحكم مُعلَّلاً بذلك الوصف ، وهذا يدل على أن كونها فواسق عِلَّةٌ لحِلِّ قتلها ، ولا معنى لكونها فواسق إلا كونها مؤذيةٌ ، ... فوجبَ جوازُ قتلِها ، وثالثها: أن الشارع خصَّها بإباحة القتل ، وإنما خصَّها بهذا الحكم لاختصاصها بمزيدِ الإيذاء ... فوجب القول بجوازِ قتلِها ، وإذا ثَبَتَ جوازُ قتلِها وَجَبَ أن لا تكون مضمونةً لما بيَّناه)). (1)
2. وقال القاضي أبو الوليد الباجي -رحمه الله-: ((قال القاضي أبو الحسن -رحمه الله- إنما سماها فواسق لخروجها عما عليه سائر الحيوان بما فيها من الضراوة التي لا يمكن الاحتراز منها على ما بينا ولا يكاد أن تعرى هي عنه)). (2)
3. وردَّ على هذا الإشكال الإمام النووي -رحمه الله- بقوله: ((وأما تسميةُ هذه المذكورات فواسق فصحيحةٌ جاريةٌ على وَفق اللغة , وأصل الفسق في كلام العرب: الخروج , وسُمِّيَ الرجل الفاسق لخروجه عن أمر الله تعالى وطاعته , فسميت هذه فواسق لخروجها بالإيذاء والإفساد عن طريق معظم الدواب , وقيل: لخروجها عن حكم الحيوان في تحريم قتله في الحرم والإحرام , وقيل: لأقوالٍ أُخَرَ ضعيفة لا نعتنيها)). (3)
__________
(1) كما في التفسير الكبير "المعروف بمفاتيح الغيب" (12/73) تفسير سورة المائدة.
(2) المُنتقى شرح الموطا (1/292).
(3) شرح النووي على صحيح مسلم (8/114).(1/9)
4. وفصَّل الحافظ ابن حجر -رحمه الله- ما جاء به النووي -رحمه الله - ، وقام بترجيح ما فيه حيث يقول: ((المعنى في وصف الدواب المذكورة بالفسق قيل: لخروجها عن حكم غيرها من الحيوان في تحريم قتله , وقيل: في حل أكله ، وقيل: لخروجها عن حكم غيرها بالإيذاء والإفساد وعدم الانتفاع , ومن ثم اختلف أهل الفتوى .. فمن قال بالأول: ألحق بالخمس كل ما جاز قتله للحلال في الحلِّ وفي الحَرَم , ومن قال بالثاني: ألحق ما لا يؤكل إلا ما نُهِيَ عن قتله ، وهذا قد يُجامع الأول , ومن قال بالثالث: يخص الإلحاق بما يحصل منه الإفساد . ووقع في حديث أبي سعيدٍ - رضي الله عنه - عند ابن ماجه: قيل له لم قيل للفأرة فويسقة؟ فقال: "لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استيقظ لها وقد أخذت الفتيلة لتحرق بها البيت" ، فهذا يُومئُ إلى أن سبب تسمية الخمس بذلك لكون فعلها يشبه فعل الفُسَّاق , وهو يُرَجِّحُ القولَ الأخير , والله أعلم)). (1)
5. قال الشوكاني -رحمه الله-: ((وصِفَت بالفواسق لخروجها عن حكمِ غيرها من الحيوان في تحريم قتله ، أو حِلِّ أكله ، أو خروجها بالإيذاء والإفساد)). (2)
__________
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري (4/37).
(2) نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار (5/96).(1/10)
6. ونختم هاهنا بالنقل عن الإمام الحافظ ابن قتيبة -رحمه الله- في معرض رده على هذا الإشكال المتبادر حيث يقول في كلامٍ أجودَ ما يكون إحكاماً وسبكاً: ((ونحن نقول إن المعتقِدَ أن الهوام والسباع والطير لا يجوز عليها عصيانٌ ولا طاعةٌ مخالفٌ لكتاب الله - عز وجل - وأنبيائه ورسله وكتب الله المتقدمة ، لأن الله - عز وجل - قد أخبرنا عن نبيه سليمان - عليه السلام - أنه (تفقَّد الطير فقال ماليَ لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين * لأعذِّبنَّه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتينِّي بسلطانٍ مبين) أي: بعذرٍ بيِّنٍ وحُجَّةٍ في غيبته وتخلُّفِه ، ولا يجوز أن يُعَذِّبَه إلا على ذنبٍ ومعصية !! ، والذنوب والمعاصي تسمى فسوقاً ، وما جاز أن يسمى عاصياً جاز أن يُسمَّى فاسقاً ، ثم حكى الله - عز وجل - عن الهدهد بعد أن اعتذر إلى سليمان فقال: (أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأٍ بنبأٍ يقين * إني وجدت امرأةً تملكهم وأوتيت من كل شيءٍ ولها عرشٌ عظيم * وجدتُها وقومَها يسجدون للشمس من دون الله وزَيَّن لهم الشيطان أعمالهم فصدَّهم عن السبيل فهم لا يهتدون * ألاَّ يسجدوا لله الذي يُخرجُ الخَبْءَ في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون) ، وهذا لو كان من أقاويل الحكماء بل لو كان من كلام الأنبياء لكان كلاماً حسناً ، وعِظةً بليغةً ، وحجةً بينةً ، فكيف لا يجوز على هذا مطيعٌ وعاصٍ وفاسقٌ ومهتدٍ ؟؟ ، وقد حكى الله - عز وجل - أيضاً عن النمل ما حكاه في هذه السورة فقال: (وَوَرِثَ سليمانُ داودَ وقال يا أيها الناس عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطير) فجعلها تنطق كما ينطق الناس ، وقال: (حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملةٌ يا أيها النمل) فجعلها تنطق كما ينطق الناس ، وقال: (وإن من شيءٍ إلا يُسَبِّحُ بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) وقال: (يا جبالُ أَوِّبي معه والطير) أي: سبِّحي)).(1)
__________
(1) تأويل مختلف الحديث (ص120-138) بتصرف يسير.(1/11)
ثم أورد -رحمه الله- أمثلةً أخرى من كتاب الله ومن التوراة تعضد ما ذهب إليه في فسق وهدى الدواب على نحو ما أتى به فيما سبق ، بعد ذلك بيَّن حقيقةَ أذى هذه الدواب الموسومة بالفسق وتعدِّي ضررها.
ثم ختم رده على هذا الإشكال -رحمه الله- ، بقوله:
((وكلُّ هذه قد يجوز أن تُسِمَّى "فواسق" لخروجها على الناس واعتراضِها بالمَضَارِّ عليهم ، فأين كانوا عن هذا المخرجِ إذ قَبُحَ عندهم أن ينسِبوا شيئاً من هذه إلى طاعةٍ أو معصيةٍ؟!)).(1)
وأول وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين
وكتب: مشهور بن مرزوق بن محمد المتقي الحرازي
عشيَّة السبت: غُرَّة جُمادى الآخرة من عام 1428هـ
__________
(1) المرجع السابق (ص142).(1/12)