أو يخلطه بطعام ويقدمه إليه فيأكله ، أو يهديه إليه ، ففيه القود .
* القتل بالسيف .
فإذا تسبب في قتل معصوم بشيء يقتل غالباً ففيه القود .
كما إذا شهدت عليه بينة بما يوجب قتله من زنا محصن أو ردة لا تقبل معها التوبة ، أو قتل عمد ثم رجعوا أي الشهود بعد قتله وقالوا : عمدنا قتله ، فيقاد بهذا كله .
* القتل بالسحر .
إذا وضع لشخص سحراً في طعام أو شراب أو عقد له عقداً ، فمات المسحور بسببه ، فهو قتل عمد ، لأنه شيء يقتل غالباً.
عقوبة قتل العمد :
- الإثم العظيم .
- القصاص .
- الحرمان من الميراث .
341 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( قَالَ : (( لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى رَسُولِهِ ( مَكَّةَ قَتَلَتْ هُذَيْلٌ رَجُلاً مِنْ بَنِي لَيْثٍ بِقَتِيلٍ كَانَ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ , فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ( فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ , وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ , وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي , وَلا تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي , وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ , وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ : حَرَامٌ , لا يُعْضَدُ شَجَرُهَا , وَلا يُخْتَلَى خَلاهَا , وَلا يُعْضَدُ شَوْكُهَا , وَلا تُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إلاَّ لِمُنْشِدٍ . وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ : فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَقْتُلَ , وَإِمَّا أَنْ يُودِيَ , فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ - يُقَالُ لَهُ : أَبُو شَاهٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , اُكْتُبُوا لِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : اُكْتُبُوا لأَبِي شَاهٍ , ثُمَّ قَامَ الْعَبَّاسُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إلاَّ الإذْخِرَ , فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (: إلاَّ الإِذْخِرَ )) .(7/34)
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
فتح مكة : عام 8 ه .
هذيل : بضم الهاء بعد ذال مفتوحة : قبيلة مُضَريّة مشهورة لا تزال مساكنهم بالقرب من مكة .
بني ليث : قبيلة مشهورة ينسبون إلى ليث بن أبي بكر بن كنانة بن خزيمة .
إن الله حبس عن مكة الفيل : بالفاء اسم الحيوان المشهور ، وأشار بحبسه عن مكة إلى قصة الحبشة وهي مشهورة ساقها ابن إسحاق مبسوطة ، وحاصل ما ساقه أن أبرهة الحبشي لما غلب على اليمن وكان نصرانياً ، بنى كنيسة وألزم الناس بالحج إليها ، فعمد بعض العرب فاستغفل الحجبة وتغوط فهرب ، فغضب أبرهة وعزم على تخريب الكعبة ، فتجهز في جيش كثيف واستصحب معه فيلاً عظيماً ، فلما قرب من مكة خرج إليه عبد المطلب فأعظمه وكان جميل الهيئة ، فطلب منه أن يرد عليه إبلاً له نهبت فاستقصر همته وقال : لقد ظننت أنك لا تسألني إلا في الأمر الذي جئت فيه ، فقال : إن لهذا البيت رباً سيحميه ، فأعاد إليه إبله ، وتقدم أبرهة بجيوشه فقدموا الفيل فبرك وعجزوا فيه ، وأرسل الله إليهم طيراً مع كل واحد ثلاثة أحجار حجرين في رجليه وحجر في منقاره فألقوها عليهم فلم يبق منهم أحد إلا أصيب ، وأخرج ابن مردويه بسند حسن عن عكرمة عن ابن عباس قال : ( جاء أصحاب الفيل حتى نزلوا الصفاح ) وهو بكسر المهملة ثم فاء ثم مهملة موضع خارج مكة من جهة طريق اليمن ، ( فأتاهم عبد المطلب فقال : إن هذا بيت الله لم يسلط عليه أحداً ، قالوا : لا نردع حتى نهدمه ، فكانوا لا يقدمون فيلهم إلا تأخر ، فدعا الله الطير الأبابيل فأعطاهم حجارة سوداء فلما حاذتهم رمتهم ، فما بقي منهم أحد إلا أخذته الحكة ، فكان لا يحك أحد منهم جلده إلا تساقط لحمه ) . ( فتح الباري : 3/3051 )
لا يعضد شوكها : لا يقطع شجرها .
من قتل له قتيل : أي من قتل له قريب كان حياً فصار قتيلاً بذلك القتل .(7/35)
فهو بخير النظرين : أي الولي ، لأن المقتول لا اختيار له ، وإنما الاختيار لوليه ، وقد جاء عند الترمذي : ( فإما أن يعفو وإما أن يقتل ) والمراد بالعفو إلى الدية ، وقد جاء في رواية : ( فمن قتل له قتيل بعد اليوم فأهله بين خيرتين : إما أن يقتلوا أو يأخذوا الدية ) وعند أبي داود : ( فإنه يختار إحدى ثلاث : إما أن يقتص ، وإما أن يعفو ، وإما أن يأخذ الدية ، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه ) أي إذا أراد زيادة على القصاص أو الدية .
إما أن يُودِي : أي يعطي القاتل أو أولياؤه لأولياء المقتول الدية .
الفوائد :
1- تقدم أكثر ما يتعلق بمعاني الحديث في كتاب الحج .
2- أن أولياء المقتول عمداً يخيرون بين القصاص أو الدية .
لقوله تعالى : ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ) .
ولحديث الباب : ( من قتل له قتيل فهو بخير النظرين : إما أن يودي ، وإما أن يقاد ) .
وجاء في رواية للحديث عند أبي داود : ( ... فأهله بين خيرتين ، إن أحبوا قتلوا ، وإن أحبوا قبلوا الدية ) .
فالخيرة من قتل العمد بين أربعة أشياء : ثلاثة متفق عليها ، وواحدة مختلف فيها .
قال ابن القيم : " والخيرة في ذلك إلى الولي بين أربعة أشياء : العفو مجاناً ، والعفو إلى الدية ، والقصاص .
ولا خلاف في تخييره بين هذه الثلاثة .
والرابع : المصالحة على أكثر من الدية " .
وقد اختلف العلماء في حكم المصالحة عن القود بأكثر من الدية :
القول الأول : صحة الصلح عن القصاص على أكثر من الدية .
وهذا مذهب الحنفية والمشهور من مذهب الحنابلة والمالكية .
واستدلوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ( قال : ( من قتل متعمداً دفع إلى أولياء المقتول ، فإن شاءوا قتلوا ، وإن شاءوا أخذوا الدية ، وما صالحوا عليه فهو لهم ) . رواه الترمذي(7/36)
ولأن الشارع متشوق إلى صيانة النفوس والدماء ، فرغب في قبول الدية تحقيق لهذا القصد في التشريع .
القول الثاني : لا يصح ذلك إلا على الدية أو دونها .
وبه قال بعض الحنفية ورجحه ابن القيم .
لحديث ابن شريح : ( من أصيب بقتل أو خيل ، فإنه يختار بين ثلاث : إما أن يقتص ، وإما أن يعفو ، وإما أن يأخذ الدية ، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه ) .
وجه الدلالة : ( فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه ) قالوا معناه : إذا أراد زيادة على القصاص أو الدية أو العفو فلا تمكنوه من فعل شيء غير واحدة من هذه الثلاث المتقدمة ، والصلح على أكثر من الدية ليس منها ، فظهر إذاً عدم صحته .
ويجاب عن هذا :
أن يقال : أن المراد بقوله : ( فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه ) وهذه الرابعة هي المذكورة في آخر آية القصاص من سورة البقرة ، وهي : ( فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي من قتل بعد أخذ الدية أو قبولها فله عذاب من الله أليم موجع شديد وأنه هو الذي يقتل بعد أخذ الدية .
فيكون معنى الحديث ( فإن أراد الرابعة ) : بأن يأخذ الدية مثلاً ويقتل ، فخذوا على يديه ، ولهذا جاء في حديث آخر أن النبي ( قال : ( لا أعافي أحداً قتل بعد أخذ الدية ) .
فالراجح القول الأول .
3- الأفضل لأولياء المقتول العفو عن القصاص .
ومعنى العفو : التنازل عن القصاص إلى الدية أو الصلح أو إلى غير شيء .
العفو مشروع ومستحب .
قال تعالى : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) .
وقال تعالى : (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ) .
وقال تعالى : ( وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) وقيل في تفسيرها : من أحياها بالعفو عن القاتل .
وعن أنس قال : ( ما رأيت رسول الله ( رفع إليه شيء في قصاص إلا أمر فيه بالعفو ) . رواه أحمد(7/37)
وقال ( : ( ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً ) . رواه مسلم
لكن العفو يشترط ألا يحصل بالعفو ضرراً ، كأن يكون الجاني سفاكاً للدماء ، فالأصلح في مثل هذه الحال القصاص .
ولهذا قيد الله تعالى العفو بالإصلاح ، فقال : (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " استيفاء الإنسان حقه من الدم عدل ، والعفو عنه إحسان ، والإحسان هنا أفضل ، لكن هذا الإحسان لا يكون إحساناً إلا بعد العدل ، وهو أن لا يحصل بالعفو ضرر ، وإلا كان ظلماً إما لنفسه وإما لغيره .
4- استحباب كتابة العلم .
لقوله ( : ( اكتبوا لأبي شاه ) وأبو شاه رجل من أهل اليمن .ومما يدل على استحباب الكتابة :
عن عبد الله بن عمرو قال : ( قلت : يا رسول الله ، أكتب كل ما أسمع منك ؟ قال : نعم ، قلت : في الرضا والغضب ؟ قال : نعم ، فإني لا أقول في ذلك إلا حقاً ) . رواه أبو داود
وعن أنس قال : قال رسول الله ( : ( قيدوا العلم بالكتابة ) . رواه البخاري في الأدب المفرد
وعن أبي هريرة ( قال : ( لم يكن أحد من أصحاب رسول الله ( أكثر حديثاً مني إلا عبد الله بن عمرو ، فإنه كتب ولم أكتب ) . رواه البخاري
فإن قال قائل : ما الجواب عن قوله ( : ( لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن ، فمن كتب فليمحه ) ؟
الجواب :
- أن النهي خاص وقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره ، والإذن في غير ذلك .
- وقيل : إن النهي خاص بكتابة الحديث مع القرآن في شيء واحد ، والإذن في تفريقهما .
- وقيل : إن النهي متقدم ، والإذن ناسخ له عند الأمن من الالتباس .
- وقيل : النهي خاص بمن خشي منه الاتكال على الكتابة دون الحفظ ، والإذن لمن أمن منه ذلك .
قال النووي : " كان بين السلف من الصحابة والتابعين خلاف في جواز كتابة الحديث ، ثم أجمعت الأمة على جوازها واستحبابها " .(7/38)
وقال الحافظ ابن حجر : " الإجماع انعقد على جواز كتابة العلم ، بل على استحبابه ، بل لا يبعد وجوبه على من خشي النسيان ممن يتعين عليه تبليغ العلم " .
343- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( قَالَ : (( اقْتَتَلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ . فَرَمَتْ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِحَجَرٍ , فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا فَاخْتَصَمُوا إلَى النَّبِيِّ ( فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ ( : أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ - عَبْدٌ , أَوْ وَلِيدَةٌ - وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا , وَوَرَّثَهَا وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ , فَقَامَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ , فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , كَيْفَ أَغْرَمُ مَنْ لا شَرِبَ وَلا أَكَلَ , وَلا نَطَقَ وَلا اسْتَهَلَّ , فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : إنَّمَا هُوَ مِنْ إخْوَانِ الْكُهَّانِ )) مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
فاختصموا : أي ترافعوا إلى رسول الله ( .
الجنين : الحمل ، سمي بذلك لأنه مستجن أي مستتر .
غرة : الأصل أن الغرة بياض مقدم الفرس ، وتطلق الغرة على العبيد والإماء .
قوله ( غرة ) فسرها بأنه عبد أو أمه ، وسمي غرة لأنه غرة المال وأفضله .
عبد أو أمة : أو للتخيير ، فيخير الولي بين هذا وهذا .
ديتها : الدية ما يجب لإزهاق النفس المحترمة .
عاقلتها : جمع عاقلة ، وهم ذكور العصبة من ولاء أو نسب ، سموا بذلك لأنهم يأتون بالإبل ( الدية ) ويعقلونها عند باب القتيل [ وهذا في الجاهلية ] .
ولا استهل : أصل الاستهلال رفع الصوت ، يريد أنه لم تعلم حياته بصوت نطق أو بكاء .
يطل : أي يهدر ولا يكون له قيمة .
إخوان الكهان : أي أشباههم ونظرائهم .
والكاهن من يدعي معرفة الغيب في المستقبل .
الفوائد :(7/39)
1- في هذا الحديث امرأتان ضرتان ، من قبيلة هذيل ، فرمت إحداهما الأخرى بحجر صغير ، لا يقتل غالباً ، ولكنه قتلها وقتل جنينها الذي في بطنها ، فقضى النبي ( أن دية الجنين عبد أو أمة سواء كان الجنين ذكراً أو أنثى ، ويكون ديته على القاتلة .
وقضى للمرأة المقتولة بالدية ، لكون قتلها [ شبه عمد ] ويكون على عاقلة المرأة ، لأن مبناها على التناصر والتعادل .
2- بيان ما يكون بين الطرفين من التباغض والتنافس .
3- هذا الحديث أصل في النوع الثالث من أنواع القتل شبه العمد ، حيث أن قتلها كان عن عمد لكن الآلة لا تقتل غالباً لأنه حجر صغير ، لأن القتل ينقسم إلى أقسام : قتل عمد ، وقتل شبه عمد ، وقتل خطأ [وقد سبقت مباحث قتل العمد] .
مباحث قتل شبه العمد :
تعريفه : هو أن يقصد من يعلمه آدمياً معصوماً ، فيجني عليه بآلة لا تقتل غالباً .
ويكون ذلك إما بقصد العدوان عليه ، أو لقصد تأديبه ، فيسرف فيه ، كالضرب بالسوط والعصا والحجر .
أوجه الشبه والاختلاف بينه وبين القتل العمد :
القتل شبه العمد يشبه القتل العمد في أمر ، وهو : أن الجاني فيهما كليهما قصد العدوان .
ويختلف عنه :
- نوع القصد ، ففي القتل العمد لا بد أن يقصد الجاني القتل ، أما في شبه العمد فيقصد مجرد الاعتداء .
- الآلة ، فالآلة المستخدمة في القتل العمد تقتل غالباً ، أما الآلة المستخدمة في شبه العمد فهي لا تقتل غالباً .
دليل ثبوت شبه العمد :
ذهب جمهور العلماء من الأحناف والشافعية والحنابلة ، إلى إثبات القتل شبه العمد .
لحديث الباب : ( اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر ... ) .
وجه الدلالة :
- أن النبي ( أوجب فيه الدية ، ولو كان عمداً لذكر القصاص .
- أن النبي ( قضى بدية المرأة إلى عاقلتها ، والعاقلة لا تحمل عمداً بإجماع العلماء .
وخالف المالكية وقالوا : إن القتل إما عمداً أو خطأ ، وليس هناك شبه عمد ، لكنه قول ضعيف .(7/40)
أمثلة للأداة في القتل شبه العمد :
قد يكون بأداة مادية كالحجر الصغير والعصا .
وقد يكون بغير أداة ، كاللطم ، والرفس ، واللكم اليسير في غير مقتل والعض .
4- أن دية الجنين غرة ( عبد أو امرأة ) والمتخير في ذلك من يغرم وهو القاتل ، فإذا أتى بعبد لزم أولياء الجنين قبوله ، وإذا أتى بأمَة لزم أولياؤه قبولها .
وإذا لم يوجد عبد ولا أمة يرجع إلى خمس من الإبل يعطى أولياء الجنين .
الجنين الذي يموت في بطن أمه له أحوال :
الأول : أن يموت معها قبل أن يخرج .
فهذا لا شيء فيه ، وإنما الدية في الأم ، فهو لا دية له لأنه كعضو من أعضائها .
الثاني : أن يخرج حياً فيستهل أو يعطس أو يشرب ، ثم يموت متأثراً بالجناية ، ففيه دية كاملة إن خرج لوقت يعيش لمثله [ بعد ستة أشهر ] .
مثال : إنسان دفع حامل ولجنينها سبعة أشهر في بطنها ، وسقط حياً حياة مستقرة ثم مات .
فعليه دية كاملة ، لأنه قتل نفساً ، فيلزم الجاني دية كاملة .
وهذا قول عامة أهل العلم .
قال ابن المنذر : " أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الجنين يسقط حياً من الضرب ، دية كاملة ، منهم : زيد ابن ثابت ، وعروة ، والزهري ، والشعبي ، وقتادة ، وابن شبرمة ، ومالك ، والشافعي ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي ، وذلك لأنه مات من جنايته بعد ولادته ، في وقت يعيش لمثله ، فأشبه قتله بعد رضعه " .
الثالث : أن يخرج ميتاً ، أو يخرج حياً لوقت لا يعيش لمثله فيموت .
فهذا فيه غرة ( عبد أو أمة ) .
لحديث الباب .
ومقدار الغرة : خمس من الإبل في قول عامة أهل العلم .
5- أن دية شبه العمد [ وكذا الخطأ ] تكون على العاقلة ( أي عاقلة القاتل ) .
فالدية في قتل شبه العمد واجبة على العاقلة .
لحديث الباب : ( فقضى رسول الله ( بدية المرأة على عاقلتها ) .
والحكمة أنها على العاقلة :(7/41)
أن هذه الجنايات تكثر ، ودية الآدمي كثيرة ، فإيجابها على الجاني في ماله يجحف به ، فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل للإعانة له تخفيف عنه إذا كان معذور في فعله .
فائدة : تجب مؤجلة بإجماع أهل العلم ، وممن حكى الإجماع ابن قدامة .
6- مشروعية الدية .
تعريفها : هي المال المؤدى إلى المجني عليه أو وليه ، بسبب جناية .
والأصل في وجوبها الكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا ) .
ولقوله ( : ( فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ... ) وسبق الحديث .
دية الحر المسلم مائة من الإبل بالإجماع .
لا فرق في ذلك بين القتل العمد ، وشبه العمد ، والخطأ .
والدليل على ذلك ما ورد في كتاب النبي ( إلى عمرو بن حزم في الديات أنه قال : ( إلا أن في قتل الخطأ العمد مثل السوط والعصا ، مائة من الإبل ... ) .
لكنها تختلف من حيث التغليظ والتخفيف .
ففي قتل العمد مغلظة من أوجه :
أولاً : أنها تجب في مال القاتل ولا تحملها العاقلة .
قال ابن قدامة : " أجمع أهل العلم على أن دية العمد تجب في مال القاتل ، ولا تحملها العاقلة " .
ثانياً : أنها تجب حالة غير مؤجلة .
وهذا مذهب جماهير العلماء ، وهو الصحيح لما يلي :
لأن ما وجب بالعمد المحض كان حالاً .
ولأن هذا هو الأصل في بدل المتلفات .
ثالثاً : أنها مغلظة من السن ، وقد اختلف العلماء في أسنانها على قولين :
فقيل : تجب أرباعاً .
خمس وعشرون بنت مخاض ، وخمس وعشرون حقة ، وخمس وعشرون جذعة ، وخمس وعشرون بنت لبون .
وهذا مذهب الجمهور .
وقيل : تجب أثلاثاً .
ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خَلِفة [ أي حامل ] في بطونها أولاد .(7/42)
لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ( قال : ( من قتل عمداً دفع إلى أولياء المقتول ، فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا أخذوا الدية ، وهي ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفة ، وما صولحوا عليه فهو لهم ) .
وهذا القول هو الصحيح .
أما قتل شبه العمد :
فالدية مغلظة من جهة واحدة وهو السن ، فهي تجب أثلاثاً كالقتل العمد على الصحيح من أقوال العلماء .
ومخففة من وجهين :
أولاً : أنها تجب على العاقلة .
ثانياً : أنها تجب مؤجلة بالإجماع .
دية الحر الكتابي :
على النصف من دية المسلم .
لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ( قال : ( دية المعاهد نصف دية المسلم ) . رواه أبو داود
قال الخطابي : " ليس في دية أهل الكتاب شيء أبين من هذا ولا بأس بإسناده " .
دية غير الكتابي :
ثمانمائة درهم ، أي ثلثا عشر دية المسلم .
وهذا قول أكثر العلماء .
لأن هذا هو المروي عن عمر وعثمان وابن مسعود .
ولنقصان ديته ، فلا يجوز اعتباره بالمسلم ولا الكتابي .
دية المرأة :
على النصف من دية الرجل .
لما جاء في كتاب النبي ( إلى عمرو بن حزم : ( دية المرأة على النصف من دية الرجل ) .
ولإجماع أهل العلم على ذلك ، وممن حكى الإجماع ابن عبد البر ، وابن المنذر ، وابن قدامة .
7- ذم السجع .
السجع : هو كلام منثور تتفق فواصله بالحروف ، وهو ينقسم إلى قسمين :
الأول : مذموم ، وهو إذا كان لإبطال حق أو إحقاق باطل ، وإذا كان متكلف .
والنبي ( إنما ذم سجع حَمَل بن النابغة ، لأنه عارض به حكم الله ورسوله .
الثاني : محمود ، إذا كان غير متكلف ، فإنه ثبت عن النبي ( في أخبار كثيرة أنه قال أقوال مسجوعة .
كقوله ( : ( اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن نفس لا تشبع ) .
8- ينبغي التشنيع على من اعترض على شريعة الله أو حكم رسوله ( .(7/43)
344 - عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ( (( أَنَّ رَجُلاً عَضَّ يَدَ رَجُلٍ , فَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ , فَوَقَعَتْ ثَنِيَّتُهُ , فَاخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ ( فَقَالَ : يَعَضُّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ , لا دِيَةَ لَك )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
أن رجلاً عض يد رجل : جاء في رواية لمسلم ( قاتل يعلى بن أمية رجلاً فعض أحدهما صاحبه ) .
الفحل : أي الذكر من الإبل .
لا دية لك : جاء في رواية : ( ... ثم تأتي تلتمس العقل لا عقل لها فأبطلها ) وفي رواية : ( فقال : ما تأمرني ؟ أتأمرني أن آمره أن يدع يده في فيك تقضمها قضم الفحل ادفع يدك حتى يقضمها ثم انزعها ) .
الفوائد :
1- في هذا الحديث تخاصم يعلى بن أمية مع أجير له ، فعض يعلى يد أجيره ، فانتزع المعضوضة يده من فم يعلى ، ونزع مع اليد ثنيته ، فاختصما إلى النبي ( فأبطل دية الثنيتين ، ولم يوجب لهما ضماناً .
قال الحافظ ابن حجر : " وقد أخذ بظاهر هذه القصة الجمهور ، فقالوا : لا يلزم المعضوض قصاص ولا دية ، لأنه في حكم الصائل .
واحتجوا أيضاً بالإجماع بأن من شهر على آخر سلاحاً ليقتله فدفع عن نفسه فقتل الشاهر أنه لا شيء عليه ، فكذا لا يضمن سنه بدفعه إياه " .
والقاعدة : ( أن من أتلف شيئاً لدفع أذاه لم يضمنه ) .
2- الخصومة ممقوتة عامة ، ولكن تزيد بشاعتها إذا كانت بطريقة وحشية تشبه عمل الحيوانات الشرسة .
3- أنه لا يأتي تشبيه الإنسان بالحيوان إلا في مقام الذم .
كما قال تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ) .
وقال ( : ( العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه ) .
4- جواز تشبيه فعل الآدمي بفعل البهيمة إذا وقع في مقام التنفير عن مثل ذلك الفعل .
5- رفع الجناية إلى الحاكم من أجل القصاص .
6- أن المرء لا يقتص لنفسه .(7/44)
345 - عَنْ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - رحمه الله تعالى - قَالَ : حَدَّثَنَا جُنْدُبٌ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ , وَمَا نَسِينَا مِنْهُ حَدِيثاً , وَمَا نَخْشَى أَنْ يَكُونَ جُنْدُبٌ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ( - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ فَجَزِعَ , فَأَخَذَ سِكِّيناً فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ , فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ . قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : عَبْدِي بَادَرَنِي بِنَفْسِهِ , حَرَّمْت عَلَيْهِ الْجَنَّةَ )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
في هذا المسجد : هو مسجد البصرة .
وما نسينا منه حديثاً : إشارة بذلك إلى تحققه لما حدث به وقرب عهده به واستمرار ذكره له .
كان ممن كان قبلكم رجل : قال الحافظ : " لم أقف على اسمه " .
جُرح : بضم الجيم وسكون الراء ، وفي رواية لمسلم : ( أن رجلاً خرجت به قُرحة ) .
فحز : الحز القطع بغير إبانة .
فما رقأ الدم : أي لم ينقطع .
الفوائد :
1- تحريم قتل الإنسان نفسه ، وأن هذا من الكبائر ، وقد جاءت الأدلة الكثيرة بذلك :
قال تعالى : ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) .
وعن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله ( : ( من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ، ومن شرب سماً فقتل نفسه فهو يتحسّاه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ) . رواه مسلم
يتوجأ : معناه يطعن . يتحسّاه : يشربه في تمهل ويتجرعه .
وعن ثابت بن الضحاك قال : قال رسول الله ( : ( ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة ) . رواه مسلم(7/45)
وعن أبي هريرة قال: شهدنا مع رسول الله ( حنينا. فقال لرجل ممن يدعى بالإسلام "هذا من أهل النار" فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالاً شديداً فأصابته جراحة. فقيل: يا رسول الله! الرجل الذي قلت له آنفاً "إنه من أهل النار" فإنه قاتل اليوم قتالاً شديداً. وقد مات. فقال النبي ( "إلى النار" فكاد بعض المسلمين أن يرتاب. فبينما هم على ذلك إذ قيل: إنه لم يمت. ولكن به جراحاً شديداً! فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه. فأخبر النبي ( بذلك فقال: الله أكبر! أشهد أني عبد الله ورسوله" ثم أمر بلالاً فنادى في الناس "إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة. وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر".
قوله ( : ( خالداً مخلداً فيها أبداً ) من المعلوم من عقيدة أهل السنة والجماعة أنه لا يخلد أحد في النار من أهل التوحيد من أهل الكبائر .
لكن ما الجواب عن الحديث ( خالداً مخلداً في النار ) ؟
قيل : إنه محمول على المستحل ( ضعيف ) .
وقيل : المراد بالخلود المكث الطويل .
وقيل : هذا جزاؤه ، ولكن تكرم الله سبحانه فأخبر أنه لا يخلد في النار من مات مسلماً .
وقيل : إن هذا ورد مورد التغليظ والتخويف .
2- اختلف العلماء فيمن هجم على العدو ويغلب على ظنه أنه سيقتل منهم فقتلوه ، هل يكون انتحار أم لا ؟ على قولين:
القول الأول : أنه ليس بمنتحر ، وأنه شهيد من أفضل الشهداء ( بشرط أن يكون له نكاية للعدو قاصداً الشهادة في سبيل الله )
لقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) فهذا باع نفسه لله تعالى لكي يفوز برضوانه…العظيم .(7/46)
أنه لما دخل رجل من المسلمين في صفوف الروم صاح الناس وقالوا : ألقى بيده إلى التهلكة ، فقال أبو أيوب : ( نحن أعلم بهذه الآية ، إنما نزلت فينا ، صحبنا رسول الله ، وشهدنا معه المشاهد ونصرناه ، فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معاشر الأنصار تحبباً ، فقلنا قد أكرمنا الله بصحبة نبيه ونصره حتى فشا الإسلام وكثر أهله وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد ، وقد وضعت الحرب أوزارها فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما ، فنزلت فينا ، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد ) . رواه أبو داود
وقصة البراء بن مالك حينما حملوه وألقى نفسه في السور في قتل مسيلمة الكذاب .
القول الثاني : المنع من ذلك .
لقوله تعالى : ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) . ولقوله تعالى : ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) .
والصحيح أنه شهادة في سبيل الله بشرط أن يغلب على ظنه وجود الكناية بالعدو .
3- وجوب الصبر عند المصائب وترك التضجر من الآلام .
4- أن من قتل نفسه فحرام عليه الجنة .
5- الأفضل للمبتلى أن يقول : اللهم أحيني إن كانت الحياة خيراً لي ، وتوفني إن كانت الوفاة خيراً لي .
6- تحريم تعاطي الأسباب المفضية إلى قتل النفس .
7- الوقوف عند حقوق الله ورحمته بخلقه ، حيث حرم عليهم قتل نفوسهم وأن الأنفس ملك لله .
8- جواز ذكر قصص من مضى .
9- دعاء الله أن يحسن خاتمته .
10- أن الأعمال بالخواتيم .
11- دعاء الله بالثبات حتى الممات .
12- أن الإنسان لا يدري ما يختم له .
13- إثبات الجزاء والعقاب .
كتابُ الحُدودِ
مقدمة
1- الحدود :
الحد لغة : الحجز والفصل .
وشرعاً : عقوبة مقدرة شرعاً لمنع الجناة من العود إلى المعاصي وزجر غيرهم عنها .
2- الحكمة من الحدود :
نعمة الله تعالى على خلقه .
فهي للمحدود طُهرة عن إثم المعصية .
وكفارة عن عقابها الأخروي .(7/47)
وهي له ولغيره رادعة عن الوقوع في المعاصي .
وهي مانعة وحاجزة من انتشار الشرور والفساد في الأرض .
وهي أمان وضمان للناس على دمائهم وأعراضهم وأموالهم .
وبإقامتها يصلح الكون وتعمر به الأرض ، ويسود الهدوء والسكون ، وتتم النعمة بانقماع أهل الشر والفساد .
وبتركها - والعياذ بالله - ينتشر الشر ويكثر الفساد .
فلا شك أنها من حكمته ، وهو العزيز الحكيم .
346- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ( قَالَ : (( قَدِمَ نَاسٌ مِنْ عُكْلٍ - أَوْ عُرَيْنَةَ - فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ , فَأَمَرَ لَهُمْ النَّبِيُّ ( بِلِقَاحٍ , وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَانْطَلَقُوا . فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ ( وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ ، فَجَاءَ الْخَبَرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ , فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ . فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ جِيءَ بِهِمْ , فَأَمَرَ بِهِمْ : فَقُطِّعَتْ أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ , وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُمْ , وَتُرِكُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ , فَلا يُسْقَوْنَ . قَالَ أَبُو قِلابَةَ : فَهَؤُلاءِ سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَكَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ , وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ )) . أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
قدم ناس : أي على رسول الله ( كما جاء في رواية أخرى .
من عكل أو عُرَيْنة : عكل : بضم العين وسكون الكاف : قبيلة عدنانية . عرينة : بضم العين وفتح الراء : قبيلة قحطانية .
فاجتووا المدينة : جاء في رواية : ( فأسلموا ) وفي رواية : ( فبايعوه على الإسلام ) .
قال ابن فارس : " اجتويت البلد إذا كرهت المقام فيه وإن كنت في نعمة ، وقيده الخطابي بما إذا تضرر بالإقامة " .
وقيل : الجواء داء يصيب الجوف .(7/48)
بلقاح : جاء في رواية : ( فأمرهم أن يلحقوا براعيه ) . واللقاح : النوق ذوات الألبان ، واحدها لقحة بكسر اللام وإسكان القاف .
وأمرهم أن يشربوا : جاء في رواية : ( فرخص لهم أن يأتوا الصدقة فيشربوا ) .
فلما صحوا : في السياق حذف تقديره : فشربوا من أبوالها وألبانها فلما صحوا .
واستاقوا : من السوق ، وهو السير العنيف .
النعم : بفتح النون والعين ، واحد الأنعام ، وهي الإبل .
فجاء الخبر : جاء في رواية : ( الصريخ ) أي صرخ بالإعلام بما وقع منهم ، وهذا الصارخ أحد الراعيين ، فقد جاء في مسلم : ( فقتلوا أحد الراعيين وجاء الآخر قد جزع فقال : قد قتلوا صاحبي وذهبوا بالإبل ) واسم راعي النبي ( المقتول : يسار .
فلما ارتفع النهار جيء بهم : أي إلى النبي ( أسارى .
من خلاف : تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى .
وسمرت أعينهم : بتشديد الميم ، وقد جاء في رواية ما يوضح هذا : ( ثم أمر بمسامير فأحميت فكحلهم بها ) .
الحرة : هي أرض ذات حجارة سود معروفة بالمدينة ، وإنما ألقوا فيها لأنها قرب المكان الذي فعلوا فيه ما فعلوا .
يستسقون فلا يسقون : جاء في رواية : ( حتى ماتوا ) .
الفوائد :
1- في هذا الحديث قدم أناس من البادية إلى المدينة فأسلموا ، وحين اختلف عليهم الجو والمناخ مرضوا فضاقت أنفسهم بالمقام في المدينة ، فأمر النبي ( أن يعودوا إلى ما ألفته أجسامهم فيذهبوا إلى البادية حيث الهواء الطلق ، ويشربوا من ألبان الإبل وأبوالها ، ففعلوا .
فلما صحوا طغوا وبغوا ، فقتلوا الراعي وارتدوا عن الإسلام ، وهربوا بالإبل .
فجاء خبرهم إلى النبي ( ، فبعث إليهم من جاء بهم ، فلما أقدموا على هذه القبائح العظيمة ( الردة - القتل - السرقة - محاربة الله ورسوله ( ، قطع الطريق ) كان نكالهم عظيماً ، فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وفضخت أعينهم بمسامير محماة ، وألقوا في الحرة حتى ماتوا .(7/49)
2- هذا الحديث أصل في عقوبة المحاربين ، وهو موافق لقول الله تعالى : (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ) .
وقد اختلف العلماء في حديث العرنيين ( حديث الباب ) حيث أن النبي ( مثّل بهم مع أنه منهي عن التمثيل ، على قولين :
القول الأول : أنه منسوخ ، وكان هذا قبل نزول آية المحاربة والنهي عن المثلة .
قالوا : ويدل على النسخ ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة في النهي في التعذيب بالنار بعد الإذن فيه ، وقصة العرنيين قبل إسلام أبي هريرة ، وقد حضر الإذن ثم النهي .
القول الثاني : أنه ليس بمنسوخ ، وإنما وقع ذلك على سبيل القصاص .
ورجحه ابن الجوزي ، والنووي .
لأنه جاء في صحيح مسلم من حديث أنس : ( إنما سمل النبي ( أعينهم لأنهم سملوا أعين الرعاة ) .
وقد نقل بعض أهل المغازي أنهم مثلوا بالراعي .
القول الثالث : أن هذا من باب التعزير والتأديب .
وهذا مرجعه إلى رأي الإمام ونظره ، فقد يكون خفيفاً وقد يكون شديداً .
وهذا هو الراجح .
3- هذا الحديث أصل بيان حكم قطاع الطريق .
وقد بين الله حكمهم في قوله تعالى : (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ) .
( يصلبوا ) الصلب أن يربط على خشبة ونحوها في مكان عال ليراه الناس ويشهّر أمره بعد أن يقتل أو قبل أن يقتل ويترك حتى يموت. ( ينفوا ) يبعدوا .
وهذه الآية في قول ابن عباس وكثير من العلماء نزلت في قطاع الطريق من المسلمين .(7/50)
وقد اختلف العلماء في حكم قطاع الطريق كما في الآية ، هل هو للتخيير ، أم ينزل على حسب فعلهم ؟ على قولين :
القول الأول : أن الإمام مخير فيهم بين القتل والصلب والقطع والنفي .
وهذا مذهب مالك ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وعطاء ، ومجاهد .
قالوا : ( أو ) تقتضي التخيير .
القول الثاني : أن حكمهم على حسب فعلهم .
- فإذا قتلوا وأخذوا المال ، فإنهم يقتلون ويصلبون .
- وإن قتلوا ولم يأخذوا المال ، فإنهم يقتلون ولا يصلبون .
- وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالاً نفُوا .
فهذا الترتيب في حكمهم هو مذهب الجمهور ، وهو الراجح .
4- استدل بالحديث من قال بطهارة بول ما يؤكل لحمه .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة :
القول الأول : أن بول ما يؤكل لحمه طاهر .
وهذا مذهب الحنابلة ، ورجحه ابن تيمية ، واستدلوا :
بحديث الباب .
وجه الدلالة : أنه ( أمر العرنيين بشرب أبوال الإبل ، ولم يأمرهم بغسل أفواههم منها ، وهم حديثوا عهد بالإسلام وبحاجة إلى البيان ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حق الشارع الحكيم ، فلو كانت الإبل نجسة لأمرهم النبي ( بغسل أفواههم وما يترشرش منها على ثيابهم ، ولم ينقل ذلك فثبت أن أبوال الإبل ليست نجسة .
ولحديث جابر بن سمرة ( أن رسول الله ( سئل عن الصلاة في مرابض الغنم ، فقال : صلوا فيها ، فإنها بركة ، وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل ، فقال : لا تصلوا فيها فإنها خلقت من الشياطين ) .(7/51)
قال ابن تيمية مبيناً وجه الدلالة : " ووجه الحجة من وجهين : أحدها : أنه أطلق الإذن في الصلاة ولم يشترط حائلاً يقي من ملامستها ، والموضع موضع حاجة إلى بيان ، فلو احتاج لبيّنه . الوجه الثاني : أنه لو كانت نجسة كأرواث الآدميين لكانت الصلاة فيها إما محرمة كالحشوش والكنف ، أو مكروهة كراهة شديدة لأنها مظنة الأخباث والأنجاس ، وإما أن تستحب الصلاة فيها ويسميها بركة ، ويكون شأنها شأن الحشوش ، أو قريباً من ذلك ، فهو جمع بين المتنافيين المتضادين وحاشا الرسول ( من ذلك " .
ولأنه ( طاف على راحلته في المسجد الحرام ، ومعلوم أن الدابة لا تعقل بحيث تمتنع عن البول في المسجد الحرام الذي أمر الله سبحانه بتطهيره الطائفين والعاكفين والركع السجود ، فلو كان بولها نجساً لما أدخلها ( وأذن في إدخالها المسجد الحرام إذ في ذلك تلويث له وتنجس .
القول الثاني : أنها نجسة .
وهذا مذهب الشافعية والحنفية .
واستدلوا بعموم الأدلة الدالة على نجاسة البول .
قال تعالى : ( وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ) والأبوال والأرواث كلها نجسة .
حديث ابن عباس : ( أن رسول الله ( مرّ بقبرين ... أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله ) وهذا عام يدخل فيه جميع الأبوال .
ولحديث ابن عباس قال : قال رسول الله ( : ( استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه ) . رواه الدارقطني
ولحديث أنس : ( أن أعرابياً بال في المسجد فأمر ( بصب ذنوب ماء على بوله ) .
وأجابوا عن حديث العرنيين :
قال بعضهم : إن الرسول ( أمرهم بشرب ألبان الإبل ، ولم يذكر الأبوال .
وهذا ضعيف ، لأن رواية شرب الأبوال ثابتة .
وقال بعضهم : إن الحديث محمول على التداوي .
وقال بعضهم : إنه ( عرف أنهم سيرتدون عن الإسلام ، فأمرهم بشرب أبوال الإبل ، ولم يبعد أن يكون شفاء الكافر بالنجس .
وهذا الاعتراض ضعيف لأنه قائم على الاحتمال العقلي .
والراجح القول الأول .(7/52)
5- أمر النبي ( لهم أن يشربوا من ألبان إبل الصدقة ومن إبله ( .
قال الحافظ : " أما شربهم ألبان الصدقة فلأنهم من أبناء السبيل ، وأما شربهم لبن لقاح النبي ( فبإذنه المذكور " .
6- استشكل عدم سقيهم الماء مع طلبهم له ، مع أن الإجماع قائم على أن من وجب عليه القتل فاستسقى لا يمنع ؟
الجواب :
أجاب بعضهم : أن ذلك لم يقع عن أمر النبي ( ، ولا وقع منه نهي عن سقيهم .
وهذا ضعيف جداً ، لأن النبي ( اطلع على ذلك ، وسكوته كاف في ثبوت الحكم .
وأجاب النووي : بأن المحارب المرتد لا حرمة له في سقي الماء وغيره .
7- ذم كفر النعمة .
8- أن المماثلة في القصاص ليس من المُثلة المنهي عنها .
9- ثبوت حكم المحاربة في الصحراء ، وأما القرى فاختلف العلماء :
قيل : لا تثبت .
وهذا قول أبي حنيفة .
وقيل : تثبت .
وهذا قول مالك والشافعي ، وهو الصحيح .
10- قدوم الوفود على الإمام ونظره في مصالحهم .
11- أن النبي ( كما جاء بطيب القلوب جاء أيضاً بطيب الأجساد .(7/53)
347 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنهما , أَنَّهُمَا قَالا : (( إنَّ رَجُلاً مِنَ الأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ ( فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَنْشُدُك اللَّهَ إلاَّ قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ . فَقَالَ الْخَصْمُ الآخَرُ - وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ - نَعَمْ , فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ , وَأْذَنْ لِي . فَقَالَ النَّبِيُّ ( : قُلْ , فَقَالَ : إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفاً عَلَى هَذَا , فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ , وَإِنِّي أُخْبِرْت أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ , فَافْتَدَيْت مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ , فَسَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ , وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ , الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْك وَعَلَى ابْنِك جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ . وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ - لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ - عَلَى امْرَأَةِ هَذَا , فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا , فَغَدَا عَلَيْهَا , فَاعْتَرَفَتْ , فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ( فَرُجِمَتْ )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
أنشدك الله : أي أسألك بالله .
إن ابني : جاء في رواية للبخاري : ( إن ابني هذا ) وفيه أن الابن كان حاضراً .
وكان عسيفاً : العسيف الأجير .
على ابنك جلد مائة وتغريب عام : قال النووي : " هو محمول على أنه ( علم أن الابن كان بكراً ، وأنه اعترف بالزنا ويحتمل أن يكون أضمر اعترافه ، والتقدير : وعلى ابنك إن اعترف ، والأول أليق ، فإنه في مقام الحكم " .
أنيْس : بالتصغير .
الفوائد :
1- تحريم الزنا ، لأن الرسول ( أوجب فيه الحد .
وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع .(7/54)
قال تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً) .
وقال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً) .
وعن ابن مسعود قال : ( سألت رسول الله ( : أي الذنب أعظم ؟ فقال : أن تجعل لله نداً وهو خلقك . قلت : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك . قلت : ثم أي ؟ قال : أن تزني بحليلة جارك ) . متفق عليه
حليلة جارك : زوجة جارك .
وقال ( : ( ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) .
قال ابن القيم : " ومن خاصيته أنه يوجب الفقر ، ويقصر العمر ، ويكسو صاحبه سواد الوجه وثوب المقت بين الناس .
ومن خاصيته أيضاً : أنه يشتت القلب ، ويمرضه إن لم يمته ، ويجلب الهم والحزن والخوف ، ويباعد صاحبه من الملك ، ويقربه من الشيطان " .
2- أن حد الزاني البكر جلد مائة وتغريب عام .
لقوله ( : ( وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ) .
لا خلاف في وجوب الحد .
لقوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) .
وذهب جمهور العلماء إلى أنه يحد مع الجلد التغريب .
لحديث الباب .
ولحديث عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله ( : ( خذوا عني خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلاً ، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة ) . رواه مسلم
( عند الحنفية التغريب راجع إلى رأي الإمام ) .
وأما بالنسبة لتغريب المرأة :
قيل : تغرب مع محرمها .
وقيل : لا تغرب .
وقيل : تحبس
قال ابن القيم : " لكن يغرب معها محرمها إن أمكن وإلا فلا " .
3- إثبات الرجم على المحصن الزاني .
والرجم ثابت بالكتاب والسنة والإجماع .
الكتاب الآية المنسوخة : ( والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ... ) .(7/55)
وعن عمر بن الخطاب قال : ( إن الله بعث محمداً بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان فيما أنزل الله عليه آية الرجم ، قرأنها ووعيناها وعقلناها ، فرجم رسول الله ( ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : ما نجد الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، وإن الرجم في كتاب الله على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء ، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ) . متفق عليه
ورجم ( اليهودية .
ورجم ماعز .
ورجم الغامدية .
4- أن الزاني المحصن يرجم .
لقوله : ( وأن على امرأة هذا الرجم ) .
قال ابن قدامة : " وجوب الرجم على الزاني المحصن رجلاً كان أو امرأة ، وهذا قول عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار ، ولا نعلم فيه مخالفاً إلا الخوارج " .
لحديث الباب .
ولحديث عمر السابق .
ورجم ( اليهوديين ، ورجم ماعز ، ورجم الغامدية .
وقال عمر : ( ورجم رسول الله ( ورجمنا بعده ) .
لكن الرجم يكون في حق الزاني المحصن :
كما قال عمر : ( إن الرجم حق على من زنا وقد أحصن ) .
وقال ( : ( لا يحل دم مسلم إلا بإحدى ثلاث : ... والزاني الثيب ) .
والإحصان له شروط :
أولاً : الوطء في القبل .
لأن النبي ( قال : ( الثيب بالثيب ) والثيابة تحصل بالوطء في القبل .
ولا خلاف في أن عقد النكاح الخالي من الوطء لا يحصل به إحصان ، سواء حصلت به خلوة أو وطء دون الفرج ، أو الدبر أو لم يحصل شيء من ذلك ، لأن هذا لا تصير به المرأة ثيباً ولا تخرج عن حد الإبكار .
ثانياً : أن يكون في النكاح .
لأن النكاح يسمى إحصاناً ، بدليل قوله تعالى : (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ ) يعني المتزوجات .
ولا خلاف بين أهل العلم في أن الزنا ، ووطء الشبهة لا يصير الواطئ به محصناً .
ثالثاً : أن يكون النكاح صحيحاً .
رابعاً : الحرية .
وهي شرط في قول أهل العلم كلهم إلا إبا ثور .
خامساً : البلوغ ، العقل .(7/56)
فلو وطئ وهو صغير أو مجنون ثم بلغ أو عقل لم يكن محصناً .
- والراجح من أقوال أهل العلم أن الإسلام ليس شرطاً في الإحصان .
فالذمي يحصن الذمية ، وإذا تزوج المسلم ذمية فوطئها صارا محصنين .
وهذا مذهب الشافعي وأحمد ، ورجحه ابن القيم .
ويدل عليه حديث رجم النبي ( لليهوديين [ وسيأتي الحديث ] .
5- في قوله : ( واغدوا يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ) دليل على أنه لا يجمع بين الرجم والجلد في حق الزاني المحصن ، بل يكتفى بالرجم .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : أن الزاني المحصن يرجم فقط ولا يجلد .
وهذا مذهب جمهور العلماء .
لحديث الباب : ( فإن اعترفت فارجمها ) ولم يذكر الجلد .
والنبي ( رجم ماعزاً ولم يجلده .
ورجم الغامدية ولم يجلدها .
ورجم اليهوديين ولم يجلدهما .
القول الثاني : الجمع بين الجلد والرجم ، فيجلد مائة ثم يرجم .
وهذا القول مروي عن علي وابن عباس .
لحديث عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله ( : ( خذوا عني خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلاً ، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ) . رواه مسلم
والراجح القول الأول .
وأما الجواب عن حديث عبادة : أنه منسوخ .
فإن الأدلة التي بها الرجم فقط كلها متأخرة عن حديث عبادة ، ويدل لذلك قوله ( : ( قد جعل الله لهن سبيلاً ) فهو دليل على أن حديث عبادة هو أول نص ورد في الزنا .
6- لا يشترط للإحصان استمرار .
فلو أن رجلاً تزوج ثم بعد ذلك طلق ، فإن زنى فإنه يعتبر محصناً .
وكذلك لو أن امرأة مطلقة ، فإنها تعتبر محصنة ، فلو زنت فإنها ترجم .
7- أن من أسباب ثبوت الزنا الاعتراف ، لقوله : ( فإن اعترفت ) [ وسيأتي الحديث عن ذلك إن شاء الله - بما يثبت الزنا ].
8- الرجم : أن يرجم الجاني بالحصا الصغار التي ليست كبيرة جداً ولا صغيرة ، حتى يموت .
9- جفاء الأعراب وغلظهم ، لقوله : ( أنشدك بالله إلا قضيت ) .(7/57)
10- سعة حلم رسول الله ( .
11- حسن الأدب مع الكبير ، لقول الرجل : ( وأذن لي ) .
12- خطر الأجراء والخدم على الأهل .
13- أن من قبض مالاً في غير حق ، وجب رده إلى صاحبه .
14- جواز التوكيل في إقامة الحدود .
15- أنه لا يشترط الإقرار بالزنا تكراره أربع مرات ، بل يكفي مرة [ وسيأتي الخلاف في هذه المسألة إن شاء الله ] .
16- الحكمة من التغريب : أنه يبتعد عن محل الفاحشة ، لئلا تحدثه نفسه بالعودة إليها .
ولأن الغريب يكون منشغل البال غير مطمئن .
17- استفتاء أهل العلم والرجوع إليهم .
18- أنه لا يجوز لأحد إقامة الحدود إلا بإذن من الإمام أو نائبه .
19- وجوب إقامة الحدود .
348 - عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنهما قَالا :
(( سُئِلَ النَّبِيُّ ( عَنِ الأَمَةِ إذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ ؟ قَالَ : إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا , ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا , ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا , ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ )) .
-----------------------------------------
جاء لفظ آخر للحديث : ( إذا زنت الأمة فتبين زناها فليجلدها ولا يثرب ... ) .
معاني الكلمات :
الأمة : المراد بها هنا المملوكة .
فليجلدها : أي الحد الواجب عليها المعروف من صريح الآية ، وسيأتي .
ولا يثرب : أي لا يوبخها ويعنفها ، لأن إقامة الحد عليها كافية .
بضفير : الحبل .
الفوائد :
1- أن حد الأمة إذا زنت ولم تحصن هو الجلد ، لقوله : ( فليجلدها ) .
وحدها خمسين جلدة ، كما قال تعالى : ( فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ) .
والمراد بالمحصنات هنا الحرائر .(7/58)
قال في المغني : " وجملته أن حد العبد والأمة خمسون جلدة ، بكرين كانا أو ثيبين في قول أكثر الفقهاء ، منهم : عمر وعلي وابن مسعود والحسن والنخعي ومالك والأوزاعي وأبو حنيفة " .
2- أنه لا رجم في حق الإماء ، لقوله : ( فليجلدها ) فالأمة لا ترجم .
واختلف العلماء هل تغرب أم لا ؟
فقيل : لا تغرب .
لأن ذلك إضراراً بالسيد .
وقيل : تغرب .
بشرط أن يكون تغريبها آمناً .
والأول أصح .
3- وجوب إقامة الحد ، لقوله : ( فليجلدها ) .
4- مشروعية جلد العبيد والإماء كالحرائر .
5- أن الجلد له صفات .
يكون بسوط لا جديد ولا خَلَق .
لأن الجديد يكون صلباً ، والخلق القديم يكون هشاً ربما ينكسر .
- ويضرب الرجل الحد قائماً ، لا قاعداً ولا مضطجعاً .
- ولا يمد ، فلا تمده على الأرض .
- ولا يبالغ في جلده ، بحيث يشق الجلد
لأنه ليس المقصود من ذلك أن يجرح الرجل ويحرق جلده ، وإنما يذوق ألم الجلد حتى يؤدب .
- ويفرق الضرب على بدنه ، ويتقى الرأس والوجه والفرج والمقاتل .
الوجه : لأن النبي ( نهى عن ضرب الوجه ونهى عن تقبيح الوجه .
الرأس : يتقى لأن يؤثر فيه فربما أدى إلى الموت .
الفرج : يتقى لأن ذلك يضر به وربما يقتل .
المقاتِل : مثل الكبد .
لأنه ليس المقصود من ذلك إتلاف الإنسان ، بل تأديبه .
- المرأة كالرجل في كل هذا ، إلا أنها تضرب جالسة وتشد عليها ثيابها وتُمسَك يداها .
تضرب جالسة : لأن ذلك أستر لها .
وتشد عليها ثيابها : لأنه ربما بالضرب تضطرب وتتحرك وتَنْفَلَّ ثيابها .
6- أن الأمة إذا زنت بعد الثالثة فإنها تباع ، وهل هذا الأمر للوجوب أو الاستحباب ؟
قيل : للوجوب . وقيل : للاستحباب .
7- الحكمة من بيعها بعد الرابعة :
- أنه ربما تكرر زناها ، لأنها موجودة في بيئة تساعدها على ذلك ، فإذا بيعت وتغير عليها الحال والبيئة ربما تتغير .
- ولأنها ربما تجد سيداً يؤدبها ويربيها .
8- أن للسيد إقامة الحد خاصة في رقيقه .(7/59)
9- قوله : ( ولو بضفير ) قيل : المراد المبالغة . وقيل : المعنى بعها ولو برخص ، وهذا هو الصحيح .
10- الزنا عيب في الرقيق ، فإن لم يعلم به المشتري فله رده .
وهذا مذهب جمهور العلماء .
فإن قيل : إن كان عيباً فكيف أمر النبي ( ببيعها ؟
الجواب : أن البائع يخبر المشتري بهذا العيب .
11- إهانة أهل المعاصي .
349 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ : (( أَتَى رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ رَسُولَ اللَّهِ ( - وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ - فَنَادَاهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنِّي زَنَيْتُ , فَأَعْرَضَ عَنْهُ . فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنِّي زَنَيْت , فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى ثَنَّى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ . فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ: دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ ( , فَقَالَ : أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لا . قَالَ : فَهَلْ أُحْصِنْت ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّه ( : اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ )) .
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : فَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ . سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ " كُنْت فِيمَنْ رَجَمَهُ , فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّيْ , فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ , فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ , فَرَجَمْنَاهُ " .
الرَّجُلُ هو ماعزُ بنُ مالِكٍ . ورَوَى قِصَّتَهُ جابرُ بنُ عبدِ اللهِ وعَبْدُ اللهِ بنُ عَباسٍ وأَبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ وبُرَيْدَةُ بنُ الحُصَيْبِ الأَسْلَمِيُّ .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
أتى رجل من المسلمين : جاء في رواية : ( أن رجلاً من أسلم ) وفي حديث جابر بن سمرة عند مسلم : ( رأيت ماعز بن مالك الأسلمي حين جيء به رسول الله ) .
فهل أحصنت : أي تزوجت .(7/60)
قال نعم : جاء في رواية : ( أشربت خمراً ؟ قال لا ) وفي رواية : ( لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت ؟ قال : لا ) وفي حديث ابن عباس : ( فقال : أنكتها ؟ قال : نعم ، قال : أتدري ما الزنا ؟ قال : نعم ، أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً ، قال : فما تريد بهذا القول ؟ قال : تطهرني ، فأمر به فرجم ) .
أذلقته : أي أصابته بحدها .
الفوائد :
1- هذا الحديث فيه اعتراف هذا الصحابي بالزنا ، والاعتراف يثبت به الزنا ، فإن الزنا يثبت بأمرين :
- الشهود .
- الاعتراف .
فالشهود لا بد أن يكونوا أربع رجال يشهدون بأنهم رأوا الزنا نفسه ، ولا تقبل شهادة النساء .
قال تعالى : (لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) .
وأما الاعتراف بأن يعترف ويقر على نفسه بالزنا .
لكن ذهب بعض العلماء إلى أنه يشترط أن يقر أربع مرات ، لحديث الباب .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة ، هل يشترط أن يقر أربع مرات أم يكفي مرة واحدة ؟ على قولين :
القول الأول : لا بد أن يقر أربع مرات .
وهذا مذهب الحنابلة .
لحديث الباب ، فإن النبي ( لم يقم عليه الحد حتى شهد أربع مرات .
القول الثاني : يثبت الزنا بإقراره مرة واحدة ، ولا يشترط التكرار أربعاً .
وهذا مذهب مالك والشافعي ورجحه الشوكاني .
واستدلوا بأدلة :
- بحديث : ( واغدوا يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ) ولم يذكر تكراراً .
- أن النبي ( رجم اليهوديين ، ولم ينقل أن النبي ( كرر عليهما الإقرار .
- والنبي ( رجم امرأة من جهينة ولم تقر إلا مرة واحدة . رواه مسلم
قالوا : فلو كان تربيع الإقرار شرطاً لما تركه النبي ( في مثل هذه الواقعات التي يترتب عليها سفك الدماء وهتك الحرم .
وأجاب هؤلاء عن قصة جابر [ في مجيء ماعز ] :(7/61)
قال الشوكاني : " وظاهر السياقات مشعر بأن النبي ( إنما فعل ذلك في قصة جابر لقصد التثبت ، كما يشعر بذلك قوله : ( أبك جنون ) ثم بسؤاله بعد ذلك لقومه ، فتحمل الأحاديث التي فيها التراخي عن إقامة الحد بعد صدور الإقرار مرة على من كان أمره ملتبساً في ثبوت العقل واختلاله والصحو والسكر ونحو ذلك ، وإقامة الحد بعد الإقرار مرة واحدة على من كان معروفاً بصحة العقل وسلامة إقراره عن المبطلات " .
وهذا القول هو الراجح .
2- أن المجنون لا يقام عليه الحد .
فالحدود يجب لإقامتها أن يكون فاعلها :
عاقلاً بالغاً : فلا يجب على صغير ولا مجنون .
قال في الشرح : " أما البلوغ والعقل ، فلا اختلاف في اعتبارهما في وجوب الحد ، وصحة الإقرار ، لأنهما قد رفع القلم عنهما ، قال ( : ( رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يبلغ ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن النائم حتى يستيقظ ) .
وفي حديث الباب قال النبي ( لماعز : ( أبك جنون ) .
وسأل قومه : ( أمجنون هو ، قالوا : ليس به بأس ) .
عالم بالتحريم :
لقوله تعالى : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) .
وقال تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ) .
- لكن لا يشترط أن يكون عالماً بالعقوبة ، فإذا كان عالماً بالتحريم لكنه غير عالم بالعقوبة ، فإنه يقام عليه الحد .
قال ابن القيم : " فيه أن الجهل بالعقوبة لا يسقط الحد إذا كان عالماً بالتحريم ، فإن ماعزاً لم يعلم أن عقوبته القتل ، ولم يسقط هذا الجهل الحد عنه " .
3- فيه أن للإمام أن يصرح باسم الوطء الخاص به عند الحاجة إليه ، كالسؤال عن الفعل .
فإن النبي ( قال له : ( أنكتها ؟ قال : نعم ، قال : حتى غاب ذلك منك في ذلك منها ؟ قال : نعم ، قال : كما يغيب الميل في المكحلة أو الرِّشاء في البئر ؟ قال : نعم ، قال : فهل تدري ما الزنا ؟ قال : نعم ، أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً ) .(7/62)
وهناك تعليل : لأنه ربما يظن ما ليس بزنا زناً موجباً للحد ، فاشترط فيه التصريح .
4- الحديث دليل على أن الثيب لا يجمع عليه بين الجلد والرجم ، لأنه ( لم يجلد ماعزاً ولا الغامدية ، ولم يأمر أنيساً أن يجلد المرأة التي أرسله إليها . [ وسبقت المسألة ]
5- وجوب الرجم لمن زنى وهو محصن .
والمحصن : هو من جامع امرأته المسلمة أو الكتابية في نكاح صحيح وهما بالغان عاقلان حران . ( هذه شروط الإحصان ) .
- فلو عقد على امرأة وباشرها لكنه لم يجامعها ، ثم زنى ، فإنه لا يرجم ، وهي لو زنت فإنها لا ترجم ، إلا إذا كانت قد تزوجت من زوج قبله وحصل الجماع ، فإنها ترجم .
- لو تزوجها وهي صغيرة لم تبلغ وجامعها ، ثم زنى فإنه لا يرجم ، لأنه ليس بمحصن ، لأنها لم تبلغ .
- لو تزوج مجنونة وجامعها ، ثم زنى ، فإنه لا يرجم ، لأنه ليس بمحصن .
6- جاء رواية لمسلم من حديث بريدة : ( فلما كان الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم ) .
فذهب بعض العلماء إلى أنه يحفر للمرجوم لهذه الرواية .
القول الثاني : أنه لا يحفر له .
لحديث اليهوديين حيث لم يحفر لهما .
ولحديث : ( واغدوا يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ) ولم يذكر حفراً ، وهذا يدل على عدم الحفر .
القول الثالث : يحفر للمرأة دون الرجل .
والراجح القول الثاني ، وهو أنه لا يحفر للمرجوم .
وأما رواية : ( فحفر له ) في قصة ماعز ، فأكثر الروايات في قصة ماعز على عدم الحفر ، ومن ثَمّ حكم بعض العلماء على هذه الرواية بالشذوذ .
7- يسن للإنسان إذا وقع في معصية لله أن يستر على نفسه .
8- التثبت في إزهاق نفس المسلم ، والمبالغة في صيانته لما قع في هذه القصة من ترديده والإيحاء إليه بالرجوع .
9- استدل بالحديث أن المقر بالزنا إذا رجع عن إقراره لا يقام عليه الحد .
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على قولين :
القول الأول : أن المقر بالزنا إذا رجع ، فإنه يقبل رجوعه ولا يقام عليه الحد .(7/63)
وهذا قول أكثر العلماء .
لأن النبي ( قال كما عند أبي داود : ( هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه ) .
فقالوا : هذا دليل على جواز رجوع المقر ، وأنه إذا رجع في إقراره حرم إقامة الحد عليه .
القول الثاني : لا يقبل الرجوع عن الإقرار .
وهذا مذهب الظاهرية .
قالوا : لأن الرسول ( قال لأنيس : ( واغدو إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ) ولم يقل مالم ترجع .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : " وأما قولكم إن ماعزاً رجع عن إقراره ، فإن ماعزاً لم يرجع عن إقراره أبداً ، وهربه لا يدل على رجوعه إطلاقاً ، نعم ماعز هروبه قد يكون عن طلب إقامة الحد عليه ، فهو في الأول يريد أن يقام عليه الحد ، وفي الثاني أراد أن لا يقام عليه الحد وتكون التوبة بينه وبين الله ، ولهذا قال : ( ألا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه ) فدل هذا على أن حكم الإقرار باقي ، فنحن نقول إن قصة ماعز ما فيها دليل إطلاقاً على رجوع الإقرار ، ولكن فيها دليل على أنه رجع عن إقامة طلب الحد عليه ، ولهذا إذا جاءنا رجل يقر بأنه زنى ويطلب إقامة الحد ، ولما هيأنا الآلة لنقيم عليه الحد وآتينا بالحصى لأجل أن نرجمه ، فلما نظر إلى الحصى قال : دعوني أتوب إلى الله ، ما ذا نقول له ؟ يجب أن ندعه يتوب إلى الله ، لأن الرسول ( قال : ( هلاّ تركتموه يتوب فيتوب الله عليه ) حينئذٍ ندعه يتوب فيتوب الله عليه .
وأما لو قال : إنه ما زنى ، فلا يقبل ، لأن هذا الرجل يريد أن يدفع عن نفسه وصفاً ثبت عليه بإقراره " .
10- جواز التوكيل والإنابة في إقامة الحدود .(7/64)
350 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ : (( إنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ ( فَذَكَرُوا لَهُ : أَنَّ امْرَأَةً مِنْهُمْ وَرَجُلاً زَنَيَا . فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ( : مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ , فِي شَأْنِ الرَّجْمِ ؟ فَقَالُوا : نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ : كَذَبْتُمْ , فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ , فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا , فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا . فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ : ارْفَعْ يَدَك . فَرَفَعَ يَدَهُ , فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ , فَقَالَ : صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ , فَأَمَرَ بِهِمَا النَّبِيُّ ( فَرُجِمَا . قَالَ : فَرَأَيْت الرَّجُلَ : يَجْنَأُ عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ )) .
-----------------------------------------
ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ، قال الباجي : " يحتمل أن يكون علم بالوحي أن حكم الرجم فيها ثابت على ما شرع ، لم يلحقه تبديل ، ويحتمل أن يكون علم ذلك بإخبار عبد الله بن سلام وغيره ممن أسلم منهم ، ويحتمل أن يكون إنما سألهم عن ذلك ليعلم ما عندهم فيه ثم يعلم صحة ذلك من قِبل الله " .
نفضحهم : وقع بيان الفضيحة في رواية : ( قالوا : نسخم وجوههما ونخزيهما ) .
يجنأ عن المرأة : جاء في رواية لابن ماجه : ( يسترها ) .
الفوائد :
1- إثبات الرجم للزاني المحصن .
2- أن الإسلام ليس شرطاً للإحصان ، فالذمي يحصن الذمية ، وإذا تزوج مسلم ذمية فوطئها صارا محصنين .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة : هل الإسلام شرط في الإحصان أم لا ؟ على قولين :
القول الأول : أنه شرط في الإحصان .
وعلى هذا القول : فلا يكون الكافر محصناً ، ولا يحصن الذمية مسلم .
وهذا مذهب المالكية والحنفية .(7/65)
لحديث ابن عمر قال : قال رسول الله ( : ( من أشرك بالله فليس بمحصن ) . رواه الدارقطني ، وهو ضعيف
وقد جزم الحافظان الدارقطني وابن حجر بوقفه .
القول الثاني : أن الإسلام ليس شرطاً في الإحصان .
وعلى هذا القول : فالذمي يحصن الذمية ، وإذا تزوج المسلم ذمية فوطئها صارا محصنين .
وهذا مذهب الشافعي وأحمد ورجحه ابن القيم .
لحديث الباب .
وهذا القول هو الراجح .
3- أن أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا لا نحكم بينهم إلا بحكم الإسلام .
4- قال النووي : " في هذا دليل على وجوب حد الزنا على الكافر ، وأنه يصح نكاحه لأنه لا يجب الرجم إلا على محصن ، فلو لم يصح نكاحه لم يثبت إحصانه ولم يرجم " .
5- قوله : ( فقال ما تجدون في التوراة ) قال النووي : " قال العلماء : هذا السؤال ليس لتقليدهم ولا لمعرفة الحكم منهم ، فإنما هو لإلزامهم بما يعتقدونه في كتابهم ، ولعله ( قد أوحي إليه أن الرجم في التوراة الموجودة في أيديهم لم يغيروه كما غيروا أشياء " .
6- اختلف العلماء : كيف رجمها هل بالبينة أو الإقرار ؟
قال النووي : " الظاهر أنه بالإقرار ، وقد جاء في سنن أبي داود وغيره ، أنه شهد عليها أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها ، فإن صح هذا فإن كان الشهود مسلمين فظاهر ، وإن كانوا كفاراً فلا اعتبار بشهادتهم ويتعين أنها إقرار بالزنا " .
وقال ابن القيم : " وتضمنت - أي هذه القصة - شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض ، لأن الزانيين لم يقرا ، ولم يشهد عليهما المسلمون ، فإنهم لم يحضروا زناهما ، كيف وفي السنن في هذه القصة : فدعا رسول الله ( بالشهود ، فجاءوا أربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة " .
7- النبي ( حكم بالتوراة وألزمهم العمل بما فيها ، إظهاراً لتحريفهم كتابهم وتغييرهم حكمه .
8- أن اليهود أهل تحريف لشرع الله وكتمان ، وقد كتموا صفة محمد ( .
9- استدل به من قال : إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يخالف شرعنا .(7/66)
10- أنه لا يجمع بين الرجم والجلد . [ وسبقت المسألة ]
11- وجوب إقامة الحدود .
12- أن حد المحصن إذا زنا الرجم حتى الموت .
13- فضل عبد الله بن سلام ، وقد أسلم عند قدوم النبي ( المدينة ، وشهد له بالجنة .
351 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( لَوْ أَنَّ رَجُلاً - أَوْ قَالَ : امْرَأً - اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إذْنِكَ , فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ , فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ : مَا كَانَ عَلَيْك جُنَاحٌ )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
لو أن رجلاً اطلع : أي نظر من علو .
ما كان عليك جناح : أي حرج .
الفوائد :
1- أن للبيوت حرمة يجب احترامها ، وقد جاء في رواية قال ( : ( إنما جعل الإذن من أجل البصر ) .
2- في الحديث لو أن أحداً اطلع في بيت أحد من غير إذنه فله أن يفقأ عينه .
وقد اختلف العلماء في هذه العقوبة :
فقيل : إنها من باب دفع الصائل ، وأنه يدفع شيئاً فشيئاً .
وقيل : أن هذه من عقوبة المعتدي ، وهذا القول هو الصحيح .
لأنه لو كان من باب دفع الصائل للزم أولاً إنذاره ، ثم إن بقي وأصر عمل فيه هذا العمل .
3- لا يشترط لحذفه تقدم إنذاره .
لأن النبي ( لم يشترط لجواز الحذف تقدم الإنذار .
وقيل : يشترط ، وهو ضعيف .
4- أن من فقأ عين الناظر فإنه لا ضمان ولا دية على الفاقئ .
لأنه أسقط حرمته ، وأرخص عضوه ، وقد جاء عند أحمد : ( فلا دية ولا قصاص ) .
5- تحريم الإطلاع على بيوت الناس ، لأن النبي ( أباح حذف هذا الرجل وإن فقأت عينه .
وقد قال ( : ( ولا تحسسوا ولا تجسسوا ) .
6- أنه لو فقأ عينيه فإنه ضامن للعين التي لم تطلع عليه ، وجه ذلك : أن فقأ العين التي لم تنظر فقْأ في غير محل الجناية
فيضمنها .
7- أنه لا يجوز أن يحذفه بما يقتله .
8- حماية الشريعة لعورات الناس .
9- هل يلحق الاستماع بالنظر ؟
وجهان : الأصح لا ، لأن النظر إلى العورة أشد من استماع ذكرها .(7/67)
10- وجوب الاستئذان .
بابُ حَدِّ السَّرِقةِ
مقدمة :
السرقة لغة : مأخوذة من الاستخفاء والتستر ، ومنه قوله تعالى : (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) أي تسمع مختفياً .
واصطلاحاً : قال ابن قدامة : " أخذ المال على وجه الخفية والاستتار " .
وحكمها : حرام ومن الكبائر .
عن ابن عباس ( قال : قال رسول الله ( : ( لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ) . متفق عليه
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( : (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده).متفق عليه
352 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله تعالى عنهما : (( أَنَّ النَّبِيَّ ( قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ )) - وَفِي لَفْظٍ : (( ثَمَنُهُ - ثَلاثَةُ دَرَاهِمَ )) .
353 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها : أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ ( يَقُولُ : (( تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِداً )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
المجن : بكسر الميم وفتح الجيم ، وهو الترس الذي يتقى به وقع السيف .
الفوائد :
1- تحريم السرقة ، لأن الشرع رتب عليها الحد . [ وقد سبقت أدلة تحريمها ]
2- وجوب قطع يد السارق بشروطها .
لقوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) .
3- أن اليد لا تقطع إلا إذا كان المسروق بلغ نصاباً ، وهو كما في حديث عائشة : ( ربع دينار ) .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال :
القول الأول : أن اليد تقطع في ربع دينار فصاعداً .
لحديث عائشة حديث الباب .
القول الثاني : أن اليد لا تقطع في أقل من عشرة دراهم .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
لحديث ابن عباس : ( قوّم المجن الذي قطع فيه النبي ( بعشرة دراهم ) . رواه الدارقطني ، وهو ضعيف
القول الثالث : أن اليد تقطع في أقل من ربع دينار .
وهو قول الظاهرية .(7/68)
استناداً للحديث الصحيح : ( لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ... ) .
والراجح القول الأول .
فإن كان المسروق لا يبلغ ربع دينار ، فلا قطع .
- ومن شروط القطع :
أن يكون من حرز .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
فإن سرق من غير حرز فلا قطع .
وحرز المال ما العادة حفظه فيه ، وتختلف باختلاف الأموال والبلدان .
فالأموال : حرز الغنم غير حرز الذهب .
البلدان : المدن الكبيرة تحتاج إلى حرز أشد .
مثال : لو سرق غنماً من الشارع ، فإنه لا تقطع ، لأنه ليس من حرز .
لو سرق ذهباً من حوش البيت ، فإنه لا تقطع ، لأنه ليس من حرز ، لأن حرز الذهب عادة في الصناديق المقفلة .
الشرط الثاني : أن يكون هناك عملية سرقة .
وهي أخذ المال من غير مالكه على وجه الاختفاء .
فلا قطع على المنتهب : وهو الذي يأخذ المال على وجه العلانية معتمداً على قوته .
ولا على المختلس : وهو الذي يأخذ المال خطفاً .
ولا على خائن : وهو الذي خان ما جُعل عليه أميناً .
مثال : أعطيت رجلاً كتاباً وقلت له : هذا وديعة عندك إلى شهر ، فلما مضى الشهر وجئت أطلبه قال : ليس لك عندي شيء .
فهؤلاء لا قطع عليهم ، لأنهم لم يأخذوا المال على وجه الخفية .
عن جابر قال : قال رسول الله ( : ( ليس على خائن ولا مختلس قطع ) . رواه أبو داود
وقال ( : ( ليس على الخائن والمختلس قطع ) .
قال الخطابي : " أجمع عامة أهل العلم على أن المختلس والخائن لا يقطعان ، وذلك أن الله سبحانه وتعالى إنما أوجب القطع على السارق ، والسرقة إنما هي أخذ المال المحفوظ سراً عند صاحبه " .
الشرط الثالث : أن يكون المسروق مالاً محترماً .
المال المحترم : كالثياب والطعام والدراهم والدنانير والكتب وغير ذلك .
فلا قطع بسرقة آلة اللهو : كالمزمار ، والعود ، والربابة ، لتحريمها .
4- إذا وجب القطع :
- قطعت يده اليمنى .
لقوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) .(7/69)
ففي قراءة ابن مسعود : (فاقطعوا أيمانهما) .
- من مفصل الكف .
لأن الله أطلق : ( أيديهما ) ولم يقيد ، واليد عند الإطلاق تحمل على الكف .
- ثم حسمت : أي حسم الدم أي قطعه ، وذلك بأن يغلى زيت أو دهن أو نحوهما ، ثم تغمس فيه وهو يغلي ، فإذا انغمست فيه وهو يغلي تسددت أفواه العروق .
وإنما وجب حسمها : لأنها لو تركت لنزف الدم ومات .
- من تكررت سرقته :
إذا سرق ثانية قطعت رجله اليسرى .
ثم إن سرق ثالثة ، تقطع يده اليسرى ، ثم إذا سرق رابعة قطعت رجله اليمنى ، ثم إذا سرق بعد الرابعة يعزر ويحبس .
5- المراد من قوله ( : ( لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده ... ) :
قال جماعة : المراد بها بيضة الحديد ، وحبل السفينة ، وكل واحد منهما يساوي أكثر من ربع دينار ، وأنكره المحققون وضعفوه .
وقيل : المراد التنبيه على عظم ما خسر ، وهي يده في مقابلة حقير من المال وهو ربع دينار ، فإنه يشارك البيضة والحبل في الحقارة .
وقيل : أراد جنس البيض وجنس الحبل .
وقيل : أنه إذا سرق البيضة فلم تقطع جره ذلك إلى سرقة ما هو أكثر منها فقطع ، فكانت سرقة البيضة هي سبب قطعه .
6- قوله ( في حديث ابن عمر : ( إن النبي ( قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم ) .
قال النووي : " محمولة على أن هذا القدر كان ربع دينار فصاعداً " .
7- قوله ( قطع ) معناه أمر ، لأنه ( لم يكن يباشر القطع بنفسه .
8- اختلف العلماء هل يشترط في السرقة مطالبة المسروق منه بماله على قولين :
القول الأول : اشتراط ذلك .
وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد .
لحديث صفوان بن أمية ( أنه نام على ردائه في المسجد ، فأخذ من تحت رأسه ، فجاء بسارقه إلى النبي ( فأمر بقطعه ، فقال صفوان : لم أرد هذا ؟ ردائي عليه صدقة ، فقال ( : هلاّ كان قبل أن تأتيني به ) رواه أبو داود .
القول الثاني : لا تشترط المطالبة .
وهذا مذهب مالك ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية .(7/70)
لقوله تعالى ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما .. ) فليس فيها اشتراط مطالبة المسروق منه بماله المسروق .
وهذا القول هو الصحيح .
354 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها (( أَنَّ قُرَيْشاً أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ , فَقَالُوا : مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ ( ؟ فَقَالُوا : وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ ( فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ , فَقَالَ : أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ؟ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ , فَقَالَ : إنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ , وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ , وَأَيْمُ اللَّهِ : لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا )) .
وَفِي لَفْظٍ (( كَانَتْ امْرَأَةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ , فَأَمَرَ النَّبِيُّ ( بِقَطْعِ يَدِهَا )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
قريشاً : أي القبيلة المشهورة .
أهمهم : أي أجلبت إليهم همّاً أو صيرتهم ذوي همّ بسبب ما وقع منها .
وسبب همهم خشية أن تقطع يدها لعلمهم أن النبي ( لا يرخص في الحدود ، وكان قطع السارق معلوماً عندهم قبل الإسلام .
التي سرقت : جاء في رواية ( في عهد رسول الله في غزوة الفتح ) وجاء في رواية عند ابن ماجه تعيين المسروق ، عن ابن مسعود بن الأسود قال : ( لما سرقت المرأة تلك القطيفة من بيت رسول الله أعظمن ذلك فجئنا إلى رسول الله نكلمه ) . وسنده حسن
فقالوا من يكلم فيها رسول الله : أي يشفع عنده فيها ألا تقطع إما عفواً وإما فداءً .
ومن يجترئ عليه : بسكون الجيم وكسر الراء ، أي من يتجاسر عليه .
حب رسول الله : بكسر المهملة ، بمعنى محبوب .(7/71)
إنما أهلك الذين من قبلكم : جاء عند النسائي : ( إنما هلك بنوا إسرائيل ) قال ابن دقيق العيد : " الظاهر أن هذا الحصر ليس عاماً ، فإن بني إسرائيل كان فيهم أموراً كثيرة تقتضي الإهلاك ، فيحمل ذلك على حصر مخصوص ، وهو الإهلاك بسبب المحاباة في الحدود ، فلا ينحصر ذلك في حد السرقة " .
الفوائد :
1- تحريم الشفاعة في الحدود إذا بلغت السلطان .
قال النووي : " أجمع العلماء في تحريم الشفاعة في الحد بعد بلوغه إلى الإمام ، وعلى أنه يحرم التشفيع فيه ، وأما قبل بلوغه إلى الإمام فقد أجاز الشفاعة فيه أكثر العلماء إذا لم يكن المشفوع فيه صاحب شر وداء وأذى للناس " .
2- وجوب القطع بالسرقة .
3- في رواية مسلم : ( كان امرأة تستعير المتاع فتجحده ، فأمر النبي ( بقطع يدها ) .
وقد اختلف العلماء : هل جاحد العارية يقطع أم لا ؟ على قولين :
القول الأول : أن جاحد العارية تقطع يده .
وهذا مذهب الحنابلة ، واختاره ابن حزم وابن القيم .
لرواية مسلم السابقة ، وهي صريحة في أن جاحد العارية يجب عليه القطع .
القول الثاني : أن جاحد العارية لا قطع عليه .
وهذا مذهب جمهور العلماء : المالكية ، والحنفية ، والشافعية ، واختاره ابن قدامة .
لحديث جابر قال : قال رسول الله ( : ( ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع ) . رواه أبو داود
وجاحد العارية خائن للأمانة فلا قطع عليه .
- أن شرط السرقة الأخذ من الحرز وهتكه ، وليس في جحد العارية هتك لحرز فلا قطع عليه .
- أن جاحد العارية غير السارق في المعنى ، لأن السارق يأخذ المال خفية بخلاف الجاحد ، فإنه مؤتمن خائن لأمانته ، والقطع واجب على السارق لا على الجاحد .
وأجابوا على رواية : ( كانت تستعير المتاع فتجحده ) بأجوبة :
- أن هذه المرأة لم تقطع لجحدها العارية ، وإنما قطعت لكونها قد سرقت ، ويدل على ذلك أمران :
أولاً : الروايات الأخرى : ( أن قريشاً أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت ... ) .(7/72)
ثانياً : أن الروايات في قصة المخزومية قد عللت سبب قطعها بالسرقة ، فقد قال ( : ( إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم ... وقال : لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) ، فهذا دليل على أن قطعها كان لسرقتها .
- أن الرواية التي فيها استعارتها للمتاع ، وجحدها له ، هذا لأنها كانت معروفة بهذه الصفة فسميت بها في هذه الرواية .
- قال القرطبي : " يترجح أن يدها قطعت على السرقة لا لأجل جحد العارية من أوجه : أحدها : قوله في آخر الحديث التي ذكرت فيه العارية : ( لولا أن فاطمة سرقت ) فإن فيه دلالة قاطعة على أن المرأة قطعت في السرقة ، إذ لو كان قطعها لأجل الجحد لكان ذكر السرقة لاغياً ، ولقال : لو أن فاطمة جحدت العارية " .
- أن رواية ( القطع في العارية ) ضعيفة .[ لكن هذا فيه نظر ]
والراجح القول الثاني .
4- الإنكار على من شفع في الحدود بعد وصولها للإمام .
وقد جاء في الحديث : ( من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره ) . رواه أبو داود
5- فيه أن من سبب هلاك الأمم عدم إقامة حدود الله على جميع الناس ، ففيه التحذير من هذا العمل .
6- عدل النبي ( حيث لم يفرق بين غني وفقير ولا عظيم ولا حقير .
7- عظم منزلة فاطمة عند أبيها .
8- ينبغي للعالم أو القدوة أن يخطب بالناس إذا احتاج الأمر إلى ذلك .
9- أن خطب النبي ( تنقسم إلى قسمين :
قسم راتب : كخطب الجمعة . وقسم عارض : كخطبة الكسوف ، وخطبته في قصة بريرة .
10- أن الذنوب والمعاصي سبب لهلاك الأمم .
11- أن عقوبة الله للأمم لا تختلف بالنسبة للأمم ، لأنه ليس بين الله وبين الخلق نسب حتى يراعيهم .
12- أن حد السرقة ثابت في الأمم الماضية .
13- جواز الحلف من غير استحلاف .
14- فضل أسامة ومنزلته عند الله .
15- الاعتبار بأحوال من مضى من الأمم .
بَابُ حَدِّ الْخَمْرِ(7/73)
355 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ( (( أَنَّ النَّبِيَّ ( أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ, فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَةٍ نَحوَ أَرْبَعِينَ )) .
قال : وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس ، فقال عبد الرحمن بن عوف: أخف الحدود ثمانون ، فأمر بها عمر .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
الخمر : لغة : ما خامر العقل وستره ، وسمي بذلك لأنها تغطي العقل وتستره .
أخف الحدود ثمانون : أي اجعله مثل أخف الحدود ثمانين وهو حد القاذف .
الفوائد :
1- تحريم الخمر ، لثبوت الحد فيه .
وهي حرام بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) .
وقال ( : ( كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام ) . رواه أبو داود
وعن ابن عمر قال : قال رسول الله ( : ( لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه ) . رواه أبو داود
وعنه قال : قال رسول الله ( : ( من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها ، حرمها في الآخرة ) . متفق عليه
وأجمعت الأمة على تحريمه .
2- في الحديث أن حد الخمر ثمانين جلدة ، لأن عمر قضى به بمحضر من الصحابة .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة :
القول الأول : أن مقدار حد الخمر ثمانين جلدة .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لحديث الباب : ( فلما كان عهد عمر استشار الناس ... ) .
قال الصنعاني مبيناً وجه الاستدلال لهم : " قالوا : لقيام الإجماع عليه في عهد عمر فإنه لم ينكر عليه أحد " .
وقد تعقب الإجماع الحافظ ابن حجر ، فقال : " وتعقب بأن علياً أشار على عمر بذلك ثم رجع عنه واقتصر على الأربعين ، لأنها القدر الذي اتفقوا عليه في زمن أبي بكر مستندين إلى تقدير ما فعل بحضرة النبي ( " .
القول الثاني : الحد أربعون ، وأن الزيادة على الأربعين إلى الثمانين تعزيرية .(7/74)
وهذا مذهب الشافعي ، وهو قول داود ، ورجحه ابن تيمية وابن القيم .
لحديث أنس قال : ( أن النبي ( ضرب الخمر بالجريد والنعال وجلد أبو بكر أربعين ) . رواه البخاري
ولحديث علي قال : ( جلد النبي أربعين ، وأبو بكر أربعين ، وعمر ثمانين ، وكل سنة ) . رواه أبو داود
وجاء في صحيح مسلم : ( أن عثمان أمر علياً بجلد الوليد بن عقبة في الخمر ، فقال لعبد الله بن جعفر : اجلده فجلده ، فلما بلغ الأربعين قال : أمسك ، جلد رسول الله أربعين ، وجلد أبو بكر أربعين ، وجلد عمر ثمانين ، وكل سنة ، وهذا أحب إلي ) .
قال ابن القيم : " ومن تأمل الأحاديث رآها تدل على أن الأربعين حد ، والأربعون الزائدة عليها تعزير ، وقد اتفق عليه الصحابة " .
فائدة :
ذهب بعض العلماء إلى أن الخمر لا حد فيها ، وإنما فيها التعزير ، ونصر هذا القول الشوكاني .
3- الاضطرار لشرب الخمر :
أولاً : إذا اضطر لإزالة الغصة إذا لم يجد غيره .
قال النووي : " لو غص بلقمة ولم يجد شيئاً يسيغها به إلا الخمر ، فله إساغتها به بلا خلاف ، نص عليه الشافعي ، واتفق عليه الأصحاب وغيرهم ، بل قالوا : يجب عليه ذلك " .
قال تعالى : ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) .
وجه الدلالة : أن الآية نفت الإثم حال الضرورة إذا لم يكن بغي ولا عدوان .
ثانياً : شرب الخمر لسد العطش والجوع عند الضرورة .
قيل : لا يباح .
وهذا مذهب أكثر العلماء . قالوا : لأن شربها لا يدفع العطش بل يزيده ، ولأن شربها للضرورة قد يدعو إلى التعود على شربها في غير الضرورة .
وقيل : يباح .
لقوله تعالى : ( وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ) .
والأول أصح .
4- لا يجوز التداوي بالخمر ، وهذا مذهب جماهير العلماء .(7/75)
لما رواه مسلم في صحيحه : ( أن طارق بن سويد سأل النبي ( عن الخمر ، فنهاه ، فقال : إنما أصنعها للتداوي ؟ فقال : إنه ليس بدواء ولكنه داء ) .
وعن أبي الدرداء قال : قال رسول الله ( : (إن الله أنزل الداء والدواء ، وجعل لكل داء دواء ، فتداووا ولا تداووا بحرام).
رواه أبو داود
وعن ابن مسعود قال : ( إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام عليكم ) . رواه البخاري تعليقاً
بَابُ التَّعْزِير
356 - عَنْ أَبِي بُرْدَةَ هَانِئِ بْنِ نِيَارٍ الْبَلَوِيِّ ( : أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ( يَقُولُ : (( لا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إلاَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ )) .
-----------------------------------------
1- التعزير لغة : التأديب .
واصطلاحاً : هو التأديب في كل معصية لا حد ولا كفارة .
فإن كان فيها الحد فلا تعزير اكتفاء بالحد .
وإن كان فيها كفارة فلا تعزير ، اكتفاء بالكفارة .
كما لو جامع رجل امرأته في نهار رمضان عامداً ، فهنا تجب عليه الكفارة ولا يعزر اكتفاء بالكفارة .
أمثلة للتعزير :
سحاق النساء - القذف بغير الزنا .
2- ليس لأقل التعزير حد .
وقد حكى ابن قدامة في المغني أنه ليس لأقله حد ، وعلل ذلك بقوله : " لأنه لو تقدّر لكان حداً " .
واختلفوا في أكثره على أقوال :
القول الأول : أنه لا يزاد في التعزير على عشرة أسواط .
وهذا مذهب الحنابلة واختاره الشوكاني والصنعاني .
القول الثاني : أنه لا حد لأكثر التعزير ، بل هو مفوض إلى رأي الحاكم حسب المصلحة .
وهذا مذهب مالك ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية .
واستدلوا :
أن أقضية النبي ( ، ثم أقضية الصحابة ، تنوعت في التعازير حسب المصلحة .
فعزم ( على التعزير بتحريق البيوت على المتخلف عن حضور الجماعة لو منعه من تعدي العقوبة إلى غير من يستحقها .
وأخبر عن تعزير مانع الزكاة بأخذ شطر ماله .
وكذلك أصحابه بعده تنوعوا في العقوبات .(7/76)
فكان عمر يحلق الرأس وينفي ، ويضرب ويحرق حوانيت الخمارين .
فهذه الأدلة تدل دلالة واضحة على أن التعزير لا يحدد أكثره بقدر معين ، بل حسبما يراه الإمام أدعى لتحقيق المصلحة .
وأجابوا عن حديث الباب بأجوبة :
ذهب بعض العلماء إلى أن الحديث منسوخ ، ودليل النسخ عندهم هو إجماع الصحابة على العمل على خلافه من غير
نكير .
قال الحافظ : " نعم لو ثبت الإجماع لدل على أن هناك ناسخاً " .
وعلى هذا يكون المراد بالحدود في الحديث الحدود التي قدرت شرعاً ، كحد الزنا والقذف والسرقة ، فعلى هذا يكون ما عداها من المعاصي هو الذي عقوبته مرتكبة التعزير ، وهو من عشرة أسواط فأدنى .
وذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالحديث في قوله : ( إلا حد من حدود الله ) ليس المراد الحدود المقدرة شرعاً كالزنا والقذف ، وإنما المراد بالحد الحكمية التي إما ترك واجب أو فعل محرم ، وقد سمى الله أحكامه حدوداً ، فقال تعالى : ( وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) وقال تعالى في ختام آيات المواريث : ((تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) .
وعلى هذا يكون المراد بالحد بالحديث الحكم ، إن كان واجباً فيجلد حتى يقوم بالواجب ، وإن كان محرماً فيجلد حتى يكف عن المحرم .
وهذا القول رجحه الشيخ ابن عثيمين .
وعلى هذا يكون المراد بالحديث : ( لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد ... ) المراد بذلك تأديب الصغير ، والزوجة ، والخادم ، ونحوهم في غير معصية .
3- أن الحدود تأديب لأهل المعاصي .
4- تحريم الزيادة على عشر جلدات فيما يؤدب الإنسان به ولده .(7/77)
وأما إن كان في حكم شرعي فيجلد أكثر من ذلك ، لأنه لا يمكن أن نقول إننا إذا وجدنا رجل قد خلا بامرأة وباشرها وقبلها وضاجعها عدة ليال نقول نعزره بما دون عشر جلدات أو بعشر جلدات فأقل ، لأن هذا لا يمكن أن يصلح الناس .
5- أنه على القول الصحيح ، فإنه يجوز التعزير إلى ( 99 ) جلدة ، لكن لا يصل إلى ( 100 ) لأن الزنا عقوبته مائة جلدة ، ولهذا لا يبلغ في التعزير الحد .
6- الرفق بالأهل والأولاد بحيث لا يجلدهم أكثر من عشرة جلدات فيما يتعلق بالتأديب والمروءة .
كِتَابُ الأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ
مقدمة :
الأيمان : بفتح الهمز ، جمع يمين ، وأصل اليمين في اللغة : اليد ، قال الجوهري : " سميت اليمين بذلك لأنهم كانوا إذا تحالفوا ضرب كل امرىء منهم بيمينه على يمين صاحبه " .
واصطلاحاً : توكيد الشيء بذكر اسم أو صفة لله .
لا يشرع الإكثار من الحلف .
لقوله تعالى ( واحفظوا أيمانكم ) .
قيل في تفسير الآية : حفظ اليمين هو عدم الإكثار منها .
ولقوله تعالى (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) .
قال الطبري : " ولا تطع يا محمد كل ذي إكثار للحلف الباطل " .
الحلف أنواع :
اليمين المنعقدة .
اليمين الغموس .
ولغو اليمين .
وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله قريباً .
357 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ , لا تَسْأَلْ الإِمَارَةَ , فَإِنَّكَ إنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِّلْتَ إلَيْهَا , وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا , وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا , فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ , وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ )) .(7/78)
358 - عَنْ أَبِي مُوسَى ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( إنِّي وَاَللَّهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - لا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ , فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا إلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ , وَتَحَلَّلْتُهَا )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
لا تسأل : لا تطلب .
الإمارة : الولاية .
عن مسألة : عن سؤال .
وُكلتَ إليها : بضم الواو : أي صرف إليها ، ومن وكل إلى نفسه هلك .
الفوائد :
1- النهي عن سؤال الولاية والإمارة [ سواء الولاية الكبرى أو الصغرى ] .
فطلبها مذموم لأمور :
أولاً : لنهي النبي ( عن ذلك .
كما في حديث الباب .
ثانياً : ليست من صفات أهل الآخرة .
لقوله تعالى (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) .
وطالب الإمارة يريد أن يكون أرفع الناس .
ثالثاً : كثرة تبعاتها ومشقتها .
ولذلك قال ( ( إنكم ستحرصون على الإمارة ، فنعم المرضعة وبئست الفاطمة ) رواه البخاري .
نعم المرضعة : لما يكون فيها في الدنيا من الجاه والمال ونفاذ الكلمة .
وبئست الفاطمة : أي بعد الموت .
وقال ( لأبي ذر ( إنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة ) رواه البخاري .
2- أن من طلب الإمارة فأعطيها تركت إعانته عليها من أجل حرصه عليها ، لقوله ( وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها ) ومن وكل إلى نفسه هلك .
3- أن من طلب الإمارة فإنه لا ينبغي أن يُجاب سؤاله .
لأن النبي ( قال ( إنا لا نُولي من حرص عليها ) رواه البخاري .
ولأن من سألها لم يكن له عوْن من الله ، ومن لم يكن له عون من الله على عمله لا يكون فيه كفاية لذلك العمل ، فلا ينبغي أن يجاب سؤاله ، ومن المعلوم أن كل ولاية لا تخلو من المشقة ، فمن لم يكن له من الله إعانة تورط فيما دخل فيه وخسر دنياه وعقباه ، فمن كان ذا عقل لم يتعرض للطلب أصلاً .(7/79)
4- خطورة الولاية ، ولذلك امتنع الأكابر من الدخول فيها .
قال عمر ( ما أحببت الإمارة إلا يومئذ ) قال ذلك يوم سمع النبي ( يقول يوم خيبر ( لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ) .
5- أن من دخل فيها وعدل واجتهد ولم يطلبها وقام بحقها فله أجر عظيم ولذلك قال ( ( وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها ) .
6- في أحاديث الباب استحباب الحنث في اليمين والتكفير عنه إذا كان الحنث خيراً من التمادي ، وهذا متفق عليه بين العلماء
والخيرية في الحنث تارة تكون واجبة ، وتارة تكون مستحبة ، فإن كانت خيرية واجبة كان الحنث واجباً ، وإن كانت خيرية تطوع صار الحنث تطوعاً .
أمثلة :
قال : والله لا أصلي اليوم ، فهذا حلف على ترك واجب ، فالحنث واجب .
قال : والله لا أوتر ، نقول هنا الأفضل أن يحنث ، فنقول أوتر وكفر عن يمينك .
ولذلك قسم العلماء المسألة إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : أن يكون الحنث خير [ وجوباً أو استحباباً ] فهنا يحنث .
القسم الثاني : أن يكون عدم الحنث خير ، فإنه لا يحنث .
القسم الثالث : أن يتساوى الأمران ، فالأفضل عدم الحنث .
أمثلة :
حلف أن لا يصلي في المسجد : فهنا يحنث .
حلف أن لا يسافر إلى بلاد الكفار : فهنا لا يحنث .
قال النووي : " هذه الأحاديث دالة على من حلف على فعل شيء أو تركه وكان الحنث خيراً من التمادي على اليمين استحب له الحنث وتلزمه الكفارة ، وهذا متفق عليه " .
7- اختلف العلماء في موعد الكفارة : هل تجوز قبل الحنث وبعد اليمين أو لا بد أن تكون بعد الحنث على قولين :
الراجح ما ذهب إليه جماهير العلماء أنه تجزىء بعد اليمين وقبل الحنث .
لأن الروايات جاءت بذلك :
فقد جاءت رواية بتقديم الكفارة ( فكفر عن يمينك وأئت الذي هو خير ) .
وجاءت رواية بتأخير الكفارة كما في حديث أبي موسى ( إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها ) .
فدل ذلك على جواز الأمرين .(7/80)
مثال : قال : والله لا أسافر إلى الرياض الشهر القادم ، ثم رأى أنه يريد السفر .
فيجوز أن يدفع الكفارة الآن قبل الحنث [وهو سفره إلى الرياض] ويجوز يجعل الكفارة بعد الحنث [بعد سفره إلى الرياض] .
8- وجوب كفارة اليمين عند الحنث لقوله [ فكفر ] .
والكفارة كما قال تعالى (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ) .
فيخير من لزمته كفارة يمين بين :
إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق رقبة - فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام .
- مقدار الإطعام لكل مسكين نصف صاع من قوت البلد ، ومقداره كيلو ونصف تقريباً ، وإن عشى العشرة أو غداهم يجزىء .
- ذهب جمهور العلماء إلى أنه يلزم إطعام عشرة مساكين ولا يجزىء أقل من ذلك لأنه هو العدد المنصوص عليه في الآية .
- في العتق لا بد أن تكون الرقبة مؤمنة ، وهذا مذهب جماهير العلماء ، لحديث الجارية قال ( ( أعتقها فإنها مؤمنة ) .
- الراجح من أقوال أهل العلم أنه يلزم التتابع في صيام الكفارة لقراءة ابن مسعود ( فصيام ثلاثة أيام متتابعة ) .
359 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ )) .
360 - وَلِمُسْلِمٍ : (( فَمَنْ كَانَ حَالِفاً فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُت )) .
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ عُمَرُ " فَوَاَللَّهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ( يَنْهَى عَنْهَا , ذَاكِراً وَلا آثِراً "
( يعني : حاكياً عن غيري أَنه حلفَ بها ) .
-----------------------------------------(7/81)
معاني الكلمات :
ينهاكم : النهي طلب الكف على وجه الاستعلاء .
ليصمت : ليسكت .
ذاكراً : أي عامداً .
ولا آثراً : أي حاكياً عن الغير ، أي ما حلفت بها ولا حكيت ذلك عن غيري ، ويدل لذلك رواية مسلم ( ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله ( ينهى عنها ، ولا تكلمت بها ) .
الفوائد :
1- تحريم الحلف بغير الله كالآباء والأجداد وغير ذلك ، ومما يدل على التحريم :
حديث ابن عمر قال : قال رسول الله ( ( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ) رواه أبو داود .
وعن ابن عمر . قال : قال رسول الله ( ( لا تحلفوا بآبائكم ) متفق عليه .
وعن ابن مسعود قال ( لأن أحلف بالله كاذباً أحب إليّ أن أحلف بغيره صادقاً ) رواه عبد الرزاق .
لأن الحلف بغير الله شرك ، والحلف بالله محرم إذا كان الحالف كاذباً .
2- الحلف بغير الله حرام مطلقاً ، لكن خص في حديث الباب بالآباء لوروده على سبب مذكور ، أو خص لكونه كان غالباً عليه لقوله في رواية أخرى ( وكانت قريش تحلف بآبائها ) .
3- قال العلماء : السر في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه، والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده.
4- إشكال : جاء في حديث طلحة بن عبيد الله في قصة الرجل الذي جاء إلى الرسول ( يسأله عن الإسلام ، فأخبره الرسول ( ، ثم قال الرجل : لا أزيد على هذا ولا أنقص ، فقال رسول الله ( : أفلح وأبيه إن صدق .
فهنا قال النبي ( ( أفلح وأبيه ) وقد أجاب العلماء عن هذا بأجوبة :
قيل : هي كلمة جرت عادة العرب أن تدخلها في كلامها غير قاصدة حقيقة الحلف .
وقيل : أن هذا قبل النهي عن الحلف بغير الله ، ورجحه البيهقي والنووي .
وهذان القولان أقوى الأجوبة .
وقيل : إن ذلك خاص بالشارع دون غيره من أمته ، وهذا ضعيف لأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال .
وقيل : إن بعض الرواة صحف قوله ( وأبيه ) من قوله ( والله ) ، قال الحافظ : " وهذا محتمل ، ولكن مثل ذلك لا يثبت بالاحتمال " .(7/82)
5- قوله ( فليحلف بالله ) فيه أن الحلف يكون بالله .
فالحلف يكون باسم من أسماء الله أو بصفة من صفاته ( سواء كانت صفات ذاتية : كالسمع والعلم ، أو خبرية كالوجه ، أو فعلية ) .
مثل الأسماء : والحي لأسافرن ، والله لا أذهب ، والرحمن لا أركب السيارة وهكذا .
وكذلك الصفات يجوز الإقسام بها ، ويدل على الجواز :
قوله تعالى ( فبعزتك لأغوينهم أجمعين ) .
وحديث أنس مرفوعاً من قول النار ( قط قط وعزتك ) متفق عليه .
حديث أبي هريرة مرفوعاً ، وفيه قول الذي يخرج من النار ( وعزتك لا أسألك غيرها ) رواه مسلم .
حديث جابر ( لما نزل قوله تعالى [ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم ] قال النبي ( : أعوذ بوجهك ) رواه البخاري .
فائدة :
استثنى الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله الصفات الخبرية كالوجه واليد والإصبع ونحوها ، فلم يُجوِّز الإقسام بها ما عدا الوجه وقال : لأنه يعبر به عن الذات .
361- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( عَنْ النَّبِيِّ ( قَالَ : (( قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد عليهما السلام : لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً , تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , فَقِيلَ لَهُ : قُلْ : إنْ شَاءَ اللَّهُ , فَلَمْ يَقُلْ , فَطَافَ بِهِنَّ , فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إلاَّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ : نِصْفَ إنْسَانٍ . قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : لَوْ قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ , وَكَانَ دَرَكاً لِحَاجَتِهِ )) . قولُهُ : (فَقِيلَ لَهُ : قُلْ : إنْ شَاءَ اللَّهُ ) يعني قالَ له المَلَكُ .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
قال سليمان لأطوفن : طاف بالشيء وأطاف به إذا دار حوله وتكرر عليه ، وهو هنا كناية عن الجماع .(7/83)
فقيل له قل إن شاء الله : جاء في رواية ( فقال له صاحبه ) وجاء في رواية أخرى ( فقال له الملك ) ، فالمراد بالصاحب الملك .
فلم يقل : جاء في رواية ( فنسي ) ومعنى قوله ( فلم يقل ) أي بلسانه ، لا أنه أبى أن يفوض إلى الله ، بل كان ذلك ثابتاً في قلبه ، ولكنه اكتفى بذلك أولاً ونسي أن يجريه على لسانه لما قيل له .
الفوائد :
1- أن الاستثناء باليمين [ وهو قول الحالف : إن شاء الله ] نافع ومفيد جداً لتحقيق المطلوب .
2- أن المستثني لا يحنث في يمينه .
عن ابن عمر . قال : قال رسول الله ( ( من حلف على يمين فقال : إن شاء الله ، فقد استثنى فلا شيء عليه ) رواه الترمذي .
وعن أبي هريرة . قال : قال رسول الله ( ( من حلف على يمين فقال : إن شاء الله لم يحنث ) رواه الترمذي .
استدل العلماء بحديثي ابن عمر وأبي هريرة على جواز الاستثناء في اليمين وأن من استثنى لا يحنث .
قال الترمذي : " والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم " .
وحكى بعض العلماء الإجماع على ذلك .
مثال : لو قال : والله لا ألبس هذا الثوب إن شاء الله ثم لبسه ، فليس عليه شيء ، لأنه قال : إن شاء الله .
لكن لا بد من تحقق شروط الاستثناء وهي :
أولاً : التلفظ فلا يكفي القصد .
فقد اتفق العلماء كما حكاه الحافظ ابن حجر عن ابن المنذر أن من شرط الحكم بالاستثناء أن يتلفظ بالمستثني به ، وأنه لا يكفي القصد إليه بغير لفظ .
ثانياً : أن يتصل بيمينه حقيقة أو حكماً .
مثال : والله لا أكلم فلاناً اليوم إن شاء الله [ هذا اتصال حقيقي ] .
مثال : لو قال والله لا ألبس هذا الثوب ، فأخذه عطاس وجلس ربع ساعة وهو يعاطس ، فلما هدأ قال : إن شاء الله [ فهذا متصل حكماً لأنه منعه مانع من اتصال الكلام ] .
- لو كان هناك فاصل لكن الكلام واحداً فإنه يجوز على القول الراجح .(7/84)
لحديث أن النبي ( خطب عام الفتح وذكر حرمتها وأنه لا يختلى خلاها ولا يحش حشيشها .. ثم بعد ذلك قال العباس : إلا الإذخر يا رسول الله ، فقال رسول الله ( : إلا الإذخر .
وهذا بعد كلام منفصل عن الأول .
- اشترط بعضهم أن ينوي الاستثناء قبل تمام المستثنى منه ، يعني ينوي أن يقول [ إن شاء الله ] قبل تمام المستثنى منه .
- مثال : قال والله لا ألبس هذا الثوب إن شاء الله ، فلا بد أن ينوي [إن شاء الله] قبل أن ينطق بالباء من كلمة [الثوب] .
والصحيح أنه لا تشترط النية لحديث الباب ، فإن الملك قال لسليمان بعد أن أنهى الجملة : قل إن شاء الله ، وسليمان لم ينو الاستثناء من قبل ، والنبي ( قال : لو قالها لم يحنث ، فهذا نص أنه لا تشترط النية .
3- فضل فعل الخير وتعاطي أسبابه وأن كثيراً من المباح والملاذ يصير مستحباً بالنية والقصد .
4- استحباب الاستثناء لمن قال سأفعل كذا لقوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إلا أن يشاء الله ) .
5- فيه ما خص به الأنبياء من القوة على الجماع الدال ذلك على صحة البنية وقوة الفحولية وكمال الرجولية مع ما هم فيه من الاشتغال بالعبادة والعلوم ، وقد وقع للنبي ( من ذلك أبلغ المعجزة ، لأنه مع اشتغاله بعبادة ربه وعلومه ومعالجة الخلق ، كان متقللاً من المآكل والمشارب المقتضية لضعف البدن على كثرة الجماع ، ومع ذلك فكان يطوف على نسائه في ليلة بغسل واحد وهن إحدى عشرة امرأة .
ويقال : إن كل من كان أتقى لله فشهوته أشد لأن الذي لا يتقي يتفرج بالنظر ونحوه .
3- جواز السهو على الأنبياء وأن ذلك لا يقدح في علو منصبهم .
4- إن قيل كيف جزم سليمان بأنه تأتي كل امرأة بغلام ؟
يحتمل : أن يكون لما أجاب الله دعوته أن يهب له ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده ، كان هذا عنده من جملة ذلك .(7/85)
ويحتمل : أن يكون ذلك من جنس التمني على الله والسؤال له أن يفعل والقسم عليه ، كقول أنس بن النضر : والله لا يكسر سنها .
وهناك احتمال ثالث ذكره النووي حيث قال : " هذا محمول على أن النبي ( أوحيَ إليه بذلك في حق سليمان ، لا أن كل من فعل هذا يحصل له هذا " .
5- قوله ( وايم الله لو قال : إن شاء الله ) جاء في رواية ( وايم نفس محمد بيده لو قال : إن شاء الله .. ) .
ففيه جواز اليمين بهذا اللفظ .
أيمان الرسول الله ( :
أولاً : ومقلب القلوب .
عن ابن عمر قال ( كانت يمين النبي ( ، لا ، ومقلب القلوب ) رواه البخاري .
ثانياً : والله .
قال ( ( فوالله لأني أعلمهم بالله وأشدهم خشية ) متفق عليه .
ثالثاً : ورب الكعبة .
عن أبي ذر . قال ( انتهيت إلى النبي ( وهو يقول : هم الأخسرون ورب الكعبة ، ... ) متفق عليه .
رابعاً : وايم الله .
كقوله ( ( وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) متفق عليه .
خامساً : وايم نفس محمد بيده .
كما في حديث : ( وايم الذي نفس محمد بيده ) .
سادساً : والذي نفس محمد بيده .
قال ( ( والذي نفس محمد بيده إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة ) متفق عليه .
سابعاً : والذي لا إله غيره .
قال ( ( ...... فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ، .... ) .
6- فضل الجهاد في سبيل الله .
7- تعظيم الأنبياء للجهاد في سبيل الله .
8- تعظيم الأنبياء للدين وحملهم همّ الإسلام .
9- ينبغي أن ينوي الإنسان بماله وأولاده أن يكونوا ناصرين للدين مجاهدين .
362 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ , هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ , لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ )) . وَنَزَلَتْ : (( إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً )) إلَى آخِرِ الآيَةِ " .(7/86)
363 - عَنْ الأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ ( قَالَ : (( كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ فَاخْتَصَمْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ ( ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ ، قُلْت : إذاً يَحْلِفُ وَلا يُبَالِي . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ , هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ , لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
من حلف على يمين صَبْر : يمين الصبر هي التي يحبس الحالف نفسه عليها .
قال ابن دقيق العيد : " يمين الصبر هي التي يصبر فيها نفسه على الجزم باليمين ، والصبر : الحبس ، فكأنه يحبس نفسه على هذا الأمر العظيم وهي اليمين الكاذبة ، ويقال لها : اليمين الغموس أيضاً " .
لقي الله وهو عليه غضبان : جاء عند مسلم ( وهو عنه معرض ) وفي رواية لمسلم أخرى ( فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة ) وعند أبي داود ( فليتبوأ مقعده من النار ) .
الفوائد :
1- تحريم أخذ أموال الناس بالإيمان الكاذبة .
وهذه تسمى اليمين الغموس وهي من الكبائر ، وعقوبتها :
كما في حديث الباب ( لقي الله وهو عليه غضبان ) .
وفي رواية لمسلم ( من اقتطع حق امرىء مسلم بيمينه فقد أوجب الله تعالى له النار وحرم عليه الجنة ) .
وفي رواية ( ليلقين الله وهو عنه معرض ) .
وتعريفها :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " فإذا كانت اليمين غموساً - وهو أن يحلف كاذباً عالماً بكذب نفسه فهذه اليمين - يأثم بها باتفاق المسلمين وعليه أن يستغفر الله منها وهي كبيرة " .
وهي من الكبائر :
قال ( ( الكبائر : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس ، واليمين الغموس ) رواه البخاري .
سميت بذلك :
قال ابن قدامة : " وهذه اليمين تسمى يمين الغموس لأنها تغمس صاحبها في الإثم " .
ولا كفارة فيها :(7/87)
لا خلاف بين أهل العلم أن الحالف كذباً عليه التوبة إلى الله مما قال وما ترتب عليه بيمينه من اقتطاع حق امرىء مسلم ، لكن اختلفوا هل مع التوبة الكفارة أم لا على قولين :
القول الأول : ليس عليها كفارة .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لأن الذي أتى به أعظم من أن يكون فيه كفارة .
ولأن الأحاديث الماضية التي فيها الوعيد الشديد لمن حلف كاذباً لم يذكر فيها الكفارة .
القول الثاني : تجب فيها الكفارة .
وهذا مذهب الشافعي .
قالوا : هو أحوج للكفارة من غيره ، وبأن الكفارة لا تزيده إلا أجراً .
والراجح الأول .
2- قوله ( مال مسلم ) قال النووي : " أما تقييده ( بالمسلم فليس يدل على عدم تحريم حق الذمي بل معناه أن هذا الوعيد الشديد وهو أنه يلقى الله تعالى وهو عليه غضبان لمن اقتطع حق المسلم ، وأما الذمي فاقتطاع حقه حرام لكن ليس يلزم أن تكون فيه هذه العقوبة العظيمة " .
3- هذا الحكم وهذه العقوبة لمن اقتطع حق المسلم ومات قبل التوبة ، وأما من تاب فندم على فعله ورد الحق إلى صاحبه وتحلل منه وعزم على أن لا يعود فقد سقط عنه الإثم .
4- قوله ( وهو فيها فاجر ) فالتقييد بكونه فاجراً لا بد منه ومعناها هو آثم ، ولا يكون آثماً إلا إذا كان متعمداً عالماً بأنه غير محق .
5- إثبات الغضب لله تعالى إثباتاً يليق بجلاله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تمثيل ولا تشبيه .
6- بيان غلظ تحريم حقوق المسلمين وأنه لا فرق بين قليل الحق وكثيره .
7- قال النووي في الحديث : " إن حكم الحاكم لا يبيح للإنسان ما لم يكن له ، وهذا مذهب جماهير العلماء
هذا هو النوع الأول من أنواع اليمين " .
النوع الثاني : اليمين اللغو .
قال تعالى (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ) .
عن عائشة قالت ( أنزلت : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ، في قوله : لا والله ، وبلى والله ) رواه البخاري .(7/88)
قال الصنعاني بعد أن ذكر قول عائشة : " فيه دليل على أن اللغو من الأيمان ما لا يكون عن قصد الحلف ، وإنما جرى على اللسان من غير إرادة الحلف " .
النوع الثالث : اليمين المنعقدة .
وهي التي تجب فيها الكفارة إذا حنث .
ويشترط للكفارة شروط :
أولاً : القصد .
لأنه لا مؤاخذة إلا بقصد ونية ، ولذلك أسقط الله تبارك وتعالى الكفارة في يمين اللغو .
ثانياً : أن تكون على مستقبل .
لأن اليمين على الماضي ليس فيها كفارة كما سبق .
ثالثاً : أن يحلف مختاراً .
لأن المكره لا مؤاخذة عليه ، لقوله ( ( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) رواه ابن ماجه .
فائدة :
الحنث في اليمين : أن يفعل ما حلف على تركه ، أو يترك ما حلف على فعله مختاراً ذاكراً عالماً .
مثال الأول : حلف أن لا يلبس هذا الثوب ، ثم لبسه .
مثال الثاني : حلف أن يأكل خبزة فلم يأكل .
مختاراً : وضده المكره .
ذاكراً : وضده الناسي .
فإن كان مكرهاً فلا كفارة عليه، مثل قال : والله لا ألبس هذا الثوب، ثم قال له أبوه ، والله لتلبسنه ، فلبسه فلا شيء عليه .
والناسي : مثال : قال والله لا أطالع في هذا الكتاب اليوم ، ثم ذهب وقرأه ناسياً ، فلا شيء عليه .
364 - عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ الأَنْصَارِيِّ ( أَنَّهُ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ ( تَحْتَ الشَّجَرَةِ , وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإِسْلامِ , كَاذِباً مُتَعَمِّداً , فَهُوَ كَمَا قَالَ , وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ , وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِيمَا لا يَمْلِكُ )) وَفِي رِوَايَةٍ : (( وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ )) . وَفِي رِوَايَةٍ : (( مَنِ ادَّعَى دَعْوَى كَاذِبَةً لِيَتَكَثَّرَ بِهَا , لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلاَّ قِلَّةً )) .
-----------------------------------------(7/89)
معاني الكلمات :
بملة : الملة بكسر الميم وتشديد اللام الدين والشريعة ، وهي نكرة في سياق الشرط فتعم جميع الملل من أهل الكتاب كاليهودية والنصرانية ومن لحق بهم من المجوسية والصابئة وغيرهم .
الفوائد :
1- هذه الحديث اشتمل على بعض النواهي :
قوله ( من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذباً متعمداً فهو كما قال )
مثاله : كأن يقول : هو يهودي إن كان فعل ذلك ، وهو فاعل ذلك .
وقد اختلف في معنى ذلك :
فقيل : يحتمل أن المراد بذلك التهديد والمبالغة في الوعيد لا الحكم .
وقال النووي : " إن كان الحالف به معظماً لما حلف به مجلاً له كان كافراً ، وإن لم يكن معظماً بل كان قلبه مطمئناً بالإيمان فهو كاذب في حلفه بما لا يحلف به ، ومعاملته إياه معاملة ما يحلف به ، لا يكون كافراً خارجاً عن ملة الإسلام ، ويجوز أن يطلق عليه اسم الكفر ويراد به كفر الإحسان ، وكفر نعمة الله تعالى ، فإنها تقتضي أن لا يحلف هذا الحلف
القبيح " .
وقال الحافظ ابن حجر : " والتحقيق التفصيل فإن اعتقد تعظيم ما ذكر كفر وإن قصد حقيقة التعليق فينظر فإن كان أراد أن يكون متصفاً بذلك كفر ، لأن إرادة الكفر كفر ، وإن أراد البعد عن ذلك لم يكفر " .
هل عليه كفارة ؟ اختلف العلماء :
فقيل : عليه الكفارة .
وهذا مذهب الحنفية والحنابلة .
وقيل : لا كفارة عليه .
وهذا مذهب المالكية والشافعية .
لأنه قال ( فهو كما قال ) ولم يذكر كفارة .
قوله ( ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة )
فيه تحريم الانتحار ( وسبقت مباحثه في حديث مضى ) .
قوله ( بشيء ) جاء في رواية لمسلم ( بحديدة ) وفي رواية أخرى ( ومن تحسى سماً ) لكن رواية ( بشيء ) أعم .
قوله ( وليس على رجل نذر فيما لا يملك )
فلو نذر ما لا يملكه فإن نذره لاغ ، كأن يقول : إن نجحت سأعتق عبد فلان فهنا لا يصح النذر ، لأنه لا يملكه .
قوله ( ولعن المؤمن كقتله )
فيه تحريم اللعن ، وهو حرام وكبيرة من الكبائر .(7/90)
قال ( ( لا ينبغي لصديق أن يكون لعاناً ) رواه مسلم .
وقال ( ( لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة ) رواه مسلم .
( شفعاء ) قال النووي : معناه لا يشفعون يوم القيامة حين يشفع المؤمنون في إخوانهم الذين استوجبوا النار .
( ولا شهداء ) فيه ثلاثة اقوال اصحها وأشهرها لا يكونون شهداء يوم القيامة على الأمم بتبليغ رسلهم إليهم الرسالات ، والثاني : لا يكونون شهداء في الدنيا أي لا تقبل شهادتهم لفسقهم ، والثالث : لا يرزقون الشهادة وهي القتل في سبيل الله .
وفي حديث الباب ( لعن المؤمن كقتله ) .
وقال ( ( إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء ، فتغلق أبواب السماء دونها ، ثم تهبط إلى الأرض ، فتغلق أبوابها ثم تأخذ يميناً وشمالاً ، فإذا لم تجد مساغاً رجعت إلى قائلها ) رواه أبو داود .
معنى قوله ( لعن المؤمن كقتله ) قيل : لأن القاتل يقطعه عن منافع الدنيا وهذا يقطعه عن نعيم الآخرة ورحمة الله تعالى .
وقيل : معنى لعن المؤمن كقتله أي في الإثم ، قال النووي : " وهذا أظهر " .
أقسام اللعن :
أولاً : لعن المسلم المصون .
حرام بالإجماع . للأدلة الكثيرة التي سبقت التي تدل على تحريم ذلك .
ثانياً : لعن المسلم الفاسق .
هذا لا يجوز لعنه وحكي في ذلك الاتفاق .
ولهذا نهى النبي ( عن لعن عبد الله بن حمار الذي كان يشرب الخمر ، فعن عمر ( أن رجلاً كان على عهد رسول الله ( كان اسمه : عبدالله ، وكان يلقب حماراً ، وكان يُضحك رسول الله ( ، وكان النبي ( قد جلده في الشراب ، فأتي به ، فقال النبي ( : لا تلعنوه ، فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله ) رواه البخاري .
ثالثاً : اللعن بالأوصاف العامة .
مثل : لعنة الله على الظالمين ، لعنة الله على الكافرين .
هذا جائز بالإجماع .
قال تعالى ( فلعنة الله على الكافرين ) وقال تعالى ( لعنة الله على الظالمين ) وقال تعالى ( لعنة الله على الكاذبين ) .(7/91)
رابعاً : لعن الكافر المعين الذي مات على الكفر .
مثل فرعون ، وأبي جهل .
فهذا جائز بالإجماع .
قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) .
خامساً : لعن الكافر المعين الحي .
فهذا مما اختلف فيه العلماء على قولين :
القول الأول : منع لعنه .
قالوا : ربما يسلم هذا الكافر فيموت مقرباً عند الله ، ورجح هذا النووي .
القول الثاني :جواز لعنه .
ورجحه ابن العربي المالكي .
واستدلوا بقصة الرجل الذي كان يؤتى به سكران فيحده : ( فقال رجل: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به؟ فقال رسول الله (: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله ) رواه البخاري .
قالوا : فدل على أن من لا يحب الله ورسوله يلعن .
والذي يظهر - والله أعلم - جواز لعنه - خاصة إذا كان ممن يؤذي المسلمين .
قوله ( ومن ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة ) فيه تحريم ادعاء الإنسان ما ليس فيه .
قال القاضي عياض : " هو عام في كل دعوى يتشبع بها المرء بما لم يعط من مال يختال في التجمل به من غيره ، أو نسب ينتمي إليه ، أو علم يتحلى به ، وليس هو من جملته ، أو دين يظهره ، وليس هو من أهله ، فقد أعلم ( أنه غير مبارك له في دعواه ، ولا زاك ما اكتسبه ، ومثله الحديث الآخر ( اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ) " .
2- فيه أن الجزاء من جنس العمل .
3- التحذير من أن يتشبع الإنسان بما لم يعط .
بَابُ النَّذْرِ
مقدمه :
تعريفه :
لغة : الإيجاب .
وشرعاً : إلزام المكلف نفسه شيئاً يملكه غير محال .
( إلزام مكلف ) : أي البالغ العاقل .
[ يملكه ) فإن نذر شيئاً لا يملكه لا يلزمه الوفاء .(7/92)
365- عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ( قَالَ : (( قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً - وَفِي رِوَايَةٍ : يَوْماً - فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ؟ قَالَ : فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
قلت يا رسول الله : جاء في رواية أن سؤال عمر للنبي ( كان بالجعرانة .
كنت نذرت في الجاهلية : جاء في رواية عند مسلم ( فلما أسلمت سألت ) .
في المسجد الحرام : جاء في رواية ( عند الكعبة ) .
الفوائد :
الحديث سبق شرحه في كتاب الصيام : ومن مباحثه :
1- حكم نذر الكافر ، اختلف العلماء في حكم نذر الكافر على قولين :
القول الأول : أنه لا يصح .
وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك .
القول الثاني : أنه يصح .
وهذا قول أبو ثور والبخاري .
لحديث الباب .
وهذا هو الصحيح ، فإذا نذر الكافر حال كفره ، فإن وفى به حال كفره برئت ذمته ، وإن لم يف لزمه أن يوفي به بعد إسلامه .
2- وجوب الوفاء بالنذر إذا كان طاعة .
لقوله ( أوف بنذرك ) وهذا أمر .
وقال ( ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ) رواه البخاري .
وعن ثابت بن الضحاك قال ( نذر رجل على عهد النبي ( أن ينحر إبلاً ببوانة ، فأتى النبي ( ، فقال : إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة ، فقال النبي ( : هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ فقالوا : لا ، فقال النبي ( : أوف بنذرك ) رواه أبو داود .
والنذر قسمان :
طاعة : فهذا يجب الوفاء به للأدلة السابقة .
مثال : لله نذر أن أصوم أسبوعاً .
نذر معصية : فهذا لا يجب الوفاء به بالإجماع .
لقوله ( ( من نذر أن يعصي الله فلا يعصه ) رواه البخاري .
لكن اختلفوا هل عليه كفارة يمين أم لا ؟
فقيل : يلزمه كفارة يمين .
وهذا مذهب الحنابلة .
لحديث عائشة . أن النبي ( قال ( لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين ) رواه أبو داود .
وقيل : لا تلزمه كفارة .(7/93)
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لحديث عائشة ( من نذر أن يعصي الله فلا يعصه ) .
قالوا : لو كانت الكفارة واجبة لذكرها النبي ( فدل ذلك على عدم وجوبها .
فائدة :إذا نذر صيام شهر :
أولاً : من نذر صيام شهر معين .
كأن يقول : لله نذر أن أصوم شهر شعبان ، فهنا يلزمه التتابع ، لأن التعيين يدل على التتابع .
ثانياً : من نذر صيام شهر غير معين .
كأن يقول : لله عليّ نذر صيام شهر ، ولم يعين ، فلم يقل محرماً أو صفراً مثلاً ، فهذه فيها قولان للعلماء :
قيل : يلزمه التتابع .
وقيل : لا يلزمه إلا بأمرين : النية - أو الاشتراط .
وهذا القول هو الصحيح .
لقوله تعالى في الكفارة (فصيام شهرين متتابعين) فلو كان إطلاق الشهر يقتضي التتابع لما احتيج أن يقيده الله تعالى بالتتابع .
3- استدل بحديث الباب من قال : إنه لا يشترط للاعتكاف صوم ، وهذا القول هو الصحيح وهو مذهب الشافعي ، لأن الليل ليس محلاً للاعتكاف [ وقد سبقت المسألة في كتاب الصيام ] .
4- استدل بالحديث من قال إن أقل الاعتكاف يوم وليلة ، وهذا مسألة اختلف العلماء فيها : ما أقل الاعتكاف ؟
فقيل : أقله يوم وليلة .
وهذا مذهب المالكية .
لحديث الباب .
وقيل : أقله عشرة أيام .
لأن النبي ( اعتكف العشر الأواخر من رمضان .
وهذا قول ضعيف ، لأنه ثبت أن النبي ( اعتكف أكثر من ذلك .
وحديث الباب يرد عليه .
وقيل : أقل مدته لحظة .
وهذا قول أكثر العلماء .
قالوا : لأن الاعتكاف في لغة العرب هو الإقامة ، فكل إقامة في المسجد بنية الاعتكاف تعتبر اعتكاف .
والراجح :
5- مشروعية الاعتكاف .
6- وجوف الوفاء بالنذر إذا كان طاعة .
7- أن الاعتكاف عبادة لله .
366 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ ( (( أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذْرِ , وَقَالَ : إنَّ النَّذْرَ لا يَأْتِي بِخَيْرٍ . وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ )) .(7/94)
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
نهى : النهي طلب الكف على وجه الاستعلاء .
الفوائد :
1- في الحديث نهي النبي ( عن النذر ، وقد اختلف في هذا النهي هل هو للتحريم أو للكراهة على أقوال :
القول الأول : أنه نهي تحريم .
وهذا اختيار ابن تيمية ، ورجحه الصنعاني في سبل السلام .
لحديث الباب حيث نهى النبي ( عنه ، والأصل في النهي التحريم .
ولقوله ( ( لا تنذروا ) رواه مسلم .
ويؤيد ذلك قوله ( ( إنه لا يأتي بخير ) .
القول الثاني : أنه مكروه .
وهو مذهب الجمهور .
قالوا : إن النبي ( نهى عن النذر ، وهذا النهي للتحريم ، والصارف للكراهة قالوا : بأن الله تعالى مدح الذين يوفون بالنذر فقال تعالى ( يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً ) ، فهذا صارف من التحريم إلى الكراهة .
القول الثالث : أنه مستحب ، والمنهي عنه هو نذر المجازاة .
واختار هذا القول القرطبي والنووي .
ونذر المجازاة أن يعلق فعل الطاعة على وجود نعمة أو دفع نقمة ، كأن يقول : إن شفى الله مريضي فلله عليّ أن أصوم شهراً ، أما ما عدا ذلك فهو مستحب ، كأن يقول : لله عليّ نذر أن أصوم شهراً .
قالوا : إنه مستحب لأن الإنسان يؤكد الطاعة على نفسه فيكون بذلك مستحباً ، بخلاف المجازاة فهو مكروه .
وهذا القول قوي .
2- في الحديث الحكمة من النهي عن النذر .
فقد ذكر النبي ( ( إنما يستخرج به من البخيل ) .
ومعنى هذا الكلام : قال النووي :" معناه أنه لا يأتي بهذه القربة تطوعاً محضاً مبتدئاً ، وإنما يأتي بها في مقابلة شفاء المريض وغيره مما تعلق النذر عليه .
وهذه حال البخيل ، فإنه لا يخرج من ماله شيئاً إلا بعوض عاجل يزيد على ما أخرج غالباً " .
قوله ( لا يأتي بخير ) قال النووي : " معناه إنه لا يرد من القدر كما بينته الروايات الأخرى " .
وقد جاءت روايات توضح سبب النهي .
ففي حديث الباب ( إنما يستخرج من البخيل ) .(7/95)
وفي الصحيحين ( لا يغني من القدر شيئاً ) وفي رواية ( لا يرد من القدر شيئاً ) وفي رواية ( لا يقدم شيئاً ولا يؤخر ) .
وفي رواية ( لا يرد شيئاً ) وفي رواية ( إنه لا يقرب من ابن آدم شيئاً لم يكن الله قدره له ) .
في هذه الروايات بيان الحكمة من النهي عن النذر .
قيل : يحتمل أن يكون السبب عن النهي عن كون الناذر يصير ملتزماً له فيأتي به تكلفاً بغير نشاط .
وقيل : يحتمل أن يكون سببه كونه يأتي بالقربة التي التزمها في نذره على صورة المعاوضة للأمر الذي طلبه فينقص أجره ، وشأن العبادة أن تكون متمحضة لله تعالى .
ويحتمل : أن النهي لكونه قد يظن بعض الجهلة أن النذر يرد القدر ، ويمنع من حصول المقدر ، فنهى عنه خوفاً من جاهل يعتقد ذلك .
وهذا الصحيح ، وسياق الحديث يؤيد ذلك .
ومن الحكم التي من أجلها نهي عن النذر ؟
أن فيه تركاً للدعاء الذي أمر الله به وحث عليه .
أن كثيراً من الناس ينذرون ولا يوفون ، وهذا أمر خطير ، قال تعالى ( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا ) .
3- النهي عن النذر .
4- ذم من لا يفعل العبادة إلا بمقابل .
5- أن المكتوب سيقع سواء نذر الإنسان أم لا .
6- أن الله غني عن العوض .
7- ذم البخل .
367 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ( قَالَ : (( نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ حَافِيَةً فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا رَسُولَ اللَّهِ ( فَاسْتَفْتَيْتُهُ فَقَالَ : لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ )).
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
أن تمشي إلى بيت الله : عند مسلم ( حافية ) ، وعند أحمد وأصحاب السنن ( أن أخته نذرت أن تمشي حافية غير مختمرة ).
وعند أبي داود ( أن عقبة سأل النبي ( فقال : إن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت وشكا إليه ضعفها ) .(7/96)
لتمش ولتركب : جاء في رواية ( مرها فلتختمر ولتصم ثلاثة أيام ) .
الفوائد :
1- في هذا الحديث نذرت هذه المرأة أن تمشي إلى بيت الله الحرم حافية ، فاشتمل هذا النذر على أمرين :
الأمر الأول : أن تقصد المسجد الحرام .
الأمر الثاني : أن تذهب للمسجد الحرام حافية .
وحيث إن النذر إذا اشتمل على عبادة وعلى أمر غير عبادة ، فلكل واحد حكمه :
فنذر العبادة ( وهو قصد البيت الحرم ) يجب الوفاء به .
ونذر المباح ( أن تمشي حافية ) فإنها تكفر عن يمينها ، لأن نذر الذهاب للمسجد حافية ليس من مقصود العبادة .
ففي هذا الحديث حكم من نذر طاعة وغير طاعة :
- فما كان طاعة فإنه يجب الوفاء به .
لقوله ( ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ) رواه البخاري .
- وما كان غير طاعة [ مباح ] فهو مخير وإن تركه فعليه كفارة يمين .
كما في حديث الباب وقد جاء في رواية عند أبي داود قال النبي ( ( إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئاً ، مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام ) .
فالنذر أنواع كما تقدم :
نذر طاعة [ سبق أنه يجب الوفاء به ] .
نذر معصية [ يحرم الوفاء به ] .
نذر مباح [ كما في حديث الباب مخير بين فعله أو كفارة يمين ] .
مثال : لله علي نذر أن ألبس هذا الثوب .
فهو مخير : إن شاء لبس الثوب ، وإن شاء كفر .
نذر اللجاج والغضب .
أي النذر الذي سببه الخصومة أو المنازعة ، وهو تعليق نذره بشرط يقصد المنع منه أو الحمل عليه أو التصديق أو التكذيب .
مثال : إن فعلتُ كذا فلله علي نذر أن أصوم سنة [ فغرضه هنا أن يمنع نفسه من ذلك ]
أو الحمل عليه : كأن يقول إن لم أفعل كذا فعبيدي أحرار [ مقصوده حمل نفسه على الفعل ] .
التصديق : مثل أن يحدثنا بحديث فأقول هذا ليس بصحيح ، فقال لله علي نذر إن كان كذباً أن أصوم سنة .
التكذيب : أن يحدثه شخص بشيء فيقول أنت كذاب - إن كان ما تقوله صدقاً فعبيدي أحرار [ مقصوده هنا أن يكذب هذا الرجل ] .(7/97)
هذا النوع حكمه : يخير بين فعله أو الكفارة ، لحديث [ لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين ] .
ولأنه لم يقصد النذر .
نذر المطلق : كأن يقول : لله علي نذر ، ولم يقل صلاة أو صيام ، فهذا كفارته كفارة يمين .
2- جواز الاستنابة في الفتيا .
3- حرص السلف على الخير .
4- وجوب الوفاء بنذر الطاعة .
5- أن الله مستغن عن تعذيب الإنسان نفسه .
6- رحمة الإسلام وعدم مشقته .
7- في الحديث بعض العلل من النهي عن النذر : وهو العجز عن القيام بالمنذور .
368 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ : (( اسْتَفْتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رَسُولَ اللَّهِ ( فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ , تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : فَاقْضِهِ عَنْهَا )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
استفتى : أي سأل .
سعد بن عبادة :صحابي جليل .
الفوائد :
1- اختلف العلماء في تعيين نذر أم سعد :
فقيل : كان صوماً .
لحديث ابن عباس عند مسلم قال : ( جاء رجل فقال يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها . قال : نعم ) .
وتعقب بأنه لم يتعين أن الرجل المذكور هو سعد بن عبادة .
وقيل : كان عتقاً . قاله ابن عبد البر .
وقيل : كان نذرها صدقة .
والله أعلم .
2- إن مات وعليه نذر فإنه يقضي عنه وليه .
فإن كان النذر مالي فإنه يجب قضاؤه .
قال النووي : " قوله [ فاقضه عنها ] دليل لقضاء الحقوق الواجبة على الميت ، فأما الحقوق المالية فمجمع عليه " .
ويجب قضاء الحقوق المالية [من زكاة أو نذر أو كفارة] سواء أوصى بذلك أو لم يوص كديون الآدمي لقصة أم سعد هذه .
أما إذا كان النذر صوماً فإنه يستحب قضاؤه عن الميت استحباباً لا وجوباً .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
استحباباً لحديث ( من مات وعليه صوم صام عنه وليه ) .
لكن لا يجب لقوله تعالى ( ولا تزر وازرة وزرى أخرى ) .(7/98)
وذهب أهل الظاهر إلى الوجوب لحديث سعد هذا .
قال النووي : " حديث سعد يحمل أنه قضاه من تركتها ، أو تبرع به ، وليس في الحديث تصريح بإلزامه بذلك " .
[ وقد سبقت المسألة في كتاب الصيام ] .
3- وجوب الوفاء بالنذر .
4- فضل بر الوالدين .
5- استفتاء الأعلم .
6- فضل بر الوالدين بعد الوفاة والتوصل إلى براءة ما في ذمتهم .
369 - عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ( قَالَ : (( قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنَّ مِنْ تَوْبَتِي : أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي , صَدَقَةً إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
أن أنخلع : أي أعري من مالي كما يعرى الإنسان إذا خلع ثيابه .
الفوائد :
1- لما تاب الله على كعب بن مالك وصاحبيه حين تخلفوا عن غزوة تبوك من غير مرض ولا عذر ، وصدقوا مع الله ، فأنزل الله توبتهم ، أراد كعب - فرحاً وسروراً بهذه النعمة العظيمة - أن يتصدق بماله لله عز وجل ، فقال له النبي ( أمسك بعض مالك فهو خير لك .
2- وقد اختلف العلماء لو نذر الإنسان التصدق بكل ماله ماذا عليه على أقوال :
القول الأول : يجزىء الثلث .
وهذا مذهب مالك وأحمد .
لقصة أبي لبابة ، فإنه قال للنبي ( ( إن من توبة الله عليّ أن أنخلع من مالي صدقة لله تعالى ، فقال النبي ( : يجزىء عنك الثلث ) رواه أحمد .
ولحديث الباب ( أمسك عليك بعض مالك ) .
وقد جاء عند أبي داود ( إن من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي كله إلى الله ورسوله صدقة ؟ قال : لا ، قلت : فنصفه ؟ قال : لا ، قلت : فثلثه ؟ قال : نعم ) .
القول الثاني : يجب أن يخرج جميع ماله .
لأن أبا بكر أنفق جميع ماله وأقره النبي ( .
القول الثالث : إن كان ملياً لزمه وإن كان فقيراً فعليه كفارة يمين .
وهذا قول الليث .
القول الرابع : لا يلزمه شيء .(7/99)
القول الخامس : يلزمه كفارة يمين .
وهذا قول الثوري والأوزاعي .
والراجح - والله أعلم - أن ذلك يرجع إلى اختلاف الأحوال :
فمن كان قوياً على ذلك يعلم من نفسه الصبر لم يمنع ، وعليه يتنزل فعل أبي بكر الصديق ، وإيثار الأنصار على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة .
ومن لم يكن كذلك فلا ، وعليه يتنزل : قوله ( ( لا صدقة إلا عن ظهر غنى ) وقوله ( ( أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى ) .
3- مشروعية شكر نعمة الله تعالى بالقيام بعبادة أو صوم أو صدقة أو قيام .
( فقد كان النبي ( يقوم الليل حتى تتفطر قدماه ، فتقول له عائشة ؟ لم تفعل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك ؟ قال : أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً ) .
( وكان ( إذا جاءه أمر يسره خر ساجداً لله تعالى ) رواه أبو داود .
4- استشارة أهل العلم .
5- فضل الصدق مع الله .
6- فضل كعب بن مالك .
7- حرص الصحابة على الخير وحبهم له .
8- إيمان الصحابة القوي حيث أراد أن يتبرع بجميع ماله ، وهذا يدل على قوة إيمانهم ويقينهم بالله تعالى .
??
??
??
??
10
11(7/100)
بسم الله الرحمن الرحيم
( 8 )
إيقاظ الأفهام
في شرح
عمدة الأحكام
كتاب القضاء - كتاب الأطعمة
كتاب الصيد- كتاب الأشربة
كتاب اللباس - كتاب الجهاد
كتاب العتق
بقلم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية / رفحاء
الموقع على الإنترنت
www.almotaqeen.net
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد
فهذا شرح لمتن عمدة الأحكام ، قمت بشرحه لبعض الطلاب في المسجد في مدينة رفحاء ، وذكرت فيه ما يتعلق بالحديث من فوائد فقهية وغيرها ، ومن كلام أهل العلم كالإمام النووي والحافظ ابن حجر وابن قدامة وغيرهم من العلماء .
وهذه المذكرة تتضمن المذكرة الثامنة والأخيرة من هذا الشرح .
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً وعملاً صالحاً .
أخوكم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
البريد الإلكتروني
Smr898@hotmail.com
كتاب القضاء
بَابُ الْقَضَاءِ
مقدمة :
القضاء لغة : إحكام الشيء والفراغ منه .
واصطلاحاً : تبيين الحكم الشرعي والإلزام به وفصل الخصومات .
والأصل في مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) .
وقال تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ) .
وعن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله ( : ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد ) .
وأجمع المسلمون على مشروعيته .
وحكمه : فرض كفاية .
لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه .
وبعث ( علياً إلى اليمن قاضياً ، وبعث أيضاً معاذ قاضياً .
ولأنه ( تولاه بنفسه .
370 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ )) .(8/1)
وَفِي لَفْظٍ (( مَنْ عَمِلَ عَمَلاٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
من أحدث : أي ابتدع واخترع شيئاً ليس له أصل .
في أمرنا : أي ديننا وشريعتنا .
ما ليس منه : مما ينافيه ويناقضه .
فهو رد : أي مردود على صاحبه وعليه إثمه .
الفوائد :
1- هذا الحديث أصل في رد البدع المستحدثة في دين الإسلام .
قال النووي : " هذا الحديث مما ينبغي حفظه ، واستعماله في إبطال المنكرات ، وإشاعة الاستدلال به ".
وقال الشيخ الألباني : " هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام ، وهو من جوامع كلمه ( ، فإنه صريح في رد إبطال كل البدع والمحدثات " .
2- تحريم إحداث شيء في دين الله ولو عن حسن نية .
3- أن من أحدث شيئاً في دين الله فعمله هذا مردود عليه .
وقد ذكر العلماء أن العمل والعبادة لا يقبل إلا بشرطين :
الأول : الإخلاص .
لحديث : ( إنما الأعمال بالنيات ).
الثاني : المتابعة للرسول ( .
لحديث الباب .
4- خطر البدع والإحداث في الدين .
لأن البدع تستلزم أن الشريعة غير كاملة ، وأنها لم تتم والعياذ بالله ، وهذا تكذيب للقرآن .
قال تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... ) فهذه الآية الكريمة تدل على تمام الشريعة وكمالها ، وكفايتها لكل ما يحتاجه الخلق .
قال ابن كثير : " هذه أكبر نعم الله على هذه الأمة ، حيث أكمل تعالى لهم دينهم ، فلا يحتاجون إلى دين غيره ".
5- أن ديننا كامل فلا يحتاج إلى من يكمله .
قال تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... ) .
وعن أبي ذر قال : ( تركنا رسول الله ( ما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكر لنا فيه علماً ، قال ( : ما بقي شيء يقرب إلى الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم ). رواه الطبراني(8/2)
قال ابن الماجشون : " سمعت مالكاً يقول : من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة ، فقد زعم أن محمداً خان الرسالة ، لأن الله يقول : اليوم أكملت لكم دينكم ، فما لم يكن يؤمئذ ديناً ، فلا يكون اليوم ديناً ".
6- جاءت نصوص كثيرة في التحذير من البدع وأنها ضلال .
كحديث الباب .
وقوله : ( إياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ). رواه أبو داود
7- وجوب معرفه نسان البدع للتحذير منها والتنفير عنها .
قال الشاعر :
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الخير من الشر يقع فيه
8- أن البدع أحب إلى إبليس من المعصية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " إن أهل البدع شر من أهل المعاصي الشهوانية بالسنة والإجماع " .
371 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (( دَخَلَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ - امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ - عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ( فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ , لا يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ , إلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ . فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
رجل شحيح : أي بخيل .
من جناح : من إثم .
الفوائد :
1- وجوب إنفاق الزوج على زوجته .
قال ابن قدامة : " نفقة الزوجة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع " .
قال تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) . من قدر عليه رزقه : أي ضيق عليه .(8/3)
وقال ( : ( اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم ، أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) . رواه مسلم
ولحديث الباب .
وأما الإجماع فاتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين إلا الناشزين ، ذكره ابن المنذر وغيره .
2- أن نفقة الزوجة مقدرة بالكفاية لا بالأمداد ، لقوله : ( بالمعروف ) .
وهذا مذهب الجماهير من العلماء .
لحديث الباب وفيه : ( خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ... ) .
وذهب الشافعي إلى أنها مقدرة بالأمداد ، لكن هذا قول ضعيف .
ولذا قال النووي : " وهذا الحديث - حديث هند - يرد على أصحابنا ، فإن النبي ( أمرها أن تأخذ الكفاية بالمعروف ولم يقدر لها نوعاً ولا قدراً " .
- والنفقة على الزوجة فضلها عظيم :
عن أبي مسعود قال : قال رسول الله ( : ( إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة ) . متفق عليه
وعن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله ( قال : ( إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في فيّ امرأتك ) . متفق عليه
3- أنه لا يجوز للمرأة إذا أُذن لها بالأخذ من مال زوجها للنفقة أن تأخذ ما خرج عن العادة والعرف .
4- استدل بحديث هند على جواز الحكم على الغائب .
قال ابن القيم : " ولا دليل فيه ، لأن أبا سفيان كان حاضراً في البلد لم يكن مسافراً ، والنبي ( لم يسألها البينة ولا يُعطى المدعي بمجرد دعواه ، وإنما كان هذا فتوى منه ( ".
5- استدل بالحديث على مسألة الظفر ، وهي : أن للإنسان أن يأخذ من مال غريمه إذا ظفر به بقدر حقه الذي جحده إياه .
قال ابن القيم : " ولا يدل لثلاثة أوجه :(8/4)
أحدها : أن سبب الحق ها هنا ظاهر ، وهو الزوجية ، فلا يكون الأخذ خيانة في الظاهر ، فلا يتناوله قول النبي ( : ( أد الأمانة إلى من أئتمنك ولا تخن من خانك ) ولهذا نص أحمد على المسألتين مفرقاً بينهما فمنع من الأخذ في مسألة الظفر ، وجوّز للزوجة الأخذ ، وعمل بكلا الحديثين .
الثاني : أنه يشق على الزوجة أن ترفعه إلى الحاكم ، فيُلزمه بالإنفاق أو الفراق ، وفي ذلك مضرة عليها مع تمكنها من أخذ حقها .
الثالث : أن حقها يتجدد كل يوم ، فليس هو حقاً واحداً مستقراً يمكن أن تستدين عليه ، أو ترفعه إلى الحاكم بخلاف حق الدين " .
6- قال ابن القيم : " وفي حديث هند دليل على جواز قول الرجل في غريمه ما فيه من العيوب عند شكواه ، وأن ذلك ليس بغيبة ، ونظير ذلك قول الآخر في خصمه : يا رسول الله ، إنه فاجر ولا يبالي ما حلف به " .
7- وقال رحمه الله : " وفيه دليل على تفرد الأب بنفقة أولاده ولا يشاركه فيها الأم وهذا إجماع من العلماء إلا قول شاذ لا يلتفت إليه ، وأن على الأم من النفقة بقدر ميراثها " .
8- أن الإنفاق في الزوجية من جانب واحد للزوج على زوجها .
9- ذم الشح ، وأنه يمنع الإنسان ما وجب عليه .
10- جواز سماع كلام الأجنبية للحاجة .
372 - عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( سَمِعَ جَلَبَةَ خَصْمٍ بِبَابِ حُجْرَتِهِ , فَخَرَجَ إلَيْهِمْ , فَقَالَ : أَلا إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ , وَإِنَّمَا يَأْتِينِي الْخَصْمُ , فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ , فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ , فَأَقْضِي لَهُ . فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ نَارٍ , فَلْيَحْمِلْهَا أَوْ يَذَرْهَا )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
سمع جلبة خصم : الجَلَبة بفتح الجيم واللام ، اختلاط الأصوات .(8/5)
بباب حجرته : الحجرة المذكورة هي منزل أم سلمة ، ووقع عند مسلم : ( بباب أم سلمة ) .
أنا بشر : المراد أنه مشارك لهم في أصل الخلقة ، أي كواحد من البشر في عدم علم الغيب .
فلعل : بمعنى عسى .
أبلغ : أي أبلغ في حجته من الآخر .
فأحسب أنه صادق : في الكلام حذف تقديره : ( وهو في الباطن كاذب ) .
فأقضي له : في رواية : ( فأقضي له على نحو ما سمعت ) .
قطعة من النار : إن أخذها على علمه بأنها حرام عليه دخل النار .
( فليحملها أو يذرها : أي يتركها و [ أو ] ليست للتخيير ، وإنما هي للتهديد ، كقوله تعالى : ( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) .
الفوائد :
1- أن القاضي يقضي على حسب ما سمع .
2- أن القاضي لا يجوز له أن يقضي بعلمه ، وهذه مسألة اختلف العلماء فيها على قولين :
القول الأول : لا يجوز أن يقضي بعلمه .
وهذا قول مالك وأحمد .
لقوله ( في حديث الباب : ( فأقضي له نحو ما أسمع ) فدل على أنه يقضي فيما يسمع لا فيما يعلم .
القول الثاني : يجوز ذلك .
وهو قول أبي يوسف وأبي ثور واختاره المزني .
لأن النبي ( قال لهند : ( خذي ما يكفيك ... ) فحكم لها من غير بينة ولا إقرار لعلمه بصدقها .
والراجح الأول .
قال ابن قدامة : " فأما حديث أبي سفيان فلا حجة فيه لأنه فتيا لا حكم ، بدليل أن النبي ( أفتى في حق أبي سفيان من غير حضوره ، ولو كان حكماً عليه لم يحكم عليه في غيبته " .
3- أن حكم القاضي لا يحلل حراماً ولا يحرم حلالاً .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
وعلى هذا فيكون قضاء القاضي نافذاً ظاهراً لا باطناً .
وجه الدلالة : لأنه توعد من حكم له بأنه يقتطع له قطعة من نار .
4- عقوبة من أخذ مالاً بدون حق أنه يقتطع قطعة من النار .
5- أن الرسول ( لا يعلم الغيب .
قال تعالى : ( وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ) .(8/6)
6- أن الرسول ( بشر ، يصيبه ما يصيب البشر من الأمراض والمصائب والموت والجوع .
لكن اختص هو وبقية الأنبياء بخصائص منها :
الوحي - يدفنون حيث يموتون - أحياء في قبورهم - يخيرون عند موتهم - لا تأكل الأرض أجسادهم .
7- موعظة الإمام الخصوم وتذكيرهم بعذاب الله .
373- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنهما قَالَ : (( كَتَبَ أَبِي - أَوْ كَتَبْتُ لَهُ - إلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ وَهُوَ قَاضٍ بِسِجِسْتَانَ : أَنْ لا تَحْكُمْ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ . فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ( يَقُولُ : لا يَحْكُمْ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ )) .
وَفِي رِوَايَةٍ : (( لا يَقْضِيَنَّ حَاكِمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
سجستان : بكسر السين ، وهي جهة الهند .
حَكَم : بفتح الحاء ، هو الحاكم .
الفوائد :
1- في الحديث أدب من آداب القاضي ، وهو نهيه أن يحكم وهو غضبان .
وقد اختلف في النهي هل هو للتحريم أو للكراهة ؟
والراجح أنه للتحريم .
قال في المغني : " لا خلاف بين أهل العلم فيما علمناه في أن القاضي لا ينبغي له أن يقضي وهو غضبان " .
2- الحكمة من النهي :
قال ابن دقيق العيد : " فيه النهي عن الحكم حالة الغضب ، لما يحصل بسببه من التغير الذي يختل به النظر فلا يحصل استيفاء الحكم على الوجه " .
قال : " وعداه الفقهاء بهذا المعنى إلى كل ما يحصل به تغير الفكر كالجوع والعطش المفرطين وغلبة النعاس وسائر ما يتعلق به القلب تعلقاً يشغله عن استيفاء النظر " .(8/7)
قال ابن قدامة : " وفي معنى الغضب كلما شغل فكره من الجوع المفرط والعطش الشديد والجوع المزعج ومدافعة أحد الأخبثين وشدة النعاس والهم والغم والحزن والفرح ، فهذه كلها تمنع الحاكم لأنها تمنع حضور القلب واستيفاء الفكر الذي يتوصل به إلى إصابة الحق في الغالب ، فهي بمعنى الغضب المنصوص عليه فتجري مجراه " .
3- لو خالف القاضي وحكم وهو غضبان :
فقيل : لا ينفذ قضاؤه .
لأنه منهي عنه ، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه .
وقيل : يصح إن صادف الحق مع الكراهة .
وهذا قول الجمهور .
قال النووي في حديث اللقطة : " فيه جواز الفتوى في حال الغضب ، وكذلك الحكم ، وينفذ ولكنه مع الكراهة في حقنا ولا يكره في حقه ( لأنه لا يخاف عليه في الغضب ما يخاف على غيره " .
وبعضهم استدل أنه ( قضى للزبير بشراح الحرة بعد أن أغضبه خصم الزبير .
قال الحافظ : " لكن لا حجة فيه لرفع الكراهة عن غيره لعصمته ( ، فلا يقول في الغضب إلا كما يقول في الرضا " .
4- أنه ينبغي للحاكم أن يكون فارغ البال عند التحاكم .
5- حماية الشريعة للأموال والأعراض والأبدان ، لأن هذا النهي من أجل أن لا يخطئ الحاكم في حكمه ، والخطأ في حكمه يعتبر جناية على الأموال والأبدان والأعراض .
فائدة :
بعض آداب القاضي :
أولاً : ينبغي أن يكون قوياً من غير عنف ، ليناً من غير ضعف ، لا يطمع القوي في باطله ، ولا ييأس الضعيف من عدله ، ويكون حليماً متأنياً ذا فطنة وتيقظ ، لا يؤتى من غفلة ولا يخدع من غرة .
قال علي : " لا ينبغي أن يكون القاضي قاضياً حتى يكون فيه خمس خصال : عفيف ، حليم ، عالم بما كان قبله ، مستشير ذوي الألباب ، لا يخاف في الله لومة لائم " .
وقال عمر بن عبد العزيز : " ينبغي للقاضي أن تجتمع فيه سبع خلال : العقل ، والعفة ، والورع ، والنزاهة ، والصرامة ، والعلم بالسنن ، والحلم " .
ثانياً : ينبغي للقاضي أن يشاور فيما يشكل عليه .(8/8)
لقوله تعالى : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) .
وقوله تعالى : ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) .
وكان ( كثير المشاورة لأصحابه .
ثالثاً : ويجب عليه أن يعدل بين الخصمين في لحظه ولفظه . ( لحظه ) : نظره . ( لفظه ) : كلامه .
لقوله تعالى : ( وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ) .
وقد ذكر الله تعالى العدل في القرآن وحث عليه ورغب فيه وأمر به في إحدى وعشرين آية .
وقوله تعالى : ( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) .
وعن عبد الله بن عمرو أنه ( قال : ( المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وفي أهلهم ) . رواه مسلم
6- ويحرم على القاضي أن يأخذ رشوة .
أولاً : لحديث عبد الله بن عمرو قال : ( لعن رسول الله ( الراشي والمرتشي ) . رواه الترمذي
ورواه أبو هريرة وزاد : ( في الحكم ) .
ثانياً : أن فيها فساد الخلق .
ثالثاً : أنها سبب لتغيير حكم الله .
رابعاً : أن فيها ظلماً وجوراً .
خامساً : أن فيها أكلاً للمال الباطل .
سادساً : أن في الرشوة ضياع الأمانات .
7- يحرم على القاضي أخذ الهدية .
وقد رتب بعض العلماء قبول الهدية مراتب :
أولاً : هدية من شخص يهاديه قبل ولايته وليس له حكومة ، فحكمها جائز لبعدها تماماً عن الرشوة .
ثانياً : رجل أهدى إليه هدية وليس من عادته أن يهاديه وليس له حكومة ، فالمذهب لا يجوز . وقيل : يجوز ، وهو الصحيح .
ثالثاً : أن يكون له حكومة ويهاديه ، وهو ممن جرت عادته بمهاداته من قبل ، هذا لا يجوز .(8/9)
374 - عَنْ أَبِي بَكْرَةَ ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ؟ - ثَلاثَاً - قُلْنَا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : الإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَكَانَ مُتَّكِئاً فَجَلَسَ , وَقَالَ : أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ , وَشَهَادَةُ الزُّورِ , فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا : لَيْتَهُ سَكَتَ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
الإشراك بالله : الشرك هو تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله .
عقوق الوالدين : العقوق المراد به صدور ما يتأذى به الوالد من ولده من قول أو فعل .
شهادة الزور : الزور مأخوذ من الإزورار ، وهو الانحراف ، وشهادة الزور كل ما خالف الحق .
الفوائد :
1- أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
ويدل عليه قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) .
واختلف في حد الكبيرة :
فقيل : كل ما فيه حد ، وهذا ضعيف .
وقيل : ما سماه الله في القرآن كبيراً أو عظيماً ، وهذا فيه ضعف .
وقيل : الكبائر ما فيه من المظالم بينك وبين العباد .
وقيل : الكبائر : ذنوب العمد ، والسيئات : الخطأ والنسيان ، قال ابن القيم : " هذا من أضعف الأقوال .
وقيل : الكبائر ما يستصغره العباد ، والصغائر ما يستعظمونه .
وأحسن تعريف ما ذكره ابن تيمية رحمه الله : " أنها ما فيها حد في الدنيا ، أو وعيد في الآخرة ، أو ختم بلعنة أو غضب أو نفي إيمان أو نفي دخول الجنة " .
2- أن الكبائر بعضها أشد من بعض .
3- أن أكبر الكبائر وأعظمها الإشراك بالله .
فصاحبه في النار مخلد إذا لم يتب ، قال تعالى : ( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ) .(8/10)
وهو محبط للعمل ، قال تعالى : ( وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) .
4- تحريم عقوق الوالدين .
وقد قال تعالى : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ) .
وقال ( : ( لا يدخل الجنة عاق ) . رواه أحمد
5- وجوب الإحسان إلى الوالدين .
6- تحريم شهادة الزور .
قال الذهبي في كتابه الكبائر : " شاهد الزور قد ارتكب عظائم : أحدها : الكذب والافتراء ، والله يقول : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) . وثانيها : أنه ظلم الذي شهد عليه حتى أخذ بشهادته ماله وعرضه وروحه . وثالثها : أنه ظلم الذي شهد له ، بأن ساق إليه المال الحرام فأخذه بشهادته ووجبت له النار . رابعها : أنه أباح ما حرم الله وعظمه من المال والدم والعرض .
مثال : رجل ادعى على شخص بألف ريال ، وأقام شاهداً ، والشاهد يعلم أن المدعي كاذب ، ولكنه شهد ، لأن المدعي صاحب له ، فالشهادة هنا شهادة زور ، لأنه شهد بما يعلم أنه باطل .
7- أن شهادة الزور من أكبر الكبائر .
8- أن الإنسان لا يجوز أن يشهد إلا بما سمع أو رأى .
9- اهتم النبي ( بشهادة الزور لأن الناس يتساهلون بها .
375 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : أَنَّ النَّبِيَّ ( قَالَ : (( لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ , وَلَكِنْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ )) .
--------------------------------------------
جاء في رواية عند البيهقي بسند صحيح : ( البينة على المدعي واليمين على من أنكر ) .
معاني الكلمات :
لو يعطى الناس : ما ادعوا أنه حقهم وطالبوا به .
بدعواهم : أي بمجرد قولهم وطلبهم دون ما يثبت ذلك .
لادعى رجال : أي لاستباح وتجرأ بعض الناس دماء غيرهم وأموالهم .
البينة : كل ما يبين الحق من الشهود وغيرهم .
الفوائد :(8/11)
1- قال النووي : " هذا الحديث قاعدة كبيرة من قواعد أحكام الشرع ، ففيه أنه لا يقبل قول الإنسان فيما يدعيه بمجرد دعواه ، بل يحتاج إلى بينة أو تصديق المدعى عليه ... وقد بين ( الحكمة في كونه لا يعطى بمجرد دعواه ، لأنه لو كان أعطى بمجردها لادعى قوم دماء قوم وأموالهم واستبيح ، ولا يمكن المدعى عليه أن يصون ماله ودمه ، وأما المدعي فيمكن صيانتها بالبينة .
2- حرص الإسلام على حفظ الحقوق .
3- قال الشيخ السعدي رحمه الله : " هذا الحديث عظيم القدر ، وهو أصل من أصول القضايا والأحكام ، فإن القضاء بين الناس إنما يكون عند التنازع ، هذا يدعي على هذا حقاً من الحقوق ، فينكره ، وهذا يدعي براءته من الحق الذي كان ثابتاً عليه ، فبين ( أصلاً يفض نزاعهم ، ويتضح به المحق من المبطل ، فمن ادعى عيناً من الأعيان ، أو ديناً ، أو حقاً من الحقوق وتوابعها على غيره ، وأنكره ذلك الغير ، فالأصل مع المنكر .
فهذا المدعي إن أتى ببينة تثبت ذلك الحق ، ثبت له ، وحُكمَ له به ، وإن لم يأت ببينة ، فليس له على الآخر إلا اليمين " .
4- أن البينة على المدعي ، أي يقيم المطالب الدليل على صدقه ويُظهر الحجة ، ومن البينة الشهود الذين يشهدون على صدقه .
ويشترط في الشهود :
البلوغ - والعقل - والكلام - والإسلام - والعدالة .
ويكون في الزنا : أربعة رجال ولا يقبل فيها النساء .
وفي النكاح والطلاق والرجعة وبقية الحدود : اثنان .
وفي الأموال وما يقصد به المال كالبيع والأجل : رجلان أو رجل وامرأتان .
الرضاع والولادة والبكارة ، ومثل هذه الأمور التي لا يطلع عليها الرجال : تقبل شهادة امرأة واحدة .
- والحكمة في كون البينة على المدعي :
لأنه يدعي أمراً خفياً بحاجة إلى إظهار ، والبينة دليل قوي لإظهار ذلك .
5- أنه إذا لم يجد المدعي بينة ولا شهوداً ، فإن القاضي يطلب من المدعَى عليه أن يحلف أن ما ادعاه عليه المدعي غير صحيح ويكون الحكم له بيمينه .(8/12)
ويجب الحذر من الأيمان الكاذبة ، فقد جاء الوعيد في ذلك :
قال ( ( من اقتطع حق امرىء مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة ، قيل : يا رسول الله وإن كان شيئاً يسيراً ، قال : وإن كان قضيباً من أراك ) متفق عليه .
6- بين ( في هذا الحديث الحكم ، وبين الحكمة في هذه الشريعة الكلية ، وأنها عين صلاح العباد في دينهم ودنياهم ، وأنه لو يعطى الناس بدعواهم لكثر الشر والفساد ، ولادعى رجال دماء قوم وأموالهم .
7- البدء بالمدعي في الحكم .
8- أن الشريعة جاءت لحماية أموال الناس ودماءهم .
9- حب النفوس للمال .
10- يجب على القاضي أن يحكم بالعدل .
كِتَابُ الأَطْعِمَةِ
مقدمة :
الأطعمة : جمع طعام .
وهو يطلق على ما يؤكل وما يشرب ، قال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ) .
وقال ( في ماء زمزم : ( إنها طعام طعم ) .
والأصل في الأطعمة الحل .
قال تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) .
فهذه الآية نص الدليل القطعي على القاعدة المعروفة عند الفقهاء : [ أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة ] والمراد بالإباحة الانتفاع بها أكلاً وشرباً ولباساً وتداوياً وركوباً وزينة .
وقال تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) .(8/13)
376 - عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ( قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ( يَقُولُ - وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إلَى أُذُنَيْهِ - : (( إنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ , وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ , لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ , فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ : اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ : وَقَعَ فِي الْحَرَامِ , كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ , أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ , أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ . أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ ))
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
بيّن : ظاهر .
مشتبهات : جمع مشتبه ، وهي المشكل لما فيه من عدم الوضوح في الحل أو الحرمة .
لا يعلمهن : لا يعلم حكمها .
اتقى الشبهات : ابتعد عنها .
لدينه : أي عن النقص .
الحمى : المحمي .
يرتع : أي تأكل ماشيته منه .
محارمه : المعاصي .
الفوائد :
1- قسم النبي عليه الصلاة والسلام الأمور إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : حلال واضح لا يخفى حله .…
كأكل الخبز ، والمشي .
القسم الثاني : حرام واضح .
كالخمر والزنا والغيبة .
القسم الثالث : مشتبه : يعني ليست بواضحة الحل أو الحرمة .
فهذه لا يعرفها كثير من الناس ، أما العلماء فيعرفون حكمها بنص أو قياس .
فهذه الأفضل والورع تركها والابتعاد عنها ، لماذا ؟
لأن ذلك أسلم وابرأ لدينه من النقص ، وعرضه من الكلام فيه .
2- أن من يقع في الشبهات يقع في الحرام لقوله ( : ( من وقع في الشبهات وقع في الحرام ) .
أي من أقدم على ما هو مشتبه عنده ، لا يدري أهو حلال أو حرام ، فإنه لا يأمن أن يكون حراماً في نفس الأمر فيصادف الحرام وهو لا يدري أنه حرام .(8/14)
3- شبه النبي ( الذي يقع في الشبهات بالراعي يرعى بغنمه وإبله حول الحمى ، أي حول المكان المحمي ، يوشك ويقرب أن يقع فيه ، لأن البهائم إذا رأت الأرض المحمية مخضرة مملوءة من العشب فسوف تدخل هذه القطعة المحمية ، كذلك المشتبهات إذا حام حولها العبد فإنه يصعب عليه أن يمنع نفسه عنها .
4- من أسباب النجاة من الوقوع في الحرام الورع والابتعاد عن الشبهات ، وللورع فضائل :
أولاً : أنه سبب لاستبراء العرض والدين .
كما في حديث : ( من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ) .
ثانياً : أنه خير خصال الدين :
قال ( : ( وخير دينكم الورع ) رواه الحاكم .
ثالثاً : من علامات العبادة .
قال ( : ( كن ورعاً تكن أعبد الناس ) رواه الترمذي .
رابعاً : أنه من هدي النبي ( وخلقه .
عن أنس : ( أن النبي ( وجد تمرة في الطريق فقال : لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها ) متفق عليه .
خامساً : أنه سبب للنجاة .
كما في حديث : ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) .
قال أبو الدرداء : " تمام التقوى أن يتقي العبد ربه ، حتى يتقيه من مثقال ذرة " .
وقال الحسن البصري : " ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الوقوع بالحرام ".
وقال الثوري : " إنما سموا متقين ، لأنهم اتقوا ما لا يتقى " .
5- فضل الورع .
6- الاحتياط براءة للدين والعرض .
7- حكمة الله في ذكر المشتبهات حتى يتبين من كان حريصاً على طلب العلم ومن ليس بحريص .
8- أنه لا يمكن أن يكون في الشريعة ما لا يعلمه الناس كلهم .
9- حسن تعليم النبي ( بضرب الأمثال المحسوسة ليتبين بها المعاني المعقولة .
10- يجب على الإنسان أن يهتم بقلبه ، لأن مدار الصلاح والفساد عليه ، فإذا صلح صلح سائر الجسد وإذا فسد فسد سائر الجسد .
وسمي القلب قلباً : لتقلبه في الأمور ، أو لأنه خالص ما في البدن .
مسائل القلب :
أولاً : يجب دعاء الله بإصلاحه وتثبيته .(8/15)
وقد كان ( يدعو : ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك ) .
وكان قسم النبي ( : ( لا ، ومقلب القلوب ) .
ثانياً : التحذير من التساهل في أمر القلب .
قال ( : ( إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ) رواه مسلم .
ثالثاً : لا ينفع يوم القيامة إلا القلب السليم .
قال تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) .
القلب السليم : هو السالم من الشرك والبدعة والآفات والمكروهات ، وليس فيه إلا محبة الله وخشيته .
رابعاً : استحباب الدعاء بسلامة القلب .
كان ( يقول ( اللهم إني أسألك قلباً سليماً .. ) رواه أحمد .
خامساً : أهم سبب لحياة القلب الاستجابة لله ولرسوله .
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) .
سادساً : من أسباب لين القلب ذكر الله .
قال تعالى : ( أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) .
سابعاً : ومن أسباب لين القلب العطف على المسكين .
فقد جاء رجل إلى النبي ( يشكو قسوة قلبه ؟ فقال له الرسول ( : ( إذا أحببت أن يلين قلبك فامسح راس اليتيم وأطعم المسكين ) رواه أحمد .
ثامناً : ومن أسباب رقة القلب زيارة المقابر .
قال ( : ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة ، وترق القلب ) رواه أحمد .
تاسعاً : التحذير من قسوة القلب .
قال تعالى : ( فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) .
عاشراً : إذا صلح القلب صلح الجسد .
كما في حديث الباب .
من أقوال السلف :
قال بعض السلف : " خصلتان تقسيان القلب : كثرة الكلام ، وكثرة الأكل ".
وقال بعضهم : " البدن إذا عري رق ، وكذلك القلب إذا قلت خطاياه أسرعت دمعته " .(8/16)
قال ابن القيم : " مفسدات القلب : كثرة النوم ، والتمني ، والتعلق بغير الله ، والشبع ، والمنام " .
قال بعض العلماء : " صلاح القلب بخمسة أشياء : قراءة القرآن بتدبر ، وخلاء البطن ، وقيام الليل ، والتضرع بالسحر ، ومجالسة الصالحين ، وأكل الحلال " .
377 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : (( أَنْفَجْنَا أَرْنَباً بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فَسَعَى الْقَوْمُ فَلَغَبُوا , وَأَدْرَكْتُهَا فَأَخَذْتُهَا فَأَتَيْتُ بِهَا أَبَا طَلْحَةَ , فَذَبَحَهَا وَبَعَثَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ( بِوَرِكِهَا وَفَخِذَيْهَا . فَقَبِلَهُ )) . لَغَبُوا : أَعيَوْا . أهـ
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
أنفَجنا : أي أثرنا .
بمر الظهران : بفتح الميم وتشديد الراء ، موضع على مرحلة من مكة .
لغبوا : تعبوا .
فقبله : أي الهدية ، جاء في رواية : ( فأكل منه ) .
الفوائد :
1- الحديث دليل على جواز أكل الأرنب .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
وحديث الباب نص في الباب .
وكرهها عبد الله بن عمر من الصحابة ، وعكرمة من التابعين .
واستدلوا بما رواه ابن ماجه عن خزيمة بن جزء : ( قلت : يا رسول الله ، ما تقول في الأرنب ؟ قال : لا آكله ولا أحرمه ، قلت : فإني آكل مما لم تحرم ؟ ولم يا رسول الله ؟ قال : نبئت أنها تدمي ) . رواه ابن ماجه
وجه الاستدلال : أنه ( لم يأكل الأرنب ، وبين السبب في ذلك وهو كونها تحيض ، فدل على كراهتها .
لكن هذا الحديث ضعيف كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري .
2- استحباب قبول الهدية قليلة كانت أو كثيرة .
3- حب الصحابة للنبي ( .
378 - عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه قَالَتْ : (( نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ( فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ )) . وَفِي رِوَايَةٍ (( وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :(8/17)
على عهد رسول الله : على زمان رسول الله .
الفوائد :
1- الحديث دليل على جواز أكل لحم الخيل .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال :
القول الأول : أنه حرام .
وهذا مذهب أبي حنيفة ، والأشهر عند مالك .
لقوله تعالى : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) .
وجه الدلالة :
- أن اللام في قوله ( لتركبوها ) للتعليل ، فدل على أنها لم تخلق لغير ذلك ، لأن العلة المنصوصة تقيد الحصر .
- عطف البغال والحمير على الخيل ، فدل على اشتراكهما معهما في حكم التحريم .
ولحديث خالد بن الوليد قال : ( غزوت مع رسول الله ( خيبر ، فأتت اليهود فشكوا أن الناس قد شرعوا إلى حظائرهم ، فقال رسول الله ( : ألا لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها ، وحرام حمر الأهلية وخيلها وبغالها وكل ذي ناب من
السباع ) . رواه أبو داود
لكن هذا الحديث شاذ منكر ، لأن سياقه أن خالد شهد خيبر وهو خطأ ، فإنه لم يسلم إلا بعدها .
وقال النووي : " واتفق العلماء من أئمة الحديث وغيرهم على أنه حديث ضعيف " .
القول الثاني : أن لحوم الخيل حلال .
وهذا مذهب الشافعية والحنابلة .
قال النووي : " قد ذكرنا أن مذهبنا أنه حلال لا كراهة فيه ، وبه قال أكثر العلماء " .
لحديث الباب ( حديث أسماء ) .
وجه الدلالة : أن ذبحهم للفرس على عهد الرسول ( وأكلهم له دليل على حله ، ويستفاد من قوله : ( ونحن بالمدينة ) أن ذلك بعد فرض الجهاد ، فيرد على من استند إلى منع أكلها بعلة أنها من آلات الجهاد ، أو أن ذلك كان في ابتداء الإسلام .
ولحديث جابر الآتي : ( ... وأذن في لحوم الخيل ) .
وهذا القول هو الصحيح أنه حلال .
وأما الجواب عن الآية :
فإنها نزلت في مكة اتفاقاً ، والإذن في أكل لحوم الخيل يوم خيبر ، كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين .(8/18)
379 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما : (( أَنَّ النَّبِيَّ ( نَهَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ ، وَأَذِنَ فِي لُحُومِ
الْخَيْلِ )) .
380 - وَلِمُسْلِمٍ وَحْدَهُ قَالَ (( أَكَلْنَا زَمَنَ خَيْبَرَ الْخَيْلَ وَحُمُرَ الْوَحْشِ , وَنَهَى النَّبِيُّ ( عَنْ الْحِمَارِ الأَهْلِيِّ )) .
381 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى ( قَالَ : (( أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ لَيَالِيَ خَيْبَرَ , فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ : وَقَعْنَا فِي الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ , فَانْتَحَرْنَاهَا فَلَمَّا غَلَتْ بِهَا الْقُدُورُ : نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ ( أَنْ أَكْفِئُوا الْقُدُورَ , وَرُبَّمَا قَالَ : وَلا تَأْكُلُوا مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ شَيْئاً )) .
382 - عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ ( قَالَ : (( حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ( لُحُومَ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
الحمر الأهلية : هي الأنسية .
زمن خيبر : عام خيبر وكان عام 7 ه .
الفوائد :
1- حل لحوم الخيل .
2- حل الحمر الوحشية .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لحديث جابر : ( أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش ) .
ولحديث أبي قتادة : قال : ( قلت : يا رسول الله ، أصبت حماراً وحشياً وعندي منه فاضلة ، فقال للقوم : كلوا ، وهم محرمون ) . متفق عليه
3- هذه الأحاديث فيها أن النبي ( نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة ، على أقوال :
القول الأول : أنه حرام .
وإليه ذهب جماهير العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة .
الأدلة :
عن ابن عمر : ( أن رسول الله ( نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية ) . متفق عليه
وعن علي بن أبي طالب : ( أن رسول الله ( نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية ) . متفق عليه(8/19)
وعن أبي أوفى قال : ( نهى النبي ( عن لحوم الحمر ) . رواه البخاري
وعن جابر قال : ( نهى النبي ( عن لحوم الحمر ورخص في لحوم الخيل ) . رواه البخاري ومسلم
وعن أنس قال : ( لما كان يوم خيبر ، أمر رسول الله ( أبا طلحة فنادى : إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس ) . متفق عليه
وجه الدلالة من هذه الأحاديث :
أن فيها النهي الصريح عن لحوم الحمر الأهلية ، والنهي يقتضي التحريم ، وفيها التصريح بأنها رجس ، والرجس النجس .
والأحاديث في هذا كثيرة ومتواترة عن رسول الله ( .
قال ابن القيم في تهذيب السنن : " أحاديث النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية رواها عن النبي ( : علي بن أبي طالب ، وجابر بن عبد الله ، والبراء بن عازب ، وابن أبي أوفى ، وأنس بن مالك ، والعرباض بن سارية ، وأبو ثعلبة الخشني ، وعبد الله بن عمرو ، وأبو سعيد الخدري ، وسلمة بن الأكوع ، والحكم بن عمرو ، والمقدام بن معد يكرب ، وأبو أمامة الباهلي ، وعبد الله بن عباس ، وثابت بن وديعة ، وأبو سليك البدري ، وزاهر الأسلمي ، وأبوهريرة ، وخالد بن الوليد " .
القول الثاني : أنها حلال .
روي ذلك عن ابن عباس وعائشة .
وروي عن مالك أنه كان يكرهها .
الأدلة :
قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ) .
وجه الدلالة : أنه تعالى لم يذكر الحمر الإنسية مع هذه المحرمات ، فتكون حلالاً ، لقوله ( : ( وما سكت عنه فهو مما عفا عنه ) .(8/20)
وعن أبي عبيد أبي الحسن عن عبد الرحمن عن غالب بن أبجر قال : ( أصابتنا سنة فلم يكن في مالي شيء أطعم أهلي إلا شيء من حمر ، وقد كان النبي ( قد حرم لحوم الحمر الأهلية ، فأتيت النبي ( فقلت : يا رسول الله ، أصابتنا السنة ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر ، وإنك حرمت لحوم الحمر الأهلية ، فقال : أطعم أهلك من سمين حمرك ، فإنما حرمتها من أجل جوال القرية ، يعني الجلالة ) . رواه أبو داود
والراجح القول الأول ، وهو أنها حرام .
أما ألإجابة عن أدلة القول الثاني :
أما الآية فيجاب عنها بأجوبة :
- أن الاستدلال إنما يتم في الأشياء التي لم يرد النص بتحريمها ، والحمر الإنسية قد تواردت النصوص على تحريمها .
- أن الآية مكية ، وأحاديث التحريم بعد الهجرة ، فالآية تذكر ما حرم حين نزولها وليس فيها ما يمنع ما سيأتي .
- أن الآية خبر عن الحكم الموجود عند نزولها ، فإنه حينئذٍ لم يكن نزل في تحريم المأكول إلا ما ذكر فيها ، وليس فيها ما يمنع أن ينزل بعد ذلك غير ما فيها وقد نزل بعدها في المدينة أحكام بتحريم أشياء غير ما ذكر فيها .
- وأما حديث غالب بن أبجر فهو حديث ضعيف والمتن شاذ لمخالفته للأحاديث الصحيحة ، قاله ابن حجر .
وقال النووي في شرح مسلم : " هذا الحديث مضطرب مختلف الإسناد شديد الاختلاف ، ولو صح حمل على الأكل منها في حال الاضطرار " .
وقال عنه النووي في المهذب : " واتفق الحفاظ على تضعيفه " .
قال الخطابي والبيهقي وغيرهما : " هو حديث مختلف في إسناده ، يعنون مضطرباً " .
قال ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود : " وقد اختلف في سبب النهي عن الحمر على أربعة أقوال ، وهي في الصحيح :(8/21)
أحدها : لأنها كانت جوال القرية ، كما في حديث غالب هذا ، وهذا قد جاء في بعض طرق حديث عبد الله بن أبي أوفى : ( أصابتنا مجاعة ليالي خيبر فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها ، فلما غلت بها القدور نادى منادي رسول الله ( أن أكفئوا القدور ولا تأكلوا من لحوم الحمر شيئاً ) فقال أناس : إنما نهى عنها رسول الله ( لأنها لم تخمس ، وقال آخرون : نهى عنها البتة لأنها كانت تأكل العذرة ، فهاتان علتان .
العلة الثالثة : حاجتهم إليها ، فنهاهم عنها إبقاء لهما ، كما في حديث ابن عمر المتفق عليه ( أن رسول الله ( نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية ) زاد من طريق آخر : ( وكان الناس قد احتاجوا إليها ) .
العلة الرابعة : أنه إنما حرمها لأنها رجس في نفسها ، وهذا أصح العلل ، فإنها هي التي ذكرها رسول الله ( بلفظه كما في الصحيحين عن أنس قال : ( لما افتتح رسول الله ( خيبر أصبنا حمراً خارجة من القرية وطبخناها ، فنادى منادي رسول الله ( : ألا إن الله ورسوله ينهيانكم عنها فإنها رجس من عمل الشيطان ) فهذا نص في سبب التحريم ، وما عدا هذه من العلل فإنما هي حدس وظن ممن قاله " .
383 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : (( دَخَلْتُ أَنَا وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ( بَيْتَ مَيْمُونَةَ , فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ فَأَهْوَى إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ( بِيَدِهِ , فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ : أَخْبِرُوا رَسُولَ اللَّهِ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ ( يَدَهُ , فَقُلْتُ : أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لا , وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي , فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ , قَالَ خَالِدٌ : فَاجْتَرَرْتُهُ , فَأَكَلْتُهُ . وَالنَّبِيُّ ( يَنْظُرُ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :(8/22)
محنوذ : أي مشوي بالحجارة المحماة .
فأهوى : جاء في رواية : ( وكان رسول الله ( قلّ ما يقدم يده لطعام حتى يسمّى له ) .
فرفع يده : أي عن الضب .
لم يكن بأرض قومي : جاء في رواية : ( هذا لحم لم آكله قط ) .
فأجدني أعافه : أي أتكره أكله .
الفوائد :
1- في الحديث جواز أكل الضب .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : تحريم أكله .
وهو قول الحنفية .
الأدلة :
ما روت عائشة - رضي الله عنها - : ( أن النبي ( أهدي له ضب فلم يأكله ، فقام عليهم سائل فأرادت أن تعطيه فقال لها النبي ( : ( أتعطين ما لا تأكلين ) .
أن الضب من جملة الممسوخ ، والممسوخ محرم ، لما روي أن رسول الله ( سئل عن الضب فقال ( : ( إن أمة مسخت في الأرض ، وإني أخاف أن يكون منها ) . رواه أحمد وأبو داود
القول الثاني : أنه حلال .
وهو قول الشافعية والحنابلة والظاهرية .
لحديث الباب .
وعن ابن عمر أن النبي ( قال : ( الضب لست آكله ولا أحرمه ) .
وفي رواية عند مسلم عن ابن عمر قال : ( سئل النبي ( عن الضب فقال : لست بآكله ولا محرمه ) .
وفي رواية عند مسلم عن ابن عمر أن رسول الله ( قال : ( كلوا فإنه حلال ، ولكنه ليس من طعامي ) .
وهذا نص صريح على عدم الحرمة الشرعية ، وإشارة إلى الكراهة الطبيعية .
وهذا القول هو الراجح .
ويجاب عما احتج به الحنفية على تحريمه بما يلي :
أولاً : أما قولهم بأن الضب من الممسوخ فقد قال الحافظ ابن حجر : " قال الطبري : ليس في الحديث الجزم بأن الضب مما مسخ ، وإنما خشي أن يكون منه فتوقف عنه ، وإنما قال ذلك قبل أن يعلم الله نبيه أن الممسوخ لا ينسل " .
ثانياً : وأما حديث عائشة فيجاب عنه : بأنه لا يتعين أن الرسول ( منع التصرف به لأجل حرمته ، بل يحتمل أن يكون ذلك من جنس ما قال الله تعالى : ( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ) .(8/23)
فأراد النبي ( ألا يكون ما يتقرب به إلى الله إلا من خير الطعام .
2- في الحديث بيان علة عدم أكل النبي ( من الضب ، وهو قوله ( : ( لم يكن بأرض قومي ) .
قال ابن حجر : "وقد ورد سبب آخر أخرجه مالك من مرسل سليمان بن يسار، فذكر نص حديث ابن عباس وفي آخره : ( قال النبي ( : كلا - يعني لخالد بن الوليد ، وعباس - فإنني يحضرني من الله حاضرة ) " .
قال المازري : " يعني الملائكة ، وكان للحم الضب ريحاً فترك أكله لأجل ريحه ، وهذا إن صح يمكن ضمه إلى الأول ويكون لتركه الأكل من الضب سببان " .
3- ذكاء ورجحان عقل ميمونة .
4- أن الطباع تختلف في النفور عن بعض المأكولات .
5- أن النبي ( كان يؤاكل أصحابه .
384 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى ( قَالَ : (( غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ( سَبْعَ غَزَوَاتٍ , نَأْكُلُ الْجَرَادَ )) .
--------------------------------------------
الفوائد :
1- الحديث دليل على حل أكل الجراد ، وهذا بالإجماع كما حكاه النووي وغيره .
وجه الدلالة : أن كون هذا الصحابي يأكل الجراد مع الرسول ( في هذه المدة المذكورة ، دليل على حل الجراد ، لأنه لو كان حراماً لبيّن النبي ( حكمه ولم يسكت عنه .
وعن ابن عباس قال : قال رسول الله ( : ( أحلت لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان : فالحوت والجراد ) . رواه أبو داود ، وقد روي مرفوعاً وموقوفاً ، والموقوف أصح وله حكم الرفع .
فهذا فيه التصريح بأن الجراد حلال .
2- ذهب جمهور العلماء إلى أنه يجوز أكل الجراد بدون ذكاة ( يجوز أكل ميتته ) .
لحديث ابن عمر السابق : ( ميتتان ... ) .
ففيه أن مما أحله الله لنا ميتتيْ السمك والجراد ، وهذا دليل على حل ميتة الجراد بدون تفصيل .(8/24)
385 - عَنْ زَهْدَمِ بْنِ مُضَرِّبٍ الْجَرْمِيِّ قَالَ : (( كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ . فَدَعَا بِمَائِدَةٍ , وَعَلَيْهَا لَحْمُ دَجَاجٍ , فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ , أَحْمَرُ , شَبِيهٌ بِالْمَوَالِي فَقَالَ : هَلُمَّ ، فَتَلَكَّأَ فَقَالَ : هَلُمَّ , فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ( يَأْكُلُ مِنْهُ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
زهدم : بفتح الزاء ، هو بن مُضَرِّب بضم أوله وتشديد الراء .
الفوائد :
1- في الحديث جواز أكل لحم الدجاج .
قال الحافظ : " وهو بالاتفاق " .
2- قال الحافظ ابن حجر : " في الحديث جواز أكل الدجاج أنسيته ووحشيته ، وهو بالاتفاق ، ... إلا أن بعضهم استثنى الجلالة ، وهي ما تأكل الأقذار ، وظاهر صنيع أبو موسى أنه لم يبالي بذلك ... وقد أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن ابن عمر أنه كان يحبس الدجاجة ثلاثاً " .
386 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ ( قَالَ : (( إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا , أَوْ يُلْعِقَهَا )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
فلا يمسح يده : قال الحافظ : " في حديث كعب بن مالك عند مسلم : ( كان رسول الله ( يأكل بثلاث أصابع فإذا فرغ لعقها ) فيحتمل أن يكون أطلق على الأصابع اليد ، ويحتمل وهو الأولى أن يكون المراد باليد الكف كلها ، فيشمل الحكم من أكل بكفه كلها أو بأصابعه فقط أو ببعضها " .
يلعقها : بفتح أوله ، أو يُلعقها بضم أوله : أي غيره .
الفوائد :
1- استحباب لعق اليد .
2- قوله : ( يلعقها أو يلعقها ) قال النووي : " معناه والله أعلم : لا يمسح يده حتى يلعقها ، فإن لم يفعل فحتى يلعقها غيره ممن لا يتقذر ذلك كزوجة وجارية وولد وخادم " .
3- جاءت في رواية علة هذا الحكم : ( إنكم لا تدرون في أيه البركة ) .(8/25)
قال النووي : " معناه والله أعلم : أن الطعام الذي يحضره الإنسان فيه بركة ، ولا يدري أن تلك البركة فيما يأكله أو في اللقمة الساقطة ، فينبغي أن يحافظ على هذا كله لتحصل البركة ، وأصل البركة الزيادة وثبوت والامتاع به ، والمراد هنا - والله أعلم - ما يحصل به التغذية وتسلم عاقبته من أذى ، ويقوى على طاعة الله ، وغير ذلك " .
وقد أبدى عياض علة أخرى ، فقال : " إنما أمر بذلك لئلا يتهاون بقليل الطعام " .
بَابُ الصَّيْدِ
387 - عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ (( أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ( فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ ، أَفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ ؟ قال : فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلا تَأْكُلُوا فِيهَا , وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا , وَكُلُوا فِيهَا )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
( أهل كتاب ) أي اليهود والنصارى ، وسموا أهل كتاب : لأن الله أنزل عليهم التوراة والإنجيل ، وسموا أتباع الرسولين بأهل الكتاب ، فرقاً بينهم وبين الوثنيين .
جاء في رواية للحديث عند أبي داود وأحمد : ( إن أرضنا أرض أهل كتاب ، وإنهم ليأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر ، فكيف نصنع بآنيتهم وقدورهم ؟ ) .
الفوائد :
1- استدل بحديث الباب من قال بنجاسة الكافر .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة :
فقيل : نجس نجاسة عينية ، أدلتهم :
قوله تعالى : ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) .
حديث الباب .
حديث أبي هريرة ( : ( أن النبي ( لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب ، فانخنس منه فذهب فاغتسل ثم جاء . . . سبحان الله إن المؤمن لا ينجس ) .
قال الشوكاني : " تمسك بمفهومه بعض أهل الظاهر فقالوا : إن الكافر نجس عين " .
وقيل : إن المشرك ليس نجس العين ، وإنما نجاسته معنوية .
وهذا مذهب أكثر العلماء ، أدلتهم :(8/26)
( أن النبي ( توضأ من مزادة امرأة مشركة ) .
حديث ( ربط ثمامة بن أثال بسارية من سواري المسجد ) . متفق عليه
حديث ( أن النبي ( أكل من الشاة التي أهدتها له يهودية من خيبر ) . متفق عليه
حديث أنس ( أن يهودياً دعا النبي ( إلى خبز شعير وإهالة سنخة فأجابه ) . رواه أحمد
( الإهالة ) الودك . ( السنخة ) المتغيرة .
أن الله أباح نساء أهل الكتاب ، ومعلوم أن عرقهن لا يسلم منه من يضاجعهن .
وهذا القول هو الراجح ، وأما الجواب عن أدلة القول الأول :
أما الآية : فالمقصود بالنجاسة نجاسة الاعتقاد .
وأما الحديث : فليس الأمر بغسل الآنية لتلوثها برطوباتهم ، بل لطبخهم الخنزير وشربهم الخمر ، كما يدل على ذلك رواية أبي داود وأحمد .
2- حكم استعمال آنية الكفار :
أكثر العلماء على جواز استعمال آنية الكفار .
للأحاديث السابقة .
ولعموم قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) .
وأيضاً أن الله أباح لنا طعام أهل الكتاب ، ومن المعلوم أنهم يأتون به إلينا أحياناً مطبوخاً بأوانيهم .
وحديث ( أن النبي ( أكل من الشاة التي أهدتها له اليهودية ) .
وأما الجواب عن حديث الباب [ حديث أبي ثعلبة ] : ( لا تأكلوا فيها إلا أن لا تجدوا غيرها . . . ) :
هذا محمول على قوم عرفوا بمباشرتهم النجاسات كأكل الخنزير ونحوه ويدل لهذا رواية أبي داود وأحمد التي سبقت .
والخلاصة :
أن آنية الكفار مباحة ، لكن إذا علم أنهم يستعملون النجاسة ، فالأفضل والمستحب لمن يستعملها أن يغسلها .
لحديث الباب .
3- جميع أهل الكتاب تحل أوانيهم ، اليهود و النصارى و غيرهم من الوثنيين .
4- بيان ما جاء به الإسلام من البراءة من المشركين ومجانبتهم ، والبعد عنهم .
5- حرص الصحابة على السؤال عما يعنيهم .
6- أن المقصود من الحديث الأواني التي يستعملونها لا التي يصنعونها لنا .(8/27)
388 - عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: (( قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنِّي أُرْسِلُ الْكِلابَ الْمُعَلَّمَةَ , فَيُمْسِكْنَ عَلَيَّ , وَأَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ: إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ , فَكُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ . قُلْتُ : وَإِنْ قَتَلْنَ ؟ قَالَ : وَإِنْ قَتَلْنَ , مَا لَمْ يَشْرَكْهَا كَلْبٌ لَيْسَ مِنْهَا . قُلْتُ : فَإِنِّي أَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ الصَّيْدَ , فَأُصِيبُ ؟ فَقَالَ : إذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ فَخَزَقَ , فَكُلْهُ وَإِنْ أَصَابَهُ بِعَرْضِهِ فَلا تَأْكُلْهُ )) .
وَحَدِيثُ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيٍّ نَحْوُهُ , وَفِيهِ : (( إلاَّ أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ , فَإِنْ أَكَلَ فَلا تَأْكُلْ , فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ . وَإِنْ خَالَطَهَا كِلابٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلا تَأْكُلْ ، فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ , وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ )) .
وَفِيهِ (( إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُكَلَّبَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَأَدْرَكْتَهُ حَيّاً فَاذْبَحْهُ , وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ ، فَإِنَّ أَخْذَ الْكَلْبِ ذَكَاتُهُ )) .
وَفِيهِ أَيْضًا (( إذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ )) وَفِيهِ (( وَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْماً أَوْ يَوْمَيْنِ )) .
وَفِي رِوَايَةٍ (( الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاثَةَ فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إلاَّ أَثَرَ سَهْمِكَ فَكُلْ إنْ شِئْتَ , فَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقاً فِي الْمَاءِ فَلا تَأْكُلْ ، فَإِنَّكَ لا تَدْرِي : الْمَاءُ قَتَلَهُ , أَوْ سَهْمُكَ ؟ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :(8/28)
المعراض : قال النووي : " بكسر الجيم ، هي خشبة ثقيلة أو عصا في طرفها حديدة ، وقد تكون بغير حديدة ، هذا هو الصحيح في تفسيره " .
بعرضه : جاء في رواية : ( وما أصاب بعرضه فهو وقيذ ) وقيذ : على وزن عظيم ، هو ما قتل بعصا أو حجر أو ما حد له.
فخرق : أي نفذ .
الفوائد :
1- في الحديث دليل على جواز الصيد .
والصيد : هو اقتناص حيوان حلال متوحش طبعاً غير مقدور عليه .
والصيد له ثلاث حالات :
الأولى : يباح إذا قصد منه دفع الحاجة والانتفاع بلحمه .
الثانية : يكره إذا كان القصد منه التلهي به واللعب والمفاخرة .
لأنه يشغل عما هو أنفع منه من الأعمال الدينية والدنيوية .
الثالثة : يحرم إذا ترتب عليه ظلم للناس بالعدوان على زروعهم وبساتينهم وأموالهم .
فإن قيل : ما الجواب عن حديث : ( من اتبع الصيد غفل ) . رواه الترمذي
فالجواب : المراد الإكثار منه حتى يشغله .
2- قوله ( فذكرت اسم الله ) دليل على مشروعية التسمية عند الصيد .
قال النووي : " وقد أجمع المسلمون على التسمية عند الإرسال " .
واختلفوا في حكمها :
القول الأول : أنها سنة .
وهذا مذهب الشافعي ، لقوله تعالى : ( إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ ) .
قال النووي : " فأباح التذكي من غير اشتراط التسمية " .
ولقوله تعالى : ( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ ) وهم لا يسمون .
والجواب عن الآية : بأن المراد ( إلا ما ذكيتم ) وذكرتم اسم الله عليه ، لما ثبت من الأدلة الأخرى على الأمر بالتسمية .
وأما آية ( وطعام الذين أوتوا الكتاب ... ) أن المراد بذبائح أهل الكتاب المباحة هي ما ذبحوها بشرطها كذبائح المسلمين .
القول الثاني : أنه شرط مطلقاً على الذاكر والناسي لا تسقط بحال .
وهذا مذهب أحمد واختاره ابن تيمية .
لقوله تعالى : ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ) .
وقوله ( : ( إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ) .(8/29)
القول الثالث : أنها واجبة على الذاكر دون الناسي .
وهذا مذهب الحنفية والمالكية .
لقوله ( : ( إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) . رواه ابن ماجه
والراجح القول الثاني .
صفة التسمية :
قيل : المراد بذكر الله ذكر لله ولا يلزم : بسم الله ، فلو قال : الله أجل ، أو الله أعظم ، أجزأ .
لقوله تعالى : ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ) .
وقيل : أنه ينبغي أن يقول : بسم الله ، ولا يقوم غيرها مقامها .
لأن إطلاق التسمية ينصرف إلى : بسم الله .
3- قوله ( إذا أرسلت ) فيه أنه يشترط أن يكون الصائد له عقل يميز .
فمن شروط الصيد : أن يكون الصائد من أهل الذكاة ، وذلك بأن يتوفر فيه الشرطان : ( العقل والدين ) .
فالعقل يعني به أن يكون مخيراً غير سكران ولا مجنون ، لأنه لا قصد لهما ( وكذلك إذا كان طفل دون التمييز ) .
والدين يعني به أن يكون مسلماً أو كتابياً ، فلا يحل صيد الوثني والمجوسي والمرتد .
4- قوله ( كلبك ) فيه نوع من أنواع آلة الصيد ، وآلة الصيد نوعان :
أولاً : ما يرمى به الصيد من كل محدد .
كالرماح والسيوف والسهام وما جرى مجراها مما يجرح بحده كرصاص البنادق اليوم .
ثانياً : الجوارح ، وهي الكواسر من السباع ، كالكلاب والطير .
لقوله : (يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ ) .
( وهو نوعان : ما يصيد بنابه : كالكلب والفهد ، وما يصيد بمخلبه : الصقر والبازي ) .
5- قوله ( كلابك المعلمة ) فيه دليل أنه يشترط في إباحة صيد الكلب أن يكون معلماً ، وهذا الشرط لا خلاف فيه .
وكيفية التعليم :
بالنسبة ما يصيد بنابه كالكلاب ، فيتبين تعلمه بأمور :
أولاً : أن يسترسل إذا أرسله صاحبه في طلب الصيد .(8/30)
ثانياً : أن ينزجر إذا زجره [ وهذا يكون لأحد غرضين : يكون بطلب وقوفه وكفه عن العدو ، ويكون الزجر لإغراء الجارح بزيادة العدو في طلب الصيد ] .
وهذان الشرطان اتفقت المذاهب الأربعة على اعتبارهما .
ثالثاً : أن لا يأكل من الصيد إذا أمسكه ، فإن أكل لم يبح .
وقد اختلفوا في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : يشترط أن لا يأكل من الصيد ، فإن أكل لم يبح .
وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد .
قال النووي : " وبه قال أكثر العلماء " .
لحديث الباب وهو نص ، وفيه : ( ألا يأكل الكلب ، فإن أكل فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه ) .
ولقوله تعالى : ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا ) وهذا مما لم يمسك علينا بل على نفسه .
القول الثاني : أنه يحل .
وهو قول مالك .
واستدلوا بحديث أبي ثعلبة قال : ( يا رسول الله ، إن لي كلاباً مكلبة ، فأفتني في صيدها ؟ قال : كل مما أمسكن عليك ، قال : وإن أكل منه ؟ قال : وإن أكل منه ) . رواه أبو داود ، وقال الحافظ : " لا بأس بسنده " .
والراجح القول الأول .
وأما الجواب عن حديث أبي ثعلبة :
- أن حديث عدي مقدم عليه ، لأنه أصح .
- ومنهم من حمل حديث أبي ثعلبة على ما إذا أكل منه بعد أن قتله وخلاه وفارقه ثم عاد فأكل منه ، فهذا لا يضر .
- وأيضاً رواية عدي صريحة مقرونة بالتعليل المناسب للتحريم ، وهو خوف الإمساك على نفسه متأيّدة بأن الأصل في الميتة التحريم .
وأما تعليم الطير فإنه يتبين بأمور :
أولاً : أن يسترسل إذا أرسل .
ثانياً : أن ينزجر إذا زجر .
ثالثاً : واختلفوا هل يشترط أن لا يأكل أم لا ؟
قيل : يشترط ، وهذا مذهب الشافعي قياساً على جارحة الكلب .
وقيل : لا يشترط ، وهذا قول الحنفية والحنابلة . والله أعلم .
6- قوله ( إذا أرسلت كلبك المعلم ) في إطلاقه دليل لإباحة الصيد بجميع أنواع الكلاب المعلمة من الأسود وغيرها .(8/31)
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : يجوز الاصطياد بجميع الكلاب المعلمة من الأسود وغيرها .
قال النووي : " وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء " .
لعموم النص : ( إذا أرسلت كلبك المعلم ) .
القول الثاني : يحرم الصيد بالكلب الأسود البهيم .
قال النووي :" وبه قال الحسن البصري والنخعي وقتادة وأحمد وإسحاق " .
لأنه شيطان .
والأول أرجح .
7- قوله ( إذا أرسلت ... ) فيه دليل على أنه يشترط لحل الصيد أن يرسل الآلة قاصداً للصيد .
لأن الكلب أو البازي آلة ، والذبح لا يحصل بمجرد الآلة بل لا بد من الاستعمال ، وذلك فيهما : بالإرسال مع القصد .
- إذا استرسل الكلب بنفسه فقتل صيداً ، لم يحل لفقدان الشرط ، وهو الإرسال ، لأن الإرسال يقوم مقام التذكية .
- إذا استرسل الكلب بنفسه على صيد فزجره صاحبه وسمى فزاد في عدوه وقتل ، فهل يحل ؟
قيل : يحل .
وهو مذهب الحنفية والحنابلة .
قالوا : لأن زجره أثّر في عدوه فصار كما لو أرسله .
وقيل : لا يحل .
وهو مذهب الشافعي .
لاجتماع الاسترسال المانع والإغراء المبيح ، فتغلب جانب المنع .
والراجح الأول .
8- تحريم صيد الكلب غير المعلم .
9- ذهب جماهير العلماء إلى أنه إذا اصطاد بالمعراض فقتل الصيد بحد حل ، وإن قتله بعرضه لم يحل ، لحديث الباب .
10- قوله ( فإن أمسك عليك فأدركته حياً فاذبحه ) هذا تصريح بأنه إذا أدرك ذكاته وجب ذبحه ولم يحل إلا بالذكاة ، قال النووي : " وهو مجمع عليه " .
11- قوله ( وإن وجدت مع كلبك كلباً غيره ، وقد قتل فلا تأكل ، فإنك لا تدري أيهما قتله )(8/32)
قال النووي : " فيه بيان قاعدة مهمة ، وهي أنه إذا حصل الشك في الذكاة المبيحة للحيوان ، لم يحل ، لأن الأصل تحريمه ، وهذا لا خلاف فيه ، وفيه تنبيه على أنه لو وجده حياً وفيه حياة مستقرة ، فذكاه حل ولا يضر كونه اشترك في إمساكه كلبه وكلب غيره ، لأن الاعتماد حينئذٍ في الإباحة على تذكية الآدمي لا على إمساك الكلب " .
12- قوله ( وإن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل ) قال النووي : " هذا متفق على تحريمه " .
وجاء السبب في نفس الحديث : ( فإنك لا تدري الماء قتله ، أو سهمك ) .
13- قوله ( فإن غاب عنك يوماً أو يومين فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت ) في هذا دليل لمن يقول : إذا أثر جرحه فغاب عنه فوجده ميتاً وليس فيه أثر غير سهمه حل ، وهذا قول بعض العلماء .
وقيل : يحرم .
وقيل : يحرم في الكلب دون السهم .
قال النووي : " الأول أقوى وأقرب إلى الأحاديث الصحيحة " .
14- جواز اقتناء الكلب المعلم للصيد .
15- قال الحافظ ابن حجر : " استدل به على طهارة سؤر كلب الصيد دون غيره من الكلاب ، للإذن في الأكل من الموضع الذي أكل منه ، ولم يذكر الغسل ، ولو كان واجباً لبينه لأنه وقت الحاجة إلى البيان " .
وقال بعض العلماء : " يعفى عن معض الكلب ولو كان نجساً لهذا الحديث " .
وهذا الصحيح أنه معفو عنه .
16- قوله ( ما أمسك عليك ) استدل به على أنه لو أرسل كلبه على صيد فاصطاد غيره حل ، للعموم الذي في قوله ( ما أمسك ) وهذا قول الجمهور .
وقال مالك : " لا يحل " .
389- عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ( يَقُولُ (( مَنْ اقْتَنَى كَلْباً - إلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ , أَوْ مَاشِيَةٍ - فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ )) . قَالَ سَالِمٌ : وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: (( أَوْ كَلْبَ حَرْثٍ )) ، وَكَانَ صَاحِبَ حَرْثٍ .(8/33)
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
اقتنى : أي اتخذ ، جاء في رواية : ( من أمسك ) .
أو ماشية : ( أو ) للتنويع لا للترديد .
قيراطان : أي قدر ذلك ، وجاء في رواية : ( قيراط ) . قال النووي : " القيراط هنا مقدار معلوم عند الله " .
الفوائد :
1- تحريم اقتناء الكلاب لغير حاجة ، كأن يقتني كلباً لإعجابه به أو بصورته أو للمفاخرة .
2- أنه يجوز اقتناء الكلب لهذه الأشياء الثلاثة : الزرع ، والماشية ، والصيد .
3- أن من اقتنى كلباً لغير حاجة ، فإنه ينقص من أجر عمله كل يوم قيراطان .
وجاء في رواية : ( قيراط ) . والجمع :
قيل : الحكم للزائد لكونه حفظ ما لم يحفظه الآخر .
أو أنه ( أخبر أولاً بنقص قيراط واحد ، فسمعه الراوي الأول ، ثم أخبر ثانياً بنقص قيراطين زيادة في التأكيد في التنفير من ذلك ، فسمعه الراوي الثاني .
وقيل : ينزل على حالين ، فنقصان القيراطين باعتبار كثرة الأضرار باتخاذها ، ونقص القيراط باعتبار قلته .
وقيل : يحتمل أنه في نوعين من الكلاب ، أحدهما أشد أذى من الآخر .
وقيل : أن ذلك يختلف باختلاف المواضع ، فيكون القيراطان في المدينة خاصة لزيادة فضلها ، والقيراط في غيرها .
4- اختلف في القيراطين المذكورين هنا ، هل هما كالقيراطين المذكورين في الصلاة على الجنازة واتباعها ؟
فقيل : بالتسوية .
وقيل : اللذان في الجنازة من باب الفضل واللذان هنا من باب العقوبة ، وباب الفضل أوسع من غيره .
5- سبب نقصان الأجر باقتناء الكلب :
قيل : لامتناع الملائكة من دخول بيته بسببه .
وقيل : لما يلحق المارين من الأذى من ترويع الكلب لهم وقصده إياهم .
وقيل : أن ذلك عقوبة له باتخاذه ما نهي عن اتخاذه وعصيانه في ذلك .
وقيل : لما يبتلى من ولوغه في غفلة صاحبه ولا يغسله بالماء والتراب .
6- هل يجوز اتخاذ الكلب لحفظ الدور والدروب ونحوها ؟
فقيل : لا يجوز .(8/34)
لظاهر الحديث ، فإنه مصرح بالنهي إلا لزرع أو صيد أو ماشية .
وقيل : يجوز .
قياساً على الثلاثة عملاً بالعلة المفهومة من الأحاديث وهي الحاجة .
وهذا القول هو الصحيح .
390 - عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ ( قَالَ : (( كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ( بِذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ تِهَامَةَ , فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ فَأَصَابُوا إبِلاً وَغَنَماً ، وَكَانَ النَّبِيُّ ( فِي أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ ، فَعَجِلُوا وَذَبَحُوا وَنَصَبُوا الْقُدُورَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ ( بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ , ثُمَّ قَسَمَ فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنْ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ , فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ , وَكَانَ فِي الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ فَأَهْوَى رَجُلٌ مِنْهُمْ بِسَهْمٍ , فَحَبَسَهُ اللَّهُ . فَقَالَ : إنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ ، فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا ، قُلْتُ : يَا رَسُولُ اللَّهِ , إنَّا لاقُو الْعَدُوِّ غَداً , وَلَيْسَ مَعَنَا مُدىً . أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ ؟ قَالَ : مَا أَنْهَرَ الدَّمَ , وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ , فَكُلُوهُ , لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفْرَ , وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ , أَمَّا السِّنُّ : فَعَظْمٌ , وَأَمَّا الظُّفْرُ : فَمُدَى الْحَبَشَةِ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
فأكفئت : أي قلبت وأريق ما فيها .
فندّ : أي شرد وهرب .
الأوابد : النفور والتوحش ، قال ابن الأثير : " الأوابد جمع آبدة ، وهي التي قد تأبّدتْ أي توحشت ونفرت من الإنس .
الفوائد :
1- أن الحيوان الذي هرب ولا يمكن إدراكه من الإبل أو البقر أو الغنم أو غيرها من الحيوانات المستأنسة ، فإنه يكفي إنهار دمه من أي مكان .
قال النووي : " قال أصحابنا وغيرهم : الحيوان المأكول الذي لا تحل ميتته ضربان :(8/35)
مقدور على ذبحه ومتوحش ، فالمقدور عليه لا يحل إلا بالذبح في الحلق واللبة كما سبق ، وهذا مجمع عليه ... وأما إذا توحش إنسي ، بأن ند بعير أو بقرة أو فرس أو شردت شاة أو غيرها ، فهو كالصيد ، فيحل بالرمي إلى غير مذبحه ، وبإرسال الكلب وغيره من الجوارح عليه ، وكذا لو تردى بعير أو غيره في بئر ، ولم يمكن قطع حلقومه ومريئه ، فهو كالبعير الناد في حله بالرمي " .
ثم قال النووي : " قال أصحابنا : وليس المراد بالتوحش مجرد الإفلات ، بل متى تيسر لحوقه بعد ولو باستعانة بمن يمسكه ونحو ذلك ، فليس متوحشاً ولا يحل حينئذٍ إلا الذبح في المذبح " .
وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : " إنهار الدم له حالات :
الحالة الأولى : أن يكون المذكى غير مقدور عليه ، مثل أن يهرب أو يسقط في بئر أو في مكان سحيق لا يمكن الوصول إلى رقبته أو نحو ذلك ، فيكفي في هذه الحال إنهار الدم في أي موضع كان من بدنه حتى يموت ، لحديث الباب .
الحالة الثانية : أن يكون مقدوراً عليه ، بحيث يكون حاضراً أو يمكن إحضاره بين يدي المذكي ، فيشترط أن يكون الإنهار في موضع معين وهو الرقبة " .
2- أن من شروط التذكية أن تكون بمحدد ينهر الدم غير سن وظفر ، لقوله : ( إلا السن والظفر ) .
فإن ذبحها بغير محدد ، مثل أن يقتلها بالخنق أو بالصعق الكهربائي أو غيره ، أو بالصدم أو بضرب الرأس ونحوه حتى تموت ، لم تحل ، وإن ذبحها بالسن لم تحل .
3- قوله ( إلا السن ) ظاهر هذا أنه لا فرق في السن والظفر بين أن يكونا متصلين أو منفصلين ، من آدمي أو غيره ، لعموم الحديث .
وذهب بعض العلماء إلى أنه خاص بالمتصل .
لكن هذا قول ضعيف ، والصحيح الأول .
لأن حديث الباب عام .
4- علل النبي ( منع الذكاة بالسن بأنه عظم .
فاختلف العلماء : هل الحكم خاص في محله وهو السن ، أو عام في جميع العظام ؟
فقيل : إنه خاص في محله وهو السن ، وأما ما عداه من العظام فتحل الذكاة به .(8/36)
وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد .
لأن النبي ( لو أراد العموم لقال غير العظم والظفر ، لكونه أخصر وأبين ، والنبي ( أعطي جوامع الكلم ومفاتيح البيان .
ولأننا لا نعلم وجه الحكمة في تأثير العظم ، فكيف نعدي الحكم مع الجهل .
وقيل : أن الحكم عام في جميع العظام .
وهذا قول الشافعي .
لعموم العلة ، لأن النص على العلة يدل على أنها مناط الحكم متى وجدت وجد الحكم .
وهذا القول أحوط .
5- علل النبي ( المنع من الذكاة بالظفر بأنه مدى الحبشة .
قال النووي : " معناه أنهم كفار ، وقد نهيتم عن التشبه بالكفار وهو شعارهم " .
وقيل في العلة :
لأن في ذلك توفيراً للأظافر ، وهذا مخالف للفطرة .
ولأن في القتل بالظفر مشابهة لسباع البهائم والطيور التي فضلنا عليها ونهينا عن التشبه بها .
6- قوله ( ما أنهر الدم وذكر اسم الله ) فيه دليل على اشتراط التسمية لحل الذكاة .
وقد اختلف العلماء في حكم التسمية على الذبيحة على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنها شرط .
واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية .
لقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ) .
ففيه النهي عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه وتسميته فسقاً .
ولحديث الباب : ( ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ) .
ففيه دليل على اشتراط التسمية ، لأنه علق الإذن بمجموع الأمرين وهما : الإنهار ، والتسمية ، والمعلق على شيئين لا يكتفى بوجود أحدهما .
القول الثاني : أن التسمية واجبة في حال الذكر دون حال النسيان .
وهذا قول الحنفية والمالكية والحنابلة .
لقوله ( : ( إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) . رواه ابن ماجه
القول الثالث : أن التسمية سنة مطلقاً .
وهذا مذهب الشافعي .
لقوله تعالى : ( إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ ) ولم يذكر التسمية .
ولأن الله أباح ذبائح أهل الكتاب وهم لا يسمون غالباً ، فدل على أنها غير واجبة .(8/37)
والراجح القول الأول .
- يشترط أن يكون بلفظ : بسم الله .
فلو قال : بسم الرحمن أو باسم رب العالمين :
فقيل : لا يجزئ .
وهذا قول الشافعية والحنابلة .
لأن إطلاق التسمية ينصرف إلى : بسم الله .
وقيل : يجزئ .
وهذا مذهب الحنفية والمالكية .
قالوا : المراد بالتسمية ذكر الله من حيث هو ، لا خصوص : بسم الله .
وهذا الراجح .
- يعتبر أن تكون التسمية على ما أراد ذبحه ، فلو سمى على شاة ثم تركها إلى غيرها أعاد التسمية ، وأما تغيير الآلة فلا يضر ، فلو سمى وبيده سكين ، ثم ألقاها وذبح بغيرها ، فلا بأس .
- الخلاصة :
أن في حديث الباب شرطان من شروط الذكاة :
التسمية - أن يكون بمحدد إلا السن والظفر .
- فيجوز الذبح بكل محدد سواء كان حديداً أم حجراً أم خشباً أم قصباً أم زجاجاً .
- والحكمة في اشتراط نهر الدم: تمييز حلال اللحم والشحم من حرامها، وتنبيه على أن تحريم الميتة لبقاء دمها الخبيث فيها .
بَابُ الأَضَاحِيّ
391 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ( قَالَ : (( ضَحَّى النَّبِيُّ ( بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقَرْنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ , وَسَمَّى وَكَبَّرَ وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
الأضحية : ما يذبح من بهيمة الأنعام أيام الأضحى بسبب العيد تقرباً إلى الله عز وجل .
بكبشين : الكبش فحل الضأن .
أقرنين : أي لكل واحد منهما قرنان .
أملحين : الأملح هو الذي فيه سواد وبياض ، والبياض أكثر .
صفائحهما : بكسر الصاد والحاء ، قال في النهاية : " صفحة كل شيء وجهه وجانبه ، والمراد هنا صفائح أعناقهما .
الفوائد :
1- مشروعية الأضحية .
قال الحافظ : " ولا خلاف في كونها من شرائع الدين " .
لقوله تعالى : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) .
ولحديث الباب .
ولحديث جندب قال : ( صلى رسول الله ( يوم النحر ثم خطب ثم ذبح ) . متفق عليه(8/38)
واختلفوا هل هي واجبة أم لا ؟ على قولين :
القول الأول : أنها واجبة .
وهذا مذهب أبي حنيفة واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية .
لحديث أبي هريرة ( قال : قال رسول الله ( : ( من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا ) . رواه أحمد
ولقوله (: ( من كان ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى ، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله ).متفق عليه
القول الثاني : أنها سنة مؤكدة .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لقوله ( : ( إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظافره ) . رواه مسلم
وجه الدلالة : أن النبي ( فوّض الأضحية إلى الإرادة .
وهذا القول هو الراجح ، لكن يكره للقادر تركها .
2- في الحديث بعض صفات أضحية النبي ( .
صفات أضحية النبي ( :
- ضحى بكبشين : والكبش فحل الضأن .
- أقرنين : أي لكل واحد منهما قرنان حسنان .
- أملحين : قال الخطابي : " الأملح هو الأبيض الذي في خلل صوفه طبقات سود " .
- ضحى بكبش أقرن يطأ في سواد : يعني أن قوائمه سود .
- يبرك في سواد : يعني بطنه أسود .
- ينظر في سواد : يعني أن ما حول عينيه أسود .
- سمينين .
3- مشروعية التسمية على الأضحية . [ وسبق حكم التسمية على الذبيحة ]
4- استحباب قول : ( الله أكبر ) مع التسمية .
5- أن الأفضل لمن يحسن الذبح أن يتولى الذبح بنفسه .
6- استحباب وضع رجله على صفحة العنق ( وهي جانبه ) .
قال النووي : " وإنما فعل هذا ليكون أثبت له وأمكن ، لئلا تضطرب الذبيحة برأسها فتمنعه من إكمال الذبح أو تؤذيه ".
شروط الأضحية :
أولاً : أن تكون من بهيمة الأنعام .
قال تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ) وبهيمة الأنعام هي الإبل والبقر والغنم من ضأن ومعز .
ثانياً : أن تبلغ السن المحددة شرعاً .
بأن تكون جذعة من الضأن أو ثنية من غيره .
- الثني من الإبل : ما تم له خمس سنين .(8/39)
- الثني من البقر : ما تم له سنتان .
- الثني من الغنم : ما تم له سنة .
- الجذع : ما تم له ستة أشهر .
ثالثاً : السلامة من العيوب المانعة من الإجزاء .
عن البراء من عازب قال : ( سئل النبي ( ما ذا يتقى من الضحايا ، فأشار بيده وقال : أربعاً : العرجاء البين ضلعها ، والعوراء البين عورها ، والمريضة البين مرضها ، والعجفاء التي لا تنقي ) . رواه مالك
رابعاً : أن يضحى بها في الوقت المحدد شرعاً .
أول وقتها بعد صلاة العيد لمن يصلون كأهل البلدان، والأفضل أن يؤخر الذبح حتى تنتهي الخطبتان لأن ذلك فعل النبي (.
قال جندب بن سفيان : ( صلى النبي ( يوم النحر ثم خطب ثم ذبح ) . رواه البخاري
كِتَابُ الأَشْرِبَةِ
392 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (( أَنَّ عُمَرَ قَالَ - عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ ( - أَمَّا بَعْدُ , أَيُّهَا النَّاسُ , إنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ : مِنْ الْعِنَبِ , وَالتَّمْرِ , وَالْعَسَلِ , وَالْحِنْطَةِ , وَالشَّعِيرِ . وَالْخَمْرُ : مَا خَامَرَ الْعَقْلَ ثَلاثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( كَانَ عَهِدَ إلَيْنَا فِيهَا عَهْداً نَنْتَهِي إلَيْهِ : الْجَدُّ , وَالْكَلالَةُ , وَأَبْوَابٌ مِنْ الرِّبَا )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
نزل تحريم الخمر : مراده الآية التي في سورة المائدة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) .
وددت : تمنيت .
الفوائد :
1- قوله ( نزل تحريم الخمر وهي من خمسة ) الجملة حالية ، أي نزل تحريم الخمر في حال كونها تصنع من خمسة ، وقد وقع عند مسلم : ( ألا إن الخمر نزل تحريمها يوم نزل وهي من خمسة أشياء ) .(8/40)
2- أراد عمر بهذا التنبيه على أن المراد بالخمر في هذه الآية ليس خاصاً بالمتخذ من العنب ، بل يتناول المتخذ من غيرها .
وقد جاء هذا الذي قاله عمر عن النبي ( صريحاً :
عن النعمان بن بشير ( قال : قال رسول الله ( : ( إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة والشعير والذرة ، وإني أنهاكم عن كل مسكر ) . رواه أبو داود
3- قوله ( الخمر ما خامر العقل ) أي غطاه أو خالطه فلم يتركه على حاله ، وأي شيء غطى العقل وخامره فهو مسكر محرم.
4- قوله ( الجد ) مراده ميراث الجد ، وهل يقوم مقام الأب مع الأخوة فيسقطهم ؟
اختلف العلماء على قولين :
القول الأول : أن الجد كالأب يسقط الأخوة .
وبهذا القول قال جمع من الصحابة منهم أبو بكر ، وبه قال جمع من التابعين ، وقال به أبو حنيفة ، ورجح هذا شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم .
أدلتهم :
- لأن الله سمى الجد أباً في قوله: ( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ) . وقال يوسف: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ) .
- أن ابن الابن بمنزلة الابن ، فيكون الجد بمنزلة الأب .
القول الثاني : أن الجد لا يحجب الأخوة .
وبهذا قال جماعة من الصحابة منهم : علي وابن مسعود وزيد بن ثابت ، وبه قال مالك وأحمد والشافعي .
قالوا : لأن ميراث الأخوة ثبت بالكتاب ، فلا يحجبون إلا بنص أو إجماع أو قياس ، وما وجد شيء من ذلك فلا يحجبون .
والراجح القول الأول .
5- قوله ( والكلالة ) ومعناها الذي يموت وليس له ولد ولا والد .
وهذا تفسير أبي بكر وجمهور العلماء .
6- قوله ( وأبواب من أبواب الربا ) هذا يدل على أن عمر عنده نص في بعض أبواب الربا دون بعض ، فلهذا تمنى معرفة البقية .
7- تواضع عمر .
8- أنه ربما كبار الصحابة تخفى عليهم بعض المسائل .
393 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( سُئِلَ عَنْ الْبِتْعِ ؟ فَقَالَ : كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ )) .(8/41)
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
البتع : بكسر الباء وسكون التاء ، هو نبيذ العسل .
الفوائد :
1- هذا الجواب من النبي ( جواب عام شامل ، وهو أن كل شراب أسكر فهو خمر محرم من أي نوع اتخذ .
وقد جاء في رواية : ( كل مسكر حرام ) .
وهذه الرواية تفسير المراد بقوله في حديث الباب : ( كل شراب أسكر ) وأنه لم يرد تخصيص التحريم بحالة الإسكار ، بل أنه إذا كانت فيه صلاحية الإسكار حرم تناوله ولو لم يسكر المتناول بالقدر الذي تناول منه .
2- أن علة التحريم هي الإسكار ، فاقتضى ذلك أن كل شراب وجد فيه الإسكار حرم تناول قليله وكثيره .
وقد جاء ما يؤيد ذلك :
فعند أبي داود عن جابر ( قال : قال رسول الله ( : ( ما أسكر كثيره فقليله حرام ) .
وعن عائشة مرفوعاً : ( كل مسكر حرام ، وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام ) . رواه أبو داود
وعن سعد قال : قال رسول الله ( : ( أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره ) . رواه ابن حبان
394 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : (( بَلَغَ عُمَرَ : أَنَّ فُلاناً بَاعَ خَمْراً فَقَالَ : قَاتَلَ اللَّهُ فُلاناً , أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ , حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ , فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا ؟ )) .
--------------------------------------------
هذا الحديث سبقت مباحثه في كتاب البيوع .
معاني الكلمات :
قاتل : لعن .
الفوائد :
1- تحريم بيع الخمر ، وهذا بالإجماع .
2- حرص عمر على إنكار المنكر .
3- تحريم التحيل . [ وسبقت أدلة تحريمه عند شرح هذا الحديث في كتاب البيوع ]
4- أن اليهود أهل حيل وغدر .
5- التحذير من التشبه باليهود .
وقد وقع المسلمون في كثير من صفات اليهود : من كتمان العلم ، والحسد ، وقسوة القلب ، وحب الدنيا .
كتاب اللباس(8/42)
395 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( لا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ ، فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ )) .
396 - عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ( يَقُولُ : (( لا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلا الدِّيبَاجَ , وَلا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهِمَا ، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الآخِرَةِ )) .
400- عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( (( نَهَى عَنْ لُبُوسِ الْحَرِيرِ إلاَّ هَكَذَا , وَرَفَعَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ (
وَلِمُسْلِمٍ (( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ( عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إلاَّ مَوْضِعَ أُصْبُعَيْنِ , أَوْ ثَلاثٍ , أَوْ أَرْبَعٍ )) .
--------------------------------------------
معني الكلمات :
الحرير : هو في الأصل خيط دقيق تفرزه دودة القز ، ثم أطلق على الثياب الناعمة المتخذة من ذلك .
الديباج : ما غلظ من ثياب الحرير .
صحافهما : جمع صحفة ، وهي الإناء يشبع خمسة .
الفوائد :
1- في هذه الأحاديث دليل على تحريم الحرير على الرجال ، والأدلة عليه كثيرة :
حديث الباب .
حديث البراء قال : ( نهينا عن سبع : ... وذكر منها : الحرير ) . متفق عليه
وعن أبي موسى قال : ( أخذ رسول الله ( حريراً بشماله وذهباً بيمينه ، ثم رفع بهما يديه وقال : إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم ) . رواه الترمذي
وعن عمر قال : قال رسول الله ( : ( إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة ) . متفق عليه
وعن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله ( : ( ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحرَ والحرير والخمر والمعازف ) .
رواه البخاري
( يستحلون ) يعتقدون حل ذلك ، أو أن المراد أنهم يسترسلون في استعمالها ويتساهلون . ( الحر ) الفرج .(8/43)
2- الحكمة من تحريم الحرير على الرجال :
أولاً : لما فيه من الإسراف والتبذير والعجب .
ثانياً : أنه ثوب رفاهية وزينة فيليق بزي النساء دون شهامة الرجال .
قال ابن القيم : " حرّم - يعني الحرير - لما يورثه بملامسته للبدن من الأنوثة والتخنث وضد الشهامة والرجولة ، فإن لبسه يكسب القلب صفة من صفات الإناث " .
ثالثاً : لما فيه من مشابهة الكفار والمشركين .
وذكر بعضهم علة أخرى ، وهي : السرف .
3- هناك حالات يجوز فيها لبس الحرير :
الحالة الأولى : أن يكون الحرير في الثوب يسيراً .
وقد ضبطوا اليسير بألا يتجاوز أربع أصابع .
لحديث الباب : ( حديث عمر ) .
قال النووي : " وفي هذه الرواية : إباحة العَلَم من الحرير في الثوب إذا لم يَزد على أربع أصابع ، وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور " .
الحالة الثانية : حالة الضرورة ، والحاجة إلى لبس الحرير .
لحديث أنس : ( أن رسول الله ( رخص لعبد الرحمن بن عوف ، والزبير بن العوام ، في القمص الحرير في السفر من حكة كانت بهما ) . متفق عليه
( الحكة ) هي الجرب ونحوه .
قال الشوكاني : " والحديث يدل على جواز لبس الحرير لعذر الحِكة ، والقمل عند الجمهور ، وقد خالف في ذلك مالك ، والحديث حجة عليه " .
وقال رحمه الله : " والتقييد بالسفر بيان للحال الذي كانا عليه ، لا للتقييد ، وقد جعل السفر بعض الشافعية قيداً في الترخيص ، وهو ضعيف " .
4- أن الحرير جائز للنساء .
5- أن تحريم الحرير حتى على الصغار والصبيان .
لقوله ( : ( هذان حرام على ذكور أمتي ... ) والصبي من الذكور .
6- قوله ( من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة )
فقيل : هو كناية على عدم دخول الجنة(8/44)
قال الشوكاني : " والظاهر أنه كناية عن عدم دخول الجنة ، وقد قال الله تعالى في أهل الجنة : ( ولباسهم فيها حرير ) فمن لبسه في الدنيا لم يدخل الجنة ، ويدل لذلك حديث ابن عمر عند الشيخين بلفظ : قال رسول الله ( : ( إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة ) والخلاق كما في كتب اللغة وشروح الحديث : النصيب ، أي من لا نصيب له في الآخرة " .
وقيل : أنه لا يلبس الحرير في الجنة ويلبس غيره من الملابس .
وقيل : هذا من الوعيد الذي له حكم أمثاله من نصوص الوعيد التي تدل على أن الفعل مقتضي لهذا الحكم وقد يتخلف عنه لمانع .
7- تحريم لبس الديباج ، وهو ما غلظ من الحرير .
8- تحريم الأكل والشرب في آنية الفضة .
لقوله ( : ( إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ) وهذا وعيد بالنار .
9- ما حكم الاتخاذ والاستعمال لآنية الذهب والفضة ؟
( كأن يجعل عنده آنية ذهب أو فضة للزينة ، مثل الإبريق أو غيرها ) .
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : أنه حرام .
وهذا قول الجمهور ، الأدلة :
أن رسول الله ( ذكر الطعام والشراب لأنه أغلب أنواع الاستعمال ، وما غلب به الحكم لكونه أغلب ، لا يقتضي تخصيصه به .
عموم قوله ( : ( فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ) .
أن العلة التي من أجلها حرم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة موجودة في الاتخاذ والاستعمال .
أن فيه كسر لقلوب الفقراء .
القول الثاني : أنه يجوز .
وهذا اختيار الشوكاني والصنعاني .
هؤلاء قالوا : التحريم خاص بالأكل والشرب فقط . أدلتهم :
الأصل الحل ، والأحاديث نص في تحريم الأكل والشرب ، والأصل فيما عداهما الحل ، فلا يحرم شيء حتى يأتي دليل صحيح صريح بتحريم الاستعمال ، فتخصيص النبي ( للأكل والشرب دليل على أن ما عداهما جائز .
قال الشوكاني : "والحاصل أن الأصل الحل ، فلا تثبت الحرمة إلا بدليل يسلّمه الخصم ، ولا دليل في المقام بهذه الصفة" .(8/45)
والراجح القول الأول وهو التحريم .
فإن قيل : إن كانت علة التحريم كسر قلوب الفقراء ، لحرمت آنية الياقوت ونحوه مما هو أرفع من الأثمان .
الجواب : قال ابن قدامة : " قلنا تلك لا يعرفها الفقراء ، فلا تنكسر قلوبهم باتخاذ الأغنياء لها ، لعدم معرفتهم بها " .
10- أن الأصل في الأواني الحل .
فكل إناء طاهر ولو كان ثميناً يباح اتخاذه واستعماله ، فقد ثبت عنه ( :
( أنه توضأ من جفنة ) . رواه أبو داود
( وتوضأ من تور من صفر ) . رواه البخاري التور : القدح ، قال الحافظ : " هو شبيه الطست ، وقيل : هو الطست " .
الصفر : صنف من جيد النحاس .
( وتوضأ من قربة ) . رواه البخاري ومسلم
( وتوضأ من إداوة ) . رواه البخاري ومسلم الإداوة : إناء صغير من جلد يتخذ للماء .
الأدلة على أن الأصل في الأواني الحل :
قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) .
وجه الدلالة: أنه تعالى أخبر أنه خلق جميع ما في الأرض للناس مضافاً لهم باللام ، واللام حرف الإضافة ، وهي توجب اختصاص المضاف بالمضاف إليه ، واستحقاقه إياه من الوجه الذي يصلح له ، فيجب إذن أن يكون الناس مملكين ممكنين لجميع ما في الأرض فضلاً من الله ونعمة ) .
وقال تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) .
وجه الاستدلال من الآية : أنه إذا كان ما في الأرض مسخراً لنا ، جاز استمتاعنا به ، وهذا معنى الإباحة .
وعن أبي ثعلبة الخشني عن رسول الله ( قال : ( إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدوداً فلا تعتدوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها ) . رواه الدار قطني
وجه الاستدلال : أنه ( بين أنه ما سكت عنه بعد الشرع إنما هو مباح رحمة بنا وتخفيفاً عنا ، فلا نبحث عن السؤال عنه
وهل يلحق بالذهب والفضة نفائس الأحجار كالياقوت والجواهر ؟(8/46)
قال الصنعاني : " فيه خلاف ، والأظهر عدم إلحاقه وجوازه على أصل الإباحة لعدم الدليل الناقل عنها " .
وهذا مذهب أكثر العلماء .
لأن الأصل في الأشياء الإباحة ، وقد قال تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) .
وتخصيص النبي ( الذهب والفضة بالمنع يقتضي إباحة ما عداهما .
ولأن العلة في الذهب والفضة هي الخيلاء وكسر قلوب قلوب الفقراء ، وهي غير موجودة هنا ، إذ الجوهر ونحوه لا يعرفه إلا خواص الناس .
وذهب بعض العلماء إلى التحريم وبعضهم إلى الكراهة ، والراجح الأول .
11- العلة في النهي عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة :
قيل : الخيلاء أو كسر قلوب الفقراء .
قال الشوكاني : " ويرد عليه جواز استعمال الأواني من الجواهر النفيسة ، وغالبها أنفس وأكثر قيمة من الذهب والفضة ، ولم يمنعها إلا من شذ " .
وقد سبق كلام ابن قدامة في الجواب على هذا الكلام .
وقيل : التشبه بأهل الجنة ، حيث يطاف عليهم بآنية من فضة وصحاف من ذهب ، وذاك مناط معتبر للشارع كما ثبت عنه ( لما رأى رجلاً متختماً بخاتم من ذهب ، فقال :(مالي أرى عليك أهل الجنة) . أخرجه الثلاثة من حديث بريدة [ قاله الشوكاني ]
وقيل : التشبه بالمشركين ، لقوله ( : ( فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ) .
وقيل : أن هذا ينافي العبودية .
قال ابن القيم : " الصواب أن العلة ـ والله أعلم ـ ما يكسب استعمالها القلب من الهيئة والحالة المنافية للعبودية منافاة ظاهرة ولهذا علل النبي ( بأنها للكفار في الدنيا ، إذ ليس لهم نصيب من العبودية التي ينالون بها في الآخرة نعيمها ، فلا يصلح استعمالها لعبيد الله في الدنيا ، وإنما يستعملها من خرج " .
12- يصح الوضوء من آنية الفضة والذهب لكن مع الإثم ، وحكى بعض العلماء الإجماع على ذلك ، كالنووي ، حيث قال :
" ولو توضأ واغتسل من إناء الذهب صح منه بلا خلاف " .(8/47)
13- أن الجزاء من جنس العمل ، لأن عذابه مثل عمله ، فهو يجرجر نار جهنم كما يجرجر هذا الماء الذي شربه من إناء الفضة
وهذا له أمثلة كثيرة :
كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) .
وكقوله ( : ( من قتل نفسه بحديدة فحديدته في بطنه يتوجأ بها في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ... ) . رواه مسلم
397- عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ( قَالَ : (( مَا رَأَيْتُ مِنْ ذِي لِمَّةٍ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ( ، لَهُ شَعَرٌ يَضْرِبُ مَنْكِبَيْهِ , بَعِيدُ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ ، لَيْسَ بِالْقَصِيرِ وَلا بِالطَّوِيلِ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
اللمة : قال ابن الأثير : " اللمة من شعر الرأس دون الجُمة ، سميت بذلك لأنها ألمت بالمنكبين ، فإذا زادت فهي الجُمة .
الفوائد :
1- الحديث استدل به من قال بجواز لبس الثوب الأحمر .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال :
القول الأول : الجواز مطلقاً .
وهو قول علي وطلحة والبراء وسعيد بن المسيب .
وذهب إليه أكثر العلماء .
لحديث الباب .
ولحديث أبي جحيفة قال : ( رأيت رسول الله ( في قبة حمراء من أدم ... فخرج ( في حلة حمراء مشمِّراً ... ) .متفق عليه
قال ابن رجب : " المقصود ها هنا : ( أن النبي ( خرج في حلة حمراء مشمراً ، وصلى بالناس ) يدل على جواز الصلاة بالثوب الأحمر " .
وعن عامر بن عمرو قال : ( رأيت رسول الله ( بمنى يخطب على بغلة وعليه برد أحمر ) . رواه أبو داود وحسنه الحافظ ابن حجر
القول الثاني : يحرم لبسه مطلقاً .
وهو منسوب إلى عمر ، واختاره بعض العلماء .
لحديث عبد الله بن عمر قال : ( مرّ على النبي ( رجل وعليه ثوبان أحمران ، فسلم عليه فلم يرد عليه السلام ) . رواه أبو داود(8/48)
وهذا حديث ضعيف ، قال ابن حجر : " هو حديث ضعيف الإسناد " .
ولحديث رافع بن خديج قال : ( خرجنا مع رسول الله ( في سفر ، فرأى رسول الله ( رواحلنا وعلى إبلنا أكسية فيها خيوط عهْن ، فقال : ألا أرى هذه الحمرة علتكم ، فقمنا سراعاً لقول رسول الله ( حتى نفر بعض إبلنا ، فأخذنا الأكسية فنزعناها عنها ) . رواه أبو داود وهو حديث ضعيف
ولحديث رافع بن يزيد أن رسول ( قال : ( إن الشيطان يحب الحمرة ، فإياكم والحمرة ، وكل ثوب ذي شهرة ) . رواه الطبراني وهو ضعيف لا يصح
القول الثالث : يكره للرجل لبس الثياب الحمراء إذا كانت مصمتة ( حمراء كلها ) ، وأما ما فيه لون آخر غير الأحمر من بياض وسواد وغيرهما ، فلا كراهة فيه .
روي هذا عن مجاهد وعطاء ومحمد بن سيرين .
وهو مذهب الحنفية والحنابلة ورجحه ابن القيم .
القول الرابع : يحرم إذا كان يقصد الزينة والشهرة ، ويجوز لبسه لغير ذلك .
وهذا قول ابن عباس ، واختيار الإمام مالك ومال إليه الحافظ ابن حجر .
والراجح القول الأول .
2- جواز ترك شعر الرأس .
وقد اختلف العلماء في حكم اتخاذ الشعر على أقوال :
القول الأول : أن الشعر سنة والحلق مكروه .
لفعل النبي ( ، فقد كان له شعر ، ففي حديث الباب : ( له شعر يبلغ شحمة أذنيه ) .
وعن عائشة قالت : ( كنت أرجل رأس رسول الله ( وأنا حائض ) .
واستدلوا على كراهة حلقه : أن حلقه أصبح وصفاً لطائفة من أهل البدع وهم الخوارج ، كما في الحديث : ( سيماهم التحليق ) .
القول الثاني : أن الشعر أفضل والحلق جائز .
وهذا مذهب أكثر العلماء .
واستدلوا على أنه أفضل بالأحاديث التي استدل بها أصحاب القول الأول .
وأدلتهم على جواز الحلق :
قوله ( : ( من كان له شعر فليكرمه ) . رواه أبو داود
فهذا يدل بمفهومه على أن هناك من لا يكون صاحب شعر .
وبحديث ابن عمر : أن النبي ( رأى صبياً حلق بعض رأسه وترك بعضه ، فنهى عن ذلك وقال : ( احلقوه كله أو اتركوه كله ) . رواه أبو داود(8/49)
قال الشوكاني : " فيه دليل على جواز حلق الرأس جميعه " .
وبقوله ( : ( إذا دخل عشر ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي ). رواه مسلم
في هذا الحديث دليل على أن المسلم له حلق شعره والأخذ منه في غير عشر ذي الحجة ، أو إذا لم ينوي الأضحية .
وهذا القول هو الراجح .
398 - عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ( قَالَ : (( أَمَرْنَا رَسُولُ اللَّهِ ( بِسَبْعٍ ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ : أَمَرْنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ , وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ, وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ, وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ ( أَوْ الْمُقْسِمِ ), وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ, وَإِجَابَةِ الدَّاعِي, وَإِفْشَاءِ السَّلامِ . وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمَ - أَوْ عَنْ تَخَتُّمٍ - بِالذَّهَبِ, وَعَنْ الشُّرْبِ بِالْفِضَّةِ، وَعَنْ الْمَيَاثِرِ، وَعَنْ الْقَسِّيِّ, وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ, وَالإِسْتَبْرَقِ, وَالدِّيبَاجِ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
عيادة المريض : زيارته .
تشميت العاطس : يعني تقول له : يرحمك الله ، إذا عطس فحمد الله .
إفشاء السلام : نشره وإشاعته لكل مسلم .
المياثر : قيل : هو وطاء كانت النساء يضعنه لأزواجهن على السروج ويكون من حرير ، وقيل : أغشية للسروج تتخذ من الحرير ، وقيل : هي سروج من الديباج ، وقيل : هي كالفراش الصغير تتخذ من حرير .
الاستبرق والديباج : قال ابن حجر : " صنفان نفيسان من الحرير " .
القسي : بفتح القاف ، وكسر السين ، ثياب خز ، تنسب إلى القس قرية في مصر .
الفوائد :
1- في هذا الحديث يأمر النبي ( بسبع وينهى عن سبع .
ما أمر بها :
أولاً : عيادة المريض .
- عيادة المريض لها فضل كبير .
عن ثوبان قال : قال رسول الله ( : ( إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة ) . رواه مسلم(8/50)
( خرفة ) بضم الخاء وسكون الراء ، هي الثمرة إذا نضجت ، وشبّه ما يحوزه عائد المريض من الثواب بما يحوزه الذي يجتني الثمر .
وعن علي قال : قال رسول الله ( : ( ما من مسلم يعود مسلماً غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي ، وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح ) . رواه الترمذي
وقال ( : ( من زار أخاً في الله أو عاد مريضاً قيل له : طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلاً ) . رواه الترمذي
- حكم عيادة المريض :
قيل : سنة مؤكدة .
وهذا مذهب الأكثر .
وقيل : فرض كفاية .
لأن النبي ( أمر بها كما في حديث الباب .
وكما في حديث أبي موسى قال : قال رسول الله ( : ( عودوا المريض ) . رواه البخاري
وفي حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله (: (حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام ، وعيادة المريض، ...). متفق عليه
وهذا القول هو الصحيح .
ثانياً : اتباع الجنائز .
سبق حكمها وأنها سنة ، وما يتعلق بها في كتاب الجنائز .
ثالثاً : تشميت العاطس .
اختلف العلماء في حكم تشميت العاطس إذا حمد الله على أقوال :
القول الأول : أنه سنة .
القول الثاني : أنه واجب .
لحديث الباب حيث فيه أمر النبي ( .
ولحديث أبي هريرة قال :قال رسول الله ( : ( إن الله يحب العطاس ، فإذا عطس أحدكم فحمد الله فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته ) . رواه البخاري
ولحديث أبي هريرة : ( حق المسلم على المسلم ست ... وإذا عطس فحمد الله فشمته ) . متفق عليه
القول الثالث : أنه فرض كفاية .
وهذا الراجح ، ورجحه الحافظ ابن حجر .
- أن العاطس إذا لم يحمد الله فإنه لا يشمت .
رابعاً : إبرار القسم .
أي إبرار قسم المقسم ، إذا دعاك لشيء وليس عليك ضرر ، فتبر قسمه ، لئلا تحوجه إلى التكفير عن يمينه .
- فإذا أقسم عليك بشيء فيه ضرر ، فإنه لا يلزمك أن تبر يمينه .
- وإذا أقسم عليك بشيء مباح ، فالأفضل أن تبر يمينه .
- وإذا أقسم عليك بشيء محرم ، فإنه لا يجوز أن تبر يمينه .(8/51)
خامساً : نصر المظلوم .
فيجب نصرة المظلوم بكل وسيلة ، بيدك ، أو بلسانك ، أو بجاهك .
لما في ذلك من التعاون على البر والتقوى ، وردع الظالم ، والنهي عن المنكر .
وقد قال ( : ( من رد عن عرض أخيه غيبة رد الله عن وجهه النار ) . رواه أحمد
وقال ( : ( من نفس عن مؤمن كربة نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ) . رواه مسلم
سادساً : إجابة الداعي .
وسبقت مباحثها في كتاب النكاح ، وأن الراجح أن إجابة دعوة العرس واجبة بشرط : عدم وجود منكرات .
سابعاً : إفشاء السلام .
وهذا مستحب عند جماهير العلماء .
لحديث الباب .
ولقوله ( : ( أفشوا السلام بينكم ) . رواه مسلم
وفي إفشاء السلام فوائد :
أولاً : نشر وإفشاء اسم الله ( السلام ) .
ثانياً : من أسباب المحبة .
ثالثاً : دليل على التواضع وعدم التكبر .
رابعاً : دليل على طهارة القلب .
خامساً : يوجد المودة والمحبة والتآلف .
وأما المنهيات :
أولاً : خاتم الذهب .
خاتم الذهب حرام على الرجال بالاتفاق ، وقد حكى الاتفاق على ذلك ابن عبد البر ، وابن حجر ، وابن القيم .
لحديث الباب .
قال الحافظ ابن حجر : " وظاهر النهي التحريم ، وهو قول الأئمة ، واستقر عليه الأمر " .
لحديث علي قال : ( أخذ رسول الله ( حريراً بشماله ، وذهباً بيمينه ، ثم رفع بهما يديه فقال : إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم ) . رواه أبو داود
ولحديث أبي هريرة عن النبي ( : ( أنه نهى عن خاتم الذهب ) . رواه البخاري
وعن ابن عباس : ( أن رسول الله ( رأى خاتماً من ذهب في يد رجل ، فنزعه فطرحه ، وقال : يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده ) .
ثانياً : الشرب بالفضة .
حرام وقد سبقت مباحثه .
ثالثاً : المياثر .
وأما الحرير ، فقد سبق أنه حرام ، وأما القسي والاستبرق والديباج ، فهي من أنواع الحرير ، فكلها حرام .(8/52)
399 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( اصْطَنَعَ خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ ، فَكَانَ يَجْعَلُ فَصَّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ إذَا لَبِسَهُ ، فَصَنَعَ النَّاسُ كَذَلِكَ ، ثُمَّ إنَّهُ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَزَعَهُ فَقَالَ : إنِّي كُنْتُ أَلْبَسُ هَذَا الْخَاتَمَ , وَأَجْعَلُ فَصَّهُ مِنْ دَاخِلٍ , فَرَمَى بِهِ ثُمَّ قَالَ : وَاَللَّهِ لا أَلْبَسُهُ أَبَداً فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ )) .
وَفِي لَفْظٍ (( جَعَلَهُ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
الخاتم : ما يلبس في أصابع اليد من الحلي .
اصطنع : جاء في رواية : ( اتخذ خاتماً من ذهب ) ومعنى اتخذه : أمر بصياغته فصيغ فلبسه .
فصنع الناس مثل ذلك : يحتمل أن يكون بالمثلية كونه من فضة ، ويحتمل أن يكون لمطلق الاتخاذ .
فنزعه : جاء في رواية : ( ثم اتخذ خاتماً من فضة ، فاتخذ الناس خواتيم الفضة ) .
الفوائد :
1- تحريم خاتم الذهب على الرجل ، وسبقت المسألة .
2- جواز لبس خاتم الفضة للرجل ، وهذا مذهب كثير من العلماء .
لحديث الباب .
ولحديث ابن عمر قال : ( اتخذ رسول الله ( خاتماً من ورق ، وكان في يده ، ثم كان بعد في يد أبي بكر ، ثم كان بعد في يد عمر ، ثم كان بعد في يد عثمان ، ... ) . متفق عليه
وعن أنس : ( أن رسول الله لبس خاتم فضة في يمينه ) . متفق عليه
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن لبس الخاتم مكروه إلا لذي سلطان ، كالقاضي والأمير ونحوهم .
واستدلوا بحديث أبي ريحانة قال : ( نهى رسول الله ( عن عشر : وذكر منها : وعن لبوس الخاتم إلا لذي سلطان ) . لكنه حديث ضعيف
3- اتفق أهل العلم على جواز التختم في اليمين واليسار .
لورود الأحاديث في ذلك .
ولذلك جرى الخلاف بينهم في أي اليدين أحق بالتختم :
القول الأول : يجوز في اليدين ولبسه في اليمنى أفضل .
وهذا مذهب الشافعي .(8/53)
لحديث أنس قال : ( لبس رسول الله ( خاتم فضة في يمينه ) . رواه مسلم
وعن ابن عمر : ( أن النبي ( كان يتختم بيمينه ) . رواه النسائي
القول الثاني : يجوز في اليدين إلا أن لبسه في اليسار أفضل .
وهو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة .
لحديث أنس قال : ( كان خاتم النبي ( في هذه ، وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى ) . رواه مسلم
القول الثالث : يجوز في كلا اليدين ، من غير تفصيل .
قالوا : لأن كل ذلك ثبت عن النبي ( .
والراجح القول الأول ، أنه جائز في كلا اليدين واليمنى أفضل .
- لأن أحاديث التختم باليمنى أكثر وأصح .
- ولأن الخاتم زينة ، واليمين أولى بالزينة .
- أن الخاتم قد ينقش فيه الذكر ، من لفظ الجلالة ونحو هذا ، فإذا لبس في اليمين كان ذلك صوناً له من امتهان ما كتب عليه عند الاستنجاء .
4- اتفق أهل العلم على أن السنة في حق الرجل جعل خاتمه في خنصره دون سائر أصابعه ، وأن لبسه في الإصبع الأخرى مكروه .
والحكمة : أن لبسه في الخنصر أبعد عن الامتهان فيما يتعاطى باليد لكونه طرفاً ، ولا يشغل اليد عن تناول أشغالها ، بخلاف غيره من الأصابع .
عن أنس قال : ( صنع النبي ( خاتماً ثم قال : إنا اتخذنا خاتماً ونقشنا عليه نقشاً ، فلا ينقش عليه أحد ، قال : وإني لأرى بريقه في خنصره ) . رواه البخاري
وعنه قال : ( كان خاتم النبي ( في هذه ، وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى ) . رواه مسلم
وعن علي قال : ( نهاني رسول الله ( أن أتختم في إصبعي هذه أو هذه ، وأومأ إلى الوسطى والتي تليها ) . رواه مسلم
5- فضل الصحابة وسرعة اقتدائهم بالنبي ( ، حيث نزعوا خواتيمهم ساعة نزع خاتمه ( .
كتابُ الجِهادِ
مقدمة
تعريفه :
لغة : استفراغ الوسع والطاقة من قول أو فعل .
واصطلاحاً : قال الحافظ ابن حجر : " بذل الجهد في قتال الكفار " .
حكمه :
فرض كفاية في قول أكثر أهل العلم .
قال ابن قدامة : " والجهاد من فروض الكفايات في قول عوام أهل العلم " .(8/54)
قال تعالى (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) .
قال القرطبي : " الجهاد ليس على الأعيان ، وأنه فرض كفاية ، إذ لو نفر الكل لضاع من وراءهم من العيال ، فليخرج فريق منهم للجهاد وليقم فريق منهم يتفقهون في الدين ، ويحفظون الحريم .... " .
وجاء في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري . ( أن رسول الله ( بعث بعْثاً إلى بني لحيان من هذيْل فقال : لينبعث من كل رجلين أحدهما والأجر بينهما ) .
قال بعض العلماء : ومن الأدلة الدالة على أنه فرض كفاية أنه كان ( يغزو تارة بنفسه وتارة يرسل غيره ، ويكتفي ببعض المسلمين ، وقد كانت سراياه وبعوثه متعاقبة والمسلمون بعضهم في الغزو وبعضهم في أهله ، وإلى كونه فرض كفاية ذهب جمهور العلماء .
متى يجب الجهاد :؟
يجب الجهاد في حالات :
الحالة الأولى : إذا حضر الإنسان الصف .
قال ابن قدامة : " إذا التقى الصفان حرم على من حضر الانصراف وتعين عليه المقام " .
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ) .
وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) .
الحالة الثانية : إذا استنفر الإمام .(8/55)
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ . إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
وقال ( ( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا ) متفق عليه .
قال الحافظ ابن حجر : " وفيه وجوب تعيين الخروج في الغزو على من عينه الإمام " .
الحالة الثالثة : إذا حضر بلده العدو .
قال ابن قدامة : " النفير يعم جميع الناس ممن كان من أهل القتال حين الحاجة إلى نفيرهم لمجيء العدو إليهم ، ولا يجوز لأحد التخلف إلا من يحتاج إلى تخلفه لحفظ المكان والأهل والمال ومن يمنعه الأمير من الخروج أو من لا قدرة له على الخروج أو القتال " .
الحالة الرابعة : إذا احتيج إليه .
فمثلاً هناك آلات أو طائرات لا يعرف قيادتها إلا هذا الرجل ، فحينئذ يجب عليه الجهاد ، لأن الناس محتاجون إليه .
عواقب ترك الجهاد :
أولاً : سبب للهلاك في الدنيا والآخرة .
فأما في الدنيا فإن الجبان الرعديد الذي لا همة له في قتال الأقران ولا طاقة له في الذود عن حياضه يكون ذليلاً مستعبداً تابعاً غير متبوع .
وأما في الآخرة : فهو يهلك إن لم يتغمده الله برحمته ، بترك فريضة محكمة أنزلها الله في كتابه بها عز الإسلام والمسلمين وإذلال الشرك والمشركين .
ثانياً : سبب للذل والهوان .
عن ابن عمر . قال : قال رسول الله ( ( إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ) رواه أبو داود .
ثالثاً : سبب للبلاء .(8/56)
قال ( ( من لم يغزو أو يجهز غازياً أو يخلف غازياً في أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة ) رواه أبو داود .
رابعاً : سبب لعذاب الله وبطشه .
قال تعالى ( إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير ) .
خامساً : سبب لإفساد أهل الأرض بالقضاء على دينهم .
قال تعالى ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ) .
سادساً : ترك الجهاد يفوت مصالح عظيمة للمسلمين ، منها الأجر والثواب والشهادة والمغنم والتربية الإيمانية التي لا تحصل بدون الجهاد ودفع شر الكفار وإذلالهم .
401- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى ( : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ - انْتَظَرَ , حَتَّى إذَا مَالَتِ الشَّمْسُ قَامَ فِيهِمْ , فَقَالَ: (( أَيُّهَا النَّاسُ, لا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ, وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا, وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ (: اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ , وَمُجْرِيَ السَّحَابِ , وَهَازِمَ الأَحْزَابِ : اهْزِمْهُمْ , وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
لا تتمنوا لقاء العدو : كأن يقول : اللهم ألقني بعدوي .
الفوائد :
1- في الحديث النهي عن تمني لقاء العدو .
قال النووي : " إنما نهى عن تمني لقاء العدو لما فيه من صورة الإعجاب والاتكال على النفس والوثوق بالقوة ، وهو نوع بغي ، ولأنه يتضمن قلة الاهتمام بالعدو واحتقاره وهذا يخالف الاحتياط والحزم " .
وقال ابن بطال : " حكمة النهي أن المرء لا يعلم ما يؤول إليه الأمر ، وهو نظير سؤال العافية من الفتن " .(8/57)
وقال ابن دقيق العيد : " لما كان لقاء الموت من أشق الأشياء على النفس وكانت الأمور الغائبة ليست كالأمور المحققة لم يُؤمن أن يكون عند الوقوع كما ينبغي فيكره تمني التمني لذلك ولما فيه لو وقع من احتمال أن يخالف الإنسان ما وعد من نفسه " .
2- وجوب الصبر عند القتال وهو آكد أركانه ، وقد جمع الله سبحانه آداب القتال في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) .
فضائل الصبر :
أولاً : تعليق الفلاح به .
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فعلق الفلاح بمجموع هذه الأمور .
ثانياً : الإخبار عن مضاعفة أجر الصابرين على غيره .
قال تعالى (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ) .
ثالثاً : تعليق الإمامة في الدين به وباليقين .
قال تعالى (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين .
رابعاً : ظفرهم بمعية الله لهم .
قال تعالى ( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) .
خامساً : أنه جمع للصابرين ثلاثة أمور لم يجمعها لغيرهم .
قال تعالى ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) .
3- استحباب سؤال الله العافية .(8/58)
قال النووي : " كثرت الأحاديث في الأمر بسؤال العافية ، وهي من الألفاظ المتناولة لدفع جميع الآفات في البدن في الظاهر والباطن في الدين والدنيا والآخرة " .
عن طارق بن أشيم قال ( كان الرجل إذا أسلم علمه النبي ( الصلاة ثم أمره أن يدعو بهؤلاء الكلمات : اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني ) رواه مسلم .
وعافني : أي من كل مرض .
والأمراض نوعان : مرض قلبي كما قال تعالى (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً) .
ومرض جسمي في الأعضاء والبدن .
4- فضل الجهاد في سبيل الله لقوله ( واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ) .
قال النووي : " معناه ثواب الله والسبب الموصل إلى الجنة عند الضرب بالسيوف في سبيل الله ومشي المجاهدين في سبيل الله فاحضروا فيه بصدق واثبتوا . [ وسيأتي في الدرس القادم فضائل الجهاد إن شاء الله ] " .
قال القرطبي : " هذا الكلام من النفيس البديع الذي جمع ضروب البلاغة مع جزالة اللفظ وعذوبته وحسن استعارته ، وشمول المعاني الكثيرة مع الألفاظ المقبولة الوجيزة بحيث يعجز الفصحاء اللين البلغاء عن إيراد مثله ، وأن يأتوا بنظيره وشكله فإنه استفيد منه مع وجازته الحض على الجهاد والإخبار بالثواب عليه " .
5- النهي عن تمني لقاء العدو لا يعني كراهة الجهاد وعدم تحديث النفس بالغزو أو تمني الشهادة في سبيل الله ، فإن ذلك كله حض الشارع الحكيم عليه وعده من صفات المتقين ومنازل الصديقين ، لكن النهي عن تمني لقاء العدو ، لأن الإنسان لا يدري هل يصبر أم لا ؟ وأيضاً فيه عدم الاتكال والإعجاب بالنفس وقلة الاهتمام بالعدو .
6- قوله ( انتظر حتى مالت الشمس ) قال النووي : " قال العلماء : سببه أنه أمكن للقتال ، فإنه وقت هبوب الريح ونشاط النفوس ، وكلما طال ازدادوا نشاطاً وإقداماً على عدوهم " .
7- استحباب الدعاء عند القتال ، وقد جاء في حديث أن الدعاء يستجاب عند التقاء الصفوف وعند نزول المطر .(8/59)
8- وجوب الاعتماد على الله .
9- فضل الثناء على الله قبل الدعاء .
قال ابن القيم : " الدعاء الذي يتقدمه الذكر والثناء ، أفضل وأقرب إلى الإجابة من الدعاء المجرد ، فإن انضاف إلى ذلك إخبار العبد بحاله ومسكنته وافتقاره واعترافه كان أبلغ في الإجابة وأفضل " .
402 - عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا , وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا , وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا )) .
وَلِمُسْلِمٍ : (( مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ - كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ , وَتَوَكَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ إنْ تَوَفَّاهُ : أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ , أَوْ يُرْجِعَهُ سَالِماً مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ )) .
404 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , إلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ , وَكَلْمُهُ يَدْمَى : اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ , وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ )) .
405 - عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , أَوْ رَوْحَةٌ : خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ )) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
406 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , أَوْ رَوْحَةٌ : خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا )) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :(8/60)
رباط : الرباط هو ملازمة المكان الذي بين المسلمين والكفار لحراسة المسلمين منهم .
الغدوة : المرة من الغدو ، وهو سير أول النهار .
الروحة : المرة من الرواح ، وهو الخروج في آخر النهار .
مكلوم : الكَلْم : الجرح ، والمكلوم : المجروح .
يدمى : أي جرحه يسيل منه الدم .
الفوائد :
1- هذه الأحاديث تتكلم عن فضل الجهاد في سبيل الله وعظيم منزلته .
قوله ( الغدوة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ) .
الصحيح في معناها : أن هذا القدر من الثواب خير من الثواب الذي يحصل لمن لو حصلت له الدنيا كلها لأنفقها في طاعة الله .
2- قوله ( كمثل الصائم القائم ) .
جاء عند مسلم ( كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام ) .
زاد النسائي ( الخاشع الراكع الساجد ) .
وفي الموطأ وابن حبان ( كمثل الصائم القائم الدائم الذي لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع ) .
ولأحمد من حديث النعمان بن بشير مرفوعاً ( مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم نهاره القائم ليله ) .
قال الحافظ ابن حجر : "وشبه حال الصائم القائم بحال المجاهد في سبيل الله في نيل الثواب في كل حركة وسكون ، لأن المراد من الصائم القائم من لا يفتر ساعة عن العبادة فأجره مستمر، وكذلك المجاهد لا تضيع ساعة من ساعاته بغير ثواب" .
وصدق الله إذ يقول ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) .
3- هذه الأحاديث تتكلم - كما ذكرت قبل قليل - عن فضل الجهاد في سبيل الله وعظيم أجره ، ومن فضائله :
أولاً : أن الروحة في سبيل الله خير من الدنيا بما فيها .
لحديث الباب .
ثانياً : أنه من أفضل الأعمال .(8/61)
عن أبي ذر قال : ( قلت يا رسول الله ، أي العمل أفضل ؟ قال : الإيمان بالله ، والجهاد في سبيل الله ) . متفق عليه
ثالثاً : أن المجاهد أفضل الناس .
عن أبي سعيد الخدري قال : ( أتى رجل رسول الله ( فقال : أي الناس أفضل ؟ قال : مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله ) . متفق عليه
رابعاً : الجهاد لا يعدله شيء .
عن أبي هريرة ( قال : ( قيل : يا رسول الله ، ما يعدل الجهاد في سبيل الله ؟ قال : لا تستطيعونه ، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً كل ذلك يقول : لا تستطيعونه ، ثم قال : مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم ، القانت بآيات الله ، لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله ) . متفق عليه
خامساً : للمجاهدين مائة درجة في الجنة .
قال ( : ( إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض ).
……………………………… رواه البخاري
سادساً : الجهاد سبب للنجاة من النار .
قال ( : ( ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار ) . رواه البخاري
قال الحافظ ابن حجر : " وفي ذلك إشارة إلى عظم قدر التصرف في سبيل الله ، فإذا كان مجرد مسّ الغبار للقدم يحرم عليها النار ، فكيف بمن سعى وبذل جهده واستنفذ وسعه ؟ " .
سابعاً : من أسباب دخول الجنة .
قال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ) .
ثامناً : المجاهد يكون الله في عونه .
قال ( : ( ثلاثة حق على الله عونهم : المجاهد في سبيل الله ، والمكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح الذي يريد العفاف ) .
رواه أحمد
تاسعاً : الجهاد ذروة سنام الإسلام .
قال ( : ( وذروة سنام الإسلام الجهاد في سبيل الله ) . رواه الترمذي
ذروة الشيء : أعلاه .
عاشراً : نفى سبحانه التسوية بين المؤمنين المجاهدين وغير المجاهدين .(8/62)
قال تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) .
الحادي عشر : أن الجهاد سبب لمغفرة الذنوب .
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) .
4- تحقير أمر الدنيا لقوله ( لغدوة أو روحة خير من الدنيا وما فيها ) .
ومما يدل على حقارة الدنيا :
قوله ( ( لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء ) .رواه الترمذي
وقوله ( ( الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه ) .رواه النسائي
وعن جابر ( أن رسول الله ( مر بالسوق والناس كنَفَتَيْه ، فمر بجديٍ أَسَكَّ ، ..... ثم قال : فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم ) .رواه مسلم [ كنفتيه ] أي : عن جانبيه . [ الأسك ] الصغير الأذن .
ولذلك حب الدنيا هو رأس كل خطيئة ومفسد للدين وذلك لأمور :
أحدها : أن حبها يقتضي تعظيمها وهي حقيرة عند الله ، ومن أكبر الذنوب تعظيم ما حقر الله .
وثانيها : أن الله لعنها ومقتها وأبغضها إلا ما كان له فيها ، ومن أحب ما لعنه الله ومقته وأبغضه فقد تعرض للفتنة ومقته وغضبه .(8/63)
وثالثها : أنه إذا أحبها صيرها غايته وتوسل إليها بالأعمال التي جعلها الله وسائل إليه وإلى الدار الآخرة ، فعكس الأمر وقلب الحكمة فانتكس قلبه وانعكس سيره إلى وراء .
ورابعها : أن محبتها تعترض بين العبد وبين فعل ما يعود عليه نفعه في الآخرة لاشتغاله عنه بمحبوبه .
وخامسها : أن محبتها تجعلها أكثر همّ العبد .
وسادسها : أن مُحبّها أشد الناس عذاباً بها .
وسابعها : أن عاشقها ومحبها الذي يؤثرها على الآخرة من أسفه الخلق وأقلهم عقلاً ، إذ آثر الخيال على الحقيقة ، والمنام على اليقظة ، والظل الزائل على النعيم الدائم ، والدار الفانية على الدار الباقية .
5- تعظيم أمر الجهاد في سبيل الله .
6- الحكمة في ذكر [موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ] أن التأخير عن الجهاد في سبيل الله سببه الميل إلى سبب من أسباب الدنيا ، فنبه هذا المتأخر أن هذا القدر اليسير من الجنة أفضل من جميع ما في الدنيا .
7- فضل الرباط في سبيل الله تعالى ، ومن فضائله :
- حديث الباب ، حديث سهل : ( رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ) .
- وعن سلمان . قال : قال رسول الله ( ( رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات جرَى عليه عمله الذي كان يعمل ، وأجْرِيَ عليه رزقه ، وأمِنَ الفتان ) رواه مسلم . [ الفتان ] أي فتان القبر أعاذنا الله منه .
- وعن فَضَالة بن عبيد . أن رسول الله ( قال ( كل ميت يُختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله ، فإنه يُنمَى له عمله إلى يوم القيامة ، ويُؤْمَّن فتنة القبر ) رواه أبو داود . [ يختم على عمله : ينقطع عمله بالموت فلا يزداد ثواباً ] . [ ينمى : يزداد ]
ففي هذه الأحاديث :
- فضل الرباط في سبيل الله .
- أن ثواب عمل المرابط لا ينقطع بالموت ، وأن رزقه لا ينقطع أيضاً .
- عظيم نعمة الله حيث يثيب على العمل اليسير الأجر الكبير .(8/64)
- حرمان كثير من الناس عن هذه الفضائل العظيمة ، وما حرمانهم إلا بسبب تعلقهم بالدنيا وعدم يقينهم بالآخرة .
- أهمية الإخلاص في الجهاد في سبيل الله ، وأن العمل من غير إخلاص فهو مردود على صاحبه .
ولذلك قال ( ( ما من مكْلوم يكلم - والله أعلم بمن يكلم في سبيله - إلا جاء يوم القيامة ... ) .
403 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( عَنْ النَّبِيِّ ( قَالَ : (( انْتَدَبَ اللَّهُ ( وَلِمُسْلِمٍ : تَضَمُّنَ اللَّهُ ) لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ , لا يُخْرِجُهُ إلاَّ جِهَادٌ فِي سَبِيلِي , وَإِيمَانٌ بِي , وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي فَهُوَ عَلِيّ ضَامِنٌ : أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ , أَوْ أُرْجِعَهُ إلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ , نَائِلاً مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
انتدب : أي سارع بثوابه وحسن جزائه ، وقيل : بمعنى أجاب إلى المراد وقيل : تكفل بالمطلوب كما تدل عليه الرواية الأخرى .
إيمان بي : أي لا يخرجه إلا الإيمان والتصديق .
تصديق برسولي : جاء في رواية ( وتصديق كلمته ) قال النووي : " أي كلمة الشهادتين ، وقيل : تصديق كلام الله في الإخبار بما للمجاهد من عظيم ثوابه " .
ضامن : أي كفيل وضامن .
أن أدخله الجنة : أي إذا مات .
الفوائد :
1- فضل الجهاد في سبيل الله تعالى ، وسبقت فضائله في الدرس الماضي .
2- أهمية الإخلاص في الجهاد في سبيل الله .
وقد قال ( ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) متفق عليه .
وقد جاء الخطر العظيم فيمن يقاتل في سبيل الله رياء وسمعة :(8/65)
عن أبي هريرة . قال : قال رسول الله ( ( إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد ، فأتي به ، فعرفه نعمته فعرفها ، قال : فما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت ، قال : كذبت ، ولكنك قاتلت ليقال جريء ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ) رواه مسلم .
3- أن الإخلاص في الجهاد ينيل صاحبه إحدى الحسنيين إما الجنة أو الرجوع بالثواب الأخروي والغنيمة الدنيوية .
قال النووي : " قوله [ أو أرجعه إلى مسكنه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة ] معنى الحديث : أن الله تعالى ضمن أن الخارج للجهاد ينال خيراً بكل حال ، فإما يستشهد فيدخل الجنة ،وإما أن يرجع بأجر ، وإما أن يرجع بأجر وغنيمة " .
4- فضل الشهادة في سبيل الله لقوله [ فهو علي ضامن أن أدخله الجنة ، أي : إن مات ] ، وللشهادة فضائل كثيرة :
أولاً : من أسباب دخول الجنة .
كما في حديث الباب .
وقال تعالى (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) .
وعن جابر . قال ( قال رجل للنبي ( يوم أحد : أرأيت إن قتلت فأين أنا ؟ قال : في الجنة ، فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل ) متفق عليه .
ثانياً : الحياة بعد الاستشهاد مباشرة .
قال تعالى (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُون ) .
وقال تعالى (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) .
ثالثاً : مغفرة الذنوب وتكفير السيئات .(8/66)
قال تعالى (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) .
وقال ( ( يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين ) رواه مسلم .
وقال ( ( إن للشهيد عند الله ست خصال يغفر له عند أول دفعة من دمه .... ) رواه الترمذي .
رابعاً : تمني الرجوع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى بل عشر مرات .
عن أنس . قال : قال ( ( ما من عبد يموت له عند الله خير يسره أن يرجع إلى الدنيا ، وأن له الدنيا وما فيها ، إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة ، فإنه يسرهُ أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى وفي رواية : لما يرى من الكرامة ) متفق عليه .
خامساً : الشهيد في الفردوس الأعلى .
وعن أنس ( أن أم حارثة أتت النبي ( فقالت : يا رسول الله ألا تحدثني عن حارثة ، وكان قتل يوم بدر ، أصابه سهم ، فإن كان في الجنة صبرت ، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه بالبكاء ، فقال رسول الله : يا أم حارثة ، إنها جنان في الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى ) متفق عليه .
سادساً : الملائكة تظل الشهيد بأجنحتها .
عن جابر قال (جيء بأبي إلى النبي ( وقد مثّل به ووضع بين يديه ، فذهبت أكشف عن وجهه، فنهاني قومي ، فسمع صوت نائحة، فقيل: ابنة عمرو - أو أخت عمرو - فقال: لم تبكي أو لا تبكي، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها) متفق عليه
سابعاً : الشهداء لا يفتنون في قبورهم :
عن المقداد بن معد يكرب . قال : قال رسول الله ( ( للشهيد عند الله ست خصال : يغفر له في أول دفعة ، ويرى مقعده من الجنة ، ويجار من عذاب القبر ) رواه الترمذي .
وقال ( لما سئل لماذا الشهداء لا يسألون في قبورهم ؟ قال : ( كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة ) رواه النسائي .(8/67)
قال ابن النحاس : " ولا شك بأن من وقف للقتال ورأى السيوف تلمع وتقطع ، والأسنة تبرق وتخرق ، والسهام ترشق وتمرق ، والرؤوس تندر ، والدماء تثعب ، والأعضاء تتطاير ، وجاد بنفسه لله تعالى إيماناً به وتصديقاً بوعده ووعيده ، فيكفيه هذا امتحاناً لإيمانه واختباراً له وفتنة ، إذ لو كان عنده شك أو ارتياب لولى الدبر ، وذهل عما هو واجب عليه من الثبات ، وداخله الشك والارتياب " .
ثامناً : الشهيد لا يشعر بألم القتل .
عن أبي هريرة . قال : قال رسول الله ( ( ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة ) رواه الترمذي .
قال علي : إن لم تقتلوا تموتوا ، والذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون من موت على فراش .
تاسعاً : دم الشهيد أحب شيء إلى الله .
عن أبي أمامة . قال : قال رسول الله ( ( ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين : قطرة من دموع في خشية الله ، وقطرة دم تهرق في سبيل الله ، وأما الأثران : فأثر في سبيل الله ، وأثر في فريضة من فرائض الله ) رواه الترمذي .
عاشراً : الشهيد يشفع في أهل بيته .
عن أم الدرداء قال : سمعت رسول الله ( يقول : ( يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته ) رواه الترمذي .
الحادي عشر : لا يشترط للشهيد أعمال صالحة قبل الشهادة .
عن البراء بن عازب قال ( أتى النبي ( رجل مقنع بالحديد ، فقال : يا رسول الله أقاتل أو أسلم ؟ قال : أسلم ثم قاتل ، فأسلم ثم قاتل فقتل ، فقال رسول الله ( : عمل قليل وأجر كثير ) رواه البخاري .
فائدة :
سمي الشهيد بذلك :
قال النووي : " قال النضر بن شميل : لأنه حي ، فإن أرواحهم شهدت وحضرت دار الإسلام وأرواح غيرهم إنما تشهدها يوم القيامة " .
وقال ابن الأنباري : " إن الله تعالى وملائكته عليهم الصلاة والسلام يشهدون له بالجنة " .
وقيل : لأنه شهد عند خروج روحه ما أعده الله تعالى له من الثواب والكرامة .
وقيل : لأن ملائكة الرحمة يشهدونه فيأخذون روحه .(8/68)
وقيل : لأنه شهد له بالإيمان وخاتمة الخير بظاهر حاله .
وقيل : لأن عليه شاهداً بكونه شهيداً وهو الدم . [ شرح النووي على مسلم ] .
407 - عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ ( قَالَ : (( خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّه ( إلَى حُنَيْنٍ - وَذَكَرَ قِصَّةً - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ )) قَالَهَا ثَلاثاً.
408 - عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ ( قَالَ : (( أَتَى النَّبِيَّ ( عَيْنٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ , وَهُوَ فِي سَفَرِهِ , فَجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ , ثُمَّ انْفَتَلَ , فَقَالَ النَّبِيُّ ( : اُطْلُبُوهُ وَاقْتُلُوهُ فَقَتَلْتُهُ , فَنَفَّلَنِي سَلَبَهُ )) .
فِي رِوَايَةٍ (( فَقَالَ : مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ ؟ فَقَالُوا : ابْنُ الأَكْوَعِ فَقَالَ : لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ )) .
409 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : (( بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ( سَرِيَّةً إلَى نَجْدٍ فَخَرَجَ فِيهَا , فَأَصَبْنَا إبِلاً وَغَنَماً , فَبَلَغَتْ سُهْمَانُنَا اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيراً , وَنَفَّلَنَا رَسُولُ اللَّهِ ( بَعِيراً بَعِيراً )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
سلبه : السلب ما على المقاتل من ثياب وسلاح ونحو ذلك على العدو يقتله المسلم .
عين : يعني جاسوس ، سمي الجاسوس عيناً لأن جُلَّ عمله بعينه ، أو لشدة اهتمامه بالرؤية واستغراقه فيها .
بعث : أي أرسل .
سرية : قطعة من الجيش .
قِبَل نجد : أي جهة نجد ، وهي قلب الجزيرة العربية .
سُهمانهم : بضم السين جمع سهم هي نصيبهم من الغنيمة .
ونفلنا : التنفيل : هي زيادة يزاد الغازي على نصيبه من المغنم .
الفوائد :
1- في هذا الحديث قضى النبي ( أن القاتل يستحق سلب القتيل .(8/69)
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة هل يستحق السلب مطلقاً أم لا بد أن يقول ذلك أمير الجيش على قولين :
القول الأول : أنه يستحق ذلك ولو لم يقله القائد .
قال النووي : " قال الشافعي ومالك والأوزاعي والليث والثوري وأبو ثور وأحمد وغيرهم يستحق القاتل سلب القتيل في جميع الحروب سواء قال أمير الجيش قبل ذلك من قتل قتيلاً فله سلبه أم لم يقل ذلك ، وهذه فتوى من النبي ( وإخبار عن حكم الشرع فلا يتوقف على قول أحد " .
لحديث الباب .
القول الثاني : لا يستحق القاتل السلب ، بل هو لجميع الغانمين إلا إن شرط له الإمام ذلك.
وهذا مذهب الحنفية .
وحملوا حديث الباب على هذا ، وهو أن يقول القائد : من قتل قتيلاً فله سلبه .
قال النووي راداً على هذا القول : " وهذا ضعيف لأنه صرح في الحديث بأن النبي ( قال بعد الفراغ من القتال واجتماع الغنائم " .
والراجح القول الأول .
2- قوله ( له بينة ) فيه دليل لمذهب الشافعي والليث ومن وافقهما من المالكية وغيرهم أن السلب لا يعطى إلا لمن له بينة بأنه قتله ، ولا يقبل قوله بغير بينة .
3- إعطاء السلب لقاتل الكافر من باب المكافأة والمجازاة على إقدامه وفعله الطيب ، وتقديراً وتشجيعاً لبطولته وبلائه في سبيل الله تعالى .
4- تشجيع الإنسان على العمل الصالح بأمر دنيوي ، وعلى هذا فالجوائز التي تجعل على المسابقات الشرعية إذا دخل الإنسان المسابقة لا يحرم الأجر ما دام يريد الوصول إلى العلم ، لكنه جعل هذا العوض الذي في المسابقة حافزاً له على الدخول في البحث والمراجعة .
5- حسن تدبير النبي ( حيث كان يجعل المحفزات عند الحاجة إلى ذلك .
6- مشروعية بعث السرايا إلى العدو لاستنزاف قوته وعدته .
7- أن ما تغنمه السرايا المستقلة عن جيش الكفار هو خاص لها لا يشاركها المسلمون فيه ، وإنما يؤخذ منه الخمس الذي يصرف مصرف الفيء .(8/70)
8- إن الغنيمة وإن كثرت تكون بين غزاة السرية بقدر سهمانهم ، للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم : سهم له وسهمان لفرسه .
9- جواز تنفيل مقاتلة السرية زيادة على سهمانها بما يراه الإمام تقديراً لجهادهم وإخلاصهم ، وتشجيعاً لهم ولغيرهم على الجهاد .
10- تقسيم الغنيمة من غير تأخير .
410 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ ( قَالَ : (( إذَا جَمَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الأَوَّلِينَ وَالآخَرِينَ : يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ , فَيُقَالُ : هَذِهِ غَدْرَةُ فُلانِ بْنِ فُلانٍ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
لكل غادر : الغادر هو الذي يواعد على أمر ولا يفي به .
لواء : أي راية .
الفوائد :
1- تحريم الغدر وهو حرام بالاتفاق .
2- قوله ( لكل غادر لواء ) قال النووي : " معناه لكل غادر علامة يشهر بها في الناس لأن موضوع اللواء الشهرة مكان الرئيس علامة له ، وكانت العرب تنصب الألوية في الأسواق الحفلة لغدرة الغادر لتشهيره بذلك " .
قال القرطبي : " هذا خطاب منه للعرب بنحو ما كانت تفعل ، لأنهم كانوا يرفعون للوفاء راية بيضاء ، وللغدر راية سوداء ليلوموا الغادر ويذموه ، فاقتضى الحديث وقوع مثل ذلك للغادر ليشتهر بصفته في القيامة فيذمه أهل الموقف " .
1- في الحديث غلظ تحريم الغدر لا سيما من صاحب الولاية العامة ، لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثير ، ولأنه غير مضطر إلى الغدر لقدرته على الوفاء .
2- لما كان الغدر من الأمور الخفية ، ناسب أن تكون عقوبته بالشهرة ، ونصب اللواء أشهر الأشياء عند العرب .
3- في الحديث دليل على أن الإنسان ينسب إلى أبيه في الموقف العظيم .(8/71)
4- فيه رد لمن قال : إنهم ينسبون لأمهاتهم ستراً عليهم ، وقد ورد حديث في هذا الشأن رواه الطبراني وهو قوله ( ( إن الناس يدعون باسم أمهاتهم يوم القيامة ستراً عليهم ) وهو حديث ضعيف جداً كما قال الحافظ ابن حجر .
411 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (( أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ ( مَقْتُولَةً , فَأَنْكَرَ النَّبِيُّ ( قَتْلَ النِّسَاءِ , وَالصِّبْيَانِ )) .
--------------------------------------------
الفوائد :
1- الحديث دليل على تحريم قتل النساء والصبيان .
قال النووي : " أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث ، وتحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا " .
واختلفوا في قتل الضعفاء والرهبان .
فذهب كثير من العلماء إلى عدم قتلهم .
لورود النهي عن ذلك في بعض الأحاديث كحديث ( لا تقتلوا ذرية ولا عسيفاً ) أي أجيراً .
وحديث ( لا تقتلوا شيخاً فانياً ) وحديث ( لا تقتلوا أصحاب الصوامع ) [ وهذه الأحاديث مختلف في صحتها عند العلماء ]
قال ابن قدامة : " إن الإمام إذا ظفر بالكفار لم يجز أن يقتل صبياً لم يبلغ بغير خلاف ، ولا تقتل امرأة ، ولا شيخ فان " .
2- الحالات التي يقتل فيها هؤلاء :
أولاً : إذا قاتلوا وحملوا السلاح أو قاموا بأعمال تعتبر من الأعمال القتالية .
وهذا واضح من تعليل النبي ( ، فإنه ( لما رأى المرأة مقتولة في بعض المغازي قال : [ ما كانت هذه لتقاتل ] فإن مفهومه أنها لو قاتلت لقتلت .
وقال النووي : " أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث ، وتحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا ، فإن قاتلوا يقتلون وبذلك قال جماهير العلماء " .
الحالة الثانية : حين شن الغارات على الأعداء .
ففي صحيح البخاري ومسلم عن الصعب بن جَثّامة قال ( سئل النبي ( عن الذراري من المشركين يُبَيَّتون ، فيصيبون من نسائهم وذراريهم ، فقال : هم منهم ) .(8/72)
وفي رواية للبخاري ( فسئل عن أهل الدار يبيتون من المشركين ، فيصاب من نسائهم وذراريهم ، قال : هم منهم ) .
قوله ( أهل الدار ) أي المنزل .
قوله ( هم منهم ) أي في الحكم في تلك الحالة ، وليس المراد إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم ، بل المراد إذا لم يمكن الوصول إلى الآباء إلا بوطء الذرية ، فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم جاز قتلهم .
ومعنى البيات المراد في الحديث : أن يغار على الكفار بالليل بحيث لا يميز بين أفرادهم . [ قاله الحافظ ابن حجر ] .
وقال النووي : " ومعنى البيات ويبيتون : أن يغار عليهم بالليل بحيث لا يعرف الرجل من المرأة والصبي ، وأما الذراري فبتشديد الياء والمراد بالذراري هنا النساء والصبيان " .
412 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ( (( أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ , وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ , شَكَوَا الْقَمْلَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ( فِي غَزَاةٍ لَهُمَا فَرَخَّصَ لَهُمَا فِي قَمِيصِ الْحَرِيرِ وَرَأَيْته عَلَيْهِمَا )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
رخص : الرخصة هي التسهيل والتيسير .
الفوائد :
1- سبق في باب اللباس أن لبس الحرير للرجال حرام وسبقت أدلته .
وسبق أن من الحالات التي يجوز فيها لبس الحرير هي الحاجة والضرورة كما في حديث الباب . وهو يدل على الجواز .
وقد سبقت مباحثه في كتاب اللباس .
2- سماحة الشريعة الإسلامية .
3- زهد الصحابة وسهولتهم .
4- استشارة وسؤال أهل العلم .
5- الضرورات تبيح المحظورات .(8/73)
413 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ( قَالَ : (( كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ : مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ( مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ ( خَالِصاً , فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ( يَعْزِلُ نَفَقَةَ أَهْلِهِ سَنَةً , ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي الْكُرَاعِ , وَالسِّلاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
بني النضير : إحدى القبائل اليهودية الثلاث التي كانت بالمدينة .
أفاء : الفيء ما يحصل للمسلمين من أموال الكفار من غير حرب ولا جهاد .
لم يوجِف : الإيجاف الإسراع والحمل ، أي مما لم يحملوا عليه .
بخيل : معروف .
ولا رِكاب : بكسر الراء هي الإبل التي تركب للجهاد .
الكُراع : بضم الكاف وفتح الراء هو اسم للخيل .
الفوائد :
1- بنوا النضير قبيلة من اليهود تقيم قريتها قرب المدينة النبوية ، فلما قدم النبي ( إلى المدينة صالحهم فنقضوا العهد حيث غدروا به وهموا باغتياله ، فحاصرهم في ديارهم وانتهى الصلح معهم بأن يخرجوا من ديارهم وليس معهم إلا ما حملته الإبل من متاعهم إلا السلاح ، وما بقي من أموالهم فهو فيء .
2- أن الأموال التي تؤخذ من الكفار تنقسم إلى قسمين :
الغنيمة : وهو ما أخذ من الكفار بقتال .
الفيء : وهو ما أخذ من الكفار بدون قتال [ كما حدث في بني النضير ] .
كأن يتركونه فزعاً أو بذلوه خوفاً منّا ، فكل ما حصل من أموال الكفار بدون قتال فهو فيء يصرف في مصالح المسلمين العامة .
3- يكون للإمام منه ما يكفيه ويكفي من يمون .
4- جواز ادخار النفقة للأهل وهذا لا ينافي التوكل .
5- اهتمام النبي ( بالجهاد ، لكونه يصرف ما يخرج عن حاجته إلى الكراع والسلاح .(8/74)
414 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : (( أَجْرَى النَّبِيُّ ( مَا ضُمِّرَ مِنْ الْخَيْلِ : مِنْ الْحَفْيَاءِ إلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ , وَأَجْرَى مَا لَمْ يُضَمَّرْ : مِنْ الثَّنِيَّةِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ . قَالَ ابْنُ عُمَرَ : وَكُنْتُ فِيمَنْ أَجْرَى . قَالَ سُفْيَانُ : مِنَ الْحَفْيَاءِ إلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ : خَمْسَةُ أَمْيَالٍ , أَوْ سِتَّةٌ , وَمَنْ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ : مِيلٌ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
أجرى : أي سابق .
ما ضُمّرَ : يقال أضمرت وضُمّرت وهو أن يقلل علفها مدة وتدخل بيتاً كنيناً وتجلل فيه لتعرق ويجف عرقها فيجف لحمها وتقوى على الجري .
الحفياء : موضع بالمدينة .
ثنية الوداع : هي عند المدينة سميت بذلك لأن الخارج من المدينة يمشي مع المودعون إليها .
الفوائد :
1- فيه جواز المسابقة بين الخيل وجواز تضميرها وهما مجمع عليهما للمصلحة في ذلك وتدريب الخيل ورياضتها وتمرنها على الجري وإعدادها لذلك لينتفع بها عند الحاجة في القتال كراً وفراً [ قاله النووي ] .
ففي حديث الباب دليل على مشروعية السباق بالخيل ، وأنه ليس من العبث بل من الرياضة المحمودة الموصلة إلى تحصيل المقاصد الشرعية في الغزو والانتفاع بها في الجهاد .
2- جواز المسابقة بالخيل لأن ذلك مما يعين على الجهاد في سبيل الله ، والخيل في ذلك الزمان هي العدة التي يقاتل عليها أعداء الإسلام .
3- من نظام المسابقة عليها أن كل نوع من الخيل يتسابق أفراده بعضه مع بعض ، فالخيل المُضمرة تتسايق وحدها ، والخيل التي لم تُضمر تتسابق وحدها ، ليحصل الفوز بين واحد وآخر بنفس الجودة والقوة .(8/75)
4- أن لكل نوع من الخيل غايته ومداه الذي يناسبه ، فالخيل المضمرة [ وهي اسرع جري وأخف ] غايتها من الحفياء إلى ثنية الوداع ، وقدرت هذه المسافة خمسة أميال أو ستة .
أما التي لم تضمر فأمدها وغايتها من الثنية إلى مسجد بني زُرَيْق ، وغاية هذه المسافة وأمدها ميل واحد .
5- جواز قول مسجد بني فلان ، وقد ترجم البخاري لحديث الباب : هل يقال مسجد بني فلان ؟ وهذا مذهب جماهير العلماء ، وهو الصحيح .
وخالف في ذلك إبراهيم النخعي .
415 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : (( عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ( يَوْمَ أُحُدٍ , وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ , فَلَمْ يُجِزْنِي , وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ , وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ , فَأَجَازَنِي )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
يوم أحد : أي غزوة أحد .
فلم يجزني : المراد هنا لم يعده في المقاتلة .
يوم الخندق : أي يوم غزوة الأحزاب .
فأجازني : أي أمضاه ، وأذن له بالقتال .
الفوائد :
1- هذا الحديث دليل لتحديد البلوغ بخمس عشرة سنة ، وأنه باستكماله يصير مكلفاً وإن لم يحتلم ، فتجري عليه الأحكام من وجوب العبادة وغيره ويستحق سهم الرجل من الغنيمة ، ويقتل إن كان من أهل الحرب وهو مذهب الشافعي وأحمد.
[ قاله النووي ]
وهذا هو القول الأول : أن سن البلوغ هو : 15 سنة .
قال الحافظ ابن حجر : " وقال الشافعي وأحمد والجمهور : حده فيهما استكمال خمس عشرة سنة " .
لحديث الباب .
القول الثاني : أن سن البلوغ هو : 17 سنة .
وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك .
قال الشوكاني : " وقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما : لا يحكم إذا لم يحتلم بالبلوغ إلا بعد مضي سبع عشرة سنة " .
القول الثالث : أن سن البلوغ هو : 18 سنة .
وعزي هذا لأبي حنيفة .
قال الحافظ ابن حجر : " وقال أبو حنيفة : سن البلوغ تسع عشرة أو ثمان عشرة للغلام " .(8/76)
القول الرابع : أن سن البلوغ هو : 19 سنة .
وهو قول ابن حزم .
والراجح القول الأول .
ومن علامات البلوغ :
الثانية : البلوغ بالاحتلام .
وهو إنزال المني من القُبُل وهو الماء الدافق سواء خرج بجماع أو احتلام .
قال الحافظ ابن حجر : " وقد أجمع العلماء على أن الاحتلام في الرجال والنساء يلزم به العبادات والحدود وسائر
الأحكام ".
قال تعالى ( وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا ) .
وقال ( ( رفع القلم عن ثلاثة : ....عن الصبي حتى يحتلم ) رواه أبو داود .
الثالثة : البلوغ بالإنبات .
وبه قال مالك والشافعي وأحمد وابن حزم .
قال ابن قدامة : " وأما الإنبات فهو أن ينبت الشعر الخشن حول ذكر الرجل أو فرج المرأة الذي استحق أخذه بالموسي .
لحديث عطية القرظي قال ( عرضنا على النبي ( يوم قريظة ، فكان من أنبت قتل ، ومن لم ينبت خلي سبيله ، فكنت فيمن لم ينبت فخلي سبيلي ) رواه أبو داود " .
الرابعة : البلوغ بالحيض .
وهو علامة على البلوغ عند المرأة بالإجماع .
قال ابن قدامة : " وأما الحيض فهو علم على البلوغ لا نعلم فيه خلافاً " .
وقال الحافظ ابن حجر : " وقد أجمع العلماء على أن الحيض بلوغ في حق النساء " .
لحديث عائشة . قالت : قال رسول الله ( ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ) رواه أبو داود .
والمراد بالحائض البالغة .
قال ابن الأثير : " لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار ، أي التي بلغت سن المحيض وجرى عليها القلم ، ولم يرد في أيام حيضها لأن الحائض لا صلاة عليها " .
2- قوله ( عرضت على رسول الله ( ) عرض الجيش : اختبار أحوالهم قبل مباشرة القتال ، للنظر في هيئتهم ، وترتيب منازلهم ، وغير ذلك .
3- في الحديث أن الإمام يستعرض من يخرج معه للقتال قبل أن تقع الحرب ، فمن وجده أهلاً استصحبه وإلا ردّه .
4- حرص الصحابة على الخير وتسابقهم على الجهاد في سبيل الله ونصرة دين الله .
5- أن من شروط الجهاد : البلوغ .
وشروط الجهاد خمسة :(8/77)
أولاً : الإسلام .
لأن النصوص الشرعية حضت المؤمنين في التكليف بالجهاد .
قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ) .
وقال تعالى (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ) .
الثاني : البلوغ .
لحديث الباب .
ولحديث ( رفع القلم عن ثلاثة : ... ) .
الثالث : العقل .
للحديث السابق ( رفع القلم عن ثلاثة ... ) .
والتعليل : قال ابن قدامة : " والمجنون لا يتأتى منه الجهاد " .
الرابع : الحرية .
قال تعالى ( وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ) ولا مال للعبد ، ولا نفس يملكها فلم يشمله الخطاب .
الخامس : الذكورة ، فالمرأة لا يجب عليها الجهاد .
عن عائشة ( أنها استأذنت النبي ( في الجهاد ، فقال : جهادكن الحج ) رواه البخاري .
قال ابن بطال : " دل حديث عائشة على أن الجهاد غير واجب على النساء ولكن ليس في قوله [ جهادكن الحج ] أنه ليس لهن أن يتطوعن بالجهاد ، وإنما لم يكن عليهن واجباً لما فيه من مغايرة المطلوب منهن ، من الستر ومجانبة الرجال " .
سادساً : سلامة البدن والقدرة على الجهاد .
قال ابن قدامة : " معناه السلامة من العمى والعرض والمرض وهو شرط لقوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ) " .
416 - وَعَنْهُ (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَسَمَ فِي النَّفَلِ : لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ , وَلِلرَّجُلِ سَهْماً )) .
--------------------------------------------
- جاء في رواية ( قسم رسول الله ( يوم خيبر للفرس سهمين ، وللراجل سهماً ) [ الراجل الماشي على رجليه ] .
- وعند أبي داود ( أسْهَمَ لرجلٍ ولفرسه ثلاثة أسهم : سهمين لفرسه ، وسهماً له ) .
معاني الكلمات :(8/78)
النفل : قال النووي : " المراد بالنفل هنا الغنيمة ، وأطلق عليها اسم النفل لكونها تسمى نفلاً لغة ... " .
للفرس : الخيل يطلق على الذكر والأنثى .
الفوائد :
1- هذا الحديث فيه كيفية تقسيم الغنائم بين المجاهدين ، والذي يقسم من الغنيمة للمجاهدين أربعة أخماس ، ويكون :
للراجل : الذي ليس معه حيوان سهم .
ولمن معه حيوان : ثلاثة أسهم ، سهم له وسهمان لفرسه .
2- فضل هذه الأمة حيث أبيحت لهم الغنائم ، وهي من خصائص هذه الأمة ، كما قال ( ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : .... وأحلت لي الغنائم ) متفق عليه .
قال الخطابي : " كان من تقدم على ضربين ، منهم من لم يؤذن له في الجهاد ، فلم تكن لهم مغانم ، ومنهم من أذن له فيه لكن كانوا إذا غنموا شيئاً لم يحل لهم أن يأكلوا وجاءت نار فأحرقته " .
3- وجه التفريق بين الفارس والراجل [ أي الذي على رجليه ] أن فعل الفارس أقوى من فعل الراجل في الكر والفر .
417 - وَعَنْهُ ((َنَّ رَسُولَ اللَّهِ (: كَانَ يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ فِي السَّرَايَا لأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً سِوَى قَسْمِ عَامَّةِ الْجَيْشِ)) .
--------------------------------------------
الفوائد :
1- الحديث يدل على جواز تنفيل السرية التي تقطع من الجيش فتغير على العدو وتغنم منه ، فيعطى أفرادها زيادة على سهمانهم تقديراً لأعمالهم ، وما قاموا به من بلاء في الجهاد على بقية الغزو .
وقد اختلف العلماء في التنفيل هل يكون بعد الخمس أو قبله على قولين :
قيل : يكون بعد الخمس .
والمعنى : يؤخذ الخمس كاملاً ويصرف على خمسة أصناف ، ثم الأربعة الأخماس يؤخذ منها النفل الثلث أو الربع .
وقيل : يؤخذ النفل قبل الخمس [ يعني من أصل الغنيمة ]
ولو قيل الأمر راجع إلى رأي الإمام لكان له وجه .(8/79)
2- قوله ( كان ينفل بعض .. ) فيه أن التنفيل ليس أمراً حتمياً ولكنه راجع إلى رأي الإمام ، والإمام يجب أن يراعي المصلحة إن اقتضى التنفيل فعل وإلا فلا .
3- فيه بعث السرايا .
4- الترغيب في تحصيل مصالح القتال .
418 - عَنْ أَبِي مُوسَى - عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ - عَنْ النَّبِيِّ ( قَالَ : (( مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
فليس منا : أي ليس على طريقتنا ، والأفضل إطلاق اللفظ وعدم تأويله ليكون أبلغ في الزجر .
الفوائد :
1- تحريم حمل السلاح على المسلمين لقتالهم به بغير حق أو ترويعهم أو تخويفهم وقد جاء الحديث بلفظ ( من شهر علينا السلاح ... ) أخرجه البزار ، وعند أحمد ( من رمانا بالنبل فليس منا ) .
وقد جاءت نصوص في تحريم ترويع المسلم أو قتاله أو تخويفه :
قال ( ( من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه وإن كان أخاه لأبيه وأمه ) رواه مسلم .
وعن جابر ( نهى رسول الله ( أن يتعاطى السيف مسلولاً ) رواه الترمذي .
وقال ( ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) متفق عليه .
وقال ( (لا يشر أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري ، لعل الشيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من النار ) متفق عليه .
وعن جابر قال ( مر رجل بسهام في المسجد ، فقال له رسول الله ( : أمسك بنصالها ) متفق عليه .
2- ليس من أخلاق المسلم قتال المسلم وترويعه بل هي من أعمال الكفار .
3- لا يجوز الخروج على الحكام الظلمة من غير تأويل سائغ ، لما في ذلك من إراقة الدماء وقتل النفوس المسلمة .(8/80)
419 - عَنْ أَبِي مُوسَى ( قَالَ : (( سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ( عَنْ الرَّجُلِ : يُقَاتِلُ شَجَاعَةً , وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً ، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً . أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا , فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
حمية : الحمية هي الأنفة والغيرة والمحاماة عن عشيرته ، جاء في رواية ( غضباً ) .
رياء : أي ليراه الناس . جاء في رواية ( والرجل يقاتل ليرى مكانه ) ، جاء في رواية ( يقاتل للمغنم ) .
الحاصل من الروايات أن القتال يقع بسبب خمسة أشياء : طلب المغنم ، وإظهار الشجاعة ، والرياء ، والحمية ، والغضب .
كلمة الله : أي سبب قتاله إعلاء كلمة الله .
الفوائد :
1- وجوب الإخلاص في الجهاد في سبيل الله .
2- أن الأعمال إنما تحسب بالنيات الصالحة وأن الفضل الذي ورد في المجاهدين في سبيل الله يختص بمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا .
ولذلك جاءت الآيات بالقرآن الكريم في التقييد في سبيل الله :
(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) .
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) .
(فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) .
(فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ) .(8/81)
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) .
(الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) .
3- لا بأس إذا حصل غرض دنيوي ما دام الأصل والباعث هو الجهاد في سبيل الله .
قال الطبري : " إذا كان أصل الباعث هو الأول لا يضره ما عرض له بعد ذلك ، وبذلك قال الجمهور " .
لكن روى أبو داود من حديث أبي أمامة بإسناد جيد قال ( جاء رجل فقال يا رسول الله ! أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ما له ؟ قال : لا شيء له ، فأعادها ثلاثاً كل ذلك يقول : لا شيء له ، ثم قال رسول الله ( : إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه ) .
قال الحافظ ابن حجر : " ويمكن أن يحمل هذا على من قصد الأمرين معاً على حد واحد فلا يخالف المرجح أولاً " .
قال ابن أبي جمرة : " ذهب المحققون إلى أنه إذا كان الباعث الأول قصد إعلاء كلمة الله لم يضره ما انضاف إليه " .
قال الحافظ : " ويدل على أن دخول غير الإعلاء ضمناً لا يقدح في الإعلاء إذا كان الإعلاء هو الباعث الأصلي ، ما رواه أبو داود بإسناد حسن عن عبد الله بن حوالة قال ( بعثنا رسول الله ( على أقدامنا لنغنم ، فرجعنا ولم نغنم شيئاً ، فقال : اللهم لا تكلهم إليّ ) " .
4- التحذير من الرياء وأنه محبط للعمل .
وقد سبق حديث [ أول من تسعر بهم النار .... ] .
5- وجوب أن يكون الدين كله لله ، فلا يجوز أن يشرك مع الله أحداً .
6- الحذر من أمراض القلوب من الرياء وغيره .
7- على المجاهد أن يجاهد نفسه في الإخلاص لله تعالى .
8- أن كل عبادة لغير الله فهي باطلة مردودة على صاحبها .
9- فضل الإخلاص لله تعالى .
كِتَابُ الْعِتْقِ
مقدمة :
تعريفه :
هو تحرير الرقبة وتخليصها من الرق .
وهو من أفضل القرب .(8/82)
لحديث أبي هريرة . قال : قال رسول الله ( ( أيما امرىء مسلم أعتق امرأً مسلماً استنقذ الله بكل عضو منه عضواً منه من النار ) متفق عليه .
وللترمذي ( وأيما امرىء مسلم أعتق امرأتين مسلمتين ، كانت فكاكه من النار ) .
ولأبي داود ( وأيما امرأة أعتقت امرأة مسلمة ، كانت فكاكها من النار ) .
وعن أبي ذر . قال ( سألت النبي ( : أي العمل أفضل ؟ قال : إيمان بالله وجهاد في سبيله ، قلت : فأي الرقاب أفضل ؟ قال : أعلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها ) متفق عليه .
[ أنفسها عند أهلها ] أي أرفعها وأجودها .
وجعلته الشريعة في كثير من الكفارات .
يستحب عتق من له كسب .
لأن الذي ليس له كسب يكون عالة على نفسه وعلى غيره .
420 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( مَنْ أَعْتَقَ شِرْكاً لَهُ فِي عَبْدٍ , فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ : قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ , فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ , وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ , وَإِلاَّ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
شركاً : بكسر الشين أي حصة ونصيباً .
عدل : بفتح العين وسكون الدال : أي من غير زيادة في قيمته ولا نقصان .
421 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( عَنْ النَّبِيِّ ( قَالَ : (( مَنْ أَعْتَقَ شِقْصَاً مِنْ مَمْلُوكٍ , فَعَلَيْهِ خَلاصُهُ كُلُّهُ فِي مَالِهِ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ قُوِّمَ الْمَمْلُوكُ قِيمَةَ عَدْلٍ , ثُمَّ اُسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ , غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
شقصاً : قال ابن الأثير : " الشقص السهم في الملك والشركة فيه ، قليلاً كان أو كثيراً " .
استسعيَ العبد : قال العلماء : معنى الاستسعاء أن العبد يكلف الاكتساب والطلب .
الفوائد :(8/83)
1- هذه الأحاديث تتكلم عن العبد إذا كان بين شركاء .
الحديث الأول : معناه أن العبد له عدة مالكين ، وأعتق واحد منهم نصيبه [ شِركه ] ، فيكون هذا المعتِق [ الذي أعتق نصيبه ] إن كان له مال فإنه يدفع للآخرين قيمة أنصبائهم ويعتق جميع العبد [ يسري العتق على جميع العبد ] ، وإذا لم يكن له مال ، فإنه يعتق نصيب المعتق ، ويكون هذا العبد مبعضاً ، يعني بعضه حر وبعضه عبد .
الحديث الثاني : معناه نفس الحديث السابق لكن فيه زيادة تسعية العبد [ أي يستسعى ويقال له اعمل ] لكي يعطى بقية الشركاء حقهم .
2- أن المعتق إذا أعتق نصيبه فإنه يعتق نصيبه مباشرة ، وأما نصيب شريكه فإنه يعتق أيضاً ، ويُقوّم عليه نصيب شريكه .
لظاهر حديث الباب [ ابن عمر ] .
هذا إذا كان المعتِق موسراً .
3- أما إذا كان المعتق معسراً ، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة :
فقيل : ينفذ العتق في نصيب المعتِق فقط ولا يطالب المعتق بشيء ولا يستسعى العبد ، بل يبقى نصيب الشريك رقيقاً كما كان .
وهذا مذهب جمهور العلماء : كمالك والشافعي وأحمد وأبي عبيد .
لحديث الباب [ ابن عمر ] وجعلوا قوله في الحديث الثاني ( فإن لم يكن له مال قُوِّمَ المملوك قيمة عدل ثم استُسعيَ العبد ) مدرجة ، وقد جزم ابن المنذر والخطابي بأنه من فتيا قتادة .
وقيل : يستعسى العبد في حصة الشريك .
وهذا مذهب ابن شبرمة والأوزاعي وأبي حنيفة وابن أبي ليلى
واستدلوا بالحديث الثاني ( فإن لم يكن له مال قُوِّمَ المملوك قيمة عدل ثم استُسعيَ العبد ) .
وهذا القول هو الراجح .
4- حرص الإسلام وتشوفه للعتق ، وجعل له من السراية والنفوذ ما يفوت على مالك الرقيق رقه بغير اختياره في بعض الأحوال ، التي منها ما ذكر في هذا الحديث ، ومن هذه السراية :
لو أن الإنسان ملك العبد كله ، ثم أعتق بعضه ، فإنه يعتق كله في الحال بغير استسعاء ، وهذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد والعلماء كافة .
بابُ بيعِ المُدَبَّرِ(8/84)
422- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ : (( دَبَّرَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ غُلاماً لَهُ - , وَفِي لَفْظٍ : (( بَلَغَ النَّبِيَّ ( : أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ أَعْتَقَ غُلاماً لَهُ عنْ دُبُرٍ - لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ فَبَاعَهُ رَسُولُ اللَّهِ ( بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ , ثُمَّ أَرْسَلَ ثَمَنَهُ إلَيْهِ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
دبّر : قال النووي : " أي قال له أنت حر بعد موتي ، وسمي هذا تدبيراً لأنه يحصل العتق فيه في دبر الحياة " .
لم يكن له مال غيره : جاء في رواية ( وعليه دين ) وفي رواية ( وكان محتاجاً وعليه دين فباعه النبي ( بثمانمائة درهم وأعطاه وقال : اقض دينك ) .
الفوائد :
1- جواز التدبير . قال النووي : " وأجمع المسلمون على صحة التدبير " .
2- الحديث دليل على جواز بيع المدبر قبل موت سيده .
قال النووي : " وبهذا قال الشافعي ، قياساً على الموصى بعتقه فإنه يجوز بيعه بالإجماع ".
قال النووي : " وممن جوزه عائشة وطاووس وعطاء والحسن ومجاهد وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود " .
وقال أبو حنيفة ومالك لا يجوز بيع المدبر .
قالوا : وإنما باعه النبي ( في دين كان على سيده .
والراجح الأول .
3- قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" إذا قال الإنسان لعبده : أنت حر بعد موتي ، صح ، فإذا مات عتق ، ولكن لا يعتق إلا بعد الديْن ومن الثلث فأقل ، فحكمه حكم الوصية .
فإذا مات السيد والعبد مدبر ، قيمته عشرة آلاف ريال ، وعليه دين يبلغ عشرة آلاف ، فإن العبد لا يعتق ، لأن الدين مقدم عليه ، ولهذا باع النبي ( العبد المدبر لقضاء دين سيده .(8/85)
وإذا دبّر سيد عبده وقيمة العبد عشرة آلاف ريال ، وعليه دين يبلغ خمسة آلاف ريال ، وليس له سوى هذا العبد ، فنصفه للدين ويعتق ثلث النصف الباقي ، أي سدس جميعه ، والباقي للورثة ، فيباع العبد على أن سدسه حر ، فيوفى الدين ، والباقي من الثمن يكون ثلثه للعبد ، لأنه كسبَه بجزئه الحر ، والباقي للورثة " .
4- في الحديث نظر الإمام في مصالح رعيته وأمرهم إياهم بما فيه الرفق بهم وإبطالهم ما يضرهم من تصرفاتهم التي يمكن فسخها.
5- أن الإنسان ينبغي له أن يبدأ بنفسه وبمن يعول قبل الصدقة والتبرع .
6- العتق بالتدبير أقل أجراً من العتق حال الحياة ، لأن عتق التدبير يكون بعد الموت ، بعد أن خرج الإنسان من الدنيا ، وقد قال النبي ( ( أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل البقاء وتخشى الفقر ، ولا تمهل - أي تؤخر - حتى إذا بلغت الحلقوم ، قلت : لفلان كذا ولفلان كذا ، وقد كان لفلان ) أي الوارث .
وكذلك العتق في مرض الموت أقل من العتق في الصحة .
7- وجوب الاهتمام بسداد الديون وما على الإنسان من حقوق .
وبهذا ولله الحمد لله تم هذا الشرح في يوم الأربعاء 25 / 5 / 1427هـ
اللهم اجعل هذا العمل خالصاً لوجهك الكريم ، واجعله نافعاً متقبلاً ، اللهم اجعل هذا العلم حجة لنا لا حجة علينا ، اللهم ارحم واغفر لنا ولمشائخنا يا رب العالمين .
اللهم أحسن ختامنا ، وارحم زلاتنا ، واغفر حوباتنا ، وارفع مقامنا ، واكتبنا من عبادك المقبولين .
اللهم يا كريم يا عزيز يا رحيم اغفر لنا ولوالدينا ولمشائخنا ولجميع المسلمين
والله أعلم
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
كانت الساعة 12 ليلاً من مساء الأربعاء - في مدينتي رفحاء شمال السعودية
أخوكم ومحبكم في الله
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية / رفحاء
موقعي على الانترنت
www.almotaqeen.net
البريد الالكتروني
Smr898@hotmail.com
??
??
??
??
10
9(8/86)