بسم الله الرحمن الرحيم
( 5 )
إيقاظ الأفهام
في شرح
عمدة الأحكام
كتاب البيوع
بقلم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية / رفحاء
الموقع على الإنترنت
www.almotaqeen.net
كتاب البيوع
مقدمة
تعريفه :
لغة : أخذ شيء وإعطاء شيء ، وسمي بيعاً من الباع ، لأن كلاً من الآخذ والمعطي يمد يده .
البيع : هو مبادلة مال بمال على التأبيد غير ربا وقرض .
قولنا ( على التأبيد ) احترازاً من الإجارة ، فالإجارة مبادلة مال بمال ولكن ليس على سبيل التأبيد .
مثال : كأن أشتري منك هذا البيت لمدة سنة ، هذا ليس بيعاً لكن إجارة .
قولنا ( غير ربا ) فإنه ليس من البيع لقوله تعالى ( وحرم الربا ) ، مع أنه مبادلة .
مثال : كأن أعطيك ريال بريالين .
قولنا ( وقرض ) فالقرض لا يسمى بيعاً ، وإن كان فيه مبادلة ، لأن القصد من القرض الإرفاق والإحسان ، والبيع القصد منه المعاوضة .
والبيع جائز بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى ( وأحل الله البيع ) .
وقال تعالى ( وأشهدوا إذا تبايعتم ) .
وقال ( ( البيعان بالخيار ) متفق عليه .
وقال ابن قدامة : " وأجمع المسلمون على جواز البيع في الجملة ، والحكمة تقتضيه " .
البيع له صيغتان :
صيغة قولية - وصيغة فعلية
الصيغة القولية : ( وهي الإيجاب والقبول ) .
الإيجاب : اللفظ الصادر من البائع أو من يقوم مقامه كالوكيل .
والقبول : اللفظ الصادر من المشتري .
مثال : يقول البائع بعتك هذه السيارة { هذا إيجاب } ، فيقول المشتري قبلت { هذا قبول } .
الصيغة الفعلية : ( وتسمى المعاطاة ) .
وهي أن يدفع المشتري الثمن ويدفع البائع السلعة بدون لفظ بينهما .
( كما يحصل في الأسواق الحديثة حيث تأتي وتأخذ السلعة وتعطيه الثمن ) .
وقد اختلف العلماء في صحة البيع بهذه الصيغة :
والراجح أنه يصح البيع بهذه الصيغة ( وهذا مذهب المالكية والحنابلة واختاره النووي ) .(1/1)
لأن الله قال ( وأحل الله البيع ) فأطلق الله ، ولم يقل أحل البيع بصورة كذا ، أو بصورة كذا .
( هناك أقوال أخرى في المسألة : قيل : لا يصح البيع بهذه الصيغة وهذا مذهب الشافعي ، وقيل : يصح في الأشياء اليسيرة دون الأشياء النفيسة ) .
_ المعاطاة لها صور :
{ من الطرفين } كأن يكون السعر مكتوب على السلعة ، فيأخذ المشتري السلعة ويعطي البائع القيمة .
{ من المشتري } أن يقول البائع للمشتري خذ هذه بعشرة ( إيجاب ) فأخرج المشتري العشرة وأعطاه إياها ولم يقل قبلت
{ من البائع } أن يقول المشتري أعطني هذه بعشرة ، فأخذها صاحب المحل وأعطاه إياها ولم يقل بعت .
اختلف العلماء أي الكسب أفضل :
فقيل : الزراعة ، لأنه أقربها إلى التوكل .
وقال النووي : " أطيب المكاسب عمل الإنسان بيده " .
عن رفاعة . أن النبي ( سئل أي الكسب أطيب ؟ قال : ( عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور ) رواه البزار .
وفي صحيح البخاري . أن النبي ( قال : ( ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده ) .
وقال الحافظ : " أفضل ما يكسب من الأموال من الجهاد { أي الغنيمة } . فهو مكسب النبي ( ولما فيه من إعلاء كلمة الله " .
ورجحه ابن القيم ، وقال :
" والراجح أن أحلها الكسب الذي جعل منه رزق رسول الله ( وهو كسب الغانمين وما أبيح لهم على لسان الشارع ، وهذا الكسب قد جاء في القرآن مدحه أكثر من غيره ، وأثني على أهله ما لم يثن على غيرهم ، ولهذا اختاره الله لخير خلقه وخاتم أنبيائه ورسله ، حيث يقول : ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ) وهو الرزق المأخوذ بعزة وشرف وقهر لأعداء الله وجعل أحب شيء إلى الله فلا يقاومه كسب غيره " . { زاد المعاد : 5 / 793 } .
شروط البيع
يشترط لصحة البيع سبعة شروط هي :
أولاً : التراضي بين الطرفين :
قال تعالى ( إلا أن تكون تجارة عن تراض ) .(1/2)
وعن أبي سعيد . قال : قال رسول الله ( ( إنما البيع عن تراض ) رواه ابن حبان .
( فإن أكره بغير حق فلا يصح ، كما لو أن سلطاناً أرغم شخصاً على أن يبيع هذه السلعة لفلان ، فباعها فإن البيع لا يصح لأنها صدرت عن غير تراض ) .
( إن كان الإكراه بحق فالبيع صحيح ) .
مثال : كمن كان مديناً وطالبه الغرماء بالسداد وعنده سلع ، فيجبره القاضي على البيع لسداد ديونه ، فإن أبى أن يبيع باع الحاكم أمواله وسدد .
ثانياً : أن يكون العاقد جائز التصرف :
( وهو : الحر ، البالغ ، العاقل ، الرشيد ) .
( الحر ) فالمملوك لا يجوز بيعه ولا شراؤه { أي أنه لا يبيع ولا يشتري } إلا بإذن سيده ، لأن العبد لا يملك ، فما في يد العبد ملك لسيده .
( البالغ ) فالصغير دون التمييز لا يصح بيعه بالإجماع لأنه لا يتأتى منه القصد .
وأما المميز دون البلوغ ، فمحل خلاف بين العلماء على قولين :
قيل : يصح تصرفه ، وقيل : لا يصح ، لكن لوليه أن يأذن له بالتصرف في الأشياء اليسيرة ليتدرب ، وهذا القول هو الصحيح .
( العاقل ) فالمجنون لا يصح بيعه لعدم العقل الذي يحصل به التراضي والقصد .
( الرشيد ) وهو الذي يحسن التصرف في ماله ، وضده السفيه فلا يصح تصرفه .
ثالثاً : أن يكون العقد من مالك أو من يقوم مقامه :
عن حكيم بن حزام . ( أنه جاء إلى النبي ( يسأله فقال : إنه يأتيني الرجل يسألني البيع ليس عندي فأبيعه منه ثم أبتاعه من السوق . فقال : لا تبع ما ليس عندك ) رواه أحمد .
وقال ( ( لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيبة نفس منه ) .
فإذا قلنا بجواز بيع الإنسان لملك غيره أدى ذلك إلى أن يستحل المال فيأكل المال المدفوع في مقابل ذلك المملوك بدون وجه حق .
إذا كان المبيع ليس عنده وقت العقد فإن البيع لا يصح ( كما يفعله بعض التجار أو البنوك يبيع السلعة قبل أن يملكها ، فهذا لا يجوز ) .
( أو من يقوم مقامه كالوكيل : وهو من أذن له بالتصرف في حال الحياة ) .(1/3)
مسألة : بيع ( تصرف ) الفضولي :
هو الذي يبيع ملك غيره بغير إذنه أو يشتري له بغير إذنه .
فقيل : لا يصح تصرف الفضولي ( وهذا مذهب الشافعي لحديث حكيم بن حزام السابق ، ولأنه قد باع ما ليس عنده ، وباع ملك غيره وليس مالكاً للمعقود عليه ولا مأذوناً له فيه ،
وقيل : يصح إذا أجازه صاحب الحق ( وهذا مذهب المالكية _ لحديث عروة . أن النبي ( أعطاه ديناراً يشتري له به شاة فاشترى له به شاتين فباع إحداهما بدينار فجاءه بدينار وشاة ، فدعا له بالبركة في بيعه ) رواه البخاري
وجه الدلالة : أنه لما اشترى الشاة ثبتت ملكية الشاة للنبي ( ، فجاء وتصرف فيها وباع ، فلما باعها أصبح في هذه الحالة تصرفه تصرفاً فضولياً ) .
وهذا القول هو الصحيح .
رابعاً : أن يكون مقدوراً على تسليمه :
لحديث أبي هريرة . ( أن النبي ( نهى عن بيع الغرر ) رواه مسلم .
لأن قبض المبيع واستيلاء العاقد عليه هو المقصود من البيع ، وعلى هذا لا يجوز بيع غير المقدور على تسليمه لفوات الغرض المقصود ، ولأنه غرر .
فلا يجوز بيع العبد الآبق { أي الشارد } ، ولا الجمل الشارد ، ولا الطير في الهواء ، ولا السمك في الماء .
لأنه لا يدرى هل يتمكن من إمساكه أم لا .
( الغرر ) ما خفيت عاقبته .
( السمك الذي يكون في بعض برك البساتين وهو مرئي فهذا يجوز بيعه لأنه يسهل أخذه ، لكن السمك الذي في الأنهار أو البحار لا يصح بيعه ) .
خامساً : أن تكون العين مباحة النفع من غير حاجة .
هذا الشرط تضمن ثلاثة شروط :
أن تكون العين فيها نفع ، وأن يكون النفع مباحاً ، وأن تكون الإباحة بلا حاجة .
( مباحة ) خرج به محرمة النفع ، مثل : آلات اللهو ، فإنه لا يجوز بيعها وكذلك الخمر لأن منفعته محرمة .
عن جابر . قال : قال رسول الله ( ( إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ) متفق عليه
( نفع ) خرج ما لا نفع فيه كالحشرات ، فإنه لا يجوز بيعها .(1/4)
( لأن بذل المال فيما لا نفع فيه يعتبر سفه ) .
سادساً : أن يكون المبيع معلوماً برؤية أو صفة :
لأن النبي ( نهى عن بيع الغرر ، وإذا لم يكن معلوماً كان فيه غرر وجهالة .
فالرؤية فيما يعلم بالرؤية ، والشم فيما يعلم بالشم .
فلا يصح بيع حمل في بطن ، لأن الحمل في البطن مجهول { ذكر أو أنثى ، حي أو ميت } .
( الجهالة مفضية إلى النزاع ، والشريعة راعت سد مفسدة النزاع ) .
( إن بِيْع الحمل مع البهيمة فإنه يصح بيع الحامل ، والحمل هنا يثبت تبعاً والقاعدة ( يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً ) .
سابعاً : أن يكون الثمن معلوماً قدره وصفته للطرفين :
وهل هو حال أو مؤجل ، لأن الرسول ( نهى عن بيع الغرر ، وإذا كان الثمن مجهولاً حصل الغرر والخداع .
فائدة :
( المال يطلق على كل شيء له قيمة سواء كان نقداً {كالذهب والفضة} أو كان منقولاً {كالكتب والأقلام والثياب ...} وهكذا الدواب والبهائم ، ولذلك قال ( : ما من صاحب مال لا يؤدي زكاتها .. ثم ذكر الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم ، فاعتبر الإبل والبقر والغنم مالاً ، وفي حديث الأعمى { أمسك عليك مالك } وقد كان له واد من الغنم ) .
( قال العلماء : سمي المال مالاً لأن النفس تميل إليه ) .
باب الخيار
253- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ( أَنَّهُ قَالَ : (( إذَا تَبَايَعَ الرَّجُلانِ , فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَكَانَا جَمِيعاً , أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ . فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ . فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ )) .
254 - عن حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا - أَوْ قَالَ : حَتَّى يَتَفَرَّقَا - فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا . وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا )) .(1/5)
------------------------------------
معاني الكلمات :
البيعان : أي البائع والمشتري ، وأطلق عليهما ذلك من باب التغليب .
بالخيار : الخيار هو طلب خير الأمرين من إمضاء العقد أو فسخه .
ما لم يتفرقا : أي بأبدانهما على القول الراجح .
وجب البيع : ثبت البيع .
الفوائد :
1- في هذا الحديث إثبات خيار المجلس ( وهو الخيار الذي يثبت للمتعاقدين ما داما في المجلس ، أي مجتمعين ).
وإلى هذا ذهب جماهير العلماء ، كالشافعي وأحمد .
قال ابن قدامة : " وهو مذهب أكثر أهل العلم " .
قال النووي : " وبهذا قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم " .
لحديث الباب .
وذهب الإمام مالك وجماعة إلى أنه لا خيار للمجلس ، بل يلزم العقد بالإيجاب والقبول .
وقد أجاب هؤلاء عن حديث الباب بأجوبة كثيرة كلها ضعيفة .
ولذلك قال النووي : " وهذه الأحاديث الصحيحة ترد على هؤلاء ، وليس لهم عنها جواب صحيح " .
2- المراد بقوله : ( ما لم يتفرقا ) أي بأبدانهما .
قال بعض العلماء : " المراد بالتفرق ، تفرق الأقوال ، وهذا ضعيف " .
3- ضابط التفرق ، لم يحدد ، فيرجع فيه إلى العرف ، والقاعدة : [ كل ما ورد مطلقاً في لسان الشارع ، ولم يحدد ، فإنه يرجع إلى تحديده إلى العرف ] .
أمثلة :
- إذا كانا في بيت ، فبخروج أحدهما منه .
- إذا كانا في غرفة ، فبخروج أحدهما منها .
4- الحكمة من خيار المجلس :
أن الإنسان قبل أن يملك الشيء تتعلق به نفسه تعلقاً كبيراً ، فإذا ملكه زالت تلك الرغبة ، لذلك شرع خيار المجلس .
5- يثبت البيع إذا تفرقا بأبدانهما بعد البيع .
6- إذا أسقط المتبايعان خيار المجلس بعد العقد ، أو شرطا أن لا خيار بينهما ، صح ولزم البيع بمجرد العقد ، لأن الحق لهما في خيار المجلس وقد أسقطاه .
إذاً يسقط خيار المجلس :
- إن نفياه قبل ثبوته ، أو أسقطاه بعد ثبوته .
- إن أسقط أحدهما بقي خيار الآخر ، بأن قال : أسقطت خياري ، فإنه يبقى خيار الآخر .(1/6)
7- يثبت خيار المجلس في البيع ، والإجارة .
فإذا اتفقت أنا وأنت على أن أؤجرك بيتي لمدة سنة ، فما دمنا في المجلس فلكل واحد منا الخيار ، لأن الإجارة كالبيع ، فهي عقد معاوضة .
8- يحرم لأحد المتبايعين أن يقوم خشية الاستقالة .
لقوله ? : ( ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله ) . رواه أبو داود
س ) - ما الجواب عن فعل ابن عمر : أنه كان إذا بايع رجلاً فأراد أن لا يقيله قام فمشى هنيّة ثم رجع إليه ؟
الجواب :
أ- هذا اجتهاد منه ، مدفوع بالحديث المتقدم الذي ينهى عن ذلك .
ب- أو يحمل على أنه لم يبلغه الخبر .
9- وجوب الصدق والبيان في البيع ةالشراء .
فالصدق : أي فيما يصفان السلعة به من الصفات المرغوبة .
والبيان : أي فيما يصفان به السلعة من الصفات المكروهة .
مثال : لو باع شخص سيارة وقال : هذه السيارة جديدة ونظيفة ، ومدحها بما ليس فيها ، فهذا كذب .
مثال : وإذا باع السيارة وفيها عيب ولم يخبره بالعيب ، فهذا كتم ولم يبيّن .
10- أن الصدق والبيان سبب لحلول البركة ، والكذب والكتمان سبب لمحق بركة البيع .
11- وجوب بيان عيب السلعة ، لأن البيان سبب لحلول البركة ، ولأن الكتمان غش ، وقد قال ( : ( من غشَّ فليس منّا ).
12- فضل الصدق ، والصدق له فضائل :
أولاً : أنه سبب للطمأنينة .
كما في حديث الباب : ( فإن الصدق طمأنينة ) .
ثانياً : هو المميز بين المؤمن والمنافق .
قال ( : ( آية المنافق ثلاث : ... وإذا حدث كذب ... ) .
ثالثاً : لا ينفع يوم القيامة إلا الصدق :
قال تعالى : ( هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ( .
رابعاً : الصدق أصل كل بر .
قال ( : ( إن الصدق يهدي إلى البر ) متفق عليه .
خامساً : أن مجاهدة النفس على تحري الصدق توصلها إلى مرتبة الصديقية .
قال ( : ( .. ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ) .(1/7)
قال الشيخ السعدي : " هذا الحديث أصل في بيان المعاملات النافعة ، والمعاملات الضارة ، وأن الفاصل بين النوعين : الصدق والبيان .
فمن صدق في معاملته ، وبيّن جميع ما تتوقف عليه المعاملة من الأوصاف المقصودة ، ومن العيوب والنقص ، فهذه معاملة نافعة في العاجل : بامتثال أمر الله ورسوله ، والسلامة من الإثم ، ونزول البركة في معاملته ، وفي الآجلة : بحصول الثواب ، والسلامة من العقاب .
ومن كذب وكتم العيوب ، وما في المعقود عليه من الصفات ، فهو - مع إثمه - معاملته ممحوقة البركة .
ومتى نزعت البركة من المعاملة خسر صاحبها دنياه وأخراه " . أ.ه
فائدة :من أنواع الخيار خيار الشرط :
هو أن يشترط المتبايعان في العقد مدة معلومة ولو طويلة .
هذا الشرط دل عليه عموم قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ( .
وحديث : ( المسلمون على شروطهم ) .
13- قوله : " أن يشترطاه في العقد " أي في صلب العقد ، فيقول : بعتك هذا الشيء على أن لنا الخيار لمدة خمسة أيام .
وقال بعض العلماء : " يجوز شرط الخيار بصلب العقد ، وفي أثناء خيار المجلس " .
14- قوله : " أن تكون المدة معلومة " فإن كانت مجهولة لا تصح ، قال : بعتك بيتي على أن لي الخيار حتى أشتري بيتاً ، هذا فيه جهالة ، ويحصل فيه نزاع .
15- قوله : " ولو كانت المدة طويلة " هذا صحيح فيما إذا كان الشيء يبقى ، لكن فيما لا يبقى تلك المدة ، مثال : اشتريت منك خضار ، وقلت على أن لي الخيار لمدة ستة أشهر .
قال بعضهم : يصح ، وقالوا : إذا خاف فسادها تباع ويحفظ الثمن . لكن هذا فيه إشكال ، لأنه إذا باعها بأقل من الثمن رجع المشتري ، وإن باع بأكثر رجع البائع .
ولذلك قال بعض الأصحاب : أنه إذا كانت المدة الطويلة يخشى فساد المعقود عليه فلا تصح ، وهذا القول وجيه ، لأن الذي يخشى فساده لا يمكن أن يضرب له مدة يفسد فيها ، لأن هذا شبه تلاعب .
16- متى يبطل خيار الشرط :(1/8)
أ- إذا مضت مدة الخيار .
ب- إذا أسقطاه ، فلو قدر أنهما تبايعا ، على أن يكون الخيار لمدة عشرة أيام ، وبعد مضي خمسة أيام اتفقا على إلغاء الشرط ، فإنه يجوز ويسقط الشرط ، لأن الحق لهما .
5- يثبت خيار الشرط في :
أ- البيع .
ب- الإجارة بالذمة ، أجرتك على أن تبني لي هذا الجدار .
6- إن شرطاه لصاحبهما ، لأحدهما دون صاحبه صح ، فيقول البائع : بعتك هذا البيت على أن لي الخيار لمدة شهر ، فيقول المشتري : قبلت .
7- من له الخيار فإن له الفسخ سواء كان الآخر حاضراً أو غائباً .
إذا كان حاضراً فالأمر واضح ، وإذا كان غائباً فإنه يُشهّد ويقول : إني فسخت العقد .
ومن له الخيار فإن له الفسخ ولو مع سخط الآخر وزعله .
6- النماء المنفصل زمن الخيار : أي المنفصل عن المبيع فهو للمشتري . مثاله :
باع إنسان شاة واشترط هذا المشتري الخيار لمدة أسبوع اللبن نماء منفصل ، فهو للمشتري .
النماء المتصل ، قال بعضهم : يكون للبائع تبعاً للعين .
وذهب بعض العلماء : إلى أن النماء المتصل للمشتري ، لأنه حصل بسببه ، وهذا القول هو الراجح .
مثال : اشتريت عبداً واشترطت الخيار لمدة ستة شهور ، فعلمته القراءة والكتابة في هذه المدة ، فقال البائع : رجعت عن البيع ، العبد الآن يكتب وقد زادت قيمته والكتابة نماء متصل .
فعلى القول الأول يرجع العبد للبائع وليس للمشتري شيء ، وهذا رأي في المذهب .
وعلى القول الراجح : يأخذ البائع العبد ، وتقدر قيمته وهو لا يعرف القراءة والكتابة ، وقيمته وهو متصف بهذه الزيادة ، والفرق بين القيمتين للمشتري .
وعلى هذا فيكون النماء المتصل والمنفصل للمشتري .
7- يحرم ولا يصح تصرف أحدهما في المبيع زمن الخيار ، لأن تصرف أحدهما في المبيع يستلزم سقوط حق الآخر ، يستثنى من ذلك أحوال :
1) إن أذن له صاحب الحق .
2) في حال تجربة المبيع ، لأنه قد يكون قصد المشتري بالخيار لأجل التجربة .
8- إذا مات أحدهما زمن الخيار :(1/9)
قال بعض العلماء : من مات منهما زمن الخيار بطل خيارهما لأن خياره يتعلق به شخصاً ، فإذا مات بطل .
وقال بعض العلماء : أنه لا يبطل خياره بموته ، لأنه إذا مات انتقل الملك إلى الورثة ، فلا يكون الموت مبطلاً .
وهذا القول هو الراجح .
أما إذا كان الموت في خيار المجلس ، فهنا يتوجه القول بأن من مات منهم بطل خياره ، لأن الرسول ( يقول في الحديث : ( ما لم يتفرقا ) والموت أعظم فرقة .
بابُ مانُهِيَ عنْهُ منَ البيوعِ
255 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ( : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( نَهَى عَنْ الْمُنَابَذَةِ - وَهِيَ طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ بِالْبَيْعِ إلَى الرَّجُلِ قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبَهُ , أَوْ يَنْظُرَ إلَيْهِ - وَنَهَى عَنْ الْمُلامَسَةِ . وَالْمُلامَسَةُ : لَمْسُ الثَّوْبِ وَلا يُنْظَرُ إلَيْهِ )) .
------------------------------------
الفوائد :
1- في هذا الحديث النهي عن بيع المنابذة والملامسة ، وهذا النهي نهي تحريم .
2- تفسير بيع المنابذة :
فسر بالحديث : أن يطرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل أن يقلبه أو ينظر إليه .
مثال : يقول البائع للمشتري : أي ثوب نبذته فهو لك بعشرة .
قد يكون هذا الثوب الذي نبذه إليه لا يساوي عشرة ، وقد يساوي أكثر ، وقد يساوي أقل .
فالمشتري و البائع أحدهما غانم والآخر غارم .
وفسرها بعض العلماء بنبذ الحصاة .
كأن يقول : ارم هذه الحصاة فعلى أي شيء تقع فهو لك بعشرة .
فربما تقع على شيء لا يساوي إلا أقل من عشرة، وقد تقع على شيء يساوي مائة، فيكون أحد المتعاقدين بين الغنم والغرم .
بيع الملامسة :
من صورها : أن يجعل مجرد اللمس للمبيع قائماً مقام النظر والعلم به .
كأن يقول البائع : أي ثوب لمسته فهو لك بعشرة ، فقد يلمس المشتري ثوباً يساوي عشرة ، وقد يلمس ثوباً يكون أقل من عشرة ، وقد يكون يساوي مائة .
3- العلة من التحريم :(1/10)
الجهالة والغرر ، ولدخولهم تحت الميسر فيكون : أحدهما إما غانماً أو غارماً .
4- استدل به على بطلان بيع الأعمى ، لأنه لا يرى ، وفيه محذور الملامسة والمنابذة .
والصحيح أنه إذا وصف له المبيع فعرفه صح ، وإلا فلا .
5- النهي عن بيع الغرر .
قال شيخ الإسلام : " الغرر هو المجهول العاقبة " .
وقال ابن القيم : " الغرر هو ما تردد بين الحصول والفوات ، وعلى القاعدة الأخرى : هو ما طويت معرفته وجهلت
عينه " .
6- قال بعض العلماء : إنما سمي بيع ملامسة ، لأنه لا حظ له من النظر ، ولا لمعرفة صفاته إلا بلمسه ، واللمس لا يعرف به المبيع مما يحتاج إلى معرفته من صفات المبيع .
7- أن من شروط البيع العلم بالمبيع برؤيته أو صفته أو نحو ذلك .
256 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( لا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ , وَلا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ . وَلا تَنَاجَشُوا . وَلا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ . وَلا تُصَرُّوا الْغَنَمَ . وَمَنْ ابْتَاعَهَا فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ , بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا . وَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا , وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعاً مِنْ تَمْرٍ )) .
وَفِي لَفْظٍ : (( هُوَ بِالْخِيَارِ ثَلاثَاً )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
لا تلقوا : أصلها : لا تتلقوا ، فحذفت إحدى التأنيثتين تحقيقاً .
الركبان : وهم من يقدمون للبلد لبيع سلعهم ، والتعبير بالركبان خرج مخرج الغالب ، وإلا فهو شامل للمشاة .
ولا تناجشوا : النجش أن يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها .
الفوائد :
1- في هذا الحديث بعض البيوع المحرمة :
أولاً : تلقي الركبان .
أولاً : النهي عن تلقي الركبان ، وهذا النهي للتحريم وعليه جمهور العلماء .
فيحرم أن يتلقاهم أحد فيشتري منهم سلعهم .
ثانياً : الحكمة من النهي :
لأن فيه ضرراً على الركبان ، وعلى أهل البلد .(1/11)
أما الركبان فإن المتلقي لهم سيأخذ السلعة بثمن أقل من ثمن السوق ، فيحصل لهم الخديعة والغبن .
قال النووي : " سبب التحريم إزالة الضرر عن الجالب وصيانته عن الخديعة " .
وأما أهل البلد فإن من تلقى هؤلاء فسوف يشتري منهم برخص ، ويكون شراؤه سبب لرفع الأسعار ، بخلاف ما لو هبطوا بها الأسواق ، فإنه سوف يحصل منهم تنشيط لأهل البلد وربما نزلت الأسعار مع كثرة ما جلب .
ثالثاً : هل البيع صحيح أم فاسد ؟
اختلف العلماء على قولين :
القول الأول : البيع صحيح .
وهذا مذهب الجمهور ورجحه الشوكاني .
لقوله ( : ( ... فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار ) .
قالوا : ثبوت الخيار للسيد فرع عن صحة البيع .
ولأن النهي لا يرجع إلى نفس العقد .
القول الثاني : أن البيع فاسد .
قال الشوكاني : " وقال به بعض المالكية وبعض الحنابلة " .
والراجح الأول .
رابعاً : إذا قدم الراكب السوق ، وعلم أنه قد غبن ، فله الخيار .
لقوله ( : ( لا تلقوا الجلب ، فمن تلقى فاشترى منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار ) . رواه مسلم
[ سيده : المراد المُتَلَّقَىَ ) .
ثانياً : البيع على بيع أخيه
أولاً : تحريم أن يبيع الإنسان على بيع إنسان آخر .
لقوله ( : ( ولا يبع بعضكم على بيع بعض ) .
ثانياً : مثال ذلك :
أن يشتري شخص من إنسان سلعة بعشرة ، فيأتيه آخر ويقول : أعطيك مثلها بتسعة ، أو يقول : أعطيك أحسن منها بعشرة .
فهذا حرام ولا يجوز .
ثالثاً : أنه يحرم الشراء على شراء الآخر .
مثال ذلك : علمتُ أن زيداً باع على عمر بيته بـ 100 ، فذهبت إلى زيد وقلت له : يا فلان ، أنت بعت بيتك على عمر بـ 100 ، أنا سأعطيك 120 .
رابعاً : هل يجوز البيع على بيع الكافر ؟
اختلف العلماء على قولين :
القول الأول : يجوز .
لقوله ( : ( ولا يبع الرجل على بيع أخيه ) والكافر ليس أخاً .
القول الثاني : لا يجوز .
وهذا مذهب جماهير العلماء .(1/12)
قالوا : وأما قوله : ( لا يبع الرجل على بيع أخيه ) فهذا قيد أغلبي لا مفهوم له .
خامساً : الحكمة من النهي :
قطع العدوان على الغير ، واجتناب ما يؤدي إلى العداوة والبغضاء .
سادساً : ما حكم هذا البيع ؟
اختلف العلماء :
القول الأول : أنه صحيح مع الإثم .
وهذا مذهب الجمهور كما ذكر ذلك الشوكاني .
القول الثاني : أنه باطل .
وهذا مذهب المالكية والحنابلة ورجحه ابن حزم .
ثالثاً : النجش
أولاً : تعريفه :
هو أن يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها .
وهو حرام .
لحديث الباب : ( لا تناجشوا ) .
ولحديث ابن عمر : ( نهى رسول الله ( عن النجش ) . متفق عليه
ثانياً : ما هدف الناجش ؟
1- أن ينفع البائع .
2- أن يضر المشتري .
3- أو الأمرين جميعاً .
ثالثاً : لو وقع البيع فإن البيع صحيح عند أكثر العلماء .
لأن المنهي عنه هو الفعل لا العقد .
رابعاً : من وقع عليه النجش فإن له الخيار إذا زاد الثمن عن العادة .
الخيار بين : أن يرد السلعة ويأخذ الثمن ، أو يبقيها بثمنها الذي استقر عليه العقد .
رابعاً : بيع الحاضر للباد
أولاً : الحاضر هو المقيم في المدن والقرى .
والباد هو ساكن البادية .
وقد عبر بعض أهل العلم البادي بأعم من ذلك ، كما قال ابن قدامة : " البادي ها هنا من يدخل البلدة من غير أهلها سواء كان بدوياً أو من قرية أو بلدة أخرى " .
- إذاً يكون ذكر البادي مثالاً لا قيداً .
ثانياً : وجاء في رواية أن طاووس سأل ابن عباس : ما معنى لا يبع حاضر لباد ؟ قال : لا يكون له سمساراً .
[ السمسار هو الذي يبيع لغيره بأجرة ]
ثالثاً : بيع الحاضر للباد حرام وهو مذهب جماهير العلماء .
لدلالة الحديث على ذلك .
وذهب مجاهد وأبو حنيفة وأصحاب الرأي أن البيع صحيح .(1/13)
قالوا : أن النهي كان في أول الإسلام لما كان عليهم من الضيق في ذلك ، ثم نسخ بعموم قوله : " الدين النصيحة " . لكن الجمهور تمسكوا بالأحاديث الكثيرة في هذا الباب ، وأجابوا عن حديث [ الدين النصيحة ] بأنه عام ، والنهي عن بيع الحاضر للباد خاص ، والخاص يقضي على العام .
وهذا هو الصحيح .
وقد جمع الإمام البخاري بين أدلة الفريقين ، وجعل النهي خاص عمن يبيع بالأجرة كالسمسار ، وأما من ينصحه ويعلمه بأن السعر كذا وكذا ، فلا يدخل في النهي عنده .
لكن قال الشوكاني : " البقاء على ظواهر النصوص هو الأولى ، فيكون بيع الحاضر للبادي محرماً على العموم وسواء كان بأجرة أم لا " .
رابعاً : الحكمة من النهي :
قال ابن قدامة : " المعنى في ذلك أنه متى ترك البدوي يبيع سلعته اشتراها الناس برخص ، ويوسع عليهم السعر ، فإذا تولى الحاضر بيعها ، وامتنع من بيعها إلا بسعر البلد ، ضاق على البلد ، وقد أشار النبي ( في تعليله إلى هذا المعنى " .
جاء في رواية : ( لا يبع حاضر لباد ، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض ) .
خامساً : المشهور من مذهب الحنابلة إلى أن بيع الحاضر للباد باطل بشروط :
1- أن يكون بالناس حاجة إلى السلعة .
2- أن يكون جاهلاً بسعر يومها ، فإن كان يعلم السعر فلا حرج أن يبيع حاضر لبادي .
3- أن يقصده الحاضر ليبيع له ، أما إذا قصده البادي فلا بأس أن يبيع .
لكن جمهور العلماء على صحة البيع مع الإثم .
أما بالنسبة للشروط التي ذكرها الحنابلة ، فالأخذ بظاهر الحديث أولى .
قال الشوكاني : " لا يخفى أن تخصيص العموم بمثل هذه الأمور من التخصيص بمجرد الاستنباط " .
سادساً : تصرية الغنم
أولاً : يحرم تصرية الغنم .
وكانوا يجمعون لبنها في ضرعها ليظن من رآها أنها كثيرة اللبن ، فيشتريها بزيادة ، فنهاهم النبي ( عن ذلك لأن ذلك غش وخداع وتدليس وإيذاء للحيوان .
قال ( : ( من غشنا فليس منّا ) .(1/14)
ثانياً : من اشتراها بعد التصرية فهو بالخيار ثلاثة أيام إذا علم بالتصرية .
الخيار بين أمرين :
- أن يمسكها بلا أرش .
- وإن شاء ردها إلى البائع وصاعاً من تمر .
ثالثاً : يردها ويرد معها صاعاً من تمر .
وهذا مذهب الشافعي وأحمد ، لوروده في الحديث : ( وصاعاً من تمر ) .
وقال مالك : " يرد صاعاً من قوت البلد " .
والراجح الأول .
والمصراة قد تكون من البقر أو الإبل أو الغنم ، والجميع يمكن تصريته .
هذا التمر عوض عن اللبن الذي كان في ضرعها .
رابعاً : قدر النبي ( بالصاع ، مع أن اللبن قد يكون كثيراً ، وقد يكون قليلاً قطعاً للنزاع .
بيع حبل الحبلة
257 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ . وَكَانَ بَيْعاً يَتَبَايَعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الْجَزُورَ إلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ . ثُمَّ تُنْتَجَ الَّتِي فِي بَطْنِهَا . قِيلَ : إنَّهُ كَانَ يَبِيعُ الشَّارِفَ - وَهِيَ الْكَبِيرَةُ الْمُسِنَّةُ - بِنِتَاجِ الْجَنِينِ الَّذِي فِي بَطْنِ نَاقَتِهِ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
نهى : النهي طلب الكف على وجه الاستعلاء .
حَبَل الحَبَلة : بفتح الباء ، والحبل : الحمل .
الجزور : هو البعير .
تُنتج : بضم التاء الأولى ، أي تلد .
الفوائد :
1- تحريم بيع حبل الحبلة .
وقد اختلف العلماء في تفسيره على تفسيرين :
التفسير الأول : هو البيع بثمن مؤجل إلى أن تلد الناقة ويلد ولدها .
قال النووي : " وقد ذكر مسلم في هذا الحديث هذا التفسير عن ابن عمر ، وبه قال مالك والشافعي ومن تابعهم " .
التفسير الثاني : وهو بيع ولد الناقة الحامل في الحال .(1/15)
قال النووي : " وهذا تفسير أبي عبيدة معمر بن المثنى وصاحبه أبي عبيد القاسم بن سلام ، وآخرين من أهل اللغة ، وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية ، وهذا أقرب إلى اللغة ، لكن الراوي هو ابن عمر وقد فسره بالتفسير الأول وهو
أعرف " .
قال النووي : " وهذا البيع باطل على التفسيرين " .
2- العلة في النهي عن هذا البيع :
أما على التفسير الأول : فللجهالة في الأجل .
مثال : باع عليه شخص شيء ، وأجل الثمن فقال : لا تسلمني الثمن إلا أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها .
وأما على التفسير الثاني : فلأنه بيع معدوم ومجهول وغير مملوك وغير مقدور على تسليمه .
وقد نقل ابن عبد البر إجماع العلماء على عدم جواز هذه الصورة من البيوع .
فقد يكون الجنين الذي في بطن الناقة ذكراً ، وقد يكون أنثى ، وقد يخرج حياً وقد يخرج ميتاً ، وقد يكون واحداً ، وقد يكون متعدداً .
3- النهي عن كل بيع فيه جهالة سواء كان في عين المبيع أو ثمن المبيع أو الأجل .
4- تحريم بيع الحمل .
قال النووي : " أجمع العلماء على بطلان بيع الجنين " .
للجهالة .
- لكن يجوز بيع الحامل ، لأن الحمل حينئذٍ تبع ، وإذا كان تبعاً [ فإنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً ] .
ومثله : لو باع اللبن في الضرع ، فإنه لا يصح ، لكن لو باع شاة فيها لبن صح .
5- أن المعاملات التي كان يتعامل بها أهل الجاهلية على الإباحة ما لم ينص الشارع على تحريمها ، لأن الأصل في المعاملات الحل والإباحة إلا بدليل .
6- يشترط أن يكون المبيع معلوماًً ، وثمنه معلوماً ، وأجله - إن كان مؤجلاً - معلوماً .
مثال : بعتك هذا الشيء بـ 100 إلى أن يقدم زيد ، فالأجل هنا مجهول ، فالبيع صحيح والشرط فاسد ، فإذا فسد شرط التأجيل فإن البيع يبقى حالاً ، وللمشتري الخيار بين إمضاء البيع ودفع الثمن حالاً ، أو فسخ البيع .
7- أهل الجاهلية : المراد ما كان قبل الإسلام ، وسموا بذلك لغلبة الجهل عليهم .(1/16)
بيع الثمار قبل بدو الصلاح
258 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُهَا . نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ )) .
259 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ( : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ قِيلَ : وَمَا تُزْهِي ؟ قَالَ : حَتَّى تَحْمَرَّ . قَالَ : أَرَأَيْتَ إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ , بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ ؟ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
صلاحها : صلاح كل شيء بحسبه ، منها ما يكون صلاحه باللون ، ومنها ما يكون بالطعم ، ومنها ما يكون باللمس .
تزهي : قال ابن الأثير : " زها النخل يزهو إذا ظهرت ثمرته " .
الفوائد :
1- في الحديث النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها ، وهذا النهي للتحريم .
2- الحكمة في النهي قبل بدو صلاحها : أنه في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها غرراً وخطراً ظاهراً يفضي إلى المفاسد الكثيرة بين المسلمين من إيقاع التشاحن والتشاجر وأكل مال الغير بغير حق .
فالبائع إذا باع قبل بدو الصلاح وتعجل البيع فإنه ستقل قيمتها عما لو أخر البيع إلى ما بعد الصلاح والنضج فيكون في ذلك خسارة عليه .
وأما المشتري : ففي ذلك حفظ لماله من الضياع والمخاطر والتغرير ، لأن الثمرة قد تتلف وتنالها الآفات قبل الانتفاع بها فيذهب ماله ، فنهي عن ذلك تحصيناً للأموال من الضياع وحفظاً للحقوق ، وقطعاً للمخاصمات والمنازعات بين المتبايعين .
3- وقد قسم ابن قدامة بيع الثمر قبل بدو صلاحه إلى أقسام ، فقال رحمه الله :
" لا يخلوا بيع الثمرة قبل بدو صلاحها من ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يشتريها بشرط التبقية ، فلا يصح البيع إجماعاً ، لأن النبي ( نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمشتري ، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه .(1/17)
القسم الثاني : أن يبيعها بشرط القطع في الحال ، فيصح بالإجماع ، لأن المنع إنما كان خوفاً من تلف الثمرة وحدوث العاهة عليها قبل أخذها ، وهذا مأمون فيما يقطع فصح بيعه كما لو بدا صلاحه .
القسم الثالث : أن يبيعها مطلقاً ، ولم يشترط قطعاً ولا تبقية ، فالبيع باطل ، وبه قال مالك والشافعي ، وأجازه أبو حنيفة.
ثم قال مرجحاً رأي الجمهور في حكم هذا القسم الأخير : " ولنا أن النبي ( أطلق النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها فيدخل فيه محل النزاع " .
4- يكون بيع الثمر بعد بدو صلاحه ، وبدو صلاحه جاء بيانه في بعض الأحاديث :
فقد جاء في حديث : ( حتى يزهو ) .
وفي رواية : ( حتى يبدو صلاحها ) .
وأجمع هذه الألفاظ حديث جابر ، وفيه قال : ( نهى النبي ( عن بيع الثمر حتى يطيب ) .
فالضابط أن يطيب أكله ويطهر نضجه .
5- لو وقع العقد على هذا البيع لكان البيع باطلاً ، لأن النهي عائد إلى ذات المنهي عنه . لكن استثنى العلماء :
إذا باعه بشرط القطع ، لأن عاهته مضمونة ، لأنه سيقطع الآن قبل أن يتعرض للعاهات ، وهذا ليس من إضاعة المال لأنه يمكن أن يجعله علفاً لبهائمه ، لكن لو علمنا أنه سيأخذه ليرميه في الأرض ، فهذا يمنع .
6- لو باع البستان جميعاً :
فقيل : لا بد أن يكون اللون في كل شجرة لوحدها .
وقيل : إذا بيع البستان وفيه نخلة واحدة ملونة لكنها صفقة واحدة صح البيع .
وقيل : إن كان النوع واحداً جاز وإلا فلا .
مثال : هناك خمسة أنواع من الثمر [ سكري ، خلاص ، ... ] من كل نوع خمس نخلات ، صلح من النوع الأول نخلة ، فيكون صلاحاً لها وللأربعة التي من نوعها سواء بيعت لوحدها أو مضمومة مع الأربع .
7- إذا أفردت كل نخلة لوحدها بعقد ، فالواجب اعتبار كل نخلة لوحدها .
لأنه صار كل نخلة لها حكم خاص .
الخلاصة :
أ- إذا بيع كل نخلة لوحدها فالواجب اعتبار كل نخلة لوحدها .(1/18)
ب- إذا بيع النخل جميعاً صفقة واحدة ، فإنه إذا لون من كل نوع واحدة صار صلاحاً لها ولسائر النوع الذي في البستان.
ج- وهل يعتبر صلاحاً للنوع الآخر إذا بيع صفقة واحدة ؟
المذهب يعتبرون كل نوع على حدة .
وقيل : إذا بدا صلاح نخلة واحدة فإنه صلاح لجميع الأنواع .
بيع المزابنة
260 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : (( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ( عَنْ الْمُزَابَنَةِ : أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَ حَائِطِهِ , إنْ كَانَ نَخْلاً : بِتَمْرٍ كَيْلاً . وَإِنْ كَانَ كَرْماً : أَنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيبٍ كَيْلاً , أَوْ كَانَ زَرْعاً : أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلٍ طَعَامٍ . نَهَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
المزابنة : بضم الميم ، وهي مأخوذة من الزبن ، وهو الدفع الشديد .
قيل للبيع المخصوص مزابنة كأن كل واحد من المتبايعين يدفع صاحبه عن حقه ، أو لأن أحدهما إذا وقف على ما فيه من العين أراد دفع البيع لفسخه ، أو أراد الآخر دفعه عن هذه الإرادة بإمضاء البيع .
الفوائد :
1- في هذا الحديث تحريم المزابنة .
وهي بيع التمر على النخل بتمر مجذوذ .
مثال : أن يبيع رطباً على رؤوس النخل ، بثمر في الزنبيل ، فهذا لا يجوز .
مثال آخر : رجل عنده شجر من الأعناب ، وآخر عنده أكياس من الزبيب ، فقال أحدهما للآخر : نتبايع هذه الأشجار من الأعناب بهذه الأكياس من الزبيب ، فهذا لا يجوز .
2- الحكمة من النهي :
مظنة الربا لعدم التساوي .
أ- لأن بيع تمر بتمر يشترط فيه التساوي ، والتساوي هنا معدوم .
لأنه لو فرضنا أن أكياس الزبيب معلومة المقدار ، لكن أشجار العنب غير معلومة المقدار .
ب- حصول الغرر به ، وكل ما حصل به غرر فهو غير صحيح .
3- في الحديث دليل على تحريم بيع كل نوعين ربويين جهل تساويهما .(1/19)
261 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ : (( نَهَى النَّبِيُّ ( عَنْ الْمُخَابَرَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ , وَعَنْ الْمُزَابَنَةِ وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُهَا , وَأَنْ لا تُبَاعَ إلاَّ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ , إلاَّ الْعَرَايَا )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
المخابرة : على وزن مفاعلة ، وهي الأرض اللينة القابلة للزرع ، والمراد كراء الأرض لزراعتها بأن يكون لمالك الأرض جانب من الزرع محدد أو معين وللزارع جانب آخر .
المحاقلة : مأخوذة من الحقل ، وسيأتي تعريفها .
الفوائد :
1- في الحديث النهي عن بيع المخابرة والتي يقتضي التحريم .
والمخابرة : مثال : أن يقول زارعتك على أن يكون لي شرقي الأرض ولك غربيها ، فهذا لا يجوز للجهالة والغرر ، لأنه قد يكون المحصول كثير من الشرقي دون الغربي أو بالعكس [وسيأتي باب خاص بكراء الأرض وأحكامها إن شاء الله] .
المحاقلة : هي بيع الزرع على شخص ببر محصود يابس .
مثال : أن يبيع حقله على الآخر بحقله .
مثال : عندي مزرعة وعندك مزرعة فبعتها عليك بمزرعتك وكلتاهما بر ، فهذا لا يجوز .
2- الحكمة من النهي :
لجهالة أحد العوضين ، لأنه مستور بأوراقه ، والجهل في ذلك يوقع في الربا .
3- يستثنى من ذلك العرايا [ وسيأتي الحديث عنها قريباً إن شاء الله ] .
4- تحريم بيع المزابنة وسبقت .
5- النهي عن بيع الأشياء المذكورة في الحديث ، والنهي يقتضي الفساد .
6- التحذير من الربا .
7- يجب الابتعاد عن الربا .
8- قاعدة : الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل .
بيع الكلب
262 - وعن أبي مسعود الأنصاري (: (( أن رسول الله ( نهى عن ثمن الكلب ، ومهر البغيّ ، وَحُلْوَانِ الكاهن )).
متفق عليه
-------------------------------------------------------------
معاني الكلمات :(1/20)
( مهر البغي ) هو ما تأخذه الزانية على الزنا ، وسماه مهراً لكونه على صورته .
( حلوان الكاهن ) هو ما يعطاه على كهانته ، شبه بالشيء الحلو من حيث أنه يأخذه سهلاً بلا كلفة ولا في مقابلة مشقة .
الفوائد :
1- تحريم بيع الكلب ، وأنه لا يصح بيعه ولا يحل ثمنه .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة :
على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنه لا يصح بيعه ولا يحل ثمنه سواء المعلم أو غيره .
قال النووي : " وبهذا قال جماهير العلماء منهم : أبو هريرة ، والحسن ، والبصري ، وربيعة ، والأوزاعي ، والحكم ، وحماد والشافعي ، وأحمد ، وداود ، وابن المنذر وغيرهم " .
- لحديث الباب .
- ولحديث : ( ثمن الكلب خبيث ، ومهر البغي خبيث ... ) .
- وعن ابن عباس مرفوعاً : ( نهى رسول الله ( عن ثمن الكلب وقال : إن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه تراباً ) .
…………………… رواه أبو داود وإسناده صحيح كما قال الحافظ ابن حجر
القول الثاني : يصح بيع الكلب .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
وعللوا بأن فيه منفعة مباحة فتجوز المعاوضة عليها .
القول الثالث : يجوز بيع كلب الصيد دون غيره .
وهذا جاء عن عطاء والنخعي .
لحديث ( أن النبي ( نهى عن ثمن الكلب إلا كلب صيد ) .
والراجح القول الأول .
أما رواية ( إلا كلب صيد ) فإنها غير صحيحة .
وقد ضعفها النسائي والنووي .
مثال : لو وجدنا شخصاً عنده كلب ماشية ، وأبى أن يعطيه أحداً احتاج إليه إلا بثمن ، فإنه يجوز أن يدفع مالاً ليأخذه والإثم على البائع .
مع أن البائع الذي باع الكلب إذا كان مستغنياً عنه حرام عليه اقتناؤه فضلاً عن بيعه .
2- أن الكلب غير متقوم ، بمعنى أنه لو أتلف كلب الصيد أو الحرث فلا قيمة له شرعاً ، وأن إتلافه هدر .(1/21)
3- قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : " هذه الأشياء الثلاثة [ ثمن الكلب ، ومهر البغي ، وحلوان الكاهن ] محرمة على الآخذ ومحرمة على المعطي ، فهذا رجل جاء إلى رجل عنده كلب صيد ، وأبى أن يبيعه إلا بعشرة آلاف ، فقبل المشتري ، ثم قال : : لا أعطيك عشرة آلاف لأن الرسول ( : نهى عن ثمن الكلب ، فنقول إما أن ترجع الكلب إن كان باقياً ، وإلا أعطنا الدراهم ، فنأخذ الدراهم منه ونجعلها في بيت مال المسلمين ، ولا نعطيها لصاحب الكلب ، لأنه لا يستحق ذلك ، فإذا قال صاحب الكلب ردوا علي كلبي ، نظرنا ، إن كان يحتاجه رددناه عليه وإن لم يكن في حاجة إليه قلنا : أنت لست بحاجة إليه ولا يحل لك أن تقتنيه " .
4- جاء في رواية عن جابر : ( أن النبي ( زجر عن ثمن الكلب والسنور ) . والسنور : هو القط .
وقد اختلف العلماء في بيع السنور :
القول الأول : لا يجوز بيعه .
وحكاه ابن المنذر عن أبي هريرة وطاووس ومجاهد وجابر بن زيد ، واحتجوا بالحديث الذي سبق ، وفيه نهي النبي ( عن ثمن السنور .
القول الثاني : يجوز بيعه .
قال النووي : " هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة " .
وأجاب الجمهور عن حديث النهي :
أولاً : الطعن في صحة الحديث ، وأشار إلى هذا الإمام الخطابي وعزاه النووي لابن المنذر .
وتعقبهما النووي بقوله : " أما ما ذكره الخطابي وابن المنذر أن الحديث ضعيف فغلط منهما ، لأن الحديث في صحيح مسلم بإسناد صحيح " .
ثانياً : أن المراد بالنهي نهي تنزيه .
ثالثاً : أن المراد بالنهي : الهرة الوحشية التي لا يملك قيادها فلا يصح بيعها لعدم الانتفاع بها .
قال النووي : " وأما النهي عن ثمن السنور فهو محمول على أنه لا ينفع ، أو على أنه نهي تنزيه حتى يعتاد الناس هبته وإعارته والسماحة به " .
رابعاً : أن الحديث محمول على أن ذلك كان في ابتداء الإسلام حين كان محكوماً بنجاسة السنور ، ثم حين صار محكوماً بطهارة سؤره حل ثمنه .(1/22)
والراجح القول الأول وهو التحريم .
5- خبث الكلب ، ولهذا حرم ثمنه حتى مع جواز الانتفاع به .
6- تحريم مهر البغي .
قال النووي : " وهو حرام بإجماع المسلمين " .
وهو حرام على الزانية وعلى الزاني .
والحكمة : لأن هذا عوض عن محرم ، والقاعدة : أن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه .
7- تحريم الكهانة .
8- تحريم إعطاء الكاهن أجرته على الكهانة .
قال البغوي والقاضي عياض: "أجمع المسلمون على تحريم حلوان الكاهن، لأنه عوض عن محرم، ولأنه أكل المال بالباطل" .
وإتيان الكاهن ينقسم إلى قسمين :
أولاً : أن يأتيه فيسأله ويصدقه ، فهذا كفر .
لقوله ( ( من أتى كاهناً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد ) رواه أبو داود .
ثانياً : أن يأتيه فيسأله ولم يصدقه ، فهذا حرام ولا تقبل له صلاة أربعين ليلة .
لقوله ( ( من أتى عرافاً لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ) رواه مسلم .
263 - عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ ( أَنْ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ: (( ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ . وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ , وَكَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
كسب : أي ما يكتسبه من مال أو أجرة .
الحجام : هو من يقوم بالحجامة ، والحجامة : إخراج الدم الفاسد من الإنسان .
الفوائد :
1- النهي عن ثمن الكلب ومهر البغي .
2- النهي عن كسب الحجام .
وقد اختلف العلماء في حكم كسب الحجام على قولين :
القول الأول : أنه حرام .
لحديث الباب : ( وكسب الحجام خبيث ) .
ولحديث أبي هريرة : ( أن النبي ( نهى عن كسب الحجام ) . رواه أحمد
القول الثاني : أنه حلال .
وهذا مذهب الجمهور .
لحديث ابن عباس قال : ( احتجم النبي ( وأعطى الحجام أجره ، ولو كان سحتاً لم يعطه ) . متفق عليه
وهذا القول هو الصحيح .
قال ابن القيم : " وتسميته إياه خبيثاً كتسميته ( للثوم والبصل خبيثين ، ولم يلزم من ذلك تحريمهما .(1/23)
والخبيث كما يطلق على المحرم ، يطلق على الشيء الرديء والكسب الدنيء ، كقوله تعالى : ( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ( . (البقرة: من الآية267)
3- أن كسب الحجامة كسب رديء ، لأن مهنته دنيئة .
4- ينبغي للمسلم أن يترفع عن سفاسف الأمور .
5- الحرص على معالي الأمور .
باب العرايا وغير ذلك
264 - عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ( (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( رَخَّصَ لِصَاحِبِ الْعَرِيَّةِ : أَنْ يَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا ))
وَلِمُسْلِمٍ : (( بِخَرْصِهَا تَمْراً , يَأْكُلُونَهَا رُطَباً )) .
265 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ )).
------------------------------------
معاني الكلمات :
رخص : الرخصة التسهيل في أمر ملزم به ، إما في تركه وإما في فعله .
العرايا : جمع عريّة ، مشتقة من التعري ، وهو التجرد ، لأنها عريت عن حكم باقي البستان .
الفوائد :
1- من المعلوم أن بيع الرطب بالتمر ( وهو المزابنة ) لا يجوز ، لأن الرطب ينقص إذا جف ، وبيع التمر بالتمر يشترط فيه شرطان :
التساوي - والتقابض .
والتساوي هنا معدوم .
لكن استثني من بيع المزابنة العرايا ، وصورتها :
أن يخرص الخارص نخلات فيقول : هذا الرطب الذي عليها إذا يبس يجيء منه ثلاثة أوسق من التمر مثلاً ، ويتقابضان في المجلس ، فيسلم المشتري التمر ، ويسلم بائع الرطب الرطب بالنخلة .
2- أفاد حديث الباب جواز بيع العرايا ، وهذا مذهب أكثر العلماء .
لحديث الباب .
وخالف أبو حنيفة وقال : " لا يجوز " .
لكن الصحيح مذهب الجمهور .
3- اشترط العلماء لحل العرايا شرطان :
الشرط الأول : أن تباع النخلة بخرصها ، ولا بد أن يكون من عالم به .
فلا يجوز أن يأتي أي أحد من الناس ، لا بد أن يكون الخارص خبيراً .
الشرط الثاني : أن يكون فيما دون خمسة أوسق ، وهذه لها أحوال :(1/24)
أولاً : الزيادة على خمسة أوسق ، لا يجوز بلا خلاف .
ثانياً : أقل من خمسة أوسق ، يجوز .
ثالثاً : في خمسة أوسق ، هذه فيها خلاف :
قيل : لا يجوز .
وهذا مذهب الحنابلة ، والشافعية ، ورجحه ابن المنذر . قالوا :
الأصل أن بيع التمر بالرطب حرام ، وتبقى الخمسة مشكوكاً فيها ، والأصل المنع .
وقيل : يجوز .
عملاً برواية الشك ( خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق ) .
والراجح الأول .
الشرط الثالث : أن يكون المشتري محتاجاً إلى الرطب ، فإن لم يكن محتاجاً فإنها لا تجوز .
لأن بيع العرايا رخص فيه للحاجة .
الشرط الرابع : التقابض بين الطرفين .
لأن الأصل في بيع التمر بالتمر أنه لا بد من شرطين : التساوي والتقابض .
فالتساوي عرفنا أنه رخص فيه ، ويبقى التقابض على الأصل لم يرخص فيه .
بيع النخلة إذا أبرت
266 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( مَنْ بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ , إلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ )) .
وَلِمُسْلِمٍ (( وَمَنْ ابْتَاعَ عَبْداً فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ إلاَّ أَنْ يُشْتَرَطَ الْمُبْتَاعُ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
نخلاً : أي أصول النخل .
أبرت : التأبير هو التلقيح ، وهو وضع طلع الفحل من النخل بين طلع الإناث .
المبتاع : المشتري .
الفوائد :
1- أن من اشترى نخلاً بعد التأبير فثمرتها للبائع .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لحديث الباب ، فهو صريح بذلك ، فهو يدل على أن ثمرة النخل المبيع يكون للبائع بعد التأبير ما لم يشترطه المبتاع .
والحكمة : لأن البائع عمل في هذه الثمرة عملاً يصلحها ، لأن التأبير يصلح الثمرة ، فلما عمل فيها عملاً يصلحها ، تعلقت بها وصار له تأثير فيها ، وبذلك جعلها الشارع له .
2- أنه لو باعها قبل التأبير فثمرتها للمشتري لمفهوم الحديث .(1/25)
3- لو اشترط المشتري أن تكون له الثمرة بعد التأبير فإنه يصح ، لقوله : ( إلا أن يشترط المبتاع ) .
4- يلحق بالتمر ما عداه كالعنب ، والتين ، والبرتقال .
5- هل يجوز للبائع إبقاء الثمرة على رؤوس الشجر إلى وقت الجذاذ ؟
قيل : للبائع إبقاؤها إلى الجذاذ .
وهذا مذهب جمهور العلماء .
وقيل : يجب على البائع قطع ثمرته من أصل المبيع في الحال .
وإليه ذهب الحنفية .
6- جواز الشروط في البيع ، لكن بشرط ألا تخالف الشريعة .
لقوله ( : ( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط ) . متفق عليه
7- هذا الحكم في هذا الحديث إنما هو لعام واحد ، وأما السنوات القادمة فهي للمشتري .
8- أن من باع عبداً وقد جعل بين يديه مالاً يتصرف فيه ، فالمال للبائع إلا أن يشترطه المشتري مع الصفقة ، أو يشترط بعضه ، فيدخل مع المبيع .
بيع الطعام قبل قبضه
267 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ )) وَفِي لَفْظٍ : (( حَتَّى يَقْبِضَهُ )) .
268 - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ .
------------------------------------
معاني الكلمات :
ابتاع : اشترى .
طعاماً : كل مأكول ومشروب .
الفوائد :
1- في هذا الحديث ينهى النبي ( عن بيع الطعام قبل قبضه . [ وستأتي صفة القبض إن شاء الله ]
مثال : اشتريت من صاحب هذه المزرعة هذه الكومة من الحب كل صاع بدرهم ، فجاءني شخص وقال : بع عليّ هذا البر الذي اشتريته ، فهذا لا يجوز حتى يستوفيه ويقبضه ويكيله .
2- وقد اختلف العلماء هل يقاس عليه غيره أم لا ؟ على ثلاثة أقوال :
القول الأول : لا يجوز بيع أي شيء قبل قبضه ، سواء مطعوم أو معدود أو عقار أو سيارات .
وهذا مذهب الشافعية ، وهو قول محمد وزفر من الحنفية ، ورجحه ابن القيم . أدلتهم :(1/26)
- حديث ابن عباس : ( من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه ) قال ابن عباس : " واحسب كل شيء مثله " .
- ولحديث حكيم بن حزام قال : ( قلت : يا رسول الله ، إني أشتري بيوعاً ، فما يحل لي منها وما يحرم ؟ قال : إذا اشتريت بيعاً فلا تبعه حتى تقبضه ) . لكنه حديث ضعيف رواه أحمد .
فقوله : ( إذا اشتريت بيوعاً ) هذا عام في النهي عن بيع ما لم يقبض .
- وبما رواه أبو داود عن زيد بن ثابت : ( أن النبي ( نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم ) .
فقوله : ( نهى أن تباع السلع ... ) يفيد العموم .
وهذا القول رجحه ابن القيم وأطال في نصرته .
القول الثاني : يجوز بيع كل شيء قبل قبضه إلا الطعام المكيل أو الموزون ، فلا يجوز حتى يقبضه . واستدلوا :
بحديث الباب : ( من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه ) . وفي رواية : ( حتى يستوفيه ) .
قالوا : الأحاديث الواردة جاءت خاصة بالطعام ، فدل هذا على أن غير الطعام ليس كذلك في الحكم .
وهذا مذهب المالكية .
القول الثالث : لا يجوز بيع أي شيء قبل قبضه ، لكن يستثنى العقار [ الأراضي ، المزارع ] .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
والراجح القول الأول ، وهو عدم جواز بيع شيء من المبيعات قبل قبضه .
3- ما الحكمة من منع بيع السلع قبل قبضها ؟
لعدم استيلاء المشتري على السلعة .
وعدم انقطاع علاقة البائع عنها ، فإنه يطمع في الفسخ ، وقد يمتنع من الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح .
وربما أمضاه إلى التحيل على فسخ العقد ولو ظلماً ، وجرّ ذلك إلى الخصام والمعاداة .
4- كيفية القبض :
بالنسبة للطعام يكون بالوزن ، فإذا وزنه فإنه يعتبر قبضه ، فيجوز بيعه .
أما بقية المبيعات فيرجع إلى العرف .
العقار : ويحصل بالتخلية ، لأن الشرع أمر بالقبض ، وأطلقه ، فيحمل على العرف والعادة ، وقد جرت العادة بقبض العقار ونحوه بالتخلية .
مثال : بعت بيتي على شخص ، القبض يكون : أن أعطيه المفتاح ، وأترك بيتي .(1/27)
والذهب والسيارات وغيرها من المنقولات : يكون بالنقل والتحويل .
فلو بعت أقلام على شخص ، فالقبض يكون باستلامها بيده .
5- أن البيع قبل القبض لا يجوز وباطل .
6- إذا تلف المبيع :
فإن كان قبل القبض ، فإنه من ضمان البائع .
وإن كان بعد القبض ، فإنه من ضمان المشتري .
تحريم بيع الميتة والخمر والخنزير
279 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ( يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ : (( إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ . فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ ؟ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ , وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ . وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ . فَقَالَ : لا ، هُوَ حَرَامٌ . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( عِنْدَ ذَلِكَ : قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ . إنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا ، جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
الخمر : كل ما أسكر العقل ، وسميت خمراً لأنها تخمر العقل ، أي تغطيه .
عام الفتح : أي فتح مكة ، وكان في رمضان عام ( 8 ) ه .
الميتة : بفتح الميم ، وهي ما زالت عنه الحياة بدون ذكاة شرعية .
الخنزير : حيوان نجس قبيح الشكل .
الأصنام : جمع صنم ، وهو ما كان منحوتاً على شكل صورة .
أرأيت : أي أخبرني ، هل يصح بيعها لما فيها من المنافع .
تطلى بها السفن : المعنى تدهن السفن بالشحوم بعد أن تذاب ، ليمنع ذلك تسرب الماء للخشب .
ويدهن بها الجلود : أي بعد دبغ الجلود تدهن بالشحوم بعد إذابتها لتلين .
قاتل الله اليهود : أي أهلكهم ولعنهم ، وهذا دعاء بالهلاك ، وقيل : معناه لعنهم وطردهم من رحمته .
جملوه : أي أذابوه حتى يصير ودكاً ، فيزول عنه اسم الشحم ، احتيالا على الوقوع في المحرم ، .(1/28)
الفوائد :
1- أن التحليل والتحريم لله ورسوله ، فما حرمه الله ورسوله فهو حرام ، وما أحلوه فهو حلال .
2- تحريم بيع الخمر ، وهذا بالإجماع ، وكذلك شربها واقتنائها .
وقد حكى غير واحد من العلماء الإجماع على تحريم بيعها كابن المنذر والنووي .
عن أنس قال : ( لعن رسول الله ( في الخمر عشرة : عاصرها ، ومعتصرها ، وشاربها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وساقيها وبائعها ، وآكل ثمنها ، والمشتري لها ، والمشتراة له ) . رواه أبو داود
الحكمة من تحريمها :
لما تسببه من العداوة والبغضاء .
ولأنها مفسدة للعقل .
3- تحريم بيع الميتة بجميع أجزائها ، وهذا بالإجماع كما حكاه ابن المنذر .
فالميتة يحرم أكلها ، ويحرم أيضاً بيعها .يستثنى من ذلك :
ميتة السمك ، والجراد .
فقد قال ( لما سئل عن البحر : ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) .
والجراد لما في الحديث: ( أحلت لنا ميتتان : السمك والجراد ) وهذا موقوف على ابن عمر ، وهو الأصح ، وله حكم الرفع.
ويستثنى من ذلك أيضاً :
شعرها والصوف والوبر والريش ، من لا يكتسب من خبثها ، ولا يصدق عليه أنه ميتة ، وهذا قول الجمهور .
والحكمة من تحريمها :
لأنها طعام خبيث مضر بالبدن .
واختلف العلماء في قوله ( : ( لا ، هو حرام ) هل يعود على البيع ، أو على الانتفاع ؟ على قولين :
القول الأول : أنه يعود على البيع ، أي لا يحل البيع .
وعلى هذا القول : يجوز الانتفاع بشحوم الميتة دون بيعها .
ورجح هذا القول ابن تيمية وابن القيم .
قال الصنعاني : " وهذا هو الأظهر " .
قال ابن القيم : " قال شيخنا ، هو راجع إلى البيع فإنه عليه الصلاة والسلام لما أخبرهم أن الله حرم بيع الميتة ، قالوا : إن في شحومها من المنافع كذا وكذا ، فهل ذلك مسوغ لبيعها ؟ فقال : لا ، هو حرام . وهذا القول هو الراجح ، لأن السياق بالبيع فلا يحل بيعها " .(1/29)
ولأن الانتفاع بالشحوم في غير الأكل انتفاع محض لا مفسدة فيه ، فيجوز الانتفاع بها في مثل دون بيعها ، وقد ذكر ابن القيم أن باب الانتفاع أوسع من باب البيع .
فقال رحمه الله : " وينبغي أن يعلم أن باب الانتفاع أوسع من باب البيع ، فليس كل ما حرم بيعه حرم الانتفاع به بل لا تلازم بينهما ، فلا يؤخذ تحريم الانتفاع من تحريم البيع " .
القول الثاني : أن الضمير يعود على الانتفاع ، أي لا يجوز الانتفاع بشحوم الميتة .
وعزاه النووي للجمهور . قالوا :
إن الضمير يعود على الانتفاع ، لأنه أقرب مذكور .
ولأن إباحة الانتفاع ذريعة إلى اقتناء الشحوم وبيعها ، واختاره الشيخ ابن باز رحمه الله .
والأول أصح .
4- تحريم بيع الأصنام .
قال ابن القيم : " تحريم بيع الأصنام أعظم تحريماً وإثماً وأشد منافاة للإسلام من بيع الميتة والخنزير " .
الحكمة من تحريمها :
لأنه ذريعة للشرك ومفسدة للأديان .
5- تحريم بيع الخنزير .
قال ابن المنذر : " أجمع أهل العلم على أن بيع الخنزير وشراؤه محرم " .
وقال ابن القيم : " وأما تحريم بيع الخنزير ، فيتناول جملته ، وجميع أجزائه الظاهرة والباطنة " .
وقال : " والخنزير أشد تحريماً من الميتة " .
لأن فيه مضار كبيرة ، وهو ينقل أمراضاً لجسم الإنسان ، وأيضاً له تأثير سيء على العفة والغيرة على الأعراض .
6- جواز لعن اليهود .
7- أن التحيل على محارم الله سبب لغضب الله .
8- أن المتحيل متشبه باليهود المغضوب عليهم .
والحيل لاستحلال الحرام أو تحريم الحلال حرام .
الأدلة على تحريم الحيلة إذا كانت لاستحلال الحرام أو تحريم الحلال :
- قال ( : ( لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود ، تستحلوا محارم الله بأدنى الحيل ) . رواه ابن بطة في الحيل(1/30)
- أن الله أخبر عن أهل الجنة الذين بلاهم بما بلاهم به في سورة القلم ، وأنه عاقبهم بأنه أرسل على جنتهم طائفاً وهم نائمون ، فأصبحت كالصريم ، وذلك لما تحيلوا على إسقاط نصيب المساكين بأن يصرموها مصبحين ، قبل مجيء المساكين .
- أن الله أخبر عن أهل السبت من اليهود بمسخهم قردة لما احتالوا على إباحة ما حرمه الله تعالى عليهم من الصيد ، بأن نصبوا الشباك يوم الجمعة ، فلما وقع فيها الصيد أخذوه يوم الأحد .
- حديث الباب ، ففيه بطلان كل حيلة يحتال بها المتوصل إلى المحرم ، وأنه لا يتغير حكمه بتغيير هيئته ، وتبديل اسمه وقد مثلت حيلة أصحاب الشحوم بمن قيل له : لا تقرب مال اليتيم ، فباعه وأخذ ثمنه ، فأكله ، وقال : لم آكل نفس مال اليتيم.
فائدة :
جاءت الشريعة بسد الذرائع المؤدية إلى المحرمات :
- نهى سبحانه عن سبّ آلهة المشركين ، لكونه ذريعة إلى أن يسبّوا الله سبحانه وتعالى عدواً وكفراً على وجه المقابلة .
- وأخبر النبي ( أن : ( من أكبر الكبائر شتْم الرجل والديه ، قالوا : وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال : نعم ، يسب أبا الرجل ، فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه ) .
- وأمسك ( عن قتل المنافقين ، مع ما فيه من مصلحة ، لكونه ذريعة إلى التنفير ، وقول الناس : إن محمداً يقتل أصحابه .
- ومنع النساء إذا خرجن إلى المسجد من الطيب والبخور .
- ونهى المرأة أن تصف لزوجها امرأة غيرها ، حتى كأنه ينظر إليها .
- ونهى عن بناء المساجد على القبور ، ولعن فاعله .
- ونهى عن الصلاة عند طلوع الشمس ، وعند غروبها ، لكون هذين الوقتين وقت سجود الكفار للشمس .
فائدة :
قال ابن القيم : " فالمسخ على صورة القردة والخنازير واقع في هذه الأمة ولا بد ، وهو واقع في طائفتين :(1/31)
علماء السوء الكاذبين على الله ورسوله ، الذين قلبوا دين الله وشرعه ، فقلب الله تعالى صورهم كما قلبوا دينه ، والمجاهرين المتهتكين بالفسق والمحارم ، ومن لم يمسخ منهم في الدنيا مسخ في قبره أو يوم القيامة " .
باب السلم
270 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : (( قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ( الْمَدِينَةَ , وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ : السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَالثَّلاثَ . فَقَالَ : مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ , وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ , إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
قدم رسول الله ( المدينة : جاء إليها مهاجراً .
وهم يسلفون : الواو فيه للحال ، أي وأهل المدينة من الأوس والخزرج وغيرهم يتعاملون بالسلف ، أي بالسلم .
والسلم تعريفه شرعاً : عقد على موصوف في الذمة مؤجل ، بثمن مقبوض في مجلس العقد .
السنة والسنتين : أي مدة سنة أو مدة سنتين ، يعني يدفعون المال إلى من يتعاملون معه بالسلم ، ويكون تسليم الثمار مؤجلاً إلى سنة أو إلى سنتين بعد تسليم الثمن .
أسلف : وعد في عقد صفقة سلم .
كيل معلوم : مقدار محدد من الكيل مع ضبط نوع الكيل .
وزن معلوم : أي فيما يوزن .
أجل معلوم : وقت محدد .
الفوائد :
1- مشروعية السلم .
وهو ثابت بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ ( . (البقرة: من الآية282)
وأما السنة : فلحديث الباب .
وقال ابن المنذر : " أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز " .
وقال الحافظ في الفتح : " واتفقوا على مشروعيته إلا ما حكي عن ابن المسيب " .
مثاله : أن أعطي رجل 100 ريال ، على أن يعطيني بعد سنة 100 كيلو من الأرز .
2- الحكمة منه :(1/32)
من أجل التوسعة ، لأن الإنسان يحتاج إلى نقود وعنده تمر أو صنعة تتأخر ، فيحتاج إلى شراء أدوات لصنعته أو ثمرته .
فالزارع يبدأ زرعه في شهر ربيع الثاني مثلاً ، ولا يحصده إلا في شهر شعبان أو بعده ، ففي هذه المدة هو بحاجة إلى دراهم لشراء البذور أو نفقة عماله أو عياله ، أو آلاته ، وأنت عندك دراهم لست بحاجة إليها ، فنقول له : أنا أشتري منك براً بأنقص من قيمته [ مثلاً يساوي الصاع ريالين ، وأنت تقول : أشتريه الآن بريال ] فكل منكما انتفع ، فالأول احتاج المال وأخذه ، والثاني اشتراه رخيصاً .
3- شرح التعريف :
( عقد على موصوف ) خرج به العقد على معين ، فليس بسلم .
( مؤجل ) لا بد أن يكون هناك تأجيل .
( بثمن مقبوض في مجلس العقد ) لا بد أن يقبض الثمن كاملاً في مجلس العقد .
4- شروط صحة السلم :
أولاً : أن يكون لأجل معلوم .
لقوله : ( إلى أجل معلوم ) . كشهر أو شهرين أو أكثر أو أقل بحسب الاتفاق .
فلا يصح أن يكون مجهولاً . لو قال : أسلمت إليك مائة درهم بمائة صاع من البر إلى مقدم زيد ، فهذا لا يجوز ، لأن مقدم زيد غير معلوم .
ثانياً : أن يقبض الثمن بمجلس العقد .
ثالثاً : ضبط صفات المسلم فيه - وهو الشيء المبيع - المراد الصفات التي لها أثر في اختلاف الثمن .
مثال : كصاع من البر أو التمر أو الشعير أو نحوها من المكيلات ، أو ما به كيل من السمك .
خص النبي ( الكيل والوزن بالذكر لغلبتهما وللتنبيه على غيرهما .
رابعاً : أن يكون المسلم فيه عام الوجود .
قال ابن قدامة : " ولا نعلم فيه خلافاً ، وذلك أنه إذا كان كذلك أمكن تسليمه عند وجوب تسليمه " .
5- هل يشترط كون المسلم فيه موجوداً حال السلم ؟
قيل : لا يشترط .
لأن النبي ( قال : ( من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ، أو وزن معلوم ، إلى أجل معلوم ) .
ولم يذكر الوجود ، ولو كان شرطاً لذكره ولنهاهم عن السلف سنتين .
وقيل : يشترط .
والأول أصح .(1/33)
6- اختلف العلماء في مقدار الأجل في السلم :
فقيل : لا فرق بين الأجل القريب والبعيد . فلو قدره بنصف يوم جاز .
وقيل : أقله ثلاثة أيام .
والصحيح أنه لا بد من أجل له وقع في الثمن ، يعني أن الثمن ينقص به ، أما ما لا يتأخر به الثمن فهذا غير مؤجل ، وبناء على ذلك يمكن أن تختلف المدة باعتبار المواسم .
7- اختلف العلماء في حكم الإسلام في الحيوانات على قولين :
القول الأول : لا يصح السلم في الحيوانات .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
لحديث ابن عباس . ( أن النبي ( نهى عن السلم في الحيوان ) رواه الحاكم وهو ضعيف .
ولأن الحيوانات تختلف اختلافاً متبايناً فلا يمكن ضبطه .
القول الثاني : أنه يصح السلم في الحيوان .
قال ابن المنذر : " ومما روينا عنه أنه لا بأس بالسلم في الحيوانات ، وهو قول ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن عمر ، وسعيد بن المسيب ، والحسن البصري ، والزهري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وإسحاق ، ومالك ، وأحمد " .
قالوا : قياساً على جواز القرض فيه ، فقد روى مسلم أنه ( اقترض بكراً . وهذا القول هو الصحيح .
8- حرصت الشريعة على سد كل باب يؤدي إلى التنازع والتباغض والخصومات .
9- السلم من بيوع الجاهلية التي أقرها الشرع ، لكن أضاف بعض الشروط التي تبعد الخصومات والتنازع .
فوائد :
قال ابن قدامة : " أما بيع المسلم فيه قبل قبضه فلا نعلم في تحريمه خلافاً " .
بابُ الشُّروطِ في البيعِ(1/34)
271 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (( جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ : فَقَالَتْ : كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ , فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ . فَأَعِينِينِي فَقُلْتُ : إنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ , وَوَلاؤُكِ لِي فَعَلْتُ . فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إلَى أَهْلِهَا , فَقَالَتْ : لَهُمْ . فَأَبَوْا عَلَيْهَا . فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ وَرَسُولُ اللَّهِ ( جَالِسٌ . فَقَالَتْ : إنِّي عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِي , فَأَبَوْا إلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْوَلاءُ . فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ ( . فَقَالَ : خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلاءَ . فَإِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ . فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ . ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ( فِي النَّاسِ , فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ . ثُمَّ قَالَ : أَمَّا بَعْدُ . فَمَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟ كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ . قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ . وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ . وَإِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
بريرة : مشتقة من البرير ، وهو ثمر الأراك ، قيل : كانت لناس من الأنصار ، وقيل : لناس من بني هلالة قاله ابن عبد البر ، وكانت تخدم عائشة قبل أن تعتق .
كاتبت أهلي : أي مواليها ، والكتابة : شراء العبد نفسه من سيده .
ولاؤك لي : الولاء لغة من الولاية ، وفي الشرع يطلق على عدة معان ، منها : ولاء العتق ، وهو أن الإنسان إذا أعتق عبداً صار عاصباً كعصوبة النسب تماماً .
واشترطي لهم : استشكل كيف يقول النبي ( لها : ( اشترطي لهم ) مع أنه شرط باطل . [ وسيأتي الجواب عن ذلك ]
قضاء الله أحق : أي بالاتباع من الشروط المخالفة له .(1/35)
وشرط الله أوثق : أي باتباع حدوده التي حدها .
ما بال رجال : ما حالهم .
أما بعد : كلمة يؤتى بها عند الدخول في صلب الموضوع بعد المقدمة ، وقول من يقول : يؤتى بها للانتقال من موضوع إلى موضوع ، ضعيف .
ما كان من شرط ليس في كتاب الله : قال ابن بطال : " المراد بكتاب الله هنا حكمه من كتابه أو سنة رسوله ( أو إجماع الأمة " .
وإن كان مائة شرط : قال القرطبي : " خرج مخرج التكثير ، يعني أن الشروط الغير مشروعة باطلة ولو كثرت " .
وقيل : المعنى لو شرط مائة مرة توكيداً فهو باطل ، ويؤيده رواية : ( وإن شرط مائة مرة ) .
الفوائد :
1- مشروعية الكتابة .
وقد أجمعت الأمة على مشروعية كتابة السيد لعبده .
قال تعالى : ( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ( . (النور: من الآية33)
وهل يجب على السيد مكاتبة عبده إذا طلب منه العبد ؟
اختلف العلماء على قولين :
القول الأول : أنه واجب .
وهذا مذهب ابن حزم ، ونقل وجوبه عن مسروق والضحاك .
لقوله تعالى : ( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ( . (النور: من الآية33)
القول الثاني : أنه غير واجب .
وهذا مذهب الجمهور .
والصارف عن الوجوب :
أن هذا مال له ، ولم يوجب الله عز وجل إخراج المال على المالك إلا بالزكاة أو النفقة الواجبة .
وهذا القول هو الصحيح .
لكن يسن للسيد أن يكاتبه إذا علم فيه خيراً ، استجابة لأمر الله .
2- أن الكتابة تكون مؤجلة إلى أقساط يدفعها العبد شيئاً فشيئاً .
3- جواز بيع المكاتب .
وقد اختلف العلماء في ذلك :
فقيل : لا يجوز شراء المكاتب .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
وقيل : يجوز .
وهذا مذهب أحمد والجمهور .
لأن النبي ( أذن لعائشة في شرائها ، وبريرة لم تأت لعائشة إلا لطلب العون .
4- استحباب طلب المعاونة والمساعدة عند العجز .
5- مشروعية إعانة الرقيق في إعتاق نفسه .
6- مشروعية مبايعة المرأة دون علم زوجها .
7- أن الولاء لمن أعتق .(1/36)
أن يكون عندك عبد ، فتعتق هذا الرقيق ، فيبقى ولاء هذا الرقيق لسيده الذي أعتقه ، فإذا توفي هذا الرقيق وعنده مال فإنه يرثه هذا السيد إذا لم يكن له وارث .
فالولاء من أسباب الميراث .
8- ما طلبه أهل بريرة أن يكون الولاء لهم ، مع أن عائشة هي التي تريد أن تعتقها ، هذا شرط باطل .
لكن استشكل صدور الإذن من النبي ( لعائشة بالموافقة بشراء بريرة من أهلها مع موافقتهم على اشتراط الولاء لهم وهو شرط باطل ؟!
قيل : أن معنى ( اشترطي لهم ) أن اللام في ( لهم ) بمعنى ( على ) .
كقوله تعالى : ( وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( . (الاسراء: من الآية7)
وهذا المشهور عن المزني ، وهو قول الشافعي .
وضعف هذا التأويل النووي ، وابن دقيق العيد .
وقيل : الأمر في قوله ( اشترطي ) للإباحة ، وهو على جهة التنبيه على أن ذلك لا ينفعهم ، فوجوده وعدمه سواء ، وكأنه يقول : اشترطي أو لا تشترطي فذلك لا يفيدهم .
ويقوي هذا التأويل رواية : ( اشتريها ودعيهم يشترطون ما شاءوا ) .
وقيل : كان النبي ( أعلم الناس بأن اشتراط البائع الولاء باطل ، واشتهر ذلك بحيث لا يخفى على أهل بريرة ، فلما أرادوا أن يشترطوا ما تقدم لهم العلم ببطلانه ، أطلق الأمر مريداً به التهديد على مآل الحال ، كقوله : ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ( . (التوبة: من الآية105)
وكأنه قال : اشترطي لهم فسيعلمون أن ذلك لا ينفعهم .
وقيل : الأمر فيه بمعنى الوعيد الذي ظاهره الأمر ، وباطنه النهي ، كقوله : ( اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( .
وقيل : اشترطي ودعيهم يعملون ما شاءوا أو نحو ذلك ، لأن ذلك غير قادح في العقد ، بل هو بمنزلة اللغو من الكلام ، وأخر إعلامهم بذلك ليكون رده وإبطاله شهيراً يخطب به على المنبر ظاهراً ، إذ هو أبلغ في التكبير وأوكد في التغيير .
وهذا القول أرجح .(1/37)
9- ينبغي على العلماء إذا علموا أمراً يحتاج إلى تنبيه يجب عليهم تنبيه العامة وتبليغهم .
10- ينبغي الاعتناء بأحكام الشريعة .
11- أن السنة لمن أراد أن يخطب أن يبدأ بتحميد الله ، وسواء في ذلك خطبة العيد والاستسقاء أو غيرهما .
12- أن خطب النبي ( تنقسم إلى قسمين :
دائمة - وعارضة .
الدائمة : مثل خطب الجمعة ، والعيدين .
العارضة : كأن يحدث أمر يريد التنبيه عليه .
13- أن هدي الرسول ( في الخطب أن لا يشهر ولا يفضح ، وإنما يستر وينصح .
14- السنة في الخطبة قول : أما بعد ، وهذه يؤتى بها عند إرادة الدخول في صلب الموضوع ، وكان هدي النبي ( استعمالها .
- لما كسفت الشمس ، قام النبي ( خطيباً وحمد الله بما هو أهله ، ثم قال : ( أما بعد : ما من شيء لم أكن قد رأيته إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار ... ) . متفق عليه
- وخطب مرة فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : ( أما بعد : فوالله إني لأعطي الرجل والذي أدع أحب إليّ .) متفق عليه
- وخطب ( فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : ( أما بعد : فإن هذا الحي من الأنصار ... ) .
15- أن كل شرط لا يوافق الشريعة فهو باطل مردود وإن كثر وأكّد .
16- أن كل شرط لا يخالف الشريعة فهو صحيح معمول به .
17- الشرط إذا كان صحيحاً فإنه يجب الوفاء به .
لقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُود( . (المائدة: من الآية1)
ولقوله سبحانه : ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ( . (الاسراء: من الآية34)
أمثلة للشروط الصحيحة :
- إذا طلب البائع رهناً .
مثال : أبيع على هذا الرجل شيئاً بثمن مؤجل ، فلا أثق به فأقول : ارهني بيتك مثلاً ، أو ساعتك .
- تأجيل الثمن ، وغالباً يطلبه المشتري .
مثال : أشتري سيارة من فلان ، وأطلب تأجيل الثمن لمدة سنة .
أمثلة للشروط الفاسدة :
كأن أبيع عليه سيارة ، وأشترط عليه عدم بيعها ، أو عدم هبتها .(1/38)
مثال : أن تشترط المرأة لقبول الرجل زوجاً لها ، أن يطلق زوجته .
والشروط قسمين :
شروط البيع : التي هي من وضع الشرع . [ وسبقت في أول الكتاب ]
الشروط في البيع : من وضع المتعاقدين ، وهذه يشترط فيها ألا تخالف الشرع .
18- استحباب تبيين الأحكام عند المناسبات .
19- أن السجع جائز إذا كان غير متكلف ، كما فعله النبي ( : ( قضاء الله أحق ، وشرط الله أوثق ، إنما الولاء لمن أعتق ) .
وأما إذا كان متكلفاً فهو من سجع الكهان ، فهذا لا ينبغي .
20- أن الولاء لمن أعتق .
21- أن أقضية الله وأحكامه وشروطه وحدوده هي المتبعة ، وما عداها فلا يتبع ولا يركن إليه .
22- جواز تعجيل الدين المؤجل ، لقولها : ( إن أحب أهلك أن أعدها لهم ) .
لكن لو عجل المدين [ صاحب المال ] الدين من أجل أن يسقط دينه ، فهل يجوز ؟
المذهب لا يجوز .
والصحيح أنه يجوز .
وقد روي عن النبي ( أنه قال : ( ضعوا وتعجلوا ) .
مثال : شخص يطلبني ألف ريال تحل في رمضان ، فقلت له : أدفعها لك الآن ( 900 ) ريال ، فإن ذلك يجوز .
23- إنكار القول الذي لا يوافق الشرع .
24- أنه يجوز للمرء أن يقضي عنه دينه برضاه .
25- جواز بيع التقسيط .
فائدة :
جمهور العلماء على أنه لا يجوز للمكاتب أن يتزوج بغير إذن سيده، لقوله ( : ( أيما عبد تزوج بغير إذن سيده فهو عاهر)
رواه مسلم
ففي هذا الحديث أبطل النبي ( نكاح العبد وشبهه بالزنا، والمكاتب عبد بدليل قوله (: ( المكاتب عبد ما بقي عليه
درهم ) . رواه أبو داود
فإن تزوج بغير إذن سيده فحكم نكاحه :
قيل : باطل : وهو مذهب الشافعي وأحمد .
وقيل : العقد صحيح ، ولكنه موقوف على إجازة السيد ، إن شاء جاز ، وإن شاء رد . وبه قال أبو حنيفة ومالك .(1/39)
272 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما : (( أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ فَأَعْيَا , فَأَرَادَ أَنْ يُسَيِّبَهُ . قال : فَلَحِقَنِي النَّبِيُّ ( فَدَعَا لِي وَضَرَبَهُ . فَسَارَ سَيْراً لَمْ يَسِرْ مِثْلَهُ قط . ثُمَّ قَالَ : بِعْنِيهِ بِأوُقِيَّةٍ . قُلْتُ : لا . ثُمَّ قَالَ : بِعْنِيهِ . فَبِعْتُهُ بِأُوقِيَّةٍ . وَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلانَهُ إلَى أَهْلِي . فَلَمَّا بَلَغْتُ ، أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ . فَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ . ثُمَّ رَجَعْتُ . فَأَرْسَلَ فِي أَثَْرِي . فَقَالَ : أَتُرَانِي مَاكَسْتُكَ لآخُذَ جَمَلَكَ ؟ خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ . فَهُوَ لَكَ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
أعيا : أي تعب .
فأراد أن يسيبه : أي يطلقه ، وليس المراد أن يجعله سائبة لا يركبه أحد كما كانوا يفعلون في الجاهلية ، لأنه لا يجوز في الإسلام .
بعنيه بأوقية ، قلت : لا : وفي رواية لأحمد : ( فكرهت أن أبيعه ) .
واستثنيت حُملانه : بضم الحاء ، أي استثنيت حمله إياي .
أتيته بالجمل : جاء في رواية : ( فلما قدم رسول الله ( المدينة عدوت إليه بالبعير .
فنقدني ثمنه : جاء في رواية : ( فأعطاني ثمن الجمل ، والجمل وسهمي مع القوم ، وفي رواية : ( فأعطاني ثمنه ورده علي ) .
قال الحافظ ابن حجر : " وهذا كله بطريق المجاز ، لأن العطية إنما وقعت له بواسطة بلال ، كما رواه مسلم " .
ما كستك : المماكسة المناقصة في الثمن ، وأشار بذلك إلى ما وقع بينهما من المساومة عند البيع .
الفوائد :
1- جواز ضرب الدابة للسير وإن كانت غير مكلفة ، بشرط ألا يشق عليها .
2- جواز المساومة لمن يعرض سلعته للبيع .
3- رأفة النبي ( وشدة عطفه ولطفه بأصحابه .
4- ينبغي على أمير القوم أن يرفق بضعيفهم .(1/40)
5- في الحديث جواز شرط البائع نفعاً معلوماً في المبيع ، كأن يقول : أبيع عليك داري ، بشرط أن أسكن فيه لمدة أسبوع .
مثال : بعت سيارتي واشترطت على المشتري أن أسافر بها إلى مكة .
وقد اختلف العلماء في هذا :
فقيل : لا يجوز .
وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي .
قالوا : لأن الشرط المذكور ينافي مقتضى العقد .
القول الثاني : أنه يجوز .
وهذا مذهب الأوزاعي ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وطائفة .
وهذا القول هو الصحيح .
لحديث الباب ، فإن جابراً باع على النبي ( الجمل ، واشترط أن يحمله إلى أن يصل المدينة .
لكن لا بد أن يكون الاستثناء معلوماً .
والعلم يكون : بالزمن ويكون بالعمل ويكون بالمسافة .
مثال الزمن : بعت بيتي واشترطت أن أسكن هذا البيت لمدة شهر .
مثال العمل : لو بعت عبداً ، واشترطت أن يخيط لي ثوباً .
مثال المسافة : لو بعت سيارة ، واشترطت أن أسافر بها إلى مكة .
فإن كان مجهولاً فلا يصح .
مثال : أبيعك بيتي بشرط أن أسكنه إلى قدوم زيد .
هذا لا يصح ، لأن قدوم زيد مجهولاً .
فائدة :
ما الحكم لو اشترط النفع في غير المبيع ؟
مثاله : بعتك بيتي على أن تسكنني بيتك شهراً .
المشهور من المذهب أنه لا يصح .
وقيل : يصح ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ، وابن القيم ، والشيخ السعدي .
لحديث الباب .
ولحديث : ( المسلمون على شروطهم ) .
6- جواز تكرار طلب البيع أو الشراء ، لقوله : ( بعنيه ، ثم قال : بعنيه ) وهذا لا يعد من الإلحاح المكروه .
7- جواز تسييب الدابة إذا لم يكن فيها منفعة .
8- إثبات معجزة من معجزات النبي ( ، وأنه من آيات نبوته .
لقول جابر : ( فضربه فسار سيراً لم يسر مثله قط ) .
9- مشروعية تقدم القبول على الإيجاب في البيع ، فلا حرج للمشتري أن يسبق البائع فيقول للبائع : بعني هذه الدار .
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا بد أن يكون الإيجاب قبل القبول ، ولكن هذا القول ضعيف .
10- جواز المماكسة في البيع .(1/41)
11- سماحة النبي ( وكرمه وحسن وفائه لأصحابه .
12- أن القبض ليس شرطاً في صحة البيع .
13- تواضعه ( .
14- جواز الوكالة في وفاء الديون .
15- فضيلة جابر ، حيث ترك حظ نفسه وامتثل أمر النبي ( له ببيع جمله مع احتياجه إليه .
فائدة :
قال الحافظ ابن حجر : " آل أمر جمل جابر هذا لما تقدم له من بركة النبي ( إلى مآل حسن ، فرأيت من ترجمة جابر من تاريخ ابن عساكر بسنده إلى أبي الزبير عن جابر قال : ( فأقام الجمل عندي زمان النبي ( وأبي بكر وعمر ، فعجز ، فأتيت به عمر ، فعرفت قصته ، فقال : اجعله في إبل الصدقة وفي أطيب المراعي ، ففعل به ذلك إلى أن مات " .
فائدة :
رجح الحافظ ابن حجر أن هذه القصة وقعت في غزوة ذات الرقاع في السنة الرابعة .
273 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( قَالَ : (( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ( أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ . وَلا تَنَاجَشُوا وَلا يَبِعِ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ . وَلا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَتِهِ . وَلا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلاقَ أُخْتِهَا لِتَكْفَأَ مَا فِي إِنَائِهَا )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
المرأة : هل المراد بها الزوجة أو هو عام ، والظاهر العموم ، يعني سواء كانت الزوجة السائلة ضرة للمسؤول طلاقها أم أجنبية ، يعني : لا تقل للرجل طلق فلانة .
لتكفأ ما في إنائها : كناية عن قطع إنفاق الزوج عليها ، لأن الزوج إذا أنفق على زوجته يأتي لها بالطعام بإناء ، فإذا طلقت فكأن التي سألت الطلاق حرمتها هذا الطعام فكفأته .
أختها : أي أختها في الدين .
الفوائد :
1- تحريم بيع الحاضر للباد . [ وقد سبقت المسألة ]
2- تحريم النجش . [ وقد سبقت المسألة ]
3- تحريم بيع المسلم على بيع أخيه المسلم . [ وقد سبقت المسألة ]
4- تحريم أن يخطب المسلم على أخيه المسلم .
مثال : أسمع أن فلاناً خطب فلانة ، فأذهب أنا وأخطبها ، فهذا حرام .
الحكمة من التحريم :(1/42)
لما في ذلك من الإفساد على الخاطب الأول ، وإيقاع العدوان بين الناس ، والتعدي على حقوقهم .
5- ما الحكم لو وقع ؟
يصح مع الإثم ، وهذا مذهب أكثر العلماء .
6- حالات الخطبة على الخطبة :
الأولى : إذا أجيب الخاطب الأول بالموافقة ، فهنا لا يجوز للخاطب الثاني أن يخطب .
الثانية : إذا ردّ الخاطب الأول ، فهنا يجوز للثاني أن يخطب .
الثالثة : أن يترك الخاطب الأول الخطبة ، ويعرض عنها ، فهنا يجوز .
الرابعة : أن يأذن الخاطب ، فهنا يجوز .
فقد جاء في الحديث : ( لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له ) .
الخامسة : إذا علم أنه خطب ، لكن لا يعلم هل قبلوه أو ردوه ؟ هذا محل خلاف .
والراجح أنه يحرم أن يخطب .
7- لا يجوز أن يخطب على خطبة غير المسلم .
لقوله ( : ( لا يخطب الرجل على خطبة الرجل ) .
فهذا الحديث ظاهره نهي خطبة الرجل على الرجل بدون تقييد بالإسلام .
وأما حديث : ( لا يخطب على خطبة أخيه ) فهذا التقييد محمول على الغالب فلا مفهوم له .
مثال : علمت أن يهودياً خطب يهودية ، فذهبت وخطبتها [ لأن المسلم يجوز أن يتزوج اليهودية ] .
8- يحرم للمرأة ( الزوجة الأولى ) أو غيرها ، أن تطلب من الرجل أن يطلق زوجته .
لو خطب رجل امرأة ، فشرطت عليه طلاق زوجته :
فقيل : يصح هذا الشرط مع مخالفته للنهي .
وقيل : لا يصح ، بل باطل .
وهذا هو الصحيح ، وهو اختيار ابن تيمية ، والشيخ السعدي .
بابُ الرِّبا والصَّرْفِ
274 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( الذَّهَبُ بِالْذهب رِبًا , إلاَّ هَاءَ وَهَاءَ ، والفضة بالفضة رباً ، إلا هاء وهاء ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِباً , إلاَّ هَاءَ وَهَاءَ . وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِباً , إلاَّ هَاءَ وَهَاءَ )) .(1/43)
275 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( لا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ . وَلا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ . وَلا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إلاَّ مِثْلاًّ بِمِثْلٍ . وَلا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ . وَلا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِباً
بِنَاجِزٍ )) .
وَفِي لَفْظٍ (( إلاَّ يَداً بِيَدٍ )) .
وَفِي لَفْظٍ (( إلاَّ وَزْناً بِوَزْنٍ , مِثْلاً بِمِثْلٍ ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
الذهب بالذهب : أي إذا بعت ذهب بذهب .
هاءَ وهاء : أي التقابض .
إلا مثلاً بمثل : هذا في الوزن ، أي لا يزيد أحدهما على الآخر .
ولا تشفوا : هذا تأكيد لقوله : ( إلا مثلاً بمثل ) أي لا تزيدوا ، فمعنى الحديث : أن بيع الذهب بالذهب ، أو الفضة بالفضة أو البر بالبر ، لا بد من شرطين :
- التقابض ، لقوله : ( إلا هاءَ وهاء ) .
- التماثل ، لقوله : ( إلا مثلاً بمثل ) .
الفوائد :
1- تعريف الربا :
لغة : الزيادة ، ومنه قوله تعالى : ( فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ( . (الحج: من الآية5) أي زادت .
وشرعاً : الزيادة في أشياء مخصوصة [ الأصناف الستة : الذهب ، والفضة ، والبر ، والشعير ، والتمر ، والملح ] .
وحكمه :
حرام بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : ( وَحَرَّمَ الرِّبا ( . (البقرة: من الآية275)
وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( . (البقرة:278)
وقال تعالى : ( يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ( . (البقرة: من الآية276)
وقال ( : ( اجتنبوا السبع الموبقات : ... وذكر منها : وأكل الربا ) .
وقال ( : ( لعن رسول الله ( آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه ) . رواه مسلم(1/44)
وعن ابن مسعود عن النبي ( قال : ( ما أحد أكثر من الربا إلا كان أمره إلى قلة ) . رواه أحمد
وقال ابن قدامة : " أجمعت الأمة على أن الربا محرم " .
والربا ينقسم إلى قسمين :
ربا النسيئة - وربا الفضل .
الأول : ربا النسيئة .
مأخوذ من النسيء ، وهو التأخير .
تعريفه : تأخير القبض عند مبادلة الربوي بالربوي سواء كان من جنسه أو من غير جنسه إذا اتحدا في العلة .
مثال : بر ببر بعد شهر ، ذهب بذهب بعد شهر ، ريالات بدنانير بعد أسبوع .
ومن ربا النسيئة : قلب الدين على المعسر .
وهذا هو أصل الربا في الجاهلية ، أن الرجل يكون له على الرجل المال المؤجل ، فإذا حل الأجل ، قال له : أتقضي أم تربي ؟ فإن وفاه وإلا زاد هذا في الأجل ، وزاد هذا في المال ، فيتضاعف المال في ذمة المدين .
فهذا محرم ، وهو ربا الجاهلية .
لأنه إذا حل الدين وكان الغريم معسراً ، لا يجوز أن يقلب الدين عليه ، بل يجب إنظاره ، ويحرم مطالبته .
لقوله تعالى : ( وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ( . (البقرة: من الآية280)
الثاني : ربا الفضل .
وهو الزيادة في مبادلة مال ربوي بمال ربوي من جنسه .
مثال : لو باع صاع بصاعين ، أو درهماً بدرهمين حالاً .
ويحصل غالباً لوجود صفة في أحد الشيئين كالجودة .
وقد نص الشارع في تحريمه في ستة أشياء ، هي : الذهب ، والفضة ، والبر ، والشعير ، والتمر ، والملح .
ويقاس عليها ما شاركها في العلة . [ كما سيأتي بيانه بعد قليل إن شاء الله ]
فائدة :
وقد يجتمع ربا الفضل مع ربا النسيئة عند مبادلة الربوي بربوي من جنسه مع تأخير القبض .
مثال : مائة ريال بمائة وعشرين بعد شهر مثلاً .
وقد وجد خلاف قديم في ربا الفضل :
فقد ذهب بعض الصحابة كابن عباس وابن عمر ، إلى جوازه . واستدلوا :
بحديث أسامة بن زيد قال : قال رسول الله ( : ( إنما الربا في النسيئة ) .
وذهب جماهير العلماء إلى تحريمه .(1/45)
لحديث عبادة قال: قال رسول الله (:(الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح ، مثلاً بمثل ، سواء بسواء ، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) . رواه مسلم
فالحديث ظاهر في إيجاب التساوي والتقابض في بيع المتماثلين .
ولحديث الباب : ( لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا منها غائباً بناجز ) .
فالحديث ظاهر في منع التفاضل في بيع الجنس بجنسه ، فمن فعل فقد أربى .
حديث أبي هريرة أن رسول الله ( استعمل رجلاً على خيبر فجاءه بتمر جنيب ، فقال : أكل تمر خيبر هكذا ، فقال : لا والله يا رسول الله ، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين ، والصاعين بالثلاثة ، فقال رسول الله ( : لا تفعل ، بع الجمْع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً ) . متفق عليه
الجمع : قال النووي : الجمع : بفتح الجيم وإسكان الميم هو تمر رديء .
الجنيب : نوع من التمر جيد .
فالحديث فيه أن النبي ( نهى عن التفاضل في التمر ببيع الصاع بالصاعين ، ونحو ذلك .
وأجاب الجمهور عن حديث أسامة : ( لا ربا إلا في النسيئة ) بأجوبة :
أولاً : قيل : أنه منسوخ .
ثانياً : وقيل : أن المراد في قوله ( لا ربا ) حصر الكمال ، أي الربا الكامل الأغلظ الأشد المتوعد عليه .
2- اتفق العلماء على جريان الربا في ستة أصناف التي ذكرت في الأحاديث السابقة ، كحديث عبادة وغيره :
الذهب ، والفضة ، والبر ، والشعير ، والتمر ، والملح .
قال ( في حديث عبادة السابق : ( الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والملح بالملح ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، مثلاً بمثل ، يداً بيد ) .
واختلفوا هل يجري الربا في غيرها على أقوال :
القول ألأول : أن الربا لا يجري إلا في هذه الأصناف الستة ، ولا يتعداها على غيرها .
وهذا مذهب طاووس وقتادة .(1/46)
قالوا : أن علل الجمهور التي استنبطوها [ وستأتي بعد قليل ] ضعيفة ، وإذا لم تظهر فيه علة امتنع القياس .
وممن يرى هذا الرأي ابن حزم ، لأنه لا يرى القياس .
القول الثاني : أن الحكم يتعدى إلى غيرها .
وهذا مذهب جماهير العلماء بما فيهم الأئمة الأربعة .
وهذا القول هو الصحيح .
لكن هؤلاء الجمهور اختلفوا في العلة في هذه الأصناف :
[ اتفقوا أن العلة في الذهب والفضة غير العلة في الأربعة الباقية ]
أولاً : العلة في الذهب والفضة :
القول الأول : العلة هي الوزن .
وعلى هذا القول يجري الربا في كل موزون ، كالحديد والرصاص واللحم والسكر .
هذا مذهب الحنفية والحنابلة .
القول الثاني : أن العلة في الذهب والفضة الثمنية .
فكل ما كان ثمناً فإنه يجري فيه الربا .
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ، وابن القيم .
وبناء على ذلك يتعدى الذهب والفضة إلى الفلوس والأوراق النقدية ، وكل ما عده الناس ثمناً .
وهذا القول هو الراجح .
ثانياً : العلة في الأصناف الأربعة [ البر ، والشعير ، والتمر ، والملح ] :
القول الأول : العلة الكيل .
وهذا مذهب أبي حنيفة ، والمشهور من مذهب الحنابلة .
فكل مكيل على هذا القول يجري فيه الربا : كالأرز ، والإشنان ، وغيرهما .
القول الثاني : أن العلة هي الطعم .
وهذا مذهب الشافعي .
وعلى هذا القول يحرم الربا في كل مطعوم ، سواء كان مما يكال ، أو يوزن ، أو غيرهما كالفواكه ، والبصل ، والرمان ، وغيرها ، لأنها مطعومة .
القول الثالث : أن العلة هي القوت والادخار .
أي كون الطعام قوتاً ويدخر .
وهذا مذهب مالك ، واختاره ابن القيم .
القول الرابع : أن العلة هي الطعم ، مع الكيل والوزن .
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية .
وهذا هو الراجح .
لأن حديث عبادة المتقدم ، الأصناف مطعومة مكيلة .
أمثلة :
- بعت سيارة بسيارتين : ليس فيه ربا على جميع الأقوال .(1/47)
- بعت بيضة ببيضتين : ليس فيه ربا على القول الصحيح ، وعند الشافعي فيه ربا .
- بعت كيس رز بكيسين : فيه ربا على جميع الأقوال ، ما عدا الظاهرية .
3- من خلال أحاديث الباب ، وحديث عبادة : ( الذهب بالذهب ، والفضة ... يداً بيد ، مثلاً بمثل ) نستطيع أن نستخرج قواعد وضوابط عن الربا :
الضابط الأول : إذا بيع ربوي بجنسه ، فإنه يشترط فيه شرطان :
التساوي والتماثل ( فلا يزيد بعضهما على بعض ) - والتقابض .
أمثلة : ذهب بذهب ، فضة بفضة ، بر ببر ، تمر بتمر .
مائة صاع بمائة صاع بر .
لقوله ( : ( مثلاً بمثل ) هذا في التساوي .
وقوله ( : ( يداً بيد ) هذا التقابض في المجلس .
الضابط الثاني : إذا بيع الربوي بجنس آخر مما يساويه في العلة ، فإنه يشترط شرط واحد : وهو التقابض .
كذهب بفضة ، بر بشعير ، تمر بملح ، شعير بأرز .
فيجوز أن أبيع مائة صاع من البر بمائتين من التمر ، بشرط التقابض في مجلس العقد .
مثال آخر : باع صاع من البر بصاعين من الشعير ، وتقابضا في مجلس العقد ، فإن هذه معاملة صحيحة .
لقوله ( : ( فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد ) .
ولقوله ( : ( ولا يباع منها غائباً بناجز ) .
الضابط الثالث : إذا بيع الربوي بربوي آخر مما لا يساويه في العلة ، فإنه لا يشترط شيء ، فيجوز التقابض والتأجيل .
مثال : ذهب ببر ، وفضة بشعير .
فوائد :
إذا بيع ربوي بغير ربوي ، فإن المعالمة تصح ولا يشترط التساوي أو الحلول والتقابض .
مثال : إذا باع ريالات بثوب أو بساعة .(1/48)
276- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ( قَالَ : (( جَاءَ بِلالٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ( بِتَمْرٍ بَرْنِيِّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ( : مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا ؟ قَالَ بِلالٌ : كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيءٌ , فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِيَطْعَمَ النَّبِيُّ ( . فَقَالَ النَّبِيُّ ( عِنْدَ ذَلِكَ : أَوَّهْ , أَوَّهْ , عَيْنُ الرِّبَا , عَيْنُ الرِّبَا , لا تَفْعَلْ . وَلَكِنْ إذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعْ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ . ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
برني : تمر جيد من تمر المدينة .
أوّه : كلمة يؤتى بها للتوجع .
الفوائد :
1- في هذا الحديث جاء بلال إلى النبي ( بتمر برني جيد ، فتعجب النبي ( من جودته ، فقال : من أين هذا ، فقال بلال : كان عندنا تمر ، فبعت الصاعين من الردىء بصاع من هذا الجيد ، ليكون مطعم النبي ( ، فعظم ذلك على النبي ( وأخبر بلال بأن عمله هذا هو عين الربا ، فلا تفعل ثم أرشده للطريقة الصحيحة ، وهي إذا أراد استبدال ردىء بجيد ، أن يبيع الردىء بدراهم ثم اشتر بالدراهم تمراً جيداً .
2- أن اختلاف الجنس في الجودة والرداءة لا يؤثر في منع الربا ، فإن النبي ( قال : عين الربا ، مع أن القيمة مختلفة ، فإن الردىء لا يساوي في القيمة الجيد ، ومع ذلك منع الرسول ( الفضل بينهما [ بين التمرين ] لأنهما من جنس الواحد .
3- تحريم التفاضل ببيع نوعي الجنس الواحد من الأشياء الربوية .
4- أن التفاضل بينهما محرما ولو كان أحدهما أجود من الآخر [ فالعبرة بالتساوي قدراً لا جودة أو رداءة ] .
5- شدة إكرام الصحابة للرسول (
6- أن النبي ( لا يعلم الغيب .
7- تعظيم أمر الربا .
8- وجوب إنكار المنكر .
9- لا ذنب على الجاهل .
10- ينبغي للعالم والمفتي إذا أخبر بتحريم شيء ، أن يبين للناس أبواب الحلال التي تغني عن الحرام .(1/49)
11- عظم المعصية ، وكيف بلغت من نفس النبي ( .
12- استدل بحديث الباب الشافعية وقالوا بحل بيع العينة .
والعينة تعريفها : مثل أن يكون محتاج إلى دراهم فلا يجد من يقرضه ، فيقوم ويشتري من شخص سلعة بثمن مؤجل ، ثم يبيعها على صاحبها الذي اشتراها منه بثمن أقل منه نقداً .
وقد اختلف العلماء في حكمها على قولين :
القول الأول : أنها جائزة .
وهذا مذهب الشافعي .
لعموم قوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْع ( . (البقرة: من الآية275 )
ولحديث الباب .
القول الثاني : أنها حرام .
وهذا مذهب جماهير العلماء من الحنفية والمالكية والحنابلة .
لقوله ( ( إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذنباب البقر وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم ) رواه أبو داود .
ولأنها حيلة على الربا .
باب الصرف
277 - عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ قَالَ : (( سَأَلْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ , عَنْ الصَّرْفِ ؟ فَكُلُّ وَاحِدٍ منهما يَقُولُ : هَذَا خَيْرٌ مِنِّي . وَكِلاهُمَا يَقُولُ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ( عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ دَيْناً )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
الصرف لغة : هو الصوت . واصطلاحاً : بيع نقد بنقد كبيع الذهب بالفضة .
الورق : الفضة .
الفوائد :
1- في هذا الحديث ينهى النبي ( عن بيع الذهب بالفضة ديناً ، لاجتماعهما في علة الربا ، فحينئذٍ لا بد فيهما من التقابض في مجلس العقد ، وإلا لما صح الصرف ، وصار ربا النسيئة .
2- فإذا بيع نقد بنقد :
- فإن كان من جنسه ، كذهب بذهب ، أو دولارات بدولارات ، وجب : التساوي - التقابض .
- وإن بيع نقد بنقد من غير جنسه ، كدراهم سعودية ، بدولارات مثلاً ، وجب حينئذٍ شيء واحد : وهو التقابض .
3- فضل أصحاب النبي ( ، وأنهم يعترفون لعلمائهم بالفضل والعلم .
4- جواز التزكية والثناء والمدح ، لكن بشروط :(1/50)
أولاً : وجود الحاجة للتزكية .
ثانياً : أن يكون بالحق لا بالباطل .
ثالثاً : أن لا يبالغ في التزكية .
رابعاً : أن تؤمن الفتنة على الشخص الممدوح .
5- ورع الصحابة في تدافع الفتوى .
6- يجوز للعالم أن يحيل السائل لمن هو أعلم منه .
بابُ الرَّهْنِ وغيرِهِ
278 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَاماً , وَرَهَنَهُ دِرْعاً مِنْ حَدِيدٍ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
يهودي : سموا اليهود بذلك من قولهم : إنا هدنا إليك ، أي تبنا إليك ، وقيل : نسبة إلى جدهم يهودا .
الفوائد :
1- الحديث يدل على جواز الرهن .
والرهن لغة : الثبوت ، يقال : ماء راهن : أي راكد .
واصطلاحاً : توثقة دين بعين يمكن استيفاؤه أو بعضه منها أو من بعضها .
مثال : اشتريت من رجل طاولة إلى أجل ، وطلب رهناً ، فأعطيته ساعتي رهناً .
- فإذا كان الرهن أكثر من الدين ، فإنه يمكن استيفاء الدين من بعضها .
- وإذا كان الدين أكثر من العين المرهونة ، فإنه يمكن استيفاء بعضه منها .
- وإذا كان الدين بقدر العين ، فإنه يمكن استيفاؤه كله منها .
وهو جائز بالكتاب والسنة والإجماع :
قال تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ( . (البقرة: من الآية283)
ومن السنة حديث الباب .
والإجماع ، قال ابن قدامة : " فقد أجمع المسلمون على جواز الرهن في الجملة " .
فالرهن جائز في الحضر والسفر .
أما السفر : للآية الكريمة السابقة .
وأما الحضر : فلحديث الباب ، فإن النبي ( فعله وهو مقيم في المدينة ( موطنه ) .
الحكمة من مشروعية الرهن :
أولاً : توثقة الدين .
ثانياً : ضمان لحقوق الناس من تلاعب المتلاعبين ، وتساهل المتساهلين .(1/51)
فإذا كان الإنسان المدين ، قد أخذ على صاحب الدين رهناً ، فإنه يسعى في سداد دينه ، فإن لم يستطع السداد أمكن لصاحب الدين أن يأخذ حقه دون أن يُماطَل .
ثالثاً : فيه تشجيع للمرتهن أن يدفع ماله ديناً .
رابعاً : فيه ضمان للمرتهنين على أموالهم .
خامساً : فتح باب التعاون والمساعدة .
أركان الرهن :
الراهن : وهو الذي أعطى الرهن .
المرتهن : وهو الذي أخذ الرهن .
ما الذي يجوز رهنه ؟
كل ما يجوز بيعه يجوز رهنه .
لأن مقصود الرهن الاستيثاق من الرهن ، وهذا يتحقق في كل ما يجوز بيعه ، فما كان محلاً للبيع يتحقق فيه المقصود من الرهن .
هل يشترط لصحة الرهن أن يكون مقبوضاً أولاً ؟ اختلف العلماء :
القول الأول : وجوب القبض .
لظاهر الآية : ( فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ( . (البقرة: من الآية283)
فوصفت الآية الرهان بكونها مقبوضة .
وعلى هذا القول ، فإذا رهنتك بيتي ولم تستلمه ولم تقبضه فالرهن في حقي ليس بلازم ، فيجوز أن أبيعه .
مثال آخر : رهنتك سيارتي ، وأنا أستعملها ، فالرهن ليس بلازم ، فيجوز أن أبيعها ، لأن الرهن لا يلزم إلا بالقبض .
القول الثاني : أن القبض ليس شرطاً للزوم .
وهذا مذهب المالكية .
لقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ( . (المائدة: من الآية1) وعقد الرهن تام بالاتفاق فيجب الوفاء به .
وقال تعالى : ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ( . (الاسراء: من الآية34) فالإنسان الذي قد رهنك قد عاهدك ، لأن العقد عهد .
وهذا الذي رجحه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله .
انتفاع المرتهن بالرهن ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : ما لا يحتاج إلى مؤنة ، كالدار والمتاع ونحوه .
فلا يجوز للمرتهن الانتفاع به بغير إذن الراهن بحال ، لا نعلم في هذا خلافاً ، لأن الرهن ملك الراهن .
القسم الثاني : ما يحتاج فيه إلى مؤنة مما يركب أو يحلب .(1/52)
فقد اختلف العلماء : هل يجوز للمرتهن الانتفاع به بغير إذنه على قولين :
القول الأول : لا يجوز إلا بإذن الراهن .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
قالوا : لأن المرهون ملك غيره لم يأذن له في الانتفاع به ، ولا الإنفاق فلم يكن له ذلك .
القول الثاني : يجوز للمرتهن الانتفاع بالدابة بقدر النفقة ، متحرياً العدل .
وهذا مذهب الحنابلة ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ، وابن القيم .
لحديث أبي هريرة قال : قال رسول الله ( : ( الرهن يُركب بنفقته إذا كان مرهوناً ، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً ، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة ) . رواه البخاري
وجه الدلالة : أن الحديث جعل المنفعة بدلاً وعوضاً عن النفقة .
وهذا القول هو الصحيح .
وهو مقتضى القياس لوجوه :
أولاً : أن هذا الرهن بحاجة إلى النفقة ، ولو ترك لهلك .
ثانياً : في إلزام الراهن بالنفقة مشقة ، لأنه قد يكون غائباً أو في بلد آخر ، فكيف يأتي ليعلف دابته ويحلبها كل يوم ففيه مشقة على الراهن ، ومشقة في حق المرتهن ، فلو ترك الراهن النفقة هلك الرهن .
الرهن أمانة في حق المرتهن .
وعلى ذلك ، فإذا تلف عند المرتهن من غير تعد ولا تفريط فلا يضمن ، وإذا تعدى وفرط ضمن .
التعدي : أن يفعل ما لا يجوز .
التفريط : أن يترك ما يجب .
لأنه لو تم تضمين المرتهن ( وهو لم يتعد ولم يفرط ) لا متنع الناس من فعله خوفاً من الضمان .
قال ابن قدامة : " أما إذا تعدى المرتهن في الرهن ، أو فرط في الحفظ للرهن الذي عنده ثم تلف ، فإنه يضمن ، لا نعلم في وجوب الضمان عليه خلافاً ، ولأنه أمانة في يده فلزمه ضمانه إذا تلف بتعديه أو تفريطه كالوديعة " .
لا ينفذ تصرف الراهن والمرتهن بغير إذن الآخر .
- أما عدم نفوذ تصرف المرتهن : لأنه ليس بمالك ، ولا قائماً مقام الملك .(1/53)
مثال : أخذت منك مائة ريال ، وأعطيتك هذا المسجل رهن ، المسجل الآن رهن عند المرتهن ، فالمرتهن لا يملك أن يبيع المسجل ، لأنه ليس ملكاً له ، ولا قائماً مقام الملك .
- وأما عدم نفوذ تصرف الراهن : فلتعلق حق المرتهن به ، فتصرفه فيه يستلزم إبطال حق المرتهن .
إذا حل الأجل :
فإنه يقال للراهن : سدد الدين .
فإن امتنع من تسديد الدين ، قيل له : بع الرهن وسدد منه .
فإن رفض حبس حتى يسدد الدين أو يبيع الرهن .
لقوله ( : ( لي الواجد يحل عرضه وعقوبته ) . رواه أبو داود
لي : بفتح اللام وتشديد الياء ومعناه التسويف والمماطلة . الواجد : القادر على الوفاء .
عرضه : أي يبيح لدائنه أن يصفه بكونه ظالماً . وعقوبته : حبسه أو تأديبه حسب رأي الحاكم .
فإن أبى مع الحبس ، فإن القاضي يتدخل ويبيع الرهن ويوفي الدين .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
2- من فوائد حديث الباب مشروعية التعامل مع الكفار ، فالنبي ( لم يمنعه كفر اليهودي من التعامل معه بالبيع والشراء ، بشرط ألا يتعارض البيع والشراء مع الشرع .
3- يجوز التعامل مع من يتعامل بالربا بالبيع والشراء ، خارج أمور الربا .
مثال : عندي سيارة أريد أن أبيعها ، فأراد شخص ( مرابي ) أن يشتريها ، فلا بأس بذلك .
4- مشروعية بيوع الآجال .
5- مشروعية الأخذ بالأسباب ، وأن ذلك لا ينافي التوكل .
6- فيه ما كان عليه ( من التقلل من الدنيا وملازمة الفقر .
7- جواز رهن آلة الحرب .
8- قال النووي : " وأما شراء النبي ( الطعام من اليهودي ورهنه عنده دون الصحابة ، فقيل : فعله بياناً لجواز ذلك . وقيل : لأنه لم يكن هناك طعام فاضل عن حاجة صاحبه . وقيل : لأن الصحابة لا يأخذون رهنه ( ولا يقبضون منه الثمن ، فعدل إلى معاملة اليهودي لئلا يضيق على أحد من أصحابه " .(1/54)
279 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ . وإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ )) .
------------------------------------
هذا الحديث يحتوي على جملتين :
الجملة الأولى : ( مطل الغني ظلم ) .
معاني الكلمات :
مطل : المراد هنا تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر [ قاله ابن حجر ] .
الغني : القادر على الأداء فأخّره .
الفوائد :
1- تحريم مطل وتأخير سداد الدين إذا كان الإنسان مستطيعاً .
والدليل على تحريم المطل ، أن النبي ( سماها ظلماً ، فإذا كان ظلماً علم بذلك أنه حرام .
مسائل الدين :
أولاً : يحرم على الغني [ القادر على الأداء ] أن يمطل ويؤخر سداد الدين .
لحديث الباب .
ثانياً : أن مطل غير القادر ليس بظلم ، فلو مطل الإنسان الفقير فلا شيء عليه .
ثالثاً : لا يجوز مطالبة الإنسان المعسر ، ويجب إنظاره ، لأنه معذور .
لقوله تعالى : ( وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ( . (البقرة: من الآية280)
قال ابن كثير : " يأمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاءً " .
رابعاً : التحذير من الدين والتساهل به .
قال ( : ( نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه ) . رواه الترمذي
قال الصنعاني : " وهذا الحديث من الدلائل على أنه لا يزال الميت مشغولاً بدينه بعد موته ، ففيه حث على التخلص منه قبل الموت ، وأنه أهم الحقوق ، وإذا كان هذا في الدين المأخوذ برضا صاحبه ، فكيف بما أخذ غصباً ونهباً وسلباً " .
وقال ( : ( يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين ) . رواه مسلم
إلا الدين : المقصود به الذي تساهل به ولم يسدده وهو قادر عليه .
خامساً : يجب على المدين أن ينوي السداد إذا استدان لحاجة .
قال ( : ( من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله ) . رواه البخاري(1/55)
قال الحافظ ابن حجر : " ( أتلفه الله ) ظاهره أن الإتلاف يقع له في الدنيا ، وذلك في معاشه أو في نفسه ، وهو من أعلام النبوة لما نرى من المشاهدة ممن يتعاطى شيئاً من الأمرين ، وقيل المراد بالإتلاف عذاب الآخرة " .
أدى عنه : أي يوفقه ويعينه على السداد .
وقال ( : ( ما من مسلم يدانُ ديناً ، يعلم الله منه أنه يريد أداءه إلا أداه الله عنه في الدنيا ) . رواه ابن ماجه
سادساً : أن النبي ( استعاذ من الدين .
عن أنس عن النبي ( أنه كان يقول : ( اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل ... وضلع الديْن ) . رواه البخاري
قال القرطبي : " ( ضلع الديْن ) هو الذي لا يجد دائنه من حيث يؤديه " .
الجملة الثانية : ( وإذا أتبع أحدكم على مليء ... ) .
معاني الكلمات :
أتبع : أي أحيل .
مليء : أي قادر على الوفاء بماله وبدنه .
- قادر على الوفاء بماله : يعني يكون واجداً للمال الذي أحيل عليه ، فإن كان فقيراً فليس بمليء .
- ببدنه : أي يمكن أن يحضر إلى مجلس الحكم عند المحاكمة فيما إذا امتنع عن الوفاء .
فلوا أحالك على أبيك ، فإنه لا يلزم القبول ، لأنه لا يمكن أن تحاكم أباك .
- وحاله : أي غير مماطل ، فإن كان مماطلاً فإنه لا يلزم التحول .
الفوائد :
1- الحديث دليل على مشروعية الحوالة .
تعريفها : نقل الحق من ذمة إلى ذمة .
مثالها : زيد يطلب عمر مائة درهم ، وعمر يطلب خالد مائة درهم ، فجاء زيد إلى عمر وقال : أعطني حقي ، فقال عمر : إن لي حقاً عند خالد هو مائة درهم ، وقد أحلتك عليه ، إذاً : تحول الحق من ذمة عمر إلى ذمة خالد .
وعمر في هذه الحالة لا يكون مطالباً بشيء ، لأن الحق تحول من ذمته إلى ذمة خالد .
وهي جائزة بالسنة والإجماع .
السنة : لحديث الباب .
والإجماع : قال ابن قدامة : " أجمع أهل العلم على جواز الحوالة في الجملة " .
أركانها :
محيل : وهو من عليه الحق .
محال : وهو من له الحق .
محال عليه : وهو المطلوب للمحيل .(1/56)
الحكمة منها :
هي من عقود الإرفاق ، ففيها إرفاق للطالب والمطلوب .
- أما الطالب : فوجه الإرفاق في حقه أنه ربما يكون المطلوب ذا صلة بالطالب بقرابة أو غيره ، فيشق عليه أن يطالبه ، فيحيل المطلوب على الثالث فيكون إرفاقاً بالمحيل ( الطالب ) .
- أما بالنسبة للمطلوب : فلأن الطالب قد يكون سيء المعاملة بالنسبة للمطلوب ، يضايقه ويكثر الترداد عليه ، فيتخلص منه بالتحويل إلى ذمة الآخر ، فيكون إرفاقاً بالمطلوب .
من الذي لا يشترط رضاه ومن الذي يشترط ؟
أولاً : المحيل .
يشترط رضاه بالإجماع .
قال الشوكاني : " ويشترط في صحة الحوالة رضا المحيل بلا خلاف " .
وقال في المغني : " ولا خلاف في هذا ، أي أن رضا المحيل شرط بلا خلاف " .
ثانياً : المحال عليه .
لا يشترط رضاه ، وهذا مذهب الجمهور .
لأن المطلوب منه تسديد الدين لأحدهما ، فليس لطلب رضاه معنى .
ثالثاً : المحال .
إن أحيل على مليء قادر فإنه يجب أن يتحول ، ولا يشترط رضاه .
لظاهر قوله ( : ( وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع ) .
وهذا أمر ، والأمر يقتضي الوجوب .
وهذا مذهب الحنابلة ، وهو القول الصحيح .
( أما إذا حوله على مماطل ، أو غير مليء ، فإنه لا يلزمه التحول ، ولا بد من رضاه ) .
( وذهب جماهير العلماء إلى أن الأمر للاستحباب ، وأنه لا يلزم للمحيل أن يتحول ، وحملوا الأمر في الحديث على الاستحباب ) .
الخلاصة :
المحيل : يشترط رضاه .
المحال عليه : لا يشترط رضاه .
المحال : تفصيل : إذا كان على مليء قادر ، يجب أن يتحول ولا يشترط رضاه ، وإن كان فقيراً أو مماطلاً ، فإنه لا يجب أن يتحول .
إذا تمت الحوالة :
فإنه ينتقل الحق إلى ذمة المحال عليه ، وبرئ المحيل بمجرد الحوالة .
قال ابن قدامة : " وهذا قول عامة الفقهاء " .(1/57)
280 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( - أَوْ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ ( يَقُولُ - : (( مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ - أَوْ إنْسَانٍ - قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
بعينه : أي لم يتغير ولم يتبدل .
فهو أحق به من غيره : أي كائناً من كان وارثاً وغريماً .
قد أفلس : المفلس شرعاً : ما تزيد ديونه على موجوده ، سمي مفلساً لأنه صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم ودنانير ، إشارة إلى أنه صار لا يملك إلا أدنى الأموال وهي الفلوس ، أو سمي بذلك لأنه يمنع التصرف إلا في الشيء التافه كالفلوس ، لأنهم ما كانوا يتعاملون بها إلا في الأشياء الحقيرة ، أو لأنه صار إلى حالة لا يملك فيها فلساً .
الفوائد :
1- في هذا الحديث يخبر النبي ( أن من باع متاعه [ كسيارة ، أو ثوباً ، أو غيره ] لأحد مؤجلاً، أو ودعه ، فأفلس المشتري ، بأن كان ماله لا يفي بديونه ، فللبائع أخذ متاعه إذا وجد عينه ، بأن كان بحالة لم تتغير صفاته بما يخرجه عن اسمه ، ولم يقبض من ثمنه شيئاً ، فحينئذٍ يكون أحق به من الغرماء .
وهذه المسألة وقع فيها خلاف بين العلماء :
القول الأول : أن من وجد عين ماله عند من أفلس ، فهو أحق به من غيره .
وهذا مذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة .
قال ابن عبد البر : " وممن قال بهذا الحديث ، واستعمله وأفتى به ، فقهاء المدينة ، وفقهاء الشام ، وفقهاء البصرة ، وجماعة من أهل الحديث " .
لحديث الباب .
القول الثاني : أن البائع غير مستحق لأخذ عين ماله حين يجده ، بل يكون أسوة بين الغرماء .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
لكن هذا قول ضعيف مصادم للنص .
والراجح مذهب الجمهور .
وقد جاء في رواية : ( إذا أفلس الرجل فوجد البائع سلعته بعينها فهو أحق بها دون الغرماء ) . رواه ابن حبان(1/58)
2- نستفيد من الحديث أن تقديم صاحب السلعة على غيره يكون بشرط : أن يجد ماله بعينه ، أي لم يتغير ولم يتبدل ، فإن تغير فهو أسوة الغرماء .
مثال : باع رجل على رجل بعيراً ، ثم أفلس هذا الرجل ، لكن البعير سمنت أكثر ، فهنا لا يستحق هذا المال ، بل يكون أسوة الغرماء .
كذلك إذا قبض من ثمنه شيئاً ، فإنه في هذه الحالة لا حق له ، ويكون أسوة الغرماء .
فقد جاء في رواية : ( أيما رجل باع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض البائع من ثمنه شيئاً فوجده بعينه فهو أحق به ).
فمفهومه أنه إذا قبض من ثمنه شيئاً كان أسوة الغرماء .
3- اختلف العلماء إذا مات المفلس ، هل يكون الرجل أحق بماله أو يكون أسوة الغرماء ؟
فقال بعض العلماء : هو أحق بماله .
وهذا مذهب الشافعي .
قال الحافظ ابن حجر : " واحتج الشافعي بحديث أبي هريرة قال : ( قضى رسول الله ( أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه ) وهو حديث حسن يحتج بمثله ، أخرجه أحمد وأبو داود " .
وقيل : بل يكون أسوة الغرماء .
وهذا مذهب مالك وأحمد .
وفرقوا بين الفَلَس والموت : بأن الميت خربت ذمته فليس للغرماء محل يرجعون إليه فاستووا في ذلك بخلاف المفلس .
وبعضهم استدل بقوله : ( من أدرك ماله بعينه عند رجل ) وبعد موته لا يكون أدركه عند هذا الرجل ، وإنما أدركه عند الورثة .
؛؛؛ والله أعلم ؛؛؛
فائدة :
إذا مات صاحب المتاع ، فهل تسقط حق ورثته ، أو أن الورثة ينزلون منزلة المورث ؟
قولان للعلماء ، والراجح فيها أنه يورث فيكون الورثة أحق به من بقية الغرماء .
4- مشروعية الحجر .
وهو لغة المنع .
وشرعاً : منع الإنسان من التصرف في ماله فقط ، وهو ينقسم إلى قسمين :
أولاً : حجر لمصلحة الغير .
مثل الحجر لمصلحة الغرماء .
ثانياً : حجر لمصلحة المحجور عليه .
كالحجر على السفيه والصغير والمجنون .
- الحجر لمصلحة الغير :(1/59)
يمنع الإنسان من التصرف في ماله فقط ، إذا كان الإنسان مدين ودينه أكثر من ماله ، فإنه يحجر عليه لمصلحة الغرماء ، بطلب منهم .
مثال : دينه عشرة آلاف ، وعنده خمسة ، فهذا يحجر عليه ، فيمنعه القاضي من التصرف في ماله فلا يبيع ولا يشتري ولا يهب .
- لكن الحجر لا يكون إلا إذا طلب الغرماء أو بعضهم .
- فإذا حجر القاضي على شخص بطلب من الغرماء : فإن الإنسان الذي يجد ماله بعينه ، ولم يتغير ، فإنه يأخذه ، ولا يكون أسوة الغرماء .
لحديث الباب .
281 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ : (( جَعَلَ - وَفِي لَفْظٍ قَضَى - النَّبِيُّ ( بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ . فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ , وَصُرفَتِ الطُّرُقُ : فَلا شُفْعَةَ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
قضى : أي حكم .
وقعت الحدود : أي عينت .
وصرفت الطرق : أي بينت مصارفها وشوارعها .
الفوائد :
1- الحديث دليل على ثبوت الشفعة .
وهي : انتزاع الشريك حصة شريكه ممن اشتراها منه بالثمن الذي استقر عليه العقد .
مثالها : زيد وعمرو شريكان في أرض ، فباع عمرو نصيبه على خالد ، فلزيد أن ينتزع نصيب عمرو من خالد بثمنه الذي استقر عليه العقد .
والشفعة ثابتة بالسنة والإجماع .
أما السنة : فلحديث الباب .
قال ابن حجر : " وهذا الحديث أصل في ثبوت الشفعة " .
وأما الإجماع فنقله ابن المنذر ، فقال : " وأجمعوا على إثبات الشفعة للشريك الذي لم يقاسم ، فيما بيع من أرض أو دار أو حائط " .
2- لا يخلوا انتقال العين إلى المالك الجديد من حالات :
الحالة الأولى : أن يكون انتقال العين بطريق البيع بعوض مالي .
فهذا تثبت فيه الشفعة بلا خلاف .
الحالة الثانية : أن يكون بطريق الإرث .
وهذا لا شفعة فيه بالاتفاق .(1/60)
مثال : زيد وعمرو شريكان في أرض ، فمات عمرو ، فانتقل نصيبه إلى ورثته ، فليس لزيد أن يشفع ، لأنه انتقل بغير عوض ، ولأنه انتقال غير اختياري .
الحالة الثالثة : أن يكون بغير عوض ، كالهبة ، والصدقة .
مثال : أن يهب الشريك نصيبه لشخص ، فهذا لا شفعة فيه عند أكثر العلماء .
وقيل : له الشفعة .
وهو قول ابن أبي ليلى .
لأن الشفعة شرعت لإزالة الضرر عن الشركاء ، والضرر موجود بينهم في الهبة والصدقة ، ورجح هذا القول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله .
3- حديث الباب دليل على ثبوت الشفعة في العقارات التي لم تقسم ، واختلفوا هل تثبت في غيرها كالمنقولات ، مثل السيارات والأواني ؟ على قولين :
القول الأول : لا شفعة إلا في العقار ، فلا شفعة في المنقولات .
واستدلوا بحديث الباب .
حيث قصر الشفعة على ما هو عقار بقرينة وقوع الحدود وتصريف الطرق .
القول الثاني : أن الشفعة تثبت في كل شيء حتى المنقولات .
وهذا مذهب الظاهرية وجماعة .
لقوله ( في حديث الباب : ( قضى النبي ( بالشفعة في كل شيء ) .
قالوا : و ( كل ) من صيغ العموم .
وقالوا : إن الضرر الحاصل في العقار ، هو بعينه ثابت في المنقول .
وقالوا : إن التفريق بين المنقول وغير المنقول لا معنى له .
وهذا القول هو الراجح .
مثاله : زيد وعمرو شريكان في سيارة ، فباع عمرو نصيبه على بكر ، فإنه على القول الراجح لزيد أن يشفع .
وأجاب أصحاب هذا القول عن قوله : ( ... فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق ) قالوا : إن ذكر الحكم لبعض أفراد العموم لا يقتضي تخصيص .
بمعنى : إذا جاء عموم ، ثم فرع عليه بذكر حكم يختلف ببعض إفراده فإنه لا يقتضي التخصيص .
4- واستدل بحديث الباب من قال أنه لا شفعة للجار .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنه لا شفعة للجار .
روي هذا القول عن عمر وعثمان وعلي الزهري ، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة ، ورجحه ابن المنذر .(1/61)
فهو إذاً مذهب الجمهور .
الأدلة :
حديث الباب : ( ... فإذا وقعت الحدود ... ) .
قالوا : أن منطوق الحديث إثبات الشفعة للشريك بما لم يقسم ، وفي مفهومه نفي الشفعة فيما قسم .
وقالوا : أن الشفعة تثبت للشريك لما قسم بينهما من حقوق متداخلة تؤدي إلى الضرر فيما بينهما ، فبيع الشريك حصته إلى غير شريكه يعرض الشريك إلى استدامة ذلك الضرر اللاحق بحصته من التزاحم في المرافق ، وهذا المعنى غير موجود في
الجوار .
القول الثاني : أن للجار الشفعة .
وهذا مذهب الحنفية .
لحديث جابر قال : قال رسول الله ( : ( الجار أحق بشفعة جاره ، ينتظر بها وإن كان غائباً إذا كان طريقهما واحد ) .
………………………… رواه أبو داود
ولحديث الشريد بن سويد قال : قال رسول الله ( : ( الجار أحق بسقبه ) . رواه البخاري
السقب : هو ما قرب من الدار أو لاصقها .
القول الثالث : تثبت الشفعة للجار بشرط أن يكون بين الجارين مرافق مشتركة من طريق أو مسيل أو فناء أو غير ذلك.
وهذا اختيار شيخ الإسلام وابن القيم ، واختاره الشيخ السعدي .
لحديث جابر قال : قال رسول الله ( : ( الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائباً إذا كان طريقهما واحداً ) .
قالوا : فدل الحديث على ثبوت الشفعة للجار إذا كان شريكاً في الطريق .
وهذا القول هو الراجح جمعاً بين الأدلة .
5- اختلف العلماء هل طلب الشفعة على الفور أم لا ؟ على قولين :
القول الأول : أنها على الفور .
أي أنها تطلب من حين أن يعلم ، فيجب أن يطالب بالشفعة ، فإن أخر سقطت الشفعة .
وهذا مذهب الحنفية والحنابلة .
لحديث ابن عمر قال : قال رسول الله ( : ( والشفعة كحل العقال ) . رواه ابن ماجه
قال الحافظ : " إسناده ضعيف جداً " .
القول الثاني : أنها على التراخي .
وهذا مذهب المالكية والظاهرية .
قالوا : إن الشفيع يحتاج قبل إعلان رغبته في الأخذ بالشفعة إلى مهلة يختار فيها ما يريده من الأخذ والترك .(1/62)
وهذا القول هو الصحيح ، وأن الشفعة لا تسقط إلا بما يدل على سقوطها بقول صريح أو قرينة ظاهرة .
القول الصريح : أن يقول لما علم أن شريكه قد باع يقول : أنا لست بمطالب .
القرينة الظاهرة : أن يسكت ويرى أن المشتري قد تصرف وعمل وهو ساكت ، فهذه قرينة ظاهرة يدل على أنه راضي.
6- تحريم التحيل لإسقاط الشفعة .
لقوله ( : ( لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل ) .
ولأن في التحيل إسقاط لحق المسلم ، والتحيل لإسقاط حق المسلم حرام .
ولأنه من باب العدوان على المسلمين .
والتحيل له صور :
أ- أن يظهر الشريك والمشتري أن الانتقال بغير عوض ، فيقول الشريك لشريكه : إنني قد وهبت فلان نصيبي من الأرض ، فإذا قال : وهبت ، فلا شفعة على مذهب الجمهور .
ب- أن يظهر البائع [ الذي هو الشريك ] والمشتري أن البيع بثمن كثير ، مثل أن يبيعه بعشرة آلاف ، فيقول : إنني بعتها بخمسين ألف ، فهنا الشفيع لن يطالب بالشفعة ، لأنه إذا طالب فإنه سوف يأخذها بالثمن الذي استقر عليه القدر .
282 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : (( قَدْ أَصَابَ عُمَرُ أَرْضاً بِخَيْبَرَ . فَأَتَى النَّبِيَّ ( يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا . فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنِّي أَصَبْتُ أَرْضاً بِخَيْبَرَ , لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ , فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ ؟ فَقَالَ : إنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا , وَتَصَدَّقْتَ بِهَا . قَالَ : فَتَصَدَّقَ بِهَا عمر. غَيْرَ أَنَّهُ لا يُبَاعُ أَصْلُهَا , وَلا يُوهَبُ , وَلا يُورَّثُ . قَالَ : فَتَصَدَّقَ عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ , وَفِي الْقُرْبَى , وَفِي الرِّقَابِ , وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَابْنِ السَّبِيلِ , وَالضَّيْفِ . لا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا ، أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ , أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقاً , غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ )) .(1/63)
وَفِي لَفْظٍ : (( غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
أرضاً بخيبر : جاء في رواية : ( أن عمر أصاب أرضاً من يهود بني حارثة يقال لها ثمغ ) .
أنفس منه : أي أجود ، والنفيس الجدي المغتبط به .
وتصدقت بها : أي بمنفعتها ، وقد جاء في رواية : ( احبس أصلها وسبل ثمرتها ) .
لا يباع أصلها : أي لا تباع هذه الأرض الموقوفة .
ولا يورث : ولا يتقاسمها الورثة بعد موت المالك .
ولا يوهب : ولا يعطى لأحد ليمتلكه .
القربى : قيل : المراد بهم قربى الواقف ، وبه جزم القرطبي .
في سبيل الله : للغزاة المجاهدين في سبيل الله .
وابن السبيل : المسافر الذي انقضت به النفقة في غير بلده .
الضيف : هو من نزل بقوم يريد القرى .
يأكل بالمعروف : المراد بالمعروف القدر الذي جرت به العادة ، وقيل : أن يأخذ منه بقدر عمله . قال الحافظ : " والأول أولى " .
غير متمول فيه : أي غير متخذ منها مالاً ، أي ملكاً ، والمراد أنه لا يتملك شيئاً من رقابها .
الفوائد :
1- الحديث دليل مشروعية الوقف .
تعريفه : هو تحبيس الأصل ، وتسبيل المنفعة .
مثال : بيتي هذا وقف ، البيت أصل ، سكنى البيت منفعة .
وهو مشروع بالسنة والإجماع .
قال النووي : "وفي هذا الحديث دليل على صحة الوقف ، وأنه مخالف لشوائب الجاهلية ، وهذا مذهبنا ومذهب الجماهير ، ويدل عليه أيضاً إجماع المسلمين على صحة وقف المساجد والسقايات " .
ومما يدل على مشروعيته قوله ( : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : ... وذكر منها : أو صدقة جارية ) . رواه مسلم
والوقف من الصدقة الجارية .
2- أن الوقف لا يباع ، لقوله ( : ( لا يباع أصلها ) .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
فلا يجوز بيع الوقف .
وشذ أبو حنيفة فأجاز بيع الوقف والرجوع فيه .
وخالفه أصحابه في ذلك .
قال أبو يوسف : " لو بلغ أبا حنيفة حديث عمر ، لقال به ، ورجع عن بيع الوقف " .(1/64)
إلا أن تتعطل منافعه بالكلية ، كدار انهدمت ولم يمكن عمارتها من ريع الوقف ، أو أرض زراعيه خربت وعادت مواتاً ، ولم يمكن عمارتها بحيث لا يكون في ريع الوقف ما يعمرها ، فيباع الوقف الذي هذه حاله ، ويصرف ثمنه في مثله ، لأنه أقرب إلى مقصود الوقف ، فإن تعذر مثله كاملاً ، صرف في بعض مثله ، ويصير البديل وقفاً بمجرد شراءه .
3- للوقف صيغ يصح بها :
قال في المغني : " وألفاظ الوقف ستة ، ثلاثة صريحة ، وثلاثة كناية :
فالصريحة : وقفت ، حبست ، سبلت .
متى أتى بواحدة من هذه الثلاث صار وقفاً من غير انضمام أمر زائد ، لأن هذه الألفاظ ثبت لها عرف الاستعمال بين الناس، وانضم إلى ذلك عرف الشرع .
وأما الكناية : تصدقت ، حرمت ، أبدت .
فهذه لا يحصل بها الوقف إلا بشروط :
أولاً : النية ، فيكون على ما نوى .
ثانياً : أن ينضم إليها أحد الألفاظ الخمسة .
مثال : تصدقت بداري صدقة موقوفة .
تصدقت بهذه الدار محبسة .
ثالثاً : أن يصفها بصفات الوقف .
فيقول : تصدقت بهذا البيت صدقة لا تباع [ الذي لا يباع هو الوقف ] " .
4- يشترط لصحة الوقف شروط :
أولاً : أن يكون الواقف جائز التصرف .
بأن يكون بالغاً حراً رشيداً .
ثانياً : أن يكون الوقف على بر .
لأن المقصود به التقرب إلى الله .
كالمساجد ، والمساكين ، وكتب العلم ، والأقارب .
ثالثاً : أن يكون الموقف بما ينتفع به انتفاعاً مستمراً مع بقاء عينه .
فلا يصح وقف ما لا يبقى بعد الانتفاع به ، كالطعام .
رابعاً : أن يكون الموقف معيناً .
فلا يصح وقف غير المعين .
مثال : وقفت إحدى بيتيّ ، لا يصح .
5- يجب العمل بشرط الواقف .
لأنه خرج من ملك الواقف على شرط معين.
فيجب العمل بشرطه في الجميع .
قال : هذا وقف على زيد ومحمد وخالد وعلي ، فإنهم يعطون سواء .
ويجب العمل بشرطه في التقديم .
قال : هذا وقف على زيد ثم خالد .(1/65)
إذا لم يشترط شيئاً : استوى في الاستحقاق الغني والفقير والذكر والأنثى من الموقوف عليهم .
6- الناظر على الوقف :
1- إن عين الواقف شخصاً معيناً ، فإنه هو يكون المسؤول .
2- إن لم يعين ، فالناظر هو الموقوف عليهم .
لكن يستثنى :
- إذا كان الموقوف عليهم لا يمكن حصرهم ، كالمساكين ، وطلاب العلم ، فهنا يكون القاضي .
- وإذا كان الموقوف عليهم جهة لا تملك ، كالمساجد .
7- لا تجوز هبة الوقف .
8- أن الوقف لا يجري فيه الميراث .
9- هل يجب تعميم الموقوف عليهم بالتساوي ؟
أولاً : إذا وقف على جماعة يمكن حصرهم ، وجب تعميمهم بالتساوي . مثال :
هذا وقف على عيال أحمد ، وكانوا خمسة ، فهنا يجب التعميم والتساوي .
ثانياً : إذا وقف على جماعة لا يمكن حصرهم ، فيجوز أن يقتصر على صنف واحد . مثال :
الفقراء - طلاب العلم .
10- المشهور من المذهب أنه يجوز أن يوقف على أولاده الذكور دون الإناث .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : " والصحيح أنه لا يجوز ، لأنه ظلم وجور ، وقال ( : ( اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ) " .
- لو قال : هذا وقف على أولاد زيد الذكور دون الإناث ، فإنه يصح ، لأنه لا يجب العدل ، لأنهم ليسوا أبناءه .
- إن أوقف على قبيلة ، فإنه يشمل الجميع الذكور والإناث ، إلا أولاد النساء من غيرهم .
- لا يشترط قبول الوقف إذا كان على جهة كالفقراء .
وأما إذا كان على معين فلا يشترط قبوله أيضاً ، ولكن ينتقل إلى من بعده .
مثال : لو قال : هذا وقف على زيد ، ثم المساكين ، وقال زيد : لا أريده ، ينتقل فوراً إلى المساكين .
11- فضيلة الوقف .
12- فضيلة ظاهرة لعمر .
13- مشاورة أهل الفضل والصلاح في الأمور وطرق الخير .
14- فضيلة صلة الرحم والإنفاق عليهم .
15- أن المشير يشير بأحسن ما يظهر له في جميع الأمور .(1/66)
16- فضيلة الإنفاق من أحب المال ، لقوله تعالى : ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ( . (آل عمران: من الآية92)
17- فضيلة الصدقة الجارية .
18- أن للواقف أن يشترط لنفسه جزءاً من ريع الموقوف ، لأن عمر شرط لمن ولي وقفه أن يأكل منه بالمعروف ولم يستثن .
183 - وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله ( قال : (( العائد في هبته كالعائد في قيئه )) .
وفي لفظ : (( فإن الذي يعود في صدقته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
العائد في هبته : أي الراجع فيها .
والهبة : هي التبرع بالمال حال الحياة .
( حال الحياة ) ليخرج بذلك الوصية.
الفوائد :
1- الحديث دليل على تحريم الرجوع في الهبة .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة :
القول الأول : يحرم الرجوع في الهبة ( المقبوضة ) .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لحديث الباب : ( العائد في هبته ... ) .
فقد شبه النبي ( العائد في هبته في أقبح صورة ، فإن الكلب من أخبث الحيوانات ، ثم إن هذه الصورة من أبشع الصور ، أن يقيء ثم يعود في قيئه .
ويدل على التحريم قوله ( : ( لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده ) . رواه أبو داود
( لا يحل ) أي يحرم .
وقوله ( : ( ليس لنا مثل السوء ، العائد في هبته كالكلب ... ) .
( ليس لنا مثل السوء ) أي لا ينبغي لنا معشر المؤمنين أن نتصف بصفة ذميمة يشابهنا فيها أخس الحيوانات في أخس أحوالها، قال تعالى : ( للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى ( ولعل هذا أبلغ في الزجر عن ذلك وأدل على التحريم مما لو قال مثلاً : لا تعودوا في الهبة . [ قاله الحافظ ابن حجر ]
القول الثاني : يجوز الرجوع في الهبة .
وهذا مذهب الحنفية .
قالوا : لأن النبي ( شبه الراجع في الهبة بالكلب ، والكلب لا يتعلق بعمله تكليف .
وهذا قول ضعيف ، والصحيح الأول .(1/67)
أما قبل القبض فليس الرجوع فيها حراماً .
مثال : قلت لشخص سأعطيك غداً كتاباً ، فلما جاء الغد لم أعطه وتراجعت ، فهذا لا يسمى رجوعاً في الهبة .
لكن هو من باب إخلاف الوعد ، وإخلاف الوعد مذموم ومن صفات المنافقين ، وذهب بعض العلماء إلى أنه حرام .
2- استثنى جمهور العلماء من تحريم الرجوع في الهبة ما يهبه الوالد لولده ، فإن له الرجوع .
لحديث : ( لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده ) . رواه أبو داود
فهذا الحديث فيه فوائد :
- جواز رجوع الوالد فيما وهب ولده .
- المشهور من المذهب أن الرجوع في الهبة جائز للأب خاصة دون الأم ، وذهب بعض العلماء إلى العموم ، وأنه لا فرق بين الأب والأم .
- لا فرق بين أن يكون الولد كبيراً أو صغيراً .
- إذا كان الرجوع حيلة على التفضيل فهنا يحرم الرجوع .
مثال : إنسان عرف أنه لو أعطى أحد بنيه سيارة دون الآخر فهو حرام ، فاحتال وأعطى الاثنين سيارتين ، كل واحد سيارة ، ثم بعد ذلك رجع في هبة أحدهما ، فحصل في الأمر أنه أعطى واحد وترك الآخر ، فإذا كانت بنية الرجوع أن يفضل أحدهما على الآخر صار الرجوع حراماً ، لقول النبي ( : ( إنما الأعمال بالنيات ) .
الفرق بين الهبة والهدية والصدقة :
الهبة : ما قصد به نفع الموهوب .
الهدية : ما قصد به التودد والتحبب .
الصدقة : ما قصد به ثواب الله .
الضابط في الذي تصح هبته :
كل ما جاز بيعه جازت هبته إلا كلب يقتنى فهذا تجوز هبته ولا يجوز بيعه .
شروط قبول الهدية :
أولاً : أن لا يعلم أنه أهدى له خجلاً وحياءً ، فإن علم أنه أهدى خجلاً وحياءً ، فإنه يحرم أن يقبلها .
ثانياً : أن لا تقع موقع الرشوة .
ثالثاً : أن لا تكون الهدية محرمة ، سواء كان التحريم لعينها أو لحق الغير .
مثال لعينها : أن يهدي له خمراً .
مثال لحق الغير : أن يعرف أنه أهدى له قدر سرقة من فلان ، فهنا لا يجوز القبول .(1/68)
لكن إذا كان الواهب أو المهدي ممن كسبه حرام ، لكن لا بعينه ، فهنا يجوز أن تقبل هديته .
لأن الرسول ( قبل هدية اليهود وهم يأكلون الربا .
ولأن هذا محرم لكسبه ، والمحرم لكسبه يتعلق حكمه بالكاسب لا بمن تحول إليه على وجه مباح .
فائدة : هبة المجهول :
مثال : لو وهبت لشخص حمل في بطن ، أو طيراً في هواء .
طبعا سبق معنا : أن بالبيع لا يجوز بيع الحمل في البطن لوحده ، أو الطير في الهواء للجهالة والغرر ؟
لكن هل يجوز هبته ؟
قيل : لا يجوز .
لأنه غرر .
وقيل : يجوز .
وهذا الصحيح .
لأنه لا يترتب عليه شيء ، ولا ضرر ، لأنه إما غانم أو سالم .
284 - عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما قَالَ : (( تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ . فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ : لا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ ( . فَانْطَلَقَ أَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ ( لِيُشْهِدَه عَلَى صَدَقَتِي فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ( : أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ ؟ قَالَ : لا . قَالَ : اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلادِكُمْ ، فَرَجَعَ أَبِي , فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ )) . وَفِي لَفْظٍ : (( فَلا تُشْهِدْنِي إذاً . فَإِنِّي لا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ )) .
وَفِي لَفْظٍ : (( فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
تصدق علي أبي : وفي رواية : ( إني نِحلت ابني هذا غلاماً ) والنِحلة بكسر النون : العطية بغير عوض .
أفعلت هذا بولدك كلهم : جاء في رواية : ( قال : أعطيت سائر ولدك مثل هذا ) وفي رواية : ( فقال : أكلهم وهبت لهم مثل هذا ؟ قال : لا ) .(1/69)
فرد تلك الصدقة : جاء في رواية : ( فاردده ) وفي رواية : ( لا تشهدني على جور ) وفي رواية : ( فلا تشهدني إذاً ، فإني لا أشهد على جوْر ) وفي رواية : ( فليس يصلح هذا وإني لا أشهد إلا على حق ) ولمسلم : ( اعدلوا بين أولادكم في النِّحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر ) ولأحمد : ( أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء ؟ قال : بلى ، قال : فلا إذن ) ولأبي داود : ( إن لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم ، كما لك عليهم من الحق أن يبروك ) .
قال الحافظ ابن حجر : " واختلاف الألفاظ في هذه اللفظة الواحدة يرجع إلى معنى واحد " .
أشهد على هذا غيري : هذا للتوبيخ وليست للإباحة .
الفوائد :
1- مشروعية العدل بين الأولاد [ ذكوراً وإناثاً ] في العطية ، وهذا بالإجماع .
واختلفوا هل هي واجبة أم مستحبة :
القول الأول : أن المساواة واجبة في عطية الأولاد .
فلا يجوز أن يعطي الولد دون البنت ، أو البنت دون الولد ، أو ولد دون ولد .
قال الشوكاني : " وبه صرح البخاري ، وهو قول طاووس والثوري وأحمد وإسحاق وبعض المالكية " .
واستدلوا :
بقوله ( : ( اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ) .
القول الثاني : أن التسوية مستحبة لا واجبة .
وهذا مذهب الجمهور .
وعلى هذا القول : فلو أعطى ولداً ولم يعط الآخر ، فلا يحرم ، وإذا أعطى ولداً دون بنت ، فلا يحرم .
وحملوا الأمر في حديث الباب على الاستحباب .
وأجابوا عن حديث الباب بأجوبة كثيرة ذكرها الحافظ ابن حجر في فتح الباري :
منها : أن الموهوب للنعمان كان جميع مال والده ، حكاه ابن عبد البر ، وتعقب :
بأن كثيراً من طرق الحديث مصرحة بالبعضية ، كما في حديث الباب : ( تصدق علي أبي ببعض ماله ) .
ومنها : أن العطية المذكورة لم تنجز ،وإنما جاء بشير يستشير النبي ( في ذلك فأشار عليه بأن لا يفعل فترك .وتعقب :
بأن أمر النبي ( له بالارتجاع يشعر بالتنجيز .(1/70)
ومنها : أن قوله ( : ( أشهد على هذا غيري ) إذن بالإشهاد على ذلك ، وإنما امتنع من ذلك لكونه الإمام ، وكأنه قال : لا أشهد لأن الإمام ليس من شأنه أن يحكم . وتعقب :
أن الإذن المذكور المراد به التوبيخ ، لما تدل عليه بقية الروايات .
وغيرها من الأجوبة الضعيفة . والراجح القول الأول .
ثم اختلف العلماء في كيفية التسوية :
فقال بعضهم : يعطي الأنثى قدر الذكر .
فإذا أعطى الذكر [ 10 ] يعطي الأنثى [ 10 ] .
وهذا مذهب الأكثر .
لقوله ( : ( سووا بينهم ) .
وقال بعضهم : أن العدل أن يعطون على قدر ميراثهم ، للذكر مثل حظ الأنثيين .
ورجح هذا شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم .
لقوله ( : ( اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ) . قالوا :
ولا أحد أعدل من الله ، حيث قال : ( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ( . (النساء: من الآية11)
ولأن حاجة الأنثى ليست كحاجة الذكر .
وهذا القول هو الراجح .
فإذا أعطى الذكر [ 10 ] أعطى الأنثى [ 5 ] .
- فإن فضل أو خص بعض الأولاد على بعض سوى بينهم .
التفضيل : أن يعطي بعضهم [ 100 ] والآخر يعطيه [ 50 ] .
التخصيص : أن يعطي أحدهم [ 100 ] والآخر لا يعطه شيئاً ، فهنا يجب التعديل .
فإذا أعطى أحدهم [ 100 ] والآخر [ 50 ] فيجب التعديل ، ويكون كالتالي :
أ- أن يأخذ من صاحب المائة خمسين .
ب- أن يعطي صاحب الخمسين خمسين أخرى .
ج- أن يأخذ من صاحب المائة خمس وعشرين يضعها على الناقص ، فيكون نصيب كل واحد منهم خمس وسبعون .
2- من فوائد الحديث أن العدل بين الأقارب غير واجب .
3- تحريم التخصيص أو التفضيل ( هذا إن لم يكن هناك مسوغ شرعي يدعو إلى ذلك ، فإن كان هناك مسوغ فلا يأثم كالعطية .
مثال : أن يكون أحد الأبناء مريضاً ، فلا بأس أن يعطى ، وأن يخصص بأكثر من غيره من أجل العلاج .
4- ينبغي أن يصدر المفتي ترغيبه أو ترهيبه بتقوى الله .
5- أن من تقوى الله العدل بين الأولاد .
6- وجوب تقوى الله في كل شيء .(1/71)
7- لا يجوز الإشهاد على المحرم .
8- وجوب إنكار المنكر .
9- سماحة الشريعة الإسلامية وحرصها على العدل وعدم الظلم .
10- أن الشريعة جاءت بسد كل طريق يؤدي إلى التشاحن والتباغض .
باب المساقات
285 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما : (( أَنَّ النَّبِيَّ ( عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ
زَرْعٍ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
خيبر : قرية قرب المدينة .
شطر : نصف .
الفوائد :
1- الحديث دليل على جواز المساقات .
والمساقات : هي أن يدفع الرجل شجره إلى آخر يقوم بسقيه وعمل سائر ما يحتاج إليه ، بجزء معلوم له من ثمره .
وإنما سميت مساقات: لأنها مفاعلة من السقي ، لأن أهل الحجاز أكثر حاجة شجرهم إلى السقي ، لأنهم يستقون من الآبار، فسميت بذلك .
وجمهور العلماء على جوازها .
لحديث الباب ، وجاء في بعض الروايات : ( أنه ( ساقاهم على نصف ما تخرجه الأرض من الثمرة ) .
وذهب أبو حنيفة إلى عدم جوازها ، لأنها إجارة بثمرة لم تخلق ، أو إجارة بثمرة مجهولة .
والراجح قول الجمهور .
قال الشافعي : " جائزة في النِّحل والكرى فقط " .
وذهب الظاهرية إلى أنها لا تجوز إلا في النِّحل فقط .
والحق أن الحكم شامل لكل ما فيه نفع مقصود من الأشجار ، لأن الحديث ورد بالثمر ، وهو عام في كل ثمر .
2- يشترط أن يكون الجزء من الثمرة مشاعاً معلوماً ، كالربع والثلث .
فلو قال : لي ثمرة هذا العام ، ولك ثمرة العام القادم ، لا يصح .
لو قال : لي ثمرة الجانب الشرقي ، ولك ثمرة الجانب الغربي ، لا يصح .
لو قال : للعامل 100 صاع ، لا يصح .
إن قال : ساقيتك على أن لك الثلث ، فإنه يجوز ، ويكون لصاحب الأرض الثلثان .
فإذا عين حق أحدهما فالباقي للآخر .
واختلف العلماء : هل هي عقد لازم أم جائز ؟
والصحيح أنها عقد لازم .(1/72)
وعلى هذا القول لا يمكن لأحدهما الفسخ ، فإن يقدر على العامل العمل لمرض أو نحوه ، فإنه يقسم ، ويقوم مقامه على حسابه .
ما يلزم العامل وصاحب الأرض :
يلزم العامل : كل ما فيه صلاح الثمر من حرث ، وسقي ، وقطع الأغصان الرديئة .
وعلى رب المال : ما يحفظ الأصل ، كسد حائط ، أي السور الذي على المزرعة .
وقال بعض العلماء : أنه يلزم كل واحد منهما ما يجري فيه العرف ، فإن لم يوجد عرف ، فإنه يرجع إلى كلام الفقهاء .
باب المزارعة
286 - عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ : (( كُنَّا أَكْثَرَ الأنْصَارِ حَقْلاً . وَكُنَّا نُكْرِي الأرْضَ , عَلَى أَنَّ لَنَا هَذِهِ , وَلَهُمْ هَذِهِ فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ , وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ . فَأَمَّا بِالْوَرِقِ : فَلَمْ يَنْهَنَا )) .
289- وَلِمُسْلِمٍ عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ : (( سَأَلْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ ؟ فَقَالَ : لا بَأْسَ بِهِ . إنَّمَا كَانَ النَّاسُ يُؤَاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ( بِمَا عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ , وَأَقْبَالِ الْجَدَاوِلِ , وَأَشْيَاءَ مِنْ الزَّرْعِ فَيَهْلِكُ هَذَا , وَيَسْلَمُ هَذَا وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إلاَّ هَذَا . وَلِذَلِكَ زَجَرَ عَنْهُ . فَأَمَّا شَيْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ : فَلا بَأْسَ بِهِ )).
------------------------------------
معاني الكلمات :
الماذيانات : الأنهار الكبار .
أقبال الجداول : الأوائل .
الجداول : جمع جدول ، وهو النهر الصغير .
الفوائد :
1- في هذا الحديث أحكام المزارعة الصحيحة والفاسدة .
المزارعة : هي دفع أرض لمن يزرعها بجزء معلوم فيما يخرج منها .
وقد اختلف العلماء في حكمها :
القول الأول : أنها لا تصح .
وهذا مذهب الجمهور .(1/73)
عن ابن عمر قال : ( ما كنا نرى بالمزارعة بأساً ، حتى سمعنا رافع بن خديج يقول : نهى رسول الله ( عنها ) . متفق عليه
ولحديث جابر قال : قال رسول الله ( : ( من كانت له أرض فليزرعها ، فإن لم يزرعها فليزرعها أخاه ) . رواه مسلم
القول الثاني : أنها جائزة .
وهذا مذهب الإمام أحمد .
وهو قول جماعة كثيرة من التابعين ، منهم : عمر بن عبد العزيز ، والقاسم بن محمد ، وعروة بن الزبير .
لحديث معاملة الرسول ( ليهود خيبر ، فإنها قصة مشهورة لا تقبل الرد ولا التأويل .
وهذا القول هو الصحيح .
وأما حديث رافع بن خديج الذي فيه النهي عن المزارعة ، فإنه محمول على المزارعة الفاسدة التي دخلها شيء من الغرر والجهالة .
ولذلك قال رافع : ( كنا نكري الأرض ، على أن لنا هذه ولهم هذه ، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه ) .
وقال أيضاً : ( لم يكن للناس كراء إلا هذا ، فلذلك زجر عنه ، وأما بشيءمعلوم مضمون فلا بأس ) .
وقال الخطابي في حديث رافع بن خديج في قوله في الإجارة : ( في الماذيانات ,اقبال الجداول ) قال : " فقد أعلمك رافع في هذا الحديث ، أن المنهي عنه هو المجهول منه دون المعلوم ، وأنه كان من عادتهم أن يشترطوا شروطاً فاسدة ، وأن يستثنوا من الزرع ما على السواقي والجداول ، فيكون خاصاً لرب المال " .
أمثلة :
- قال : أزارعك على أن لي شرقي الأرض ولك غربيها . لا يصح .
- قال : أزارعك على أن لي ما حول الجداول والأنهار ولك ما بعد منها . لا يصح .
فيشترط في المزارعة أن يكون الجزء مشاع ، كالثلث والربع والنصف .
- فإذا قال للعامل : أعطيك هذه الأرض مزارعة ولك الثلث ولي الثلثان ، فإنه يصح .
- إن قال : إزرعها ولك بعض الزرع ، لا يصح لأنه مجهول .
2- لا يشترط أن يكون البذر من ربّ الأرض .
وهذا القول هو الصحيح .
ورجحه صاحب المغني وابن القيم في الزاد .
وذهب بعض العلماء إلى أنه يشترط أن يكون البذر من ربّ الأرض ، وهذا المذهب .(1/74)
قال ابن القيم : " والذين اشترطوا البذر من ربّ الأرض قاسوها على المضاربة ، وهذا القياس مع أنه مخالف للسنة الصحيحة وأقوال الصحابة ، فهو من أفسد القياس ، فإن المال في المضاربة يرجع إلى صاحبه ويقتسمان الربح ، فهذا نظير الأرض في المزارعة ، وأما البذر الذي لا يعود نظيره إلى صاحبه ، بل يذهب نفع الأرض ، فإلحاقه بالنفع الذاهب أولى من إلحاقه بالأصل الباقي ... " .
وحديث ابن عمر : ( أن النبي عامل أهل خيبر ... ) ولم يذكر البذر على النبي ( .
3- جواز إجارة الأرض للزراعة ، وقد أجمع العلماء عليه في الجملة .
مثال : أجرتك هذه الأرض للزراعة بـ 100 درهم ، على أن تزرعها ، الزرع للمستأجر ، ولرب الأرض الأجرة .
وهذا ليس من باب المشاركة ، لأن عقد الأجرة مستقل ، ربما يزرع ولا يحصل مقدار الأجرة ، وربما يزرع الأرض ويحصل له أضعاف أضعاف الأجرة .
باب العُمْرى
287 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ : (( قَضَى رَسُولُ اللَّهِ ( بِالْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ )).
وَفِي لَفْظٍ : (( مَنْ أُعْمِرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ . فَإِنَّهَا لِلَّذِي أُعْطِيَهَا . لا تَرْجِعُ إلَى الَّذِي أَعْطَاهَا ; لأَنَّهُ عَطَاءٌ وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ )) . وَقَالَ جَابِرٌ : (( إنَّمَا الْعُمْرَى الَّتِي أَجَازَهَا رَسُولُ اللَّهِ ( , أَنْ يَقُولَ : هِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ , فَأَمَّا إذَا قَالَ : هِيَ لَك مَا عِشْتَ : فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إلَى صَاحِبِهَا )) .
288 - وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ : (( أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَلا تُفْسِدُوهَا ، فَإِنَّهُ مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلَّذِي أُعْمِرَهَا : حَيّاً وَمَيِّتاً , وَلِعَقِبِهِ )).
------------------------------------
معاني الكلمات :
العمرى : هي أن يهب الإنسان لشخص شيئاً مدة عمره .(1/75)
مثال : أن يقول لشخص : أعرتك داري تسكنها مدة حياتي ، أو مدة حياتك .
وسميت بذلك : لأنها معلقة بالعمر ، وكذا قيل لها ، رقبى ، لأن كلاً منهما يرقب متى يموت الآخر لترجع إليه .
الفوائد :
1- جواز العمرى ، وهذا مذهب جماهير العلماء .
قال ( : ( العمرى جائزة ) . رواه مسلم
ولحديث الباب .
وخالف بعض العلماء فقال بعدم جوازها .
لقوله ( : ( لا تعمروا ولا ترقبوا ) .
والصحيح مذهب الجمهور .
والجواب عن حديث : ( لا تعمروا ولا ترقبوا ) ، أن مراد النبي ( :
- التخفيف في العمرى .
- أو نقض ما كان عليه أهل الجاهلية من رد العُمَر . ففي الجاهلية : إذا أعمر الرجل الرجل داره ، يعطونه مدة حياة العمر ، فإذا مات رجع في عطيته .
2- صور العمرى :
الصورة الأولى : أن يصرح بأنه لها ولعقبه .
فيقول : أعرتك هذا البيت لك ولعقبك .
ففي هذه الصورة تكون للمعمر ولعقبه ، يجري فنها الميراث .
الصورة الثانية : أن يطلق فيقول : أعرتك هذا البيت .
جمهور العلماء على أنها تكون للمعمَر ولعقبه ، كالصورة الأولى ، فلا ترجع إلى المعمِر .
لحديث جابر .
وهذا هو الموافق للقواعد العامة .
الصورة الثالثة : أن يشترط فيقول : هي لك ما عشت ، وليس لعقبك منها شيء ، أو قال : فإذا مت فهي لي .
فهذه اختلف العلماء فيها :
قيل : يصح .
وهذا قول مالك ، وداود ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ، ورجحه ابن عثيمين .
لحديث : ( المسلمون على شروطهم ) .
وقيل : الشرط لاغ وفاسد ، ولا ترجع للواهب .
وهذا مذهب الحنابلة ، وبه قال طائفة ، منهم : إسحاق ، وأبو ثور .
لحديث جابر .
وأما الشرط فقد قال النبي ( : ( كل شرط ليس في كتاب الله ... ) .
والراجح الأول .
3- يشترط لصحة العمرى :
أولاً : أن يكون الموهوب ملكاً للمعمِر .
ثانياً : وجود الإيجاب والقبول .
أن يقول : أعمرتك داري تسكنها مدة حياتي ، فقال : قبلت .
ثالثاً : أن يحصل القبض للمعمَر ، لأن الهبة لا تملك إلا بالقبض .(1/76)
باب أحكام الجوار
289 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( لا يَمْنَعَنَّ جَارٌ جَارَهُ : أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ ، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ : مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ ؟ وَاَللَّهِ لأَرْمِيَنَّ بِها بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
جار : الجار المراد به هنا الملاصق . والجار يطلق على عدة معان :
يطلق ويراد به القريب .
قال تعالى : ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ... والجار الجنب ( أي القريب كما ذكر أهل التفسير .
ويطلق ويراد به الشريك .
كقوله ( : ( الجار أحق بسقبه ) فإن المراد بالجار هنا الشريك في العقار .
خشبة : أي من خشب سقفه الذي يسقف به داره .
في جداره : الضمير يعود على الجار .
عنها : الضمير يعود إلى السنة المذكورة في كلامه .
معرضين : أي غير مسارعين للعمل بها وتضييعها .
الفوائد :
1- في هذا الحديث نهى الجار أن يمنع جاره أن يضع خشبة على جدار جاره .
وهذا الحكم اختلف فيه العلماء :
تحرير محل النزاع :
أولاً : لا يدخل في هذا النزاع الانتفاع الذي ينتج عنه إلحاق ضرر بجدار الجار كتهديمه أو وهنه ، فذلك غير جائز ، لحديث : ( لا ضرر ولا ضرار ) .
ثانياً : كذلك لا يدخل في هذا النزاع الانتفاع الذي ليس له به حاجة ، فليس للجار أن يضع خشبة على جدار جاره إن كان به غنية عن ذلك ، لأنه انتفاع بملك غيره بغير إذنه من غير حاجة ، فلم يجز .
الخلاف وقع :
في الانتفاع غير المضر بالجار ، وهو الذي يحتاج إليه المنتفع لتسقيف بيته أو قيام بنائه .
فهذا اختلف فيه العلماء على قولين :
القول الأول : لا يجوز وضع الخشب على حائط الجدار إلا بإذنه ، وإن لم يأذن فلا يجز ، لكن يستحب له بذله .
وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك ، والقول الجديد عند الشافعية . واستدلوا :(1/77)
- بعموم الآيات التي تنهى عن الظلم والتعدي على أموال الآخرين وحقوقهم .
كقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً ( . (الأحزاب:58)
- وبالأحاديث التي تنهى عن أخذ أموال الآخرين ظلماً وعدواناً .
كقوله ( : ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه ) .
وقوله ( : ( إن دماؤكم وأموالكم عليكم حرام ) .
القول الثاني : أنه يجب على الجار أن يبذل حائطه لجاره مع الحاجة وقلة الضرر ، وأنه يجبر على ذلك إذا امتنع .
وهذا مذهب الحنابلة ، وبه قال أبو ثور ، وإسحاق ، وابن حزم .
واستدلوا بحديث الباب .
وجه الدلالة : أنه نهي صريح عن منع الجار من الانتفاع بجدار جاره ، وظاهر النهي يقتضي التحريم ، وبالتالي فلا يجوز للجار منع جاره من الانتفاع بجداره عند الحاجة .
وهذا القول هو الصحيح .
وأما الجواب عن أدلة أصحاب القول الأول :
أنها نصوص عامة ، وحديث : ( لا يمنع ... ) خاص ، والخاص يقضي على العام .
2- عظم حق الجار .
قال ( ( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ) .
( سيورثه ) : قيل : يجعل له مشاركة في المال ، وقيل : أن ينزل منزلة من يرث بالبر والصلة ، والأول أصح .
وقال ( ( يا أبا ذر ! إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك ) رواه مسلم .
وقال ( ( من كان يؤمن بالله واليوم فليكرم جاره ) رواه مسلم .
وفي رواية ( فلا يؤذجاره ) .
3- وجوب اتباع السنة .
4- فضل نشر السنة .
باب الغصب
290 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنْ الأَرْضِ : طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ
أَرَضِينَ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
قيد : بكسر القاف ، أي قدره .
شبر : هو ما بين طرفي الخنصر والإبهام بالتفريج بينهما المعتاد .(1/78)
طوقه من سبع أرضين : اختلف في معنى [ طوقه .... ] .
فقيل : أن يكلف نقل ما ظلم منها في القيامة إلى المحشر ويكون كالطوق في عنقه .
وقيل : يعاقب بالخسف إلى سبع أرضين ، أي فتكون كل أرض في تلك الحالة طوقاً في عنقه ، ويؤيد هذا حديث ابن عمر . قال : قال رسول الله ( : من أخذ من الأرض شبراً بغير حق خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين ) .
وقيل : أنه يطوق إثم ذلك ويلزمه كلزوم الطوق بعنقه .
الفوائد :
1- الحديث له سبب : أن أروى بنت أويْس ادعت على سعيد بن زيد أنه أخذ شيئاً من أرضها ، فخاصمته إلى مروان بن الحكم ، فقال سعيد : أنا كنت آخذ من أرضها شيئاً بعد الذي سمعت من رسول الله ( قال : وما سمعت من رسول الله ( ؟ قال : سمعت رسول الله ( يقول : ( من أخذ شبراً ... ) فقال مروان : لا أسألك بيّنة بعد هذا ، فقال : اللهم إن كانت كاذبة فعمِّ بصرها وأفلتها من أرضها ، قال : فما ماتت حتى ذهب بصرها ، ثم بينما هي تمشي في أرضها إذ وقعت في حفرة فماتت .
2- الحديث دليل على تحريم الغصب ، وأنه كبيرة من الكبائر .
والغصب : هو الاستيلاء على حق الغير قهراً بغير حق .
( قهراً ) خرج به لو استولى عليه خلسة أو سرقة ، فإن هذا لا يعد غصباً اصطلاحاً .
ودليل تحريمه الكتاب والسنة والإجماع .
- قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ( .
- وقال ( : ( إن دماؤكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ) .رواه مسلم
- وأجمع المسلمون على تحريم الغصب في الجملة . [ قاله النووي ]
3- يجب على الغاصب رد المغصوب إذا كان بحاله .
قال ابن قدامة : " فمن غصب شيئاً لزمه ردده إن كان باقياً بغير خلاف نعلمه " .
لقوله ( : ( على اليد ما أخذت حتى تؤديه ) . رواه أبو داود
ولقوله ( : ( من أخذ عصا أخيه فليردها ) . رواه أبو داود(1/79)
4- ويلزم الغاصب رد المغصوب بزيادته سواء كانت متصلة أو منفصلة .
لأنها من نماء المغصوب ، وهو لمالكه ، فلزمه ردها كالأصل .
مثال الزيادة المتصلة : غصب عناقاً صغيرة ثم كبرت وسمنت ، فيجب عليه أن يردها بزيادتها .
مثال الزيادة المنفصلة : غصب شاة حائلاً ، فولدت عنده ، فيجب عليه أن يردها بزيادتها .
- ولو غرم رده أضعاف قيمته .
يعني إذا لم يمكن رده إلا أن يخسر الغاصب قيمته عشر مرات ، فإنه يلزمه رده .
لقوله ( : ( ليس لعرق ظالم حق ) . رواه أبو داود
- وكذلك يلزمه نقيضه .
لو أن هذه البهيمة هزلت وقلّ لحمها ، وجب عليه أرشها ، فيضمن النقص .
5- إذا غصب جارحاً أو عبداً ، فحصل بذلك الجارح أو العبد صيداً ، فلمالكه ( أي مالك الجارح والعبد ) .
لأنه حصل بسبب ملكه فكان له .
- أما لو غصب فرساً فصاد به صيداً ، فالصحيح أن الصيد للغاصب ، لكن عليه أجرة الفرس ، لأن الفرس لم يباشر الصيد، بل هو وسيلة ، والذي باشر الصيد هو الغاصب .
6- يلزم الغاصب ضمان نقص المغصوب ولو كان بغير فعله .
مثال : غصب أمة شابة ، وبقيت عنده لمدة شهرين ، وأتاها ما يوحشها ، فابيض شعرها ، فكانت بالأول تساوي [100] درهم ، والآن تساوي [ 50 ] درهم ، فيلزم الغاصب [ 50 ] درهم ، لأنها نقصت تحت استيلائه ، فوجب عليه الضمان .
7- اختلف العلماء : هل يضمن الغاصب ما نقص بالسعر ؟
مثال : غصب شاة تساوي [ 200 ] ، وبقيت عنده ، ولم يلحقها نقص في ذاتها ولا عيب ، ولكن القيمة نقصت ، فصارت تساوي [ 100 ] ، فردها الغاصب على صاحبها ، فهل يضمن مائة ؟
قيل : لا يضمن .
لأنه رد العين بحالها ، لم ينقص منها عين ، ولا صفة ، فلم يلزمه شيء .
وقيل : يلزمه .
واختاره ابن تيمية ، وهذا هو الصحيح .
8- وليس اغتصاب الأموال مقصوراً على الاستيلاء عليها بقوة ، بل ذلك يشمل الاستيلاء عليها بطريق الخصومة الباطلة والأيمان الفاجرة .(1/80)
9- قال تعالى:(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بالإثم وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(.
10- وقال ( : ( من قضيت له بحق أخيه ، فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من نار ) .
11- شدة تحريم الظلم .
12- أن الأرضين سبع كالسموات .
وقال ( ( ... لو أن السموات السبع وعامرهن غيري ، والأراضين السبع وعامرهن ..... ) .
وأما في القرآن فلم يرد تصريحاً ، وإنما ورد تلميحاً كقوله تعالى ( ومن الأرض مثلهن ) أي في العدد .
??
??
??
??
14
13(1/81)
بسم الله الرحمن الرحيم
( 6 )
إيقاظ الأفهام
في شرح
عمدة الأحكام
بابُ اللُّقَطَةِ - كتابُ النِّكاحِ
بقلم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية / رفحاء
الموقع على الإنترنت
www.almotaqeen.net
بابُ اللُّقَطَةِ
294 - عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ ( قَالَ : (( سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ( عَنْ لُقَطَةِ الذَّهَبِ , أَوْ الْوَرِقِ ؟ فَقَالَ : اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا , ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ فَاسْتَنْفِقْهَا وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْماً مِنْ الدَّهْرِ : فَأَدِّهَا إلَيْهِ , وَسَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الإِبِلِ ؟ فَقَالَ : مَا لَك وَلَهَا ؟ دَعْهَا فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا , تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ , حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا . وَسَأَلَهُ عَنْ الشَّاةِ ؟ فَقَالَ : خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ , أَوْ لأَخِيك , أَوْ لِلذِّئْبِ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
الورق : الفضة .
وكاءها : الذي يشد به المال في الخرقة .
عفاصها : الوعاء الذي تكون فيه النفقة جلداً كان أو غيره .
مالك ولها : جاء في رواية : ( فذرها حتى يلقاها ربها ) .
حذاءها : الحذاء بكسر الحاء ، أي خفها .
وسقاءها : أي جوفها . وقيل : عنقها ، وأشار بذلك إلى استغنائها عن الحفظ لها بما ركب في طباعها من الجلادة على العطش ، وتناول المأكول بغير تعب لطول عنقها ، فلا تحتاج إلى ملتقط .
الفوائد :
1- هذا الحديث يتكلم عن أحكام اللقطة .
واللقطة لغة : هي الشيء الملقوط . واصطلاحاً : مال ضل عن ربه .
2- قال العلماء : المال الضائع على ثلاثة أقسام :
أولاً : ما لا يتبعه همة أوساط الناس .
كالعصا ، والحبل ، والرغيف ، والتمرة ، فهذا يجوز أخذه ولا يجب تعريفه .
لأن هذا الشيء زهيد ، لكن يشترط في هذا القسم أن لا يكون عالماً بصاحبه .(2/1)
عن أنس ( قال : ( مرّ النبي ( بتمرة في الطريق ، فقال : لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها ) . متفق عليه
قال الحافظ ابن حجر : " قوله ( لأكلتها ) ظاهر في جواز أكل ما يوجد من المحقرات ملقى في الطرقات ، لأنه ( ذكر أنه لم يمتنع من أكلها إلا تورعاً لخشية أن تكون من الصدقة التي حرمت عليه ، لا لكونها مرمية في الطريق فقط ، فلو لم يخش ذلك لأكلها ، ولم يذكر تعريفاً ، فدل على أن مثل ذلك يملك بالأخذ ولا يحتاج إلى تعريف " .
قال في الشرح : " لا نعلم خلافاً بين أهل العلم في إباحة اليسير والانتفاع به " .
ثانياً : الحيوان الذي يمتنع بنفسه من صغار السباع كالذئب والفهد ، فهذا يحرم أخذه .
مثل : الإبل ، فلا يجوز أخذها ، ومثل : الثور والجاموس .
لحديث الباب ، فإن النبي ( لما سئل عن ضالة الإبل ، تمعر وجهه ( فقال : ( مالك ولها ... ) .
( تمعر ) أي تغير .
وهذا مذهب جمهور العلماء ، أن ضالة الإبل لا تلتقط .
وذهب الحنفية إلى أن الأولى أن تلتقط .
والصحيح مذهب الجمهور .
قال العلماء : حكمة النهي عن التقاط الإبل أن بقاءها حيث ضلت أقرب إلى وجدان مالكها لها من تطلّبه لها في رحال الناس ، قالوا في معنى الإبل : كل ما متنع بقوته عن صغار السباع " .
ثالثاً : ما تكثر قيمته من الأثمان والمتاع والحيوان الذي لا يمتنع من صغار السباع .
فهذه يجوز التقاطها .
لكن اختلف العلماء : هل الأفضل أخذها أم لا ؟
قيل : الأفضل ترك الالتقاط .
وهذا مذهب الحنابلة ، وروي عن ابن عباس ، وابن عمر ، وجابر .
لأن تركها أسلم ، ولأنه تعريض لنفسه لأكل الحرام .
وقيل : الأولى أخذها .
قال في المغني : " وممن رأى أخذها سعيد بن المسيب ، والحسن بن صالح ، وأبو حنيفة " .
قالوا : لأن فيها حفظ مال المسلم .
وقيل : التفصيل .
- أن يخشى الواجد نفسه بأن يملكه ولا ينشده ، فهنا يحرم .(2/2)
- أن يأمن نفسه على ذلك ، ولا يخاف عليها [ أي اللقطة ] ، فهنا السلامة أولى فيتركها .
وهذا القول هو الصحيح .
3- من وجد لقطة وأخذها ، فإنه يجب أن يعرفها ، لقوله ( : ( عرفها ) .
ولأن إمساكها من غير تعريف تضييع لها عن صاحبها ، فلم يجز ، كردها إلى موضعها أو إلقائها في غيره .
ولأنه لو لم يجب التعريف لما جاز الالتقاط ، لأن بقاءها في مكانها إذاً أقرب إلى وصولها إلى صاحبها .
4- أن التعريف مدته سنة كاملة .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لقوله ( في الحديث : ( وعرفها سنة ) .
قال ابن قدامة : "إذا ثبت هذا ، فإنه يجب أن تكون هذه السنة تلي الالتقاط ، وتكون متوالية في نفسها ، لأن النبي ( أمر بتعريفها حين سئل عنها ، والأمر يقتضي الفور ، ولأن القصد بالتعريف وصول الخبر إلى صاحبها ، وذلك يحصل بالتعريف عقيب ضياعها متوالياً ، لأن صاحبها في الغالب إنما يتوقعها ويطلبها عقب ضياعها ، فيجب تخصيص التعريف به " .
* مكان التعريف :
قال العلماء : الأسواق ، وأبواب المساجد والجوامع في الوقت الذي يجتمعون فيه كأدبار الصلوات في المساجد ، وكذلك مجامع الناس .
* كيفية التعريف :
أن يذكر جنسها لا غير ، فيقول : من ضاع منه ذهب ، أو فضة ، أو ثياب ، أو نحو ذلك .
ولا يصفها ، لأنه لو وصفها لعلم صفتها من يسمعها فلا تبقى صفتها دليلاً على ملكها ، ولأنه لا يأمن أن يدعيها بعض من سمع صفتها ويذكر صفتها التي يجب دفعها بها فيأخذها وهو لا يملكها ، فتضيع على مالكها .
في زمانه : وهو النهار دون الليل ، لأن النهار مجمع الناس وملتقاهم دون الليل ، ويكون ذلك في اليوم الذي وجدها والأسبوع أكثر ، لأن الطلب فيه أكثر .
لا يشترط أن يعرفها بنفسه ، بل يجوز بوكيله .
5- إذا عرفها اللاقط حولاً ، فلم يعرف مالكها صارت من مال الملتقط حكماً [ أي قهراً ] سواء كان غنياً أو فقيراً .
لقوله ( : ( فإن لم تعرف فاسْتنْفقها ) .(2/3)
وفي رواية :( ثم عرفها سنة ، فإذا جاء صاحبها وإلا شأنك بها ) . أي إن جاء صاحبها فأدها إليه ، وإن لم يجيء فشأنك بها.
وفي رواية : ( فإن جاء صاحبها وإلا استمتع بها ) .
( وقال بعض العلماء : يتصدق بها ، فإذا جاء صاحبها خيره بين الأجر والغرم ) .
* واختلف العلماء فيما إذا تصرف في اللقطة بعد تعريفها سنة ، ثم جاء صاحبها ، هل يضمنها له أم لا ؟
الجمهور على وجوب الرد إن كانت العين موجودة ، أو البدل إن كانت استهلكت .
لقوله ( في رواية : ( ولتكن وديعة عندك ) .
وجاء عند مسلم : ( فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها ، فإن جاء صاحبها فأدها إليه ) .
قال ابن حجر : " فإن ظاهر قوله : ( فإن جاء صاحبها ... ) بعد قوله : ( كلها ) يقتضي وجوب ردها بعد أكلها ، فيحمل على رد البدل " .
قال ابن حجر : " وأصرح من ذلك رواية أبي داود : ( فإذا جاء باغيها فأدها إليه ، وإلا فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها فإن جاء باغيها فأدها إليه ) فأمر بأدائها إليه قبل الإذن في أكلها وبعده ، وهي أقوى حجة للجمهور " .
* تصرف الملتقط في اللقطة : له أحوال :
أولاً : أثناء الحول ، لا يجوز أن يتصرف فيها ، لأنها ليست ملكاً له .
ثانياً : بعد الحول ، فله أن يتصرف فيها ، لكن بعد أن يعرف صفاتها ، من أجل إذا جاء صاحبها دفعها إليه .
* إذا هلكت اللقطة : له أحوال :
أولاً : إذا هلكت في حول التعريف من غير تعد ولا تفريط ، فلا ضمان عليه .
ثانياً : إذا هلكت بعد تمام الحول ، فلا ضمان عليه سواء فرط أو لم يفرط ، لأنها دخلت في ملكه .
* إذا جاء من يدعي اللقطة ، وعرف صفاتها ، فإنها تدفع إليه دون بينة .
لأن النبي ( أطلق وقال : ( فإذا جاء أحد يخبرك بعددها ووعائها ووكائها ، فادفعها إليه ) .
قال ابن المنذر : " هذا الثابت عن رسول الله ( وبه أقول " .
* أجرة التعريف على ربّ اللقطة .
هذا القول هو الصحيح ، لأن التعريف من مصلحته .
فائدة :
حكم لقطة الحرم ، اختلف العلماء :(2/4)
القول الأول : لا يجوز التقاطها إلا لمن أراد ينشدها ويعرفها دائماً وأبداً .
وهذا مذهب الشافعي ، واختاره ابن القيم وقال : " هذا هو الصحيح " .
لقوله ( : ( ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد ) . متفق عليه أي المعرّف على الدوام .
قال الحافظ ابن حجر : " والمعنى : لا تحل لقطتها إلا لمن يريد أن يعرفها فقط ، فأما من أراد أن يعرفها ثم يتملكها فلا " .
القول الثاني : أن لقطة الحرم والحل سواء .
وهذا مذهب المالكية .
لحديث الباب .
فلم يفرق رسول الله ( بين لقطة الحرم وغيرها .
والجواب عن هذا الحديث :
أنه عام ، مخصوص بلقطة مكة لحديث الباب : ( لا تحل ساقطتها إلا لمنشد ) .
بابُ الوصايا
295 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ , لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ , يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ )) .
زَادَ مُسْلِمٌ : قَالَ ابْنُ عُمَرَ : (( مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ( يَقُولُ ذَلِكَ , إلاَّ وَعِنْدِي وَصِيَّتِي )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
مسلم : قال الحافظ : " الوصف بالمسلم خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له ، أو ذكر للتهييج لتقع المبادرة لامتثاله لما يشعر به من نفي الإسلام عن تارك ذلك ، ووصية الكافر جائزة في الجملة " .
شيء يوصي فيه : جاء في رواية : ( له شيء يريد أن يوصي به ) وفي رواية : ( ما حق امرئ مسلم له مال يريد أن يوصي فيه ) .
يبيت : كأن فيه حذفاً تقديره : أن يبيت .
ليلتين : في رواية البيهقي : ( ليلة أو ليلتين ) ولمسلم : ( ثلاث ليال ) قال الحافظ : " وكأن ذكر الليلتين والثلاث لرفع الحرج لتزاحم أشغال المرء التي يحتاج إلى ذكرها ، ففسح له هذا القدر ليتذكر ما يحتاج إليه ، والمعنى : لا يمضي عليه زمان ، وإن كان قليلاً ، إلا ووصيته مكتوبة " .
الفوائد :(2/5)
1- هذا الحديث دليل على مشروعية الوصية .
والوصية : هي الأمر بالتبرع بالمال بعد الموت ، أو الأمر بالتصرف بعد الموت .
مثال تبرع بمال : أوصيت لفلان بعد موتي بـ 100 ريال .
مثال التصرف : وصيِّ على أولادي الصغار فلان من الناس .
وهي مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ ... ( . (البقرة: من الآية180)
وأما السنة حديث الباب .
وأجمع المسلمون على مشروعيتها .
واختلفوا هل هي واجبة أو لا ؟
فقيل : واجبة .
لقوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ ... ( .
وقيل : غير واجبة .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
وأما الآية : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ ... ( فهي منسوخة .
2- فالأصل في الوصية أنها مشروعة .
والوصية تجري فيها الأحكام التكليفية الخمسة :
- فتكون مستحبة : لمن ترك خيراً [ وهو المال الكثير ] .
لقوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ ... ( .
ولأنها من الإحسان ، والإحسان إلى الناس مستحب .
ولقوله : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ... ) . رواه مسلم .
( قوله : لمن ترك خيراً ، هو المال الكثير ، والمال الكثير يرجع فيه إلى العرف ) .
قال ابن قدامة : " والذي يقوى عندي أنه متى كان المتروك لا يفضل عن غنى الورثة ، فلا تستحب الوصية " .
- وتكره : إذا كان ورثته كثير ، وماله قليل .
لأن النبي ( علل المنع من الوصية بقوله : ( إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ) .
ولأنه عدول عن الأقارب المحتاجين إلى الأباعد ، وذلك خلاف الأفضل .
قال الشعبي : " ما من مال أعظم أجراً من مال يتركه الرجل لولده يغنيهم به عن الناس " .
- وتحرم : في حالين :
أ- لوارث بشيء ، لقوله ( : ( لا وصية لوارث ) .(2/6)
ب- لأجنبي بأكثر من الثلث ، لقوله ( : ( الثلث والثلث كثير ) إلا إذا أجاز الورثة ، فإن أجازوا نفذت .
قال ابن هبيرة : " اتفقوا على أنه لا وصية لوارث إلا أن يجيز ذلك الورثة " .
وإجازة الوصية لهما تكون بعد موت الموصي عند أكثر العلماء .
- وتجب : لمن عليه دين لا بينة به .
مثال : إنسان في ذمته دين لشخص وليس لصاحب الحق بينة ، فهنا يجب أن يوصي حتى لا يضيع الحق .
3- يشترط القبول من الموصى له بعد الموت لا قبله .
لأنه هو وقت استحقاق الوصية ، فلا عبرة بقبوله قبل موت الموصي ، وهذا إذا كانت الوصية على معين .
أما إذا كانت على غير معين ،أو غير محصور ، فإن الوصية تثبت بمجرد موت الموصي .
مثال : أوصى بدراهم لبناء المساجد ، فهنا لا يشترط للصحة قبول مدير الأوقاف .
مثال : لو أوصى بدراهم للفقراء ، فهنا لا يشترط القبول ، لأنه لا يمكن حصرهم .
4- من قبل الوصية ثم ردها لم يصح الرد .
لأنه بقبولها أصبحت ملكاً له ، فلا يصح الرد ، وحينئذٍ : فإن قبل ذلك الورثة فهي هبة لهم .
5- يجوز الرجوع في الوصية من الموصي وتغييرها ، لأن الوصية لا تثبت إلا بعد الموت .
مثال : كتب رجل وصية ، أن لفلان الثلث ، ثم بدا له أن يرجع بها ، فله أن يرجع بها .
6- مبطلات الوصية :
أولاً : برجوع الموصي قبل الموت .
ثانياً : بموت الموصَى له .
لأن حقه في الوصية لا تكون إلا بعد موت الموصي ، فإذا مات قبله بطلت الوصية .
ثالثاً : تلف العين الموصى بها .
مثال : أوصى زيد لشخص بهذه البعير ، ثم ماتت قبل الموصي ، ثم مات الموصي ، الموصى ليس له شيء ، فبطلت الوصية .
رابعاً : بقتل الموصى له الموصي .
لأن من تعجل شيئاً قبل أوانه على وجه محرم ، عوقب بحرمانه .
خامساً : برد الموصى له للوصية بعد موت الموصي .
قال ابن قدامة : " لا نعلم فيه خلافاً لأنه أسقط حقه " .(2/7)
296 - عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ( قَالَ : (( جَاءَني رَسُولُ اللَّهِ ( يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ بَلَغَ بِي مِنْ الْوَجَعِ مَا تَرَى ، وَأَنَا ذُو مَالٍ , وَلا يَرِثُنِي إلاَّ ابْنَةٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي ؟ قَالَ : لا ، قُلْتُ : فَالشَّطْرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ : لا ، قُلْت : فَالثُّلُثُ قَالَ : الثُّلُثُ , وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ ورَثَتَكَ أَغنياءَ خيرٌ منْ أَنْ تَذَرَهمْ عالَةً يَتَكَفَّفونَ النَّاسَ ، وإنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إلاَّ أُجِرْتَ بِهَا , حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ . قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ قَالَ : إنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلاً تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إلاَّ ازْدَدْت بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً , وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرُّ بِكَ آخَرُونَ . اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ , وَلا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ ، لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ( أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ )) .
297 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : (( لَوْ أَنَّ النَّاسَ غَضُّوا مِنْ الثُّلُثِ إلَى الرُّبْعِ ؟ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : الثُّلُثُ , وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
حجة الوداع : العام العاشر للهجرة ، وسميت بذلك لأن النبي ( ودع الناس فيها .
ذو مال : أي عندي مال كثير .
لا يرثني إلا ابنة لي : أي ليس لي وارث إلا هذه البنت .
أفأتصدق بثلثي مالي : أي اثنين من ثلاثة .
الشطر : النصف .
تذر : تترك .(2/8)
عالة : واحد عائل ، وهو الفقير .
يتكففون الناس : أي يسألون الناس بأكفهم .
أخلف بعد أصحابي : أي أترك في مكة بعد انصرافهم عنها .
لعلك أن تخلف : تخلف هنا غير تخلف الأولى ، فالمراد هنا : لعلك أن تخلف : أي يطيل عمرك ، وهذا الذي وقع ، فإن سعداً عمر زمناً طويلاً ، حتى ذكر العلماء أنه خلّف سبعة عشر ذكراً واثنتي عشرة بنتاً .
امض : أتمم .
البائس : من اشتدت حاجته واشتد حزنه .
سعد بن خولة : من المهاجرين السابقين ، شهد بدراً ، يقول النبي ( هذا الكلام توجع وحزن له لكونه مات بمكة ، وكانوا يكرهون الإقامة في الأرض التي هاجروا منها وتركوها لله مع حبهم لها .
الفوائد :
1- هذا الحديث ذكره المؤلف ليبين مقدار ما يوصي به .
قال العلماء : الأفضل أن يوصي بالخمس أو الربع ، وإن أوصى بالثلث جاز .
لقوله ( لسعد : ( الثلث والثلث كثير ) مع إخباره إياه بكثرة ماله وقلة عياله .
وقال أبو بكر : ( أرضى ما رضيه الله لنفسه ) . يعني الخمس .
قال ابن قدامة : " فالأفضل للغني الوصية بالخمس ، ونحو هذا يروى عن أبي بكر ، وعلي بن أبي طالب ، وهو ظاهر قول السلف " .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : " ولهذا نعرف أن عمل الناس اليوم ، وكونهم يوصون بالثلث خلاف الأولى ، وإن كان هو جائزاً ، لكن الأفضل أن يكون أدنى من الثلث ، إما الربع ، وإما الخمس " .
وقد قال ابن عباس : ( لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع ، فإن الرسول ( قال : الثلث والثلث كثير ) " .
2- تحريم الوصية بأكثر من الثلث ، لقوله ( : ( الثلث والثلث كثير ) .
3- أن الميت إذا خلّف مالاً للورثة ، فإن ذلك خير له .
4- مشروعية عيادة المريض ، والصحيح أنها فرض كفاية ، لقوله ( : ( عودوا المريض ) .
وفي عيادة المريض فوائد :
منها : يؤدي حق أخيه المسلم - أنه لا يزال في خرفة الجنة - أن في ذلك تذكيراً للعائد بنعمة الله عليه في الصحة - أن فيها جلباً للمحبة والمودة .(2/9)
5- حسن خلق النبي ( .
6- الإنفاق على العيال فيه أجر إذا قصد به وجه الله .
7- ينبغي مشاورة أهل العلم ، لأن سعد استشار النبي ( .
8- أن الأفضل أن تكون الوصية أقل من الثلث .
9- فضل الإخلاص واستحضار نية التقرب إلى الله .
10- أن الإنسان إذا كان ماله قليلاً ، فإنه لا يستحب له أن يوصي .
11- جواز إخبار المريض بشدة مرضه وقوة ألمه إذا لم يقترن بذلك شيء من التبرم .
12- الحث على صلة الأرحام ، والإحسان إلى الأقارب .
13- أن صلة الأقرب أفضل من صلة الأبعد .
14- أن خطاب الشارع للواحد يعم من كان بصفته من المكلفين .
فائدة :
ترتيب الوصية بعد مؤن التجهيز والديون .
فالحقوق المتعلقة بالتركة بعد موت الإنسان :
أولاً : مؤن التجهيز ، ككفن وأجرة حفار .
ثانياً : الحقوق المتعلقة بعين التركة ، كدين برهن .
ثالثاً : الديون المعلقة .
رابعاً : الوصية .
خامساً : الإرث .
مثال : مات ميت وترك [ 200 ] ريال ، وعليه : مؤن التجهيز 100 ، دين برهن 50 ، ودين بغير رهن 50 .
تسقط الوصية والإرث .
بابُ الفَرَائِضِ
298 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ ( قَالَ : (( أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا ، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ )).
وَفِي رِوَايَةٍ : (( اقْسِمُوا الْمَالَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَمَا تَرَكَتْ : فَلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
ألحقوا : أعطوا .
الفرائض : المراد بالفرائض هنا ، الأنصاب المقدرة في كتاب الله ، وهي : النصف ، والربع ، والثلث ، والثلثان ، والسدس، والثمن .
بأهلها : أي من يستحقها بنص القرآن .
فما بقي : أي أبقت .
فهي لأولى : أي لأقرب ، أي لمن يكون أقرب في النسب إلى المورث . قال الخطابي : " المعنى أقرب رجل من العصبة " .
الفوائد :(2/10)
1- في هذا الحديث يأمر النبي ( القائمين على قسمة تركة الميت أن يوزعوها على مستحقيها بالقسمة العادلة الشرعية كما أراد الله ، فيعطى أصحاب الفروض المقدرة فروضهم في كتاب الله ، فما بقي يعطى الأقرب إلى الميت من الرجال .
* الفروض المقدرة في كتاب الله :
الثلثان - الثلث - السدس - النصف - الربع - الثمن .
الثلثان : قال تعالى : ( فإن كنّ نساء فوق اثنتين فلهنّ ثلثا ما ترك ( .
النصف : قال تعالى : ( ولكم نصف ما ترك أزواجكم ( .
الربع : قال تعالى : ( فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن ( .
الثمن : قال تعالى : ( فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم ( .
الثلث : قال تعالى : ( فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث ( .
السدس : قال تعالى : ( فإن كان له إخوة فلأمه السدس ( .
2- أن الإرث ينقسم إلى قسمين :
- إرث بالفرض .
- إرث بالتعصيب .
العصبة في اللغة : قرابة الرجل لأبيه ، سموا بالعصبة لأنهم عصبوا به ، أي أحاطوا .
واصطلاحاً : هو كل وارث ليس له سهم مقدر صريح في الكتاب والسنة ، [ يعني كل من يرث بلا تقدير ] .
* الذين يرثون بالتعصيب :
الابن - وابن الابن - والأخ الشقيق - والأخ لأب - وابن الأخ الشقيق - وابن الأخ لأب - والعم الشقيق - والعم لأب - وابن العم الشقيق - وابن العم لأب .
* الدليل على توريث العصبات :
حديث الباب . ومعناه : أي أعطوا كل ذي فرض فرضه ، وما بقي بعد ذلك من الميراث فادفعوه لأقرب عصبة من الذكور وإنما ذكر في الحديث لفظة [ ذكر ] فقال : ( فلأولى رجل ذكر ) مع أن الرجل لا يكون إلا ذكراً ، وذلك لدفع التوهم ، حتى لا يظن أحد أن المراد من لفظ الرجل هو الكبير القادر ، فإن الطفل وإن كان رضيعاً يستحق الإرث بالتعصيب ، ويأخذ كل المال عند الانفراد ، وهذا هو السر في كلمة [ ذكر ] .
* أحكام العصبة :
أ- إذا انفرد أحدهم أخذ كل المال .
ب- يأخذ الباقي بعد أخذ أصحاب الفروض فروضهم .
أمثلة :(2/11)
- مات شخص عن ابن فقط ، يأخذ المال كله ، لأنه انفرد .
- هلك هالك عن زوجة عم :
الزوجة الربع ، والعم الباقي ، لأنه معصب .
- هلك هالك عن زوجة وابن :
الزوجة الثمن ، والابن الباقي .
299 - عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ : (( قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَتَنْزِلُ غَداً فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ ؟ قَالَ : وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ ؟ ثُمَّ قَالَ : لا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ وَلا الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
الرباع : محلات الإقامة ، والمراد هنا الدور .
الفوائد :
1- في هذا الحديث يبين النبي ( أن المسلم لا يرث الكافر ، والكافر لا يرث المسلم .
فاختلاف الدين من موانع الإرث .
وموانع الإرث ثلاثة : قال في الرحبية :
الأول :اختلاف الدين .
فلو مات أب مسلم عن ابن نصراني ، فإنه لا يرثه .
لو مات ابن نصراني عن أب مسلم فإنه لا يرثه .
وهذا مذهب جماهير العلماء ، أنه لا يرث المسلم من الكافر ، ولا الكافر من المسلم .
لحديث الباب ، فهو نص في محل النزاع .
وقيل : يرث المسلم من الكافر .
روي ذلك عن معاذ بن جبل ، ومعاوية بن أبي سفيان ، ونقل عن سعيد بن المسيب .
واستدلوا بقوله ( : ( الإسلام يزيد ولا ينقص ) . رواه أبو داود
فأثبت الزيادة للإسلام ، ونفى عنه النقص ، وإرث المسلم للكافر زيادة .
لكن هذا القول ضعيف ، لأن الحديث ضعيف .
والمراد به زيادة الإسلام فيمن يدخل فيه وعدم نقصه بمن يخرج منه بالردة .
والراجح القول الأول .
* لو أسلم الكافر قبل قسمة التركة .
مثال : أن يموت ميت مسلم عن ابنين أحدهما مسلم يصلي ، والثاني لا يصلي ، وقبل أن تقسم التركة بين الابن المسلم وزوجة الميت ، قبل ذلك صار الابن الثاني يصلي وتاب وعاد إلى الإسلام .
فهنا اختلف بعض العلماء هل يرث أم لا ؟(2/12)
والصحيح مذهب الجماهير من العلماء أنه لا يرث ولو أسلم قبل قسمة التركة .
لعموم قوله ( : ( لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم ) فنفى إرث الكافر للمسلم ، وهو مطلق ، فيشمل ما إذا أسلم قبل قسمة التركة .
وذهب بعض العلماء إلى أنه يرث ترغيباً له في الإسلام ، لكن هذا القول ضعيف .
المانع الثاني : القتل .
إذا كان القتل عمداً فلا يرث إجماعاً .
فلو أن ابناً قتل والده عمداً ، فإنه لا يرث منه .
وأما إذا كان بحق فإنه يرث .
مثال : رجل محصن زنى ، فرجمه الناس ، وكان ممن رجمه وارثه ، فلا يمنع من الإرث ، لأن القتل بحق .
وأما إذا كان القتل خطأ ففيه خلاف :
فالمشهور من المذهب أن القاتل خطأ لا يرث ، كحوادث السيارات .
والراجح أنه يرث ، ورجحه ابن القيم في إعلام الموقعين .
المانع الثالث : الرق .
والرق في اللغة : العبودية والملك .
واصطلاحاً : عجز حكمي يقوم بالإنسان بسبب كفره بالله .
فالمملوك لا يرث .
مثال : رجل مات عن أب مملوك ، فالأب هنا لا يرث .
وإنما كان الرق مانعاً من الإرث ، لأن الرقيق لا يملك ، فإذا كان لا يملك لم يستحق الإرث ، لأنه لو ورث لكان لسيده وهو أجنبي من الميت .
300- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (( أَنَّ النَّبِيَّ ( نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
الولاء : عصوبة سببها نعمة المعتِق على عتيقه بالعتق .
الفوائد :
1- في هذا الحديث ينهى النبي ( عن بيع الولاء .
وصورة ذلك : أن يقول السيد لرجل : هذا الرقيق أعتقه ، أرثه ولا يرثني ، بعتك هذا الولاء .
فهذا لا يجوز .
وعن هبته :
وصورة ذلك : أن أقول لشخص ، وهبتك ولاء عبدي فلان الذي أعتقه .
فهذه الهبة لا تصح .
2- أن الولاء سبب من أسباب الإرث .(2/13)
فإذا أعتق الرجل عبداً ، فإن هذا الرجل يرث من هذا العتيق ، إذا صار له مال فيما بعد ، ولم يكن له وارث ، أو لم يكن له عصبة .
مثال : هذا العبد الذي أعتقته مات وترك بنتاً ، وابناً ، فهنا للذكر مثل حظ الأنثيين ، ولا يأخذ السيد شيئاً .
مثال آخر : هذا العبد مات عن بنت فقط ، فالبنت لها النصف ، ثم يأخذ السيد الباقي وذلك بسبب الولاء .
* الولاء الإرث فيه من طريق واحد وهو المعتِق [ السيد ] .
* ومن أسباب الميراث :
النكاح - القرابة .
قال في الرحبية :
أولاً : النكاح :
وهو عقد الزوجة الصحيح ، فيتوارث الزوجان .
قال تعالى : ( وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ ... وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ ... ( . (النساء: من الآية12)
* الإرث فيه من الجانبين .
* يمتد الإرث بالزوجة ما دامت الزوجة مع زوجها فالإرث باقي .
* توريث المطلقة :
- المطلقة الرجعية إذا مات المطلق وهي في العدة فإنها ترث إجماعاً ، لأن الرجعية زوجة .
- المطلقة البائن إذا طلقها في حال الصحة فلا توارث إجماعاً ، إلا إذا كان هناك اتهام يقصد حرمانها ، فإنها ترث .
أمثلة :
- رجل طلق زوجته أول تطليقة ، ثم مات وهي في العدة ، فإنها ترث .
- رجل طلق زوجته آخر ثلاث تطليقات ، وهو صحيح شحيح ، ثم مات وهي في العدة ، فإنه لا ترثه .
لأن الطلاق بائن ولا تهمة .
- رجل مرض مرضاً مخوفاً وكان لا يحب زوجته ، وكان عنده أموال كثيرة ، وقال : إذا أنا مت وهذه الزوجة معي فإنها ترث مني ، فالحيلة أن أطلقها ، لأنه لم يبق لها إلا طلقة واحدة ، فطلقها وهو في مرض الموت ، فإنها ترثه ، لأنه متهم .
الثاني : النسب .
هو الاتصال بين إنسانين بولادة .
كالأصول : الآباء والأمهات .
والفروع : الأولاد وأولادهم .
الحواشي : الأخوة والأخوات .(2/14)
301 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (( كَانَتْ فِي بَرِيرَةَ ثَلاثُ سُنَنٍ : خُيِّرَتْ عَلَى زَوْجِهَا حِينَ عَتَقَتْ , وَأُهْدِيَ لَهَا لَحْمٌ , فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ( وَالْبُرْمَةُ عَلَى النَّارِ , فَدَعَا بِطَعَامٍ فَأُتِيَ بِخُبْزٍ وَأُدْمٍ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ فَقَالَ : أَلَمْ أَرَ الْبُرْمَةَ عَلَى النَّارِ فِيهَا لَحْمٌ ؟ قَالُوا : بَلَى , يَا رَسُولَ اللَّهِ . ذَلِكَ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ فَكَرِهْنَا أَنْ نُطْعِمَكَ مِنْهُ فَقَالَ : هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ , وَهُوَ مِنْهَا لَنَا هَدِيَّةٌ وَقَالَ النَّبِيُّ ( فِيهَا : إنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
بريرة : سيد اشتقاقها .
ثلاث سنين : قال ابن حجر : " إن العلماء صنفوا في قصة بريرة تصانيف ، وإن بعضها أوصلها إلى أربعمائة فائدة ، ولا يخالف ذلك قول عائشة ( ثلاث سنن ) لأن مراد عائشة ما وقع من الأحكام فيها مقصوداً خاصة ، أو اقتصر على الثلاث لكونها أظهر ما فيها ، أو لأنها أهم .
عتقت : صارت حرة .
البرمة : بضم الباء ، قدر من حجارة .
لحم : جاء في رواية عن عائشة : ( تصدق على مولاتي بشاة ) .
الفوائد :
1- في هذا الحديث تذكر عائشة أن من بركات بريرة ، ثلاث سنن وأحكام :
الأمر الأول : أنه لما عتقت خيرت بين البقاء مع زوجها أو الفسخ .
وهذه المسألة ، وهي : أنه إذا عتقت الأمة وزوجها عبد ، فإن لها الخيار في البقاء أو فسخ النكاح .
قال في المغني : " أجمع أهل العلم على هذا ، ذكره ابن المنذر وابن عبد البر وغيرهما ، والأصل فيه خبر بريرة ... " .
ثم ذكر حديث الباب .
* فزوج بريرة كان عبداً .
قال ابن عباس : ( كان زوج بريرة عبداً أسود ، يقال له مغيث ، عبداً لبني فلان ، كأني أنظر إليها يطوف وراءها في سكك المدينة ) . رواه البخاري(2/15)
وفي رواية : ( فقال النبي ( : لو راجعتِه ، فقالت : يا رسول الله ، تأمرني ؟ قال : إنما أنا أشفع ، قالت : لا حاجة لي فيه ) .
ولأن عليها ضرراً في كونها حرة تحت العبد ، فكان لها الخيار ، وهذا مما لا خلاف فيه .
* واختلفوا إذا عتقت تحت حرّ ، فهل لها الخيار ؟
فذهب جمهور العلماء إلى أنه لا خيار لها .
وهذا قول ابن عمر ، وابن عباس ، وابن المسيب ، والحسن ، وعطاء .
وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد .
لأنها كافأت زوجها في الكمال فلم يثبت لها الخيار ، كما لو أسلمت الكتابية تحت مسلم .
الأمر الثاني : أن الولاء لمن أعتق .
وهذا سبق شرحه في شرح حديث عائشة .
الأمر الثالث : تحريم الصدقة على النبي ( وآله .
* فالصدقة حرام على النبي ( وآله .
قال ( : ( إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد ، وإنما هي أوساخ الناس ) . رواه مسلم
وعن أبي هريرة ( قال : ( أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة ، فجعلها في فيه ، فقال النبي ( : كخ كخ ، ارم بها ، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة ) . رواه مسلم
وعن أنس ، أن النبي ( وجد تمرة فقال : ( لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها ) . رواه مسلم
* والحكمة من ذلك :
ما جاء في الحديث السابق : ( وإنما هي أوساخ الناس ) .
قال النووي : " ( إنما هي أوساخ الناس ) تنبيه على العلة في تحريمها على بني هاشم وبني المطلب ، وأنها لكرامتهم وتنزيههم عن الوساخ ، ومعنى أوساخ الناس : أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم ، كما قال تعالى : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ( . (التوبة: من الآية103) كغسالة الأوساخ " .
2- أن الفقير إذا تصدق عليه ، فأهدى من صدقته على من لا تحل له الصدقة ، من غني وغيره ، جاز .
3- جواز أكل اللحم .
4- الفرق بين الصدقة والهدية في الحكم .
5- جواز أكل الإنسان من طعام من يسر بأكله منه ، ولو لم يأذن فيه بخصوصه .
6- أن من حرمت عليه الصدقة ، جاز له أكل عينها إذا تغير حكمها .(2/16)
7- ينبغي تعريف الرجل بما يخشى توقفه فيه .
8- استحباب سؤال الرجل عما لم يعهده في بيته .
9- استحباب قبول الهدية وإن كانت قليل .
10- أن من تصدق عليه بصدقة ، فله أن يتصرف فيها بما شاء .
11- استحباب الشفاعة في الأمور المباحة .
12- استحباب الإصلاح بين المتنافرين .
13- أنه لا عار على الرجل في إظهار حبه لزوجته .
كتابُ النِّكاحِ
302- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ( : (( يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ , مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَة فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ , وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ , وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ )).
------------------------------------
معاني الكلمات :
يا معشر : المعشر هم الجماعة الذي يشملهم وصف واحد .
من استطاع : أي من قدر .
الباءة : اختلف في المراد بها هنا : فقيل : القدرة على الوطء . وقيل : القدرة على مؤن النكاح ، وهو الصحيح .
لرواية النسائي : ( من كان ذا طول فليتزوج ) .
ولقوله ( : ( ومن لم يستطع فعليه بالصوم ) فهذا ظاهر في أن المراد القدر على مؤنة النكاح ، لأن العاجز عن الجماع لا يؤمر بالصوم .
فإنه : أي الزوج .
أغض للبصر : أي أن المتزوج أغض بصراً وأحصن فرجاً ممن لم يتزوج .
ومن لم يستطع : أي الباءة المذكورة في أول الحديث .
له وجاء : له : يعني الصوم ، والوجاء : هو رض الخصيتين .
الفوائد :
1- الحديث يدل على مشروعية النكاح والحث عليه .
والنكاح لغة : القران .
واصطلاحاً : اجتماع بين رجل وأنثى على صفة مخصوصة .
وهو مشروع بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ( . (النساء: من الآية3)
وقال تعالى : ( وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ ( . (النور: من الآية32)(2/17)
وقال تعالى : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً ( . (الرعد: من الآية38)
وقال تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( . (الروم:21)
ومن السنة :
- حديث الباب .
- وحديث أنس وسيأتي : ( ... أما أنا فأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ... ) . متفق عليه
- وعن معقل بن يسار قال : قال رسول الله ( : ( تزوجوا الودود الولود ، فإني مكاثر بكم الأمم ) . رواه أبو داود
- وعن سعيد بن جبير قال : ( قال لي ابن عباس : هل تزوجت ؟ قلت : لا ، قال : فتزوج ، فإن خير هذه الأمة أكثرها نساءً ) . رواه البخاري
قال الحافظ ابن حجر : " قيد بهذه الأمة ليخرج مثل سليمان ( فإنه كان أكثر نساء ، وكذلك أبوه داود " .
ثم قال رحمه الله : " قيل المعنى : خير أمة محمد من كان أكثر نساء من غيره ممن يتساوى معه فيما عدا ذلك من الفضائل والذي يظهر أن مراد ابن عباس بالخير النبي ( ، وبالأمة أخصاء أصحابه ، وكأنه أشار إلى أن ترك التزويج مرجوح ، إذ لو كان راجحاً ما آثر النبي ( غيره " .
1- واختلف في وجوبه :
فقال بعض العلماء : إنه واجب .
وهو قول داود .
لحديث الباب : ( يا معشر ... ) .
وذهب جماهير العلماء : إلى أنه سنة غير واجب .
قال في المغني : " وهو قول عامة الفقهاء " .
وهو الصحيح .
2- قال العلماء : أن النكاح تجري فيه الأحكام الخمسة :
أ- سنة مستحب .
وهذا هو الأصل .
ب- واجب .
على من خاف الزنا بتركه ، لأن ترك الزنا واجب ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
ج- مكروه .
إذا كان فقيراً لا شهوة له ، لأنه سوف يرهق نفسه بالنفقات وليس لديه شهوة .
د- مباح .(2/18)
إذا كان غنياً لا شهوة له ، لأنه قادر على الإنفاق ، فهو قد ينفع المرأة بالإنفاق عليها .
ه- حرام .
وذلك فيما إذا كان بدار حرب ، لأنه قد يؤدي إلى أ، يكون له أولاد ، فيقتل أولاده أو يخطفون .
3- اختلف العلماء أيهما أفضل : النكاح أو التخلي لنوافل العبادة ؟ على قولين :
القول الأول : التخلي لنوافل العبادة أفضل .
وهذا مذهب الشافعي .
لأن الله مدح عيسى بقوله : ( وسيداً وحصوراً ( والحصور الذي لا يأتي النساء ، فلو كان النكاح أفضل لما مدح بتركه .
ولأن الله سبحانه ذكر النساء من جملة المزّينات فقال : ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ ( .
القول الثاني : أن النكاح أفضل .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
- لأن النكاح من سنن المرسلين .
- والأحاديث في الحث عليه ، والأمر به ، والرغبة في الولد ، أكثر من أن تحصر .
- ولأن أثر النكاح يصل إلى المرأة ، وإلى المجتمع ، فضلاً عن الزوج نفسه .
4- استدل بحديث الباب على تحريم الاستمناء .
هذه العادة قديمة معروفة في الجاهلية قبل الإسلام، فقد كانوا يجلدون عُمَيْرَة إذا خلوا بواد لا أنيس به .
كما قال الشاعر :
إذا ما خلوتَ بوادٍ لا أنيسَ به فاجْلدْ عُمَيْرةَ لا عيبٌ ولا حرجُ
وعميرة كناية عن الذكر .
ومعنى الاستمناء : هو استدعاء خروج المني بغير جماع ، سواء كان باليد أو بغيرها .
وقد اختلف العلماء في حكمه :
القول الأول : أنه حرام .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ . إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ . فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ( . (المعارج :31 ، 32 ، 33 )
فأوجب الله على المسلم أن يحفظ فرجه إلا من زوجته أو ما ملكت يمينه ، فإذا تجاوز زوجته وملك يمينه إلى غيرهما فإنه من العادين .(2/19)
ولحديث الباب ، فالرسول ( أمر بالصيام ، ولو كان الاستمناء جائزاً لأرشد إليه النبي ( .
ومن الأدلة : أن الله سبحانه وتعالى أباح للصحابة المتعة في أول الأمر ، ثم نسخت بعد ، وسبب إباحتها ما لقوه من شدة العزوبة في أسفارهم ، وقد جعلها الله حلاً مؤقتاً لدفع حاجتهم ، ولو كان الاستمناء مباحاً لبينه لهم ، وهو أيسر وأقل مؤونة وأثراً .
القول الثاني : أنه مباح .
وهو قول لبعض أهل الظاهر .
لعدم الدليل المانع .
؛؛؛ والله أعلم ؛؛؛
لكن يباح الاستمناء في حالتين :
الحالة الأولى : خوف الوقوع بالزنا .
الحالة الثانية : التضرر بحبس هذا الماء .
5- حث النبي ( على الصيام لمن لا يستطيع على مؤن النكاح ، لأمرين :
أولاً : لأن الصيام يورث التقوى . كما قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( . (البقرة:183)
ثانياً : لأن شهوة النكاح تابعة لشهوة الأكل ، تقوى بقوته وتضعف بضعفه .
6- هل يجوز استعمال دواء لدفع الشهوة ؟
المسألة تنقسم إلى حالتين :
الحالة الأولى : أن يستعمل دواء لقطعها ، فهذا حرام .
لأنه قد يقدر بعدُ فيندم .
الحالة الثانية : أن يستعمل دواء لتخفيفها .
فقيل : لا يجوز .
لأن النبي ( أرشد إلى الصيام لمن عجز عن مؤن النكاح ، فهو العلاج النبوي ، فلا يجوز غيره .
وقيل : يجوز .
وهذا هو الصحيح .
7- الحث على غض البصر وتحصين الفرج بكل مستطاع .
فائدة : وفي غض البصر فوائد :
أحدها : تخليص القلب من ألم الحسرة ، فإن من أطلق نظره دامت حسرته .
ثانيها : أنه يورث القلب نوراً وإشراقاً يظهر في العين وفي الوجه .
ثالثها : أنه يورث حجة الفراسة .
فمن غض بصره عن المحارم عوضه الله سبحانه وتعالى إطلاق نور بصيرته .
رابعها : أنه يفتح له طرق العلم وأبوابه ، ويسهل عليه أسبابه .(2/20)
خامسها : أنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته ، وفي الأثر : أن الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله .
سادسها : أنه يورث القلب سروراً وفرحة وانشراحاً أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر .
سابعها : أنه يخلص القلب من أسر الشهوة .
303 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ( : (( أَنَّ نَفَراً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ( سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ ( عَنْ عَمَلِهِ فِي السّرِّ ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لا آكُلُ اللَّحْمَ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ . فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ( فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ : مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا ؟ لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ , وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
أنَّ نفراً : جاء في رواية : ( جاء ثلاثة رهط ) ولا منافاة ، فالرهط من ثلاثة إلى عشرة .
عن عمله في السر : في رواية : ( يسألون عن عبادة النبي ( ، فلما أخبروا كأنهم تقالوها ) أي استقلوها ، أي رأى كل واحد منهم أنها قليلة .
ولا آكل اللحم : جاء في رواية : ( أنا أصوم الدهر ولا أفطر ) .
لا أنام على فراشي : جاء في رواية : ( أما أنا أصلي الليل أبداً ) .
لكني : استدراك من شيء محذوف دلّ عليه السياق ، أي أنا وأنتم بالنسبة للعبودية سواء ، لكن أنا أعمل كذا .
فمن رغب : الرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره .
سنتي : المراد بالسنة الطريقة لا التي تقابل الفرض .
ليس مني : أي ليس على طريقتي ومنهجي .
الفوائد :
1- الحديث دليل على فضل النكاح والترغيب فيه .
2- التحذير من الغلو والتنطع ، وفيه مباحث :
أولاً : مضار التشديد على النفس :
أ- أن التشديد على النفس سبب لوقوع التشديد من الله .(2/21)
قال ( : ( لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم ، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ) . رواه أبو داود
ب- أن مصير الغالي المتشدد الهلاك .
قال ( : ( هلك المتنطعون ، قالها ثلاثاً ) . رواه مسلم
قال النووي : " هلك المتنطعون : أي المتعمقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم " .
ج- أن عاقبة الغلو والتشدد الانقطاع .
قال ( : ( إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا وأبشروا ... ) . رواه البخاري
قال الحافظ ابن حجر : " والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق ، إلا عجز وانقطع فيغلب " .
د- السآمة والملل .
ويدل لذلك ما ورد في قصة عبد الله بن عمرو من قوله بعد ما كبر : ( يا ليتني قبلت رخصة النبي ( ) .
قال النووي : " ومعناه أنه كبر وعجز عن المحافظة على ما التزمه ووظفه على نفسه عند رسول الله ( ، فشق عليه فعله لعجزه ، ولم يعجبه أن يتركه لالتزامه له ، فتمنى لو قبل بالرخصة فأخذ بالأخف " .
ثانياً : علاج الرسول ( لبعض قضايا الغلو التي وقعت في عهده :
- حديث الباب ، حيث جعله خروجاً عن سنته وهديه .
- عن أنس ( قال : ( دخل النبي ( المسجد فإذا حبل ممدود بين ساريتين ، فقال : ما هذا الحبل ؟ قالوا : هذا حبل لزينب ، فإذا فترت تعلقت به ، فقال النبي ( : حلوه ، ليصلّ أحدكم نشاطه ، فإذا فتر فليرقد ) . متفق عليه
في هذا الحديث كما قال الحافظ ابن حجر : " الحث على الاقتصاد في العبادة ، والنهي عن التعمق فيها " .
- عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ : ( أن النبي ( دخل وعندها امرأة ، قال : من هذه ؟ قالت : فلانة ، تذكر من صلاتها قال : مه ، عليكم ما تطيقون ، فوالله لا يمل الله حتى تملوا ) .(2/22)
قال الحافظ ابن حجر : " ( عليكم بما تطيقون ) : أي استغلوا من الأعمال بما تستطيعون من المداومة عليه ، فمنطوقه الأمر بالاقتصار على ما يطاق من العبادة ، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلف ما لا يطاق " .
3- تتبع أحوال الأكابر للتأسي بأفعالهم .
4- حرص الصحابة على الخير .
5- تقديم الحمد والثناء على الله عند الخطب .
6- الرد على من منع استعمال الحلال من الأطعمة والملابس ، وآثر غليظ الثياب وخشن المأكل .
7- وجوب إنكار المنكر .
8- أن العلم بالله ، ومعرفة ما يجب من حقه ، أعظم قدراً من مجرد العبادة البدنية .
9- فائدة : صفات المرأة التي يسن نكاحها :
أولاً : أن تكون ذات دين .
لقوله ( : ( تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها ، فاظفر بذات الدين تربت يداك ) . متفق عليه
( لحسبها ) الحسب في الأصل الشرف بالآباء والأقارب ، مأخوذ من الحساب ، لأنهم كانوا إذا تفاخروا عدوا مناقبهم ومآثر آبائهم وقومهم وحسبوها ، فيحكم لمن زاد على غيره . وقيل : المراد بالحسب هنا الفعال الحسنة .
( لدينها ) أي اللائق بذي الدين والمروءة أن يكون الدين مطمح نظره في كل شيء لا سيما فيما تطول صحبته .
ثانياً : ولود ودود .
لقوله ( : ( تزوجوا الولود الودود ، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ) . رواه أبو داود
( الودود ) هي التي تحب زوجها . [ قاله الخطابي ]
( الولود ) هي التي تكثر ولادتها . [ قاله الخطابي ] . وقال : " ويعرف هذا الوصف في الأبكار من أقاربهن ، إذ الغالب سراية طباع الأقارب بعضهن إلى بعض " .
ثالثاً : أن تكون بكراً .
لقوله ( لجابر : ( هل تزوجت يا جابر ؟ قال : نعم ، قال : بكراً أم ثيباً ؟ قال : بل ثيباً ، قال : فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك ) . متفق عليه
قال النووي : " وفيه فضيلة تزويج الأبكار وثوابهن أفضل " .(2/23)
وقال الحافظ ابن حجر : " وفي الحديث الحث على نكاح الأبكار ، لكن قد يرد أمر يجعل من الأفضل زواج الثيب ، لعارض من الأمور " .
قد يكون العارض جبر خاطر امرأة مات زوجها .
وقد يكون العارض طلب مصاهرة أقوام صالحين ، أو لهم جاه ينفع الله به في أمور الدنيا والدين .
304 - عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ( قَالَ: (( رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ ( عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لاخْتَصَيْنَا )).
------------------------------------
معاني الكلمات :
عثمان بن مظعون : القرشي الجمحي من السابقين ، وهاجر الهجرتين ، وهو أول من دفن بالبقيع .
التبتل : المراد بالتبتل هنا الانقطاع عن النكاح وتوابعه من الملاذ إلى العبادة ، وقيل لفاطمة البتول : إما لانقطاعها عن الأزواج غير علي ، أو لانقطاعها عن نظرائها في الحسن والشرف .
الخصاء : هو الشق عن الأنثيين وانتزاعهما .
قيل مراد سعد : ( لو أذن له لاختصينا ) لفعلنا فعل من يختصي ، وهو الانقطاع عن النساء .
وقيل : ( لاختصينا ) لإرادة المبالغة ، أي لبالغنا في التبتل حتى يفضي بنا الأمر إلى الاختصاء ، ولم يرد به حقيقة الاختصاء لأنه حرام .
وقيل : بل هو على ظاهره ، وكان ذلك قبل النهي عن الاختصاء .
الفوائد :
1- فضل النكاح والترغيب فيه ، وأنه مقدم على التبتل والانقطاع عن العبادة ، لما فيه من المصالح .
2- حرص الصحابة على الخير .
3- التحذير من الغلو في الدين .
4- أن أخذ النفس بالعنت والمشقة والحرمان ، ليس من الدين في شيء .
5- أن ترك ملاذ الحياة المباحة ، زهادة وعبادة ، خروج عن السنة المطهرة واتباع لغير سبيل المؤمنين .
6- حكم الخصاء :
خصاء بني آدم حرام .
قال ابن حجر : " هو نهي تحريم بلا خلاف في بني آدم .(2/24)
وفيه من المفاسد وتعذيب النفس والتشويه ، مع إدخال الضرر الذي يفضي إلى الهلاك ، وفيه إبطال معنى الرجولية وتغيير خلق الله ، وكفر النعمة ، لأن خلق الشخص رجلاً من النعم العظيمة " .
305 - عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ : (( يَا رَسُولَ اللَّهِ , انْكِحْ أُخْتِي ابْنَةَ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ : أَوَتُحِبِّينَ ذَلِكَ ؟ فَقُلْتُ : نَعَمْ , لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ , وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : إنَّ ذَلِكَ لا يَحِلُّ لِي . قَالَتْ : إنَّا نُحَدَّثُ أَنَّك تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ : بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ ؟ قَالَتْ : قُلْت : نَعَمْ , قَالَ : إنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حَجْرِي , مَا حَلَّتْ لِي إنَّهَا لابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ , أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ فَلا تَعْرِضْنَ عَلِيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلا أَخَوَاتِكُنَّ . قَالَ عُرْوَةُ وَثُوَيْبَةُ : مَوْلاةٌ لأَبِي لَهَبٍ أَعْتَقَهَا , فَأَرْضَعَتْ النَّبِيَّ ( فَلَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ أُرِيَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بِشَرِّ حِيبَةٍ فَقَالَ لَهُ : مَاذَا لَقِيتَ ؟ قَالَ أَبُو لَهَبٍ : لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ خَيْراً , غَيْرَ أَنِّي سُقِيتُ فِي هَذِهِ بِعَتَاقَتِي ثُوَيْبَةَ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
انكح أختي : أي تزوج ، جاء في رواية عند مسلم : ( انكح أختي عزة بنت أبي سفيان ) .
أو تحبين ذلك : استفهام تعجب من كونها تطلب أن يتزوج غيرها مع ما طبع عليه النساء من الغيرة .
لست لك بِمُخْلِيَة : أي لست بمنفردة بك ، ولا خالية من ضرة .
وأحب من شاركني في الخير : المراد بالخير ذاته ( ، فقد جاء في رواية : ( وأحب من شركني فيك ) .
إنا نُحَدَّث : بضم أوله وفتح الحاء .(2/25)
أن تنكح : جاء في رواية : ( بلغني أنك تخطب ) . قال ابن حجر : " ولم أقف على اسم من أخبر بذلك ، ولعله كان من المنافقين ، فإنه قد ظهر أن الخبر لا أصل له " .
لو لم تكن ربيبتي : الربيبة بنت الزوجة ، قيل لها ذلك لأنها مربوبة .
ما حلت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة : قال القرطبي : " فيه تعليل الحكم بتعليلين : فإنه علل تحريمها بكونها ربيبة ، وبكونها بنت أخ من الرضاعة "
قال الحافظ ابن حجر : " والذي يظهر لي أنه نبه على أنها لو كان بها مانع واحد لكفى في التحريم ، فكيف وبها مانعان ".
أرضعتني وأبا سلمة : هو عبد الله بن الأسد ، هاجر الهجرتين ، وشهد بدراً وأحداً ، ومات بعد أحد ، دخل عليه النبي ( بعد موته فقال : ( اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين ... ) فلما مات تزوج رسول الله ( أم سلمة .
وكان أبو سلمة رضع من ثويبة .
ثويبة : كانت مولاة لأبي لهب ، وأرضعت النبي ( وهو صغير قبل حليمة السعدية ، ثم أرضعت أبو سلمة ، وأرضعت حمزة .
أُرِيَه : بضم الهمزة وكسر الراء .
بِشَرِّ حِيبة : أي سوء حال .
ماذا لقيت : أي بعد الموت .
الفوائد :
1- هذا الحديث دليل على تحريم نكاح أخت الزوجة ، فلا يجوز للرجل أن يجمع بين المرأة وأختها .
قال الحافظ ابن حجر : " والجمع بين الأختين في التزويج حرام بالإجماع ، سواء كانت شقيقتين أم من أب أم من أم ، وسواء البنت من الرضاع " .
قال تعالى : ( وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ( . (النساء: من الآية23)
قال ابن جرير : " معناه : وحرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين عندكم بنكاح " .
فمن أسلم وتحته أختان خُيّر فيمسك إحداهما ويطلق الأخرى لا محالة .
2- تحريم بنت الزوجة على زوج أمها .
مثال : لو كان لك زوجة ولها بنت من رجل آخر ، فهذه البنت حرام عليك ، لكن لا يقع التحريم إلا بالدخول .(2/26)
قال تعالى : ( وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ (. فضل أم حبيبة وحرصها على الخير .
3- كيف تعرض أم حبيبة أختها مع أنه حرام ؟
قيل : لعل أم حبيبة لم تطلع على تحريم ذلك .
وقيل : لعلها ظنت أنه من خصائص النبي ( ، ورجحه الحافظ ابن حجر .
4- أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، لقوله : ( أرضعتني وأبا سلمة ثويبة ) . [ وستأتي أحكام الرضاع ]
5- السبب الذي جعل أم حبيبة تعرض أختها عزة هو المنافسة على الخير .
6- تحريم بنت الأخ من الرضاع ، لأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب .
7- ما الجمع بين قوله في الحديث : ( فلما مات أبو لهب أُرِيَه بعض أهله بشر حيبة ، فقال له : ماذا لقيت ؟ قال : أبو لهب ، لم ألق بعدكم خيراً غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة ) وبين قوله تعالى : ( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً ( . (الفرقان:23)
فالجواب :
- أن الخبر مرسل ، أرسله عروة ولم يذكر من أرسله .
- وعلى فرض أن يكون موصولاً ، فالذي في الخبر رؤيا منام فلا حجة فيه .
- أن هذا مخصوص بالنبي ( ، بدليل قصة أبي طالب أنه خفف عنه .
306 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( لا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا , وَلا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
بين المرأة وعمتها : أي في الزواج .
الفوائد :
1- في الحديث تحريم أن يجمع الرجل في عصمته بين المرأة وعمتها ، أو المرأة وخالتها .
قال النووي : " في هذا دليل لمذهب العلماء كافة أنه يحرم الجمع بين المرأة وعمتها ، وبينها وبين خالتها " .
2- فإن جمع بينهما :
- إن كان بعقد واحد بطلا .
- وإن كان كل واحدة بعقد ، فنكاح الثاني مفسوخ باطل .(2/27)
3- وقد بين ( الحكمة من ذلك ، فقال ( : ( إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم ) ، وذلك لما يكون بين الضرائر من الغيرة .
فإذا طلقت المرأة وانتهت عدتها ، حلت أختها وعمتها وخالتها ، لانتفاء الضرر .
4- ومثل ذلك الرضاع .
فأخت زوجتك من الرضاع لا تجمعها مع زوجتك .
كذلك عمة زوجتك من الرضاع لا يجوز ، وكذلك خالة زوجتك من الرضاع لا يجوز .
5- عمة الزوجة أو خالتها ، هذه من المحرمات إلى أمد ، لأن المحرمات على الإنسان تنقسم على قسمين :
* إلى أبد :
ومنها : الأم ، والأخت ، والبنت ، والعمة ، والخالة ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت .
* إلى أمد : [ أي إلى حالة معينة ]
فمن المحرمات إلى أمد :
- المحرمة حتى تحل .
لقوله ( : ( لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب ) . رواه مسلم
- المعتدة من الغير .
فالمرأة المطلقة وهي في عدتها الآن ، لا يجوز لغير من له العدة أن يتزوجها حتى تنتهي العدة .
قال تعالى : ( وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ( . (البقرة: من الآية235)
307 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ : مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ
الْفُرُوجَ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
توفوا : أي تؤتوها وافية كاملة .
ما استحللتم به الفروج : أي أحق الشروط بالوفاء شروط النكاح ، لأن أمره أحوط ،وبابه أضيق .
الفوائد :
1- الحديث يبين أنه ينبغي لكل من الزوجين الوفاء بالشروط في النكاح ، فأحق شرط يجب الوفاء به وأولاه ، هو ما استحل به الفرج .
2- والشروط تنقسم إلى قسمين :
صحيحة - وفاسدة .
فالصحيح يجب الوفاء به .
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ( . (المائدة: من الآية1)
وقال تعالى : ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ( . (الاسراء: من الآية34)(2/28)
ولحديث الباب .
فمن الشروط الصحيحة :
- لو شرطت أن لا يخرجها من دارها أو بلدها ، صح هذا الشرط ولم يكن له إخراجها إلا بإذنه .
- لو شرطت زيادة في مهرها ، أو كونه من نقد معين ، صح الشرط وكان لازماً يجب الوفاء به ولها الفسخ بعدمه .
- أن يشترط الرجل في المرأة أن تكون شابة أو بكراً أو صاحبة مال ، صح الشرط .
شروط مختلف فيها :
- إن شرط لا مهر لها .
قال بعض العلماء : يصح النكاح دون الشرط .
واختار ابن تيمية أن هذا الشرط فاسد مفسد .
لقوله تعالى : ( وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ ( . (النساء: من الآية24)
فشرط الله للحل أن تبتغوا بأموالكم ، وما كان مشروطاً في الحل ، فإن الحل لا يتم إلا به .
ولأنه إذا تزوجها بلا مهر ، صار ذلك بمعنى الهبة ، ومعلوم أن الهبة خاصة بالرسول ( .
- إن شرط أن لا نفقة لها .
قال بعض العلماء : الشرط فاسد والنكاح صحيح ، ويُلزم بالنفقة .
وقيل : الشرط صحيح ، لأن المرأة قد ترغب بالزوج لدينه وخلقه ، ويكون فقيراً .
- إن شرط أن يقسم لها أقل من ضرتها ، فإنه يصح .
لحديث سودة : ( أن جعلت يومها لعائشة ، على أن تبقى زوجة للرسول ( ) .
- لكن لو اشترطت الزوجة الجديدة أن يقسم لها أكثر من ضرتها ، فهذا الشرط لا يصح ، لأنه متضمن للجور ، وكذلك يتضمن إسقاط حق للغير بغير إذنه .
3- يشترط في الشروط أن لا تكون مخالفة للشرع ، فإن كانت مخالفة للشرع ، فإنها لا تصح .
قال ( : ( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط ) .
نكاح الشغار
308 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( نَهَى عَنْ الشِّغَارِ )).
------------------------------------
معاني الكلمات :
الشغار : بالتشديد والكسر من شغر الكلب برجله إذا رفعها ، بال أو لم يبل ، أو من شغر المكان من أهله ، أو من شغرت القرية من أميرها .(2/29)
واصطلاحاً : أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق ، وسمي نكاح الشغار شغاراً : لأن المتزوجين يرفعان المهر بينهما ، أو أنهما يخليان النكاح من المهر .
الفوائد :
1- قوله : ( الشغار هو أن يزوج ... ) اختلف هذا التفسير من كلام من ؟
فقيل : من كلام نافع . وقيل : من مالك الراوي عن نافع . وقيل : من كلام ابن عمر .
2- الحديث دليل على تحريم نكاح الشغار .
قال ابن عبد البر : " أجمع العلماء على أن نكاح الشغار لا يجوز " .
3- اختلف العلماء إذا وقع نكاح الشغار على أقوال :
القول الأول : أن النكاح باطل ، سواء وقع قبل الدخول أم بعده .
وهذا مذهب جمهور العلماء .
لحديث الباب ، وفيما معناه من الآثار التي تدل على النهي عن نكاح الشغار ، وأن النهي عن الشيء حكم بفساده وبطلانه.
القول الثاني : أنه إذا وقع على صورة الشغار ، فهو صحيح ، ويجب فيه مهر المثل .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
والراجح الأول .
4- العلة من التحريم :
قال ابن القيم رحمه الله : " واختلف في علة النهي :
فقيل : هي جعل كل واحد من العقدين شرطاً في الآخر . وقيل : العلة التشريك في البُضع ، وجعل بضع كل واحدة مهراً للأخرى ، وهي لا تنتفع به ، فلم يرجع إليها المهر ، بل عاد المهر إلى الولي ، وهو ملكه لبضع زوجته بتمليكه لبضع موليته ، وهذا ظلم لكل واحدة من المرأتين ، وإخلاء لنكاحهما عن مهر تنتفع به ، وهذا هو الموافق للغة العرب " .
5- اختلف العلماء لو سمى المهر : في هذه المسألة قولان للعلماء :
القول الأول : أنه يصح .
لتفسير نافع : ( وليس بينهما صداق ) فإذا جعل صداقاً فليس بشغار .
القول الثاني : أنه لا يصح ولو سمي مهراً .
وهذا القول هو الصحيح .(2/30)
لما جاء أن العباس بن عبد الله بن العباس : ( أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته ، وأنكحه عبد الرحمن ابنته ، وكانا جعلا صداقاً ، فكتب معاوية إلى مروان يأمره بالتفريق بينهما ، وقال في كتابه : هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله ( ) . رواه أبو داود وهو حديث حسن
فهذا معاوية قضى بالتفريق بين الزوجين الذين تزوجا بالشغار وكانا جعلا صداقاً .
6- قال النووي : " وأجمعوا على أن غير البنات من الأخوات ، وبنات الأخ ، والعمات ، وبنات الأعمام ، والإماء ، كالبنات في هذا " .
نكاح المتعة
309 - عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ( : (( أَنَّ النَّبِيَّ ( نَهَى عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ يَوْمَ خَيْبَرَ , وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
خيبر : أي العام السابع للهجرة .
الحمر الأهلية : أي الإنسية التي تعيش في المدن والقرى .
الفوائد :
1- في هذا الحديث دليل على تحريم نكاح المتعة .
والمتعة : هي النكاح إلى أجل محدد بمهر .
قال ابن قدامة : " معنى نكاح المتعة أن تزوج المرأة مدة ، مثل أن يقول زوجتك ابنتي شهراً أو سنة " .
وقال الحافظ ابن حجر : " يعني تزويج المرأة إلى أجل ، فإذا انقضى وقعت الفرقة " .
* وهو حرام ، وهو مذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل الفقه والحديث .
* وقد كان هذا النكاح مباحاً في أول الإسلام ، ثم نهى عنه النبي ( .
لحديث الباب .
* وسبب إذن النبي ( للصحابة بالاستمتاع بالنساء هو الحاجة والحرب .
- ففي حديث ابن مسعود قال : ( كنا نغزوا مع رسول الله ( ليس معنا نساء ، فقلنا ألا نختصي ؟ فنهانا عن ذلك ، ثم رخص لنا بعد أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ) . رواه البخاري
- وذكر أبو ذر كما رواه عنه البيهقي بسند حسن : ( أن الرسول ( أذن لهم فيها لحربهم ولخوفهم ) .(2/31)
- ولحديث سبرة : ( أن أباه حدثه أنه كان مع رسول الله ( يوم الفتح ، فقال : يا أيها الناس ، إني قد كنت آذنت لكم في الاستمتاع من النساء ، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً ) . رواه مسلم
2- وقد اختلف العلماء متى حرم نكاح المتعة على أقوال :
القول الأول : عام خيبر .
وهذا قول الشافعي وغيره .
واستدلوا بحديث الباب .
القول الثاني : أنها حرمت عام الفتح .
ورجحه ابن القيم .
لحديث سبرة الماضي ، فإن فيه التصريح أن التحريم كان عام الفتح .
وهذا جاء في رواية لحديث سبرة : ( أن رسول الله ( نهى عنها في حجة الوداع ) . رواه أبو داود
لكن هذه الرواية شاذة ، كما قال البيهقي .
والرواية الصحيحة عن سبرة أنها عام الفتح .
ولذلك قال الحافظ ابن حجر : " الرواية عنه بأنها في الفتح أصح وأشهر " .
القول الرابع : عام تبوك .
وهذا جاء في بعض الأحاديث والآثار ، لكن لا تصح .
فقد جاء عن أبي هريرة: (أن النبي ( لما خرج نزل ثنية الوداع ، فرأى مصابيح وسمع نساء يبكين ، فقال : ما هذا ؟ فقالوا : يا رسول الله ، نساء كانوا تمتعوا منهن أزواجهن ، فقال رسول الله ( : حرم المتعة النكاح والطلاق والعدة والميراث ) . رواه ابن حبان وهو ضعيف
والراجح أنها حرمت عام الفتح كما قال ابن القيم .
وأما الجواب عن حديث الباب :
بعض العلماء قالوا : إن النبي ( حرم المتعة عام خيبر ، ثم رخص فيها بعد ذلك ، ثم حرمها عام الفتح مرة ثانية .
وقال بعضهم : نقل الحميْدي عن سفيان بن عيينة أنه قال : حرم الرسول ( أكل لحوم الحمر الأهلية عام خيبر ، ولكن تحريم المتعة كان بعد ذلك ، ولما سئل عن جمع علي ( لهما في موضع واحد ، قال : إنه أراد أن يردّ على ابن عباس ، لأنه كان يرى جوازهما جميعاً .
* وقد نقل عن ابن عباس إباحة المتعة .
ونقل عن جابر إباحتها حتى عهد عمر .(2/32)
فقد قال ( : ( استمتعنا على عهد رسول الله ( وأبي بكر وعمر ) . رواه مسلم
وفي رواية : ( ثم نهانا عنها عمر ) .
والجواب عن هذا :
أ- أنه لم يبلغهم النهي .
قال النووي في قوله ( استمتعنا على عهد رسول الله ( وأبي بكر وعمر ) : " هذا محمول على أن الذي استمتع في عهد أبي بكر وعمر لم يبلغه النسخ " .
ب- أن عمر هو الذي حرمها ونهى عنها ، وعمر خليفة راشد مهتد ، وقد أمرنا رسولنا ( باتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين .
قال الخطابي : " تحريم نكاح المتعة كالإجماع بين المسلمين ، وقد كان مباحاً في صدر الإسلام " .
3- الحكمة من تحريم نكاح المتعة :
لأن المقصود من النكاح هو العشرة الدائمة ، وبناء البيت والأولاد ، وهذا لا يمكن مع النكاح المؤجل في الحقيقة ، كأنه استئجار للزنا .
4- اختلف العلماء في الزواج بنية الطلاق :
وصورته : أن يحتاج إليه مع إضمار نية الطلاق عندما تنتهي دراسته أو ينهي عمله أو يستطيع الزواج بأكفأ منها ، فلم يحدد وقتاً ، بل ترك المجال لإرادة الله ، علماً بأنه قد يعدل عن نيته هذه .
اختلف العلماء في حكم هذا الزواج على قولين :
القول الأول : أنه جائز .
وهذا مذهب الجمهور .
قال ابن قدامة : " وإن تزوجها بغير شرط ، إلا أن في نيته طلاقها بعد شهر ، أو إذا انقضت حاجته في هذا البلد ، فالنكاح صحيح في قول عامة أهل العلم إلا الأوزاعي ، لأنه نكاح وقع على وجهه ، وليس فيه شروط ، كشرط المدة في نكاح المتعة وغاية ما في الأمر أن الزوج أضمر الطلاق في قلبه ، ولم تعلم به الزوجة ولا وليها ، وربما لم يعلم بنيته أحد إلا الله ، وإذا كان كذلك فإضمار النية لا يضر ، إذ أن إضمار الطلاق من حقه ، إذ كل متزوج يتزوج وفي نيته إذا لم تعجبه ، فإنه يطلقها ومثل هذا جائز " .
- وخوفاً من الوقوع في الزنا .
القول الثاني : المنع .
وهذا قول الأوزاعي .
لأنه مخالف لمقصود النكاح في الشريعة .
؛؛؛ والله أعلم ؛؛؛(2/33)
5- تحريم لحوم الحمر الأهلية .
6- حل أكل لحوم الحمر الوحشية .
310 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( لا تُنْكَحُ الأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ , وَلا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , فَكَيْفَ إذْنُهَا قَالَ : أَنْ تَسْكُتَ )).
------------------------------------
معاني الكلمات :
الأيم : هي التي يموت زوجها ، أو تبين منه وتنقضي عدتها ، وأكثر ما تطلق على من مات زوجها . [ قاله الحافظ ابن حجر ]
تستأمر : أصل الاستئمار طلب الأمر ، فالمعنى لا يعقد عليها حتى يطلب الأمر منها ، وتؤخذ من قوله : ( تستأمر ) أنه لا يعقد إلا بعد أن تأمر بذلك .
الفوائد :
1- هذا الحديث دليل على أن المرأة الثيب لا تتزوج حتى تستأمر وتطلب ذلك .
وإذن المرأة في الزوج له أحوال :
أولاً : أن تكون البنت بكر صغيرة .
ففي هذه الحالة اتفق الفقهاء على جواز تزويج الأب ابنته البكر الصغيرة بدون إذنها ، لأن الصغيرة لا إذن لها .
قال ابن المنذر : " وأجمع أهل العلم على أن نكاح الأب ابنته البكر الصغيرة جائز ، إذا زوجها من كفء " .
لحديث عائشة قالت : ( تزوجني النبي ( وأنا ابنة ست ، وبنى بي وأنا ابنة تسع ) . متفق عليه
ثانياً : أن تكون ثيباً .
فهذه لا بد من رضاها واستئمارها بذلك .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " وأما البالغ الثيب فلا يجوز تزويجها بغير إذنها لا للأب ولا لغيره بإجماع المسلمين " .
لحديث الباب .
ثالثاً : البكر البالغ .
فهنا اختلف العلماء على قولين :
القول الأول : لا يجب إذنها ، وإنما يستحب ، فيجوز للأب إجبارها .
وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد .
واستدلوا بحديث الباب بالمفهوم ، لأنه جعل الثيب أحق بنفسها من وليها ، فدل على أن ولي البكر أحق بها منها .
وأما الاستئذان فهو تطيب لخاطرها .
القول الثاني : يجب استئذانها ولا تجبر على النكاح .(2/34)
وهذا مذهب أبي حنيفة والثوري وابن المنذر .
واستدلوا بحديث الباب : ( لا تنكح البكر حتى تستأذن ) فعلق النبي ( النكاح على الإذن ، فدل على أنه واجب .
وجاء في رواية : ( والبكر يستأذنها أبوها في نفسها ) وهذا نص في محل النزاع .
وعن ابن عباس : ( أن جارية أتت النبي ( فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة ، فخيرها النبي ( ) . رواه أبو داود
ففي هذا الحديث أن النبي ( ردّ نكاح البكر التي زوجها أبوها وهي كارهة ، فدل على أن إذن البكر لا بد منه في النكاح .
وهذا الحديث مختلف فيه ، وقد صححه ابن القيم .
وهذا القول هو الراجح .
ورجحه ابن القيم ، وقال : " وهو الذي ندين الله به ، ولا نعتقد سواه ، وهو الموافق لحكم الرسول ( وأمره ونهيه وقواعد شريعته ومصالح أمته " .
أما غير الأب ، فلا يجوز له أن يزوج البكر الكبيرة بالاتفاق .
2- يشترط للنكاح أن يكون بولي .
وهذه المسألة اختلف العلماء فيها على قولين :
القول الأول : أن الولي شرط ، فلا تملك المرأة تزويج نفسها ولا غيرها .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
فهو مذهب مالك والشافعي وأحمد .
واستدلوا بقوله تعالى : ( ... فَلا تَعْضُلُوهُنّ ( . (البقرة: من الآية232)
فقد جاء في سبب نزولها ما رواه البخاري عن معقل بن يسار أنها نزلت فيه ، قال : ( زوجت أختاً لي من رجل فطلقها ، حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها ، فقلت له : زوجتك وأفرشتك وأكرمتك فطلقتها ، ثم جئت تخطبها ، لا والله لا تعود إليك أبداً ، وكان رجلاً لا بأس به ، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه ، فأنزل الله هذه الآية : ( ... فَلا تَعْضُلُوهُنّ ( فقلت : الآن أفعل يا رسول الله ، قال : فزوجها إياه ) .
قال الحافظ ابن حجر في شأن هذه الآية : " وهي أصرح دليل على اعتبار الولي ، وإلا لما كان لفضله معنى ، ولأنها لو كان لها أن تزوج نفسها لم تحتج إلى أخيها " .(2/35)
وقال تعالى : ( وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ ( . (النور: من الآية32) والخطاب للأولياء .
ولحديث أبي موسى قال : قال رسول الله ( : ( لا نكاح إلا بولي ) . رواه أبو داود
وعن عائشة قالت : قال رسول الله ( : ( أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل - ثلاثاً - ولها مهرها بما أصاب منها ، فإن اشتجروا فإن السلطان ولي من لا ولي له ) . رواه أحمد
القول الثاني : أنه لا يشترط الولي .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
لقوله تعالى : ( فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُن ( . (البقرة: من الآية232) فأضاف النكاح إليهن ، ونهى عن منعهن منه .
وقياساً على البيع .
والصحيح مذهب الجمهور .
وأما قياسهم على البيع فقياس باطل ، لأنه في مقابلة النص ، ولأن عقد النكاح أخطر من عقد البيع .
3- شروط الولي :
أ- البلوغ .
وهذا هو المذهب ، وهو قول الأكثر .
ب- العقل .
قال ابن قدامة : " أما العقل فلا خلاف في اعتباره " .
ج- الذكورية .
لأن الولاية يعتبر فيها الكمال ، والمرأة ناقصة ، قاصرة ، تثبت الولاية عليها لقصورها عن النظر لنفسها ، فلا تثبت لها ولاية على غيرها من باب أولى .
د- الرشد .
وهو معرفة الكفء ومصالح النكاح .
فائدة : من يقدم في الولاية ؟
الأبوة ، ثم البنوة ، ثم الأخوة ، ثم العمومة .
مثال : لو كان للثيب أب وابن ، فالأب هو الولي .
مثال : لو وجد ابن وأخ شقيق ، يقدم الابن .(2/36)
311 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (( جَاءَتْ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إلَى النَّبِيِّ ( فَقَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلاقِي . فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبَيْرِ وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ . فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ( وَقَالَ : أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ ؟ لا , حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ , وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ , قَالَتْ : وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَهُ , وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ بِالْبَابِ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ , فَنَادَى أَبَا بَكْرٍ : أَلا تَسْمَعُ إلَى هَذِهِ : مَا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ( )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
امرأة رفاعة : قيل : اسمها نميمة ، وقيل : سهيْمة .
فبت طلاقي : البت بمعنى القطع .
يحتمل أنه قال لها : أنت طالق البتة ، ويحتمل أنه طلقها الطلقة الأخيرة ، وهذا الراجح ، فقد جاء عند البخاري :
( طلقني آخر ثلاث تطليقات ) فيكون طلقها ثم راجعها ثم طلقها ثم راجعها ثم طلقها .
عبد الرحمن بن الزَّبير : الزَبِير : بفتح الزاي ، بعدها باء مكسورة .
مثل هدبة الثوب : هدبة بضم الهاء وسكون الدال هو طرف الثوب ، وأرادت أن ذكره يشبه الهدبة في الاسترخاء وعدم الانتشار .
عسيلته : العسيلة حلاوة الجماع الذي يحصل بتغييب الحشفة في الفرج ، قال الجمهور : " ذوق العسيلة كناية عن المجامعة ، وهو تغييب حشفة الرجل في فرج المرأة " .
الفوائد :
1- الحديث دليل على أن المرأة إذا طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات ، فإنها لا ترجع إليه إلا بشروط :
الأول : أن تنكح زوجاً غيره .
لقوله تعالى : ( فَإِنْ طَلَّقَهَا [ يعني الثالثة ] فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ( . (البقرة: من الآية230)
ولحديث الباب .(2/37)
الثاني : أن يجامعها في الفرج .
لقوله ( : ( حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته ) فعلق النبي ( الحل على ذواق العسيلة منها ، ولا يحصل هذا إلا بالوطء في الفرج .
وهذا مذهب جمهور العلماء أنه لا بد من الجماع .
قال ابن المنذر : " أجمع العلماء على اشتراط الجماع لتحل للأول ، إلا سعيد بن المسيب " يعني أنه قال : يكفي العقد .
( يكفي لحلها لمطلقها ثلاثاً ، تغييب حشفة الرجل في الفرج ، ولا بد من انتشار الذكر ) .
( لا يشترط الإنزال ، وهذا مذهب الجمهور خلافاً للحسن البصري ) .
الشرط الثالث : أن يكون النكاح صحيحاً .
فإن كان فاسداً كنكاح التحليل أو الشغار ، فإنه لا يحلها وطئها .
ونكاح التحليل هو : أن يعمد الرجل إلى المرأة المطلقة ثلاثاً فيتزوجها ليحلها لزوجها الأول .
وهو حرام ولا تحل به المرأة لزوجها الأول .
لحديث ابن مسعود قال : ( لعن رسول الله المحلل والمحلل له ) . رواه أحمد والترمذي
وسماه النبي ( تيساً مستعاراً .
فمتى نوى الزوج الثاني أنه متى حللها طلقها ، فإنه لا تحل للأول ، والنكاح باطل .
فالملعون على لسان الرسول ( هو :
المحلل : هو الزوج الثاني إذا قصد التحليل ونواه ، وكان عالماً .
والمحلل له : هو الزوج الأول ، فيلحقه اللعن إذا كان عالماً .
قال ابن القيم : " وسمعت شيخ الإسلام يقول : نكاح المتعة خير من نكاح التحليل من أوجه :
أحدها : أن نكاح المتعة كان مشروعاً في أول الإسلام ، ونكاح التحليل لم يشرع في زمن من الأزمان .
الثاني : أن الصحابة تمتعوا على عهد النبي ( ، ولم يكن في الصحابة محلل قط .
الثالث : أن رسول الله ( لم يجيء عنه في لعن المستمتِع والمستمتَع بها حرف واحد ، وجاء عنه في لعن المحلِلل والمحلَل له .(2/38)
الرابع : أن المستمتِع له غرض صحيح في المرأة ، ولها غرض أن تقيم معه مدة النكاح ، فغرضه المقصود بالنكاح مدة ، والمحلل لا غرض له سوى أنه مستعار للضراب كالتيس ، فنكاحه غير مقصود له ، ولا للمرأة ، ولا للولي ، وإنما هو كما قال الحسن : " مِسمار نار في حدود الله ، وهذه التسمية مطابقة للمعنى " .
الخامس : أن المستمتع لم يَحْتَل على تحليل ما حرم الله ، فليس من المخادعين الذين يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان ، بل هو ناكح ظاهراً وباطناً ، والمحلل ماكر مخادع ، متخذ آيات الله هزواً ، ولذلك جاء في وعيده ولعنه ما لم يجيء في وعيد المستمتع مثله ، ولا قريب منه .
السادس : أن الفِطَر السليمة ، والقلوب التي لم يتمكن منها مرض الجهل والتقليد ، تنفر من التحليل أشد نفار ، وتُعيِّر به أعظم تعيير ، حتى إن كثيراً من النساء تعيّر المرأة به أكثر مما تعيرها بالزنا .
السابع : أن المحلل من جنس المنافق ، فإن المنافق يُظهِر أنه مسلم ملتزم لعقد الإسلام ظاهراً وباطناً ، وهو في الباطن غير ملتزم به له ، وكذلك المحلل يظهر أنه زوج ، وأنه يريد النكاح ، ويُسمِّي المهر ، ويُشهِد على رضا المرأة ، وفي الباطن بخلاف ذلك .
2- وطأها الثاني بحيض أو نفاس أو إحرام ، هل تحل ؟
قيل : لا تحل بالوطء المحرَّم .
قالوا لأنه وطء حرام لحق الله ، فلم يحصل به الإحلال .
وقيل : أنه يحلها .
وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي ، ورجحه ابن قدامة في المغني ، حيث قال : " وظاهر النص حلها ، وهو قوله تعالى :
( حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ( وهذه قد نكحت زوجاً غيره ، وأيضاً قوله ( : ( حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتك ) وهذا قد وُجِد ، ولأنه وطء في نكاح صحيح في محل الوطء على سبيل التمام فأحلها كالوطء الحلال ، وهذا أصح إن شاء الله ، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي " . أ . ه
وهذا هو الصحيح .(2/39)
3- الحكمة من كون الزوج الأول لا يحل له نكاح مطلقته ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره :
أولاً : تعظيم أمر الطلاق ، حتى لا يكثر وقوعه ، فإنه إذا علم أنه لا ترجع إليه بعد الثلاث حتى يتزوجها غيره ، لم يستعجل بإيقاعه .
ثانياً : الرفق بالمرأة ، فإن المرأة إذا طلقت ثلاثاً فإنها تتزوج غيره ، وقد يكون خيراً من زوجها الأول فتسعد به .
4- ينبغي للسائل أن يتأدب عن السؤال ، فالصحابية لم تصرح باللفظ .
5- مشروعية شكوى المرأة زوجها إذا قصر في حقها .
6- حق المرأة في الفراش ، وأنه ينبغي على الزوج أن يسعى لإحصان زوجته .
7- مشروعية فسخ النكاح بالعنة ، وهي : عجز الرجل عن الجماع .
فالعنة عيب من عيوب النكاح ، وقد قضى الصحابة بذلك .
فإذا ادعت المرأة أنه عنين وأقر بذلك ، أجّل سنة ، فإن وطء منها وإلا فلها الفسخ .
وقد جاء التفريق بالعنة عن عمر وعثمان وابن مسعود وسمرة بن جندب ومعاوية والمغيرة .
وأجّله عمر وابن مسعود والمغيرة سنة ، فإن جامع وإلا فرق بينهما .
الحكمة من تأجيله سنة :
لتمر عليه الفصول الأربعة ، فإن تعذر الجماع قد يكون لعارض حرارة فيزول في الشتاء ، أو البرودة فيزول في الصيف ، أو يبوسة فيزول في الربيع ، أو رطوبة فيزول في الخريف ، فإذا مضت الفصول فلم يزل ، علم أنه خِلقة .
8- تبسم النبي ( سببه أنه عرف مراد المرأة ، وذلك برغبتها بالرجوع إلى زوجها الأول .
جاء في رواية أنه قال : ( كَذَبَتْ يا رسول الله ، إني لأنفضها نفض الأديم ) .
9- مشروعية خروج المرأة للسؤال والفتوى بشرط : ألا يكون خروجها يعرضها للفتنة .
10- حسن خلق النبي ( وطيب نفسه .
312 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ( قَالَ : (( مِنْ السُّنَّةِ إذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ : أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعاً ثُمَّ قَسَمَ . وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ : أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاثاً ثُمَّ قَسَمَ )) .
------------------------------------
الفوائد :(2/40)
1- في الحديث أن الإنسان إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعاً ، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً .
قال في المغني : " متى تزوج صاحب النسوة امرأة جديدة قطع الدور وأقام عندها سبعاً إن كانت بكراً لا يقضيها للباقيات ، وإن كانت ثيباً أقام عندها ثلاثاً ولا يقضيها " .
وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد .
لحديث الباب .
ولحديث أم سلمة : ( أن النبي ( لما تزوجها أقام عندها ثلاثاً ، وقال : ( ليس بك هوان على أهلك ، إن شئت سبعت لكِ وإن سبعتُ لكِ سبعت لنسائي ) . رواه مسلم ( هوان على أهلكِ : يعني نفسه ( ) .
2- الحكمة من ذلك :
أ- أن البكر تنفر من الرجل أكثر من نفور الثيب .
ب- أن رغبة الرجل في البكر أكثر من رغبته في الثيب .
3- وجوب القسم بين الزوجات ، لقوله : ( ثم قسم ... ) .
قال ابن قدامة : " لا نعلم بين أهل العلم في وجوب القسم ، والتسوية بين الزوجات في القسم خلافاً " .
- لقوله تعالى : ( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ( . (النساء: من الآية19) وليس مع الميل معروف .
- وعن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله ( : ( من كان له امرأتان ، فمال إلى إحداهما ، جاء يوم القيامة وشقه مائل ) …رواه الترمذي
( شقه مائل ) أي نصفه مائل ، قيل : بحيث يراه أهل العرصات ليكون هذا زيادة في التعذيب .
يستثنى من هذا الميل الحب والجماع :
قال ابن قدامة : " لا نعلم خلافاً بين أهل العلم في أنه لا تجب التسوية بين النساء في الجماع ، وذلك لأن الجماع طريقه الشهوة والميل ، ولا سبيل إلى إحداهما دون الأخرى " .
4- يقسم لحائض ونفساء ومريضة .
قال في المغني : " لأن القسم للأنس ، وذلك حاصل ممن لا يطأ " .
وقد روت عائشة : ( أن رسول الله ( لما كان في مرضه جعل يدور على نسائه ويقول : أين أنا غداً ؟ أين أنا غداً ؟ ) .
…رواه البخاري
ومن الأدلة :(2/41)
ما رواه البخاري عن ميمونة قالت : ( كان رسول الله ( إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض ).
5- وعماد القسْم بالليل لمن كان معاشه بالنهار .
قال في المغني : " لا خلاف في هذا ، وذلك أن الليل للسكن والإيواء ، يأوي فيه الإنسان إلى منزله ويسكن إلى أهله ، وينام في فراشه مع زوجته عادة ، والنهار للمعاش والخروج والتكسب ، إلا أن يكون ممن معاشه بالليل كالحراس ومن أشبههم ، فإنه يقسم بين نسائه بالنهار ، ويكون الليل في حقه كالنهار في حق غيره " .
6- فضل العدل ، وللعدل فضائل :
أولاً : أن الله أمر به .
قال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ( . (النحل: من الآية90)
ثانياً : أن الله يحب أهله .
قال تعالى : ( وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( . (الحجرات: من الآية9)
ثالثاً : على منابر من نور .
قال ( : ( إن المقسطين عند الله على منابر من نور ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ) . رواه مسلم
7- تحريم الظلم .
8- ويقسم لكل امرأة يوماً وليلة .
عن عائشة قالت : ( كان رسول الله يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها غير أن سوْدة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة زوج النبي ( تبتغي بذلك رضا رسول الله ( ) . رواه البخاري
9- إذا سافرت المرأة بغير إذن زوجها ، سقط حقها من القسم والنفقة ، لأن القسم للأنس ، والنفقة للتمكين من الاستمتاع وقد منعت ذلك بالسفر . [ قاله النووي ]
فإن سافرت بإذن زوجها ، للتجارة مثلاً ، أو للحج ، أو للعمرة ، أو للزيارة ، ففي هذه المسألة قولان :
قيل : لا قسم لها .
واختاره ابن قدامة .
وقيل : أن حقها لا يسقط .
لأنها سافرت بإذنه ، فأشبه إذا سافرت معه .
؛؛؛ والله أعلم ؛؛؛
فائدة : تفسير قوله تعالى : ( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ( . (النساء: من الآية129)(2/42)
قال ابن كثير : " أي لن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه ، فإنه وإن وقع القسم الصوري ليلة وليلة ، فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة " .
وقال الشنقيطي : " هذا العدل الذي ذكر الله تعالى هنا أنه لا يستطاع هو العدل في المحبة والميل الطبيعي ، لأنه ليس تحت قدرة البشر ، بخلاف العدل في الحقوق الشرعية فإنه مستطاع " .
فالمنقول عن العلماء أنه لا يجب التسوية بالجماع ، لكن الأفضل والأكمل التسوية .
قال النووي : " ليس في شرط القسم الوطء ، غير أنه من المستحب أن يساوي بينهن في الوطء ، لأنه هو المقصود ، فإن وطء بعضهن دون بعض لم يأثم بذلك ، لأن الوطء طريقه الشهوة " .
وقال ابن قدامة : " وإن أمكنت التسوية بينهما في الجماع كان أحسن وأولى ، فإنه أبلغ في العدل " .
313 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( (( لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ - إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ - قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ , وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا فَإِنَّهُ إنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ , لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ
أَبَداً )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
أتى أهله : أي جامع .
الفوائد :
1- استحباب قول الرجل هذا الدعاء قبل أن يجامع أهله .
2- أن هذا الذكر يقال قبل الشروع في الجماع ، لرواية : ( لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله ) وهي عند أبي داود .
3- اختلف في الضرر المنفي :
قيل : لم يطعن في بطنه ، وهذا ضعيف .
لقوله ( : ( إن كل بني آدم يطعن الشيطان في بطنه حين يولد إلا عيسى بن مريم ) . متفق عليه
وقيل : لم يصرعه ، وهذا ضعيف .
وقيل : لم يفتنه عن دينه إلى الكفر ، وليس المراد عصمته منه عن المعصية .
وقيل : لم يضره بمشاركة أبيه في جماع أمه .(2/43)
وقد جاء عن مجاهد : ( أن الذي يجامع ولا يسمي يلتف الشيطان على إحليله فيجامع معه ) .
ورجح هذا القول الحافظ ابن حجر .
وأقربها الأخير والذي قبله ، والله أعلم بالصواب .
4- أن هذا الدعاء يقوله الرجل دون المرأة .
5- ليس هناك دعاء خاص تقوله المرأة قبل الجماع .
6- بركة اسم الله .
7- أن ذكر الله يطرد الشيطان .
كما قال ( : ( إذا دخل الرجل بيته ، فقال بسم الله ، وإذا أكل فقال بسم الله ، قال الشيطان : لا مبيت لكم ولا طعام ).
رواه مسلم
وقال ( : ( إذا خرج الرجل من بيته فقال : بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله ، يقال له : كفيت وهديت ووقيت ، ويتنحى عنه الشيطان ) . رواه أبو داود
وقال ( : ( من قال في يوم مائة مرة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، كانت له حرزاً من الشيطان ) . متفق عليه
وقال ( : ( وآمركم أن تذكروا الله ، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً ، حتى إذا أتى إلى حصن حصين ، فأحرز نفسه منهم ، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله ) . رواه الترمذي
قال ابن القيم : " فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقاً بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله "
8- عداوة الشيطان للإنسان .
9- ينبغي على الآباء أن يحرصوا على فعل الأسباب التي تصلح أبناءهم .
10- قال بعض العلماء : إن هذا الدعاء من حق الأبناء على آبائهم .
11- أدب النبي ( ، حيث عبر بالإتيان عن التعبير بالجماع .
12- ينبغي للمسلم أن يستعين بالله في جميع أموره .
13- أن الشيطان ملازم لابن آدم لا ينطرد عنه إلا بذكر الله تعالى .
14- هذه أحد الصيغ التي يشرع قول : ( بسم الله ) فيها ، ومن المواضع :
- قبل الوضوء .
لقوله ( : ( لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله تعالى ) . رواه أبو داود
- عند دخول المنزل .
وسبق دليله .
- قبل الجماع .
لحديث الباب .
- قبل الأكل .(2/44)
لقوله ( : ( كل بيمينك وسم الله ) .
وغيرها كثير .
314 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( إيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَرَأَيْتَ الْحَمْوَ ؟ قَالَ : الْحَمْوُ الْمَوْتُ )).
ولِمُسْلِمٍ عنْ أَبي الطَّاهِرِ عنِ ابنِ وَهْبٍ قالَ : " سَمِعْتُ اللَّيثَ يقولُ : الحَمْوُ : أَخو الزَّوْجِ ومَاأَشْبَهَهُ منْ أَقاربِ الزَّوْجِ ، ابنِ عَمٍّ ونَحْوِهِ .
------------------------------------
معاني الكلمات :
إياكم : احذروا .
النساء : أي الأجنبيات عنكم ، كابنة العم ، وابنة الخال أو الخالة .
الحمو : أقارب الزوج .
الفوائد :
1- تحريم الدخول على النساء الأجنبيات ، ومن باب أولى الخلوة بها .
2- أن هذا الحكم عام في الرجال الأجانب ، سواء حتى لو كانوا من أقرباء الزوج كأخيه أو ابن عمه .
3- ينبغي الحذر أكثر من أقارب الزوج .
قال النووي : " أي أن الخوف منه - أي القريب - أكثر من غيره ، والشر يتوقع منه والفتنة أكثر ، لتمكنه من الوصول إلى المرأة والخلوة من غير نكير ، بخلاف الأجنبي " .
4- أن النبي ( سمى دخول أقارب الزوج على زوجته الموت .
قال الطبري : " المعنى أن خلوة الرجل بامرأة أخيه ، أو ابن أخيه ، تنزل منزلة الموت ، والعرب تصف الشيء المكروه بالموت " .
وقال القاضي عياض : " معناه أن الخلوة بالأحماء مؤدية إلى الفتنة والهلاك في الدين ، فجعله كهلاك الموت ، وأورد الكلام مورد التغليظ " .
5- التحذير الشديد من الدخول والخلوة بالنساء .
وقد قال ( : ( لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما ) .
6- حرص الإسلام على سلامة المجتمع ، وسد باب الشر ، ومنع وقوع الزنى ودواعيه .
فائدة :
محرم المرأة من حرم عليه نكاحها على التأبيد .(2/45)
315 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ( (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( أَعْتَقَ صَفِيَّةَ , وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
صفية : بنت حيي بن أخطب ، قال ابن القيم : " وعرض عليها رسول الله ( الإسلام ، فأسلمت ، فاصطفاها لنفسه ، وأعتقها وجعل عتقها صداقها ، وبنى بها في الطريق ، وأولم عليها .
صداقها : الصداق هو المال المبذول ، أو المنفعة المبذولة لعقد نكاح .
ويسمى المهر ، والنحلة ، والفريضة ، والحباء ، والأجر .
الفوائد :
1- وجوب الصداق .
ويدل لذلك قوله تعالى : ( وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ ( . (النساء: من الآية4)
قال القرطبي : " هذه الآية تدل على وجوب الصداق للمرأة ، وهو مجمع عليه لا خلاف فيه " .
وقال ( : ( التمس ولو خاتماً من حديد ) .
2- اختلف العلماء في جواز جعل العتق صداقاً على قولين :
القول الأول : أنه يجوز .
قال ابن القيم : " وهذا ظاهر مذهب أحمد وكثير من أهل الحديث " .
لحديث الباب .
القول الثاني : لا يجوز .
قال ابن القيم : " وهو قول الأئمة الثلاثة ومن وافقهم " .
وأجابوا عن حديث الباب بأجوبة :
قالوا : أن هذا خاص بالنبي ( .
ويجاب عنه : بأن دعوى الاختصاص تفتقر إلى دليل .
وذكروا عدة أجوبة عن حديث الباب ، كلها ضعيفة .
والراجح القول الأول .
3- استدل بحديث الباب من قال أنه لا يشترط النكاح أن يكون بلفظ الإنكاح أو التزويج .
وهذه مسألة اختلف العلماء فيها على قولين :
القول الأول : يشترط أن يكون النكاح بلفظ الإنكاح أو التزويج .
وهذا المشهور من المذهب ، وبه قال عطاء ، وسعيد بن المسيب ، والزهري ، وربيعة ، والشافعي .
لأنهما اللفظان اللذان ورد بهما القرآن الكريم .
كقوله تعالى : ( فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا ( . (الأحزاب: من الآية37)
وقوله تعالى : ( وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ ( . (النساء: من الآية22)(2/46)
القول الثاني : يجوز بأي لفظ يدل عليه النكاح ، ولا يشترط لفظ الإنكاح والتزويج .
وهذا قول الثوري وأبو حنيفة ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم .
لحديث الباب ، فالنبي ( تزوج صفية وجعل عتقها صداقها .
ولحديث الواهبة [ وسيأتي ] وفيه أن النبي ( قال للرجل : ( ملكتك بما معك من القرآن ) . متفق عليه
ولأن صيغة النكاح ليست من العبادات التي نتعبد بلفظها كالتشهد ونحوه ، بل عقد من العقود يجري به الناس على ما يتعارفونه بينهم .
وهذا القول هو الصحيح .
فائدة : صفية زوجة من زوجات النبي ( ، تزوجها ( عام خيبر ( 7 ) ه .
زوجات النبي ( :
خديجة ، تزوجها قبل النبوة .
ثم تزوج سودة ، تزوجها بعد موت خديجة .
عائشة ، بنى بها في شوال في السنة الأولى .
حفصة بنت عمر ، تزوجها بعد موت زوجها في غزوة أحد .
زينب بنت خزيمة ، تزوجها بعد استشهاد زوجها عبد الله بن جحش في أحد .
أم سلمة هند بنت أبي أمية ، تزوجها بعد وفاة زوجها في غزوة أحد .
زينب بنت جحش ، تزوجها بعد مولاه زيد بن حارثة عام 5 ه .
جويرية بنت الحارث ، تزوجها عام 6 ه .
أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان ، تزوجها بعد زوج أسلم ثم تنصر ، وهو عبيد الله بن جحش .
صفية بنت حيي ، تزوجها بعد فتح خيبر .
ميمونة بنت الحارث ، تزوجها عام 7 ه .(2/47)
316 - عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ ( (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ : إنِّي وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ : فَقَامَتْ طَوِيلاً ، فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , زَوِّجْنِيهَا , إنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ . فَقَالَ : هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا ؟ فَقَالَ : مَا عِنْدِي إلا إزَارِي هَذَا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : إزَارَكَ إنْ أَعْطَيْتَهَا جَلَسْتَ وَلا إزَارَ لَكَ ، فَالْتَمِسْ شَيْئاً قَالَ : مَا أَجِدْ . قَالَ : الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَماً مِنْ حَدِيدٍ ، فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئاً ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( هَلْ مَعَكَ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
جاءته امرأة : قال الحافظ : " لم أقف على اسمها " .
إني وهبت نفسي لك : أي كأنها تقول : أتزوجك من غير صداق .
فقامت طويلاً : جاء في رواية : ( فلم يجبها شيئاً ) وفي رواية : ( فنظر إليها ، فصعّد النظر إليها وصوبه ) وهو بتشديد
العين ، والمراد أنه نظر أعلاها وأسفلها .
فقامت طويلاً : أي زمناً طويلاً .
فقال رجل : قال الحافظ : " لم أقف على اسمه " .
زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة : جاء في رواية : ( أنكحنيها ) .
ما عندي إلا إزاري : جاء في رواية : ( لكن هذا إزاري ولها نصفه ) ، والإزار : هو ما يغطي النصف الأسفل من البدن .
الفوائد :
1- جواز عرض المرأة نفسها ، أو الرجل ابنته على رجل من أهل الخير والصلاح ، ومما يدل على ذلك :(2/48)
- عن ثابت البناني قال : ( كنت عند أنس وعنده ابنة له ، قال أنس : جاءت امرأة إلى رسول الله ( تعرض عليه نفسها قالت : يا رسول الله ، ألك بي حاجة ؟ فقالت بنت أنس : ما أقلّ حياءها ، واسوأتاه ، قال : هي خير منك ، رغبت في النبي ( فعرضت عليه نفسها ) . رواه البخاري
- وقال تعالى عن الشيخ الصالح لموسى ( : ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ (. قال القرطبي : " فيه عرض الولي ابنته على الرجل ، وهذه سنة قائمة ، عرض صالح مدين ابنته على صالح بني إسرائيل ، وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على أبي بكر ، وعثمان ، وعرضت الموهوبة نفسها على النبي ( " .
- وعن ابن عمر : ( أن عمر بن الخطاب حين تأيمت حفصة بنت عمر من حنيس بن حذافة ، وكان من أصحاب رسول الله ( فتوفي في المدينة ، فقال عمر : أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة ، فقال : سأنظر في أمري ... قال عمر : فلقيت أبا بكر الصديق ، فقلت : إن شئت زوجتك حفصة ... ) .
قال الحافظ : " وفيه عرض الإنسان بنته وغيرها من مولياته على من يعتقد خيره وصلاحه ، لما فيه من النفع العائد على المعروضة عليه ، وأنه لا استحياء في ذلك ، وفيه أنه لا بأس بعرضها عليه ولو كان متزوجاً ، لأن أبا بكر كان حينئذٍ
متزوجاً " .
2- استدل بالحديث على جواز نظر الخاطب إلى المخطوبة ، ومما يدل لذلك :
حديث جابر أن رسول الله ( قال : ( إذا خطب أحدكم المرأة ، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل
قال : فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها ) . رواه أبو داود
وعن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله ( لرجل تزوج امرأة : ( أنظرت إليها ؟ قال : لا ، قال : اذهب فانظر إليها ، فإن في أعين الأنصار شيئاً ) . رواه مسلم
( شيئاً ) قيل : عمش ، وقيل : صغر ، وهذا هو الصحيح ، لأنه وقع في رواية أبي عوانة في مستخرجه .(2/49)
وعن المغيرة بن شعبة قال : ( أتيت النبي ( فذكرت له امرأة خطبتها ، فقال : اذهب فانظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم
بينكما ) . رواه الترمذي
لهذه الأحاديث ذهب جماهير العلماء إلى استحباب النظر إلى المخطوبة .
لكن اختلف فيما يحل للخاطب أن يرى من مخطوبته :
فقيل : ينظر إلى الوجه والكفين فقط .
وهذا مذهب الشافعي .
قال النووي : " ثم إنه يباح النظر إلى وجهها وكفيها فقط ، لأنه يستدل بالوجه على الجمال أو ضده ، وبالكفين على خصوبة البدن أو عدمها " .
وقيل : ينظر إلى جميع بدنها .
وهو قول داود .
وقيل : ينظر إلى ما يظهر غالباً .
ورجح هذا القول الألباني .
وهو الصحيح .
* هل يشترط رضا المخطوبة في النظر أم لا ؟
ذهب جمهور العلماء إلى جواز النظر إلى المخطوبة وإن لم تأذن .
لقوله ( : ( إذا خطب أحدكم امرأة ، فلا جناح عليه أن ينظر إليها لخطبته وإن كانت لا تعلم ) . رواه أحمد
- شروط النظر إلى المخطوبة :
أولاً : أن يغلب على ظنه موافقتها .
ثانياً : أن لا يقصد التلذذ .
ثالثاً : أن لا يكون بخلوة .
رابعاً : أن يكون عازماً على الخطبة .
3- استدل بالحديث على أنه يجوز أن يكون الصداق قليلاً ، ففيه رد على من قال إن أقله عشرة دراهم .
وقد اختلف العلماء في أقل الصداق ، مع اتفاقهم على أنه لا حد لأكثره ، كما نقل الإجماع القرطبي :
فقيل : أقله عشرة دراهم .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
لحديث جابر قال : قال رسول الله ( : ( لا يزوج النساء إلا الأولياء ، ولا مهر أقل من عشرة دراهم ) . رواه الدار قطني وهو حديث ضعيف .
وقيل : أقله ربع دينار .
وهذا مذهب مالك .
قياساً على نصاب القطع في السرقة ، وهذا قياس في مقابل النص .
وقيل : يصح الصداق بكل ما يسمى شيئاً ولو حبة شعير .
وهذا مذهب ابن حزم .
لقوله ( للرجل : ( التمس شيئاً ) .
وقيل : كل ما صح العقد عليه بيعاً ، أو إجارة ، فإنه يصح أن يكون صداقاً ، سواء كان عيناً أو منفعة .(2/50)
فالعين مثل : أن يعطيها دراهم أو يعطيها متاعاً .
والمنفعة مثل : استخدامها إياه ، أو تستوفي منه بغير الخدمة أن يبني لها بيتاً .
وهذا القول هو الصحيح .
4- الحكمة من الصداق :
- أن الصداق إظهار لشرف هذا العقد وأهميته .
- أن فيه إعزاز للمرأة وتشريف لها .
- أن فيه الدليل على الرغبة في الزوجة .
- تمكين المرأة من تجهيز نفسها بما أحبت من لباس ونفقة وزينة .
5- يسن تسمية الصداق في العقد ، وليست تسميته شرطاً ، وهذا مذهب الجمهور .
لقوله تعالى : ( لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ( . (البقرة: من الآية236)
وجه الدلالة : أن الله تعالى رفع الحرج عن الطلاق في النكاح الذي لم يسم فيه المهر ، والطلاق لا يكون إلا في نكاح قد تم بعقد صحيح .
ولحديث ابن مسعود : ( أنه قضى في رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يدخل بها ولم يفرض لها صداقاً ، قال ( : لها الصداق كاملاً ، وعليها العدة ، ولها الميراث ، فقام معقل بن يسار فقال : سمعت رسول الله ( قضى في بِرْوع بنت واشق بمثل ذلك ) .
وجه الدلالة : أن العقد صح مع عدم تسميته المهر ، فلو لم يكن نكاحاً صحيحاً لما قضى النبي ( لبروع بالصداق .
ويكون لها مهر المثل .
لكن الأفضل تسميته :
- لأنه أقطع للنزاع والخلاف .
- ولقوله ( : ( التمس ولو خاتماً من حديد ) .
* يصح الصداق معجلاً ومؤجلاً ، ويصح أن يكون بعضه معجلاً وبعضه مؤجلاً .
6- اختلف العلماء في حكم جعل تعليم القرآن مهراً على قولين :
القول الأول : لا يجوز .
وهذا مذهب الحنفية والمالكية .
لقوله تعالى : ( أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ ... ( . (النساء: من الآية24)
وقال تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَات ... ( . (النساء: من الآية25)
فالفروج لا تستباح إلا بالأموال .(2/51)
وروي أن رسول الله ( زوج امرأة على سورة من القرآن ، ثم قال : ( لا تكون لأحد بعدك مهراً ).رواه سعيد بن منصور ولا يصح
وقالوا : أن تعلم القرآن لا يقع إلا قربة ، فلا يجوز أن يكون صداقاً كالصلاة .
القول الثاني : يجوز .
وهذا مذهب الشافعي ، واختاره ابن القيم .
لحديث الباب : ( زوجتك بما معك من القرآن ) .
وهذا القول هو الصحيح .
7- أن النكاح ينعقد بكل لفظ دال عليه ، فقد جاء في رواية : ( ملكتكها ) . [ وسبقت المسألة في الحديث الماضي ]
8- أن الهبة في النكاح خاصة بالنبي ( ، لقول الرجل : ( زوجنيها ) ولم يقل : هبها لي .
ولقولها هي : ( وهبت نفسي لك ) وسكت ( على ذلك ، فدل على جوازه له خاصة .
وقال تعالى : ( خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ( . (الأحزاب: من الآية50)
9- أن الإمام يزوج من ليس لها ولي خاص لمن يراه كفؤاً ، ولكن لا بد من رضاها ، لأنه جاء في رواية أن النبي ( قال للمرأة: ( إني أريد أن أزوجك هذا إن رضيت ، فقالت : ما رضيت لي فقد رضيت ) .
10- سكوته ( لما وهبت المرأة نفسها له :
- إما حياء من مواجهتها بالرد ، وكان ( شديد الحياء .
- وإما انتظاراً للوحي .
- وإما تفكراً في جواب يناسب المقام .
11- فطنة الصحابي وحسن أدبه ، حيث قال : ( زوجنيها يا رسول الله ) ثم بالغ في الاحتراز ، فقال : ( إن لم يكن لك بها حاجة ) وإنما قال ذلك بعد تصريحه بنفي الحاجة ، لاحتمال أن يبدو له بعد ذلك ما يدعوه إلى إجابتها .
12- أن النكاح لا بد فيه من الصداق .
لقوله ( : ( هل عندك من شيء تصدقها ) . [ وسبق ذلك ]
13- جواز النكاح بالخاتم من حديد ، وهذا قول الجمهور .
14- قوله : ( زوجتك بما معك من القرآن ) :
يحتمل : أن يعلمها ما معه من القرآن أو مقدار معين منه ، ويكون ذلك صداقها .
ويؤيد هذا ما جاء في بعض طرق الحديث : ( فعلمها من القرآن ) .
ويحتمل : أن تكون الباء بمعنى اللام ، أي لأجل ما معك من القرآن ، فأكرمه .(2/52)
والأول أرجح .
15- الحديث دليل على أن خطبة النكاح غير واجبة .
وهي : إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ... ) . رواه الترمذي
فهذه الخطبة مستحبة غير واجبة ، وهذا مذهب جماهير العلماء .
لحديث الباب ، حيث لم تذكر في حديث الباب .
وخالف داود فقال بوجوبها .
16- أن طالب الحاجة لا ينبغي أن يلح في طلبها ، بل يطلبها برفق وتأن .
17- فيه نظر الإمام في مصالح رعيته وإرشاده إلى ما يصلحهم .
18- اختلف العلماء في حكم لبس خاتم الحديد على قولين :
القول الأول : يكره .
وهذا قول جمهور العلماء .
لحديث عمر بن الخطاب قال : ( إن رسول الله ( رأى في يد رجل خاتماً من ذهب ، فقال : ألقِ ذا ، فألقاه ، فتختم بخاتم من حديد ، فقال : ذا شرّ منه ، فتختم بخاتم من فضة ، فسكت عنه ) . رواه أحمد
وعن عبد الله بن عمرو : ( أن رجلاً أتى النبي ( ، وفي يده خاتم من ذهب ، فأعرض النبي ( عنه ، فلما رأى الرجل كراهيته ، ذهب فألقى الخاتم ، وأخذ خاتماً من حديد فلبسه ، وأتى النبي ( ، فقال ( : هذا شر ، هذا حلية أهل النار فرجع فطرحه ، ولبس خاتماً من ورق ) . رواه أبو داود
القول الثاني : الجواز .
وهذا المذهب عند الشافعية .
واستدلوا بحديث الباب في قوله : ( التمس ولو خاتماً من حديد ) .
قالوا : إن النبي ( جعل خاتم الحديد مهراً ، وهذا يدل على أنه أذن فيه ، ولو كان مكروهاً لم يأذن فيه ، ولا وجه للإذن فيه إلا إذا كان لبسه جائز .
والراجح القول الأول .
والجواب عن قول : ( التمس ولو خاتماً من حديد ) :
قال الحافظ : " استدل به على جواز لبس خاتم الحديد ، ولا حجة فيه ، لأنه لا يلزم من جواز الاتخاذ جواز اللبس ، فيحتمل أنه أراد وجوده لتنتفع المرأة بقيمته " .(2/53)
317 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ( : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( رَأَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ , وَعَلَيْهِ رَدْعُ زَعْفَرَانٍ . فَقَالَ النَّبِيُّ ( : مَهْيَمْ ؟ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً , فَقَالَ : مَا أَصْدَقْتَهَا ؟ قَالَ : وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ : فَبَارَكَ اللَّهُ لَكَ , أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
ردع : بفتح الراء وسكون الدال ، أثر الزعفران .
مهيم : بفتح الميم وسكون الهاء ، ومعناه : ما شأنك ، أو ما هذا ؟ وهي كلمة استفهام .
نواة من ذهب : قيل أنه وزن خمسة دراهم .
أولم : هو طعام النكاح .
الفوائد :
1- استحباب تخفيف الصداق ، فهذا عبد الرحمن بن عوف لم يصدق زوجته إلا خمسة دراهم .
ولحديث عائشة أن رسول الله ( قال : ( إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة ) . رواه أحمد
قال عمر : ( لا تغالوا في صداق النساء ، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا ، أو تقوى عند الله ، لكان أولاكم بها نبي الله ( ما علمت رسول الله ( نكح شيئاً من نسائه على أكثر من ثنتي عشرة أوقية ) . رواه أبو داود
الأوقية : أربعون درهماً .
ولأن في تقليل المهور أدعى للنكاح .
2- استحباب الوليمة للعرس .
لقوله ( : ( أولم ... ) .
وهي الطعام الذي يصنع أيام العرس .
وقد اختلف العلماء في حكمها على قولين :
القول الأول : أنها مستحبة .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لقوله ( : ( أولم ... ) وهذا أمر ، وأقل أحواله الاستحباب .
القول الثاني : أنها واجبة .
وهذا مذهب الظاهرية .
لقوله ( لعبد الرحمن بن عوف : ( أولم ... ) وهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب .
ولقوله ( : ( إنه لا بد للعروس من وليمة ) . رواه أحمد
قال ابن حجر : " سنده لا بأس به " .
والراجح الأول .(2/54)
قالوا : إن الأمر في حديث : ( أولم ... ) للاستحباب ، بدليل أنه ( أمر بالشاة ، ولا خلاف أنه لا يجب عليه الإيلام بالشاة ، وقد أولم ( بغير الشاة مع أنه أمر بها .
ففي حديث أنس : ( أنه ( أولم على صفية وكانت وليمته حيساً ) .
وفي الصحيح : ( أنه ( أولم على امرأة من نسائه بمدين شعير ) .
3- وقت الوليمة :
اختلف السلف في وقت الوليمة :
فاستحبها بعض العلماء قبل الدخول ، واستحبها بعضهم بعد الدخول .
والأمر واسع .
قال في الإنصاف : " الأولى أن يقال وقت الاستحباب موسع من عقد النكاح إلى أيتها أيام العرس ، لصحة الأخبار في هذا وهذا " .
4- مقدار الوليمة :
أخذ بعض العلماء من قوله ( : ( أولم ولو بشاة ) أنه يستحب للموسر أن لا ينقص عن شاة .
ولكن ثبت أنه ( أولم على بعض نسائه بأقل من الشاة ، فقد ثبت أنه أولم على زينب خبزاً ولحماً .
فالراجح أنه لا حد لأكثرها ، والأفضل على قدر حال الزوج .
5- يستحب الدعاء للمتزوج بما ورد ، ومما ورد :
كما في حديث الباب : ( بارك الله لك ) .
ومما ورد ما جاء في حديث أبي هريرة : ( أن النبي ( كان إذا رفأ إنساناً إذا تزوج قال : بارك الله لك ، وبارك عليك ، وجمع بينكما في خير ) . رواه أحمد وأبو داود ( رفأ : أي دعا ) .
ولا يقول : [ بالرفاء والبنين ] كما يفعل الذين لا يعلمون ، فإنه من عمل الجاهلية .
6- يجب إجابة دعوة العرس .
وهذا مذهب جماهير العلماء ، أن إجابة الدعوة في وليمة العرس واجبة .
لحديث ابن عمر قال : قال رسول الله ( : ( إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليأتها ) . متفق عليه
وفي لفظ لمسلم : ( إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليجب ) .
ولحديث أبي هريرة قال : قال رسول الله ( : ( شرّ الطعام طعام الوليمة ، يدعى إليها الأغنياء ، ويترك الفقراء ، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله ) . متفق عليه
وذهب بعض العلماء إلى استحبابها .
والراجح الأول ، لكن لإجابة الدعوة شروطاً :(2/55)
منها : أن لا يكون هناك منكر .
لقوله ( : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر ) . رواه أحمد
قال الفقهاء : إن علم أن هناك منكراً ، يقدر على تغييره ، حضر وغيّره .
أي يجب أن يحضر ، وذلك لسببين :
أ- أنه دعوة وليمة عرس .
ب- فيها إزالة للمنكر ، وإزالته واجبة .
إن امتنع عن الحضور ، فينبغي أن يخبر بالسبب ، وذلك :
أ- لبيان عذره .
ب- ردعاً لهؤلاء .
ج- ربما هؤلاء يجهلون أن هذا الفعل حرام .
ومنها : أن يكون ذلك في اليوم الأول .
بعضهم ذكر أن يكون الداعي مسلماً .
فالمذهب يكره إجابة دعوة الذمي .
والصواب أنه لا يكره ، لأن الرسول ( أجاب دعوة اليهودي ، لا سيما إذا كان في ذلك تأليفاً ومصلحة .
7- اختلف العلماء في حكم لباس المزعفر للرجل على أقوال :
القول الأول : أنه حرام .
لحديث أنس ( قال : ( نهى النبي ( أن يتزعفر الرجل ) . رواه مسلم
وهذا نص في المنع من لبس الرجل للمزعفر من الثياب .
القول الثاني : الجواز .
واستدلوا بحديث الباب ، حيث أقر النبي ( عبد الرحمن بن عوف في لبس ثياب مزعفرة .
والراجح القول الأول .
وأما الجواب عن حديث عبد الرحمن بن عوف ، فأجاب العلماء بأجوبة :
منها:قالوا بجوازه للمتزوج دون غيره، وعلى هذا تدل ترجمة البخاري في صحيحه ، حيث قال: "باب الصفرة للمتزوج" .
ثم ساق بسنده حديث أنس في قصة زواج عبد الرحمن بن عوف .
ومنها : أن ذلك وقع من ابن عوف قبل النهي عن التزعفر ، وهذا وإن كان يحتاج إلى تاريخ ، إلا أنه يؤيده أن سياق قصة عبد الرحمن بن عوف يشعر بأنها كانت في أوائل الهجرة ، وأكثر من روى النهي عن التزعفر ممن تأخرت هجرته .
ومنها : أن أثر الصفرة التي كانت على عبد الرحمن بن عوف ، تعلقت به من زوجته حين مسها ، فكان ذلك غير مقصود له ، وقد رجح هذا النووي ، وعزاه للمحققين من أهل العلم .
وهذا أقرب وأقوى .(2/56)
ومنها : أن الصفرة التي كانت على عبد الرحمن ، كانت يسيره ، ولم يبق إلا أثرها ، فلذلك لم يأمره النبي ( بغسلها ، وإنما استفهم منكراً ذلك ليدل على أن التزعفر للرجال جائز .
اختلف العلماء في سبب النهي عن الثياب المزعفرة :
فقال بعضهم : نهى عنها بسبب لونها ، ومن ثم فكل ما كان أصفر مشابهاً للمزعفر ، فهو حرام .
وقال بعضهم : أن سبب التحريم هو أن الزعفران من طيب النساء .
كتابُ الطَّلاقِ
1- الطلاق لغة : التخلية .
وشرعاً : حل قيد النكاح أو بعضه .
( فإن كان بائناً فهو حله لكله ، وإن كان رجعياً فهو لبعضه ) .
2- والطلاق ثلاثة أنواع :
الأول : الطلاق الرجعي .
وهو إعادة مطلقة غير بائن إلى ما كانت عليه قبل الطلاق .
الثاني :الطلاق البائن بينونة كبرى .
وهو الطلاق الثلاث .
فإن كان الرجل قد طلق الرجل زوجته مرتين سابقتين ثم طلقها الثالثة ، فهذا طلاق بائن بينونة كبرى ، فلا تحل له إلا بعد زوج .
الثالث : الطلاق البائن بينونة صغرى .
وهو الطلاق على عوض .
وهو الطلاق الذي لا يستطيع فيه المطلق إرجاع زوجته بإرادته المنفردة كما كان له ذلك في الطلاق الرجعي .
3- والطلاق جائز بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : ( الطلاق مرتان ... ( .
وقال تعالى : ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ... ( .
ومن السنة حديث ابن عمر الآتي .
وحديث عمر : ( أن رسول الله ( طلق حفصة ثم راجعها ) .
4- ممن يصح الطلاق ؟
من زوج : فغير الزوج لا يصح طلاقه ، إلا إذا قام مقام الزوج بالوكالة .
عاقل : فالمجنون لا يصح طلاقه .
لحديث : ( رفع القلم عن ثلاث : وعن المجنون حتى يفيق ) .
بالغ : فالصبي الغير المميز لا يقع طلاقه بالاتفاق ، أما المميز فيه قولان :
الجمهور على أنه لا يقع طلاقه .
لحديث : ( رفع القلم عن ثلاثة : ... وعن الصبي حتى يبلغ ) .
5- الطلاق تجري فيه الأحكام التكليفية الخمسة :
- يكره : إذا كان بلا سبب يدعوه إلى ذلك ، ولم تكن هناك حاجة إليه .(2/57)
وقد جاء في الحديث : ( أبغض الحلال إلى الله الطلاق ) . رواه أبو داود ، وهو ضعيف
ومما يدل على كراهته قوله ( : ( إن إبليس يضع عرشه على الماء ، ثم يبعث سراياه ، فأدناهم منزلة أعظمهم فتنة ، فيجيء أحدهم فيقول : فعلت كذا وكذا ، فيقول : ما صنعت شيئاً ، قال : ثم يجيء أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته ، قال : فيدنيه منه ، ويقول : نعم أنت ) . رواه مسلم
( وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه يحرم في هذه الحالة ) .
- يستحب : إذا كان في استمرار النكاح ضرر على المرأة ، أو لكونها غير راغبة في الزوج ولم تستطع الافتداء منه ، فيؤجر الزوج في فراقها .
- يباح : عند الحاجة إليه لسوء خلق المرأة وسوء عشرتها ، أو لوجود الشقاق بينهما ، أو لعدم انتظام الحياة الزوجية .
- يحرم : في حالات ستأتي .
أن يطلقها في الحيض - أو في طهر جامعها فيه - أو أن يطلقها ثلاث تطليقات بلفظ . [ وستأتي أدلتها ] .
- يجب : إذا آلى الزوج [ أي حلف ] بألا يطأ زوجته ، فإن الحاكم يحدد له أربعة أشهر ، فإن فاء ( رجع ) وإلا ألزمه الحاكم بالطلاق .
6- طلاق السكران :
أ- أن يقع السكر عن غير عمد .
كأن يشرب الخمر يظنها عصيراً ، فهذا لا يقع الطلاق بإجماع .
ب- أن يتعمد السكر ، ففيه قولان :
القول الأول : يقع الطلاق .
وهذا المذهب .
قال في المغني : " وهو مذهب سعيد بن المسيب ، وعطاء ، ومجاهد ، ومالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة " .
لقوله تعالى : ( ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ( .
فنهاهم حال السكر من قربان الصلاة ، وهذا يقتضي عدم زوال التكليف .
القول الثاني : لا يقع طلاقه .
وهو قول عثمان ، ومذهب عمر بن عبد العزيز ، واختاره ابن تيمية .
لقوله تعالى : ( ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ( .
فهذه الآية دلت على أن السكران غير مكلف ، لأن الله أسقط الصلاة عنه حال السكر .
وأن النبي ( لم يؤاخذ حمزة لما سكر فقال : وهل أنتم إلا عبيد أبي .(2/58)
وهذا القول هو الصحيح .
7- لو نوى الطلاق ، ولم يتلفظ به ، فإنه لا يقع .
وهذا مذهب الأئمة الأربعة .
لقوله ( : ( إن الله تجاوز عن أمتي ما لم تتحدث أو تعمل ) .
فعفى الله عن حديث النفس .
8- لا طلاق قبل نكاح .
لقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنّ ( . (الأحزاب: من الآية49)
فذكر الله تعالى النكاح قبل الطلاق .
وقال ( : ( لا طلاق قبل نكاح ) . رواه ابن ماجه وحسنه ابن حجر
مثال : لو قال رجل : إن تزوجت فلانة فهي طالق ، فلا يعتبر قوله ولا تقع طلقة .
9- طلاق المكره :
اختلف العلماء على قولين :
القول الأول : أنه لا يقع .
وهو مذهب جمهور العلماء .
لقوله تعالى : ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَان ِ (. (النحل: من الآية106)
وجه الدلالة : أن الإنسان إذا أكره على الكفر ، وتلفظ به ظاهراً ، فلا يكون كافراً ، وهذا في العقيدة ، فلئلا يقع طلاقاً عند الإكراه على الطلاق من باب ألوى وأحرى .
القول الثاني : أنه يقع .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
وعللوا ذلك بأنه طلاق من مكلف في محا يملكه ، فوقع .
والراجح الأول .
318- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما ، (( أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ ( ، فَتَغَيَّظَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ ( ، ثُمَّ قَالَ : لِيُرَاجِعْهَا , ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ , ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ , فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَتِلْكَ الْعِدَّةُ , كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ )) .
وَفِي لَفْظٍ : (( حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً مُسْتَقْبَلَةً , سِوَى حَيْضَتِهَا الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا )) .(2/59)
وَفِي لَفْظٍ (( فَحُسِبَتْ مِنْ طَلاقِهَا , وَرَاجَعَهَا عَبْدُ اللَّهِ كَمَا أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ( )) .
------------------------------------
جاء في رواية : ( فليطلقها حائلاً أو حاملاً ) .
معاني الكلمات :
طلق امرأته : اسمها آمنة بنت غفار ، قاله النووي .
وفي مسند الإمام أحمد من حديث نافع أن عمر قال : ( يا رسول الله ، إن عبد الله طلق النوار ) قال الحافظ : " يحتمل أن يكون هذا لقبها " .
فتغيظ منه رسول الله : لماذا تغيظ رسول الله ؟
يحتمل أن يقال النهي عن الطلاق في الحيض كان معروفاً عندهم من نهيه ( .
وإما أن يكون ذلك معروفاً من دلالة القرآن : ( فطلقوهن لعدتهن ( .
وإما أن مقتضى الحال أن يستشار ( قبل إيقاعه ، فلم يفعله ابن عمر .
الفوائد :
1- الحديث يدل على تحريم طلاق الزوجة وهي حائض ، وهذا يسمى طلاق بدعي .
فالطلاق ينقسم إلى قسمين :
أولاً : الطلاق السني :
- أن يطلقها طاهراً غير حائض .
لقوله ( : ( ... فليطلقها قبل أن يمسها ... ) .
- أو أن يطلقها حاملاً .
لقوله ( : ( ... فليطلقها حائلاً أو حاملاً ) .
- أو أن يطلقها مرة واحدة في طهر لم يجامعها فيه .
لقوله ( : ( ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض وتطهر ، ثم إن شاء طلقها قبل أن يمس ) .
ثانياً : الطلاق البدعي المحرم .
- أن يطلقها في الحيض .
لحديث الباب ، فإن النبي ( تغيظ وأمر بمراجعتها .
- أن يطلقها في طهر مسها فيه .
لقوله ( : ( مره فليراجعها ، ثم يمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، ثم إن شاء أمسك ، وإن شاء طلق ) .
- أن يطلق امرأته ثلاث تطليقات بلفظ واحد .
2- فطلاق الحائض حرام ، لكن اختلف العلماء هل يقع أم لا ؟ على قولين :
القول الأول : أنه يقع .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
قال ابن قدامة : " فإن طلقها للبدعة ، وهو أن يطلقها حائضاً ... وقع طلاقه في قول عامة أهل العلم " .
لقوله تعالى : ( الطلاق مرتان ... ( .(2/60)
وقوله تعالى : ( فإن طلقها فلا تحل ... ( .
وجه الدلالة : أن الآيات عامة تدل على وقوع الطلاق في أي وقت ممن له حق وقوعه ، فلم يفرق بين أن يكون الطلاق في حال الحيض أو الطهر ، ولم يخص حالاً دون حال توجب حمل الآيات على العموم .
ولحديث الباب ، قال ( : ( ... مره فليراجعها ... ) .
فهذا دليل على أن الطلاق يقع ، إذ لا تكون المراجعة إلا بعد الطلاق الذي يعتد به .
وروى البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال : ( حسبت علي تطليقة ) .
وفي رواية للدار قطني : ( أن عمر قال : يا رسول الله ، فيحسب بتلك التطليقة ؟ قال : نعم ) .
وعن نافع عن ابن عمر : ( أنه طلق امرأته وهي حائض ، فأتى عمر النبي ( وذكر ذلك له فجعلها واحدة ).رواه الدار قطني
قال الحافظ في الفتح : " وهو نص في موضع الخلاف ، فيجب المصير إليه " .
القول الثاني : لا يقع .
وهذا قول الظاهرية ، واختيار شيخ الإسلام .
لقوله تعالى : ( فطلقوهن لعدتهن ( .
وجه الدلالة : أن المطلق في حال الحيض لا يكون مطلقاً للعدة ، لأن الطلاق المشروع المأذون فيه أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه ، وما عدا هذا لا يكون طلاقاً للعدة في حق المدخول بها .
واستدلوا بما رواه أبو داود من حديث أبي الزبير عن ابن عمر - حديث الباب - : ( أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله ( ، فسأل عمر رسول الله ( ... قال عبد الله : فردها عليّ ولم يرها شيئاً ) .
والجواب عن هذا :
أن قوله : ( ولم يرها شيئاً ) بأنها لا تصح ، فإن أبا الزبير خالف في روايته رواية الجمهور ، وهي أكثر عدداً وأثبت حفظاً ، فروايتهم أولى من روايته .
قال ابن عبد البر : " قوله : ( ولم يرها شيئاً ) منكر ، لم يقله غير أبي الزبير ، وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله ، فكيف فيمن هو أثبت منه " .
قال الخطابي : " لم يرو أبو الزبير حديثاً أنكر من هذا " .
والراجح القول الأول .(2/61)
3- قوله ( : ( مره فليراجعها ) . قال النووي : " أجمعوا على أنه إذا طلقها يؤمر برجعتها " .
لكن هل الرجعة واجبة أم مستحبة ؟
اختلف العلماء على قولين :
فقيل : مستحبة .
وهذا مذهب جمهور العلماء ، كما نقله النووي والشوكاني .
قالوا : لأن ابتداء النكاح لا يجب ، فاستدامته كذلك ، فكان القياس قرينة على أن الأمر للندب .
وقيل : واجب .
وهو قول جماعة من العلماء كداود وغيره .
للأمر به : ( مره ... ) .
4- قوله : ( ثم ليمسكها ) هل يجوز أن يطلق في الطهر الذي يلي هذه الحيضة ؟
جاء في رواية : ( ثم ليمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم إن شاء ... ) .
في هذه الرواية أنه ينتظر إذا أراد أن يطلق إلى طهرتان .
وجاء في رواية : ( مره فليراجعها ، فإذا طهرت فأراد أن يطلقها فليطلقها ) .
ففي هذه الرواية أن للرجل أن يطلق امرأته في الطهر الأول بعد الحيضة التي طلقها فيها وراجعها ، ولا يلزمه الانتظار إلى الطهر الثاني .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة في الانتظار للطهر الثاني :
فذهب جماعة منهم : إلى وجوب الانتظار إلى الطهر الثاني .
منهم الإمام مالك ، كما نقله عنه الصنعاني واستدل بالرواية الأولى .
وذهب جماعة من العلماء : إلى أن الانتظار إلى الطهر الثاني مستحب وليس بواجب .
وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد .
وهذا القول أصح .
5- قوله : ( ثم تحيض ثم تطهر ) هل الطهر الذي علق عليه الجواب هو الاغتسال من الحيض أو انقطاع الدم ؟
جاء في رواية تبين ذلك : ( مر عبد الله فليراجعها ، فإذا اغتسلت من حيضتها ... ) .
يترتب على انقطاع الدم : صحة الصوم - وصحة الغسل - وتترتب الصلاة في الذمة .
ويترتب على الاغتسال : صحة الصلاة - الطواف - اللبث في المسجد - انتهاء العدة على الصحيح بأن الإقراء هي الحيضة .
6- قوله ( : ( وإن شاء طلق قبل أن يمس ) هذا يدل على النوع الثاني من الطلاق البدعي المحرم ، وهو الطلاق في طهر جامعها فيه .(2/62)
والرواية الأخرى : ( فليطلقها طاهراً ) أي غير حائض .
فيحرم الطلاق : في الحيض ، وفي الطهر الذي جامع فيه .
7- الحكمة من النهي عن الطلاق أثناء الحيض :
الحكمة خشية أن تطول العدة ، فإذا طلقها الرجل في وقت الحيض ، فهي في وقت الحيض مطلقة ، ولا تعتبر من عدتها ، والطهر كذلك لا يعتبر من عدتها ، فتطول عليها على القول بأن القرء هو الحيض .
وقال بعضهم : أن الشارع راعى المرأة في ذلك ، حيث أن المرأة إذا حاضت صار لها وضع نفسي مختلف عن وضع الأيام العادية ، وبالتالي يرغب عنها الرجل ، فيكون دافع الطلاق أقوى ، فإذا منع في وقت قوة الدافع وطهرت المرأة ، فإن الرجل في هذه الحالة ، إن كان الدافع للطلاق قوياً ، فإنه سوف يطلق ولا يكون للحيض تأثير على اتخاذ القرار ، وإلا فإنه سوف يعدل عنه .
8- سبب طلاق ابن عمر لامرأته : أن عبد الله بن عمر يحب زوجته ، وكان عمر يكرهها ، فأمره بالطلاق .
فقد جاء في رواية لأبي داود ، قال ابن عمر: (كانت تحتي امرأة وكنت أحبها، وكان عمر يكرهها ، فقال لي : طلقها ...).
هل يطاع الأب في أمره بتطليق زوجة ابنه ؟
قال بعض العلماء : يجب على الابن أن يطيع أبوه بطلاق زوجته .
وقال بعضهم : لا يجب .
وهذا المذهب .
سأل الإمام أحمد رجل فقال : إن أبي يأمرني أن أطلق امرأتي ، قال : لا تطلقها ، قال : أليس عمر أمر ابنه عبد الله أن يطلق امرأته ، قال : حتى يكون أبوك مثل عمر .
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية فيمن تأمره أمه بطلاق امرأته ، فقال : " لا يحل له أن يطلقها ، بل عليه أن يبرها ، وليس تطليق امرأته من برها " .
9- قوله : ( فليطلقها حاملاً ... ) قال النووي : " فيه دلالة لجواز طلاق الحامل التي تبين حملها ، وهو مذهب الشافعي ، قال ابن المنذر : وبه قال أكثر العلماء " .(2/63)
10- وقال الحافظ ابن حجر : " وقد تمسك بهذه الزيادة : ( ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً ) من استثنى من تحريم الطلاق في طهر جامع فيه ما إذا ظهر الحمل ، فإنه لا يحرم ، والحكمة فيه أنه إذا ظهر الحمل فقد أقدم على ذلك على بصيرة فلا يندم على الطلاق ، وأيضاً فإن زمن الحمل زمن رغبته في الوطء ، فإقدامه على الطلاق فيه يدل على رغبته عنها ، ومحل ذلك أن يكون الحمل من المطلق " .
11- قوله : ( مره فليراجعها ... ) استدل به من قال أنه لا يجب الإشهاد على الرجعة .
وهذه مسألة اختلف فيها العلماء . [ وسيأتي بحثها ] .
مباحث الرجعة :
أولاً : تعريفها : هي إعادة مطلقة غير بائن إلى ما كانت عليه بغير عقد .
ثانياً : سمي رجعياً ، لأنه يستطيع الزوج خلال فترة العدة التي تجب على المرأة أن تبقى في بيت زوجها ومراجعتها وإعادة الحياة الزوجية .
ثالثاً : دل على مشروعية الرجعة الكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : ( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِك ( . (البقرة: من الآية228)
وحديث الباب : ( ... مره فليراجعها ... ) .
وثبت أن النبي ( طلق حفصة ثم راجعها .
وأجمع العلماء على مشروعية الرجعة .
رابعاً : اختلف العلماء في حكم الإشهاد على الرجعة على قولين :
القول الأول : أنه واجب .
لقوله تعالى : ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ... ( . (الطلاق: من الآية2)
وهذا أمر ، والأمر يقتضي الوجوب .
القول الثاني : ليس بواجب ولكن سنة .
لقوله ( : ( ... مره فليراجعها ... ) .
ولم يأمره بالإشهاد .
ولأنه عقد لا يفتقر إلى القبول ، فلا يحتاج إلى الإشهاد .
وهذا القول هو الصحيح .
خامساً : الزوجة الرجعية في زمن العدة لها حكم الزوجات ، من نفقة وكسوة ومسكن وسائر الحقوق ، إلا أنها لا قسْم لها.
سادساً : يحرم على الزوج أن يخرج زوجته المطلقة الرجعية من البيت .(2/64)
لقوله تعالى : ( لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ( . (الطلاق: من الآية1)
وما كان الناس عليه الآن من كون المرأة إذا طلقت طلاقاً رجعياً تنصرف إلى بيت أهلها فوراً ، هذا خطأ ومحرم ، لأن الله قال : ( لا تُخْرِجُوهُنَّ ( ( وَلا يَخْرُجْنَ ( ولم يستثن من ذلك إلا إذا أتين بفاحشة مبينة .
سابعاً : كيفية المراجعة :
بالقول : كأن يقول : راجعت زوجتي ، ونحوها مثل : رددتها ، أو أعدتها .
وهل تحصل بالوطء ؟
قيل : تحصل بالوطء ولو لم ينو .
وهذا المذهب . قالوا :
بأن هذا فعل لا يباح إلا مع زوجة .
وقيل : لا تحصل الرلجعة بالوطء إلا بنية المراجعة .
وهذا قول مالك ، واختيار ابن تيمية . قالوا :
لأن مجرد الوطء قد يستبيحه الإنسان في امرأة أجنبية كالزنا .
وهذا القول هو الصحيح .
319 - عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ (( أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ طَلَّقَهَا الْبَتَّةَ , وَهُوَ غَائِبٌ )) .(2/65)
وَفِي رِوَايَةٍ : (( طَلَّقَهَا ثَلاثاً - فَأَرْسَلَ إلَيْهَا وَكِيلَهُ بِشَعِيرٍ , فَسَخِطَتْهُ . فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا لَكِ عَلَيْنَا مِنْ شَيْءٍ : فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ ( فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ , فَقَالَ : لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ )) وَفِي لَفْظٍ : (( وَلا سُكْنَى - فَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ , ثُمَّ قَالَ : تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي , اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ . فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى , تَضَعِينَ ثِيَابَكِ , فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي . قَالَتْ : فَلَمَّا حَلَلْتُ ذَكَرْتُ لَهُ : أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : أَمَّا أَبُو جَهْمٍ : فَلا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ . وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ : فَصُعْلُوكٌ لا مَالَ لَهُ , انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ , فَكَرِهَتْهُ ثُمَّ قَالَ : انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ , فَنَكَحَتْهُ . فَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً , وَاغْتَبَطَتْ بِهِ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
أن أبا عمرو بن حفص : زوجها ، قيل : اسمه عبد الحميد ، وهو قول الأكثر ، وقيل : أحمد ، وقال آخرون : اسمه كنيته .
طلقها البتة : وفي رواية : ( طلقها ثلاثاً ) ليس معناه تكلم بهن دفعة واحدة ، وإنما كما قال النووي : " إنه كان طلقها قبل هذا طلقتين " .
فسخطته : السخط عدم الرضا ، لأنها رأته شيئاً قليلاً .
أم شريك : قال النووي : " هذه قرشية عامرية ، إحدى فضليات الصحابة .
يغشاها أصحابي : يترددون عليها ، قال النووي : " كانوا يزورون أم شريك ويكثرون التردد عليها لصلاحها " .
فآذنيني : أي أعلميني .
فصعلوك : بضم الصاد ، التصعلك هو الفقر .(2/66)
فلا يضع عصاه عن عاتقه : قيل : كثير الأسفار . وقيل : ضراب للنساء ، وهذا أصح ، لرواية مسلم : ( وأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء ) .
الفوائد :
1- في هذا الحديث يخبر النبي ( أن المطلقة ثلاثاً ليس لها النفقة ولا السكنى أثناء العدة .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة :
أولاً : النفقة . اختلف العلماء :
القول الأول : ليس لها النفقة .
وهذا مذهب الشافعي وأحمد ومالك وفقهاء المدينة السبعة .
لظاهر حديث الباب ، فإن النبي ( قال : ( ليس لك نفقة ولا سكنى ) .
القول الثاني : لها النفقة .
وهذا مذهب أبي حنيفة ، وهو قول ضعيف .
ثانياً : السكنى . اختلف العلماء على قولين :
القول الأول : لا سكنى لها .
وهذا مذهب أحمد وداود ، وهو قول ابن عباس .
لحديث الباب ، فهو نص .
القول الثاني : لها السكنى .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
واستدلوا بقوله تعالى : ( أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ( . (الطلاق: من الآية6)
لكن هذا القول ضعيف ، لأن الآية جاءت في حكم الرجعية لا في حكم البائن ، ويوضح ذلك قوله تعالى : ( لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ( . (الطلاق: من الآية1)
وإحداث الأمر معناه تغيره نحو الزوجة ورغبته فيها في زمن العدة ، وهو مستحيل في البائن .
إذاً صار القول الراجح :
- أن المطلقة ثلاثاً ( البائن ) غير الحامل ليس لها نفقة ولا سكنى أثناء العدة .
لحديث الباب .
- أما إذا كانت المطلقة البائن حاملاً فإن لها النفقة من أجل الحمل دون السكنى .
قال تعالى : ( وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ( . (الطلاق: من الآية6)
- أما المطلقة الرجعية فلها السكنى والنفقة أثناء العدة ، لأنها زوجة حكمها حكم الزوجات .
2- وجوب العدة على المطلقة .
3- جواز الطلاق والزوج غائب عن زوجته ، فليس من شروط الطلاق أن تكون المرأة حاضرة في مجلس العقد .(2/67)
ولذلك قال النووي : " فيه جواز طلاق الغائب " .
4- جواز الوكالة في أداء الحقوق .
5- وجوب حرص المرأة وكذا وليها على الاستتار والابتعاد عن الرجال الأجانب .
6- اختلف العلماء في نظر المرأة إلى الرجال الأجانب :
القول الأول : التحريم بشهوة أو بغير شهوة .
ورجح هذا النووي .
لقوله تعالى : ( وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنّ ( . (النور: من الآية31)
ولحديث نبهان مولى أم سلمة عن أم سلمة قالت : ( كنت عند رسول الله ( وعنده ميمونة ، فأقبل ابن أم مكتوم وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب ، فقال النبي ( : احتجبا منه ، فقلنا : يا رسول الله ، أليس أعمى ولا يبصرنا ولا يعرفنا ؟ فقال النبي ( : أفعمياوان أنتما ؟ ألستما تبصرانه ) . رواه أبو داود والترمذي وحسنه النووي ، وضعفه آخرون .
قال النووي : " وأما نظر المرأة إلى وجه الرجل الأجنبي ، فإن كان بشهوة فحرام بالاتفاق ، وإن كان بغير شهوة ، ففي جوازه وجهان لأصحابنا أصحهما تحريمه " .
القول الثاني : الجواز إذا أمنت الفتنة .
لحديث عائشة قالت : ( رأيت رسول الله ( يوماً على باب حجرتي والحبشة يلعبون في المسجد ، ورسول الله ( يسترني بردائه أنظر إلى لعبهم ) . متفق عليه
ولحديث الباب ، وفيه كما جاء في رواية مسلم : ( أن النبي ( قال لفاطمة : اعتدي في بيت أم مكتوم ، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده ) .
وبأن الرجال لم يزالوا على مرّ الزمان مكشوفي الوجوه والنساء يخرجن متنقبات ، فلو استووا لأمر الرجال بالنقاب أو منعهن من الخروج متنقبات .
7- جواز التعريض بخطبة البائن ، لقوله : ( فإذا حللت فآذنيني ) .
8- جواز ذكر الإنسان بما فيه عند المشاورة وطلب النصيحة ، ولا يكون هذا من الغيبة المحرمة ، بل من النصيحة الواجبة .
قال النووي : " اعلم أن الغيبة وإن كانت محرمة ، فإنها تباح في أحوال :
الأول : التظلم ، فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي ، فيذكر أن فلاناً ظلمني .(2/68)
الثاني : الاستعانة على تغيير المنكر ، ورد العاصي إلى الصواب ، فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر : فلان يعمل كذا فازجره .
الثالث : الاستفتاء ، بأن يقول للمفتي : ظلمني أبي .
الرابع : تحذير المسلمين من الشر ونصحهم ، كجرح المجروحين من الرواة ، ومنها إذا استشارك إنسان في مصاهرته ، أو مشاركته ، أو إيداعه ، أو الإيداع عنده ، أو معاملته ، أو غير ذلك .
الخامس : أن يكون مجاهراً بفسقه أو بدعته ، فيجوز ذكره بما يجاهر به ، ويحرم ذكره بغيره من العيوب .
السادس : التعريف ، فإذا كان الإنسان معروفاً بلقب ، كالأعمش والأعرج والأصم والأحول ، جاز تعريفه بذلك بنية التعريف ، ويحرم إطلاقه على جهة النقص " . أ.ه
9- في قوله ( لفاطمة : ( ... تضعين ثيابك عنده ... ) فيه أن حديث عائشة في قوله ( : ( أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيتها هتكت ما بينها وبين الله ) رواه أحمد . ليس على ظاهره ، وإنما محمول :
على الزنا ـ أو لغير حاجة .
10- ينبغي على الإنسان أن ينصح إذا شاوره الغير .
قال ( : ( المستشار مؤتمن ) .
11- لا حرج للولي أن يمنع من تزويج الفقير خوفاً على موليته من أن الزوج لا يستطيع القيام بحقوق المرأة .
12- مشاورة العلماء .
13- سؤال أهل العلم .
14- طاعة الرسول ( كلها خير .
فقد نكحت أسامة ، وهي كارهة طاعة للرسول ( ، وكان في ذلك خير لها .
15- فضل فاطمة في الاستجابة لرسول ( رغم كراهتها لهذا الشيء .
16- أن الإنسان قد يكره الشيء ويكون له فيه خير عظيم .
وقد قال تعالى : ( فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ( . (النساء: من الآية19)
17- لا حرج على الولي أن يمتنع من تزويج من يكون شديداً على النساء .
فوائد :
قال النووي : " معاوية الخاطب في هذا الحديث ، هو معاوية بن أبي سفيان ، وهو الصواب ، وقيل أنه معاوية آخر ، وهذا غلط صريح " .(2/69)
وقال رحمه الله : " وأما إشارته ( بنكاح أسامة فلما علمه من دينه وفضله وحسن طرائقه وكرم شمائله ، فنصحها بذلك ، فكرهته لكونه مولى ، ولكونه كان أسود جداً ، فكرر عليها النبي ( الحث على زواجه لما علم من مصلحتها في ذلك ، وكان كذلك ، ولهذا قالت : فجعل الله لي فيه خيراً " .
باب العدة
مقدمة :
العدة شرعاً : هي تربص محدود شرعاً بسبب فرقة نكاح .
وحكم العدة :
واجبة بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : ( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ( . (البقرة: من الآية228)
قال العلماء : هذا خبر بمعنى الأمر .
وقال تعالى : ( وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ( . (الطلاق: 4)
وقال ( لفاطمة بنت قيس : ( اعتدي في بيت أم مكتوم ) . متفق عليه
وأجمعت الأمة على وجوب العدة .(2/70)
320 - عَنْ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةِ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ - وَهُوَ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ , وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْراً - فَتُوُفِّيَ عَنْهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ , وَهِيَ حَامِلٌ . فَلَمْ تَنْشَبْ أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ , فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا : تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ , فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ - رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ - فَقَالَ لَهَا : مَا لِي أَرَاك مُتَجَمِّلَةً ؟ لَعَلَّكِ تُرَجِّينَ لِلنِّكَاحِ , وَاَللَّهِ مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ حَتَّى يَمُرَّ عَلَيْك أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ . قَالَتْ سُبَيْعَةُ : فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ : جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي حِينَ أَمْسَيْتُ , فَأَتَيْتُ رَسُولَ ( فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ ؟ فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي , وَأَمَرَنِي بِالتَّزْوِيجِ إنْ بَدَا لِي )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
سُبيعة : قال النووي : " بضم السين وفتح الباء " .
سعد بن خولة : زوجها ، مات في حجة الوداع ، وجاء في رواية أنه قتل ، قال ابن حجر : " ومعظم الروايات أنه مات وهو المعتمد " .
فلم تنشب : أي تمكث كثير .
أن وضعت حملها بعد وفاته : جاء في رواية : ( بعد وفاته بليال ) وجاء عند أحمد في المسند : ( فلم أمكث إلا شهرين حتى وضعت ) وفي رواية للبخاري: ( فوضعت بعد موته بأربعين ليلة ) وفي رواية عند النسائي :( بعشرين ليلة ) . قال الحافظ : " الجمع بين هذه الروايات متعذر لاتحاد القصة " .
تعلت من نفاسها : قال النووي : " أي طهرت منه " .
أبو السنابل : اختلف في اسمه : فقيل : عمرو . وقيل : عامر . وقيل : عبد الله .
جاء في رواية : ( فخطبها أبو السنابل ) .
الفوائد :(2/71)
1- في هذا الحديث أن المرأة الحامل المتوفى عنها زوجها عدتها بوضع الحمل .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
قال النووي : " أخذ بهذا جماهير العلماء من السلف والخلف ، فقالوا عدة المتوفى عنها زوجها بوضع الحمل حتى لو وضعت بعد موت زوجها بلحظة قبل غسله انقضت عدتها وحلت في الحال للأزواج ، وهذا قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد " .
وقال الحافظ ابن حجر : " قال جمهور العلماء من السلف وأئمة الفتوى في الأمصار ، أن الحامل إذا مات عنها زوجها تحل بوضع الحمل وتنقضي عدة الوفاة " .
لحديث الباب .
قال النووي : " وهو مخصوص ، لعموم قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً( ، ومبين أن قوله تعالى : ( وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ( عام في المطلقة المتوفى عنها، وأنه على عمومه " .
وذهب بعض العلماء : إلى أنها تعتد بأقصى الأجلين .
قال الحافظ : " ومعناه أنها إن وضعت قبل مضي أربعة أشهر وعشر ، تربصت إلى انقضائها ولا تحل بمجرد الوضع ، وإن انقضت المدة قبل الوضع تربصت إلى الوضع " .
وهذا قول علي وابن عباس .
وقد قيل أن ابن عباس رجع عن هذا القول ، ويقويه أن المنقول عن أتباعه وفاق الجماعة في ذلك .
2- متى يجوز لها أن تنكح ؟
ذهب جمهور العلماء إلى أنه يجوز لها أن تنكح ولو لم تطهر من دم النفاس .
لدلالة ألفاظ الحديث عليه .
ففي رواية : ( فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي ) .
وهو ظاهر القرآن في قوله تعالى : ( يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ( فعلق الحل بحين الوضع وقصره عليه ، ولم يقل إذا طهرت ، ولا إذا انقطع دمك .
لكن لا يطؤها زوجها حتى تطهر من نفاسها وتغتسل .
وذهب بعض العلماء إلى أنها لا تنكح حتى تطهر ، لقوله في الحديث : ( فلما تعلت من نفاسها ) ومعناه : طهرت .
والراجح قول الجمهور .(2/72)
وأما الجواب عن فعلها : ( فلما تعلت من نفاسها ) :
قال النووي : " هذا إخبار عن وقت سؤالها ، ولا حجة فيه ، وإنما الحجة في قول النبي ( : أنها حلت حين وضعت ، ولم يعلل بالطهر من النفاس " .
فائدة : تنقضي عدة الحامل إذا وضعت ما تبين فيه خلق إنسان .
3- العِدَد :
أولاً : الحامل .
عدتها بالوضع ، سواء المطلقة أو المتوفى عنها زوجها .
لعموم قوله تعالى : ( وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ( .
ثانياً : المتوفى عنها زوجها بلا حمل .
أربعة أشهر وعشراً .
قال ابن قدامة : " أجمع أهل العلم على أن عدة المرأة المسلمة غير ذات الحمل من وفاة زوجها أربعة أشهر وعشراً ، مدخولاً بها أو غير مدخول بها " .
لقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً( .
وقال (: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج ، أربعة أشهر وعشراً).متفق عليه
والدليل على أن غير المدخول بها يشملها الحكم :
ما رواه أهل السنن: ( أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يدخل بها ، فقال : عليها العدة ولها الميراث ، فشهد معقل ابن سنان أن النبي ( قضى في بروع بنت واشق بمثل ما قضى ، ففرح ابن مسعود بذلك فرحاً شديداً ) .
ثالثاً : المطلقة غير الحامل التي تحيض .
فعدتها ثلاثة قروء .
قال في المغني : " إن عدة المطلقة إذا كانت حرة ، وهي من ذوات القروء ثلاثة قروء بلا خلاف بين أهل العلم " .
لقوله تعالى : ( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ( . (البقرة: من الآية228)
اختلف العلماء في المراد بالقرء ( ثلاثة قروء ) على قولين :
قيل : المراد به الطهر .
وبه قال زيد بن ثابت ، وابن عمر ، وعائشة ، والقاسم ، والزهري ، ومالك ، والشافعي .
وقيل : المراد به الحيض .(2/73)
وعلى هذا القول فلا تنقضي عدتها حتى تطهر من الحيضة الثالثة .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
واستدلوا لذلك بما جاء في الحديث عن فاطمة بنت أبي حبيش ، أن رسول الله ( قال لها : ( دعي الصلاة أيام أقرائك )
وهذا القول هو الصحيح .
رابعاً : الصغيرة التي لم تبلغ سن المحيض ، والآيسة .
عدة كل واحدة منهن ثلاثة أشهر .
لقوله تعالى : ( وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ( . (الطلاق: 4)
4- اختلف العلماء في المرأة يموت عنها زوجها وهو غائب ، أو طلقها وهو غائب ، من متى تعتد ؟
فقيل : تعتد من يوم مات زوجها .
وهذا مذهب الجمهور .
لعموم الأدلة .
فلو فرض أنه طلقها ، ولم تعلم ، وحاضت حيضتين ثم علمت ، فإنه يبقى عليها حيضة واحدة ، وكذلك إذا مات عنها زوجها ، ولم تعلم إلا بعد مضي شهرين ، فإنه يبقى عليها شهران وعشرة أيام .
وقيل : تعتد من يوم يأتيها الخبر .
وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز .
لأن العدة اجتناب أشياء وما اجتنبتها .
والراجح الأول .
5- لو مات زوج الرجعية .
قال في المغني : " وإذا مات زوج الرجعية استأنفت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً بلا خلاف ، لأن الرجعية زوجة يلحقها طلاقه وينالها ميراثه ، فاعتدت للوفاة كغير المطلقة " .
6- من فوائد حديث سبيعة : أن الصحابة كانوا يفتون في حياة النبي ( .
7- وفيه ما كان في سبيعة من الشهامة والفطنة ، حيث ترددت فيما أفتاها به حتى حملها على ذلك على استيضاح الحكم من الشارع .
8- وفيه الرجوع في الوقائع إلى الأعلم .
9- مباشرة المرأة السؤال عما ينزل بها ولو كان مما يستحي النساء من مثله .
10- استدل به من قال إن الحامل تنقضي عدتها بالوضع على أي صفة كان من مضغة أو من علقة ، سواء استبان خلق الآدمي أم لا ، لأنه ( رتب الحل على الوضع من غير تفصيل .
وقيل : لا بد من وضع الحمل التام المتخلق .(2/74)
11- لا عدة على المطلقة قبل المسيس .
لقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ( . (الأحزاب:49)
قال ابن كثير : " هذا أمر كجمع عليه بين العلماء أن المراد إذا طلقت قبل الدخول بها لا عدة عليها ، فتذهب وتتزوج من فورها متى شاءت " .
321 - عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : (( تُوُفِّيَ حَمِيمٌ لأُمِّ حَبِيبَةَ , فَدَعَتْ بِصُفْرَةٍ , فَمَسَحَتْ بِذِرَاعَيْهَا , فَقَالَتْ : إنَّمَا أَصْنَعُ هَذَا ; لأَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ( يَقُولُ : لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ , إلاَّ عَلَى زَوْجٍ : أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً )) .
322 - عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( لا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى الْمَيِّتِ فَوْقَ ثَلاثٍ , إلا عَلَى زَوْجٍ : أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً , وَلا تَلْبَسُ ثَوْباً مَصْبُوغاً إلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ . وَلا تَكْتَحِلُ . وَلا تَمَسُّ طِيباً , إلاَّ إذَا طَهُرَتْ : نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ )) .(2/75)
323 - عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (( جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ( فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا , وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَنُكْحُلُهَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : لا - مَرَّتَيْنِ , أَوْ ثَلاثَاً - ثُمَّ قَالَ : إنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ . وَقَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ ، فَقَالَتْ زَيْنَبُ : كَانَتْ الْمَرْأَةُ إذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا : دَخَلَتْ حِفْشاً , وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا , وَلَمْ تَمَسَّ طِيباً وَلا شَيْئاً حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ - حِمَارٍ أَوْ طَيْرٍ أَوْ شَاةٍ - فَتَفْتَضَّ بِهِ . فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إلاَّ مَاتَ . ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعْرَةً , فَتَرْمِي بِهَا ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
حميم : أي قريب ، وجاء في رواية : ( أنه أبوها ، أبو سفيان بن حرب ) .
أم حبيبة : رملة بنت أبي سفيان .
بصفرة : نوع من أنواع الطيب .
فمسحت بذراعيها : المسح الإمرار على الشيء .
إنما أصنع هذا : أراد أن تبين لماذا تفعل هذا الشيء .
لا تحد : الاحداد لغة المنع ، ومنه سمي البواب حداداً لمنعه الداخل . وشرعاً : تربص تجتنب فيه المرأة ما يدعو إلى جماعها أو يرغب في النظر إليها من الزينة وما في معناها مدة مخصوصة
مصبوغاً : كالأصفر ، والأحمر ، ونحوها من الألوان الزاهية .
عصْب : بفتح العين ، ثياب من اليمن فيها بياض وسواد .
نبذه : أي قطعه .
قُسط : بضم القاف . وأَظفار : بفتح الهمزة ، والقسط والأظفار نوعان من البخور .(2/76)
ترمي بالبعرة : قيل : إشارة إلى أن الفعل الذي فعلته من التربص والصبر على البلاء الذي كانت فيه لما انقضى كان عندها بمنزلة البعرة التي رمتها استحقاراً له وتعظيماً لحق زوجها ، وقيل : بل ترميها على سبيل التفاؤل بعدم العود إلى مثل ذلك ، وقيل : هو إشارة إلى أنها رمت العدة رمي البعرة .
الفوائد :
1- أن الإحداد حكمه واجب على المرأة المتوفى عنها زوجها ، سواء كانت مدخولاً بها أم لا .
لقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ( . (البقرة: من الآية234)
قال ابن كثير : " هذا أمر من الله للنساء اللواتي يتوفى عنهن أزواجهن أن يعتدن أربعة أشهر وعشراً " .
ولحديث الباب : ( لا يحل لامرأة تؤمن ... ) فالحديث ظاهر في المنع من الإحداد على أحد فوق ثلاث إلا الزوج ، فإنه يحد عليه أربعة أشهر وعشراً ، ويدل لذلك رواية مسلم : ( ... إلا على زوجها فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشراً ) فقوله ( : ( فإنها تحد ) خبر بمعنى الأمر .
2- أن الإحداد خاص بالنساء .
لقوله : ( لا يحل لامرأة ... ) .
ولإجماع المسلمين على أنه لا إحداد على الرجل .
3- جواز إحداد المرأة على غير زوجها ، كالأخ - أو الأب ، أو أم ، أو أي قريب - ثلاثة أيام فأقل ، لكنه غير واجب .
فحديث الباب يدل على الجواز والإباحة .
قال الحافظ ابن حجر : " وليس ذلك واجباً لاتفاقهم على أن الزوج لو طالبها بالجماع لم يحل لها منعه في تلك الحال " .
4- قوله : ( لامرأة ... ) تمسك بمفهومه الحنفية ، فقالوا : لا يجب الإحداد على الصغيرة .(2/77)
وذهب جمهور العلماء على وجوب الإحداد عليها ، قالوا : أن التقييد بالمرأة خرج مخرج الغالب ، واستدلوا أيضاً بحديث أم سلمة المذكور في الباب ، وفيه : ( جاءت امرأة إلى رسول الله ( فقالت : يا رسول ، إن ابنتي توفي عنها زوجها ، وقد اشتكت عينها أفنكحلها ؟ قال : لا ) .
وجه الدلالة : قال القرطبي : " ولم يسأل عن سنها حتى يبين الحكم ، وتأخير البيان في مثل هذا لا يجوز " .
5- قوله : ( تؤمن بالله واليوم الآخر ... ) استدل به الحنفية بأن لا إحداد على الذمية ، للتقيد بالإيمان .
وذهب جمهور العلماء إلى وجوب الإحداد على الكتابية .
لعموم الأدلة الموجبة للإحداد ، فإن الأدلة لم تفرق بين مسلمة وكتابية .
وهذا القول هو الصحيح .
وأما المراد بقوله ( : ( تؤمن بالله واليوم الآخر ... ) الإغراء ، أي إغراء المرأة على الفعل .
6- يجب الإحداد على المجنونة ، وهذا مذهب جماهير العلماء .
لعموم الأدلة الدالة على وجوب الإحداد .
7- الذي تجتنبه المحادة أثناء حدادها :
أولاً : الطيب .
قال ابن قدامة : " ولا خلاف في تحريمه عند من أوجب الإحداد " .
لحديث أم عطية : ( ... ولا تمس طيباً ) .
قال ابن قدامة : " ولأن الطيب يحرك الشهوة ، ويدعو إلى المباشرة " .
- الأدهان غير المطيبة لا بأس أن تستعملها المحادة لأنها ليست طيباً ، فلا يشملها النص .
ثانياً : تجنب الزينة في الثياب .
يحرم على المحادة أن تلبس كل ما فيه زينة من الثياب .
لحديث أم عطية : ( ... ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصْب ) . متفق عليه
وفي حديث أم سلمة عند أبي داود : ( ... ولا تلبس المعصفر من الثياب ، ولا الممشَّقة ... ) .
( الممشقة : المصبوغة بالمشق ، بكسر الميم ، وهو الطيب الأحمر ) .
- ذهب بعض العلماء إلى أن المحادة لا تلبس النقاب ، لأن المعتدة من وفاة زوجها مشبهة بالمحْرِمَة ، والمحرمة تمنع من ذلك ، لكن هذا القول فيه بعد .(2/78)
ثالثاً : الخضاب .[ بالحناء ونحوه مما يكون فيه تجمل ]
ففي حديث أم سلمة : ( ولا تختضب ... ) . رواه أبو داود
قال ابن القيم : " فيحرم عليها الخضاب والنقش والحمرة ، فإن النبي ( نص على الخضاب منبهاً على هذه الأنواع التي هي أكثر زينة منه وأعظم فتنة ، وأشد مضادة لمقصود الحداد " .
رابعاً : الكحل .
لحديث أم عطية : ( ... ولا تكتحل ... ) . متفق عليه
وحديث أم سلمة قالت : ( جاءت امرأة إلى رسول الله ( فقالت : يا رسول الله ، إن ابنتي توفي عنها زوجها ، وقد اشتكت عينها ، أفنكحلها ؟ فقال رسول الله ( : لا ) . متفق عليه ، فلم يرخص لها النبي ( مع حاجتها إليه .
الكحل للضرورة :
قيل : لا يجوز الاكتحال مطلقاً لضرورة أم لغير ضرورة ، وهذا قول ابن حزم .
لحديث أم سلمة الذي فيه منعه ( المحادة من الاكتحال مع حاجتها إليه .
وذهب جمهور العلماء : إلى جوازه إذا اضطرت إليه تداوياً لا زينة ، فلها الاكتحال ليلاً لا نهاراً .
واستدلوا بحديث أم سلمة قالت : ( ... دخل علي رسول الله ( حين توفي أبو سلمة ، وقد جعلت علي صبْراً ، فقال : ما هذا يا أم سلمة ، فقلت : إنما هو صبر يا رسول الله ليس فيه طيب ، فقال : إنه يشب الوجه ، فلا تجعليه إلا بالليل وتنزعيه بالنهار ) . وهذا الحديث صححه بعضهم وضعفه بعضهم . وهذا القول هو الصحيح .
خامساً : لبس الحلي .
قال ابن المنذر : " أجمعوا على منع المرأة المحادة من لبس الحلي " .
لحديث أم سلمة عند أبي داود : ( ... ولا تلبس الحلي ... ) .
- وهذا المنع شامل لما ظهر من الحلي وما استتر تحت الثياب .
- الحلي يشمل كل ما تتجمل به المرأة وتتحلى به من قرط أو سوار أو خاتم ، سواء ذلك من فضة أو غيرها .
- ما كان بمعنى الذهب والفضة فله حكم الحلي ، لأن قوله ( : ( ولا الحلي ) والحلي اسم يصدق على الذهب والفضة وغيره كاللؤلؤ والزمرد والألماس .(2/79)
- إذا كانت المحادة متلبسة بشيء من الحلي قبل وفاة زوجها ، فإن الواجب عليها إزالة ما يمكن إزالته منها .
سادساً : لزوم المحادة بيتها .
فيجب عليها لزوم بيت زوجها الذي توفي عنها وهي فيه ، وهذا مذهب أكثر العلماء .
واستدلوا بحديث الفريعة بنت مالك : ( جاءت إلى رسول الله ( تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خُدرة ، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا [ أي هربوا ] حتى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم فقتلوه ، فسألت رسول الله ( أن أرجع إلى أهلي ... الحديث وفيه : قال لها : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ، قالت : فاعتدت فيه أربعة أشهر وعشراً ) . رواه أبو داود
وذهب بعض العلماء : إلى أنه لا يلزمها لزوم بيت زوجها ، بل تعتد حيث شاءت .
وهذا قول علي وابن عباس وجابر ، وهو قول ابن حزم .
خروج المحادة من منزلها له أحوال :
أولاً : أن يكون لضرورة ، فيجوز ليلاً أو نهاراً .
مثل : إذا خيف هدم ، أو عدو ، أو حريق ، أو كانت الدار غير حصينة يخشى فيها من اقتحام اللصوص ، أو كانت بين فسقة تخاف على نفسها ، فإن لها الانتقال .
ثانياً : الخروج المؤقت ، فهذا جائز إذا كان لحاجة نهاراً .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
واستدلوا بحديث الفريعة السابق ، ووجه الدلالة فيه : أن النبي ( لم ينكر عليها خروجها من منزلها لما جاءته سائلة عن جواز انتقالها .
ثالثاً : إذا كان لغير حاجة ولا ضرورة ، فلا يجوز .
- لو بلغها الخبر وهي في بيت غير بيتها ، فذهب أكثر العلماء إلى أنه يجب عليها الاعتداد في المنزل الذي توفي زوجها وهي فيه ، فإذا بلغها الخبر وهي في غيره وجب عليها الرجوع .
- إذا انتقلت المحادة لسبب من الأسباب ، هل يلزمها المسكن الأقرب ؟
الصحيح أن المحادة إذا انتقلت فلها أن تسكن حيث شاءت ، ولا يلزمها في أقرب مسكن كما قال به بعض الفقهاء .
- إن تركت الإحداد أثمت وأتمت عدتها بمضي زمانها .(2/80)
8- أحدث بعض الناس أموراً في الإحداد لا أصل لها في الشرع :
- التزام بعض النساء لباساً معيناً ( كالأسود ) للإحداد .
- امتناع المحادة من مشط شعرها .
- امتناع المحادة من الاغتسال للتنظف .
- امتناع المحادة عن العمل في بيتها من خياطة وغيرها .
- امتناع المحادة من البروز للقمر .
- امتناع المحادة من الظهور على سطح البيت .
9- من فوائد أحاديث الإحداد : سؤال أهل العلم .
10- جواز النيابة في الفتوى .
11- القضاء على أحكام الجاهلية التي مقتضاها الظلم والجور .
كتابُ اللِّعانِ(2/81)
324- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (( أَنَّ فُلانَ بْنَ فُلانٍ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَرَأَيْتَ أَنْ لَوْ وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأَتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ , كَيْفَ يَصْنَعُ ؟ إنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ , وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ . قَالَ : فَسَكَتَ النَّبِيُّ ( فَلَمْ يُجِبْهُ . فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَاهُ فَقَالَ : إنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدْ اُبْتُلِيتُ بِهِ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلاءِ الآيَاتِ فِي سُورَةِ النُّورِ (( وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ )) فَتَلاهُنَّ عَلَيْهِ وَوَعَظَهُ وَذَكَّرَهُ . وَأَخْبَرَهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ . فَقَالَ : لا , وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ , مَا كَذَبْتُ عَلَيْهَا . ثُمَّ دَعَاهَا , فَوَعَظَهَا , وَأَخْبَرَهَا : أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ . فَقَالَتْ : لا , وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ , إنَّهُ لَكَاذِبٌ . فَبَدَأَ بِالرَّجُلِ فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ : إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ . وَالْخَامِسَةَ : أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ . ثُمَّ ثَنَّى بِالْمَرْأَةِ . فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ : إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ , وَالْخَامِسَةَ : أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ . ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا . ثُمَّ قَالَ : إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ ؟ )) ثَلاثاً .(2/82)
وَفِي لَفْظٍ (( لا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , مَالِي ؟ قَالَ : لا مَالَ لَكَ . إنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ فَهُوَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا )) .
325 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (( أَنَّ رَجُلاً رَمَى امْرَأَتَهُ , وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ ( فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ( فَتَلاعَنَا , كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى , ثُمَّ قَضَى بِالْوَلَدِ لِلْمَرْأَةِ , وَفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلاعِنَيْنِ )) .
------------------------------------
الفوائد :
1- تعريفه : اللعان مشتق من اللعن ، وهو الطرد والإبعاد . سمي بذلك :
قيل : لأن اللعن الطرد والإبعاد وهو مشترك بينهما .
وقيل : لأن كل واحد منهما يلعن نفسه في الخامسة إن كان كاذباً .
وقيل : لأن الزوجين لا ينفكان من أن يكون أحدهما كاذباً ، فتحصل اللعنة عليه وهي الطرد والإبعاد .
وشرعاً : هو شهادات مؤكدة من الجانبين مقرونة بلعن الزوج وغضب الزوجة .
وسببه : أن يقذف الرجل زوجته بالزنا ، سواء قذفها بمعين ، كقوله : زنى بك فلان ، أو بغير معين ، كقوله : يا زانية .
فإذا قذف زوجته بالزنا ، فإن أقرت الزوجة أقيم عليها الحد ، أو أن يأتي الزوج ببينة فتحد ، أو تنكر إما أن تلاعن أو يقام عليها الحد ، فإن لاعن ولاعنت ثبت اللعان ، وله أحكام ستأتي .
2- وهو مشروع بالكتاب والسنة والإجماع .
- قال تعالى : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ ( .
- ولحديث الباب .(2/83)
- ولحديث ابن عباس : ( أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي ( بشريك بن سحماء ، فقال النبي ( : البينة أو حد في ظهرك ، فقال : يا رسول الله ، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة ؟ فجعل النبي ( يقول : البينة وإلا حد في ظهرك ، فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ، فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد ، فنزل جبريل وأنزل عليه : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ ... ( فانصرف النبي ( فأرسل إليها ، فجاء هلال فشهد ... ) .رواه البخاري
- ولحديث سهل بن سعد قال : ( إن عُوِيْمراً سأل رسول الله ( ، فقال : يا رسول الله ، رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع ؟ فقال رسول الله ( : كيف أنزل القرآن فيك وفي صاحبتك ... ) . متفق عليه
قال الحافظ : " وأجمعوا على مشروعية اللعان " .
3- يشترط للعان أن يكون بين زوجين ، لقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ... ( .
قال في المغني : " لا لعان بين غير زوجين ، فإذا قذف أجنبية محصنة ، حدّ ولم يلاعن " .
4- من شروط اللعان أن يقذف زوجته بالزنا ، للحديث السابق : ( أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي ( بشريك بن سحمان ... ) .
فلو قال أتيت بشبهة ، أو قبلك فلان ، فإنه لا يثبت اللعان ، لأن هذا لا يثبت به حد القذف .
5- يشترط لصحة اللعان ، أن يبدأ الزوج باللعان .
- لأن الله بدأ به فقال : ( ... فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَات ... ( .
- ولحديث الباب : فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات .
- ولأن لعان الرجل بيّنة لإثبات زناها ، ولعان المرأة للإنكار ، فقدمت بيّنة الإثبات .
- ولأن لعان المرأة لدرء العذاب عنها ، ولا يتوجه عليها ذلك إلا بلعان الرجل .
فلو بدأت به المرأة لم يصح ، وهذا مذهب الشافعي ، وذهب أبو حنيفة إلى أنه لو بدأت به المرأة صح ، لكن القول الأول أصح .
6- صفة اللعان :
كما ورد في حديث الباب :(2/84)
أن الإمام يبدأ بالزوج فيقيمه ويقول له : قل أربع مرات : أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي هذه ، فإذا شهد أربع شهادات ، وقفه الحاكم وقال له : اتق الله فإنها الموجبة ، عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، ويضع يده على فيه حتى لا يبادر بالخامسة ، ثم يرسل يده ، ويقول له : قل : وإن لعنة الله عليّ إن كنت من الكاذبين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا .
ثم يأمر الزوجة ويقول لها : قولي : أشهد بالله أن زوجي هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا ، فإذا كررت أربع مرات أوقفها ووعظها كما في ذكرنا في حق الزوج ، ويأمر امرأة تضع يدها على فيها ، فإن رآها تمضي على ذلك ، قال لها : قولي : وإن غضب الله عليّ إن كان زوجي هذا من الصادقين فيما رماني به من الزنا .
7- إذا تم اللعان فإنه يترتب عليه :
أولاً : الفرقة بين المتلاعنين أبداً .
ففي حديث ابن عمر - ثاني أحاديث الباب - : ( ... فأمرهما رسول الله ( فتلاعنا ، وفرق بين المتلاعنين ) .
وعن علي وابن مسعود قالا : ( مضت السنة في المتلاعنين أن لا يجتمعا أبداً ) . رواه البيهقي
وهذا مذهب جماهير العلماء ، أن الفرقة أبدية .
وذهب سعيد بن المسيب ، وتبعه أبو حنيفة ، إلى أنه إذا تاب الملاعن ، واعترف بعد الملاعنة ، فإنه يجلد ويلحق به الولد وتُطلّق امرأته تطليقة بائنة ويخطبها مع الخطاب ، ويكون ذلك متى أكذب نفسه ، لكن هذا القول ضعيف .
ثانياً : سقوط الحد عن الزوج .
8- اختلف العلماء هل يقع التفريق بمجرد قذف الرجل لامرأته ، أم بعد حلفه وشهادته ، أو بعد ملاعنتهما معاً ؟
فأكثر العلماء على أن التفريق يقع بعد ملاعنتهما معاً ، للأحاديث السابقة .
وقال الشافعي تحصل الفرقة بلعان الزوج وحده وإن لم تلتعن المرأة .
والأول أصح .
9- هل اللعان في حد ذاته تفريق ، أم يلزمه فيه حكم الحاكم ؟ قولان للعماء :
فذهب جمهور العلماء إلى أن اللعان في حد ذاته موجب للفرقة .(2/85)
قال النووي : " قوله ( : ( ذاكم التفريق بين كل متلاعنين ) فمعناه عند مالك والشافعي والجمهور ، بيان أن الفرقة تحصل بنفس اللعان بين كل متلاعنين " .
وقيل : يلزم قضاء القاضي ويشهد لهم .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
واستدلوا بحديث ابن عمر : ( أن رسول الله ( لاعن بين رجل وامرأة وفرق بينهما ) .
والراجح الأول .
10- في قول الرجل : ( يا رسول الله ، مالي ، قال : لا مال لك ... ) .
دليل على أن الرجل لا يأخذ من المهر شيئاً ، وبين النبي ( السبب بقوله : ( إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها ، وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها ) .
قال الحافظ ابن حجر : " قوله : ( مالي ) كأنه لما سمع : لا سبيل لك عليها ، قال : أيذهب مالي ؟ والمراد به الصداق " .
وقال الحافظ أيضاً في باب صداق الملاعنة : " وقد انعقد الإجماع على أن المدخول بها تستحقه جميعه " .
11- خص الرجل باللعن ، وخصت المرأة بالغضب .
قال الحافظ ابن حجر : " وإنما خصت المرأة بلفظ الغضب ، لعظم الذنب إليها ، لأن الرجل إذا كان كاذباً لم يصل ذنبه إلى أكثر من القذف ، وإن كانت هي كاذبة فذنبها أعظم لما فيه من تلويث الفراش والتعرض لإلحاق من ليس من الزوج به ، فتنتشر المحرمية ، وتثبت الولاية والميراث لمن لا يستحقها .
12- أن الولد بعد الملاعنة يلحق بأمه .
وهذا مذهب الجماهير .
لحديث ابن عمر : ( أن النبي ( لاعن بين رجل وامرأته ، فانتفى من ولدها ففرق بينهما وألحق الولد بأمه ) .
13- ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يشترط في اللعان أن يقول الرجل : رأيتها تزني ، بل يكتفى أن يقول : إنها زانية أو زنت .
14- يسن للإمام تذكير المتلاعنين بالله ، وتخويفهما من الكذب على الله .
فقد قال النبي ( للمتلاعنين : ( إن الله يعلم أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب ) . متفق عليه
15- يسن وضع اليد على فم الملاعن بعد الشهادة الرابعة ، وقبل الخامسة ، ويقول له : إنها الموجبة .(2/86)
فعن ابن عباس : ( أن النبي ( أمر رجلاً حين أمر المتلاعنين أن يتلاعنا أن يضع يده عند الخامسة على فيه ، وقال : إنها الموجبة ) . رواه أبو داود
16- فائدة : قال ابن قدامة : " الرجل إذا قذف امرأته ، ثم أكذب نفسه ، فلها عليه الحد ، سواء أكذب نفسه قبل اللعان أو بعده ، وهذا قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي ، ولا نعلم لهم مخالفاً " .
* واختلف الفقهاء فيما إذا أكذب الرجل نفسه ، هل يجتمعان ؟
فقال الجمهور : لا يجتمعان أبداً .
للأحاديث التي سبقت .
وقال أبو حنيفة : إذا كذب نفسه جلد الحد ، وجاز له أن يعقد عليها من جديد .
واستدل أبو حنيفة أنه إذا أكذب نفسه ، فقد بطل حكم اللعان ، فكما يلحق به الولد ، كذلك ترد الزوجة عليه ، وذلك أن السبب الموجب للتحريم إنما هو الجهل بتعيين صدق أحدهما مع القطع بأن أحدهما كاذب ، وإذا انكشف ارتفع التحريم .
وقول الجمهور أصح .
17- من فوائد الحديث : أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة .
18- أن الرسول ( لا يعلم الغيب .
19- لا يجوز أن تنقص الشهادة عن العدد الذي ذكره الله ، وهي أربع شهادات .
والحكمة في كونها أربع شهادات ، لأنها في مقابل أربعة شهود .
20- كراهة المسائل التي لم تقع والبحث عنها .
فوائد :
الفائدة الأولى :
المراد بالعذاب في قوله تعالى : ( وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ ( لمراد حد الزنا .
الفائدة الثانية :
يجب اللعان في حالتين :
- إذا ثبت زناها ووجد الولد ، فيلزمه اللعان لإقامة الحد ونفي الولد ، لأنه ليس منه ويحرم عليه تركه .
- ويجب إذا تأكد أن الولد ليس منه ، ولم يعلم بزناها ، فيلاعن على نفي الولد ، فلعلها وطئت بشبهة أو أكرهت .
- ويجوز إذا ثبت الزنا وليس ثمة ولد .
فيجوز أن يلاعنها لإقامة الحد عليها لكونها أغاضته وأفسدت عليه فراشه ، وله السكوت ، لكن يطلقها إن لم تتب .
- ويحرم اللعان بالشك ، أو بخبر غير الثقة كالعدو .
الفائدة الثالثة :(2/87)
إن نكل الزوج وامتنع عن الأيمان : عليه حد القذف ، لقوله ( : ( البينة أو حد في ظهرك ) .
وإن نكلت الزوجة عن الأيمان :
فقيل : يقام عليها حد الزنا .
وهذا مذهب مالك والشافعي .
لقوله تعالى : ( وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ... ( . (النور: من الآية8)
وقيل : تحبس حتى تموت .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
التعريض بالقذف ليس قذفاً
326 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( قَالَ (( جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ إلَى النَّبِيِّ ( فَقَالَ : إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلاماً أَسْوَدَ . فَقَالَ النَّبِيُّ ( هَلْ لَك إبِلٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَمَا أَلْوَانُهَا ؟ قَالَ : حُمْرٌ . قَالَ : فَهَلْ يَكُونُ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ ؟ قَالَ : إنَّ فِيهَا لَوُرْقاً . قَالَ : فَأَنَّى أَتَاهَا ذَلِكَ ؟ قَالَ : عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ . قَالَ : وَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
جاء رجل : جاء عند النسائي : ( جاء رجل من أهل البادية ) .
إن امرأتي : قال الحافظ : " لم أقف على اسم المرأة ولا على اسم الغلام " .
جاء في رواية : ( قال وإني أنكرته ) أي استنكرته بقلبي . قال الحافظ : " ولم يرد أنه أنكر كونه ابنه بلسانه ، وإلا لكان تصريحاً بالنفي لا تعريضاً " .
أوْرق : بوزن أحمر ، والأورق الذي فيه سواد ليس بحالك ، بل يميل إلى الغبرة .
فأنى أتاها : أي من أين أتاها اللون الذي خالفها .
عسى أن يكون نزعه عرق : العرق المراد به الأصل من النسب ، شبهه بعرق الشجرة ، والنزع الجذب .
الفوائد :
1- هذا الحديث ذكره المصنف بعد أحاديث اللعان ، لأن أحاديث اللعان تبيح للإنسان إذا تحقق من زنا زوجته أن يلاعنها لينفي الولد عنه والعار ، وهذا الحديث يزيل الشبهة في كثير من الأمور ، فالريبة واللون لا يكفي لنفي الولد .(2/88)
2- هذا الرجل جاء يعرض بالقذف ، ويدل لذلك قوله : ( إن امرأتي ولدت غلاماً أسود ) أي وأنا أبيض ، فكيف يكون مني؟
وجاء في رواية لمسلم : ( وهو حينئذ يعرض بأن ينفيه ) ، وجاء في رواية : ( إني أنكرته ) .
3- اختلف العلماء هل التعريض يعتبر قذفاً أم لا ؟ على قولين :
القول الأول : أن التعريض بالقذف ليس قذفاً .
وبهذا قال جمهور العلماء .
واستدلوا أن هذا الرجل أنكر الولد في قلبه وعظم عليه الأمر في نفسه ، ولم يسترخص له النبي ( بالانتفاء منه .
ولأن التعريض ليس كالتصريح ، فالتصريح يحتمل معنى واحداً ، والتعريض يحتمل معنيين ، فكيف يصرف اللفظ إلى أحدهما دون الآخر بلا برهان ولا دليل ، فالتعريض لا يعطى حكم التصريح .
القول الثاني : أن التعريض قذف يثبت به الحد .
لورود ذلك عن بعض الصحابة ، كعمر وعثمان .
والراجح الأول .
4- أن الزوج لا يجوز أن ينتفي من ولده بمجرد الظن والشبهة ، كاختلاف البشرة .
5- أن الشرع احتاط في باب الأنساب ، فمنع أن يحكم الزوج على ضوء الريبة التي حصلت له ، ولو ترك هذا لضاعت أنساب كثيرة .
6- أن الأصل أن الولد للفراش ، وهو باق ما لم يرد أقوى منه فيصار إليه .
7- لا حرج على الإنسان في الشك إذا وجدت أسبابه .
8- أن اختلاف اللون من أسباب الشك .
9- أن الأصل عدم مخالفة الولد لأبيه وأمه في اللون ، لكن لعله نزعه عرق .
10- حسن تعليم النبي ( ، وكيف يخاطب الناس بما يعرفون ويفهمون .
11- فيه ضرب الأمثال ، وتشبيه المجهول بالمعدوم ، ليكون أقرب إلى الفهم .
12- فيه دليل على جواز القياس .
وهذا مذهب الأئمة الأربعة .
وخالف ابن حزم ونفى القياس ، وقوله مرجوح ، فالقياس حجة ، ويدل لذلك :
قوله تعالى : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ( . (الحديد: من الآية25)
الميزان : ما توزن به الأمور ويقايس به بينها .(2/89)
ولحديث الباب .
قال ابن العربي : " فيه دليل على صحة القياس " .
327 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (( اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فِي غُلامٍ . فَقَالَ سَعْدٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا ابْنُ أَخِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ , عَهِدَ إلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ , انْظُرْ إلَى شَبَهِهِ . وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ : هَذَا أَخِي يَا رَسُولَ اللَّهِ , وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي مِنْ وَلِيدَتِهِ , فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ ( إلَى شَبَهِهِ , فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ فَقَالَ : هُوَ لَك يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ , الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ . وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ ، فَلَمْ يَرَ سَوْدَةَ قَطُّ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
اختصم سعد بن أبي وقاص : أحد السابقين إلى الإسلام ، وأحد المبشرين بالجنة .
في غلام : أي فيمن يستلحقه .
عهد إلي : أي أوصى إلي أنه ابنه .
جاء في رواية : ( فلما كان يوم الفتح رأى سعد الغلام فعرفه بالشبه ، فاحتضنه وقال : ابن أخي ورب الكعبة ) .
ولد على فراش أبي : يراد بالفراش صاحبه ، وهو الزوج والسيد .
وليدته : الجارية التي وطئها سيدها ، فجاءت منه بولد .
الولد للفراش : فراش الزوجية إذا كانت زوجة ، وفراش التسري إذا كانت أمة .
وللعاهر : أي الزاني .
الحَجَر : أي للزاني الخيبة والحرمان ، ومعنى الخيبة هنا حرمان الولد الذي يدعيه ، وجرت العرب أن تقول لمن خاب : له الحجر ، وبفيه الحجر والتراب . وقيل : المراد بالحجر هنا أنه يرجم ، لكنه قول ضعيف .
ويؤيد الأول ما أخرجه أحمد من قوله ( : ( الولد للفراش وفي فم العاهر الحَجَر ) .
احتجبي منه يا سودة : هي بنت زمعة زوجة رسول الله ( .
الفوائد :(2/90)
1- معنى الحديث : كانوا في الجاهلية يضربون على الإماء ضرائب يكتسبها من فجورهن ، ويلحقون الولد بالزاني إذا ادعاه .
فزنا عتبة بن أبي وقاص بأمَةٍ لزمعة بن الأسود ، فجاءت بغلام ، فأوصى عتبة إلى أخيه سعدبأن يلحق هذا الغلام بنسبه ، فلما جاء فتح مكة ، ورأى سعد الغلام ، عرفه بشبهه بأخيه ، فأراد استلحاقه .
فاختصكم عليه هو ، وعبد بن زمعة ، فأدلى سعد بحجته ، وهي : أن أخاه أقر بأنه ابنه ، وبما بينهما من شبه .
فقال عبد بن زمعة : هو أخي ، ولد من وليدة أبي .
فنظر النبي ( إلى الغلام ، فرأى فيه شبهاً بيّناً بعتبة ، وحيث أن الأصل أنه تابع لمالك الأمّة ، قضى به لزمعة ، وقال : الولد للفراش وللعاهر الزاني الخيبة والخسار ، لكن لما رأى شبه الغلام بعتبة ، تورع النبي ( أن يستبيح النظر إلى زوجته سودة ، فأمرها بالاحتجاب منه احتياطاً وتورعاً .
2- أن الولد للفراش ، لكن بشرط :
إمكان اللحاق بصاحب الفراش .
كأن يتزوج شخص امرأة وولدت غلاماً بعد ثلاثة أشهر ، فهذا لا يمكن أن يكون من هذا الزوج ، لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر .
3- اختلف العلماء متى تكون الزوجة فراشاً ؟ على قولين :
القول الأول : بمجرد العقد تكون فراشاً ، ويلحق الولد بالزوج .
لعموم قوله ( : ( الولد للفراش ... ) .
القول الثاني : لا تصير فراشاً حتى يتحقق اجتماعه معها مع الوطء .
وهذا مذهب الجمهور .
وهو الصحيح ، لأن الفراش لا يتحقق إلا بالمجامعة .
وعلى القول الأول : لو عقد على امرأة وهو في أقصى المغرب ، وهي في أقصى المشرق ، ثم ولدت له بعد العقد بنصف سنة ، فإن الولد يلحق به وإن لم يسافر إليها . [ لكن هذا القول ضعيف ] .
4- أن الأصل فيما ولد على فراش الإنسان أن الولد له ، والشبهة التي تعتري الإنسان ينبغي ألا يلقي لها بالاً ، لأن الشرع احتاط للنسب احتياطاً بالغاً .
5- أن حكم الشبه إنما يعتمد عليه ، إذا لم يكن هناك أقوى منه كالفراش .(2/91)
6- استدل بهذه القصة على أن الاستلحاق لا يختص بالأب ، بل للأخ أن يستلحق .
وهذا قول الشافعية وجماعة .
وخص مالك الاستلحاق بالأب .
7- أن الأمة تصير فراشاً بالوطء ، فإذا اعترف السيد بوطء أمتهِ أو ثبت ذلك بأي طريق كان ، ثم أتت بولد لمدة الإمكان بعد الوطء ، لحقه من غير استلحاق .
8- أنه إذا زنى رجل بامرأة ، فولدت منه ، فإنه لا يلحقه ولو استلحقه .
لقوله ( : ( وللعاهر الحجر ) .
9- حكم النبي ( لعبد بن زمعة ، وأمر سودة بالاحتجاب عنه مع أنها أخته .
أجاب العلماء :
أن النبي ( أمرها بالاحتجاب أحتياطاً وورعاً ، وأشار الخطابي إلى أن في ذلك مزية لأمهات المؤمنين ، لأن لهن في ذلك ما ليس لغيرهن ، قال : " والشبه يعتبر به في بعض المواطن ، لكن لا يقضى به إذا وجد ما هو أقوى منه " .
10- قال النووي : " قوله ( الولد للفراش ) معناه أنه إذا كان للرجل زوجة أو مملوكة ، صارت فراشاً له ، فأتت بولد لمدة الإمكان منه لحقه الولد وصار ولداً يجري بينهما التوارث وغيره من أحكام الولادة ، سواء كان موافقاً له في الشبه أو مخالفاً ومدة إمكان كونه منه ستة أشهر من حين اجتماعهما " .
328 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ : (( إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( دَخَلَ عَلَيَّ مَسْرُوراً , تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ . فَقَالَ : أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزاً نَظَرَ آنِفاً إلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ , فَقَالَ: إنَّ بَعْضَ هَذِهِ الأَقْدَامِ لَمِنْ بَعْضٍ )) .
وَفِي لَفْظٍ : (( كَانَ مُجَزِّزٌ قَائِفاً )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
مسروراً : أي فرحاً .
تبرق : بفتح التاء وضم الراء ، أي تضيء وتستنير من السرور .
أسارير : أي الخطوط التي في الجبهة .(2/92)
مُجَزِّرَاً : بضم الميم ، ثم جيم مفتوحة ، ثم زاي مشددة ، وهو من بني مدلج ، بضم الميم وإسكان الدال وكسر اللام . قال العلماء : وكانت القيافة فيهم وفي بني أسد تعترف لهم العرب بذلك .
نظر أنفاً : أي قريباً .
الفوائد :
1- في هذا الحديث دليل على ثبوت العمل بالقافة .
وقد اختلف العلماء في العمل بقول القائف :
القول الأول : أنه يعمل به .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لحديث الباب ، لأن النبي ( فرح ، ولا يفرح النبي ( إلا بحق .
القول الثاني : لا يعمل بعمل القائف .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
والراجح الأول .
2- أن العمل بالقيافة ، إذا لم يكن ما هو أقوى منها .
3- سبب فرح النبي ( :
قال النووي : " وكانت الجاهلية تقدح في نسب أسامة لكونه أسود وشديد السواد ، وكان زيد أبيض ، فلما قضى هذا القائف نسبه مع اختلاف اللون ، وكانت الجاهلية تعتمد قول القائف ، فرح النبي ( لكونه زاجراً لهم عن الطعن في
النسب " .
4- يشترط في القائف :
- أن يكون عدلاً .
قال النووي : " واتفق القائلون بالقائف على أنه يشترط فيه العدالة " .
- أن يكون خبيراً بهذا مجرباً .
قال النووي : " واتفقوا على أنه يشترط أن يكون خبيراً بهذا مجرباً " .
- واختلف هل يكتفى فيه بواحد :
فقيل : يكفي واحد . لحديث الباب . وقيل : يشترط اثنان .
والأول أصح .
حكم العزل
329 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ( قَالَ : (( ذُكِرَ الْعَزْلُ لِرَسُولِ اللَّهِ ( . فَقَالَ : وَلِمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ ؟ - وَلَمْ يَقُلْ : فَلا يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ ، فَإِنَّهُ لَيْسَتْ نَفْسٌ مَخْلُوقَةٌ إلاَّ اللَّهُ خَالِقُهَا )) .
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ : (( كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ , لَوْ كَانَ شَيْئاً يُنْهَى عَنْهُ لَنَهَانَا عَنْهُ الْقُرْآنُ )).
------------------------------------
معاني الكلمات :(2/93)
العزل : هو النزع بعد الإيلاج لينزل خارج الفرج . [ قاله ابن حجر ]
لِمَ يفعل ذلك أحدكم : استفهام بمعنى الانكار .
الفوائد :
1- اختلف العلماء في حكم العزل على قولين :
القول الأول : أنه حرام .
وهذا مذهب ابن حزم .
لحديث جذامة بنت وهب قالت : ( سُئل رسول الله ( عن العزل ، فقال : ذلك الوأد الخفي ) . رواه مسلم
القول الثاني : أنه جائز من الزوجة الحر بإذنها .
وهذا مذهب جمهور العلماء .
لحديث جابر : ( كنا نعزل والقرآن ينزل ) .
وهذا القول هو الصحيح ، لكن تركه أولى لأمرين :
أولاً : أن فيه إدخال ضرر على المرأة لما فيه من تفويت لذتها .
ثانياً : أنه يفوت بعض مقاصد النكاح .
2- قوله : ( فإنه ليس نفس مخلوقة ... ) فيه إشارة إلى أن الأولى ترك العزل ، لأن العزل إذا كان خشية حصول الولد فلا فائدة في ذلك ، لأن الله إن كان قدر خلق الولد لم يمنع العزل ذلك ، فقد يسبق الماء ولا يشعر العازل فيحصل العلوق ويلحقه الولد ولا راد لما قضى الله .
وقد جاء عند أحمد في مسنده من حديث أنس : ( أن رجلاً سأل عن العزل ، فقال النبي ( : لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج الله منها ولداً ) .
3- اختلف العلماء في علة النهي عن العزل :
فقيل : لتفويت حق المرأة . وقيل : لمعاندة القدر .
قال الحافظ ابن حجر : " وهذا الثاني هو الذي تقتضيه معظم الأخبار الواردة في ذلك " .
4- في حديث جذامة بنت وهب السابق ، سمى النبي ( العزل الوأد الخفي .
وجاء في حديث آخر رواه الترمذي : سئل عنه جابر قال : ( كانت لنا جواري وكنا نعزل ، فقالت اليهود : إن تلك المؤودة الصغرى ، فسئل رسول الله ( عن ذلك فقال : كذبت اليهود ... ) .
فكيف الجمع بين حديث جذامة ، وفيه : أن النبي ( سمى العزل الوأد الخفي ، وبين حديث جابر في تكذيب اليهود في قولهم ؟
أجاب العلماء بأجوبة :(2/94)
من العلماء : من حمل حديث جذامة على الكراهة ، ومنهم : من ضعف حديث جذامة ، ومنهم : من رجح حديث جذامة ، لأنه في صحيح مسلم .
قال ابن القيم : " الذي كذبت فيه اليهود زعمهم أن العزل لا يتصور معه الحمل أصلاً ، وجعلوه بمنزلة قطع النسل بالوأد ، فأكذبهم وأخبر أنه لا يمنع الحمل إذا شاء الله خلقه " .
5- أنَّ قدر الله واقع لا محالة .
6- أن سكوت الوحي عن التحريم يدل على أنه حلال ، إذ لو كان حراماً لبينه .
7- أن ما وقع في عهد النبي ( يعتبر حجة .
- لأنه إن كان قد علم النبي ( فهذا المطلوب .
- وإذا لم يعلم ، فإن الله قد علم فأقره ، ولو هذا أمراً لا يرضاه لم يقره على فعله .
ولهذا استدل جابر على جواز العزل بأنهم كانوا يعزلون والقرآن ينزل .
8- أن القرآن نزل على رسوله ليبين الشرائع والأحكام .
9- أن القرآن منزل غير مخلوق .
330 - عَنْ أَبِي ذَرٍّ ( : أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ( يَقُولُ (( لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ - وَهُوَ يَعْلَمُهُ - إلاَّ كَفَرَ . وَمَنْ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ : فَلَيْسَ مِنَّا , وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ وَمَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ , أَوْ قَالَ : عَدُوَّ اللَّهِ , وَلَيْسَ كَذَلِكَ, إلاَّ حَارَ عَلَيْهِ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
ادعى : انتسب .
لغير أبيه : أي قال إنه فلان بن فلان وهو يعلم أنه ليس ابن فلان .
كفر : سيأتي معناها في آخر الحديث .
ليس منّا : أي ليس على طريقتنا وهدينا ، وليس المراد إخراجه من الدين .
حار عليه : أي رجع عليه ، ومنه قوله تعالى : ( إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ ( . (الانشقاق:14)
الفوائد :
1- في الحديث التحذير الشديد من أن يرغب الإنسان من الانتساب إلى غير أبيه ، كأن يصير الولد في رفعة جليلة من غنى أو جاه ونحو ذلك ، وأبوه من الأدنياء ، فيرغب عن الانتساب إليه .(2/95)
2- أن الانتساب إلى غير الأب من الكبائر ، لقوله ( : ( إلا كفر ) .
3- عقوبة الانتساب إلى غير الأب :
أولاً : أنه من الكبائر .
لحديث الباب .
وقد جاء في حديث آخر : ( لا ترغبوا عن آبائكم ، فمن رغب عن أبيه فهو كافر ) .
ثانياً : حرام عليه الجنة .
قال ( : ( من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام .
ثالثاً : عليه لعن الله والملائكة والناس .
قال ( : ( من ادعى إلى غير أبيه ، أو انتمى إلى غير مواليه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، ولا يقبل الله منه يوم القيمة صرفاً ولا عدلاً ) . متفق عليه صرفاً : الفريضة . عدلاً : النافلة .
فإن قال قائل : ما الجواب عن قول النبي ( : ( أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب ) ؟
فالجواب :أنه لا بأس أن ينتمي الإنسان إلى جده ، وأبي جده ، من أجل أنه مشهور ومعروف دون أن ينتفي من أبيه .
4- تحريم أن يدعي الإنسان شيئاً وهو ليس له ، كأن يدعي أن هذه الأرض له ، وهي ليست له ، أو أن هذه السيارة له ، وهي ليست له ، ومن ذلك :
أن يدعي عملاً وهو ليس أهلاً له ، كأن يدعي أنه طبيب وهو ليس بطبيب .
أو يدعي أنه مفتي وهو ليس بمفتٍ ، ليكسب وراء ذلك مالاً .
5- أن من يدعي ما ليس له فإن مصيره النار .
قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ( . (النساء:10)
6- تحريم إطلاق الكفر أو عدم الإيمان على المسلم بغير بينة أو برهان واضح .
وقد قال ( : ( إذا قال الرجل لأخيه يا كافر ، فقد باء بها أحدهما ، فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه ) . متفق عليه
قال القرطبي : " والحاصل أن المقولة له ، إن كان كافراً كفراً شرعياً فقد صدق القائل ، وذهب بها المقول له ، وإن لم يكن رجعت للقائل معرة ذلك القول وإثمه " .
7- التحذير من التكفير والإخراج من الملة ، فإن هذا أمر خطير .(2/96)
8- استدل بالحديث الخوارج على أن فاعل الكبيرة كافر .
ومذهب أهل السنة والجماعة أن فاعل الكبيرة ليس بكافر ، بل مؤمن ناقص الإيمان .
وأجاب أهل السنة والجماعة عن حديث الباب وأشباهه التي فيها لفظ الكفر على بعض الكبائر :
- أن المراد المستحل .
- أو المراد الزجر من فعلها .
- أو المراد كفر النعمة .
??
??
??
??
160
16(2/97)
بسم الله الرحمن الرحيم
( 7 )
إيقاظ الأفهام
في شرح
عمدة الأحكام
كتاب الرضاع - كتاب القصاص
كتاب الحدود - كتاب الأيمان والنذور
بقلم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية / رفحاء
الموقع على الإنترنت
www.almotaqeen.net
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد ة وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد
ضمن شرح كتاب عمدة الأحكام المسمى : إيقاظ الأفهام بشرح عمدة الأحكام ، فهذه المذكرة السابعة وما قبل الأخيرة
نسأل الله أن ينفع بها
أخوكم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية / رفحاء
كتابُ الرَّضاعِ
331 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : (( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( فِي بِنْتِ حَمْزَةَ : لا تَحِلُّ لِي , يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ , وَهِيَ ابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ )) .
332 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( إنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلادَةِ )) .
-----------------------------------------
1- الرضاع لغة : اسم لمص الثدي وشرب لبنه .
واصطلاحاً : هو مص طفل صغير لبن امرأة أو شربه ونحوه .
2- الحديث دليل على أن الرضاع محرم كالنسب ، وهذا ثابت بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ) . ذكرهما في جملة المحرمات .
وأما السنة أحاديث الباب وغيرها .
وأجمع علماء الأمة على التحريم بالرضاع .
3- يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب .
فعدد المحرمات من الرضاع سبع ، وهن المحرمات من النسب ، لقوله ( : ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) .
قال ابن قدامة : " كل امرأة حرمت من النسب حرم مثلها من الرضاع ، وهن : الأمهات ، والبنات ، والأخوات ، والعمات ، والخالات ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت " .(3/1)
قال : " لأن الأمهات والأخوات منصوص عليهن ، والباقيات يدخلن في عموم سائر المحرمات ، ولا نعلم في هذا خلافاً ".
4- إذا أرضعت امرأة ولداً [ بشروط الرضاع المعروفة ] صار هذا الطفل ولداً لها في النكاح والنظر والخلوة وفي المحرمية .
في النكاح : أي تحريمه .
في النظر : أي في جوازه .
في الخلوة : أي في جوازها .
في المحرمية : أي ثبوتها .
ولا يكون ولداً لها في وجوب النفقة والبر والميراث والولاية وعدم دفع الزكاة .
فإذا ارتضع من المرأة صارا أبويه ( من الرضاع ) وآباؤهما أجداده وجداته .
وإخوة المرأة وأخواتها أخواله وخالاته .
وإخوة الرجل وأخواته أعمامه وعماته .
وأما بالنسب للمرتضع فتنتشر الحرمية إلى فروعه فقط دون أصوله وحواشيه .
فالقاعدة إذاً :
الرضاع ينتشر إلى المرتضع وفروعه فقط دون أصوله وحواشيه ، وينتشر إلى أصول وفروع وحواشي المرضعة .
5- قوله : ( يحرم من الرضاع ... ) استدل به من قال : إن قليل الرضاع وكثيره محرِّم .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أن قليل الرضاع وكثيره محرِّم .
وهذا مذهب جمهور العلماء .
واستدلوا بالعمومات ، كقوله تعالى : (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ ...) ففي هذه الآية علقت التحريم على مطلق الإرضاع ، فحيث وجد وجد حكمه .
وعموم قوله ( : ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) .
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ ( (أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إهَابٍ , فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ , فَقَالَتْ : قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا , فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ( قَالَ : فَأَعْرَضَ عَنِّي . قَالَ : فَتَنَحَّيْت , فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ . قَالَ : كَيْفَ ؟ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا ) .(3/2)
وجه الدلالة : أن النبي ( أمر الزوج أن يترك زوجته لمجرد علمه بأنهما رضعا من ثدي واحد دون أن يسأل عن عدد الرضعات ، فدل ذلك على أن مطلق الإرضاع يثبت به التحريم .
وعموم قوله ( : ( إنما الرضاعة من المجاعة ) . متفق عليه
القول الثاني : أن المحرم ثلاث رضعات .
وهو قول داود ، وأبي ثور ، وابن المنذر .
لحديث عائشة أن النبي ( قال : ( لا تحرم المصة والمصتان ) . رواه مسلم
وجه الدلالة : أن النبي ( صرح فيها أن المصة والمصتان لا تحرمان ، فيكون ما فوقهما مُحرِّم ، وهو الثلاث ، لأن ذلك لو لم يكن محرماً لبينه النبي ( .
القول الثالث : أن المحرم خمس رضعات .
قال ابن قدامة : " هذا هو الصحيح في المذهب ، وروي هذا عن عائشة وابن الزبير وابن مسعود وعطاء وطاووس " .
لحديث عائشة قالت : ( كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ، ثم نسخت بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله ( وهنّ مما يقرأ من القرآن ) . رواه مسلم
وهذا القول هو الصحيح .
أما أدلة القول الأول : فهي عمومات ، وقد قيدت بالسنة بعدد معين من الرضاعة ، كما في حديث عائشة .
وأما أدلة القول الثاني ( لا تحرم المصة والمصتان ) : هذا الاستدلال بالمفهوم ، وهو لا يعمل به إلا عند القائلين به ، إلا إذا لم يكن هناك منطوق يعارضه ، وقد جاء ما يعارضه مثل حديث عائشة المثبت للتحريم بخمس رضعات .
6- قوله ( يحرم من الرضاع ... ) يشمل ما إذا كان اللبن ناشئاً عن حمل ، أو كان من بكر .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : يشترط أن يكون ناشئاً عن حمل .
وهذا المذهب .
القول الثاني : لا يشترط ، فلو كان من بكر ثبت التحريم .
وهذا مذهب جمهور العلماء .
لعموم قوله تعالى : (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ ...) .
وقد قال ابن قدامة : " ولأنه لبن امرأة متعلق به التحريم كما لو ثاب بوطء " .
وهذا القول هو الصحيح .(3/3)
7- الأحاديث تدل بعمومها على أن التحريم يثبت بلبن المرأة ولو كانت ميتة .
وهذا مذهب جمهور العلماء .
لعموم الأحاديث المثبة للتحريم بالرضاع ، فهي لم تفرق بين لبن من هي على قيد الحياة ، ومن فقدت الحياة .
وذهب الشافعية إلى أن المرأة الميتة لا يثبت بلبنها تحريم .
والصحيح الأول .
8- ذهب جمهور العلماء إلى أن الصغير إذا ارتضع من رجل فإنه لا يثبت به التحريم .
لقوله تعالى : ( وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ ... ( ولفظ الأم لا يتناول إلا الإناث ، فيكون لبن الرجل خارجاً عن مجال التحريم .
333 - وَعَنْهَا قَالَتْ : (( إنَّ أَفْلَحَ - أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ - اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ ؟ فَقُلْت : وَاَللَّهِ لا آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ النَّبِيَّ ( فَإِنَّ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ : لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي , وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ , فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ( فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي , وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَتُهُ . فَقَالَ : ائْذَنِي لَهُ , فَإِنَّهُ عَمُّك , تَرِبَتْ يَمِينُك )) .
قَالَ عُرْوَةُ " فَبِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ : " حَرِّمُوا مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ "
وَفِي لَفْظٍ (( اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ , فَلَمْ آذَنْ لَهُ . فَقَالَ : أَتَحْتَجِبِينَ مِنِّي , وَأَنَا عَمُّك ؟ فَقُلْت : كَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : أَرْضَعَتْك امْرَأَةُ أَخِي بِلَبَنِ أَخِي , قَالَتْ : فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ ( فَقَالَ : صَدَقَ أَفْلَحُ , ائْذَنِي لَهُ , تَرِبَتْ يَمِينُك )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
إن أفلح أخا أبي القعيس : بقاف وعين وسين مهملتين مصغر .(3/4)
والله لا آذن له : في رواية : ( فأبيت أن آذن له ) ولمسلم : ( وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة ) .
ائذني له : وفي رواية : ( صدق أفلح ، ائذني له ) وعند أبي داود : ( دخل علي أفلح فاستترت منه ، فقال : أتستترين مني وأنا عمك ؟ قلت : من أين ؟ قال : أرضعتك امرأة أخي ، فقلت : إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل ) .
الفوائد :
1- معنى الحديث : استرضعت عائشة من زوج أبي القُعَيْس ، وبعد ما أمر الله تعالى نساء النبي ( وبناته ونساء المؤمنين بالحجاب على الرجال الأجانب ، جاء أخو والد عائشة من الرضاعة ، يستأذن عليها من الدخول ، فأبت أن تأذن له ، لأن التي أرضعتها زوجة أبي القعيس لا هو ، واللبن للمرأة لا للرجل فيما يظن .
فدخل عليها رسول الله ( فأخبرته الخبر ، فقال : ( إئذني له ، فإنه عمك ) فعلمت عائشة أن اللبن الذي يرتضع إنما هو من أثر ماء الرجل والمرأة .
2- استدل بحديث الباب جماهير العلماء على أن لبن الفحل محرم .
قال الحافظ ابن حجر : " لبن الفحل ، بفتح الفاء وسكون الحاء ، أي الرجل ، ونسبة اللبن إليه مجازيه لكونه السبب فيه " .
ثم قال رحمه الله : " وفي الحديث أن لبن الفحل يحرم فتنتشر الحرمة لمن ارتضع الصغير بلبنه ، فلا تحل له " .
ثم أشار الحافظ إلى أن خلاف قديم في هذه المسألة ، ثم نقل الحافظ عن القاضي عبد الوهاب ، فقال : " يتصور توضيح لبن الفحل برجل له امرأتان ترضع إحداهما صبياً والأخرى صبية ، فالجمهور قالوا يحرم على الصبي تزوج الصبية " .
فجمهور العلماء ، ومنهم الأئمة الأربعة إلى أن لبن الفحل يحرم .
لحديث الباب .
وسئل ابن عباس عن رجل له امرأتان ، فارتضعت إحداهما غلاماً ، وأرضعت الأخرى جارية ، فقيل له : هل يتزوج الغلام الجارية ؟ فقال : ( لا ، اللقاح واحد ) . رواه مالك(3/5)
قال في المغني : " إن المرأة إذا أرضعت طفلاً بلبن ثاب من وطء رجل ، ... يصير الطفل ولد الرجل والرجل أباه ، وأولاد الرجل إخوانه ، سواء كانوا من تلك المرأة أو من غيرها ، وإخوة الرجل وأخواته أعمام الطفل وعماته ، وآباؤه وأمهاته أجداده وجداته " .
قال ابن عبد البر : " وإليه ذهب فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق والشام ، وجماعة أهل الحديث " .
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يحرم .
روي عن ابن عمر ، وابن الزبير ، ورافع بن خديج ، وسعيد بن المسيب ، وأبي سلمة .
قال ابن حجر : " احتج بعضهم من حيث النظر بأن اللبن لا ينفصل من الرجل ، وإنما ينفصل من المرأة ، فكيف تنتشر الحرمة إلى الرجل ؟ " .
قال الحافظ في الرد عليهم : " الجواب أنه قياس في مقابلة النص فلا يلتفت إليه ، وأيضاً فإن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة معاً ، فوجب أن يكون الرضاع منهما ، وإلى هذا أشار ابن عباس بقوله في هذه المسألة : ( اللقاح واحد ) وأيضاً فإن الوطء يدر اللبن ، فللفحل فيه نصيب " .
3- جواز التسمي بأفلح .
4- وجوب الاستئذان .
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( . (النور:27)
قال الشنقيطي : " اعلم أن الأظهر الذي لا ينبغي العدول عنه ، أن الرجل يلزمه أن يستأذن على أمه وأخته وبنيه وبناته البالغين ، لأنه إن دخل على من ذكر بغير استئذان ، فقد تقع عينه على عورات من ذكر ، وذلك لا يحل " .
5- الأمر بصلة الرحم .
6- أن من ارتاب في حكم مسألة ، فإنه يرجع إلى أهل العلم .(3/6)
334 - وَعَنْهَا رضي الله عنها قَالَتْ (( دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ( وَعِنْدِي رَجُلٌ , فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ , مَنْ هَذَا ؟ قُلْت : أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ . فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ : اُنْظُرْنَ مَنْ إخْوَانُكُنَّ ؟ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
وعندي رجل : قال الحافظ : " لم أقف على اسمه ، وأظنه ابناً لأبي القعيْس " .
جاء في رواية : ( فكأنه تغير وجهه ) وفي رواية : ( فاشتد ذلك عليه ، ورأيت الغضب في وجه ) وفي رواية أبي داود :
( فشق ذلك عليه وتغير وجهه ) .
انظرن من إخوانكن : والمعنى : تأملن ما وقع من ذلك ، هل هو رضاع صحيح بشرطه .
الفوائد :
1- قوله ( : ( إنما الرضاعة من المجاعة ) أي الرضاعة التي تثبت بها الحرمة ، وتحل بها الخلوة ، هي حيث يكون الرضيع طفلاً يسد اللبن جوعته ، لأن معدته ضعيفة يكفيها اللبن وينبت بذلك لحمه فيصير كجزء من المرضعة ، فيشترك في الحرمة مع أولادها ، فكأنه قال : لا رضاعة معتبرة إلا المغنية عن المجاعة أو المطعمة ) . [ قاله في الفتح ]
2- استدل بقوله ( إنما الرضاعة من المجاعة ) على اشتراط الصغر لثبوت الرضاع .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة ، ما هو زمن الرضاع المحرم ؟ على قولين :
القول الأول : أن الرضاع المحرم ما كان في الحولين .
وهذا مذهب جمهور العلماء من الشافعية والحنابلة وبعض المالكية والصاحبان من الحنفية .
لقوله تعالى : ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ( .
قال ابن كثير : " هذا إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة ، وهي سنتان ، فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك ، ولهذا قال : ( لمن أراد أن يتم الرضاعة ( " ، ثم نقل ابن كثير هذا القول عن جمهور العلماء .(3/7)
ولحديث الباب : ( إنما الرضاعة من المجاعة ) فهذا دليل على أن الرضاعة المعتبرة التي يثبت بها الحرمة ، وتحل بها الخلوة ، هي حيث يكون الرضيع طفلاً يسد اللبن جوعته .
ومثله حديث أم سلمة قالت : قال رسول الله ( : ( لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي ، وكان قبل الفطام ) رواه الترمذي وصححه .
قوله ( الثدي ) أي وقت الحاجة إلى الثدي ، أي في الحولين .
وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله ( : ( لا رضاع إلا ما شد العظم ، وأنبت اللحم ) . رواه أبو داود
القول الثاني : أن رضاع الكبير يحرم .
وهذا قول عائشة ونصره ابن حزم .
لحديث عائشة قالت : ( جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي ( فقالت : يا رسول الله ، إني أرى في وجه حذيفة من دخول سالم [ وهو حليفه ] فقال النبي ( : أرضعيه ، قالت : وكيف أرضعه وهو رجل كبير ، فتبسم رسول الله ( وقال : علمت أنه رجل كبير ) . رواه مسلم
قال النووي : " قالت عائشة وداود : تثبت حرمة الرضاع برضاع البالغ ، كما تثبت برضاع الطفل ، لهذا الحديث " .
والراجح مذهب الجمهور ، وهو أن رضاع الكبير غير مؤثر .
وأما الجواب عن حديث سهلة ، فقد أجاب العلماء بأجوبة :
أولاً : أن هذه الحادثة رخصة خاصة بسالم ، فلا يتعداه إلى غيره ، ولذلك فإن أمهات المؤمنين سوى عائشة ، أبَيْن أن يعملن بهذه الحادثة ، لأنهن كنا يرين أن ذلك رخصة لسالم .
ثانياً : أنه حكم منسوخ ، وبه جزم المحب الطبري في أحكامه ، وقرره بعضهم بأن قصة سالم كانت في أوائل الهجرة ، والأحاديث الدالة على اعتبار الحولين من رواية أحداث الصحابة ، فدل على تأخرها ، وهو مستند ضعيف ، إذ لا يلزم من تأخر إسلام الراوي ، ولا صغره ، أن لا يكون ما رواه متقدماً . [ قاله في الفتح ](3/8)
ثالثاً : قول الشوكاني ، حيث قال : " إن الرضاع يعتبر فيه الصغر إلا فيما دعت إليه الحاجة ، كرضاع الكبير الذي لا يستغنى عن دخوله على المرأة ، ويشق احتجابها منه ، وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية ، وهذا هو الراجح عندي ، وبه يحصل الجمع بين الأحاديث ، وذلك بأن تجعل قصة سالم المذكورة مخصصة لعموم : ( إنما الرضاع من المجاعة ) ( ولا رضاع إلا في الحولين ) ( ولا رضاع إلا ما فتق الأمعاء ) " .
3- قوله ( إنما الرضاعة من المجاعة ) استدل به من قال : إن الرضاع يحرّم إذا وصل إلى الجوف ، حتى ولو كان عن طريق الوَجور أو السعوط .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لقوله تعالى : (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ) ففي هذه الآية ثبوت الإرضاع ، ولم تفرق بين أن يكون الإرضاع عن طريق امتصاص الثدي أو غيره .
ولأن العلة في التحريم بالارتضاع ، وهو وصول اللبن إلى جوف الرضيع ، فيتغذى عليه ويسد جوعته وينبت عظمه ، وذلك متحقق في الوجور والسعوط .
الوجور : هو صب اللبن للطفل في حلقه بآلة تدخل في وسط الفم . السعوط : هو صب اللبن للطفل في أنفه .
4- ينبغي التثبت في أمر الرضاع .
5- ينبغي لمن رأى من امرأته أمراً مريباً أن يتثبت ويتأكد من أمرها .
6- غيرة الرجل على أهله ومحارمه من مخالطة الأجانب .
7- جواز دخول من اعترفت المرأة بالرضاعة معه عليها ، وأنه يصير أخاً لها ، وقبول قولها ممن اعترفت به .
335 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ ( (( أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إهَابٍ , فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ , فَقَالَتْ : قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا , فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ( قَالَ : فَأَعْرَضَ عَنِّي . قَالَ : فَتَنَحَّيْت , فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ . قَالَ : كَيْفَ ؟ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :(3/9)
أم يحي : واسمها غَنية ، بفتح الغين وكسر النون ، وقيل : اسمها زينب .
الفوائد :
1- استدل بالحديث من قال بقبول شهادة المرضعة وحدها .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال :
القول الأول : أن شهادة المرأة الواحدة مقبولة في الرضاع إذا كانت مرضية .
قال ابن قدامة : " وبهذا قال طاووس والزهري والأوزاعي " .
لحديث الباب ، فهو يدل على الاكتفاء بالمرأة الواحدة .
القول الثاني : لا يقبل من النساء أقل من أربع ، لأن كل امرأتين كرجل .
قال ابن قدامة : " وبه قال عطاء وقتادة والشافعي " .
القول الثالث : لا يقبل فيه إلا رجلان ، أو رجل وامرأتان .
وهو قول أصحاب الرأي .
لقوله تعالى : ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ( .
والقول الأول هو الصحيح .
2- أن الرضاع موجب للتفريق بين الزوجين بالإجماع .
3- أن الرضاع لا بد من دليل يثبت به .
والرضاع يثبت بأمور :
أولاً : بالإقرار .
بأن يقر الرجل والمرأة أو أحدهما بوجود علامة رضاع محرِّم للزواج بينهما .
ثانياً : البينة [ المقصود فيها الشهادة ] .
وسبق أن الراجح تكفي شهادة امرأة واحدة .
4- اختلف العلماء في مقدار الرضعة المحرمة :
اختلف العلماء وأقرب الأقوال أن الرضعة هي التي تنفصل عن الأخرى بوقت معتاد ، وهذا اختيار السعدي .
وقيل : أن الرضعة هي أن يمسك الطفل الثدي ويرضع منه لبناً ، ثم يتركه للتنفس أو انتقال ، ونحو ذلك ، فإن عاد فرضعة أخرى . [ فتاوى اللجنة ]
5- استدل بحديث الباب من قال : إن قليل الرضاع وكثيره يحرّم ، وهو مذهب الجمهور ، وقد سبقت المسألة .
6- جاء في رواية أن عقبة قال : ( ما أعلم أنكِ أرضعتني ، ولا أخبرتني ، فركب إلى رسول الله ( بالمدينة ، فسأله ... ) .
في هذا الحديث استحباب الرحلة في طلب العلم والحديث ، وقد رحل جابر شهراً كاملاً في طلب حديث واحد .(3/10)
فقد روى أحمد في مسنده عن جابر قال : ( بلغني حديث عن أصحاب رسول الله ( ، فابتعت بعيراً ، فشددت عليه رحْلي ثم سرت إليه شهراً حتى قدمت الشام ، فإذا عبد الله بن أنيس الأنصاري ، فأتيت منزله وأرسلت إليه أن جابراً على الباب ، فرجع إلي الرسول فقال : جابر بن عبد الله ؟ قلت : نعم ، فخرج إليّ فاعتنقته واعتنقني ، وقال : قلت : حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله ( في المظالم لم أسمعه أنا منه ، قال : سمعت رسول الله ( يقول : يحشر الله تبارك وتعالى أو قال الناس ، وأومأ بيده إلى الشام ، عراة غرلاً بهماً ، قلنا : ما بهماً ؟ قال : ليس معهم شيء ، يناديهم بصوت يسمعه من بعد ويسمعه من قَرُب : أنا المالك ، أنا الديان ، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة حتى اللطمة ... ) .
قال أبو العالية : " كنا نسمع الرواية بالبصرة عن أصحاب رسول الله ( فما نرضى حتى ركبنا إلى المدينة فسمعناها من أفواههم " .
وقال سعيد بن المسيب : " إن كنت لأسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد " .
باب الحضانة(3/11)
336 - عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ( قَالَ : (( خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ( - يَعْنِي مِنْ مَكَّةَ - فَتَبِعَتْهُمْ ابْنَةُ حَمْزَةَ , تُنَادِي : يَا عَمُّ , فَتَنَاوَلَهَا عَلِيٌّ فَأَخَذَ بِيَدِهَا , وَقَالَ لِفَاطِمَةَ : دُونَكِ ابْنَةَ عَمِّك , فَاحْتَمَلْتُهَا . فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ وَجَعْفَرٌ وَزَيْدٌ فَقَالَ عَلِيٌّ : أَنَا أَحَقُّ بِهَا , وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّي وَقَالَ جَعْفَرٌ : ابْنَةُ عَمِّي , وَخَالَتُهَا تَحْتِي . وَقَالَ زَيْدٌ : ابْنَةُ أَخِي . فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ( لِخَالَتِهَا , وَقَالَ : الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ . وَقَالَ لِعَلِيٍّ : أَنْتَ مِنِّي , وَأَنَا مِنْك . وَقَالَ لِجَعْفَرٍ : أَشْبَهَتْ خَلْقِي وَخُلُقِي وَقَالَ لِزَيْدٍ : أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلانَا )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
يا عم : قال الحافظ : " كأنها خاطبت النبي ( بذلك إجلالاً له ، وإلا فهو ابن عمها ، أو بالنسبة إلى كون حمزة وإن كان عمه من النسب فهو أخوه من الرضاعة .
دونك : كلمة تدل على الأمر بأخذ الشيء المشار إليه .
خالتها تحتي : أي زوجتي .
ابنة أخي : أي في الإسلام ، فإن النبي ( لما قدم المدينة آخى بين المهاجرين ، فآخى بين زيد وحمزة .
الخالة بمنزلة الأم : أي في هذا الحكم الخاص ، لأنها تقرب منها في الحنو والشفقة والاهتداء إلى ما يصلح الولد .
أنت مني وأنا منك : أي في النسب والصهر والمسابقة والمحبة .
أشبهت خلقي وخلقي : الخَلْق المراد به الصورة .
أخونا ومولانا : أي أخونا في الإيمان ، ومولانا : أي من جهة أنه أعتقه ، وقد تقدم أن مولى القوم منهم .
الفوائد :(3/12)
1- في هذا الحديث أن النبي ( لما فرغ من عمرة القضاء ، في السنة السابعة ، وخرجوا من مكة تبعتهم ابنة حمزة بن عبد المطلب ، تنادي : يا عم يا عم ، فتناولها علي بن أبي طالب فأخذ بيدها وقال لزوجته فاطمة : خذي ابنة عمك ، فاحتملتها .
فاختصم في الأحقية بحضانتها ثلاثة : علي ، وأخوه جعفر ، وزيد بن حارثة ، وكل منهم أدلى بحجته لاستحقاق الحضانة .
فقال علي : هي ابنة عمي ، فأنا أحق بها . وقال جعفر : هي ابنة عمي ، وخالتها زوجتي . وقال زيد : هي بنت أخي الذي عقد بيني وبينه رسول الله ( مؤاخاة ، يثبت بها التوارث والتناصر ، فأنا أحق بها .
فحكم بها النبي ( للخالة ، لأنها بمنزلة الأم ، وكانت عند جعفر ، ثم أرضى ( الجميع بما يطيب قلوبهم .
2- مشروعية الحضانة :
والحضانة مأخوذة من الحضن ، وهو الحجر .
واصطلاحاً : حفظ الصغير وحضانته ، والمجنون عما يضره ، والقيام بمصالحه .
وهي واجبة ، قال في المغني : " كفالة الطفل وحضانته واجبة ، لأنه يهلك بتركه فيجب حفظه عن الهلاك كما يجب الإنفاق عليه وإنجاءه من المهالك " .
3- قوله ( الخالة بمنزلة الأم ) دليل على أن الأم أحق بحضانة الطفل من الأب ما دام في طور الحضانة ما لم تتزوج .
قال في المغني : " وجملته أن الزوجين إذا افترقا ولهما ولد طفل أو معتوه ، فأمه أولى الناس بكفالته إذا كملت الشرائط فيها ذكراً كان أو أنثى " .
والأصل فيه ما روي عن عبد الله بن عمرو : ( أن امرأة قالت : يا رسول الله ، إن ابني هذا كان بطني له وعاء ، وثديي له سقاء ، وحجري له حواء ، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني ، فقال رسول الله ( : أنتِ أحق به ما لم تنكحي ) . رواه أبو داود
4- اختلف العلماء إذا تزوجت الأم هل تسقط حضانتها أم لا ؟ على أقوال :
قال ابن القيم : " واختلف الناس في سقوط الحضانة بالنكاح على أربعة أقوال :
أحدها : سقوطها به مطلقاً ، سواء كان المحضون ذكراً أو أنثى .(3/13)
وهذا مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه ، وحجة هؤلاء :
حديث عبد الله بن عمرو السابق : ( ... ما لم تنكحي ) .
اتفاق الصحابة على ذلك .
القول الثاني : أنها لا تسقط بالتزويج بحال .
حكي هذا المذهب عن الحسن البصري ، وهو قول أبي محمد بن حزم ، واحتجوا بأن أم سلمة لما تزوجت برسول الله ( لم تسقط كفالتها لابنها ، بل استمرت على حضانتها .
واحتجوا بأن رسول الله ( قضى بابنة حمزة لخالتها ، وهي مزوجة بجعفر .
القول الثالث : أنها إذا تزوجت بقريب من الطفل لم تسقط حضانها " .
؛؛ والله أعلم بالراجح ؛؛
5- اختلف العلماء إذا بلغ الطفل عند من يكون ، بالنسبة للغلام ؟
فالمذهب عند الحنابلة ، وهو مذهب الشافعي ، وقضى به عمر وعلي ، وشريح : أنه يخير .
لحديث أبي هريرة : ( أن امرأة قالت : يا رسول الله ، إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد نفعني وقد سقاني ، فقال النبي ( : هذا أبوك ، وهذه أمك ، فخذ بيد أيهما شئت ، فأخذ بيد أمه فانطلقت به ) . رواه أبو داود
قال ابن القيم : " ويخير الولد بين أبويه بالسنة الصحيحة ، فإن اختارهما أو لم يختر أحداً منهما ، أقرع بينهما " .
لكن ينبغي أن يقيد هذا التخيير بما قاله الإمام ابن القيم ، قال : " التخيير لا يكون إلا إذا جهلت به مصلحة الولد ، فلو كانت الأم أصون من الأب وأغير منه ، قدمت عليه ، ولا التفات إلى اختيار الصبي في هذه الحالة ، فإنه ضعيف العقل يؤثر البطالة واللعب ، فإذا اختار من يساعده على ذلك فلا التفات إلى اختياره وكان عند من هو أنفع له منهما ولا تحتمل الشريعة غير هذا " .
وأما الأنثى إذا بلغت سبعاً :
فالمذهب عند أبيها .
قال ابن قدامة معللاً : " ولنا أن الغرض من الحضانة الحفظ ، والحفظ للجارية بعد السبع في الكون عند أبيها ، لأنها تحتاج إلى حفظ ، والأب أولى بذلك ، فإن الأم تحتاج إلى من يحفظها ويصونها ... ) .
وقيل : تبقى عند أمها .
وهذا مذهب الحنفية .(3/14)
لأن الأم أرحم بها من غيرها ، ولأن تعلق الأم بالبنت أكثر من تعلق الطفل ، فتبقى حتى تتزوج .
ورجح هذا القول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله .
والراجح الأول .
6- أن الأم مقدمة في الحضانة على كل أحد ، فإنه لم يعطها الخالة في هذه القصة إلا لأنها بمنزلة الأم ، والخالة تلي الأم في الحضانة ، فهي بمنزلتها في الحنو والشفقة .
7- شروط الحاضن :
والشروط المتفق عليها :
العقل : فلا حضانة لمجنون ، ولا معتوه ، لأن غير العاقل يحتاج إلى من يكفله ويقوم بأمره ، فلا يقوم هو بأمر غيره .
البلوغ : فلا يصح أن يكون الحاضن صغيراً ، لأن الصغير يحتاج إلى من يحضنه ويكفله ، فلا يحضن غيره .
واختلف في اشتراط الإسلام في الأم لكي تستحق حضانة طفلها :
فقيل : الذمية أحق بحضانة ولدها المسلم ما لم يعقل ديناً .
وعللوا ذلك بأن الحضانة مبنية على الشفقة ، والأم مسلمة أو ذمية أتم شفقة على طفلها من غيرها .
وقيل : إن اختلاف الدين مانع من الحضانة ، فلا حضانة لكافر على مسلم .
وهذا مذهب الشافعية والحنابلة .
لقوله تعالى : ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) .
ولحديث رافع بن سنان : ( أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم ، فأقعد النبي ( الأم في ناحية ، والأب في ناحية ، وأقعد الصبي بينهما ، فمال إلى أمه ، فقال : اللهم اهده ، فمال إلى أبيه فأخذه ) . رواه أبو داود
وجه الدلالة : أن النبي ( دعا للصبي بالهداية ، فمال إلى أبيه المسلم ، وهذا يفيد أن كونها مع الكافر خلاف هدى الله تعالى .
وهذا القول هو الصحيح .
8- حسن خلق النبي ( ولطفه ، حيث حكم لواحد من الثلاثة وأرضاهم جميعاً بما طيب أنفسهم ، وأرضى ضمائرهم فراحوا مسرورين مغتبطين .
9- تعظيم صلة الرحم ، بحيث تقع المخاصمة بين الكبار في التوصل إليها .
10- أن الحاكم يبين دليل الحكم للخصم ، وأن الخصم يدلي بحجته .
11- فضل علي بن أبي طالب ، ومن فضائله :(3/15)
قوله ( : ( لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، فأعطاها علي ) . متفق عليه
وقال ( : ( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ) . متفق عليه
وقال ( : ( لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق ) . متفق عليه
12- فضل جعفر بن أبي طالب ، ومن فضائله :
قوله ( : ( رأيت جعفراً يطير في الجنة مع الملائكة ) . رواه الترمذي
كتاب القصاص
مقدمة :
تعريفه : القصاص هو تبع الدم بالقود .
والأصل في مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع والقياس .
قال تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ) .
وأما من السنة فأحاديث كثيرة :
منها الحديث الآتي : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ... النفس بالنفس ) .
وأجمع العلماء عليه .
الحكمة منه : شرع الله القصاص لحكم عظيمة ، ومقاصد سامية ، ومن أهم هذه الحكم :
أولاً : حماية المجتمعات من الجريمة ، وردع كل من تسول له نفسه الاعتداء على الآخرين .
ولهذا قال تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ) .
قال ابن كثير : " يقول تعالى : وفي شرع القصاص لكم ، وهو قتل القاتل ، حكمة عظيمة ، وهي بقاء المهج وصونها ، لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنيعته ، فكان في ذلك حياة للنفوس ، وفي الكتب المتقدمة : القتل أنفى للقتل ، فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح وأبلغ وأوجز " .
وقال الشيخ السعدي : " ثم بين تعالى حكمته العظيمة في مشروعية القصاص ، فقال : (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) أي تنحقن بذلك الدماء ، وتنقمع به الأشقياء ، لأن من عرف أنه مقتول إذا قتل ، لا يكاد يصدر منه القتل ، وإذا رؤي القاتل مقتولاً انذعر بذلك غيره وانزجر ، فلو كانت عقوبة القاتل غير القتل ، لم يحصل انكفاف الشر الذي يحصل بالقتل .
ثانياً : يحقق العدل والانتصار للمظلوم ، فيتمكن ورثة القتيل من أن يفعلوا بالقاتل مثل ما فعل بمورثهم .(3/16)
ولهذا قال تعالى : ( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً ) .
وقال تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) .
ثالثاً : التوبة على القاتل وتطهيره من الذنب الذي اقترفه ، فإن القصاص والحدود عامة كفارة لأهلها .
237- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( (( لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّه إلاَّ بِإِحْدَى ثَلاثٍ : الثَّيِّبُ الزَّانِي , وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ , وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ )) .
338 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( :(( أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ)) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
لا يحل : أي لا يجوز .
الثيب : هو المحصن ، وهو الذي جامع وهو حر مكلف في نكاح سواء كان رجلاً أو امرأة .
النفس بالنفس : المراد به القصاص ، أي إذا قتل إنسان إنساناً عمداً قتل به بالشروط المعروفة .
التارك لدينه : أي المرتد .
ما يقضى : أي ما يحكم .
الفوائد :
1- في هذا الحديث بيان حرمة هذه الأشياء الثلاثة ، وإن فعلها فقد استحق القتل :
الأول : الثيب الزاني ، فإذا زنى الإنسان وهو متزوج ، فإنه يرجم حتى الموت . [ وسيأتي ما يتعلق بهذا المبحث ]
الثاني : النفس بالنفس ، أي من قتل مسلماً فإنه يقتل .
الثالث : إذا ارتد الإنسان من الإسلام إلى الكفر ، فإنه يقتل .
2- تحريم قتل المسلم من ذكر وأنثى وصغير وكبير .
قال في المغني : " وأجمع المسلمون على تحريم القتل ، والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع " .(3/17)
قال تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) .
وقال تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ) .
وقال تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ) .
ولحديث الباب : ( لا يحل دم امرئ ... ) .
وقال ( : ( لقتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا ) . رواه الترمذي
وفي حديث الباب : ( أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء ) .
وقال ( : ( اجتنبوا السبع الموبقات : ... وذكر منها : وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ) .
وقال تعالى : (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ) .
وقال ( : ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) .
فائدة :
القاتل عمداً مسلم ليس بكافر كما هو معتقد أهل السنة والجماعة ، فحكمه حكم أهل الكبائر من أمة محمد ( .
فإن قيل : ما الجواب عن قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا ... ) .؟
الجواب :
قيل : المراد من استحل ذلك .
وهذا جواب ضعيف ، لأن المستحل كافر سواء قتل أم لم يقتل .
وقيل : المراد بالخلود هنا المكث الطويل وليس الإقامة الأبدية .
وقيل : أن هذه النصوص خرجت مخرج الزجر والتغليظ ، ولا يراد حقيقة التخليد .
وقيل : هذا وعيد ، وإخلاف الوعيد لا يذم بل يمدح ، والله تعالى يجوز عليه الوعيد ولا يجوز عليه خلف الوعد .
وقيل : أن هذا جزاؤه ، وهو يستحق هذا الوعيد ، ولكن الله تكرم على عباده الموحدين ومنّ عليهم بعدم الخلود في النار وهذا أقوى .(3/18)
وقد اختلف العلماء : هل للقاتل عمداً توبة أم لا ؟ على قولين :
القول الأول : أن القاتل عمداً لا توبة له .
وهذا المشهور عن ابن عباس .
لقوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا ... ) .
وجه الدلالة : أن هذا الوعيد خرج مخرج الخبر ، والأخبار لا يدخلها نسخ ولا تغيير .
ولأن التوبة من قتل المؤمن عمداً متعذرة ، إذ لا سبيل إليها إلا باستحلاله أو إعادة نفسه التي فوتها عليه إلى جسده ، إذ التوبة من حق الآدمي لا تصح إلا بأحدهما وكلاهما متعذر على القاتل ، فكيف تصح توبته من حق آدمي لم يصل إليه ولم يستحله منه .
ويجاب عن هذا الاستدلال : بأن الله يوفي للقتيل حقه ويعوضه في الآخرة .
القول الثاني : أن توبته مقبولة .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لعموم الآيات والأحاديث التي تدل على أن الله يقبل توبة التائبين .
قال تعالى : (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) .
وقوله سبحانه : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى) .
وقوله ( : ( إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ) . متفق عليه
وما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي ( قال : ( كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنساناً ، ثم خرج يسأل فأتى راهباً فسأله فقال له : هل من توبة ؟ قال : لا ، فقتله ، فجعل يسأل ، فقال له رجل : ائت قرية كذا وكذا ، فأدركه الموت فَنَاءَ بصدره نحوها ، فاختصمت الملائكة فيه ، ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فأوحى الله إلى هذه أن تقربي ، وأوحى الله إلى هذه أن تباعدي ، وقال : فقاسوا ما بينهما فوجدوا هذه أقرب بشبر فغفر له ) . متفق عليه(3/19)
قالوا : أن التوبة تصح من الكفر ، فمن قتل من باب أولى .
وهذا القول هو الصحيح .
لكن يبقى النظر في القتيل ، كيف يستوفى حقه ، يوجه ذلك ابن القيم ، ويقول : " التحقيق أن القتل يتعلق به ثلاثة حقوق :
حق الله ، وحق المقتول ، وحق الولي .
فإذا تاب القاتل من حق الله ، وسلم نفسه طوعاً إلى الوارث ليستوفي منه حق مورثه سقط عنه الحقان ، وبقي حق الموروث لا يضيعه الله ويجعل من تمام مغفرته للقاتل تعويض المقتول ، لأن مصيبته لم تنجبر بقتل قاتله ، والتوبة النصوح تهدم ما قبلها ، فيعوض هذا عن مظلمته ولا يعاقب هذا لكمال توبته ، وصار هذا كالكافر المحارب لله ولرسوله إذا قتل مسلماً في الصف الأول ثم أسلم وحسن إسلامه فإن الله سبحانه وتعالى يعوض هذا الشهيد المقتول ويعظم للكافر بإسلامه ولا يؤاخذه بقتل المسلم ظلماً ، فإن هدم التوبة لما قبلها كهدم الإسلام لما قبله " .
3- وقوله : ( النفس بالنفس ) فيه دليل على قتل الرجل بالرجل ، وكذلك قتل الرجل بالمرأة كعكسه .
قال في المغني : " هذا قول عامة أهل العلم " .
لعموم حديث الباب : ( النفس بالنفس ... ) .
ولقوله تعالى : (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ ... ) .
ولما ثبت في الصحيحين : ( أن يهودياً رضّ رأس جارية بين حجرين على أوضاح لها - أي حلي - فأخذ فاعترف فأمر رسول الله ( برض رأسه بين حجرين ) .
قال ابن القيم : " وفي هذا الحديث دليل على قتل الرجل بالمرأة " .
ويؤيده النظر في حكمة شرعية القصاص من حقن الدماء وحياة النفوس ، وترك القصاص بين الذكر والأنثى يفضي إلى النقيض من ذلك .
4- قوله : ( النفس بالنفس ) استدل به من قال بقتل الحر بالعبد .
وهذه مسألة اختلف فيها العلماء على قولين :
القول الأول : أن الحر لا يقتل بالعبد .
وهذا مذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة .(3/20)
لقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ) فمفهوم الآية أن الحر لا يقتل بالعبد .
ولقول علي : ( من السنة ألا يقتل حر بعبد ) . رواه الدار قطني ولا يصح
وعن ابن عباس أن النبي ( قال : ( لا يقتل حر بعبد ) . رواه الدار قطني ولا يصح
قالوا : ولأن العبد لا يكافئ الحر ، فإنه منقوص بالرق ، بدليل أن دية الحر كاملة ، أما دية العبد ففي قيمته .
القول الثاني : أن الحر يقتل بالعبد .
وهذا رأي النخعي وداود الظاهري .
واستدلوا بعمومات النصوص القاضية بأن النفس تقتل بالنفس ، مثل قوله تعالى : (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) وقوله ( : ( المؤمنون تتكافأ دماؤهم ) وقوله ( في الحديث :(النفس بالنفس) فهذه نصوص عامة في العبيد والأحرار .
ولحديث الحسن عن سمرة قال : قال رسول الله ( : ( ومن قتل عبده قتلناه ) . رواه الترمذي ، وهو حديث مختلف فيه بسبب : هل الحسن سمع من سمرة ؟
ولأن العبد آدمي معصوم فيقتل بالحر كقتل الحر بالحر .
وهذا القول هو الراجح ، واختاره الشيخ ابن عثيمين رحمه الله .
فائدة : ( أما العبد إذا قتل حراً فإنه يقتل بالإجماع ) .
5- قوله : ( النفس بالنفس ) استدل به من قال أن الوالد لو قتل ابنه فإنه يقتل .
وهذه المسألة اختلف العلماء فيها على قولين :
القول الأول : أن الوالد لا يقتل بولده .
وهذا مذهب الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة .
لحديث عمر قال : قال رسول الله ( : ( لا يقاد والد بولده ) . رواه الترمذي وصححه ابن الجارود والبيهقي .
قال ابن عبد البر : " هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق ، مستفيض عندهم يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد فيه " .
ولأنه سبب إيجاده فلا ينبغي أن يكون الولد سبب إعدامه .
القول الثاني : أن الوالد يقاد بولده مطلقاً .(3/21)
وهذا رأي ابن نافع وابن عبد الحكم وابن المنذر .
واستدلوا بعموم الأدلة من الكتاب والسنة الموجبة للقصاص .
كقوله تعالى : ( أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) .
وحديث الباب : ( ... النفس بالنفس ... ) .
القول الثالث : أن الوالد يقاد بولده إذا كان على وجه العمد المحض ، فيما إذا اضطجعه وذبحه ، وأما إذا قتله على وجه التأديب أو حذفه بالسيف ونحوه ، فلا يقتل به .
وهذا مذهب مالك .
والراجح مذهب الجمهور .
فائدة : يقتل الولد بوالده ، قال في المغني : " هذا قول عامة أهل العلم لعموم الأدلة على وجوب القصاص " .
6- اختلف العلماء : هل يقتل المسلم بالكافر ؟
لا خلاف في عدم جريان القصاص بين المسلم والكافر الحربي .
وإنما الخلاف في جريانه بين المسلم والكافر الذمي على قولين :
القول الأول : أن المسلم لا يقتل بالكافر .
وهذا مذهب الجمهور من الشافعية والمالكية والحنابلة .
لما روى البخاري عن أبي جحيفة قال : ( قلت لعلي : هل عندكم شيء من الوحي غير القرآن ؟ قال : لا ، والذي خلق الحبة ، وبرأ النسمة إلا فهماً يعطيه الله رجلاً من القرآن ، وما في هذه الصحيفة ، قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر ) .
قال الخطابي : " فيه البيان الواضح أن المسلم لا يقتل بأحد من الكفار ، كان المقتول منهم ذمياً أو معاهداً أو مستأمناً أو ما كان " .
ولحديث علي قال : قال رسول الله ( : ( المؤمنون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يدٍ على من سواهم ، ولا يقتل مسلم بكافر ) . رواه أحمد وأبو داود
القول الثاني : أنه يقتل المسلم بالذمي خاصة .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
لحديث ابن عمر:(أن رسول الله ( قتل مسلماً بمعاهد ، وقال : أنا أكرم من وفّى بذمته) .رواه الدار قطني وهو حديث ضعيف
قالوا : ولأن الذمي معصوم الدم عصمة مؤبدة ، فيقتل به قاتله كالمسلم .(3/22)
ولأن المسلم يقطع إن سرق من مال الذمي ، فقتله بهما أولى ، لأن الدم أعظم حرمة من المال .
والراجح القول الأول .
لا خلاف بين أهل العلم أن الكافر يقتل بالمسلم ، لأن النبي ( قتل اليهودي الذي رض رأس جارية من الأنصار على أوضاح لها .
7- إذا قتل المسلم آخر عمداً ، فإنه لا بد من إقامة القصاص عليه ، بشروط :
الشرط الأول : أن يكون المقتول معصوماً ، كالمسلم .
فإن كان المقتول مهدر الدم ، كالحربي والمرتد ، فلا قصاص على القاتل .
الشرط الثاني : أن يكون القاتل مكلفاً .
فأما الصبي والمجنون فلا قصاص عليهما لا خلاف في ذلك ، قاله في الشرح .
لحديث عائشة قالت : قال رسول الله ( : ( رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يبلغ ، وعن المجنون حتى يفيق ... ) .
رواه انو داود
الشرط الثالث : المساواة بين القاتل والمقتول في الإسلام والحرية .
فلا يقتل مسلم بكافر ، ولا حر بعبد . [ وهذا مذهب الجمهور وسبقت المسألة ]
الشرط الرابع : عدم الولادة .
فلا يقتل الوالد بولده ، وسبقت المسألة .
8- شروط استيفاء القصاص :
يعني إذا ثبتت شروط القصاص السابقة ، وتقرر قتله ، فإنه لا يستوفى هذا القصاص إلا بشروط ثلاثة :
الشرط الأول : أن يكون مستحق القصاص - أي ولي الدم - مكلف ، أي بالغاً عاقلاً .
فإن كان ولي الدم صبياً أو مجنوناً ، لم يجز استيفاؤه .
لكن ما ذا يفعل بالقاتل ؟
قيل : يحبس حتى يبلغ الصبي ، ويفيق المجنون .
وهذا مذهب الشافعي وأحمد .
لأن معاوية حبس هُدبة بن خشرم في قصاص حتى بلغ ابن القتيل ، وكان ذلك بمحضر من الصحابة فلم ينكر فكان إجماعاً سكوتياً .
ولأن القصاص ثبت لما فيه من التشفي والانتقام ، ولا يحصل ذلك لمستحقه باستيفاء غيره .
وقيل : للأب استيفاء القصاص نيابة عن الصغير والمجنون .
وهذا مذهب الحنفية والمالكية .
قالوا : بأن القصاص أحد بدلي النفس ، فكان للأب استيفاؤه كالدية .
الشرط الثاني : اتفاق جميع الأولياء على الاستيفاء .(3/23)
فإذا عفا بعض المستحقين للقود سقط وكان حق الباقين في الدية .
فلو أن واحداً من الورثة لا يرث إلا واحداً بالألف أسقط القصاص وقال : أنا أريد الدية ، سقط القصاص ووجبت الدية.
لأنه لما سقط القصاص في حق هذا الرجل صار القصاص واجب في حق هذا الرجل [ القاتل ] إلا واحداً من ألف ، والقصاص لا يتبعض .
الشرط الثالث : أن يؤمن من الاستيفاء التعدي إلى غير قاتله .
قال في الشرح : " فلو وجب القصاص على حامل ، أو حملت بعد وجوبه ، لم تقتل حتى تضع الولد وتسقيه اللبن ، لا نعلم في ذلك خلافاً " .
ولأن قتل الحامل قتل لغير الحامل ، فيكون إسرافاً .
ولأن النبي ( قال للغامدية المقرة بالزنا : ارجعي حتى تضعي ما في بطنك ، ... ثم قال لها : ارجعي حتى تضعيه ) .
9- قتل العمد فيه :
الإثم العظيم - لا كفارة فيه - القصاص أو العفو أو الدية .
10- حديث الباب : ( أول ما يقضى بين الناس الدماء ) لا ينافي حديث : ( أول ما يحاسب عليه العبد من أعماله الصلاة ) .
لأن حديث الباب فيما بين العبد وبين غيره من الخلق ، وحديث : ( إن أول ما يحاسب عليه العبد ) بينه وبين الله .
11- أن المرتد عن الإسلام يقتل .
وهذا الحكم ثابت بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : ( وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) .
ولحديث الباب : ( التارك لدينه المفارق للجماعة ) .
ولحديث ابن عباس قال : قال رسول الله ( : ( من ترك دينه فاقتلوه ) . رواه البخاري
وقال ( : ( أيما رجل ارتد عن الإسلام فادْعه ، فإن تاب وإلا فاضرب عنقه ، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن عادت وإلا فاضرب عنقها ) . وسنده حسن كما قال الحافظ ابن حجر
والمرأة كالرجل في هذا الحكم :
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لعموم الأدلة : ( من ترك دينه فاقتلوه ) .(3/24)
وحديث : ( التارك لدينه ) .
وللحديث السابق : ( أيما امرأة ارتدت ... ) .
وقال أبو حنيفة : " تجبر على الإسلام بالحبس والضرب ولا تقتل " .
والصحيح الأول .
لكن هل يستتاب المرتد ؟ اختلف العلماء على قولين :
القول الأول : يجب استتابته ، فإن تاب وإلا قتل .
قال ابن قدامة : " إنه لا يقتل حتى يستتاب ثلاثاً ، وهذا قول أكثر أهل العلم ، منهم : عمر وعلي وعطاء والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي ، وهو أحد قولي الشافعي .
وممن نقل أن وجوب الاستتابة هو مذهب الجمهور : ابن حجر في الفتح ، والصنعاني في سبل السلام .
القول الثاني : لا تجب الاستتابة وأنه يقتل في الحال .
وهذا قول الحسن البصري وطاووس وأهل الظاهر .
لظاهر قوله ( : ( من بدل دينه فاقتلوه ) .
والراجح أن ذلك يرجع إلى رأي الإمام .
شروط من يجب قتله في الردة بعد استتابته :
أولاٍ : أن يكون مختاراً .
لقوله تعالى : ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ) .
ثانياً : أن يكون مكلفاً ( عاقل بالغ ) .
لقول النبي ( : ( رفع القلم عن ثلاث : عن الصغير حتى يبلغ ، وعن المجنون حتى يعقل ) .
ثالثاً : أن يكون مريداً للكفر .
رابعاً : أن يكون عالماً بالحكم الشرعي .
خامساً : أن يكون هذا القول أو الفعل مكفر شرعي .
باب القسامة(3/25)
339 - عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ ( قَالَ : (( انْطَلَقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ إلَى خَيْبَرَ , وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ , فَتَفَرَّقَا , فَأَتَى مُحَيِّصَةُ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ - وَهُوَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ قَتِيلاً - فَدَفْنه , ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ , فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إلَى النَّبِيِّ ( فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ , فَقَالَ النَّبِيُّ ( : كَبِّرْ , كَبِّرْ - وَهُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ - فَسَكَتَ ، فَتَكَلَّمَا , فَقَالَ : أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ , أَوْ صَاحِبَكُمْ ؟ قَالُوا : وَكَيْفَ نَحْلِفُ , وَلَمْ نَشْهَدْ , وَلَمْ نَرَ ؟ قَالَ : فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِيناً قَالُوا : كَيْفَ بِأَيْمَانِ قَوْمِ كُفَّارٍ ؟ فَعَقَلَهُ النَّبِيُّ ( مِنْ عِنْدِهِ )) .
وَفِي حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ : (( فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ , فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ , قَالُوا : أَمْرٌ لَمْ نَشْهَدْهُ كَيْفَ نَحْلِفُ ؟ قَالُوا : فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , قَوْمٌ كُفَّارٌ )) .
وَفِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ : (( فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ ( أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ , فَوَدَاهُ بِمِائَةٍ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
انطلق عبد الله بن سهل ومسعود إلى خيبر : جاء في رواية في المسند : ( أتيا خيبر في حاجة لهما ) وللبخاري : ( وخيبر يومئذٍ صلح وأهلها يهود ) .(3/26)
فتفرقا : جاء في رواية : ( خرج عبد الله بن سهل في أصحاب له يمتارون تمراً ) ولمسلم : ( في زمن رسول الله ( وهي يومئذٍ صلح وأهلها يهود ) .
فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلاً : أي مضطرب فيتمرغ في دمه .
جاء في رواية : ( فإذا محيصة يجد عبد الله بن سهل قتيلاً فدفنه ) وفي رواية : ( فأخبر محيصة أن عبد الله قتل وطرح في مقبر) بفاء مفتوحة ثم قاف مكسورة ، أي حفرة .
وفي رواية : ( ووجدوا أحدهم قتيلاً ، وقالوا للذي وجد فيهم ، قد قتلتم صاحبنا ، قالوا : ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً ) وفي رواية : ( فأتى محيصة يهود فقال : أنتم والله قتلتموه ، قالوا : والله ما قتلناه ) .
فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة ووحويصة بن مسعود إلى النبي ( : جاء في رواية : ( فأتى أخو المقتول عبد الرحمن ومحيصة وحويصة فذكروا لرسول الله ( شأن عبد الله حيث قتل ) .
ذهب عبد الرحمن يتكلم فقال الرسول : كبر كبر وهو أحدث القوم : وعند مسلم : ( فبدأ عبد الرحمن يتكلم وكان أصغر القوم ) ولمسلم أيضاً : ( في أمر أخيه ) .
أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم : جاء في رواية للبخاري : ( فقال لهم : تأتون بالبينة على من قتله ؟ قالوا : ما لنا بينة ) .
كيف نأخذ بأيمان قوم كفار : جاء في رواية : ( لا نرضى بأيمان اليهود ) وفي رواية : ( ليسوا بمسلمين ) .
فعقله النبي ( : أي أعطى ديته ، جاء في رواية : ( فكره رسول الله ( أن يطل ) بضم أوله وفتح الطاء وتشديد اللام : أي يهدر ، وفي رواية : ( فوداه بمائة من إبل الصدقة ) .
الفوائد :(3/27)
1- الحديث أصل في مسألة القسامة ، وصفتها : أن يوجد قتيل بجراح غيره ولا يعرف قاتله ، ولا تقوم البينة على من قتله ، ويدَّعي أولياء المقتول على واحد أو جماعة قتله ، وتقوم القرائن على صدق الوليّ المدعِي ، إما بعداوة بين القتيل والمدعى عليه ، أو أن يوجد في داره قتيلاً ، أو يوجد أثاثه مع إنسان ، ونحو ذلك من القرائن ، فيحلف المدّعي خمسين يميناً ويستحق دم القاتل .
فإن نكل حلف المدّعَى عليه خمسين يميناً وبرئ ، وإن نكل مضى عليه بالنكول .
فالقسامة تعريفها :
هي أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم .
والأصل في مشروعيتها السنة لحديث الباب .
ولها شروط :
أولاً : أجمعها وجود اللوث ، وهو العداوة الظاهرة بين القتيل والمتهم بقتله ، كالقبائل التي يطلب بعضها بعضاً بالثأر ، وكل من بينه وبين المقتول ضغن يغلب على الظن أنه قتله من أجله ، فللأولياء حينئذٍ أن يقسموا على القاتل إذا غلب على ظنهم أنه قتله ، وإن كانوا غائبين .
كما وقع في حديث الباب ، فإنه من المعلوم أن بين الأنصار واليهود عداوة .
ثانياً : إمكان القتل من المدعى عليه ، فإن لم يمكن منه القتل لبعده عن مكان الحادث وقت وقوعه لم تسمع الدعوى عليه .
صفة القسامة :
إذا توفرت شروط إقامتها ، يبدأ بالمدعين ، فيحلفون خمسين يميناً توزع على قدر إرثهم من القتيل ، أن فلاناً هو الذي قتله ، ويكون ذلك بحضور المدّعَى عليه ، فإن أبى الورثة أن يحلفوا أو امتنعوا من تكميل الخمسين يميناً ، فإنه يحلف المدّعَى عليه خمسين يميناً إذا رضي المدّعُون بأيمانه ، فإذا حلف برئ ، وإن لم يرض المدعون بتحليف المدّعَى عليه ، فدى الإمام القتيل بالدية من بيت المال ، لأن الأنصار لما امتنعوا من قبول أيمان اليهود ، فدى النبي ( القتيل من بيت المال ، ولأنه لم يبق سبيل لإثبات الدم على المدّعَى عليه ، فوجب الغرم من بيت المال ، لئلا يضيع دم المعصوم هدراً بلا مبرر لإهداره .(3/28)
2- أنه يجري القصاص في باب القسامة ، لقوله ( : ( تستحقون دم صاحبكم ) .
فإذا وجد القتيل المجهول القاتل ، ووجدت القرائن على قاتله ، وحلف أولياء المقتول خمسين يميناً على صحة دعواهم ، فإنهم يستحقون دم المدَّعى عليه إذا كان القتل عمداً محضاً .
قال في المغني : " إن الأولياء إذا حلفوا استحقوا القَوَد إذا كانت الدعوى عمداً " .
روي ذلك عن ابن الزبير وعن عمر بن عبد العزيز ، وبه قال مالك ، وأبو ثور ، وابن المنذر .
لقوله ( : ( يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته ) .
وفي رواية لمسلم : ( فيُسَلّم إليكم ) .
وفي لفظ : ( وتستحقون دم صاحبكم ) فأراد دم القاتل ، لأن دم القتيل ثابت لهم قبل اليمين .
والرمة : الحبل الذي يربط به عليه القود .
وذهب بعض العلماء إلى أنهم لا يستحقون إلا الدية .
لقوله ( : ( إما أن يَدُوا صاحبكم ، وإما أن يُؤْذَنُوا بحرب ) .
3- إذا لم يحلف المدعون ولم يرضوا بيمين المدعَى عليه ، فداه الإمام من بيت المال .
كما في حديث الباب ، فإن النبي ( فداه من بيت المال , ففي قصة حديث الباب ، لم يرض المدعون بيمين اليهود .
4- فإن لم يحلف المدعون ، حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرئ .
قال في المغني : " هذا ظاهر المذهب ، وبه قال يحي وسعيد الأنصاري وربيعة وأبو الزناد ومالك والليث والشافعي وأبو ثور " .
لقوله ( : ( فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم ) أي يتبرؤون منكم .
وفي لفظ : ( فيحلفون خمسين يميناً ويبرؤون من دمه ) .
5- الصحابة في الحديث لم يحلفوا تورعاً ، ولذلك لما قال لهم الرسول ( : ( أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم ؟
قالوا : وكيف نحلف ولم نر ولم نشهد ) .
6- أنه إذا قتل شخص ولم يعلم عين قاتله وليس هناك عداوة توجب التهمة ، فإنه لا قسامة .
7- أن مرجع الصحابة في الأحكام إلى رسول الله ( .
8- استحباب تقديم الأكبر سناً في الأمور .(3/29)
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " هذا إذا تساوى الشخصان في البيان والتعريف ، وأما إذا كان الكبير لا يكاد يبين ، فإنه يقدم الصغير عند الحكومة والخصومة ، لأنه إذا تكلم الكبير وهو لا يكاد يبين ضاع الحق " .
9- الاعتذار بحلف الخصم وإن كان كافراً ، لقوله ( : ( فتحلف لكم يهود ... ) .
340 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ( : (( أَنَّ جَارِيَةً وُجِدَ رَأْسُهَا مَرْضُوضاً بَيْنَ حَجَرَيْنِ , فَقِيلَ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِك : فُلانٌ , فُلانٌ ؟ حَتَّى ذُكِرَ يَهُودِيٌّ , فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا , فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَاعْتَرَفَ , فَأَمَرَ النَّبِيُّ ( أَنْ يُرَضَّ رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ )) .
وَلِمُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيَّ عَنْ أَنَسٍ ( (( أَنَّ يَهُودِيّاً قَتَلَ جَارِيَةً عَلَى أَوْضَاحٍ , فَأَقَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ ( )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
يهودياً : قال الحافظ : " لم أقف على اسمه " .
مرضوضاً : أي مدقوقاً .
جارية : يحتمل أن تكون أَمَة ، ويحتمل أن تكون حرة لكن دون البلوغ ، وقد جاء في رواية للبخاري : ( خرجت جارية عليها أوضاح بالمدينة ، فرماها يهودي بحجر ) .
على أوضاح : أي بسبب أوضاح ، قال أبو عبيد : " هي حلي الفضة " .
فقيل من فعل هذا : جاء في رواية بيان الذي خاطبها بذلك في رواية أخرى : ( فقال لها رسول الله ( : فلان قتلك ) وعند مسلم : ( فدخل عليها رسول الله ( فقال لها : من قتلك ) .
فأومأت برأسها : أي أشارة برأسها ، وقد جاء في رواية : ( فأشارت أن نعم ) .
فاعترف : أي أقرّ ، وجاء في رواية : ( فجيء به فلم يعترف ، فلم يزل به حتى اعترف ) .
الفوائد :
1- أن الإقرار يعتبر من الأدلة التي يثبت بها القتل ، والإقرار من أقوى الأدلة الشرعية .
وهو : اعتراف الإنسان بما عليه من حقوق مالية أو غيرها .(3/30)
والسبب أنه من أقوى الأدلة الشرعية : أن الإنسان في الإقرار شاهد على نفسه ، فليس هناك أصدق من شهادة الإنسان على نفسه .
ولذلك قيل : الاعتراف سيد الأدلة .
والإقرار له شروط :
- أن يكون مكلف [ بالغ عاقل ] .
فالمجنون لا يصح إقراره ، لأنه لا حكم لقوله ، وكذلك الصغير لا يصح إقراره ، لأنه غير مكلف .
- أن يكون مختاراً ، فلا يصح من مكره .
فلا بد أن يكون المقر مختاراً بالإقرار .
لقوله تعالى : ( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ) .
ولأن الله رفع حكم الكفر عن المكره ، لقوله : ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ) فكذلك نفوذ تصرفه مرفوع عنه ، لأنه مكره .
2- أن الرجل يقتل بالمرأة ، فلو أن رجلاً قتل امرأة فإنه يقتل [ وسبقت المسألة ] .
3- استدل بالحديث من قال أنه يفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة [ وهي كيفية قتل القاتل ] :
القول الأول : لا قود إلا بالسيف .
وهذا مذهب أبي جنيفة ، والمشهور من مذهب الحنابلة .
لحديث أبي بكرة قال : قال رسول الله ( : ( لا قود إلا بالسيف ) .
قال الحافظ : " وهو ضعيف أخرجه البزار وابن عدي " .
وقال ابن عدي : " طرقه كلها ضعيفة " .
ولأن القصد من القصاص في النفس تعطيل وإتلاف الجملة ، وقد أمكن هذا بضرب العنق .
القول الثاني : أنه يفعل بالجاني مثل ما فعل ، فإن قتله بحجر ، أو أغرقه ، فعل به مثل فعله .
لقوله تعالى : (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) .
وقوله سبحانه : (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ) .
فبين سبحانه وتعالى أن العقاب يكون بالمثل ، والمثل هو العدل ، فيكون القصاص من القاتل بمثل ما قتل به عقوبة المثل ، وهذا عين العدل .(3/31)
قال ابن القيم : " في هذا الحديث دليل على أن الجاني يُفْعَل به كما فَعل " .
وهذا القول هو الصحيح أنه يفعل بالجاني كما فعل .
قال ابن القيم : " أصح الأقوال أنه يفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه ، ما لم يكن محرماً له لحق الله تعالى ، كالقتل باللواطة ، وتجريع الخمر ونحوه ، فيُحرق كما حرق ، ويلقى من شاهق كما فعل ، ويُخنق كما خنق ، لأن هذا أقرب إلى العدل وحصول مسمى القصاص ، وإدراك الثأر والتشفي والزجر المطلوب من القصاص " .
لكن اختلفوا في التحريق : هل يحرق كما حرق ؟
فقيل : لا يحرق ، لأن التحريق محرم لحق الله تعالى .
لحديث ابن عباس قال : قال رسول الله ( : ( لا يعذب بالنار إلا رب النار ) .
وقيل : يحرق .
وهذا مذهب الشافعي .
؛؛ والله أعلم ؛؛
4- مشروعية القصاص [ وسبقت مباحثه وحكمته ] .
5- أن المقتول إذا وجد في آخر رمقه فأخبر بمن قتله ، فإن هذا يعتبر من القرائن ، فيؤخذ المتهم فيسأل ويقرر ويضبط عليه .
6- أن أهل الكتاب إذا كانوا في بلاد المسلمين فإنه يحكم لهم بحكم الإسلام ، لا بشريعتهم ، لأن الرسول ( حكم هذا اليهودي ، وهذا الحكم من حكم الله .
7- في هذا الحديث أن النبي ( قضى على اليهودي بالقتل لأنه يعتبر قتل عمداً ، حيث ضربها بحجر كبير ، والحجر الكبير يعتبر من القتل العمد .
مباحث قتل العمد :
تعريفه : أن يقصد من يعلمه آدمياً معصوماً فيقتله بما يغلب على الظن موته به .
وهذا ما عليه الجمهور .
وخالف أبو حنيفة ، فالقتل العمد عنده من تعمد ضربه بمحدد كالسيف أو مدبب كالرمح ونحوه .
والراجح مذهب الجمهور ، لتضافر الأدلة الشرعية عليه ، ومن أصرحها حديث الباب ، فاليهودي قتل الجارية بحجر ، فقتله رسول الله ( بين حجرين .
وجه الاستدلال من هذا الحديث : حيث أقيد اليهودي بقتل امرأة بحجر ، والحجر ليس محدداً ولا آدمياً .(3/32)
( أن يقصد ) خرج بذلك الخطأ ، فإن الجاني لم يقصد القتل . ( آدمياً ) خرج بذلك الحيوان . ( معصوماً ) خرج بذلك غير المعصوم .
( بما يغلب على الظن موته ) خرج بذلك شبه العمد ، فإن الأداة المستخدمة فيه لا تقتل غالباً . [ وسيأتي مبحث شبه العمد في حديث قادم إن شاء الله ] .
بعض صور قتل العمد :
* القتل بمحدد .
والمحدد كل ماله موْر في البدن ، أي نفوذ وتفريق للأجزاء سواء أكان من الحديد أو النحاس أو الزجاج .
فالقتل بهذه الأدوات من القتل العمد باتفاق الفقهاء ، ولا خلاف بين أهل العلم على أنه إذا أحدث جرحاً كبيراً بهذه الأدوات فمات به ، فهو قتل عمد .
* القتل بمُثَقَّل .
المثقل : هو ما يقتل لثقله وأثره على الجسد ، لا لنفوذه ، مثل إلقاء صخرة كبيرة ، أو الضرب بعصا كبيرة ، أو الدعس بالسيارة .
فإن النبي ( رضّ رأس اليهودي الذي قتل جارية برض رأسها ، فهذا يدل على أن فعل هذا اليهودي بالجارية يعتبر قتل عمد .
* الإلقاء في هلكة .
مثل أن يلقيه في مهلكة يغلب على الظن موته بها ، مثل : أن يلقيه في زريبة أسد أو حجر أو في مسبغة ، أو يجمع بينه وبين حية في مكان ضيق .
* التغريق والتحريق .
كأن يلقيه في نار أو ماء ولا يمكن التخلص منه ، إما لكثرة الماء أو النار .
* الخنق .
والمقصود أن يمنع خروج نفسه بأي وسيلة كان ، مثل : أن يجعل في عنقه مشنقة ثم يعلقه في خشبة أو في شيء بحيث يرتفع عن الأرض فيختنق ويموت .
* حبسه ومنع الطعام والشراب عنه .
ويشترط لهذه الصورة شرطان :
الأول : أن يحبسه مدة يموت فيها غالباً ، وهذه المدة تختلف باختلاف الناس والزمان والأحوال .
الثاني : أن لا يستطيع المحبوس الاستغاثة أو الطلب ، فإن كان قادراً على الاستغاثة والطلب فلم يفعل حتى مات ، فدمه
هدر .
* القتل بالسم .
كأن يسقيه سماً إكراهاً ، أو يطعمه شيئاً قاتلاً فيموت به ، فهو عمد موجب للقود إذا كان مثله يقتل غالباً .(3/33)
أو يخلطه بطعام ويقدمه إليه فيأكله ، أو يهديه إليه ، ففيه القود .
* القتل بالسيف .
فإذا تسبب في قتل معصوم بشيء يقتل غالباً ففيه القود .
كما إذا شهدت عليه بينة بما يوجب قتله من زنا محصن أو ردة لا تقبل معها التوبة ، أو قتل عمد ثم رجعوا أي الشهود بعد قتله وقالوا : عمدنا قتله ، فيقاد بهذا كله .
* القتل بالسحر .
إذا وضع لشخص سحراً في طعام أو شراب أو عقد له عقداً ، فمات المسحور بسببه ، فهو قتل عمد ، لأنه شيء يقتل غالباً.
عقوبة قتل العمد :
- الإثم العظيم .
- القصاص .
- الحرمان من الميراث .
341 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( قَالَ : (( لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى رَسُولِهِ ( مَكَّةَ قَتَلَتْ هُذَيْلٌ رَجُلاً مِنْ بَنِي لَيْثٍ بِقَتِيلٍ كَانَ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ , فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ( فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ , وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ , وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي , وَلا تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي , وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ , وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ : حَرَامٌ , لا يُعْضَدُ شَجَرُهَا , وَلا يُخْتَلَى خَلاهَا , وَلا يُعْضَدُ شَوْكُهَا , وَلا تُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إلاَّ لِمُنْشِدٍ . وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ : فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَقْتُلَ , وَإِمَّا أَنْ يُودِيَ , فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ - يُقَالُ لَهُ : أَبُو شَاهٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , اُكْتُبُوا لِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : اُكْتُبُوا لأَبِي شَاهٍ , ثُمَّ قَامَ الْعَبَّاسُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إلاَّ الإذْخِرَ , فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (: إلاَّ الإِذْخِرَ )) .(3/34)
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
فتح مكة : عام 8 ه .
هذيل : بضم الهاء بعد ذال مفتوحة : قبيلة مُضَريّة مشهورة لا تزال مساكنهم بالقرب من مكة .
بني ليث : قبيلة مشهورة ينسبون إلى ليث بن أبي بكر بن كنانة بن خزيمة .
إن الله حبس عن مكة الفيل : بالفاء اسم الحيوان المشهور ، وأشار بحبسه عن مكة إلى قصة الحبشة وهي مشهورة ساقها ابن إسحاق مبسوطة ، وحاصل ما ساقه أن أبرهة الحبشي لما غلب على اليمن وكان نصرانياً ، بنى كنيسة وألزم الناس بالحج إليها ، فعمد بعض العرب فاستغفل الحجبة وتغوط فهرب ، فغضب أبرهة وعزم على تخريب الكعبة ، فتجهز في جيش كثيف واستصحب معه فيلاً عظيماً ، فلما قرب من مكة خرج إليه عبد المطلب فأعظمه وكان جميل الهيئة ، فطلب منه أن يرد عليه إبلاً له نهبت فاستقصر همته وقال : لقد ظننت أنك لا تسألني إلا في الأمر الذي جئت فيه ، فقال : إن لهذا البيت رباً سيحميه ، فأعاد إليه إبله ، وتقدم أبرهة بجيوشه فقدموا الفيل فبرك وعجزوا فيه ، وأرسل الله إليهم طيراً مع كل واحد ثلاثة أحجار حجرين في رجليه وحجر في منقاره فألقوها عليهم فلم يبق منهم أحد إلا أصيب ، وأخرج ابن مردويه بسند حسن عن عكرمة عن ابن عباس قال : ( جاء أصحاب الفيل حتى نزلوا الصفاح ) وهو بكسر المهملة ثم فاء ثم مهملة موضع خارج مكة من جهة طريق اليمن ، ( فأتاهم عبد المطلب فقال : إن هذا بيت الله لم يسلط عليه أحداً ، قالوا : لا نردع حتى نهدمه ، فكانوا لا يقدمون فيلهم إلا تأخر ، فدعا الله الطير الأبابيل فأعطاهم حجارة سوداء فلما حاذتهم رمتهم ، فما بقي منهم أحد إلا أخذته الحكة ، فكان لا يحك أحد منهم جلده إلا تساقط لحمه ) . ( فتح الباري : 3/3051 )
لا يعضد شوكها : لا يقطع شجرها .
من قتل له قتيل : أي من قتل له قريب كان حياً فصار قتيلاً بذلك القتل .(3/35)
فهو بخير النظرين : أي الولي ، لأن المقتول لا اختيار له ، وإنما الاختيار لوليه ، وقد جاء عند الترمذي : ( فإما أن يعفو وإما أن يقتل ) والمراد بالعفو إلى الدية ، وقد جاء في رواية : ( فمن قتل له قتيل بعد اليوم فأهله بين خيرتين : إما أن يقتلوا أو يأخذوا الدية ) وعند أبي داود : ( فإنه يختار إحدى ثلاث : إما أن يقتص ، وإما أن يعفو ، وإما أن يأخذ الدية ، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه ) أي إذا أراد زيادة على القصاص أو الدية .
إما أن يُودِي : أي يعطي القاتل أو أولياؤه لأولياء المقتول الدية .
الفوائد :
1- تقدم أكثر ما يتعلق بمعاني الحديث في كتاب الحج .
2- أن أولياء المقتول عمداً يخيرون بين القصاص أو الدية .
لقوله تعالى : ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ) .
ولحديث الباب : ( من قتل له قتيل فهو بخير النظرين : إما أن يودي ، وإما أن يقاد ) .
وجاء في رواية للحديث عند أبي داود : ( ... فأهله بين خيرتين ، إن أحبوا قتلوا ، وإن أحبوا قبلوا الدية ) .
فالخيرة من قتل العمد بين أربعة أشياء : ثلاثة متفق عليها ، وواحدة مختلف فيها .
قال ابن القيم : " والخيرة في ذلك إلى الولي بين أربعة أشياء : العفو مجاناً ، والعفو إلى الدية ، والقصاص .
ولا خلاف في تخييره بين هذه الثلاثة .
والرابع : المصالحة على أكثر من الدية " .
وقد اختلف العلماء في حكم المصالحة عن القود بأكثر من الدية :
القول الأول : صحة الصلح عن القصاص على أكثر من الدية .
وهذا مذهب الحنفية والمشهور من مذهب الحنابلة والمالكية .
واستدلوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ( قال : ( من قتل متعمداً دفع إلى أولياء المقتول ، فإن شاءوا قتلوا ، وإن شاءوا أخذوا الدية ، وما صالحوا عليه فهو لهم ) . رواه الترمذي(3/36)
ولأن الشارع متشوق إلى صيانة النفوس والدماء ، فرغب في قبول الدية تحقيق لهذا القصد في التشريع .
القول الثاني : لا يصح ذلك إلا على الدية أو دونها .
وبه قال بعض الحنفية ورجحه ابن القيم .
لحديث ابن شريح : ( من أصيب بقتل أو خيل ، فإنه يختار بين ثلاث : إما أن يقتص ، وإما أن يعفو ، وإما أن يأخذ الدية ، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه ) .
وجه الدلالة : ( فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه ) قالوا معناه : إذا أراد زيادة على القصاص أو الدية أو العفو فلا تمكنوه من فعل شيء غير واحدة من هذه الثلاث المتقدمة ، والصلح على أكثر من الدية ليس منها ، فظهر إذاً عدم صحته .
ويجاب عن هذا :
أن يقال : أن المراد بقوله : ( فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه ) وهذه الرابعة هي المذكورة في آخر آية القصاص من سورة البقرة ، وهي : ( فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي من قتل بعد أخذ الدية أو قبولها فله عذاب من الله أليم موجع شديد وأنه هو الذي يقتل بعد أخذ الدية .
فيكون معنى الحديث ( فإن أراد الرابعة ) : بأن يأخذ الدية مثلاً ويقتل ، فخذوا على يديه ، ولهذا جاء في حديث آخر أن النبي ( قال : ( لا أعافي أحداً قتل بعد أخذ الدية ) .
فالراجح القول الأول .
3- الأفضل لأولياء المقتول العفو عن القصاص .
ومعنى العفو : التنازل عن القصاص إلى الدية أو الصلح أو إلى غير شيء .
العفو مشروع ومستحب .
قال تعالى : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) .
وقال تعالى : (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ) .
وقال تعالى : ( وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) وقيل في تفسيرها : من أحياها بالعفو عن القاتل .
وعن أنس قال : ( ما رأيت رسول الله ( رفع إليه شيء في قصاص إلا أمر فيه بالعفو ) . رواه أحمد(3/37)
وقال ( : ( ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً ) . رواه مسلم
لكن العفو يشترط ألا يحصل بالعفو ضرراً ، كأن يكون الجاني سفاكاً للدماء ، فالأصلح في مثل هذه الحال القصاص .
ولهذا قيد الله تعالى العفو بالإصلاح ، فقال : (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " استيفاء الإنسان حقه من الدم عدل ، والعفو عنه إحسان ، والإحسان هنا أفضل ، لكن هذا الإحسان لا يكون إحساناً إلا بعد العدل ، وهو أن لا يحصل بالعفو ضرر ، وإلا كان ظلماً إما لنفسه وإما لغيره .
4- استحباب كتابة العلم .
لقوله ( : ( اكتبوا لأبي شاه ) وأبو شاه رجل من أهل اليمن .ومما يدل على استحباب الكتابة :
عن عبد الله بن عمرو قال : ( قلت : يا رسول الله ، أكتب كل ما أسمع منك ؟ قال : نعم ، قلت : في الرضا والغضب ؟ قال : نعم ، فإني لا أقول في ذلك إلا حقاً ) . رواه أبو داود
وعن أنس قال : قال رسول الله ( : ( قيدوا العلم بالكتابة ) . رواه البخاري في الأدب المفرد
وعن أبي هريرة ( قال : ( لم يكن أحد من أصحاب رسول الله ( أكثر حديثاً مني إلا عبد الله بن عمرو ، فإنه كتب ولم أكتب ) . رواه البخاري
فإن قال قائل : ما الجواب عن قوله ( : ( لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن ، فمن كتب فليمحه ) ؟
الجواب :
- أن النهي خاص وقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره ، والإذن في غير ذلك .
- وقيل : إن النهي خاص بكتابة الحديث مع القرآن في شيء واحد ، والإذن في تفريقهما .
- وقيل : إن النهي متقدم ، والإذن ناسخ له عند الأمن من الالتباس .
- وقيل : النهي خاص بمن خشي منه الاتكال على الكتابة دون الحفظ ، والإذن لمن أمن منه ذلك .
قال النووي : " كان بين السلف من الصحابة والتابعين خلاف في جواز كتابة الحديث ، ثم أجمعت الأمة على جوازها واستحبابها " .(3/38)
وقال الحافظ ابن حجر : " الإجماع انعقد على جواز كتابة العلم ، بل على استحبابه ، بل لا يبعد وجوبه على من خشي النسيان ممن يتعين عليه تبليغ العلم " .
343- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( قَالَ : (( اقْتَتَلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ . فَرَمَتْ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِحَجَرٍ , فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا فَاخْتَصَمُوا إلَى النَّبِيِّ ( فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ ( : أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ - عَبْدٌ , أَوْ وَلِيدَةٌ - وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا , وَوَرَّثَهَا وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ , فَقَامَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ , فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , كَيْفَ أَغْرَمُ مَنْ لا شَرِبَ وَلا أَكَلَ , وَلا نَطَقَ وَلا اسْتَهَلَّ , فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : إنَّمَا هُوَ مِنْ إخْوَانِ الْكُهَّانِ )) مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
فاختصموا : أي ترافعوا إلى رسول الله ( .
الجنين : الحمل ، سمي بذلك لأنه مستجن أي مستتر .
غرة : الأصل أن الغرة بياض مقدم الفرس ، وتطلق الغرة على العبيد والإماء .
قوله ( غرة ) فسرها بأنه عبد أو أمه ، وسمي غرة لأنه غرة المال وأفضله .
عبد أو أمة : أو للتخيير ، فيخير الولي بين هذا وهذا .
ديتها : الدية ما يجب لإزهاق النفس المحترمة .
عاقلتها : جمع عاقلة ، وهم ذكور العصبة من ولاء أو نسب ، سموا بذلك لأنهم يأتون بالإبل ( الدية ) ويعقلونها عند باب القتيل [ وهذا في الجاهلية ] .
ولا استهل : أصل الاستهلال رفع الصوت ، يريد أنه لم تعلم حياته بصوت نطق أو بكاء .
يطل : أي يهدر ولا يكون له قيمة .
إخوان الكهان : أي أشباههم ونظرائهم .
والكاهن من يدعي معرفة الغيب في المستقبل .
الفوائد :(3/39)
1- في هذا الحديث امرأتان ضرتان ، من قبيلة هذيل ، فرمت إحداهما الأخرى بحجر صغير ، لا يقتل غالباً ، ولكنه قتلها وقتل جنينها الذي في بطنها ، فقضى النبي ( أن دية الجنين عبد أو أمة سواء كان الجنين ذكراً أو أنثى ، ويكون ديته على القاتلة .
وقضى للمرأة المقتولة بالدية ، لكون قتلها [ شبه عمد ] ويكون على عاقلة المرأة ، لأن مبناها على التناصر والتعادل .
2- بيان ما يكون بين الطرفين من التباغض والتنافس .
3- هذا الحديث أصل في النوع الثالث من أنواع القتل شبه العمد ، حيث أن قتلها كان عن عمد لكن الآلة لا تقتل غالباً لأنه حجر صغير ، لأن القتل ينقسم إلى أقسام : قتل عمد ، وقتل شبه عمد ، وقتل خطأ [وقد سبقت مباحث قتل العمد] .
مباحث قتل شبه العمد :
تعريفه : هو أن يقصد من يعلمه آدمياً معصوماً ، فيجني عليه بآلة لا تقتل غالباً .
ويكون ذلك إما بقصد العدوان عليه ، أو لقصد تأديبه ، فيسرف فيه ، كالضرب بالسوط والعصا والحجر .
أوجه الشبه والاختلاف بينه وبين القتل العمد :
القتل شبه العمد يشبه القتل العمد في أمر ، وهو : أن الجاني فيهما كليهما قصد العدوان .
ويختلف عنه :
- نوع القصد ، ففي القتل العمد لا بد أن يقصد الجاني القتل ، أما في شبه العمد فيقصد مجرد الاعتداء .
- الآلة ، فالآلة المستخدمة في القتل العمد تقتل غالباً ، أما الآلة المستخدمة في شبه العمد فهي لا تقتل غالباً .
دليل ثبوت شبه العمد :
ذهب جمهور العلماء من الأحناف والشافعية والحنابلة ، إلى إثبات القتل شبه العمد .
لحديث الباب : ( اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر ... ) .
وجه الدلالة :
- أن النبي ( أوجب فيه الدية ، ولو كان عمداً لذكر القصاص .
- أن النبي ( قضى بدية المرأة إلى عاقلتها ، والعاقلة لا تحمل عمداً بإجماع العلماء .
وخالف المالكية وقالوا : إن القتل إما عمداً أو خطأ ، وليس هناك شبه عمد ، لكنه قول ضعيف .(3/40)
أمثلة للأداة في القتل شبه العمد :
قد يكون بأداة مادية كالحجر الصغير والعصا .
وقد يكون بغير أداة ، كاللطم ، والرفس ، واللكم اليسير في غير مقتل والعض .
4- أن دية الجنين غرة ( عبد أو امرأة ) والمتخير في ذلك من يغرم وهو القاتل ، فإذا أتى بعبد لزم أولياء الجنين قبوله ، وإذا أتى بأمَة لزم أولياؤه قبولها .
وإذا لم يوجد عبد ولا أمة يرجع إلى خمس من الإبل يعطى أولياء الجنين .
الجنين الذي يموت في بطن أمه له أحوال :
الأول : أن يموت معها قبل أن يخرج .
فهذا لا شيء فيه ، وإنما الدية في الأم ، فهو لا دية له لأنه كعضو من أعضائها .
الثاني : أن يخرج حياً فيستهل أو يعطس أو يشرب ، ثم يموت متأثراً بالجناية ، ففيه دية كاملة إن خرج لوقت يعيش لمثله [ بعد ستة أشهر ] .
مثال : إنسان دفع حامل ولجنينها سبعة أشهر في بطنها ، وسقط حياً حياة مستقرة ثم مات .
فعليه دية كاملة ، لأنه قتل نفساً ، فيلزم الجاني دية كاملة .
وهذا قول عامة أهل العلم .
قال ابن المنذر : " أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الجنين يسقط حياً من الضرب ، دية كاملة ، منهم : زيد ابن ثابت ، وعروة ، والزهري ، والشعبي ، وقتادة ، وابن شبرمة ، ومالك ، والشافعي ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي ، وذلك لأنه مات من جنايته بعد ولادته ، في وقت يعيش لمثله ، فأشبه قتله بعد رضعه " .
الثالث : أن يخرج ميتاً ، أو يخرج حياً لوقت لا يعيش لمثله فيموت .
فهذا فيه غرة ( عبد أو أمة ) .
لحديث الباب .
ومقدار الغرة : خمس من الإبل في قول عامة أهل العلم .
5- أن دية شبه العمد [ وكذا الخطأ ] تكون على العاقلة ( أي عاقلة القاتل ) .
فالدية في قتل شبه العمد واجبة على العاقلة .
لحديث الباب : ( فقضى رسول الله ( بدية المرأة على عاقلتها ) .
والحكمة أنها على العاقلة :(3/41)
أن هذه الجنايات تكثر ، ودية الآدمي كثيرة ، فإيجابها على الجاني في ماله يجحف به ، فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل للإعانة له تخفيف عنه إذا كان معذور في فعله .
فائدة : تجب مؤجلة بإجماع أهل العلم ، وممن حكى الإجماع ابن قدامة .
6- مشروعية الدية .
تعريفها : هي المال المؤدى إلى المجني عليه أو وليه ، بسبب جناية .
والأصل في وجوبها الكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا ) .
ولقوله ( : ( فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ... ) وسبق الحديث .
دية الحر المسلم مائة من الإبل بالإجماع .
لا فرق في ذلك بين القتل العمد ، وشبه العمد ، والخطأ .
والدليل على ذلك ما ورد في كتاب النبي ( إلى عمرو بن حزم في الديات أنه قال : ( إلا أن في قتل الخطأ العمد مثل السوط والعصا ، مائة من الإبل ... ) .
لكنها تختلف من حيث التغليظ والتخفيف .
ففي قتل العمد مغلظة من أوجه :
أولاً : أنها تجب في مال القاتل ولا تحملها العاقلة .
قال ابن قدامة : " أجمع أهل العلم على أن دية العمد تجب في مال القاتل ، ولا تحملها العاقلة " .
ثانياً : أنها تجب حالة غير مؤجلة .
وهذا مذهب جماهير العلماء ، وهو الصحيح لما يلي :
لأن ما وجب بالعمد المحض كان حالاً .
ولأن هذا هو الأصل في بدل المتلفات .
ثالثاً : أنها مغلظة من السن ، وقد اختلف العلماء في أسنانها على قولين :
فقيل : تجب أرباعاً .
خمس وعشرون بنت مخاض ، وخمس وعشرون حقة ، وخمس وعشرون جذعة ، وخمس وعشرون بنت لبون .
وهذا مذهب الجمهور .
وقيل : تجب أثلاثاً .
ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خَلِفة [ أي حامل ] في بطونها أولاد .(3/42)
لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ( قال : ( من قتل عمداً دفع إلى أولياء المقتول ، فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا أخذوا الدية ، وهي ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفة ، وما صولحوا عليه فهو لهم ) .
وهذا القول هو الصحيح .
أما قتل شبه العمد :
فالدية مغلظة من جهة واحدة وهو السن ، فهي تجب أثلاثاً كالقتل العمد على الصحيح من أقوال العلماء .
ومخففة من وجهين :
أولاً : أنها تجب على العاقلة .
ثانياً : أنها تجب مؤجلة بالإجماع .
دية الحر الكتابي :
على النصف من دية المسلم .
لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ( قال : ( دية المعاهد نصف دية المسلم ) . رواه أبو داود
قال الخطابي : " ليس في دية أهل الكتاب شيء أبين من هذا ولا بأس بإسناده " .
دية غير الكتابي :
ثمانمائة درهم ، أي ثلثا عشر دية المسلم .
وهذا قول أكثر العلماء .
لأن هذا هو المروي عن عمر وعثمان وابن مسعود .
ولنقصان ديته ، فلا يجوز اعتباره بالمسلم ولا الكتابي .
دية المرأة :
على النصف من دية الرجل .
لما جاء في كتاب النبي ( إلى عمرو بن حزم : ( دية المرأة على النصف من دية الرجل ) .
ولإجماع أهل العلم على ذلك ، وممن حكى الإجماع ابن عبد البر ، وابن المنذر ، وابن قدامة .
7- ذم السجع .
السجع : هو كلام منثور تتفق فواصله بالحروف ، وهو ينقسم إلى قسمين :
الأول : مذموم ، وهو إذا كان لإبطال حق أو إحقاق باطل ، وإذا كان متكلف .
والنبي ( إنما ذم سجع حَمَل بن النابغة ، لأنه عارض به حكم الله ورسوله .
الثاني : محمود ، إذا كان غير متكلف ، فإنه ثبت عن النبي ( في أخبار كثيرة أنه قال أقوال مسجوعة .
كقوله ( : ( اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن نفس لا تشبع ) .
8- ينبغي التشنيع على من اعترض على شريعة الله أو حكم رسوله ( .(3/43)
344 - عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ( (( أَنَّ رَجُلاً عَضَّ يَدَ رَجُلٍ , فَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ , فَوَقَعَتْ ثَنِيَّتُهُ , فَاخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ ( فَقَالَ : يَعَضُّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ , لا دِيَةَ لَك )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
أن رجلاً عض يد رجل : جاء في رواية لمسلم ( قاتل يعلى بن أمية رجلاً فعض أحدهما صاحبه ) .
الفحل : أي الذكر من الإبل .
لا دية لك : جاء في رواية : ( ... ثم تأتي تلتمس العقل لا عقل لها فأبطلها ) وفي رواية : ( فقال : ما تأمرني ؟ أتأمرني أن آمره أن يدع يده في فيك تقضمها قضم الفحل ادفع يدك حتى يقضمها ثم انزعها ) .
الفوائد :
1- في هذا الحديث تخاصم يعلى بن أمية مع أجير له ، فعض يعلى يد أجيره ، فانتزع المعضوضة يده من فم يعلى ، ونزع مع اليد ثنيته ، فاختصما إلى النبي ( فأبطل دية الثنيتين ، ولم يوجب لهما ضماناً .
قال الحافظ ابن حجر : " وقد أخذ بظاهر هذه القصة الجمهور ، فقالوا : لا يلزم المعضوض قصاص ولا دية ، لأنه في حكم الصائل .
واحتجوا أيضاً بالإجماع بأن من شهر على آخر سلاحاً ليقتله فدفع عن نفسه فقتل الشاهر أنه لا شيء عليه ، فكذا لا يضمن سنه بدفعه إياه " .
والقاعدة : ( أن من أتلف شيئاً لدفع أذاه لم يضمنه ) .
2- الخصومة ممقوتة عامة ، ولكن تزيد بشاعتها إذا كانت بطريقة وحشية تشبه عمل الحيوانات الشرسة .
3- أنه لا يأتي تشبيه الإنسان بالحيوان إلا في مقام الذم .
كما قال تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ) .
وقال ( : ( العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه ) .
4- جواز تشبيه فعل الآدمي بفعل البهيمة إذا وقع في مقام التنفير عن مثل ذلك الفعل .
5- رفع الجناية إلى الحاكم من أجل القصاص .
6- أن المرء لا يقتص لنفسه .(3/44)
345 - عَنْ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - رحمه الله تعالى - قَالَ : حَدَّثَنَا جُنْدُبٌ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ , وَمَا نَسِينَا مِنْهُ حَدِيثاً , وَمَا نَخْشَى أَنْ يَكُونَ جُنْدُبٌ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ( - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ فَجَزِعَ , فَأَخَذَ سِكِّيناً فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ , فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ . قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : عَبْدِي بَادَرَنِي بِنَفْسِهِ , حَرَّمْت عَلَيْهِ الْجَنَّةَ )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
في هذا المسجد : هو مسجد البصرة .
وما نسينا منه حديثاً : إشارة بذلك إلى تحققه لما حدث به وقرب عهده به واستمرار ذكره له .
كان ممن كان قبلكم رجل : قال الحافظ : " لم أقف على اسمه " .
جُرح : بضم الجيم وسكون الراء ، وفي رواية لمسلم : ( أن رجلاً خرجت به قُرحة ) .
فحز : الحز القطع بغير إبانة .
فما رقأ الدم : أي لم ينقطع .
الفوائد :
1- تحريم قتل الإنسان نفسه ، وأن هذا من الكبائر ، وقد جاءت الأدلة الكثيرة بذلك :
قال تعالى : ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) .
وعن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله ( : ( من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ، ومن شرب سماً فقتل نفسه فهو يتحسّاه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ) . رواه مسلم
يتوجأ : معناه يطعن . يتحسّاه : يشربه في تمهل ويتجرعه .
وعن ثابت بن الضحاك قال : قال رسول الله ( : ( ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة ) . رواه مسلم(3/45)
وعن أبي هريرة قال: شهدنا مع رسول الله ( حنينا. فقال لرجل ممن يدعى بالإسلام "هذا من أهل النار" فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالاً شديداً فأصابته جراحة. فقيل: يا رسول الله! الرجل الذي قلت له آنفاً "إنه من أهل النار" فإنه قاتل اليوم قتالاً شديداً. وقد مات. فقال النبي ( "إلى النار" فكاد بعض المسلمين أن يرتاب. فبينما هم على ذلك إذ قيل: إنه لم يمت. ولكن به جراحاً شديداً! فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه. فأخبر النبي ( بذلك فقال: الله أكبر! أشهد أني عبد الله ورسوله" ثم أمر بلالاً فنادى في الناس "إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة. وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر".
قوله ( : ( خالداً مخلداً فيها أبداً ) من المعلوم من عقيدة أهل السنة والجماعة أنه لا يخلد أحد في النار من أهل التوحيد من أهل الكبائر .
لكن ما الجواب عن الحديث ( خالداً مخلداً في النار ) ؟
قيل : إنه محمول على المستحل ( ضعيف ) .
وقيل : المراد بالخلود المكث الطويل .
وقيل : هذا جزاؤه ، ولكن تكرم الله سبحانه فأخبر أنه لا يخلد في النار من مات مسلماً .
وقيل : إن هذا ورد مورد التغليظ والتخويف .
2- اختلف العلماء فيمن هجم على العدو ويغلب على ظنه أنه سيقتل منهم فقتلوه ، هل يكون انتحار أم لا ؟ على قولين:
القول الأول : أنه ليس بمنتحر ، وأنه شهيد من أفضل الشهداء ( بشرط أن يكون له نكاية للعدو قاصداً الشهادة في سبيل الله )
لقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) فهذا باع نفسه لله تعالى لكي يفوز برضوانه…العظيم .(3/46)
أنه لما دخل رجل من المسلمين في صفوف الروم صاح الناس وقالوا : ألقى بيده إلى التهلكة ، فقال أبو أيوب : ( نحن أعلم بهذه الآية ، إنما نزلت فينا ، صحبنا رسول الله ، وشهدنا معه المشاهد ونصرناه ، فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معاشر الأنصار تحبباً ، فقلنا قد أكرمنا الله بصحبة نبيه ونصره حتى فشا الإسلام وكثر أهله وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد ، وقد وضعت الحرب أوزارها فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما ، فنزلت فينا ، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد ) . رواه أبو داود
وقصة البراء بن مالك حينما حملوه وألقى نفسه في السور في قتل مسيلمة الكذاب .
القول الثاني : المنع من ذلك .
لقوله تعالى : ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) . ولقوله تعالى : ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) .
والصحيح أنه شهادة في سبيل الله بشرط أن يغلب على ظنه وجود الكناية بالعدو .
3- وجوب الصبر عند المصائب وترك التضجر من الآلام .
4- أن من قتل نفسه فحرام عليه الجنة .
5- الأفضل للمبتلى أن يقول : اللهم أحيني إن كانت الحياة خيراً لي ، وتوفني إن كانت الوفاة خيراً لي .
6- تحريم تعاطي الأسباب المفضية إلى قتل النفس .
7- الوقوف عند حقوق الله ورحمته بخلقه ، حيث حرم عليهم قتل نفوسهم وأن الأنفس ملك لله .
8- جواز ذكر قصص من مضى .
9- دعاء الله أن يحسن خاتمته .
10- أن الأعمال بالخواتيم .
11- دعاء الله بالثبات حتى الممات .
12- أن الإنسان لا يدري ما يختم له .
13- إثبات الجزاء والعقاب .
كتابُ الحُدودِ
مقدمة
1- الحدود :
الحد لغة : الحجز والفصل .
وشرعاً : عقوبة مقدرة شرعاً لمنع الجناة من العود إلى المعاصي وزجر غيرهم عنها .
2- الحكمة من الحدود :
نعمة الله تعالى على خلقه .
فهي للمحدود طُهرة عن إثم المعصية .
وكفارة عن عقابها الأخروي .(3/47)
وهي له ولغيره رادعة عن الوقوع في المعاصي .
وهي مانعة وحاجزة من انتشار الشرور والفساد في الأرض .
وهي أمان وضمان للناس على دمائهم وأعراضهم وأموالهم .
وبإقامتها يصلح الكون وتعمر به الأرض ، ويسود الهدوء والسكون ، وتتم النعمة بانقماع أهل الشر والفساد .
وبتركها - والعياذ بالله - ينتشر الشر ويكثر الفساد .
فلا شك أنها من حكمته ، وهو العزيز الحكيم .
346- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ( قَالَ : (( قَدِمَ نَاسٌ مِنْ عُكْلٍ - أَوْ عُرَيْنَةَ - فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ , فَأَمَرَ لَهُمْ النَّبِيُّ ( بِلِقَاحٍ , وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَانْطَلَقُوا . فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ ( وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ ، فَجَاءَ الْخَبَرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ , فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ . فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ جِيءَ بِهِمْ , فَأَمَرَ بِهِمْ : فَقُطِّعَتْ أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ , وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُمْ , وَتُرِكُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ , فَلا يُسْقَوْنَ . قَالَ أَبُو قِلابَةَ : فَهَؤُلاءِ سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَكَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ , وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ )) . أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
قدم ناس : أي على رسول الله ( كما جاء في رواية أخرى .
من عكل أو عُرَيْنة : عكل : بضم العين وسكون الكاف : قبيلة عدنانية . عرينة : بضم العين وفتح الراء : قبيلة قحطانية .
فاجتووا المدينة : جاء في رواية : ( فأسلموا ) وفي رواية : ( فبايعوه على الإسلام ) .
قال ابن فارس : " اجتويت البلد إذا كرهت المقام فيه وإن كنت في نعمة ، وقيده الخطابي بما إذا تضرر بالإقامة " .
وقيل : الجواء داء يصيب الجوف .(3/48)
بلقاح : جاء في رواية : ( فأمرهم أن يلحقوا براعيه ) . واللقاح : النوق ذوات الألبان ، واحدها لقحة بكسر اللام وإسكان القاف .
وأمرهم أن يشربوا : جاء في رواية : ( فرخص لهم أن يأتوا الصدقة فيشربوا ) .
فلما صحوا : في السياق حذف تقديره : فشربوا من أبوالها وألبانها فلما صحوا .
واستاقوا : من السوق ، وهو السير العنيف .
النعم : بفتح النون والعين ، واحد الأنعام ، وهي الإبل .
فجاء الخبر : جاء في رواية : ( الصريخ ) أي صرخ بالإعلام بما وقع منهم ، وهذا الصارخ أحد الراعيين ، فقد جاء في مسلم : ( فقتلوا أحد الراعيين وجاء الآخر قد جزع فقال : قد قتلوا صاحبي وذهبوا بالإبل ) واسم راعي النبي ( المقتول : يسار .
فلما ارتفع النهار جيء بهم : أي إلى النبي ( أسارى .
من خلاف : تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى .
وسمرت أعينهم : بتشديد الميم ، وقد جاء في رواية ما يوضح هذا : ( ثم أمر بمسامير فأحميت فكحلهم بها ) .
الحرة : هي أرض ذات حجارة سود معروفة بالمدينة ، وإنما ألقوا فيها لأنها قرب المكان الذي فعلوا فيه ما فعلوا .
يستسقون فلا يسقون : جاء في رواية : ( حتى ماتوا ) .
الفوائد :
1- في هذا الحديث قدم أناس من البادية إلى المدينة فأسلموا ، وحين اختلف عليهم الجو والمناخ مرضوا فضاقت أنفسهم بالمقام في المدينة ، فأمر النبي ( أن يعودوا إلى ما ألفته أجسامهم فيذهبوا إلى البادية حيث الهواء الطلق ، ويشربوا من ألبان الإبل وأبوالها ، ففعلوا .
فلما صحوا طغوا وبغوا ، فقتلوا الراعي وارتدوا عن الإسلام ، وهربوا بالإبل .
فجاء خبرهم إلى النبي ( ، فبعث إليهم من جاء بهم ، فلما أقدموا على هذه القبائح العظيمة ( الردة - القتل - السرقة - محاربة الله ورسوله ( ، قطع الطريق ) كان نكالهم عظيماً ، فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وفضخت أعينهم بمسامير محماة ، وألقوا في الحرة حتى ماتوا .(3/49)
2- هذا الحديث أصل في عقوبة المحاربين ، وهو موافق لقول الله تعالى : (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ) .
وقد اختلف العلماء في حديث العرنيين ( حديث الباب ) حيث أن النبي ( مثّل بهم مع أنه منهي عن التمثيل ، على قولين :
القول الأول : أنه منسوخ ، وكان هذا قبل نزول آية المحاربة والنهي عن المثلة .
قالوا : ويدل على النسخ ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة في النهي في التعذيب بالنار بعد الإذن فيه ، وقصة العرنيين قبل إسلام أبي هريرة ، وقد حضر الإذن ثم النهي .
القول الثاني : أنه ليس بمنسوخ ، وإنما وقع ذلك على سبيل القصاص .
ورجحه ابن الجوزي ، والنووي .
لأنه جاء في صحيح مسلم من حديث أنس : ( إنما سمل النبي ( أعينهم لأنهم سملوا أعين الرعاة ) .
وقد نقل بعض أهل المغازي أنهم مثلوا بالراعي .
القول الثالث : أن هذا من باب التعزير والتأديب .
وهذا مرجعه إلى رأي الإمام ونظره ، فقد يكون خفيفاً وقد يكون شديداً .
وهذا هو الراجح .
3- هذا الحديث أصل بيان حكم قطاع الطريق .
وقد بين الله حكمهم في قوله تعالى : (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ) .
( يصلبوا ) الصلب أن يربط على خشبة ونحوها في مكان عال ليراه الناس ويشهّر أمره بعد أن يقتل أو قبل أن يقتل ويترك حتى يموت. ( ينفوا ) يبعدوا .
وهذه الآية في قول ابن عباس وكثير من العلماء نزلت في قطاع الطريق من المسلمين .(3/50)
وقد اختلف العلماء في حكم قطاع الطريق كما في الآية ، هل هو للتخيير ، أم ينزل على حسب فعلهم ؟ على قولين :
القول الأول : أن الإمام مخير فيهم بين القتل والصلب والقطع والنفي .
وهذا مذهب مالك ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وعطاء ، ومجاهد .
قالوا : ( أو ) تقتضي التخيير .
القول الثاني : أن حكمهم على حسب فعلهم .
- فإذا قتلوا وأخذوا المال ، فإنهم يقتلون ويصلبون .
- وإن قتلوا ولم يأخذوا المال ، فإنهم يقتلون ولا يصلبون .
- وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالاً نفُوا .
فهذا الترتيب في حكمهم هو مذهب الجمهور ، وهو الراجح .
4- استدل بالحديث من قال بطهارة بول ما يؤكل لحمه .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة :
القول الأول : أن بول ما يؤكل لحمه طاهر .
وهذا مذهب الحنابلة ، ورجحه ابن تيمية ، واستدلوا :
بحديث الباب .
وجه الدلالة : أنه ( أمر العرنيين بشرب أبوال الإبل ، ولم يأمرهم بغسل أفواههم منها ، وهم حديثوا عهد بالإسلام وبحاجة إلى البيان ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حق الشارع الحكيم ، فلو كانت الإبل نجسة لأمرهم النبي ( بغسل أفواههم وما يترشرش منها على ثيابهم ، ولم ينقل ذلك فثبت أن أبوال الإبل ليست نجسة .
ولحديث جابر بن سمرة ( أن رسول الله ( سئل عن الصلاة في مرابض الغنم ، فقال : صلوا فيها ، فإنها بركة ، وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل ، فقال : لا تصلوا فيها فإنها خلقت من الشياطين ) .(3/51)
قال ابن تيمية مبيناً وجه الدلالة : " ووجه الحجة من وجهين : أحدها : أنه أطلق الإذن في الصلاة ولم يشترط حائلاً يقي من ملامستها ، والموضع موضع حاجة إلى بيان ، فلو احتاج لبيّنه . الوجه الثاني : أنه لو كانت نجسة كأرواث الآدميين لكانت الصلاة فيها إما محرمة كالحشوش والكنف ، أو مكروهة كراهة شديدة لأنها مظنة الأخباث والأنجاس ، وإما أن تستحب الصلاة فيها ويسميها بركة ، ويكون شأنها شأن الحشوش ، أو قريباً من ذلك ، فهو جمع بين المتنافيين المتضادين وحاشا الرسول ( من ذلك " .
ولأنه ( طاف على راحلته في المسجد الحرام ، ومعلوم أن الدابة لا تعقل بحيث تمتنع عن البول في المسجد الحرام الذي أمر الله سبحانه بتطهيره الطائفين والعاكفين والركع السجود ، فلو كان بولها نجساً لما أدخلها ( وأذن في إدخالها المسجد الحرام إذ في ذلك تلويث له وتنجس .
القول الثاني : أنها نجسة .
وهذا مذهب الشافعية والحنفية .
واستدلوا بعموم الأدلة الدالة على نجاسة البول .
قال تعالى : ( وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ) والأبوال والأرواث كلها نجسة .
حديث ابن عباس : ( أن رسول الله ( مرّ بقبرين ... أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله ) وهذا عام يدخل فيه جميع الأبوال .
ولحديث ابن عباس قال : قال رسول الله ( : ( استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه ) . رواه الدارقطني
ولحديث أنس : ( أن أعرابياً بال في المسجد فأمر ( بصب ذنوب ماء على بوله ) .
وأجابوا عن حديث العرنيين :
قال بعضهم : إن الرسول ( أمرهم بشرب ألبان الإبل ، ولم يذكر الأبوال .
وهذا ضعيف ، لأن رواية شرب الأبوال ثابتة .
وقال بعضهم : إن الحديث محمول على التداوي .
وقال بعضهم : إنه ( عرف أنهم سيرتدون عن الإسلام ، فأمرهم بشرب أبوال الإبل ، ولم يبعد أن يكون شفاء الكافر بالنجس .
وهذا الاعتراض ضعيف لأنه قائم على الاحتمال العقلي .
والراجح القول الأول .(3/52)
5- أمر النبي ( لهم أن يشربوا من ألبان إبل الصدقة ومن إبله ( .
قال الحافظ : " أما شربهم ألبان الصدقة فلأنهم من أبناء السبيل ، وأما شربهم لبن لقاح النبي ( فبإذنه المذكور " .
6- استشكل عدم سقيهم الماء مع طلبهم له ، مع أن الإجماع قائم على أن من وجب عليه القتل فاستسقى لا يمنع ؟
الجواب :
أجاب بعضهم : أن ذلك لم يقع عن أمر النبي ( ، ولا وقع منه نهي عن سقيهم .
وهذا ضعيف جداً ، لأن النبي ( اطلع على ذلك ، وسكوته كاف في ثبوت الحكم .
وأجاب النووي : بأن المحارب المرتد لا حرمة له في سقي الماء وغيره .
7- ذم كفر النعمة .
8- أن المماثلة في القصاص ليس من المُثلة المنهي عنها .
9- ثبوت حكم المحاربة في الصحراء ، وأما القرى فاختلف العلماء :
قيل : لا تثبت .
وهذا قول أبي حنيفة .
وقيل : تثبت .
وهذا قول مالك والشافعي ، وهو الصحيح .
10- قدوم الوفود على الإمام ونظره في مصالحهم .
11- أن النبي ( كما جاء بطيب القلوب جاء أيضاً بطيب الأجساد .(3/53)
347 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنهما , أَنَّهُمَا قَالا : (( إنَّ رَجُلاً مِنَ الأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ ( فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَنْشُدُك اللَّهَ إلاَّ قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ . فَقَالَ الْخَصْمُ الآخَرُ - وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ - نَعَمْ , فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ , وَأْذَنْ لِي . فَقَالَ النَّبِيُّ ( : قُلْ , فَقَالَ : إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفاً عَلَى هَذَا , فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ , وَإِنِّي أُخْبِرْت أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ , فَافْتَدَيْت مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ , فَسَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ , وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ , الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْك وَعَلَى ابْنِك جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ . وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ - لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ - عَلَى امْرَأَةِ هَذَا , فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا , فَغَدَا عَلَيْهَا , فَاعْتَرَفَتْ , فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ( فَرُجِمَتْ )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
أنشدك الله : أي أسألك بالله .
إن ابني : جاء في رواية للبخاري : ( إن ابني هذا ) وفيه أن الابن كان حاضراً .
وكان عسيفاً : العسيف الأجير .
على ابنك جلد مائة وتغريب عام : قال النووي : " هو محمول على أنه ( علم أن الابن كان بكراً ، وأنه اعترف بالزنا ويحتمل أن يكون أضمر اعترافه ، والتقدير : وعلى ابنك إن اعترف ، والأول أليق ، فإنه في مقام الحكم " .
أنيْس : بالتصغير .
الفوائد :
1- تحريم الزنا ، لأن الرسول ( أوجب فيه الحد .
وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع .(3/54)
قال تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً) .
وقال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً) .
وعن ابن مسعود قال : ( سألت رسول الله ( : أي الذنب أعظم ؟ فقال : أن تجعل لله نداً وهو خلقك . قلت : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك . قلت : ثم أي ؟ قال : أن تزني بحليلة جارك ) . متفق عليه
حليلة جارك : زوجة جارك .
وقال ( : ( ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) .
قال ابن القيم : " ومن خاصيته أنه يوجب الفقر ، ويقصر العمر ، ويكسو صاحبه سواد الوجه وثوب المقت بين الناس .
ومن خاصيته أيضاً : أنه يشتت القلب ، ويمرضه إن لم يمته ، ويجلب الهم والحزن والخوف ، ويباعد صاحبه من الملك ، ويقربه من الشيطان " .
2- أن حد الزاني البكر جلد مائة وتغريب عام .
لقوله ( : ( وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ) .
لا خلاف في وجوب الحد .
لقوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) .
وذهب جمهور العلماء إلى أنه يحد مع الجلد التغريب .
لحديث الباب .
ولحديث عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله ( : ( خذوا عني خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلاً ، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة ) . رواه مسلم
( عند الحنفية التغريب راجع إلى رأي الإمام ) .
وأما بالنسبة لتغريب المرأة :
قيل : تغرب مع محرمها .
وقيل : لا تغرب .
وقيل : تحبس
قال ابن القيم : " لكن يغرب معها محرمها إن أمكن وإلا فلا " .
3- إثبات الرجم على المحصن الزاني .
والرجم ثابت بالكتاب والسنة والإجماع .
الكتاب الآية المنسوخة : ( والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ... ) .(3/55)
وعن عمر بن الخطاب قال : ( إن الله بعث محمداً بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان فيما أنزل الله عليه آية الرجم ، قرأنها ووعيناها وعقلناها ، فرجم رسول الله ( ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : ما نجد الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، وإن الرجم في كتاب الله على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء ، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ) . متفق عليه
ورجم ( اليهودية .
ورجم ماعز .
ورجم الغامدية .
4- أن الزاني المحصن يرجم .
لقوله : ( وأن على امرأة هذا الرجم ) .
قال ابن قدامة : " وجوب الرجم على الزاني المحصن رجلاً كان أو امرأة ، وهذا قول عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار ، ولا نعلم فيه مخالفاً إلا الخوارج " .
لحديث الباب .
ولحديث عمر السابق .
ورجم ( اليهوديين ، ورجم ماعز ، ورجم الغامدية .
وقال عمر : ( ورجم رسول الله ( ورجمنا بعده ) .
لكن الرجم يكون في حق الزاني المحصن :
كما قال عمر : ( إن الرجم حق على من زنا وقد أحصن ) .
وقال ( : ( لا يحل دم مسلم إلا بإحدى ثلاث : ... والزاني الثيب ) .
والإحصان له شروط :
أولاً : الوطء في القبل .
لأن النبي ( قال : ( الثيب بالثيب ) والثيابة تحصل بالوطء في القبل .
ولا خلاف في أن عقد النكاح الخالي من الوطء لا يحصل به إحصان ، سواء حصلت به خلوة أو وطء دون الفرج ، أو الدبر أو لم يحصل شيء من ذلك ، لأن هذا لا تصير به المرأة ثيباً ولا تخرج عن حد الإبكار .
ثانياً : أن يكون في النكاح .
لأن النكاح يسمى إحصاناً ، بدليل قوله تعالى : (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ ) يعني المتزوجات .
ولا خلاف بين أهل العلم في أن الزنا ، ووطء الشبهة لا يصير الواطئ به محصناً .
ثالثاً : أن يكون النكاح صحيحاً .
رابعاً : الحرية .
وهي شرط في قول أهل العلم كلهم إلا إبا ثور .
خامساً : البلوغ ، العقل .(3/56)
فلو وطئ وهو صغير أو مجنون ثم بلغ أو عقل لم يكن محصناً .
- والراجح من أقوال أهل العلم أن الإسلام ليس شرطاً في الإحصان .
فالذمي يحصن الذمية ، وإذا تزوج المسلم ذمية فوطئها صارا محصنين .
وهذا مذهب الشافعي وأحمد ، ورجحه ابن القيم .
ويدل عليه حديث رجم النبي ( لليهوديين [ وسيأتي الحديث ] .
5- في قوله : ( واغدوا يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ) دليل على أنه لا يجمع بين الرجم والجلد في حق الزاني المحصن ، بل يكتفى بالرجم .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : أن الزاني المحصن يرجم فقط ولا يجلد .
وهذا مذهب جمهور العلماء .
لحديث الباب : ( فإن اعترفت فارجمها ) ولم يذكر الجلد .
والنبي ( رجم ماعزاً ولم يجلده .
ورجم الغامدية ولم يجلدها .
ورجم اليهوديين ولم يجلدهما .
القول الثاني : الجمع بين الجلد والرجم ، فيجلد مائة ثم يرجم .
وهذا القول مروي عن علي وابن عباس .
لحديث عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله ( : ( خذوا عني خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلاً ، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ) . رواه مسلم
والراجح القول الأول .
وأما الجواب عن حديث عبادة : أنه منسوخ .
فإن الأدلة التي بها الرجم فقط كلها متأخرة عن حديث عبادة ، ويدل لذلك قوله ( : ( قد جعل الله لهن سبيلاً ) فهو دليل على أن حديث عبادة هو أول نص ورد في الزنا .
6- لا يشترط للإحصان استمرار .
فلو أن رجلاً تزوج ثم بعد ذلك طلق ، فإن زنى فإنه يعتبر محصناً .
وكذلك لو أن امرأة مطلقة ، فإنها تعتبر محصنة ، فلو زنت فإنها ترجم .
7- أن من أسباب ثبوت الزنا الاعتراف ، لقوله : ( فإن اعترفت ) [ وسيأتي الحديث عن ذلك إن شاء الله - بما يثبت الزنا ].
8- الرجم : أن يرجم الجاني بالحصا الصغار التي ليست كبيرة جداً ولا صغيرة ، حتى يموت .
9- جفاء الأعراب وغلظهم ، لقوله : ( أنشدك بالله إلا قضيت ) .(3/57)
10- سعة حلم رسول الله ( .
11- حسن الأدب مع الكبير ، لقول الرجل : ( وأذن لي ) .
12- خطر الأجراء والخدم على الأهل .
13- أن من قبض مالاً في غير حق ، وجب رده إلى صاحبه .
14- جواز التوكيل في إقامة الحدود .
15- أنه لا يشترط الإقرار بالزنا تكراره أربع مرات ، بل يكفي مرة [ وسيأتي الخلاف في هذه المسألة إن شاء الله ] .
16- الحكمة من التغريب : أنه يبتعد عن محل الفاحشة ، لئلا تحدثه نفسه بالعودة إليها .
ولأن الغريب يكون منشغل البال غير مطمئن .
17- استفتاء أهل العلم والرجوع إليهم .
18- أنه لا يجوز لأحد إقامة الحدود إلا بإذن من الإمام أو نائبه .
19- وجوب إقامة الحدود .
348 - عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنهما قَالا :
(( سُئِلَ النَّبِيُّ ( عَنِ الأَمَةِ إذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ ؟ قَالَ : إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا , ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا , ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا , ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ )) .
-----------------------------------------
جاء لفظ آخر للحديث : ( إذا زنت الأمة فتبين زناها فليجلدها ولا يثرب ... ) .
معاني الكلمات :
الأمة : المراد بها هنا المملوكة .
فليجلدها : أي الحد الواجب عليها المعروف من صريح الآية ، وسيأتي .
ولا يثرب : أي لا يوبخها ويعنفها ، لأن إقامة الحد عليها كافية .
بضفير : الحبل .
الفوائد :
1- أن حد الأمة إذا زنت ولم تحصن هو الجلد ، لقوله : ( فليجلدها ) .
وحدها خمسين جلدة ، كما قال تعالى : ( فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ) .
والمراد بالمحصنات هنا الحرائر .(3/58)
قال في المغني : " وجملته أن حد العبد والأمة خمسون جلدة ، بكرين كانا أو ثيبين في قول أكثر الفقهاء ، منهم : عمر وعلي وابن مسعود والحسن والنخعي ومالك والأوزاعي وأبو حنيفة " .
2- أنه لا رجم في حق الإماء ، لقوله : ( فليجلدها ) فالأمة لا ترجم .
واختلف العلماء هل تغرب أم لا ؟
فقيل : لا تغرب .
لأن ذلك إضراراً بالسيد .
وقيل : تغرب .
بشرط أن يكون تغريبها آمناً .
والأول أصح .
3- وجوب إقامة الحد ، لقوله : ( فليجلدها ) .
4- مشروعية جلد العبيد والإماء كالحرائر .
5- أن الجلد له صفات .
يكون بسوط لا جديد ولا خَلَق .
لأن الجديد يكون صلباً ، والخلق القديم يكون هشاً ربما ينكسر .
- ويضرب الرجل الحد قائماً ، لا قاعداً ولا مضطجعاً .
- ولا يمد ، فلا تمده على الأرض .
- ولا يبالغ في جلده ، بحيث يشق الجلد
لأنه ليس المقصود من ذلك أن يجرح الرجل ويحرق جلده ، وإنما يذوق ألم الجلد حتى يؤدب .
- ويفرق الضرب على بدنه ، ويتقى الرأس والوجه والفرج والمقاتل .
الوجه : لأن النبي ( نهى عن ضرب الوجه ونهى عن تقبيح الوجه .
الرأس : يتقى لأن يؤثر فيه فربما أدى إلى الموت .
الفرج : يتقى لأن ذلك يضر به وربما يقتل .
المقاتِل : مثل الكبد .
لأنه ليس المقصود من ذلك إتلاف الإنسان ، بل تأديبه .
- المرأة كالرجل في كل هذا ، إلا أنها تضرب جالسة وتشد عليها ثيابها وتُمسَك يداها .
تضرب جالسة : لأن ذلك أستر لها .
وتشد عليها ثيابها : لأنه ربما بالضرب تضطرب وتتحرك وتَنْفَلَّ ثيابها .
6- أن الأمة إذا زنت بعد الثالثة فإنها تباع ، وهل هذا الأمر للوجوب أو الاستحباب ؟
قيل : للوجوب . وقيل : للاستحباب .
7- الحكمة من بيعها بعد الرابعة :
- أنه ربما تكرر زناها ، لأنها موجودة في بيئة تساعدها على ذلك ، فإذا بيعت وتغير عليها الحال والبيئة ربما تتغير .
- ولأنها ربما تجد سيداً يؤدبها ويربيها .
8- أن للسيد إقامة الحد خاصة في رقيقه .(3/59)
9- قوله : ( ولو بضفير ) قيل : المراد المبالغة . وقيل : المعنى بعها ولو برخص ، وهذا هو الصحيح .
10- الزنا عيب في الرقيق ، فإن لم يعلم به المشتري فله رده .
وهذا مذهب جمهور العلماء .
فإن قيل : إن كان عيباً فكيف أمر النبي ( ببيعها ؟
الجواب : أن البائع يخبر المشتري بهذا العيب .
11- إهانة أهل المعاصي .
349 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ : (( أَتَى رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ رَسُولَ اللَّهِ ( - وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ - فَنَادَاهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنِّي زَنَيْتُ , فَأَعْرَضَ عَنْهُ . فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنِّي زَنَيْت , فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى ثَنَّى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ . فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ: دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ ( , فَقَالَ : أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لا . قَالَ : فَهَلْ أُحْصِنْت ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّه ( : اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ )) .
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : فَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ . سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ " كُنْت فِيمَنْ رَجَمَهُ , فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّيْ , فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ , فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ , فَرَجَمْنَاهُ " .
الرَّجُلُ هو ماعزُ بنُ مالِكٍ . ورَوَى قِصَّتَهُ جابرُ بنُ عبدِ اللهِ وعَبْدُ اللهِ بنُ عَباسٍ وأَبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ وبُرَيْدَةُ بنُ الحُصَيْبِ الأَسْلَمِيُّ .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
أتى رجل من المسلمين : جاء في رواية : ( أن رجلاً من أسلم ) وفي حديث جابر بن سمرة عند مسلم : ( رأيت ماعز بن مالك الأسلمي حين جيء به رسول الله ) .
فهل أحصنت : أي تزوجت .(3/60)
قال نعم : جاء في رواية : ( أشربت خمراً ؟ قال لا ) وفي رواية : ( لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت ؟ قال : لا ) وفي حديث ابن عباس : ( فقال : أنكتها ؟ قال : نعم ، قال : أتدري ما الزنا ؟ قال : نعم ، أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً ، قال : فما تريد بهذا القول ؟ قال : تطهرني ، فأمر به فرجم ) .
أذلقته : أي أصابته بحدها .
الفوائد :
1- هذا الحديث فيه اعتراف هذا الصحابي بالزنا ، والاعتراف يثبت به الزنا ، فإن الزنا يثبت بأمرين :
- الشهود .
- الاعتراف .
فالشهود لا بد أن يكونوا أربع رجال يشهدون بأنهم رأوا الزنا نفسه ، ولا تقبل شهادة النساء .
قال تعالى : (لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) .
وأما الاعتراف بأن يعترف ويقر على نفسه بالزنا .
لكن ذهب بعض العلماء إلى أنه يشترط أن يقر أربع مرات ، لحديث الباب .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة ، هل يشترط أن يقر أربع مرات أم يكفي مرة واحدة ؟ على قولين :
القول الأول : لا بد أن يقر أربع مرات .
وهذا مذهب الحنابلة .
لحديث الباب ، فإن النبي ( لم يقم عليه الحد حتى شهد أربع مرات .
القول الثاني : يثبت الزنا بإقراره مرة واحدة ، ولا يشترط التكرار أربعاً .
وهذا مذهب مالك والشافعي ورجحه الشوكاني .
واستدلوا بأدلة :
- بحديث : ( واغدوا يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ) ولم يذكر تكراراً .
- أن النبي ( رجم اليهوديين ، ولم ينقل أن النبي ( كرر عليهما الإقرار .
- والنبي ( رجم امرأة من جهينة ولم تقر إلا مرة واحدة . رواه مسلم
قالوا : فلو كان تربيع الإقرار شرطاً لما تركه النبي ( في مثل هذه الواقعات التي يترتب عليها سفك الدماء وهتك الحرم .
وأجاب هؤلاء عن قصة جابر [ في مجيء ماعز ] :(3/61)
قال الشوكاني : " وظاهر السياقات مشعر بأن النبي ( إنما فعل ذلك في قصة جابر لقصد التثبت ، كما يشعر بذلك قوله : ( أبك جنون ) ثم بسؤاله بعد ذلك لقومه ، فتحمل الأحاديث التي فيها التراخي عن إقامة الحد بعد صدور الإقرار مرة على من كان أمره ملتبساً في ثبوت العقل واختلاله والصحو والسكر ونحو ذلك ، وإقامة الحد بعد الإقرار مرة واحدة على من كان معروفاً بصحة العقل وسلامة إقراره عن المبطلات " .
وهذا القول هو الراجح .
2- أن المجنون لا يقام عليه الحد .
فالحدود يجب لإقامتها أن يكون فاعلها :
عاقلاً بالغاً : فلا يجب على صغير ولا مجنون .
قال في الشرح : " أما البلوغ والعقل ، فلا اختلاف في اعتبارهما في وجوب الحد ، وصحة الإقرار ، لأنهما قد رفع القلم عنهما ، قال ( : ( رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يبلغ ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن النائم حتى يستيقظ ) .
وفي حديث الباب قال النبي ( لماعز : ( أبك جنون ) .
وسأل قومه : ( أمجنون هو ، قالوا : ليس به بأس ) .
عالم بالتحريم :
لقوله تعالى : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) .
وقال تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ) .
- لكن لا يشترط أن يكون عالماً بالعقوبة ، فإذا كان عالماً بالتحريم لكنه غير عالم بالعقوبة ، فإنه يقام عليه الحد .
قال ابن القيم : " فيه أن الجهل بالعقوبة لا يسقط الحد إذا كان عالماً بالتحريم ، فإن ماعزاً لم يعلم أن عقوبته القتل ، ولم يسقط هذا الجهل الحد عنه " .
3- فيه أن للإمام أن يصرح باسم الوطء الخاص به عند الحاجة إليه ، كالسؤال عن الفعل .
فإن النبي ( قال له : ( أنكتها ؟ قال : نعم ، قال : حتى غاب ذلك منك في ذلك منها ؟ قال : نعم ، قال : كما يغيب الميل في المكحلة أو الرِّشاء في البئر ؟ قال : نعم ، قال : فهل تدري ما الزنا ؟ قال : نعم ، أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً ) .(3/62)
وهناك تعليل : لأنه ربما يظن ما ليس بزنا زناً موجباً للحد ، فاشترط فيه التصريح .
4- الحديث دليل على أن الثيب لا يجمع عليه بين الجلد والرجم ، لأنه ( لم يجلد ماعزاً ولا الغامدية ، ولم يأمر أنيساً أن يجلد المرأة التي أرسله إليها . [ وسبقت المسألة ]
5- وجوب الرجم لمن زنى وهو محصن .
والمحصن : هو من جامع امرأته المسلمة أو الكتابية في نكاح صحيح وهما بالغان عاقلان حران . ( هذه شروط الإحصان ) .
- فلو عقد على امرأة وباشرها لكنه لم يجامعها ، ثم زنى ، فإنه لا يرجم ، وهي لو زنت فإنها لا ترجم ، إلا إذا كانت قد تزوجت من زوج قبله وحصل الجماع ، فإنها ترجم .
- لو تزوجها وهي صغيرة لم تبلغ وجامعها ، ثم زنى فإنه لا يرجم ، لأنه ليس بمحصن ، لأنها لم تبلغ .
- لو تزوج مجنونة وجامعها ، ثم زنى ، فإنه لا يرجم ، لأنه ليس بمحصن .
6- جاء رواية لمسلم من حديث بريدة : ( فلما كان الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم ) .
فذهب بعض العلماء إلى أنه يحفر للمرجوم لهذه الرواية .
القول الثاني : أنه لا يحفر له .
لحديث اليهوديين حيث لم يحفر لهما .
ولحديث : ( واغدوا يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ) ولم يذكر حفراً ، وهذا يدل على عدم الحفر .
القول الثالث : يحفر للمرأة دون الرجل .
والراجح القول الثاني ، وهو أنه لا يحفر للمرجوم .
وأما رواية : ( فحفر له ) في قصة ماعز ، فأكثر الروايات في قصة ماعز على عدم الحفر ، ومن ثَمّ حكم بعض العلماء على هذه الرواية بالشذوذ .
7- يسن للإنسان إذا وقع في معصية لله أن يستر على نفسه .
8- التثبت في إزهاق نفس المسلم ، والمبالغة في صيانته لما قع في هذه القصة من ترديده والإيحاء إليه بالرجوع .
9- استدل بالحديث أن المقر بالزنا إذا رجع عن إقراره لا يقام عليه الحد .
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على قولين :
القول الأول : أن المقر بالزنا إذا رجع ، فإنه يقبل رجوعه ولا يقام عليه الحد .(3/63)
وهذا قول أكثر العلماء .
لأن النبي ( قال كما عند أبي داود : ( هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه ) .
فقالوا : هذا دليل على جواز رجوع المقر ، وأنه إذا رجع في إقراره حرم إقامة الحد عليه .
القول الثاني : لا يقبل الرجوع عن الإقرار .
وهذا مذهب الظاهرية .
قالوا : لأن الرسول ( قال لأنيس : ( واغدو إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ) ولم يقل مالم ترجع .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : " وأما قولكم إن ماعزاً رجع عن إقراره ، فإن ماعزاً لم يرجع عن إقراره أبداً ، وهربه لا يدل على رجوعه إطلاقاً ، نعم ماعز هروبه قد يكون عن طلب إقامة الحد عليه ، فهو في الأول يريد أن يقام عليه الحد ، وفي الثاني أراد أن لا يقام عليه الحد وتكون التوبة بينه وبين الله ، ولهذا قال : ( ألا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه ) فدل هذا على أن حكم الإقرار باقي ، فنحن نقول إن قصة ماعز ما فيها دليل إطلاقاً على رجوع الإقرار ، ولكن فيها دليل على أنه رجع عن إقامة طلب الحد عليه ، ولهذا إذا جاءنا رجل يقر بأنه زنى ويطلب إقامة الحد ، ولما هيأنا الآلة لنقيم عليه الحد وآتينا بالحصى لأجل أن نرجمه ، فلما نظر إلى الحصى قال : دعوني أتوب إلى الله ، ما ذا نقول له ؟ يجب أن ندعه يتوب إلى الله ، لأن الرسول ( قال : ( هلاّ تركتموه يتوب فيتوب الله عليه ) حينئذٍ ندعه يتوب فيتوب الله عليه .
وأما لو قال : إنه ما زنى ، فلا يقبل ، لأن هذا الرجل يريد أن يدفع عن نفسه وصفاً ثبت عليه بإقراره " .
10- جواز التوكيل والإنابة في إقامة الحدود .(3/64)
350 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ : (( إنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ ( فَذَكَرُوا لَهُ : أَنَّ امْرَأَةً مِنْهُمْ وَرَجُلاً زَنَيَا . فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ( : مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ , فِي شَأْنِ الرَّجْمِ ؟ فَقَالُوا : نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ : كَذَبْتُمْ , فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ , فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا , فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا . فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ : ارْفَعْ يَدَك . فَرَفَعَ يَدَهُ , فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ , فَقَالَ : صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ , فَأَمَرَ بِهِمَا النَّبِيُّ ( فَرُجِمَا . قَالَ : فَرَأَيْت الرَّجُلَ : يَجْنَأُ عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ )) .
-----------------------------------------
ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ، قال الباجي : " يحتمل أن يكون علم بالوحي أن حكم الرجم فيها ثابت على ما شرع ، لم يلحقه تبديل ، ويحتمل أن يكون علم ذلك بإخبار عبد الله بن سلام وغيره ممن أسلم منهم ، ويحتمل أن يكون إنما سألهم عن ذلك ليعلم ما عندهم فيه ثم يعلم صحة ذلك من قِبل الله " .
نفضحهم : وقع بيان الفضيحة في رواية : ( قالوا : نسخم وجوههما ونخزيهما ) .
يجنأ عن المرأة : جاء في رواية لابن ماجه : ( يسترها ) .
الفوائد :
1- إثبات الرجم للزاني المحصن .
2- أن الإسلام ليس شرطاً للإحصان ، فالذمي يحصن الذمية ، وإذا تزوج مسلم ذمية فوطئها صارا محصنين .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة : هل الإسلام شرط في الإحصان أم لا ؟ على قولين :
القول الأول : أنه شرط في الإحصان .
وعلى هذا القول : فلا يكون الكافر محصناً ، ولا يحصن الذمية مسلم .
وهذا مذهب المالكية والحنفية .(3/65)
لحديث ابن عمر قال : قال رسول الله ( : ( من أشرك بالله فليس بمحصن ) . رواه الدارقطني ، وهو ضعيف
وقد جزم الحافظان الدارقطني وابن حجر بوقفه .
القول الثاني : أن الإسلام ليس شرطاً في الإحصان .
وعلى هذا القول : فالذمي يحصن الذمية ، وإذا تزوج المسلم ذمية فوطئها صارا محصنين .
وهذا مذهب الشافعي وأحمد ورجحه ابن القيم .
لحديث الباب .
وهذا القول هو الراجح .
3- أن أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا لا نحكم بينهم إلا بحكم الإسلام .
4- قال النووي : " في هذا دليل على وجوب حد الزنا على الكافر ، وأنه يصح نكاحه لأنه لا يجب الرجم إلا على محصن ، فلو لم يصح نكاحه لم يثبت إحصانه ولم يرجم " .
5- قوله : ( فقال ما تجدون في التوراة ) قال النووي : " قال العلماء : هذا السؤال ليس لتقليدهم ولا لمعرفة الحكم منهم ، فإنما هو لإلزامهم بما يعتقدونه في كتابهم ، ولعله ( قد أوحي إليه أن الرجم في التوراة الموجودة في أيديهم لم يغيروه كما غيروا أشياء " .
6- اختلف العلماء : كيف رجمها هل بالبينة أو الإقرار ؟
قال النووي : " الظاهر أنه بالإقرار ، وقد جاء في سنن أبي داود وغيره ، أنه شهد عليها أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها ، فإن صح هذا فإن كان الشهود مسلمين فظاهر ، وإن كانوا كفاراً فلا اعتبار بشهادتهم ويتعين أنها إقرار بالزنا " .
وقال ابن القيم : " وتضمنت - أي هذه القصة - شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض ، لأن الزانيين لم يقرا ، ولم يشهد عليهما المسلمون ، فإنهم لم يحضروا زناهما ، كيف وفي السنن في هذه القصة : فدعا رسول الله ( بالشهود ، فجاءوا أربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة " .
7- النبي ( حكم بالتوراة وألزمهم العمل بما فيها ، إظهاراً لتحريفهم كتابهم وتغييرهم حكمه .
8- أن اليهود أهل تحريف لشرع الله وكتمان ، وقد كتموا صفة محمد ( .
9- استدل به من قال : إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يخالف شرعنا .(3/66)
10- أنه لا يجمع بين الرجم والجلد . [ وسبقت المسألة ]
11- وجوب إقامة الحدود .
12- أن حد المحصن إذا زنا الرجم حتى الموت .
13- فضل عبد الله بن سلام ، وقد أسلم عند قدوم النبي ( المدينة ، وشهد له بالجنة .
351 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( لَوْ أَنَّ رَجُلاً - أَوْ قَالَ : امْرَأً - اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إذْنِكَ , فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ , فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ : مَا كَانَ عَلَيْك جُنَاحٌ )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
لو أن رجلاً اطلع : أي نظر من علو .
ما كان عليك جناح : أي حرج .
الفوائد :
1- أن للبيوت حرمة يجب احترامها ، وقد جاء في رواية قال ( : ( إنما جعل الإذن من أجل البصر ) .
2- في الحديث لو أن أحداً اطلع في بيت أحد من غير إذنه فله أن يفقأ عينه .
وقد اختلف العلماء في هذه العقوبة :
فقيل : إنها من باب دفع الصائل ، وأنه يدفع شيئاً فشيئاً .
وقيل : أن هذه من عقوبة المعتدي ، وهذا القول هو الصحيح .
لأنه لو كان من باب دفع الصائل للزم أولاً إنذاره ، ثم إن بقي وأصر عمل فيه هذا العمل .
3- لا يشترط لحذفه تقدم إنذاره .
لأن النبي ( لم يشترط لجواز الحذف تقدم الإنذار .
وقيل : يشترط ، وهو ضعيف .
4- أن من فقأ عين الناظر فإنه لا ضمان ولا دية على الفاقئ .
لأنه أسقط حرمته ، وأرخص عضوه ، وقد جاء عند أحمد : ( فلا دية ولا قصاص ) .
5- تحريم الإطلاع على بيوت الناس ، لأن النبي ( أباح حذف هذا الرجل وإن فقأت عينه .
وقد قال ( : ( ولا تحسسوا ولا تجسسوا ) .
6- أنه لو فقأ عينيه فإنه ضامن للعين التي لم تطلع عليه ، وجه ذلك : أن فقأ العين التي لم تنظر فقْأ في غير محل الجناية
فيضمنها .
7- أنه لا يجوز أن يحذفه بما يقتله .
8- حماية الشريعة لعورات الناس .
9- هل يلحق الاستماع بالنظر ؟
وجهان : الأصح لا ، لأن النظر إلى العورة أشد من استماع ذكرها .(3/67)
10- وجوب الاستئذان .
بابُ حَدِّ السَّرِقةِ
مقدمة :
السرقة لغة : مأخوذة من الاستخفاء والتستر ، ومنه قوله تعالى : (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) أي تسمع مختفياً .
واصطلاحاً : قال ابن قدامة : " أخذ المال على وجه الخفية والاستتار " .
وحكمها : حرام ومن الكبائر .
عن ابن عباس ( قال : قال رسول الله ( : ( لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ) . متفق عليه
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( : (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده).متفق عليه
352 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله تعالى عنهما : (( أَنَّ النَّبِيَّ ( قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ )) - وَفِي لَفْظٍ : (( ثَمَنُهُ - ثَلاثَةُ دَرَاهِمَ )) .
353 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها : أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ ( يَقُولُ : (( تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِداً )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
المجن : بكسر الميم وفتح الجيم ، وهو الترس الذي يتقى به وقع السيف .
الفوائد :
1- تحريم السرقة ، لأن الشرع رتب عليها الحد . [ وقد سبقت أدلة تحريمها ]
2- وجوب قطع يد السارق بشروطها .
لقوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) .
3- أن اليد لا تقطع إلا إذا كان المسروق بلغ نصاباً ، وهو كما في حديث عائشة : ( ربع دينار ) .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال :
القول الأول : أن اليد تقطع في ربع دينار فصاعداً .
لحديث عائشة حديث الباب .
القول الثاني : أن اليد لا تقطع في أقل من عشرة دراهم .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
لحديث ابن عباس : ( قوّم المجن الذي قطع فيه النبي ( بعشرة دراهم ) . رواه الدارقطني ، وهو ضعيف
القول الثالث : أن اليد تقطع في أقل من ربع دينار .
وهو قول الظاهرية .(3/68)
استناداً للحديث الصحيح : ( لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ... ) .
والراجح القول الأول .
فإن كان المسروق لا يبلغ ربع دينار ، فلا قطع .
- ومن شروط القطع :
أن يكون من حرز .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
فإن سرق من غير حرز فلا قطع .
وحرز المال ما العادة حفظه فيه ، وتختلف باختلاف الأموال والبلدان .
فالأموال : حرز الغنم غير حرز الذهب .
البلدان : المدن الكبيرة تحتاج إلى حرز أشد .
مثال : لو سرق غنماً من الشارع ، فإنه لا تقطع ، لأنه ليس من حرز .
لو سرق ذهباً من حوش البيت ، فإنه لا تقطع ، لأنه ليس من حرز ، لأن حرز الذهب عادة في الصناديق المقفلة .
الشرط الثاني : أن يكون هناك عملية سرقة .
وهي أخذ المال من غير مالكه على وجه الاختفاء .
فلا قطع على المنتهب : وهو الذي يأخذ المال على وجه العلانية معتمداً على قوته .
ولا على المختلس : وهو الذي يأخذ المال خطفاً .
ولا على خائن : وهو الذي خان ما جُعل عليه أميناً .
مثال : أعطيت رجلاً كتاباً وقلت له : هذا وديعة عندك إلى شهر ، فلما مضى الشهر وجئت أطلبه قال : ليس لك عندي شيء .
فهؤلاء لا قطع عليهم ، لأنهم لم يأخذوا المال على وجه الخفية .
عن جابر قال : قال رسول الله ( : ( ليس على خائن ولا مختلس قطع ) . رواه أبو داود
وقال ( : ( ليس على الخائن والمختلس قطع ) .
قال الخطابي : " أجمع عامة أهل العلم على أن المختلس والخائن لا يقطعان ، وذلك أن الله سبحانه وتعالى إنما أوجب القطع على السارق ، والسرقة إنما هي أخذ المال المحفوظ سراً عند صاحبه " .
الشرط الثالث : أن يكون المسروق مالاً محترماً .
المال المحترم : كالثياب والطعام والدراهم والدنانير والكتب وغير ذلك .
فلا قطع بسرقة آلة اللهو : كالمزمار ، والعود ، والربابة ، لتحريمها .
4- إذا وجب القطع :
- قطعت يده اليمنى .
لقوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) .(3/69)
ففي قراءة ابن مسعود : (فاقطعوا أيمانهما) .
- من مفصل الكف .
لأن الله أطلق : ( أيديهما ) ولم يقيد ، واليد عند الإطلاق تحمل على الكف .
- ثم حسمت : أي حسم الدم أي قطعه ، وذلك بأن يغلى زيت أو دهن أو نحوهما ، ثم تغمس فيه وهو يغلي ، فإذا انغمست فيه وهو يغلي تسددت أفواه العروق .
وإنما وجب حسمها : لأنها لو تركت لنزف الدم ومات .
- من تكررت سرقته :
إذا سرق ثانية قطعت رجله اليسرى .
ثم إن سرق ثالثة ، تقطع يده اليسرى ، ثم إذا سرق رابعة قطعت رجله اليمنى ، ثم إذا سرق بعد الرابعة يعزر ويحبس .
5- المراد من قوله ( : ( لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده ... ) :
قال جماعة : المراد بها بيضة الحديد ، وحبل السفينة ، وكل واحد منهما يساوي أكثر من ربع دينار ، وأنكره المحققون وضعفوه .
وقيل : المراد التنبيه على عظم ما خسر ، وهي يده في مقابلة حقير من المال وهو ربع دينار ، فإنه يشارك البيضة والحبل في الحقارة .
وقيل : أراد جنس البيض وجنس الحبل .
وقيل : أنه إذا سرق البيضة فلم تقطع جره ذلك إلى سرقة ما هو أكثر منها فقطع ، فكانت سرقة البيضة هي سبب قطعه .
6- قوله ( في حديث ابن عمر : ( إن النبي ( قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم ) .
قال النووي : " محمولة على أن هذا القدر كان ربع دينار فصاعداً " .
7- قوله ( قطع ) معناه أمر ، لأنه ( لم يكن يباشر القطع بنفسه .
8- اختلف العلماء هل يشترط في السرقة مطالبة المسروق منه بماله على قولين :
القول الأول : اشتراط ذلك .
وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد .
لحديث صفوان بن أمية ( أنه نام على ردائه في المسجد ، فأخذ من تحت رأسه ، فجاء بسارقه إلى النبي ( فأمر بقطعه ، فقال صفوان : لم أرد هذا ؟ ردائي عليه صدقة ، فقال ( : هلاّ كان قبل أن تأتيني به ) رواه أبو داود .
القول الثاني : لا تشترط المطالبة .
وهذا مذهب مالك ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية .(3/70)
لقوله تعالى ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما .. ) فليس فيها اشتراط مطالبة المسروق منه بماله المسروق .
وهذا القول هو الصحيح .
354 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها (( أَنَّ قُرَيْشاً أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ , فَقَالُوا : مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ ( ؟ فَقَالُوا : وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ ( فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ , فَقَالَ : أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ؟ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ , فَقَالَ : إنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ , وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ , وَأَيْمُ اللَّهِ : لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا )) .
وَفِي لَفْظٍ (( كَانَتْ امْرَأَةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ , فَأَمَرَ النَّبِيُّ ( بِقَطْعِ يَدِهَا )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
قريشاً : أي القبيلة المشهورة .
أهمهم : أي أجلبت إليهم همّاً أو صيرتهم ذوي همّ بسبب ما وقع منها .
وسبب همهم خشية أن تقطع يدها لعلمهم أن النبي ( لا يرخص في الحدود ، وكان قطع السارق معلوماً عندهم قبل الإسلام .
التي سرقت : جاء في رواية ( في عهد رسول الله في غزوة الفتح ) وجاء في رواية عند ابن ماجه تعيين المسروق ، عن ابن مسعود بن الأسود قال : ( لما سرقت المرأة تلك القطيفة من بيت رسول الله أعظمن ذلك فجئنا إلى رسول الله نكلمه ) . وسنده حسن
فقالوا من يكلم فيها رسول الله : أي يشفع عنده فيها ألا تقطع إما عفواً وإما فداءً .
ومن يجترئ عليه : بسكون الجيم وكسر الراء ، أي من يتجاسر عليه .
حب رسول الله : بكسر المهملة ، بمعنى محبوب .(3/71)
إنما أهلك الذين من قبلكم : جاء عند النسائي : ( إنما هلك بنوا إسرائيل ) قال ابن دقيق العيد : " الظاهر أن هذا الحصر ليس عاماً ، فإن بني إسرائيل كان فيهم أموراً كثيرة تقتضي الإهلاك ، فيحمل ذلك على حصر مخصوص ، وهو الإهلاك بسبب المحاباة في الحدود ، فلا ينحصر ذلك في حد السرقة " .
الفوائد :
1- تحريم الشفاعة في الحدود إذا بلغت السلطان .
قال النووي : " أجمع العلماء في تحريم الشفاعة في الحد بعد بلوغه إلى الإمام ، وعلى أنه يحرم التشفيع فيه ، وأما قبل بلوغه إلى الإمام فقد أجاز الشفاعة فيه أكثر العلماء إذا لم يكن المشفوع فيه صاحب شر وداء وأذى للناس " .
2- وجوب القطع بالسرقة .
3- في رواية مسلم : ( كان امرأة تستعير المتاع فتجحده ، فأمر النبي ( بقطع يدها ) .
وقد اختلف العلماء : هل جاحد العارية يقطع أم لا ؟ على قولين :
القول الأول : أن جاحد العارية تقطع يده .
وهذا مذهب الحنابلة ، واختاره ابن حزم وابن القيم .
لرواية مسلم السابقة ، وهي صريحة في أن جاحد العارية يجب عليه القطع .
القول الثاني : أن جاحد العارية لا قطع عليه .
وهذا مذهب جمهور العلماء : المالكية ، والحنفية ، والشافعية ، واختاره ابن قدامة .
لحديث جابر قال : قال رسول الله ( : ( ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع ) . رواه أبو داود
وجاحد العارية خائن للأمانة فلا قطع عليه .
- أن شرط السرقة الأخذ من الحرز وهتكه ، وليس في جحد العارية هتك لحرز فلا قطع عليه .
- أن جاحد العارية غير السارق في المعنى ، لأن السارق يأخذ المال خفية بخلاف الجاحد ، فإنه مؤتمن خائن لأمانته ، والقطع واجب على السارق لا على الجاحد .
وأجابوا على رواية : ( كانت تستعير المتاع فتجحده ) بأجوبة :
- أن هذه المرأة لم تقطع لجحدها العارية ، وإنما قطعت لكونها قد سرقت ، ويدل على ذلك أمران :
أولاً : الروايات الأخرى : ( أن قريشاً أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت ... ) .(3/72)
ثانياً : أن الروايات في قصة المخزومية قد عللت سبب قطعها بالسرقة ، فقد قال ( : ( إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم ... وقال : لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) ، فهذا دليل على أن قطعها كان لسرقتها .
- أن الرواية التي فيها استعارتها للمتاع ، وجحدها له ، هذا لأنها كانت معروفة بهذه الصفة فسميت بها في هذه الرواية .
- قال القرطبي : " يترجح أن يدها قطعت على السرقة لا لأجل جحد العارية من أوجه : أحدها : قوله في آخر الحديث التي ذكرت فيه العارية : ( لولا أن فاطمة سرقت ) فإن فيه دلالة قاطعة على أن المرأة قطعت في السرقة ، إذ لو كان قطعها لأجل الجحد لكان ذكر السرقة لاغياً ، ولقال : لو أن فاطمة جحدت العارية " .
- أن رواية ( القطع في العارية ) ضعيفة .[ لكن هذا فيه نظر ]
والراجح القول الثاني .
4- الإنكار على من شفع في الحدود بعد وصولها للإمام .
وقد جاء في الحديث : ( من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره ) . رواه أبو داود
5- فيه أن من سبب هلاك الأمم عدم إقامة حدود الله على جميع الناس ، ففيه التحذير من هذا العمل .
6- عدل النبي ( حيث لم يفرق بين غني وفقير ولا عظيم ولا حقير .
7- عظم منزلة فاطمة عند أبيها .
8- ينبغي للعالم أو القدوة أن يخطب بالناس إذا احتاج الأمر إلى ذلك .
9- أن خطب النبي ( تنقسم إلى قسمين :
قسم راتب : كخطب الجمعة . وقسم عارض : كخطبة الكسوف ، وخطبته في قصة بريرة .
10- أن الذنوب والمعاصي سبب لهلاك الأمم .
11- أن عقوبة الله للأمم لا تختلف بالنسبة للأمم ، لأنه ليس بين الله وبين الخلق نسب حتى يراعيهم .
12- أن حد السرقة ثابت في الأمم الماضية .
13- جواز الحلف من غير استحلاف .
14- فضل أسامة ومنزلته عند الله .
15- الاعتبار بأحوال من مضى من الأمم .
بَابُ حَدِّ الْخَمْرِ(3/73)
355 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ( (( أَنَّ النَّبِيَّ ( أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ, فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَةٍ نَحوَ أَرْبَعِينَ )) .
قال : وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس ، فقال عبد الرحمن بن عوف: أخف الحدود ثمانون ، فأمر بها عمر .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
الخمر : لغة : ما خامر العقل وستره ، وسمي بذلك لأنها تغطي العقل وتستره .
أخف الحدود ثمانون : أي اجعله مثل أخف الحدود ثمانين وهو حد القاذف .
الفوائد :
1- تحريم الخمر ، لثبوت الحد فيه .
وهي حرام بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) .
وقال ( : ( كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام ) . رواه أبو داود
وعن ابن عمر قال : قال رسول الله ( : ( لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه ) . رواه أبو داود
وعنه قال : قال رسول الله ( : ( من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها ، حرمها في الآخرة ) . متفق عليه
وأجمعت الأمة على تحريمه .
2- في الحديث أن حد الخمر ثمانين جلدة ، لأن عمر قضى به بمحضر من الصحابة .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة :
القول الأول : أن مقدار حد الخمر ثمانين جلدة .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لحديث الباب : ( فلما كان عهد عمر استشار الناس ... ) .
قال الصنعاني مبيناً وجه الاستدلال لهم : " قالوا : لقيام الإجماع عليه في عهد عمر فإنه لم ينكر عليه أحد " .
وقد تعقب الإجماع الحافظ ابن حجر ، فقال : " وتعقب بأن علياً أشار على عمر بذلك ثم رجع عنه واقتصر على الأربعين ، لأنها القدر الذي اتفقوا عليه في زمن أبي بكر مستندين إلى تقدير ما فعل بحضرة النبي ( " .
القول الثاني : الحد أربعون ، وأن الزيادة على الأربعين إلى الثمانين تعزيرية .(3/74)
وهذا مذهب الشافعي ، وهو قول داود ، ورجحه ابن تيمية وابن القيم .
لحديث أنس قال : ( أن النبي ( ضرب الخمر بالجريد والنعال وجلد أبو بكر أربعين ) . رواه البخاري
ولحديث علي قال : ( جلد النبي أربعين ، وأبو بكر أربعين ، وعمر ثمانين ، وكل سنة ) . رواه أبو داود
وجاء في صحيح مسلم : ( أن عثمان أمر علياً بجلد الوليد بن عقبة في الخمر ، فقال لعبد الله بن جعفر : اجلده فجلده ، فلما بلغ الأربعين قال : أمسك ، جلد رسول الله أربعين ، وجلد أبو بكر أربعين ، وجلد عمر ثمانين ، وكل سنة ، وهذا أحب إلي ) .
قال ابن القيم : " ومن تأمل الأحاديث رآها تدل على أن الأربعين حد ، والأربعون الزائدة عليها تعزير ، وقد اتفق عليه الصحابة " .
فائدة :
ذهب بعض العلماء إلى أن الخمر لا حد فيها ، وإنما فيها التعزير ، ونصر هذا القول الشوكاني .
3- الاضطرار لشرب الخمر :
أولاً : إذا اضطر لإزالة الغصة إذا لم يجد غيره .
قال النووي : " لو غص بلقمة ولم يجد شيئاً يسيغها به إلا الخمر ، فله إساغتها به بلا خلاف ، نص عليه الشافعي ، واتفق عليه الأصحاب وغيرهم ، بل قالوا : يجب عليه ذلك " .
قال تعالى : ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) .
وجه الدلالة : أن الآية نفت الإثم حال الضرورة إذا لم يكن بغي ولا عدوان .
ثانياً : شرب الخمر لسد العطش والجوع عند الضرورة .
قيل : لا يباح .
وهذا مذهب أكثر العلماء . قالوا : لأن شربها لا يدفع العطش بل يزيده ، ولأن شربها للضرورة قد يدعو إلى التعود على شربها في غير الضرورة .
وقيل : يباح .
لقوله تعالى : ( وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ) .
والأول أصح .
4- لا يجوز التداوي بالخمر ، وهذا مذهب جماهير العلماء .(3/75)
لما رواه مسلم في صحيحه : ( أن طارق بن سويد سأل النبي ( عن الخمر ، فنهاه ، فقال : إنما أصنعها للتداوي ؟ فقال : إنه ليس بدواء ولكنه داء ) .
وعن أبي الدرداء قال : قال رسول الله ( : (إن الله أنزل الداء والدواء ، وجعل لكل داء دواء ، فتداووا ولا تداووا بحرام).
رواه أبو داود
وعن ابن مسعود قال : ( إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام عليكم ) . رواه البخاري تعليقاً
بَابُ التَّعْزِير
356 - عَنْ أَبِي بُرْدَةَ هَانِئِ بْنِ نِيَارٍ الْبَلَوِيِّ ( : أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ( يَقُولُ : (( لا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إلاَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ )) .
-----------------------------------------
1- التعزير لغة : التأديب .
واصطلاحاً : هو التأديب في كل معصية لا حد ولا كفارة .
فإن كان فيها الحد فلا تعزير اكتفاء بالحد .
وإن كان فيها كفارة فلا تعزير ، اكتفاء بالكفارة .
كما لو جامع رجل امرأته في نهار رمضان عامداً ، فهنا تجب عليه الكفارة ولا يعزر اكتفاء بالكفارة .
أمثلة للتعزير :
سحاق النساء - القذف بغير الزنا .
2- ليس لأقل التعزير حد .
وقد حكى ابن قدامة في المغني أنه ليس لأقله حد ، وعلل ذلك بقوله : " لأنه لو تقدّر لكان حداً " .
واختلفوا في أكثره على أقوال :
القول الأول : أنه لا يزاد في التعزير على عشرة أسواط .
وهذا مذهب الحنابلة واختاره الشوكاني والصنعاني .
القول الثاني : أنه لا حد لأكثر التعزير ، بل هو مفوض إلى رأي الحاكم حسب المصلحة .
وهذا مذهب مالك ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية .
واستدلوا :
أن أقضية النبي ( ، ثم أقضية الصحابة ، تنوعت في التعازير حسب المصلحة .
فعزم ( على التعزير بتحريق البيوت على المتخلف عن حضور الجماعة لو منعه من تعدي العقوبة إلى غير من يستحقها .
وأخبر عن تعزير مانع الزكاة بأخذ شطر ماله .
وكذلك أصحابه بعده تنوعوا في العقوبات .(3/76)
فكان عمر يحلق الرأس وينفي ، ويضرب ويحرق حوانيت الخمارين .
فهذه الأدلة تدل دلالة واضحة على أن التعزير لا يحدد أكثره بقدر معين ، بل حسبما يراه الإمام أدعى لتحقيق المصلحة .
وأجابوا عن حديث الباب بأجوبة :
ذهب بعض العلماء إلى أن الحديث منسوخ ، ودليل النسخ عندهم هو إجماع الصحابة على العمل على خلافه من غير
نكير .
قال الحافظ : " نعم لو ثبت الإجماع لدل على أن هناك ناسخاً " .
وعلى هذا يكون المراد بالحدود في الحديث الحدود التي قدرت شرعاً ، كحد الزنا والقذف والسرقة ، فعلى هذا يكون ما عداها من المعاصي هو الذي عقوبته مرتكبة التعزير ، وهو من عشرة أسواط فأدنى .
وذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالحديث في قوله : ( إلا حد من حدود الله ) ليس المراد الحدود المقدرة شرعاً كالزنا والقذف ، وإنما المراد بالحد الحكمية التي إما ترك واجب أو فعل محرم ، وقد سمى الله أحكامه حدوداً ، فقال تعالى : ( وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) وقال تعالى في ختام آيات المواريث : ((تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) .
وعلى هذا يكون المراد بالحد بالحديث الحكم ، إن كان واجباً فيجلد حتى يقوم بالواجب ، وإن كان محرماً فيجلد حتى يكف عن المحرم .
وهذا القول رجحه الشيخ ابن عثيمين .
وعلى هذا يكون المراد بالحديث : ( لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد ... ) المراد بذلك تأديب الصغير ، والزوجة ، والخادم ، ونحوهم في غير معصية .
3- أن الحدود تأديب لأهل المعاصي .
4- تحريم الزيادة على عشر جلدات فيما يؤدب الإنسان به ولده .(3/77)
وأما إن كان في حكم شرعي فيجلد أكثر من ذلك ، لأنه لا يمكن أن نقول إننا إذا وجدنا رجل قد خلا بامرأة وباشرها وقبلها وضاجعها عدة ليال نقول نعزره بما دون عشر جلدات أو بعشر جلدات فأقل ، لأن هذا لا يمكن أن يصلح الناس .
5- أنه على القول الصحيح ، فإنه يجوز التعزير إلى ( 99 ) جلدة ، لكن لا يصل إلى ( 100 ) لأن الزنا عقوبته مائة جلدة ، ولهذا لا يبلغ في التعزير الحد .
6- الرفق بالأهل والأولاد بحيث لا يجلدهم أكثر من عشرة جلدات فيما يتعلق بالتأديب والمروءة .
كِتَابُ الأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ
مقدمة :
الأيمان : بفتح الهمز ، جمع يمين ، وأصل اليمين في اللغة : اليد ، قال الجوهري : " سميت اليمين بذلك لأنهم كانوا إذا تحالفوا ضرب كل امرىء منهم بيمينه على يمين صاحبه " .
واصطلاحاً : توكيد الشيء بذكر اسم أو صفة لله .
لا يشرع الإكثار من الحلف .
لقوله تعالى ( واحفظوا أيمانكم ) .
قيل في تفسير الآية : حفظ اليمين هو عدم الإكثار منها .
ولقوله تعالى (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) .
قال الطبري : " ولا تطع يا محمد كل ذي إكثار للحلف الباطل " .
الحلف أنواع :
اليمين المنعقدة .
اليمين الغموس .
ولغو اليمين .
وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله قريباً .
357 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ , لا تَسْأَلْ الإِمَارَةَ , فَإِنَّكَ إنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِّلْتَ إلَيْهَا , وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا , وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا , فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ , وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ )) .(3/78)
358 - عَنْ أَبِي مُوسَى ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( إنِّي وَاَللَّهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - لا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ , فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا إلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ , وَتَحَلَّلْتُهَا )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
لا تسأل : لا تطلب .
الإمارة : الولاية .
عن مسألة : عن سؤال .
وُكلتَ إليها : بضم الواو : أي صرف إليها ، ومن وكل إلى نفسه هلك .
الفوائد :
1- النهي عن سؤال الولاية والإمارة [ سواء الولاية الكبرى أو الصغرى ] .
فطلبها مذموم لأمور :
أولاً : لنهي النبي ( عن ذلك .
كما في حديث الباب .
ثانياً : ليست من صفات أهل الآخرة .
لقوله تعالى (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) .
وطالب الإمارة يريد أن يكون أرفع الناس .
ثالثاً : كثرة تبعاتها ومشقتها .
ولذلك قال ( ( إنكم ستحرصون على الإمارة ، فنعم المرضعة وبئست الفاطمة ) رواه البخاري .
نعم المرضعة : لما يكون فيها في الدنيا من الجاه والمال ونفاذ الكلمة .
وبئست الفاطمة : أي بعد الموت .
وقال ( لأبي ذر ( إنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة ) رواه البخاري .
2- أن من طلب الإمارة فأعطيها تركت إعانته عليها من أجل حرصه عليها ، لقوله ( وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها ) ومن وكل إلى نفسه هلك .
3- أن من طلب الإمارة فإنه لا ينبغي أن يُجاب سؤاله .
لأن النبي ( قال ( إنا لا نُولي من حرص عليها ) رواه البخاري .
ولأن من سألها لم يكن له عوْن من الله ، ومن لم يكن له عون من الله على عمله لا يكون فيه كفاية لذلك العمل ، فلا ينبغي أن يجاب سؤاله ، ومن المعلوم أن كل ولاية لا تخلو من المشقة ، فمن لم يكن له من الله إعانة تورط فيما دخل فيه وخسر دنياه وعقباه ، فمن كان ذا عقل لم يتعرض للطلب أصلاً .(3/79)
4- خطورة الولاية ، ولذلك امتنع الأكابر من الدخول فيها .
قال عمر ( ما أحببت الإمارة إلا يومئذ ) قال ذلك يوم سمع النبي ( يقول يوم خيبر ( لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ) .
5- أن من دخل فيها وعدل واجتهد ولم يطلبها وقام بحقها فله أجر عظيم ولذلك قال ( ( وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها ) .
6- في أحاديث الباب استحباب الحنث في اليمين والتكفير عنه إذا كان الحنث خيراً من التمادي ، وهذا متفق عليه بين العلماء
والخيرية في الحنث تارة تكون واجبة ، وتارة تكون مستحبة ، فإن كانت خيرية واجبة كان الحنث واجباً ، وإن كانت خيرية تطوع صار الحنث تطوعاً .
أمثلة :
قال : والله لا أصلي اليوم ، فهذا حلف على ترك واجب ، فالحنث واجب .
قال : والله لا أوتر ، نقول هنا الأفضل أن يحنث ، فنقول أوتر وكفر عن يمينك .
ولذلك قسم العلماء المسألة إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : أن يكون الحنث خير [ وجوباً أو استحباباً ] فهنا يحنث .
القسم الثاني : أن يكون عدم الحنث خير ، فإنه لا يحنث .
القسم الثالث : أن يتساوى الأمران ، فالأفضل عدم الحنث .
أمثلة :
حلف أن لا يصلي في المسجد : فهنا يحنث .
حلف أن لا يسافر إلى بلاد الكفار : فهنا لا يحنث .
قال النووي : " هذه الأحاديث دالة على من حلف على فعل شيء أو تركه وكان الحنث خيراً من التمادي على اليمين استحب له الحنث وتلزمه الكفارة ، وهذا متفق عليه " .
7- اختلف العلماء في موعد الكفارة : هل تجوز قبل الحنث وبعد اليمين أو لا بد أن تكون بعد الحنث على قولين :
الراجح ما ذهب إليه جماهير العلماء أنه تجزىء بعد اليمين وقبل الحنث .
لأن الروايات جاءت بذلك :
فقد جاءت رواية بتقديم الكفارة ( فكفر عن يمينك وأئت الذي هو خير ) .
وجاءت رواية بتأخير الكفارة كما في حديث أبي موسى ( إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها ) .
فدل ذلك على جواز الأمرين .(3/80)
مثال : قال : والله لا أسافر إلى الرياض الشهر القادم ، ثم رأى أنه يريد السفر .
فيجوز أن يدفع الكفارة الآن قبل الحنث [وهو سفره إلى الرياض] ويجوز يجعل الكفارة بعد الحنث [بعد سفره إلى الرياض] .
8- وجوب كفارة اليمين عند الحنث لقوله [ فكفر ] .
والكفارة كما قال تعالى (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ) .
فيخير من لزمته كفارة يمين بين :
إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق رقبة - فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام .
- مقدار الإطعام لكل مسكين نصف صاع من قوت البلد ، ومقداره كيلو ونصف تقريباً ، وإن عشى العشرة أو غداهم يجزىء .
- ذهب جمهور العلماء إلى أنه يلزم إطعام عشرة مساكين ولا يجزىء أقل من ذلك لأنه هو العدد المنصوص عليه في الآية .
- في العتق لا بد أن تكون الرقبة مؤمنة ، وهذا مذهب جماهير العلماء ، لحديث الجارية قال ( ( أعتقها فإنها مؤمنة ) .
- الراجح من أقوال أهل العلم أنه يلزم التتابع في صيام الكفارة لقراءة ابن مسعود ( فصيام ثلاثة أيام متتابعة ) .
359 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ )) .
360 - وَلِمُسْلِمٍ : (( فَمَنْ كَانَ حَالِفاً فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُت )) .
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ عُمَرُ " فَوَاَللَّهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ( يَنْهَى عَنْهَا , ذَاكِراً وَلا آثِراً "
( يعني : حاكياً عن غيري أَنه حلفَ بها ) .
-----------------------------------------(3/81)
معاني الكلمات :
ينهاكم : النهي طلب الكف على وجه الاستعلاء .
ليصمت : ليسكت .
ذاكراً : أي عامداً .
ولا آثراً : أي حاكياً عن الغير ، أي ما حلفت بها ولا حكيت ذلك عن غيري ، ويدل لذلك رواية مسلم ( ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله ( ينهى عنها ، ولا تكلمت بها ) .
الفوائد :
1- تحريم الحلف بغير الله كالآباء والأجداد وغير ذلك ، ومما يدل على التحريم :
حديث ابن عمر قال : قال رسول الله ( ( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ) رواه أبو داود .
وعن ابن عمر . قال : قال رسول الله ( ( لا تحلفوا بآبائكم ) متفق عليه .
وعن ابن مسعود قال ( لأن أحلف بالله كاذباً أحب إليّ أن أحلف بغيره صادقاً ) رواه عبد الرزاق .
لأن الحلف بغير الله شرك ، والحلف بالله محرم إذا كان الحالف كاذباً .
2- الحلف بغير الله حرام مطلقاً ، لكن خص في حديث الباب بالآباء لوروده على سبب مذكور ، أو خص لكونه كان غالباً عليه لقوله في رواية أخرى ( وكانت قريش تحلف بآبائها ) .
3- قال العلماء : السر في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه، والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده.
4- إشكال : جاء في حديث طلحة بن عبيد الله في قصة الرجل الذي جاء إلى الرسول ( يسأله عن الإسلام ، فأخبره الرسول ( ، ثم قال الرجل : لا أزيد على هذا ولا أنقص ، فقال رسول الله ( : أفلح وأبيه إن صدق .
فهنا قال النبي ( ( أفلح وأبيه ) وقد أجاب العلماء عن هذا بأجوبة :
قيل : هي كلمة جرت عادة العرب أن تدخلها في كلامها غير قاصدة حقيقة الحلف .
وقيل : أن هذا قبل النهي عن الحلف بغير الله ، ورجحه البيهقي والنووي .
وهذان القولان أقوى الأجوبة .
وقيل : إن ذلك خاص بالشارع دون غيره من أمته ، وهذا ضعيف لأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال .
وقيل : إن بعض الرواة صحف قوله ( وأبيه ) من قوله ( والله ) ، قال الحافظ : " وهذا محتمل ، ولكن مثل ذلك لا يثبت بالاحتمال " .(3/82)
5- قوله ( فليحلف بالله ) فيه أن الحلف يكون بالله .
فالحلف يكون باسم من أسماء الله أو بصفة من صفاته ( سواء كانت صفات ذاتية : كالسمع والعلم ، أو خبرية كالوجه ، أو فعلية ) .
مثل الأسماء : والحي لأسافرن ، والله لا أذهب ، والرحمن لا أركب السيارة وهكذا .
وكذلك الصفات يجوز الإقسام بها ، ويدل على الجواز :
قوله تعالى ( فبعزتك لأغوينهم أجمعين ) .
وحديث أنس مرفوعاً من قول النار ( قط قط وعزتك ) متفق عليه .
حديث أبي هريرة مرفوعاً ، وفيه قول الذي يخرج من النار ( وعزتك لا أسألك غيرها ) رواه مسلم .
حديث جابر ( لما نزل قوله تعالى [ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم ] قال النبي ( : أعوذ بوجهك ) رواه البخاري .
فائدة :
استثنى الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله الصفات الخبرية كالوجه واليد والإصبع ونحوها ، فلم يُجوِّز الإقسام بها ما عدا الوجه وقال : لأنه يعبر به عن الذات .
361- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( عَنْ النَّبِيِّ ( قَالَ : (( قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد عليهما السلام : لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً , تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , فَقِيلَ لَهُ : قُلْ : إنْ شَاءَ اللَّهُ , فَلَمْ يَقُلْ , فَطَافَ بِهِنَّ , فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إلاَّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ : نِصْفَ إنْسَانٍ . قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : لَوْ قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ , وَكَانَ دَرَكاً لِحَاجَتِهِ )) . قولُهُ : (فَقِيلَ لَهُ : قُلْ : إنْ شَاءَ اللَّهُ ) يعني قالَ له المَلَكُ .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
قال سليمان لأطوفن : طاف بالشيء وأطاف به إذا دار حوله وتكرر عليه ، وهو هنا كناية عن الجماع .(3/83)
فقيل له قل إن شاء الله : جاء في رواية ( فقال له صاحبه ) وجاء في رواية أخرى ( فقال له الملك ) ، فالمراد بالصاحب الملك .
فلم يقل : جاء في رواية ( فنسي ) ومعنى قوله ( فلم يقل ) أي بلسانه ، لا أنه أبى أن يفوض إلى الله ، بل كان ذلك ثابتاً في قلبه ، ولكنه اكتفى بذلك أولاً ونسي أن يجريه على لسانه لما قيل له .
الفوائد :
1- أن الاستثناء باليمين [ وهو قول الحالف : إن شاء الله ] نافع ومفيد جداً لتحقيق المطلوب .
2- أن المستثني لا يحنث في يمينه .
عن ابن عمر . قال : قال رسول الله ( ( من حلف على يمين فقال : إن شاء الله ، فقد استثنى فلا شيء عليه ) رواه الترمذي .
وعن أبي هريرة . قال : قال رسول الله ( ( من حلف على يمين فقال : إن شاء الله لم يحنث ) رواه الترمذي .
استدل العلماء بحديثي ابن عمر وأبي هريرة على جواز الاستثناء في اليمين وأن من استثنى لا يحنث .
قال الترمذي : " والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم " .
وحكى بعض العلماء الإجماع على ذلك .
مثال : لو قال : والله لا ألبس هذا الثوب إن شاء الله ثم لبسه ، فليس عليه شيء ، لأنه قال : إن شاء الله .
لكن لا بد من تحقق شروط الاستثناء وهي :
أولاً : التلفظ فلا يكفي القصد .
فقد اتفق العلماء كما حكاه الحافظ ابن حجر عن ابن المنذر أن من شرط الحكم بالاستثناء أن يتلفظ بالمستثني به ، وأنه لا يكفي القصد إليه بغير لفظ .
ثانياً : أن يتصل بيمينه حقيقة أو حكماً .
مثال : والله لا أكلم فلاناً اليوم إن شاء الله [ هذا اتصال حقيقي ] .
مثال : لو قال والله لا ألبس هذا الثوب ، فأخذه عطاس وجلس ربع ساعة وهو يعاطس ، فلما هدأ قال : إن شاء الله [ فهذا متصل حكماً لأنه منعه مانع من اتصال الكلام ] .
- لو كان هناك فاصل لكن الكلام واحداً فإنه يجوز على القول الراجح .(3/84)
لحديث أن النبي ( خطب عام الفتح وذكر حرمتها وأنه لا يختلى خلاها ولا يحش حشيشها .. ثم بعد ذلك قال العباس : إلا الإذخر يا رسول الله ، فقال رسول الله ( : إلا الإذخر .
وهذا بعد كلام منفصل عن الأول .
- اشترط بعضهم أن ينوي الاستثناء قبل تمام المستثنى منه ، يعني ينوي أن يقول [ إن شاء الله ] قبل تمام المستثنى منه .
- مثال : قال والله لا ألبس هذا الثوب إن شاء الله ، فلا بد أن ينوي [إن شاء الله] قبل أن ينطق بالباء من كلمة [الثوب] .
والصحيح أنه لا تشترط النية لحديث الباب ، فإن الملك قال لسليمان بعد أن أنهى الجملة : قل إن شاء الله ، وسليمان لم ينو الاستثناء من قبل ، والنبي ( قال : لو قالها لم يحنث ، فهذا نص أنه لا تشترط النية .
3- فضل فعل الخير وتعاطي أسبابه وأن كثيراً من المباح والملاذ يصير مستحباً بالنية والقصد .
4- استحباب الاستثناء لمن قال سأفعل كذا لقوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إلا أن يشاء الله ) .
5- فيه ما خص به الأنبياء من القوة على الجماع الدال ذلك على صحة البنية وقوة الفحولية وكمال الرجولية مع ما هم فيه من الاشتغال بالعبادة والعلوم ، وقد وقع للنبي ( من ذلك أبلغ المعجزة ، لأنه مع اشتغاله بعبادة ربه وعلومه ومعالجة الخلق ، كان متقللاً من المآكل والمشارب المقتضية لضعف البدن على كثرة الجماع ، ومع ذلك فكان يطوف على نسائه في ليلة بغسل واحد وهن إحدى عشرة امرأة .
ويقال : إن كل من كان أتقى لله فشهوته أشد لأن الذي لا يتقي يتفرج بالنظر ونحوه .
3- جواز السهو على الأنبياء وأن ذلك لا يقدح في علو منصبهم .
4- إن قيل كيف جزم سليمان بأنه تأتي كل امرأة بغلام ؟
يحتمل : أن يكون لما أجاب الله دعوته أن يهب له ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده ، كان هذا عنده من جملة ذلك .(3/85)
ويحتمل : أن يكون ذلك من جنس التمني على الله والسؤال له أن يفعل والقسم عليه ، كقول أنس بن النضر : والله لا يكسر سنها .
وهناك احتمال ثالث ذكره النووي حيث قال : " هذا محمول على أن النبي ( أوحيَ إليه بذلك في حق سليمان ، لا أن كل من فعل هذا يحصل له هذا " .
5- قوله ( وايم الله لو قال : إن شاء الله ) جاء في رواية ( وايم نفس محمد بيده لو قال : إن شاء الله .. ) .
ففيه جواز اليمين بهذا اللفظ .
أيمان الرسول الله ( :
أولاً : ومقلب القلوب .
عن ابن عمر قال ( كانت يمين النبي ( ، لا ، ومقلب القلوب ) رواه البخاري .
ثانياً : والله .
قال ( ( فوالله لأني أعلمهم بالله وأشدهم خشية ) متفق عليه .
ثالثاً : ورب الكعبة .
عن أبي ذر . قال ( انتهيت إلى النبي ( وهو يقول : هم الأخسرون ورب الكعبة ، ... ) متفق عليه .
رابعاً : وايم الله .
كقوله ( ( وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) متفق عليه .
خامساً : وايم نفس محمد بيده .
كما في حديث : ( وايم الذي نفس محمد بيده ) .
سادساً : والذي نفس محمد بيده .
قال ( ( والذي نفس محمد بيده إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة ) متفق عليه .
سابعاً : والذي لا إله غيره .
قال ( ( ...... فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ، .... ) .
6- فضل الجهاد في سبيل الله .
7- تعظيم الأنبياء للجهاد في سبيل الله .
8- تعظيم الأنبياء للدين وحملهم همّ الإسلام .
9- ينبغي أن ينوي الإنسان بماله وأولاده أن يكونوا ناصرين للدين مجاهدين .
362 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ , هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ , لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ )) . وَنَزَلَتْ : (( إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً )) إلَى آخِرِ الآيَةِ " .(3/86)
363 - عَنْ الأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ ( قَالَ : (( كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ فَاخْتَصَمْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ ( ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ ، قُلْت : إذاً يَحْلِفُ وَلا يُبَالِي . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ , هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ , لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
من حلف على يمين صَبْر : يمين الصبر هي التي يحبس الحالف نفسه عليها .
قال ابن دقيق العيد : " يمين الصبر هي التي يصبر فيها نفسه على الجزم باليمين ، والصبر : الحبس ، فكأنه يحبس نفسه على هذا الأمر العظيم وهي اليمين الكاذبة ، ويقال لها : اليمين الغموس أيضاً " .
لقي الله وهو عليه غضبان : جاء عند مسلم ( وهو عنه معرض ) وفي رواية لمسلم أخرى ( فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة ) وعند أبي داود ( فليتبوأ مقعده من النار ) .
الفوائد :
1- تحريم أخذ أموال الناس بالإيمان الكاذبة .
وهذه تسمى اليمين الغموس وهي من الكبائر ، وعقوبتها :
كما في حديث الباب ( لقي الله وهو عليه غضبان ) .
وفي رواية لمسلم ( من اقتطع حق امرىء مسلم بيمينه فقد أوجب الله تعالى له النار وحرم عليه الجنة ) .
وفي رواية ( ليلقين الله وهو عنه معرض ) .
وتعريفها :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " فإذا كانت اليمين غموساً - وهو أن يحلف كاذباً عالماً بكذب نفسه فهذه اليمين - يأثم بها باتفاق المسلمين وعليه أن يستغفر الله منها وهي كبيرة " .
وهي من الكبائر :
قال ( ( الكبائر : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس ، واليمين الغموس ) رواه البخاري .
سميت بذلك :
قال ابن قدامة : " وهذه اليمين تسمى يمين الغموس لأنها تغمس صاحبها في الإثم " .
ولا كفارة فيها :(3/87)
لا خلاف بين أهل العلم أن الحالف كذباً عليه التوبة إلى الله مما قال وما ترتب عليه بيمينه من اقتطاع حق امرىء مسلم ، لكن اختلفوا هل مع التوبة الكفارة أم لا على قولين :
القول الأول : ليس عليها كفارة .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لأن الذي أتى به أعظم من أن يكون فيه كفارة .
ولأن الأحاديث الماضية التي فيها الوعيد الشديد لمن حلف كاذباً لم يذكر فيها الكفارة .
القول الثاني : تجب فيها الكفارة .
وهذا مذهب الشافعي .
قالوا : هو أحوج للكفارة من غيره ، وبأن الكفارة لا تزيده إلا أجراً .
والراجح الأول .
2- قوله ( مال مسلم ) قال النووي : " أما تقييده ( بالمسلم فليس يدل على عدم تحريم حق الذمي بل معناه أن هذا الوعيد الشديد وهو أنه يلقى الله تعالى وهو عليه غضبان لمن اقتطع حق المسلم ، وأما الذمي فاقتطاع حقه حرام لكن ليس يلزم أن تكون فيه هذه العقوبة العظيمة " .
3- هذا الحكم وهذه العقوبة لمن اقتطع حق المسلم ومات قبل التوبة ، وأما من تاب فندم على فعله ورد الحق إلى صاحبه وتحلل منه وعزم على أن لا يعود فقد سقط عنه الإثم .
4- قوله ( وهو فيها فاجر ) فالتقييد بكونه فاجراً لا بد منه ومعناها هو آثم ، ولا يكون آثماً إلا إذا كان متعمداً عالماً بأنه غير محق .
5- إثبات الغضب لله تعالى إثباتاً يليق بجلاله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تمثيل ولا تشبيه .
6- بيان غلظ تحريم حقوق المسلمين وأنه لا فرق بين قليل الحق وكثيره .
7- قال النووي في الحديث : " إن حكم الحاكم لا يبيح للإنسان ما لم يكن له ، وهذا مذهب جماهير العلماء
هذا هو النوع الأول من أنواع اليمين " .
النوع الثاني : اليمين اللغو .
قال تعالى (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ) .
عن عائشة قالت ( أنزلت : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ، في قوله : لا والله ، وبلى والله ) رواه البخاري .(3/88)
قال الصنعاني بعد أن ذكر قول عائشة : " فيه دليل على أن اللغو من الأيمان ما لا يكون عن قصد الحلف ، وإنما جرى على اللسان من غير إرادة الحلف " .
النوع الثالث : اليمين المنعقدة .
وهي التي تجب فيها الكفارة إذا حنث .
ويشترط للكفارة شروط :
أولاً : القصد .
لأنه لا مؤاخذة إلا بقصد ونية ، ولذلك أسقط الله تبارك وتعالى الكفارة في يمين اللغو .
ثانياً : أن تكون على مستقبل .
لأن اليمين على الماضي ليس فيها كفارة كما سبق .
ثالثاً : أن يحلف مختاراً .
لأن المكره لا مؤاخذة عليه ، لقوله ( ( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) رواه ابن ماجه .
فائدة :
الحنث في اليمين : أن يفعل ما حلف على تركه ، أو يترك ما حلف على فعله مختاراً ذاكراً عالماً .
مثال الأول : حلف أن لا يلبس هذا الثوب ، ثم لبسه .
مثال الثاني : حلف أن يأكل خبزة فلم يأكل .
مختاراً : وضده المكره .
ذاكراً : وضده الناسي .
فإن كان مكرهاً فلا كفارة عليه، مثل قال : والله لا ألبس هذا الثوب، ثم قال له أبوه ، والله لتلبسنه ، فلبسه فلا شيء عليه .
والناسي : مثال : قال والله لا أطالع في هذا الكتاب اليوم ، ثم ذهب وقرأه ناسياً ، فلا شيء عليه .
364 - عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ الأَنْصَارِيِّ ( أَنَّهُ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ ( تَحْتَ الشَّجَرَةِ , وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإِسْلامِ , كَاذِباً مُتَعَمِّداً , فَهُوَ كَمَا قَالَ , وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ , وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِيمَا لا يَمْلِكُ )) وَفِي رِوَايَةٍ : (( وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ )) . وَفِي رِوَايَةٍ : (( مَنِ ادَّعَى دَعْوَى كَاذِبَةً لِيَتَكَثَّرَ بِهَا , لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلاَّ قِلَّةً )) .
-----------------------------------------(3/89)
معاني الكلمات :
بملة : الملة بكسر الميم وتشديد اللام الدين والشريعة ، وهي نكرة في سياق الشرط فتعم جميع الملل من أهل الكتاب كاليهودية والنصرانية ومن لحق بهم من المجوسية والصابئة وغيرهم .
الفوائد :
1- هذه الحديث اشتمل على بعض النواهي :
قوله ( من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذباً متعمداً فهو كما قال )
مثاله : كأن يقول : هو يهودي إن كان فعل ذلك ، وهو فاعل ذلك .
وقد اختلف في معنى ذلك :
فقيل : يحتمل أن المراد بذلك التهديد والمبالغة في الوعيد لا الحكم .
وقال النووي : " إن كان الحالف به معظماً لما حلف به مجلاً له كان كافراً ، وإن لم يكن معظماً بل كان قلبه مطمئناً بالإيمان فهو كاذب في حلفه بما لا يحلف به ، ومعاملته إياه معاملة ما يحلف به ، لا يكون كافراً خارجاً عن ملة الإسلام ، ويجوز أن يطلق عليه اسم الكفر ويراد به كفر الإحسان ، وكفر نعمة الله تعالى ، فإنها تقتضي أن لا يحلف هذا الحلف
القبيح " .
وقال الحافظ ابن حجر : " والتحقيق التفصيل فإن اعتقد تعظيم ما ذكر كفر وإن قصد حقيقة التعليق فينظر فإن كان أراد أن يكون متصفاً بذلك كفر ، لأن إرادة الكفر كفر ، وإن أراد البعد عن ذلك لم يكفر " .
هل عليه كفارة ؟ اختلف العلماء :
فقيل : عليه الكفارة .
وهذا مذهب الحنفية والحنابلة .
وقيل : لا كفارة عليه .
وهذا مذهب المالكية والشافعية .
لأنه قال ( فهو كما قال ) ولم يذكر كفارة .
قوله ( ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة )
فيه تحريم الانتحار ( وسبقت مباحثه في حديث مضى ) .
قوله ( بشيء ) جاء في رواية لمسلم ( بحديدة ) وفي رواية أخرى ( ومن تحسى سماً ) لكن رواية ( بشيء ) أعم .
قوله ( وليس على رجل نذر فيما لا يملك )
فلو نذر ما لا يملكه فإن نذره لاغ ، كأن يقول : إن نجحت سأعتق عبد فلان فهنا لا يصح النذر ، لأنه لا يملكه .
قوله ( ولعن المؤمن كقتله )
فيه تحريم اللعن ، وهو حرام وكبيرة من الكبائر .(3/90)
قال ( ( لا ينبغي لصديق أن يكون لعاناً ) رواه مسلم .
وقال ( ( لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة ) رواه مسلم .
( شفعاء ) قال النووي : معناه لا يشفعون يوم القيامة حين يشفع المؤمنون في إخوانهم الذين استوجبوا النار .
( ولا شهداء ) فيه ثلاثة اقوال اصحها وأشهرها لا يكونون شهداء يوم القيامة على الأمم بتبليغ رسلهم إليهم الرسالات ، والثاني : لا يكونون شهداء في الدنيا أي لا تقبل شهادتهم لفسقهم ، والثالث : لا يرزقون الشهادة وهي القتل في سبيل الله .
وفي حديث الباب ( لعن المؤمن كقتله ) .
وقال ( ( إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء ، فتغلق أبواب السماء دونها ، ثم تهبط إلى الأرض ، فتغلق أبوابها ثم تأخذ يميناً وشمالاً ، فإذا لم تجد مساغاً رجعت إلى قائلها ) رواه أبو داود .
معنى قوله ( لعن المؤمن كقتله ) قيل : لأن القاتل يقطعه عن منافع الدنيا وهذا يقطعه عن نعيم الآخرة ورحمة الله تعالى .
وقيل : معنى لعن المؤمن كقتله أي في الإثم ، قال النووي : " وهذا أظهر " .
أقسام اللعن :
أولاً : لعن المسلم المصون .
حرام بالإجماع . للأدلة الكثيرة التي سبقت التي تدل على تحريم ذلك .
ثانياً : لعن المسلم الفاسق .
هذا لا يجوز لعنه وحكي في ذلك الاتفاق .
ولهذا نهى النبي ( عن لعن عبد الله بن حمار الذي كان يشرب الخمر ، فعن عمر ( أن رجلاً كان على عهد رسول الله ( كان اسمه : عبدالله ، وكان يلقب حماراً ، وكان يُضحك رسول الله ( ، وكان النبي ( قد جلده في الشراب ، فأتي به ، فقال النبي ( : لا تلعنوه ، فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله ) رواه البخاري .
ثالثاً : اللعن بالأوصاف العامة .
مثل : لعنة الله على الظالمين ، لعنة الله على الكافرين .
هذا جائز بالإجماع .
قال تعالى ( فلعنة الله على الكافرين ) وقال تعالى ( لعنة الله على الظالمين ) وقال تعالى ( لعنة الله على الكاذبين ) .(3/91)
رابعاً : لعن الكافر المعين الذي مات على الكفر .
مثل فرعون ، وأبي جهل .
فهذا جائز بالإجماع .
قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) .
خامساً : لعن الكافر المعين الحي .
فهذا مما اختلف فيه العلماء على قولين :
القول الأول : منع لعنه .
قالوا : ربما يسلم هذا الكافر فيموت مقرباً عند الله ، ورجح هذا النووي .
القول الثاني :جواز لعنه .
ورجحه ابن العربي المالكي .
واستدلوا بقصة الرجل الذي كان يؤتى به سكران فيحده : ( فقال رجل: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به؟ فقال رسول الله (: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله ) رواه البخاري .
قالوا : فدل على أن من لا يحب الله ورسوله يلعن .
والذي يظهر - والله أعلم - جواز لعنه - خاصة إذا كان ممن يؤذي المسلمين .
قوله ( ومن ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة ) فيه تحريم ادعاء الإنسان ما ليس فيه .
قال القاضي عياض : " هو عام في كل دعوى يتشبع بها المرء بما لم يعط من مال يختال في التجمل به من غيره ، أو نسب ينتمي إليه ، أو علم يتحلى به ، وليس هو من جملته ، أو دين يظهره ، وليس هو من أهله ، فقد أعلم ( أنه غير مبارك له في دعواه ، ولا زاك ما اكتسبه ، ومثله الحديث الآخر ( اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ) " .
2- فيه أن الجزاء من جنس العمل .
3- التحذير من أن يتشبع الإنسان بما لم يعط .
بَابُ النَّذْرِ
مقدمه :
تعريفه :
لغة : الإيجاب .
وشرعاً : إلزام المكلف نفسه شيئاً يملكه غير محال .
( إلزام مكلف ) : أي البالغ العاقل .
[ يملكه ) فإن نذر شيئاً لا يملكه لا يلزمه الوفاء .(3/92)
365- عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ( قَالَ : (( قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً - وَفِي رِوَايَةٍ : يَوْماً - فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ؟ قَالَ : فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
قلت يا رسول الله : جاء في رواية أن سؤال عمر للنبي ( كان بالجعرانة .
كنت نذرت في الجاهلية : جاء في رواية عند مسلم ( فلما أسلمت سألت ) .
في المسجد الحرام : جاء في رواية ( عند الكعبة ) .
الفوائد :
الحديث سبق شرحه في كتاب الصيام : ومن مباحثه :
1- حكم نذر الكافر ، اختلف العلماء في حكم نذر الكافر على قولين :
القول الأول : أنه لا يصح .
وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك .
القول الثاني : أنه يصح .
وهذا قول أبو ثور والبخاري .
لحديث الباب .
وهذا هو الصحيح ، فإذا نذر الكافر حال كفره ، فإن وفى به حال كفره برئت ذمته ، وإن لم يف لزمه أن يوفي به بعد إسلامه .
2- وجوب الوفاء بالنذر إذا كان طاعة .
لقوله ( أوف بنذرك ) وهذا أمر .
وقال ( ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ) رواه البخاري .
وعن ثابت بن الضحاك قال ( نذر رجل على عهد النبي ( أن ينحر إبلاً ببوانة ، فأتى النبي ( ، فقال : إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة ، فقال النبي ( : هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ فقالوا : لا ، فقال النبي ( : أوف بنذرك ) رواه أبو داود .
والنذر قسمان :
طاعة : فهذا يجب الوفاء به للأدلة السابقة .
مثال : لله نذر أن أصوم أسبوعاً .
نذر معصية : فهذا لا يجب الوفاء به بالإجماع .
لقوله ( ( من نذر أن يعصي الله فلا يعصه ) رواه البخاري .
لكن اختلفوا هل عليه كفارة يمين أم لا ؟
فقيل : يلزمه كفارة يمين .
وهذا مذهب الحنابلة .
لحديث عائشة . أن النبي ( قال ( لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين ) رواه أبو داود .
وقيل : لا تلزمه كفارة .(3/93)
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لحديث عائشة ( من نذر أن يعصي الله فلا يعصه ) .
قالوا : لو كانت الكفارة واجبة لذكرها النبي ( فدل ذلك على عدم وجوبها .
فائدة :إذا نذر صيام شهر :
أولاً : من نذر صيام شهر معين .
كأن يقول : لله نذر أن أصوم شهر شعبان ، فهنا يلزمه التتابع ، لأن التعيين يدل على التتابع .
ثانياً : من نذر صيام شهر غير معين .
كأن يقول : لله عليّ نذر صيام شهر ، ولم يعين ، فلم يقل محرماً أو صفراً مثلاً ، فهذه فيها قولان للعلماء :
قيل : يلزمه التتابع .
وقيل : لا يلزمه إلا بأمرين : النية - أو الاشتراط .
وهذا القول هو الصحيح .
لقوله تعالى في الكفارة (فصيام شهرين متتابعين) فلو كان إطلاق الشهر يقتضي التتابع لما احتيج أن يقيده الله تعالى بالتتابع .
3- استدل بحديث الباب من قال : إنه لا يشترط للاعتكاف صوم ، وهذا القول هو الصحيح وهو مذهب الشافعي ، لأن الليل ليس محلاً للاعتكاف [ وقد سبقت المسألة في كتاب الصيام ] .
4- استدل بالحديث من قال إن أقل الاعتكاف يوم وليلة ، وهذا مسألة اختلف العلماء فيها : ما أقل الاعتكاف ؟
فقيل : أقله يوم وليلة .
وهذا مذهب المالكية .
لحديث الباب .
وقيل : أقله عشرة أيام .
لأن النبي ( اعتكف العشر الأواخر من رمضان .
وهذا قول ضعيف ، لأنه ثبت أن النبي ( اعتكف أكثر من ذلك .
وحديث الباب يرد عليه .
وقيل : أقل مدته لحظة .
وهذا قول أكثر العلماء .
قالوا : لأن الاعتكاف في لغة العرب هو الإقامة ، فكل إقامة في المسجد بنية الاعتكاف تعتبر اعتكاف .
والراجح :
5- مشروعية الاعتكاف .
6- وجوف الوفاء بالنذر إذا كان طاعة .
7- أن الاعتكاف عبادة لله .
366 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ ( (( أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذْرِ , وَقَالَ : إنَّ النَّذْرَ لا يَأْتِي بِخَيْرٍ . وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ )) .(3/94)
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
نهى : النهي طلب الكف على وجه الاستعلاء .
الفوائد :
1- في الحديث نهي النبي ( عن النذر ، وقد اختلف في هذا النهي هل هو للتحريم أو للكراهة على أقوال :
القول الأول : أنه نهي تحريم .
وهذا اختيار ابن تيمية ، ورجحه الصنعاني في سبل السلام .
لحديث الباب حيث نهى النبي ( عنه ، والأصل في النهي التحريم .
ولقوله ( ( لا تنذروا ) رواه مسلم .
ويؤيد ذلك قوله ( ( إنه لا يأتي بخير ) .
القول الثاني : أنه مكروه .
وهو مذهب الجمهور .
قالوا : إن النبي ( نهى عن النذر ، وهذا النهي للتحريم ، والصارف للكراهة قالوا : بأن الله تعالى مدح الذين يوفون بالنذر فقال تعالى ( يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً ) ، فهذا صارف من التحريم إلى الكراهة .
القول الثالث : أنه مستحب ، والمنهي عنه هو نذر المجازاة .
واختار هذا القول القرطبي والنووي .
ونذر المجازاة أن يعلق فعل الطاعة على وجود نعمة أو دفع نقمة ، كأن يقول : إن شفى الله مريضي فلله عليّ أن أصوم شهراً ، أما ما عدا ذلك فهو مستحب ، كأن يقول : لله عليّ نذر أن أصوم شهراً .
قالوا : إنه مستحب لأن الإنسان يؤكد الطاعة على نفسه فيكون بذلك مستحباً ، بخلاف المجازاة فهو مكروه .
وهذا القول قوي .
2- في الحديث الحكمة من النهي عن النذر .
فقد ذكر النبي ( ( إنما يستخرج به من البخيل ) .
ومعنى هذا الكلام : قال النووي :" معناه أنه لا يأتي بهذه القربة تطوعاً محضاً مبتدئاً ، وإنما يأتي بها في مقابلة شفاء المريض وغيره مما تعلق النذر عليه .
وهذه حال البخيل ، فإنه لا يخرج من ماله شيئاً إلا بعوض عاجل يزيد على ما أخرج غالباً " .
قوله ( لا يأتي بخير ) قال النووي : " معناه إنه لا يرد من القدر كما بينته الروايات الأخرى " .
وقد جاءت روايات توضح سبب النهي .
ففي حديث الباب ( إنما يستخرج من البخيل ) .(3/95)
وفي الصحيحين ( لا يغني من القدر شيئاً ) وفي رواية ( لا يرد من القدر شيئاً ) وفي رواية ( لا يقدم شيئاً ولا يؤخر ) .
وفي رواية ( لا يرد شيئاً ) وفي رواية ( إنه لا يقرب من ابن آدم شيئاً لم يكن الله قدره له ) .
في هذه الروايات بيان الحكمة من النهي عن النذر .
قيل : يحتمل أن يكون السبب عن النهي عن كون الناذر يصير ملتزماً له فيأتي به تكلفاً بغير نشاط .
وقيل : يحتمل أن يكون سببه كونه يأتي بالقربة التي التزمها في نذره على صورة المعاوضة للأمر الذي طلبه فينقص أجره ، وشأن العبادة أن تكون متمحضة لله تعالى .
ويحتمل : أن النهي لكونه قد يظن بعض الجهلة أن النذر يرد القدر ، ويمنع من حصول المقدر ، فنهى عنه خوفاً من جاهل يعتقد ذلك .
وهذا الصحيح ، وسياق الحديث يؤيد ذلك .
ومن الحكم التي من أجلها نهي عن النذر ؟
أن فيه تركاً للدعاء الذي أمر الله به وحث عليه .
أن كثيراً من الناس ينذرون ولا يوفون ، وهذا أمر خطير ، قال تعالى ( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا ) .
3- النهي عن النذر .
4- ذم من لا يفعل العبادة إلا بمقابل .
5- أن المكتوب سيقع سواء نذر الإنسان أم لا .
6- أن الله غني عن العوض .
7- ذم البخل .
367 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ( قَالَ : (( نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ حَافِيَةً فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا رَسُولَ اللَّهِ ( فَاسْتَفْتَيْتُهُ فَقَالَ : لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ )).
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
أن تمشي إلى بيت الله : عند مسلم ( حافية ) ، وعند أحمد وأصحاب السنن ( أن أخته نذرت أن تمشي حافية غير مختمرة ).
وعند أبي داود ( أن عقبة سأل النبي ( فقال : إن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت وشكا إليه ضعفها ) .(3/96)
لتمش ولتركب : جاء في رواية ( مرها فلتختمر ولتصم ثلاثة أيام ) .
الفوائد :
1- في هذا الحديث نذرت هذه المرأة أن تمشي إلى بيت الله الحرم حافية ، فاشتمل هذا النذر على أمرين :
الأمر الأول : أن تقصد المسجد الحرام .
الأمر الثاني : أن تذهب للمسجد الحرام حافية .
وحيث إن النذر إذا اشتمل على عبادة وعلى أمر غير عبادة ، فلكل واحد حكمه :
فنذر العبادة ( وهو قصد البيت الحرم ) يجب الوفاء به .
ونذر المباح ( أن تمشي حافية ) فإنها تكفر عن يمينها ، لأن نذر الذهاب للمسجد حافية ليس من مقصود العبادة .
ففي هذا الحديث حكم من نذر طاعة وغير طاعة :
- فما كان طاعة فإنه يجب الوفاء به .
لقوله ( ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ) رواه البخاري .
- وما كان غير طاعة [ مباح ] فهو مخير وإن تركه فعليه كفارة يمين .
كما في حديث الباب وقد جاء في رواية عند أبي داود قال النبي ( ( إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئاً ، مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام ) .
فالنذر أنواع كما تقدم :
نذر طاعة [ سبق أنه يجب الوفاء به ] .
نذر معصية [ يحرم الوفاء به ] .
نذر مباح [ كما في حديث الباب مخير بين فعله أو كفارة يمين ] .
مثال : لله علي نذر أن ألبس هذا الثوب .
فهو مخير : إن شاء لبس الثوب ، وإن شاء كفر .
نذر اللجاج والغضب .
أي النذر الذي سببه الخصومة أو المنازعة ، وهو تعليق نذره بشرط يقصد المنع منه أو الحمل عليه أو التصديق أو التكذيب .
مثال : إن فعلتُ كذا فلله علي نذر أن أصوم سنة [ فغرضه هنا أن يمنع نفسه من ذلك ]
أو الحمل عليه : كأن يقول إن لم أفعل كذا فعبيدي أحرار [ مقصوده حمل نفسه على الفعل ] .
التصديق : مثل أن يحدثنا بحديث فأقول هذا ليس بصحيح ، فقال لله علي نذر إن كان كذباً أن أصوم سنة .
التكذيب : أن يحدثه شخص بشيء فيقول أنت كذاب - إن كان ما تقوله صدقاً فعبيدي أحرار [ مقصوده هنا أن يكذب هذا الرجل ] .(3/97)
هذا النوع حكمه : يخير بين فعله أو الكفارة ، لحديث [ لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين ] .
ولأنه لم يقصد النذر .
نذر المطلق : كأن يقول : لله علي نذر ، ولم يقل صلاة أو صيام ، فهذا كفارته كفارة يمين .
2- جواز الاستنابة في الفتيا .
3- حرص السلف على الخير .
4- وجوب الوفاء بنذر الطاعة .
5- أن الله مستغن عن تعذيب الإنسان نفسه .
6- رحمة الإسلام وعدم مشقته .
7- في الحديث بعض العلل من النهي عن النذر : وهو العجز عن القيام بالمنذور .
368 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ : (( اسْتَفْتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رَسُولَ اللَّهِ ( فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ , تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : فَاقْضِهِ عَنْهَا )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
استفتى : أي سأل .
سعد بن عبادة :صحابي جليل .
الفوائد :
1- اختلف العلماء في تعيين نذر أم سعد :
فقيل : كان صوماً .
لحديث ابن عباس عند مسلم قال : ( جاء رجل فقال يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها . قال : نعم ) .
وتعقب بأنه لم يتعين أن الرجل المذكور هو سعد بن عبادة .
وقيل : كان عتقاً . قاله ابن عبد البر .
وقيل : كان نذرها صدقة .
والله أعلم .
2- إن مات وعليه نذر فإنه يقضي عنه وليه .
فإن كان النذر مالي فإنه يجب قضاؤه .
قال النووي : " قوله [ فاقضه عنها ] دليل لقضاء الحقوق الواجبة على الميت ، فأما الحقوق المالية فمجمع عليه " .
ويجب قضاء الحقوق المالية [من زكاة أو نذر أو كفارة] سواء أوصى بذلك أو لم يوص كديون الآدمي لقصة أم سعد هذه .
أما إذا كان النذر صوماً فإنه يستحب قضاؤه عن الميت استحباباً لا وجوباً .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
استحباباً لحديث ( من مات وعليه صوم صام عنه وليه ) .
لكن لا يجب لقوله تعالى ( ولا تزر وازرة وزرى أخرى ) .(3/98)
وذهب أهل الظاهر إلى الوجوب لحديث سعد هذا .
قال النووي : " حديث سعد يحمل أنه قضاه من تركتها ، أو تبرع به ، وليس في الحديث تصريح بإلزامه بذلك " .
[ وقد سبقت المسألة في كتاب الصيام ] .
3- وجوب الوفاء بالنذر .
4- فضل بر الوالدين .
5- استفتاء الأعلم .
6- فضل بر الوالدين بعد الوفاة والتوصل إلى براءة ما في ذمتهم .
369 - عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ( قَالَ : (( قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنَّ مِنْ تَوْبَتِي : أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي , صَدَقَةً إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
أن أنخلع : أي أعري من مالي كما يعرى الإنسان إذا خلع ثيابه .
الفوائد :
1- لما تاب الله على كعب بن مالك وصاحبيه حين تخلفوا عن غزوة تبوك من غير مرض ولا عذر ، وصدقوا مع الله ، فأنزل الله توبتهم ، أراد كعب - فرحاً وسروراً بهذه النعمة العظيمة - أن يتصدق بماله لله عز وجل ، فقال له النبي ( أمسك بعض مالك فهو خير لك .
2- وقد اختلف العلماء لو نذر الإنسان التصدق بكل ماله ماذا عليه على أقوال :
القول الأول : يجزىء الثلث .
وهذا مذهب مالك وأحمد .
لقصة أبي لبابة ، فإنه قال للنبي ( ( إن من توبة الله عليّ أن أنخلع من مالي صدقة لله تعالى ، فقال النبي ( : يجزىء عنك الثلث ) رواه أحمد .
ولحديث الباب ( أمسك عليك بعض مالك ) .
وقد جاء عند أبي داود ( إن من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي كله إلى الله ورسوله صدقة ؟ قال : لا ، قلت : فنصفه ؟ قال : لا ، قلت : فثلثه ؟ قال : نعم ) .
القول الثاني : يجب أن يخرج جميع ماله .
لأن أبا بكر أنفق جميع ماله وأقره النبي ( .
القول الثالث : إن كان ملياً لزمه وإن كان فقيراً فعليه كفارة يمين .
وهذا قول الليث .
القول الرابع : لا يلزمه شيء .(3/99)
القول الخامس : يلزمه كفارة يمين .
وهذا قول الثوري والأوزاعي .
والراجح - والله أعلم - أن ذلك يرجع إلى اختلاف الأحوال :
فمن كان قوياً على ذلك يعلم من نفسه الصبر لم يمنع ، وعليه يتنزل فعل أبي بكر الصديق ، وإيثار الأنصار على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة .
ومن لم يكن كذلك فلا ، وعليه يتنزل : قوله ( ( لا صدقة إلا عن ظهر غنى ) وقوله ( ( أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى ) .
3- مشروعية شكر نعمة الله تعالى بالقيام بعبادة أو صوم أو صدقة أو قيام .
( فقد كان النبي ( يقوم الليل حتى تتفطر قدماه ، فتقول له عائشة ؟ لم تفعل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك ؟ قال : أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً ) .
( وكان ( إذا جاءه أمر يسره خر ساجداً لله تعالى ) رواه أبو داود .
4- استشارة أهل العلم .
5- فضل الصدق مع الله .
6- فضل كعب بن مالك .
7- حرص الصحابة على الخير وحبهم له .
8- إيمان الصحابة القوي حيث أراد أن يتبرع بجميع ماله ، وهذا يدل على قوة إيمانهم ويقينهم بالله تعالى .
??
??
??
??
10
11(3/100)
بسم الله الرحمن الرحيم
( 8 )
إيقاظ الأفهام
في شرح
عمدة الأحكام
كتاب القضاء - كتاب الأطعمة
كتاب الصيد- كتاب الأشربة
كتاب اللباس - كتاب الجهاد
كتاب العتق
بقلم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية / رفحاء
الموقع على الإنترنت
www.almotaqeen.net
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد
فهذا شرح لمتن عمدة الأحكام ، قمت بشرحه لبعض الطلاب في المسجد في مدينة رفحاء ، وذكرت فيه ما يتعلق بالحديث من فوائد فقهية وغيرها ، ومن كلام أهل العلم كالإمام النووي والحافظ ابن حجر وابن قدامة وغيرهم من العلماء .
وهذه المذكرة تتضمن المذكرة الثامنة والأخيرة من هذا الشرح .
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً وعملاً صالحاً .
أخوكم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
البريد الإلكتروني
Smr898@hotmail.com
بَابُ الْقَضَاءِ
مقدمة :
القضاء لغة : إحكام الشيء والفراغ منه .
واصطلاحاً : تبيين الحكم الشرعي والإلزام به وفصل الخصومات .
والأصل في مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) .
وقال تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ) .
وعن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله ( : ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد ) .
وأجمع المسلمون على مشروعيته .
وحكمه : فرض كفاية .
لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه .
وبعث ( علياً إلى اليمن قاضياً ، وبعث أيضاً معاذ قاضياً .
ولأنه ( تولاه بنفسه .
370 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ )) .(4/1)
وَفِي لَفْظٍ (( مَنْ عَمِلَ عَمَلاٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
من أحدث : أي ابتدع واخترع شيئاً ليس له أصل .
في أمرنا : أي ديننا وشريعتنا .
ما ليس منه : مما ينافيه ويناقضه .
فهو رد : أي مردود على صاحبه وعليه إثمه .
الفوائد :
1- هذا الحديث أصل في رد البدع المستحدثة في دين الإسلام .
قال النووي : " هذا الحديث مما ينبغي حفظه ، واستعماله في إبطال المنكرات ، وإشاعة الاستدلال به ".
وقال الشيخ الألباني : " هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام ، وهو من جوامع كلمه ( ، فإنه صريح في رد إبطال كل البدع والمحدثات " .
2- تحريم إحداث شيء في دين الله ولو عن حسن نية .
3- أن من أحدث شيئاً في دين الله فعمله هذا مردود عليه .
وقد ذكر العلماء أن العمل والعبادة لا يقبل إلا بشرطين :
الأول : الإخلاص .
لحديث : ( إنما الأعمال بالنيات ).
الثاني : المتابعة للرسول ( .
لحديث الباب .
4- خطر البدع والإحداث في الدين .
لأن البدع تستلزم أن الشريعة غير كاملة ، وأنها لم تتم والعياذ بالله ، وهذا تكذيب للقرآن .
قال تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... ) فهذه الآية الكريمة تدل على تمام الشريعة وكمالها ، وكفايتها لكل ما يحتاجه الخلق .
قال ابن كثير : " هذه أكبر نعم الله على هذه الأمة ، حيث أكمل تعالى لهم دينهم ، فلا يحتاجون إلى دين غيره ".
5- أن ديننا كامل فلا يحتاج إلى من يكمله .
قال تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... ) .
وعن أبي ذر قال : ( تركنا رسول الله ( ما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكر لنا فيه علماً ، قال ( : ما بقي شيء يقرب إلى الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم ). رواه الطبراني(4/2)
قال ابن الماجشون : " سمعت مالكاً يقول : من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة ، فقد زعم أن محمداً خان الرسالة ، لأن الله يقول : اليوم أكملت لكم دينكم ، فما لم يكن يؤمئذ ديناً ، فلا يكون اليوم ديناً ".
6- جاءت نصوص كثيرة في التحذير من البدع وأنها ضلال .
كحديث الباب .
وقوله : ( إياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ). رواه أبو داود
7- وجوب معرفه نسان البدع للتحذير منها والتنفير عنها .
قال الشاعر :
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الخير من الشر يقع فيه
8- أن البدع أحب إلى إبليس من المعصية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " إن أهل البدع شر من أهل المعاصي الشهوانية بالسنة والإجماع " .
371 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (( دَخَلَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ - امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ - عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ( فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ , لا يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ , إلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ . فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
رجل شحيح : أي بخيل .
من جناح : من إثم .
الفوائد :
1- وجوب إنفاق الزوج على زوجته .
قال ابن قدامة : " نفقة الزوجة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع " .
قال تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) . من قدر عليه رزقه : أي ضيق عليه .(4/3)
وقال ( : ( اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم ، أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) . رواه مسلم
ولحديث الباب .
وأما الإجماع فاتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين إلا الناشزين ، ذكره ابن المنذر وغيره .
2- أن نفقة الزوجة مقدرة بالكفاية لا بالأمداد ، لقوله : ( بالمعروف ) .
وهذا مذهب الجماهير من العلماء .
لحديث الباب وفيه : ( خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ... ) .
وذهب الشافعي إلى أنها مقدرة بالأمداد ، لكن هذا قول ضعيف .
ولذا قال النووي : " وهذا الحديث - حديث هند - يرد على أصحابنا ، فإن النبي ( أمرها أن تأخذ الكفاية بالمعروف ولم يقدر لها نوعاً ولا قدراً " .
- والنفقة على الزوجة فضلها عظيم :
عن أبي مسعود قال : قال رسول الله ( : ( إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة ) . متفق عليه
وعن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله ( قال : ( إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في فيّ امرأتك ) . متفق عليه
3- أنه لا يجوز للمرأة إذا أُذن لها بالأخذ من مال زوجها للنفقة أن تأخذ ما خرج عن العادة والعرف .
4- استدل بحديث هند على جواز الحكم على الغائب .
قال ابن القيم : " ولا دليل فيه ، لأن أبا سفيان كان حاضراً في البلد لم يكن مسافراً ، والنبي ( لم يسألها البينة ولا يُعطى المدعي بمجرد دعواه ، وإنما كان هذا فتوى منه ( ".
5- استدل بالحديث على مسألة الظفر ، وهي : أن للإنسان أن يأخذ من مال غريمه إذا ظفر به بقدر حقه الذي جحده إياه .
قال ابن القيم : " ولا يدل لثلاثة أوجه :(4/4)
أحدها : أن سبب الحق ها هنا ظاهر ، وهو الزوجية ، فلا يكون الأخذ خيانة في الظاهر ، فلا يتناوله قول النبي ( : ( أد الأمانة إلى من أئتمنك ولا تخن من خانك ) ولهذا نص أحمد على المسألتين مفرقاً بينهما فمنع من الأخذ في مسألة الظفر ، وجوّز للزوجة الأخذ ، وعمل بكلا الحديثين .
الثاني : أنه يشق على الزوجة أن ترفعه إلى الحاكم ، فيُلزمه بالإنفاق أو الفراق ، وفي ذلك مضرة عليها مع تمكنها من أخذ حقها .
الثالث : أن حقها يتجدد كل يوم ، فليس هو حقاً واحداً مستقراً يمكن أن تستدين عليه ، أو ترفعه إلى الحاكم بخلاف حق الدين " .
6- قال ابن القيم : " وفي حديث هند دليل على جواز قول الرجل في غريمه ما فيه من العيوب عند شكواه ، وأن ذلك ليس بغيبة ، ونظير ذلك قول الآخر في خصمه : يا رسول الله ، إنه فاجر ولا يبالي ما حلف به " .
7- وقال رحمه الله : " وفيه دليل على تفرد الأب بنفقة أولاده ولا يشاركه فيها الأم وهذا إجماع من العلماء إلا قول شاذ لا يلتفت إليه ، وأن على الأم من النفقة بقدر ميراثها " .
8- أن الإنفاق في الزوجية من جانب واحد للزوج على زوجها .
9- ذم الشح ، وأنه يمنع الإنسان ما وجب عليه .
10- جواز سماع كلام الأجنبية للحاجة .
372 - عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( سَمِعَ جَلَبَةَ خَصْمٍ بِبَابِ حُجْرَتِهِ , فَخَرَجَ إلَيْهِمْ , فَقَالَ : أَلا إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ , وَإِنَّمَا يَأْتِينِي الْخَصْمُ , فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ , فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ , فَأَقْضِي لَهُ . فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ نَارٍ , فَلْيَحْمِلْهَا أَوْ يَذَرْهَا )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
سمع جلبة خصم : الجَلَبة بفتح الجيم واللام ، اختلاط الأصوات .(4/5)
بباب حجرته : الحجرة المذكورة هي منزل أم سلمة ، ووقع عند مسلم : ( بباب أم سلمة ) .
أنا بشر : المراد أنه مشارك لهم في أصل الخلقة ، أي كواحد من البشر في عدم علم الغيب .
فلعل : بمعنى عسى .
أبلغ : أي أبلغ في حجته من الآخر .
فأحسب أنه صادق : في الكلام حذف تقديره : ( وهو في الباطن كاذب ) .
فأقضي له : في رواية : ( فأقضي له على نحو ما سمعت ) .
قطعة من النار : إن أخذها على علمه بأنها حرام عليه دخل النار .
( فليحملها أو يذرها : أي يتركها و [ أو ] ليست للتخيير ، وإنما هي للتهديد ، كقوله تعالى : ( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) .
الفوائد :
1- أن القاضي يقضي على حسب ما سمع .
2- أن القاضي لا يجوز له أن يقضي بعلمه ، وهذه مسألة اختلف العلماء فيها على قولين :
القول الأول : لا يجوز أن يقضي بعلمه .
وهذا قول مالك وأحمد .
لقوله ( في حديث الباب : ( فأقضي له نحو ما أسمع ) فدل على أنه يقضي فيما يسمع لا فيما يعلم .
القول الثاني : يجوز ذلك .
وهو قول أبي يوسف وأبي ثور واختاره المزني .
لأن النبي ( قال لهند : ( خذي ما يكفيك ... ) فحكم لها من غير بينة ولا إقرار لعلمه بصدقها .
والراجح الأول .
قال ابن قدامة : " فأما حديث أبي سفيان فلا حجة فيه لأنه فتيا لا حكم ، بدليل أن النبي ( أفتى في حق أبي سفيان من غير حضوره ، ولو كان حكماً عليه لم يحكم عليه في غيبته " .
3- أن حكم القاضي لا يحلل حراماً ولا يحرم حلالاً .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
وعلى هذا فيكون قضاء القاضي نافذاً ظاهراً لا باطناً .
وجه الدلالة : لأنه توعد من حكم له بأنه يقتطع له قطعة من نار .
4- عقوبة من أخذ مالاً بدون حق أنه يقتطع قطعة من النار .
5- أن الرسول ( لا يعلم الغيب .
قال تعالى : ( وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ) .(4/6)
6- أن الرسول ( بشر ، يصيبه ما يصيب البشر من الأمراض والمصائب والموت والجوع .
لكن اختص هو وبقية الأنبياء بخصائص منها :
الوحي - يدفنون حيث يموتون - أحياء في قبورهم - يخيرون عند موتهم - لا تأكل الأرض أجسادهم .
7- موعظة الإمام الخصوم وتذكيرهم بعذاب الله .
373- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنهما قَالَ : (( كَتَبَ أَبِي - أَوْ كَتَبْتُ لَهُ - إلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ وَهُوَ قَاضٍ بِسِجِسْتَانَ : أَنْ لا تَحْكُمْ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ . فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ( يَقُولُ : لا يَحْكُمْ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ )) .
وَفِي رِوَايَةٍ : (( لا يَقْضِيَنَّ حَاكِمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
سجستان : بكسر السين ، وهي جهة الهند .
حَكَم : بفتح الحاء ، هو الحاكم .
الفوائد :
1- في الحديث أدب من آداب القاضي ، وهو نهيه أن يحكم وهو غضبان .
وقد اختلف في النهي هل هو للتحريم أو للكراهة ؟
والراجح أنه للتحريم .
قال في المغني : " لا خلاف بين أهل العلم فيما علمناه في أن القاضي لا ينبغي له أن يقضي وهو غضبان " .
2- الحكمة من النهي :
قال ابن دقيق العيد : " فيه النهي عن الحكم حالة الغضب ، لما يحصل بسببه من التغير الذي يختل به النظر فلا يحصل استيفاء الحكم على الوجه " .
قال : " وعداه الفقهاء بهذا المعنى إلى كل ما يحصل به تغير الفكر كالجوع والعطش المفرطين وغلبة النعاس وسائر ما يتعلق به القلب تعلقاً يشغله عن استيفاء النظر " .(4/7)
قال ابن قدامة : " وفي معنى الغضب كلما شغل فكره من الجوع المفرط والعطش الشديد والجوع المزعج ومدافعة أحد الأخبثين وشدة النعاس والهم والغم والحزن والفرح ، فهذه كلها تمنع الحاكم لأنها تمنع حضور القلب واستيفاء الفكر الذي يتوصل به إلى إصابة الحق في الغالب ، فهي بمعنى الغضب المنصوص عليه فتجري مجراه " .
3- لو خالف القاضي وحكم وهو غضبان :
فقيل : لا ينفذ قضاؤه .
لأنه منهي عنه ، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه .
وقيل : يصح إن صادف الحق مع الكراهة .
وهذا قول الجمهور .
قال النووي في حديث اللقطة : " فيه جواز الفتوى في حال الغضب ، وكذلك الحكم ، وينفذ ولكنه مع الكراهة في حقنا ولا يكره في حقه ( لأنه لا يخاف عليه في الغضب ما يخاف على غيره " .
وبعضهم استدل أنه ( قضى للزبير بشراح الحرة بعد أن أغضبه خصم الزبير .
قال الحافظ : " لكن لا حجة فيه لرفع الكراهة عن غيره لعصمته ( ، فلا يقول في الغضب إلا كما يقول في الرضا " .
4- أنه ينبغي للحاكم أن يكون فارغ البال عند التحاكم .
5- حماية الشريعة للأموال والأعراض والأبدان ، لأن هذا النهي من أجل أن لا يخطئ الحاكم في حكمه ، والخطأ في حكمه يعتبر جناية على الأموال والأبدان والأعراض .
فائدة :
بعض آداب القاضي :
أولاً : ينبغي أن يكون قوياً من غير عنف ، ليناً من غير ضعف ، لا يطمع القوي في باطله ، ولا ييأس الضعيف من عدله ، ويكون حليماً متأنياً ذا فطنة وتيقظ ، لا يؤتى من غفلة ولا يخدع من غرة .
قال علي : " لا ينبغي أن يكون القاضي قاضياً حتى يكون فيه خمس خصال : عفيف ، حليم ، عالم بما كان قبله ، مستشير ذوي الألباب ، لا يخاف في الله لومة لائم " .
وقال عمر بن عبد العزيز : " ينبغي للقاضي أن تجتمع فيه سبع خلال : العقل ، والعفة ، والورع ، والنزاهة ، والصرامة ، والعلم بالسنن ، والحلم " .
ثانياً : ينبغي للقاضي أن يشاور فيما يشكل عليه .(4/8)
لقوله تعالى : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) .
وقوله تعالى : ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) .
وكان ( كثير المشاورة لأصحابه .
ثالثاً : ويجب عليه أن يعدل بين الخصمين في لحظه ولفظه . ( لحظه ) : نظره . ( لفظه ) : كلامه .
لقوله تعالى : ( وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ) .
وقد ذكر الله تعالى العدل في القرآن وحث عليه ورغب فيه وأمر به في إحدى وعشرين آية .
وقوله تعالى : ( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) .
وعن عبد الله بن عمرو أنه ( قال : ( المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وفي أهلهم ) . رواه مسلم
6- ويحرم على القاضي أن يأخذ رشوة .
أولاً : لحديث عبد الله بن عمرو قال : ( لعن رسول الله ( الراشي والمرتشي ) . رواه الترمذي
ورواه أبو هريرة وزاد : ( في الحكم ) .
ثانياً : أن فيها فساد الخلق .
ثالثاً : أنها سبب لتغيير حكم الله .
رابعاً : أن فيها ظلماً وجوراً .
خامساً : أن فيها أكلاً للمال الباطل .
سادساً : أن في الرشوة ضياع الأمانات .
7- يحرم على القاضي أخذ الهدية .
وقد رتب بعض العلماء قبول الهدية مراتب :
أولاً : هدية من شخص يهاديه قبل ولايته وليس له حكومة ، فحكمها جائز لبعدها تماماً عن الرشوة .
ثانياً : رجل أهدى إليه هدية وليس من عادته أن يهاديه وليس له حكومة ، فالمذهب لا يجوز . وقيل : يجوز ، وهو الصحيح .
ثالثاً : أن يكون له حكومة ويهاديه ، وهو ممن جرت عادته بمهاداته من قبل ، هذا لا يجوز .(4/9)
374 - عَنْ أَبِي بَكْرَةَ ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ؟ - ثَلاثَاً - قُلْنَا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : الإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَكَانَ مُتَّكِئاً فَجَلَسَ , وَقَالَ : أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ , وَشَهَادَةُ الزُّورِ , فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا : لَيْتَهُ سَكَتَ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
الإشراك بالله : الشرك هو تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله .
عقوق الوالدين : العقوق المراد به صدور ما يتأذى به الوالد من ولده من قول أو فعل .
شهادة الزور : الزور مأخوذ من الإزورار ، وهو الانحراف ، وشهادة الزور كل ما خالف الحق .
الفوائد :
1- أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
ويدل عليه قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) .
واختلف في حد الكبيرة :
فقيل : كل ما فيه حد ، وهذا ضعيف .
وقيل : ما سماه الله في القرآن كبيراً أو عظيماً ، وهذا فيه ضعف .
وقيل : الكبائر ما فيه من المظالم بينك وبين العباد .
وقيل : الكبائر : ذنوب العمد ، والسيئات : الخطأ والنسيان ، قال ابن القيم : " هذا من أضعف الأقوال .
وقيل : الكبائر ما يستصغره العباد ، والصغائر ما يستعظمونه .
وأحسن تعريف ما ذكره ابن تيمية رحمه الله : " أنها ما فيها حد في الدنيا ، أو وعيد في الآخرة ، أو ختم بلعنة أو غضب أو نفي إيمان أو نفي دخول الجنة " .
2- أن الكبائر بعضها أشد من بعض .
3- أن أكبر الكبائر وأعظمها الإشراك بالله .
فصاحبه في النار مخلد إذا لم يتب ، قال تعالى : ( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ) .(4/10)
وهو محبط للعمل ، قال تعالى : ( وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) .
4- تحريم عقوق الوالدين .
وقد قال تعالى : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ) .
وقال ( : ( لا يدخل الجنة عاق ) . رواه أحمد
5- وجوب الإحسان إلى الوالدين .
6- تحريم شهادة الزور .
قال الذهبي في كتابه الكبائر : " شاهد الزور قد ارتكب عظائم : أحدها : الكذب والافتراء ، والله يقول : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) . وثانيها : أنه ظلم الذي شهد عليه حتى أخذ بشهادته ماله وعرضه وروحه . وثالثها : أنه ظلم الذي شهد له ، بأن ساق إليه المال الحرام فأخذه بشهادته ووجبت له النار . رابعها : أنه أباح ما حرم الله وعظمه من المال والدم والعرض .
مثال : رجل ادعى على شخص بألف ريال ، وأقام شاهداً ، والشاهد يعلم أن المدعي كاذب ، ولكنه شهد ، لأن المدعي صاحب له ، فالشهادة هنا شهادة زور ، لأنه شهد بما يعلم أنه باطل .
7- أن شهادة الزور من أكبر الكبائر .
8- أن الإنسان لا يجوز أن يشهد إلا بما سمع أو رأى .
9- اهتم النبي ( بشهادة الزور لأن الناس يتساهلون بها .
375 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : أَنَّ النَّبِيَّ ( قَالَ : (( لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ , وَلَكِنْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ )) .
--------------------------------------------
جاء في رواية عند البيهقي بسند صحيح : ( البينة على المدعي واليمين على من أنكر ) .
معاني الكلمات :
لو يعطى الناس : ما ادعوا أنه حقهم وطالبوا به .
بدعواهم : أي بمجرد قولهم وطلبهم دون ما يثبت ذلك .
لادعى رجال : أي لاستباح وتجرأ بعض الناس دماء غيرهم وأموالهم .
البينة : كل ما يبين الحق من الشهود وغيرهم .
الفوائد :(4/11)
1- قال النووي : " هذا الحديث قاعدة كبيرة من قواعد أحكام الشرع ، ففيه أنه لا يقبل قول الإنسان فيما يدعيه بمجرد دعواه ، بل يحتاج إلى بينة أو تصديق المدعى عليه ... وقد بين ( الحكمة في كونه لا يعطى بمجرد دعواه ، لأنه لو كان أعطى بمجردها لادعى قوم دماء قوم وأموالهم واستبيح ، ولا يمكن المدعى عليه أن يصون ماله ودمه ، وأما المدعي فيمكن صيانتها بالبينة .
2- حرص الإسلام على حفظ الحقوق .
3- قال الشيخ السعدي رحمه الله : " هذا الحديث عظيم القدر ، وهو أصل من أصول القضايا والأحكام ، فإن القضاء بين الناس إنما يكون عند التنازع ، هذا يدعي على هذا حقاً من الحقوق ، فينكره ، وهذا يدعي براءته من الحق الذي كان ثابتاً عليه ، فبين ( أصلاً يفض نزاعهم ، ويتضح به المحق من المبطل ، فمن ادعى عيناً من الأعيان ، أو ديناً ، أو حقاً من الحقوق وتوابعها على غيره ، وأنكره ذلك الغير ، فالأصل مع المنكر .
فهذا المدعي إن أتى ببينة تثبت ذلك الحق ، ثبت له ، وحُكمَ له به ، وإن لم يأت ببينة ، فليس له على الآخر إلا اليمين " .
4- أن البينة على المدعي ، أي يقيم المطالب الدليل على صدقه ويُظهر الحجة ، ومن البينة الشهود الذين يشهدون على صدقه .
ويشترط في الشهود :
البلوغ - والعقل - والكلام - والإسلام - والعدالة .
ويكون في الزنا : أربعة رجال ولا يقبل فيها النساء .
وفي النكاح والطلاق والرجعة وبقية الحدود : اثنان .
وفي الأموال وما يقصد به المال كالبيع والأجل : رجلان أو رجل وامرأتان .
الرضاع والولادة والبكارة ، ومثل هذه الأمور التي لا يطلع عليها الرجال : تقبل شهادة امرأة واحدة .
- والحكمة في كون البينة على المدعي :
لأنه يدعي أمراً خفياً بحاجة إلى إظهار ، والبينة دليل قوي لإظهار ذلك .
5- أنه إذا لم يجد المدعي بينة ولا شهوداً ، فإن القاضي يطلب من المدعَى عليه أن يحلف أن ما ادعاه عليه المدعي غير صحيح ويكون الحكم له بيمينه .(4/12)
ويجب الحذر من الأيمان الكاذبة ، فقد جاء الوعيد في ذلك :
قال ( ( من اقتطع حق امرىء مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة ، قيل : يا رسول الله وإن كان شيئاً يسيراً ، قال : وإن كان قضيباً من أراك ) متفق عليه .
6- بين ( في هذا الحديث الحكم ، وبين الحكمة في هذه الشريعة الكلية ، وأنها عين صلاح العباد في دينهم ودنياهم ، وأنه لو يعطى الناس بدعواهم لكثر الشر والفساد ، ولادعى رجال دماء قوم وأموالهم .
7- البدء بالمدعي في الحكم .
8- أن الشريعة جاءت لحماية أموال الناس ودماءهم .
9- حب النفوس للمال .
10- يجب على القاضي أن يحكم بالعدل .
كِتَابُ الأَطْعِمَةِ
مقدمة :
الأطعمة : جمع طعام .
وهو يطلق على ما يؤكل وما يشرب ، قال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ) .
وقال ( في ماء زمزم : ( إنها طعام طعم ) .
والأصل في الأطعمة الحل .
قال تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) .
فهذه الآية نص الدليل القطعي على القاعدة المعروفة عند الفقهاء : [ أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة ] والمراد بالإباحة الانتفاع بها أكلاً وشرباً ولباساً وتداوياً وركوباً وزينة .
وقال تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) .(4/13)
376 - عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ( قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ( يَقُولُ - وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إلَى أُذُنَيْهِ - : (( إنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ , وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ , لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ , فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ : اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ : وَقَعَ فِي الْحَرَامِ , كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ , أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ , أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ . أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ ))
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
بيّن : ظاهر .
مشتبهات : جمع مشتبه ، وهي المشكل لما فيه من عدم الوضوح في الحل أو الحرمة .
لا يعلمهن : لا يعلم حكمها .
اتقى الشبهات : ابتعد عنها .
لدينه : أي عن النقص .
الحمى : المحمي .
يرتع : أي تأكل ماشيته منه .
محارمه : المعاصي .
الفوائد :
1- قسم النبي عليه الصلاة والسلام الأمور إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : حلال واضح لا يخفى حله .…
كأكل الخبز ، والمشي .
القسم الثاني : حرام واضح .
كالخمر والزنا والغيبة .
القسم الثالث : مشتبه : يعني ليست بواضحة الحل أو الحرمة .
فهذه لا يعرفها كثير من الناس ، أما العلماء فيعرفون حكمها بنص أو قياس .
فهذه الأفضل والورع تركها والابتعاد عنها ، لماذا ؟
لأن ذلك أسلم وابرأ لدينه من النقص ، وعرضه من الكلام فيه .
2- أن من يقع في الشبهات يقع في الحرام لقوله ( : ( من وقع في الشبهات وقع في الحرام ) .
أي من أقدم على ما هو مشتبه عنده ، لا يدري أهو حلال أو حرام ، فإنه لا يأمن أن يكون حراماً في نفس الأمر فيصادف الحرام وهو لا يدري أنه حرام .(4/14)
3- شبه النبي ( الذي يقع في الشبهات بالراعي يرعى بغنمه وإبله حول الحمى ، أي حول المكان المحمي ، يوشك ويقرب أن يقع فيه ، لأن البهائم إذا رأت الأرض المحمية مخضرة مملوءة من العشب فسوف تدخل هذه القطعة المحمية ، كذلك المشتبهات إذا حام حولها العبد فإنه يصعب عليه أن يمنع نفسه عنها .
4- من أسباب النجاة من الوقوع في الحرام الورع والابتعاد عن الشبهات ، وللورع فضائل :
أولاً : أنه سبب لاستبراء العرض والدين .
كما في حديث : ( من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ) .
ثانياً : أنه خير خصال الدين :
قال ( : ( وخير دينكم الورع ) رواه الحاكم .
ثالثاً : من علامات العبادة .
قال ( : ( كن ورعاً تكن أعبد الناس ) رواه الترمذي .
رابعاً : أنه من هدي النبي ( وخلقه .
عن أنس : ( أن النبي ( وجد تمرة في الطريق فقال : لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها ) متفق عليه .
خامساً : أنه سبب للنجاة .
كما في حديث : ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) .
قال أبو الدرداء : " تمام التقوى أن يتقي العبد ربه ، حتى يتقيه من مثقال ذرة " .
وقال الحسن البصري : " ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الوقوع بالحرام ".
وقال الثوري : " إنما سموا متقين ، لأنهم اتقوا ما لا يتقى " .
5- فضل الورع .
6- الاحتياط براءة للدين والعرض .
7- حكمة الله في ذكر المشتبهات حتى يتبين من كان حريصاً على طلب العلم ومن ليس بحريص .
8- أنه لا يمكن أن يكون في الشريعة ما لا يعلمه الناس كلهم .
9- حسن تعليم النبي ( بضرب الأمثال المحسوسة ليتبين بها المعاني المعقولة .
10- يجب على الإنسان أن يهتم بقلبه ، لأن مدار الصلاح والفساد عليه ، فإذا صلح صلح سائر الجسد وإذا فسد فسد سائر الجسد .
وسمي القلب قلباً : لتقلبه في الأمور ، أو لأنه خالص ما في البدن .
مسائل القلب :
أولاً : يجب دعاء الله بإصلاحه وتثبيته .(4/15)
وقد كان ( يدعو : ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك ) .
وكان قسم النبي ( : ( لا ، ومقلب القلوب ) .
ثانياً : التحذير من التساهل في أمر القلب .
قال ( : ( إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ) رواه مسلم .
ثالثاً : لا ينفع يوم القيامة إلا القلب السليم .
قال تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) .
القلب السليم : هو السالم من الشرك والبدعة والآفات والمكروهات ، وليس فيه إلا محبة الله وخشيته .
رابعاً : استحباب الدعاء بسلامة القلب .
كان ( يقول ( اللهم إني أسألك قلباً سليماً .. ) رواه أحمد .
خامساً : أهم سبب لحياة القلب الاستجابة لله ولرسوله .
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) .
سادساً : من أسباب لين القلب ذكر الله .
قال تعالى : ( أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) .
سابعاً : ومن أسباب لين القلب العطف على المسكين .
فقد جاء رجل إلى النبي ( يشكو قسوة قلبه ؟ فقال له الرسول ( : ( إذا أحببت أن يلين قلبك فامسح راس اليتيم وأطعم المسكين ) رواه أحمد .
ثامناً : ومن أسباب رقة القلب زيارة المقابر .
قال ( : ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة ، وترق القلب ) رواه أحمد .
تاسعاً : التحذير من قسوة القلب .
قال تعالى : ( فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) .
عاشراً : إذا صلح القلب صلح الجسد .
كما في حديث الباب .
من أقوال السلف :
قال بعض السلف : " خصلتان تقسيان القلب : كثرة الكلام ، وكثرة الأكل ".
وقال بعضهم : " البدن إذا عري رق ، وكذلك القلب إذا قلت خطاياه أسرعت دمعته " .(4/16)
قال ابن القيم : " مفسدات القلب : كثرة النوم ، والتمني ، والتعلق بغير الله ، والشبع ، والمنام " .
قال بعض العلماء : " صلاح القلب بخمسة أشياء : قراءة القرآن بتدبر ، وخلاء البطن ، وقيام الليل ، والتضرع بالسحر ، ومجالسة الصالحين ، وأكل الحلال " .
377 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : (( أَنْفَجْنَا أَرْنَباً بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فَسَعَى الْقَوْمُ فَلَغَبُوا , وَأَدْرَكْتُهَا فَأَخَذْتُهَا فَأَتَيْتُ بِهَا أَبَا طَلْحَةَ , فَذَبَحَهَا وَبَعَثَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ( بِوَرِكِهَا وَفَخِذَيْهَا . فَقَبِلَهُ )) . لَغَبُوا : أَعيَوْا . أهـ
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
أنفَجنا : أي أثرنا .
بمر الظهران : بفتح الميم وتشديد الراء ، موضع على مرحلة من مكة .
لغبوا : تعبوا .
فقبله : أي الهدية ، جاء في رواية : ( فأكل منه ) .
الفوائد :
1- الحديث دليل على جواز أكل الأرنب .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
وحديث الباب نص في الباب .
وكرهها عبد الله بن عمر من الصحابة ، وعكرمة من التابعين .
واستدلوا بما رواه ابن ماجه عن خزيمة بن جزء : ( قلت : يا رسول الله ، ما تقول في الأرنب ؟ قال : لا آكله ولا أحرمه ، قلت : فإني آكل مما لم تحرم ؟ ولم يا رسول الله ؟ قال : نبئت أنها تدمي ) . رواه ابن ماجه
وجه الاستدلال : أنه ( لم يأكل الأرنب ، وبين السبب في ذلك وهو كونها تحيض ، فدل على كراهتها .
لكن هذا الحديث ضعيف كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري .
2- استحباب قبول الهدية قليلة كانت أو كثيرة .
3- حب الصحابة للنبي ( .
378 - عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه قَالَتْ : (( نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ( فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ )) . وَفِي رِوَايَةٍ (( وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :(4/17)
على عهد رسول الله : على زمان رسول الله .
الفوائد :
1- الحديث دليل على جواز أكل لحم الخيل .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال :
القول الأول : أنه حرام .
وهذا مذهب أبي حنيفة ، والأشهر عند مالك .
لقوله تعالى : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) .
وجه الدلالة :
- أن اللام في قوله ( لتركبوها ) للتعليل ، فدل على أنها لم تخلق لغير ذلك ، لأن العلة المنصوصة تقيد الحصر .
- عطف البغال والحمير على الخيل ، فدل على اشتراكهما معهما في حكم التحريم .
ولحديث خالد بن الوليد قال : ( غزوت مع رسول الله ( خيبر ، فأتت اليهود فشكوا أن الناس قد شرعوا إلى حظائرهم ، فقال رسول الله ( : ألا لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها ، وحرام حمر الأهلية وخيلها وبغالها وكل ذي ناب من
السباع ) . رواه أبو داود
لكن هذا الحديث شاذ منكر ، لأن سياقه أن خالد شهد خيبر وهو خطأ ، فإنه لم يسلم إلا بعدها .
وقال النووي : " واتفق العلماء من أئمة الحديث وغيرهم على أنه حديث ضعيف " .
القول الثاني : أن لحوم الخيل حلال .
وهذا مذهب الشافعية والحنابلة .
قال النووي : " قد ذكرنا أن مذهبنا أنه حلال لا كراهة فيه ، وبه قال أكثر العلماء " .
لحديث الباب ( حديث أسماء ) .
وجه الدلالة : أن ذبحهم للفرس على عهد الرسول ( وأكلهم له دليل على حله ، ويستفاد من قوله : ( ونحن بالمدينة ) أن ذلك بعد فرض الجهاد ، فيرد على من استند إلى منع أكلها بعلة أنها من آلات الجهاد ، أو أن ذلك كان في ابتداء الإسلام .
ولحديث جابر الآتي : ( ... وأذن في لحوم الخيل ) .
وهذا القول هو الصحيح أنه حلال .
وأما الجواب عن الآية :
فإنها نزلت في مكة اتفاقاً ، والإذن في أكل لحوم الخيل يوم خيبر ، كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين .(4/18)
379 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما : (( أَنَّ النَّبِيَّ ( نَهَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ ، وَأَذِنَ فِي لُحُومِ
الْخَيْلِ )) .
380 - وَلِمُسْلِمٍ وَحْدَهُ قَالَ (( أَكَلْنَا زَمَنَ خَيْبَرَ الْخَيْلَ وَحُمُرَ الْوَحْشِ , وَنَهَى النَّبِيُّ ( عَنْ الْحِمَارِ الأَهْلِيِّ )) .
381 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى ( قَالَ : (( أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ لَيَالِيَ خَيْبَرَ , فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ : وَقَعْنَا فِي الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ , فَانْتَحَرْنَاهَا فَلَمَّا غَلَتْ بِهَا الْقُدُورُ : نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ ( أَنْ أَكْفِئُوا الْقُدُورَ , وَرُبَّمَا قَالَ : وَلا تَأْكُلُوا مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ شَيْئاً )) .
382 - عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ ( قَالَ : (( حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ( لُحُومَ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
الحمر الأهلية : هي الأنسية .
زمن خيبر : عام خيبر وكان عام 7 ه .
الفوائد :
1- حل لحوم الخيل .
2- حل الحمر الوحشية .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لحديث جابر : ( أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش ) .
ولحديث أبي قتادة : قال : ( قلت : يا رسول الله ، أصبت حماراً وحشياً وعندي منه فاضلة ، فقال للقوم : كلوا ، وهم محرمون ) . متفق عليه
3- هذه الأحاديث فيها أن النبي ( نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة ، على أقوال :
القول الأول : أنه حرام .
وإليه ذهب جماهير العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة .
الأدلة :
عن ابن عمر : ( أن رسول الله ( نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية ) . متفق عليه
وعن علي بن أبي طالب : ( أن رسول الله ( نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية ) . متفق عليه(4/19)
وعن أبي أوفى قال : ( نهى النبي ( عن لحوم الحمر ) . رواه البخاري
وعن جابر قال : ( نهى النبي ( عن لحوم الحمر ورخص في لحوم الخيل ) . رواه البخاري ومسلم
وعن أنس قال : ( لما كان يوم خيبر ، أمر رسول الله ( أبا طلحة فنادى : إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس ) . متفق عليه
وجه الدلالة من هذه الأحاديث :
أن فيها النهي الصريح عن لحوم الحمر الأهلية ، والنهي يقتضي التحريم ، وفيها التصريح بأنها رجس ، والرجس النجس .
والأحاديث في هذا كثيرة ومتواترة عن رسول الله ( .
قال ابن القيم في تهذيب السنن : " أحاديث النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية رواها عن النبي ( : علي بن أبي طالب ، وجابر بن عبد الله ، والبراء بن عازب ، وابن أبي أوفى ، وأنس بن مالك ، والعرباض بن سارية ، وأبو ثعلبة الخشني ، وعبد الله بن عمرو ، وأبو سعيد الخدري ، وسلمة بن الأكوع ، والحكم بن عمرو ، والمقدام بن معد يكرب ، وأبو أمامة الباهلي ، وعبد الله بن عباس ، وثابت بن وديعة ، وأبو سليك البدري ، وزاهر الأسلمي ، وأبوهريرة ، وخالد بن الوليد " .
القول الثاني : أنها حلال .
روي ذلك عن ابن عباس وعائشة .
وروي عن مالك أنه كان يكرهها .
الأدلة :
قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ) .
وجه الدلالة : أنه تعالى لم يذكر الحمر الإنسية مع هذه المحرمات ، فتكون حلالاً ، لقوله ( : ( وما سكت عنه فهو مما عفا عنه ) .(4/20)
وعن أبي عبيد أبي الحسن عن عبد الرحمن عن غالب بن أبجر قال : ( أصابتنا سنة فلم يكن في مالي شيء أطعم أهلي إلا شيء من حمر ، وقد كان النبي ( قد حرم لحوم الحمر الأهلية ، فأتيت النبي ( فقلت : يا رسول الله ، أصابتنا السنة ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر ، وإنك حرمت لحوم الحمر الأهلية ، فقال : أطعم أهلك من سمين حمرك ، فإنما حرمتها من أجل جوال القرية ، يعني الجلالة ) . رواه أبو داود
والراجح القول الأول ، وهو أنها حرام .
أما ألإجابة عن أدلة القول الثاني :
أما الآية فيجاب عنها بأجوبة :
- أن الاستدلال إنما يتم في الأشياء التي لم يرد النص بتحريمها ، والحمر الإنسية قد تواردت النصوص على تحريمها .
- أن الآية مكية ، وأحاديث التحريم بعد الهجرة ، فالآية تذكر ما حرم حين نزولها وليس فيها ما يمنع ما سيأتي .
- أن الآية خبر عن الحكم الموجود عند نزولها ، فإنه حينئذٍ لم يكن نزل في تحريم المأكول إلا ما ذكر فيها ، وليس فيها ما يمنع أن ينزل بعد ذلك غير ما فيها وقد نزل بعدها في المدينة أحكام بتحريم أشياء غير ما ذكر فيها .
- وأما حديث غالب بن أبجر فهو حديث ضعيف والمتن شاذ لمخالفته للأحاديث الصحيحة ، قاله ابن حجر .
وقال النووي في شرح مسلم : " هذا الحديث مضطرب مختلف الإسناد شديد الاختلاف ، ولو صح حمل على الأكل منها في حال الاضطرار " .
وقال عنه النووي في المهذب : " واتفق الحفاظ على تضعيفه " .
قال الخطابي والبيهقي وغيرهما : " هو حديث مختلف في إسناده ، يعنون مضطرباً " .
قال ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود : " وقد اختلف في سبب النهي عن الحمر على أربعة أقوال ، وهي في الصحيح :(4/21)
أحدها : لأنها كانت جوال القرية ، كما في حديث غالب هذا ، وهذا قد جاء في بعض طرق حديث عبد الله بن أبي أوفى : ( أصابتنا مجاعة ليالي خيبر فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها ، فلما غلت بها القدور نادى منادي رسول الله ( أن أكفئوا القدور ولا تأكلوا من لحوم الحمر شيئاً ) فقال أناس : إنما نهى عنها رسول الله ( لأنها لم تخمس ، وقال آخرون : نهى عنها البتة لأنها كانت تأكل العذرة ، فهاتان علتان .
العلة الثالثة : حاجتهم إليها ، فنهاهم عنها إبقاء لهما ، كما في حديث ابن عمر المتفق عليه ( أن رسول الله ( نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية ) زاد من طريق آخر : ( وكان الناس قد احتاجوا إليها ) .
العلة الرابعة : أنه إنما حرمها لأنها رجس في نفسها ، وهذا أصح العلل ، فإنها هي التي ذكرها رسول الله ( بلفظه كما في الصحيحين عن أنس قال : ( لما افتتح رسول الله ( خيبر أصبنا حمراً خارجة من القرية وطبخناها ، فنادى منادي رسول الله ( : ألا إن الله ورسوله ينهيانكم عنها فإنها رجس من عمل الشيطان ) فهذا نص في سبب التحريم ، وما عدا هذه من العلل فإنما هي حدس وظن ممن قاله " .
383 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : (( دَخَلْتُ أَنَا وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ( بَيْتَ مَيْمُونَةَ , فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ فَأَهْوَى إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ( بِيَدِهِ , فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ : أَخْبِرُوا رَسُولَ اللَّهِ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ ( يَدَهُ , فَقُلْتُ : أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لا , وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي , فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ , قَالَ خَالِدٌ : فَاجْتَرَرْتُهُ , فَأَكَلْتُهُ . وَالنَّبِيُّ ( يَنْظُرُ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :(4/22)
محنوذ : أي مشوي بالحجارة المحماة .
فأهوى : جاء في رواية : ( وكان رسول الله ( قلّ ما يقدم يده لطعام حتى يسمّى له ) .
فرفع يده : أي عن الضب .
لم يكن بأرض قومي : جاء في رواية : ( هذا لحم لم آكله قط ) .
فأجدني أعافه : أي أتكره أكله .
الفوائد :
1- في الحديث جواز أكل الضب .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : تحريم أكله .
وهو قول الحنفية .
الأدلة :
ما روت عائشة - رضي الله عنها - : ( أن النبي ( أهدي له ضب فلم يأكله ، فقام عليهم سائل فأرادت أن تعطيه فقال لها النبي ( : ( أتعطين ما لا تأكلين ) .
أن الضب من جملة الممسوخ ، والممسوخ محرم ، لما روي أن رسول الله ( سئل عن الضب فقال ( : ( إن أمة مسخت في الأرض ، وإني أخاف أن يكون منها ) . رواه أحمد وأبو داود
القول الثاني : أنه حلال .
وهو قول الشافعية والحنابلة والظاهرية .
لحديث الباب .
وعن ابن عمر أن النبي ( قال : ( الضب لست آكله ولا أحرمه ) .
وفي رواية عند مسلم عن ابن عمر قال : ( سئل النبي ( عن الضب فقال : لست بآكله ولا محرمه ) .
وفي رواية عند مسلم عن ابن عمر أن رسول الله ( قال : ( كلوا فإنه حلال ، ولكنه ليس من طعامي ) .
وهذا نص صريح على عدم الحرمة الشرعية ، وإشارة إلى الكراهة الطبيعية .
وهذا القول هو الراجح .
ويجاب عما احتج به الحنفية على تحريمه بما يلي :
أولاً : أما قولهم بأن الضب من الممسوخ فقد قال الحافظ ابن حجر : " قال الطبري : ليس في الحديث الجزم بأن الضب مما مسخ ، وإنما خشي أن يكون منه فتوقف عنه ، وإنما قال ذلك قبل أن يعلم الله نبيه أن الممسوخ لا ينسل " .
ثانياً : وأما حديث عائشة فيجاب عنه : بأنه لا يتعين أن الرسول ( منع التصرف به لأجل حرمته ، بل يحتمل أن يكون ذلك من جنس ما قال الله تعالى : ( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ) .(4/23)
فأراد النبي ( ألا يكون ما يتقرب به إلى الله إلا من خير الطعام .
2- في الحديث بيان علة عدم أكل النبي ( من الضب ، وهو قوله ( : ( لم يكن بأرض قومي ) .
قال ابن حجر : "وقد ورد سبب آخر أخرجه مالك من مرسل سليمان بن يسار، فذكر نص حديث ابن عباس وفي آخره : ( قال النبي ( : كلا - يعني لخالد بن الوليد ، وعباس - فإنني يحضرني من الله حاضرة ) " .
قال المازري : " يعني الملائكة ، وكان للحم الضب ريحاً فترك أكله لأجل ريحه ، وهذا إن صح يمكن ضمه إلى الأول ويكون لتركه الأكل من الضب سببان " .
3- ذكاء ورجحان عقل ميمونة .
4- أن الطباع تختلف في النفور عن بعض المأكولات .
5- أن النبي ( كان يؤاكل أصحابه .
384 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى ( قَالَ : (( غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ( سَبْعَ غَزَوَاتٍ , نَأْكُلُ الْجَرَادَ )) .
--------------------------------------------
الفوائد :
1- الحديث دليل على حل أكل الجراد ، وهذا بالإجماع كما حكاه النووي وغيره .
وجه الدلالة : أن كون هذا الصحابي يأكل الجراد مع الرسول ( في هذه المدة المذكورة ، دليل على حل الجراد ، لأنه لو كان حراماً لبيّن النبي ( حكمه ولم يسكت عنه .
وعن ابن عباس قال : قال رسول الله ( : ( أحلت لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان : فالحوت والجراد ) . رواه أبو داود ، وقد روي مرفوعاً وموقوفاً ، والموقوف أصح وله حكم الرفع .
فهذا فيه التصريح بأن الجراد حلال .
2- ذهب جمهور العلماء إلى أنه يجوز أكل الجراد بدون ذكاة ( يجوز أكل ميتته ) .
لحديث ابن عمر السابق : ( ميتتان ... ) .
ففيه أن مما أحله الله لنا ميتتيْ السمك والجراد ، وهذا دليل على حل ميتة الجراد بدون تفصيل .(4/24)
385 - عَنْ زَهْدَمِ بْنِ مُضَرِّبٍ الْجَرْمِيِّ قَالَ : (( كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ . فَدَعَا بِمَائِدَةٍ , وَعَلَيْهَا لَحْمُ دَجَاجٍ , فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ , أَحْمَرُ , شَبِيهٌ بِالْمَوَالِي فَقَالَ : هَلُمَّ ، فَتَلَكَّأَ فَقَالَ : هَلُمَّ , فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ( يَأْكُلُ مِنْهُ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
زهدم : بفتح الزاء ، هو بن مُضَرِّب بضم أوله وتشديد الراء .
الفوائد :
1- في الحديث جواز أكل لحم الدجاج .
قال الحافظ : " وهو بالاتفاق " .
2- قال الحافظ ابن حجر : " في الحديث جواز أكل الدجاج أنسيته ووحشيته ، وهو بالاتفاق ، ... إلا أن بعضهم استثنى الجلالة ، وهي ما تأكل الأقذار ، وظاهر صنيع أبو موسى أنه لم يبالي بذلك ... وقد أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن ابن عمر أنه كان يحبس الدجاجة ثلاثاً " .
386 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ ( قَالَ : (( إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا , أَوْ يُلْعِقَهَا )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
فلا يمسح يده : قال الحافظ : " في حديث كعب بن مالك عند مسلم : ( كان رسول الله ( يأكل بثلاث أصابع فإذا فرغ لعقها ) فيحتمل أن يكون أطلق على الأصابع اليد ، ويحتمل وهو الأولى أن يكون المراد باليد الكف كلها ، فيشمل الحكم من أكل بكفه كلها أو بأصابعه فقط أو ببعضها " .
يلعقها : بفتح أوله ، أو يُلعقها بضم أوله : أي غيره .
الفوائد :
1- استحباب لعق اليد .
2- قوله : ( يلعقها أو يلعقها ) قال النووي : " معناه والله أعلم : لا يمسح يده حتى يلعقها ، فإن لم يفعل فحتى يلعقها غيره ممن لا يتقذر ذلك كزوجة وجارية وولد وخادم " .
3- جاءت في رواية علة هذا الحكم : ( إنكم لا تدرون في أيه البركة ) .(4/25)
قال النووي : " معناه والله أعلم : أن الطعام الذي يحضره الإنسان فيه بركة ، ولا يدري أن تلك البركة فيما يأكله أو في اللقمة الساقطة ، فينبغي أن يحافظ على هذا كله لتحصل البركة ، وأصل البركة الزيادة وثبوت والامتاع به ، والمراد هنا - والله أعلم - ما يحصل به التغذية وتسلم عاقبته من أذى ، ويقوى على طاعة الله ، وغير ذلك " .
وقد أبدى عياض علة أخرى ، فقال : " إنما أمر بذلك لئلا يتهاون بقليل الطعام " .
بَابُ الصَّيْدِ
387 - عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ (( أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ( فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ ، أَفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ ؟ قال : فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلا تَأْكُلُوا فِيهَا , وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا , وَكُلُوا فِيهَا )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
( أهل كتاب ) أي اليهود والنصارى ، وسموا أهل كتاب : لأن الله أنزل عليهم التوراة والإنجيل ، وسموا أتباع الرسولين بأهل الكتاب ، فرقاً بينهم وبين الوثنيين .
جاء في رواية للحديث عند أبي داود وأحمد : ( إن أرضنا أرض أهل كتاب ، وإنهم ليأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر ، فكيف نصنع بآنيتهم وقدورهم ؟ ) .
الفوائد :
1- استدل بحديث الباب من قال بنجاسة الكافر .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة :
فقيل : نجس نجاسة عينية ، أدلتهم :
قوله تعالى : ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) .
حديث الباب .
حديث أبي هريرة ( : ( أن النبي ( لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب ، فانخنس منه فذهب فاغتسل ثم جاء . . . سبحان الله إن المؤمن لا ينجس ) .
قال الشوكاني : " تمسك بمفهومه بعض أهل الظاهر فقالوا : إن الكافر نجس عين " .
وقيل : إن المشرك ليس نجس العين ، وإنما نجاسته معنوية .
وهذا مذهب أكثر العلماء ، أدلتهم :(4/26)
( أن النبي ( توضأ من مزادة امرأة مشركة ) .
حديث ( ربط ثمامة بن أثال بسارية من سواري المسجد ) . متفق عليه
حديث ( أن النبي ( أكل من الشاة التي أهدتها له يهودية من خيبر ) . متفق عليه
حديث أنس ( أن يهودياً دعا النبي ( إلى خبز شعير وإهالة سنخة فأجابه ) . رواه أحمد
( الإهالة ) الودك . ( السنخة ) المتغيرة .
أن الله أباح نساء أهل الكتاب ، ومعلوم أن عرقهن لا يسلم منه من يضاجعهن .
وهذا القول هو الراجح ، وأما الجواب عن أدلة القول الأول :
أما الآية : فالمقصود بالنجاسة نجاسة الاعتقاد .
وأما الحديث : فليس الأمر بغسل الآنية لتلوثها برطوباتهم ، بل لطبخهم الخنزير وشربهم الخمر ، كما يدل على ذلك رواية أبي داود وأحمد .
2- حكم استعمال آنية الكفار :
أكثر العلماء على جواز استعمال آنية الكفار .
للأحاديث السابقة .
ولعموم قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) .
وأيضاً أن الله أباح لنا طعام أهل الكتاب ، ومن المعلوم أنهم يأتون به إلينا أحياناً مطبوخاً بأوانيهم .
وحديث ( أن النبي ( أكل من الشاة التي أهدتها له اليهودية ) .
وأما الجواب عن حديث الباب [ حديث أبي ثعلبة ] : ( لا تأكلوا فيها إلا أن لا تجدوا غيرها . . . ) :
هذا محمول على قوم عرفوا بمباشرتهم النجاسات كأكل الخنزير ونحوه ويدل لهذا رواية أبي داود وأحمد التي سبقت .
والخلاصة :
أن آنية الكفار مباحة ، لكن إذا علم أنهم يستعملون النجاسة ، فالأفضل والمستحب لمن يستعملها أن يغسلها .
لحديث الباب .
3- جميع أهل الكتاب تحل أوانيهم ، اليهود و النصارى و غيرهم من الوثنيين .
4- بيان ما جاء به الإسلام من البراءة من المشركين ومجانبتهم ، والبعد عنهم .
5- حرص الصحابة على السؤال عما يعنيهم .
6- أن المقصود من الحديث الأواني التي يستعملونها لا التي يصنعونها لنا .(4/27)
388 - عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: (( قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنِّي أُرْسِلُ الْكِلابَ الْمُعَلَّمَةَ , فَيُمْسِكْنَ عَلَيَّ , وَأَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ: إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ , فَكُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ . قُلْتُ : وَإِنْ قَتَلْنَ ؟ قَالَ : وَإِنْ قَتَلْنَ , مَا لَمْ يَشْرَكْهَا كَلْبٌ لَيْسَ مِنْهَا . قُلْتُ : فَإِنِّي أَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ الصَّيْدَ , فَأُصِيبُ ؟ فَقَالَ : إذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ فَخَزَقَ , فَكُلْهُ وَإِنْ أَصَابَهُ بِعَرْضِهِ فَلا تَأْكُلْهُ )) .
وَحَدِيثُ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيٍّ نَحْوُهُ , وَفِيهِ : (( إلاَّ أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ , فَإِنْ أَكَلَ فَلا تَأْكُلْ , فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ . وَإِنْ خَالَطَهَا كِلابٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلا تَأْكُلْ ، فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ , وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ )) .
وَفِيهِ (( إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُكَلَّبَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَأَدْرَكْتَهُ حَيّاً فَاذْبَحْهُ , وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ ، فَإِنَّ أَخْذَ الْكَلْبِ ذَكَاتُهُ )) .
وَفِيهِ أَيْضًا (( إذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ )) وَفِيهِ (( وَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْماً أَوْ يَوْمَيْنِ )) .
وَفِي رِوَايَةٍ (( الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاثَةَ فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إلاَّ أَثَرَ سَهْمِكَ فَكُلْ إنْ شِئْتَ , فَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقاً فِي الْمَاءِ فَلا تَأْكُلْ ، فَإِنَّكَ لا تَدْرِي : الْمَاءُ قَتَلَهُ , أَوْ سَهْمُكَ ؟ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :(4/28)
المعراض : قال النووي : " بكسر الجيم ، هي خشبة ثقيلة أو عصا في طرفها حديدة ، وقد تكون بغير حديدة ، هذا هو الصحيح في تفسيره " .
بعرضه : جاء في رواية : ( وما أصاب بعرضه فهو وقيذ ) وقيذ : على وزن عظيم ، هو ما قتل بعصا أو حجر أو ما حد له.
فخرق : أي نفذ .
الفوائد :
1- في الحديث دليل على جواز الصيد .
والصيد : هو اقتناص حيوان حلال متوحش طبعاً غير مقدور عليه .
والصيد له ثلاث حالات :
الأولى : يباح إذا قصد منه دفع الحاجة والانتفاع بلحمه .
الثانية : يكره إذا كان القصد منه التلهي به واللعب والمفاخرة .
لأنه يشغل عما هو أنفع منه من الأعمال الدينية والدنيوية .
الثالثة : يحرم إذا ترتب عليه ظلم للناس بالعدوان على زروعهم وبساتينهم وأموالهم .
فإن قيل : ما الجواب عن حديث : ( من اتبع الصيد غفل ) . رواه الترمذي
فالجواب : المراد الإكثار منه حتى يشغله .
2- قوله ( فذكرت اسم الله ) دليل على مشروعية التسمية عند الصيد .
قال النووي : " وقد أجمع المسلمون على التسمية عند الإرسال " .
واختلفوا في حكمها :
القول الأول : أنها سنة .
وهذا مذهب الشافعي ، لقوله تعالى : ( إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ ) .
قال النووي : " فأباح التذكي من غير اشتراط التسمية " .
ولقوله تعالى : ( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ ) وهم لا يسمون .
والجواب عن الآية : بأن المراد ( إلا ما ذكيتم ) وذكرتم اسم الله عليه ، لما ثبت من الأدلة الأخرى على الأمر بالتسمية .
وأما آية ( وطعام الذين أوتوا الكتاب ... ) أن المراد بذبائح أهل الكتاب المباحة هي ما ذبحوها بشرطها كذبائح المسلمين .
القول الثاني : أنه شرط مطلقاً على الذاكر والناسي لا تسقط بحال .
وهذا مذهب أحمد واختاره ابن تيمية .
لقوله تعالى : ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ) .
وقوله ( : ( إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ) .(4/29)
القول الثالث : أنها واجبة على الذاكر دون الناسي .
وهذا مذهب الحنفية والمالكية .
لقوله ( : ( إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) . رواه ابن ماجه
والراجح القول الثاني .
صفة التسمية :
قيل : المراد بذكر الله ذكر لله ولا يلزم : بسم الله ، فلو قال : الله أجل ، أو الله أعظم ، أجزأ .
لقوله تعالى : ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ) .
وقيل : أنه ينبغي أن يقول : بسم الله ، ولا يقوم غيرها مقامها .
لأن إطلاق التسمية ينصرف إلى : بسم الله .
3- قوله ( إذا أرسلت ) فيه أنه يشترط أن يكون الصائد له عقل يميز .
فمن شروط الصيد : أن يكون الصائد من أهل الذكاة ، وذلك بأن يتوفر فيه الشرطان : ( العقل والدين ) .
فالعقل يعني به أن يكون مخيراً غير سكران ولا مجنون ، لأنه لا قصد لهما ( وكذلك إذا كان طفل دون التمييز ) .
والدين يعني به أن يكون مسلماً أو كتابياً ، فلا يحل صيد الوثني والمجوسي والمرتد .
4- قوله ( كلبك ) فيه نوع من أنواع آلة الصيد ، وآلة الصيد نوعان :
أولاً : ما يرمى به الصيد من كل محدد .
كالرماح والسيوف والسهام وما جرى مجراها مما يجرح بحده كرصاص البنادق اليوم .
ثانياً : الجوارح ، وهي الكواسر من السباع ، كالكلاب والطير .
لقوله : (يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ ) .
( وهو نوعان : ما يصيد بنابه : كالكلب والفهد ، وما يصيد بمخلبه : الصقر والبازي ) .
5- قوله ( كلابك المعلمة ) فيه دليل أنه يشترط في إباحة صيد الكلب أن يكون معلماً ، وهذا الشرط لا خلاف فيه .
وكيفية التعليم :
بالنسبة ما يصيد بنابه كالكلاب ، فيتبين تعلمه بأمور :
أولاً : أن يسترسل إذا أرسله صاحبه في طلب الصيد .(4/30)
ثانياً : أن ينزجر إذا زجره [ وهذا يكون لأحد غرضين : يكون بطلب وقوفه وكفه عن العدو ، ويكون الزجر لإغراء الجارح بزيادة العدو في طلب الصيد ] .
وهذان الشرطان اتفقت المذاهب الأربعة على اعتبارهما .
ثالثاً : أن لا يأكل من الصيد إذا أمسكه ، فإن أكل لم يبح .
وقد اختلفوا في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : يشترط أن لا يأكل من الصيد ، فإن أكل لم يبح .
وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد .
قال النووي : " وبه قال أكثر العلماء " .
لحديث الباب وهو نص ، وفيه : ( ألا يأكل الكلب ، فإن أكل فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه ) .
ولقوله تعالى : ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا ) وهذا مما لم يمسك علينا بل على نفسه .
القول الثاني : أنه يحل .
وهو قول مالك .
واستدلوا بحديث أبي ثعلبة قال : ( يا رسول الله ، إن لي كلاباً مكلبة ، فأفتني في صيدها ؟ قال : كل مما أمسكن عليك ، قال : وإن أكل منه ؟ قال : وإن أكل منه ) . رواه أبو داود ، وقال الحافظ : " لا بأس بسنده " .
والراجح القول الأول .
وأما الجواب عن حديث أبي ثعلبة :
- أن حديث عدي مقدم عليه ، لأنه أصح .
- ومنهم من حمل حديث أبي ثعلبة على ما إذا أكل منه بعد أن قتله وخلاه وفارقه ثم عاد فأكل منه ، فهذا لا يضر .
- وأيضاً رواية عدي صريحة مقرونة بالتعليل المناسب للتحريم ، وهو خوف الإمساك على نفسه متأيّدة بأن الأصل في الميتة التحريم .
وأما تعليم الطير فإنه يتبين بأمور :
أولاً : أن يسترسل إذا أرسل .
ثانياً : أن ينزجر إذا زجر .
ثالثاً : واختلفوا هل يشترط أن لا يأكل أم لا ؟
قيل : يشترط ، وهذا مذهب الشافعي قياساً على جارحة الكلب .
وقيل : لا يشترط ، وهذا قول الحنفية والحنابلة . والله أعلم .
6- قوله ( إذا أرسلت كلبك المعلم ) في إطلاقه دليل لإباحة الصيد بجميع أنواع الكلاب المعلمة من الأسود وغيرها .(4/31)
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : يجوز الاصطياد بجميع الكلاب المعلمة من الأسود وغيرها .
قال النووي : " وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء " .
لعموم النص : ( إذا أرسلت كلبك المعلم ) .
القول الثاني : يحرم الصيد بالكلب الأسود البهيم .
قال النووي :" وبه قال الحسن البصري والنخعي وقتادة وأحمد وإسحاق " .
لأنه شيطان .
والأول أرجح .
7- قوله ( إذا أرسلت ... ) فيه دليل على أنه يشترط لحل الصيد أن يرسل الآلة قاصداً للصيد .
لأن الكلب أو البازي آلة ، والذبح لا يحصل بمجرد الآلة بل لا بد من الاستعمال ، وذلك فيهما : بالإرسال مع القصد .
- إذا استرسل الكلب بنفسه فقتل صيداً ، لم يحل لفقدان الشرط ، وهو الإرسال ، لأن الإرسال يقوم مقام التذكية .
- إذا استرسل الكلب بنفسه على صيد فزجره صاحبه وسمى فزاد في عدوه وقتل ، فهل يحل ؟
قيل : يحل .
وهو مذهب الحنفية والحنابلة .
قالوا : لأن زجره أثّر في عدوه فصار كما لو أرسله .
وقيل : لا يحل .
وهو مذهب الشافعي .
لاجتماع الاسترسال المانع والإغراء المبيح ، فتغلب جانب المنع .
والراجح الأول .
8- تحريم صيد الكلب غير المعلم .
9- ذهب جماهير العلماء إلى أنه إذا اصطاد بالمعراض فقتل الصيد بحد حل ، وإن قتله بعرضه لم يحل ، لحديث الباب .
10- قوله ( فإن أمسك عليك فأدركته حياً فاذبحه ) هذا تصريح بأنه إذا أدرك ذكاته وجب ذبحه ولم يحل إلا بالذكاة ، قال النووي : " وهو مجمع عليه " .
11- قوله ( وإن وجدت مع كلبك كلباً غيره ، وقد قتل فلا تأكل ، فإنك لا تدري أيهما قتله )(4/32)
قال النووي : " فيه بيان قاعدة مهمة ، وهي أنه إذا حصل الشك في الذكاة المبيحة للحيوان ، لم يحل ، لأن الأصل تحريمه ، وهذا لا خلاف فيه ، وفيه تنبيه على أنه لو وجده حياً وفيه حياة مستقرة ، فذكاه حل ولا يضر كونه اشترك في إمساكه كلبه وكلب غيره ، لأن الاعتماد حينئذٍ في الإباحة على تذكية الآدمي لا على إمساك الكلب " .
12- قوله ( وإن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل ) قال النووي : " هذا متفق على تحريمه " .
وجاء السبب في نفس الحديث : ( فإنك لا تدري الماء قتله ، أو سهمك ) .
13- قوله ( فإن غاب عنك يوماً أو يومين فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت ) في هذا دليل لمن يقول : إذا أثر جرحه فغاب عنه فوجده ميتاً وليس فيه أثر غير سهمه حل ، وهذا قول بعض العلماء .
وقيل : يحرم .
وقيل : يحرم في الكلب دون السهم .
قال النووي : " الأول أقوى وأقرب إلى الأحاديث الصحيحة " .
14- جواز اقتناء الكلب المعلم للصيد .
15- قال الحافظ ابن حجر : " استدل به على طهارة سؤر كلب الصيد دون غيره من الكلاب ، للإذن في الأكل من الموضع الذي أكل منه ، ولم يذكر الغسل ، ولو كان واجباً لبينه لأنه وقت الحاجة إلى البيان " .
وقال بعض العلماء : " يعفى عن معض الكلب ولو كان نجساً لهذا الحديث " .
وهذا الصحيح أنه معفو عنه .
16- قوله ( ما أمسك عليك ) استدل به على أنه لو أرسل كلبه على صيد فاصطاد غيره حل ، للعموم الذي في قوله ( ما أمسك ) وهذا قول الجمهور .
وقال مالك : " لا يحل " .
389- عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ( يَقُولُ (( مَنْ اقْتَنَى كَلْباً - إلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ , أَوْ مَاشِيَةٍ - فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ )) . قَالَ سَالِمٌ : وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: (( أَوْ كَلْبَ حَرْثٍ )) ، وَكَانَ صَاحِبَ حَرْثٍ .(4/33)
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
اقتنى : أي اتخذ ، جاء في رواية : ( من أمسك ) .
أو ماشية : ( أو ) للتنويع لا للترديد .
قيراطان : أي قدر ذلك ، وجاء في رواية : ( قيراط ) . قال النووي : " القيراط هنا مقدار معلوم عند الله " .
الفوائد :
1- تحريم اقتناء الكلاب لغير حاجة ، كأن يقتني كلباً لإعجابه به أو بصورته أو للمفاخرة .
2- أنه يجوز اقتناء الكلب لهذه الأشياء الثلاثة : الزرع ، والماشية ، والصيد .
3- أن من اقتنى كلباً لغير حاجة ، فإنه ينقص من أجر عمله كل يوم قيراطان .
وجاء في رواية : ( قيراط ) . والجمع :
قيل : الحكم للزائد لكونه حفظ ما لم يحفظه الآخر .
أو أنه ( أخبر أولاً بنقص قيراط واحد ، فسمعه الراوي الأول ، ثم أخبر ثانياً بنقص قيراطين زيادة في التأكيد في التنفير من ذلك ، فسمعه الراوي الثاني .
وقيل : ينزل على حالين ، فنقصان القيراطين باعتبار كثرة الأضرار باتخاذها ، ونقص القيراط باعتبار قلته .
وقيل : يحتمل أنه في نوعين من الكلاب ، أحدهما أشد أذى من الآخر .
وقيل : أن ذلك يختلف باختلاف المواضع ، فيكون القيراطان في المدينة خاصة لزيادة فضلها ، والقيراط في غيرها .
4- اختلف في القيراطين المذكورين هنا ، هل هما كالقيراطين المذكورين في الصلاة على الجنازة واتباعها ؟
فقيل : بالتسوية .
وقيل : اللذان في الجنازة من باب الفضل واللذان هنا من باب العقوبة ، وباب الفضل أوسع من غيره .
5- سبب نقصان الأجر باقتناء الكلب :
قيل : لامتناع الملائكة من دخول بيته بسببه .
وقيل : لما يلحق المارين من الأذى من ترويع الكلب لهم وقصده إياهم .
وقيل : أن ذلك عقوبة له باتخاذه ما نهي عن اتخاذه وعصيانه في ذلك .
وقيل : لما يبتلى من ولوغه في غفلة صاحبه ولا يغسله بالماء والتراب .
6- هل يجوز اتخاذ الكلب لحفظ الدور والدروب ونحوها ؟
فقيل : لا يجوز .(4/34)
لظاهر الحديث ، فإنه مصرح بالنهي إلا لزرع أو صيد أو ماشية .
وقيل : يجوز .
قياساً على الثلاثة عملاً بالعلة المفهومة من الأحاديث وهي الحاجة .
وهذا القول هو الصحيح .
390 - عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ ( قَالَ : (( كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ( بِذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ تِهَامَةَ , فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ فَأَصَابُوا إبِلاً وَغَنَماً ، وَكَانَ النَّبِيُّ ( فِي أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ ، فَعَجِلُوا وَذَبَحُوا وَنَصَبُوا الْقُدُورَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ ( بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ , ثُمَّ قَسَمَ فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنْ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ , فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ , وَكَانَ فِي الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ فَأَهْوَى رَجُلٌ مِنْهُمْ بِسَهْمٍ , فَحَبَسَهُ اللَّهُ . فَقَالَ : إنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ ، فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا ، قُلْتُ : يَا رَسُولُ اللَّهِ , إنَّا لاقُو الْعَدُوِّ غَداً , وَلَيْسَ مَعَنَا مُدىً . أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ ؟ قَالَ : مَا أَنْهَرَ الدَّمَ , وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ , فَكُلُوهُ , لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفْرَ , وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ , أَمَّا السِّنُّ : فَعَظْمٌ , وَأَمَّا الظُّفْرُ : فَمُدَى الْحَبَشَةِ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
فأكفئت : أي قلبت وأريق ما فيها .
فندّ : أي شرد وهرب .
الأوابد : النفور والتوحش ، قال ابن الأثير : " الأوابد جمع آبدة ، وهي التي قد تأبّدتْ أي توحشت ونفرت من الإنس .
الفوائد :
1- أن الحيوان الذي هرب ولا يمكن إدراكه من الإبل أو البقر أو الغنم أو غيرها من الحيوانات المستأنسة ، فإنه يكفي إنهار دمه من أي مكان .
قال النووي : " قال أصحابنا وغيرهم : الحيوان المأكول الذي لا تحل ميتته ضربان :(4/35)
مقدور على ذبحه ومتوحش ، فالمقدور عليه لا يحل إلا بالذبح في الحلق واللبة كما سبق ، وهذا مجمع عليه ... وأما إذا توحش إنسي ، بأن ند بعير أو بقرة أو فرس أو شردت شاة أو غيرها ، فهو كالصيد ، فيحل بالرمي إلى غير مذبحه ، وبإرسال الكلب وغيره من الجوارح عليه ، وكذا لو تردى بعير أو غيره في بئر ، ولم يمكن قطع حلقومه ومريئه ، فهو كالبعير الناد في حله بالرمي " .
ثم قال النووي : " قال أصحابنا : وليس المراد بالتوحش مجرد الإفلات ، بل متى تيسر لحوقه بعد ولو باستعانة بمن يمسكه ونحو ذلك ، فليس متوحشاً ولا يحل حينئذٍ إلا الذبح في المذبح " .
وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : " إنهار الدم له حالات :
الحالة الأولى : أن يكون المذكى غير مقدور عليه ، مثل أن يهرب أو يسقط في بئر أو في مكان سحيق لا يمكن الوصول إلى رقبته أو نحو ذلك ، فيكفي في هذه الحال إنهار الدم في أي موضع كان من بدنه حتى يموت ، لحديث الباب .
الحالة الثانية : أن يكون مقدوراً عليه ، بحيث يكون حاضراً أو يمكن إحضاره بين يدي المذكي ، فيشترط أن يكون الإنهار في موضع معين وهو الرقبة " .
2- أن من شروط التذكية أن تكون بمحدد ينهر الدم غير سن وظفر ، لقوله : ( إلا السن والظفر ) .
فإن ذبحها بغير محدد ، مثل أن يقتلها بالخنق أو بالصعق الكهربائي أو غيره ، أو بالصدم أو بضرب الرأس ونحوه حتى تموت ، لم تحل ، وإن ذبحها بالسن لم تحل .
3- قوله ( إلا السن ) ظاهر هذا أنه لا فرق في السن والظفر بين أن يكونا متصلين أو منفصلين ، من آدمي أو غيره ، لعموم الحديث .
وذهب بعض العلماء إلى أنه خاص بالمتصل .
لكن هذا قول ضعيف ، والصحيح الأول .
لأن حديث الباب عام .
4- علل النبي ( منع الذكاة بالسن بأنه عظم .
فاختلف العلماء : هل الحكم خاص في محله وهو السن ، أو عام في جميع العظام ؟
فقيل : إنه خاص في محله وهو السن ، وأما ما عداه من العظام فتحل الذكاة به .(4/36)
وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد .
لأن النبي ( لو أراد العموم لقال غير العظم والظفر ، لكونه أخصر وأبين ، والنبي ( أعطي جوامع الكلم ومفاتيح البيان .
ولأننا لا نعلم وجه الحكمة في تأثير العظم ، فكيف نعدي الحكم مع الجهل .
وقيل : أن الحكم عام في جميع العظام .
وهذا قول الشافعي .
لعموم العلة ، لأن النص على العلة يدل على أنها مناط الحكم متى وجدت وجد الحكم .
وهذا القول أحوط .
5- علل النبي ( المنع من الذكاة بالظفر بأنه مدى الحبشة .
قال النووي : " معناه أنهم كفار ، وقد نهيتم عن التشبه بالكفار وهو شعارهم " .
وقيل في العلة :
لأن في ذلك توفيراً للأظافر ، وهذا مخالف للفطرة .
ولأن في القتل بالظفر مشابهة لسباع البهائم والطيور التي فضلنا عليها ونهينا عن التشبه بها .
6- قوله ( ما أنهر الدم وذكر اسم الله ) فيه دليل على اشتراط التسمية لحل الذكاة .
وقد اختلف العلماء في حكم التسمية على الذبيحة على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنها شرط .
واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية .
لقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ) .
ففيه النهي عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه وتسميته فسقاً .
ولحديث الباب : ( ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ) .
ففيه دليل على اشتراط التسمية ، لأنه علق الإذن بمجموع الأمرين وهما : الإنهار ، والتسمية ، والمعلق على شيئين لا يكتفى بوجود أحدهما .
القول الثاني : أن التسمية واجبة في حال الذكر دون حال النسيان .
وهذا قول الحنفية والمالكية والحنابلة .
لقوله ( : ( إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) . رواه ابن ماجه
القول الثالث : أن التسمية سنة مطلقاً .
وهذا مذهب الشافعي .
لقوله تعالى : ( إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ ) ولم يذكر التسمية .
ولأن الله أباح ذبائح أهل الكتاب وهم لا يسمون غالباً ، فدل على أنها غير واجبة .(4/37)
والراجح القول الأول .
- يشترط أن يكون بلفظ : بسم الله .
فلو قال : بسم الرحمن أو باسم رب العالمين :
فقيل : لا يجزئ .
وهذا قول الشافعية والحنابلة .
لأن إطلاق التسمية ينصرف إلى : بسم الله .
وقيل : يجزئ .
وهذا مذهب الحنفية والمالكية .
قالوا : المراد بالتسمية ذكر الله من حيث هو ، لا خصوص : بسم الله .
وهذا الراجح .
- يعتبر أن تكون التسمية على ما أراد ذبحه ، فلو سمى على شاة ثم تركها إلى غيرها أعاد التسمية ، وأما تغيير الآلة فلا يضر ، فلو سمى وبيده سكين ، ثم ألقاها وذبح بغيرها ، فلا بأس .
- الخلاصة :
أن في حديث الباب شرطان من شروط الذكاة :
التسمية - أن يكون بمحدد إلا السن والظفر .
- فيجوز الذبح بكل محدد سواء كان حديداً أم حجراً أم خشباً أم قصباً أم زجاجاً .
- والحكمة في اشتراط نهر الدم: تمييز حلال اللحم والشحم من حرامها، وتنبيه على أن تحريم الميتة لبقاء دمها الخبيث فيها .
بَابُ الأَضَاحِيّ
391 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ( قَالَ : (( ضَحَّى النَّبِيُّ ( بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقَرْنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ , وَسَمَّى وَكَبَّرَ وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
الأضحية : ما يذبح من بهيمة الأنعام أيام الأضحى بسبب العيد تقرباً إلى الله عز وجل .
بكبشين : الكبش فحل الضأن .
أقرنين : أي لكل واحد منهما قرنان .
أملحين : الأملح هو الذي فيه سواد وبياض ، والبياض أكثر .
صفائحهما : بكسر الصاد والحاء ، قال في النهاية : " صفحة كل شيء وجهه وجانبه ، والمراد هنا صفائح أعناقهما .
الفوائد :
1- مشروعية الأضحية .
قال الحافظ : " ولا خلاف في كونها من شرائع الدين " .
لقوله تعالى : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) .
ولحديث الباب .
ولحديث جندب قال : ( صلى رسول الله ( يوم النحر ثم خطب ثم ذبح ) . متفق عليه(4/38)
واختلفوا هل هي واجبة أم لا ؟ على قولين :
القول الأول : أنها واجبة .
وهذا مذهب أبي حنيفة واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية .
لحديث أبي هريرة ( قال : قال رسول الله ( : ( من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا ) . رواه أحمد
ولقوله (: ( من كان ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى ، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله ).متفق عليه
القول الثاني : أنها سنة مؤكدة .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لقوله ( : ( إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظافره ) . رواه مسلم
وجه الدلالة : أن النبي ( فوّض الأضحية إلى الإرادة .
وهذا القول هو الراجح ، لكن يكره للقادر تركها .
2- في الحديث بعض صفات أضحية النبي ( .
صفات أضحية النبي ( :
- ضحى بكبشين : والكبش فحل الضأن .
- أقرنين : أي لكل واحد منهما قرنان حسنان .
- أملحين : قال الخطابي : " الأملح هو الأبيض الذي في خلل صوفه طبقات سود " .
- ضحى بكبش أقرن يطأ في سواد : يعني أن قوائمه سود .
- يبرك في سواد : يعني بطنه أسود .
- ينظر في سواد : يعني أن ما حول عينيه أسود .
- سمينين .
3- مشروعية التسمية على الأضحية . [ وسبق حكم التسمية على الذبيحة ]
4- استحباب قول : ( الله أكبر ) مع التسمية .
5- أن الأفضل لمن يحسن الذبح أن يتولى الذبح بنفسه .
6- استحباب وضع رجله على صفحة العنق ( وهي جانبه ) .
قال النووي : " وإنما فعل هذا ليكون أثبت له وأمكن ، لئلا تضطرب الذبيحة برأسها فتمنعه من إكمال الذبح أو تؤذيه ".
شروط الأضحية :
أولاً : أن تكون من بهيمة الأنعام .
قال تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ) وبهيمة الأنعام هي الإبل والبقر والغنم من ضأن ومعز .
ثانياً : أن تبلغ السن المحددة شرعاً .
بأن تكون جذعة من الضأن أو ثنية من غيره .
- الثني من الإبل : ما تم له خمس سنين .(4/39)
- الثني من البقر : ما تم له سنتان .
- الثني من الغنم : ما تم له سنة .
- الجذع : ما تم له ستة أشهر .
ثالثاً : السلامة من العيوب المانعة من الإجزاء .
عن البراء من عازب قال : ( سئل النبي ( ما ذا يتقى من الضحايا ، فأشار بيده وقال : أربعاً : العرجاء البين ضلعها ، والعوراء البين عورها ، والمريضة البين مرضها ، والعجفاء التي لا تنقي ) . رواه مالك
رابعاً : أن يضحى بها في الوقت المحدد شرعاً .
أول وقتها بعد صلاة العيد لمن يصلون كأهل البلدان، والأفضل أن يؤخر الذبح حتى تنتهي الخطبتان لأن ذلك فعل النبي (.
قال جندب بن سفيان : ( صلى النبي ( يوم النحر ثم خطب ثم ذبح ) . رواه البخاري
كِتَابُ الأَشْرِبَةِ
392 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (( أَنَّ عُمَرَ قَالَ - عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ ( - أَمَّا بَعْدُ , أَيُّهَا النَّاسُ , إنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ : مِنْ الْعِنَبِ , وَالتَّمْرِ , وَالْعَسَلِ , وَالْحِنْطَةِ , وَالشَّعِيرِ . وَالْخَمْرُ : مَا خَامَرَ الْعَقْلَ ثَلاثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( كَانَ عَهِدَ إلَيْنَا فِيهَا عَهْداً نَنْتَهِي إلَيْهِ : الْجَدُّ , وَالْكَلالَةُ , وَأَبْوَابٌ مِنْ الرِّبَا )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
نزل تحريم الخمر : مراده الآية التي في سورة المائدة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) .
وددت : تمنيت .
الفوائد :
1- قوله ( نزل تحريم الخمر وهي من خمسة ) الجملة حالية ، أي نزل تحريم الخمر في حال كونها تصنع من خمسة ، وقد وقع عند مسلم : ( ألا إن الخمر نزل تحريمها يوم نزل وهي من خمسة أشياء ) .(4/40)
2- أراد عمر بهذا التنبيه على أن المراد بالخمر في هذه الآية ليس خاصاً بالمتخذ من العنب ، بل يتناول المتخذ من غيرها .
وقد جاء هذا الذي قاله عمر عن النبي ( صريحاً :
عن النعمان بن بشير ( قال : قال رسول الله ( : ( إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة والشعير والذرة ، وإني أنهاكم عن كل مسكر ) . رواه أبو داود
3- قوله ( الخمر ما خامر العقل ) أي غطاه أو خالطه فلم يتركه على حاله ، وأي شيء غطى العقل وخامره فهو مسكر محرم.
4- قوله ( الجد ) مراده ميراث الجد ، وهل يقوم مقام الأب مع الأخوة فيسقطهم ؟
اختلف العلماء على قولين :
القول الأول : أن الجد كالأب يسقط الأخوة .
وبهذا القول قال جمع من الصحابة منهم أبو بكر ، وبه قال جمع من التابعين ، وقال به أبو حنيفة ، ورجح هذا شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم .
أدلتهم :
- لأن الله سمى الجد أباً في قوله: ( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ) . وقال يوسف: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ) .
- أن ابن الابن بمنزلة الابن ، فيكون الجد بمنزلة الأب .
القول الثاني : أن الجد لا يحجب الأخوة .
وبهذا قال جماعة من الصحابة منهم : علي وابن مسعود وزيد بن ثابت ، وبه قال مالك وأحمد والشافعي .
قالوا : لأن ميراث الأخوة ثبت بالكتاب ، فلا يحجبون إلا بنص أو إجماع أو قياس ، وما وجد شيء من ذلك فلا يحجبون .
والراجح القول الأول .
5- قوله ( والكلالة ) ومعناها الذي يموت وليس له ولد ولا والد .
وهذا تفسير أبي بكر وجمهور العلماء .
6- قوله ( وأبواب من أبواب الربا ) هذا يدل على أن عمر عنده نص في بعض أبواب الربا دون بعض ، فلهذا تمنى معرفة البقية .
7- تواضع عمر .
8- أنه ربما كبار الصحابة تخفى عليهم بعض المسائل .
393 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( سُئِلَ عَنْ الْبِتْعِ ؟ فَقَالَ : كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ )) .(4/41)
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
البتع : بكسر الباء وسكون التاء ، هو نبيذ العسل .
الفوائد :
1- هذا الجواب من النبي ( جواب عام شامل ، وهو أن كل شراب أسكر فهو خمر محرم من أي نوع اتخذ .
وقد جاء في رواية : ( كل مسكر حرام ) .
وهذه الرواية تفسير المراد بقوله في حديث الباب : ( كل شراب أسكر ) وأنه لم يرد تخصيص التحريم بحالة الإسكار ، بل أنه إذا كانت فيه صلاحية الإسكار حرم تناوله ولو لم يسكر المتناول بالقدر الذي تناول منه .
2- أن علة التحريم هي الإسكار ، فاقتضى ذلك أن كل شراب وجد فيه الإسكار حرم تناول قليله وكثيره .
وقد جاء ما يؤيد ذلك :
فعند أبي داود عن جابر ( قال : قال رسول الله ( : ( ما أسكر كثيره فقليله حرام ) .
وعن عائشة مرفوعاً : ( كل مسكر حرام ، وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام ) . رواه أبو داود
وعن سعد قال : قال رسول الله ( : ( أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره ) . رواه ابن حبان
394 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : (( بَلَغَ عُمَرَ : أَنَّ فُلاناً بَاعَ خَمْراً فَقَالَ : قَاتَلَ اللَّهُ فُلاناً , أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ , حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ , فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا ؟ )) .
--------------------------------------------
هذا الحديث سبقت مباحثه في كتاب البيوع .
معاني الكلمات :
قاتل : لعن .
الفوائد :
1- تحريم بيع الخمر ، وهذا بالإجماع .
2- حرص عمر على إنكار المنكر .
3- تحريم التحيل . [ وسبقت أدلة تحريمه عند شرح هذا الحديث في كتاب البيوع ]
4- أن اليهود أهل حيل وغدر .
5- التحذير من التشبه باليهود .
وقد وقع المسلمون في كثير من صفات اليهود : من كتمان العلم ، والحسد ، وقسوة القلب ، وحب الدنيا .
كتاب اللباس(4/42)
395 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( لا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ ، فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ )) .
396 - عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ( يَقُولُ : (( لا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلا الدِّيبَاجَ , وَلا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهِمَا ، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الآخِرَةِ )) .
400- عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( (( نَهَى عَنْ لُبُوسِ الْحَرِيرِ إلاَّ هَكَذَا , وَرَفَعَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ (
وَلِمُسْلِمٍ (( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ( عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إلاَّ مَوْضِعَ أُصْبُعَيْنِ , أَوْ ثَلاثٍ , أَوْ أَرْبَعٍ )) .
--------------------------------------------
معني الكلمات :
الحرير : هو في الأصل خيط دقيق تفرزه دودة القز ، ثم أطلق على الثياب الناعمة المتخذة من ذلك .
الديباج : ما غلظ من ثياب الحرير .
صحافهما : جمع صحفة ، وهي الإناء يشبع خمسة .
الفوائد :
1- في هذه الأحاديث دليل على تحريم الحرير على الرجال ، والأدلة عليه كثيرة :
حديث الباب .
حديث البراء قال : ( نهينا عن سبع : ... وذكر منها : الحرير ) . متفق عليه
وعن أبي موسى قال : ( أخذ رسول الله ( حريراً بشماله وذهباً بيمينه ، ثم رفع بهما يديه وقال : إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم ) . رواه الترمذي
وعن عمر قال : قال رسول الله ( : ( إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة ) . متفق عليه
وعن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله ( : ( ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحرَ والحرير والخمر والمعازف ) .
رواه البخاري
( يستحلون ) يعتقدون حل ذلك ، أو أن المراد أنهم يسترسلون في استعمالها ويتساهلون . ( الحر ) الفرج .(4/43)
2- الحكمة من تحريم الحرير على الرجال :
أولاً : لما فيه من الإسراف والتبذير والعجب .
ثانياً : أنه ثوب رفاهية وزينة فيليق بزي النساء دون شهامة الرجال .
قال ابن القيم : " حرّم - يعني الحرير - لما يورثه بملامسته للبدن من الأنوثة والتخنث وضد الشهامة والرجولة ، فإن لبسه يكسب القلب صفة من صفات الإناث " .
ثالثاً : لما فيه من مشابهة الكفار والمشركين .
وذكر بعضهم علة أخرى ، وهي : السرف .
3- هناك حالات يجوز فيها لبس الحرير :
الحالة الأولى : أن يكون الحرير في الثوب يسيراً .
وقد ضبطوا اليسير بألا يتجاوز أربع أصابع .
لحديث الباب : ( حديث عمر ) .
قال النووي : " وفي هذه الرواية : إباحة العَلَم من الحرير في الثوب إذا لم يَزد على أربع أصابع ، وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور " .
الحالة الثانية : حالة الضرورة ، والحاجة إلى لبس الحرير .
لحديث أنس : ( أن رسول الله ( رخص لعبد الرحمن بن عوف ، والزبير بن العوام ، في القمص الحرير في السفر من حكة كانت بهما ) . متفق عليه
( الحكة ) هي الجرب ونحوه .
قال الشوكاني : " والحديث يدل على جواز لبس الحرير لعذر الحِكة ، والقمل عند الجمهور ، وقد خالف في ذلك مالك ، والحديث حجة عليه " .
وقال رحمه الله : " والتقييد بالسفر بيان للحال الذي كانا عليه ، لا للتقييد ، وقد جعل السفر بعض الشافعية قيداً في الترخيص ، وهو ضعيف " .
4- أن الحرير جائز للنساء .
5- أن تحريم الحرير حتى على الصغار والصبيان .
لقوله ( : ( هذان حرام على ذكور أمتي ... ) والصبي من الذكور .
6- قوله ( من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة )
فقيل : هو كناية على عدم دخول الجنة(4/44)
قال الشوكاني : " والظاهر أنه كناية عن عدم دخول الجنة ، وقد قال الله تعالى في أهل الجنة : ( ولباسهم فيها حرير ) فمن لبسه في الدنيا لم يدخل الجنة ، ويدل لذلك حديث ابن عمر عند الشيخين بلفظ : قال رسول الله ( : ( إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة ) والخلاق كما في كتب اللغة وشروح الحديث : النصيب ، أي من لا نصيب له في الآخرة " .
وقيل : أنه لا يلبس الحرير في الجنة ويلبس غيره من الملابس .
وقيل : هذا من الوعيد الذي له حكم أمثاله من نصوص الوعيد التي تدل على أن الفعل مقتضي لهذا الحكم وقد يتخلف عنه لمانع .
7- تحريم لبس الديباج ، وهو ما غلظ من الحرير .
8- تحريم الأكل والشرب في آنية الفضة .
لقوله ( : ( إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ) وهذا وعيد بالنار .
9- ما حكم الاتخاذ والاستعمال لآنية الذهب والفضة ؟
( كأن يجعل عنده آنية ذهب أو فضة للزينة ، مثل الإبريق أو غيرها ) .
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : أنه حرام .
وهذا قول الجمهور ، الأدلة :
أن رسول الله ( ذكر الطعام والشراب لأنه أغلب أنواع الاستعمال ، وما غلب به الحكم لكونه أغلب ، لا يقتضي تخصيصه به .
عموم قوله ( : ( فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ) .
أن العلة التي من أجلها حرم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة موجودة في الاتخاذ والاستعمال .
أن فيه كسر لقلوب الفقراء .
القول الثاني : أنه يجوز .
وهذا اختيار الشوكاني والصنعاني .
هؤلاء قالوا : التحريم خاص بالأكل والشرب فقط . أدلتهم :
الأصل الحل ، والأحاديث نص في تحريم الأكل والشرب ، والأصل فيما عداهما الحل ، فلا يحرم شيء حتى يأتي دليل صحيح صريح بتحريم الاستعمال ، فتخصيص النبي ( للأكل والشرب دليل على أن ما عداهما جائز .
قال الشوكاني : "والحاصل أن الأصل الحل ، فلا تثبت الحرمة إلا بدليل يسلّمه الخصم ، ولا دليل في المقام بهذه الصفة" .(4/45)
والراجح القول الأول وهو التحريم .
فإن قيل : إن كانت علة التحريم كسر قلوب الفقراء ، لحرمت آنية الياقوت ونحوه مما هو أرفع من الأثمان .
الجواب : قال ابن قدامة : " قلنا تلك لا يعرفها الفقراء ، فلا تنكسر قلوبهم باتخاذ الأغنياء لها ، لعدم معرفتهم بها " .
10- أن الأصل في الأواني الحل .
فكل إناء طاهر ولو كان ثميناً يباح اتخاذه واستعماله ، فقد ثبت عنه ( :
( أنه توضأ من جفنة ) . رواه أبو داود
( وتوضأ من تور من صفر ) . رواه البخاري التور : القدح ، قال الحافظ : " هو شبيه الطست ، وقيل : هو الطست " .
الصفر : صنف من جيد النحاس .
( وتوضأ من قربة ) . رواه البخاري ومسلم
( وتوضأ من إداوة ) . رواه البخاري ومسلم الإداوة : إناء صغير من جلد يتخذ للماء .
الأدلة على أن الأصل في الأواني الحل :
قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) .
وجه الدلالة: أنه تعالى أخبر أنه خلق جميع ما في الأرض للناس مضافاً لهم باللام ، واللام حرف الإضافة ، وهي توجب اختصاص المضاف بالمضاف إليه ، واستحقاقه إياه من الوجه الذي يصلح له ، فيجب إذن أن يكون الناس مملكين ممكنين لجميع ما في الأرض فضلاً من الله ونعمة ) .
وقال تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) .
وجه الاستدلال من الآية : أنه إذا كان ما في الأرض مسخراً لنا ، جاز استمتاعنا به ، وهذا معنى الإباحة .
وعن أبي ثعلبة الخشني عن رسول الله ( قال : ( إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدوداً فلا تعتدوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها ) . رواه الدار قطني
وجه الاستدلال : أنه ( بين أنه ما سكت عنه بعد الشرع إنما هو مباح رحمة بنا وتخفيفاً عنا ، فلا نبحث عن السؤال عنه
وهل يلحق بالذهب والفضة نفائس الأحجار كالياقوت والجواهر ؟(4/46)
قال الصنعاني : " فيه خلاف ، والأظهر عدم إلحاقه وجوازه على أصل الإباحة لعدم الدليل الناقل عنها " .
وهذا مذهب أكثر العلماء .
لأن الأصل في الأشياء الإباحة ، وقد قال تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) .
وتخصيص النبي ( الذهب والفضة بالمنع يقتضي إباحة ما عداهما .
ولأن العلة في الذهب والفضة هي الخيلاء وكسر قلوب قلوب الفقراء ، وهي غير موجودة هنا ، إذ الجوهر ونحوه لا يعرفه إلا خواص الناس .
وذهب بعض العلماء إلى التحريم وبعضهم إلى الكراهة ، والراجح الأول .
11- العلة في النهي عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة :
قيل : الخيلاء أو كسر قلوب الفقراء .
قال الشوكاني : " ويرد عليه جواز استعمال الأواني من الجواهر النفيسة ، وغالبها أنفس وأكثر قيمة من الذهب والفضة ، ولم يمنعها إلا من شذ " .
وقد سبق كلام ابن قدامة في الجواب على هذا الكلام .
وقيل : التشبه بأهل الجنة ، حيث يطاف عليهم بآنية من فضة وصحاف من ذهب ، وذاك مناط معتبر للشارع كما ثبت عنه ( لما رأى رجلاً متختماً بخاتم من ذهب ، فقال :(مالي أرى عليك أهل الجنة) . أخرجه الثلاثة من حديث بريدة [ قاله الشوكاني ]
وقيل : التشبه بالمشركين ، لقوله ( : ( فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ) .
وقيل : أن هذا ينافي العبودية .
قال ابن القيم : " الصواب أن العلة ـ والله أعلم ـ ما يكسب استعمالها القلب من الهيئة والحالة المنافية للعبودية منافاة ظاهرة ولهذا علل النبي ( بأنها للكفار في الدنيا ، إذ ليس لهم نصيب من العبودية التي ينالون بها في الآخرة نعيمها ، فلا يصلح استعمالها لعبيد الله في الدنيا ، وإنما يستعملها من خرج " .
12- يصح الوضوء من آنية الفضة والذهب لكن مع الإثم ، وحكى بعض العلماء الإجماع على ذلك ، كالنووي ، حيث قال :
" ولو توضأ واغتسل من إناء الذهب صح منه بلا خلاف " .(4/47)
13- أن الجزاء من جنس العمل ، لأن عذابه مثل عمله ، فهو يجرجر نار جهنم كما يجرجر هذا الماء الذي شربه من إناء الفضة
وهذا له أمثلة كثيرة :
كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) .
وكقوله ( : ( من قتل نفسه بحديدة فحديدته في بطنه يتوجأ بها في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ... ) . رواه مسلم
397- عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ( قَالَ : (( مَا رَأَيْتُ مِنْ ذِي لِمَّةٍ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ( ، لَهُ شَعَرٌ يَضْرِبُ مَنْكِبَيْهِ , بَعِيدُ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ ، لَيْسَ بِالْقَصِيرِ وَلا بِالطَّوِيلِ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
اللمة : قال ابن الأثير : " اللمة من شعر الرأس دون الجُمة ، سميت بذلك لأنها ألمت بالمنكبين ، فإذا زادت فهي الجُمة .
الفوائد :
1- الحديث استدل به من قال بجواز لبس الثوب الأحمر .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال :
القول الأول : الجواز مطلقاً .
وهو قول علي وطلحة والبراء وسعيد بن المسيب .
وذهب إليه أكثر العلماء .
لحديث الباب .
ولحديث أبي جحيفة قال : ( رأيت رسول الله ( في قبة حمراء من أدم ... فخرج ( في حلة حمراء مشمِّراً ... ) .متفق عليه
قال ابن رجب : " المقصود ها هنا : ( أن النبي ( خرج في حلة حمراء مشمراً ، وصلى بالناس ) يدل على جواز الصلاة بالثوب الأحمر " .
وعن عامر بن عمرو قال : ( رأيت رسول الله ( بمنى يخطب على بغلة وعليه برد أحمر ) . رواه أبو داود وحسنه الحافظ ابن حجر
القول الثاني : يحرم لبسه مطلقاً .
وهو منسوب إلى عمر ، واختاره بعض العلماء .
لحديث عبد الله بن عمر قال : ( مرّ على النبي ( رجل وعليه ثوبان أحمران ، فسلم عليه فلم يرد عليه السلام ) . رواه أبو داود(4/48)
وهذا حديث ضعيف ، قال ابن حجر : " هو حديث ضعيف الإسناد " .
ولحديث رافع بن خديج قال : ( خرجنا مع رسول الله ( في سفر ، فرأى رسول الله ( رواحلنا وعلى إبلنا أكسية فيها خيوط عهْن ، فقال : ألا أرى هذه الحمرة علتكم ، فقمنا سراعاً لقول رسول الله ( حتى نفر بعض إبلنا ، فأخذنا الأكسية فنزعناها عنها ) . رواه أبو داود وهو حديث ضعيف
ولحديث رافع بن يزيد أن رسول ( قال : ( إن الشيطان يحب الحمرة ، فإياكم والحمرة ، وكل ثوب ذي شهرة ) . رواه الطبراني وهو ضعيف لا يصح
القول الثالث : يكره للرجل لبس الثياب الحمراء إذا كانت مصمتة ( حمراء كلها ) ، وأما ما فيه لون آخر غير الأحمر من بياض وسواد وغيرهما ، فلا كراهة فيه .
روي هذا عن مجاهد وعطاء ومحمد بن سيرين .
وهو مذهب الحنفية والحنابلة ورجحه ابن القيم .
القول الرابع : يحرم إذا كان يقصد الزينة والشهرة ، ويجوز لبسه لغير ذلك .
وهذا قول ابن عباس ، واختيار الإمام مالك ومال إليه الحافظ ابن حجر .
والراجح القول الأول .
2- جواز ترك شعر الرأس .
وقد اختلف العلماء في حكم اتخاذ الشعر على أقوال :
القول الأول : أن الشعر سنة والحلق مكروه .
لفعل النبي ( ، فقد كان له شعر ، ففي حديث الباب : ( له شعر يبلغ شحمة أذنيه ) .
وعن عائشة قالت : ( كنت أرجل رأس رسول الله ( وأنا حائض ) .
واستدلوا على كراهة حلقه : أن حلقه أصبح وصفاً لطائفة من أهل البدع وهم الخوارج ، كما في الحديث : ( سيماهم التحليق ) .
القول الثاني : أن الشعر أفضل والحلق جائز .
وهذا مذهب أكثر العلماء .
واستدلوا على أنه أفضل بالأحاديث التي استدل بها أصحاب القول الأول .
وأدلتهم على جواز الحلق :
قوله ( : ( من كان له شعر فليكرمه ) . رواه أبو داود
فهذا يدل بمفهومه على أن هناك من لا يكون صاحب شعر .
وبحديث ابن عمر : أن النبي ( رأى صبياً حلق بعض رأسه وترك بعضه ، فنهى عن ذلك وقال : ( احلقوه كله أو اتركوه كله ) . رواه أبو داود(4/49)
قال الشوكاني : " فيه دليل على جواز حلق الرأس جميعه " .
وبقوله ( : ( إذا دخل عشر ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي ). رواه مسلم
في هذا الحديث دليل على أن المسلم له حلق شعره والأخذ منه في غير عشر ذي الحجة ، أو إذا لم ينوي الأضحية .
وهذا القول هو الراجح .
398 - عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ( قَالَ : (( أَمَرْنَا رَسُولُ اللَّهِ ( بِسَبْعٍ ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ : أَمَرْنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ , وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ, وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ, وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ ( أَوْ الْمُقْسِمِ ), وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ, وَإِجَابَةِ الدَّاعِي, وَإِفْشَاءِ السَّلامِ . وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمَ - أَوْ عَنْ تَخَتُّمٍ - بِالذَّهَبِ, وَعَنْ الشُّرْبِ بِالْفِضَّةِ، وَعَنْ الْمَيَاثِرِ، وَعَنْ الْقَسِّيِّ, وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ, وَالإِسْتَبْرَقِ, وَالدِّيبَاجِ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
عيادة المريض : زيارته .
تشميت العاطس : يعني تقول له : يرحمك الله ، إذا عطس فحمد الله .
إفشاء السلام : نشره وإشاعته لكل مسلم .
المياثر : قيل : هو وطاء كانت النساء يضعنه لأزواجهن على السروج ويكون من حرير ، وقيل : أغشية للسروج تتخذ من الحرير ، وقيل : هي سروج من الديباج ، وقيل : هي كالفراش الصغير تتخذ من حرير .
الاستبرق والديباج : قال ابن حجر : " صنفان نفيسان من الحرير " .
القسي : بفتح القاف ، وكسر السين ، ثياب خز ، تنسب إلى القس قرية في مصر .
الفوائد :
1- في هذا الحديث يأمر النبي ( بسبع وينهى عن سبع .
ما أمر بها :
أولاً : عيادة المريض .
- عيادة المريض لها فضل كبير .
عن ثوبان قال : قال رسول الله ( : ( إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة ) . رواه مسلم(4/50)
( خرفة ) بضم الخاء وسكون الراء ، هي الثمرة إذا نضجت ، وشبّه ما يحوزه عائد المريض من الثواب بما يحوزه الذي يجتني الثمر .
وعن علي قال : قال رسول الله ( : ( ما من مسلم يعود مسلماً غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي ، وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح ) . رواه الترمذي
وقال ( : ( من زار أخاً في الله أو عاد مريضاً قيل له : طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلاً ) . رواه الترمذي
- حكم عيادة المريض :
قيل : سنة مؤكدة .
وهذا مذهب الأكثر .
وقيل : فرض كفاية .
لأن النبي ( أمر بها كما في حديث الباب .
وكما في حديث أبي موسى قال : قال رسول الله ( : ( عودوا المريض ) . رواه البخاري
وفي حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله (: (حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام ، وعيادة المريض، ...). متفق عليه
وهذا القول هو الصحيح .
ثانياً : اتباع الجنائز .
سبق حكمها وأنها سنة ، وما يتعلق بها في كتاب الجنائز .
ثالثاً : تشميت العاطس .
اختلف العلماء في حكم تشميت العاطس إذا حمد الله على أقوال :
القول الأول : أنه سنة .
القول الثاني : أنه واجب .
لحديث الباب حيث فيه أمر النبي ( .
ولحديث أبي هريرة قال :قال رسول الله ( : ( إن الله يحب العطاس ، فإذا عطس أحدكم فحمد الله فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته ) . رواه البخاري
ولحديث أبي هريرة : ( حق المسلم على المسلم ست ... وإذا عطس فحمد الله فشمته ) . متفق عليه
القول الثالث : أنه فرض كفاية .
وهذا الراجح ، ورجحه الحافظ ابن حجر .
- أن العاطس إذا لم يحمد الله فإنه لا يشمت .
رابعاً : إبرار القسم .
أي إبرار قسم المقسم ، إذا دعاك لشيء وليس عليك ضرر ، فتبر قسمه ، لئلا تحوجه إلى التكفير عن يمينه .
- فإذا أقسم عليك بشيء فيه ضرر ، فإنه لا يلزمك أن تبر يمينه .
- وإذا أقسم عليك بشيء مباح ، فالأفضل أن تبر يمينه .
- وإذا أقسم عليك بشيء محرم ، فإنه لا يجوز أن تبر يمينه .(4/51)
خامساً : نصر المظلوم .
فيجب نصرة المظلوم بكل وسيلة ، بيدك ، أو بلسانك ، أو بجاهك .
لما في ذلك من التعاون على البر والتقوى ، وردع الظالم ، والنهي عن المنكر .
وقد قال ( : ( من رد عن عرض أخيه غيبة رد الله عن وجهه النار ) . رواه أحمد
وقال ( : ( من نفس عن مؤمن كربة نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ) . رواه مسلم
سادساً : إجابة الداعي .
وسبقت مباحثها في كتاب النكاح ، وأن الراجح أن إجابة دعوة العرس واجبة بشرط : عدم وجود منكرات .
سابعاً : إفشاء السلام .
وهذا مستحب عند جماهير العلماء .
لحديث الباب .
ولقوله ( : ( أفشوا السلام بينكم ) . رواه مسلم
وفي إفشاء السلام فوائد :
أولاً : نشر وإفشاء اسم الله ( السلام ) .
ثانياً : من أسباب المحبة .
ثالثاً : دليل على التواضع وعدم التكبر .
رابعاً : دليل على طهارة القلب .
خامساً : يوجد المودة والمحبة والتآلف .
وأما المنهيات :
أولاً : خاتم الذهب .
خاتم الذهب حرام على الرجال بالاتفاق ، وقد حكى الاتفاق على ذلك ابن عبد البر ، وابن حجر ، وابن القيم .
لحديث الباب .
قال الحافظ ابن حجر : " وظاهر النهي التحريم ، وهو قول الأئمة ، واستقر عليه الأمر " .
لحديث علي قال : ( أخذ رسول الله ( حريراً بشماله ، وذهباً بيمينه ، ثم رفع بهما يديه فقال : إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم ) . رواه أبو داود
ولحديث أبي هريرة عن النبي ( : ( أنه نهى عن خاتم الذهب ) . رواه البخاري
وعن ابن عباس : ( أن رسول الله ( رأى خاتماً من ذهب في يد رجل ، فنزعه فطرحه ، وقال : يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده ) .
ثانياً : الشرب بالفضة .
حرام وقد سبقت مباحثه .
ثالثاً : المياثر .
وأما الحرير ، فقد سبق أنه حرام ، وأما القسي والاستبرق والديباج ، فهي من أنواع الحرير ، فكلها حرام .(4/52)
399 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( اصْطَنَعَ خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ ، فَكَانَ يَجْعَلُ فَصَّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ إذَا لَبِسَهُ ، فَصَنَعَ النَّاسُ كَذَلِكَ ، ثُمَّ إنَّهُ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَزَعَهُ فَقَالَ : إنِّي كُنْتُ أَلْبَسُ هَذَا الْخَاتَمَ , وَأَجْعَلُ فَصَّهُ مِنْ دَاخِلٍ , فَرَمَى بِهِ ثُمَّ قَالَ : وَاَللَّهِ لا أَلْبَسُهُ أَبَداً فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ )) .
وَفِي لَفْظٍ (( جَعَلَهُ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
الخاتم : ما يلبس في أصابع اليد من الحلي .
اصطنع : جاء في رواية : ( اتخذ خاتماً من ذهب ) ومعنى اتخذه : أمر بصياغته فصيغ فلبسه .
فصنع الناس مثل ذلك : يحتمل أن يكون بالمثلية كونه من فضة ، ويحتمل أن يكون لمطلق الاتخاذ .
فنزعه : جاء في رواية : ( ثم اتخذ خاتماً من فضة ، فاتخذ الناس خواتيم الفضة ) .
الفوائد :
1- تحريم خاتم الذهب على الرجل ، وسبقت المسألة .
2- جواز لبس خاتم الفضة للرجل ، وهذا مذهب كثير من العلماء .
لحديث الباب .
ولحديث ابن عمر قال : ( اتخذ رسول الله ( خاتماً من ورق ، وكان في يده ، ثم كان بعد في يد أبي بكر ، ثم كان بعد في يد عمر ، ثم كان بعد في يد عثمان ، ... ) . متفق عليه
وعن أنس : ( أن رسول الله لبس خاتم فضة في يمينه ) . متفق عليه
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن لبس الخاتم مكروه إلا لذي سلطان ، كالقاضي والأمير ونحوهم .
واستدلوا بحديث أبي ريحانة قال : ( نهى رسول الله ( عن عشر : وذكر منها : وعن لبوس الخاتم إلا لذي سلطان ) . لكنه حديث ضعيف
3- اتفق أهل العلم على جواز التختم في اليمين واليسار .
لورود الأحاديث في ذلك .
ولذلك جرى الخلاف بينهم في أي اليدين أحق بالتختم :
القول الأول : يجوز في اليدين ولبسه في اليمنى أفضل .
وهذا مذهب الشافعي .(4/53)
لحديث أنس قال : ( لبس رسول الله ( خاتم فضة في يمينه ) . رواه مسلم
وعن ابن عمر : ( أن النبي ( كان يتختم بيمينه ) . رواه النسائي
القول الثاني : يجوز في اليدين إلا أن لبسه في اليسار أفضل .
وهو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة .
لحديث أنس قال : ( كان خاتم النبي ( في هذه ، وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى ) . رواه مسلم
القول الثالث : يجوز في كلا اليدين ، من غير تفصيل .
قالوا : لأن كل ذلك ثبت عن النبي ( .
والراجح القول الأول ، أنه جائز في كلا اليدين واليمنى أفضل .
- لأن أحاديث التختم باليمنى أكثر وأصح .
- ولأن الخاتم زينة ، واليمين أولى بالزينة .
- أن الخاتم قد ينقش فيه الذكر ، من لفظ الجلالة ونحو هذا ، فإذا لبس في اليمين كان ذلك صوناً له من امتهان ما كتب عليه عند الاستنجاء .
4- اتفق أهل العلم على أن السنة في حق الرجل جعل خاتمه في خنصره دون سائر أصابعه ، وأن لبسه في الإصبع الأخرى مكروه .
والحكمة : أن لبسه في الخنصر أبعد عن الامتهان فيما يتعاطى باليد لكونه طرفاً ، ولا يشغل اليد عن تناول أشغالها ، بخلاف غيره من الأصابع .
عن أنس قال : ( صنع النبي ( خاتماً ثم قال : إنا اتخذنا خاتماً ونقشنا عليه نقشاً ، فلا ينقش عليه أحد ، قال : وإني لأرى بريقه في خنصره ) . رواه البخاري
وعنه قال : ( كان خاتم النبي ( في هذه ، وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى ) . رواه مسلم
وعن علي قال : ( نهاني رسول الله ( أن أتختم في إصبعي هذه أو هذه ، وأومأ إلى الوسطى والتي تليها ) . رواه مسلم
5- فضل الصحابة وسرعة اقتدائهم بالنبي ( ، حيث نزعوا خواتيمهم ساعة نزع خاتمه ( .
كتابُ الجِهادِ
مقدمة
تعريفه :
لغة : استفراغ الوسع والطاقة من قول أو فعل .
واصطلاحاً : قال الحافظ ابن حجر : " بذل الجهد في قتال الكفار " .
حكمه :
فرض كفاية في قول أكثر أهل العلم .
قال ابن قدامة : " والجهاد من فروض الكفايات في قول عوام أهل العلم " .(4/54)
قال تعالى (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) .
قال القرطبي : " الجهاد ليس على الأعيان ، وأنه فرض كفاية ، إذ لو نفر الكل لضاع من وراءهم من العيال ، فليخرج فريق منهم للجهاد وليقم فريق منهم يتفقهون في الدين ، ويحفظون الحريم .... " .
وجاء في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري . ( أن رسول الله ( بعث بعْثاً إلى بني لحيان من هذيْل فقال : لينبعث من كل رجلين أحدهما والأجر بينهما ) .
قال بعض العلماء : ومن الأدلة الدالة على أنه فرض كفاية أنه كان ( يغزو تارة بنفسه وتارة يرسل غيره ، ويكتفي ببعض المسلمين ، وقد كانت سراياه وبعوثه متعاقبة والمسلمون بعضهم في الغزو وبعضهم في أهله ، وإلى كونه فرض كفاية ذهب جمهور العلماء .
متى يجب الجهاد :؟
يجب الجهاد في حالات :
الحالة الأولى : إذا حضر الإنسان الصف .
قال ابن قدامة : " إذا التقى الصفان حرم على من حضر الانصراف وتعين عليه المقام " .
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ) .
وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) .
الحالة الثانية : إذا استنفر الإمام .(4/55)
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ . إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
وقال ( ( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا ) متفق عليه .
قال الحافظ ابن حجر : " وفيه وجوب تعيين الخروج في الغزو على من عينه الإمام " .
الحالة الثالثة : إذا حضر بلده العدو .
قال ابن قدامة : " النفير يعم جميع الناس ممن كان من أهل القتال حين الحاجة إلى نفيرهم لمجيء العدو إليهم ، ولا يجوز لأحد التخلف إلا من يحتاج إلى تخلفه لحفظ المكان والأهل والمال ومن يمنعه الأمير من الخروج أو من لا قدرة له على الخروج أو القتال " .
الحالة الرابعة : إذا احتيج إليه .
فمثلاً هناك آلات أو طائرات لا يعرف قيادتها إلا هذا الرجل ، فحينئذ يجب عليه الجهاد ، لأن الناس محتاجون إليه .
عواقب ترك الجهاد :
أولاً : سبب للهلاك في الدنيا والآخرة .
فأما في الدنيا فإن الجبان الرعديد الذي لا همة له في قتال الأقران ولا طاقة له في الذود عن حياضه يكون ذليلاً مستعبداً تابعاً غير متبوع .
وأما في الآخرة : فهو يهلك إن لم يتغمده الله برحمته ، بترك فريضة محكمة أنزلها الله في كتابه بها عز الإسلام والمسلمين وإذلال الشرك والمشركين .
ثانياً : سبب للذل والهوان .
عن ابن عمر . قال : قال رسول الله ( ( إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ) رواه أبو داود .
ثالثاً : سبب للبلاء .(4/56)
قال ( ( من لم يغزو أو يجهز غازياً أو يخلف غازياً في أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة ) رواه أبو داود .
رابعاً : سبب لعذاب الله وبطشه .
قال تعالى ( إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير ) .
خامساً : سبب لإفساد أهل الأرض بالقضاء على دينهم .
قال تعالى ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ) .
سادساً : ترك الجهاد يفوت مصالح عظيمة للمسلمين ، منها الأجر والثواب والشهادة والمغنم والتربية الإيمانية التي لا تحصل بدون الجهاد ودفع شر الكفار وإذلالهم .
401- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى ( : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ - انْتَظَرَ , حَتَّى إذَا مَالَتِ الشَّمْسُ قَامَ فِيهِمْ , فَقَالَ: (( أَيُّهَا النَّاسُ, لا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ, وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا, وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ (: اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ , وَمُجْرِيَ السَّحَابِ , وَهَازِمَ الأَحْزَابِ : اهْزِمْهُمْ , وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
لا تتمنوا لقاء العدو : كأن يقول : اللهم ألقني بعدوي .
الفوائد :
1- في الحديث النهي عن تمني لقاء العدو .
قال النووي : " إنما نهى عن تمني لقاء العدو لما فيه من صورة الإعجاب والاتكال على النفس والوثوق بالقوة ، وهو نوع بغي ، ولأنه يتضمن قلة الاهتمام بالعدو واحتقاره وهذا يخالف الاحتياط والحزم " .
وقال ابن بطال : " حكمة النهي أن المرء لا يعلم ما يؤول إليه الأمر ، وهو نظير سؤال العافية من الفتن " .(4/57)
وقال ابن دقيق العيد : " لما كان لقاء الموت من أشق الأشياء على النفس وكانت الأمور الغائبة ليست كالأمور المحققة لم يُؤمن أن يكون عند الوقوع كما ينبغي فيكره تمني التمني لذلك ولما فيه لو وقع من احتمال أن يخالف الإنسان ما وعد من نفسه " .
2- وجوب الصبر عند القتال وهو آكد أركانه ، وقد جمع الله سبحانه آداب القتال في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) .
فضائل الصبر :
أولاً : تعليق الفلاح به .
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فعلق الفلاح بمجموع هذه الأمور .
ثانياً : الإخبار عن مضاعفة أجر الصابرين على غيره .
قال تعالى (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ) .
ثالثاً : تعليق الإمامة في الدين به وباليقين .
قال تعالى (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين .
رابعاً : ظفرهم بمعية الله لهم .
قال تعالى ( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) .
خامساً : أنه جمع للصابرين ثلاثة أمور لم يجمعها لغيرهم .
قال تعالى ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) .
3- استحباب سؤال الله العافية .(4/58)
قال النووي : " كثرت الأحاديث في الأمر بسؤال العافية ، وهي من الألفاظ المتناولة لدفع جميع الآفات في البدن في الظاهر والباطن في الدين والدنيا والآخرة " .
عن طارق بن أشيم قال ( كان الرجل إذا أسلم علمه النبي ( الصلاة ثم أمره أن يدعو بهؤلاء الكلمات : اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني ) رواه مسلم .
وعافني : أي من كل مرض .
والأمراض نوعان : مرض قلبي كما قال تعالى (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً) .
ومرض جسمي في الأعضاء والبدن .
4- فضل الجهاد في سبيل الله لقوله ( واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ) .
قال النووي : " معناه ثواب الله والسبب الموصل إلى الجنة عند الضرب بالسيوف في سبيل الله ومشي المجاهدين في سبيل الله فاحضروا فيه بصدق واثبتوا . [ وسيأتي في الدرس القادم فضائل الجهاد إن شاء الله ] " .
قال القرطبي : " هذا الكلام من النفيس البديع الذي جمع ضروب البلاغة مع جزالة اللفظ وعذوبته وحسن استعارته ، وشمول المعاني الكثيرة مع الألفاظ المقبولة الوجيزة بحيث يعجز الفصحاء اللين البلغاء عن إيراد مثله ، وأن يأتوا بنظيره وشكله فإنه استفيد منه مع وجازته الحض على الجهاد والإخبار بالثواب عليه " .
5- النهي عن تمني لقاء العدو لا يعني كراهة الجهاد وعدم تحديث النفس بالغزو أو تمني الشهادة في سبيل الله ، فإن ذلك كله حض الشارع الحكيم عليه وعده من صفات المتقين ومنازل الصديقين ، لكن النهي عن تمني لقاء العدو ، لأن الإنسان لا يدري هل يصبر أم لا ؟ وأيضاً فيه عدم الاتكال والإعجاب بالنفس وقلة الاهتمام بالعدو .
6- قوله ( انتظر حتى مالت الشمس ) قال النووي : " قال العلماء : سببه أنه أمكن للقتال ، فإنه وقت هبوب الريح ونشاط النفوس ، وكلما طال ازدادوا نشاطاً وإقداماً على عدوهم " .
7- استحباب الدعاء عند القتال ، وقد جاء في حديث أن الدعاء يستجاب عند التقاء الصفوف وعند نزول المطر .(4/59)
8- وجوب الاعتماد على الله .
9- فضل الثناء على الله قبل الدعاء .
قال ابن القيم : " الدعاء الذي يتقدمه الذكر والثناء ، أفضل وأقرب إلى الإجابة من الدعاء المجرد ، فإن انضاف إلى ذلك إخبار العبد بحاله ومسكنته وافتقاره واعترافه كان أبلغ في الإجابة وأفضل " .
402 - عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا , وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا , وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا )) .
وَلِمُسْلِمٍ : (( مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ - كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ , وَتَوَكَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ إنْ تَوَفَّاهُ : أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ , أَوْ يُرْجِعَهُ سَالِماً مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ )) .
404 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , إلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ , وَكَلْمُهُ يَدْمَى : اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ , وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ )) .
405 - عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , أَوْ رَوْحَةٌ : خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ )) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
406 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , أَوْ رَوْحَةٌ : خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا )) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :(4/60)
رباط : الرباط هو ملازمة المكان الذي بين المسلمين والكفار لحراسة المسلمين منهم .
الغدوة : المرة من الغدو ، وهو سير أول النهار .
الروحة : المرة من الرواح ، وهو الخروج في آخر النهار .
مكلوم : الكَلْم : الجرح ، والمكلوم : المجروح .
يدمى : أي جرحه يسيل منه الدم .
الفوائد :
1- هذه الأحاديث تتكلم عن فضل الجهاد في سبيل الله وعظيم منزلته .
قوله ( الغدوة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ) .
الصحيح في معناها : أن هذا القدر من الثواب خير من الثواب الذي يحصل لمن لو حصلت له الدنيا كلها لأنفقها في طاعة الله .
2- قوله ( كمثل الصائم القائم ) .
جاء عند مسلم ( كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام ) .
زاد النسائي ( الخاشع الراكع الساجد ) .
وفي الموطأ وابن حبان ( كمثل الصائم القائم الدائم الذي لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع ) .
ولأحمد من حديث النعمان بن بشير مرفوعاً ( مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم نهاره القائم ليله ) .
قال الحافظ ابن حجر : "وشبه حال الصائم القائم بحال المجاهد في سبيل الله في نيل الثواب في كل حركة وسكون ، لأن المراد من الصائم القائم من لا يفتر ساعة عن العبادة فأجره مستمر، وكذلك المجاهد لا تضيع ساعة من ساعاته بغير ثواب" .
وصدق الله إذ يقول ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) .
3- هذه الأحاديث تتكلم - كما ذكرت قبل قليل - عن فضل الجهاد في سبيل الله وعظيم أجره ، ومن فضائله :
أولاً : أن الروحة في سبيل الله خير من الدنيا بما فيها .
لحديث الباب .
ثانياً : أنه من أفضل الأعمال .(4/61)
عن أبي ذر قال : ( قلت يا رسول الله ، أي العمل أفضل ؟ قال : الإيمان بالله ، والجهاد في سبيل الله ) . متفق عليه
ثالثاً : أن المجاهد أفضل الناس .
عن أبي سعيد الخدري قال : ( أتى رجل رسول الله ( فقال : أي الناس أفضل ؟ قال : مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله ) . متفق عليه
رابعاً : الجهاد لا يعدله شيء .
عن أبي هريرة ( قال : ( قيل : يا رسول الله ، ما يعدل الجهاد في سبيل الله ؟ قال : لا تستطيعونه ، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً كل ذلك يقول : لا تستطيعونه ، ثم قال : مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم ، القانت بآيات الله ، لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله ) . متفق عليه
خامساً : للمجاهدين مائة درجة في الجنة .
قال ( : ( إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض ).
……………………………… رواه البخاري
سادساً : الجهاد سبب للنجاة من النار .
قال ( : ( ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار ) . رواه البخاري
قال الحافظ ابن حجر : " وفي ذلك إشارة إلى عظم قدر التصرف في سبيل الله ، فإذا كان مجرد مسّ الغبار للقدم يحرم عليها النار ، فكيف بمن سعى وبذل جهده واستنفذ وسعه ؟ " .
سابعاً : من أسباب دخول الجنة .
قال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ) .
ثامناً : المجاهد يكون الله في عونه .
قال ( : ( ثلاثة حق على الله عونهم : المجاهد في سبيل الله ، والمكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح الذي يريد العفاف ) .
رواه أحمد
تاسعاً : الجهاد ذروة سنام الإسلام .
قال ( : ( وذروة سنام الإسلام الجهاد في سبيل الله ) . رواه الترمذي
ذروة الشيء : أعلاه .
عاشراً : نفى سبحانه التسوية بين المؤمنين المجاهدين وغير المجاهدين .(4/62)
قال تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) .
الحادي عشر : أن الجهاد سبب لمغفرة الذنوب .
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) .
4- تحقير أمر الدنيا لقوله ( لغدوة أو روحة خير من الدنيا وما فيها ) .
ومما يدل على حقارة الدنيا :
قوله ( ( لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء ) .رواه الترمذي
وقوله ( ( الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه ) .رواه النسائي
وعن جابر ( أن رسول الله ( مر بالسوق والناس كنَفَتَيْه ، فمر بجديٍ أَسَكَّ ، ..... ثم قال : فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم ) .رواه مسلم [ كنفتيه ] أي : عن جانبيه . [ الأسك ] الصغير الأذن .
ولذلك حب الدنيا هو رأس كل خطيئة ومفسد للدين وذلك لأمور :
أحدها : أن حبها يقتضي تعظيمها وهي حقيرة عند الله ، ومن أكبر الذنوب تعظيم ما حقر الله .
وثانيها : أن الله لعنها ومقتها وأبغضها إلا ما كان له فيها ، ومن أحب ما لعنه الله ومقته وأبغضه فقد تعرض للفتنة ومقته وغضبه .(4/63)
وثالثها : أنه إذا أحبها صيرها غايته وتوسل إليها بالأعمال التي جعلها الله وسائل إليه وإلى الدار الآخرة ، فعكس الأمر وقلب الحكمة فانتكس قلبه وانعكس سيره إلى وراء .
ورابعها : أن محبتها تعترض بين العبد وبين فعل ما يعود عليه نفعه في الآخرة لاشتغاله عنه بمحبوبه .
وخامسها : أن محبتها تجعلها أكثر همّ العبد .
وسادسها : أن مُحبّها أشد الناس عذاباً بها .
وسابعها : أن عاشقها ومحبها الذي يؤثرها على الآخرة من أسفه الخلق وأقلهم عقلاً ، إذ آثر الخيال على الحقيقة ، والمنام على اليقظة ، والظل الزائل على النعيم الدائم ، والدار الفانية على الدار الباقية .
5- تعظيم أمر الجهاد في سبيل الله .
6- الحكمة في ذكر [موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ] أن التأخير عن الجهاد في سبيل الله سببه الميل إلى سبب من أسباب الدنيا ، فنبه هذا المتأخر أن هذا القدر اليسير من الجنة أفضل من جميع ما في الدنيا .
7- فضل الرباط في سبيل الله تعالى ، ومن فضائله :
- حديث الباب ، حديث سهل : ( رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ) .
- وعن سلمان . قال : قال رسول الله ( ( رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات جرَى عليه عمله الذي كان يعمل ، وأجْرِيَ عليه رزقه ، وأمِنَ الفتان ) رواه مسلم . [ الفتان ] أي فتان القبر أعاذنا الله منه .
- وعن فَضَالة بن عبيد . أن رسول الله ( قال ( كل ميت يُختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله ، فإنه يُنمَى له عمله إلى يوم القيامة ، ويُؤْمَّن فتنة القبر ) رواه أبو داود . [ يختم على عمله : ينقطع عمله بالموت فلا يزداد ثواباً ] . [ ينمى : يزداد ]
ففي هذه الأحاديث :
- فضل الرباط في سبيل الله .
- أن ثواب عمل المرابط لا ينقطع بالموت ، وأن رزقه لا ينقطع أيضاً .
- عظيم نعمة الله حيث يثيب على العمل اليسير الأجر الكبير .(4/64)
- حرمان كثير من الناس عن هذه الفضائل العظيمة ، وما حرمانهم إلا بسبب تعلقهم بالدنيا وعدم يقينهم بالآخرة .
- أهمية الإخلاص في الجهاد في سبيل الله ، وأن العمل من غير إخلاص فهو مردود على صاحبه .
ولذلك قال ( ( ما من مكْلوم يكلم - والله أعلم بمن يكلم في سبيله - إلا جاء يوم القيامة ... ) .
403 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( عَنْ النَّبِيِّ ( قَالَ : (( انْتَدَبَ اللَّهُ ( وَلِمُسْلِمٍ : تَضَمُّنَ اللَّهُ ) لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ , لا يُخْرِجُهُ إلاَّ جِهَادٌ فِي سَبِيلِي , وَإِيمَانٌ بِي , وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي فَهُوَ عَلِيّ ضَامِنٌ : أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ , أَوْ أُرْجِعَهُ إلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ , نَائِلاً مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
انتدب : أي سارع بثوابه وحسن جزائه ، وقيل : بمعنى أجاب إلى المراد وقيل : تكفل بالمطلوب كما تدل عليه الرواية الأخرى .
إيمان بي : أي لا يخرجه إلا الإيمان والتصديق .
تصديق برسولي : جاء في رواية ( وتصديق كلمته ) قال النووي : " أي كلمة الشهادتين ، وقيل : تصديق كلام الله في الإخبار بما للمجاهد من عظيم ثوابه " .
ضامن : أي كفيل وضامن .
أن أدخله الجنة : أي إذا مات .
الفوائد :
1- فضل الجهاد في سبيل الله تعالى ، وسبقت فضائله في الدرس الماضي .
2- أهمية الإخلاص في الجهاد في سبيل الله .
وقد قال ( ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) متفق عليه .
وقد جاء الخطر العظيم فيمن يقاتل في سبيل الله رياء وسمعة :(4/65)
عن أبي هريرة . قال : قال رسول الله ( ( إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد ، فأتي به ، فعرفه نعمته فعرفها ، قال : فما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت ، قال : كذبت ، ولكنك قاتلت ليقال جريء ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ) رواه مسلم .
3- أن الإخلاص في الجهاد ينيل صاحبه إحدى الحسنيين إما الجنة أو الرجوع بالثواب الأخروي والغنيمة الدنيوية .
قال النووي : " قوله [ أو أرجعه إلى مسكنه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة ] معنى الحديث : أن الله تعالى ضمن أن الخارج للجهاد ينال خيراً بكل حال ، فإما يستشهد فيدخل الجنة ،وإما أن يرجع بأجر ، وإما أن يرجع بأجر وغنيمة " .
4- فضل الشهادة في سبيل الله لقوله [ فهو علي ضامن أن أدخله الجنة ، أي : إن مات ] ، وللشهادة فضائل كثيرة :
أولاً : من أسباب دخول الجنة .
كما في حديث الباب .
وقال تعالى (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) .
وعن جابر . قال ( قال رجل للنبي ( يوم أحد : أرأيت إن قتلت فأين أنا ؟ قال : في الجنة ، فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل ) متفق عليه .
ثانياً : الحياة بعد الاستشهاد مباشرة .
قال تعالى (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُون ) .
وقال تعالى (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) .
ثالثاً : مغفرة الذنوب وتكفير السيئات .(4/66)
قال تعالى (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) .
وقال ( ( يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين ) رواه مسلم .
وقال ( ( إن للشهيد عند الله ست خصال يغفر له عند أول دفعة من دمه .... ) رواه الترمذي .
رابعاً : تمني الرجوع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى بل عشر مرات .
عن أنس . قال : قال ( ( ما من عبد يموت له عند الله خير يسره أن يرجع إلى الدنيا ، وأن له الدنيا وما فيها ، إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة ، فإنه يسرهُ أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى وفي رواية : لما يرى من الكرامة ) متفق عليه .
خامساً : الشهيد في الفردوس الأعلى .
وعن أنس ( أن أم حارثة أتت النبي ( فقالت : يا رسول الله ألا تحدثني عن حارثة ، وكان قتل يوم بدر ، أصابه سهم ، فإن كان في الجنة صبرت ، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه بالبكاء ، فقال رسول الله : يا أم حارثة ، إنها جنان في الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى ) متفق عليه .
سادساً : الملائكة تظل الشهيد بأجنحتها .
عن جابر قال (جيء بأبي إلى النبي ( وقد مثّل به ووضع بين يديه ، فذهبت أكشف عن وجهه، فنهاني قومي ، فسمع صوت نائحة، فقيل: ابنة عمرو - أو أخت عمرو - فقال: لم تبكي أو لا تبكي، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها) متفق عليه
سابعاً : الشهداء لا يفتنون في قبورهم :
عن المقداد بن معد يكرب . قال : قال رسول الله ( ( للشهيد عند الله ست خصال : يغفر له في أول دفعة ، ويرى مقعده من الجنة ، ويجار من عذاب القبر ) رواه الترمذي .
وقال ( لما سئل لماذا الشهداء لا يسألون في قبورهم ؟ قال : ( كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة ) رواه النسائي .(4/67)
قال ابن النحاس : " ولا شك بأن من وقف للقتال ورأى السيوف تلمع وتقطع ، والأسنة تبرق وتخرق ، والسهام ترشق وتمرق ، والرؤوس تندر ، والدماء تثعب ، والأعضاء تتطاير ، وجاد بنفسه لله تعالى إيماناً به وتصديقاً بوعده ووعيده ، فيكفيه هذا امتحاناً لإيمانه واختباراً له وفتنة ، إذ لو كان عنده شك أو ارتياب لولى الدبر ، وذهل عما هو واجب عليه من الثبات ، وداخله الشك والارتياب " .
ثامناً : الشهيد لا يشعر بألم القتل .
عن أبي هريرة . قال : قال رسول الله ( ( ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة ) رواه الترمذي .
قال علي : إن لم تقتلوا تموتوا ، والذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون من موت على فراش .
تاسعاً : دم الشهيد أحب شيء إلى الله .
عن أبي أمامة . قال : قال رسول الله ( ( ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين : قطرة من دموع في خشية الله ، وقطرة دم تهرق في سبيل الله ، وأما الأثران : فأثر في سبيل الله ، وأثر في فريضة من فرائض الله ) رواه الترمذي .
عاشراً : الشهيد يشفع في أهل بيته .
عن أم الدرداء قال : سمعت رسول الله ( يقول : ( يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته ) رواه الترمذي .
الحادي عشر : لا يشترط للشهيد أعمال صالحة قبل الشهادة .
عن البراء بن عازب قال ( أتى النبي ( رجل مقنع بالحديد ، فقال : يا رسول الله أقاتل أو أسلم ؟ قال : أسلم ثم قاتل ، فأسلم ثم قاتل فقتل ، فقال رسول الله ( : عمل قليل وأجر كثير ) رواه البخاري .
فائدة :
سمي الشهيد بذلك :
قال النووي : " قال النضر بن شميل : لأنه حي ، فإن أرواحهم شهدت وحضرت دار الإسلام وأرواح غيرهم إنما تشهدها يوم القيامة " .
وقال ابن الأنباري : " إن الله تعالى وملائكته عليهم الصلاة والسلام يشهدون له بالجنة " .
وقيل : لأنه شهد عند خروج روحه ما أعده الله تعالى له من الثواب والكرامة .
وقيل : لأن ملائكة الرحمة يشهدونه فيأخذون روحه .(4/68)
وقيل : لأنه شهد له بالإيمان وخاتمة الخير بظاهر حاله .
وقيل : لأن عليه شاهداً بكونه شهيداً وهو الدم . [ شرح النووي على مسلم ] .
407 - عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ ( قَالَ : (( خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّه ( إلَى حُنَيْنٍ - وَذَكَرَ قِصَّةً - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ )) قَالَهَا ثَلاثاً.
408 - عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ ( قَالَ : (( أَتَى النَّبِيَّ ( عَيْنٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ , وَهُوَ فِي سَفَرِهِ , فَجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ , ثُمَّ انْفَتَلَ , فَقَالَ النَّبِيُّ ( : اُطْلُبُوهُ وَاقْتُلُوهُ فَقَتَلْتُهُ , فَنَفَّلَنِي سَلَبَهُ )) .
فِي رِوَايَةٍ (( فَقَالَ : مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ ؟ فَقَالُوا : ابْنُ الأَكْوَعِ فَقَالَ : لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ )) .
409 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : (( بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ( سَرِيَّةً إلَى نَجْدٍ فَخَرَجَ فِيهَا , فَأَصَبْنَا إبِلاً وَغَنَماً , فَبَلَغَتْ سُهْمَانُنَا اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيراً , وَنَفَّلَنَا رَسُولُ اللَّهِ ( بَعِيراً بَعِيراً )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
سلبه : السلب ما على المقاتل من ثياب وسلاح ونحو ذلك على العدو يقتله المسلم .
عين : يعني جاسوس ، سمي الجاسوس عيناً لأن جُلَّ عمله بعينه ، أو لشدة اهتمامه بالرؤية واستغراقه فيها .
بعث : أي أرسل .
سرية : قطعة من الجيش .
قِبَل نجد : أي جهة نجد ، وهي قلب الجزيرة العربية .
سُهمانهم : بضم السين جمع سهم هي نصيبهم من الغنيمة .
ونفلنا : التنفيل : هي زيادة يزاد الغازي على نصيبه من المغنم .
الفوائد :
1- في هذا الحديث قضى النبي ( أن القاتل يستحق سلب القتيل .(4/69)
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة هل يستحق السلب مطلقاً أم لا بد أن يقول ذلك أمير الجيش على قولين :
القول الأول : أنه يستحق ذلك ولو لم يقله القائد .
قال النووي : " قال الشافعي ومالك والأوزاعي والليث والثوري وأبو ثور وأحمد وغيرهم يستحق القاتل سلب القتيل في جميع الحروب سواء قال أمير الجيش قبل ذلك من قتل قتيلاً فله سلبه أم لم يقل ذلك ، وهذه فتوى من النبي ( وإخبار عن حكم الشرع فلا يتوقف على قول أحد " .
لحديث الباب .
القول الثاني : لا يستحق القاتل السلب ، بل هو لجميع الغانمين إلا إن شرط له الإمام ذلك.
وهذا مذهب الحنفية .
وحملوا حديث الباب على هذا ، وهو أن يقول القائد : من قتل قتيلاً فله سلبه .
قال النووي راداً على هذا القول : " وهذا ضعيف لأنه صرح في الحديث بأن النبي ( قال بعد الفراغ من القتال واجتماع الغنائم " .
والراجح القول الأول .
2- قوله ( له بينة ) فيه دليل لمذهب الشافعي والليث ومن وافقهما من المالكية وغيرهم أن السلب لا يعطى إلا لمن له بينة بأنه قتله ، ولا يقبل قوله بغير بينة .
3- إعطاء السلب لقاتل الكافر من باب المكافأة والمجازاة على إقدامه وفعله الطيب ، وتقديراً وتشجيعاً لبطولته وبلائه في سبيل الله تعالى .
4- تشجيع الإنسان على العمل الصالح بأمر دنيوي ، وعلى هذا فالجوائز التي تجعل على المسابقات الشرعية إذا دخل الإنسان المسابقة لا يحرم الأجر ما دام يريد الوصول إلى العلم ، لكنه جعل هذا العوض الذي في المسابقة حافزاً له على الدخول في البحث والمراجعة .
5- حسن تدبير النبي ( حيث كان يجعل المحفزات عند الحاجة إلى ذلك .
6- مشروعية بعث السرايا إلى العدو لاستنزاف قوته وعدته .
7- أن ما تغنمه السرايا المستقلة عن جيش الكفار هو خاص لها لا يشاركها المسلمون فيه ، وإنما يؤخذ منه الخمس الذي يصرف مصرف الفيء .(4/70)
8- إن الغنيمة وإن كثرت تكون بين غزاة السرية بقدر سهمانهم ، للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم : سهم له وسهمان لفرسه .
9- جواز تنفيل مقاتلة السرية زيادة على سهمانها بما يراه الإمام تقديراً لجهادهم وإخلاصهم ، وتشجيعاً لهم ولغيرهم على الجهاد .
10- تقسيم الغنيمة من غير تأخير .
410 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ ( قَالَ : (( إذَا جَمَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الأَوَّلِينَ وَالآخَرِينَ : يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ , فَيُقَالُ : هَذِهِ غَدْرَةُ فُلانِ بْنِ فُلانٍ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
لكل غادر : الغادر هو الذي يواعد على أمر ولا يفي به .
لواء : أي راية .
الفوائد :
1- تحريم الغدر وهو حرام بالاتفاق .
2- قوله ( لكل غادر لواء ) قال النووي : " معناه لكل غادر علامة يشهر بها في الناس لأن موضوع اللواء الشهرة مكان الرئيس علامة له ، وكانت العرب تنصب الألوية في الأسواق الحفلة لغدرة الغادر لتشهيره بذلك " .
قال القرطبي : " هذا خطاب منه للعرب بنحو ما كانت تفعل ، لأنهم كانوا يرفعون للوفاء راية بيضاء ، وللغدر راية سوداء ليلوموا الغادر ويذموه ، فاقتضى الحديث وقوع مثل ذلك للغادر ليشتهر بصفته في القيامة فيذمه أهل الموقف " .
1- في الحديث غلظ تحريم الغدر لا سيما من صاحب الولاية العامة ، لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثير ، ولأنه غير مضطر إلى الغدر لقدرته على الوفاء .
2- لما كان الغدر من الأمور الخفية ، ناسب أن تكون عقوبته بالشهرة ، ونصب اللواء أشهر الأشياء عند العرب .
3- في الحديث دليل على أن الإنسان ينسب إلى أبيه في الموقف العظيم .(4/71)
4- فيه رد لمن قال : إنهم ينسبون لأمهاتهم ستراً عليهم ، وقد ورد حديث في هذا الشأن رواه الطبراني وهو قوله ( ( إن الناس يدعون باسم أمهاتهم يوم القيامة ستراً عليهم ) وهو حديث ضعيف جداً كما قال الحافظ ابن حجر .
411 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (( أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ ( مَقْتُولَةً , فَأَنْكَرَ النَّبِيُّ ( قَتْلَ النِّسَاءِ , وَالصِّبْيَانِ )) .
--------------------------------------------
الفوائد :
1- الحديث دليل على تحريم قتل النساء والصبيان .
قال النووي : " أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث ، وتحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا " .
واختلفوا في قتل الضعفاء والرهبان .
فذهب كثير من العلماء إلى عدم قتلهم .
لورود النهي عن ذلك في بعض الأحاديث كحديث ( لا تقتلوا ذرية ولا عسيفاً ) أي أجيراً .
وحديث ( لا تقتلوا شيخاً فانياً ) وحديث ( لا تقتلوا أصحاب الصوامع ) [ وهذه الأحاديث مختلف في صحتها عند العلماء ]
قال ابن قدامة : " إن الإمام إذا ظفر بالكفار لم يجز أن يقتل صبياً لم يبلغ بغير خلاف ، ولا تقتل امرأة ، ولا شيخ فان " .
2- الحالات التي يقتل فيها هؤلاء :
أولاً : إذا قاتلوا وحملوا السلاح أو قاموا بأعمال تعتبر من الأعمال القتالية .
وهذا واضح من تعليل النبي ( ، فإنه ( لما رأى المرأة مقتولة في بعض المغازي قال : [ ما كانت هذه لتقاتل ] فإن مفهومه أنها لو قاتلت لقتلت .
وقال النووي : " أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث ، وتحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا ، فإن قاتلوا يقتلون وبذلك قال جماهير العلماء " .
الحالة الثانية : حين شن الغارات على الأعداء .
ففي صحيح البخاري ومسلم عن الصعب بن جَثّامة قال ( سئل النبي ( عن الذراري من المشركين يُبَيَّتون ، فيصيبون من نسائهم وذراريهم ، فقال : هم منهم ) .(4/72)
وفي رواية للبخاري ( فسئل عن أهل الدار يبيتون من المشركين ، فيصاب من نسائهم وذراريهم ، قال : هم منهم ) .
قوله ( أهل الدار ) أي المنزل .
قوله ( هم منهم ) أي في الحكم في تلك الحالة ، وليس المراد إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم ، بل المراد إذا لم يمكن الوصول إلى الآباء إلا بوطء الذرية ، فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم جاز قتلهم .
ومعنى البيات المراد في الحديث : أن يغار على الكفار بالليل بحيث لا يميز بين أفرادهم . [ قاله الحافظ ابن حجر ] .
وقال النووي : " ومعنى البيات ويبيتون : أن يغار عليهم بالليل بحيث لا يعرف الرجل من المرأة والصبي ، وأما الذراري فبتشديد الياء والمراد بالذراري هنا النساء والصبيان " .
412 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ( (( أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ , وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ , شَكَوَا الْقَمْلَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ( فِي غَزَاةٍ لَهُمَا فَرَخَّصَ لَهُمَا فِي قَمِيصِ الْحَرِيرِ وَرَأَيْته عَلَيْهِمَا )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
رخص : الرخصة هي التسهيل والتيسير .
الفوائد :
1- سبق في باب اللباس أن لبس الحرير للرجال حرام وسبقت أدلته .
وسبق أن من الحالات التي يجوز فيها لبس الحرير هي الحاجة والضرورة كما في حديث الباب . وهو يدل على الجواز .
وقد سبقت مباحثه في كتاب اللباس .
2- سماحة الشريعة الإسلامية .
3- زهد الصحابة وسهولتهم .
4- استشارة وسؤال أهل العلم .
5- الضرورات تبيح المحظورات .(4/73)
413 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ( قَالَ : (( كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ : مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ( مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ ( خَالِصاً , فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ( يَعْزِلُ نَفَقَةَ أَهْلِهِ سَنَةً , ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي الْكُرَاعِ , وَالسِّلاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
بني النضير : إحدى القبائل اليهودية الثلاث التي كانت بالمدينة .
أفاء : الفيء ما يحصل للمسلمين من أموال الكفار من غير حرب ولا جهاد .
لم يوجِف : الإيجاف الإسراع والحمل ، أي مما لم يحملوا عليه .
بخيل : معروف .
ولا رِكاب : بكسر الراء هي الإبل التي تركب للجهاد .
الكُراع : بضم الكاف وفتح الراء هو اسم للخيل .
الفوائد :
1- بنوا النضير قبيلة من اليهود تقيم قريتها قرب المدينة النبوية ، فلما قدم النبي ( إلى المدينة صالحهم فنقضوا العهد حيث غدروا به وهموا باغتياله ، فحاصرهم في ديارهم وانتهى الصلح معهم بأن يخرجوا من ديارهم وليس معهم إلا ما حملته الإبل من متاعهم إلا السلاح ، وما بقي من أموالهم فهو فيء .
2- أن الأموال التي تؤخذ من الكفار تنقسم إلى قسمين :
الغنيمة : وهو ما أخذ من الكفار بقتال .
الفيء : وهو ما أخذ من الكفار بدون قتال [ كما حدث في بني النضير ] .
كأن يتركونه فزعاً أو بذلوه خوفاً منّا ، فكل ما حصل من أموال الكفار بدون قتال فهو فيء يصرف في مصالح المسلمين العامة .
3- يكون للإمام منه ما يكفيه ويكفي من يمون .
4- جواز ادخار النفقة للأهل وهذا لا ينافي التوكل .
5- اهتمام النبي ( بالجهاد ، لكونه يصرف ما يخرج عن حاجته إلى الكراع والسلاح .(4/74)
414 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : (( أَجْرَى النَّبِيُّ ( مَا ضُمِّرَ مِنْ الْخَيْلِ : مِنْ الْحَفْيَاءِ إلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ , وَأَجْرَى مَا لَمْ يُضَمَّرْ : مِنْ الثَّنِيَّةِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ . قَالَ ابْنُ عُمَرَ : وَكُنْتُ فِيمَنْ أَجْرَى . قَالَ سُفْيَانُ : مِنَ الْحَفْيَاءِ إلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ : خَمْسَةُ أَمْيَالٍ , أَوْ سِتَّةٌ , وَمَنْ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ : مِيلٌ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
أجرى : أي سابق .
ما ضُمّرَ : يقال أضمرت وضُمّرت وهو أن يقلل علفها مدة وتدخل بيتاً كنيناً وتجلل فيه لتعرق ويجف عرقها فيجف لحمها وتقوى على الجري .
الحفياء : موضع بالمدينة .
ثنية الوداع : هي عند المدينة سميت بذلك لأن الخارج من المدينة يمشي مع المودعون إليها .
الفوائد :
1- فيه جواز المسابقة بين الخيل وجواز تضميرها وهما مجمع عليهما للمصلحة في ذلك وتدريب الخيل ورياضتها وتمرنها على الجري وإعدادها لذلك لينتفع بها عند الحاجة في القتال كراً وفراً [ قاله النووي ] .
ففي حديث الباب دليل على مشروعية السباق بالخيل ، وأنه ليس من العبث بل من الرياضة المحمودة الموصلة إلى تحصيل المقاصد الشرعية في الغزو والانتفاع بها في الجهاد .
2- جواز المسابقة بالخيل لأن ذلك مما يعين على الجهاد في سبيل الله ، والخيل في ذلك الزمان هي العدة التي يقاتل عليها أعداء الإسلام .
3- من نظام المسابقة عليها أن كل نوع من الخيل يتسابق أفراده بعضه مع بعض ، فالخيل المُضمرة تتسايق وحدها ، والخيل التي لم تُضمر تتسابق وحدها ، ليحصل الفوز بين واحد وآخر بنفس الجودة والقوة .(4/75)
4- أن لكل نوع من الخيل غايته ومداه الذي يناسبه ، فالخيل المضمرة [ وهي اسرع جري وأخف ] غايتها من الحفياء إلى ثنية الوداع ، وقدرت هذه المسافة خمسة أميال أو ستة .
أما التي لم تضمر فأمدها وغايتها من الثنية إلى مسجد بني زُرَيْق ، وغاية هذه المسافة وأمدها ميل واحد .
5- جواز قول مسجد بني فلان ، وقد ترجم البخاري لحديث الباب : هل يقال مسجد بني فلان ؟ وهذا مذهب جماهير العلماء ، وهو الصحيح .
وخالف في ذلك إبراهيم النخعي .
415 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : (( عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ( يَوْمَ أُحُدٍ , وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ , فَلَمْ يُجِزْنِي , وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ , وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ , فَأَجَازَنِي )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
يوم أحد : أي غزوة أحد .
فلم يجزني : المراد هنا لم يعده في المقاتلة .
يوم الخندق : أي يوم غزوة الأحزاب .
فأجازني : أي أمضاه ، وأذن له بالقتال .
الفوائد :
1- هذا الحديث دليل لتحديد البلوغ بخمس عشرة سنة ، وأنه باستكماله يصير مكلفاً وإن لم يحتلم ، فتجري عليه الأحكام من وجوب العبادة وغيره ويستحق سهم الرجل من الغنيمة ، ويقتل إن كان من أهل الحرب وهو مذهب الشافعي وأحمد.
[ قاله النووي ]
وهذا هو القول الأول : أن سن البلوغ هو : 15 سنة .
قال الحافظ ابن حجر : " وقال الشافعي وأحمد والجمهور : حده فيهما استكمال خمس عشرة سنة " .
لحديث الباب .
القول الثاني : أن سن البلوغ هو : 17 سنة .
وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك .
قال الشوكاني : " وقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما : لا يحكم إذا لم يحتلم بالبلوغ إلا بعد مضي سبع عشرة سنة " .
القول الثالث : أن سن البلوغ هو : 18 سنة .
وعزي هذا لأبي حنيفة .
قال الحافظ ابن حجر : " وقال أبو حنيفة : سن البلوغ تسع عشرة أو ثمان عشرة للغلام " .(4/76)
القول الرابع : أن سن البلوغ هو : 19 سنة .
وهو قول ابن حزم .
والراجح القول الأول .
ومن علامات البلوغ :
الثانية : البلوغ بالاحتلام .
وهو إنزال المني من القُبُل وهو الماء الدافق سواء خرج بجماع أو احتلام .
قال الحافظ ابن حجر : " وقد أجمع العلماء على أن الاحتلام في الرجال والنساء يلزم به العبادات والحدود وسائر
الأحكام ".
قال تعالى ( وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا ) .
وقال ( ( رفع القلم عن ثلاثة : ....عن الصبي حتى يحتلم ) رواه أبو داود .
الثالثة : البلوغ بالإنبات .
وبه قال مالك والشافعي وأحمد وابن حزم .
قال ابن قدامة : " وأما الإنبات فهو أن ينبت الشعر الخشن حول ذكر الرجل أو فرج المرأة الذي استحق أخذه بالموسي .
لحديث عطية القرظي قال ( عرضنا على النبي ( يوم قريظة ، فكان من أنبت قتل ، ومن لم ينبت خلي سبيله ، فكنت فيمن لم ينبت فخلي سبيلي ) رواه أبو داود " .
الرابعة : البلوغ بالحيض .
وهو علامة على البلوغ عند المرأة بالإجماع .
قال ابن قدامة : " وأما الحيض فهو علم على البلوغ لا نعلم فيه خلافاً " .
وقال الحافظ ابن حجر : " وقد أجمع العلماء على أن الحيض بلوغ في حق النساء " .
لحديث عائشة . قالت : قال رسول الله ( ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ) رواه أبو داود .
والمراد بالحائض البالغة .
قال ابن الأثير : " لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار ، أي التي بلغت سن المحيض وجرى عليها القلم ، ولم يرد في أيام حيضها لأن الحائض لا صلاة عليها " .
2- قوله ( عرضت على رسول الله ( ) عرض الجيش : اختبار أحوالهم قبل مباشرة القتال ، للنظر في هيئتهم ، وترتيب منازلهم ، وغير ذلك .
3- في الحديث أن الإمام يستعرض من يخرج معه للقتال قبل أن تقع الحرب ، فمن وجده أهلاً استصحبه وإلا ردّه .
4- حرص الصحابة على الخير وتسابقهم على الجهاد في سبيل الله ونصرة دين الله .
5- أن من شروط الجهاد : البلوغ .
وشروط الجهاد خمسة :(4/77)
أولاً : الإسلام .
لأن النصوص الشرعية حضت المؤمنين في التكليف بالجهاد .
قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ) .
وقال تعالى (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ) .
الثاني : البلوغ .
لحديث الباب .
ولحديث ( رفع القلم عن ثلاثة : ... ) .
الثالث : العقل .
للحديث السابق ( رفع القلم عن ثلاثة ... ) .
والتعليل : قال ابن قدامة : " والمجنون لا يتأتى منه الجهاد " .
الرابع : الحرية .
قال تعالى ( وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ) ولا مال للعبد ، ولا نفس يملكها فلم يشمله الخطاب .
الخامس : الذكورة ، فالمرأة لا يجب عليها الجهاد .
عن عائشة ( أنها استأذنت النبي ( في الجهاد ، فقال : جهادكن الحج ) رواه البخاري .
قال ابن بطال : " دل حديث عائشة على أن الجهاد غير واجب على النساء ولكن ليس في قوله [ جهادكن الحج ] أنه ليس لهن أن يتطوعن بالجهاد ، وإنما لم يكن عليهن واجباً لما فيه من مغايرة المطلوب منهن ، من الستر ومجانبة الرجال " .
سادساً : سلامة البدن والقدرة على الجهاد .
قال ابن قدامة : " معناه السلامة من العمى والعرض والمرض وهو شرط لقوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ) " .
416 - وَعَنْهُ (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَسَمَ فِي النَّفَلِ : لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ , وَلِلرَّجُلِ سَهْماً )) .
--------------------------------------------
- جاء في رواية ( قسم رسول الله ( يوم خيبر للفرس سهمين ، وللراجل سهماً ) [ الراجل الماشي على رجليه ] .
- وعند أبي داود ( أسْهَمَ لرجلٍ ولفرسه ثلاثة أسهم : سهمين لفرسه ، وسهماً له ) .
معاني الكلمات :(4/78)
النفل : قال النووي : " المراد بالنفل هنا الغنيمة ، وأطلق عليها اسم النفل لكونها تسمى نفلاً لغة ... " .
للفرس : الخيل يطلق على الذكر والأنثى .
الفوائد :
1- هذا الحديث فيه كيفية تقسيم الغنائم بين المجاهدين ، والذي يقسم من الغنيمة للمجاهدين أربعة أخماس ، ويكون :
للراجل : الذي ليس معه حيوان سهم .
ولمن معه حيوان : ثلاثة أسهم ، سهم له وسهمان لفرسه .
2- فضل هذه الأمة حيث أبيحت لهم الغنائم ، وهي من خصائص هذه الأمة ، كما قال ( ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : .... وأحلت لي الغنائم ) متفق عليه .
قال الخطابي : " كان من تقدم على ضربين ، منهم من لم يؤذن له في الجهاد ، فلم تكن لهم مغانم ، ومنهم من أذن له فيه لكن كانوا إذا غنموا شيئاً لم يحل لهم أن يأكلوا وجاءت نار فأحرقته " .
3- وجه التفريق بين الفارس والراجل [ أي الذي على رجليه ] أن فعل الفارس أقوى من فعل الراجل في الكر والفر .
417 - وَعَنْهُ ((َنَّ رَسُولَ اللَّهِ (: كَانَ يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ فِي السَّرَايَا لأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً سِوَى قَسْمِ عَامَّةِ الْجَيْشِ)) .
--------------------------------------------
الفوائد :
1- الحديث يدل على جواز تنفيل السرية التي تقطع من الجيش فتغير على العدو وتغنم منه ، فيعطى أفرادها زيادة على سهمانهم تقديراً لأعمالهم ، وما قاموا به من بلاء في الجهاد على بقية الغزو .
وقد اختلف العلماء في التنفيل هل يكون بعد الخمس أو قبله على قولين :
قيل : يكون بعد الخمس .
والمعنى : يؤخذ الخمس كاملاً ويصرف على خمسة أصناف ، ثم الأربعة الأخماس يؤخذ منها النفل الثلث أو الربع .
وقيل : يؤخذ النفل قبل الخمس [ يعني من أصل الغنيمة ]
ولو قيل الأمر راجع إلى رأي الإمام لكان له وجه .(4/79)
2- قوله ( كان ينفل بعض .. ) فيه أن التنفيل ليس أمراً حتمياً ولكنه راجع إلى رأي الإمام ، والإمام يجب أن يراعي المصلحة إن اقتضى التنفيل فعل وإلا فلا .
3- فيه بعث السرايا .
4- الترغيب في تحصيل مصالح القتال .
418 - عَنْ أَبِي مُوسَى - عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ - عَنْ النَّبِيِّ ( قَالَ : (( مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
فليس منا : أي ليس على طريقتنا ، والأفضل إطلاق اللفظ وعدم تأويله ليكون أبلغ في الزجر .
الفوائد :
1- تحريم حمل السلاح على المسلمين لقتالهم به بغير حق أو ترويعهم أو تخويفهم وقد جاء الحديث بلفظ ( من شهر علينا السلاح ... ) أخرجه البزار ، وعند أحمد ( من رمانا بالنبل فليس منا ) .
وقد جاءت نصوص في تحريم ترويع المسلم أو قتاله أو تخويفه :
قال ( ( من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه وإن كان أخاه لأبيه وأمه ) رواه مسلم .
وعن جابر ( نهى رسول الله ( أن يتعاطى السيف مسلولاً ) رواه الترمذي .
وقال ( ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) متفق عليه .
وقال ( (لا يشر أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري ، لعل الشيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من النار ) متفق عليه .
وعن جابر قال ( مر رجل بسهام في المسجد ، فقال له رسول الله ( : أمسك بنصالها ) متفق عليه .
2- ليس من أخلاق المسلم قتال المسلم وترويعه بل هي من أعمال الكفار .
3- لا يجوز الخروج على الحكام الظلمة من غير تأويل سائغ ، لما في ذلك من إراقة الدماء وقتل النفوس المسلمة .(4/80)
419 - عَنْ أَبِي مُوسَى ( قَالَ : (( سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ( عَنْ الرَّجُلِ : يُقَاتِلُ شَجَاعَةً , وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً ، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً . أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا , فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
حمية : الحمية هي الأنفة والغيرة والمحاماة عن عشيرته ، جاء في رواية ( غضباً ) .
رياء : أي ليراه الناس . جاء في رواية ( والرجل يقاتل ليرى مكانه ) ، جاء في رواية ( يقاتل للمغنم ) .
الحاصل من الروايات أن القتال يقع بسبب خمسة أشياء : طلب المغنم ، وإظهار الشجاعة ، والرياء ، والحمية ، والغضب .
كلمة الله : أي سبب قتاله إعلاء كلمة الله .
الفوائد :
1- وجوب الإخلاص في الجهاد في سبيل الله .
2- أن الأعمال إنما تحسب بالنيات الصالحة وأن الفضل الذي ورد في المجاهدين في سبيل الله يختص بمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا .
ولذلك جاءت الآيات بالقرآن الكريم في التقييد في سبيل الله :
(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) .
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) .
(فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) .
(فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ) .(4/81)
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) .
(الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) .
3- لا بأس إذا حصل غرض دنيوي ما دام الأصل والباعث هو الجهاد في سبيل الله .
قال الطبري : " إذا كان أصل الباعث هو الأول لا يضره ما عرض له بعد ذلك ، وبذلك قال الجمهور " .
لكن روى أبو داود من حديث أبي أمامة بإسناد جيد قال ( جاء رجل فقال يا رسول الله ! أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ما له ؟ قال : لا شيء له ، فأعادها ثلاثاً كل ذلك يقول : لا شيء له ، ثم قال رسول الله ( : إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه ) .
قال الحافظ ابن حجر : " ويمكن أن يحمل هذا على من قصد الأمرين معاً على حد واحد فلا يخالف المرجح أولاً " .
قال ابن أبي جمرة : " ذهب المحققون إلى أنه إذا كان الباعث الأول قصد إعلاء كلمة الله لم يضره ما انضاف إليه " .
قال الحافظ : " ويدل على أن دخول غير الإعلاء ضمناً لا يقدح في الإعلاء إذا كان الإعلاء هو الباعث الأصلي ، ما رواه أبو داود بإسناد حسن عن عبد الله بن حوالة قال ( بعثنا رسول الله ( على أقدامنا لنغنم ، فرجعنا ولم نغنم شيئاً ، فقال : اللهم لا تكلهم إليّ ) " .
4- التحذير من الرياء وأنه محبط للعمل .
وقد سبق حديث [ أول من تسعر بهم النار .... ] .
5- وجوب أن يكون الدين كله لله ، فلا يجوز أن يشرك مع الله أحداً .
6- الحذر من أمراض القلوب من الرياء وغيره .
7- على المجاهد أن يجاهد نفسه في الإخلاص لله تعالى .
8- أن كل عبادة لغير الله فهي باطلة مردودة على صاحبها .
9- فضل الإخلاص لله تعالى .
كِتَابُ الْعِتْقِ
مقدمة :
تعريفه :
هو تحرير الرقبة وتخليصها من الرق .
وهو من أفضل القرب .(4/82)
لحديث أبي هريرة . قال : قال رسول الله ( ( أيما امرىء مسلم أعتق امرأً مسلماً استنقذ الله بكل عضو منه عضواً منه من النار ) متفق عليه .
وللترمذي ( وأيما امرىء مسلم أعتق امرأتين مسلمتين ، كانت فكاكه من النار ) .
ولأبي داود ( وأيما امرأة أعتقت امرأة مسلمة ، كانت فكاكها من النار ) .
وعن أبي ذر . قال ( سألت النبي ( : أي العمل أفضل ؟ قال : إيمان بالله وجهاد في سبيله ، قلت : فأي الرقاب أفضل ؟ قال : أعلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها ) متفق عليه .
[ أنفسها عند أهلها ] أي أرفعها وأجودها .
وجعلته الشريعة في كثير من الكفارات .
يستحب عتق من له كسب .
لأن الذي ليس له كسب يكون عالة على نفسه وعلى غيره .
420 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( مَنْ أَعْتَقَ شِرْكاً لَهُ فِي عَبْدٍ , فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ : قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ , فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ , وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ , وَإِلاَّ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
شركاً : بكسر الشين أي حصة ونصيباً .
عدل : بفتح العين وسكون الدال : أي من غير زيادة في قيمته ولا نقصان .
421 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( عَنْ النَّبِيِّ ( قَالَ : (( مَنْ أَعْتَقَ شِقْصَاً مِنْ مَمْلُوكٍ , فَعَلَيْهِ خَلاصُهُ كُلُّهُ فِي مَالِهِ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ قُوِّمَ الْمَمْلُوكُ قِيمَةَ عَدْلٍ , ثُمَّ اُسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ , غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
شقصاً : قال ابن الأثير : " الشقص السهم في الملك والشركة فيه ، قليلاً كان أو كثيراً " .
استسعيَ العبد : قال العلماء : معنى الاستسعاء أن العبد يكلف الاكتساب والطلب .
الفوائد :(4/83)
1- هذه الأحاديث تتكلم عن العبد إذا كان بين شركاء .
الحديث الأول : معناه أن العبد له عدة مالكين ، وأعتق واحد منهم نصيبه [ شِركه ] ، فيكون هذا المعتِق [ الذي أعتق نصيبه ] إن كان له مال فإنه يدفع للآخرين قيمة أنصبائهم ويعتق جميع العبد [ يسري العتق على جميع العبد ] ، وإذا لم يكن له مال ، فإنه يعتق نصيب المعتق ، ويكون هذا العبد مبعضاً ، يعني بعضه حر وبعضه عبد .
الحديث الثاني : معناه نفس الحديث السابق لكن فيه زيادة تسعية العبد [ أي يستسعى ويقال له اعمل ] لكي يعطى بقية الشركاء حقهم .
2- أن المعتق إذا أعتق نصيبه فإنه يعتق نصيبه مباشرة ، وأما نصيب شريكه فإنه يعتق أيضاً ، ويُقوّم عليه نصيب شريكه .
لظاهر حديث الباب [ ابن عمر ] .
هذا إذا كان المعتِق موسراً .
3- أما إذا كان المعتق معسراً ، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة :
فقيل : ينفذ العتق في نصيب المعتِق فقط ولا يطالب المعتق بشيء ولا يستسعى العبد ، بل يبقى نصيب الشريك رقيقاً كما كان .
وهذا مذهب جمهور العلماء : كمالك والشافعي وأحمد وأبي عبيد .
لحديث الباب [ ابن عمر ] وجعلوا قوله في الحديث الثاني ( فإن لم يكن له مال قُوِّمَ المملوك قيمة عدل ثم استُسعيَ العبد ) مدرجة ، وقد جزم ابن المنذر والخطابي بأنه من فتيا قتادة .
وقيل : يستعسى العبد في حصة الشريك .
وهذا مذهب ابن شبرمة والأوزاعي وأبي حنيفة وابن أبي ليلى
واستدلوا بالحديث الثاني ( فإن لم يكن له مال قُوِّمَ المملوك قيمة عدل ثم استُسعيَ العبد ) .
وهذا القول هو الراجح .
4- حرص الإسلام وتشوفه للعتق ، وجعل له من السراية والنفوذ ما يفوت على مالك الرقيق رقه بغير اختياره في بعض الأحوال ، التي منها ما ذكر في هذا الحديث ، ومن هذه السراية :
لو أن الإنسان ملك العبد كله ، ثم أعتق بعضه ، فإنه يعتق كله في الحال بغير استسعاء ، وهذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد والعلماء كافة .
بابُ بيعِ المُدَبَّرِ(4/84)
422- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ : (( دَبَّرَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ غُلاماً لَهُ - , وَفِي لَفْظٍ : (( بَلَغَ النَّبِيَّ ( : أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ أَعْتَقَ غُلاماً لَهُ عنْ دُبُرٍ - لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ فَبَاعَهُ رَسُولُ اللَّهِ ( بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ , ثُمَّ أَرْسَلَ ثَمَنَهُ إلَيْهِ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
دبّر : قال النووي : " أي قال له أنت حر بعد موتي ، وسمي هذا تدبيراً لأنه يحصل العتق فيه في دبر الحياة " .
لم يكن له مال غيره : جاء في رواية ( وعليه دين ) وفي رواية ( وكان محتاجاً وعليه دين فباعه النبي ( بثمانمائة درهم وأعطاه وقال : اقض دينك ) .
الفوائد :
1- جواز التدبير . قال النووي : " وأجمع المسلمون على صحة التدبير " .
2- الحديث دليل على جواز بيع المدبر قبل موت سيده .
قال النووي : " وبهذا قال الشافعي ، قياساً على الموصى بعتقه فإنه يجوز بيعه بالإجماع ".
قال النووي : " وممن جوزه عائشة وطاووس وعطاء والحسن ومجاهد وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود " .
وقال أبو حنيفة ومالك لا يجوز بيع المدبر .
قالوا : وإنما باعه النبي ( في دين كان على سيده .
والراجح الأول .
3- قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" إذا قال الإنسان لعبده : أنت حر بعد موتي ، صح ، فإذا مات عتق ، ولكن لا يعتق إلا بعد الديْن ومن الثلث فأقل ، فحكمه حكم الوصية .
فإذا مات السيد والعبد مدبر ، قيمته عشرة آلاف ريال ، وعليه دين يبلغ عشرة آلاف ، فإن العبد لا يعتق ، لأن الدين مقدم عليه ، ولهذا باع النبي ( العبد المدبر لقضاء دين سيده .(4/85)
وإذا دبّر سيد عبده وقيمة العبد عشرة آلاف ريال ، وعليه دين يبلغ خمسة آلاف ريال ، وليس له سوى هذا العبد ، فنصفه للدين ويعتق ثلث النصف الباقي ، أي سدس جميعه ، والباقي للورثة ، فيباع العبد على أن سدسه حر ، فيوفى الدين ، والباقي من الثمن يكون ثلثه للعبد ، لأنه كسبَه بجزئه الحر ، والباقي للورثة " .
4- في الحديث نظر الإمام في مصالح رعيته وأمرهم إياهم بما فيه الرفق بهم وإبطالهم ما يضرهم من تصرفاتهم التي يمكن فسخها.
5- أن الإنسان ينبغي له أن يبدأ بنفسه وبمن يعول قبل الصدقة والتبرع .
6- العتق بالتدبير أقل أجراً من العتق حال الحياة ، لأن عتق التدبير يكون بعد الموت ، بعد أن خرج الإنسان من الدنيا ، وقد قال النبي ( ( أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل البقاء وتخشى الفقر ، ولا تمهل - أي تؤخر - حتى إذا بلغت الحلقوم ، قلت : لفلان كذا ولفلان كذا ، وقد كان لفلان ) أي الوارث .
وكذلك العتق في مرض الموت أقل من العتق في الصحة .
7- وجوب الاهتمام بسداد الديون وما على الإنسان من حقوق .
وبهذا ولله الحمد لله تم هذا الشرح في يوم الأربعاء 25 / 5 / 1427هـ
اللهم اجعل هذا العمل خالصاً لوجهك الكريم ، واجعله نافعاً متقبلاً ، اللهم اجعل هذا العلم حجة لنا لا حجة علينا ، اللهم ارحم واغفر لنا ولمشائخنا يا رب العالمين .
اللهم أحسن ختامنا ، وارحم زلاتنا ، واغفر حوباتنا ، وارفع مقامنا ، واكتبنا من عبادك المقبولين .
اللهم يا كريم يا عزيز يا رحيم اغفر لنا ولوالدينا ولمشائخنا ولجميع المسلمين
والله أعلم
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
كانت الساعة 12 ليلاً من مساء الأربعاء - في مدينتي رفحاء شمال السعودية
أخوكم ومحبكم في الله
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية / رفحاء
موقعي على الانترنت
www.almotaqeen.net
البريد الالكتروني
Smr898@hotmail.com
??
??
??
??
10
9(4/86)