بسم الله الرحمن الرحيم
إيقاظ الأفهام
في شرح
عمدة الأحكام
كتاب الطهارة
بقلم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية / رفحاء
الموقع على الإنترنت
www.almotaqeen.net
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا
والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد
فمن المعلوم أن كتاب عمدة الأحكام للإمام عبد الغني المقدسي ( المتوفى سنة 600 هـ ) من الكتب الحديثة المهمة التي حوت على أحاديث تعتبر في أعلى الصحة لأنها مختارة من الصحيحين ( البخاري ومسلم ) ، وهو كتاب نافع فقد رتبه مؤلفه رحمه الله على الأبواب الفقهية .
ونظراً لقيمته وأهميته فقد قمت بشرحه واستخراج الفوائد والمسائل الفقهية من أحاديثه من كتب أهل العلم كالإمام النووي ، والحافظ ابن حجر ، وغيرهما .
سائلاً المولى عز وجل أن يرزقنا الإخلاص في العلم والعمل ، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه
وهذه المذكرة تحتوي على كتاب الطهارة كاملاً .
أخوكم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية / رفحاء
البريد الإلكتروني
Smr898@hotmail.com
1) عن أمير المؤمنين أبي حفص ( عمر بن الخطاب ) - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) متفق عليه .
------------------------------------------------------
راوي الحديث
هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى ، أسلم في السنة 6 من البعثة ، استخلفه أبو بكر على الخلافة ، وكانت خلافته عشر سنوات وستة أشهر وثلاثة أيام ، قتل شهيداً في ذي الحجة سنة 23هـ عن 63سنة .
معاني الكلمات(1/1)
( إنما ) إنما أداة حصر يؤتى بها للحصر فكأنه قال : لا عمل إلا بنية ، ومعنى الحصر : إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه .
( النيات ) جمع نية ، والنية هي : عزم القلب على فعل الشيء .
( هجرته ) الهجرة : الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام وسيأتي أنواعها .
( دنيا ) قال الحافظ ابن حجر : " سميت بذلك لسبقها للأخرى ، وقيل : سميت بذلك لدنوها إلى الزوال ، وحقيقتها :
ما على الأرض من الهواء والجو مما قبل قيام الساعة " .
( امرأة ) هذا من باب الخاص عن العام ، للاهتمام به ولشدة الافتتان بها .
الفوائد :
هذا الحديث من الأحاديث الهامة التي عليها مدار الإسلام .
قال أبو عبد الله : " ليس في أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - أجمع وأغنى فائدة من هذا الحديث " .
وقال الشافعي : " يدخل في سبعين باباً من أبواب الفقه " .
وقال عبد الرحمن بن مهدي : " لو صنفت كتاباً في الأبواب لجعلت حديث عمر في كل الأبواب " .
ولأهمية هذا الحديث ابتدأ به البخاري صحيحه ، والإمام النووي في كتبه الثلاثة : رياض الصالحين ، والأذكار ، والأربعين نووية .
اختلف العلماء في معنى ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ) : هل هاتان الجملتان بمعنى واحد أو مختلفتان ؟
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : " الصواب أن الثانية غير الأولى ، فالأولى باعتبار المنوي وهو العمل ، والثانية باعتبار المنوي له وهو المعمول له ، هل أنت عملت لله أو عملت للدنيا " .
وجوب إخلاص النية لله تعالى .
وقد قال تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين . . . } الآية
وجوب التعيين في النية ، فلا بد أن يعين هذه الصلاة هل ظهر أو عصر ، أو فرض أو نفل .
النية شرط لصحة العبادات كالصلاة والحج والصوم فلا تصح إلا بها ، كذلك شرط للوضوء والغسل وهو مذهب الجمهور .
أن النية محلها القلب والتلفظ بها بدعة .(1/2)
قال ابن تيمية : " التلفظ بالنية بدعة لم يفعله الرسول ( ولا أصحابه " .
قال ابن القيم : " النية هي القصد والعزم على فعل الشيء ومحلها القلب لا تعلق لها باللسان أصلاً ولذلك لم تنقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه ، فالنية لفظ بحال ولا سمعنا عنهم ذكر ذلك " .
قد يقول قائل : الملبي يقول : لبيك عمرة ، لبيك حجاً . . ، أليس هذا نطقاً بالنية ؟
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : " لا ، هذا من إظهار شعيرة النسك ، ولهذا قال بعض العلماء : إن التلبية في النسك كتكبيرة الإحرام في الصلاة " .
وجوب إخلاص العمل لله تعالى وان يقصد بعمله وجه الله تبارك وتعالى لقول ( إنما لكل امرئ ما نوى )
والإخلاص تعريفه : تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين .
وقال بعض السلف : المخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته .
وقال حكيم : " في إخلاص ساعة نجاة الأبد ولكن الإخلاص عزيز " .
المقصود من النية :
تمييز العادات من العبادات .
مثال : شخص جلس في المسجد معتكفاً يريد أن يتقرب إلى الله ، وشخص آخر يريد الراحة ، فالأول عبادة والثاني عادة .
تمييز العبادات بعضها عن بعض .
مثال : رجل يصلي ركعتين ينوي بذلك التطوع ، وآخر يصلي ركعتين ينوي بذلك الفريضة ، فالعملان تميزا بالنية ، هذا نفل وهذا واجب .
وجوب الهجرة في سبيل الله .
والهجرة هي الانتقال من دار الشرك إلى دار الإسلام ، وهي تكون :
واجبة : لمن لا يستطيع أن يقيم دينه ، كهجرة المسلمين من مكة إلى الحبشة ، أو من مكة إلى المدينة .
أن الهجرة إلى الله من الأعمال الصالحة لأنها يقصد بها الله ورسوله ، وكل عمل يقصد به الله ورسوله فإنه من الأعمال الصالحة .
التحذير من الهجرة لغير الله .(1/3)
وقد ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك مثالاً واقعاً ، ( ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها ) أي يحصلها ( أو امرأة ينكحها ) أي يتزوجها ( فهجرته إلى ما هاجر إليه ) من الدنيا والمرأة ، أي فنصرفه لهما وإن كانت صورتها صورة الهجرة إلى الله ورسوله .
وقد وقعت الهجرة على أنواع :
الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام .
كما في الهجرة إلى المدينة .
الهجرة من دار الخوف إلى دار الأمن .
كما في الهجرة إلى الحبشة .
ترك ما نهى الله عنه .
كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ) .
التحذير من الدنيا وفتنتها
قال تعالى : { يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا } .
وقال تعالى { وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا ) رواه مسلم
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا ) متفق عليه
وقال علي - رضي الله عنه - في الدنيا : ( أولها عناء ، وآخرها فناء , حلالها حساب ، وحرامها عقاب ، من استغنى فيها فتن ، ومن افتقر فيها حزن ) .
وقال الحسن البصري : ( من نافسك في دينك فنافسه ، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره ) .
التحذير من فتنة النساء .
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث : ( . . . فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت النساء ) .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ) متفق عليه
وقد قيل : إن كيدهن أعظم من كيد الشيطان لأن الله يقول : { إن كيد الشيطان كان ضعيفاً } .
وقال تعالى : { إن كيدكن عظيم ( .
2) عن أبي هريرة- رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ) أخرجه البخاري(1/4)
------------------------------------------------------
راوي الحديث
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي أسلم عام خيبر سنة 7 من الهجرة وسبب تكنيته بأبي هريرة أنه كانت له في صغره هرة صغيرة يلعب بها ، وهو أكثر الصحابة رواية للحديث ، مجموع ما رواه ( 5374 ) حديثاً ، مات سنة 57هـ .
معاني الكلمات
( لا يقبل ) المراد ينفي القبول نفي الصحة
( صلاة ) نكرة في سياق النفي فهي كل صلاة : صلاة الحضر والسفر ، وصلاة الجنازة .
( إذا أحدث ) إذا خرج منه ما ينقض الوضوء ، كالبول والغائط والريح .
الفوائد :
هذا الحديث دليل على الوضوء وشرط لصحة الصلاة .
قال النووي : " هذا الحديث نص في وجوب الطهارة للصلاة ، وقد أجمعت الأمة على أن الطهارة شرط في صحة الصلاة " .
وقال رحمه الله : " أجمعت الأمة على تحريم الصلاة بغير طهارة من ماء أو تراب ولا فرق بين الصلاة المفروضة والنافلة "
الحديث يدل على بطلان الصلاة بالحدث سواء كان خروجه اختيارياً أم اضطرارياً .
من صلى وهو محدث متعمداً بلا عذر فهو آثم ، ولكن هل يكفر ؟
وقيل : لا يكفر ونسبه النووي للجمهور .
وقيل : يكفر ونسبه النووي لأبي حنيفة ، لتلاعبه .
من انتقض وضوءه أثناء الصلاة فإنه لا يجوز له أن يكمل صلاته ، بل يجب أن يقطعها ، وإن كان أكملها فهو آثم .
أن من انتقض وضوءه وهو إمام فإنه يجب أن يخرج من صلاته ، ولا يجوز أن يكمل صلاته ، ويقدم أحد المأمومين ليكمل بالمصلين .
أختلف العلماء في سجود الشكر والتلاوة هل لا بد من وضوء أم لا ؟
قيل : لا بد من وضوء .
وهذا المذهب ، لأنها صلاة .
وقيل : لا يشترط لهما طهارة .
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيميه وابن القيم والشوكاني .
لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تطهر لسجود التلاوة ، ولم ينقل أنه أمر بذلك .(1/5)
وأيضاً فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون ولم ينقل أنه أمر أحداً من المسلمين الذين كانوا معه بالوضوء .
روي عن ابن عمر - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يسجد على غير طهارة
وهذا هو القول الصحيح .
وأما قول أصحاب القول الأول أن سجود الشكر والتلاوة صلاة ، فهذا غير مسلَّم فيه .
لأن المرجع في مسمى الصلاة قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( مفتاح الصلاة الطهور ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم ) فهذا الحديث يبين أن الصلاة التي مفتاحها الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم
وهذه الأمور منتفية في سجود التلاوة والشكر .
إذا لم يجد الإنسان ماءً ولا تراباً فإنه يصلي على حسب حاله .
لقوله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } .
ولقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) متفق عليه
واختار هذا القول النووي وقال : " هو أقوى الأقوال دليلاً " .
واختاره شيخ الإسلام ابن تيميه .
وقيل : يجب أن يصلي على حاله ويجب أن يعيد ، وقيل : يحرم عليه أن يصلي ويجب القضاء .
من صلى ثم تذكر بعد فترة أن صلاته هذه على غير طهارة فإنه يجب أن يعيدها .
انتهى الدرس الأول 7/1/1425هـ
3) عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وأبي هريرة ، وعائشة - رضي الله تعالى عنهم - قالوا : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
( ويلٌ للأعقاب من النار ) متفق عليه .
-----------------------------------
راوي الحديث :
هو عبد الله بن عمرو بن العاص ، وكان غزير العلم ، مجتهداً في العبادة ، أحد المكثرين من الحديث من الصحابة ، وأحد العبادله الفقهاء ، مات 63 من الهجرة .
الحديث له قصة : فقد قال عبد الله بن عمرو ( تخلف عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفره ، فأدركنا وقد أرهقنا العصر فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا ، قال : فنادى بأعلى صوته : ( ويل للأعقاب من النار ) .(1/6)
معاني الكلمات :
( ويل ) كلمة تهديد ووعيد ، قال ابن حجر : " الويل : وادٍ في جهنم ، رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي سعيد مرفوعاً " .
( العقب ) مؤخرة القدم .
الفوائد :
وجوب غسل الرجلين إذا لم يكن عليها خف
قال عبد الرحمن بن أبي ليلى : ( أجمع أصحاب رسول الله ( على غسل القدمين ) . رواه سعيد بن منصور
الوعيد ممن يتساهل في غسل بعض أعضائه .
أن من ترك جزءاً يسيراً مما يجب تطهيره لا تصح طهارته .
قال النووي : " وهذا متفق عليه " .
عن عمر - رضي الله عنه - : أن رجلاً توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( ارجع فأحسن وضوءك فرجع ثم صلى ) . رواه مسلم
استحباب إسباغ الوضوء : وهو إتمامه وإكماله .
وقد جاءت الأحاديث في فضل إسباغ الوضوء :
عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ألا أدلكم على ما يمحوا الذنوب والخطايا ويرفع الدرجات قالوا بلى يا رسول الله ، قال : إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط ) . رواه مسلم
وعن لقيط بن صبرة - رضي الله عنه -قال - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أسبغ الوضوء ) . رواه أبو داود
أن الكثير من الناس يتساهلون في غسل مؤخرة الأعضاء وهذا خطأ يجب التنبيه عليه .
لقد جاء التهديد بالويل على بعض الأعمال ، ومنها :
المكذبين بالبعث .
قال تعالى : { ويل للمكذبين } .
للكافرين .
قال تعالى : { فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم } .
القاسية قلوبهم .
قال تعالى : { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله } .
المغتاب والنمام .
قال تعالى : { ويل لكل همزةٍ لمزة } .
المصلون الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها .
قال تعالى : { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون } .
الذي يكذب ليضحك الناس .(1/7)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك القوم ويل له ويل له ) رواه أبو داود
المكثر من المال غير المنفق .
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ويل للمكثرين ، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا ) رواه ابن ماجه
في الحديث أن الله قد يعذب بعض أجزاء الإنسان كقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار ) .
4) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم ليستنثر ومن استجمر
فليوتر . وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثاً ، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده ) متفق عليه .
-----------------------------------
معاني الكلمات :
الاستنشاق : جعل الماء في الأنف .
الاستنثار : إخراج الماء من الأنف .
الاستجمار : إزالة الخارج من السبيلين بالأحجار .
الفوائد :
في الحديث دليل على وجوب الاستنشاق .
لقوله ( فليجعل في أنفه ماء . . . ) وهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب ، وكذلك المضمضة واجبة ويدل لوجوبها .
حديث لقيط بن صبرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( اسبغ الوضوء وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً وإذا توضأت فمضمض ) . رواه أبو داود
فقوله ( وإذا توضأت فمضمض ) هذا أمر والأمر يقتضي الوجوب .
ومما يدل أيضاً على أن المضمضة والاستنشاق من واجبات الوضوء .
قوله تعالى : { . . . وإذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم . . . } . والفم والأنف داخلان في الوجه .
استحباب الوتر في الاستجمار . وهذا فيه تفصيل :
فإن كان المراد ثلاث أحجار فهذا واجب :
- لحديث سلمان - رضي الله عنه - قال : ( نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستجمر بأقل من ثلاثة أحجار ) رواه مسلم(1/8)
- ولحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال ( أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار فوجدت حجرين ولم أجد ثالثاً فأتيته بروثة فأخذهما وألقى الروثة وقال هذا ركس ) رواه البخاري
- زاد أحمد ( ائتني بغيرها )
فهذه الأحاديث تدل على أنه يشترط أن يكون الاستجمار بثلاثة أحجار .
وما زاد على الثلاث فيستحب أن تقطعه على وتر .
مثال : أنقى بأربع يستحب أن يزيد خامسة
أنقى بست يستحب أن يزيد سابعة
أنقى بثمان يستحب أن يزيد تاسعة .
فائدة :
الأشياء التي لا يجوز الاستجمار بها :
( العظم ) ، ( الروث ) ، ( طعام الإنس ) ، ( الشيء النجس )
لحديث سلمان قال : ( نهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نستجمر بعظم أو روث ) رواه مسلم
أ- العظم : طعام الجن ب - الروث : طعام دوابهم جـ - طعام الإنس : لأنه كفر بالنعمة
أما عدا ذلك فيجوز الاستجمار به : كالخشب ، والأوراق ، والمناديل وغيرها .
في قوله ( . . فليغسل يديه . . ) الأمر بغسل اليدين ثلاثاً إذا استيقظ من النوم قبل إدخالهما في الإناء .
وقد اختلف هل الأمر للوجوب أم الاستحباب ؟
قيل : للاستحباب .
وقيل : للوجوب .
وهذا القول هو الصحيح .
لأن قوله ( فليغسل ) أمر والأمر يقتضي الوجوب .
قوله ( . . من نومه . . ) المراد بهذا نوم الليل خاصة ، وهذا مذهب أحمد وداود الظاهري . ويدل لذلك :
أنه جاء في رواية عند أبي داود ( . . . إذا استيقظ أحدكم من نوم الليل . . . ) .
لقوله ( . . باتت . . ) والبيتوتة لا تكون إلا بالليل .
اختلف في الحكمة من غسل اليدين :
فقيل : الحكمة تعبدية
وقيل : كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده ) .
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله .
أن الإنسان القائم من نوم الليل لو خالف وغمس يديه في الإناء قبل غسلهما ثلاثاً فإن الماء لا ينجس وهذا مذهب الجمهور ، لأنه لم يأت ما ينجسه .(1/9)
انتهى الدرس الثاني11/1/1425هـ
5) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل به )
ولمسلم ( لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب ) متفق عليه .
------------------------------------------------------
الرواية الأولى ( لا يبولن . . . . )
الحديث يدل على تحريم البول في الماء الدائم [ وهو المستقر ] الذي لا يجري .
ففي الحديث : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى الإنسان أن يبول في الماء الراكد الذي لا يجري - لماذا ؟
لأنه سيحتاج إلى أن يغتسل منه أو يتوضأ منه .
فكأن قوله ( ثم يغتسل فيه ) أخرج مخرج الغالب .
فالراجح تحريم البول في الماء الراكد قليلاً كان أو كثيراً .
وهذا مذهب الحنفية الظاهرية .
ويؤيد هذا حديث جابر - رضي الله عنه - : ( أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبال في الماء الراكد ) . رواه مسلم
حكم الماء الذي بيل فيه :
هذه المسألة تبنى على مسألة إذا وقعت النجاسة في الماء هل ينجس الماء أم لا ؟
اتفق العلماء على أن الماء إذا وقعت فيه نجاسة وغيرت أحد أوصافه الثلاثة لونه أو طعمه أو ريحه فإنه ينجس بالإجماع
وقد جاء الإجماع على ذلك .
وقد ورد ما يؤيد هذا لكنه حديث ضعيف قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما تغير ريحه أو لونه أو طعمه ) لكنه حديث لا يصح والإجماع متفق على معناه .
أما إذا وقعت النجاسة في الماء ولم يتغير أحد أوصافه ، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة .
والراجح فيها : أن الماء لا ينجس إلا بالتغير من غير تفريق بين قليل وكثير .
وهذا مذهب الإمام مالك واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والشوكاني والشيخ محمد بن عثيمين رحم الله الجميع .
الأدلة :
هؤلاء قالوا : لا فرق بين الكثير والقليل ، فما تغير بنجاسة فهو نجس ، وما لم يتغير بالنجاسة فليس بنجس .(1/10)
لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الماء طهور لا ينجسه شيء ) . رواه أبو داود
فهذا الحديث العام يبين أن الأصل في المياه الطهارة ولا يخرج من هذا الأصل إلا بدليل .
وقد سبق أن الإجماع منعقد أن النجاسة إذا وقعت فيه فتغيرت أحد أوصافه الثلاثة فهو نجس .
في هذا الحديث ينهى النبي ( عن البول في الماء الراكد ، والتغوط أشد .
قال النووي : " قال أصحابنا وغيرهم من العلماء أن التغوط في الماء كالبول فيه وأقبح ، وكذلك إذا بال في إناء ثم صبه في الماء ، وكذا إذا بال بقرب النهر بحيث يجري إليه البول فكله مذموم قبيح منهي عنه " .
الرواية الثانية ( لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب ) .
جاء في صحيح مسلم أن الراوي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : ( كيف يفعل يا أبا هريرة قال : يتناوله تناولاً ) .
( الدائم ) هو المستقر الذي لا يجري .
( جنب ) جملة حالية أو حال كونه عليه جنابة .
قال النووي : " وأصل الجنابة في اللغة البعد وتطلق على الذي وجب عليه غسل بجماع أو خروج مني ، لأنه يجتنب الصلاة والقراءة والمسجد ويتباعد عنها " .
معنى الحديث :
ينهى النبي - صلى الله عليه وسلم - الجنب أن ينغمس في الماء الراكد وليس المقصود عدم الاغتسال منه مطلقاً بدليل قول أبي هريرة - رضي الله عنه - : ( يتناوله تناولاً ) .
في الحديث النهي عن اغتسال الجنب في الماء الراكد وهذا نهي والنهي يقتضي التحريم .
بهذين القيدين :
أن يكون جنب .
أن يكون الماء راكد .
فلو كان غير جنب فلا يحرم .
ولو كان الماء جاري لا يحرم .
لو خالف هذا المنغمس وانغمس في الماء فإن حدثه يرتفع لأن الماء طهور لم ينجسه شيء ، ولم يخرج عن مسمى الماء.
قال شيخ الإسلام : " ونهيه عن الاغتسال في الماء الدائم يتعلق بمسألة الماء المستعمل وهذا لما فيه من تقذير الماء على غيره ، لا لأجل نجاسته ، ولا لصيرورته مستعملاً " .(1/11)
6) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا شرب الكلب في إناء أحدكم - فليغسله سبعاً ) رواه البخاري
ولمسلم : ( أولاهن بالتراب ) .
وله في حديث عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبعاً وعفروه الثامنة بالتراب ) رواه مسلم
-----------------------------------
الكلب يشمل جميع الكلاب سواء كلاب الصيد المعلمة أو غيرها .
وجوب غسل نجاسته سبع مرات وهذا مذهب كثير من العلماء لقوله ( . . . فليغسله . . . ) وهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب .
وجوب التتريب في غسل نجاسة الكلب وهذا مذهب أكثر العلماء .
والأفضل أن تكون الغسلة بالتراب الأولى .
- لرواية مسلم ( أولاهن ) لأنها أصح إسناداً وأكثر رواة .
- أن الغسل بالتراب لو كانت هي الأخيرة لكان ينبغي غسلة تتبعه غسلة بعدها لإزالة التراب .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : " لان الأولى إذا كانت بالتراب صارت الغسلات الثانية والتي بعدها تزيده طهر ونظافة " .
أنه لابد من التراب فلا يقوم غير التراب مقامه لأنه هو الذي ورد به النص ، ولأنه أحد الطهورين ، اختار بعض العلماء أنه يقوم غير التراب مقامه من الصابون والاشنان ، قالوا : إنما نص على التراب لتوفره وسهولة الحصول عليه .
والراجح الأول .
ذهب بعض العلماء إلى أن الخنزير يقاس على الكلب فيغسل سبع مرات ، قالوا : لأن النص ورد في الكلب والخنزير شر منه وأغلظ منه
لكن هذا القول ضعيف ، والصحيح : أنه لا يقاس الخنزير على الكلب لأمرين :
لأن النص ورد في الكلب
أن الخنزير كان موجود على عهد الرسول ز ومذكور في القرآن ويعرفه الرسول ز ولم يرد الحاقه بالكلب .
فوائد :
يحرم اقتناء الكلب إلا كلب صيد أو كلب ماشية أو زرع .(1/12)
عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من اقتنى كلباً إلا كلب صيد أو ماشية فإنه نقص من أجره كل يوم قيراطان ) . متفق عليه
قال النووي : " يحرم اقتناء الكلب لغير الحاجة مثل أن تقتني كلباً إعجابا بصورته أو للمفاخرة فهذا حرام بلا خلاف ".
سبب نقصان الأجر باقتناء الكلب :
قال النووي : " قيل : لامتناع الملائكة من دخول بيته بسببه ، وقيل : لما يلحق المارين من الأذى من ترويع الكلب لهم وقصده إياهم ، وقيل : إن ذلك عقوبة له لاتخاذه ما نهي عن اتخاذه وعصيانه في ذلك " .
الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب .
عن أبي طلحة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة ) متفق عليه
قال النووي : " قال العلماء سبب امتناعهم من بيت فيه كلب لكثرة أكله النجاسات ، ولأن بعضها يسمى شيطاناً ، ولقبح رائحة الكلب والملائكة تكره الرائحة الخبيثة ، ولأنه منهي عن اتخاذها فعوقب متخذها بحرمانه دخول الملائكة بيته "
انتهى الدرس الثالث
15/1/1425هـ
7) عن حمران مولى عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أنه رأى عثمان دَعَا بِوضوُء فأفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات ، ثم أدخَلَ يمينه في الوَضُوء ، ثم تمضمض واستنشق واستنثر ، ثم غسل وجهه ثلاثاً ، ويديه إلى المرفقين ثلاثاً ، ثم مسح برأسه ثم غسل كلتا رجليه ثلاثاً ، ثم قال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ نحو وضوئي هذا وقال : ( من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه ) متفق عليه .
-----------------------------------
راوي الحديث :(1/13)
هو عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ، وكان إسلامه في أول الإسلام على يد الصديق ، وهاجر الهجرتين ، وتزوج بنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، رقيه وأم كلثوم ، ولهذا سمي بذي النورين ، وكان النبي يستحي منه أكثر من غيره ، وشهد له بالجنة ، مات سنة 25 من الهجرة .
معاني الكلمات :
حمران : بضم الحاء ، وهو مولى عثمان بن عفان - رضي الله عنه - .
دعا بوضوء : طلب ما يتوضأ به ، والواو هنا مفتوحة ، والمقصود بالوضوء هنا الماء الذي يتوضأ به .
فأفرغ : صب .
الفوائد :
استحباب غسل الكفين في بداية الوضوء .
قال النووي : " وهو كذلك باتفاق العلماء " .
وليس المقصود غسل الكفين هاهنا غسلهما بعد الاستيقاظ من النوم وقبل إدخالهما في الإناء لأن هذه مسألة أخرى .
فروض الوضوء :
1- غسل الوجه . 2- غسل اليدين إلى المرفقين . 3- مسح الرأس . 4- غسل الرجلين إلى الكعبين .
لقوله تعالى { يآأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وارجلكم إلى الكعبين } .
5- الترتيب .
للآية السابقة ففي هذه الآية رتب الله عز وجل أعضاء الوضوء ، وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( أبدأ بما بدأ الله به ) .
6- الموالاة [ وهي أن لا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله ] .
لحديث عمران - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبصر رجلاً توضأ وعلى ظهر قدمه مثل الظفر لم يصبه الماء ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ارجع فأحسن وضوءك فرجع فتوضأ ثم صلى ) . رواه مسلم
مشروعية غسل الأعضاء [ غير الرأس ] ثلاث مرات .
قال الشوكاني : " وقد أجمع العلماء على أن الواجب غسل الأعضاء مرة واحدة وأن الثلاث سنة لثبوت الاقتصار من فعله على مرة واحدة ومرتين " .
عن ابن عباس- رضي الله عنه - ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة ) . رواه البخاري(1/14)
وعن عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرتين مرتين ) . رواه البخاري
استحباب البداءة باليمين في غسل أعضاء الوضوء [ وسيبين في مزيد بحث ] .
أن الرأس يمسح ولا يشرع غسله ، بل اختلف العلماء لو غسل رأسه بدلاً من المسح هل يجزئه أم لا ؟
[ فرق بين المسح والغسل ، المسح لا يحتاج إلى جريان الماء بل يكفي أن يغمس يده في الماء ثم يمسح بها رأسه ] .
قال الشيخ محمد بن عثيمين : " وإنما أوجب الله في الرأس المسح دون الغسل لأن الغسل يشق على الإنسان ولا سيما إذا كثر الشعر وكان في أيام الشتاء " .
أن الرأس يمسح مرة واحدة لأنه ذكر بقية الأعضاء ثلاث مرات ولم يذكر ذلك في الرأس [ وسيأتي بحثها ] .
أن الأفضل أن يأتي الإنسان بالمضمضة والاستنشاق قبل غسل الوجه ، وإن أخرهما بعد غسل الوجه جاز .
فضل الركعتين بعد الوضوء .
لكي ينال الأجر [ غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه ] بشرطين :
أن يتوضأ كما توضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - .
لا يحدِّث بهما نفسه .
فائدة
حديث النفس ينقسم إلى قسمين :
حديث نفس يهم على الإنسان فيدفعه فهذا لا يضره .
حديث نفس يستمر ويسترسل معه فهذا يحرمه من فضل الوضوء وفضل هاتين الركعتين بعده وما يترتب على ذلك من المغفرة .
قوله [ غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه ] .
المقصود الصغائر دون الكبائر ، وهذا مذهب أكثر العلماء .
لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر ) . رواه مسلم
إن المرفق يجب غسله مع اليد وهذا مذهب الأئمة الأربعة .
لقوله تعالى { وأيديكم إلى المرافق } أي مع المرافق ، والأحاديث وردت في ذلك ، منها :
جاء عند الدار قطني من حديث عثمان - رضي الله عنه - بإسناد حسن في صفة الوضوء : ( فغسل يديه إلى المرفقين حتى مس أطراف العضدين ) .(1/15)
فائدة : المِرفق : بكسر الميم : هو العظم الناتئ في آخر الذراع سمي بذلك لأنه يُرتَفق به في الاتكاء ونحوه .
انتهى الدرس الرابع
18/1/1425هـ
8) عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه قال : شهدت عمرو بن أبي الحسن سأل عبد الله ابن زيد - رضي الله عنه - عن وُضُوء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فدعا بتور من ماء فتوضأ لهم وُضُوء النبي - صلى الله عليه وسلم - . فأكفأ على يديه من التور فغسل يديه ثلاثاً ، ثم أدخل يده في التور فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات ، ثم أدخل يديه فمسح بهما رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة ، ثم غسل رجليه .
وفي رواية ( بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه )
وفي رواية ( أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرجنا له ماء في تور من صفر ) متفق عليه .
-----------------------------------
معاني الكلمات :
تور : إناء يشبه الطست .
فأكفأ على يده : أمال التور عليها ليصب الماء .
الفوائد :
كيفية المضمضة والاستنشاق :
السنة فيهما أن يأخذ ماءً بكف واحدة غرفة واحدة يجعل بعضهما لفمه والبعض الآخر لأنفه يفعل ذلك ثلاث مرات هذا هو الصحيح وتسمى الوصل .
ففي حديث عبد الله بن زيد : ( أن رسول الله ز تمضمض واستنشق من كف واحدة ) متفق عليه
وعن علي - رضي الله عنه - في صفة الوضوء : ( ثم تمضمض واستنثر ثلاثاً يمضمض ويستنثر من الكف الذي يأخذ منه الماء ) . رواه أبو داود
قال ابن القيم : " وكان يصل بين المضمضة والاستنشاق فيأخذ نصف الغرفة ونصفها لأنفه " .
وأما الفصل بين المضمضة والاستنشاق لم يصح فيه حديث
قال ابن القيم : " ولم يثبت الفصل بين المضمضة والاستنشاق في حديث صحيح البتة "
في هذا الحديث كيفية مسح الرأس : أنه يبدأ بمقدم رأسه ثم يذهب إلى قفاه ثم يرده إلى المكان الذي بدأ منه
هذه هي الصفة الصحيحة الثابتة في الصحيحين .
أنه يكفي لمسح الرأس مرة واحدة .(1/16)
ويدل لذلك حديث علي - رضي الله عنه - في صفة الوضوء قال ( ومسح برأسه واحدة ) . رواه أبو داود
وحديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - ( أن أعرابياً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوضوء فتوضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - فغسل وجهه ثلاثاً وغسل يديه ثلاثاً ومسح رأسه وغسل رجليه ثلاثاً ثم قال : هذا الوضوء فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم ) . رواه أبو داود
وجاء عند سعيد بن منصور زيادة ( ومسح برأسه واحدة ) .
جواز مخالفة أعضاء الوضوء بتفضيل بعضها على بعض وأن التثليث هو الصفة الكاملة وما دونها يجزئ .
الأصل في الأواني الحل .
لقوله تعالي : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } .
فكل إناء طاهر كالخشب والصفر والحديد مباح اتخاذه واستعماله .
فجاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه :
(أغتسل من جفنة ) . رواه أبو داود والجفنة : القصعة .
( وتوضأ من تور صفر ) . رواه البخاري
( وتوضأ من قربة ) متفق عليه
( وتوضأ من إداوة ) متفق عليه الإداوة : إناء صغير من حله .
لكن يستثنى : آنية الذهب والفضة فلا يجوز الأكل والشرب بهما .
لحديث حذيفة - رضي الله عنه - قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ). متفق عليه
وعن أم سلمة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ) . متفق عليه
فوائد :
الدعاء الذي يقال بعد الوضوء :
عن عمر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما منكم أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية ) . رواه مسلم
زاد الترمذي : ( اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ) .
أو يقول :(1/17)
وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - مرفوعاً ( من توضأ ففرغ من وضوئه فقال : سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك طبع الله عليها بطابع ثم رفعت تحت العرش فلم تكسر إلى يوم القيامة ) . رواه الحاكم
واختلف في رفعه ، وعلى تقدير أنه موقوف فله حكم الرفع لأن هذا مما لا مجال للرأي فيه .
فائدة :
كل الأدعية التي تقال أثناء الوضوء باطلة .
قال ابن القيم : " وأما الأذكار التي يقولها العامة على الوضوء عند كل عضو فلا أصل لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا عن أحد الصحابة والتابعين ولا الأئمة الأربعة ، وفيها حديث كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " .
فائدة :
لا يصح ولا حديث في مسح العنق .
قال النووي : " إنه موضوع " .
وقال ابن القيم : " لم يصح عنه في مسح العنق حديث البتة " .
انتهى الدرس الخامس
22/1/1425هـ
9) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : ( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله ، وترجله ، وطهوره ، وفي شأنه كله ) . متفق عليه
-----------------------------------
راوي الحديث :
عائشة بنت أبي بكر الصديق ، أم المؤمنين ، أفقه النساء مطلقاً ، وأفضل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا خديجة ، المبرأة من فوق سبع سموات ، ولم يتزوج النبي ز بكراً غيرها ماتت سنة 57 من الهجرة .
معاني الكلمات :
يعجبه : يسره .
تيمنه : تقديم اليمين .
تنعله : لبس النعال .
ترجله : أي ترجيل شعره ، وهو تسريحه ودهنه .
الفوائد :
الحديث يدل على استحباب البداءة باليمين في الوضوء .
قال النووي : " أجمع العلماء على أن تقديم اليمين في الوضوء سنة ، ومن خالفها فاته الفضل وتم وضوءه ".
وقال في المغني : " لا خلاف بين أهل العلم فيما علمناه في استحباب البداءة باليمين وأجمعوا على أنه لا إعادة على من بدأ بيساره قبل يمينه " .
ومن الأدلة على استحباب اليمين :(1/18)
- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا توضأتم وإذا لبستم فابدؤوا بأيمانكم ) . رواه أبو داود
- وعن عائشة رضي الله عنها قالت : (كانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليمنى لطهوره وطعامه ، وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى) . رواه أبو داود
أن التيامن بالوضوء خاص بالأعضاء الأربعة فقط ، وهما اليدان والرجلان .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : " أما الوجه فالنصوص تدل على أنه لا تيامن فيه . . . و الأذنان يمسحان مرة واحدة ، لأنهما عضوان من عضو واحد ".
الحديث يدل على أنه يستحب البداءة باليمين في كل أمر مشرف .
قال النووي : " هذه قاعدة مستمرة في الشرع ، وهي أن ما كان من باب التكريم والتشريف ، كلبس الثوب وتقليم وقص الشارب وترجيل الشعر . . . وغير ذلك مما هو في فعله يستحب التيامن فيه ، وأما ما كان بضده ، كدخول الخلاء والخروج من المسجد والامتخاط والاستنجاء وخلع الثوب . . . فيستحب التياسر فيه " .
سبب أن النبي ز كان يحب التيمن : قيل : لأنه كان يحب الفأل الحسن ، إذ أصحاب اليمين أهل الجنة .
جاء في رواية : ( . . . ما استطاع . . . ) ففيه المحافظة على ذلك ما لم يمنع مانع .
في الحديث استحباب البداءة باليمين في لبس النعل .
وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين ، وإذا انتزع فيبدأ بالشمال ) .
10) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إن أمتي يأتون يوم القيامة غرّاً محجلين من أثر الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل ) متفق عليه ، واللفظ لمسلم
-----------------------------------
معاني الكلمات :
أمتي : أمة الإجابة ، وهم المسلمون ، وقد تطلق أمة ويراد بها أمة الدعوة ، وليست مرادة هنا .(1/19)
غرّاً : جمع أغر ، أي ذو غرة ، وأصل الغرة لمعة بيضاء تكون في جبهة الفرس ، ثم استعملت في الجَمال والشهرة وطيب الذكر ، والمراد هنا : النور الكائن في وجوه أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، أي أنهم إذا دعوا على رؤوس الأشهاد نودوا بهذا الوصف ، وكانوا على هذه الصفة .
محجلين : من التحجيل ، وهو بياض يكون في ثلاث قوائم من قوائم الفرس ، والمراد هنا : النور .
الفوائد :
الحديث دليل على فضل الوضوء .
أن أثر الوضوء لأجل الطهارة سبب لنورها ، ففي الوجه لمعة بيضاء مشرقة ، وفي اليدين والرجلين نور مضيء .
استدل بحديث الباب على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة .
ورجح هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية .
واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( سيما ليست لأحدكم . . . ) .
وذهب بعض العلماء إلى أنه ليس مختصاً بها ، وإنما المخصوص بها الغرة والتحجيل فقط .
ورجح هذا القول الحافظ ابن حجر .
واستدلوا :
قصة سارة مع الملك ، وأن سارة لمّا همّ الملك بالدنو منها ، قامت تتوضأ وتصلي .
قصة جريج الراهب أيضاً ، قام فتوضأ وصلى ، ثم كلّم الغلام .
حديث : ( هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي ) رواه ابن ماجه
قال ابن حجر : " حديث ضعيف " .
وهذا هو القول الراجح .
اختلف العلماء في حكم إطالة الغرة والتحجيل [ مجاوزة محل الفرض ] على قولين :
القول الأول : أن ذلك مستحب .
وهذا مذهب الشافعية والحنفية .
لحديث الباب .
ولفعل أبي هريرة - رضي الله عنه - كما ثبت عنه ذلك
ولفعل ابن عمر - رضي الله عنه - كان يغسل العضدين والساقين . رواه أبو عبيد بإسناد صحيح كما قال الحافظ ابن حجر
القول الثاني : أن ذلك لا يستحب .
وهذا مذهب مالك وأحمد في رواية اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والسعدي .
- أن مجاوزة محل الفرض بدعوى أنها عبادة دعوى تحتاج إلى دليل .
وحديث الباب لا يدل عليها ، وإنما يدل على نور أعضاء الوضوء يوم القيامة .(1/20)
وأما قوله : ( فمن استطاع . . ) فهي مدرجة من كلام أبي هريرة - رضي الله عنه - لا من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - .
أن كل الواصفين لوضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكروا إلا أنه كان يغسل الوجه واليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الكعبين ، وما كان ليترك الفاضل في كل مرة من وضوئه .
قال الشيخ السعدي رحمه الله : " الصحيح أنه لا يستحب مجاوزة محل الفرض في طهارة الماء ، لأن الله تعالى ذكر حدّ الوضوء إلى المرفقين والكعبين ، وكل الواصفين لوضوء النبي ز لم يذكر أحد منهم أنه فعل ذلك ولا رغب فيه " .
إثبات يوم القيامة ، وسمي بذلك :
لأن الناس يقومون من قبورهم قال تعالى : { يوم يقوم الناس لرب العالمين } .
لقيام الأشهاد قال تعالى : { ويوم يقوم الأشهاد } .
لقيام الملائكة قال تعالى : { يوم يقوم الروح والملائكة صفاً } .
أن معنى الأمة هنا الجماعة من الناس ، وقد أطلقت الأمة في القرآن على أربعة معاني :
الطائفة ، كما في هذا الحديث وكما في قوله تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً . . . } .
الإمام ، كما في قوله تعالى : { إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله } .
المِلّة ، كما في قوله تعالى : { إنا وجدنا آباءنا على أمة } .
الزمن ، كما في قوله تعالى : { وادكر بعد أمة } .
انتهى الدرس السادس
29/1/1425هـ
11) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل الخلاء قال : ( اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث ) متفق عليه .
-----------------------------------
راوي الحديث :
هو أنس بن مالك بن النضر الأنصاري ، أبو حمزة ، خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، خدمه عشر سنوات ، أحد مشاهير الصحابة ، ومن المكثرين من الحديث ، مات سنة 92 من الهجرة ، وقد جاوز المائة .
معاني الكلمات :(1/21)
الخلاء : المكان الخالي ، والمراد به هنا المكان المعد لقضاء حاجته بالبول والغائط ، وسمي به لأنه يختلي به لوحده
أعوذ : التجئ وأعتصم
الخبث : بضم الباء : الخبُث : ذكران الشياطين ، الخبائث : إناث الشياطين ، وبالتسكين : الشر .
قال الشيخ محمد بن عثيمين : " التسكين أعم " .
الفوائد :
استحباب قول هذا الدعاء عند دخول الخلاء .
أن هذا الدعاء يقوله عند إرادة الدخول [ أي قبله ] كما جاء مصرحاً به في رواية عند البخاري في الأدب المفرد : [ كان إذا أراد دخول الخلاء ] .
أن في هذا الدعاء استعاذة والتجاء إلى الله من العدو الشيطان .
جاء في حديث عند الترمذي زيادة [ بسم الله ] فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الكنيف أن يقول : بسم الله ) .
من كان في الصحراء فإنه يقول هذا الذكر : ويكون عند تشمير ثيابه وهذا مذهب الجمهور .
يسن عند الخروج من الخلاء أن يقول : غفرانك .
عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان رسول الله ز إذا خرج من الخلاء قال : غفرانك ) . رواه أبو داود
اختلف العلماء في الحكمة من قوله [ غفرانك ] :
فقيل : يستغفر لأنه ترك ذكر الله في تلك الحالة .
وقيل : أنه لما تخفف من أذية الجسم دعا الله أن يخفف عنه أذية الإثم .
قال ابن القيم : " إن النجو يثقل البدن ويؤذيه باحتباسه ، والذنوب تثقل القلب وتؤذيه باحتباسها فيه فهما مؤذيان مضران بالبدن والقلب ، فحمد الله عند خروجه على خلاصه من هذا المؤذي لبدنه وخفة البدن وراحته ، وسأل أن يخلصه من المؤذي الآخر ويريح قلبه منه ويخففه " .
أن أماكن الخلاء هي أماكن الشياطين .
وفي الحديث قال رسول الله ز : ( إن هذه الحشوش محتضرة فإذا دخل أحدكم الخلاء فليقل : أعوذ بالله من الخبث والخبائث ) . رواه أبو داود
الحشوش : هي الكنف توضع لقضاء الحاجة . محتضرة : تحضرها الشياطين
أن ذكر الله حماية من الشياطين .(1/22)
- ويدل لذلك حديث أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( إن الله تعالى أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها . . . . ) . الحديث
- وفيه : ( وآمركم أن تذكروا الله تعالى ، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً حتى إذا أتى حصن حصين فأحرز نفسه منهم ، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله تعالى ) . رواه الترمذي
- وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( من قال يعني إذا خرج من بيته - بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله ، يقال له : كفيت وهديت وتنحى عنه الشيطان ) . رواه الترمذي
- وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( من قال في يوم مائة مرة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، كانت له حرزاً من الشيطان حتى يمسي ) . رواه مسلم
انتهى الدرس السابع
2/2/1425هـ
12) عن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا ) . قال أبو أيوب : ( فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو بيت الكعبة فننحرف عنها ، ونستغفر الله عز وجل ) متفق عليه
13) عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال : ( رقيت يوماً على بيت حفصة ، فرأيت النبي ز يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة ) . متفق عليه
-----------------------------------
راوي الحديث :
- هو خالد بن زيد الأنصاري ، من كبار الصحابة ، شهد بدراً والمشاهد كلها ، ونزل النبي ز حين نزل المدينة عليه مات غازياً بالروم سنة 50 من الهجرة .(1/23)
- عبد الله بن عمر بن الخطاب ، أبو عبد الرحمن ، وهو أحد المكثرين من الصحابة ، وكان من أشد الناس اتباعاً للأثر ، استصغره النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد ، أثنى عليه النبي ز ووصفه بالفلاح لو أنه يقوم الليل فما تركه بعد ، مات سنة 73 من الهجرة .
معاني الكلمات :
الغائط : أي الموضع الذي يتغوط فيه .
القبلة : أي الكعبة .
ولكن شرقوا أو غربوا : هذا خطاب لأهل المدينة .
الفوائد :
في هذا الحديث ينهى النبي - صلى الله عليه وسلم - من أراد أن يقضي حاجته أن يستقبل أو يستدبر القبلة .
وقد اختلف العلماء في حكم هذه المسألة على أقوال :
القول الأول : أنه حرام في الصحراء والبنيان .
هذا قول مجاهد وإبراهيم النخعي والثوري واختاره ابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم .
- حديث الباب فيه النهي والنهي يقتضي التحريم
- حديث سلمان - رضي الله عنه - : ( لقد نهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القبلة لغائط أو بول ) . رواه مسلم
القول الثاني : يجوز ذلك في البنيان ولا يجوز في الصحراء .
وهذا قول الجمهور كما قال ذلك ابن حجر الإمام النووي .
لحديث أن ابن عمر - رضي الله عنه - قال : ( رقيت يوماً على بيت حفصة فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة )
والراجح القول الأول .
قال الشيخ محمد بن ابراهيم رحمه الله : " التحقيق في المسألة أنه لا فرق بين البنيان والفضاء لعموم الأدلة الكثيرة المطلقة التي لم تستثنِ شيئاً " .
وأما الجواب عن حديث ابن عمر - رضي الله عنه - :
- أنه فعل وحديث أبي أيوب قول والقول أقوى من الفعل
- أن الفعل لا صيغة له وإنما هو حكاية حال ، وحكاية الأحوال معرضة للأعذار والأسباب .(1/24)
قال الحافظ ابن حجر : " لم يقصد ابن عمر - رضي الله عنه - الإشراف على النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الحالة وإنما صعد السطح لضرورة له كما في رواية ( فحانت منه التفاتة ) كما في رواية للبيهقي من طريق نافع عن ابن عمر ، نعم لما اتفقت له روايته في تلك الحالة عن غير قصد أحب أن لا يخلي ذلك من فائدة فحفظ هذا الحكم الشرعي " .
حديث أبي أيوب - رضي الله عنه - دليل على أنه لا يكره استقبال النيرين [ الشمس والقمر ] حال قضاء الحاجة .
وهذا هو القول الصحيح .
قال الشيخ الألباني رحمه الله : " وقوله ( شرقوا أو غربوا ) صريح في جواز استقبال النيرين واستدبارهما إذ لابد أن يكون في الشرق أو الغرب غالباً " .
قال ابن القيم عن مسألة استقبال الشمس والقمر حال قضاء الحاجة : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينقل عنه ذلك في كلمة واحدة لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مرسل وليس لهذه المسألة أصل في الشرع " .
وقال الشيخ السعدي : " والصحيح أنه لا يكره استقبال النيرين وقت قضاء الحاجة " .
ذهب بعض الفقهاء إلى الكراهة .
واستدلوا : قالوا لما فيهما من نور الله ، وهذا منقوض بسائر الكواكب .
فائدة
حديث [ نهى أن يتبول الرجل وفرجه بادٍ إلى الشمس والقمر ] .
قال ابن حجر : " هو حديث باطل " .
تعظيم الكعبة المشرفة واحترامها .
وهذا الحكم من خصائص الكعبة ، ولها خصائص أخرى ، منها :
أنها قبلة المسلمين .
قال تعالى { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام } .
أن قصد الكعبة مكفر لما سلف من الذنوب .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ) . متفق عليه
أن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة مما سواه إلا المسجد الحرام وصلاته في المسجد الحرام أفضل من صلاةٍ في مسجدي هذا بمائة ألف ) . رواه أحمد(1/25)
أن المسجد الحرام أول مسجد وضع في الأرض .
لحديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال : ( سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أول مسجد وضع في الأرض ، فقال : المسجد الحرام ) . رواه مسلم
أنه يجوز استقبال بيت المقدس .
وقد ادعى الخطابي الإجماع على عدم تحريم استقبال بيت المقدس لمن لا يستدبر في استقباله الكعبة .
انتهى الدرس الثامن
6/2/1425هـ
14) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إدَاوَةً من ماء وعَنَزَةً
فيستنجي بالماء ) متفق عليه .
-----------------------------------
معاني الكلمات :
وغلام نحوي : أي ما يقارب لي في السن
والغلام : هو المترعرع ، وقد اختلف ما المراد بهذا الغلام
فقيل : ابن مسعود - رضي الله عنه - ورجحه البخاري .
وقيل : أبو هريرة - رضي الله عنه - ، فقد روى أبو داود من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : ( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى الخلاء أتيته بماء في ركوة فاستنجى ) .
وقيل : جابر - رضي الله عنه - .
ويضعف القول الأول أمور :
أن ابن مسعود - رضي الله عنه - كان رجلاً .
أن أنس - رضي الله عنه - صرح في رواية البخاري ( وغلام منا ) أي من الأنصار .
إداوة : إناء صغير من جلد يجعل للماء .
يدخل الخلاء : المراد به الفضاء لقوله في الرواية الأخرى : ( كان إذا خرج لحاجته ) .
ولقرينة حمل العنزة مع الماء فإن الصلاة إليها إنما يكون حيث لا سترة غيرها ، وأيضاً الأخلية التي في البيوت كان خدمته فيها متعلقة بأهله .
عنزة : عصا أقصر من الرمح وقيل : الحربة الصغيرة .
فيستنجي بالماء : أن يطهر بالماء ما أصاب السبيلين من أثر البول أو الغائط .
الفوائد :
في هذا الحديث جواز الاقتصار على الاستنجاء بالماء ، ولقاضِ الحاجة ثلاثة أحوال :
أن يقتصر على الماء .
وهذا جائز لحديث الباب .
أن يقتصر على الحجارة .(1/26)
وهذا جائز كما مر معنا في حديث سلمان - رضي الله عنه - : ( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار ) . رواه مسلم
الجمع بين الحجارة والماء
هذا أفضل عند أكثر العلماء .
قال النووي : " فالذي عليه الجماهير من السلف والخلف وأجمع عليه أهل الفتوى وأئمة الأمصار أن الأفضل أن يجمع بين الماء والحجر فيستعمل الحجر أولاً لتخف النجاسة وتقل مباشرتها بيده ثم يستعمل الماء ".
جاء في رواية للحديث ( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - متبرز لحاجته . . . ) .
ومعنى متبرز : أي يأتي البراز وهو المكان الواسع الظاهر من الأرض ليخلو لحاجته ويستتر ويبعد عن أعين الناس .
ففي هذا استحباب التباعد عند قضاء الحاجة ، ويدل لذلك :
حديث المغيرة - رضي الله عنه - قال ( . . . فانطلق النبي ز حتى توارى عني ) . متفق عليه
وعنه قال ( أن النبي - رضي الله عنه - كان إذا ذهب المذهب أبعد ) . رواه أبو داود
قال ابن القيم : " وكان إذا ذهب في سفره للحاجة انطلق حتى يتوارى عن أصحابه وربما كان يبعد نحو الميلين " .
جواز استخدام الرجل الفاضل بعض أصحابه في حاجته .
في الحديث أن خدمة العالم شرفاً للمتعلم .
وقد مدح أبو الدرداء - رضي الله عنه - ابن مسعود - رضي الله عنه - فقال ( أليس فيكم صاحب النعلين والطهور والوساد ) .
لأن ابن مسعود - رضي الله عنه - كان يتولى خدمة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
جواز معاونة المتوضي والصحيح أن حكمها مباح ورجحه النووي .
اختلف في الحكمة من استصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - للعَنَزَة :
فقيل : ليستتر بها عند قضاء الحاجة .
وقيل : يركزها لتكون إشارة إلى منع من يروم المرور بقربه .
وقيل : كان يحملها لأنه كان إذا استنجى توضأ وإذا توضأ صلى وهذا الصحيح .
قال النووي : " كان يستصحبها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان إذا توضأ صلى فيحتاج إلى نصبها بين يديه لتكون حائلاً يصلي إليه " .(1/27)
انتهى الدرس التاسع
9/2/1425هـ
15) عن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول ، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه ، ولا يتنفس في الإناء ) متفق عليه .
-----------------------------------
راوي الحديث :
هو الحارث بن ربعي أبو قتادة الأنصاري ، صحابي جليل ، شهد أحداً ، وما بعدها من المشاهد ، وهو الذي قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( خير فرساننا أبو قتادة ) مات سنة 54 من الهجرة .
معاني الكلمات :
وهو يبول : حال البول .
لا يتمسح : لا يستنجِ بحجر ولا ماء .
لا يتنفس : لا يخرج النفس من جوفه .
الفوائد :
النهي عن مس الذكر باليمين حال البول وهذا الذي عليه أكثر العلماء .
وذهب بعض العلماء إلى أنه يمنع مس الذكر باليمين مطلقاً .
لأنه جاء في رواية مطلقة غير مقيدة فيها النهي عن مس الذكر باليمين .
والراجح الأول .
اختلف العلماء هل النهي للتحريم أو للكراهة :
الأول : ذهب أكثر العلماء إلى أنه للكراهة .
قالوا لأن هذا من باب الآداب التي يرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه أمته .
الثاني : وذهب أهل الظاهر إلى التحريم .
لأنه نهي والنهي يقتضي التحريم .
والراجح الأول .
النهي عن الاستنجاء باليمين .
وقد جاء في حديث سلمان - رضي الله عنه - أيضاً قال : ( نهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نستنجي باليمين ) .
قال النووي : " وقد أجمع العلماء على أنه منهي عن الاستنجاء باليمين " .
أن هذا النهي نهي كراهة لا تحريم عند أكثر أهل العلم
قال النووي : " الجماهير على أنه نهي تنزيه وأدب لا نهي تحريم " .
وذهب بعض العلماء إلى أنه نهي تحريم .
لحديث الباب ، ولحديث سلمان السابق .
النهي عن الاستنجاء باليمين تنبيهاً على إكرامها وصيانتها عن الأقذار ونحوه .
النهي عن التنفس في الإناء أي لا يتنفس داخل الإناء .(1/28)
الحكمة من النهي عن التنفس في الإناء .
قال النووي : " النهي عن التنفس في الإناء هو من طريق الأدب مخافة من تقذيره ونتنه وسقوط شيء من الفم والأنف فيه ونحو ذلك " .
وقال الحافظ ابن حجر : " وهذا النهي للتأدب لإرادة المبالغة في النظافة ، إذ قد يخرج مع النفس بصاق أو مخاط أو بخار رديء فيكسبه رائحة كريهة فيتقذر بها هو أو غيره عن شربه " .
أن السنة أن يتنفس الإنسان خارج الإناء .
عن أنس - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أن رسول الله ز كان يتنفس في الإناء ثلاثاً ) متفق عليه
أي خارج الإناء .
16) عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال : مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبرين فقال : ( إنهما ليعذبان ، وما يعذبان في كبير . أما أحدهما فكان لا يستتر من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة . فأخذ جريدة رطبة فشقها نصفين ، فغرز في كل قبر واحدة . فقالوا : يا رسول الله ، لِمَ فعلت هذا ؟ قال : لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ) .متفق عليه
-----------------------------------
راوي الحديث :
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حبر الأمة ، وبحر العلم ، وترجمان القرآن ، دعا له الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة والتفقه في الدين ، وهو من المكثرين من الحديث ، ولد قبل الهجرة بثلاث سنوات ، مات بالطائف سنة 68 من الهجرة .
معاني الكلمات :
مر بقبرين : عند ابن ماجة : جديدين ، وجاء عند البخاري : ( مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحائط من حيطان المدينة ) .
لا يستتر : عند مسلم وأبي داود : ( لا يستنزه ) والمعنى لا يتجنب من البول .
جريدة : وفي رواية : ( فدعا بعسيب رطب ) والعسيب هو الجريد وهو الغصن من النخل .
الفوائد :
الحديث يدل على نجاسة البول من الإنسان وهو إجماع ، وسيأتي حديث الأعرابي والكلام عليه إن شاء الله .
وجوب الاجتناب من التنزه من البول .(1/29)
أن عدم التنزه من البول من أسباب عذاب القبر .
ولذلك استحب الفقهاء لمن أراد أن يبول أن يطلب مكاناً رخواً لأنه أسلم من الرشاش .
قال ابن القيم : " وكان - صلى الله عليه وسلم - يرتاد لبوله الموضع الدمث - وهو اللين الرخو من الأرض " .
أن النميمة وهي نقل الكلام بين الناس على وجه الإفساد من أسباب عذاب القبر .
عِظم أمر النميمة .
قوله ( وما يعذبان في كبير ) جاء في رواية للبخاري : بلى إنه كبير .
وقد اختلف العلماء في المراد بقوله ( وما يعذبان في كبير ) :
فقيل : ليس بكبير في زعمهما .
وقيل : ليس بكبير في مشقة الاحتراز منه ، أي كان لا يشق عليهما الاحتراز من ذلك .
ورجحه البغوي وابن دقيق العيد وجماعة ، وهذا هو الراجح .
قال النووي : " سبب كونهما كبيرين أن عدم التنزه من البول يلزم منه بطلان الصلاة فتركه كبيرة بلا شك ، والمشي بالنميمة والسعي بالفساد من أقبح القبائح ".
لم يعرف اسم المقبورين ولا أحدهما ، والظاهر أن ذلك كان على عمد من الرواة لقصد الستر عليهما. [ قاله الحافظ ]
اختلف في المقبورين :
فقيل : كانا كافرين .
وقيل : كانا مسلمين وهذا هو الصحيح ، ويدل لذلك :
أنه جاء عند أحمد ( أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مر بالبقيع فقال : من دفنتم هنا ؟ ) فهذا يدل على أنهما كانا مسلمين لأن البقيع مقبرة المسلمين .
هل يسن وضع جريدة رطبة على القبر ؟
ذهب بعض العلماء إلى أنه يسن ذلك وقد أوصى بذلك بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه - .
والصحيح أنه لا يجوز ذلك .
ورجح ذلك الخطابي والقاضي عياض وقال : " لأنه علل غرزهما على القبر بأمر مغيب وهو قوله : ( ليعذبان ) " .
ومما يدل على أنه لا يجوز ذلك أمور :
حديث جابر الطويل في صحيح وفيه ( إني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يبرد عليهما مادام الغصنان رطبين )
أنه لم يكشف لنا أن هذا الرجل يعذب بخلاف النبي - صلى الله عليه وسلم - .(1/30)
أننا إذا فعلنا ذلك فقد أسأنا الظن بالميت ، لأننا ظننا به ظن سوء أنه يعذب وما يدرينا فلعله ينعم
أن هذا لم يفعله السلف الصالح .
إثبات عذاب القبر .
وهو ثابت بالكتاب والسنة واتفاق أهل السنة .
قال تعالى { النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } .
ومن السنة أدلة كثيرة ومتواترة :
حديث الباب
حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا تشهد أحدكم التشهد الآخر فليتعوذ بالله من أربع . . . وذكر منها عذاب القبر ) رواه مسلم
وعن أنس - رضي الله عنه - قال - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه حتى إنه
ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقولان له . . . وأما الكافر أو المنافق فيقول : لا أدري ، فيقال : لا دريت ولا تليت ، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين ) متفق عليه
وعنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع ) رواه مسلم
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - ( أن رسول الله ز كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلم السورة من القرآن قولوا : اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم ، ونعوذ بك من عذاب القبر . . . ) . متفق عليه
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ، ومن عذاب النار . . . ) . متفق عليه
بعض أسباب عذاب القبر :
النميمة وعدم التنزه من البول .
لحديث ابن عباس - رضي الله عنه - [ حديث الباب ]
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أكثر عذاب القبر من البول ) . رواه ابن ماجه
الغيبة.
فقد جاء في رواية عند ابن ماجه ( وأما الآخر فيعذب بالغيبة ) .
الغلول من الغنيمة .(1/31)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : ( خرجنا مع رسول الله ز إلى خيبر ، فلم نغنم ذهباً ولا ورقاً ، غنمنا المتاع والطعام والشراب ثم انطلقنا إلى الوادي ومع رسول الله عبد له . . . فلما نزلنا قام عبدُ رسول الله ز يحل رحله ، فرُمي بسهم فكان فيه حتفه فقلنا : هنيئاً له الشهادة يا رسول الله ! فقال : كلا ، والذي نفس محمد بيده إن الشملة لتلتهب عليه ناراً ، أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم ، ففزع الناس . . . ) متفق عليه .
استحب بعض العلماء قراءة القرآن عند القبر لهذا الحديث ، لكن هذا قول ضعيف وأن قراءة القرآن عند القبر بدعة .
جاءت بعض الأحاديث في التحذير والترهيب من النميمة :
حديث الباب
عن حذيفة - صلى الله عليه وسلم - قال - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يدخل الجنة نمام ) متفق عليه
انتهى الدرس العاشر
13/2/1425هـ
17) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء عند كل
صلاة ) متفق عليه .
18) عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك ) متفق عليه .
-----------------------------------
راوي الحديث :
هو حذيفة بن اليمان ، كان من المهاجرين ومن كبار الصحابة ، وهو الذي بعثه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلى قريش يوم الخندق فجاء بخبر رحيلهم ، وكان عمر يسأله عن المنافقين ، مات سنة 36 من الهجرة .
معاني الكلمات :
لولا : حرف امتناع لوجود ، أي أنها تدل على امتناع شيء لوجود شيء آخر .
ففي هذا الحديث تدل على امتناع إلزام وإيجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته بالسواك عند كل صلاة لوجود المشقة عليهم بذلك
يشوص : أي يدلك ورجحه النووي .
الفوائد :
تعريف السواك :(1/32)
السواك : مأخوذ من ساك إذا دلك . وقيل : من جاءت الإبل تتساوك أي تتمايل هزلاً .
واصطلاحاً : استعمال عود أو نحوه في الأسنان لإذهاب الصفرة وغيرها .
حكمه :
سنة مؤكدة للأحاديث الكثيرة التي وردت فيه ، ومنها :
حديث عائشة رضي الله عنها قالت - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( السواك مطهرة للفم مرضاة للرب ) . رواه أحمد
ففي هذا أن السواك [ وهو عمل يسير ] يطهر الفم وينظفه ويرضي رب العالمين .
وهو غير واجب .
قال النووي : " السواك سنة ليس بواجب في حال من الأحوال لا في الصلاة ولا غيرها بإجماع من يعتد به " .
الأفضل أن يكون السواك من شجر الآراك .
قال النووي : " ويستحب أن يستاك بعود آراك " .
قال ابن القيم : " وأصلح ما اتخذ السواك من خشب الآراك ونحوه ولا ينبغي أن يؤخذ من شجرة مجهولة فربما كان سماً ".
السواك مستحب في جميع الأوقات ، لكنه يتأكد في مواضع :
عند الصلاة .
لحديث الباب ( لولا أن أشق . . . ) ، والمراد عند الصلاة : أي قربها .
وهذا يشمل أي صلاة لقوله ( عند كل صلاة ) سواء فرض أو نفل .
عند الوضوء .
لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء ) . رواه أحمد
عند كل وضوء : أي قبل المضمضة .
عند تغير رائحة الفم .
لحديث عائشة رضي الله عنها السابق : ( السواك مطهرة للفم مرضاة للرب ) . رواه أحمد
قال النووي : " وتغيره يكون بأشياء منها ترك الأكل والشرب ، ومنها أكل ما له رائحة كريهة ومنها طول السكوت ومنها الكلام " .
عند الاستيقاظ لقيام الليل .
لحديث الباب ( كان إذا قام من الليل يشوص . . . )
إذا قام الليل : يعني لصلاة التهجد ، وتدل عليه رواية لمسلم ( إذا قام ليتهجد يشوص فاه بالسواك )
عند قراءة القرآن .(1/33)
لقولة - صلى الله عليه وسلم - : ( إن العبد إذا تسوك ثم قام يصلي قام الملك خلفه ، فتسمّع لقراءته فيدنو منه – أو كلمة نحوها - حتى يضع فاه على فيه ، فما يخرج من فيه شيء من القرآن إلا صار في جوف الملك فطهروا أفواهكم للقراءة ) رواه البزار وصححه الألباني
بعد الوتر من الليل .
وقد أشار الحافظ بن حجر إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يستاك بين كل ركعتين من صلاة الليل ، وذكر أنها رواية لمسلم .
في تسوكه - صلى الله عليه وسلم - عند دخول المنزل أدب يتمثل في حسن معاشرته الأهل فيبدأ بالسواك أول ما يدخل بيته .
الحكمة من تسوكه - صلى الله عليه وسلم - عند القيام من الليل تأدباً مع ربه ، فيستاك ويطيب فمه قبل أن يقف بين يدي ربه وسؤاله ومناجاته والوقوف بين يديه .
الحديث دليل على أن السواك سنة مطلقاً في كل وقت حتى للصائم بعد الزوال .
لقوله ( عند كل صلاة ) وهذا عام يشمل كل صلاة حتى صلاة الظهر والعصر .
ولحديث ( السواك مطهرة للفم . . . ) وهذا عام ولم يخصص بوقت دون وقت .
وذهب بعض العلماء إلى أنه يكره للصائم بعد الزوال ، واستدلوا :
حديث ( إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي ) . رواه البيهقي
حديث ( لخلوف فم الصائم أحب عند الله من ريح المسك ) .
والصحيح القول الأول ، والرد على أصحاب القول الثاني :
أما حديث ( إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ) فحديث ضعيف .
أما حديث ( لخلوف فم الصائم . . . ) فلا يسلم الاستدلال به :
لأن خلوف فم الصائم ليس سببه الأسنان بل خلو المعدة من الطعام .
أننا لسنا بمتعبدين بهذه الرائحة ، فلا يترك السواك لأجل إبقاء رائحة الفم .
أنه لم يرد الأمر بإبقاء خلوف فم الصائم .
في الحديث جواز الإستياك في المسجد .
ففيه الرد على من منع الإستياك في المسجد .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ” أما السواك في المسجد فما علمت أحداً من العلماء كرهه ، بل الآثار تدل على أن السلف كانوا يستاكون في المسجد “ .(1/34)
اختلف العلماء هل يستاك باليد اليمنى أو باليسرى ؟
فقيل : يستاك باليد اليمنى لأنه من باب السنة وتطبيق السنة .
وقيل : يستاك باليد اليسرى لأنه من باب إزالة الأذى .
ورجحه شيخ الإسلام ابن تيميه .
فوائد السواك :
ذكر ابن القيم فوائد السواك ، وقال :
” يطيب الفم ، ويشد اللثة ، ويقطع البلغم ، ويجلو البصر ، ويذهب بالحفر ، ويصح المعدة ، ويصفي الصوت ، ويعين على هضم الطعام ، ويسهل مجاري الكلام ، ويبسط للقراءة والذكر والصلاة ، ويطرد النوم ، ويرضي الرب ، ويعجب الملائكة ، ويكثر الحسنات “ .
في الحديث شدة شفقة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمته وحرصه عليهم حتى كان يترك العمل مخافة أن يفرض على أمته
وقد وصفه الله بذلك فقال : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم }
انتهى الدرس الحادي عشر
16/2/1425هـ
19) عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( دخل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا مسندته إلى صدري – ومع عبد الرحمن سواك رطب يستن به – فأبده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصره ، فأخذت السواك فقضمته وطيبته ، ثم دفعته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستن به ، فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استن استناناً أحسن منه . فما عدا أن فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفع يده أو إصبعه – ثم قال : ( في الرفيق الأعلى ) ثلاثاً ، ثم قضي عليه . وكانت تقول : مات بين حاقنتي وذاقنتي . وفي لفظ : فرأيته ينظر إليه ، وعرفت أنه يحب السواك فقلت : آخذه لك ؟ فأشار برأسه : أن نعم ) . هذا لفظ البخاري ، ولمسلم نحوه
-----------------------------------
رواية البخاري ( فقلت له : أعطني هذا السواك يا عبد الرحمن . فأعطانيه فقضمته فاعطيته رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . . . ) .
بوب عليه البخاري بـ : باب من تسوك بسواك غيره .(1/35)
وفي رواية مسلم عن عائشة قالت : ( إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليتفقد يقول : أين أنا اليوم ، أين أنا غداً ؟ استبطاء ليوم عائشة قالت : فلما كان يومي قبضه الله ) .
معاني الكلمات :
مسندته : رافعته إليه .
يستن به : يستاك .
فأبده بصره : يعني أتبعه بصره ونظر إليه .
فقضمته : أي مضغته ، والقضم الأخذ بطرف الأسنان .
الفوائد :
في الحديث بيان لفضيلة عائشة ، وذلك من وجوه :
قوله ( أين أنا غداً ).
وذلك استبطاء ليوم عائشة ، يستطيل اليوم اشتياقاً إليها وإلى نوبتها .
وهذا دليل على شدة حبه - صلى الله عليه وسلم - لعائشة .
وفاته - صلى الله عليه وسلم - في يومها الذي كان يدور عليها فيه .
وفاته - صلى الله عليه وسلم - ورأسه بين سحرها ونحرها .
مخالطة ريقها ريقه - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته وذلك لأنها مضغت السواك بفيها ثم أعطته الرسول ز فتسوك به .
فضل أبي بكر وآله .
قال ابن الجوزي : ” أربعة تناسلوا ، رأوا رسول الله : أبو قحافة ، وابنه أبو بكر ، وابنه عبد الرحمن ، وابنه محمد
جواز دخول أقارب الزوجة بيت الزوج إذا كان لا يكره ذلك “ .
جواز استياك الرجلين بالسواك الواحد .
مشروعية تطهير السواك إذا استعمله شخص آخر .
خدمة الزوجة لزوجها .
جواز العمل بالإشارات المفهمة .
وقد كان الصحابة يعملون بمقتضى الإشارة المفهمة .
ففي الصحيحين من حديث عائشة أنها قالت ( صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته وهو شاك ، فصلى جالساً ، وصلى وراءه قوم قياماً ، فأشار إليهم أن اجلسوا فجلسوا ) .
حرصه - صلى الله عليه وسلم - على السنة والتزامها حتى مات ، فقد حرص - صلى الله عليه وسلم - على السواك حتى مات .
بيان خطأ الروافض الذين زعموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات ورأسه في حجر على - رضي الله عنه - ، ورووا في ذلك أحاديث لا تصح .
بيان شدة ذكاء عائشة وقوة فطنتها وعلمها التام بأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - .(1/36)
في الحديث بيان لفضيلة السواك وشدة محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - له وحرصه على استعماله حتى وهو في الموت .
قوله ( الرفيق الأعلى ) :
قيل : أنه اسم من أسماء الله .
وقيل : الجماعة المذكورين في آية النساء .
وهذا هو الصحيح .
ويدل عليه قوله في الحديث الآخر ( مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ) .
حاقنتي : ما سفل من الذقن . ذاقنتي : طرف الحلقوم .
وفي رواية ( بين سحري ونحري ) .
النحر : موضع النحر . السحر : الرئة
أي مات وهو مستند إلى صدرها .
قال بعض العلماء : والحكمة في اختتام المصطفى بهذه الكلمة كونها تتضمن التوحيد والذكر بالقلب .
في الحديث بيان لشدة شوق النبي - صلى الله عليه وسلم - للقاء الله والدار الآخرة ورؤيته إخوانه من الأنبياء والمرسلين .
قوله - صلى الله عليه وسلم - ( في الرفيق الأعلى ) لا يعارض حديث ( لا يتمنى أحدكم الموت ) :
لأن النهي عن تمنى الموت محمول على حالة الحياة المستمرة ، أما عند الاحتضار والمعاينة فلا يدخل تحت النهي .
وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا خلاف أنه توفي يوم الاثنين .
قال ابن حجر : ” وكانت وفاته يوم الاثنين بلا خلاف من ربيع الأول “ .
إلا أن العلماء اختلفوا في تحديد ذلك اليوم من ذلك الشهر .
وأكثر العلماء على أنه اليوم الثاني عشر منه .
وتوفي - صلى الله عليه وسلم - وعمره 63 سنه .
عن ابن عباس - رضي الله عنه - : ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث بمكة ثلاث عشرة ، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين ) . رواه البخاري
20) عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال : ( أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يستاك بسواك رطب ، قال وطرف السواك على لسانه وهو يقول : أُعْ أُعْ ، والسواك في فيه كأنه يتهوع ) . متفق عليه
-----------------------------------
راوي الحديث :(1/37)
هو أبو موسى عبد الله بن قيس ، صحابي مشهور ، أمَّره عمر ثم عثمان ، دعا له النبي فقال : ( اللهم أغفر لعبد الله بن قيس ذنبه وأدخله مدخلاً كريماً ) ، مات سنة 50 من الهجرة وقيل بعدها .
معاني الكلمات :
في رواية لمسلم ( دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وطرف السواك على لسانه ) .
أُعْ أُعْ : بضم الهمزة وسكون العين ، وجاء في رواية [ عأ عأ ] عند النسائي ، وجاء [ أَه أَه ] عند أبي داود .
وكلها عبارة عن إبلاغ السواك إلى أقاصي الحلق .
كأنه يتهوع : أي يتقيأ ، أي له صوت كصوت التهوع .
الفوائد :
مشروعية السواك على اللسان .
وفيه تأكيد السواك .
جواز استياك الإمام بحضرة رعيته حيث جاء في الحديث أن أبا موسى - رضي الله عنه - قال : ( أقبلت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعي رجلان من الأشعريين . . . وكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته . . ) .
في هذا الرد على من كره السواك أمام الناس .
لا يصح حديث في كيفية السواك هل يستاك عرضا أم طولاً .
مشروعية التسوك بالعود الرطب .
انتهى الدرس الثاني عشر
20/2/1425هـ
21) عن المغيرة بن شعبة قال : ( كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ فأهويت لأنزع خفيه ، فقال : ( دعهما ، فإني أدخلتهما
طاهرتين ، فمسح عليهما ) متفق عليه .
-----------------------------------
راوي الحديث :
هو المغيرة بن شعبة ، صحابي مشهور ، أسلم عام الخندق ، قدم مهاجراً ، وشهد الحديبية ، ولي إمرة البصرة ثم الكوفة مات سنة 50 من الهجرة .
معاني الكلمات :
في سفر : جاء عند مسلم أن ذلك في صلاة الفجر ، وجاء عند البخاري أن ذلك في غزوة تبوك .
فأهويت : مددت يدي .
الفوائد :
مشروعية المسح على الخفين .
قال الحسن البصري : ” سمعت أحاديث المسح على الخفين عن سبعين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - “ .
ونقل ابن المنذر عن ابن المبارك ، قال : ” ليس في المسح على الخفين عند الصحابة خلاف “ .(1/38)
وقال الإمام أحمد : ” ليس في نفسي من المسح على الخفين شيء ، فيه أربعون حديثاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ولهذا صرح عدد من الحفاظ بأن أحاديث المسح على الخفين متواترة “ .
وقال النووي : ” أنه رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلق لا يحصون كثرة “ .
وقال الشوكاني : ” إنه ثابت كالشمس في الضحى “ .
حديث الباب يدل على أن من شروط المسح على الخفين أن يلبسهما على طهارة وهذا شرط متفق عليه .
قال في المغني : ” لا نعلم في اشتراط تقدم الطهارة لجواز المسح على الخفين “ .
واختلف العلماء لو أنه غسل أحد رجليه فأدخلها الخف ، ثم غسل الأخرى وأدخلها الخف :
قيل : لا يجزئ .
وهذا مذهب مالك وأحمد وإسحاق ورجحه الشيخ ابن باز رحمه الله .
الأدلة :
حديث الباب ( . . . أدخلتهما طاهرتين . . . ) .
لحديث ( إذا توضأ أحدكم ولبس خفيه فليمسح عليهما وليصل فيهما . . . ) . رواه الدار قطني
فقوله ( إذا توضأ ) هذا يشعر شرطية الوضوء كاملاً .
وقيل : يجزئ .
وهو مذهب أبي حنيفة وسفيان الثوري وداود .
قالوا : لأنه لبسهما على طهارة .
والقول الأول أصح وأحوط .
هناك شروط أخرى للمسح على الخفين :
أن المسح في الطهارة الصغرى دون الكبرى .
قال ابن حجر : ” المسح على الخفين خاص بالوضوء لا مدخل للغسل فيه بإجماع “ .
عن صفوان بن عسال - رضي الله عنه - قال : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا إذا كنا سفراً أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ولكن من غائط و بول ونوم ) . رواه الترمذي
( . . . من جنابة ) : أي فتنزعها ولو قبل مرور الثلاث .
( ولكن ) : لا تنزعن . ( من غائط و بول و نوم ) : أي لأجل هذه الأحداث إلا إذا مرت المدة المقدرة .
أن يكون في المدة المحدودة .
وهي يوماً وليلة للمقيم ، وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر .
- لحديث صفوان بن عسال السابق .(1/39)
- ولحديث علي - رضي الله عنه - قال : ( جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ، ويوماً وليلة للمقيم – يعني في المسح على الخفين ) رواه مسلم
والراجح من أقوال أهل العلم أن المدة تبدأ من أول مسح بعد الحدث .
اختلف العلماء أيهما أفضل ، غسل الرجل أو المسح على الخفين :
فقيل : المسح أفضل .
وهذا مذهب أحمد واختاره ابن المنذر .
لأن في ذلك مخالفة لأهل البدع .
وقيل : الغسل أفضل .
وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي .
قالوا : لأن غسل الرجل هو الأصل ، ولأن هذا هو أكثر فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - .
والراجح ما اختاره ابن القيم في زاد المعاد ( 1 / 199 ) فقال :
” لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يتكلف ضد حاله التي عليها قدمه ، بل إن كانتا في الخفين مسح عليهما ولم ينزعهما ، وإن كانتا مكشوفتين غسل القدمين ، ولم يلبس الخف ليمسح عليه ، وهذا أعدل الأقوال في مسألة الأفضل في المسح والغسل ، قاله شيخنا “ .
كيفية المسح على الخفين :
تمسح أعلى الخف فقط .
لظاهر الحديث ( . . . فمسح على خفيه ) .
ولحديث علي - رضي الله عنه - قال : ( لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر خفيه ) . رواه أبو داود
وأما مسح أسفلهما فلا يصح .
قال ابن القيم : ” لم يصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح أسفلهما ، وإنما جاء حديث منقطع ، والأحاديث الصحيحة على خلافه “ .
لم يرد حديث تقوم به حجة في كيفية المسح على الخف ، فلذلك يكفي المسح .
والمسحة إمرار اليد على القدم اليمنى واليسرى بحيث يصدق عليه أنه مسح ، كما هو قول الشافعي وأبي ثور وغيرهما.
فائدة :
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : ” وكثير من الناس يمسح بكلا يديه على اليمين ، وكلا يديه على اليسرى وهذا لا أصل له مما أعلم “ .
جواز معاونة المتوضئ .(1/40)
قال النووي : ” في هذا الحديث دليل على جواز الاستعانة في الوضوء ، وقد ثبت أيضاً في حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه - : أنه صب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وضوئه حين انصرف من عرفة “ .
22) عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال : ( كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر ، فبال وتوضأ ومسح على خفيه ) . متفق عليه
-----------------------------------
هذا الحديث في أوله قصة ، قال حذيفة : ( كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائماً ، فتحنبت ، فقال : ادنو ، فدنوت منه حتى قمت عند عقبه فتوضأ ) . زاد مسلم ( فمسح على خفيه ) .
معاني الكلمات :
سباطة : هي ملقى القمامة والتراب ونحوهما تكون بفناء الدور مرفقاً لأهلها .
الفوائد :
جواز المسح على الخفين وقد سبق ذلك وهو جائز بالحضر والسفر .
قوله ( فمسح على خفيه ) هنا أطلق ولم يقيده فدل على جواز المسح على الذي فيه خروق ما دام يسمى خفاً .
وهذا القول هو الصحيح ، واختاره ابن المنذر والشيخ الشنقيطي .
لأن النصوص بالمسح على الخف جاءت مطلقة ولم تقيد ، وكل ما يسمى خفاً جاز المسح عليه .
أن غالب الصحابة كانوا فقراء ، وغالباً الفقراء لا تسلم خفافهم من الخروق .
قال سفيان الثوري : ” امسح عليها ما تعلقت به رجلك وهل كانت خفاف المهاجرين والأنصار إلا مخرقة مشققة مرقعة “. أخرجه عبد الرزاق
من مسح وهو مقيم ثم سافر فإنه يتم مسح مسافر .
فلو أن المقيم مسح يوماً ثم سافر فإنه يمسح يومين زيادة على اليوم .
هذا القول هو الصحيح ، وبه قال الحنفية .
من مسح وهو مسافر ثم قدم بلده فإنه يمسح مسح مقيم .
فلو مسح المسافر يوماً وليلة ثم قدم بلده فلا يجوز له حينئذ المسح على الخفين بل ينزعهما .
لأن رخص السفر قد انتهت بالوصول إلى البلد .
اختلف العلماء هل خلع الخف ينقض الوضوء أم لا على قولين :
القول الأول : أن خلع الخف لا ينقض الوضوء .(1/41)
وهذا المذهب اختاره ابن حزم ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية ، قالوا :
لعدم الدليل على ذلك .
القول الثاني : أنه ينتقض وضوءه .
وهذا مذهب الإمام أحمد واختاره الشيخ ابن باز رحمه الله ، قالوا:
لأن حكم الرجل في الأصل الغَسْل ، وإنما انتقل إلى المسح بدلاً عن الغسل لتغطية القدم ، فإذا خلع الخف فقد عاد الحكم إلى وجوب الغسل .
وهذا هو القول الراجح .
جواز البول قائماً .
وهذا القول هو الصحيح ، ويدل عليه :
فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - : حيث بال قائماً كما في حديث الباب .
ثبت عن كثير من الصحابة أنهم بالوا قياماً .
قال ابن حجر : ” وقد ثبت عن عمر وعلي وزيد بن ثابت وغيرهم أنهم بالوا قياماً “ .
أنه لم يثبت نهي عنه .
فالصحيح الجواز بشرطين :
أن يأمن الرشاش [ لأن التنزه من البول واجب ] .
أن يأمن الناظر .
وأما حديث عائشة رضي الله عنها قالت : ( من حدثكم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبول قائماً فلا تصدقوه ، ما كان يبول إلا قاعداً ) . رواه الترمذي وهو حديث صحيح
فالجواب عنه :
أن هذا مستند إلى علمها فيحمل على ما وقع منه في البيوت ، وأما في غير البيوت فلم تطلع هي عليه ، وقد حفظه حذيفة - رضي الله عنه - .
أن الأكثر والأغلب من فعل الرسول هو البول قاعداً .
لحديث عائشة السابق ( من حدثكم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . . . ) .
اختلف في سبب بول النبي - صلى الله عليه وسلم - قائماً :
قيل : لأنه لم يجد مكاناً للقعود .
وقيل : لأن العرب كانت تستشفي لوجع الصلب بذلك .
وقيل : فعل ذلك لبيان الجواز ، وهذا القول هو الصحيح .
إن قيل كيف بال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه السباطة القريبة من الدور مع أن المعروف من عادته التباعد عند قضاء الحاجة ؟
الجواب :(1/42)
قال القاضي عياض : ” أن سببه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان من الشغل في أمور المسلمين ، والنظر في مصالحهم بالمحل المعروف ، فلعله طال عليه المجلس حتى حفزه البول فلم يُمكنْه التباعد ، ولو أبعد لتضرر “ .
انتهى الدرس الثالث عشر
23/2/1425هـ
23) عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : ( كنت رجلاً مذاءً ، فاستحييت أن أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته مني ، فأمرت المقداد ابن الأسود - رضي الله عنه - ، فسأله ، فقال : ( يغسل ذكره ويتوضأ ) متفق عليه .
وللبخاري ( اغسل ذكرك وتوضأ ) رواه البخاري ، ولمسلم : ( توضأ وانضح فرجك ) .
-----------------------------------
راوي الحديث :
هو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وزوج ابنته ، من السابقين الأولين إلى الإسلام ، وأحد العشرة المبشرين بالجنة ، مات في رمضان سنة 40 من الهجرة .
- جاء في رواية عند أبي داود عن علي أنه قال ( كنت اغتسل منه حتى تشقق ظهري ) .
معاني الكلمات :
المذي : ماء رقيق أبيض لزج يخرج عند الشهوة وبلا دفق ولا يعقبه فتور ، وربما لا يحس بخروجه .
مذاءً : كثير المذي .
استحييت : خجلت .
لمكان ابنته : يعني فاطمة .
الفوائد :
الحديث يدل على أن المذي نجس وهذا باتفاق العلماء .
الحديث يدل على أنه يجب الوضوء من خروج المذي .
أن المذي لا يوجب الغسل .
واختلف العلماء هل يجب غسل الذكر كله مع الانثيين ، قولان للعلماء :
القول الأول : لا يجب .
وهذا مذهب الجمهور .
القول الثاني : أنه يجب .
وهذا مذهب الحنابلة .
لقوله : ( يغسل ذكره ويتوضأ ) . وفي رواية أبي عوانه : ( يغسل ذكره وأنثييه )
وهذا القول هو الصحيح .
اختلف العلماء في كيفية تطهير الثوب الذي أصابه المذي :
فقيل : يغسل .
لحديث الباب .
وقيل : يكفي فيه النضح .
وهذا هو الصحيح .(1/43)
لحديث سهل بن حنيف - رضي الله عنه - قال :( كنت ألقى من المذي شدة . . . فقلت يا رسول الله كيف بما يصيب ثوبي منه ، قال : يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء فتنضح به ثوبك حيث ترى أنه قد أصاب منه ) . رواه أبو داود
قال الشيخ بن عثيمين رحمه الله : ” المذي يكفي فيه النضح وهو أن يعم المحل الذي أصابه الماء بدون عصر وبدون فرك وكذلك يجب فيه غسل الذكر كله والأنثيين وإن لم يصبهما “ .
بعض نواقض الوضوء :
خروج المذي ، كما سبق .
الخارج من السبيلين كالبول أوالغائط .
قال تعالى : { أو جاء أحدكم من الغائط } .
ولحديث صفوان بن عسال - رضي الله عنه - قال : ( كان رسول الله يأمرنا إذا كنا سفراً أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ، ولكن من بول وغائط ونوم ) . رواه الترمذي
النوم الكثير الذي لا يشعر الإنسان بمن حوله .
لحديث صفوان بن عسال - رضي الله عنه - وقد سبق (ولكن من بول وغائط ونوم ).
وأما النوم الخفيف فلا ينقض الوضوء .
لحديث أنس - رضي الله عنه - قال ( كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضؤون ) . رواه أبو داود
مس الذكر بدون حائل .
لحديث بسرة بنت صفوان قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من مس ذكره فليتوضأ ) . رواه أبو داود
أكل لحم الإبل .
عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - : ( أن رجلاً سأل رسول الله ز أتتوضأ من لحم الإبل ؟ قال : نعم ) . رواه مسلم
وعن البراء - رضي الله عنه - قال : ( سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوضوء من لحوم الإبل ، فقال : توضؤوا منها ) . رواه أبو داود
أمور لا تنقض الوضوء :
مس المرأة .
لحديث عائشة رضي الله عنها : ( أن رسول الله ز قبَّل بعض نسائه ، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ ) . رواه أبو داود
خروج الدم من الأنف أو الضرس أو غيره .
- ( فقد صلى عمر - رضي الله عنه - وجرحه يثعب دماً ) . رواه مالك(1/44)
- وقال الحسن : ( ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم ) .
- ( وأصيب عباد بن بشر - رضي الله عنه - بسهام وهو يصلي فاستمر في صلاته ) . رواه أبو داود
أنه لا يكفي في إزالة المذي الاستجمار بالحجارة كالبول بل لابد من الماء .
هذا الحديث من أدلة القاعدة ( المشقة تجلب التيسير ) .
جواز الاستبانة في الفتوى .
استحباب حسن العشرة مع الأصهار .
استعمال الأدب في ترك المواجهة بما يُستحيا منه عرفاً .
24) عن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني - رضي الله عنه - قال : ( شُكي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل يُخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة ، فقال : ( لاينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ) . متفق عليه .
-----------------------------------
راوي الحديث :
هو عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري المازني شهد أحداً ، وهو الذي قتل مسيلمة الكذاب وشاركه وحشي ، مات يوم الحرة سنة 63 من الهجرة ، وهو غير عبد الله بن زيد صاحب الآذان .
معاني الكلمات :
شُكي : من الشكاية وهي وجود ما يشكل على الإنسان .
يُخيل إليه : أي يشك فيه ولا يجزم به .
يجد الشيء : أي الحدث بريح أو غيره .
الفوائد :
في هذا الحديث كما ذكر النووي قاعدة عظيمة فقال :
” هذا الحديث أصل من أصول الإسلام وقاعدة عظيمة من قواعد الفقه وهي أن الأشياء يحكم ببقائها على أصولها حتى يتعين خلاف ذلك ، ولا يضر الشك الطارئ عليها “ .
فهذا يقرر قاعدة عظيمة ، وهي ما يذكره الأصوليون : ( اليقين لا يزول بالشك ) .
فالذي ثبت باليقين لا ينتفي إلا باليقين .
وأمثلة هذه القاعدة لا يمكن حصرها :
إنسان تيقن الطهارة وشك في الحدث فالأصل أنه على طهارة .
إنسان تيقن الحدث وشك في الطهارة فالأصل الحدث ، فيلزمه الوضوء بإجماع المسلمين .
كذلك الثياب لو كان عنده ثوب طاهر وشك هل تنجس أم لا فالأصل الطهارة .
من فوائد الحديث : أن خروج الريح من نواقض الوضوء .(1/45)
ومن الأدلة أيضاً : قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا وضوء إلا من صوت أو ريح ) . رواه الترمذي
هذه القاعدة ( اليقين لا يزول بالشك ) أحد القواعد الكلية الخمس ، وهي :
هذه القاعدة ( اليقين لا يزول بالشك ) .
العادة محكمة .
المشقة تجلب التيسير .
الأمور بمقاصدها .
لا ضرر ولا ضرار .
انتهى الدرس الرابع عشر
27/2/1425هـ
25- عَنْ أُمِّ قَيْسِ بِنْتِ مِحْصَنٍ الأَسَدِيَّةِ (( أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ , لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَجْلَسَهُ فِي حِجْرِهِ , فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ , فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ عَلَى ثَوْبِهِ , وَلَمْ يَغْسِلْهُ )) .
26- وَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها (( أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بِصَبِيٍّ , فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ , فَدَعَا بِمَاءٍ , فَأَتْبَعَهُ إيَّاهُ ))
وَلِمُسْلِمٍ : (( فَأَتْبَعَهُ بَوْلَهُ , وَلَمْ يَغْسِلْهُ )) .
------------------------------------------------------
راوي الحديث :
أم قيس آمنة بنت محصن الأسدية ، أخت عكاشة بن محصن ، أسلمت قديماً ، وهاجرت إلى المدينة ، وعمرت طويلاً .
معاني الكلمات :
بابن لها : غير مسمى ، وقد مات صغيراً .
حجره : أي حضنه .
نضحه : رشه رشاً يعم مكان البول ، والنضح : هو أن يرش الماء دون أن يصل إلى حد الجريان والسيلان .
الفوائد :
أن البول نجس ، سواء بول الكبير أو الصغير .
أن بول الصغير نجس ، لكن خفف في طهارته ، فبول الغلام يكتفي في تطهيره بالنضح .
لحديث الباب .
ولحديث أبي السمح قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام ) . رواه أبو داود
لهذه الأحاديث ذهب الشافعي وأحمد وأهل الحديث ، إلى أن تطهير بول الغلام يكتفى فيه بالنضح .
وذهب بعض العلماء إلى أنه يجب غسله .
وهذا قول أبي حنيفة ومالك .(1/46)
قالوا : لعموم الأدلة الواردة في وجوب غسل نجاسة الثوب .
والراجح الأول .
والرد على أصحاب القول الثاني :
الأدلة الواردة في نجاسة الثوب عامة ، والأدلة الدالة في استثناء بول الغلام خاصة ، والخاص يقضي على العام .
اختلف العلماء في الغلام الذي ينضح بوله ، ما المراد به ؟
قيل : هو الذي لم يأكل ولم يشرب شيئاً قط لا اللبن ولا غيره .
وقيل : هو الذي لم يأكل إلا اللبن الذي يرضعه ، أو العسل فقط .
وهذا القول اختاره جمع من أهل العلم ، كابن حجر ، وابن قدامة ، وهو الصحيح .
بول الجارية يغسل مطلقاً .
واختلف في الحكمة في التفريق بين بول الجارية وبول الغلام ؟
قيل : أن بول الأنثى أنتن وأثقل من بول الغلام .
وقيل : أن بول الغلام يجتمع ، وأما بول الجارية فيفترق .
وقيل : أن النفوس أعلق بالذكور منها بالإناث ، فحصلت الرخصة في الذكور لكثرة المشقة .
ورجح هذا الحافظ ابن حجر .
هذا الحديث من أدلة القاعدة الشرعية [ المشقة تجلب التيسير ] .
إذا أكل الصبي الطعام على جهة التغذية ، فإنه يجب غسل بوله بلا خلاف . [ قاله النووي ]
حسن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - .
27- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ : (( جَاءَ أَعْرَابِيٌّ , فَبَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ , فَزَجَرَهُ النَّاسُ , فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ , فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ )) .
------------------------------------------------------
جاء في رواية : ( أنه صلى ثم قال : اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لقد تحجرت واسعاً ، فلم يلبث أن بال في المسجد ) .
معاني الكلمات :
أعرابي : هو الذي يسكن البادية .
هذا الأعرابي قيل هو ذو الخويصرة ، وقيل الأقرع بن حابس ، وقيل عيينة بن حصن .(1/47)
فزجره الناس : جاء في رواية : ( فقام إليه الناس ليقعوا به ) وجاء في رواية : ( فثار إليه الناس ) وجاء في رواية عند البيهقي : ( فصاح به الناس ) .
بذنوب : الذنوب هو الدلو المملوء بالماء .
الفوائد :
إثبات نجاسة البول .
قال النووي : ” وهو مجمع عليه ، ولا فرق بين الكبير والصغير بإجماع من يعتد به ، لكن بول الصغير يكفي فيه النضح “ .
الحديث يدل على أن الصب مطهر للأرض ولا يجب الحفر ، وهذا مذهب أكثر العلماء كما حكاه النووي عنهم .
وذهب الحنفية إلى أن الأرض الصلبة تحفر ، واستدلوا بروايات جاءت في هذا الحديث لكنها ضعيفة ، منها :
ما جاء عند الدار قطني : ( احفروا مكانه ثم صبوا عليه ) .
وجوب صيانة المساجد وتنزيهها عن الأقذار ، ويدل لذلك :
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قررهم على الإنكار ، وإنما أمرهم بالرفق .
ما جاء عند مسلم : ( ... لا تزرموه ، دعوه ، فتركوه حتى بال ، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه ثم قال : إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر ، إنما هي لذكر الله ، والصلاة ، وقراءة القرآن ) .
في الحديث دفع أعظم الضررين بارتكاب أخفهما .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( دعوه ، فتركوه حتى بال ) أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتركوه مع أنها مفسدة في مقابل مفاسد أعظم .
من المفاسد التي يمكن أن تقع لو قاموا على الأعرابي وزجروه :
أنه لو قطع عليه بوله تقذر ، وأصل التنجيس قد حصل ، فكان احتمال زيادته أولى من إيقاع الضرر به .
تنفير الأعرابي عن الدين .أن التنجيس قد حصل في جزء يسير من المسجد ، فلو أقاموه في أثناء بوله لتنجست ثيابه وبدنه ومواضع كثيرة من المسجد .
الرفق بالجاهل وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف وإيذاء ، إذا لم يأتِ بالمخالفة استخفافاً أو عناداً .
ولذلك جاء في رواية عند البخاري : ( فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ) .(1/48)
وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا أرسل أحداً يقول : ( يسروا ولا تعسروا ) .
استدل بحديث الباب بعض العلماء على أن النجاسة لا تزول بغير الماء .
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على قولين : هل تزول النجاسة بغير الماء ؟
القول الأول : أن النجاسة لا تزول إلا بالماء .
لحديث الباب : ( فأمر بذنوب من ماء ... ) .
القول الثاني : لا يشترط الماء في إزالة النجاسة ، بل إذا زالت بأي مزيل يكفي .
لحديث ابن عمر قال : ( كانت الكلاب تقبل وتدبر في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن يرشون عليها شيئاً من ذلك ) .
وجه الدلالة : أنهم تركوا ذلك اعتماداً على أنه يزول بالشمس وبالريح .
ولحديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا وطئ أحدكم بنعليه الأذى فإن التراب له طهور ) . رواه أبو داود
ولأن النجاسة عين خبيثة متى زالت زال حكمها .
وهذا القول هو الراجح ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية .
وأما الجواب عن حديث : ( فأمر بذنوب من ماء ... ) :
فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالماء لأنه أسرع في إزالة النجاسة ، وأيسر على المكلف .
الحديث يدل على وجوب إزالة النجاسة من البقعة ، وإزالة النجاسة واجبة من المكان والثوب والبدن .
أما المكان :لحديث الباب .
أما البدن : لحديث القبرين ، وقد سبق : ( ... أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله ... ) .
أما في الثوب : لقوله تعالى : { وثيابك فطهر } على أحد التفسيرين .
وجوب إنكار المنكر ، وقد اختلف العلماء في حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على قولين :
القول الأول : أنه فرض كفاية .
وهذا مذهب الجمهور .
لقوله تعالى : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } .
( قوله : منكم ، من للتبعيض ) .
قال ابن قدامة : ” في هذه الآية أنه فرض على الكفاية لا فرض عين ، لأنه قال : { ولتكن منكم } ولم يقل : كونوا آمرين بالمعروف “ .(1/49)
القول الثاني : أنه فرض عين .
لحديث : ( أن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب ) .
والراجح الأول .
انتهى الدرس الخامس عشر
1 / 3 / 1425 ه
28 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : (( الْفِطْرَةُ خَمْسٌ : الْخِتَانُ , وَالاسْتِحْدَادُ , وَقَصُّ الشَّارِبِ , وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ , وَنَتْفُ الإِبِطِ )) .
------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
الفطرة : قيل المراد بها : السنة ، ونسبه الخطابي للجمهور . وقيل : هي الدين .
قال النووي : ” تفسير الفطرة هنا بالسنة هو الصواب ، ففي حديث البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من السنة : قص الشارب ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظافر ) “ .
الفوائد :
هذه السنن :
أولاً : الختان
تعريفه :بالنسبة للذكر قطع الجلدة التي فوق الحشفة .
وللأنثى قطع لحمة زائدة فوق محل الإيلاج . قال الفقهاء أنها تشبه عرف الديك .
أول من اختتن إبراهيم .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أول من اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم ) . متفق عليه
( القدوم : بالتشديد هو اسم مكان بالشام ، وبالتخفيف آلة النجار )
اختلف في حكمه :
قيل : سنة للرجال والنساء .
وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة .
لحديث : ( الختان سنة للرجال مكرمة للنساء ) . رواه أحمد وهو ضعيف
وقيل : واجب للرجال دون النساء .
وهذا اختيار ابن قدامة ، وجماعة من العلماء ، ورجحه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله .
ويدل لوجوبه على الرجال :
قوله تعالى : { أن اتبع ملة إبراهيم } وإبراهيم اختتن وهو ابن ثمانين سنة .
وقال - صلى الله عليه وسلم - لرجل أسلم : ( ألقِ عنك شعر الكفر واختتن ) . رواه أبو داود(1/50)
حديث الباب : ( خمس من الفطرة ... وذكر منها : الختان ) .
أن ستر العورة واجب ، فلولا أن الختان واجب لم يجز هتك حرمة المختون بالنظر إلى عورته من أجله .
ولأنه شعار المسلمين ، فكان واجباً كسائر شعارهم .
وهذا القول هو الراجح .
قال الشيخ السعدي رحمه الله : ” لا يجب على الأنثى لعدم الأمر به في حقها ، ولعدم المعنى الموجود في ختان الذكر ، لأنه يتوصل إلى الطهارة “ .
الختان زمن الصغر أفضل إلى التمييز ، لأنه أسرع برءاً لينشأ على أكمل الأحوال .
يجب الختان عند البلوغ .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ” لا يختتن أحد بعد الموت “ .
ثانياً : الاستحداد
تعريفه : هو حلق العانة [ الشعر الذي حول ذكر الرجل وفرج المرأة ] .
حكمه : قال النووي : ” سنة “ .
ثالثاً : تقليم الأظافر
حكمه : سنّة .
قال النووي : ” مجمع على أنه سنة ، وسواء في الرجل والمرأة واليدان والرجلان “ .
قال ابن حجر : ” لم يثبت في استحباب قص الظفر يوم الخميس حديث “ .
الحكمة في ذلك : النظافة لما يكون تحتها من الأوساخ ، والترفع عن التشبه بمن يفعل ذلك من الكفار ، وعن التشبه بذوات المخالب والأظفار من الحيوانات .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : ” ذكر بعض أهل العلم أن دفن الشعر والأظافر أحسن وأولى ، وقد أُثِرَ ذلك عن بعض الصحابة كابن عمر ، وأما كون بقائه في العراء أو إلقائه في مكان ما يوجب إثماً فلا “ .
رابعاً : قص الشارب
السنة هو القص .
كما في حديث الباب ، وفي حديث : ( جزوا الشوارب ... ) .
أن حلقه ليس من السنة ، وكان الإمام مالك يرى تأديب من حلقه .
جاء التحذير من عدم الأخذ منه :
عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من لم يأخذ من شاربه فليس منّا ) . رواه الترمذي
خامساً :نتف الإبط
حكمه : قال النووي : ” سنة بالاتفاق “ .
الأفضل فيه النتف لمن قوي عليه ، ويحصل أيضاً بالحلق .(1/51)
حدد النبي - صلى الله عليه وسلم - أقصى مدة لهذه الأشياء ، هي [ 40 ] يوماً .
عن أنس - رضي الله عنه - قال : ( وقت لنا في قص الشارب ، وتقليم الأظافر ، وحلق العانة ، أن لا تترك أكثر من أربعين يوماً ) . هذه هي أقصى المدة وغايتها .
لكن لو طالت الأظافر أو كثر الشعر في الإبط والشارب قبل الأربعين فإنه يقص .
- جاء في صحيح مسلم عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( عشرة من الفطرة : قص الشارب ، وإعفاء اللحية ، والسواك ، واستنشاق الماء ، وقص الأظافر ، وغسل البراجم ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، وانتفاض الماء – يعني الاستنجاء - ، قال زكريا : قال مصعب : ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة ) .
سادساً : إعفاء اللحية
يجب إحفاؤها ويحرم حلقها .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس ) . رواه مسلم
وعن ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( خالفوا المشركين وفروا اللحى وأحفوا الشوارب ) . متفق عليه
( معنى أرخوا ، وفروا : أي تركها على حالها ) .
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : ( لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء ، والمتشبهات من النساء بالرجال ).رواه البخاري
يحرم صبغها بالسواد .
ورجح هذا القول ابن القيم والنووي والشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين .
عن جابر - رضي الله عنه - قال : ( جيء بأبي قحافة يوم الفتح إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان رأسه كالثغامة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اذهبوا به إلى بعض نسائه فلتغيره بشيء وجنبوه السواد ) . رواه مسلم
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة ) . رواه أبو داود وأحمد(1/52)
وأما حديث : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذ من لحيته من عرضها وطولها ) . رواه الترمذي ولا يصح .
يسن صبغها بغير السواد .
لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم ) . متفق عليه
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن أحسن ما غيرتم به هذا الشيب الحناء والكتم ) . رواه الترمذي
ذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز أخذ ما زاد على القبضة من اللحية .
واستدلوا : بما رواه البخاري قال : ( وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه ) .
والراجح أنه لا يجوز ذلك .
للأحاديث السابقة في وجوب توفيرها .
أن فعل ابن عمر لا يحتج به ، لأنه روى النهي عن التقصير ، وإذا تعارض رأي صحابي وروايته ، فروايته مقدمة على رأيه ، هذا هو الصحيح في تعارض رأي الصحابي وروايته .
يكره في اللحية عقدها .
عن رُوَيْفع - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يا رويفع لعل الحياة ستطول بك ، فأخبر الناس أنه من عقد لحيته ، أو تقلد وتراً أو استنجى برجيع دابة أو عظم ، فإن محمداً بريء منه ) . رواه أبو داود
قال الخطابي : ” في عقدها تفسيران : أحدهما : أنهم كانوا يعقدون لحاهم في الحرب ، وذلك من زي العجم . الثاني : معالجة الشعر لينعقد ويتجعد ، وذلك من فعل أهل التأنيث والتوضيع “ .
سابعاً : غسل البراجم
بفتح الباء ، وهي عقد الأصابع ومعاطفها كلها .
وغسلها سنّة مستقلة وليست بواجبة .
قال العلماء : ويلحق بالبراجم ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن وقعر الصماخ فيزيله بالمسح .
ثامناً : انتفاض الماء
يعني الاستنجاء ، وسبق .
فائدة : يكره القزع [ وهو حلق بعض الرأس وترك بعضه ] .
لحديث ابن عمر - رضي الله عنه - قال : ( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القزع ) . متفق عليه(1/53)
الحكمة من النهي : قال النووي : ” قيل : يشوه الخلق ، وقيل : لأنه زي أهل الشرك ، وقيل : لأنه زي اليهود ، وقد جاء هذا مصرحاً به في رواية لأبي داود “ .
انتهى الدرس السادس عشر
8 / 3 / 1425 ه
بابُ الجنابةِ
29- عنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - (( أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَقِيَهُ في بعْضِ طُرُقِ المدينَةِ وهو جُنُبٌ ، قالَ : فَانْخَنَسْتُ مِنْهُ ، فَذَهَبْتُ فَاغْتَسَلْتُ ثُمَّ جِئْتُ ، فقَالَ : أَيْنَ كُنْتَ يا أَبا هُرَيْرَةَ ؟ قَالَ : كُنْتُ جُنُبَاً فَكَرِهْتُ أَنْ أُجالِسَكَ على غَيْرِ طَهارَةٍ ، فَقَالَ : سُبْحانَ اللهِ ، إِنَّ المُؤْمِنَ لا يَنْجُسُ )) .
------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
وهو جنب : يعني نفسه ، وفي رواية أبي داود : ( وأنا جنب ) .
فانخنست منه : مضيت عنه مستخفياً ، ولذلك وصف الشيطان بالخناس .
كنت جنباً : الجنب هو من عليه حدث أكبر إما بإنزال أو جماع .
وسمي الجنب جنباً ، لأنه يجتنب العبادات ، مثل : الصلاة وغيرها .
الفوائد :
هذا الحديث يدل على طهارة المسلم .
قال النووي : ” هذا الحديث أصل عظيم في طهارة المسلم حيّاً وميتاً ، فأما الحي فطاهر بإجماع المسلمين ، وأما الميت فطاهر على الراجح “ .
استدل بمفهوم قوله : ( إن المؤمن لا ينجس ) أهل الظاهر على نجاسة الكافر نجاسة حسية ، ونقل هذا عن الحسن البصري أنه ، قال : ” من صافح كافراً فليتوضأ “ .
واستدلوا أيضاً :بقوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } . (التوبة: من الآية28)
وذهب أكثر العلماء إلى أن المشرك ليس نجس نجاسة عين ، وإنما نجاسته نجاسة معنوية .
واستدلوا بأدلة :
( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل من الشاة المسمومة التي وضعتها له اليهودية يوم خيبر ) . متفق عليه
( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بربط ثمامة بن أثال في المسجد ) . رواه مسلم(1/54)
( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة كانوا يلبسون الثياب التي نسجها المشركون ) .
( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا يعيشون إلى جوار اليهود في المدينة ، ولم ينقل أنهم كانوا يتوقون شيئاً من اللمس أو غيره ) .
وهذا القول هو الراجح . وأما الجواب عن الآية :
فالمراد : أن المراد بالنجاسة نجاسة الاعتقاد .
كان سبب ذهاب أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا لقي أحداً من أصحابه ماسحه ودعا له ، هكذا رواه النسائي وابن حبان من حديث حذيفة ، فلما ظن أبو هريرة - رضي الله عنه - أن الجنب ينجس بالحدث ، خشي أن يماسحه - صلى الله عليه وسلم - كعادته ، فبادر إلى الاغتسال ، وإنما أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله : ( وأنا على غير طهارة ) .
قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( سبحان الله ) تعجب من اعتقاد أبي هريرة التنجس بالجنابة ، أي كيف يخفى عليه هذا الظاهر ؟
جواز خروج الجنب إلى الشارع قبل الاغتسال بشرط عدم فوات وقت الصلاة .
قول [ سبحان الله ] عند التعجب ، وقد تكرر ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - :
فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( سبحان الله ، ما ذا أنزل الله الليلة من الفتن ) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( سبحان الله ، إنها الفتن ، قلتم كما قالت بنوا إسرائيل لموسى اجعل لنا آلهة ... ) .
استحباب احترام أهل الفضل وأن يوقرهم جليسهم ومصاحبيه ، فيكون على أكمل الهيئات وأحسن الصفات .
أن العالم إذا رأى من تابعه أمر يخاف عليه فيه خلاف الصواب سأله عنه وقال صوابه وبين له حكمه .
جواز مجالسة الجنب ومصافحته وملامسته ، لأنه طاهر .
انتهى الدرس السابع عشر
12 / 3 / 1425 ه(1/55)
30 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (( كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ غَسَلَ يَدَيْهِ , ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاةِ , ثُمَّ اغْتَسَلَ , ثُمَّ يُخَلِّلُ بِيَدَيْهِ شَعْرَهُ , حَتَّى إذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ , أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ , ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ , وَكَانَتْ تَقُولُ : كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ , نَغْتَرِفُ مِنْهُ جَمِيعاً )) .
31 - عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - - أَنَّهَا قَالَتْ : (( وَضَعْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَضُوءَ الْجَنَابَةِ , فَأَكْفَأَ بِيَمِينِهِ عَلَى يَسَارِهِ مَرَّتَيْنِ - أَوْ ثَلاثاً - ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ , ثُمَّ ضَرَبَ يَدَهُ بِالأَرْضِ , أَوْ الْحَائِطِ , مَرَّتَيْنِ - أَوْ ثَلاثاً - ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ , وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ , ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ الْمَاءَ , ثُمَّ غَسَلَ جَسَدَهُ , ثُمَّ تَنَحَّى , فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ , فَأَتَيْتُهُ بِخِرْقَةٍ فَلَمْ يُرِدْهَا , فَجَعَلَ يَنْفُضُ الْمَاءَ بِيَدِهِ )) .
------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
أروى : المقصود بالإرواء هنا الوصول إلى جميع البلد .
البشرة : ظاهر الجلد .
سائر : باقي جسده .
إذا اغتسل : أي أراد ذلك وشرع في الفعل .
من الجنابة : أي بسبب الجنابة .
غسل يديه : المقصود الكفين .
يخلل بيديه شعره : أي يدخل يديه المبلولتين بالماء من خلال شعره حتى يعم شعره بالماء .
الفوائد :
هذين الحديثين فيهما صفة الغسل من الجنابة .
وصفة الغسل من الجنابة تنقسم إلى قسمين :
صفة كاملة ( مسنونة ) .
وصفة مجزئة .(1/56)
أولاً : الصفة الكاملة ( المسنونة ) :
أن ينوي .
لحديث : ( إنما الأعمال بالنيات ... ) . متفق عليه
والنية شرط لصحة جميع الأعمال .
ثم يسمي .
وحكمها هنا كحكمها في الوضوء ، وهي سنة .
لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ) . رواه أبو داود
ثم يغسل كفيه ثلاثاً .
لحديث عائشة : ( غسل يديه ... ) .
والمقصود بالكفين هنا الكفان .
ويبدأ بالكفين لأنهما هما أداة غرف الماء ، فينبغي طهارتهما .
ثم يغسل فرجه .
لحديث ميمونة : ( ثم غسل فرجه ... ) .
ثم يغسل يده بمنظف عقب الاستنجاء بها .
لحديث ميمونة : ( ثم ضرب يده بالأرض أو الحائط مرتين أو ثلاثاً ) .
فيغسل يده بمنظف سواء بالتراب أو بالصابون أو بغيره .
وهذا على سبيل التنظيف .
ثم يتوضأ وضوءه للصلاة .
لحديث عائشة : ( ثم توضأ وضوءه للصلاة ) .
إنما قدم غسل أعضاء الوضوء تشريفاً لها ، ولتحصل له صورة الطهارتين الصغرى والكبرى .
الوضوء قبل الغسل سنة عند أكثر العلماء غير واجب ، لأنه فعل ، والفعل المجرد يدل على السنة ، ولأن الطهارة الصغرى تدخل تحت الطهارة الكبرى .
إشكال :
جاء في حديث عائشة : ( أنه توضأ وضوءه للصلاة ) .
وجاء في حديث ميمونة : ( أنه توضأ وضوءه للصلاة غير رجليه ) .
فاختلف العلماء في الوضوء الذي يكون في أول الغسل ، هل يشرع أن يكون وضوءاً كاملاً ويغسل قدميه ، أم يتوضأ ولا يغسل قدميه بل يؤخرهما إلى الأخير ؟
فقيل : يتوضأ وضوءاً كاملاً مع رجليه .
وهذا المذهب .
لأن هذا هو المتبادر عند إطلاق لفظ الوضوء .
وقيل : يتوضأ ولا يغسل رجليه ، بل يؤخرهما .
ونسب هذا إلى الجمهور .
قالوا : يؤخر غسلهما إلى ما بعد انتهائه من الغسل .(1/57)
والراجح أنه يتوضأ وضوءاً كاملاً في أول الغسل ، وهذا هو الغالب من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، لأن عائشة ذكرت صفة غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - للجنابة على سبيل الدوام .
وأما حديث ميمونة فيحمل أن ذلك كان لحاجة كما لو كانت الأرض طيناً ، لأنه لو غسلهما لتلوثت رجلاه بالطين .
ثم يخلل بيده شعر رأسه .
لحديث عائشة : ( ثم يخلل بيده شعره ) .
وحقيقة التخليل : إدخال الأصابع فيما بين أجزاء الشعر .
فائدة التخليل :
تسهيل إيصال الماء إلى الشعر والبشرة .
مباشرة الشعر باليد ليحصل تعميمه .
تأنيس البشرة خشية أن يصيب بصبه دفعة آفة في رأسه .
ثم يحثي على رأسه ثلاثاً .
لحديث عائشة : ( ثم أفاض الماء عليه ثلاثاً ) .
ولحديث ميمونة : ( ثم أفاض على رأسه الماء ) .
وفي رواية : ( ثم حفن على رأسه ثلاث حثيات ) .
ومن هذا أنه يستحب التثليث في الرأس .
وهذا مذهب أكثر العلماء ، وهذا من الفروق بين الوضوء والغسل .
يستحب أن يبدأ بشقه الأيمن ثم الأيسر .
لحديث عائشة قالت : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء من الحلاب ، فأخذ بكفيه ، ثم بدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر ) . متفق عليه الحلاب : إناء يسع قدر حلب ناقة .
ثم يعمم جسده بالماء .
هذه صفة الغسل المسنون .
ثانياً : صفة الغسل المجزئ .
أن ينوي ، ثم يعمم بدنه بالماء مع المضمضة والاستنشاق .
والدليل على أن هذا مجزئ قوله تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا } . (المائدة: من الآية6)
ولم يذكر شيئاً سوى ذلك ، ومن عمم بدنه بالغسل مرة واحدة صدق عليه أنه تطهر .
ذهب بعض العلماء إلى أنه يستحب التثليث في غسل بقية البدن .
قالوا : قياساً على غسل الرأس .
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يستحب التثليث في غير الرأس .
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ، لقوله : ( ثم غسل سائر جسده ) .(1/58)
والأحاديث التي في غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرد فيها استحباب ذلك .وهذا القول هو الراجح .
جواز تنشيف الأعضاء بعد الوضوء أو الغسل .
وقد ذهب بعضهم إلى الكراهة .
لحديث الباب : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتي بخرقة فلم يُرِدْها ) .
وذهب بعضهم إلى استحبابه .
لحديث سلمة : ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ فقلب جبة صوف كانت عليه فمسح وجهه ) . رواه ابن ماجه [ مختلف في صحته ]
وقد صح عن أنس : ( أنه كان يمسح وجهه بالمنديل بعد الوضوء ) . رواه ابن المنذر
والراجح أنه جائز ( يعني مباح ) .
جواز نفض اليدين من ماء الغسل ، لقوله : ( وجعل ينفض الماء بيديه ) .
وأما حديث : ( لا تنفضوا أيديكم في الوضوء فإنها مراوح الشيطان ) . ضعيف
هل يجب نقض رأس المرأة للغسل من الحيض والجنابة ؟
قيل : يجب لغسل الحيض دون الجنابة . قالوا : يتسامح في غسل الجنابة لكثرة الحاجة إليه .
وقيل : لا يجب نقضه لا لحيض ولا لجنابة إذا وصله الماء .
وهذا مذهب الجمهور كما ذكر ذلك النووي .
لحديث أم سلمة قالت : ( أشد ظفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة والحيض ؟ قال : لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين ) . رواه مسلم
وورد أن عدداً من النساء سألن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الغسل فلم يأمر إحداهن بأن تحل قرن رأسها ، بل أمرها أن تحثو على رأسها ثلاث حثيات .
وهذا القول هو الراجح .
انتهى الدرس الثامن عشر
15 / 3 / 1425 ه
32 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - قَالَ : (( يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَيَرْقُدُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ , إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرْقُدْ )) .
------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
أيرقد : أينام .
وهو جنب : أي ذو جنابة .
الفوائد :(1/59)
هذا الحديث يدل على استحباب الوضوء للجنب إذا أراد أن ينام .
وهذا مذهب أكثر العلماء .
لحديث الباب : ( إذا توضأ فليرقد ) .
والصارف عن الوجوب :
أنه جاء في رواية عند ابن حبان : ( يتوضأ إن شاء ) .
وحديث عائشة : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء ) . رواه أبو داود [ ولكن مختلف في صحته ، والأفرب أنه ضعيف ].
الحكمة من الوضوء :
قيل : أنه يخفف الحدث .
وقيل : أنه إحدى الطهارتين .
وقيل : أنه ينشط إلى العَوْد أو إلى الغسل .
ويستحب للجنب إذا أراد أن يعود إلى الجماع أن يتوضأ .
لحديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوءاً ) .
………………………… … رواه مسلم
وهذا أمر لكنه ليس للوجوب ، والصارف عن الوجوب :
أنه جاء في رواية الحاكم : ( فإنه أنشط للعَوْد ) .
فهذا التعليل مشعر بأن القضية تتعلق بأمر يخص نشاط الرجل في الجماع ، وليس متعلق بأمر شرعي .
بل يستحب للإنسان أن يغتسل بين الجماعين .
لحديث أنس : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف على نسائه وكان يغتسل عند كل واحدة منهن ، وقال : هو أزكى وأطهر )رواه أبو داود
يجوز للجنب أن ينام ويأكل قبل الاغتسال .
يستحب لكل إنسان يريد أن ينام أن يتوضأ .
لحديث البراء بن عازب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل : ( إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ) . متفق عليه
فائدة :
طوافه على نسائه - صلى الله عليه وسلم - محمول على أنه كان برضاهن أو برضا صاحبة النوبة .
قال النووي : ” وهذا التأويل يحتاج إليه من يقول كان القسْم واجباً عليه في الدوام كما يجب علينا ، وأما من لا يوجبه فلا يحتاج إلى هذا التأويل ، فإن له أن يفعل ما شاء “ .
انتهى الدرس التاسع عشر
19 / 3 / 1425 ه(1/60)
33 – عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها – زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - – قَالَتْ :(( جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ امْرَأَةُ أَبِي طَلْحَةَ – إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ , فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إذَا هِيَ احْتَلَمَتْ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : نَعَمْ , إذَا رَأَتِ الْمَاءَ ))
------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
إن الله لا يستحي من الحق : جعلت هذا القول تمهيداً لعذرها في ذكر ما يستحيا منه .
احتلمت : الاحتلام ما يراه النائم في منامه ، والمراد هنا الجماع .
فقد جاء عند أحمد أنها قالت : ( إذا رأت أن زوجها يجامعها في المنام أتغتسل ) .
إذا رأت الماء : أي المني بعد الاستيقاظ .
الفوائد :
فيه دليل على أن الإنسان إذا أراد سؤالاً يستحي منه يقدم بين سؤاله تمهيداً لسؤاله كما فعلت أم سليم .
إثبات صفة الحياء لله عز وجل إثباتاً يليق بجلاله .
أن المرأة تحتلم كما يحتلم الرجل .
وجوب الغسل بخروج المني إذا كان بشهوة .
قال النووي : ” اعلم أن المرأة إذا خرج منها المني وجب عليها الغسل ، كما يجب على الرجل بخروجه ، وقد أجمع المسلمون على وجوب الغسل على الرجل والمرأة بخروج المني “ .
ومن الأدلة : حديث أبي سعيد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنما الماء من الماء ) . متفق عليه
( إنما ) أي ماء الغسل . ( من الماء ) من ماء المني .
إذا تحرك المني ولم يخرج فإنه لا يجب الغسل ، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على قولين :
القول الأول : يجب الغسل إذا انتقل المني ولم يخرج .
وهذا المذهب .
القول الثاني : لا يجب الغسل .
وهذا مذهب الجمهور .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا رأت الماء ) فعلق الاغتسال على الرؤية فلا يثبت الحكم بدونه .(1/61)
أن من ذكر احتلاماً لكنه لم يجد الماء ، فإنه لا غسل عليه .
فإذا استيقظ ووجد بللاً ، فلا يخلو من ثلاث حالات :
الأولى : أن يتيقن أنه موجب للغسل ، يعني : أنه مني ، وفي هذه الحالة يجب عليه أن يغتسل سواء ذكر احتلاماً أم لم يذكر .
الثانية : أن يتيقن أنه ليس بمني ، وفي هذه الحالة لا يجب الغسل ، لكن عليه أن يغسل ما أصابه ، لأن حكمه حكم البول .
الثالثة : أن يجهل ، هل هو مني أم لا ؟ فإن وجد ما يحال عليه الحكم بكونه منياً ، أو مذياً ، أحيل الحكم عليه ، وإن لم يوجد فالأصل الطهارة ، وعدم وجوب الغسل .
وكيفية إحالة الحكم أن يقال : إن ذكر أنه احتلم فإننا نجعله منياً ، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل في منامه ، هل عليها غسل ؟ قال :( نعم إذا هي رأت الماء) وإن لم يرى شيئاً في منامه ، وقد سبق نومه تفكير في الجماع ، جعلناه مذياً ، لأنه يخرج بعد التفكير في الجماع دون إحساس .
موجبات الغسل :
خروج المني بشهوة كما سبق .
الجماع ولو لم ينزل ( الإيلاج ) .
لحديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل ) . متفق عليه
ولمسلم : ( وإن لم ينزل ) .
انقطاع الحيض .
قال تعالى : { وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } . (البقرة: من الآية222)
وقال - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت أبي حُبيْش : ( ... فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي ) . متفق عليه
الحياء لا ينبغي أن يمنع من تعلم العلم .
وقد قال مجاهد : ” لا ينال العلم مستحي ولا مستكبر “ .
وقال الشاعر :
وقد قالت عائشة : ( نِعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء من التفقه في الدين ) .
مشروعية سؤال الإنسان ما يحتاج إليه في أمور الدين .(1/62)
قال ابن القيم : ” إيجاب الشارع في الغسل من المني دون البول فهذا من أعظم محاسن الشريعة ، وما اشتملت عليه من الرحمة والحكمة والمصلحة ، فإن المني يخرج من جميع البدن ، لهذا أسماه الله سبحانه وتعالى [ سُلالة ] لأنه يسيل من جميع البدن ، وأما البول فإنما هو فضلة الطعام والشراب المستحيلة في المعدة والمثانة ، فتأثر البدن بخروج المني أعظم من تأثره بخروج البول ... ) “ .
انتهى الدرس العشرون 22 / 3 / 1425 ه
34 – عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (( كُنْت أَغْسِلُ الْجَنَابَةَ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَيَخْرُجُ إلَى الصَّلاةِ , وَإِنَّ بُقَعَ الْمَاءِ فِي ثَوْبِهِ )) .
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ (( لَقَدْ كُنْتُ أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرْكاً, فَيُصَلِّي فِيهِ )) .
------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
أفركه : أدلكه .
المني : وهو الماء الدافق الذي يخرج من الإنسان بشهوة .
الفوائد :
اختلف العلماء في حكم المني على قولين :
القول الأول : أنه طاهر .
وهذا مذهب الشافعية والحنابلة ، ونسبه النووي إلى الكثيرين من أهل الحديث ، واستدلوا :
بقول عائشة : ( كنت أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيصلي فيه ) . فلو كان نجساً ما اكتفت بفركه .
ولحديث ابن عباس : ( سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المني يصيب الثوب فقال : إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بأذخرة ) . رواه الدار قطني والبيهقي
قال البيهقي : ” الصحيح أنه موقوف “ .
قال الألباني : ” إن ما تضمنه من الحكم على المني بالطهارة هو الصواب ، ويكفي في ذلك جزم ابن عباس - رضي الله عنه - بأنه بمنزلة المخاط والبصاق ، ولا يعرف له مخالف من الصحابة ، ولا ما يعارضه من الكتاب والسنة “ .
القول الثاني : أنه نجس .(1/63)
وهذا مذهب الحنفية والمالكية ، واستدلوا :
بقول عائشة : ( كنت أغسل الجنابة من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... ) .
والغسل لا يكون إلا للشيء النجس .
ولحديث عمار مرفوعاً : ( إنما يغسل الثوب من الغائط والبول والمذي والمني والدم والقيء ) . رواه الدار قطني وهو ضعيف
قال البيهقي : ” هذا حديث باطل “ .
والراجح القول الأول .
وعليه : فمن صلى وعلى ثوبه مني فصلاته صحيحة .
صفات المني :
قال النووي مبيناً خصائص المني : ” وهي ثلاث : أحدها : الخروج بشهوة مع الفتور عقيبه . الثانية : الرائحة التي تشبه الطلع أو العجين . الثالثة : الخروج بدفعة ودفعات .
فكل واحدة من هذه الثلاث كافية في كونه منياً ، ولا يشترط اجتماعها ، فإن لم يوجد منها شيء لم يحكم بكونها منياً “ .
أن خروج المني من موجبات الغسل ، وقد سبق الدليل على ذلك في الحديث السابق .
استحباب إزالة المني من الثوب .
فائدة :
الخارج من الإنسان ثلاثة أقسام :
أحدها : طاهر بلا نزاع ، وهو الدمع والريق والمخاط والبصاق والعرق .
الثاني : نجس بلا نزاع ، وهو البول والغائط والمذي والودي .
الثالث : مختلف فيه ، وهو المني .
خدمة الزوجة لزوجها .
35 – عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : (( إذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ , ثُمَّ جَهَدَهَا , فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ)) .
وَفِي لَفْظٍ لمسلم : (( وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ )) .
------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
إذا جلس : أي الرجل .
شعبها الأربع : الشعب جمع شعبة ، وهي القطعة من الشيء .
قيل : المراد هنا يداها ورجلاها . وقيل : رجلاها وفخذاها . وقيل : ساقاها وفخذاها .
جهدها : كناية عن الجماع .
الفوائد :
هذا الحديث دليل على إيجاب الغسل بالإيلاج ولو لم يكن هناك إنزال .(1/64)
قال النووي : ” متى غابت الحشفة في الفرج ، وجب الغسل على الرجل والمرأة ، وهذا لا خلاف فيه اليوم ، وقد كان فيه خلاف لبعض الصحابة ومن بعدهم ، ثم انعقد الإجماع على ما ذكرناه “ .
أما حديث : ( إنما الماء من الماء ) ، فالجواب عنه من وجهين :
الأول : أنه منسوخ بحديث الباب .
ومما يدل على النسخ حديث عائشة : ( أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل ، وعائشة جالسة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل ) . رواه مسلم
( يكسل ) ضعف عن الإنزال .
الثاني : أنه يحمل على الاحتلام .
أن الإيلاج من موجبات الغسل .
انتهى الدرس الحادي والعشرون 26 / 3 / 1425 ه
36 - عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي اللهُ عنهم (( أَنَّهُ كَانَ هُوَ وَأَبُوهُ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , وَعِنْدَهُ قَوْمٌ , فَسَأَلُوهُ عَنْ الْغُسْلِ ؟ فَقَالَ : صَاعٌ يَكْفِيكَ ، فَقَالَ رَجُلٌ : مَا يَكْفِينِي , فَقَالَ جَابِرٌ : كَانَ يَكْفِي مَنْ هُوَ أَوْفَى مِنْك شَعَرَاً , وَخَيْراً مِنْكَ – يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - – ثُمَّ أَمَّنَا فِي ثَوْبٍ )) , وَفِي لَفْظٍ (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُفْرِغُ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاثاً )) .
قال المصنف : الرجل الذي قال : ( ما يكفيني ) هو الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، وأبو محمد بن الحنفية .
------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
أبي جعفر : محمد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، تابعي يعرف بالباقر ، لأنه بقر العلم ، أي شقه ، أبوه : هو علي زين العابدين ، قيل له ذلك لكثرة عبادته ، وهو تابعي جليل .
عن الغسل : أي عن ماء الغسل ما يكفي فيه .(1/65)
صاع : أي قدر صاع ، والصاع : أربعة أمداد .
فقال رجل : هو الحسن بن محمد بن علي .
أوفر منك : أكثر منك .
خيراً منك : أفضل منك .
الفوائد :
في الحديث مقدار ما يكفي في الغسل .
وقد جاء في الصحيحين عن أنس - رضي الله عنه - : ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد ) .
وقد ورد في مقدار غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يلي :
أولاً : صاع كما في الأحاديث السابقة .
ثانياً : ورد عن عائشة في صحيح مسلم : ( أنها كانت تغتسل هي والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء هو الفَرَق ) . متفق عليه
الفرق : ثلاثة أصواع .
ثالثاً : وفي مسلم : ( أنه اغتسل - صلى الله عليه وسلم - بثلاثة أمداد ) .
فعلى حسب الروايات أقل ما ورد في الغسل ثلاثة أمداد .
سؤال : حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل هو وعائشة من إناء واحد هو الفرق ، هل يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل بثلاثة أصواع ؟
الجواب : لا ، لأسباب :
لأنه لم يذكر أن الفرق هذا ممتلئ ، فيحتمل أن يكون فيه قدر صاعين مثلاً .
ويحتمل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعائشة لم يغتسلا بجميع ما في الإناء ، بل اغتسلا ببعضه .
إذاً : لا يمكن تقدير أكثر ما اغتسل به النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه صاع إلى صاع ونصف ومد ، وأقل ما ورد حسب الروايات ثلاثة أمداد .
المد : هو ما يملأ كفي الرجل .
فالروايات تدل على أن المسألة تقريبية ، وأنه ليس واجباً على المغتسل ألا يزيد على الصاع ، بل هذه السنة .
قال النووي : ” أجمعوا على أن الماء الذي يجزئ في الوضوء والغسل غير مقدر ، بل يكفي فيه القليل والكثير إذا وجد شرط الغسل وهو جريان الماء على الأعضاء “ .
فضيلة الاقتصاد في ماء الغسل ، وقد وردت أدلة في تحريم الإسراف في الماء :
قال تعالى : { وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } . (الأنعام: من الآية141)(1/66)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( سيكون قوم يعتدون في الطهور والدعاء ) . رواه أبو داود
قال الإمام أحمد : ” من قلة فقه الرجل ولعه بالماء “ .
الإنكار على من يخالف سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
المباحثة في العلم والسؤال عنه وإن كان السائل أشرف نسباً .
قوله : ( كان يجزئ من هو خير منك ) قال الحافظ ابن حجر :
” فيه جواز الرد بعنف على من يماري بغير علم إذا قصد الراد إيضاح الحق ، وتحذير السامعين من مثل ذلك ، وفيه كراهية التنطع والإسراف في الماء “ .
انتهى الدرس الثاني والعشرون
29 / 3 / 1425 ه
بابُ التَّيَمُّمِ
37 - عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رضي الله عنه - : (( أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلاً مُعْتَزلاً , لَمْ يُصَلِّ فِي الْقَوْمِ ؟ فَقَالَ : يَا فُلانُ , مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ فِي الْقَوْمِ ؟ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ , وَلا مَاءَ , فَقَالَ : عَلَيْك بِالصَّعِيدِ , فَإِنَّهُ يَكْفِيَكَ )) .
------------------------------------------------------
رواية الحديث :
هو عمران بن حصين أبو نُجيْد ، كان من علماء الصحابة ، بعثه عمر إلى أهل البصرة ليفقههم ، كانت الملائكة تسلم عليه فلما اكتوى تركته ، فلما تركه عادوا ، مات عام 52 ه .
معاني الكلمات :
معتزلاً : منفرداً عن القوم .
ولا ماء : أي لا ماء معي أو عندي .
الفوائد :
تعريف التيمم :
لغة : القصد ، تقول يممت فلان ، إذا قصدته ، ومنه قوله تعالى : { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } . (المائدة: من الآية2) أي قاصديه
شرعاً : التعبد لله بقصد الصعيد الطيب لمسح الوجه واليدين .
وهو من خصائص هذه الأمة .(1/67)
لحديث جابر - رضي الله عنه - الآتي ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي ... وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، فأيما رجل ما أمتي أدركته الصلاة فليصل ) . متفق عليه
التيمم ثابت بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } . (المائدة: من الآية6)
ومن السنة : أحاديث كثيرة ، حديث الباب والأحاديث الآتية .
وأجمعت الأمة على جواز التيمم من حيث الجملة . [ نقل الإجماع النووي ، وابن قدامة ] .
سبب مشروعيته ضياع عقد عائشة .
عن عائشة قالت : ( خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء انقطع عقد لي ، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء ... فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غير ماء فأنزل الله آية التيمم ، قال تعالى :
{ فتيمموا ... } فقال أسيْد بن حضير : ما هي بأول بركتكم يا آل بكر ، فقالت : فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته ) . رواه البخاري
وفي رواية : ( فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله للمسلمين فيه خيراً ) .
أن المتيمم إذا وجد الماء وجب عليه أن يتطهر به ، سواء كان ذلك عن جنابة ، أو عن حدث أصغر .
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حضر الماء أعطاه إياه وقال : ( أفرغه على نفسك ) .
قوله : ( أصابتني جنابة ولا ماء ) لا ينبغي أن يحمل على أن المحدث لا يتيمم ، لأن مشروعية التيمم كانت متقدمة على زمن إسلام عمران بن حصين ، وإنما كان ينبغي أن يحمل على أنه اعتقد أن الجنب لا يتيمم .
متى يشرع التيمم ؟
عدم وجود الماء بعد طلبه .
فلا يكون واجداً للماء لا في بيته ولا في رحله إن كان مسافراً ، ولا ما قرب منه .(1/68)
قال تعالى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } فاشترط للتيمم عدم الماء .
إذا خاف العطش فإنه يتيمم ويترك الماء لنفسه .
قال تعالى : { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } . (البقرة: من الآية195)
قال ابن المنذر : ” أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المسافر إذا كان معه ماء وخشي العطش ، أنه يبقي ماءه للشرب ويتيمم “ .
فائدة :
إذا وجد ماءً لكن بسعر زائد ؟
الصحيح في هذه المسألة أنه إذا كان واجداً لثمنه ، قادراً عليه ، يجب أن يشتريه .
لقوله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً ... } فاشترط للتيمم عدم الماء ، وهنا موجود ماء ، ولا ضرر عليه في شرائه لقدرته عليه .
فائدة :
إذا وجد الماء بثمن يعجزه : فإنه يعتبر عادماً للماء فيتيمم .
إذا خاف باستعمال الماء ضرر بدنه .
فإنه يصبح كالمريض ، فيدخل في عموم قوله تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ } . (النساء: من الآية43)
كما لو كان في أعضاء وضوئه قروح ، وخاف باستعمال الماء الضرر ، فإنه يتيمم .
يجوز التيمم إذا خاف البرد .
عن عمرو بن العاص قال : ( احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل ، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح ، فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا عمرو ، صليت بأصحابك وأنت جنب ، فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال ، وقلت : إني سمعت الله يقول : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُم } فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئاً ) .رواه أبو داود
فأقر النبي - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن العاص ، والإقرار دليل .
ففي قصة عمرو بن العاص فوائد :
جواز التيمم خشية البرد ، لإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - له بذلك ، وإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتبر سنة .
جواز إمامة المتيمم للمتوضئين .(1/69)
لكن إن كان يستطيع أن يسخن الماء ، فإنه يسخنه ويستعمله ، فإن لم يجد ما يسخنه به ، فإنه يتيمم .
اختلف العلماء : هل التيمم مبيح أو رافع ؟ على قولين :
القول الأول : أنه مبيح لا رافع .
وهذا مذهب الشافعي ، ونسبه النووي للجمهور .
لحديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( الصعيد طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين ، فإذا وجده فليمسه بشرته ) . رواه الترمذي
قالوا : ولو رفع الحدث لم يحتج الماء إذا وجده .
القول الثاني : أنه رافع ويقوم مقام الماء .
وهذا مذهب أبي حنيفة ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية .
لقوله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } . (المائدة: من الآية6)
قالوا : هذا دليل على أن التيمم طهارة ، فهو مطهر كما يطهر الماء بنص القرآن .
ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ) .
قالوا : هذا دليل على أن التراب طهور للمتيمم كما أن الماء طهور له إلا أن طهارة التراب مؤقتة .
أنه بدل ، والقاعدة الشرعية [ أن البدل له حكم المبدل ] .
وهذا القول هو الصحيح .
فائدة الخلاف :
إذا قلنا أنه مبيح [ القول المرجوح ] :
فإنه إذا تيمم لنافلة ، لم يصلّ به فريضة ، لأن الفريضة أعلى .
وإذا تيمم لمس المصحف ، لم يصلّ به نافلة ، لأن الوضوء للنافلة أعلى .
وإذا خرج الوقت بطل التيمم ، لأن المبيح يقتصر على قدر الضرورة .
وأما على القول أنه رافع [ وهو الصحيح ] :
فإنه من تيمم لنافلة ، فإنه يصلي به فريضة ، وغيرها من الصلوات .
ولا يبطل بخروج الوقت .
لأنه يقوم مقام الماء [ وسبق أن هذا هو الصحيح ] .
من وجد ماءً يكفي بعض طهره ، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة :
قيل : يتيمم ولا يستعمل الماء .(1/70)
وهذا مذهب أبي حنيفة ، ورجحه الشيخ السعدي : قال : ” لأنه لا يحصل بهذا الاستعمال رفع حدث ولا تخفيفه “ .
وقيل : يستعمله ثم يتيمم .
وهذا المذهب .
لقوله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } .
ولحديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( الصعيد طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين ... ) .
فاشترط في التيمم عدم الماء .
ولقوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } . (التغابن: من الآية16)
وليصدق أنه عاد لماء .
وهذا القول هو الصحيح .
مثال : إنسان عنده ماء يكفي لغسل الوجه واليدين فقط .
أن العالم إذا رأى من فعل فعلاً يحتمل أن يسوغ ، ويحتمل أن لا يسوغ ، أن يسأله ليتبين حالته .
فيه الأمر بالصلاة جماعة .
من وجد الماء بعد تيممه ، فهذه المسألة لها ثلاثة أحوال :
الحالة ألأولى : أن يجد الماء قبل الصلاة .
ففي هذه الحالة يستعمل الماء ويتوضأ ويبطل تيممه .
قال ابن المنذر : ” أجمعوا على أن من تيمم كما أمر ، ثم وجد الماء قبل دخوله في الصلاة ، أن طهارته تنتقض ، وعليه أن يعيد الطهارة ويصلي “ .
الحالة الثانية : أن يجد الماء بعد الصلاة .
ففي هذه الحالة لا يعيد ، وهذا مذهب أكثر العلماء .
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : ( خرج رجلان في سفر وحضرت الصلاة ، وليس معهما ماء ، فتيمما صعيداً طيباً فصليا ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الوضوء والصلاة ولم يعد الآخر ، ثم أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرا ذلك له ، فقال للذي لم يعد : أصبت السنة وأجزأتك صلاتك ، وقال للذي توضأ وأعاد : لك الأجر مرتين ) . رواه أبو داود
ولأنه أدى فرضه كما أمر فلم يلزمه الإعادة .
الحالة الثالثة : إن وجد الماء أثناء الصلاة .
ففي هذه الحالة : اختلف العلماء على قولين :
القول الأول : أنه يكمل الصلاة ولا يقطعها .
وبه قال مالك والشافعي وابن المنذر .(1/71)
لقوله تعالى : { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } . (محمد: من الآية33)
القول الثاني : أنه يقطع الصلاة ، ويكون تيممه قد بطل ، فيعيد الوضوء والصلاة .
وهذا مذهب أبي حنيفة ورجحه ابن حزم .
لقوله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } . (النساء: من الآية43) ، وهذا وجد الماء ، فبطل حكم التيمم .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته ) . رواه أبو داود ، وهذا وجد الماء .
وهذا هو القول الصحيح .
انتهى الدرس الثالث والعشرون
3 / 4 / 1425 ه
38 - عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنهما قَالَ : (( بَعَثَنِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَاجَةٍ , فَأَجْنَبْتُ , فَلَمْ أَجِدِ الْمَاءَ , فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ , كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ , ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ , فَقَالَ : إنَّمَا يَكْفِيَكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا - ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً , ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ , وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ )) .
------------------------------------------------------
راوي الحديث :
عمار بن ياسر صحابي جليل عُذّبَ في سبيل الله ، فيه نزل قوله تعالى : { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ } . (النحل: من الآية106). مات سنة 37 ه .
معاني الكلمات :
فتمرغت : أي تقلبت ، وكان عمار استعمل القياس في هذه المسألة ، لأنه لما رأى أن التيمم إذا وقع بدل الوضوء وقع على هيئة الوضوء ، رأى أن التيمم عند الغسل يقع على هيئة الغسل .
الفوائد :
إذا أجنب الإنسان ولم يجد الماء ، فإنه يتيمم ، وهذا مذهب أكثر العلماء ، وهو مذهب الأئمة الأربعة .
لحديث الباب ، ولحديث عمران بن حصين السابق .(1/72)
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يتيمم بل يجلس إلى أن يجد الماء . وهذا قول ضعيف .
اختلف العلماء في عدد الضربات في التيمم على قولين :
القول الأول : أن التيمم ضربة واحدة .
وهذا مذهب أحمد ، ونسبه الخطابي لأهل الحديث .
لحديث الباب : ( ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ) .
القول الثاني : أن التيمم ضربتان ، ضربة للوجه وضربة لليدين .
وهذا مذهب الشافعي .
لحديث ابن عمر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( التيمم ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين ) . رواه الدار قطني [ وهذا حديث ضعيف ] .
والراجح القول الأول .
اختلف العلماء : هل يشترط للتيمم التراب أم لا ؟ على قولين :
القول الأول : أنه لا بد من تراب .
وهذا مذهب أحمد والشافعي .
قالوا : الرسول - صلى الله عليه وسلم - نص عليه حين قال في حديث حذيفة : ( وجعلت تربتها لنا طهوراً ) . رواه مسلم
القول الثاني : أنه لا يشترط التراب ، بل يتيمم بكل أجزاء الأرض .
وهذا مذهب مالك وكثير من الصحابة .
لقوله تعالى : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً } . (النساء: من الآية43)
قالوا : الصعيد كل ما على وجه الأرض من تراب أو رمل .
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه سافروا أسفاراً كثيرة ، منها سفرهم إلى تبوك ، والطريق ما بين المدينة وتبوك غالبه الرمال ولم ينقل أنهم كانوا ينقلون التراب معهم ليتيمموا به .
ما رواه الشيخان عن أبي الجهم بن الحارث : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقبل نحو بئر جمل ، فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه السلام حتى أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الجدار فضرب يديه به فتيمم ثم ردّ عليه ) .
هذا القول هو الصحيح .
وقال الشيخ السعدي : ” الصحيح أنه يصح التيمم بكل ما تصاعد على وجه الأرض من تراب له غبار أو لا ، أو رمل أو حجر أو غير ذلك “ .(1/73)
وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : ” القول الراجح أنه لا يشترط للتيمم أن يكون تراب له غبار ، بل إذا تيمم على الأرض أجزأه ، سواء كان فيها غبار أم لا “ .
صفة التيمم : أن ينوي ثم يسمي ويضرب الأرض ضربة واحدة ، سواء كانت تراباً أو صخراً أو رملاً بيديه بلا تفريق أصابع ، ثم يمسح وجهه بيديه كلتيهما ، فيمسح بعضهما ببعض “ .
حديث عمار يدل على أن المسح يكون للكفين فقط .
لقوله : ( ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه ) .
وفي لفظ : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالتيمم للوجه والكفين ) . رواه الترمذي
التيمم صفته واحدة ، سواء في الحدث الأكبر أو الحدث الأصغر .
ذهب جمهور العلماء إلى أن فاقد الماء يجوز له أن يجامع أهله ولو لم يكن معه ماء .
مبطلات التيمم :
نواقض الوضوء .
لأن البدل له حكم المبدل .
وجود الماء ولو في أثناء الصلاة [ وسبقت المسألة ] .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين ، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك ) .
فهذا يدل على أنه ليس بوضوء عند وجود الماء .
بزوال المرض لمن تيمم لمرض .
البيان بالفعل ، وأنه أبلغ في الفهم من القول .
مراجعة العلماء في العلم والاجتهاد ، فإن عماراً راجع فيما اجتهد فيه .
قوله : ( إنما كان يكفيك ) فيه دليل على أن الواجب في التيمم هي الصفة المشروحة في هذا الحديث .
انتهى الدرس الرابع والعشرون 6 / 4 / 1425 ه(1/74)
39 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : (( أُعْطِيتُ خَمْساً , لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي : نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ , وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا , فَأَيُّمَا رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ فَلْيُصَلِّ , وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ , وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي , وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً , وَبُعِثْتُ إلَى النَّاسِ عَامَّةً )) .
------------------------------------------------------
معاني الكلمات
أعطيت خمساً : أي خمس خصال .
لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : جاء في رواية : ( لا أقولهن فخراً ) .
الفوائد :
في هذا الحديث بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - فضل الله عليه ، حيث اختصه على سائر الأنبياء بخصال شرف لم تكن للأنبياء قبله .
قوله : ( خمساً ) ظاهره يدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - اختص بهذه الخمس فقط ، لكن مفهوم العدد غير مقيد ، وأن العدد لا مفهوم له ، فما أعطيه النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من ذلك . [ وسيأتي ]
قوله : ( ونصرت بالرعب مسيرة شهر ) .
جاء في رواية : ( ونصرت على العدو بالرعب ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر ) .
وإنما جعل الغاية شهراً ، لأنه لم يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه أكثر منه .
وهذه الخاصية حاصلة له على الإطلاق ، حتى لو كان وحده بغير عسكر .
هل هذا الرعب خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أم لأمته ؟ الذي يظهر أنه عام للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأمته . الأدلة :
أن معظم الخصائص التي ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - معظمها عام ، كإحلال الغنائم .
أن هذا أليَق برحمة الله تعالى بهذه الأمة .
قوله : ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ) .(1/75)
مسجداً : أي موضع سجود ، ولا يختص السجود فيها بموضع دون غيره .
قال الخطابي : ” أن من قبله إنما أبيحت لهم الصلوات في أماكن مخصوصة كالبيع والصوامع ، ويؤيده رواية عمرو بن شعيب بلفظ : ( وكان من قبلي إنما كانوا يصلون في كنائسهم ) “ .
وهذا نص في موضع النزاع فثبتت الخصوصية ، ويؤيده ما أخرجه البزار من حديث ابن عباس نحو حديث الباب ، وفيه :
( ولم يكن أحد من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه ) .
قوله : ( فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ) .
عند أحمد : ( فعنده طهوره وسجوده ) .
قوله : ( وجعلت لي الأرض مسجداً ) هذا يدل على أن الأصل جواز الصلاة في جميع الأماكن ، لكن يستثنى :
المقبرة .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ) . رواه الترمذي
ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) . متفق عليه
( ويستثنى من الصلاة في المقبرة الصلاة على الجنازة ، فإنه يجوز ، لحديث المرأة التي كانت تقم المسجد ... فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : دلوني على قبرها ، فذهب وصلى عليها ) .
الحمام [ مكان المغتسل ] .
للحديث السابق .
ولأن الحمام مكان يكشف فيه العورات .
الحش [ مكان قضاء الحاجة ] .
لأنه أولى من الحمام ، ولأنه نجس خبيث ومأوى للشياطين .
أعطان الإبل [ المكان الذي تبيت فيه وتأوي إليه ] .
لحديث البراء بن عازب قال : ( سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في مبارك الإبل ، فقال : لا تصلوا فيها فإنها من الشياطين )
……………………………… رواه أحمد
قوله : ( وأحلت لي الغنائم ) . قال الخطابي : ” كان من تقدم على ضربين :
منهم من لم يؤذن له في الجهاد فلم تكن لهم مغانم .
ومنهم من أذن له فيه ، لكن كانوا إذا غنموا شيئاً لم يحل لهم أن يأكلوه وجاءت نار فأحرقته “ .(1/76)
قوله : ( أعطيت الشفاعة ) المراد بها الشفاعة في إراحة الناس من هول الموقف ، ولا خلاف في وقوعها .
وهذه الشفاعة خاصة بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، بعد أن يتخلى عنها آدم وإبراهيم وموسى ونوح ، كل واحد منهم يقول للناس اذهبوا إلى غيري حتى يأتون إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فيشفع .
قوله : ( كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة ) فالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى جميع الناس ، ويدل لذلك :
قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً } . (سبأ: من الآية28)
وقوله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } . (لأعراف: من الآية158)
وقوله تعالى : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } . (الفرقان:1)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار ) . رواه مسلم
وفي صحيح مسلم قال - صلى الله عليه وسلم - : ( وأرسلت إلى الخلق كافة ) .
وجاء في صحيح مسلم : ( وبعثت إلى كل أحمر وأسود ) .
قيل : المراد بالأحمر العجم ، وبالأسود العرب .
وقيل : الأحمر الإنس ، والأسود الجن .
فائدة : ذكر الحافظ ابن حجر بعض الخصائص للنبي - صلى الله عليه وسلم - غير الموجودة في هذا الحديث :
عند مسلم : ( وأعطيت جوامع الكلم ، وختم بي النبيون ) .
وعنده أيضاً من حديث حذيفة : ( جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ) .
وعند النسائي : ( وأعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش ) .
ولأحمد من حديث علي : ( أعطيت مفاتح الأرض ، وسميت أحمد ، وجعلت أمتي خير الأمم ) .(1/77)
وعند البزار عن أبي هريرة : ( وغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر ، وأعطيت الكوثر ، وإن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة ) .
وعند البزار عن ابن عباس : ( وكان شيطاني كافراً فأعانني الله عليه فأسلم ) .
انتهى الدرس الخامس والعشرون
10 / 4 / 1425 ه
بابُ الحيضِ
40- عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها (( أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ : سَأَلَتِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ : إنِّي أُسْتَحَاضُ فَلا أَطْهُرُ , أَفَأَدَعُ الصَّلاةَ ؟ قَالَ : لا ، إنَّ ذَلِكَ عِرْقٌ , وَلَكِنْ دَعِي الصَّلاةَ قَدْرَ الأَيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا , ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي )) .
وَفِي رِوَايَةٍ (( وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ , فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ : فَاتْرُكِي الصَّلاةَ فِيهَا , فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْك الدَّمَ وَصَلِّي )) .
41 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها (( أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ اُسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ , فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ ؟ فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ , قَالَتْ : فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلاةٍ )) .
------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
إني أستحاض : الاستحاضة استمرار الدم على المرأة بحيث لا ينقطع عنها أبداً ، أو ينقطع عنها مدة يسيرة .
فلا أطهر : أي فلا أنقى من الدم .
إن ذلك عرق : في هذا دليل على أن دم الاستحاضة يختلف عن دم الحيض في طبيعته وفي أحكامه .
الفوائد :
تعريف دم الحيض :
الحيض لغة : السيلان ، يقال : حاض الوادي إذا سال .
واصطلاحاً : سيلان دم طبيعي يأتي المرأة في أوقات معلومة عند بلوغها .
للحيض حكمة بالغة ، وذلك أن الأنثى إذا حملت تحول الحيض بإذن الله إلى غذاء لهذا الجنين في رحم أمه .(1/78)
في هذا الحديث ذكرت فاطمة بنت أبي حبيش للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن دم الاستحاضة يصيبها فلا ينقطع عنها ، وسألته هل تترك الصلاة لذلك ؟
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تتركي الصلاة ، لأن الدم الذي تترك لأجله الصلاة هو دم الحيض .
وهذا الدم الذي يصيبك ليس دم حيض ، وإنما هو عرق متفجر ، وإذا كان الأمر كما ذكرت من استمرار الدم في أيام حيضتك المعتادة ، وفي غيرها ، فاترك الصلاة أيام حيضتك المعتادة ، فإذا انقضت فاغتسلي واغسلي عنك الدم ، ثم صلي ولو كان دم الاستحاضة معك .
أن دم الاستحاضة لا يمنع من فعل الصلاة ، فالمستحاضة حكمها حكم الطاهرات .
حالات المستحاضة :
أولاً : أن ترد إلى أيام عادتها إن كان لها عادة معلومة .
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ردّ فاطمة بنت أبي حبيش إلى عادتها ، فقال : ( دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين ) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - لأم حبيبة : ( امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي وصلي ) . رواه مسلم
مثال : امرأة كانت يأتيها الحيض [ 6 ] أيام من أول كل شهر ، ثم طرأت عليها الاستحاضة فصار الدم يأتيها باستمرار فيكون حيضها [ 6 ] أيام من أول كل شهر ، وما عداها استحاضة .
ثانياً : أن لا يكون لها حيض معلوم قبل الاستحاضة ، فهذه تعمل بالتمييز .
لحديث عائشة : ( أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض ، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن دم الحيض دم أسود يعرف ، فإذا كان ذلك فأمسكِ عن الصلاة ، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي ) . رواه أبو داود
ثالثاً : أن لا يكون لها حيض معلوم ، ولا تمييز ، بأن تكون الاستحاضة مستمرة معها من أول ما رأت الدم .
فهذه تعمل بعادة غالب النساء ، فيكون حيضها ستة أيام أو سبعة .(1/79)
لحديث حمنة بنت جحش قالت : ( يا رسول الله ، إني أستحاض حيضة كبيرة شديدة ، فما ترى فيها ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان ، فتحيضي ستة أيام أو سبعة في علم الله تعالى ، ثم اغتسلي ) . رواه أبو داود
مسألة :
لو فرض أنه وجد عند المرأة صفتان [ عادة وتمييز ] .
فإن كانت العادة موافقة للتمييز ، فهذا لا إشكال .
أن يكون عندها تمييز ، لكنه مختلف عن عادتها .
مثال : عادتها من تاريخ 1 / 6 من كل شهر ، وتمييزها 8 / 6 .
فهنا بماذا تعمل ؟
اختلف العلماء :
الراجح أنها تعمل بالعادة .
لحديث الباب حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة : ( دعي الصلاة قدر الأيام التي كنتِ تحيضين فيها ) .
فردها النبي - صلى الله عليه وسلم - للعادة ، واحتمال وجود التمييز معها ممكن ، ومع ذلك لم يستفصل النبي - صلى الله عليه وسلم - .
لا بأس بوطء المستحاضة ولا يكره . الأدلة :
عن عكرمة عن حمنة بنت جحش : ( أنها كانت مستحاضة وكان زوجها يجامعها ) . رواه أبو داود [ قال النووي :
” إسناده جيد“ ]
ولأن حمنة تحت طلحة ، وأم حبيبة تحت عبد الرحمن بن عوف ، وقد سألتا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أحكام المستحاضة ، فلو كان حراماً لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قال الشيخ السعدي رحمه الله : ” الصحيح أنه يجوز وطء المستحاضة ولو لم يخف العنت ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمنع عبد الرحمن بن عوف وغيره من وطء زوجاتهم المستحاضات ، ولأن الاستحاضة دم عرق ، فلا يمنع الوطء كدم الجروح ونحوه “ .
كيفية تطهر المستحاضة :
أولاً : يجب أن تتوضأ لكل صلاة .
لرواية البخاري : ( ثم توضئي لكل صلاة ) .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : ” ومعنى ذلك أنها لا تتوضأ للصلاة المؤقتة إلا بعد دخول وقتها ، أما إذا كانت الصلاة غير مؤقتة ، فإنها تتوضأ لها عند إرادة فعلها “ .(1/80)
ثانياً : أنها إذا أرادت الوضوء فإنها تغسل أثر الدم ، وتعصب على الفرج خرقة قطن ليستمسك الدم .
لا يجب على المستحاضة غسل لكل صلاة ، إنما تغتسل عند انتهاء حيضتها .
وهذا مذهب جماهير العلماء ، أنه لا يجب أن تغتسل لكل صلاة .
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر المستحاضات بذلك .
أن هذا هو المتناسب ليسر الشريعة الإسلامية وتخفيفها على العباد .
وأما اغتسال أم حبيبة لكل صلاة ، فهو اجتهاد منها ولم يأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك .
فائدة :
المستحاضات في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
فاطمة بنت أبي جحش – حمنة بنت جحش – أسماء بنت مرثد – زينب بنت جحش – أم حبيبة بنت جحش – سهلة بنت سهيل – أم سلمة – سودة بنت زمعة .
قال ابن عبد البر : ” إن ثلاثاً من بنات جحش استحضن : حمنة ، وزينب ، وأم حبيبة “ .
استفتاء من وقعت له مسأله .
جواز استفتاء المرأه ومشافهتها الرجل ، ومما يدل أن صوت المرأه ليس بعوره :
قوله تعالى : { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً } . (الأحزاب:32)
انتهى الدرس السادس والعشرون
13/4 /1425 ه
42 – عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (( كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ , كِلانا جُنُبٌ . وَكَانَ يَأْمُرُنِي فَأَتَّزِرُ , فَيُبَاشِرُنِي وَأَنَا حَائِضٌ . وَكَانَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ إلَيَّ , وَهُوَ مُعْتَكِفٌ , فَأَغْسِلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ )) .
43 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَّكِئُ فِي حِجْرِي , فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَأَنَا حَائِضٌ )) .
------------------------------------------------------
معاني الكلمات :(1/81)
كلانا جنب : أي كل واحد منّا عليه جنابة .
فأتزر : أي تضع الإزار على فرجها .
يباشرني : أي تمس بشرته بشرتي .
الفوائد :
جواز اغتسال الزوجين جميعاً .
لقولها : ( كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد ) . ومما يدل على ذلك :
حديث أم سلمة قالت : ( كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد من الجنابة ) . متفق عليه
وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال : ( كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جميعاً ) . رواه البخاري
زاد ابن ماجه : ( من إناء واحد ) .
قوله : ( جميعاً ) أي من إناء واحد كما جاء في رواية عند ابن خزيمة في هذا الحديث عن ابن عمر : ( أنه أبصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يتطهرون والنساء معهم من إناء واحد كلهم يتطهر به ) .
س / ما الجواب عن قوله ( جميعاً من إناء واحد ) ؟
الجواب :
أن يقال هذا قبل زمن الحجاب .
أو أن المقصود ( الرجال والنساء ) يعني الأزواج مع أزواجهم ، أو المحارم مع محارمهم .
جواز مباشرة الحائض ( من تقبيل أو لمس ) في غير الفرج .
ومباشرة الحائض تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
الحالة الأولى : الجماع في الفرج ، وهذا حرام .
قال النووي : ” وهذا في إجماع المسلمين في نص القرآن العزيز والسنة الصحيحة “ .
قال تعالى : { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } . (البقرة: من الآية222)
وعن أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح ) . رواه مسلم
النكاح : أي الجماع .
الحالة الثانية : المباشرة فيما فوق السرة وتحت الركبة ، وهذه جائزة .
قال النووي : ” حلال باتفاق المسلمين “ .
الحالة الثالثة : فيما بين السرة والركبة ، وقد اختلف العلماء على قولين :
القول الأول : أنه حرام .
وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة .(1/82)
القول الثاني : الجواز .
وهو قول عكرمة ومجاهد .
لقول - صلى الله عليه وسلم - : ( اصنعوا كل سيء إلا النكاح ) . رواه مسلم
فهذا الحديث صرح بتحليل كل شيء عدا النكاح .
وعن عكرمة عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أنه كان إذا أراد من الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً ).رواه أبو داود
وهذا القول هو الصحيح .
فائدة :
لو أتى زوجته وهي حائض فهو آثم ، واختلف العلماء هل عليه كفارة أم لا ؟ على قولين .
الراجح وهو مذهب الحنابلة أن عليه كفارة .
لحديث ابن عباس - رضي الله عنه - : ( عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال : يتصدق بدينار أو نصف دينار ) . رواه أبو داود
أن سؤر الحائض وعرقها طاهر .
قال الشوكاني : ” ولا خلاف فيه فيما أعلم “ .
ويدل لذلك حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت : ( كنت أشرب وأنا حائض ، فأناوله النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع فاه على فيّ فيشرب ، وأتعرق العرق وأنا حائض ، وأناوله النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع فاه على موضع فيّ ) . رواه مسلم
استحباب لبس الحائض الإزار وقت المباشرة .
جواز قراءة القرآن في حجر الحائض ، لأنها طاهرة البدن والثوب .
تحريم خروج المعتكف من المسجد .
أن المعتكف إذا خرج بعضه من المسجد كَيَده ورجله ورأسه لم يبطل اعتكافه .
جواز مباشرة الحائض لزوجها بتغسيل أو غيره .
جواز النوم مع الحائض في لحاف واحد إذا كان هناك حائل يمنع من الفرج .
أن الحائض لا تدخل المسجد ، لأنه لو جاز لما أحوجت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك بل بادرت إليه .
انتهى الدرس السابع والعشرون
17 / 4 / 1425 ه(1/83)
44 - عَنْ مُعَاذَةَ قَالَتْ : (( سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقَلتُ : مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ , وَلا تَقْضِي الصَّلاةَ ؟ فَقَالَتْ : أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ ؟ فَقُلْتُ : لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ , وَلَكِنِّي أَسْأَلُ . فَقَالَتْ : كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ , فَنُؤَمَّرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ , وَلا نُؤَمَّرُ بِقَضَاءِ الصَّلاةِ )) .
------------------------------------------------------
رواوي الحديث :
معاذة بنت عبد الله العدوية ، فقيهة ماتت سنة 80 ه .
معاني الكلمات :
أحرورية أنت : نسبة إلى حرورا ، قرية قرب العراق ، [ قرب الكوفة ] نزلت فيها أول فرقة خرجوا على علي بن أبي
طالب - رضي الله عنه - ، وكان من تشددهم في الدين ورأيهم الخاطئ ، أن الحائض تقضي الصوم والصلاة .
الفوائد :
تحريم الصلاة والصوم على الحائض .
قال النووي : ” أجمع المسلمون على أن الحائض والنفساء لا تجب عليهما الصلاة والصوم في الحال “ .
ومن الأدلة : قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم ) .
ويجب على الحائض قضاء الصوم دون الصلاة .
قال النووي : ” وأجمعوا على أنه يجب عليهما قضاء الصوم “ .
قيل في الفرق بينهما : أن الصلاة كثيرة متكررة فيشق قضاؤها ، بخلاف الصوم ، فإنه يجب في السنة مرة واحدة .
…………………………… [ قاله النووي ]
هل تؤجر الحائض على ترك الصيام والصلاة ؟ قولان للعلماء :
القول الأول : أنها تؤجر .
لأنها تركتهما تعبداً لله .
القول الثاني : لا تؤجر .
والصحيح الأول .
من أحكام الحائض :
يحرم عليها الطواف .
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها لما حاضت : ( افعلي ما يفعل الحاج غير أن تطوفي بالبيت حتى تطهري ) . متفق عليه
وقد اتفق العلماء على أن الحائض تؤدي جميع المناسك ما عدا الطواف .
سقوط الوداع عنها .(1/84)
لحديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال : ( أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض ) . متفق عليه
الجماع في الفرج .
وقد سبق دليله .
الطلاق .
يحرم الطلاق حال الحيض ، ويسمى طلاق بدعي .
لحديث ابن عمر - رضي الله عنه - : ( أنه لما طلق امرأته وهي حائض ، فأخبر عمر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فتغيض الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقال : مره فليراجعها ثم ليمسكها ) .
( لكن هل يقع الطلاق أم لا ؟ مسألة خلافية بين العلماء سيأتي إن شاء الله بحثها في كتاب الطلاق ) .
مس المصحف .
فيحرم عليها مس المصحف ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يمس القرآن إلا طاهر ) .
المكث في المسجد .
وهذا مذهب الجمهور ، واختاره الشيخ ابن عثيمين رحمه الله .
( لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الحيض أن يعتزلن مصلى العيد ) .
لحديث عائشة قالت : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ناويليني الخمرة في المسجد ، قالت : فقلت : إني حائض ، فقال : إن حيضتك ليست في يدك ) . رواه مسلم
الخمرة : هي السجادة .
وجه الدلالة من الحديث :
قولها : ( إني حائض ) فهذا يدل على أنه كان معلوم عندهم أن الحائض لا تدخل المسجد .
قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( إن حيضتك ليست في يدك ) إن النجاسة التي يصان المسجد عنها ، وهي دم الحيض ، ليست في بدنك .
يجوز للحائض قراءة القرآن [ غيباً ] .
هذا القول هو الصحيح في هذه المسألة .
الأدلة :
الأصل براءة الذمة .
عدم وجود دليل يمنع من ذلك .
وذهب بعض العلماء إلى أنه يحرم عليها قراءة القرآن .
واستدلوا بحديث : ( لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن ) . رواه الترمذي
قال الشيخ ابن باز رحمه الله : " لم يرد نص صريح صحيح يمنع الحائض والنفساء من قراءة القرآن " .
يوجب الغسل .(1/85)
قال تعالى : { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } . (البقرة: من الآية222)
وفي حديث فاطمة بنت أبي حبيش وقد سبق : ( فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي ) .
جواز السؤال لالتماس الحكمة إن وجدت .
الانكار حال مشابهة أهل البدع .
فأنكرت عائشة السؤال بقولها : ( أحرورية أنت ) .
دفع المسلم الريبة عن نفسه .
وذلك يتضح من قول معاذة : ( لست بحرورية ولكني أسأل ) .
انتهى الدرس الثامن والعشرون
13 / 4 / 1425 ه(1/86)
بسم الله الرحمن الرحيم
إيقاظ الأفهام
في شرح
عمدة الأحكام
كتاب الصلاة من حديث رقم 45 إلى 102
بقلم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية / رفحاء
الموقع على الإنترنت
www.almotaqeen.net
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
ضمن شرح كتاب عمدة الأحكام المسمى :
( إيقاظ الأفهام في شرح عمدة الأحكام )
فهذه المذكرة الثانية وتتضمن :
أول كتاب الصلاة إلى حديث رقم ( 93 ) .
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه .
أخوكم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية / رفحاء
البريد الإلكتروني
Smr898@hotmail.com
كتاب الصلاة
تعريف الصلاة :
لغة : الدعاء ومنه قوله تعالى : { وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } .
وشرعاً : عبادة ذات أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم .
حكمها :
قال ابن قدامة : " وهي واجبة بالكتاب والسنة والإجماع " .
قال تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة } .
وقال تعالى : { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا } .
كتاباً : أي مفروضاً ، موقوتاً : مؤقتة بأوقات محددة
وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، . . . ) متفق عليه .
وقد أجمعت الأمة على وجوب خمس صلوات في اليوم والليلة .
متى فرضت :
فرضت ليلة الإسراء والمعراج .
عن أنس - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الإسراء والمعراج : ( . . . ففرض الله على أمتي خمسين صلاة ، فرجعت بذلك حتى مررت على موسى ، فقال : ما فرض الله ، قلت : فرض خمسين صلاة ، قال : فارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك فوضع شطرها ، . . . فما زال يراجعه حتى قال الله : هي خمس ، لا يبدل القول لدي ) . متفق عليه(2/1)
وفي رواية لمسلم : ( يا محمد ، إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة ، لكل صلاة عشر ، فذلك خمسون صلاة ) .
وللنسائي ( وخمس بخمسين ) .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : ” خففت فجعلت خمساً بالفعل وخمسين في الميزان ، فكأنما صل خمسين صلاة ، وليس المراد تضعيف الحسنة بعشر أمثالها ، لأنه لو كان المراد الحسنة بعشر أمثالها لم يكن لها مزية على غيرها من العبادات ، إذ في كل عبادة الحسنة بعشر أمثالها ، لكن الظاهر أنه يكتب للإنسان أجر خمسين صلاة الفعل “ .
عدد الصلوات المفروضة خمس .
قال ابن قدامة : ” أن الصلوات المكتوبات خمس في اليوم والليلة ولا خلاف في وجوبها “ . ومن الأدلة على أنها خمس :
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينها إذا اجتنبت الكبائر ) رواه مسلم .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء ؟ قالوا : لا ، قال : كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا ) . متفق عليه
حكم تاركها :
تارك الصلاة لا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : تاركها جاحداً لوجوبها .
فهذا كافر بالإجماع .
لأنه مكذب لله إذ يقول ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ) .
ومكذب للرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول : ( بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ، وإقام الصلاة ،...) متفق عليه
الحالة الثانية : أن يتركها تكاسلاً وتهاوناً .
ففي هذه الحالة اختلف العلماء على قولين :
القول الأول : أنه كافر .
وهذا هو المذهب .
وبهذا القول قال سعيد بن جبير ، والشعبي ، وابن المبارك .
الأدلة :
عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( بين الرجل والشرك والكفر ترك الصلاة ) رواه مسلم .(2/2)
وعن بريدة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ) رواه الترمذي .
وعن عبد الله بن شقيق العقيلي قال : ( لم يكن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة ) رواه الترمذي .
القول الثاني : أنه لا يكفر .
وبه قال الحنفية والمالكية ونسبه النووي للأكثر من السلف والخلف .
الأدلة :
حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه ) رواه البخاري .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة ) رواه مسلم .فقد صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من قال لا إله إلا الله فقد استحق دخول الجنة .
وقوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } .
والراجح القول الأول أنه كافر .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : ” وإذا تبين أن تارك الصلاة كافر كفر ردة فإنه يترتب على كفره أحكام المرتدين ومنها :
أولاً : أنه لا يصح أن يزوج ، فإن عقد له وهو لا يصلي فالنكاح باطل .
ثانياً : أنه إذا ذبح لا تؤكل ذبيحته .
ثالثاً : لا يرث ولا يورث .
رابعاً : إذا مات لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين .
خامساً : أنه يحشر يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف “ .
فائدة : متى يكفر تارك الصلاة ؟
قيل : بترك فريضة واحدة
وقيل : بترك فريضتين .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : ” والذي يظهر من الأدلة : أنه لا يكفر إلا بترك الصلاة دائماً بمعنى وطَّن نفسه على ترك الصلاة ، فلا يصلي ظهراً ولا عصراً ولا مغرباً ولا عشاءً ولا فجراً فهذا هو الذي يكفر ، فإن كان يصلي فرضاً أو فرضين فإنه لا يكفر لأن هذا لا يصدق عليه أنه ترك الصلاة “ .(2/3)
انتهى الدرس التاسع والعشرون 17/4/1425هـ
45- عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ وَاسْمُهُ سَعْدُ بْنُ إيَاسٍ - قَالَ : حَدَّثَنِي صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ : (( سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - : أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ ؟ قَالَ : الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا . قُلْتُ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : بِرُّ الْوَالِدَيْنِ , قُلْتُ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , قَالَ : حَدَّثَنِي بِهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي )) .
--------------------------------------
راوي الحديث
أبو عمرو الشيباني سعد بن إياس أدرك وقت ظهور النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول دعوته ولم يسلم إلا بعد وفاته وقد عاش 120 سنة .
عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - صحابي جليل أحد السابقين الأولين وهو ممن جمع القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحد الأربعة الذين أمر بأخذه عنهم مات عام 36 من الهجرة .
الفوائد :
أن الأعمال تتفاوت في فضلها ، وأن بعضها أفضل من بعض .
وقد اختلف العلماء في أفضل الأعمال :
فقيل : الصلاة .
وهذا مذهب الجمهور .
لحديث الباب ولغيره من الأحاديث الأخرى التي تدل على منزلة الصلاة .
وقيل : الجهاد .
لحديث : ( لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ) متفق عليه .
وقيل : الصيام .
ورجحه ابن عبدالبر
لحديث أبي أمامة - رضي الله عنه - قال : ( قلت يا رسول الله دلني على عمل ؟ فقال : عليك بالصيام فإنه لا عدل له ). رواه النسائي
ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( الصيام جنة من النار ) رواه أحمد .
وقيل : العلم .
للنصوص الواردة الكثيرة في فضله ولنفعه المتعدي .(2/4)
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : ” والصحيح أنه يختلف باختلاف الفاعل ، وباختلاف الزمن ، فقد نقول لشخص : الأفضل في حقك الجهاد ، والآخر : الأفضل في حقك العلم ، فإذا كان شجاعاً قوياً نشيطاً ، وليس بذاك الذكي فالأفضل
له الجهاد ، لأنه أليق به . وإذا كان ذكياً حافظاً قوي الحجة ، فالأفضل له العلم ، وهذا باعتبار الفاعل .
وأما باعتبار الزمن فإننا إذا كنا في زمن تفشى فيه الجهل والبدع ، وكثر من يفتي بلا علم ، فالعلم أفضل من الجهاد ، وإن كنا في زمن كثر فيه العلماء ، واحتاجت الثغور إلى مرابطين يدافعون عن البلاد الإسلامية ، فهنا الأفضل الجهاد . فإن لم يكن مرجح ، لا لهذا ولا لهذا ، فالأفضل العلم “ .
سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أفضل الأعمال ، فأجاب بإجابات متعددة مختلفة ، ومن ذلك :
سئل - صلى الله عليه وسلم - أي الإسلام خير فقال : ( تطعم الطعام ، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف )متفق عليه
وسئل - صلى الله عليه وسلم - أي العمل أفضل فقال : ( إيمان بالله ورسوله ، قيل ثم ماذا ، قال : الجهاد في سبيل الله ، قيل ثم ماذا ، قال : حج مبرور ) متفق عليه .
وسئل - صلى الله عليه وسلم - أي الإسلام أفضل فقال : ( من سلم المسلمون من لسانه ويده ) متفق عليه .
أجاب العلماء عن اختلاف الأجوبة مع اتحاد السؤال أن ذلك يرجع :
أن الجواب يختلف باختلاف أحوال السائلين ، بأن أعلم كل قوم بما يحتاجون إليه أو بما لهم فيه رغبة أو بما هو لائق معهم .
أو كان الاختلاف باختلاف الأوقات بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضل من غيره .
أو أن المراد ( من أفضل ) .
فضل الصلاة على وقتها .
وقد جاء في رواية ( أول وقتها ) لكنها ضعيفة ، وقد اختلف ما المراد بقوله : ( على وقتها ) .
استحباب المبادرة للصلاة في أول وقتها .
لقوله تعالى : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم . . . } .(2/5)
ولأن ذلك أسرع في إبراء الذمة [ يستثنى الظهر في شدة الحر ، وصلاة العشاء مع عدم المشقة وسيأتي الحديث عنها ]
لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها .
قال تعالى : { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا } .
وقال تعالى : { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون } .
قال بعض العلماء : تأخيرها عن وقتها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ” فلا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها لجنابة ولا حدث ولا نجاسة ولا غير ذلك ، بل يصلي في الوقت بحسب حاله ، فإن كان محدثاً وقد عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله تيمم وصلى ، وهذا لأن فعل الصلاة في وقتها فرض ، والوقت أوكد فرائض الصلاة “ .
فضل بر الوالدين ، قال تعالى : { قل تعالوا أتلوا ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً } .
والإحسان إليهما ينقسم إلى قسمين :
حال الحياة : الإحسان إليهما بالكلام اللين ، والتواضع ، والنفقة ، وخدمتهما ، والتماس رضاهما .
بعد الممات : الدعاء لهما ، وإنفاذ وصيتهما ، وإكرام صديقهما .
فضل الجهاد في سبيل الله
كما في الحديث السابق : ( لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ) متفق عليه .
الغدوة : الذهاب أول النهار .
الروحة : الذهاب آخر النهار .
في هذا الحديث ( لغدوة . . . ) فوائد :
حقارة الدنيا وتسهيل أمرها .
فضل الجهاد وتعظيم أمره .
معنى الحديث : أن هذا القدر من الثواب خير من الثواب الذي يحصل لمن لو حصلت له الدنيا كلها لأنفقها في طاعة الله تعالى .
قال العلماء : إنما أخر الجهاد عن بر الوالدين لأن الجهاد في سبيل الله متوقف على إذن الوالدين [ هذا إذا كان تطوعاً ] .
إثبات المحبة لله تعالى إثباتاً يليق بجلاله من غير تحريف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل .
- قال تعالى : { إن الله يحب المحسنين } .
وقال تعالى : { إن الله يحب المتقين } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ) .(2/6)
فقه ابن مسعود ر حيث وقف عن سؤال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا الحد خشية أن تكثر عليه الأعمال فلا يستطيع الإتيان بها جميعاً ، أو أدباً مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يثقل عليه في السؤال .
انتهى الدرس الثلاثون
20/4/1425هـ
46- عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (( لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الْفَجْرَ , فَيَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ , مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ ثُمَّ يَرْجِعْنَ إلَى بُيُوتِهِنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ , مِنْ الْغَلَسِ )) .
--------------------------------------
معاني الكلمات :
متلفعات : أي متجللات ومتلففات .
بمروطهن : جمع مرط ، وهو كساء مخطط يشبه العباءة .
ما يعرفهن أحد : قيل : ما يعرفن أنساء هن أم رجال [ ورجحه النووي ] . وقيل : ما يعرف أعيانهن .
الغلس : قال النووي : هو بقايا ظلام الليل .
الفوائد :
هذا الحديث فيه متى كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الصبح ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصليها بغلس [ أي يبكر فيها ] .
وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور . [ نووي : 5 / 144 ]
أنه يستحب أن يبكر بصلاة الفجر .
ويدل لذلك أيضاً حديث جابر - رضي الله عنه - قال ( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصليها [ أي الصبح ] بغلس ) متفق عليه .
وقال أبو حنيفة أنه يستحب الإسفار ، واستدل :
بحديث رافع بن خديج قال - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أسفروا بالفجر فإنه أعظم لأجوركم ) . رواه أبو داود وهو حديث صحيح
والصحيح القول الأول وأنه يستحب التغليس بصلاة الفجر .
الجواب عن حديث ( أسفروا بالفجر . . . ) : أجاب العلماء عنه بأجوبة :
أن المراد بالإسفار هو التأكد من طلوع الفجر .
أن المراد بالإسفار إطالة القراءة في الصلاة إلى الإسفار .(2/7)
أنه منسوخ بما تواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله وفعله في التبكير لصلاة الفجر .
جواز حضور النساء للمسجد ، لكن بشرطين :
الأمن من الفتنة عليهن أو بهن .
عدم التزين والتطيب .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ، وليخرجن تفلات ) رواه أبو داود .
تفلات : غير متطيبات . [ وسيأتي للمسألة مزيد بحث إن شاء الله ]
جواز إمامة الرجل للنساء .
وهذه المسألة لا تخلو من أربع حالات :
الحالة الأولى : أن يكون النساء في المسجد مع الرجال ، فهذا جائز .
لحديث الباب .
الحالة الثانية : أن يؤم النساء ومعهن أحد محارمه أو رجل آخر فهذا جائز .
لحديث أنس – وسيأتي : وفيه ( فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا فصلى لنا ركعتين ) . متفق عليه
الحالة الثالثة : أن يؤم امرأة واحدة أجنبية منه ، فهذا لا يجوز .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم ) . متفق عليه
الحالة الرابعة : أن يؤم نساء أجانب عنه ولا رجل معهن غيره ولا أحد محارمه .
فهذه الحالة أختلف العلماء على قولين :
قيل : يكره . وقيل : يجوز .
والراجح أنه يكره .
47 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ : (( كَانَ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ , وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ نَقِيَّةٌ وَالْمَغْرِبَ إذَا وَجَبَتْ , وَالْعِشَاءَ أَحْيَاناً وَأَحْيَاناً إذَا رَآهُمْ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ . وَإِذَا رَآهُمْ أَبْطَئُوا أَخَّرَ , وَالصُّبْحُ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ )) .(2/8)
48 - عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ سَيَّارِ بْنِ سَلامَةَ قَالَ : (( دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي عَلَى أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ , فَقَالَ لَهُ أَبِي : كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ ؟ فَقَالَ : كَانَ يُصَلِّي الْهَجِيرَ – الَّتِي تَدْعُونَهَا الأُولَى – حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ , وَيُصَلِّي الْعَصْرَ , ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ . وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ . وَكَانَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ مِنْ الْعِشَاءِ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ . وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا , وَالْحَدِيثُ بَعْدَهَا . وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلاةِ الْغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلَ جَلِيسَهُ . وَكَانَ يَقْرَأُ بِالسِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ )) .
--------------------------------------
راوي الحديث :
- أبو المنهال سيار بن سلامة البصري ثقة من التابعين مات سنة 129 من الهجرة
- أبو برزة نضلة بن عبيد أو ابن عبد الله الأسلمي أسلم وشهد فتح خيبر ومكة والطائف مات سنة 65 من الهجرة
معاني الكلمات :
الهاجرة : أي وقت شدة الحر .
الشمس نقية : أي صافية بيضاء لم يدخلها صفرة أو حمرة .
إذا وجبت : أي غربت الشمس .
تدحض الشمس : أي تزول .
ينفتل : ينصرف .
الفوائد :
هذه الأحاديث تتكلم عن مواقيت الصلاة .
أولاً : صلاة الظهر :
تسمى الهاجرة أو الهجير ، وذلك للوقت التي تقوم فيه وهو وقت اشتداد الحر .
وتسمى الأولى وذلك لأنها أول صلاة صلاها جبريل عليه السلام بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقتها :
يبدأ وقتها إذا زالت الشمس ، وهذا بالإجماع . [ نقله النووي وابن حجر ]
لحديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( وقت صلاة الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ) . رواه مسلم(2/9)
وينتهي حتى يكون ظل الشيء مثله .
للحديث السابق ( . . . وكان ظل الرجل كطوله ) .
يستحب الإبراد في صلاة الظهر في شدة الحر. [ وستأتي مباحث الإبراد في حديث : أبردوا بالظهر . . . إن شاء الله ] .
ثانياً : وقت صلاة العصر :
بداية وقتها : إذا صار ظل الشيء مثله دخل وقت العصر وخرج وقت الظهر .
لحديث عبد الله بن عمرو السابق : ( ووقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر وقت صلاة العصر ) . رواه مسلم
فدل هذا على أنه إذا حضر وقت العصر خرج وقت الظهر .
نهاية وقتها :ينتهي وقتها إذا اصفرت الشمس .
للحديث السابق : ( . . . ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ) رواه مسلم .
( ذهب بعض العلماء إلى أن وقت العصر ينتهي حين يصير ظل الشيء مثليه ) .
للعصر وقت ضرورة .
لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ). متفق عليه
يسن التبكير بها .
ففي حديث جابر ( والشمس نقية ) .
وفي الصحيحين عن عائشة قالت : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي العصر والشمس في حجرتي ) . متفق عليه
فهذا يدل على شدة تبكير النبي - صلى الله عليه وسلم - بصلاة العصر فقد كان جدار حجرة عائشة قصيراً ولا تكون فيه الشمس إلا في أول وقت صلاة العصر .
في حديث أبي برزة : ( . . . ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية ) .
صلاة العصر هي الصلاة الوسطى . [ وسيأتي بحث المسألة قريباً إن شاء الله ]
ثالثاً : صلاة المغرب :
تسمى المغرب لأنها تؤدى بعد غروب الشمس .
وتسميها الأعراب العشاء . وقد جاء النهي عن ذلك :
عن عبد الله المزني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب ، قال : وتقول الأعراب : هي العشاء ) . متفق عليه
وسبب المنع :(2/10)
قيل : أنها قد تلتبس بصلاة العشاء الآخرة ، لذلك بعض العلماء قال لا بأس أن يقال : العشاء الأولى .
وقيل : لأن في ذلك تشبهاً بالأعراب ، والأعراب يغلب على حالهم الجفاء والجهل ، وهذا الأقوى .
بداية وقتها :
يبدأ وقتها إذا غربت الشمس بالإجماع . [ نقله ابن قدامة والنووي ]
قال النووي : " أول وقت المغرب إذا غربت الشمس وتكامل غروبها وهذا لا خلاف فيه " .
لحديث جابر : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي المغرب إذا وجبت ). متفق عليه
نهاية وقتها : ينتهي وقتها بغياب الشفق .
لحديث عبد الله بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا صليتم المغرب فإنه وقت إلى أن يسقط الشفق ) . رواه أبو داود
ولحديث زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( قرأ في المغرب بطولى الطوليين ) . رواه الترمذي
وهي سورة الأعراف كما جاء عند النسائي ، ولا شك أن سورة الأعراف لا يمكن أن تقرأ إلا في وقت طويل .
[ ذهب بعض العلماء إلى أن وقت المغرب وقت قصير يبدأ بعد غروب الشمس بقدر ما يتسع لوضوء إنسان أو غسله إن احتاج إلى غسل ثم قدر خمس ركعات وهو قول ضعيف ] .
المراد بالشفق : هو الحمرة وهذا قول جمهور العلماء .
رابعاً : صلاة العشاء :
تسمى العشاء ، كما في قوله تعالى : { من بعد صلاة العشاء } .
وتسمى العشاء الآخرة ، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة ) . رواه مسلم
وتسمى العتمة ، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا ) . متفق عليه
العتمة : العشاء .
لكن جاء النهي عن تسميتها بالعتمة :
عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم فإنها في كتاب الله العشاء وأنهم يعتمون بحلاب الإبل ) . رواه مسلم
فاختلف العلماء في تسميتها بذلك :
فقيل : بالجواز .(2/11)
لحديث ( لو يعلمون ما في العتمة . . . ) .
وقيل : بالكراهة .
لحديث ( لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم . . . ) .
وقيل : الجواز بشرط عدم هجران الاسم الشرعي وهو العشاء ورجح هذا ابن القيم .
قال ابن القيم : ” والتحقيق : كراهية هجر الاسم المشروع وهو العشاء ، والاستبدال به اسم العتمة ، فأما إذا كان المستعمل هو الاسم الشرعي ولم يهجر ، وأطلق الآخر أحياناً فلا بأس وعلى هذا تتفق الأحاديث “ . [ تحفة الودود 99 ]
بداية وقتها :
أول وقت صلاة العشاء هو مغيب الشفق .
وقد نقل الإجماع في ذلك [ ابن قدامة ، والنووي ] .
لحديث ابن عباس ( في إمامة جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - وصلى به العشاء وحتى غاب الشفق ) . رواه مسلم
نهاية وقتها :
الصحيح أنه إلى نصف الليل .
لحديث عبد الله بن عمرو وفيه : ( فإذا صليتم العشاء فإنه وقت إلى منتصف الليل ) . رواه مسلم
ورجح هذا القول الإمام البخاري وابن حزم والشوكاني .
[ هناك أقوال أخرى ، فقيل : إلى ربع الليل ، وقيل : إلى ثلث الليل ] .
الأفضل في صلاة العشاء التأخير إلا إذا كان يشق . [ سيأتي بحث هذه المسألة ]
خامساً : صلاة الفجر :
تسمى الصبح كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ووقت صلاة الصبح . . . ) .
وتسمى الفجر كما في قوله تعالى : { من قبل صلاة الفجر } .
وتسمى الغداة كما في قول عائشة : ( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدع أربعاً قبل الظهر وركعتين قبل الغداة ) . رواه البخاري
بداية وقتها :
يبدأ وقتها بطلوع الفجر الثاني بالإجماع
وينتهي بطلوع الشمس .
لحديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - وفيه ( ووقت صلاة الصبح ما لم تطلع الشمس ) رواه مسلم .
من فوائد الأحاديث أنه يكره النوم قبل صلاة العشاء .
إلى ذلك ذهب عمر وابن عمر وجماعة من العلماء وهو مذهب مالك والشافعي .(2/12)
قال النووي : ” قال العلماء وسبب كراهة النوم قبلها أنه يعرضها لفوات وقتها باستغراق النوم أو لفوات وقتها المختار الأفضل ، لئلا يتساهل الناس في ذلك فيناموا عن صلاتها جماعة “ .
يكره الحديث بعد صلاة العشاء فيما لا مصلحة فيه ، والسبب في كراهية الحديث بعدها :
- أنه يؤدي إلى السهر ويخاف منه غلبة النوم عن صلاة الفجر أو قيام الليل .
- ولأن السهر في الليل سبب للكسل في النهار عما يتوجب من حقوق الوالدين من الطاعات ومصالح الدنيا .
قال النووي : ” أما ما فيه مصلحة وخير فلا كراهة فيه كمدارسة العلم وحكايات الصالحين ومحادثة الضيف والعروس للتأنيس “ .
فيه بيان ما يقرأ في صلاة الفجر وهو ما بين الستين والمائة .
استحباب التبكير في صلاة الصبح .
انتهى الدرس الحادي والثلاثون
24/4/1425هـ
49 - عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ : (( مَلأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا , كَمَا شَغَلُونَا عَنْ الصَّلاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ )) . وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ (( شَغَلُونَا عَنْ الصَّلاةِ الْوُسْطَى - صَلاةِ الْعَصْرِ - ثُمَّ صَلاهَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ )) .
50 - وَلَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: (( حَبَسَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْعَصْرِ , حَتَّى احْمَرَّتِ الشَّمْسُ أَوْ اصْفَرَّتْ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : شَغَلُونَا عَنْ الصَّلاةِ الْوُسْطَى - صَلاةِ الْعَصْرِ - مَلأَ اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَاراً , أَوْ حَشَا اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَاراً )) .
-------------------------------------
معاني الكلمات :
يوم الخندق : أي في يوم من أيام الخندق ، وكانت عام 5 من الهجرة .
أجوافهم : بطونهم .
الفوائد :(2/13)
هذا الحديث فيه بيان ما المراد بالصلاة الوسطى التي أمر الله وخصها بالمحافظة فقال تعالى : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } .
قال ابن كثير : ” يأمر تعالى بالمحافظة على الصلوات في أوقاتها وحفظ حدودها وأدائها في أوقاتها ، وخص تعالى من بينها بمزيد التأكيد الصلاة الوسطى “ . [ تفسير ابن كثير 1 / ]
وقد اختلف العلماء ما المراد بالصلاة الوسطى التي خصها الله بمزيد الاهتمام من بين الصلوات على أقوال كثيرة :
أصحها أنها صلاة العصر .
قال النووي : ” والذي تقتضيه الأحاديث الصحيحة أنها العصر وهو المختار “ .
قال ابن تيمية : ” ثبت بالنصوص الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الصلاة الوسطى هي العصر وهذا أمر لا يشك فيه من عرف الأحاديث المأثورة “ .
وقال الشوكاني : ” وهو المذهب الحق “ .
الأدلة :
حديث الباب : ( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ) .
وحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( صلاة الوسطى صلاة العصر ) . رواه الترمذي
خصائص صلاة العصر :
أنها الصلاة الوسطى التي خصها الله بمزيد من الاهتمام .
وسبق دليله .
شدة عقوبة من تعمد تركها حتى خرج وقتها .
عن بريدة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله ) . رواه البخاري
جاء في رواية ( متعمداً ) .
قوله ( حبط عمله ) :
قيل : تركها جاحداً وجوبها .
وقيل : معناه كاد أن يحبط .
وقيل : المراد بحبطان العمل نقصان العمل في ذلك الوقت الذي ترفع فيه الأعمال .
وقيل : أن ذلك خرج مخرج الزجر الشديد وظاهره غير مراد [ ورجحه ابن حجر ] . الفتح [ 2/40 ]
وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله ) . متفق عليه
وتر : أصيب أهله وماله .
المحافظة على صلاة العصر سبب في دخول الجنة .(2/14)
عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من صلى البردين دخل الجنة ) . متفق عليه
البردين : صلاة الصبح والعصر سميتا بردين لأنهما تصليان في بردي النهار وهما طرفاه حين يطيب الهواء وتذهب سورة الحر الفتح [ 1/64 ]
أن المحافظة عليها مع الفجر من أسباب رؤية الله يوم القيامة .
عن جرير - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ، يعني العصر والفجر ) . متفق عليه
قال الخطابي : ” هذا يدل على أن الرؤية قد يرجى نيلها بالمحافظة على هاتين الصلاتين “ .
من فوائد الحديث إثبات عذاب القبر .
أن القبر قد يملى ناراً على صاحبه .
جواز الدعاء على الظالم .
في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخر صلاة العصر إلى ما بعد الغروب .
فاختلف العلماء :
فقيل : أن ذلك قبل أن تشرع صلاة الخوف .
وقيل : يجوز التأخير لشدة الخوف بحيث لا يتمكن الإنسان من الصلاة بوجه من الوجوه لا بقلبه ولا بجوارحه .
وهذا هو القول الصحيح ورجحه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله .
لأنه لو صلى فإنه لا يدري ما يقول ولا ما يفعل .
وجوب قضاء الفوائت .
أن من ذهل أو نسي صلاة فوقتها إذا ذكرها .
انتهى الدرس الثاني والثلاثون
27/4/1425هـ
51 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : (( أَعْتَمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِالْعِشَاءِ . فَخَرَجَ عُمَرُ , فَقَالَ : الصَّلاةُ , يَا رَسُولَ اللَّهِ . رَقَدَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ . فَخَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ يَقُولُ : لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي - أَوْ عَلَى النَّاسِ - لأَمَرْتُهُمْ بِهَذِهِ الصَّلاةِ هَذِهِ السَّاعَةِ )) .
------------------------------------------
معاني الكلمات :(2/15)
أعتم : أي دخل في العتمة ، والمعنى أنه أخر صلاة العشاء حتى اشتد ظلام الليل .
رقد النساء والصبيان : يحتمل أنه يريد الحاضرين في المسجد لقلة صبرهم ، ويحتمل إرادة أهل البيوت من طول انتظارهم .
ورأسه يقطر : أي شعر رأسه .
الفوائد :
في الحديث دليل على أن الأفضل تأخير العشاء إلى ثلث الليل .
وهذا مذهب أكثر العلماء .
لحديث الباب .
ولحديث زيد بن خالد - رضي الله عنه - قال – قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ولأخرت العشاء إلى ثلث الليل ) رواه الترمذي .
وهذا القول هو الصحيح ما لم يكن هناك مشقة .
ولذلك الغالب من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة العشاء أنه يراعي اجتماع الناس فإذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطئوا تأخر كما في حديث جابر وقد سبق .
السبب في تأخير العشاء أفضل :
أولاً : أن فيه انتظار للصلاة وفي الحديث ( ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة ) .
ثانياً : أن تأخيرها يوافق سكون الناس وهذا أدعى إلى الخشوع .
أن سبب مراعاة النبي - صلى الله عليه وسلم - للناس في صلاة العشاء لتجنب المشقة على الناس خاصة الصبيان والنساء ، وكذلك الكبار الذين يشتغلون في النهار .
كمال شفقة النبي - صلى الله عليه وسلم - ورحمته بأمته .
حضور النساء والصبيان الجماعة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - .
أن الحديث يدل على ضعف حديث ( جنبوا صبيانكم مساجدكم ) وهو كذلك فإنه حديث ضعيف رواه ابن ماجه وغيره .
52 - عَنْ عائِشَةَ رضي الله عنها : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : (( إذَا أُقِيمَتْ الصَّلاةُ , وَحَضَرَ الْعَشَاءُ , فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ )) .
53 - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ .
---------------------------------------
في هذا الحديث أن الطعام إذا حضر وقد أقيمت الصلاة فإنه يبدأ بالطعام .(2/16)
قال النووي : ” في هذه الأحاديث كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله لما فيه من ذهاب كمال الخشوع ، وهذا إذا كان في الوقت سعة ، فإن ضاق صلى على حسب حاله محافظة على حرمة الوقت ولا يجوز التأخير “ .
أن الحديث محمول على الاستحباب وهو أن يقبل الإنسان على طعامه إذا حضر وقت الصلاة .
لكن بعض الفقهاء قيدوا هذا بقيود :
أن يكون الطعام حاضراً .
أن تكون نفسه تتوق إليه .
أن يكون قادراً على تناوله حساً وشرعاً .
الشرعي : كالصائم إذا حضر طعام الفطور عند صلاة العصر والرجل جائع جداً ،
فنقول هنا : يصلي ولا يؤخر الصلاة .
الحسّي : كما لو قدّم له طعام حار ولا يستطيع أن يتناوله ، فهنا نقول يصلي ولا تكره صلاته لأن انتظاره لا فائدة فيه .
فإن صلى وهو محتاج للطعام وقادر عليه فصلاته مكروهة .
لحديث الباب .
ولحديث عائشة – الآتي – ( لا صلاة بحضرة طعام ) رواه مسلم .
وهذا نهي والنهي للكراهة ، وذهب بعض العلماء إلى أن النهي للتحريم .
قال بعض العلماء أنه يأكل مقدار ما يسد رمقه والصحيح أن له أن يشبع ويدل لذلك رواية ( . . . ولا تعجلوا عن عشائكم ) . وفي رواية ( ولا يعجل حتى يفرغ منه ) .
قال النووي : ” في هذا دليل على أنه يأكل حاجته من الأكل بكماله هذا هو الصواب ، وأما ما تأوله بعض
أصحابنا على أنه يأكل لقماً يكسر بها شدة الجوع فليس بصحيح وهذا الحديث صريح في إبطاله “.شرح النووي [ 5/46 ]
وكان ابن عمر يوضع له الطعام وتقام الصلاة فلا يأتيها حتى يفرغ وأنه ليسمع قراءة الإمام .
فائدة :
قال ابن الجوزي : ” ظن قوم أن هذا من باب تقديم حق العبد على حق الله ، وليس كذلك ، وإنما هو صيانة لحق الحق ، ليدخل الخلق في عبادته بقلوب مقبلة “ . الفتح [ 1/190 ]
انتهى الدرس الثالث والثلاثون
1/5/1425هـ(2/17)
54 - وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ : (( لا صَلاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ , وَلا وَهُوَ يُدَافِعُهُ الأَخْبَثَانِ )) .
------------------------------------------
معاني الكلمات :
الأخبثان : البول والغائط .
صلاة : نكرة في سياق النفي فيعم جميع الصلوات .
الفوائد :
في الحديث كراهة أن يصلي الإنسان وهو يدافع الأخبثان .
السبب في كراهية ذلك أن مدافعة الإنسان للحدث تمنع حضور قلبه في الصلاة وإقباله عليها .
وأيضاً تمنع خشوعه فيها ، وتجعله مهتماً بإنهائها بأسرع وقت حتى يذهب لقضاء حاجته . فلا يكون مقبلاً على صلاته لأنه مشغول .
لو صلى الإنسان وهو يدافع الأخبثان فصلاته مكروهة عند أكثر العلماء .
وقال بعض العلماء ببطلانها .
إذا كان الرجل على وضوء وهو يدافع البول والريح ، فإذا قضى حاجته لم يكن عنده ماء يتوضأ به ، فهل تقول : أقضي حاجتك وتيمم للصلاة ، أو تقول صل وأنت مدافع الأخبثين ؟
الجواب نقول : أقضي حاجتك وتيمم ولا تصل وأنت تدافع الأخبثين ، لأن الصلاة بالتيمم لا تكره بالإجماع ، أما الصلاة مع مدافعة الأخبثين مكروهة ومن العلماء من حرمها .
مسألة :
إنسان حاقن ويخشى إن قضى حاجته أن تفوته صلاة الجماعة ، فهل يصلي حاقناً ليدرك الجماعة ، أو يقضي حاجته ولو فاتته الجماعة ؟
الجواب : يقضي حاجته ويتوضأ ولو فاتته الجماعة ، لأن هذا عذر .
مكروهات الصلاة :
( أن يصلي مختصراً )
تعريفه : أن يضع الإنسان يده على خاصرته
دليل الكراهة :
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التخصر في الصلاة ) متفق عليه .
سبب النهي :
قيل : لأنه فعل اليهود .
قالت عائشة ( كانت اليهود تفعله ) رواه البخاري .
وقيل : لأنه تشبه بالشيطان .
وقيل : أنه راحة أهل النار .(2/18)
وروى البيهقي عند أبي هريرة - رضي الله عنه - قال – قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( الاختصار في الصلاة راحة أهل النار ) .
وقيل : إنه فعل المتكبرين .
( الالتفات )
دليل الكراهة :
عن عائشة رضي الله عنها قالت ( سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الالتفات في الصلاة فقال : اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ) رواه البخاري .
الاختلاس : أخذ الشيء بسرعة .
الحكمة من النهي :
لأن فيه التفات وإعراض عن الله عز وجل .
ويجوز إذا كان لحاجة .
عن سهل بن الحنظلية قال ( ثوّب بالصلاة – يعني صلاة الصبح – فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو يلتفت إلى الشعب ) . رواه أبو داود
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أرسل فارساً إلى الشعب من الليل يحرس .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : ” ومن ذلك لو كانت المرأة عندها صبيها وتخشى عليه فصارت تلتفت إليه ، فإن هذا من الحاجة ولا بأس به ، لأنه عمل يسير يحتاج إليه الإنسان “ .
( تغميض العينين )
قال ابن القيم : ” ولم يكن من هديه تغميض عينيه في الصلاة “.
قيل : لأنه من فعل اليهود ومظنة النوم .
لكن إن كان هناك شيء في قبلته يشغله ويشوش عليه فهو أفضل .
قال ابن القيم : ” وإن كان يحول بينه وبين الخشوع لما في قبلته من الزخرفة والتزويق أو غيره مما يشوش عليه قلبه ، فهنالك لا يكره التغميض قطعاً ، والقول باستحبابه في هذا الحال أقرب إلى أصول الشرع ومقاصد من القول بالكراهة “ .
فائدة :
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : ” يذكر كثير من الناس أنه إذا أغمض عينيه كان أخشع له ، وهذا من الشيطان يخشِّعُه إذا أغمض عينيه من أجل أن يفعل هذا المكروه “ .
انتهى الدرس الرابع والثلاثون
4/5/1425هـ
باب أوقات النهي(2/19)
55 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : (( شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ - وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ الصَّلاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ , وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ )) .
56- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قالَ : (( لا صَلاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ , وَلا صَلاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ )) .
-------------------------------------
راوي الحديث :
هو سعد بن مالك بن سنان الخدري الأنصاري الخزرجي غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - 12 غزوة أولها غزوة الخندق وكان حينها صغيراً مات سنة 74من الهجرة ودفن بالبقيع .
معاني الكلمات :
شهد : بين وأعلم وأخبر
مرضيون : أي لا نشك في صدقهم ودينهم .
تُشرق : تطلع .
الفوائد :
هذه الأحاديث فيها الكلام على الأوقات التي نهى الشارع عن الصلاة فيها [ المراد صلاة التطوع ] .
الأصل أن صلاة التطوع مشروعة دائماً .
لعموم قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون } .
وعن ربيعة بن كعب - رضي الله عنه - قال ( قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سل . فقلت : أسألك مرافقتك في الجنة ؟ قال : أو غير ذلك ؟ قلت : هو ذاك . قال : فأعني على نفسك بكثرة السجود ) رواه مسلم .
لكن هناك أوقاتاً نهى الشارع عن الصلاة فيها وهي :
بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس قيد رمح .
وعند قيامها حتى تزول .
ومن بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس .
الأدلة على تحريم الصلاة في هذه الأوقات :
أحاديث الباب .(2/20)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ) متفق عليه .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فإنها تطلع بقرْنيْ شيطان ) متفق عليه .
وعن عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - قال ( قلت يا نبي الله أخبرني عن الصلاة ، قال : صل صلاة الفجر ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس وترتفع ، فإنها تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستظل الظل بالرمح ، ثم أقصر عن الصلاة فإنها حينئذ تُسْجَر جهنم . . . حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب فإنها تغرب بين قرني شيطان . . . ) رواه مسلم .
وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال ( ثلاث ساعات نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصلى فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا : حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع ، وحين يقوم قائم الظهيرة ، وحين تضيف للغروب ) رواه مسلم .
فوائد : قوله ( فإنها تطلع بين قرني شيطان ) : قال النووي : ” قيل : المراد بقرني الشيطان : حزبه وأتباعه ، وقيل : قوته وغلبته وانتشاره وفساده ، وقيل : القرنان ناحيتا الرأس وأنه على ظاهره وهذا هو الأقوى ، قالوا ومعناه : أنه يدني رأسه إلى الشمس في هذه الأوقات ليكون الساجدون لها من الكفار كالساجدين له في الصورة وحينئذ يكون له تسلط ظاهر “ . شرح النووي [ 6 / 112 ]
تضيّف : أي تميل . قائم الظهيرة : أي الظهيرة حال استواء الشمس ومعناه حين لا يبقى للقائم في الظهيرة ظل في المشرق ولا في المغرب .
الحكمة من النهي عن الصلاة في هذه الأوقات :(2/21)
قال ابن القيم : ” أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها ، وكان من حكمة ذلك أنهما وقت سجود المشركين للشمس ، وكان النهي عن الصلاة لله في ذلك الوقت سداً لذريعة المشابهة الظاهرة ، التي هي ذريعة إلى المشابهة في القصد مع بُعد هذه الذريعة “ .
متى يبدأ النهي هل من دخول الوقت أم من بعد صلاة الفجر ؟
قيل : يبدأ من دخول الوقت . وقيل : بل يبدأ من بعد الصلاة .
وهذا هو الصحيح ، أن النهي يتعلق بالصلاة نفسها لا بدخول الوقت .
لحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس ، ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس ). متفق عليه ، فعلق الحكم بنفس الصلاة .
وأما بين الأذان والإقامة في الفجر ليس وقت نهي لكن لا يشرع فيه سوى ركعتي الفجر .
هناك بعض الصلوات يجوز فعلها في أوقات النهي :
قضاء الفرائض :
لحديث أنس - صلى الله عليه وسلم - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصليها إذا ذكرها ) رواه مسلم .
ولأن الفرائض دين واجب ، فوجب أداؤه على الفور .
مثال : إنسان نسي صلاة الظهر وتذكرها بعد العصر ، فإنه يصليها حالاً ولو في وقت النهي .
إعادة الجماعة :
لحديث يزيد بن الأسود - رضي الله عنه - ( أنه صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما صلى إذا رجلان لم يصليا في ناحية المسجد فدعاهما فجيء بهما ترعد فرائصهما ، فقال : ما منعكما أن تصليا معنا ، قالا قد صلينا في رحالنا فقال : لا تفعلا ، إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام ولم يصل فليصل معه فإنها نافلة ) رواه مسلم .
مثال : رجل صلى العصر في مسجده ، ثم أتى إلى مسجد آخر ليحضر الدرس مثلاً ، فوجدهم يصلون ، فإنه يصلي معهم .
صلاة الجنازة :(2/22)
قال ابن قدامة : ” وأما الصلاة على الجنازة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، وبعد العصر حتى تميل للغروب فلا خلاف فيه “ .
الصلوات ذات السبب :
مثل ( تحية المسجد ، صلاة الكسوف ، سنة الوضوء ، صلاة الاستخارة ) ، وهذه اختلف العلماء فيها على قولين :
القول الأول : أنها لا تفعل في أوقات النهي .
وهذا مذهب أبي حنيفة
لعموم الأدلة التي تنهى عن الصلاة في وقت النهي .
القول الثاني : الجواز .
وهذا مذهب الشافعي واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ورجحه الشيخ ابن باز رحمه الله .
أدلته :
حديث ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ) متفق عليه .
فأحاديث النهي عامة وهذه الأحاديث خاصة والخاص يقضي على العام .
أنه جاء في بعض ألفاظ أحاديث النهي ( لا تحرُّوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها ) والذي يصلي لسبب لا يقال : إنه متحر ، بل يقال : صلى لسبب .
وهذا القول هو الراجح ، فيحمل النهي على ما لا سبب له ، ويخص منه ما له سبب جمعاً بين الأدلة . الفتح [ 2/59 ]
اختلف العلماء في يوم الجمعة هل يوجد وقت نهي عند الزوال أم أن يوم الجمعة مستثنى على قولين :
القول الأول : أنه ليس وقت نهي .
وهذا مذهب الشافعي ورجحه ابن تيمية وابن القيم .
أدلتهم :
حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة ) . رواه الشافعي وهو حديث ضعيف .
ولحديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من اغتسل يوم الجمعة وتطهر بما استطاع من طهر ، ثم ادهن أو مس من طيب ثم راح فلم يفرق بين اثنين فصلى ما كتب له ثم إذا خرج الإمام أنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى ) رواه البخاري . فقوله ( فصلى ما كتب له . . . ) يدل على استمرار الصلاة إلى الزوال .
القول الثاني : أنه وقت نهي .
وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد .
لعموم الأدلة .(2/23)
حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال ( ثلاث ساعات . . . وحين يقوم قائم الظهيرة . . . ) رواه مسلم .
فهذا صريح في النهي عن الصلاة وقت الزوال وحين يقوم قائم الظهيرة ولم يستثن شيئاً .
وحديث عمرو بن عبسه وفيه ( قلت يا نبي الله أخبرني عن الصلاة ، قال : صل صلاة الفجر ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس وترتفع ، فإنها تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستظل الظل بالرمح ، ثم أقصر عن الصلاة فإنها حينئذ تُسْجَر جهنم . . . ) .
وهذا القول هو الصحيح .
فائدة : عن سعيد بن المسيب ( أنه رأى رجلاً يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين يكثر فيها الركوع والسجود فنهاه فقال : يا أبا محمد ، يعذبني الله على الصلاة ، قال : لا ، ولكن يعذبك على خلاف السنة ) رواه الدارقطني .
انتهى الدرس الخامس والثلاثون
8/5/1425هـ
باب قضاء الفوائت وترتيبها
58 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما (( أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ , وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ . فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : وَاَللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا . قَالَ : فَقُمْنَا إلَى بَطْحَانَ , فَتَوَضَّأَ لِلصَّلاةِ , وَتَوَضَّأْنَا لَهَا , فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ . ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ )) .
59 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : (( مَنْ نَسِيَ صَلاةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرهَا , وَلا كَفَّارَةَ لَهَا إلاَّ ذَلِكَ " أَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي )) .(2/24)
وَلِمُسْلِمٍ (( مَنْ نَسِيَ صَلاةً , أَوْ نَامَ عَنْهَا . فَكَفَّارَتُهَا : أَنْ يُصَلِّيَهَا إذَا ذَكَرَهَا )) .
--------------------------------------
معاني الكلمات :
يوم الخندق : أي غزوة الخندق وكانت عام 5 من الهجرة .
يسب : يشتم ، لأنهم كانوا السبب في تأخيرهم الصلاة عن وقتها .
بطحان : بضم الباء وادٍ بالمدينة .
الفوائد :
وجوب قضاء الصلاة إذا فاتت بنوم أو نسيان ، ويدل لذلك :
حديث الباب ( من نام عن صلاة . . . ) .
ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى صلاة الفجر لما نام عنها في السفر .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قفل من غزوة خيبر سار ليلة حتى إذا أدركه الكرى قال لبلال : اكلأ لنا الليل فصلى بلال ما قدر له ونام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فلما تقارب الفجر استند بلال إلى راحلته مواجه الفجر فغلبت بلالاً عيناه وهو مستند إلى راحلته فلم يستيقظ رسول - صلى الله عليه وسلم - ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس . . . الحديث – وفيه : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اقتادوا فاقتادوا رواحلهم شيئاً ثم توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر بلالاً فأقام الصلاة فصلى الصبح فلما قضى الصلاة قال : من نسي الصلاة فليصليها إذا ذكرها ) .
وفي رواية ( فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ليأخذ كل رجل برأس راحلته فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان ، قال ففعلنا ثم دعا بالماء فتوضأ ثم سجد سجدتين . ثم أقيمت الصلاة فصلى الغداة ) .
فوائد من حديث نوم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن صلاة الفجر :
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ينسى كما ينسى غيره .
أن من فاتته الصلاة لنوم فإنه يقضيها ، وهذا بالإجماع ، وهذا ثبت من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله .(2/25)
استحباب التحول من المكان الذي فاتتهم فيه الصلاة ، وقد جاء في رواية : ( إن هذا مكان حضركم فيه الشيطان ) .
أن القضاء يحكي الأداء ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فاتته صلاة الفجر أمر بالأذان ، وصلى الفجر ، وأقام وجهر بالصلاة .
أنه ليس في النوم تفريط .
أن الإنسان إذا فاتته الصلاة فإنه يجب أن يقضيها أول ما يتذكرها حتى ولو كان في وقت النهي .
اختلف في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - للصحابة بالارتحال من المكان :
قيل : لأنه وقت كراهة ، وهذا ضعيف .
والصحيح أن السبب ما بينته الروايات الأخرى :
ففي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : ( أمر بالارتحال وقال : فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان ) .
ولأبي داود من حديث ابن مسعود : ( تحولوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة ) .
وأيضاً في الحديث أنهم لم يستيقظوا حتى وجدوا حر الشمس :
ففي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : ( حتى ضربتهم الشمس ) وذلك لا يكون إلا بعد أن يذهب وقت الكراهة .
استشكل العلماء في الجمع بين حديث النوم هذا وبين قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن عيني تنام ولا ينام قلبي ) :
قال النووي : ” له جوابان :
أحدهما : أن القلب إنما يدرك الحسيات المتعلقة به ، كالموت والألم ونحوها ، ولا يدرك ما يتعلق بالعين ، لأنها نائمة والقلب يقظان .
الثاني : أنه كان له حالان : حال كان قلبه لا ينام ، وهو الأغلب ، وحال ينام قلبه ، وهو نادر ، فصادف هذا ، أي قصة النوم عن الصلاة .
قال : والصحيح المعتمد هو الأول والثاني ضعيف “ .
أجمع العلماء على وجوب قضاء الصلاة إذا فاتت بنوم أو نسيان . [ قاله الشوكاني ]
أن من فاتته الصلاة بسبب النوم أو النسيان فلا إثم عليه .
لقوله - رضي الله عنه - : ( ليس في النوم تفريط ، وإنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى ) رواه مسلم .
أنه يجب قضاء الفوائت على الفور .(2/26)
لقوله ( إذا ذكرها ) فهذا يدل على أنها تقضى فور الذكر .
أن هذا دين واجب عليه . والواجب المبادرة فيه.
فائدة : إن قال قائل : أليس النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أستيقظ أمرهم أن يرتحلوا من مكانهم إلى مكان آخر ؟
فالجواب : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علل بقوله ( هذا منزل حضرنا فيه الشيطان ) ، فلا ينبغي أن يصلى في أماكن حضور الشياطين .
قال القرطبي : ” أخذ بهذا بعض العلماء فقال : من انتبه من نوم عن صلاة فائتة في سفر ، فليتحول عن موضعه ، وإن كان وادياً فيخرج عنه ، وقيل : إنما يلزم في ذلك الوادي بعينه “ .
وقال غيره : ” يؤخذ منه أن من حصلت له غفلة في مكان استحب له التحول عنه ، ومنه أمر الناعس في سماع الخطبة يوم الجمعة بالتحول من مكانه إلى مكان آخر “ .
يجب قضاء الفوائت مرتبة .
لحديث الباب ( حديث عمر حيث صلى العصر ثم المغرب ) .
ولقوله ( فليصلها ) وهذا أمر يشمل قضاء الصلاة ، ويشمل أيضاً مكانها .
وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا جمع بين الصلاتين يبدأ بالأولى ثم الثانية .
مثال : إنسان فاتته صلاة الظهر والعصر والمغرب ، فإنه يجب عليه أن يقضيها مرتبة ، يبدأ بالظهر ثم العصر ثم المغرب
متى يسقط الترتيب :
في حالة النسيان .
لقوله تعالى { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } .
مثال : إنسان عليه قضاء صلاة الظهر والعصر والمغرب ، فبدأ بالعصر نسياناً صح القضاء .
الجهل .
مثال : إنسان عليه عدة صلوات فائتة ، فبدأ بالظهر ثم المغرب ثم العصر ثم العشاء ثم الفجر جاهلاً بذلك فقضاؤه صحيح .
إذا خشي خروج وقت الحاضرة .
مثال : رجل ذكر أن عليه فائتة ، وقد بقي على طلوع الشمس ما لا يتسع لصلاة الحاضرة [صلاة الفجر ]
فنقول له : قدم الحاضرة وهي الفجر . ثم بعد ذلك صلِ الفائتة .(2/27)
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : ” لأنك إذا قدمت الفائتة لم تستفد شيئاً ، بل تضررت ، لأنك إذا قدمت الفائتة صارت كلتا الصلاتين قضاء ، وإذا بدأت بالحاضرة صارت الحاضرة أداء والثانية قضاء ، وهذا أولى بلا شك “ .
أن الفائتة تقضى على صفتها .
لأن القضاء يحكي الأداء .
ففي حديث أبي قتادة في قصة نوم النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة عن صلاة الفجر قال ( فصلى الغداة فصنع كما يصنع كل يوم ).رواه مسلم .
فإذا قضى صلاة الليل في النهار جهر بها بالقراءة ، وإذا قضى صلاة نهار في ليل أسر فيها بالقراءة .
اختلف العلماء لو فاتت الصلاة بغير عذر : هل تقضى أم لا مع اتفاق أنه آثم ؟ على قولين :
القول الأول : أنه يقضيها .
وهذا مذهب الأئمة الأربعة .
لأنه إذا كان الناسي يقضي ، فمن باب أولى المتعمد .
القول الثاني : أنه لا يشرع قضاؤها .
وبهذا قال الظاهرية ورجحه ابن تيمية وابن القيم والشيخ ابن عثيمين .
أنه أخرها عن وقتها بغير عذر ، وبهذا يكون قد فعلها على وجه لم يؤمر به وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( من عمل عملاً ليس أمرنا فهو رد ) .
أنه لو صلى قبل الوقت متعمداً فصلاته لا تجزئه بالاتفاق ، فأي فرق بين ما إذا فعلها قبل الوقت أو فعلها بعده ؟ فإن كل واحدة منهما قد تعدى حدود الله وأخرج العبادة عن وقتها . الممتع [ 2 / 138 ]
اختلف في سبب تأخير النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة ذلك اليوم :
فقيل : كان نسياناً .
واستبعد أن يقع ذلك من الجميع .
وقيل : كان عمداً لكونهم شغلوه فلم يمكنوه من ذلك . وهو أقرب .
اختلف العلماء في تأخير النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة يوم الخندق :
فقيل : كان ذلك قبل نزول صلاة الخوف .
وقيل : بسبب شدة الخوف حيث لم يتمكن من الصلاة بوجه من الوجوه ورجحه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله .
في الحديث دليل على عدم كراهة قول القائل : ما صليت .(2/28)
وروي عن محمد بن سيرين أنه كره قول الرجل : فاتتنا الصلاة .
والصواب الجواز وعدم الكراهة .
لحديث الباب ( أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جاء يوم الخندق . . . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : والله ما صليتها . . . ) متفق عليه .
ولحديث أبي قتادة في قصة نومهم عن الصلاة ( فقلت يا رسول الله فاتتنا الصلاة ) ولم ينكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - .
جواز الحلف من غير استحلاف إذا ترتب على ذلك مصلحة دينية .
فائدة : قيل : إنما حلف - صلى الله عليه وسلم - تطييباً لقلب عمر ، لأنه لما شق عليه تأخيرها أخبره - صلى الله عليه وسلم - بأنه لم يصليها هو أيضاً ليتأسى ويتسلى به .
مشروعية الجماعة للصلاة الفائتة . [ وسيأتي أنها واجبة ]
بابُ فضلِ الجماعةِ ووجوبِها
59- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : (( صَلاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً )) .
60- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : (( صَلاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تُضَعَّفُ عَلَى صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْساً وَعِشْرِينَ ضِعْفاً , وَذَلِكَ : أَنَّهُ إذَا تَوَضَّأَ , فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ . ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ لا يُخْرِجُهُ إلا الصَّلاةُ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إلا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ , وَحُطَّ عَنْهُ خَطِيئَةٌ . فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلْ الْمَلائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ , مَا دَامَ فِي مُصَلاهُ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ , اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ , اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ , وَلا يَزَالُ فِي صَلاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلاةَ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
الفذ : أي المنفرد .
خطوة : الخطوة أسم لما بين الخطوتين .(2/29)
الفوائد :
في هذه الأحاديث فضل صلاة الجماعة .
بيان فضل صلاة الجماعة على المنفرد ، وأنها سبع وعشرين درجه .
جاء في رواية ( بسبع وعشرين ) وجاء في الرواية الأخرى ( بخمس وعشرين ) .
اختلف العلماء في الجمع بين الروايتين :
قيل : أخبر أولاً بالقليل ثم أعلمه الله تعالى بزيادة الفضل فأخبر بها .
وقيل : السبع والعشرين للصلاة الجهرية . والخمس والعشرين للصلاة السرية رجحه الحافظ ابن حجر .
وقيل : يختلف باختلاف أحوال المصلين وأحوال الصلاة ، فيكون لبعضهم خمس وعشرون ولبعضهم سبع وعشرون بحسب كمال الصلاة ومحافظته على هيئتها وخشوعها . شرح النووي [ 5 / 151 ] فتح الباري [ 2 / 155 ]
اختلف العلماء في حكم صلاة الجماعة بعد الاتفاق على مشروعيتها :
القول الأول : أنها واجبة
وهذا مذهب الحنابلة وهو قول عطاء والأوزاعي وابن خزيمة وابن المنذر .
أدلتهم :
قوله تعال : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم . . . }
فأمر بالجماعة حال الخوف ، ففي غيره أولى .
حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الآتي ( لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس ثم أخالف إلى رجالٍ لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار ) متفق عليه .
فهدد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تارك صلاة الجماعة بالتحريق فدل على وجوبها .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال ( أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل أعمى فقال يا رسول الله : ليس لي قائد يقودني إلى المسجد ، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرخص له أن يصلي في بيته فرخص له ، فلما ولى دعاه فقال له : هل تسمع النداء بالصلاة ؟ قال : نعم قال : فأجب ) رواه مسلم .
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - ( ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق أو مريض ) رواه مسلم .
القول الثاني : فرض كفاية
وهذا مذهب الشافعية(2/30)
واستدلوا بنفس الأدلة التي استند بها أصحاب القول السابق ، لكن صرفوا الأدلة عن الوجوب العيني إلى الوجوب ، وهو حديث ابن عمر : ( صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد . . . ) .
والراجح القول الأول أنها واجبة وأن من تركها من غير عذر يأثم وصلاته صحيحة .
القول الصحيح أنه يجب فعلها جماعة في المسجد .
قال ابن القيم : ” الذي ندين الله به أنه لا يجوز التخلف عن الجماعة في المسجد إلا من عذر “ .
قال الشيخ السعدي : ” والصواب وجوب فعلها في المسجد ، لأن المسجد شعارها ، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - همَّ بتحريق المتخلفين عنها ولم يستفصل ، هل كانوا يصلون في بيوتهم أم لا ؟ “ .
صحة صلاة المنفرد وأنها مجزئة .
أن هذا الأجر ( لم يخط خطوة . . . ) مشروط بأمرين :
إحسان الوضوء .
أن يقصد صلاة الجماعة بنية خالصة .
بعض الأحاديث في فضل المشي إلى المساجد – كثرة الخطى
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقض فريضة من فرائض الله ، كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة ) رواه مسلم .
وعنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ألا أدلكم على ما يمحوا الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ قالوا:بلى يا رسول الله قال : إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط ) رواه مسلم .
انتهى الدرس الثامن والثلاثون
22/5/1425هـ(2/31)
61 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : (( أَثْقَلُ الصَّلاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ : صَلاةُ الْعِشَاءِ , وَصَلاةُ الْفَجْرِ . وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا . وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاةِ فَتُقَامَ , ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ , ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إلَى قَوْمٍ لا يَشْهَدُونَ الصَّلاةَ , فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ )) .
-----------------------------------
جاء في رواية ( ولو علم أحدهم أنه يجد عظماً سميناً لشهدها ) .
معاني الكلمات :
لقد هممت : الهمّ العزم
عليهم : جاء في رواية لمسلم : ( فأحرق بيوتاً على من فيها ) .
ولو حبوا : جاء عند ابن أبي شيبة : ( ولو حبواً على المرافق والركب ) .
ولو يعلمون ما فيهما : أي من الفضل والخير .
الفوائد :
أن كل الصلوات ثقيلة على المنافقين كما قال تعالى : { ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى } .
وأثقلها صلاة الفجر والعشاء .
وإنما كانت العشاء والفجر أثقل عليهما من غيرهما لقوة الداعي إلى تركهما ، لأن العشاء وقت السكون والراحة والصبح وقت لذة النوم .
فضل من واظب على صلاة العشاء والفجر ، وأن ذلك أمان من النفاق .
خصائص صلاة العشاء والفجر :
أولاً : أن المحافظة عليهما أمان من النفاق .
كما في حديث الباب .
ثانياً : فيهما أجر كبير .
لحديث الباب ( ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ) .
ثالثاً : المحافظة عليهما تعدل قيام الليل .
عن عثمان - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( من صلى العشاء في جماعة ، فكأنما قام نصف الليل ، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله ) رواه مسلم .
أن من صفات المنافقين التخلف عن صلاة العشاء والفجر .
وللفائدة أذكر بعض صفات المنافقين :(2/32)
قلة ذكر الله .
قال تعال : { ولا يذكرون الله إلا قليلا } .
التخلف عن صلاتي الفجر والعشاء .
لحديث الباب .
الكسل عن الصلاة .
قال تعالى : { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } .
الرياء .
قال تعالى : { يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً } .
الكذب ، وإخلاف الوعد .
لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان ) .
الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف .
قال تعالى : { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف } .
التكذيب لوعد الله ورسوله .
قال تعالى : { وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله } .
عدم الفقه في الدين .
قال تعالى : { ولكن المنافقين لا يفقهون } .
التخذيل والاعتراض على القدر .
قال تعالى : { لو أطاعونا ما قتلوا } .
الاهتمام بالظاهر وإهمال الباطن .
قال تعالى : { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة } .
تأكيد وجوب صلاة الجماعة .
اختلف لماذا النبي لم يحرق هؤلاء المتخلفين :
فقيل : لما فيها من النساء والذرية .
وقيل : لأنه لا يعذب بالنار إلا رب النار .
وهذا القول هو الصحيح .
أن الإمام إذا عرض له شغل يستخلف من يصلي بالناس .
جواز الانصراف بعد إقامة الصلاة لعذر .
ذم المتخلفين عن الصلاة بوصفهم بالحرص على الشيء الحقير من مطعوم أو غيره .
جاء في رواية عن أبي داود ( ليست بهم علة ) ففيها دلالة على أن الأعذار تبيح التخلف عن الجماعة .
انتهى الدرس التاسع والثلاثون
25/5/1425هـ(2/33)
62 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : (( إذَا اسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمْ امْرَأَتُهُ إلَى الْمَسْجِدِ فَلا يَمْنَعُهَا . قَالَ : فَقَالَ بِلالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : وَاَللَّهُ لَنَمْنَعَهُنَّ . قَالَ : فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ , فَسَبَّهُ سَبّاً سَيِّئاً , مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ , وَقَالَ : أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَتَقُولُ : وَاَللَّهُ لَنَمْنَعَهُنَّ؟ )) .
وَفِي لَفْظٍ (( لا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ )) .
----------------------------------------------
معاني الكلمات :
استأذنت : طلب الإذن والسماح .
الفوائد :
في الحديث نهي الرجل أن يمنع امرأته إذا استأذنته بالخروج للمسجد
وقد اختلف العلماء في هذا هل هو للتحريم أو للكراهة على قولين :
فقيل : النهي للكراهة .
وقيل : النهي للتحريم .
وهذا القول هو الصحيح .
فيحرم على الولي أن يمنع امرأته إذا أرادت الخروج للمسجد .
لكن صلاة المرأة في بيتها أفضل
- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تمنعوا نسائكم المساجد ، وبيوتهن خير لهن ) رواه أبو داود
- وجاء في حديث آخر ( . . . وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك ) رواه أحمد .
شروط خروج المرأة للمسجد :
عدم التطيب .
لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ، وليخرجن إذا خرجن تفلات ).رواه أبو داود
تفلات : غير متطيبات .
وعنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أيما امرأة أصابت بَخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة ) رواه مسلم
ألاَّ تكون متجملة متزينة .
الأفضل للمرأة أن تصلي في البيت لأنه أسلم للعنت .
الغيرة على السنة .(2/34)
يشرع للعالم أن يسب من يسيء الأدب في مجلسه .
مشروعية حضور النساء مع الجماعة .
المرأة تشمل الشابة والعجوز والحسناء والقبيحة .
يستثنى من ذلك خروج المرأة لصلاة العيد فإنه مستحب .
أن صلاة المرأة في بيتها أفضل حتى لو كانت في المدينة أو في مكة .
باب سنن الراتبة
وتأكيد ركعتي سنة الفجر وفضلها
63 – عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : (( صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ , وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا , وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ , وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ , وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ )) .
وَفِي لَفْظِ : (( فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَالْجُمُعَةُ : فَفِي بَيْتِهِ )) .
وَفِي لَفْظٍ : أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ : حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - : (( كَانَ يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَعْدَمَا يَطْلُعُ الْفَجْرُ . وَكَانَتْ سَاعَةً لا أَدْخُلُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيهَا )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
قبل الظهر : أي قبل صلاة الظهر [ بين الأذان والإقامة ] .
الفوائد :
هذه الأحاديث تتكلم عن السنن الرواتب .
الراتبة : الدائمة المستمرة . وهي تابعة للفرائض .
اختلف العلماء في عدد السنن الرواتب :
فقيل : عشر .
لحديث الباب حيث ذكر ابن عمر السنن الرواتب وعددها عشر .
وقيل : اثنتا عشر ركعة .
لحديث أم حبيبة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من صلى لله ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير الفريضة بنى الله له بيتاً في الجنة ) رواه مسلم .
زاد الترمذي : ( أربعاً قبل الظهر ، وركعتين بعدها ، وركعتين بعد المغرب ، وركعتين بعد العشاء ، وركعتين قبل الغداة ) .(2/35)
وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يدع أربعاً قبل الظهر وركعتين قبل الغداة ) رواه البخاري
وهذا القول هو الصحيح .
الأفضل أن تصلى النوافل في البيت .
عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( صلوا أيها الناس في بيوتكم ، فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ) متفق عليه .
وعن جابر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا قضى أحدكم صلاته في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته ، فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيراً ) رواه مسلم .
الحكمة من جعل النوافل في البيت :
قال النووي : ” وإنما حث على النافلة في البيت لكونه أخفى وأبعد من الرياء ، وأصون من المحبطات ، وليتبرك البيت بذلك وتنزل فيه الرحمة والملائكة وينفر منه الشيطان “. شرح النووي [ 6 / 68 ]
الحكمة من النوافل :
سد النقص الذي في الفرائض .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة ، قال : يقول
ربنا لملائكته - وهو أعلم – انظروا في صلاة عبدي ، أتمها أم نقصها ؟ فإن كانت تامة كتبت له تامة ، وإن كان نقص منها شيئاً قال : انظروا : هل لعبدي من تطوع ؟ فإن كان له تطوع قال : أتموا لعبدي فريضته من تطوعه ، ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم ) رواه أبو داود .
أنها من أسباب محبة الله .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( قال تعالى : من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب . . . وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به . . . ) رواه البخاري
مشروعية ركعتين بعد الجمعة .
وجاء أنها أيضاً أربعاً .(2/36)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً ) رواه مسلم .
والجمع : أحياناً يصلي ركعتين وأحياناً يصلي أربعاً .
السنة في ركعتي الفجر أن تخفف وسيأتي بحث ذلك .
هذه السنن إذا فاتت بعذر فإنه يسن قضاؤها .
لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من نام عن صلاة أو نسيها . . . ) .
وصلاة : تعم الفريضة والنافلة .
ما جاء في حديث أبي قتادة في قصة نوم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وهم في السفر عن صلاة الفجر حيث صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - راتبة الفجر أولاً ثم صلى الفريضة ثانياً .
( أما إذا تركها عمداً حتى فات وقتها فإنه لا يقضيها ) .
انتهى الدرس الأربعون
29/5/1425هـ
64- عنْ عائِشَةَ رضِيَ اللهُ عنْها قالَتْ : (( لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - على شيءٍ منَ النَّوافِلِ تَعاهُدَاً منْهُ على ركْعَتَي الفَجْرِ )) .
وفي لفْظٍ لِمُسْلِمٍ : (( رَكْعَتا الفَجْرِ خيرٌ منَ الدُّنيا وما فيها )) .
---------------------------------------
وفي رواية ( لهما أحب إلي من الدنيا جميعاً ) .
معاني الكلمات :
على شيء من النوافل : أي نوافل الصلاة .
من الدنيا وما فيها : أي من المال والأهل والبنين وغيرها من زينة الدنيا .
الفوائد :
سنة الفجر تختص بخصائص عن غيرها من النوافل :
أولاً : فضلها عظيم .
لحديث الباب ( ركعتا الفجر . . . )
ثانياً : لها قراءة خاصة .
في الركعة الأولى : الكافرون وفي الثانية : الإخلاص .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ في ركعتي الفجر قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد ) رواه مسلم .
أو يقرأ في الأولى ( قولوا آمنا بالله ) [ البقرة : 136 ] و ( قل يا أهل الكتاب تعالوا ) [ آل عمران : 52 ] رواه مسلم .
ثالثاً : أنها آكد السنن .(2/37)
لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعها لا حضراً ولا سفراً .
وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لما نام عن صلاة الفجر في السفر مع أصحابه قضى سنة الفجر .
رابعاً : يسن تخفيفها .
عن عائشة قالت ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتي الفجر فيخفف حتى أني أقول هل قرأ فيهما بأم القرآن )متفق عليه
وعن حفصة قالت ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين ) رواه مسلم .
فائدة : قوله ( . . . هل قرأ فيهما بأم القرآن ) :
قال النووي : ” هذا الحديث دليل على المبالغة في التخفيف والمراد المبالغة بالنسبة إلى عادته - صلى الله عليه وسلم - من إطالة صلاة الليل وغيرها من نوافله ، وليس فيه دلالة لمن قال لا تقرأ فيهما أصلاً “ . شرح النووي [ 6 / 4 ]
خامساً : يسن الاضطجاع بعدهما .
عن عائشة قالت ( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن ) رواه البخاري .
وقد اختلف العلماء في حكم هذا الاضطجاع :
فقيل : سنة ، وقيل : ليس بسنة ، وقيل : سنة لمن يقوم الليل لأنه يحتاج للراحة .
فوائد : اختلف في الحكمة في تخفيفهما :
فقيل : ليبادر إلى صلاة الفجر في أول الوقت .
وقيل : ليستفتح صلاة النهار بركعتين خفيفتين كما يصنع في صلاة الليل ليدخل في الفرض أو ما يشابهه بنشاط .
فائدة : قال ابن القيم : ” وفي اضطجاعه على شقه الأيمن سر ، وهو أن القلب معلق في الجانب الأيسر ، فإذا نام الرجل على الجنب الأيسر استثقل نوماً ، لأنه يكون في دعة واستراحة ، فإذا نام على شقه الأيمن فإنه يقلق ولا يستغرق في النوم “.
حقارة الدنيا وما فيها .
عظيم فضل الله عز وجل .
أن من أهمل سنة الفجر – وقد ورد فيها هذا الفضل – فهذا يدل على ضعف دينه .
باب الأذان والإقامة
مقدمة
تعريفه :
لغة : الإعلام ومنه قوله تعالى { وأذان من الله ورسوله } .(2/38)
وشرعاً : التعبد لله للإعلام بدخول وقت الصلاة .
الأصل في مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : { وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً } .
وقال سبحانه : { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } .
ومن السنة أحاديث كثيرة :
مثل حديث مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : ( إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم ) متفق عليه .
وأجمع العلماء على مشروعية الأذان .
لكن اختلف في حكمه :
فقيل : سنة وقيل : واجب . وقيل : فرض كفاية
وهذا القول الأخير هو الراجح .
لأن الأوامر التي أمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأذان تحقق بأن يؤذن البعض .
وردت أحاديث كثيرة في فضل الأذان :
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يسمع صوت المؤذن إنس ولا جن ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة ) رواه البخاري .
وعن معاوية - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( أطول الناس أعناقاً يوم القيامة المؤذنون ) رواه مسلم .
اختلف في معنى ( أطول الناس أعناقاً ) :
قيل : أكثر الناس تشوقاً إلى رحمة الله .
وقيل : إذا ألجم الناس العرق يوم القيامة طالت أعناقهم لئلا ينالهم ذلك الكرب والعرق .
وقيل : معناه أكثر أتباعاً .
فرض الأذان في السنة الأولى من الهجرة .
ورجح هذا القول الحافظ ابن حجر . وقال : ” وردت أحاديث تدل على أن الأذان شرع قبل الهجرة ، ولكن لا يصح شيء من هذه الأحاديث “ . فتح الباري [ 2 / 94 ]
اختلف العلماء أيهما أفضل الأذان أم الإمامة :
القول الأول : الأذان أفضل :
وهو قول الشافعي واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية .
لحديث ( أطول الناس أعناقاً . . . ) .
وحديث ( لا يسمع صوت المؤذن . . . ) .
القول الثاني : الإمامة أفضل :
وبه قال الحنفية والمالكية .(2/39)
لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم الخلفاء الراشدون كانوا أئمة ولم يؤذنوا .
والراجح : أنه ينظر في كل إنسان بحسبه فمن الناس من يكون الأذان له أفضل إذا كان حسن الصوت وضابط للوقت ، ومن الناس من تكون الإمامة له أفضل إذا كان قارئاً ضابطاً .
انتهى الدرس الحادي والأربعون
3/6/1425هـ
65 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : (( أُمِرَ بِلالٌ أَنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ , وَيُوتِرَ الإِقَامَةَ )) .
-----------------------------------------
جاء في رواية ( ويوتر الإقامة إلا الإقامة ) .
معاني الكلمات :
أمر بلال : مبني للمجهول ، وهذه الصيغة تقتضي الرفع عند جمهور العلماء ، لأن الآمر هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وقد جاء عند النسائي ( أمر النبي بلالاً . . . ) .
يشفع : الشفع ضد الوتر . والمعنى أن يقول كل كلمة مرتين ، فيشفع التكبير في أول الأذان أن يقول أربعاً شفع وما عداه يقوله مرتين فقط .
قال الحافظ : ” لكن لم يختلف في أن كلمة التوحيد التي في آخره مفردة يحمل قوله مثنى على ما سواها “ .
ويوتر الإقامة : أي يجعل ألفاظ الإقامة وتراً ، وهذا باعتبار غالب ألفاظها ، وهو مذهب الجمهور .
إلا الإقامة : أي إلا لفظ الإقامة وهي قوله : قد قامت الصلاة فإنه لا يوترها بل يثنيها .
الفوائد :
في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بلال أن يجعل الأذان شفعاً وألا يكرر جملة تكراراً زوجياً والمراد : أكثر الأذان ، وأما الإقامة فأمره أن يجعلها وتراً لا يكرر جملها والمراد ما عدا ( التكبير ) ، ( وقد قامت الصلاة ) فإنها شفع .
عدد ألفاظ الأذان :
مذهب الحنابلة (15 جملة ) .(2/40)
وهذا يسمى أذان بلال ودليله حديث عبد الله بن زيد : ( عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه قال : لما أجمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضرب بالناقوس وهو له كاره لموافقته النصارى طاف بي من الليل طائف وأنا نائم رجل عليه ثوبان أخضران وفي يده ناقوس يحمله قال : فقلت يا عبد الله أتبيع الناقوس ، قال ، وما تصنع به ؟ قال : قلت ندعو به إلى الصلاة ، قال : أفلا أدلك على خير من ذلك ؟ فقلت بلى ، قال : تقول : الله أكبر الله أكبر - الله أكبر الله أكبر – أشهد أن لا إله إلا الله - أشهد أن لا إله إلا الله – أشهد أن محمداً رسول الله - أشهد أن محمداً رسول الله – حي على الصلاة – حي على الصلاة – حي على الفلاح – حي على الفلاح – الله أكبر الله أكبر – لا إله إلا الله . قال ثم استأخر غير بعيد قال :
ثم تقول إذا أقمت الصلاة : الله أكبر الله أكبر – أشهد أن لا إله إلا الله – أشهد أن محمداً رسول الله – حي على الصلاة – حي على الفلاح – قد قامت الصلاة – قد قامت الصلاة – الله أكبر الله أكبر – لا إله إلا الله . قال : فلما أصبحت أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بما رأيت ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن هذه الرؤيا حق إن شاء الله ، ثم أمر بالتأذين ... ) .
وعند الشافعي ( 19 جملة ) .
بالتكبير في أوله أربعاً مع الترجيع .
لحديث أبي محذورة ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه الأذان وفيه التكبير في أوله أربع مع الترجيع ) رواه أبو داود .
وعند المالكية ( 17 جمله ) .
تثنية التكبير في أوله مع الترجيع .
لحديث أبي محذورة عند مسلم وفيه ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه الأذان ومنه التكبير في أوله مرتين مع الترجيع ) .
والحق أنه لا منافاة بين كل ذلك .
وكل ذلك جاءت به السنة والذي ينبغي أن يؤذن بهذا مرة وبهذا مرة إن لم يحصل تشويش وفتنة .
والقاعدة :(2/41)
أن العبادات إذا وردت على وجوه متنوعة ينبغي للإنسان أن يفعلها على هذه الوجوه ، وفي ذلك من الفوائد :
حفظ السنة – حضور القلب – تطبيق السنة .
عدد ألفاظ الإقامة ( 11 جملة ) .
وهذا مذهب جماهير العلماء [ قاله النووي ] .
لحديث عبد الله بن زيد وقد سبق فإنه فيه الإقامة ( 11 جملة )
وتسمى إقامة بلال .
الحكمة من تثنية الأذان وإفراد الإقامة :
أن الأذان لإعلام الغائبين فيكرر ليكون أبلغ في إعلامهم ، والإقامة للحاضرين فلا حاجة إلى تكرارها
ولهذا قال العلماء يكون رفع الصوت في الإقامة دونه في الأذان . شرح النووي [ 4 / 79 ]
لا يشرع الأذان لغير الصلوات الخمس ، فلا تشرع لمنذورة ولا نافلة ولا غير ذلك .
قال النووي : ” وبه قال جمهور العلماء من السلف والخلف لأن المقصود منهما الإعلام بدخول وقت الصلاة المفروضة على الأعيان والقيام بها ، وهذا لا يوجد في غير الخمس المؤداة “ .
ويشرع الأذان للصلوات ولو كانت مقضية .
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نام عن صلاة الفجر في سفره ولم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس أمر بلالاً أن يؤذن وأن يقيم ولقوله ( إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم . . . ) .
فإن هذا يشمل حضورها بعد الوقت وفي الوقت .
لا يشرع الأذان والإقامة للنساء .
لأنهن لسن من أهل الإعلام .
قال الشيخ محمد بن عثيمين : ” ولو قيل بسنية الإقامة دون الأذان لأجل اجتماعهن على الصلاة لكان له وجه “ .
الأذان واجب حتى على المسافرين .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - لمالك بن الحويرث ( إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم . . . ).
قال لهم ذلك وهم مسافرين إلى أهليهم ومع ذلك أمرهم أن يؤذن لهم أحدهم .
سنية الأذان للمنفرد .(2/42)
لحديث عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( يعجب ربك من راعي غنم في رأس الشظية للجبل يؤذن للصلاة ويصلي ، فيقول الله : انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني ، قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة ) رواه أبو داود
66 - عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السُّوَائِيِّ قَالَ : (( أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - - وَهُوَ فِي قُبَّةٍ لَهُ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ - قَالَ : فَخَرَجَ بِلالٌ بِوَضُوءٍ , فَمِنْ نَاضِحٍ وَنَائِلٍ , قَالَ : فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ , كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى بَيَاضِ سَاقَيْهِ , قَالَ : فَتَوَضَّأَ وَأَذَّنَ بِلالٌ , قَالَ : فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ فَاهُ هَهُنَا وَهَهُنَا , يَقُولُ يَمِيناً وَشِمَالاً : حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ ; حَيَّ عَلَى الْفَلاحِ ثُمَّ رُكِزَتْ لَهُ عَنَزَةٌ , فَتَقَدَّمَ وَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ , ثُمَّ نَزَلَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ )) .
------------------------------------------
راوي الحديث :
أبو جحيفة وهب بن عبد الله السوائي قدم صغيراً على النبي في آخر عمره وحفظ عنه ، صحب علياً وجعله على بيت المال في الكوفة ، مات : 64 من الهجرة .
معاني الكلمات :
قبَّة : أي خيمة مستديرة .
من أدم : بوزن قلم ومفرده أديم وهو الجلد المدبوغ .
فمن ناضح ونائل : الناضح : الآخذ من الماء لجسده تبركاً ببقية وضوئه - صلى الله عليه وسلم - ، والنائل : الآخذ من ماء في جسد صاحبه لفراغ الماء لقصد التبرك .
وقد جاء في رواية في الصحيح ( وقد رأيت بلالاً أخرج وضوءاً فرأيت الناس يبتدرون ذلك الوضوء ، فمن أصاب منه شيئاً تمسح به ومن لم يصب أخذ من بلل صاحبه ) ، وبهذه الرواية يتبين المراد من تلك العبارة .
والنضح : الرش .
الفوائد :(2/43)
في هذا الحديث سنة وهي الالتفات يميناً وشمالاً وعند الحيعلتين ، وهذا مذهب الجمهور فالالتفات هنا مقيد بوقت الحيعلتين ، وقد بوب له ابن خزيمة فقال : باب انحراف المؤذن عند قوله : حي على الصلاة ، حي على الفلاح بفمه لا ببدنه كله .
الالتفات له صور :
أن يلتفت يميناً في قوله حي على الصلاة حي على الصلاة – ثم يلتفت شمالاً في قوله حي على الفلاح حي على الفلاح .
أن يلتفت يميناً في حي على الصلاة ثم يقول حي على الصلاة شمالاً ثم يقول حي على الفلاح يميناً ثم يقول حي على الفلاح شمالاً .
ليكون لكل من السامعين في اليمين والشمال نصيب من الحيعلتين .
الحكمة من الالتفات يميناً وشمالاً إبلاغ المدعوين من على اليمين وعلى الشمال .
ما دام أن العلة في إسماع المدعوين ، فإنه إذا أذن في مكبرات الصوت فإنه لا يلتفت ، بل ربما لو التفت ضعف صوته.
يسن أن يجعل المؤذن إصبعيه في أذنيه
فقد جاء في رواية عند الترمذي ( وإصبعاه في أذنيه ) .
الحكمة من وضع الإصبعين في الأذن : قال العلماء في ذلك فائدتان :
أحدهما : أنه قد يكون أرفع لصوته .
ثانيهما : أنه علامة للمؤذن ليعرف من رآه على بعد أو كان به صمم أنه يؤذن . فتح الباري [ 2 / 137 ]
قال الحافظ ابن حجر : ” لم يرد تعيين الإصبع التي يستحب وضعها ، وجزم النووي أنها المسبحة ، وإطلاق الإصبع مجاز عن الأنملة “ .
انتهى الدرس الثاني والأربعون
7/6/1425هـ
67 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : (( إنَّ بِلالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ , فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ )) .
---------------------------------------
معاني الكلمات :
فكلوا واشربوا : الأمر للإباحة والخطاب للصائمين .
جاء في رواية أخرى ( فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر ) .(2/44)
وجاء في رواية أخرى ( ولم يكن بينهما إلا أن يؤذن قبل الفجر ويتربص بعد أذانه . . . ثم يرقب الفجر فإذا قارب طلوعه نزل فأخبر ابن أم مكتوم فيتأهب ابن أم مكتوم بالطهارة وغيرها ثم يرقى ويشرع في الأذان مع أول طلوع الفجر ) .
الفوائد :
جواز اتخاذ مؤذنين في مسجد واحد .
جواز أذان الأعمى إن كان هناك من يخبره بالوقت .
مشروعية الأذان الأول ( الذي يكون قبل طلوع الفجر ) .
وذهب إلى مشروعيته جمهور من العلماء كما ذكر ذلك ابن حجر .
لحديث الباب .
وقال بعض العلماء أنه لا يشرع .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
قالوا : قياساً على باقي الصلوات
والصحيح هو القول الأول وأنه مشروع .
والرد على قياس القول الثاني : نقول هذا قياس فاسد ، لأنه في مقابلة النص .
أن الأذان الأول ( الذي قبل الفجر ) له حكمة ، جاء في رواية للبخاري ( ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم ) فليس هو أذاناً لصلاة الصبح .
يرجع قائمكم : يرد القائم : أي المتهجد إلى راحته ليقوم إلى صلاة الصبح نشيطاً أو يتسحر إن كان له حاجة إلى الصيام .
يوقظ نائمكم : ليتأهب للصلاة بالغسل والوضوء .
انتهى الدرس السابع والثلاثون
18/5/1425هـ
68 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : (( إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ))
-------------------------------------
في هذا الحديث يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من سمع المؤذن أن يقول مثل ما يقول .
وهذا الأمر للاستحباب وليس للوجوب
وهذا مذهب جماهير العلماء . والصارف عن الوجوب :
حديث أنس - رضي الله عنه - : ( . . . أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقول الله أكبر الله أكبر ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الفطرة ، ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله - أشهد أن لا إله إلا الله ، فقال : رسول الله خرجت من النار ) رواه مسلم .(2/45)
ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تابعه أو أصحابه .
ومما يدل على عدم الوجوب أيضاً :
قوله - صلى الله عليه وسلم - لمالك بن الحويرث ومن معه : ( إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم ) .
حيث أن المقام مقام تعليم وتدعوا الحاجة إلى بيان كل ما يحتاج إليه ، فلما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - التنبيه على ذلك مع دعاء الحاجة إليه وكون هؤلاء وفداً لبثوا عنده عشرين يوماً ، ثم غادروا ، يدل على أن الإجابة ليست بواجبة.[ قاله الشيخ ابن عثيمين ]
( ذهب بعض العلماء إلى وجوبها لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقول فقولوا . . . ) .
أدعية الأذان :
أولاً : متابعة المؤذن في كل جملة يقولها .
لحديث الباب
إلا في الحيعلتين فإنه يقول : لا حول ولا قوة إلا بالله .
لحديث عمر - رضي الله عنه - قال – قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر . . . . ثم قال حي على الصلاة قال لاحول ولا قوة إلا بالله ثم قال الله أكبر الله أكبر قال الله أكبر الله أكبر ثم قال لا إله إلا الله قال لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة ) رواه مسلم .
ثانياً :الدعاء بعد الشهادتين بالدعاء الوارد .
عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من قال حين يسمع المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله رضيت بالله رباً وبمحمد رسولاً وبالإسلام ديناً غفر له ذنبه ) رواه مسلم .
وفي رواية ( وأنا أشهد . . . ) .
ثالثاً : الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الأذان .
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي ... ) رواه مسلم .
رابعاً : قول : اللهم رب هذه الدعوة . . .(2/46)
عن جابر - رضي الله عنه - قال – قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة الفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة ) رواه البخاري .
الدعوة التامة : أي الكاملة . الوسيلة : فسرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله ( إنها منزلة في الجنة . . . ) . مقاماً محموداً : يشمل كل مواقف يوم القيامة وأعلى شيء الشفاعة العظمى .
فائدة : هناك بعض الزيادة لا تصح :
( إنك لا تخلف الميعاد ) رواها البعض وهي شاذة . ( الدرجة الرفيعة ) لا أصل لها .
أن يقال عند قول المؤذن في أذان الفجر ( الصلاة خير من النوم ) مثلها الصلاة خير من النوم .
لقوله ( فقولوا مثل ما يقول ) .
وأما قول بعض العلماء أنه يقول ( صدقت وبررت ) فلا تصح .
أن الإجابة خاصة بمن سمع المؤذن .
أن من رأى المؤذن ولم يسمع ما يقول فإنه لا يشرع له إجابته .
أن من سمع المؤذن ولم يره فإنه يجيبه .
أن هذا يشمل الذكر والأنثى .
اختلف العلماء هل يجب المقيم ؟
قيل : يجيبه .
لأن الإقامة نداء وقد سماها النبي - صلى الله عليه وسلم - أذاناً في قوله : ( بين كل أذانين صلاة ) .
وقيل : لا يجيبه .
قالوا إنما سماها النبي - صلى الله عليه وسلم - أذاناً من باب التغليب .
وهذا القول هو الصحيح .
ذهب بعض الفقهاء إلى أنه يسن لمن سمع المقيم يقول : قد قامت الصلاة ، أن يقول : أقامها الله وأدامها .
لما روى أبو داود عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أن بلالاً أخذ في الإقامة فلما أن قال : قد قامت الصلاة ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - أقامها الله وأدامها ) ، وهذا الحديث ضعيف لا يصح كما قال الحافظ ابن حجر والنووي .
انتهى الدرس السابع والثلاثون
18/5/1425هـ
باب استقبال القبلة
المقدمة
استقبال القبلة شرط من شروط الصلاة(2/47)
لقوله تعالى { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام } .
ولقوله - صلى الله عليه وسلم - للمسيء صلاته : ( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ) متفق عليه .
ونقل الإجماع على ذلك : النووي و أبن عبد البر .
المراد بالقبلة الكعبة .
وسميت قبلة لأن الناس يستقبلونها بوجوههم ويؤمونها ويقصدونها .
حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة في السنة الثانية من الهجرة في شعبان ، وقد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس ( 16 أو 17 ) شهراً .
عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أول ما قدم المدينة صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً وكان رسول يحب أن يوجه إلى الكعبة ، فأنزل الله { قد نرى تقلب وجهك في السماء } فتوجه نحو الكعبة ) متفق عليه
69 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ , حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ , يُومِئُ بِرَأْسِهِ , وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ )) . وَفِي رِوَايَةٍ : (( كَانَ يُوتِرُ عَلَى بَعِيرِهِ )) .وَلِمُسْلِمٍ : (( غَيْرَ أَنَّهُ لا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ )) .وَلِلْبُخَارِيِّ: (( إلاَّ الْفَرَائِضَ )) .
-------------------------------------------
معاني الكلمات :
يسبح : التسبيح المراد به صلاة النافلة .
الفوائد :
في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي النافلة على ظهر دابته ولم يكن يستقبل القبلة .
وهذه من الحالات التي تستثنى من استقبال القبلة لأن استقبال القبلة في الصلاة شرط من شروط الصلاة كما تقدم.
يستثنى من ذلك ما يلي :
صلاة النافلة على الراحلة للمسافر .
لحديث الباب .
وحكى ابن قدامة الإجماع على ذلك فقال : ” لا نعلم فيه خلافاً بين أهل العلم في إباحة التطوع على الراحلة في السفر الطويل “.(2/48)
وقال الترمذي : ” هذا عند عامة أهل العلم “ .
( نافلة ) فلا يجوز الفرض .
( الراحلة ) فلا يجوز للماشي .
( للمسافر ) فلا يجوز للمقيم .
لكن هل يجب أن يستقبل القبلة عند تكبيرة الإحرام ؟ قولان للعلماء :
القول الأول : أنه يجب .
وهذا المذهب .
لحديث أنس - رضي الله عنه - (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر فأراد أن يتطوع أستقبل بناقته القبلة فكبر ثم صلى حيث كان وجهه وركابه) رواه أبو داود .
القول الثاني : أنه لا يجب بل يستحب .
وهذا مذهب الجماهير .
وقالوا عن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا فعل مجرد ، والفعل لا يدل على الوجوب .
وهذا القول هو الصحيح .
الحكمة من هذا التخفيف :
لئلا ينقطع المسافر عن العبادة .
لئلا ينقطع المتعبد عن السفر .
أن النوافل يتوسع فيها ما لا يتوسع في الفريضة .
أن الوتر ليس بواجب .
وهذا مذهب أكثر العلماء .
لحديث الباب ( حيث صلاه النبي - صلى الله عليه وسلم - على بعيره ) .
حديث بعث معاذ - رضي الله عنه - إلى اليمن ، وكان هذا في آخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بإخبارهم بوجوبه .
حديث طلحة بن عبد الله - رضي الله عنه - : ( في الرجل الذي سأل عن الإسلام ، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : خمس صلوات في اليوم والليلة ، قال : هل عليَّ غيرهن ؟ قال : لا ، إلا أن تطوع ) متفق عليه .
مشروعية التنفل في السفر .
وقد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح ثمان ركعات الضحى .
وكان يحافظ على سنة الفجر في السفر .
( يستثنى من ذلك راتبة الظهر والمغرب والعشاء فلا تشرع في السفر ) .
أن المشقة تجلب التيسير .
إن كيفية الصلاة على الراحلة إيماءً ، يجعل السجود أخفض من الركوع .
عن عامر بن ربيعة - رضي الله عنه - قال ( رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على راحلته حيث توجهت به يومئ برأسه ) متفق عليه .(2/49)
وفي رواية للترمذي ( يجعل السجود أخفض من الركوع ) .
انتهى الدرس الرابع والأربعون
20/6/1425هـ
70 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : (( بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءَ فِي صَلاةِ الصُّبْحِ إذْ جَاءَهُمْ آتٍ , فَقَالَ : إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ , وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ , فَاسْتَقْبِلُوهَا . وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إلَى الشَّامِ , فَاسْتَدَارُوا إلَى الْكَعْبَةِ )) .
------------------------------------------
معاني الكلمات :
قباء : موضع بالمدينة .
الفوائد :
وجوب الانحراف للقبلة أثناء الصلاة إذا تبين له ذلك في الصلاة .
حالات من خفيت عليه القبلة وصلى :
الحالة الأولى : إذا تبينت له بعد الصلاة .
فلا قضاء عليه وهذا مذهب جماهير العلماء .
لحديث عامر بن ربيعة قال ( كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة مظلمة فأشكلت عليه القبلة فصلينا ، فلما طلعت الشمس إذا نحن صلينا إلى غير القبلة فنزلت { فأينما تولوا فثم وجه الله } رواه الترمذي .
ولقوله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } .
الحالة الثانية : إذا تبينت له أثناء الصلاة .
فأنه يجب عليه أن يتحول إلى القبلة ويكمل صلاته .
لحديث الباب .
أن من تبينت له القبلة أثناء الصلاة فإنه يجب عليه أن يتحول إليها لحديث الباب .
وهذا حركة في الصلاة لكنها لمصلحة الصلاة وهذه الحركة واجبة .
أنواع الحركة في الصلاة :
حركة واجبة .
كمن تبينت له القبلة أثناء الصلاة فإنه يجب أن يتحول إليها
وكذلك من وجد على شماغه أو ثوبه نجاسة فإنه يجب أن يزيلها .
حركة مستحبة .
كمن رأى فرجةً في الصف الذي أمامه فإنه يسن له أن يتقدم ليسدها .
حركة مكروهة .
وهي لغير مصلحة الصلاة لكنها قليلة ،كاللعب بالقلم ، أو بالشماغ .
حركة محرمة .
الكثيرة لغير مصلحة الصلاة ومتوالية .(2/50)
أن نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة كان في شعبان من السنة الثانية للهجرة .
فرض المصلى :
أولاً : إن كان عند الكعبة معايناً لها .
فهذا فرضه أن يستقبل عين الكعبة .
وهذا بالإجماع ، قال ابن قدامة لا نعلم فيه خلافاً .
ثانياً : إذا كان بعيداً عن الكعبة .
فهذا فرضه أن يستقبل جهة الكعبة
لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال – قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ) رواه الترمذي .
أن الصف الطويل صلاتهم صحيحة بالإجماع ، مع أنه يجزم بأنه ليس كلهم مستقبلي القبلة .
أن إلزام الناس استقبال عين الكعبة في أماكن بعيدة متعذر وفيه مشقة .
من صلى بغير اجتهاد ( إن كان من أهل الاجتهاد ) ولا تقليد ، فإنه يقضي لأنه مفرط لم يأت بما وجب عليه لكن إذا أصاب القبلة فصلاته صحيحة مع الإثم .
الصحيح من أقوال العلماء أنه لا يلزمه أن يجتهد لكل صلاة ما لم يكن هناك سبب ، مثل أن يطرأ عليه شك في الاجتهاد الأول فحينئذ يعيد النظر .
( قال بعض العلماء يجب أن يجتهد لكل صلاة ) .
اختلف العلماء هل يجتهد في الحضر كالسفر أم لا على قولين :
القول الأول : أنه لا يجتهد في الحضر .
القول الثاني : أنه يجتهد في الحضر والسفر .
والصحيح الأول ، لأنه يستطيع أن يسأل عن القبلة .
أن القرآن منزل غير مخلوق .
قال تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } .
وقال تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } .
وقوع النسخ في شريعة الإسلام .
قال بعض العلماء : أنه أول ما نسخ من شريعة الإسلام القبلة .
أن بيت المقدس أولى القبلتين .(2/51)
71 - عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ : (( اسْتَقْبَلْنَا أَنَساً حِينَ قَدِمَ مِنْ الشَّامِ , فَلَقِينَاهُ بِعَيْنِ التَّمْرِ , فَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ , وَوَجْهُهُ مِنْ ذَا الْجَانِبِ - يَعْنِي عَنْ يَسَارِ الْقِبْلَةِ - فَقُلْتُ : رَأَيْتُكَ تُصَلِّي لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ ؟ فَقَالَ : لَوْلا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُهُ مَا فَعَلْتُهُ )) .
--------------------------------------
معاني الكلمات :
عين التمر : مكان بجوار الكوفة .
الفوائد :
هذا الحديث يدل على ما يدل عليه حديث ابن عمر الذي سبقه ( 65 ) وهو جواز صلاة النافلة للمسافر لغير استقبال القبلة ( وسبقت المسألة ) .
مشروعية استقبال أهل الفضل كالعلماء ومن له حق كالأب والأم وغيرهما .
ينبغي للعالم إذا سئل عن مسألة أن يجيب بالدليل ما أمكن فهذا أنس أسند فعله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
أن الصحابة كانوا حريصين على التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة في أمور العبادات .
بابُ الصُّفوفِ
72 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : (( سَوُّوا صُفُوفَكُمْ , فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ تَمَامِ الصَّلاةِ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
الصفوف : جمع صف والمراد بها صفوف الصلاة .
الفوائد :
في هذا الحديث الأمر بتسوية الصفوف
وقد جاءت أحاديث كثيرة تدل على ذلك :
فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( رصوا صفوفكم ) رواه أحمد .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( أقيموا صفوفكم فإني أراكم من وراء ظهري ) رواه البخاري .
وقد اختلف العلماء في حكم تسوية الصفوف على قولين :
القول الأول : أنه واجب .
ورجحه البخاري واختاره الشيخ ابن عثيمين .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( سووا صفوفكم ) وهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب .(2/52)
أن الله توعد من لم يتم الصف فقال ( . . . أو ليخالفن الله بين وجوهكم ) .
القول الثاني : أنه غير واجب .
قالوا : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصف تسوية الصف بأنها من تمام الصلاة ، وتمام الشيء كماله ، وفوات الكمال لا يستلزم البطلان .
والراجح الأول .
المعتبر في تسوية الصف المناكب والأكعب في أسفل البدن ، أما أطراف الأصابع فليست معتبرة ، لاختلاف الناس .
الأمر بتسوية الصف تشمل إذا كان الصف خلف الإمام أو مع الإمام .
فلو كان مع الإمام شخص واحد فإنه يكون محاذياً للمأموم لا يتقدم عليه ، خلافاً لبعض العلماء الذين قالوا : إنه ينبغي أن يتقدم الإمام على المأموم شيئاً يسيراً ليتميز الإمام عن المأموم .
قال البخاري : ” باب : يقوم عن يمين الإمام بحذائه سواء إذا كانا اثنين “ .
ثم ذكر حديث ابن عباس ( عندما بات عند خالته ميمونة . . . الحديث وفيه ( أنه - صلى الله عليه وسلم - نام ثم قام ، قال : ابن عباس : فقمت عن يساره فجعلني عن يمينه ) .
قال ابن حجر : ” قوله : ( سواء ) أي لا يتقدم ولا يتأخر “ .
وقال الشيخ الألباني : ” وفي الحديث من الفقه : إن السنة أن الرجل الواحد إذا اقتدى بالإمام وقف حذاءه عن يمينه لا يتقدم عنه ولا يتأخر “.
من الأخطاء المنتشرة أنه في أثناء الصلاة على الجنازة يقوم بعض الناس بإنشاء صف عن يمين الإمام وقد يكون عدد المصلين في ذلك الصف قليلاً وهذا خطأ :
والصواب : أن يقف الجميع في صفوف تامة خلف الإمام لعموم الأحاديث الواردة في تسوية وإكمال الصفوف في الصلاة ، فإنها لم تفرق بين صلاة وصلاة .
أن من تسوية الصفوف إكمال الأول فالأول .
عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال – قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها ، يتمون الصفوف الأول فالأول ويتراصون في الصف ) رواه مسلم .(2/53)
قال النووي : ” ومعنى إتمام الصفوف الأول : أن يتم الأول ولا يشرع في الثاني حتى يتم الأول ولا في الثالث حتى يتم الثاني “ .
إن تسوية الصفوف وتعديلها علامة على تمام الصلاة وكمالها .
أن اعوجاج الصف خلل ونقص فيها .
ينبغي للإمام أن ينظر لمن وراءه .
فائدة : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أتموا صفوفكم ، فإني أراكم من وراء ظهري ) .
قال الألباني : ” في الحديث معجزة ظاهرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهي رؤيته - صلى الله عليه وسلم - من ورائه ، ولكن ينبغي أن يعلم أنها خاصة في حالة كونه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة ، إذ لم يرد في شيء من السنة أنه كان يرى كذلك خارج الصلاة أيضاً “ .
73 - عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما , قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : (( لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ )) .
وَلِمُسْلِمٍ : (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُسَوِّي صُفُوفَنَا , حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاحَ , حَتَّى إذَا رَأَى أَنْ قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ , ثُمَّ خَرَجَ يَوْمًا فَقَامَ , حَتَّى إذَا كَادَ أَنْ يُكَبِّرَ , فَرَأَى رَجُلاً بَادِياً صَدْرُهُ , فَقَالَ : عِبَادَ اللَّهِ , لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
القداح : خشب السهام حين تنحت وتبرى ويبالغ في تسويتها .
عقلنا عنه : أي فهمنا ما أمر به من التسوية .
الفوائد :
في الحديث الأمر بتسوية الصف ، وفيه الوعيد الشديد لمن لم يتم الصف .
استُدل بحديث الباب على وجوب تسوية الصفوف ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به ، وتوعد على مخالفته ، وشيء يأتي الأمر به ، ويُتوعد على مخالفته لا يمكن أن يقال : إنه سنة فقط .(2/54)
اختلف في المراد بقوله ( أو ليخالفن بين وجوهكم ) :
فقيل : هو على حقيقته .
والمراد به تسوية الوجه بتحويل خلقه عن وضعه بجعله موضع القفا .
وقيل : معناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب ، وهذا هو الراجح ، ويؤيده رواية أبي داود ( أو ليخالفن الله بين قلوبكم ) .
عواقب عدم تسوية الصفوف :
أولاً : وقوع الاختلاف في القلوب والتباغض
لحديث الباب .
ثانياً : قطع الله :
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من قطع صفاً قطعه الله ) رواه أبو داود .
ثالثاً : فوات الأجر العظيم .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله وملائكته يصلون على الذين يَصِلُون الصفوف ) رواه أحمد .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( من وصل صفاً وصله الله ) .
رابعاً : ترك الخلل للشيطان .
قال - صلى الله عليه وسلم - : (رصوا صفوفكم ، وقاربوا بينها ، فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلَل الصف كأنما الحَذَف). رواه أحمد
وفي رواية ( ولا تذروا فرجات للشيطان ) .
الخلل : هو ما يكون بين الاثنين من اتساع عند عدم التراص . الفرجات : جمع فرجة . وهي المكان الخالي بين اثنين . الحذف : غنم سود صغار .
إن تسوية الصفوف يكون بين تكبيرة الإحرام والإقامة .
لقوله ( ثم خرج يوماً فقام حتى كاد أن يكبر . . . ) .
ولحديث أنس - رضي الله عنه - قال : ( أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أقيموا صفوفكم ) رواه البخاري
مشروعية تتبع الإمام للمأمومين وتسويته للصفوف بيده إذا رأى اعوجاجاً .
الحرص على البيان بالقول وبالفعل ما أمكن ذلك .
أن الجزاء من جنس العمل حيث توعد بمخالفة وجوههم مقابل مخالفة صفوفهم .
فائدة : حديث ( إن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج ) لا يصح .
انتهى الدرس السادس والأربعون
1/7/1425هـ(2/55)
74 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - : (( أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ , فَأَكَلَ مِنْهُ , ثُمَّ قَالَ : قُومُوا فَلأُصَلِّيَ لَكُمْ ؟ قَالَ أَنَسٌ : فَقُمْتُ إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ , فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ , فَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ , وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا . فَصَلَّى لَنَا رَكْعَتَيْنِ , ثُمَّ انْصَرَفَ )) .
وَلِمُسْلِمٍ (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِهِ وَبِأُمِّهِ فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ , وَأَقَامَ الْمَرْأَةَ خَلْفَنَا )) .
------------------------------------------
معاني الكلمات :
اليتيم : من مات أبوه وهو صغير .
الفوائد :
هذا الحديث أورده المؤلف ليبين موقف المأمومين إذا كانوا أكثر من واحد من الإمام
فالحديث يدل على أنه إذا كان مع الإمام اثنان فأكثر يقفون خلفه .
وهذا مذهب جماهير العلماء ، لقوله : ( وصففت أنا واليتيم وراءه ) .
وجه الدلالة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقدم على أنس واليتيم فدل على أن الاثنين موقفهما خلف الإمام .
ولحديث جابر - رضي الله عنه - قال : ( قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي فجئت فقمت عن يساره فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه ثم جاء جبار بن صخر فأخذ بأيدينا جميعاً فدفعنا حتى أقامنا خلفه ) رواه مسلم .
لكن لو وقفوا عن يمينه ويساره فصلاتهم صحيحة عند أكثر العلماء .
جواز مصافة الصبي في صلاة النفل .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لقول أنس : ( صففت أنا واليتيم وراءه ).
وجه الدلالة : أن اليتيم هو من مات أبوه وهو لم يبلغ ، وقد صف هذا اليتيم مع أنس خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - .
واختلف هل تصح مصافته في الفرض أم لا على قولين :(2/56)
القول الأول : أنها لا تصح .
وهذا المذهب .
قالوا : لأن الصبي لا تصح إمامته فلا تصح مصافته .
وقالوا : يخشى أن لا يكون متطهراً فيصير البالغ فذاً .
القول الثاني : تصح مصافته .
وهذا مذهب الحنفية والمالكية والشافعية .
لحديث الباب ( صففت أنا واليتيم وراءه ) .
والقاعدة : أن ما ثبت في النفل ثبت في الفرض إلا بدليل يفرق ، ولا دليل هنا .
وهذا القول هو الصحيح ، وأما تعليلهم أن الصبي لا تصح إمامته ، فهذا غير صحيح .
لأن السنة وردت بخلافه ، وأن الصبي تصح إمامته ، لحديث عمر بن سلمة حين أمّ قومه وهو ابن ست أو سبع سنين .
المرأة إذا صلت مع الرجال فإن موقفها يكون خلفهم .
لحديث الباب ( والعجوز من ورائنا ) .
لكن لو صلت المرأة مع جماعة النساء ، فالصحيح أنها كالرجال مع جماعة الرجال ، يعني لا يصح أن تقف خلف صف النساء منفردة بل يجب عليها أن تكون في الصف ، وهذا اختيار ابن تيمية وابن القيم .
جواز صلاة النافلة جماعة لكن بشرط ألا تتخذ ذلك عادة مستمرة بل أحياناً ، ويدل لذلك :
( أن ابن عباس صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الليل كما سيأتي ) .متفق عليه
( وصلى حذيفة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ) .متفق عليه
( وصلى ابن مسعود أيضاً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ) .متفق عليه
( وحديث الباب ) .
تواضع النبي .
مشروعية الدعوة المطلقة .
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل طعام ثم قام وصلى ولم يتوضأ فهذا يدل على أن الوضوء مما مست النار غير واجب .
وأما ما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( توضؤوا مما مست النار ) رواه مسلم . فهو منسوخ ، وناسخه :
حديث جابر قال ( كان آخر الأمر من رسول الله ترك الوضوء مما مست النار ) رواه أبو داود .
انتهى الدرس السابع والأربعون
5/7/1425هـ(2/57)
75 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : قَالَ : (( بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ . فَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ . فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ . فَأَخَذَ بِرَأْسِي فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ )) .
-------------------------------------------------
الحديث له قصة :
عن ابن عباس ( أنه رقد عند رسول الله فاستيقظ ، فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده ، ثم قرأ العشر الآيات الخواتيم من سورة آل عمران ، ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ ثم قام يصلي ، فجئت فقمت إلى جنبه ، فقمت عن يساره ، قال : فأخذني فأقامني عن يمينه ، فتكاملت صلاة رسول الله ثلاث عشرة ركعة ، ثم خرج إلى الصلاة وهو يقول : اللهم اجعل في قلبي نوراً ، وفي لساني نوراً ، واجعل في سمعي نوراً ، واجعل في بصري نوراً ، واجعل من خلفي نوراً ، ومن أمامي نوراً ، واجعل من فوقي نوراً ، ومن تحتي نوراً ، اللهم اعطني نوراً ) .
هذا الحديث ذكره المصنف ليبين موقف المأموم الواحد من الإمام .
والحديث يدل على أن موقف المأموم الواحد عن يمين الإمام .
قال ابن قدامة : ” وإذا كان المأموم واحداً ذكراً فالسنة أن يقف عن يمين الإمام رجلاً كان أو غلاماً “ .
ومما يدل على ذلك أيضاً :
حديث جابر قال ( قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي فجئت فقمت عن يساره فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه ) .
اختلف العلماء لو وقف المأموم الواحد عن يسار الإمام على قولين :
القول الأول : لا تصح صلاته .
وهذا المذهب .
لحديث الباب قالوا : ( إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدار ابن عباس من يساره إلى يمينه ) ، فدل على أن اليسار غير موقف للمأموم الواحد .
القول الثاني : صلاته صحيحة مع الكراهة .
وهذا مذهب الحنفية والمالكية والشافعية واختار هذا القول الشيخ السعدي .
لحديثي ابن عباس وحديث جابر .(2/58)
وجه الدلالة : أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرهما باستئناف الصلاة ، ولو لم يكن موقفاً لأمرهما الرسول - صلى الله عليه وسلم - باستئناف الصلاة.
وهذا القول هو الراجح .
من فوائد الحديث أنه لا يشترط لصحة الإمامة أن ينوي الإمامة قبل الدخول في الصلاة .
وهذا مذهب الشافعية
لحديث الباب .
ولحديث عائشة ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في المسجد فصلى بصلاته ناس ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة فلم يخرج إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أصبح قال : قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا إني خشيت أن تفرض عليكم وذلك في رمضان ) رواه أبو داود .
اختلف العلماء في حكم المنفرد خلف الصف : على ثلاثة أقوال :
القول الأول : لا تصح صلاته .
وهذا المذهب .
وبه قال إبراهيم النخعي وإسحاق وابن المنذر .
لحديث وابصة ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة ) رواه أبو داود .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( لا صلاة لمنفرد خلف الصف ) رواه أحمد .
وجه الدلالة :
دل الحديثان دلالة صريحة على أن المنفرد لا صلاة له .
القول الثاني : صلاته صحيحة .
وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي . واستدلوا :
بحديث الباب .
وجه الدلالة :
أن ابن عباس وقف عن يسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤتماً به فأداره من خلفه حتى جعله عن يمينه ، فقد صار ابن عباس خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك الإدارة ولم يؤمر بالإعادة .
والقول الأول هو الراجح .
لكن لو أن الإنسان لم يجد مكاناً في الصف فإنه يجوز أن يصلي منفرداً لوحده لأنه معذور .
قال الشيخ الألباني : ” إذا لم يستطع الرجل أن ينظم إلى الصف فصلى وحده ، الأرجح الصحة ، والأمر محمول على من لم يستطع القيام بواجب الانضمام “ .(2/59)
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ” إذا جاء إنسان إلى المسجد ووجد الصفوف مكتملة فإنه يصلي وحده منفرداً في الصف ولا حرج عليه ، لأن الله يقول { فاتقوا الله ما استطعتم } وهذا الرجل لا يستطيع الآن أن يدخل في الصفوف لأنها مكتملة “ .
في هذا الحديث دليل على أن المنفرد إذا صلى مع إمامه ، فإنه لا يشرع للإمام أن يتقدم قليلاً .
فقول بعض العلماء أنه يسن للإمام أن يتقدم قليلاً قول غير صحيح .
أنه لو وقف المأموم الواحد عن يسار الإمام فإنه يشرع أن يجعله عن يمينه .
السنة إذا أراد الإمام أن يحرك من وقف عن يساره أن يحركه من وراءه وليس من الأمام .
جواز الحركة في الصلاة لمصلحتها .
مشروعية صلاة الليل واستحبابها .
صحة مصافة الصبي وحده مع البالغ .
جواز أن يبيت الإنسان عند محارمه .
جواز قراءة القرآن للمحدث ، قال النووي هذا بإجماع المسلمين .
انتهى الدرس الثامن والأربعون
8/7/1425هـ
باب الإمامة
مقدمة
الإمامة في اللغة : من الأم وهو القصد
وتطلق في الشرع على عدة معان :
الإمامة الكبرى : وهي الخلافة أو الملك .
الإمامة الصغرى : وهي إمامة الصلاة .
العالم المقتدى به .
والمراد بها هنا إمامة الصلاة وما يلزم الإمام والمأموم .
أولى الناس بالإمامة :
أولى الناس بالإمامة الأقرأ ، ثم الأفقه ، ثم الأقدم هجرة ، ثم الأقدم إسلاماً ، ثم الأكبر سناً ، ثم قرعة .
لحديث أبي مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة ، فإن كانوا سواء فأقدمهم سناً ) رواه مسلم .
المراد بالأقرأ : الأجود قراءة وهو الذي تكون قراءته تامة يخرج الحروف من مخارجها .
أقدم هجرة : أي لو كانا مسلمين ولكنهما في بلاد الكفر فسبق أحدهم في الهجرة إلى بلاد الإسلام ، فالمقدم الأسبق هجرة لأنه أسبق في الخير .(2/60)
من تصح إمامته ومن لا تصح :
أولاً : الفاسق :
اختلف العلماء هل تصح إمامته أم لا على قولين :
القول الأول : لا تصح إمامته .
وهو المذهب .
لحديث جابر - رضي الله عنه - قال ( خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا أيها الناس توبوا إلى الله . . . لا يؤم فاجراً مؤمناً ) . رواه ابن ماجه وهو حديث ضعيف
القول الثاني :أنها تصح .
وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي
لحديث أبي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( كيف أنت إذا كان عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها ، قال : قلت كيف تأمرني : قال : صل الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة ) رواه مسلم .
وجه الدلالة : أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أذن بالصلاة خلفهم وجعلها نافلة لأنهم أخروها عن وقتها ، وظاهره أنهم لو صلوها في وقتها لكان مأموراً بالصلاة معهم فريضة ولا شك أن من فوّت الصلاة وجعلها في غير وقتها غير عدل .
ولفعل الصحابة حيث صلى ابن عمر خلف الحجاج .
وهذا القول هو الصحيح .
ثانياً : إمامة الصبي .
اختلف العلماء في صحة إمامته على قولين :
القول الأول : لا تصح إمامته .
لحديث ( لا تقدموا صبيانكم ) رواه الديلمي ، وهو ضعيف .
ولأن صلاة الصبي نفل وصلاة البالغ فرض ، والفرض أعلى مرتبة من النفل .
القول الثاني : أنها تصح إمامته .
وبه قال الشافعية .
لحديث عمرو بن سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبيه : ( وليؤمكم أكثركم قرآناً ، فنظروا فلم يكن أحداً أكثر مني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين ) رواه البخاري .
وهو القول الصحيح .
ثالثاً : إمامة المرأة .
لا يجوز للمرأة أن تؤم الرجال مطلقاً .
لحديث أبي بكرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة ) رواه البخاري .(2/61)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها ) رواه مسلم .
76 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : (( أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ أَوْ يَجْعَلَ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ؟ )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
يحول رأسه : أي يصيره .
الفوائد :
في هذا الحديث تحريم مسابقة الإمام في الركوع والسجود والرفع وغيرها .
وقد اتفقت المذاهب الأربعة على تحريم مسابقة الإمام .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ” أما مسابقة الإمام فحرام باتفاق الأئمة لا يجوز لأحد أن يركع قبل إمامه ولا يرفع قبله ولا يسجد قبله “ .
لحديث الباب ( فيه وعيد شديد ) .
ولحديث أنس - رضي الله عنه - قال ( صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فلما قضى الصلاة أقبل علينا بوجهه فقال : أيها الناس إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف فإني أراكم أمامي ومن خلفي ) . رواه مسلم
الذي يسبق إمامه :
أولاً : أن يسبقه بتكبيرة الإحرام بأن يكبر للإحرام قبله .
فهذا لا خلاف أن صلاته لا تنعقد .
ثانياً : أن يسبقه إلى ركن من الأركان كأن يركع قبله أو يسجد قبله عمداً .
فالراجح أن صلاته باطلة .
ثالثاً : أن يسبق إمامه ناسياً أو جاهلاً .
فصلاته صحيحة لكن يجب عليه أن يرجع ليأتي به بعده
حالات المأموم مع إمامه :
الأولى : المسابقة .
وسبق أنها حرام .
الثانية : المتابعة .
وهي أن يشرع الإنسان في أفعال الصلاة بعد إمامه مباشرة .
وهذه هي السنة .
الثالثة : الموافقة :
وهي أن يركع مع إمامه أو يسجد معه .
وهذه مكروهة .
الرابعة : التخلف .
وهو ينقسم إلى قسمين : 1- تخلف بعذر . 2- تخلف بغير عذر .
1- إذا كان بعذر :(2/62)
فإنه يأتي بما تخلف به ويتابع الإمام ، إلا أن يصل الإمام إلى المكان الذي هو فيه فإنه لا يأتي به ويبقى مع الإمام وتصبح له ركعة ملفقة من ركعتي إمامه ( الركعة التي تخلف فيها – الركعة التي وصل إليها الإمام وهو في مكانه ) .
2- التخلف لغير عذر :
القول الراجح أنه إذا تخلف عنه بركن لغير عذر فصلاته باطلة .
قوله ( رأس حمار )
اختلف العلماء في ذلك :
فقيل : قد يقع على الحقيقة .
وقيل : يحتمل أمر معنوي كالبلادة ورجحه ابن دقيق العيد وقال : ومما يرجح هذا المجاز أن التحويل بالصورة لم يقع مع كثرة رفع المأمومين قبل الإمام .
انتهى الدرس التاسع والأربعون
12/7/1425هـ
77 – عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : (( إنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ . فَلا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ . فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا , وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا . وَإِذَا قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ , فَقُولُوا : رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ . وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا . وَإِذَا صَلَّى جَالِساً فَصَلُّوا جُلُوساً أَجْمَعُونَ )) .
78 - وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (( صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاكٍ , صَلَّى جَالِساً وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَاماً , فَأَشَارَ إلَيْهِمْ : أَنْ اجْلِسُوا لَمَّا انْصَرَفَ قَالَ إنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ , فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا , وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا , وَإِذَا قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا : رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ , وَإِذَا صَلَّى جَالِساً فَصَلُّوا جُلُوساً أَجْمَعُونَ )) .
---------------------------------------
معاني الكلمات :
إنما جعل الإمام : أي شرع الله الإمام .
ليؤتم به : أي ليقتدى به .
شاك : أي مريض .(2/63)
الفوائد :
بيان الحكمة من جعل الإمام وهي الإقتداء به ومتابعته .
تحريم الاختلاف على الإمام ، وذلك بواحدة من أمور ثلاثة : مسابقته ، أو موافقته ، أو التأخر عنه .
وجوب متابعة الإمام ، وذلك بأن تقع أعمال المأموم بعد أعمال الإمام مباشرة .
اختلف العلماء في اقتداء المفترض بالمتنفل على قولين :
القول الأول : لا يجوز ولا يصح .
وهذا مذهب الحنفية والمالكية ، والحنابلة .
لقوله ( . . . فلا تختلفوا عليه . . . ) .
وجه الاستدلال : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الاختلاف على الإمام ، وكون المأموم مفترض والإمام متنفل فهذا اختلاف بينهما فلا يجوز .
القول الثاني : يجوز .
وهذا مذهب الشافعي واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية .
لحديث جابر ( أن معاذاً كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء الآخرة ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة ) .متفق عليه
جاء في رواية ( هي لك تطوع ولهم فريضة ) .
وعن عمرو بن سلمة ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبيه وليؤمكم أكثركم قرآناً قال : فنظروا فلم يكن أحداً أكثر قرآناً منّي ، فقدموني وأنا ابن ست أو سبع سنين ) . رواه البخاري
وجه الاستدلال : من المعلوم أن الصبي غير المكلف تكون صلاته نفلاً فدل على جواز اقتداء المفترض بالمتنفل .
وهذا القول الراجح .
مثال : رجل يريد أن يصلي سنة الضحى فجاء آخر وقال أريد أن اصلي معك الفجر ، فإن ذلك يصح .
وكذلك لو شخص لم يصل العشاء ، فجاء ووجدهم يصلون التراويح فإنه يجوز أن يدخل معهم بنية العشاء .
وأن الجواب عن قوله ( . . . فلا تختلفوا عليه . . . ) :
أي لا تختلفوا عليه في الأفعال لا في النية .
أما اقتداء المتنفل بالمفترض فإنه يجوز .(2/64)
لحديث يزيد بن الأسود : ( أنه صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح ، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا هو برجلين لم يصليا ، فدعا بهما ، فجيء بهما ترعد فرائصهما ، فقال لهما : ما منعكما أن تصليا معنا ؟ قالا : قد صلينا في رحالنا ، قال : فلا تفعلا ، إذا صليتما في رحالكم ، ثم أدركتم الإمام ولم يصلّ ، فصليا معه ، فإنها لكم نافلة ) . رواه أحمد
ولحديث أبي سعيد : ( أن رسول الله رأى رجلاً يصلى وحده ، فقال : ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه ) .رواه أبو داود
أن الصلاة خلف العاجز عن القيام صحيحة بناء على القاعدة : من صحت صلاته صحت إمامته .
لكن اختلف العلماء كيف تكون صلاة المأمومين :
فقيل : يصلون قعوداً .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً ) .
وقيل : يصلون قياماً .
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في مرض موته قاعداً وصلى أبو بكر والناس خلفه قياماً .
وقيل : إذا ابتدأ الإمام الصلاة قاعداً وجب على المأمومين أن يصلوا قعوداً .
لحديث ( وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً ) .
وإذا ابتدأ بهم الصلاة قائماً ثم اعتل في اثنائها فجلس اتموا خلفه قياماً .
عملاً بحديث صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبي بكر والناس وذلك حين مرِض مرَض الموت .
وهذا القول هو الصحيح جمعاً بين الأدلة .
انتهى الدرس الخمسون
16/7/1425هـ
79 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخِطْمِيِّ الأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ : حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ - وَهُوَ غَيْرُ كَذُوبٍ - قَالَ :
(( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ : لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ حَتَّى يَقَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَاجِدًا , ثُمَّ نَقَعُ سُجُودًا بَعْدَهُ )) .
--------------------------------------
راوي الحديث :(2/65)
هو عبد الله بن يزيد الخطمي الأنصاري من الأوس ، شهد بيعة الرضوان وهو صغير ، وكان كثير الصلاة . - هو البراء بن عازب بن الحارث الأوسي ، شهد غزوة أحد وما بعدها ، وسافر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانية عشر سفراً ، ولم يحضر بدراً لصغر سنه مات عام 72 هـ .
معاني الكلمات :
وهو غير كذوب : قيل : قائل هذا هو أبو إسحاق السبيعي في عبد الله بن يزيد الخطمي . وقيل : هو عبد الله بن يزيد في البراء بن عازب ، ومراده التقوية لا التزكية ، ويظهره قول ابن مسعود حدثنا رسول الله وهو الصادق المصدوق .
لم يحنِ : لم يثنِ .
يقع : يصل إلى الأرض .
الفوائد :
فيه ما كان عليه الصحابة من الإقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمتابعة له في الصلاة .
ومن متابعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم لا ينتقلون من القيام إلى السجود حتى يسجد .
أن المشروع للمأموم أن لا ينتقل من الركن حتى يصل إمامه إلى الذي يليه .
80 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : (( إذَا أَمَّنَ الإِمَامُ فَأَمِّنُوا , فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلائِكَةِ : غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )) .
----------------------------------------
جاء في رواية أخرى للحديث ( . . . إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا لك الحمد . . . ) .
معاني الكلمات :
آمين : أي اللهم استجب .
الفوائد :
يستحب التأمين لكل مصل إماماً كان أو مأموماً .
وهذا مذهب أكثر العلماء .
لحديث الباب ( إذا أمن الإمام فأمنوا . . . ) .
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يسن للإمام أن يؤمِّن .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( . . . وإذا قال ولا الضالين فقولوا آمين . . . ) . فقالوا : هذا دليل على أن التأمين للمأموم فقط .
والراجح الأول .(2/66)
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( . . . وإذا قال ولا الضالين فقولوا آمين . . . ) فهذا الاستدلال فيه نظر ، لأن في الحديث ألفاظ أخرى فينبغي حمل بعض الألفاظ على بعض وما يهمنا ما في حديث الباب : ( إذا أمّن الإمام . . . ) فهذا دليل على أن الإمام يؤمِّن .
أنه يسن الجهر بالتأمين في الصلاة الجهرية .
وهذا مذهب أكثر العلماء .
( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بالتأمين ويمد بها صوته ) رواه أبو داود .
ولحديث الباب ( إذا أمّن الإمام . . . )
فعلق تأميننا بتأمين الإمام ، ولولا أننا نسمعه لم يكن بتعليقه بتأمين الإمام فائدة ، بل لكان حرجاً على الأمة .
وذهب بعض العلماء إلى أنه يسن إخفاء التأمين . قالوا : لأنه دعاء ، والدعاء الأصل فيه الخفاء .
والصحيح الأول وهو الجهر بالتأمين .
متى تقال آمين ؟
أولاً : الإمام .
إذا انتهى من قوله ولا الضالين .
ثانياً : المنفرد .
كذلك إذا انتهى من قوله ولا الضالين .
ثالثاً : المأموم .
قال بعض العلماء : يقول آمين إذا فرغ الإمام من قول آمين .
واستدلوا بظاهر قوله ( إذا أمّن الإمام فأمنوا . . . ) .
لكن هذا القول ضعيف والصحيح : أنه يقول آمين بعد قول الإمام ولا الضالين .
لأنه جاء في الحديث ( . . . إذا قال ولا الضالين فقولوا آمين . . . ) .
ويكون معنى ( إذا أمّن ) أي بلغ ما يؤمن عليه وهو ولا الضالين .
المنفرد إن جهر بالقرآن جهر بالتأمين ، وإن أسر أسرَ بها .
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في صلاة السر كالظهر والعصر لا يجهر بالتأمين .
فضل التأمين وأنها سبب لمغفرة الذنوب .
قوله ( غفر ما تقدم من ذنبه ) ظاهره يشمل الصغائر والكبائر ، لكن أكثر العلماء على أنه لا يشمل إلا الصغائر ، وأما الكبائر فلا تكفرها إلا التوبة .
المراد بالموافقة :
قيل : القول والزمان .(2/67)
ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا قال أحدكم آمين قالت الملائكة في السماء آمين ، فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه ) متفق عليه .
وقيل : في الإخلاص والخشوع .
قال ابن المنير : ” الحكمة في إثبات الموافقة في القول والزمان ، أن يكون المأموم على يقظة للإتيان بالوظيفة في محلها “.
اختلف في المراد بالملائكة :
فقيل : هم الحفظة .
وقيل : غيرهم .
انتهى الدرس الحادي والخمسون
19/7/1425هـ
81 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : (( إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَذَا الْحَاجَةِ , وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ )) .
السقيمُ : المريضُ .
82 - وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ : (( جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : إنِّي لأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاةِ الصُّبْحِ مِنْ أَجْلِ فُلانٍ , مِمَّا يُطِيلُ بِنَا , قَالَ : فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - غَضِبَ فِي مَوْعِظَةٍ قَطُّ أَشَدَّ مِمَّا غَضِبَ يَوْمَئِذٍ , فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ , إنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ , فَأَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيُوجِزْ , فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ )) .
-------------------------------------------
معاني الكلمات :
إذا صلى أحدكم : أي إماماً بالناس .
لنفسه : لوحده .
الفوائد :
وجوب تخفيف الإمام إذا صلى بالناس ، والتطويل حرام .
لقوله ( فليخفف ) وهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب .
ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - غضب غضباً شديداً لما أطال معاذ بأصحابه بالصلاة وقال : أتريد أن تكون فتاناً يا معاذ . أي منفر عن الدين وصاد عنه .(2/68)
( قول بعض العلماء التخفيف سنة قول ضعيف ) .
ينبغي أن يعرف ما هو التخفيف الواجب .
التخفيف هو ما وافق السنة وليس ما وافق أذواق الناس .
أمثلة : إذا قرأ الإمام في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين فليس مطولاً ، لأنه موافق السنة .
وكذلك إذا قرأ في صلاة الصبح من يوم الجمعة ( السجدة ) و ( الإنسان ) فإنه لا يعتبر مطولاً ، لأنه موافق للسنة .
التخفيف ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : تخفيف لازم ( واجب ) .
وهو أن لا يتجاوز الإنسان ما جاءت به السنة .
- ودليله حديث الباب (إذا صلى أحدكم للناس فليخفف ) .
القسم الثاني : تخفيف عارض .
وهو أن يكون هناك سبب يقتضي الإيجاز عما جاءت به السنة ، أي أنه يخفف أكثر مما جاءت به السنة .
عن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيل فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مخافة أن أشق على أمه ) متفق عليه .
أن الإنسان إذا صلى لوحده فإنه لا بأس أن يطول ما شاء لكن بشرط عدم خروج وقت الصلاة .
أنه لا بأس بتطويل الصلاة إذا كان العدد قليل ، وآثروا التطويل لأن الحق لهم .
أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً .
التخفيف أن لا يخل بشيء من أركان الصلاة .
جواز التأخر عن صلاة الجماعة إذا علم من عادة الإمام التطويل الكثير .
الغضب لما ينكر من أمور الدين .
الإنكار على من ارتكب ما ينهى عنه .
أن المأموم إذا اشتكى إمامه لا يعتبر غيبة له فهي مستثناة .
قال الإمام النووي في الأذكار ص423 : ” اعلم أن الغيبة وإن كانت محرمة فإنها تباح في أحوال للمصلحة والمجوز لهذا غرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها ، وهو أحد ستة أسباب :
التظلم : فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية أو له قدرة على إنصافه من ظالمه فيذكر أن فلاناً ظلمني وفعل بي كذا وأخذ لي كذا ونحو ذلك .(2/69)
الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى صوابه : فيقول لمن يرجوا قدرته على إزالة المنكر : فلان يعمل كذا فازجره عنه ونحو ذلك ، ويكون مقصوده التوصل إلى إزالة المنكر فإن لم يقصد ذلك كان حراماً .
الاستفتاء : بأن يقول للمفتي : ظلمني أبي أو أخي أو فلان بكذا فهل له ذلك أم لا ؟ وما طريقتي في الخلاص منه وتحصيل حقي ودفع الظلم عني ، ونحو ذلك .
تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم : وذلك من وجوه منها :
جرح المجروحين من الرواة للحديث والشهود وذلك جائز بإجماع المسلمين بل واجب للحاجة .
ومنها إذا استشارك إنسان في مصاهرته أو مشاركته أو إيداعه ما تعلمه منه على جهة النصيحة فإن حصل الغرض بمجرد قولك لا تصلح لك معاملته أو مصاهرته أو لا تفعل هذا أو نحو ذلك لم تجزئه الزيادة بذكر المساوئ وإن لم يحصل الغرض إلا بالتصريح بعينه فاذكره بصريحه .
أن يكون مجاهراً بفسقه أو يدعته : كالمجاهر بشرب الخمر أو مصادرة الناس وأخذ المكس وجباية الأموال ظلماً وتولي الأمور الباطلة فيجوز ذكره بما يجاهر به ويحرم ذكره بغيره من العيوب إلا أن يكون لجوازه سبب آخر مما ذكرناه .
التعريف : فإذا كان الإنسان معروفاً بلقب كالأعمش والأعرج والأصم والأعمى والأحول والأفطس وغيرهم جاز تعريفه بذلك بنية التعريف ويحرم إطلاقه على جهة النقص ، ولو أمكن التعريف بغيره كان أولى .
فهذه ستة أسباب ذكرها العلماء مما تباح بها الغيبة على ما ذكرناه “ . آ هـ
انتهى الدرس الثاني والخمسون
22/7/1425هـ
بابُ صفةِ صلاةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -(2/70)
83 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا كَبَّرَ فِي الصَّلاةِ سَكَتَ هُنَيْهَةً قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ , فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي , أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ : مَا تَقُولُ ؟ قَالَ : أَقُولُ : اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ . اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ . اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ )) .
---------------------------------------------
معاني الكلمات :
كبر للصلاة : المقصود تكبيرة الإحرام .
سكت : المقصود بها عدم الجهر ، وإلا فلم يكن يسكت بمعنى لا يتكلم البتة ، وإنما كان يقرأ هذا الدعاء سراً ، ولذلك سأله أبو هريرة ما تقول ، فعرف أنه يقول ولكنه يسر .
هنيهة : أي قليلاً .
الفوائد :
أن المصلي يبدأ صلاته بتكبيرة الإحرام لقوله ( إذا كبر . . . ) .
هي ركن من أركان الصلاة ولا تصح الصلاة بدونها .
قال - صلى الله عليه وسلم - للمسيء صلاته ( . . . إذا قمت إلى الصلاة فكبر ) متفق عليه .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( مفتاح الصلاة الطهور ، وتحريمها التكبير . . . ) رواه أبو داود .
لابد من قول ( الله أكبر ) فلا يجزئ غيرها ( مثل الله الأعظم ) .
وهذا مذهب أكثر العلماء ، لأن ألفاظ الذكر توقيفية ، فيتوقف فيها على ما ورد به النص .
مشروعية دعاء الاستفتاح .
قال في المغني : ” وهو من سنن الصلاة في قول أكثر أهل العلم “ .
أن دعاء الاستفتاح يقال سراً .
قال في المغني : ” وعليه عامة أهل العلم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجهر به “ .
أن دعاء الاستفتاح يكون بعد تكبيرة الإحرام وقبل القراءة .(2/71)
أنه يكون في صلاة الفرض والنفل .
أنه فقط في الركعة الأولى ، ولذلك تختلف الركعة الأولى عن الثانية بأمور :
أولاً : الاستفتاح في الركعة الأولى .
ثانياً : تكبيرة الإحرام في الركعة الأولى .
ثالثاً : التعوذ في الركعة الأولى .
رابعاً : القراءة في الركعة الأولى أطول من الركعة الثانية .
ورد عدة أدعية للاستفتاح منها :
حديث الباب ( اللهم باعد بين خطاياي . . . ) .
( سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك أسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ) . رواه أبو داود
( الله أكبر كبيراً ، والحمد لله كثيراً ، وسبحان الله بكرة وأصيلاً ) ، قال - صلى الله عليه وسلم - : ( عجبت لها فتحت لها أبواب السماء ) رواه مسلم .
( الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ) ، قال - صلى الله عليه وسلم - : ( لقد رأيت اثني عشر ملكاً يبتدرونها أيهم يرفعها ) رواه مسلم .
وهناك أدعية غيرها .
والأفضل في العبادة إذا وردت على وجوه متنوعة أن يقول هذه مرة ، وهذه مرة ، لعدة أمور :
اتباعاً للسنة .
إحياء للسنة .
أحضر للقلب .
حفظاً للشريعة .
لا يشرع أن يجمع بين أكثر من دعاء من أدعية الاستفتاح في صلاة واحدة .
يشرع للإمام أن يسكت سكتة خفيفة بعد تكبيرة الإحرام حتى يتمكن المأموم من دعاء الاستفتاح .
قال بعض العلماء : السكتات المشروعة ثلاثة :
بعد تكبيرة الإحرام وقبل القراءة .
بعد الفاتحة ليتمكن المأموم من قراءة الفاتحة .
بعد القراءة وقيل الركوع ، سكتة يسيرة يرد إليه نفسه .
وذهب بعض العلماء : إلى أن السكتات المشروعة سكتتان :
بعد تكبيرة الإحرام وقبل القراءة .
بعد القراءة ، وقيل الركوع .
وأما السكتة من أجل أن يقرأ المأموم الفاتحة فليست مشروعة .
انتهى الدرس الثالث والخمسون
26/7/1425هـ(2/72)
84 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَفْتِحُ الصَّلاةَ بِالتَّكْبِيرِ , وَالْقِرَاءَةَ بـ " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " وَكَانَ إذَا رَكَعَ لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ وَلَمْ يُصَوِّبْهُ وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ , وَكَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِماً , وَكَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ لَمْ يَسْجُدْ , حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِداً , وَكَانَ يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ , وَكَانَ يَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى , وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ ، وَيَنْهَى أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ , وَكَانَ يَخْتِمُ الصَّلاةَ بِالتَّسْلِيمِ)) .
-------------------------------------------
معاني الكلمات :
يشخص رأسه : لم يرفعه .
لم يصوبه : لم ينكسه .
الفوائد :
وجوب تكبيرة الإحرام وأنها ركن لا تصح الصلاة بدونها .
أن السنة استفتاح القراءة بالحمد لله رب العالمين .
يبنى على ذلك الإسرار بالبسملة ، وأن الأفضل والمستحب الإسرار بها .
قال الترمذي : ” وعلية العمل عند أكثر أهل العلم “ .
لحديث أنس ( أن النبي وأبا بكر وعمر كانوا يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين ) متفق عليه .
ولمسلم ( صليت خلف النبي وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين ولا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم ) .
وفي رواية لابن خزيمة ( كانوا يسرون بها ) .
ولحديث الباب .
( وذهب بعض العلماء إلى أن السنة هو الجهر بها ) . [ وسيأتي بحث المسألة إن شاء الله ].
أن السنة في الركوع أن يكون مستوياً بلا رفع ولا خفض(2/73)
لحديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال ( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ركع وسط ظهره وسواه حتى لو صبَّ الماء عليه لاستقر ) . رواه ابن ماجه
وقال - صلى الله عليه وسلم - للمسيء في صلاته ( . . . فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك وامدد ظهرك ) رواه أبو داود .
وجوب الطمأنينة وأنها ركن من أركان الصلاة .
ويدل لذلك حديث المسيء في صلاته . [ وسيأتي مباحثه ]
وجوب الجلوس بعد كل ركعتين ، فإن كانت الصلاة ركعتين أتم التشهد وسلم ، وإن كانت أكثر من ذلك قام بعد التشهد الأول فأتى بما بقي من صلاته وسلم .
أن السنة في الجلوس في الصلاة هو الافتراش
وهو افتراش القدم اليسرى ونصب اليمنى حال الجلوس .
وقد اختلف العلماء في كيفية جلوس المصلي حال التشهد هل هو الافتراش أم التورك ؟
فقيل : الافتراش في التشهدين .
وقيل : التورك في التشهدين .
والراجح التفريق بين التشهدين ، ففي التشهد الأول يجلس مفترشاً ، وفي التشهد الثاني متوركاً .
وهذا مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق .
أما في التشهد الأول فالأصل أن الجلوس في الصلاة هو الافتراش كما في حديث الباب .
وأما في التشهد الثاني فإنه يجلس متوركاً .
لحديث أبي حميْد قال ( رأيت النبي إذا كبر جعل يديه حذو منكبيه . . . وإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى وقعد على مقعدته ) رواه البخاري .
وهذا القول هو الراجح .
وأما إذا كان الصلاة ليس فيها إلا تشهد واحد فإنه يجلس مفترشاً للأصل .
النهي أن يجلس المصلي عقبة الشيطان .
وهي أن يجلس الإنسان بين السجدتين على عقبيه .
وهذا تفسير أهل الحديث ، ويسمى إقعاء .
فقد جاء في صحيح مسلم ( عن طاووس أنه سأل ابن عباس عن الإقعاء في الصلاة فقال : هي السنة ) .
والجمع بين حديث عائشة وحديث ابن عباس :
أن يقال أن الغالب من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الافتراش ، لكنه قد يفعل أحياناً أن ينصب القدمين ويقعد فوق العقبين .(2/74)
أو لعل حديث ابن عباس من السنة المنسوخة .
النهي أن يفترش المصلي ذراعيه ويدل على النهي .
حديث أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب ).
الحكمة من النهي :
قال النووي : ” والحكمة في هذا أنه أشبه بالتواضع وأبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض ، وأبعد من هيئة الكسالى ، فإن المتبسط كشبه الكلب يُشعر حاله بالتهاون بالصلاة وقلة الاعتناء بها والإقبال عليها “ .
أن ختم الصلاة يكون بالتسليم .
وقد اختلف العلماء في حكم التسليم :
فقيل : سنة ليس بواجب .
وقيل : الأولى واجبة ، والثانية سنة ، وهذا قول الجمهور .
قال الشيخ محمد بن عثيمين : ” والصحيح أن كلتا التسليمتين ركن من أركان الصلاة “ .
لقول عائشة رضي الله عنها : ( وكان يختم بالتسليم ) .
ولمواظبة النبي عليها .
صيغ التسليم :
السلام عليكم ورحمة الله - السلام عليكم ورحمة الله
وهذا أكثر ما ورد .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته - السلام عليكم ورحمة الله .
زيادة ( بركاته ) عند أبي داود .
السلام عليكم - السلام عليكم
الحكمة من المغايرة بين التشهدين :
إزالة الشك واللبس الذي قد يحدث للمصلي .
أن التشهد الأول قصير يسن عدم تطويله بخلاف التشهد الأخير .
انتهى الدرس الرابع والخمسون
29/7/1425هـ
85 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما : (( أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إذَا افْتَتَحَ الصَّلاةَ , وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ , وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ , وَقَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ , رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ . وَكَانَ لا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ )) .
--------------------------------------
يستحب رفع اليدين في هذه المواضع المذكورة في الحديث ، وهي :(2/75)
عند تكبيرة الإحرام ، وعند الركوع ، وعند الرفع من الركوع .
وهناك موضع رابع يستحب رفع اليدين فيه ، وهو :
القيام من التشهد الأول .
لحديث ابن عمر - رضي الله عنه - ( أنه كان إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه وإذا ركع . . . وإذا قام من الركعتين رفع يديه ، ورفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ) رواه البخاري .
ترفع اليدين :
إلى حذو المنكبين .
كما في حديث الباب ( كان يرفع يديه إلى حذو منكبيه ) .
إلى فروع أذنيه .
لحديث مالك بن الحويرث ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كبر رفع يديه حتى يحاذي بهما فروع أذنيه . . . )رواه مسلم
والأفضل أن يفعل هذه مرة وهذه مرة ، لأنهما من العبادات المنوعة .
وقت الرفع :
يرفع مع التكبير .
لحديث ابن عمر ولقصة ( فرفع يديه حين يكبر ) .
وعند أبي داود ( رفع يديه مع التكبير ) .
يرفع يديه ثم يكبر .
وهذا ما رواه مسلم عن ابن عمر ولفظه : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الصلاة رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه ثم كبر ) .
يكبر ثم يرفع يديه .
ويدل عليه ما رواه أبو قلابة : ( أنه رأى مالك بن الحويرث إذا صلى كبر ثم رفع يديه وحدث أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك ) . رواه مسلم
الحكمة من رفع اليدين :
قيل : تهني الإشارة إلى طرح الدنيا والإقبال بكليته على العبادة .
وقيل : إلى الاستسلام والانقياد ليناسب مقاله قوله الله أكبر .
وقيل : إلى استعظام ما دخل فيه .
وقيل : إشارة إلى تمام القيام .
وقيل : إلى رفع الحجاب بين العبد والمعبود .
وقيل : ليستقبل بجميع بدنه ، قال القرطبي : ” وهذا أنسبها “ .
أنه لا يسن رفع اليدين حال السجود .
لقوله ( ولا يفعل ذلك في السجود ) .
اختلف العلماء في موضع اليدين :
ذهب جمهور العلماء إلى أنه يضع يده اليمنى على اليسرى في الصلاة .(2/76)
لحديث وائل بن حجر (أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه حين دخل في الصلاة . . . ثم وضع يده اليمنى على يده اليسرى)
ولحديث هلب الطائي قال ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه ) رواه الترمذي .
وعن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنا معاشر الأنبياء امرنا بتعجيل فطرنا وتأخير سحورنا وأن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة ) رواه ابن حبان .
وذهب بعض العلماء إلى السنة هو الإرسال لكنه قول ضعيف .
واختلف الجمهور الذين يقولون بوضع اليمنى على الشمال أين يضعهما ؟
القول الأول : يضعهما تحت سرته .
وهذا المذهب .
لحديث علي - رضي الله عنه - قال ( من السنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة ) رواه أبو داود وهو ضعيف .
القول الثاني : يضعهما على صدره .
لحديث وائل بن حجر قال ( صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره ) رواه ابن خزيمة .
وهذا القول هو الراجح .
فائدة : قال ابن حجر : ” الحكمة في هذه الهيئة أنه صفة السائل الذليل ، وأمنع من العبث وأقرب إلى الخشوع “ .
86 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : (( أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ : عَلَى الْجَبْهَةِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى أَنْفِهِ - وَالْيَدَيْنِ , وَالرُّكْبَتَيْنِ , وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ )) .
87 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : (( كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي شِدَّةِ الْحَرِّ . فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنَ الأَرْضِ : بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :(2/77)
أُمرت : هذا أمر من الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو أمر لأمته ولهذا جاء في رواية ( أمرنا أن نسجد . . . ) .
اليدين : المقصود الكفان لأمرين :
أولاً : جاء في رواية عند مسلم ( إذا سجد العبد سجد معه سبعة أطراف : وجهه وكفاه وركبتاه وقدماه ) .
ثانياً : أن اليد إذا أُطلقت فالمراد بها الكف ، والدليل على ذلك قوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ... } .
ثالثاً : أنه منهي افتراش الذراع حال السجود .
الفوائد :
يجب السجود على الأعضاء السبعة وأنه لابد من السجود عليها جميعاً فلا يجزئ السجود على بعضها .
وهذا مذهب الحنابلة .
لحديث الباب .
وذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز السجود على الجبهة دون الأنف .
وهذا مذهب الشافعي وجماعة من العلماء ، واستدلوا :
أن هذا هو السجود اللغوي ( السجود في اللغة هو وضع الجبهة على الأرض ) .
وجاء في حديث ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسجد على أعلى الجبهة ) وهو حديث ضعيف .
والراجح أنه لابد من السجود على الجبهة والأنف جميعاً .
لحديث الباب ( . . . على الجبهة وأشار بيده على أنفه ) .
يجوز السجود على حايل متصل بالمصلي إذا كان لحاجة .
والسجود على حايل ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : أن يسجد على حايل منفصل .
كأن يسجد على فرشة أو سجادة فهذا جائز ولا بأس .
لحديث عائشة قالت ( قال لي رسول الله ناوليني الخُمرة من المسجد . . . ) رواه مسلم .
الخُمرة : هي السجادة وسميت خُمرة لأنها تخمر الوجه أي تغطيه [ قاله النووي ]
القسم الثاني : أن يسجد على حايل متصل به ، كأن يسجد على شماغه أو ثوبه .
فهذا مكروه إلا لحاجة .
لحديث الباب حديث أنس ( كنا نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في شدة الحر . . . ) .
فقوله ( فإذا لم يستطع أحدنا ) دليل على أنهم لا يفعلون ذلك مع الاستطاعة .
من السنة الإبراد في شدة الحر في صلاة الظهر لما سيأتي في حديث ( ابردوا بالظهر . . . ) .(2/78)
فما الجواب عن حديث الباب :
الجواب : أنهم طلبوا تأخيراً زائداً عن الوقت أكثر من وقت الإبراد الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - .
اختلف العلماء أيهم يقدم حال السجود ، اليدين أو الركبتين ؟ على قولين :
القول الأول : يقدم ركبتيه قبل يديه
ونسبه الترمذي لأكثر أهل العلم ورجحه ابن القيم
لحديث وائل بن حجر قال ( رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه ) رواه أبو داود .
ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير ) رواه أبو داود .
( البعير إذا برك يقدم يديه ).
ولأن الوضع الطبيعي للبدن أن ينزل شيئاً فشيئاً . [ قاله الشيخ ابن عثيمين ]
القول الثاني : يقدم يديه قبل ركبتيه .
وهذا مذهب مالك .
لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه ) . رواه أبو داود [ مختلف في صحته ]
والراجح الأول واختاره الشيخ ابن عثيمين رحمه الله .
فائدة : قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ” أن العلماء اتفقوا على أن من قدم يديه قبل ركبتيه أو ركبتيه قبل يديه فصلاته صحيحة وإنما اختلفوا في الأفضل “.
انتهى الدرس السادس والخمسون
18/ 8 / 1425هـ(2/79)
87 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَامَ إلَى الصَّلاةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ , ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ , ثُمَّ يَقُولُ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ , حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ , ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ : رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ , ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي , ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ , ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ , ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَع رَأْسَهُ , ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي صَلاتِهِ كُلِّهَا , حَتَّى يَقْضِيَهَا , وَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنْ الثِّنْتَيْنِ بَعْدَ الْجُلُوسِ )) .
88 - عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : (( صَلَّيْتُ أَنَا وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ . فَكَانَ إذَا سَجَدَ كَبَّرَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ كَبَّرَ , وَإِذَا نَهَضَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ , فَلَمَّا قَضَى الصَّلاةَ أَخَذَ بِيَدِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ , وَقَالَ : قَدْ ذَكَّرَنِي هَذَا صَلاةَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - - أَوْ قَالَ : صَلَّى بِنَا صَلاةَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - )) .
----------------------------------------------
معاني الكلمات :
يكبر حين يقوم : يقول الله أكبر وقت قيامه للصلاة وهي تكبيرة الإحرام .
سمع الله : استجاب .
لمن حمده : لمن وصفه بصفات الكمال حباً وتعظيماً .
الفوائد :
وجوب تكبيرة الإحرام وأنها ركن لا تنعقد الصلاة بدونها .
أنه يجب أن يأتي بتكبيرة الإحرام عن قيام ، فلو كبر وهو جالس لم تصح إن كان في صلاة فريضة .
الحديث يدل على مشروعية تكبيرات الانتقال بين الأركان .
وقد اختلف العلماء في حكم تكبيرات الانتقال على قولين :
القول الأول : أنها مستحبة .(2/80)
وهذا مذهب جمهور العلماء . واستدلوا : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكرها للمسيء في صلاته .
القول الثاني : أنها واجبة .
وهذا مذهب أحمد وفقهاء الحديث
لمواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قال : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) .
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وإذا كبر فكبروا ) .
أنها شعار الانتقال من ركن إلى ركن .
وهذا القول هو الصحيح .
فائدة : تكبيرات الانتقال واجبة كما سبق على القول الراجح ، لكن يستثنى :
تكبيرة الإحرام فهي ركن إجماعاً .
التكبيرات الزوائد في صلاة العيد والاستسقاء فإنها سنة .
تكبيرات الجنازة فهي أركان .
تكبيرة الركوع لمن دخل والإمام راكعاً فإنها سنة .
فائدة : أن تكبيرات الانتقال تكون ما بين الركنين لايبدأ بها قبل ولا يؤخرها إلى ما بعد .
لا يشترط استيعاب ما بين الركنين لأن في ذلك مشقة ، فالمشترط أن يكون هذا الذكر بين الركنين .
أن الإمام يجمع بين التسميع ( سمع الله لمن حمده ) والتحميد ( ربنا ولك الحمد ) .
وكذلك المنفرد .
واختلف العلماء في المأموم وسبقت المسألة أن الراجح أن المأموم يقتصر على التحميد ( ربنا ولك الحمد ) .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - ( إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد ) .
اختلف العلماء هل يجب على الإمام أن يُسمع من خلفه بالتكبير ؟
قيل : يستحب .
وقيل : يجب ، وهذا القول هو الصحيح .
لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ولأنه لا يتم اقتداء المأمومين بالإمام إلا بسماع التكبير ، ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب .(2/81)
89 - عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ : (( رَمَقْتُ الصَّلاةَ مَعَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فَوَجَدْتُ قِيَامَهُ , فَرَكْعَتَهُ فَاعْتِدَالَهُ بَعْدَ رُكُوعِهِ , فَسَجْدَتَهُ , فَجِلْسَتَهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ , فَسَجْدَتَهُ فَجِلْسَتَهُ مَا بَيْنَ التَّسْلِيمِ وَالانْصِرَافِ : قَرِيباً مِنْ السَّوَاءِ )). وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ (( مَا خَلا الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ قَرِيباً مِنْ السَّوَاءِ )) .
------------------------------------------------
معاني الكلمات :
رمقت : الرمق النظر إلى الشيء مع الاستدامة .
الفوائد :
حرص البراء على السنة .
يصف البراء بن عازب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبر أن قيامه وركوعه واعتداله بعد ركوعه وكذلك سجوده وجلوسه للتشهد كلها متقاربة .
فاختلف العلماء في المراد بالحديث :
فقال بعضهم : أنه محمول على بعض الأحوال
ورجحه النووي وقال : ” اعلم أن هذا الحديث محمول على بعض الأحوال وإلا فقد ثبتت الأحاديث بتطويل القيام وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الصبح بالسبعين إلى المائة ، وفي الظهر بألم تنزيل السجدة وأنه كانت تقام الصلاة فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يرجع فيتوضأ ثم يأتي المسجد فيدرك الركعة الأولى...“ .
القول الثاني : أن المراد أنها متناسبة متقاربة فيكون طول الركوع والسجود مناسباً لطول القيام .
وهذا ما رجحه ابن القيم في زاد المعاد وهو الصحيح .
أنه إذا أطال القيام أطال الركوع والسجود ، وإذا خفف القيام خفف الركوع والسجود .
أن المشروع تقارب الركوع والقيام بعده والسجود والجلوس بين السجدتين في الطول والقصر .
المستحب أن تكون الصلاة في جملتها متناسبة .
انتهى الدرس السابع والخمسون
21/ 8 / 1425هـ(2/82)
90 - عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ : (( إنِّي لا آلُو أَنْ أُصَلِّيَ بِكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي بِنَا قَالَ ثَابِتٌ فَكَانَ أَنَسٌ يَصْنَعُ شَيْئاً لا أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَهُ . كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ : انْتَصَبَ قَائِماً حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ : قَدْ نَسِيَ , وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ : مَكَثَ , حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ : قَدْ نَسِيَ )) .
----------------------------------------------
معاني الكلمات :
لا آلو : أي أقصر .
انتصب : وقف .
مكث : بقي جالساً .
الفوائد :
المشروع إطالة ركن الرفع من الركوع وأنه يكون بقدر الركوع ، وكذلك ركن الجلوس بين السجدتين
أن السرعة في هذين الركنين خلاف المشروع ، فكثير من المصلين لا يطمئنون في هذين الركنين .
قال ابن القيم : ” إن تقصير هذين الركنين مما تصرف فيه أمراء بني أمية في الصلاة وأحدثوه فيه كما أحدثوا فيها ترك اتمام التكبير وكما أحدثوا التأخير الشديد كما أحدثوا غير ذلك مما يخالف هديه - صلى الله عليه وسلم - ورُبيَ في ذلك من ربيّ حتى ظن أنه من السنة “ .
وقال رحمه الله عن إطالة ركن الجلوس بين السجدتين قال : ” وكان هديه - صلى الله عليه وسلم - إطالة هذا الركن بقدر السجود وهكذا الثابت عنه في جميع الأحاديث ، وفي الصحيح كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقعد بين السجدتين حتى تقول قد وهم ، وهذه السنة تركها أكثر الناس من بعد انقراض عصر الصحابة ، ولهذا قال ثابت : وكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه يمكث بين السجدتين حتى نقول قد نسي أو قد وهم ، وأما من حكّم السنة ولم يلتفت إلى أنه خالفها فإنه لا يعبأ بما خالف هذا الهدي “ .(2/83)
إنما قدم أنس هذا القول على روايته لما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ، ليدل السامعين على التحفظ والاهتمام به ولتحقق المراقبة لاتباع أفعاله .
فضل إحياء السنن إذا أميتت ، والإنكار على مخالفة السنة .
فيه البيان بالفعل ، والتنبيه عليه بالقول .
91 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ : (( مَا صَلَّيْتُ خَلْفَ إمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَلاةً . وَلا أَتَمَّ صّلاةً مِنَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - )) .
----------------------------------------
معاني الكلمات :
وراء : خلف .
إمام : سمي الإمام إماماً لأن الناس يأتمون به .
الفوائد :
مشروعية التخفيف بالمصلين .
هذا التخفيف لابد أن يكون مع الإتمام فالتخفيف كما سبق في حديث سابق ( هو موافقة السنة ) وليس هو ما وافق العوام .
ينبغى على الإمام أن يجمع في صلاته بالناس :
أولاً : التخفيف الذي به راحة المصلين .
ثانياً : الإتمام الذي به كمال الصلاة .
ينبغي على الإمام أن يجعل صلاته على التمام لأنه يتصرف لغيره ، والواجب على من تصرف لغيره أن يفعل ما هو أحسن .
إذا حصل عارض يقتضي التخفيف الزائد عن السنة فإنه حينئذ يخفف لأن هذا من السنة .
عن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إني لأدخل في الصلاة فأسمع بكاء الصبي فأخفف مخافة أن أشق على أمه).
أن الصفة المذكورة في الحديث من صلاته - صلى الله عليه وسلم - ، تختص بحال الإمامة ، وأما حال الإنفراد فإنه يطول .(2/84)
92 - عَنْ أَبِي قِلابَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْجَرْمِيِّ الْبَصْرِيِّ قَالَ : (( جَاءَنَا مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ فِي مَسْجِدِنَا هَذَا , فَقَالَ : إنِّي لأُصَلِّي بِكُمْ , وَمَا أُرِيدُ الصَّلاةَ , أُصَلِّي كَيْفَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي , فَقُلْتُ لأَبِي قِلابَةَ : كَيْفَ كَانَ يُصَلِّي ؟ فَقَالَ : مِثْلَ صَلاةِ شَيْخِنَا هَذَا , وَكَانَ يَجْلِسُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ قَبْلَ أَنْ يَنْهَضَ )) . أَرادَ بشيخِهمْ ، أَبا يزيدَ ، عَمرَو بنَ سَلَمَة الجَرْميَّ .
-----------------------------------------
راوي الحديث :
أبو قلابة : عبد الله بن زيد بن عمرو الجرمي البصري ثقة فاضل صالح من التابعين توفي في الشام هارباً من القضاء سنة 104هـ .
مالك بن الحويرث : الليثي قدم مع نفر من قومه على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو متجهز لتبوك وكانوا شببة متقاربون فأقاموا عنده عشرين ليلة قال : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحيماً رفيقاً حتى رأى أنّا قد اشتقنا إلى أهلنا وسألنا عمن تركنا في أهلنا فأخبرناه قال : ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم وصلوا كما رأيتموني أصلي ، سكن البصرة مات سنة 94هـ .
معاني الكلمات :
ما أريد الصلاة : ما أقصد الصلاة لولا أني أريد تعليمكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك لأنه ليس في وقت صلاة .
مثل صلاة شيخنا هذا : هو عمرو بن سلمة الجرمي وهو الذي كان يؤم قومه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - .
الفوائد :
هذا الحديث يتكلم عن مسألة جلسة الاستراحة وهي جلسة خفيفة يسيرة بعد الركعة الأولى وبعد الركعة الثالثة قبل أن ينهض إلى الثانية وإلى الرابعة .
وقد اختلف العلماء في حكمها على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنها غير مستحبة .
وهذا مذهب جمهور العلماء .(2/85)
قال النووي في المجموع : ” وقال كثيرون لا تستحب بل إذا رفع رأسه من السجود نهض “ .
أدلته :
أنها لم تذكر في أكثر الأحاديث .
أنه ليس لها ذكر خاص .
يحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلها لعلة كانت به ، لأن مالك بن الحويرث قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر حياته .
القول الثاني : أنها مستحبة .
وهذا مذهب الشافعي واختار هذا القول الشيخ ابن باز والشيخ الألباني .
أدلته :
لحديث الباب ، ومن المعلوم أن مالك بن الحويرث هو راوي حديث ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) .
فهذا يدل على استحبابها .
وأما الجواب عن أدلتة أصحاب القول الثاني :
قوله : لم تذكر في أكثر الأحاديث .
أنها وردت في بعض الأحاديث ، ولو لم ترد لم يدل هذا على عدم مشروعيتها .
وأما قولهم : لعلة كانت به :
الأصل عدم العلة ، وبأن مالك بن الحويرث هو راوي حديث ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) .
القول الثالث : أنها تفعل عند الحاجة .
ورجح هذا القول صاحب المغني ، وابن القيم ، والشيخ ابن عثيمين .
جمعاً بين الأحاديث .
والراجح القول الثاني أنها مستحبة .
جواز التعلم بالفعل ، ليكون أنقى في ذهن المتعلم .
جواز فعل العبادة لأجل التعلم .
93 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ بْنِ بُحَيْنَةَ - رضي الله عنه - : (( أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا صَلَّى فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ , حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إبْطَيْهِ )) .
-----------------------------------------
راوي الحديث :
هو عبد الله بن مالك الأزدي ، وبحينة اسم أمه ، أسلم قديماً وكان ناسكاً فاضلاً ، مات سنة 56 هـ .
معاني الكلمات :
إذا صلى : أي إذا سجد .
فرج بين يديه : أي باعد بين عضديه . والمراد فرج بينهما وبين جنبيه بدليل ما بعد .
الفوائد :
أن المشروع في السجود أن يباعد عضديه عن جنبيه .
هدي الرسول في السجود :
أولاً : أن يضع كفيه على الأرض مبسوطتين . مضمومتين الأصابع .(2/86)
لحديث وائل بن حجر ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد ضم أصابعه ) رواه الحاكم .
ولحديث أبي حميد في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( . . . وكان إذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما واستقبل بأطراف أصابعه القبلة ) رواه أبو داود .
ثانياً : عدم افتراش الذراعين حال السجود .
لحديث أنس وسيأتي ( اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب ) .
ثالثاً : أن يجافي عضديه عن جنبيه .
لحديث الباب .
الحكمة من هذه الصفة في السجود لأن ذلك عنوان النشاط في الصلاة ، والرغبة في العبادة ، وأبعد عن هيئة الكسلان .
يستثنى من ذلك ما إذا كان في جماعة وخشي أن يؤذي من بجانبه ، فإنه لا يستحب له أن يفعل هذه الصفة لأن في ذلك إيذاء للجار .
اختلف العلماء هل المرأة كالرجل في هذا الصفة أم لا ؟ على قولين :
القول الأول : أن المرأة ليست كالرجل في هذه الصفة فإنها تضم نفسها حال السجود .
وهذا مذهب الحنابلة
لأن المطلوب منها التجمع والتصون .
القول الثاني : أن المرأة كالرجل في كل شيء .
وهذا قول إبراهيم النخعي
لأنه لم يرد في السنة ما يقتضي استثناء النساء من بعض ذلك وخاصة قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) وهذا خطاب عام للرجال والنساء .
وهذا القول هو الصحيح .
والغالب أن المرأة تصلي لوحدها .
أنه يستحب إظهار كل ما يدعوا إلى الرغبة في العبادة .
94 - عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ : (( سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ : أَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ )) .
---------------------------------------------
راوي الحديث :
أبو مسلمة سعيد بن يزيد بن مسلمة الأزدي البصري ثقة من التابعين .
الفوائد :
في هذا الحديث دليل على استحباب الصلاة بالنعلين .
وهذا مذهب جمهور العلماء ، واستدلوا :
لحديث الباب .(2/87)
ولحديث شدّاد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا في خفافهم )رواه أبو داود
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال ( بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره ، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال : ما حملكم على إلقاء نعالكم ، قالوا : رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن جبريل عليه السلام أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً ) . رواه أبو داود
وهذا يدل أن الصلاة بالنعال سنة مشهورة عند الصحابة ، لأنه لما خلع - صلى الله عليه وسلم - نعليه ، وخلع الصحابة نعالهم سألهم ، فدل هذا على أن الصلاة بالنعال كانت عندهم معروفة وأن العادة يصلون في نعالهم .
لكن ينبغي على من يريد الصلاة في نعليه تطبيقاً للسنة مراعاة ما يلي :
أولاً : تعاهد نعليه عند إرادة الصلاة بها حتى لا يصلي بهما وعليهما نجاسة .
ثانياً : ألا يصلي بهما في المساجد المفروشة لما في ذلك من تلويث فرش المسجد .
ثالثاً : ألا تؤدي صلاته في نعليه إلى مفسدة وفتنة ، كمن يصلي بهما إذا كان بين عامة الناس الذين لا يعرفون ذلك قبل تعليمهم .
95 – عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه - : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلأَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ , فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا , وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
أُمامة : هي بنت العاص بن الربيع ولدت في عهد النبوة وكان النبي يحبها ، تزوجها علي بعد وفاة فاطمة بوصية منها .(2/88)
زينب : هي ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكبرى بناته .
الفوائد :
جواز حمل الصبيان في صلاة الفرض والنفل ، ولا يضر كون النجاسة في الجوف لأنه لا عبرة بها ما دامت في الجوف ، وإنما العبرة بخروجها .
أنكر بعض العلماء ( وهم المالكية ) حمل الصبي في الصلاة وحملوا الحديث على محامل :
أولاً : قالوا إن هذا في النفل دون الفرض .
قال النووي : ” وهذا التأويل فاسد . لأنه جاء في رواية ( وهو يؤم الناس ) وهذا صريح أو كالصريح في أنه كان في الفريضة “ .
ثانياً : قال بعضهم : إن هذا خاص بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا مردود لأن القول بالخصوصية يحتاج إلى دليل .
ثالثاً : قال بعضهم : إنه منسوخ ، وهذا مردود .
قال النووي : ” كل هذه الدعاوى باطلة ومردودة ، فإنه لا دليل عليها ولا ضرورة إليها بل الحديث صحيح صريح في جواز ذلك وليس فيه ما يخالف قواعد الشرع “ .
أن الفعل القليل لا يبطل الصلاة
أن الأفعال إذا تعددت ولم تتوال بل تفرقت لا تبطل الصلاة .
أنواع الحركة في الصلاة :
أولاً : حركة واجبة .
وهي التي تتوقف عليها صحة الصلاة .
مثال : لو أن رجلاً ابتدأ الصلاة لغير القبلة بعد أن اجتهد ثم جاءه شخص وأخبره أن القبلة على يمينه ، فهنا يجب أن يستدير ويتحرك ناحية القبلة .
وكذلك لو ذكر أن في شماغه نجاسة وهو يصلي فإنه يجب عليه أن يخلعه لإزالة النجاسة .
ثانياً : حركة مستحبة .
وهي التي تتوقف عليها كمال الصلاة .
مثال : لو تبين أنه متقدم على جيرانه في الصلاة ، فتأخره هنا سنة .
ثالثاً : الحركة المباحة .
وهي الحركة اليسيرة للحاجة ، أو الكثيرة للضرورة .
مثال : رجل يصلي في الظل فأحس ببرودة فتقدم أو تأخر من أجل الشمس فهذه مباحة .
رابعاً : الحركة المحرمة .
الكثيرة ، لغير ضرورة ، متوالية
فإذا اجتمعت هذه الشروط الثلاثة في الفعل صار محرماً مبطلاً للصلاة .
حسن تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم - .(2/89)
حسن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - .
96 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : (( اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ وَلا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ )).
----------------------------------------
معاني الكلمات :
اعتدلوا في السجود : كونوا فيه على العدل والاستقامة .
ولا يبسط أحدكم : أن يمدها على الآخر .
الفوائد :
يكره للمصلي أن يبسط ذراعيه على الأرض حال السجود .
أن هذا العمل مكروه وهذا مذهب جماهير العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة .
الحكمة من النهي عن هذه الصورة . قال النووي : والحكمة في هذا أنه أشبه بالتواضع وأبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض ، وأبعد من هيئات الكسالى فإن المتبسط كشبيه الكلب ، ويشعر حاله بالتهاون بالصلاة وقلة الاعتناء بها والامتثال عليها .
يستفاد من الحديث كراهة مشابهة الحيوانات خصوصاً في أداء العبادات ، ويدل لذلك :
أولاً : قياس الأولى .
وذلك أنه قد ورد النهي عن التشبه ببعض الآدميين كالأعراب ، والأعاجم في خصائصهم ، لكون ذلك تشبهاً فيما يستلزم النقص ويدعو إليه ، فالتشبه بالبهائم فيما هو من خصائصها أولى أن يكون مذموماً ومنهياً عنه .
ثانياً : القياس على مسألة تشبه الرجال بالنساء ، والعكس .
فإذا كان كل واحد منهما قد نُهي عن التشبه بالآخر فيما يختص به الآخر برغم القدر المشترك الكبير بينهما فكذلك – بل هو من باب أولى – أن يُنهى الإنسان عن التشبه بالبهائم .
ثالثاً : أنه قد ورد ذم أهل الجفاء كالكلابين ، والجمالين ، وذلك لما اكتسبوه من صفات مذمومة لهذه الحيوانات ، وهذا يستلزم النهي عن مشابهة الحيوانات نفسها في هذه الصفات المذمومة .
بعض الأمور التي منهي عن فعلها لأنه تشبه بالحيوان :
أولاً : حديث الباب ( . . . ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب ) .(2/90)
ثانياً : عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال ( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثلاث : نقر كنقر الديك ، وإقعاء كإقعاء الكلب ، والتفات كالتفات الثعلب ) رواه أحمد .
ثالثاً : قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( العائد في هبته كالكلب يقئ ثم يعود في قيئه ) متفق عليه .
رابعاً : عن عبد الرحمن بن شبل قال ( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نقر كنقر الغراب وافتراش السبع وأن يوطن المكان كما يوطن البعير ) رواه أبو داود .
خامساً : قال - صلى الله عليه وسلم - : ( الذي يتكلم والإمام يخطب كمثل الحمار يحمل أسفاراً ) رواه أحمد .
باب وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود
97 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - : (( أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ الْمَسْجِدَ , فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى , ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : ارْجِعْ فَصَلِّ , فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ . فَرَجَعَ فَصَلَّى كَمَا صَلَّى , ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : ارْجِعْ فَصَلِّ , فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ - ثَلاثاً - فَقَالَ : وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لا أُحْسِنُ غَيْرَهُ , فَعَلِّمْنِي , فَقَالَ : إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلاةِ فَكَبِّرْ , ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ , ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعاً , ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِماً , ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً, ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِساً . وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلِّهَا ))
------------------------------------------------
معاني الكلمات :
فدخل رجل : هذا الرجل هو خلاد بن رافع .
فصلى : جاء عند النسائي : ( ركعتين ) وفيه إشعار بأنها صلاة نفل ، والأقرب أنها تحية المسجد. [ قاله الحافظ ](2/91)
فجاء فسلم : جاء في رواية : ( فرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -السلام ) .
الفوائد :
جاء في رواية عند أبي داود : ( ثم قرأ بأم القرآن وبما شاء الله ) .
الحديث دليل على وجوب الطمأنينة وأنها ركن من أركان الصلاة .
وهذا مذهب جمهور العلماء .
لحديث الباب ، حيث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر على الرجل سرعته في صلاته ولم يعتبرها صلاة ، بل قال : ( إنك لم تصل ).
ولحديث أبي قتادة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته ، قالوا : كيف يسرق من صلاته يا رسول الله ؟ قال : لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها ) رواه أحمد .
وذهب الحنفية إلى عدم وجوب الطمأنينة .
لقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا . . . } فأمر بمطلق الركوع ومطلق السجود .
والراجح مذهب الجمهور .
اختلف في مقدار الطمأنينة :
فقيل : أنها السكون وإن قل .
وقيل : مقدار الذكر الواجب . وهذا الصحيح .
مثال : في مقدار ما تقول : سبحان ربي العظيم مرة واحدة .
وفي الاعتدال بقدر ما يقول : ربنا ولك الحمد مرة واحدة .
اشتمل هذا الحديث على أركان الصلاة .
الركن لغة : جانب الشيء الأقوى .
اصطلاحاً : ما تتركب منه العبادة ولا تصح بدونها ، وهي :
أولاً : القيام . وهذا بالإجماع .
لقوله تعالى : { وقوموا لله قانتين } .
ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لعمران بن حصين : ( صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فصل على جنب ) رواه البخاري .
ولحديث الباب ( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ) .
والقيام ركن في الفريضة فقط أما في النافلة سنة ليس بركن .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم ) رواه مسلم .
ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي النافلة على راحلته في السفر .
ثانياً : التحريمة . وهي ركن بالإجماع .(2/92)
وليس شيء من التكبيرات ركناً سوى تكبيرة الإحرام .
لحديث الباب : ( . . . ثم استقبل القبلة فكبر ) .
ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ) . رواه الترمذي وصححه .
ثالثاً : الفاتحة . وهي ركن على الراجح في حق كل مصل إماماً ومنفرداً ومأموماً في الصلاة السرية والجهرية
لحديث عبادة ( لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن ) متفق عليه .
والفاتحة أعظم سورة في كتاب الله ، وتسمى : الحمد ، والسبع المثاني .
- لحديث أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ) . رواه البخاري
وسميت فاتحة : لأنه افتتح بها المصحف في الكتابة ولأنها تفتتح بها الصلاة في القراءة .
رابعاً : الركوع . وهو ركن بالإجماع . [ قاله في المغني 573/1 ]
لقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا . . . } .
ولحديث الباب ( . . . ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ) .
خامساً : الرفع منه .
لحديث الباب ( . . . ثم ارفع حتى تطمئن قائماً ) .
ويستثنى من هذا الركوع الثاني وما بعده في صلاة الكسوف فإنه سنة .
سادساً : السجود . وهو ركن بالإجماع .
لقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا . . . } .
ولحديث الباب ( . . . ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ) .
مواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
سابعاً : الجلوس بين السجدتين :
ركن لحديث الباب : ( . . . ثم ارفع يعني من السجود حتى تطمئن جالساً ) .
ثامناً : الطمأنينة :
وسبق دليلها .
تاسعاً : التشهد الأخير . فهو ركن .
لحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : ( كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد السلام على الله من عباده السلام على جبرائيل وميكائيل . . . ) . الشاهد قوله : ( قبل أن يفرض ) .(2/93)
والأصل أن التشهدين ( الأول والثاني ) كليهما فرض لكن التشهد الأول تركه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجبره بسجود سهو علم بذلك أنه من الواجبات ويبقى التشهد الأخير على فرضيته ركناً .
عاشراً : الصلاة على النبي فيه . فقد اختلف العلماء هل هي ركن أم واجب أم سنة ؟
القول الأول : أنها ركن .
وهذا هو المشهور من المذهب .
لقوله تعالى { إن الله وملائكته يصلون على النبي . . . } .
والآية عامة والصلاة على النبي في الصلاة أولى كما ذكر ذلك الشافعي واحتج بها على الوجوب .
أن الصحابة سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله علمنا كيف نسلم عليك وكيف نصلي عليك . قال : ( قولوا اللهم صل على محمد ) . والأمر للوجوب .
القول الثاني : أنها واجب .
للحديث السابق : ( قولوا اللهم صل على محمد ) .
وهذا محتمل للإيجاب وللإرشاد ولا يمكن أن نجعله ركناً ولا تصح الصلاة إلا به من هذا الاحتمال .
القول الثالث : أنها مستحبة .
وهذا قول أكثر العلماء : مالك وأبي حنيفة واختاره ابن المنذر .
لحديث الباب حيث لم يعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقياساً على التشهد الأول .
والراجح القول الثاني أنها واجبة .
الحادي عشر : الترتيب .
قيام ثم ركوع .
لحديث الباب لأن النبي علم المسيء في صلاته الصلاة لقوله ( ثم . . . ثم . . . ) وثم تدل على الترتيب
ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - واظب على الترتيب .
الثاني عشر : التسليم .
لحديث عائشة رض الله عنها : ( كان النبي يختم بالتسليم ) .
انتهى الدرس الستون 7/ 9 / 1425هـ
بابُ القراءةِ في الصَّلاةِ
98 - عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : (( لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ )).
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :(2/94)
لا صلاة : نفي ، أي لا صلاة صحيحة لمن لم يقرأ بالفاتحة .
الفوائد :
الحديث يدل على أنه لا بد من قراءة الفاتحة في الصلاة . وهذا مذهب جماهير العلماء .
أنه لابد من قراءتها للإمام والمنفرد في الصلاة السرية والجهرية .
اختلف في حق المأموم على قولين :
القول الأول : أنه يجب قراءتها في الصلاة السرية والجهرية .
وهذا مذهب الشافعي ، ورجحه الشوكاني ، والشيخ ابن باز ، والشيخ ابن عثيمين . الأدلة :
حديث الباب : ( لا صلاة لمن لم ... ) .
ولحديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - الآخر قال : ( كنا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الفجر ، فقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فثقلت عليه القراءة ، فلما فرغ قال : لعلكم تقرؤون خلف إمامكم ، قلنا : نعم ، قال : لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب ، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها ) . رواه أبو داود
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثاً غير تمام ). رواه مسلم
خداج : ناقصة .
القول الثاني : يجب قراءتها على المأموم في السرية دون الجهرية .
وهذا مذهب مالك ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية . الأدلة :
قال تعالى : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } . (لأعراف:204) فهذا أمر بالاستماع والإنصات لمن يقرأ القرآن .
وعن جابر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة ) رواه ابن ماجه ، وهو ضعيف كما قال الحافظ ابن حجر وغيره .
أن ذلك عبث أن يقرأ المأموم والإمام يقرأ ، فلا يكون في قراءة الإمام فائدة .
والراجح القول الأول ، وأنه لا بد من قراءة الفاتحة في الصلاة السرية والجهرية .
وأما الآية : { ... فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ... } :(2/95)
فإنها عامة ، والأمر بقراءة الفاتحة أخص منها ، والخاص مقدم على العام .
متى تسقط الفاتحة :
تسقط في حق المأموم إذا أدرك إمامه راكعاً .
لحديث أبي بكرة في صحيح البخاري : ( أنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف ، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : زادك الله حرصاً ولا تعد ) .
ولم يأمره بقضاء الركعة التي أدرك ركوعها دون قراءة ، ولو كانت الركعة غير صحيحة لأمر بإعادة الركعة .
أنه لا بد من قراءة الفاتحة في كل ركعة .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - للمسيء في صلاته : ( ... ثم افعل ذلك في صلاتك كلها ... ) .
من أسماء الفاتحة :
أولاً : الفاتحة .
لأن الكتاب فتح بها .
ولحديث الباب .
ثانياً : أم الكتاب .
ففي حديث أبي سعيد : ( ... وما رقيت إلا بأم الكتاب ) .
ثالثاً : أم القرآن .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ) .
رابعاً : الحمد لله ، أو الحمد لله رب العالمين .
لقول أنس : ( صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر ، فكانوا يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين ) .
خامساً : الصلاة .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( قال الله : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين ، ولعبدي ما قال ... ) .
سادساً : الرقية .
لأن أبا سعيد رقا بها .
سابعاً : الشافية .
لأن اللديغ شفي بها بإذن الله .(2/96)
95 - عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنْ صَلاةِ الظُّهْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ , يُطَوِّلُ فِي الأُولَى , وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ , وَيُسْمِعُ الآيَةَ أَحْيَاناً ، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ يُطَوِّلُ فِي الأُولَى , وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ . وَكَانَ يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ , وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ )) .
-----------------------------------------------------
قوله : ( وسورتين ) أي سورة في كل ركعة منهما ، ركعتان في كل ركعة الفاتحة وسورة .
مشروعية القراءة بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر والعصر .
استحباب تطويل الركعتين الأولين من الظهر والعصر أكثر من غيرهما ، بل وتطويل الأولى أكثر من الثانية . والسبب في ذلك :
قيل : أن المصلي يكون في أول الصلاة نشيطاً مقبلاً على صلاته .
وقيل : حتى يدرك الناس الركعة الثانية .
استحباب قراءة سورة كاملة في الركعة الواحدة ، وأن قراءة سورة كاملة أفضل من قراءة ما يعادلها من سورة أخرى طويلة .
وقد ذهب بعض العلماء إلى كراهة قراءة مقدار من سورة طويلة .
لكن الصحيح أنه لا يكره ، وأنه لا حرج في ذلك .
لقوله تعالى : { فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } . (المزمل: من الآية20)
وثبت في صحيح مسلم : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في راتبة الفجر في الركعة الأولى : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ ... } (البقرة:136) وفي الثانية : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا ... } . (آل عمران:64) ) .
وما جاز في النفل جاز في الفرض إلا بدليل يخصص ، ولم يرد هنا مخصص .(2/97)
الحديث يدل على أنه يقتصر على الفاتحة في الركعتين الأخيرتين من الظهر والعصر وثالثة المغرب .
لكن جاء في حديث أبي سعيد ما يدل على خلاف ذلك :
قال أبو سعيد : ( كنا نحزر قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظهر والعصر فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر :
{ ألم } السجدة ، وفي الأخيرتين قدر النصف من ذلك ) . رواه مسلم
فهذا يدل على أنه يقرأ بفاتحة الكتاب وسورتين في الأخيرتين من الظهر ، لأنه إذا كانت الركعة الثالثة مقدار [ 15 ] آية ، فمعنى ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ سورة الفاتحة ويقرأ سورة مع الفاتحة قدر ثمان آيات .
الجمع بين حديث أبي سعيد هذا وحديث الباب :
بعض العلماء رجح حديث أبي قتادة ( حديث الباب ) على حديث أبي سعيد ، لأن حديث أبي قتادة متفق عليه ، وحديث أبي سعيد رواه مسلم .
أنه يمكن الجمع ، فيقال : أن الرسول أحياناً يفعل ما يدل عليه حديث أبي قتادة ، وأحياناً يفعل ما يدل عليه حديث أبي سعيد ، لأن الصلاة ليست واحدة حتى نقول فيه تعارض .
أن الإسرار فيما يسر به والجهر فيما يجهر به سنة ، لأن أبا قتادة قال : ( يسمعنا الآية أحياناً ) .
قال ابن قدامة : ” الجهر في مواضع الجهر ، والإسرار في مواضع الإسرار ، مجمع على استحبابه ولم يختلف المسلمون في مواضعه “ .
انتهى الدرس الحادي والستون
14 / 9 / 1425 ه
96 - عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ - رضي الله عنه - قَالَ: (( سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ )) .
-----------------------------------------------------
راوي الحديث :
هو جبير بن مطعم القرشي ، قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في فداء أسرى بدر ، أسلم بين صلح الحديبية وفتح مكة ، مات
سنة 58 ه .
معاني الكلمات :
في المغرب : أي صلاة المغرب .
بالطور : أي سورة الطور .
الفوائد :(2/98)
السنة في القراءة في صلاة المغرب أن يقرأ بقصار المفصل ، وهذا ما عليه أكثر الفقهاء ، ويدل لذلك :
حديث رافع بن خديج : ( ... ثم ننصرف وإن أحدنا ليبصر مواقع نبله ) . متفق عليه
وعن سلمان بن يسار قال : ( كان فلان يقرأ في المغرب بقصار المفصل ، وفي العشاء بوسطه ، وفي الصبح بطواله فقال أبو هريرة : ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله من هذا ) . رواه النسائي
لكن يسن أحياناً أن يقرأ فيها من أواسط المفصل وطواله :
فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك .
فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ بالمغرب بالطور [ كما في حديث الباب ] وهي من طوال المفصل .
وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ بالملاسلات وهي من طوال المفصل .
بل ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ بالمغرب بالأعراف قسمها على الركعتين ، عند النسائي .
المفصل ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
طواله : من ( ق ) إلى ( عم ) .
أواسطه : من ( عم ) إلى ( الضحى ) .
قصاره : من ( الضحى ) إلى ( الناس ) .
قال النووي : ” سمي مفصلاً لقصر سوره ، وقرب انفصال بعضه من بعض “ .
مشروعية الجهر بالقراءة في صلاة المغرب .
في حديث سلمان بن يسار الذي سبق دليل على أن السنة في صلاة الفجر أن يقرأ بطوال المفصل ، ويدل لذلك :
حديث سلمان ، وفيه : ( ... وفي الصبح بطواله ... ) .
حديث أبي هريرة وقد سبق : ( ... وكان – أي النبي - صلى الله عليه وسلم - - يقرأ بالصبح بالستين إلى المائة ) . متفق عليه
97- عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما : (( أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ فِي سَفَرٍ , فَصَلَّى الْعِشَاءَ الآخِرَةَ , فَقَرَأَ فِي إحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فَمَا سَمِعْتُ أَحَداً أَحْسَنَ صَوْتاً أَوْ قِرَاءَةً مِنْهُ )) .(2/99)
98- عَنْ جَابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي الله عنهما : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِمُعَاذٍ : (( فَلَوْلا صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى , وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى ؟ فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الْحَاجَةِ ))
-----------------------------------------------------
حديث جابر له قصة ، وهي : عن جابر قال : ( صلى معاذ بأصحابه العشاء فطول عليهم ، فانصرف رجل من الأنصار فصلى ، فأخبر معاذ عنه فقال : إنه منافق ، ولما بلغ ذلك الرجل ، دخل دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : أتريد أن تكون فتاناً يا معاذ ، إذا أممت بالناس فاقرأ بسبح اسم ربك الأعلى ... ) .
السنة أن يقرأ في العشاء بأواسط المفصل .
ففي حديث جابر قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ : ( لولا صليت بـ ( سبح اسم ربك الأعلى ) و ( الشمس وضحاها ) و ( الليل إذا يغشى ) وهذه السور من أواسط المفصل .
جواز أن يقرأ بالعشاء من قصار المفصل ، حيث قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتين والزيتون فيها في السفر .
تحريم تطويل الإمام بالناس في الصلاة ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ : ( أفتان يا معاذ ) . قال النووي : ” أي منفر عن الدين وصاد عنه “ .
جواز اقتداء المفترض بالمتنفل ، وهذا مذهب الشافعي ، واختار هذا القول ابن قدامة وشيخ الإسلام ابن تيمية .
لأن معاذ كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء ، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم ، وهي له نافلة ولهم فريضة . [ وسيأتي بحث المسألة ] .
أنه يشرع للإمام أن يراعي من خلفه .
حسن تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، حيث يقرن الحكم بعلته ليعرف وجه الحكمة ويزداد المؤمن طمأنينة .
استحباب تحسين الصوت في القراءة .
الرفق بالضعفاء والشفقة عليهم .(2/100)
99 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ رَجُلاً عَلَى سَرِيَّةٍ فَكَانَ يَقْرَأُ لأَصْحَابِهِ فِي صَلاتِهِمْ , فَيَخْتِمُ بـ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : سَلُوهُ لأَيِّ شَيْءٍ صَنَعَ ذَلِكَ ؟ فَسَأَلُوهُ . فَقَالَ : لأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ , فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَخْبِرُوهُ : أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّهُ )) .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
رجلاً : هذا الرجل المبعوث اسمه كلثوم بن الهدم .
سرية : الطائفة التي يبعثها الإمام من الجيش يبلغ أقصاها 40 ، سمو بذلك :
قيل : لكونهم خلاصة العسكر وخياره ، مأخوذ من التسري وهو النفيس . وقيل : لأنهم يبعثون سرّاً وخفية .
الفوائد :
اختلف في معنى قوله : ( فيختم بـ : قل هو الله أحد ) على معنيين :
المعنى الأول : أنه يختم قراءة كل ركعة .
المعنى الثاني : ويحتمل أنه يختم قراءة الصلاة عموماً .
فعلى الاحتمال الأول إذا كانت الصلاة رباعية ، فإنه يقرأ قل هو الله أحد أربع مرات ، وعلى الاحتمال الثاني يقرؤها مرة واحدة .
الحديث دليل على جواز جمع سورتين فأكثر في الركعة الواحدة .
ومما يدل لذلك أيضاً حديث حذيفة : ( أنه صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة البقرة والنساء وآل عمران ) . رواه مسلم
وما جاز في النفل جاز في الفرض إلا بدليل يخصص .
ويجوز أيضاً تفريق السورة الواحدة بين الركعتين :
فقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة الأعراف فسجد بين الركعتين .
ويجوز قراءة السورة الواحدة في الركعتين :(2/101)
لحديث معاذ بن عبد الله : ( أن رجلاً من جهينة أخبره أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في صلاة الصبح : إذا زلزلت ... ، في الركعتين كلتيهما ) . رواه أبو داود
قال الشيخ الألباني : ” الظاهر أنه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك عمداً للتشريع “ .
من فضائل سورة الإخلاص :
أولاً : أنها تعدل ثلث القرآن .
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في قل هو الله أحد : ( والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن ) . رواه البخاري
ثانياً : ومن فضائلها أن حبها سبب في دخول الجنة .
فعن أنس - رضي الله عنه - : ( أن رجلاً قال : يا رسول الله ، إني أحب هذه السورة ، قل هو الله أحد ، فقال : إن حبها أدخلك الجنة ) . رواه الترمذي
فائدة : لماذا كانت تعدل ثلث القرآن ؟
قال العلماء : لأن القرآن ثلاثة : توحيد ، وقصص ، وأحكام ، وهذه السورة صفة الرحمن فيها التوحيد وحده .
فائدة : قوله : ( تعدل ثلث القرآن ) أي من قرأها فله أجر من قرأ ثلث القرآن ، وليس معناه أنها تغني عن قراءة القرآن .
أن القرآن بعضه أفضل من بعض .
وهذا القول هو الراجح .
فالقرآن باعتبار المتكلم لا يتفاضل ، لأن المتكلم به واحد وهو الله عز وجل ، وأما باعتبار مدلولاته وموضوعاته فإنه يتفاضل فسورة الإخلاص التي فيها الثناء على الله ليست كسورة المسد التي فيها بيان حال أبي جهل .
ومما يدل على أنه يتفاضل :
قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي سعيد رافع بن المعلى : ( ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن ... الحمد لله ربّ العالمين ... ) . رواه البخاري
إثبات صفة المحبة ، وهي صفة ثابتة لله تعالى من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه .
هل هذا الفعل الذي قام به الصحابي سنة أم لا ؟
الجواب : هو جائز لكنه غير مشروع .
فهو جائز لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقره على عمله .(2/102)
وليس بسنة ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرعه ، ولم يكن - عليه السلام - يختم صلاته بقل هو الله أحد ، ولم يأمر أمته بذلك .
100 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - : (( أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما : كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ الصَّلاةَ بـ " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " )) .
وَفِي رِوَايَةٍ : (( صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ , فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ))
وَلِمُسْلِمٍ : (( صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بـ " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ", لا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلا فِي آخِرِهَا )) .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
يستفتحون : يبتدئون قراءة الصلاة الجهرية .
لا يذكرون بسم الله : أي لا يذكرونها جهراً .
جاء في رواية عند ابن خزيمة : ( لا يجهرون بـ : بسم الله الرحمن الرحيم ) .
وفي أخرى لابن خزيمة : ( كانوا يسرون ) .
الفوائد :
الحديث دليل على أن البسملة يسن فيها عدم الجهر بها .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : أنه لا يستحب الجهر بها .
قال الترمذي : ” عليه العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعده من التابعين “ .
وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد .
لحديث الباب ، فهو نص في ذلك .
ولحديث عائشة قالت : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله ربّ العالمين ) .رواه مسلم(2/103)
ولحديث عبد الله بن مغفل : ( أنه صلى مع ابنه فجهر بـ بسم الله الرحمن الرحيم ، فلما فرغ من صلاته قال له أبوه ، وهو عبد الله بن مغفل : يا بني ، إياك والحدث في الدين ، فإني صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر ، فلم يكونوا يجهرون بـ : بسم الله الرحمن الرحيم ) . رواه الترمذي
أن البسملة تقاس على التعوذ،لم يثبت أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ جهراً ، بل قال ابن قدامة : ” يُسَرُّ التعوذ ، لا أعلم فيه خلافاً “.
القول الثاني : يستحب الجهر بها .
وهو مذهب الشافعي .
لحديث ابن عباس قال : ( كان رسول الله يجهر بـ : بسم الله الرحمن الرحيم ) . رواه الحاكم والدار قطني ، وفيه ضعف
وعن أم سلمة : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقطع قراءته يقول : بسم الله الرحمن الرحيم – ثم يسكت – الحمد لله رب العالمين ) . رواه الحاكم
والراجح القول الأول ، ولا بأس أن يجهر بها أحياناً .
قال ابن القيم : ” كان يجهر بـ : بسم الله الرحمن الرحيم ، تارة ويخفيها تارة أكثر مما يجهر بها ، ولا ريب أنه لم يكن يجهر بها دائماً في كل يوم وليلة خمس مرات حضراً وسفراً ، ويخفى ذلك على خلفائه الراشدين وعلى جمهور أصحابه أهل بلده في الأعصار الفاضلة ، هذا من أمحل المحال “ .
قال ابن تيمية : ” المداومة على الجهر بها بدعة مخالفة لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والأحاديث المصرحة في الجهر كلها موضوعة “ .
أما قراءة البسملة في الصلاة ، فهذه سنة عند أكثر أهل العلم .
لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : ( حيث صلى فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، حتى بلغ : ولا الضالين ، حتى إذا أتم الصلاة قال : لأني أشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) . رواه أحمد
اختلفوا ، هل يجهر أم يسر ؟ [ وسبق الخلاف قبل قليل ]
البسملة تكون شرط ، وتكون واجبة ، وتكون مستحبة ، وتكون بدعة .(2/104)
تكون شرط : في الذكاة والصيد على القول الصحيح .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ) .
وتكون واجبة : عند الأكل على القول الصحيح .
وتكون مستحبة : عند الجماع ، وعند الوضوء ، وعند إنزال الميت في قبره .
وتكون بدعة : عند الأذان .
اختلف العلماء في البسملة في أوائل السور ، هل هي من السورة أم لا ؟
فقيل : أنها آية من كل سورة .
وهذا مذهب الشافعي .
وقيل : أنها من القرآن ، حيث كتبت ، ليست من السورة .
وهذا مذهب أحمد ورجحه ابن تيمية .
ويدل لهذا ما رواه أهل السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( إن سورة من القرآن ثلاثين آية شفعت لرجل حتى غفر له ، وهي : تبارك الذي بيده الملك ) .
الصحيح من أقوال أهل العلم أنها أيضاً ليست من الفاتحة .
ويدل لذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( قال تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين ، قال : حمدني عبدي ... ) . رواه مسلم
فلو كانت من الفاتحة لذكرها كما ذكر غيرها .
مباحث الاستعاذة :
أولاً : حكمها :
سنة .
قال في المغني : ” إن الاستعاذة قبل القراءة في الصلاة سنة “ .
وكذلك قال الحسن وابن سيرين وعطاء والثوري والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي .
لقوله تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } . (النحل:98)
وعن أبي سعيد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أنه كان إذا قام إلى الصلاة استفتح ثم يقول : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفثه ونفخه ) . رواه الترمذي
ثانياً : يسن الإسرار بها .
قال في المغني : ” ويسر الاستعاذة ولا يجهر بها ، لا أعلم فيه خلافاً “ .
ثالثاً : هل يستعيذ في كل ركعة أم يكفي الركعة الأولى ؟
قيل : يكفي الاستعاذة في أول الركعة .
وهذا مذهب أبي حنيفة ، ورواية عن أحمد ، ورجحه ابن القيم . قالوا :(2/105)
لأن الصلاة كلها واحدة .
وقيل : بل لكل ركعة استعاذة .
وهذا مذهب الشافعي .
لقوله تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } . (النحل:98) رابعاً : صيغتها .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفثه ونفخه .
باب سجود السهو
مقدمة :
تعريفه : سجود السهو شرعاً : سجدتان يسجدهما المصلي لجبر ما حصل في صلاته من الخلل من سهو بزيادة أو نقص أو شك .
حكه : واجب إذا حصل سببه .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن أحدكم إذا قام يصلي ، جاء الشيطان فلبس عليه ، حتى لا يدري كم صلى ، فإذا وجد ذلك أحدكم ، فليسجد سجدتين وهو جالس ) . متفق عليه
ولفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، حيث لم يترك سجدتي السهو ، بل كان يحافظ عليهما إذا سها في الصلاة .
الحكمة من سجود السهو :
قال ابن القيم رحمه الله : ” ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني ) وكان سهوه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة من تمام نعمة الله على أمته ، وإكمال دينهم ، وليقتدوا به فيما يشرعه لهم عند السهو “ .(2/106)
101- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : (( صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم - إحْدَى صَلاتَيْ الْعَشِيِّ - قَالَ ابْنُ سِيرِينَ : وَسَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ . وَلَكِنْ نَسِيتُ أَنَا - قَالَ : فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ , ثُمَّ سَلَّمَ . فَقَامَ إلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ , فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ غَضْبَانُ وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى , وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ . وَخَرَجَتِ السَّرَعَانُ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالُوا : قَصُرَتِ الصَّلاةُ - وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ . وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ , يُقَالُ لَهُ : ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَنَسِيتَ , أَمْ قَصُرَتِ الصَّلاةُ ؟ قَالَ : لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ . فَقَالَ : أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ ؟ فَقَالُوا : نَعَمْ . فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى مَا تَرَكَ . ثُمَّ سَلَّمَ , ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ . ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ , ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ . ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ . فَرُبَّمَا سَأَلُوهُ : ثُمَّ سَلَّمَ ؟ قَالَ : فَنُبِّئْتُ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ : ثُمَّ سَلَّمَ )) .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
العشي : المقصود بالعشي هو ما بعد الزوال ، وصلاة العشي اللتان تقعان بعد الزوال وهي : الظهر والعصر .
سرعان الناس : وهم الذين يخرجون بسرعة .
ذو اليدين : قيل اسمه الخرباق بن عمرو ، وقيل غير ذلك .
وسمي بذلك لطول في يديه ، وهذا في أكثر الروايات ، وقيل : لقصر في يديه ، والأول أشهر .
الفوائد :(2/107)
في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سلم من ركعتين نسياناً ، ثم لما أخبر بذلك قام فأتم صلاته ثم سلم ثم سجد للسهو ثم سلم.
ففي هذا الحديث أن من سلم قبل إتمام صلاته ، فله أحوال :
أولاً : أن يكون متعمداً ، فصلاته باطلة ، قال في الإنصاف : ” بلا نزاع “ .
ثانياً : أن يكون سهواً ، فلا تبطل صلاته .
ثالثاً : ثم إن ذكر قريباً وكان الفعل قصيراً ، فإنه يبني على ما سبق ويتم صلاته ويسلم ويسجد للسهو ثم يسلم .
لحديث الباب ، حيث فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك .
رابعاً : اختلف في مقدار الفصل القصير :
فقيل : مقدار ركعة . وقيل : قدر الصلاة التي هو فيها . وقيل : أنه يرجع إلى العرف ، وهذا هو الصحيح .
قال في المغني : ” إنه لا حد له ، لأنه لم يرد الشرع بتحديده ، فيرجع فيه إلى العادة والمقارنة لمثل حال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ذي اليدين “ .
تقريباً : [ كثلاث دقائق أو أربع ، فهذا يعتبر فصل قصير لا يمنع من بناء بعض الصلاة على بعضها ] .
خامساً : فإن طال الفصل بطلت الصلاة ويلزمه استئناف الصلاة من جديد .
كساعة وساعتين .
إن تكلم بعد أن سلم ، فهل تبطل صلاته ؟
قسم بعض العلماء الكلام إذا سلم الإمام ناسياً قبل إتمام الصلاة إلى أحوال :
أولاً : أن يتكلم إلى غير مصلحة الصلاة ، فهنا تبطل بكل حال . مثال : كأن يقول بعد أن سلم ناسياً : يا فلان أغلق الباب .
ثانياً : أن يتكلم لمصلحة الصلاة بكلام يسير ، كفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين قال : ( أكما يقول ذو اليدين ؟ قالوا : نعم ) ومراجعة ذي اليدين له ، فهنا لا تبطل الصلاة ، لأن الكلام يسير ولمصلحة الصلاة .
ثالثاً : أن يكون كثيراً لمصلحة الصلاة ، فهنا تبطل الصلاة .
وذهب بعض العلماء إلى أنها لا تبطل بهذه المسائل كلها .
وهذا اختيار الشيخ السعدي رحمه الله .
لأن المتكلم لا يعتقد أنه في صلاة ، فهو لم يتعمد الخطأ .(2/108)
وهذا القول هو الصحيح أنها لا تبطل .
الخلاصة :
من سلم قبل إتمام الصلاة ناسياً ، فإن صلاته لا تبطل ، ويأتي بما بقي منها ويسجد للسهو بعد السلام ، إلا في حالتين تبطل الصلاة :
الأولى : إن طال الفصل .
الثانية : إذا أحدث ، لأن الحدث لا يمكن معه بناء بعض الصلاة على بعض .
أن من سلم قبل إتمام الصلاة ناسياً ، فإن سجود السهو يكون بعد السلام ، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما في حديث الباب ، حيث أنه - صلى الله عليه وسلم - سلم ثم سجد للسهو ثم سلم . ( وهذه تعتبر زيادة عند العلماء ، لأنه زاد سلاماً وتشهداً في غير محله ) .
وقد اختلف العلماء متى يكون سجود السهو ، هل يكون قبل السلام أم بعده ؟
القول الأول : كله بعد السلام .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
لحديث ذي اليدين [ حديث الباب ] حيث سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - للسهو بعد السلام .
القول الثاني : كله قبل السلام .
وهذا مذهب الشافعي .
لحديث ابن بحينة [ وهو الحديث الآتي إن شاء الله ] حيث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك التشهد الأول نسياناً فسجد للسهو قبل السلام .
القول الثالث : إن كان عن نقص سجد له قبل السلام ، وما كان عن زيادة سجد له بعد السلام .
وهذا مذهب مالك واختاره ابن تيمية .
ففي حديث ابن بحينة حين ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - التشهد الأول ، سجد للسهو قبل السلام .
وفي حديث ذي اليدين حين سلم النبي - صلى الله عليه وسلم - من ركعتين ، سجد بعد السلام ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - زاد في الصلاة التسليم ، حيث سلم قبل تمام الصلاة ، فسلامه في غير موضعه يعتبر زيادة .
فائدة : قد ذكر بعض العلماء أن الخلاف هنا في الأفضلية .
لا يشرع سجود السهو في العمد .
وهذا مذهب جماهير العلماء .(2/109)
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا سها أحدكم فليسجد ) فعلق السجود على السهو ، ولأنه يشرع جبراناً ، والعامد لا يعذر ، فلا يجبر خلل صلاته بسجوده ، بخلاف الساهي ، ولذلك أضيف السجود إلى السهو .
سجود السهو يكون في الفرض والنفل .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لعموم الأحاديث .
ولأنها صلاة ذات ركوع وسجود ، فيشرع لها السجود كالفريضة .
ولأن الجبران وإرغام الشيطان يحتاج إليهما في النفل كما يحتاج إليهما في الفرض .
( ونقل عن جماعة من السلف أنه لا يشرع في النافلة ، كابن سيرين وعطاء ، لكنه قول ضعيف ) .
أن سجود السهو يكون عن زيادة أو نقص أو شك .
يشرع تنبيه الإمام إذا زاد أو نقص .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وإذا نسيت فذكروني ) . متفق عليه
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا نابكم شيء في صلاتكم ، فليسبح الرجال ولتصفق النساء ) . متفق عليه
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجع على قول أبي بكر وعمر في حديث ذي اليدين لما سألهما : ( أكما يقول ذو اليدين ، قالوا : نعم ) ومع أنه كان شاكاً .
أنه لا يشرع التشهد بعد سجود السهو .
لأنه في الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد سجدتين ثم سلم .
ففي حديث ابن مسعود : ( ... فسجد سجدتين ثم سلم ... ) .
وحديث عمران بن حصين : ( ... ثم سجد سجدتي السهو ثم سلم ... ) .
ولم يرد أنه تشهد بعد سجود السهو .
إذا زاد المصلي ركعة نسياناً ، فلها حالتان :
الأولى : أن يعلم بعد السلام ، فإنه هنا يسجد للسهو وجوباً بعد السلام .
لحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : ( صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمساً ، فلما انفتل تشوش القوم بينهم ، فقال : ما شأنكم ؟ قالوا : يا رسول الله ، هل زيد في الصلاة ؟ قال : لا ، قالوا : فإنك قد صليت خمساً ، فانفتل ثم سجد سجدتين ثم سلم ، ثم قال : إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون ) . رواه مسلم(2/110)
الثانية : أن يعلم قبل السلام ، فإنه يسجد للسهو بعد السلام ، فيكمل التشهد ويسلم ويسجد سجدتين ويسلم ، لأنه عن زيادة .
جواز السهو في الأفعال على الأنبياء .
أن النسيان لا يعصم فيه أحد ، نبياً كان أم غير نبي ، قال - صلى الله عليه وسلم - : ( نسي آدم فنسيت ذريته ) .
أن نية الخروج من الصلاة وقطعها إذا كانت بناء على ظنّ التمام ، لا يوجب بطلانها .
أن كلام الناسي لا يبطلها .
أن سجود السهو سجدتان كسجود الصلاة .
أن التكبير في سجود السهو كما في سجود الصلاة .
عظمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهيبته في قلوب أصحابه .
جواز ذكر الإنسان بلقبه إذا كان لا يكرهه .
102 – عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُحَيْنَةَ – وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - – (( أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِهِمْ الظُّهْرَ فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ , وَلَمْ يَجْلِسْ . فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ , حَتَّى إذَا قَضَى الصَّلاةَ , وَانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ : كَبَّرَ وَهُوَ جَالِسٌ . فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ سَلَّمَ )) .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
فقام من الركعتين الأوليين : أي منهما إلى الثالثة .
الفوائد :
في هذا الحديث يخبر عبد الله بن بحينة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم صلاة الظهر فنسي التشهد الأول ، وقام على الثالثة ، وقد سبح به الناس ولكنه مضى في صلاته ، ثم أتمها وسجد سجدتين للسهو قبل أن يسلم جبراً للنقص الذي حصل بترك التشهد الأول ثم سلم .
وقوع السهو من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لأنه من النسيان .
في هذا الحديث حكم من نسي التشهد الأول ، وله أحوال :
إن كان عمداً ، بطلت صلاته .
إن كان نسياناً ، فإن ذكره بعد الشروع في قراءة الركعة الأخرى ، فإنه يحرم عليه الرجوع ، وعليه سجود سهو قبل السلام .(2/111)
إن ذكره بعد الوصول إلى الركن الذي يليه ، فهنا يكره رجوعه ، ولو رجع لم تبطل صلاته ، وعليه سجود سهو قبل السلام .
وما ذكر في التشهد ينطبق على ترك واجب آخر ، مثل : التسبيح في الركوع أو التسبيح في السجود ، وغير ذلك .
أن التشهد الأول ليس بركن ، إذ لو كان ركناً لتعين الإتيان به .
أن من ترك التشهد الأول نسياناً ، فإن سجود السهو يكون قبل السلام ، لأنه عن نقص .
أن المأموم يتابع إمامه إذا قام عن التشهد الأول نسياناً .
أنه لا سجود لمأموم إلا تبعاً لإمامه ، فيجب على المأموم أن يسجد للسهو تبعاً لإمامه ، سواء سها أو لم يسه .
لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنما جعل الإمام ليؤتم به ) .
وهذا إذا كان سجود الإمام قبل السلام ، أو كان سجوده بعد السلام والمأموم لم يفته شيء من الصلاة ، فهنا يتابع ولا إشكال .
لكن إذا كان المأموم مسبوقاً ، وسجد الإمام بعد السلام ، فهل يلزم المأموم متابعته في هذا السجود ؟
الصحيح أن الإمام إذا سجد بعد السلام لا يلزم المأموم متابعته ، لأن متابعته حينئذٍ متعذرة ، فإن الإمام سيسلم ، ولو تابعه المأموم في السلام لبطلت صلاته .
لكن هل يلزم إذا أتممت صلاتك أن تسجد بعد السلام ، كما سجد الإمام ؟ فيه تفصيل :
إن كان سهو الإمام فيما أدرك من الصلاة ، وجب عليه أن يسجد بعد السلام .
وإن كان سهو الإمام فيما مضى من صلاته ، مثل أن يدخل معه بعد السهو ، لم يجب عليه أن يسجد .
الشك
الشك ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : أن يترجح عنده أحد الأمرين ، فيعمل بما ترجح عنده ويسجد للسهو بعد السلام .
لحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب ، فليتم عليه ، ثم يسلم ثم يسجد ) . متفق عليه
القسم الثاني : أن لا يترجح عنده أحد الأمرين ، فيعمل باليقين [ وهو الأقل ] ويسجد للسهو قبل السلام .(2/112)
لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ، ثلاثاً أو أربعاً فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم ) . رواه مسلم
فائدة :
المذهب من شك في عدد الركعات ، أخذ بالأقل مطلقاً ، سواء ترجح عنده شيء أم لم يترجح عنده شيء .
لحديث أبي سعيد السابق : ( ... وليبن على ما استيقن ) .(2/113)
بسم الله الرحمن الرحيم
إيقاظ الأفهام
في شرح
عمدة الأحكام
تكملة كتاب الصلاة - الجنائز - الزكاة
من حديث رقم 103 إلى 176
بقلم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية / رفحاء
الموقع على الإنترنت
www.almotaqeen.net
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
ضمن شرح كتاب عمدة الأحكام المسمى :
( إيقاظ الأفهام في شرح عمدة الأحكام )
فهذه المذكرة الثالثة وتتضمن :
من حديث 103 إلى 176وهي مشتملة على تكملة كتاب الصلاة ، وكتاب الجنائز ، وكتاب الزكاة .
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه .
أخوكم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية / رفحاء
البريد الإلكتروني
Smr898@hotmail.com
103 - عَنْ أَبِي جُهَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ الأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : (( لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ مِنْ الإِثْمِ ؟ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ )) . قَالَ أَبُو النَّضْرِ : لا أَدْرِي : قَالَ أَرْبَعِينَ يَوْماً أَوْ شَهْراً أَوْ سَنَةً .
-----------------------------------------------------
راوي الحديث :
أبو جهم ، ويقال أبو جهيم ، عبد الله بن حارث الأنصاري ، صحابي معروف ، توفي في خلافة معاوية .
معاني الكلمات :
المار : العابر .
بين يدي المصلي : أمامه من قدميه إلى منتهى سجوده .
أن يقف : أي يبقى واقفاً منتظراً فراغ المصلي .
الفوائد :
تحريم المرور بين يدي المصلي سواء في الفرض أو النفل .
لقوله : ( لو يعلم المار ... ) فهذا أسلوب تخويف أراد به النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبين حرمة المرور بين يدي المصلي .
أن المحرم هو المرور قريباً من المصلي بينه وبين سترته .
أن هذا النهي خاص بالمصلي الإمام أو المنفرد .(3/1)
أما المأموم فقد اختلف العلماء هل يجوز المرور بين أيديهم ؟
القول الأول : لا يجوز .
لحديث الباب : ( لو يعلم المار ... ) .
القول الثاني : أنه يجوز .
لحديث ابن عباس – وسيأتي – قال : ( أقبلت راكباً على حمار ، وأنا يومئذٍ قد ناهزت الاحتلام ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار ، فمررت بين يدي بعض الصف ... ) .
وهذا هو الصحيح .
104 – عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : (( إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ , فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ . فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ . فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ )) .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
يستره من الناس : يحول بينه وبين الناس .
يجتاز : يمر .
شيطان : قيل : أنه شيطان على الحقيقة ، لأن الشيطان يدخل فيه الجن والإنس . وقيل : فعله فعل شيطان .
الفوائد :
السترة هي ما يجعله المصلي بينه وبين القبلة .
الحكمة من السترة :
قيل : كف البصر عما وراءه ، ومنع من يجتاز بقربه ، وقيل : أن مع اتخاذها لا يقطع الصلاة شيء ، وقيل : قطع نظر المصلي عما أمامه ، فتجعل بصره محصوراً في موضع سجوده .
استحباب السترة في الصلاة .
للأحاديث الكثيرة التي تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي إلى سترة وأمر بها .
واستحباب السترة مطلقاً سواء خشي ماراً أو لم يخشى . وهذا هو القول الصحيح .
وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه إذا لم يخشى ماراً فلا تسن السترة ، لكن هذا القول ضعيف .
اختلف العلماء بعد اتفاقهم على استحبابها ، هل هي واجبة أم لا ؟ على قولين :
القول الأول : أنها واجبة .
وهذا قول بعض العلماء ، كابن خزيمة ، والشوكاني ، والألباني .(3/2)
لحديث سبرة بن سعيد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ليستتر أحدكم ولو بسهم ) . رواه أحمد
وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا صلى أحدكم فليصلّ إلى سترة وليدن منها ) . رواه أبو داود
القول الثاني : أنها سنة غير واجبة .
وهذا مذهب جماهير العلماء ، واستدلوا بعدم وجوبها :
بحديث الباب : ( إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس ، فأراد ... ) .
فقوله : ( إذا صلى أحدكم ... ) يدل على أن المصلي قد يصلي إلى شيء يستره وقد لا يصلي .
وبحديث ابن عباس قال : ( أقبلت راكباً إلى حمار ... ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس إلى غير جدار ... ) .
فقوله : ( إلى غير جدار ) أي إلى غير سترة ، كما قال ذلك الشافعي ، وأيده على ذلك البيهقي وابن حجر .
ولأن السترة من مكملات الصلاة ، ولا تتوقف عليها صحة الصلاة ، وليست داخل الصلاة ولا من هيئتها .
وهذا القول هو الصحيح .
يشرع للمصلي أن يرد من يمر بين يديه .
لقوله : ( ... فليدفعه ... ) .
واختلف العلماء في حكم دفع المار :
القول الأول : أنه مستحب .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
القول الثاني : أنه واجب .
وهذا مذهب أهل الظاهر .
لقوله : ( ... فليدفعه ... ) .
القول الثالث : التفصيل . فقالوا : يفرق بين المار الذي يقطع الصلاة مروره ، والمار الذي لا يقطع الصلاة مروره ، فالذي يقطع الصلاة مروره يجب رده ، والذي لا يقطع الصلاة مروره لا يجب رده .
وهذا القول هو الراجح .
قوله : ( فليقاتله ) نقل بعض العلماء الإجماع على أن المقاتلة في قوله ( فليقاتله ) لا تكون بالسيف ولا بالخطاب ولا يبلغ به المصلي مبلغاً تفسد به صلاته .
الحكمة في دفع المار :
قيل : لدفع الإثم عن المار ، وقيل : لدفع الخلل الواقع بالمرور في الصلاة .
وهذا القول هو الصحيح .
وقيل : لصيانة الصلاة عن النقصان من أجرها .(3/3)
فقد أخرج أبو نعيم عن عمر - رضي الله عنه - : ( لو يعلم المصلي ما ينقص من صلاته بالمرور بين يديه ما صلى إلا إلى شيء يستره من الناس ) .
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود - رضي الله عنه - : ( أن المرور بين يدي المصلي يقطع نصف صلاته ) .
قال الحافظ ابن حجر : ” فهذان الأثران مقتضاهما أن الدفع لخلل يتعلق بصلاة المصلي ولا يختص بالمار ، وهما وإن كانا موقوفين لفظاً فحكمهما حكم الرفع ، لأن مثلهما لا يقال بالرأي “ .
105 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : (( أَقْبَلْتُ رَاكِباً عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ , وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاحْتِلامَ , وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إلَى غَيْرِ جِدَارٍ . مَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ فَنَزَلْتُ , فَأَرْسَلْتُ الأَتَانَ تَرْتَعُ . وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ , فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ )) .
106 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (( كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - - وَرِجْلايَ فِي قِبْلَتِهِ - فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي , فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ . فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا . وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ )) .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
حمار أتان : أنثى الحمار .
ناهزت : قاربت .
إلى غير جدار : إلى غير سترة ، كما قال ذلك الشافعي والبيهقي .
سجد : أهوى للسجود .
غمزني : يحسني بيده .
الفوائد :
حديث ابن عباس يدل على أن سترة الإمام سترة لمن خلفه .(3/4)
قال ابن عبد البر : ” سترة الإمام سترة لمن خلفه - ثم استدل على ذلك بحديث ابن عباس هذا - وقال : إنه يخص حديث أبي سعيد : ( إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحد يمر بين يديه ) أي أن الأحدية فيه خاصة بالإمام المنفرد ، أما المأموم فليس عليه أن يدفع المار بين يديه ، ثم قال : إنه لا يعلم في هذه الجملة بين أهل العلم اختلافاً “ .
أنه لا يسن للمأموم أن يتخذ سترة ، لأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يصلون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يتخذ أحد منهم سترة .
اختلف العلماء ، هل يقطع الصلاة شيء أم لا ؟ على قولين :
القول الأول : أنه يقطعها المرأة البالغ والحمار والكلب الأسود .
وهذا اختيار ابن حزم ، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن المنذر والشوكاني .
لحديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يقطع صلاة الرجل إذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل ، المرأة والحمار والكلب الأسود ) . رواه مسلم
القول الثاني : أنه لا يقطعها شيء .
وهذا مذهب جماهير العلماء . واستدلوا :
بحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يقطع الصلاة شيء ) . رواه أبو داود وهو ضعيف
وبحديث الباب - حديث ابن عباس - حيث يدل على أن الحمار لا يقطع الصلاة .
وبحديث الباب الثاني – حديث عائشة – حيث يدل على أن المرأة لا تقطع الصلاة .
وأجاب هؤلاء عن حديث : ( يقطع صلاة الرجل ... ) بجوابين :
الأول : أن المراد بالقطع القطع عن الخشوع والذكر للشغل بها .
الثاني : أنه منسوخ بحديث ابن عباس – حديث الباب – لأنه في آخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وممن قال بالنسخ الطحاوي .
والصحيح القول الأول ، أنه يقطع الصلاة المرأة البالغ والحمار والكلب الأسود .
أما حديث : ( لا يقطع الصلاة شيء ) فضعيف .(3/5)
وأما حديث ابن عباس أنه مرّ بين يدي المصلين ، فهذا صحيح ، وذلك أن المأموم لا يقطع صلاته شيء مطلقاً ، لأن سترة الإمام سترة لمن خلفه .
وأما حديث عائشة ، فنقول : أن هذا ليس بمرور ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - : ( يقول إذا مرّ ) وفرق بين المرو والاضطجاع .
مقدار السترة :
عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك عن سترة المصلي ، فقال : مثل مؤخرة الرحل ) .
…………………………رواه مسلم
الرحل : هو المركب المعد للراكب بمنزلة السرج للفرس .
فقوله : ( مثل مؤخرة الرحل ) هذا التحديد للأفضلية أن يكون مقدارها هكذا ، فيجوز أن يستتر بأدق منها .
( فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة إلى عصا ) . رواه أبو داود
( وأمر بالصلاة إلى السهم ) . رواه الحاكم
( وصلى - صلى الله عليه وسلم - إلى حربة ) . متفق عليه
وكذلك من حيث الطول ، فيجوز أطول من مؤخرة الرحل ، ويجوز أقصر ، ويدل لذلك :
( فقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يستتر بالجدار ) . متفق عليه
( وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - استتر بالمقام ) . رواه البخاري
وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - استتر بالعَنَزَة ) . رواه البخاري
يستحب الدنو من السترة .
لحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها فإن الشيطان يمر بينه وبينها ) . رواه أبو داود
واختلف في مقدار بُعد السترة :
فقيل : مقدار ثلاثة أذرع . وقيل : أقله ممر شاة . وقيل : ما بين رجليه وموضع سجوده ، وذلك لأن المصلي لا يحتاج أكثر مما يحتاج إليه في صلاته .
جواز الصلاة إلى النائم من غير كراهة .
وهو مذهب أكثر العلماء .
لحديث الباب ، حديث عائشة .
وذهب مجاهد وطاووس ومالك ، إلى كراهة الصلاة إلى النائم ، خشية مما يبدو منه مما يلهي عن صلاته .(3/6)
واستدلوا بحديث ابن عباس ، ولفظه : ( لا تصلوا خلف النائم والمتحدث ) . رواه أبو داود ، وقال : ” طرقه كلها واهية “
وقال النووي : ” هو ضعيف باتفاق الحفاظ “ .
والقول الأول أصح .
جواز إرسال البهيمة لترعى حول المصلين ، لكن بشرط أن لا يخشى منها أذية .
أن إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - للشيء دليل على جوازه .
جواز المرور بين صفوف المصلين ، لأن سترة إمامهم سترة لهم .
باب تحية المسجد
107 - عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ - صلى الله عليه وسلم - : (( إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ )) .
-----------------------------------------------------
الحديث له قصة : قال أبو قتادة : ( دخلت مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين ظهراني الناس ، قال : فجلست ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما منعك أن تركع ركعتين قبل أن تجلس ، قال : فقلت يا رسول الله ، رأيتك جالساً والناس جلوس قال : ... ) ثم ذكر الحديث .
معاني الكلمات :
فلا يجلس : نص على الجلوس ، فهو يشمل من دخل المسجد بنية الجلوس فيه ، ومن باب أولى من دخل للنوم .
الفوائد :
مشروعية صلاة ركعتين لمن دخل المسجد وأراد الجلوس .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : أنها واجبة .
وهو مذهب داود الظاهري ، ورجحه الشوكاني .
لظاهر حديث الباب .
القول الثاني : أنها سنة .
وهذا مذهب جمهور العلماء .
لحديث الباب . والصارف عن القول بالوجوب :
- حديث طلحة بن عبد الله قال : ( جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن الإسلام ، فقال : خمس صلوات ... قال : هل علي غيرها ؟ قال : لا ، إلا أن تطوع ) . متفق عليه(3/7)
- حديث عبد الله بن بسر : ( أن رجلاً جاء والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب ، فتخطى رقاب الناس ، فقال له : اجلس فقد آذيت وآنيت ) . رواه أبو داود
آذيت : بتخطيك . آنيت : تأخرت .
- ما رواه ابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم قال : ( كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلون المسجد ويخرجون ولا يصلون )
وهذا القول هو الصحيح .
أن من دخل المسجد ، ولم يرد الجلوس ، فلا يشرع له أن يصلي تحية المسجد ، كمن دخل ماراً أو ليعمل عملاً وهو واقف ، فالصحيح أن الأمر معلق بالجلوس .
قوله : ( إذا دخل أحدكم المسجد ) عام يشمل جميع المساجد ، حتى المسجد الحرام لمن دخله وهو لا يريد الطواف أما إذا دخل الحرم وهو يريد الطواف فإنه يبدأ بالطواف .
لحديث عائشة : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أول شيء بدأ به الطواف ) .
وأما حديث ( تحية البيت الطواف ) لا يصح .
من دخل المسجد وهم يصلون الفريضة ، وهو يريد الصلاة معهم ، فإنه يجب عليه أن يدخل معهم ولا يجوز له الانشغال بصلاة غير مكتوبة .
لقوله : ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ) .
ظاهر الحديث أنك تصلي الركعتين حتى لو كان الوقت وقت نهي .
وهذه المسألة خلاف بين العلماء ، هل الصلوات ذات السبب [ تحية المسجد – الاستخارة – الكسوف – سنة الوضوء ] تصلى في أوقات النهي ؟
والراجح أنه يجوز . [ وقد سبقت المسألة في أبواب أوقات النهي مذكرة رقم : 2 ] .
قوله : ( حتى يصلي ركعتين ) فيه أن هذه السنة لا تأتي بأقل من ركعتين .
أن أقل التطوع ركعتين ، فلا يجوز التطوع بركعة ، وهذا مذهب جماهير العلماء .
يستثنى من ذلك الوتر ، فإنه يجوز .
باب النهي عن الكلام في الصلاة(3/8)
108 - عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ : (( كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلاةِ ، يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ , وَهُوَ إلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلاةِ , حَتَّى نَزَلَتْ " وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ " فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنْ الْكَلامِ )) .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
يكلم أحدنا صاحبه في حاجته : تفسير لقوله : ( نتكلم ) والذي يظهر أنهم كانوا لا يتكلمون فيها بكل شيء ، وإنما يقتصرون على الحاجة من ردّ السلام ونحوه .
فأمرنا بالسكوت : أي عن الكلام المتقدم ذكره مطلقاً .
الفوائد :
الحديث يدل على تحريم الكلام في الصلاة .
والكلام في الصلاة ينقسم إلى أقسام :
القسم الأول : أن يتكلم عالماً عامداً ذاكراً لغير مصلحة الصلاة .
فهنا يحرم ويبطل الصلاة .
قال ابن المنذر : ” أجمع أهل العلم على أن من تكلم في الصلاة ، عالماً عامداً ذاكراً لغير مصلحة الصلاة ، ولا لإنقاذ مسلم من هلكة ، أن صلاته تبطل “ .
ونقل الإجماع ابن قدامة وابن حجر والنووي وغيرهم .
لحديث الباب .
ولحديث معاوية بن الحكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ... إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين ، وإنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ) . متفق عليه
القسم الثاني : إن تكلم جاهلاً ، لا يعلم أن الكلام في الصلاة محرم ، اختلف العلماء :
فقيل : يبطل .
وهذا مذهب الحنفية والحنابلة .
وقيل : لا يبطل .
وهذا مذهب مالك والشافعي .
لحديث معاوية بن الحكم : ( أنه جاء والناس يصلون فصلى معهم ، فعطس رجل من القوم ، فقلت : يرحمك الله ، فرماني الناس بأبصارهم ، فقلت : واثكلا أمياه ما شأنكم تنظرون إلي ، قال : فبدأوا يضربون أفخاذهم ، فلما رأيتهم يصمتوني سكت ، فلما قضى نبي الله الصلاة ، قال : إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من الكلام الآدميين وإنما هو التسبيح ).(3/9)
وجه الدلالة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بالإعادة .
وهذا هو القول الصحيح .
القسم الثالث : إن تكلم في الصلاة ناسياً .
فقيل : يبطل الصلاة ، وقيل : لا يبطل .
وهذا القول هو الصحيح .
لأن النسيان كالجهل ، وقد قال تعالى : { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } . (البقرة: من الآية286)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) .
القسم الرابع : إن تكلم وهو نائم .
مثال : إنسان في الصلاة ، وأثناء نومه تكلم .
فقيل : لا تبطل صلاته .
قال ابن قدامة : ” ينبغي ألا تبطل صلاته “ .
وقيل : تبطل .
لأن هذا النوم الذي جعله يغفل حتى تكلم ، هو من النوم الناقض للوضوء .
القسم الخامس : الكلام لإنقاذ مسلم .
نقول : إن استطاع أن ينبه بما لا يخل بالصلاة كالتسبيح وغيره ، فهذا هو المشروع .
فإن لم يستطع فإنه يجب عليه أن يتكلم عند جميع العلماء .
لكن هل تبطل صلاته ؟
قيل : تبطل . [ مع وجوب الكلام عليه ] ، وقيل : لا تبطل .
وهذا هو الصحيح ، لأن كلامه حينئذٍ كان بالشرع لمصلحة ظاهرة .
القهقهة مبطلة للصلاة .
أجمع العلماء على أن الصلاة تبطل بالقهقهة .
النحيب بالبكاء من خشية الله ، له أحوال :
الحالة الأولى : أن يبكي مغلوباً على أمره ، لا يستطيع أن يدفع عنه البكاء .
فهذه صلاته صحيحة .
( وعمر كان يبكي حتى يسمع نشيجه من وراء الصفوف ) . رواه البخاري تعليقاً
الحالة الثانية : أن يبكي من خشية الله ، لكن يستطيع أن يدفعه لو أراد .
فالراجح أنها لا تبطل .
الحالة الثالثة : أن يبكي من غير خشية الله ، مثل أن يبكي لحدث وهو يستطيع أن يدفع هذا .
فمثل هذا البكاء مفسد للصلاة .
باب الإبراد في الظهر من شدة الحر(3/10)
109 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : (( إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلاةِ . فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ )) .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
أبردوا : أي أخروا الظهر إلى أن يبرد الجو .
عن الصلاة : أي بالصلاة ، كما جاء في رواية أخرى .
من فيح جهنم : أي من سعة حرها وانتشاره .
الفوائد :
الحديث يدل على استحباب الإبراد في صلاة الظهر في شدة الحر .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يستحب الإبراد ، وإنما يستحب أن يصلي الصلاة في أول وقتها ، واستدلوا :
النصوص التي تدل على أفضلية الوقت .
وبما رواه مسلم عن خباب قال : ( شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شدة الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا ) .
فقالوا : هذا الحديث يدل على أنهم كانوا يصلون في وقت شدة الرمضاء ، وطلبوا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - تأخير الصلاة فلم يقبل منهم .
القول الأول هو الصحيح .
وأما الجواب عن أدلة أصحاب القول الثاني :
أما الأدلة على أفضلية أول الوقت : فهي عامة خصص منها الظهر في شدة الحر .
وأما حديث خباب فالجواب عليه :
من العلماء من قال أن حديث خباب منسوخ .
وهذا نقل عن الإمام أحمد والطحاوي .
قالوا : منسوخ بأحاديث الإبراد .
ومما يؤيد النسخ رواية الخلال : ( كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإبراد ) .
ومن العلماء من قال : ( فلم يشكنا ) أي أن هؤلاء الصحابة طلبوا تأخيراً زائداً عن الوقت أكثر من وقت الإبراد الذي يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - .
اختلف في المعنى الذي من أجله أمر بالإبراد :(3/11)
قال ابن رجب : ” فمنهم من قال : هو حصول الخشوع فيها ، فلا فرق بين من يصلي وحده أو في جماعة ، ومنهم من قال : هو خشية المشقة على من بعد من المسجد بمشيه في الحر “ .
اشترط بعض الفقهاء للإبراد شروطاً :
فقال بعضهم : الإبراد لمن يصلي جماعة .
وزاد بعضهم : إذا كان منزله بعيداً عن المسجد .
وهذه شروطاً لا دليل عليها ، فالصحيح أن الخطاب للجميع .
فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلقه وقال : ( إذا اشتد الحر فأبردوا ) فيبرد من يصلي وحده أو في جماعة .
إلى متى يكون الإبراد ؟
قال بعضهم : حتى يكون للشواخص ظل يستظل به .
لكن هذا ليس بمنضبط ، لأنه إذا كان البناء عالياً وجد الظل الذي يستظل به قريباً ، وإذا كان نازلاً فهو على العكس .
لكن الصحيح أن يكون الإبراد إلى قرب صلاة العصر .
فإذا قدرنا مثلاً أن الشمس في الصيف تزول [ 12 ] والعصر [ 4.30 ] يكون الإبراد إلى الساعة [ 4 ] .
اختلف العلماء في قول ( شدة الحر من فيح جهنم ) :
فقال بعض العلماء : أن الكلام تشبيهاً ، والمعنى أن شدة الحر تشبه حر جهنم .
وهذا غير صحيح ، لأنه خلاف ظاهر الحديث .
وقال بعضهم : أن الشمس هي شعلة من النار أخرجها الله منها شرارة ثم استقرت في المكان الذي هي فيه لمصلحة العباد .
وقال بعضهم : إن لشدة الحر سببين : سبب شرعي : فهو من حر جهنم . وسبب طبيعي : من الشمس .
110 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (( أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ : كَانَ يُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عِشَاءَ الآخِرَةِ . ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى قَوْمِهِ , فَيُصَلِّي بِهِمْ تِلْكَ الصَّلاةَ )) .
-----------------------------------------------------
الحديث له قصة :(3/12)
قال جابر : ( كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يرجع فيؤم قومه ، فصلى العشاء الآخرة فقرأ بالبقرة ، فانصرف الرجل ، فكأن معاذاً تناول منه ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : أفتان ، أفتان ، وأمره بسورتين من أواسط المفصل ) .
قوله : ( فانصرف الرجل ) جاء في رواية للنسائي : ( فانصرف الرجل فصلى في ناحية المسجد ) ، ولم يقطع الصلاة ، بل قطع القدوة .
استدل بحديث الباب على جواز اقتداء المفترض بالمتنفل . [ وقد سبقت المسألة في حديث : ] .
لأن معاذ كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة الأولى وهي له فرض ، والثانية نفل ، ويدل لذلك ما رواه الدار قطني والطحاوي في حديث : ( هي له تطوع ولهم فريضة ) .
وأما من استدل بالمنع بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه ) وأن هذا من الاختلاف عليه :
فالجواب عليه : أن المراد بهذا الاختلاف مسابقته بالأركان .
والحديث يدل على أنه يجوز أن ينفرد المؤتم لعذر .
أما من غير عذر فلا يجوز .
مثال العذر : تطويل الإمام تطويلاً زائداً على السنة كما في حديث الباب .
فائدة الانتقالات :
أولاً : أن يقلب المنفرد فرضه نفلاً .
مثال : دخل رجل في صلاة الظهر منفرد ، وفي أثناء الصلاة قلب الفرض إلى نفل .
هذا العمل جائز بشرط :
أن يكون الوقت متسعاً للصلاة ، فإن كان ضيقاً بحيث لم يبق منه إلا مقدار أربع ركعات ، فإن هذا الانتقال لا يصح ، لأن الوقت الباقي تعين للفريضة ، وإذا تعين للفريضة لم يصح أن يشغله بغيرها .
لكن هل هذا العلم مستحب أو مكروه ؟
مستحب في بعض الأمور ، وذلك فيما إذا شرع في الفريضة منفرداً ، ثم حضرت جماعة ، ففي هذه الحال يستحب له أن يقطعها لأجل أن يحصّل الجماعة .
ثانياً : أن ينتقل من فرض إلى فرض .(3/13)
مثال : شرع يصلي العصر ، ثم ذكر أنه صلى الظهر على غير وضوء ، فنوى أنها الظهر ، فلا تصح صلاة العصر ولا صلاة الظهر .
لأن الفرض الذي انتقل منه [ وهو العصر ] قد أبطله بقطع النية .
والفرض الذي انتقل إليه لم ينوه من أوله .
ولو انتقل بتحريمة – والتحريمة بالقول – ففي المثال الذي ذكرنا أنه صلى الظهر على حدث ، فانتقل من العصر وكبر للظهر فنقول بطلت صلاة العصر ، وأما الظهر فصحيحة ، لأنه ابتدأها من أولها .
باب حكم ستر أحد العاتقين
111 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : (( لا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ , لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ )) .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
عاتقه : هو ما بين المنكب والعنق .
الثوب : المراد به الإزار الذي يكسو أسفل جسم الإنسان ، أو الرداء الذي يكسو أعلاه ، وليس المراد به القميص .
الفوائد :
استحباب تغطية المنكبين إذا كان القميص واسعاً .
وقد اختلف العلماء في حكم تغطية الرجل لعاتقه في الصلاة :
تحرير الخلاف :
أولاً : لا خلاف بين العلماء في جواز كشف الرجل عاتقيه خارج الصلاة .
ثانياً : ولا خلاف بينهم في مشروعية ستر العاتقين في الصلاة ، وأن ذلك هو الأكمل والأفضل في حق المصلي .
ثالثاً : وإنما الخلاف بينهم في حكم ستر العاتقين داخل الصلاة .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال :
القول الأول : أنه يجب أن يضع المصلي على عاتقه شيئاً من اللباس فرضاً كانت الصلاة أم نفلاً .
وهذا ذهب إليه المالكية والحنابلة في رواية ، ورجح هذا القول جمع من العلماء كابن المنذر ، والبخاري ، وابن بطال ، وابن حجر ، وابن رجب ، وابن قدامة . واستدلوا :
بحديث الباب : ( لا يصلي أحدكم في الثوب ... ) .(3/14)
وجه الاستدلال : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة في الثوب الواحد إذا لم يكن على العاتق منه شيء نهياً مؤكداً ، والأصل في النهي التحريم ، فدل على وجوب ستر العاتق في الصلاة .
قالوا : الحديث عام ، فيشمل الفرض والنفل ، لأنه ما ثبت في الفرض ثبت في النفل إلا بدليل .
القول الثاني : أنه يجب في الفرض .
وهذا المذهب ، وذكر بعض الحنابلة أنها من المفردات . واستدلوا :
بحديث الباب . قالوا :
هذا محمول على صلاة الفريضة ، لأن الفرض هو المكلف به . واستدلوا :
بحديث عائشة : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في ثوب واحد بعضه علي ) . رواه أبو داود
قالوا : ظاهر هذا الحديث أنه كان في صلاة نفل . وقالوا :
إن صلاة النفل مبناها على التخفيف .
القول الثالث : أنه مستحب لا واجب .
وإليه ذهب جمهور العلماء : الحنفية ، وأكثر المالكية ، والشافعية .
واستدلوا على الاستحباب : بحديث الباب .
واستدلوا على عدم الوجوب : بحديث جابر : ( وإذا كان ضيقاً فاتزر به ) فدل على أن الصلاة بإزار مع عراء المنكبين صحيحة .
واستدلوا : بالإجماع المحكي على جواز الصلاة مع ترك ستر العاتقين . [ وهذا الإجماع فيه نظر ] .
وهذا القول هو الراجح .
عورة الرجل في الصلاة :
أولاً : لا خلاف بين العلماء في أن ما فوق سرة الرجل وما تحت ركبتيه ليس بعورة .
ثانياً : لا خلاف بينهم في أن القبل والدبر عورة .
ثالثاً : وإنما الخلاف فيما عدا الفرجين مما تحت السرة وفوق الركبة .
اختلف العلماء على أقوال :
القول الأول : أن عورة الرجل من السرة إلى الركبة .
وهذا مذهب أكثر العلماء من المالكية والحنفية والشافعية والحنابلة . الأدلة :
عن جرهد الأسلمي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرّ به وهو كاشف عن فخذه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( غط فخذك فإنها من العورة ) . رواه الترمذي(3/15)
وعن محمد بن جحش قال : ( مرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا معه على معمر وفخذه مكشوفتان ، فقال : يا معمر ، غط فخذيك فإن الفخذين عورة ) . رواه أحمد والبخاري تعليقاً
وهذه الأحاديث صححها جمع من العلماء : كابن حبان ، والحاكم ، والذهبي ، وابن حجر ، والألباني .
وعن علي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا تبرز فخذك ، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت ) . رواه أبو داود
القول الثاني : أن عورة الرجل الفرجان فقط .
وهذا مذهب الظاهرية .
لحديث أنس - رضي الله عنه - : ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزا خيبر فصليا عندا صلاة الغداة بغلس ، فركب نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ... فأجرى نبي الله في زقاق مكة ، وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله ، ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ نبي الله ... ).متفق عليه
وجه الدلالة : أن الفخذ ليس بعورة ، ولو كانت عورة ما كشفها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
والراجح القول الأول .
112 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : (( مَنْ أَكَلَ ثُوماً أَوْ بَصَلاً . فَلْيَعْتَزِلْنَا أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ . وَأُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ . فَوَجَدَ لَهَا رِيحاً , فَسَأَلَ ؟ فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنْ الْبُقُولِ . فَقَالَ : قَرِّبُوهَا إلَى بَعْضِ أَصْحَابِي . فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا . قَالَ : كُلْ . فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لا تُنَاجِي )) .(3/16)
113 - عَنْ جَابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي اللهُ عنهما أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : (( مَنْ أَكَلَ الثُّومَ وَالْبَصَلَ وَالْكُرَّاثَ فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا ، فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الإِنْسَانُ )) . وفي روايةٍ (( بني آدمَ )) .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
بقدر : وهو ما يطبخ فيه .
خضرات : جمع خضرة .
الفوائد :
النهي عن إتيان المسجد لمن أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً .
ذهب بعض العلماء إلى أن النهي خاص بمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( مسجدنا ) لكن الصحيح أنه عام في كل مسجد .
ويوؤيده رواية أحمد : ( فلا يقربن المساجد ) .
قوله لبعض أصحابه : ( كل فإني أناجي من لا تناجي ) المراد الملائكة .
وقد جاء عند ابن خزيمة وابن حبان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أستحي من ملائكة الله وليس بمحرم ) .
وفي رواية : ( فإني لست كأحد منكم ، إني أخاف أن أوذي صاحبي ) .
أن العلة في النهي عن إتيان المسجد لمن أكل من هذه الأشياء ، الرائحة الكريهة التي تصدر عنها ، فإن فيها إيذاء للمصلين والملائكة تتأذى مما يتأذى منه المصلون .
حِلْ أكل الثوم والبصل والكراث .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من أكل ثوماً أو بصلاً ... ) .
ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث : ( ... وليس بمحرم ... ) .
ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لبعض أصحابه : ( كل فإني أناجي من لا تناجي ) .
يلحق بهذه الأشياء كل ذي رائحة كريهة تتأذى منها الملائكة أو المصلون .
أن من أكل البصل أو الثوم لا يحضر الجماعة ، دفعاً لأذيته .(3/17)
فالفرق بينه وبين المريض الذي لا يستطيع أن يحضر ، أن المريض معذور ويكتب له أجر الجماعة إذا كان من عادته أن يصلي مع الجماعة ، وأما آكل البصل والثوم فلا يكتب له أجر الجماعة ، لأنه لا يحضر للجماعة دفعاً لأذيته .
بابُ التَّشهدِ
114 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ : (( عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - التَّشَهُّدَ - كَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ - كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ : التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ , وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ , السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ . السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ . أَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ )) وَفِي لَفْظٍ : (( إذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاةِ فَلْيَقُلْ : التَّحِيَّاتُ للهِ - وَذَكَرَهُ - وَفِيهِ : فَإِنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ سَلَّمْتُمْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ - وَفِيهِ - فَلْيَتَخَيَّرْ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ ))
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
التحيات : أي كل أنواع وأصناف التعظيمات ثابتة لله .
الصلوات : مثل الفرائض الخمس ، وقيل : الفرائض النوافل ، وقيل : العبادات كلها .
السلام عليك أيها النبي - صلى الله عليه وسلم - : دعاء للنبي بالسلامة في حياته ، وبعد موته أن تسلم شريعته ودينه .
وبركاته : البركة هي الخير الكثير .
السلام علينا : قيل : المصلي . وقيل : المصلون . وقيل : المصلون ومعهم الملائكة . وقيل : المراد جميع الأمة المحمدية ، وهذا أقرب .
عبده : رد على رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - فوق قدره .
ورسوله : رد على من كذبه .
الفوائد :(3/18)
هذا يسمى التشهد الأول ، وموضعه يكون بعد الركعتين .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا جلس أحدكم في الصلاة ) .
وللنسائي عن عبد الله : ( كنا ما ندري ما نقول بين كل ركعتين ، وأن محمداً علم فواتح الخير وخواتيمه ، فقال : إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا ... ) . وفي رواية : ( فقولوا في كل جلسة ) . ولابن خزيمة عن عبد الله : ( علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد في وسط الصلاة ) .
الحديث يدل على وجوب التشهد الأول .
وقد اختلف العلماء في حكمه على قولين :
القول الأول : أنه واجب .
وهذا مذهب أحمد وإسحاق .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا صلى أحدكم فليقل : التحيات ... ) .
( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم ابن مسعود التشهد وأمره أن يعلمه الناس ) . رواه أحمد
ولحديث ابن مسعود قال : ( كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد ... ) فهذا الحديث يدل على ركنية التشهد الأول ، لكن قلنا بالوجوب فقط ، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما نسي التشهد الأول لم يرجع إليه وجبره بسجود سهو ، ولو كان ركناً لم ينجبر بسجود السهو .
القول الثاني : أنه سنة .
وهذا مذهب مالك .
والقول الأول أرجح .
ورد للتشهد الأول عدة صيغ :
أولاً : تشهد ابن مسعود .
حديث الباب .
وقد اختار هذا التشهد أحمد وأبي حنيفة .
قال الترمذي : ” عليه العمل عند أكثر أهل العلم والصحابة والتابعين “ .
ثانياً : تشهد ابن عباس .
قال : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن ، فكان يقول : التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله ... ) . رواه مسلم
ثالثاً : تشهد أبي موسى .
وفيه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( التحيات لله الصلوات لله ... ) . رواه مسلم
وقد سبق معنا أن العبادة إذا وردت على وجوه متنوعة ، تفعل هذه مرة وهذه مرة .(3/19)
السنة في هذا التشهد أن لا يزيد عليه شيء ، كالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - أو الدعاء .
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم ابن مسعود إلا هذا التشهد .
قال ابن القيم : ” وكان - صلى الله عليه وسلم - يخفف هذا التشهد جداً حتى كأنه على الرضف – وهي الحجارة المحماة – ولم ينقل عنه في حديث قط أنه صلى الله عليه وعلى آله في هذا التشهد ، ولا كان أيضاً يستعيذ من عذاب القبر وعذاب النار وفتنة المحيا والممات ... ) “ .
فضل العبد الصالح .
قال ابن حجر : ” الأشهر في تعريف الصالح ، أنه القائم بما يجب عليه من حقوق الله وحقوق عباده “ .
قال الترمذي الحكيم : ” من أراد أن يحظى من هذا السلام الذي يسلم الخلق في صلاتهم ، فليكن عبداً صالحاً “ .
115 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ : (( لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ فَقَالَ أَلا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً ؟ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَلَيْنَا , فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , قَدْ عَلَّمَنَا اللَّهُ كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ : فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ ؟ فَقَالَ : قُولُوا : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ , وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ )) .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
علمنا كيف نسلم عليك : يعني السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أي أنهم قد عرفوه وقد سبق .
كيف نصلي عليك : قيل : السؤال المراد السؤال عن معنى الصلاة المأمور بها بأي لفظ تؤدى ، وقيل : عن صفتها ، وهذا الصحيح ، لأن لفظ : ( كيف ) ظاهر في الصفة .
جاء في رواية : ( كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا ) .(3/20)
اللهم صلِّ على محمد : معنى الصلاة من الله على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - : قيل : الرحمة ، وهذا ضعيف . وقيل : أي ثناء الله عليه في الملأ الأعلى ، كما قاله أبو العالية ، وهو الصحيح .
حميد : الحميد هو من حصل له صفات الحمد أكملها ذاتاً وصفاتاً .
مجيد : من المجد ، وهو صفة الكمال في الشرف والكرم .
الفوائد :
اختلف في المراد بالآل :
فقيل : أتباعه على دينه .
كما قال تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } . (غافر: من الآية46)
وقيل : آله وقرابته [ وخصه كثير من العلماء بمن تحرم عليهم الصدقة ] .
قال الشيخ محمد بن عثيمين : ” الصحيح أن الآل هم الأتباع ، لكن لو قرن الآل بالأتباع فقيل : على محمد وعلى آله وأتباعه ، صار المراد بالآل المؤمنين من قرابته “ .
مشروعية الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأخير .
وقد اختلف العلماء في حكمها :
القول الأول : أنها واجبة .
لقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } . (الأحزاب: من الآية56) وهذه الآية عامة في الصلاة وغيرها .
ولحديث الباب : ( ... قولوا : اللهم صلّ على ... ) .
ولحديث فضالة بن عبيد قال : ( سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يدعو في صلاته ولم يحمد الله ولم يصلّ على النبي ، فقال : عجل هذا ، ثم دعاه فقال : إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه ، ثم يصلي على النبي ، ثم يدعو بما شاء ) . رواه أحمد
القول الثاني : أنها سنة .
وهو قول مالك وأبي حنيفة .
واستدلوا بحديث المسيء في صلاته ، حيث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر له .
والراجح الأول .
وردت الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بألفاظ مختلفة وروايات متنوعة ، وقد أجمع العلماء على جواز كل ثابت من الصلاة على نبينا وجواز الإتيان به .
يشرع الدعاء بعد التشهد .(3/21)
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ثم ليتخير من الدعاء أعجبه ) .
وقد قال بعض العلماء : لا يجوز الدعاء بغير ما ورد ليس من أمر الآخرة ، كحوائج الدنيا ، كقوله : اللهم ارزقني داراً واسعة .
وقال بعضهم : يجوز الدعاء بحوائج الدنيا وملاذها ، واختاره الشيخ السعدي .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه ) .
ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء أو ما أحب ) .
فأطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر بالدعاء ولم يقيده فتناول كل ما يسمى دعاء .
عظم منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولذلك اختلف في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - :
فقيل : مستحبة ، وقيل : تجب في العمر مرة واحدة .
والصحيح أنها واجبة في العمر مرة واحدة .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( البخيل من ذكرت عنده فلم يصلّ علي ) . رواه الترمذي ، وهذا ذم .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( ما جلس قوم في مجلس لم يذكروا الله ولم يصلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا كان عليهم ترة أو حسرة يوم القيامة ) . رواه الترمذي
فائدة :
مواضع يسن فيها الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - :
يوم الجمعة – بعد الأذان – في بداية الدعاء – في التشهد في الصلاة – في أذكار الصباح والمساء – عند دخول المسجد وعند الخروج منه – في صلاة الجنازة .
116 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُو : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ , وَعَذَابِ النَّارِ , وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ , وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ )) .
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ : (( إذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ , يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ )) .(3/22)
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
أعوذ : أعتصم بك .
فتنة المحيا : فتنة المحيا تدور على شيئين : شبهات ، وشهوات .
فتنة الممات : قيل : بسؤال الملكين للميت في قبره ، وقيل : المراد ما يكون عند الموت في آخر الحياة .
المسيح : سمي مسيحاً : قيل : لأنه يمسح الأرض بسرعة ، وقيل : لأنه ممسوح العين اليمنى ، وهذا أقرب .
الدجال : الكذاب .
الفوائد :
استحباب هذا الدعاء بعد التشهد الأخير ، وقبل السلام .
ويدل على أنه في التشهد الأخير دون الأول ، رواية مسلم : ( إذا تشهد أحدكم التشهد الأخير ... ) .
اختلف العلماء في حكم هذا الدعاء على قولين :
القول الأول : أنه واجب .
وهذا مذهب ابن حزم .
لقوله : ( ... إذا تشهد أحدكم فليستعذ ... ) وهذا أمر والأمر للوجوب .
القول الثاني : أنه مستحب غير واجب .
وهذا مذهب أكثر العلماء .
لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل : ( ما تقول في صلاتك ؟ قال : أتشهد ، ثم أسأل الله الجنة ، وأعوذ به من النار ، أما والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : حولها ندندن ) . رواه أبو داود
خطر هذه الأمور الأربع .
إثبات عذاب القبر .
وقد دل على إثبات عذاب القبر الكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : { النار يعرضون عليها غدواً وعشياً } .
ولحديث الباب .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( استعيذوا بالله من عذاب القبر ) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( ... لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ) . رواه مسلم
وعن عبد الله بن عباس : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرّ على قبرين فقال : إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ... ) . متفق عليه
شدة فتنة المسيح الدجال ، ومن شدة فتنته أن الأنبياء جميعاً حذرت أممها .(3/23)
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( ما بعث الله نبياً إلا وأنذر أمته الأعور الكذاب ، ألا إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور ) . متفق عليه
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( يا أيها الناس ، إنها لم تكن فتنة على وجه الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظم من فتنة الدجال ) . رواه ابن ماجه
فائدة :
كيف النجاة من فتنة الدجال ؟
أولاً : حفظ أول سورة الكهف .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم الدجال ) . رواه مسلم
ثانياً : الفرار منه .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من سمع بالدجال فلينأ عنه ) . رواه أبو داود
ثالثاً : الاستعاذة منه في الصلاة .
كما في حديث الباب .
117 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنهم أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: :
(( عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاتِي . قَالَ : قُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْماً كَثِيرَاً . وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ أَنْتَ . فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ . وَارْحَمْنِي , إنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )) .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
ظلمت نفسي : أي الذنوب .
فاغفر لي : المغفرة هي : ستر الذنب والتجاوز عنه .
ارحمني : أدخلني في رحمتك .
الفوائد :
مشروعية الدعاء بهذا الدعاء في الصلاة فيما بين التشهد والتسليم ، أو في السجود ، حيث لم يحدد النبي - صلى الله عليه وسلم - مكانه.
وقد جاء في رواية : ( ... علمني دعاء أدعو به في صلاتي وفي بيتي ) .
فضيلة هذا الدعاء لجمعه وشموله ، وتعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه أبا بكر الصديق بعد طلبه .
فضل أبي بكر الصديق وحرصه على الخير .
عظم هذا الدعاء ، حيث جمع أنواعاً من التضرع :
أولاً : الاعتراف بالذنب العظيم .(3/24)
ثانياً : معرفة أنه لا يغفر الذنوب إلا الله .
ثالثاً : توسل إلى الله بأسمائه الحسنى .
أن المغفرة ستر الذنب مع التجاوز عنه .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : ” لا يكفي ستر الذنب ، بل لا بد من تجاوزه ، والدليل على هذا أمران ، لغوي وسمعي .
أما اللغوي : فلأن المغفرة مشتقة من المغفر ، والمغفر هو ما يوضع على الرأس ، جمع أمرين : الوقاية والستر .
وأما السمعي : فهو أن الله تبارك وتعالى إذا خلا بعبده المؤمن يوم القيامة وقرره بذنوبه وأقر ، قال : قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم “ .
مشروعية سؤال الرحمة .
إثبات اسمين من أسماء الله [ الغفور ، الرحيم ] .
الغفور : هو الذي يستر ذنوب عباده .
من الأدعية التي تقال قبل السلام :
عن معاذ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : ( يا معاذ ، إني أحبك في الله ، فلا تدعن دبر كل صلاة مكتوبة أن تقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ) . رواه أبو داود
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( اللهم حاسبني حساباً يسيراً ) . رواه أحمد
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار ) . رواه أبو داود
118 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (( مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - - بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ " إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ " - إلاَّ يَقُولُ فِيهَا : سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ , اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي )) .
وَفِي لَفْظٍ : (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ , اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي )) .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
صلاة : يشمل الفريضة والنافلة .
الفتح : قيل : فتح مكة . وقيل : صلح الحديبية .(3/25)
سبحانك : التسبيح تنزيه الله عن النقائص والعيوب .
الفوائد :
مشروعية قول المصلي في ركوعه وسجوده : سبحانك اللهم وبحمدك ، اللهم اغفر لي .
هذا الدعاء مستحب ليس بواجب ، والواجب هو قول : سبحان ربي العظيم في الركوع ، وسبحان ربي الأعلى في السجود .
يستحب أن يزيد على ذلك بعض الأدعية التي وردت في السنة :
( سبوح قدوس ربي الملائكة والروح ) . رواه مسلم
( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي ) . متفق عليه
( سبحان ربي الأعلى وبحمده ) . رواه أبو داود
هذا الذكر : ( سبحانك اللهم وبحمدك ... ) يقوله - صلى الله عليه وسلم - متأولاً الآية الكريمة : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ } .
ولذا قالت عائشة : ( أنه يتأول القرآن ) أي يعمل به .
هذا الذكر في غاية المناسبة ، لما فيه من التذلل والتضرع لله تعالى ، وتنزيهه عن النقائص والعيوب ، وإثبات المحامد له ، ثم بعد هذا كله سؤال المغفرة .
أن الإنسان إذا كبر عمره استحب أن يكثر من الاستغفار تأسياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .
استشكل بعض العلماء طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - من ربه المغفرة وهو المغفور له :
قيل : امتثالاً لأمر الله ، وقيل : أن استغفار النبي - صلى الله عليه وسلم - تعليماً لأمته وإرشاداً لهم ، فإذا كان المغفور له يسأل الله ، فمن باب أولى غيره .
119 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : (( أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ , حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - )) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " كُنْتُ أَعْلَمُ إذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إذَا سَمِعْتُهُ " .
وَفِي لَفْظٍ " مَا كُنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالتَّكْبِيرِ " .(3/26)
120 - عَنْ وَرَّادٍ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : أَمْلَى عَلَيَّ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ مِنْ كِتَابٍ إلَى مُعَاوِيَةَ : (( إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ : " لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ , وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ . اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ , وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ )) . ثُمَّ وَفَدْتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَسَمِعْتُهُ يَأْمُرُ النَّاسَ بِذَلِكَ .
وَفِي لَفْظٍ : (( كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ , وَإِضَاعَةِ الْمَالِ , وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقُوقِ الأُمَّهَاتِ , وَوَأْدِ الْبَنَاتِ , وَمَنْعٍ وَهَاتِ )) .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
إذا انصرفوا : أي كنت أعلم بسماع الذكر انصرافهم .
إلا بالتكبير : أي بسماع التكبير ممن وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - .
لا إله إلا الله : لا معبود بحق إلا الله .
له الحمد : له الوصف بالكمال حباً وتعظيماً .
ذا الجد : صاحب الجد ، والجد بالفتح : الغنى والحظ .
الجد : بضم الدال ، والمعنى الغنى والحظ ، لا يغني عن الله ولا يمنع مما قضى به .
وأد البنات : دفنهن حيات .
منع : أي منع ما يطلب بذله من مال أو منفعة .
الفوائد :
استحباب الدعاء عقب الصلوات المكتوبة .
ويدل لذلك حديث ثوبان : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً ) . رواه مسلم
يستحب الجهر بالذكر الذي بعد الصلاة .
لحديث الباب في قول ابن عباس : ( ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بالتكبير ) .(3/27)
ولحديث عبد الله بن الزبير : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يهل في دبر كل صلاة حين يسلم : لا إله إلا الله ... ولو كره الكافرون ) . متفق عليه
فقوله : ( يهل ) دليل على أنه يرفع صوته ، فإن الإهلال رفع الصوت .
وذهب بعض العلماء إلى عدم استحباب الجهر بالذكر عقب الصلاة .
وهو مذهب الشافعي .
وأجابوا عن حديث ابن عباس :
أنهم جهروا به وقتاً يسيراً لأجل تعليم صفة الذكر ، لا أنهم داموا على الجهر به .
والراجح القول الأول .
يستحب الذكر بالأدعية الواردة عقب الصلاة ، وهي كما يلي :
أولاً : أستغفر الله ثلاثاً ، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام .
لحديث ثوبان قال : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من صلاته استغفر الله وقال : اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ) . رواه مسلم
ثانياً : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع الجد منك الجد ) . متفق عليه
لحديث المغيرة بن شعبة .
ثالثاً : عن أبي الزبير قال : ( كان ابن الزبير يقول في دبر كل صلاة حين يسلم : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ولا نعبد إلا إياه ، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن ، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون . وقال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهلل دبر كل صلاة ).رواه مسلم
رابعاً : ثم يسبح ويكبر ويحمد ويهلل ، ولها عدة صيغ :
أولاً : سبحان الله 33 ، الحمد لله 33 ، الله أكبر33
وتمام المائة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك له الحمد وهو على كل شيء قدير(3/28)
لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين ، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين ، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين ، فتلك تسع وتسعون ، وقال تمام المائة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، غفرت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر ) . رواه مسلم
ثانياً : سبحان الله 33 ، الحمد لله 33 ، الله أكبر 34
لحديث كعب بن عجرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( معقبات لا يخيب قائلهن أو فاعلهن دبر كل صلاة مكتوبة : ثلاث وثلاثون تسبيحة ، وثلاث وثلاثون تحميدة ، وأربع وثلاثون تكبيرة ) .
ثالثاً : الله أكبر 25 ، الحمد لله 25 ، سبحان الله 25 ، لا إله الله 25
لحديث زيد بن ثابت قال : ( أمرنا أن نسبح الله دبر كل صلاة : ثلاث وثلاثون ، ونحمده ثلاثاً وثلاثون ، ونكبره أربع وثلاثون . قال : فرأى رجل من الأنصار في المنام ، فقال : أمركم رسول الله أن تسبحوا دبر كل صلاة 33 ، وتحمدوا 33 وتكبروا 33 ، قال : نعم ، قال : فاجعلوها خمساً وعشرين ، واجعلوا التهليل معهن ، فغدا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدثه فقال : افعلوا ) . رواه الترمذي
رابعاً : سبحان الله 10 ، الحمد لله 10 ، الله أكبر 10
لحديث عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( خلتان لا يحصيهما رجل مسلم إلا دخل الجنة ، ألا وهما يسير ، ومن يعمل بهما قليل ، يسبح الله في دبر كل صلاة عشراً ، ويكبره عشراً ، ويحمده عشراً ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فتلك خمسون ومائة باللسان ، وألف وخمسمائة في الميزان ) . رواه الترمذي
ومن الأذكار التي تقال عقب الصلاة :
- آية الكرسي .
عن أبي أمامة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة ، لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ) . رواه النسائي والطبراني(3/29)
- قراءة المعوذات .
عن عقبة بن عامر قال : ( أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ بالمعوذات دبر كل صلاة ) . رواه أبو داود
الأفضل أن يكون الذكر باليد اليمنى .
لما رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص : ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعقد تسبيحه بيمينه ) .
121 - عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - : (( أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , قَدْ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ قَالَ : وَمَا ذَاكَ ؟ قَالُوا : يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي , وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ , وَيَتَصَدَّقُونَ وَلا نَتَصَدَّقُ . وَيُعْتِقُونَ وَلا نُعْتِقُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَفَلا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ , وَتَسْبِقُونَ مَنْ بَعْدَكُمْ . وَلا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إلاَّ مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ ؟ قَالُوا : بَلَى , يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ : ثَلاثاً وَثَلاثِينَ مَرَّةً . قَالَ أَبُو صَالِحٍ : فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ , فَقَالُوا : سَمِعَ إخْوَانُنَا أَهْلُ الأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا , فَفَعَلُوا مِثْلَهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ )) .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
سمي : هو أبو عبد الله المدني ، ثقة من التابعين الذين عاصروا الصحابة ولم يثبت أنهم لقوا أحداً منهم ، مات سنة 130ه(3/30)
أبو صالح : ذكوان السمان الزيات ، كان يجلب الزيت إلى الكوفة ، ثقة ، مات سنة 101 هـ .
المهاجرين : هم الذين هاجروا قبل الفتح من بلادهم إلى المدينة .
أهل الدثور : أصحاب الأموال الكثيرة .
دبر : خلف كل صلاة .
الفوائد :
مشروعية قول : سبحان الله 33 ، والحمد لله 33 ، والله أكبر 33 بعد كل صلاة مكتوبة .
وأن فضلها عظيم ، وقد سبق فضل آخر لها في الحديث السابق .
شدة حرص الصحابة على التنافس على الخير والمسابقة إليه .
قال ابن القيم : " ... كما كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويفرح بعضهم ببعض باشتراكهم فيه ، بل يحض بعضهم بعضاً ، وهي نوع من المسابقة ، وقد قال تعالى : { سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض } وقال تعالى : { فاستبقوا الخيرات } وكان عمر بن الخطاب يسابق أبا بكر فلم يظفر بسبقه أبداً ، فلما علم أنه استولى على الإمامة قال : والله لا أسابقك إلى شيء أبداً ، وقال : والله ما سابقته إلى خير إلا وجدته قد سبقني إليه " .
الحث على علو الهمة ، والتسابق إلى الخيرات .
قال تعالى : { سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض } .
وقال تعالى : { فاستبقوا الخيرات } .
وقال تعالى : { لمثل هذا فليعمل العاملون } .
وقال تعالى : { يسارعون في الخيرات وهم لها عاملون } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا قامت الساعة وفي يدي أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها ) . رواه أحمد
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا سأل أحدكم فليكثر ، فإنما يسأل ربه ) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر : ( لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، يفتح الله على يديه ، فبات الناس يدوكون ليلهم أيهم يعطاها ، قال عمر : ما أحببت الإمارة إلا يومئذ ) . متفق عليه(3/31)
وعن ربيعة بن كعب قال : ( كنت أيتت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيته بوضوئه وحاجته ، فقال لي : سلني ، فقلت : أسألك مرافقتك في الجنة ، قال : فأعني على نفسك بكثرة السجود ) .
استدل بحديث الباب من قال أن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : الفقير الصابر أفضل .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام ) .
ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء ) .
القول الثاني : أن الغني الشاكر أفضل .
لحديث الباب حيث قال : ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) .
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أن من كان تقياً فهو أفضل .
فائدة :
قال شيخ الإسلام : " فإن الفقراء يدخلون ويسبقون الأغنياء إلى الجنة لأنه لا حساب لهم " .
ذكر الله خير الصدقة على النفس ، فإذا لم يكن للإنسان فضل مال ، فليسبح وليكبر وليهلل ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لهم كما في رواية لمسلم : ( أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون ، إن لكم بكل تسبيحة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ) .
فضيلة الذكر بعد الصلاة ، فإن أجرها يساوي أجر الصدقة لمن لا يملك مالاً يتصدق به .
الحث على السؤال عما ينتفع به المسلم ويترقى به في مراتب الكمال .
بابُ الوِتْرِ
125 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : (( سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - - وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ - مَا تَرَى فِي صَلاةِ اللَّيْلِ ؟ قَالَ : مَثْنَى , مَثْنَى . فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ صَلَّى وَاحِدَةً . فَأَوْتَرَتْ لَهُ مَا صَلَّى . وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ : اجْعَلُوا آخِرَ صَلاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْراً )) .
---------------------------------------(3/32)
جاء عند أبي داود زيادة : ( والنهار ) ، واختلف العلماء في حكم هذه الزيادة :
فبعض العلماء صحهها : كالبخاري ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، والألباني .
وضعفها بعضهم : كالإمام أحمد ، والدار قطني ، والحاكم ، وابن معين ، والطحاوي ، وابن تيمية ، وهذا الراجح .
لأنه انفرد به : [ علي البارقي عن ابن عمر ] ، وقد روى الحديث عن ابن عمر أكثر من عشرة ، ومنهم الحفاظ ، كنافع وسالم وعبد الله بن دينار ، ولم يذكروها .
ولأنه لا تتناسب مع الحديث ، لأن الحديث يقول : ( فإذا خشي أحدكم الصبح ... ) .
معاني الكلمات :
سأل رجل : قال الحافظ : ” وقع في المعجم الصغير أن السائل هو ابن عمر ، لكن يشكل عليه ما وقع في بعض الروايات عن ابن عمر بلفظ : ( أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا بينه وبين السائل ) .
صلاة الليل : أي كيف صلاة الليل .
مثنى مثنى : أي اثنتين اثنتين يسلم من كل ركعتين .
الوتر : اسم للركعة المنفصلة عما قبلها بسلام ، أو اسم للثلاث والخمس والسبع إذا صليت بسلام واحد .
الفوائد :
الحديث دليل على أن الأفضل في صلاة الليل أن تكون مثنى مثنى ، أي يسلم من كل ركعتين .
استدل بحديث الباب من قال : يتعين الفصل بين كل ركعتين من صلاة الليل .
وأجاب الجمهور :
أن ذلك لبيان الأفضل ، لما صح من فعله - صلى الله عليه وسلم - بخلافه .
أو أن يكون للإرشاد إلى الأخف ، لأن السلام بين كل ركعتين أخف على المصلي من الأربع فما فوقها ، لما فيه من الراحة غالباً وقضاء ما يعرض من أمر مهم .
أن صلاة الليل لا تنحصر بعدد معين ، فللإنسان أن يصلي ما شاء من ركعات مثنى مثنى ، لكن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يزيد على إحدى عشرة ركعة .
استدل بمفهوم حديث الباب على أن الأفضل في صلاة النهار أن تكون أربعاً .
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على قولين :
القول الأول : الأفضل أن تكون أربعاً .
وهذا مذهب إسحاق وأبي حنيفة .
لمفهوم الحديث .(3/33)
ولفعل ابن عمر أنه كان يصلي أربعاً .
القول الثاني : أن صلاة النهار كالليل .
وهذا مذهب الحنابلة .
لزيادة : ( والنهار ) .
وهذا الغالب من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - .
استدل بحديث الباب على أنه لا يجوز الاقتصار على أقل من ركعتين في النافلة ما عدا الوتر .
فلا يجوز أن يتطوع بركعة واحدة في غير الوتر .
الحديث دليل على أن خروج وقت الوتر بطلوع الفجر .
قال الحافظ ابن حجر : ” وأصرح منه ما رواه أبو داود عن ابن عمر كان يقول : ( من صلى من الليل فليجعل آخر صلاته وتراً فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بذلك ، فإذا كان الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر ) . “
وقد اختلف السلف : هل يقضى ؟ [ وسيأتي بحثه ] .
قوله ( اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً ) استدل به على أنه لا صلاة بعد الوتر .
لكن جاء عند مسلم عن عائشة قالت : ( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي ثلاث عشرة ركعة ، يصلي ثمان ركعات ثم يوتر ، ثم يصلي ركعتين وهو جالس ) .
وقد أجاب العلماء عن هذا بأجوبة :
فقيل : فعل ذلك بياناً لجواز الصلاة بعد الوتر .
ورجح هذا النووي ، وقال : ” الصواب أن هاتين الركعتين فعلهما - صلى الله عليه وسلم - بعد الوتر جالساً لبيان جواز الصلاة بعد الوتر ، وبيان جواز النفل جالساً ، ولم يواظب على ذلك ، بل فعله مرة أو مرتين أو مرات قليلة ، ... ثم قال : وإنما تأولنا حديث الركعتين جالساً ، لأن الروايات المشهورة في الصحيحين وغيرهما عن عائشة ، مع روايات خلائق من الصحابة في الصحيحين ، مصرحة بأن آخر صلاته - صلى الله عليه وسلم - في الليل كان وتراً ... فكيف يظن به - صلى الله عليه وسلم - مع هذه الأحاديث وأشباهها أنه يداوم على ركعتين بعد الوتر ويجعلهما آخر صلاة الليل “ .
وذهب بعض العلماء إلى العمل بالحديث ، وجعلوا الأمر في قوله : ( اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وتراً ) مختصاً بمن أوتر آخر الليل .(3/34)
وأنكر مالك هاتين الركعتين .
وقال ابن القيم : ” إن هاتين الركعتين تجريان مجرى السنة ، وتكميل الوتر ، فإن الوتر عبادة مستقلة ، ولا سيما إن قيل بوجوبه ، فتجري الركعتان بعده مجرى سنة المغرب ، فإنها وتر النهار ، والركعتان بعدها تكميل لها ، فكذلك الركعتان بعد وتر الليل “ .
اختلف العلماء في حكم الوتر على قولين :
القول الأول : أنه واجب .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
لحديث أبي أيوب : ( الوتر حق ... ) .
ولحديث : ( الوتر حق فمن لم يوتر فليس منّا ) . رواه أبو داود
القول الثاني : أنه سنة غير وجب .
وهذا مذهب جماهير العلماء . واستدلوا :
بحديث بعث معاذ إلى اليمن ، وفيه : ( فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ... ) .
قال الشوكاني : ” وهذا من أحسن ما يستدل به ، لأن بعث معاذ كان قبل وفاته - صلى الله عليه وسلم - بيسير “ .
ومن الأدلة الدالة على عدم الوجوب ما اتفق عليه الشيخان من حديث طلحة بن عبيد الله قال : ( جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجد ... وفيه : قال - صلى الله عليه وسلم - : خمس صلوات في اليوم والليلة ، قال : هل علي غيرها : قال : لا ، إلا أن تطوع ) .
ولحديث علي : ( ليس الوتر بحتم ... ) .
ولحديث ابن عمر : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر على بعيره ) وهذا دليل على أن الوتر ليس بواجب ، إذ لو كان واجباً لم يصله على الراحلة .
قال النووي : ” وأما الأحاديث التي احتجوا بها فمحمولة على الاستحباب والندب المتأكد ، ولا بد من هذا التأويل للجمع بينها وبين الأحاديث التي استدللنا بها “ .
وهذا القول هو الصحيح .
وأجاب الجمهور عن أدلة الحنفية :
بأن أكثرها ضعيف ، وبقيتها لا يثبت بها المطلوب .(3/35)
قوله : ( صلى واحدة فأوترت له ) دليل على أن أقل الوتر ركعة ، وأن الركعة الفردة صلاة صحيحة ، وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور ، وقال أبو حنيفة لا يصح الإيتار بواحدة ولا تكون الركعة الواحدة صلاة فقط ، والأحاديث الصحيحة ترد عليه .
126 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (( مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ , وَأَوْسَطِهِ , وَآخِرِهِ . وَانْتَهَى وِتْرُهُ إلَى السَّحَرِ )) .
127 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ , لا يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ إلاَّ فِي آخِرِهَا )) .
---------------------------------------
ورد وتر النبي - صلى الله عليه وسلم - على عدة صفات :
الأولى: أن يوتر بخمس ، فيسردها سرداً لا يتشهد إلا في آخرها .
كما في حديث الباب .
الثانية : أن يوتر بسبع فيسردها سرداً لا يتشهد إلا في آخرها .
الثالثة : أن يوتر بتسع ، فيسردها سرداً لكن يتشهد بعد الثامنة ولا يسلم ، ثم يصلي التاسعة ويسلم .
الرابعة : أن يوتر بإحدى عشرة ركعة ، فيسلم من كل ركعتين ، ويوتر بواحدة .
في حديث الباب تصف عائشة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل ، بأنه يصلي ثلاث عشرة ركعة ، فيصلّ الثمان الأول ركعتين ركعتين ، ثم خمساً في سلام واحد .
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ربما صلى الليل ثلاث عشرة ركعة ، وإن كان الأغلب أنه لا يزيد على إحدى عشرة ركعة .
من أوتر في أول الليل ، ثم قام في آخر الليل ، فإنه لا يعيد وتره ، بل يصلي مثنى مثنى .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا وتران في ليلة ) . رواه الترمذي
باب الخشوع في الصلاة(3/36)
131 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها : (( أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلامٌ . فَنَظَرَ إلَى أَعْلامِهَا نَظْرَةً . فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إلَى أَبِي جَهْمٍ , وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ . فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلاتِي )) .
---------------------------------------
معاني الكلمات :
الخميصة : كساء مربع له أعلام .
الانبجانية : بفتح الهمزة وسكون النون وتخفيف الميم : كساء غليظ لا علم له .
ألهتني : شغلتني .
آنفاً : قريباً .
عن صلاتي : أي عن كمال الحضور فيها ، لكن جاء في رواية تدل على أنه لم يقع له شيء من ذلك ، وإنما خشي أن يقع ، لقوله : ( فأخاف ) وكذا في رواية مالك : ( فكاد ) . [ قاله الحافظ ابن حجر ]
الفوائد :
تخبر عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في خميصة فيها خطوط ، فنظر وهو في صلاته إلى خطوطها نظرة واحدة ، وانشغل بها عن صلاته ، وكانت هذه الخميصة مهداة إليه ، أهداها أبو جهم لأنها أعجبته فآثر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما فرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من صلاته بادر بردها إلى أبي جهم وأخذ أنبجانية أبي جهم بديلاً عنها ، وعلل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بأنها ألهته عن الخشوع في الصلاة .
مشروعية الخشوع في الصلاة ، وفعل الأسباب الجالبة له ، والابتعاد عن كل ما يشغل المصلي في صلاته .
قال تعالى : { قد أفلح المؤمنون . الذين هم في صلاتهم خاشعون } .
قال ابن كثير : ” الخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها ، واشتغل بها عما عداها وآثرها على غيرها ، وحينئذٍ تكون راحة له وقرة عين كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة ) “ .(3/37)
فيه المبادرة إلى ترك كل ما يلهي ويشغل القلب عن الطاعات وإلى الإعراض عن زينة الدنيا والفتنة بها .
كراهة تزويق المساجد ونقشها والكتابة بها ، لما يجلبه من اشتغال المصلين في النظر إليها .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد ) . رواه أبو داود
أهمية الخشوع في الصلاة ، وهو حضور القلب وسكون البدن .
أن انشغال الفكر يسيراً في الصلاة غير قادح فيها ، وأنها صحيحة .
إيثار إكمال العمل الصالح على ملاذ الدنيا وزينتها .
حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأكمل .
إشكال : كيف يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - الخميصة إلى أبي جهم مع أن أبا جهم قد يستعملها وتعرض له في صلاته ؟
فالجواب :
أرسلها له ولا يلزم أن يستعملها في صلاته .
أو يحتمل أن ذلك من جنس قوله - صلى الله عليه وسلم - ( كل فإني أناجي من لا تناجي ) فحال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المناجاة في الصلاة ليست كحال غيره .
طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - من أبي جهم ثوباً ليعلمه أنه لم يرد عليه هديته استخفافاً به .
فيه حسن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - .
رعاية الإنسان لحال أصحابه وخواطرهم ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رد الخميصة على أبي جهم طلب الإنبجانية حتى لا يكون في خاطره شيء .
استحباب قبول الهدية ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( تهادوا تحابوا ) . رواه البخاري في الأدب المفرد
ولكن شرط العلماء لذلك شروطاً :
أولاً : أن لا يعلم أنه أهدى له خجلاً وحياءً ، فإن علم أنه أهدى إليه خجلاً وحياءً فإنه لا يجوز أن يقبلها .
ثانياً : أن لا تكون الهدية محرمة ، سواءً كان التحريم لعينها أو لحق الغير .
ثالثاً : أن لا تعظم منّة المهدي .
بابُ الجمعِ بين الصلاتين في السفرِ(3/38)
132 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم - يَجْمَعُ فِي السَّفَرِ بَيْنَ صَلاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ , إذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ , وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ )) .
---------------------------------------
معاني الكلمات :
الجمع : هو ضم إحدى الصلاتين إلى الأخرى .
والصلاتين التي يصح جمعهما هي الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء ، جمع تقديم أو تأخير .
إذا كان على ظهر سير : أي إذا كان سائراً لا نازلاً .
الفوائد :
مشروعية الجمع في السفر .
والجمع ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : متفق عليه بين العلماء ، وهو الجمع بعرفة ومزدلفة .
القسم الثاني : مختلف فيه ، وهو الجمع في السفر .
القول الأول : لا يجوز الجمع مطلقاً في غير عرفة ومزدلفة .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
لقوله تعالى : { إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً } . (النساء: من الآية103)
القول الثاني : جواز ذلك .
وهذا مذهب أكثر أهل العلم كما ذكر ذلك ابن قدامة .
أدلتهم :
لحديث الباب .
ولحديث أنس قال : ( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ، ثم جمع بينهما ، وإذا زاغت صلى الظهر ثم ركب ) .
وهذا القول هو الصحيح .
لكن اختلفوا هل هو جائز مطلقاً أم مستحب مطلقاً ؟
فقيل : لا يستحب إلا إذا كان سائراً ، لا إذا كان نازلاً .
لحديث ابن عمر : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع إذا جد به السير ) . متفق عليه
وقيل : إذا جد السائر مستحب ، وفي حال النازل جائز غير مستحب ، وإن جمع فلا بأس .
وهذا القول هو الصحيح .
فإن قيل : أيهم أفضل لمن أراد الجمع ، جمع التقديم أو جمع التأخير ؟
فالجواب : الأرفق والأسهل له هو الأفضل .(3/39)
لقوله تعالى : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } . (البقرة: من الآية185)
والجمع إنما شرع رفقاً بالمكلف ، فما كان أرفق به فهو أفضل .
ذكر بعض العلماء للجمع شروطاً :
أولاً : النية .
قالوا : لا بد أن ينوي عند افتتاح الأولى .
مثال : دخل في الصلاة الأولى وهو لا ينوي الجمع ، ثم في أثناء الصلاة بدا له أن يجمع .
مثال آخر : إنسان صلى الأولى ، ثم بعد ما سلم نوى الجمع .
قالوا : لا يصح الجمع .
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يشترط للجمع نية .
وهذا القول هو الصحيح .
لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما جمع بأصحابه لم يعلموا بأنه سيجمع حتى قضى الصلاة الأولى .
ثانياً : الموالاة .
ذهب بعض العلماء إلى أن الموالاة شرط .
وذهب بعض العلماء ، ومنهم ابن تيمية ، إلى أنه لا يشترط الموالاة .
فيجوز مثلاً أن يصلي الظهر ، ثم يتوضأ ويستريح ، ثم يصلي العصر .
وقال : إن الجمع هو من باب ضم الصلاة إلى الأخرى في الوقت لا في الفعل ، فإذا جاز الجمع صار الوقت وقتاً واحداً .
وهذا القول هو الصحيح .
ثالثاً : الترتيب .
يشترط الترتيب ، فيبدأ بالأولى ثم الثانية .
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جمع بين الصلاتين ، بدأ بالأولى ثم الثانية .
رابعاً : أن يستمر العذر إلى دخول وقت الثانية – إن جمع في وقت الثانية – فإن لم يستمر فالجمع حرام .
مثال : رجل مسافر نوى جمع تأخير ، ولكنه قدم إلى بلده قبل خروج وقت الأولى ، فلا يجوز أن يجمع إليها الثانية .
لأن العذر انقطع وزال ، فيجب أن يصليها في وقتها ، ويصليها أربع ، لأن علة القصر هو السفر وقد انقطع .
بابُ قصرِ الصلاة في السفرِ
133 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : (( صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَكَانَ لا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ , وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَذَلِكَ )) .(3/40)
---------------------------------------
لفظ الحديث عند مسلم قال : ( صحبت النبي - صلى الله عليه وسلم - في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله ، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله ، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله ، ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله ) . وفي رواية : ( ومع عثمان صدراً من خلافته ثم أتم ) .
معاني الكلمات :
قصر الصلاة : أي اقتصار المصلي على ركعتين في الرباعية .
السفر : هو مفارقة محل الإقامة على وجه يسمى سفراً .
الفوائد :
مشروعية قصر الصلاة الرباعية في السفر ، وهو مشروع بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً } . (النساء:101) وظاهر الآية أن القصر بقصد الخوف ، إلا أن السنة بينت المراد من الآية ، وهو أن القصر مشروع في الأمن والخوف في حال السفر .
وهذا واضح في حديث يعلى بن أمية قال : ( قلت لعمر بن الخطاب : ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ، وقد أمن الناس ، فقال : عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ) . رواه مسلم
ومن السنة :
حديث الباب ، وغيره من الأحاديث الكثيرة في أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يقصر الصلاة حاجاً أو معتمراً أو غازياً ، وأجمع المسلمون على مشروعية القصر في السفر الطويل .
الصلوات التي تقصر هي الرباعية فقط .
قال ابن المنذر : ” أجمع أهل العلم على أنه لا يقصر في صلاة المغرب ، وأن القصر إنما هو في الرباعية “ .
اختلف العلماء في حكم القصر في السفر على أقوال :
القول الأول : أنه واجب .
وهذا مذهب أبي حنيفة ونصره ابن حزم .(3/41)
لملازمة النبي - صلى الله عليه وسلم - للقصر ولم يتم في سفره .
القول الثاني : أن القصر سنة والإتمام جائز .
وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد .
- لقوله تعالى : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ... } قالوا : إن نفي الجناح يفيد أنه رخصة .
- حديث عمر وقد تقدم : ( صدقة تصدق الله بها عليكم ... ) .
القول الثالث : القصر سنة والإتمام مكروه .
وهذا اختيار ابن تيمية .
قالوا : لأنه خلاف هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - المستمر الدائم ، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يتم أبداً في سفره .
وهذا القول هو الراجح .
متى يبدأ المسافر بالقصر ؟
يبدأ المسافر بالقصر إذا جاوز بيوت بلده ولا يقصر في بيته وبلده .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
قال ابن المنذر : ” أجمعوا على أن لمن يريد السفر أن يقصر إذا خرج عن جميع بيوت القرية التي خرج منها ، واختلفوا فيما قبل الخروج من البيوت ، فذهب الجمهور إلى أنه لا بد من مفارقة البيوت “ .
اختلف العلماء في المسافة التي تقصر فيها الصلاة على أقوال :
القول الأول : أن مقدار المسافة التي يصح القصر بها أربعة برد ، وهي تساوي في الوقت الحاضر ( 85 ) كيلو متراً .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لحديث ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد ) . رواه الدار قطني وهو ضعيف
القول الثاني : أنه لا حد للسفر بالمسافة ، فكل ما عدّ سفراً فهو سفر .
واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية ، واختاره ابن قدامة في المغني ، حيث قال بعد أن ذكر الأقوال : ” ولا أرى لما صار إليه الأئمة حجة ، لأن الأقوال متعارضة مختلفة ، ولا حجة فيها مع الاختلاف ، وإذا لم تثبت أقوالهم امتنع المصير إلى التقدير الذي ذكروه ، لوجهين :(3/42)
الأول : أنه مخالف لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي رويناها ، ولظاهر القرآن ، فإن ظاهره إباحة القصر لمن ضرب في الأرض .
الثاني : أن التقدير بابه التوقيف ، فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد سيما ولا أصل يرد إليه ، ولا نظير يقاس عليه ، والحجة مع من أباح القصر ، إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه “ .
وهذا القول هو الصحيح .
اختلف العلماء : هل يجوز القصر في المعصية ؟
فقيل : لا يجوز .
وهذا مذهب الجمهور .
لأن ذلك إعانة على المعصية .
وقيل : يجوز .
وهذا مذهب أبي حنيفة ، ورجحه ابن تيمية .
قالوا : لأن السفر الفرض فيه ركعتان ، ولأنه داخل تحت النصوص المطلقة .
وهذا القول هو الصحيح .
اختلف العلماء في مقدار الإقامة التي إذا نواها المسافر في بلد يعتبر مقيم على أقوال :
فقيل : إذا نوى أكثر من أربعة أيام ، فإنه يعتبر مقيم .
وهذا مذهب جمهور العلماء ، مذهب مالك والشافعي وأحمد .
واستدلوا بنزوله - صلى الله عليه وسلم - مكة للحج من اليوم الرابع من ذي الحجة حتى اليوم الثامن .
فمدة إقامته هناك وهو يترخص أربعة أيام .
وقيل : إذا أقام خمسة عشر يوماً .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
وقيل : إذا نوى الإقامة عشرين يوماً .
وهو قول ابن حزم .
واستدل بقصر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة في تبوك عشرين يوماً .
وقيل : إن المرجع إلى التحديد العرف ، فما سماه الناس مسافراً فهو مسافر ، له الأخذ برخص السفر ، وما سموه مقيماً فهو مقيم لا رخصة له .
وهذا قول ابن تيمية .
وقال رحمه الله : ” للمسافر القصر والفطر ما لم يجمع على الإقامة والاستيطان ، والتمييز بين المقيم والمسافر بنيّة أيام معدودة يقيمها ليس هو أمر معلوم لا بشرع ولا عرف “ .
من ذكر صلاة حضر في سفر فإنه يصليها أربعاً .
قال ابن قدامة : ” الإجماع حكاه الإمام أحمد وابن المنذر “ .
مثال : رجل مسافر ، وفي أثناء السفر ذكر أنه صلى الظهر في مدينته بغير وضوء ، فإنه يصليها أربعاً .(3/43)
إذا ذكر صلاة سفر في حضر .
فقيل : يلزم الإتمام .
قالوا : لأن القصر رخصة من رخص السفر ، فيبطل بزواله .
وقيل : يصلي ركعتين ، لأن القضاء يحكي الأداء .
وهذا القول هو الراجح .
إذا صلى المسافر خلف المقيم ، فإنه يجب عليه أن يتم ولو أدرك جزءاً من صلاته ، فإنه يلزمه الإتمام .
ما روي عن ابن عباس أنه قيل له : ( ما بال المسافر يصلي ركعتين في حال الانفراد وأربعاً إذا ائتم ، فقال : تلك السنة ) . رواه أحمد
إذا صلى المقيم خلف المسافر ، وصلى المسافر ركعتين ، فإنه على المقيم إتمام الصلاة .
وقد جاء عند أحمد وأبي داود عن عمران بن حصين قال : ( شهدت الفتح مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأقام بمكة ثمان عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين ثم يقول : يا أهل البلد ، صلوا أربعاً فإنا قوم سفر ) .
يبتدئ المسافر القصر إذا جاوز بيوت بلده ، بأن خرج من البلد كله ، ولا يقصر في بيته .
بابُ الجُمُعةِ
مقدمة :
الجمعة فرض بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ... } . (الجمعة: من الآية9)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ) . رواه مسلم
وقد أجمع المسلمون على وجوبها .
اختلف في سبب تسميتها الجمعة ، مع الاتفاق أنها كانت تسمى في الجاهلية العروبة :
فقيل : لأن كمال الخلق جمع فيها .
وقيل : لأن خلق آدم جمع فيه .
وقيل : لاجتماع الناس للصلاة فيها .
وهو أفضل أيام الأسبوع .
تجب الجمعة على كل مسلم ، مكلف ، حر ، مستوطن فيها .
مسلم : فلا تجب على الكافر ، ولا تصح منه ، ولا تقبيل منه .
قال تعالى : { وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ } . (التوبة: من الآية54)
ولا يلزم بقضائها إذا أسلم .(3/44)
لقوله تعالى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } . (الأنفال: من الآية38)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( الإسلام يهدم ما قبله ) .
مكلف : بالغ ، عاقل : فغير البالغ وغير العاقل لا تلزم منه .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( رفع القلم عن ثلاثة : عن المجنون حتى يفيق ، وعن الصغير حتى يبلغ ) .
ولأنهما ليسا أهلاً للتكليف .
ذكر : فالمرأة لا تجب عليها الجمعة بالإجماع .
وقد جاء في الحديث : ( الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا على أربعة : مملوك أو امرأة أو ... أو مريض ) . رواه أبو داود
ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وبيوتهن خير لهن ) .
قال ابن المنذر : ” أجمعوا على أنه لا جمعة على النساء ، وأجمعوا على أنهن إذا حضرن فصلين الجمعة أن ذلك يجزئ عنهن “ .
حر : فلا تجب على العبد ، وهذا مذهب جمهور العلماء .
للحديث السابق .
ولأنه محبوس على أعمال سيده .
وذهب بعض العلماء إلى وجوبها عليه . وقيل : إذا أذن سيده وإلا فلا .
مستوطن فيها : فلا تجب على المسافر .
قال ابن قدامة : ” إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسافر فلا يصلي الجمعة في سفره ، وكان في حجة الوداع يوم عرفة يوم جمعة ، فصلى الظهر والعصر جمعاً بينهما ، ولم يصلّ جمعة “ .
أن من حضر الجمعة من هؤلاء [ الصبي _ المسافر _ المرأة _ العبد ] فإنها تجزئه عن الظهر .
قال في الشرح : ” لا يعلم فيه خلافاً ، لأن إسقاط الجمعة عنهم تخفيفاً عنهم ، فإذا حضروها أجزأتهم كالمريض “ .(3/45)
134 - عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ : (( رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ قَامَ - صلى الله عليه وسلم - فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ النَّاسُ وَرَاءَهُ , وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ . ثُمَّ رَفَعَ فَنَزَلَ الْقَهْقَرَى , حَتَّى سَجَدَ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ , ثُمَّ عَادَ حَتَّى فَرَغَ مِنْ آخِرِ صَلاتِهِ . ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ , فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ , إنَّمَا صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي , وَلِتَعْلَمُوا صَلاتِي - وَفِي لَفْظٍ - صَلَّى عَلَيْهَا . ثُمَّ كَبَّرَ عَلَيْهَا . ثُمَّ رَكَعَ وَهُوَ عَلَيْهَا , فَنَزَلَ الْقَهْقَرَى )) .
---------------------------------------
راوي الحديث :
هو سهل بن سعد بن مالك الأنصاري الخزرجي من مشاهير الصحابة ، كان اسمه حزناً فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - سهلاً .
معاني الكلمات :
تماروا : تجادلوا .
طرفاء : أي أثل .
الغابة : الشجر الملتف والمراد بها غابة المدينة .
القهقرى : المشي على قفاه .
لتأتموا بي : أي لتتابعوا في الصلاة واللام للتعليل .
لتعلموا : بفتح العين واللام المشددة أي لتعلموا .
الفوائد :
جاء في رواية ( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب إلى جذع ، فلما اتخذ المنبر تحول إليه ، فحن الجزع ، فأتاه فمسح يده عليه ) .
وفي رواية ( ... فصاحت النخلة صياح الصبي ، ثم نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - فضمه إليه ، يئن أنين الصبي ، الذي يسكته ، قال : كان يبكي على ما كانت تسمع من الذكر ) .
وفي رواية ( فلما صنع له المنبر فكان عليه فسمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار ، حتى جاءه النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده عليها فسكتت ) .
وفي رواية ( فأتاه فاحتضنه فسكن فقال : لو لم أفعل لما سكن ) .
ولابن خزيمة ( والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لما زال هكذا إلى يوم القيامة حزناً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أمر به فدفن ) .(3/46)
استحباب أن يكون الخطيب على منبر أو موضع عال ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب على منبر .
ولأنه أبلغ في الإعلام .
جواز علو الإمام على المأمومين وخاصة إذا كانت لحاجة ، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : يكره علو الإمام على المأمومين إلا لحاجة .
وبه قال الشافعي .
لحديث حذيفة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا أم الرجل القوم فلا يقومن في مكان أرفع من مقامهم ) . رواه أبو داود
ويجوز للتعليم ، لحديث الباب .
القول الثاني : يكره مطلقاً .
وهذا مذهب الأكثر .
واستدلوا بحديث حذيفة السابق .
وعللوا ذلك بأن المأموم يحتاج أن يقتدي بإمامه ، فينظر ركوعه وسجوده ، فإذا كان أعلى منه احتاج أن يرفع بصره إليه ليشاهده ، وذلك منهي عنه في الصلاة .
والراجح القول الأول .
جواز العمل اليسير في الصلاة للمصلحة .
حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على تعليم أمته وتبليغها الشرع .
تباحث التابعين في العلم وأدبهم في الرجوع إلى العلماء الذين أخذوه من قبلهم .
إن من فعل شيئاً يخالف العادة أن يبين حكمته لأصحابه .
جواز قصد تعليم المأمومين أفعال الصلاة بالفعل .
135 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : (( مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ ))
-------------------------------------------
معاني الكلمات :
الجمعة : أي لصلاة الجمعة .
فليغتسل : الغسل : أن يعم بدنه بالماء غسلاً .
الفوائد :
في الحديث مشروعية الاغتسال لمن أراد الذهاب لصلاة الجمعة .
وقد اختلف العلماء في حكمه على قولين :
القول الأول : أنه واجب .
وهذا مذهب الظاهرية ورجحه الشوكاني .
لحديث الباب ( .. فليغتسل .. ) وهذا أمر والأمر للوجوب .
ولحديث أبي سعيد . قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم ) متفق عليه .(3/47)
القول الثاني : أنه سنة غير واجب .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
وقالوا ويدل على عدم الوجوب :
قوله - صلى الله عليه وسلم - ( من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ، ومن اغتسل فالغسل أفضل ) رواه أبوداود .
فهذا يدل على اشتراك الغسل والوضوء في أصل الفضل ، وعدم تحتم الغسل .
ولحديث عائشة قالت ( كان الناس يأتون يوم الجمعة من بيوتهم ومن العوالي وعليهم العباءة من الصوف فيخرج منهم الريح فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - إنساناً منهم وهو عندي فقال : لو اغتسلتم ليومكم هذا ) متفق عليه .
واستدلوا أيضاً بحديث أبي هريرة قال ( بينما عمر بن الخطاب يخطب الناس يوم الجمعة ، إذ دخل عثمان بن عفان ، فعرّض به عمر ، فقال : ما بال رجال يتأخرون بعد النداء ؟ فقال عثمان : يا أمير المؤمنين ما زدت حين سمعت النداء أن توضأت ثم أقبلت ، فقال عمر : والوضوء أيضاً ... ) رواه مسلم .
قال النووي : ” وجه الدلالة أن الرجل فعله ، وأقره عمر ومن حضر ذلك الجمع ، وهم أهل الحل والعقد ، ولو كان واجباً لما تركه ولألزموه “ .
قالوا :
وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( .. واجب على كل محتلم ) معناه متأكد ، كما تقول العرب حقك علي واجب .
والراجح القول الثاني .
أن الغسل خاص بمن يأتي الجمعة ، لقوله ( من أتى منكم الجمعة .. ) .
ولأن المقصود التنظيف وقطع الرائحة حتى لا يتأذى غيره به ، وهذا مختص بمن أتى الجمعة .
فلا غسل على المرأة ولا على مريض لا يحضر الجمعة .
الغسل للصلاة ، فمن اغتسل بعد الصلاة لم يكن مطبقاً للسنة .
اختلف في وقت الاغتسال لصلاة الجمعة :
فقيل : يشترط الاتصال بين الغسل والرواح ، وهذا مذهب مالك .
لحديث الباب ( من أتى ... ) .
وقيل : لا يشترط ، لكن لا يجزىء فعله بعد صلاة الجمعة ، ويستحب تأخيره إلى الذهاب ، وهذا مذهب الجمهور .
الحكمة من الاغتسال :
امتثال أوامر الله .
والغسل ينشط الإنسان للعبادة .(3/48)
ولأنه مكان اجتماع ، فإذا اغتسل كان أبعد من النتن والرائحة .
فائدة : حديث أوس بن أوس قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ( من غسّل واغتسل يوم الجمعة ، وبكّر وابتكر ومشى ولم يركب ، ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ ، كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها ) رواه أبو داود .
قوله : ( غسّل واغتسل ) .
قيل : أراد غسل رأسه ، واغتسل : أي غسل سائر بدنه .
وقيل : جامع زوجته ، فأوجب عليها الغسل ، فكأنه غسّلها واغتسل في نفسه .
وقيل : كرر ذلك للتأكيد .
قال الشوكاني : ” ويُرجح التفسير الأول ما في رواية أبي داود في هذا الحديث بلفظ ( من غَسَلَ رأسه واعتسل “ .
قوله : بكّر وابتكر :
قيل : بكّر راح في أول الوقت ، وابتكر : أي أدرك أول الخطبة ، ورجحه العراقي .
وقيل : كرره للتأكيد ، وبه جزم ابن العربي .
136 – عَنْ عبد الله بن عمر- رضي الله عنه - قَالَ: (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ وَهُوَ قَائِمٌ , يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجُلُوسٍ )).
----------------------------------------
معاني الكلمات :
يفصل بينهما : أي بين الخطبتين .
الفوائد :
مشروعية خطبتين لصلاة الجمعة .
أنه يستحب أن يخطب قائماً لقوله ( وهو قائم ) .
واختلفوا في وجوبه :
فذهب جمهور العلماء إلى استحبابه .
وذهب بعض العلماء إلى وجوبه . والأول أصح .
يسن الجلوس بين الخطبتين ، ولو لم يجلس فلا شيء عليه ، وهذا مذهب جمهور العلماء .
الحكمة من الجلوس بين الخطبتين :
قيل : للراحة ، وقيل : للفصل بين الخطبتين ، وهذا القول هو الصحيح .
لا يشترط أن يتولى الخطبتين من يتولى الصلاة ، فيجوز أن يخطب شخص ويصلي شخص آخر .(3/49)
137 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ : (( جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ . فَقَالَ : صَلَّيْتَ يَا فُلانُ ؟ قَالَ : لا . قَالَ : قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ . وَفِي رِوَايَةٍ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ )) .
----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
جاء رجل : هو سليْك الغطفاني .
صليت : يعني أصليت .
الفوائد :
1- في الحديث دليل على أنه يشرع للإنسان إذا دخل المسجد والخطيب يخطب أن يصلي ركعتين قبل أن يجلس .
لحديث الباب .
ولقوله - صلى الله عليه وسلم - ( إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما ) رواه مسلم .
وهذا مذهب أحمد والشافعي وأهل الحديث .
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يشرع ذلك ، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك ، وقالوا عن حديث الباب :
إنها خاصة بسليك .
ويرد على هذا بأن الأصل عدم الخصوصية .
وقال بعضهم : إنما قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتصدق الناس على سليك ، فقد جاء في رواية قال ( إن هذا الرجل دخل في هيئة بذة وأنا أرجو أن يفطن له رجل فيتصدق عليه ) .
ويرد على هذا التأويل رواية مسلم ( إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما ) فإن هذا نص لا يتطرق إليه التأويل .
2- مشروعية تخفيف هاتين الركعتين ليتفرغ لسماع الخطبة .
3- إن دخل المسجد والإمام يخطب يصلي ركعتين ولا يتجاوزهما .
4- مشروعية الخطبة للجمعة ، وقد اتفق العلماء على أن الخطبتين شرط في انعقاد الجمعة .
5- جواز الكلام للخطيب لمن يخاطبه ، وإن هذا مستثنى من تحريم الكلام أثناء الخطبة .
6- أهمية تحية المسجد ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع خطبته وأمر بها مع انشغال المصلي بها عن سماع الخطبة .(3/50)
7- أنه إذا دخل المسجد يوم الجمعة والمؤذن يؤذن فالأفضل أن يصلي التحية ولا يجيب المؤذن ، لأن الاستماع للخطبة أهم من إجابة المؤذن .
8- أنه ليس للجمعة سنة قبلية ، وهذا القول هو الصحيح ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عد رواتب الصلاة ولم يذكرها .
لكن لها سنة بعدية ، فقد ثبتت من قوله - صلى الله عليه وسلم - ومن فعله :
قال - صلى الله عليه وسلم - ( إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً ) رواه مسلم .
وعن ابن عمر ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بعد الجمعة ركعتين ) متفق عليه .
والجمع :
أن يصلي أحياناً ركعتين وأحياناً أربع .
فائدة :
لا يجوز للإنسان تخطي الرقاب يوم الجمعة .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي دخل والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب : اجلس فقد آذيت وآنيت .
آنيت : تأخرت .
( بعض الفقهاء قالوا مكروه ، لكنه قول ضعيف ) .
138 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : (( إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ : أَنْصِتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ - فَقَدْ لَغَوْتَ )) .
----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
أنصت : أي اسكت عن الكلام .
لغوت : اللغو الكلام الباطل الذي تفوت به فضيلة الجمعة .
الفوائد :
في الحديث تحريم الكلام والإمام يخطب .
أن النهي مختص بحال الخطبة ، أما الكلام قبل الخطبة أو بين الخطبتين فلا بأس به ، فالذي يمنع الكلام هو كلام الخطيب لا خروجه .
وجوب الإنصات للخطيب يوم الجمعة ، فإذا كانت هذه الكلمة [ أنصت ] على وجازتها وما تحمله من أمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير جائز وسبب للإحباط فغيرها من باب أولى .
يجوز الكلام بين الخطبتين وبعد الخطبة لقوله ( والإمام يخطب ) .
يحرم رد السلام أثناء الخطبة ، لأنه إذا لم يجز تسكيت المتكلم فمن باب أولى رد السلام .(3/51)
لا يجوز تشميت العاطس أثناء الخطبة .
شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - المتكلم والإمام يخطب ( كمثل الحمار يحمل أسفاراً ) ، وهذا التشبيه الجامع بينهما عدم الانتفاع .
تحريم الكلام والإمام يخطب ولو بأمر بالمعروف أو نهي عن منكر .
جاء في رواية ( من تكلم يوم الجمعة فلا جمعة له ) ، والمراد : ليس له جمعة كاملة ، للإجماع على إسقاط فرض الوقت عنه
يستثنى من التحريم من يخاطبه الإمام أو يخاطب الإمام ، كما في قصة الرجل الذي دخل المسجد والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب فشكا الجدب وقلة المياه .
واستثنى بعض العلماء من لا يسمع الخطيب لبعد ، فإنه لا ينبغي السكوت ، بل ينشغل بالذكر والقراءة .
139 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : (( مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ , ثُمَّ رَاحَ في الساعَةِ الأُولى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً . وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً . وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ . وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً . وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً . فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلائِكَةُ يَسْتمَعُونَ الذِّكْرَ )) .
----------------------------------------------
معاني الكلمات :
راح : أي ذهب .
قرب بدنة : أي أهداها تقرباً إلى الله ، والبدنة البعير .
الفوائد :
في الحديث فضيلة التبكير إلى صلاة الجمعة ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - ( من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ... ) .
وذهب المالكية إلى أنه لا يستحب التبكير .(3/52)
قالوا : إن المراد بالرواح في هذا الحديث أي بعد الزوال ، لأن الرواح لا يكون إلا بعد الزوال ، وقالوا : إن الساعات المذكورة هي أجزاء لطيفة أولها زوال الشمس .
وذهب جمهور العلماء إلى استحباب النبكير للأدلة التي سبقت التي تدل على ذلك .
وبالنسبة للساعات التي في الحديث فالصحيح أنها تبدأ من طلوع الشمس إلى مجىء الإمام ( تقسم خمسة أقسام ) قد تكون بمقدار الساعة المعروفة أو أقل أو أكثر .
أن الثواب المذكور في الحديث مرتب على أمرين :
أولاً : الاغتسال . ثانياً : الحضور في تلك الساعة .
استدل بعض العلماء بقوله ( من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة .. ) على استحباب الجماع يوم الجمعة .
لكن الصحيح أن الحديث ليس فيه دليلاً على ذلك ، لأن المراد بالحديث أي كغسل الجنابة ، بدليل أنه جاء في رواية عند عبد الرزاق ( فاغتسل أحدكم كما يغتسل من الجنابة ) ، وهذا قول الأكثر .
أن السنة للإمام أن يكون خارج المسجد حتى يحين وقت الخطبة ثم يدخل ، هذا هو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وما يفعله بعض أئمة الجمعة الذين يريدون الخير فيتقدمون ليحصلوا على أجر التبكير ، فهؤلاء يثابون على نياتهم ولا يثابون على أعمالهم ، لأنه خلاف هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولو كان هذا من الخير لكان أول فاعل له هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
أن من جاء بعد خروج الإمام لم يكتب له شيء من أجر التقدم ، ولذلك جاء في رواية ( وطويت الصحف ) قال ابن القيم : ” أي صحف الفضل ، فأما صحف الفرض فإنها لا تطوى ، لأن الفرض يسقط بعد ذلك “ .
أن الصدقة مقبولة وإن قلت ، حيث جعل إهداء البيضة مقياساً في الثواب ، وفي الحديث ( من تصدق بعدل تمرة فإن الله يريبها كما يربي أحدكم فلوه ) .
أن الملائكة على أبواب المساجد يكتبون القادمين الأول فالأول في المجىء إلى صلاة الجمعة .(3/53)
أن فضل الناس مرتب على أعمالهم في الجمعة وغيرها ، قال تعالى ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) فلا حسب ولا نسب .
إثبات الملائكة .
أن للملائكة وظائف يقومون بها .
140 - عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ – - رضي الله عنه - قَالَ : (( كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْجُمُعَةَ ثُمَّ نَنْصَرِفُ . وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ نَسْتَظِلُّ بِهِ )) .
وَفِي لَفْظٍ : (( كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ , ثُمَّ نَرْجِعُ فَنَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ )) .
------------------------------------------------
معاني الكلمات :
ننصرف : أي إلى بيوتنا بعد الصلاة .
للحيطان : للجدران .
ظل نستظل به : ظل نتقي به الشمس .
نجمّع : بضم النون وتشديد الميم : نصلي الجمعة .
الفوائد :
هذه الأحاديث تتكلم عن وقت صلاة الجمعة .
اتفق العلماء على أن آخر وقت صلاة الجمعة هو آخر وقت صلاة الظهر ، واختلفوا في ابتدائها :
القول الأول : أنها كالظهر ، أي بعد الزوال .
وهذا مذهب جمهور العلماء .
لحديث أنس قال ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الجمعة حين تميل الشمس ) رواه البخاري .
ولحديث سلمة حديث الباب ( كنا نجمع إذا زالت الشمس .. ) .
القول الثاني : أنها تجوز قبل الزوال .
وهذا مذهب أحمد بن حنبل وجماعة .
لحديث سهل بن سعد قال ( ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة ) متفق عليه .
والغداء والقيلولة محلهما قبل الزوال .
ولحديث جابر ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس ) رواه مسلم .
قال الشوكاني : فإنه فيه صرح بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الجمعة ثم يذهبون إلى جمالهم فيريحونها عند الزوال ) .
وهذا القول هو الصحيح .(3/54)
وإن كان الأكثر من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الزوال .
141 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : (( كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ : الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ وَ : هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ )) .
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
صلاة الفجر : أي الفرض .
السجدة : أي المعروفة باسم السجدة .
الفوائد :
في الحديث مشروعية قراءة هاتين السورتين في صلاة الفجر يوم الجمعة كل سورة بكاملها في ركعة .
اختلف في الحكمة من قراءة هاتين السورتين :
فقال بعضهم : من أجل وجود السجدة فيها .
ولهذا قال بعض العلماء : إذا لم يقرأ بالسجدة فإنه يقرأ بسورة أخرى تكون فيها سجدة كمريم مثلاً كما نقل عن إبراهيم النخعي .
ولكن ذهب أكثر الفقهاء إلى أنه لا يستحب له أن يتعمد قراءة سورة فيها سجدة .
والصحيح أن العلة :
قال ابن القيم : ” لما فيها من ذكر خلق آدم وعلى ذكر المعاد والحشر والعباد وذلك يكون يوم الجمعة ، وكان في قراءتهما في هذا اليوم تذكيراً للأمة بما كان فيه ويكون التغيير ، وإنما كان يستعد لما يكون “ .
وقال رحمه الله : ” ويظن كثير مما لا علم عنده أن المراد بتخصيص هذه الصلاة بسجدة زائدة يسمونها سجدة الجمعة “.
3- ظاهر الحديث المداومة عليها من النبي - صلى الله عليه وسلم - لإتيان الراوي بصفة ( كان ) ولكن يحمل على الغالب فينبغي تركها في بعض الأحيان ، لئلا يعتقد الجهال وجوبها ، وتركها لهذا المعنى مستحباً .
4- ما يفعله بعض الناس من أنهم يقسمون سورة السجدة بين الركعتين هذا كله خلاف السنة .
بابُ صلاةِ العيدينِ
142 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : (( كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُصَلُّونَ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ ))(3/55)
--------------------------------------------
معاني الكلمات :
العيد : اسم لما يعود ويتكرر .
الفوائد :
الحديث دليل على أن صلاة العيد تكون قبل الخطبة .
قال ابن قدامة : ” وخطبتي العيد بعد الصلاة لا نعلم فيه خلافاً بين المسلمين “ .
وقال الحافظ ابن حجر : ” وعليه جميع فقهاء الأمصار وعده بعضهم إجماعاً “ .
مشروعية صلاة العيد وهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى ( فصل لربك وانحر ) المشهور في التفسير أن المراد بذلك صلاة العيد .
وأما السنة فثبتت الأحاديث المتواترة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العيد .
ليس للمسليمن إلا عيدين :
عيد الفطر : ويقع بمناسبة انقضاء المسلمين من صوم رمضان .
عيد الأضحى : ويقع بمناسبة اختتام العشر .
خطبة العيد ليست واجبة ، فيجوز لمن أراد أن ينصرف أن ينصرف .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - ( إنا نخطب فمن أحب أن يجلس فليجلس ومن أحب أن يقوم فليقوم ) رواه أبو داود .
قيل أول من قدم الخطبة على الصلاة مروان بن الحكم وأنكر عليه أبو سعيد الخدري .
سن لمن أراد أن يذهب إلى صلاة العيد أن يذهب مع طريق ويرجع مع طريق آخر .
لحديث جابر ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يوم عيد خالف الطريق ) رواه البخاري .
والحكمة من ذلك :
قيل : ليسلم على أهل الطريقين .
وقيل : ليظهر شعائر الإسلام .
وقيل : ليغيظ الكفار .
وقيل : ليغيظ المنافقين .
وقيل : ليكثر شهادة البقاع .
ولا مانع من الجميع .
ويسن أيضاً أن يأكل تمرات وتراً قبل أن يغدو لصلاة عيد الفطر .
لحديث أنس ( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات وتراً ) رواه البخاري .
ولأن فيه مبالغة في النهي عن الصوم في ذلك اليوم ، ومن أجل تحقيق الإفطار من النهار .
وأما عيد الأضحى فالسنة أن لا يأكل من أضحيته إلا بعد الصلاة .(3/56)
143 - عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ : (( خَطَبَنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الأَضْحَى بَعْدَ الصَّلاةِ , فَقَالَ : مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا وَنَسَكَ نُسُكَنَا فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ , وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلاةِ فَلا نُسُكَ لَهُ . فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ - خَالُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنِّي نَسَكْتُ شَاتِي قَبْلَ الصَّلاةِ . وَعَرَفْتُ أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ . وَأَحْبَبْتُ أَنْ تَكُونَ شَاتِي أَوَّلَ مَا يُذْبَحُ فِي بَيْتِي . فَذَبَحْتُ شَاتِي , وَتَغَذَّيْتُ قَبْلَ أَنْ آتِيَ الصَّلاةَ . فَقَالَ : شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ . قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , فَإِنَّ عِنْدَنَا عِنَاقاً هِيَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ شَاتَيْنِ أَفَتُجْزِي عَنِّي ؟ قَالَ : نَعَمْ , وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ )) .
144 – عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ : (( صَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ النَّحْرِ . ثُمَّ خَطَبَ . ثُمَّ ذَبَحَ وَقَالَ : مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيَذْبَحْ أُخْرَى مَكَانَهَا , وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ ))
---------------------------------------------
معاني الكلمات :
نسك : ذبح .
قبل الصلاة : أي قبل تمام الصلاة .
فلا نسك له : فلا تصل أضحيته .
عناقاً : العناق هي الأنثى من المعز ولم تبلغ الحول .
الفوائد :
مشروعية الخطبة يوم العيد .
أن الخطبة تكون بعد الصلاة .
أنه يشرع أن تكون الخطبة في عيد الأاضحى عن الأضحية وأحكامها .
أن من شروط قبول الأضحية أن تكون بالوقت المحدد ، وهو من بعد صلاة العيد ، فإن كانت قبل الصلاة فلا تجزىء لحديث الباب .
وأما نهاية وقتها :(3/57)
فالراجح أنه بغروب الشمس آخر يوم من أيام التشريق وهو اليوم ( 13 ) فتكون أيام الذبح ( 4 ) أيام .
الأفضل أن تكون الأضحية بعد الخطبتين .
من شروط الأضحية أن تبلغ السن المعتبرة ، فلا يجزىء من المعز إلا ما تم له سنة .
مشروعية التسمية قبل الذبح ، واختلف في حكمها على أقوال :
القول الأول : أنها سنة .
وهذا مذهب الشافعي .
القول الثاني : أنها واجبة .
وهذا مذهب الحنابلة .
القول الثالث : أنها شرط لا تسقط لا سهواً ولا جهلاً .
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ورجحه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله .
لقوله تعالى ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) .
ولقوله - صلى الله عليه وسلم - ( ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ) متفق عليه .
وهذا القول هو الصحيح .
145 - عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ : (( شَهِدْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْعِيدِ . فَبَدَأَ بِالصَّلاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ , بِلا أَذَانٍ وَلا إقَامَةٍ . ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلالٍ , فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى , وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ , وَوَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ , ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ , وَقَالَ : يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ , تَصَدَّقْنَ . فَإِنَّكُنَّ أَكْثَرُ حَطَبِ جَهَنَّمَ , فَقَامَتْ امْرَأَةٌ مِنْ سِطَةِ النِّسَاءِ , سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ فَقَالَتْ : لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ : لأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ , وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ . قَالَ : فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ يُلْقِينَ فِي ثَوْبِ بِلالٍ مِنْ أَقْرَاطِهِنَّ وَخَوَاتِيمِهِنَّ )) .
-------------------------------------------------
معاني الكلمات :
متوكئاً : معتمداً .
حطب : وقود .(3/58)
جهنم : اسم من أسماء النار ، سميت بذلك لبعد قعرها ، وقيل : لغلظ أمرها .
الشكاة : الشكاية وهي التوجع من الشيء لطلب إزالته .
تكفرن العشير : العشير الزوج .
أقراطهن : جمع قرط وهو ما يعلق في الأذن من الحلي .
الفوائد :
أن المشروع في يوم العيد البدء بالصلاة ثم الخطبة .
مشروعية الخطبة يوم العيد وأنها سنة ليست بواجبة .
ليس للعيد أذان وإقامة .
قال في المغني : ” لا نعلم في هذا خلافاً ممن يعتد به “ .
اختلف العلماء هل ينادى لها بالصلاة جامعة ؟
فقيل : ينادى لها الصلاة جامعة .
قياساً على الكسوف .
وقيل : لا ينادى لها .
وهذا القول هو الصحيح ، لأن العيد وقع في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مرات كثيرة ولم يكن ينادي لها ، ولا يصح قياسها على الكسوف ، لأن الكسوف يأتي بغتة من غير أن يشعر الناس ، بخلاف العيد .
أن السنة أن تبدأ خطبة العيد بحمد الله والثناء عليه ، وأما قول بعض العلماء : إنه يسن أن تبدأ بالتكبير فقول ضعيف .
أن هذه الخطبة في عيد الفطر كما جاء في رواية أخرى ، وعليه فالمستحب في خطبة عيد الفطر أن يعظ الناس ويذكرهم ويأمرهم بتقوى الله .
وأما قول بعض الفقهاء " إن السنة أن يكون موضوع خطبة عيد الفطر أحكام زكاة الفطر وما يتعلق بها ، فهذا قول ضعيف لأن الناس قد أدوا زكاة الفطر .
الحث على طاعة الله والترغيب مما عند الله والترهيب من النار .
مشروعية وعظ النساء .
أن النساء تكون بعيدات عن الرجال حتى في المسجد .
أن النساء أكثر أهل النار ، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - السبب في ذلك :
السبب الأول : كفران حق الزوج .
السبب الثاني : اللعن والشكاية .
11- أن الصدقة سبب للنجاة من النار لقوله - صلى الله عليه وسلم - ( تصدقن .. ) ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - ( اتقوا النار ولو بشق تمرة ) .(3/59)
146 - عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ - نُسَيْبَةَ الأَنْصَارِيَّةِ - قَالَتْ : (( أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نُخرِجَ فِي الْعِيدَيْنِ الْعَوَاتِقَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ , وَأَمَرَ الْحُيَّضَ أَنْ يَعْتَزِلْنَ مُصَلَّى الْمُسْلِمِينَ )) .
وَفِي لَفْظٍ : (( كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ الْعِيدِ , حَتَّى نُخْرِجَ الْبِكْرَ مِنْ خِدْرِهَا , حَتَّى تَخْرُجَ الْحُيَّضُ , فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ , يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَطُهْرَتَهُ )) .
-------------------------------------------------
راوي الحديث :
أم عطية نسيبة بنت الحارث الأنصارية ، من عباد نساء الصحابة ، وكانت ممن يغسل النساء في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - .
معاني الكلمات :
العواتق : جمع عاتق ، وهي الأنثى التي قاربت البلوغ .
ذوات : صاحبات .
الخدور : جمع خدر ، وهو ستر يجعل في ناحية البيت للبكر تستر به .
الحيّض : جمع حائض ، وهي التي أصابها الحيض .
الفوائد :
مشروعية صلاة العيد ، وقد اختلف العلماء في حكمها على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنها فرض عين .
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ورجحه الشيخ ابن عثيمين .
لحديث الباب حيث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر النساء أن يخرجن لصلاة العيد حتى أنه أمر الحيّض .
ولمواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين على ذلك .
القول الثاني : أنها فرض كفاية .
وهذا مذهب الحنابلة .
للأدلة السابقة .
القول الثالث : أنها سنة مؤكدة .
وهذا مذهب مالك والشافعي .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي لما سأله عن الإسلام ، فأخبره أن عليه خمس صلوات ، قال : هل عليّ غيرهن ؟ قال : لا ، إلا أن تطوع
والراجح القول الأول .
2- أن السنة في صلاة العيد أن تكون في المصلى ، ويؤيد ذلك الأحاديث الكثيرة الدالة على ذلك :(3/60)
كحديث أبي سعيد الخدري قال ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى ... ) متفق عليه .
وحديث ابن عمر قال ( كان - صلى الله عليه وسلم - يغدو إلى المصلى في يوم العيد ، والعَنَزة تحمل بين يديه ) متفق عليه .
قال النووي رحمه الله : ” هذا دليل لمن قال باستحباب الخروج لصلاة العيد إلى المصلى ، وأنه أفضل من فعلها في المسجد ، وعلى هذا عمل الناس في معظم الأمصار “ .
وقال الحافظ ابن حجر : ” واستدل به على استحباب الخروج إلى الصحراء لصلاة العيد ، وأن ذلك أفضل من صلاتها في المسجد لمواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك مع فضل مسجده “ .
أن مصلى العيد يعتبر مسجد ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الحيض أن يعتزلن المصلى ، ومن المعلوم أن الحائض تعتزل المسجد .
4- مشروعية خروج النساء لصلاة العيد ، لكن بشروط :
أولاً : عدم الطيب ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - ( وليخرجن تفلات ) أي غير متطيبات .
ثانياً : وأن لا تكون متزينة .
5- يحرم على الحائض المكث في المسجد .
6- مشروعية التكبير في مصلى العيد والجهر به .
بابُ صلاةِ الكُسُوفِ
147 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها : (( أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبَعَثَ مُنَادِياً يُنَادِي : الصَّلاةُ جَامِعَةٌ . فَاجْتَمَعُوا . وَتَقَدَّمَ , فَكَبَّرَ وَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ , وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ )) .
-----------------------------------------------
معاني الكلمات :
الكسوف : هو انحجاب ضوء أحد النيرين بسبب غير معتاد .
سبب كسوف الشمس : أن القمر يحول بينها وبين الأرض فيحجبها عن الأرض ، إما كلها أو بعضها .
وأما القمر فسبب كسوفه حيلولة الأرض بينه وبين الشمس .
خسفت : انطمس ضؤوها .
أربع ركعات في ركعتين : أي أنه يصلي في كل ركعة ركوعين .
الفوائد :(3/61)
مشروعية صلاة الكسوف ، وقد ذهب أكثر العلماء إلى أنها سنة مؤكدة
لكن ذهب بعض العلماء إلى أنها فرض كفاية .
لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بها بقوله ( فصلوا ... ) .
وهذا القول هو الراجح .
أن صلاة الكسوف جهرية لقولها ( فجهر .. ) ، وقد اختلف العلماء في حكم هذه المسألة على أقوال :
قيل : يجهر به . لحديث الباب .
وهذا مذهب أحمد ورجحه ابن خزيمة .
وقيل : يسر في كسوف الشمس ويجهر في خسوف القمر .
وحكاه النووي عن جمهور الفقهاء .
والراجح القول الأول .
أن صفة صلاة الكسوف : ركعتان في كل ركعة ركوعان وسجودان ، وهذا أصح ما ورد .
قال ابن القيم :” السنة الصحيحة المحكمة في صلاة الكسوف تكرار الركوع في كل ركعة “ .
وذهب أبو حنيفة إلى أنها ركعتان على هيئة العيد والجمعة .
مشروعية الخطبة بعد صلاة الكسوف .
وهذا مذهب الشافعي .
لحديث الباب ، حيث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما انتهى من صلاة الكسوف قام فحمد الله .
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا خطبة للكسوف ، لكنه قول مرجوح .
أن السنة أن ينادى لصلاة الكسوف : الصلاة جامعة ، كما في حديث الباب .
أن وقت صلاة الكسوف من حدوثه إلى أن ينجلي .
فإن انجلى أثناء الصلاة أتمها خفيفة ، لأن السبب الذي شرعت له قد زال .
ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : صلوا حتى ينكشف ما بكم .
الصحيح من أقوال أهل العلم أنها تصلى في وقت النهي لأنها من ذوات السبب .
إذا فات الركوع الأول من الركعة فقد فاتت الركعة ، لأن هذا الواجب .
يشرع عند الكسوف فعل ما يلي :
أولاُ : الصلاة ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - ( فصلوا ... ) .
ثانياً : الدعاء ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - ( وادعوا ... ) .
ثالثاً : الصدقة ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - ( وتصدقوا .. ) .
ولقول أسماء ( أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعتاقة في كسوف الشمس ) .(3/62)
الحكمة من الكسوف تخويف العباد لقوله - صلى الله عليه وسلم - ( يخفف الله بها عباده ) .
بيان أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله الدالة على قدرته .
إثبات القدرة لله إثباتاً يليق بجلاله .
تحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - من الزنا وأنه من الكبائر .
148 - عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ - عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَنْصَارِيِّ الْبَدْرِيِّ – - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : (( إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ , يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ , وَإِنَّهُمَا لا يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ . فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَصَلُّوا , وَادْعُوا حَتَّى يَنْكَشِفَ مَا بِكُمْ )) .
-------------------------------------------------
معاني الكلمات :
فزعاً : مسرعاً من الخوف .
الساعة : أي يخشى أن تكون الساعة قد حضرت .
الفوائد :
شدة خوف النبي - صلى الله عليه وسلم - من الله لكمال علمه بالله ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - ( إن أتقاكم لله وأخشاكم أنا ) .
مشروعية صلاة الكسوف في المسجد .
مشروعية الخطبة بعدها .
استشكل خشية النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تكون الساعة مع أن الساعة لها مقدمات :
قيل : يحتمل أن تكون قصة الكسوف وقعت قبل إعلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه العلامات .
أو لعله خشي أن يكون ذلك بعض المقدمات .
أو أن الراوي ظن أن الخشية لذلك وكانت لغيره .
أو أن المراد بالساعة غير يوم القيامة ، أي الساعة التي جعلت علامة على أمر الأمور .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : ” أما الأول ففيه نظر ، لأن قصة الكسوف متاخرة جداً ، فقد تقدم أن موت إبراهيم كان في السنة العاشرة كما اتفق عليه أهل الأخبار ، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكثير من الأشراط والحوادث قبل ذلك .(3/63)
وأما الثالث ، فتحسين الظن بالصحابي يقتضي أنه لا يجزم بذلك إلا بتوثيق .
وأما الرابع فلا يخفى بعده .
وأقربها الثاني ، فلعله خشي أن يكون الكسوف مقدمة لبعض الأشراط كطلوع الشمس من مغربها “.
بابُ الاستسقاءِ
151 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الْمَازِنِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ : (( خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَسْقِي , فَتَوَجَّهَ إلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو , وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ , ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ , جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ )) . وَفِي لَفْظٍ " إلَى الْمُصَلَّى " .
-----------------------------------
معاني الكلمات :
يستسقي : يسأل إنزال المطر .
حول رداءه : جعل أيمنه أيسره .
الفوائد
مشروعية صلاة الاستسقاء .
قال ابن قدامة : ” صلاة الاستقساء عند الحاجة إليها سنة مؤكدة ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلها وكذلك الخلفاء الراشدين “ .
( خالف في ذلك أبو حنيفة فقال : لا تشرع ، لكنه قول ضعيف ) .
أن صلاة الاستسقاء ركعتان .
قال النووي : ” بإجماع المثبتين لها “ .
قال ابن قدامة : ” لا نعلم بين القائلين بصلاة الاستسقاء خلاف أنها ركعتان “ .
وأما بقية صفاتها :
فقد قال الفقهاء أنها كصلاة العيد يكبر الأولى بعد التحريمة والاستفتاح ستاً وفي الثانية خمساً .
فقد قال ابن عباس ( خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقي خاشعاً متضرعاً متبذلاً فصلى كما يصلي العيد ) رواه أبو داود .
أن صلاة الاستسقاء جهرية لقوله ( جهر فيها بالقراءة ) .
قال النووي : ” أجمعوا على استحبابه “ .
لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يقرأ فيها .
لكن عند الحنابلة أنها كالعيد فيقرأ في الأولى ( سبح اسم ربك الأعلى ) وفي الثانية ( الغاشية ) .
وعند الشافعية يقرأ في الأولى جهراً ( ق ) وفي الثانية ( اقتربت الساعة ) .(3/64)
أن صلاة الاستسقاء تشرع عند وجود سببه ، وهو وجود القحط وتأخر نزول المطر .
يستحب تحويل الرداء للإمام والمأموم لحديث الباب .
وهذا مذهب أكثر العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة أنه مستحب للإمام والمأموم .
وذهب بعض العلماء أنه سنة للإمام دون المأموم ، وقالوا : إن تحويل الرداء إنما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - دون أصحابه الذين صلوا معه الاستسقاء .
والراجح القول الأول ، وقد جاء في مسند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن زيد ( رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استسقى لنا أطال الدعاء ، ثم تحول إلى القبلة ، وحول رداءه ، فقلبه ظهراً لبطن ، وتحول الناس معه ) .
- والحكمة من قلب الرداء :
قال النووي : ” التحويل شرع تفائلاً بتغيير الحال من القحط إلى نزول الغيث والخصب ، ومن ضيق الحال إلى سعته “ .
يسن أن يخرج لصلاة الاستسقاء متبذلاً متخشعاً .
لحديث ابن عباس السابق ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج متواضعاً متبذلاً متخشعاً مترسلاً متضرعاً فصلى ركعتين كما يصلي العيد ) رواه أبو داود .
يستحب للإمام أن يعد الناس وعداً عاماً يخرجون منه لمصلى العيد .
فعن عائشة قالت ( شكا الناس قحوط المطر ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنبر فوضع له في المصلى ، ووعد الناس يوماً يخرجون فيه ، فخرج حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر فكبر وحمد الله ثم قال ... ) رواه أبو داود .
في هذا الحديث فوائد :
أولاً : أن وقت صلاة الاستسقاء كالعيد يكون بعد طلوع الشمس .
ثانياً : أنه يجوز فعل الخطبة قبل الصلاة .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة :
فقيل : الخطبة قبل الصلاة .
لحديث عائشة هذا .
وقيل : الصلاة قبل الخطبة .
وهذا مذهب الجمهور .
لقول ابن عباس ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج متضرعاً .... فصلى كما يصلي العيد ) .
والراجح جواز الأمرين .
أن لصلاة الاستسقاء خطبة واحدة بعد الصلاة .(3/65)
قال النووي : ” وبه قال جماهير العلماء “ .
152 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - (( أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ نَحْوَ دَارِ الْقَضَاءِ , وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَائِمٌ يَخْطُبُ , فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَائِمًا , ثُمَّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , هَلَكَتْ الأَمْوَالُ , وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ تَعَالَى يُغِيثُنَا , قَالَ : فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ أَغِثْنَا , اللَّهُمَّ أَغِثْنَا , اللَّهُمَّ أَغِثْنَا . قَالَ أَنَسٌ : فَلا وَاَللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلا قَزَعَةٍ , وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلا دَارٍ قَالَ : فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ . فَلَمَّا تَوَسَّطَتْ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ , قَالَ : فَلا وَاَللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سَبْتاً , قَالَ : ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ , وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَائِمٌ يَخْطُبُ النَّاسَ , فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِماً , فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , هَلَكَتْ الأَمْوَالُ , وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ , فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُمْسِكَهَا عَنَّا , قَالَ : فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلا عَلَيْنَا , اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ , قَالَ : فَأَقْلَعَتْ , وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ . قَالَ شَرِيكٌ : فَسَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ : أَهُوَ الرَّجُلُ الأَوَّلُ قَالَ : لا أَدْرِي )) .(3/66)
--------------------------------------------------
معاني الكلمات :
أن رجلاً : لا يعرف .
دار القضاء : فسره بعضهم القضاء بأنها دار الإمامة ، قال في الفتح : وليس كذلك ، وإنما هي دار عمر بن الخطاب ، وسميت دار القضاء لأنها بيعت في قضاء دينه فكان يقال لها دار قضاء دين عمر .
هلكت الأموال : المراد بالأموال هنا الماشية .
انقطعت السبل : المراد بذلك الإبل ، ضعفت لقلة القوت عن السفر لكونها لا تجد في طريقها من الكلأ ما يعلم .
ولا قزَعة : بفتح القاف والزاء أي سحاب متفرق .
وما بيننا وبين سلع : بفتح السين وسكون اللام جبل معروف بالمدينة .
مثل الترس : أي مستديرة .
الآكام : قيل : هي الهضبة الضخمة ، وقيل : هي الجبل الصغير .
الفوائد :
جواز الاستسقاء يوم الجمعة .
والاستسقاء الذي ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورد على عدة أوجه :
الأول : استسقى يوم الجمعة وهو يخطب .
كما في حديث الباب .
الثاني : أنه كان في غزوة فنقص عليهم الماء فاستغاث الله فأنشأ الله مزناً فأمطرت .
الثالث : خرج بهم إلى المصلى واستسقى بهم .
جواز تكلم الخطيب يوم الجمعة للحاجة .
مشروعية الإلحاح في الدعاء .
جواز طلب الدعاء من الرجل الصالح ، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : الجواز .
( أن عمر طلب من أويس القرني أن يستغفر له ) . رواه مسلم
وقالت أم الدرداء لزوج ابنها صفوان بن عبد الله بن صفوان : ( أتريد الحج العام ؟ قال : نعم ، قالت : فادع الله لنا بخير ) .
وقال الجبار لسارة : ( ادعي الله لي ولا أضرك ) .
وقال تعالى : { قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك } .
القول الثاني : أنه مذموم إلا إذا قصد به نفع الداعي .
وهذا اختيار ابن تيمية .
5- استحباب رفع اليدين حال الدعاء .
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - ( إن الله ليستحيي إذا رفع العبد يديه أن يردهما صفراً ) رواه أبو داود .(3/67)
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( ... الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه ... ) رواه مسلم .
6- ظهور قدرة الله الباهرة في إنزال المطر وإمساكه .
7- جواز تعدد النقم التي تحل بالمسلم إذا لم يقصد بذلك التسخط من تدبير الله .
8- أنه يستحب أن يدعوا بهذا الدعاء : اللهم حوالينا ولا علينا ..... إذا كثر المطر وخيف منه .
بابُ صلاةِ الخوفِ
153 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنهما قَالَ : (( صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلاةَ الْخَوْفِ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ , فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ , وَطَائِفَةٌ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ , فَصَلَّى بِاَلَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً , ثُمَّ ذَهَبُوا , وَجَاءَ الآخَرُونَ , فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً , وَقَضَتِ الطَّائِفَتَانِ رَكْعَةً , رَكْعَةً )) .
154 - عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ عَمَّنْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلاةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ , صَلاةَ الْخَوْفِ : أَنَّ طَائِفَةً صُفَّتْ مَعَهُ , وَطَائِفَةً وِجَاهَ الْعَدُوِّ , فَصَلَّى بِاَلَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً , ثُمَّ ثَبَتَ قَائِماً , وَأَتَمُّوا لأَنْفُسِهِمْ , ثُمَّ انْصَرَفُوا , فَصُفُّوا وِجَاهَ الْعَدُوِّ , وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الأُخْرَى , فَصَلَّى بِهِمْ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ , ثُمَّ ثَبَتَ جَالِساً , وَأَتَمُّوا لأَنْفُسِهِمْ , ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ )) .
----------------------------------------------
معاني الكلمات :
في بعض أيامه : أي غزواته .
وجاه : تجاه .
الفوائد :
مشروعية صلاة الخوف إذا وجد سببها ، فهي ثابتة في الكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : { إذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك } .
وأما السنة فالأحاديث التي في الباب وغيرها .(3/68)
وجمهور العلماء متفقون على أن حكمها باق بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لأن ما ثبت في حقه ثبت في حق أمته ما لم يقم دليل على اختصاصه .
صلاة الخوف وردت على عدة صيغ منها :
ما جاء في حديث ابن عمر : أنه كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في إحدى غزواته قبل نجد ، والعدو في غير جهة القبلة ، فصلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف ، فجعلهم طائفتين ، طائفة مقابلة للعدو تحرس ، وطائفة صلت معه ركعه ، ثم انصرفوا وهم على صلاتهم فوقفوا في نحر العدو ، ثم جاءت الطائفة التي تحرس فصلوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الركعة التي بقيت من صلاة وسلم بهم ، ثم أتموا لأنفسهم وانصرفوا فوقفوا في نحر العدو ثم رجعت الطائفة الأولى فأتمت الركعة التي بقيت من صلاتهم .
ومنها : ما جاء في حديث صالح بن خوات بن جبير : لما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم صلاة الخوف وكان العدو في غير جهة القبلة ، فقسمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى طائفتين ، فجعل طائفة تجاه العدو تحرس المسلمين وتصد العدو عن الهجوم ، والطائفة الثانية صفت معه في الصلاة ، فلما صلى بهم ركعة ثبت قائماً ، ثم انفردوا عنه وأتموا صلاتهم وسلموا ثم انصرفوا إلى العدو ، فقاموا تجاهه فجاءت الطائفة التي كانت تجاه العدو ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قائم ، فصلوا معه الركعة التي بقيت من صلاته ، فلما جلس للتشهد قاموا فصلوا الركعة التي بقيت من صلاتهم ثم جلسوا للتشهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم سلم بهم .
وجوب صلاة الجماعة على الرجال حضراً وسفراً في حال الأمن والخوف .
معاناة الصحابة في القتال في سبيل الله ، فإنهم في غزوة ذات الرقاع ، فإنها سميت بذلك لأن الصحابة رقت أقدامهم من الجفاء ، فجعلوا يلفون عليها الخرق كالترقيع لها ، وكانت في السنة السابعة بعد خيبر .
أن للصحابة فضلاً علينا لما قاموا به من نصرة ديننا .(3/69)
جواز العمل الكثير في الصلاة للضرورة .
وجوب اتخاذ الحذر من الأعداء .
جواز انفراد المأموم عن إمامه لعذر ، أما من غير عذر فلا يجوز .
155 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنهما قَالَ : (( شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلاةَ الْخَوْفِ فَصَفَفْنَا صَفَّيْنِ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ , وَكَبَّرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَكَبَّرْنَا جَمِيعاً , ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعْنَا جَمِيعاً , ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعاً , ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ , وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ , فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - السُّجُودَ , وَقَامَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ : انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ , وَقَامُوا , ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ , وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ الْمُقَدَّمُ , ثُمَّ رَكَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَرَكَعْنَا جَمِيعاً , ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعاً , ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ , وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ - الَّذِي كَانَ مُؤَخَّرًا فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى - فَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ , فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - السُّجُودَ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ : انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ , فَسَجَدُوا ثُمَّ سَلَّمَ - صلى الله عليه وسلم - وَسَلَّمْنَا جَمِيعاً , قَالَ جَابِرٌ : كَمَا يَصْنَعُ حَرَسُكُمْ هَؤُلاءِ بِأُمَرَائِهِمْ )) .(3/70)
وَذَكَرَهُ مُسْلِمٌ بِتَمَامِهِ . وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ طَرَفاً مِنْهُ : (( وَأَنَّهُ صَلَّى صَلاةَ الْخَوْفِ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْغَزْوَةِ السَّابِعَةِ , غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ )) .
------------------------------------------------
الفوائد :
مشروعية صلاة الخوف .
أن من أنواعها إذا كان العدو في جهة القبلة ، كما جاء في حديث الباب .
أن يصف القائد الجيش صفين ، فيصلي بهم جميعاً ، ويكبر ويركع ويرفع بهم جميعاً ، فإذا سجد سجد معه الصف الأول ، ويبقى الصف الثاني واقفاً يحرس ، فإذا قام الإمام والصف الأول من السجود سجد الصف الثاني ، فإذا قاموا من السجود تقدموا في مكان الصف الأول وتأخر الصف الأول إلى مكانهم ، فيركع الإمام بهم جميعاً ويرفع بهم ثم يسجد هو والصف الذي يليه ، فإذا جلسوا للتشهد سجد الصف المتأخر ثم سلم بهم جميعاً .
هذه الصفة جائزة بشرطين :
الأول : أن يكون العدو تجاه القبلة .
الثاني : أن لا يخافوا كميناً يأتيهم من خلفهم .
وردت صلاة الخوف على صفات أخرى منها :
( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بطائفة ركعتين ثم سلم ، ثم صلى بالآخرين ركعتين ثم سلم ) رواه النسائي .
وكلها جائزة ، واختار الإمام أحمد إذا كان العدو في غير جهة القبلة ما جاء في حديث صالح بن خوات بن جبير ، لأنه أشبه لكتاب الله وأحوط لجند الله وأسلم للصلاة .
لم يصلي النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف إلا في السفر .
قال ابن قدامة : ” إن صلاة الخوف جائزة في الحضر إذا احتيج إلى ذلك بنزول العدو قريباً من البلد ، وبه قال الأوزاعي والشافعي والجمهور “ .
يجب حمل السلاح في صلاة الخوف لقوله تعالى { ولتأخذوا أسلحتكم } .
وهذا الصحيح أنه واجب ، لأن الله أمر به ، ولأن ترك السلاح خطر على المسلمين .
وقيل : إنه مستحب .
اتفق الفقهاء على أمرين :
الأول : يجوز للغزاة أن يصلوا بإمامين كل طائفة بإمام .(3/71)
الثاني : إذا اشتد الخوف وتعذرت الجماعة فلهم صلاتها فرادى في خنادقهم ومواقعهم .
والله أعلم .
كتابُ الجنائزِ
156- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : (( نَعَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ , خَرَجَ بِهِمْ إلَى الْمُصَلَّى , فَصَفَّ بِهِمْ , وَكَبَّرَ أَرْبَعاً )) .
-------------------------------------------------
معاني الكلمات :
نعى : النعي هو الإخبار بموت الميت .
النجاشي : هو أصحمه ملك الحبشة كان عبداً صالحاً .
الفوائد :
جواز نعي الميت .
والنعي ينقسم إلى قسمين :
الأول : نعي جائز .
وهو الإخبار بموت الميت لحضور جنازته فهذا جائز .
لحديث الباب .
ولحديث أنس ( فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نعى الأمراء الثلاثة الذين استشهدوا وقال النبي : أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب ) .
الثاني : نعي محرم
وهو النعي الذي كان يصنعه أهل الجاهلية ، وكانوا يرسلون من يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور والأسواق ويذكرون محاسنه .
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على النجاشي وهو غائب ، فاستدل العلماء بهذا على جواز الصلاة على الميت الغائب .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة :
القول الأول : مشروعة مطلقاً .
وهذا مذهب الشافعي وأحمد .
لحديث الباب .
القول الثاني : لا تشرع مطلقاً .
وهذا مذهب الحنفية والمالكية . قالوا : إن قصة النجاشي وصلاة النبي عليه هذه من خصوصيات النبي - صلى الله عليه وسلم - .
القول الثالث : إذا كان الغائب لم يصل عليه مثل النجاشي صلى عليه ، وإن كان صلي عليه فقد سقط فرض الكفاية .
وهذا القول اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ورجحه ابن القيم وقال :(3/72)
” لم يكن من هدي النبي وسنته الصلاة على كل ميت غائب فقد مات خلق كثير من المسلمين وهم غيّب فلم يصل عليهم وصح عنه أنه صلى على النجاشي صلاته على الميت “ .
وهذا القول هو الصحيح .
- ( كيفية الصلاة على الميت الغائب كطريقة الصلاة على الميت الحاضر ) .
أن الأفضل في الصلاة على الجنازة أن تكون في مصلى الجنائز كما كان الأمر على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
ففي حديث ابن عمر ( أن اليهود جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل منهم وامرأة زنيا فأمر بهما فرجما قريباً من موضع الجنائز عند المسجد ) متفق عليه .
لكن ما حكم لو صلى على الجنازة في المسجد ؟
قيل : يكره
وهذا مذهب المالكية والحنفية
لحديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ) من صلى على الميت في المسجد فلا شيء له ) رواه أبو داود .
وقيل : يجوز
لحديث عائشة قالت ( ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء إلا في جوف المسجد ) رواه مسلم .
وهذا القول هو الصحيح ، وأما الجواب عن قوله ( فلا شيء له ) :
قيل : ضعيف
وقيل : محمول على نقصان الأجر
أن عدد تكبيرات الجنائز أربع تكبيرات إلى هذا ذهب جمهور العلماء . لكن هل تزيد ؟
ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس تكبيرات كما في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم ، فلا بأس أن تزيد أحياناً .
وجوب الصلاة على الميت ، وحكمها فرض كفاية .
لحديث الباب .
ولحديث زيد بن خالد ( . . . صلوا على صاحبكم ) .
فضيلة النجاشي وأسمه أصحمة وكان عبداً صالحاً وقد مات عام 9 ه .
وقد مات على الإسلام ، ويؤيد ذلك أن جاء النص الصريح عنه بتصديق نبوته - صلى الله عليه وسلم - .(3/73)
قال أبو موسى ( أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننطلق إلى أرض الحبشة . . . وذكر القصة : ومنها : قال النجاشي : أشهد أنه رسول الله وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم ، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أحمل نعليه ) رواه أبو داود .
ثبوت آية للنبي - صلى الله عليه وسلم - حيث أنه كشف عن موت النجاشي في نفس اليوم .
158 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : (( أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى عَلَى قَبْرٍ , بَعْدَ مَا دُفِنَ , فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعاً )) .
------------------------------------
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة ( أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد فماتت ففقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عنها بعد أيام ، فقيل له أنها ماتت ، فقال : هلا كنتم آذنتموني ، قالوا : ماتت من الليل ودفنت وكرهنا أن نوقظك ، فكأنهم صغروا أمرها فقال : دلوني على قبرها فدلوه ، فأتى قبرها فصلى عليها ) .
معاني الكلمات :
آذنتموني : أعلمتموني .
الفوائد :
جواز الصلاة على الجنازة ، أو على القبر ، وأن ذلك مستثنى من تحريم الصلاة في المقبرة . كما سيأتي
جواز الصلاة على المقبرة لمن فاتته الصلاة .
وقد اختلفوا في المدة التي يجوز فيها الصلاة :
فقال بعضهم : إلى شهر.
وهذا مذهب الحنابلة .
واستدلوا ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر إلى شهر ) .
وقال بعضهم : إلى أن تبلى .
وهذا مذهب الشافعي .
وقال بعضهم : يصلى عليه من غير تحديد ورجح هذا القول ابن القيم ورجحه الصنعاني .
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر بعد ليلة ومرة بعد ثلاث ومرة بعد شهر ولم يوقت في ذلك وقتاً
لكن قيده بعض العلماء بقيد حسن ، أن يكون هذا المدفون مات في زمن يكون فيه هذا المصلي أهلاً للصلاة .
فضل تنظيف المساجد والعناية بها .(3/74)
ما كان عليه النبي ز من التواضع والرفق بأمته وتفقد أحوالهم والقيام بحقوقهم .
كيفية الصلاة على الغير ، أنه يصلي عليها صلاة الجنازة المعروفة .
159 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ يَمَانِيَةٍ , لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلا عِمَامَةٌ )) .
---------------------------------------
معاني الكلمات :
كفن : الكفن : ما يكفن به الميت من ثياب أو غيرها .
سحولية : بفتح السين نسبة إلى قرية باليمن .
يمانية : نسبة إلى اليمن .
الفوائد :
وجوب تكفين الميت [ وهو فرض كفاية ] .
لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المحرم الذي وقصته ناقته ( . . . كفنوه . . . ) .
وهذا أمر والأمر للوجوب .
الأفضل في الكفن أن يكون بثلاثة أثواب .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لحديث الباب .
ولأن الله لم يكن ليختار لنبيه - صلى الله عليه وسلم - إلا الأفضل .
قال الإمام أحمد : ” أصح الأحاديث في كفن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حديث عائشة “ .
وقد اتفق العلماء على أنه لا يجب أكثر من ثوب واحد يستر جميع البدن .
الأفضل في الكفن أن لا يكون فيه قميص ولا عمامة .
وهذا مذهب الجمهور .
لحديث الباب .
وذهب بعض العلماء إلى أنه يستحب القميص والعمامة .
وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة .
قالوا : إن قول عائشة ليس فيها قميص ولا عمامة أي ليس القميص والعمامة من جملة الثلاثة .
والصحيح القول الأول .
الأفضل أن يكون الكفن لونه أبيض .
لحديث الباب .
ولحديث ( إن من أفضل ثيابكم البياض فالبسوها وكفنوا بها موتاكم ) .
قال النووي : ” مجمع عليه : أي على استحبابه “ .
ذهب بعض العلماء إلى أن المرأة تكفن في خمسة أثواب .
لحديث روي في هذا ، لكنه لا يصح .
والصحيح أن المرأة كالرجل ، إذ لا دليل على التفريق .(3/75)
ينبغي أن يكون الكفن طائلاً ساتغاً يستر جميع بدنه لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ( إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه ). رواه مسلم
قال العلماء : المراد بإحسان الكفن نظافته وكثافته وستره وتوسطه وليس المراد به السرف فيه والمغالاة ونفاسته .
صفة وضع اللفائف :
أن يوضع بعضها فوق بعض ، ويوضع عليها الميت مستلقياً ، ثم يرد طرف اللفافة العليا الأيمن ثم الأيسر ، ثم الباقيان هكذا ، ويكون أكثر الفاضل من جهة الرأس ، هذا إذا كان الكفن طائلاً .
الذين لا يكفنون :
الشهيد : ويدفن في ثيابه .
لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قتلى أحد ( زملوهم في ثيابهم ) رواه أحمد .
المحرم : يكفن في ثيابه التي مات فيها
لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ( وكفنوه في ثوبيه ) .
160 - عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ : (( دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ تُوُفِّيَتْ ابْنَتُهُ , فَقَالَ : اغْسِلْنَهَا ثَلاثاً , أَوْ خَمْساً , أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ - إنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكِ - بِمَاءٍ وَسِدْرٍ , وَاجْعَلْنَ فِي الأَخِيرَةِ كَافُوراً - أَوْ شَيْئاً مِنْ كَافُورٍ - فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي )) .
فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ . فَأَعْطَانَا حَقْوَهُ . وَقَالَ : أَشْعِرْنَهَا بِهِ - تَعْنِي إزَارَهُ .
وَفِي رِوَايَةٍ "أَوْ سَبْعاً" , وَقَالَ : (( ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا )) وَإِنَّ أُمَّ عَطِيَّةَ قَالَتْ : وَجَعَلْنَا رَأْسَهَا ثَلاثَةَ قُرُونٍ )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
إن رأيتن ذلك : بكسر الكاف خطاب لأم عطية معناه إذ احتجتن وليس معناه التخيير .
أم عطية : كانت غاسلة للميتات وكانت من فاضلات الصحابيات وأسمها نسيبة بضم النون .
فرغتن : انتهيتن من غسلها .
فآذنني : فأعلمنني .
حقوة : بكسر الحاء يعني إزاره .(3/76)
أشعرنها إياه : اجعلنه شعاراً لها وهو الثوب الذي يلي الجسد سمي شعاراً لأنه يلي شعر الجسد .
الفوائد :
وجوب تغسيل الميت .
لقوله ( اغسلنها ) .
ولقوله للمحرم الذي وقصته ناقته ( اغسلوه بماء سدر ) .
أن الواجب أن لا يغسل المرأة إلا جنس النساء .
ولا يغسل الرجل إلا جنس الرجال .
قال في المغني : ” هذا قول أكثر أهل العلم “ . لكن يستثنى :
- الزوجان يجوز لكل أحد منهما أن يغسل الآخر
لحديث عائشة ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها : لو متِ قبلي لغسلتك ) رواه أحمد .
ولقولها ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله إلا نساؤه ) رواه أبو داود .
وعن أسماء بنت عميس ( أن فاطمة أوصت أن يغسلها علي ) . رواه الدار قطني
( وأن أبا بكر أوصى امرأته أسماء بنت عميس أن تغسله فغسلته ) . رواه البيهقي
- يجوز للرجل أن يغسل بنتاً دون سبع سنين ، ويجوز للمرأة أن تغسل صبياً دون سبع سنين .
قال ابن المنذر : ” أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن للمرأة أن تغسل الصبي الصغير مجرداً من غير مئزر وتمس عورته وتنظر إليها “ .
الأفضل أن يكون مع الماء سدر .
لقوله ( بماء وسدر ) .
قال النووي : ” وهو متفق على استحبابه “ .
استحباب أن يكون مع الغسلة الآخيرة كافوراً .
لقوله ( واجعلن في الآخرة كافوراً ) .
وباستحبابه قال جماهير العلماء .
قال النووي : ” لأنه يطيب الميت ويصلب بدنه ويبرده ويمنع إسراع فساده “ .
الأفضل أن يكون عدد الغسلات ثلاثاً فإن لم يكف فخمس فإن لم يكف زيد على ذلك .
الأفضل أن تقطع غسلاته على وتر .
أن يستحب البداءة بغسل أعضاء الوضوء .
أن المرأة ينقض رأسها ويجعل ثلاثة قرون ويلقى خلفها .
استدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن الغسل من غسل الميت لا يجب .
وجه الدلالة : أنه موضع تعليم فلو وجب لعلمه .
ثبوت التبرك بملابسه وآثاره وهو من خصائصه ، فلا يتبرك بملابس غيره من الناس وآثارهم .(3/77)
أن الميت يجرد من ثيابه عند تغسيله ، لدليلين :
لأن الصحابة لما أرادوا أن تغسيل النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا : هل نجرد من ملابسه كما يجرد موتانا
ولأن تجريده أبلغ في تطهيره .
يستحب ستره عن العيون ، ولا يحضر تغسيله إلا من احتيج إليه لمعونته .
161 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : (( بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ , إذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ , فَوَقَصَتْهُ - أَوْ قَالَ : فَأَوْقَصَتْهُ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ , وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ . وَلا تُحَنِّطُوهُ , وَلا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ . فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّياً )) . وَفِي رِوَايَةٍ : (( وَلا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلا رَأْسَهُ )) .
------------------------------------------------
معاني الكلمات :
بينما رجل : قال في الفتح : ” لم أقف على شيء من الطرق على تسمية هذا المحرم “ .
فوقصته : بفتح الواو : والوقص الكسر .
لا تحنطوه : لا تجعلوا فيه حنوطاً ، والحنوط : أخلاط من طيب .
لا تخمروا : لا تغطوا .
وجوب تغسيل الميت لقوله ( اغسلوه ) .
وجوب التكفين لقوله ( وكفنوه ) .
تحريم تغطية رأس المحرم لقوله ( ولا تخمروا رأسه ) .
وهذا مذهب الشافعي وأحمد .
وخالف الحنفية والمالكية ، وقالوا إن الميت يغطى رأسه .
والصحيح الأول لحديث الباب .
اختلف العلماء في تغطية المحرم وجهه على قولين .
القول الأول : مباح للمحرم أن يغطي وجهه .
روى ذلك عن عثمان وزيد بن ثابت وابن الزبير وسعد بن أبي وقاص .
وبه قال الشافعي وأحمد وابن حزم . الأدلة :
لحديث الباب ( ولا تخمروا رأسه ) .
وجه الدلالة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تغطية رأس المحرم فقط ، فدل على جواز ستر الوجه لأنه لو كان حراماً لنهى عنه(3/78)
ولما روي عن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وابن الزبير يخمرون وجوههم وهم محرمون .
القول الثاني : لا يجوز للمحرم أن يغطي وجهه .
وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك ، واستدلوا :
برواية جاءت في حديث الباب ( ولا تخمروا رأسه ولا وجهه ) .
وروي عن ابن عمر أنه كان يقول ( ما فوق الذقن من الرأس فلا يخمره المحرم ) رواه البيهقي .
أجاب أصحاب القول الأول عن دليل القول الثاني قالوا :
أن رواية ( ولا وجهه ) شاذة ضعيفة .
قال البيهقي : ” ذكر الوجه غريب وهو وهم من بعض رواته “ .
والأحوط أن لا يغطي المحرم وجهه .
وجوب اجتناب الطيب للمحرم حياً أو ميتاً .
أن التكفين في الثياب الملبوسة جائز .
قال النووي : ” وهو مجمع عليه “ .
استحباب خلط الماء بالسدر في تغسيل الميت .
أن المحرم إذا مات لا يقضى عنه ما بقي من نسكه ولو كان الحج فريضة ، لأن النبي لم يقل لهم : اقضوا عنه بقية نسكه ، ولو كان قضاء النسك واجباً لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ولأننا لو قضينا عنه بقية نسكه لفوتنا عليه فائدة كبيرة وهي أنه يبعث يوم القيامة ملبياً .
فضل من مات محرماً .
أن من شرع في عمل صالح من طلب علم أو جهاد أو غيرهما ومن نيته أن يكمله فمات من قبل أن ذلك بلغت نيته الطيبة وجرى عليه ثمرته إلى يوم القيامة .
162- عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأَنْصَارِيَّةِ رضي الله عنها قَالَتْ : (( نُهِينَا عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا )) .
---------------------------------------------
معاني الكلمات :
نهينا : النهي : طلب الكف على وجه الاستعلاء ، والصحابي إذا قال نهينا ، فإن الناهي هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
الفوائد :
الحديث يدل على نهي النساء عن أتباع الجنائز .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة :
القول الأول : أنه مكروه .
وهذا مذهب الجمهور .
لقول أم عطية ( ولم يعزم علينا ) فهي فهمت أن النهي ليس للتحريم من قرينة .(3/79)
القول الثاني : النهي للتحريم .
وهذا مذهب الحنفية
لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - في قولها ( نهينا عن أتباع الجنائز ) وهو المشرع عليه الصلاة والسلام .
وأما قول أم عطية ( ولم يعزم علينا ) فهو اجتهاد منها ، والحجة قول الشارع .
وهذا القول هو الصحيح .
يستحب للرجال اتباع الجنائز ، واتباع الجنائز يكون على قسمين :
أ- اتباعها من أهلها إلى المصلى .
ب - اتباعها من عند أهلها حتى الفراغ من دفنها . وهذه المرتبة أعلى .
أن الأصل في الأحكام تساوي الرجال والنساء إلا ما دل الدليل على اختصاص أحدهما دون الآخر .
فالتفريق بين الرجال والنساء في بعض الأحكام يدل على الحكم السامية في التشريع الإسلامي ، ويشرع لكل جنس ما يناسبه من الأحكام وينزل كل واحد ما يناسبه .
ومن الأحكام المختلفة بين الرجال والنساء :
- زيارة المقابر حرام على النساء سنة للرجال .
- الختان واجب على الرجال سنة للنساء .
- صلاة الجماعة واجبة على الرجال دون النساء .
- الجهاد مشروع على الرجال دون النساء .
فائدة :
اختلف العلماء في حكم زيارة المقابر للنساء ؟
القول الأول : التحريم .
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية .
عن أبي هريرة . ( أن رسول الله لعن زائرات القبور ) رواه الترمذي وأحمد ، وصححه النووي وشيخ الإسلام والألباني .
واللعن يدل على التحريم .
ولأن المرأة قليلة الصبر كثيرة الجزع ، وفي زيارة للقبر تهييج لحزنها وتجديد لذكر مصابها ، ولا يؤمن أن يفضي بها ذلك إلا فعل ما لا يجوز بخلاف الرجل .
القول الثاني : أنه مباح .
وهذا قول الحنفية .
عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - ( كنتم نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ) وهذا عام للرجل والنساء .(3/80)
ولحديث أنس قال ( مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأة تبكي عند قبر ، فقال لها : اتقي الله واصبري ، فقالت : إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ، ولم تعرفه ، فقيل لها : إنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم تجده بوابين ، فقالت : لم أعرفك ، فقال : إنما الصبر عند الصدمة الأولى ) متفق عليه .
قالوا : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليها خروجها للقبر .
ولما رواه مسلم عن عائشة . قالت : ( كيف أقول يا رسول الله _ يعني إذا زارت القبور _ فقال : قولي : السلام على أهل الديار من المؤمنين ....... ) .
القول الثالث : أنه يكره .
وهذا مذهب الشافعية والحنابلة .
واستدلوا بنفس أدلة القائلين بالتحريم .
والراجح القول الأول وهو التحريم .
163 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : (( أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ فَإِنَّهَا إنْ تَكُ صَالِحَةً : فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إلَيْهِ . وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ : فَشَرٌّ : تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ )) .
---------------------------------------
جاء عند البخاري ( إذا وضعت الجنازة ، واحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت قدموني قدموني ، وإن كانت غير صالحة قالت يا ويلها أين تذهبون بها ، يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان لو سمعه لصعق ) .
معاني الكلمات :
فإن تك : للتعليل للأمر بالإسراع .
صالحة : قائمة بحقوق الله وحقوق الناس .
الفوائد :
يستحب الإسراع في الجنازة .
قال في المغني : ” لا نعلم فيه خلافاً بين الأئمة “ .
وقال النووي : ” واتفق العلماء على استحباب الإسراع بالجنازة إلا أن يخاف من الإسراع انفجار الميت أو تغيره ونحوه فيتأنى “ .
( ذهب ابن حزم إلى وجوب الإسراع للأمر بذلك ) .
اختلف في الإسراع المستحب :
قيل : المراد الإسراع بحملها إلى قبرها ، ورجحه القرطبي والنووي .(3/81)
لقوله ( تضعونه عن رقابكم ) .
وقيل : المراد الإسراع بتجهيزها وغسلها ودفنها ( وهذا القول أعم ) .
ويستدل لهذا القول : بما أخرجه الطبراني بإسناد حسن عن ابن عمر قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره ) .
ولحديث ( لا ينبغي لجيفة مسلم أن يبقى بين ظهراني أهله ) .
كيف المشي بالميت ؟
أولاً : أن يمشي به خطوة خطوة .
فهذا بدعة مكروهة مخالفة للسنة ومتضمنة التشبه بأهل الكتاب . [ قاله ابن القيم ] .
ثانياً : أن يسرع بها إسراعاً كثيراً يخشى على الجنازة أو يشق على الحاملين .
فهذا لا يجوز .
ثالثاً : أن يمشي بها بين السرعة والبطء .
وهذا هو السنة .
قال ابن تيمية : ” كان الميت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج به الرجال يحملونه إلى المقبرة لا يسرعون ولا يبطئون بل عليهم السكينة ولا يرفعون أصواتهم لا بقراءة ولا بغيرها وهذه هي السنة باتفاق المسلمين “ .
لا يجوز أن تتبع الجنائز بما يخالف الشريعة .
كرفع الصوت بالبكاء أو بنار .
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( لا تتبع الجنازة بصوت ولا بنار ) .
وقال عمرو بن العاص ( فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار ) رواه مسلم .
قال النووي : ” واعلم أن الصواب المختار ما كان عليه السلف من السكون حال السير مع الجنازة فلا يرفع صوت بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك والحكمة فيه ظاهرة وهي أنه أسكن لخاطره وأجمع لفكره “ .
الإسراع بالجنازة مطلوب ما لم يمت فجأة لاحتمال أن يكون غشياناً [ هذا كان قديماً قبل تقدم الطب ] .
وأيضاً لا بأس بتأخيره إذا كان لمصلحة كأن يموت في حادث جنائي ليتحقق من قتله .
بعض الناس يؤخرون الميت حتى يأتي أقاربه وربما يؤخرونه يوم أو يومين .
وهذا جناية على الميت [ تأخيره ساعة أو ساعتين أو مات أول النهار وأخرناه إلى الظهر فلا بأس ] .(3/82)
ما الجواب عن فعل الصحابة حيث لم يدفنوا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا يوم الأربعاء مع أنه توفي يوم الاثنين الجواب : أنه أخر دفنه من أجل إقامة الخليفة بعده حتى لا يبقى الناس بلا خليفة .
أن القبر للميت الصالح خير من الدنيا .
يجب الابتعاد عن الشر وأهله .
حسن تعليم النبي حيث يقرن الحكم ببيان حكمته .
164 - عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ- رضي الله عنه - قَالَ : (( صَلَّيْت وَرَاءَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا فَقَامَ فِي وَسَطِهَا )) .
--------------------------------------------------
معاني الكلمات :
امرأة : قيل هي أم كعب الأنصارية .
ماتت في نفاسها : أي بسبب النفاس .
وسطها : أي قام محاذياً لوسطها .
الفوائد :
أن السنة إذا كان الميت امرأة أن يقف الإمام وسطها .
لحديث الباب فهو نص .
وأما الرجل فإنه يقف الإمام عند رأسه .
لحديث أنس ( أنه صلى على جنازة رجل فقام عند رأسه ، فلما رفعت أتي بجنازة امرأة فصلى عليها فقام وسطها . . . فسئل عن ذلك فقال : إن رسول الله كان يفعل ذلك ) رواه أبو داود .
وهناك أقوال أخرى لكنها ضعيفة .
فقيل : يقف على وسط المرأة ووسط الرجل .
استدلوا بحديث سمرة وقالوا أنه نص في المرأة ، ويقاس عليها الرجل .
وهذا القول ضعيف لأنه قياس مصادم للنص فهو فاسد الاعتبار
وقيل : يقف حذاء صدرهما . وقيل : حذاء الرأس منهما ، هذا قول المالكية .
وكل هذه الأقوال ضعيفة لا دليل عليها
وأن الحق ما سبق : أن يقوم عند وسط المرأة وعلى رأس الرجل .
إذا اجتمعت جنائز عديدة من الرجال والنساء .
إن كانوا نوعاً [ كلهم رجال ] قدم إلى الإمام أفضلهم .
وإن كانوا رجالاً ونساء قدم الرجال على النساء .
وهذا قول أكثر العلماء .
فيجعل الرجال مما يلي الإمام ولو كانوا صغاراً .
( ويجوز أن يصلي على كل واحدة من الجنائز صلاة لأنه الأصل ) .(3/83)
فائدة :كيف يوضعون للصلاة عليهم إذا كانوا رجالاً ونساءً ؟
يضعون رأس الرجل بحذاء وسط المرأة .
علل بعض العلماء حكمة وقوف الإمام وسط المرأة بأنه أستر لها من الناس [ وفيه نظر ]
أن النفساء وإن حازت الشهادة كونها في نفاسها فيصلى عليها فلا تأخذ حكم شهيد المعركة
فسائر من يطلق عليهم اسم الشهيد كالمبطون والنفساء وغيرهم فيغسلون إجماعاً ويصلى عليهم .
165 - عَنْ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ- رضي الله عنه - - : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَرِيءٌ مِنْ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ )) .
168 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : (( لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ , وَشَقَّ الْجُيُوبَ , وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ )) .
---------------------------------------------
معاني الكلمات :
الصالقة : التي ترفع صوتها بالبكاء .
الحالقة : هي التي تحلق شعرها عند المصيبة .
الشاقة : هي التي تشق ثوبها .
ليس منا : أي ليس من أهل سنتنا وطريقتنا ، وليس المراد به أخراجه من الدين .
ضرب الخدود : خص الخد بذلك لكونه الغالب وإلا فضرب بقية الوجه مثله .
وشق الجيوب : جمع جيب وهو ما يفتح من الثوب ليدخل فيه الرأس ، والمراد بشقه إكمال فتحه إلى آخره وهو من علامات السخط .
ودعا بدعوى الجاهلية : من النياحة ونحوها .
الفوائد :
تحريم النياحة والتسخط وأقدار الله المؤلمة وإظهار ذلك بالنياحة أو الحلق أو الشق .
ومن الأدلة على تحريم النياحة أيضاً :
قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : . . . النياحة ، قال : النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب ) رواه مسلم .(3/84)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه ) متفق عليه .
المراد ببكاء أهله : أي النياحة .
خص بمثل هذه الأعمال النساء لضعفهن ، إلا أن الرجال مثلهن إذا ناحوا على الميت .
الإنسان تجاه المصيبة له ثلاث حالات :
الصبر وهذا واجب يجب على الإنسان الصبر .
الرضاء وهذا مستحب .
التسخط وهذا حرام .
إشكال :
ظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ) أنه مخالف للقواعد الشرعية [ ولا تزر وازرة وزر أخرى ] وأجاب العلماء عن أجوبة :
الأول : أن الحديث محمول على من أوصى بالنوح عليه أو لم يوصي بتركة مع علمه أن الناس يفعلونه عادةً ، وهذا مذهب الجمهور
الثاني : أن نص الحديث أنهم كانوا ينوحون على الميت فيندبونه بتعديد شمائله ومحاسنه في زعمهم وتلك الشمائل قبائح في الشرع يعذب بها كما كانوا يقولون يا مقبح الولدان ومخرب العمران .
الثالث : أن هذا التعذيب ليس تعذيب عقوبة ولكنه تعذيب تألم ، فالميت يتألم لما يقع من أهله من النياحة وهذا اختيار الطبري وشيخ الإسلام ابن تيمية .
والراجح القول الأول .
فائدة :
المراد بالبكاء : ( . . . يعذب ببكاء أهله ) المراد النياحة لا مجرد دمع العين .
قال النووي : بالإجماع .
في قوله ( ليس منا من ضرب الخدود ) ، ليس منا :
قيل : تبقى هكذا لا تفسر حتى تكون أبلغ في زجر الناس وترهيبهم .
وقيل : ليس على هدانا الكامل .
وقيل : ليس على سنتنا ولا على هدينا وهذا الصحيح .
البكاء على الميت من غير نياحة جائز .
- فقد بكى النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مات ابنه إبراهيم .
- وبكى لما مات ابن ابنته .
- وبكى في مواضع أخرى .(3/85)
166 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَ : (( لَمَّا اشْتَكَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ , يُقَالُ لَهَا : مَارِيَةُ - وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ أَتَتَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ - فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا , فَرَفَعَ رَأْسَهُ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ : أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِداً , ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ )) .
167 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ : (( لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
اشتكى : مرض
كنيسة : معبد النصارى .
تصاوير : الظاهر أن هذه الصور مجسمة وتماثيل منصوبة .
ثم صوروا تلك الصور : قال القرطبي : ” إنما صوروا أوائلهم ليأنسوا بها ويتذكروا أفعالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم ويعبدون الله عند قبورهم ثم خالفهم قوم جهلوا مرادهم ووسوس لهم الشيطان أن أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور ويعضمونها ، فحذر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مثل ذلك “.
لعن الله : اللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله .
وقوله ( لعن الله ) يحتمل أن يكون هذا أخبار من الرسول أن الله لعنهم .
ويحتمل أن الرسول يدعوا عليهم أن الله يطردهم من رحمته .
اليهود : سموا بذلك قيل : نسبة إلى جدهم يهوذا وقيل : لقوله ( إنا هدنا إليك ) أي تبنا ورجعنا من عبادة العجل .
النصارى : هم من ينتسبون إلى عيسى وسموا بذلك : قيل : نسبة إلى قرية في فلسطين تسمى الناصرة وقيل : لأنهم قالوا نحن أنصار الله .(3/86)
اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد : أي بنوا المساجد عليها أو اتخذوا القبور أمكنة للصلاة ولو لم يبنوا المساجد .
الفوائد :
تحريم اتخاذ القبور مساجد وهو كبيرة من كبائر الذنوب وقد جاءت أحاديث كثيرة تدل على تحريمه ، منها :
أحاديث الباب ، وفي قول عائشة : قولها ( لولا لأبرز قبره ) هذا يدل دلالة واضحة على السبب الذي من أجله دفنوا النبي في بيته إلا وهو سد الطريق على من عسى أن يبني عليه مسجد .
وعن الحارث قال ( سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول قبل أن يموت بخمس : ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، أفلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك ) رواه ابن أبي شيبة .
وعن أبي مسعود قال ( قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد ) رواه ابن خزيمة .
معنى اتخاذ القبور مساجد :
- أن يبني عليها مساجد ليقصد الصلاة بها .
- أن يتخذ مكاناً للصلاة عندها وإن لم يبني مسجد .
- الصلاة على القبور بمعنى السجود عليها .
هناك بعض الشبهات وسوف نرد عليها :
الشبهة الأولى : أن قبر النبي في مسجده كما هو موجود اليوم .
الجواب : أن هذا وإن كان هو المشاهد اليوم فإنه لم يكن كذلك في عهد الصحابة ، فإنه لما مات دفنوه في حجرته التي كانت بجانب المسجد وكان يفصل بينهما جدار فيه باب ، كان الرسول يخرج منه إلى المسجد ، لكن في عام 18هـ أمر الوليد بن عبد الملك بهدم المسجد النبوي وإضافة حجرات زوجات النبي إليه فأدخل فيه الحجرة النبوية فصار القبر بذلك في المسجد .
الشبهة الثانية : أن النبي - صلى الله عليه وسلم -صلى في مسجد الخيف وقد دفن فيه سبعين ميتاً .
الجواب : الحديث الوارد ( أنه دفن فيه سبعين نبياً ) لا يصح ، رواه الطبراني
لو فرض صحة الحديث فإن القبور الآن غير ظاهرة ومن المعلوم أن الشريعة تبني أحكامها على الظاهر .(3/87)
الشبهة الثالثة : أن قبر إسماعيل في الحجر في المسجد الحرام .
الجواب : لم يثبت في حديث مرفوع أن إسماعيل أو غيره من الأنبياء دفنوا في المسجد الحرام ولم يرد شيئاً من ذلك .
لا يجوز الصلاة في المقابر .
لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ) .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( لا تصلوا إلى القبور ولا عليها ) .
واختلف في الحكمة :
فقيل : النجاسة . وهذه علة عليلة ضعيفة لأمور:
أولاً : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على المرأة التي كانت تقم المسجد في المقبرة ولو كانت العلة النجاسة لما صلى عليها .
ثانياً : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( لا تصلوا إلى القبور ) .
والصواب أن العلة سد ذريعة الشرك .
النهي الأكيد والتحريم الشديد من اتخاذ القبور مساجد .
أن هذا من فعل اليهود والنصارى فمن فعله فقد اقتفى أثرهم .
حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على حماية جانب التوحيد .
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حذر من اتخاذ القبور مساجد ثلاث مرات :
أولاً : في سائر حياته .
ثانياً : قبل موته بخمس .
ثالثاً : وهو في سياق الموت .
ورد في الحديث قبل قليل ( أن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء . . . ) ، مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى تقوم الساعة ) :
الجمع بين الحديثين :
نقول المراد بقوله (حتى تقوم الساعة ) أي قرب قيام الساعة ، أو أن المراد بالساعة موتهم .
جواز اللعن بالوصف ، واللعن من حيث حكمه ينقسم إلى أقسام :
القسم الأول : لعن المسلم المصون .
وهذا حرام بالإجماع .
للأحاديث الكثيرة في النهي عن اللعن .
القسم الثاني : اللعن بالوصف العام أو الخاص .
كقول : لعنة الله على الظالمين – لعنة الله على الفاسقين – لعن الله آكل الربا .
وهذا جائز بلا خلاف .(3/88)
قال تعالى { فلعنة الله على الكافرين ) وقال ( لعنة الله على الكاذبين } .
القسم الثالث : لعن الكافر المعين الذي مات على الكفر . مثل فرعون وأبي جهل .
فهذا جائز ولا خلاف فيه .
قال تعالى { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين } .
القسم الرابع : لعن الكافر المعين الحي .
اختلف العلماء على قولين :
القول الأول : المنع .
قالوا : ربما يسلم هذا الكافر فيموت مقرباً عند الله .
القول الثاني : جواز لعنه .
واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في قصة الذي كان يؤتى به سكران فيحده ، فقال رجل : لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تلعنه ، فإنه يحب الله ورسوله .
والذي يظهر لي جواز لعنه خاصة إذا كان يؤذي المسلمين .
القسم الخامس : لعن المسلم ، المعين ، الفاسق .
هذا لا يجوز لعنه ، ولذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن لعن ذلك الرجل الذي كان يؤتى به من السكر وقال : إنه يحب الله ورسوله .
169 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : (( مَنْ شَهِدَ الْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ . وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ . قِيلَ : وَمَا الْقِيرَاطَانِ ؟ قَالَ : مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ )) .
وَلِمُسْلِمٍ : (( أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ )) .
------------------------------------------
معاني الكلمات :
من شهد : أي من حضر .
جاء في رواية ( من شيع ) وأخرى ( من تبع ) .
الفوائد :
الفضل العظيم لمن شهد واتبع الجنازة .
أن أتباع الجنائز على مرتبتين :
الأولى : اتباعها من عند أهلها حتى الصلاة عليها .
الثانية : إتباعها من عند أهلها حتى يفرغ من دفنها .
وهذه المرتبة الثانية أفضل لحديث الباب حيث يحصل على قيراطين .(3/89)
حث الشارع الحكيم على شهود الجنازة .
( كان ابن عمر يصلي عليها ثم ينصرف ، فلما بلغه حديث أبو هريرة قال : أكثر علينا أبو هريرة ، فأرسل خباباً إلى عائشة يسألها عن قول أبو هريرة ثم يرجع إليه فيخبره ما قالت ، وأخذ ابن عمر قبضة من حصى المسجد يقلبها في يده حتى رجع إليه الرسول ، وقال : قالت عائشة : صدق أبو هريرة ، فضرب ابن عمر بالحصى الذي كان في يده الأرض ثم قال فرطنا في قراريط كثيرة ) .
أن هذا الفضل في اتباع الجنائز إنما هو للرجال دون النساء .
لقول أم عطية ( نهينا عن أتباع الجنائز ) .
قوله ( من شهدها حتى تدفن ) ظاهره أن حصول القيراط متوقف على فراغ الدفن .
وقيل : يحصل بمجرد الوضع في اللحد .
لرواية عند مسلم ( حتى توضع في اللحد ) .
وقيل : عند انتهاء الدفن قبل إهالة التراب .
لرواية ( حتى توضع في القبر ) والله أعلم .
أنه يحصل للمصلي والمشيع حتى تدفن ثواب لا يعلم قدره إلا الله .
أن في الصلاة على الميت وتشييع جنازته إحسان إلى الميت وإلى المصلي والمشيع .
كتاب الزكاة
مقدمة
تعريفها :
لغة : النما والزيادة .
وشرعاً : مال مقدر شرعاً في أموال مخصوصة لطائفة مخصوصة .
وسميت زكاة لأنها تزكي المال ، وتزكي صاحب المال .
تزكي صاحب المال .
قال تعالى { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم ... } .
وتزكي المال :
قال - صلى الله عليه وسلم - ( ما نقصت صدقة من مال ) .
حكمها : واجبة بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( بني الإسلام على خمس .... وذكر منها : وإيتاء الزكاة ) .
ولما بعث معاذاً إلى اليمن ( ...... فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ) .
وأجمع المسلمون على وجوبها .
فرضت في السنة الثانية للهجرة :
فرضت أول ما فرضت في مكة من تحديد ولا تفصيل .
قال تعالى { وفي أموالهم حق للسائل والمحروم } .(3/90)
وفي السنة الثانية بينت أحكام الزكاة التفصيلية ، وقدر النصاب وقدر المخرج منه .
تارك الزكاة :
إن تركها جاحداً لوجوبها فهو كافر ، لأنه أنكر أمراً معلوم بالضرورة من الدين .
وإن تركها تهاوناً وكسلاً ، فقد اختلف العلماء فيه على قولين :
والأكثر على أنه ليس بكافر :
لحديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لما ذكر عقوبة تارك الزكاة ( .... قيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ) .
ومعلوم أن من يمكن أن يكون له سبيل إلى الجنة لا يكون كافراً ، لأن الكافر لا يكون له سبيل إلى الجنة .
عقوبة تارك الزكاة : تنقسم عقوبته إلى قسمين :
آخروية :
قال - صلى الله عليه وسلم - ( من آتاه مالاً فلم يؤد زكاته ، مثّل له يوم القيامة شجاعاً أقرع ، له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ، ثم يأخذ بلهزمتيه
[ يعني شدقيه ] ثم يقول : أنا كنزك ) متفق عليه .
[ شجاعاً ] الشجاع الحية . [ الأقرع ] الذي ذهب شعر رأسه من طول عمره .
دنيوية :
قال - صلى الله عليه وسلم - ( ما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ، ولولا البهائم لم يمطروا ) . رواه ابن ماجه
الأموال التي تجب فيها الزكاة :
الذهب والفضة ، عروض التجارة ، الخارج من الأرض ، بهيمة الأنعام .
شروط وجوب الزكاة :
الإسلام : فلا تجب ولا تصح من الكافر .
قال تعالى { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله } .
الحرية : فلا تجب على العبد ، لأنه لا يملك ، فماله لسيده .
ملك النصاب : والنصاب هو القدر الذي رتب الشارع وجوب الزكاة على وقوعه .
مضي الحول : أي عام كامل .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ) .
( يستثنى مما لا يشترط له الحول : نتاج السائمة – ربح التجارة ) .(3/91)
170- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ - :
(( إنَّك سَتَأْتِي قَوْماً أَهْلَ كِتَابٍ . فَإِذَا جِئْتَهُمْ : فَادْعُهُمْ إلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ , وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ . فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ : أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ . فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَك بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ : أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً , تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ . فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَك بِذَلِكَ , فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ . وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ . فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ )) .
----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
بعثه إلى اليمن : بعثه معلماً وقاضياً . قال الحافظ : كان بعث معاذ إلى اليمن سنة عشر ، قبل حج النبي ، واتفقوا على أنه لم يزل على اليمن إلى أن قدم في خلافة أبي بكر ثم توجه إلى الشام فمات بها .
أهل كتاب : يعني اليهود والنصارى ، لأنهم كانوا أكثر من مشركي العرب أو أغلب .
افترض : أوجب .
كرائم : جمع كريمة : وهي الجامعة للكمال من غزارة لبن وجمال صورة وكثرة لحم وصوف .
الفوائد :
مشروعية بعث الدعاة إلى الله .
فضيلة ظاهرة لمعاذ بن جبل ، ومن فضائله :
قوله- صلى الله عليه وسلم - له ( إني لأحبك في الله ... ) ..
وقوله - صلى الله عليه وسلم - ( أعلم أمتي الحلال والحرام معاذ بن جبل ) .(3/92)
أن أول واجب على العبد هو التوحيد لقوله ( فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة .... ) ، ولهذا كان أول ما دعت إليه الرسل عليهم السلام ( أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) وقال نوح ( أن لا تعبدوا إلا الله ) .
أن هذه الشهادة [ لا إله إلا الله ] لا تنفع قائلها إلا بسبعة شروط :
أحدها : العلم المنافي للجهل .
الثاني : اليقين المنافي للشك .
الثالث : القبول المنافي للرد .
الرابع : الانقياد المنافي للترك .
الخامس : الإخلاص المنافي للشرك .
السادس : المحبة المنافية للبغض .
السابع : الصدق المنافي للكذب .
ينبغي على الداعية أن يعرف من يدعو ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ : ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب ) .
قال العلماء : أخبره بذلك لأمرين :
أولاً : ليكون بصيراً بأحوال من يدعو .
ثانياً : أن يكون مستعداً لهم .
معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأحوال الناس ، ومعرفة النبي بذلك له طريقان :
أولاً : الوحي . ثانياً : العلم والتجربة .
أن مخاطبة العالم ليست كمخاطبة الجاهل .
فيه البداءة بالدعوة والتعليم بالأهم فالأهم .
التنبيه على التعليم بالتدريج .
أن الصلاة أعظم الواجبات بعد الشهادتين .
أن عدد الصلوات المفروضة خمس ، ومن الأدلة على ذلك :
قوله - صلى الله عليه وسلم - ( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة مكفرات لمابينهن إذا اجتنبت الكبائر ) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات ، هل يبقى من درنه شيء ؟ قالوا : لا ، قال : كذلك الصلوات الخمس ) .
أن الزكاة أوجب الواجبات بعد الصلاة .
أن من مصارف الزكاة الفقراء ( وهو من يجد دون كفايته ) .
اختلف العلماء هل يجوز صرف الزكاة لصنف واحد من أصناف الزكاة الثمانية أم لا ؟
القول الأول : يجوز .
وهذا قول الجمهور .
لحديث ( فترد على فقرائهم .. ) . والفقراء أحد الأصناف الثمانية .(3/93)
القول الثاني : يجب أن تصرف الزكاة على الأصناف الثمانية .
وهذا قول الشافعي .
للآية { إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها ... } .
والراجح الأول .
اختلف العلماء هل يجوز نقل الزكاة إلى بلد آخر على قولين :
القول الأول : لا يجوز .
وهذا مذهب الجمهور .
لحديث ( .... فترد على فقرائهم .. ) أي على فقراء البلد الذي بعث إليه .
القول الثاني : يجوز للمصلحة .
وهذا مذهب أبي حنيفة واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية .
لأن النبي كان يبعث السعاة فيأتون بالصدقات من الأطراف البعيدة إلى المدينة حيث توزع على فقرائها .
وهذا القول هو الصحيح .
فائدة : جمهور العلماء الذين يقولون لا يجوز نقلها – يقولون لو نقلها اجزات عنه وأدت الواجب .
أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها إما بنفسه أو نائبه .
لا يجوز دفع الزكاة لغني .
يحرم على العامل أن يأخذ كرائم المال ، ويحرم على صاحب المال إخراج شرار المال ، بل يخرج الوسط ، فإن طابت نفسه بالكريمة جاز .
التحذير من الظلم .
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - ( اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ) .
171 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : (( لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ . وَلا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ . وَلا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ )) .
-----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
أواق : جمع أوقية ، ومقدار الأوقية في هذا الحديث أربعون درهماً .
ذود : بفتح الذال وسكون الواو ، تقال لما بين الثلاثة والعشرة من الإبل .
أوسق : جمع وسق ، والوسق : 60 صاعاً فيكون نصاب الحبوب : 300 صاع .
الفوائد :
نصاب الفضة [ 5 ] أواق يعني : 200 دلارهماً ، فلا زكاة فيما أقل من ذلك .(3/94)
قال ابن قدامة : ” لا تجب فيما دون : 200 درهم من الفضة صدقة ، لا نعلم فيه خلافاً ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ليس فيما دون خمس أواق صدقة ، والأوقية أربعون درهماً ، فإذا بلغت 200 درهماً ففيها خمسة دراهم لا خلاف بين العلماء في ذلك ، والواجب فيه : ربع العشر بغير خلاف “ .
نصاب الذهب : 20 مثقالا . [ 80 غرام ] .
قال في حاشية الروض : ” يجب في الذهب إذا بلغ 20 مثقالاً باتفاق الأئمة الأربعة “ .
ومقدار الزكاة : ربع العشر .
قال ابن قدامة : ” لا نعلم خلافاً بين أهل العلم في أن زكاة الذهب والفضة ربع العشر “ .
كيفية الزكاة :
إذا بلغ الذهب [ 80 ] غرام فإننا نزكيه ومقدارها ربع العشر ، وكيفية ذلك : أن نقسم القيمة على أربعين ، فما خرج فهو الزكاة ، فإذا كان الحلي [ 40 ] ألفاً ففيه ألف ريال ، وهكذا .
وجوب الزكاة في الفضة وكذلك الذهب وهذا بالإجماع .
قال تعالى { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم . يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ... } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره كلما بردت أعيدت عليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين العباد ) . رواه مسلم
وجوب الزكاة في الإبل ، ومثل الإبل بهيمة الأنعام كالبقر والغنم .
لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم ، لا يؤدي زكاتها ، إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تنطحه بقرونها . . . ) .
يشترط في زكاة بهيمة الأنعام : أن تكون سائمة [ وهو رعي أكثر الحول ] .
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون ) . رواه أبو داود(3/95)
أن نصاب الإبل يبدأ من خمس فما فوق ، فلا زكاة في ما أقل من خمس من إبل .
ونصاب الإبل من 5 – 120 كالتالي :
5-9 : شاة واحدة .
10- 14 : شاتين .
15- 19 : 3 شياه .
20- 24 : 4 شياه .
25 – 35 : بنت مخاض .
36 – 45 بنت لبون .
46 – 60 حقة .
61 – 75 جذعة .
[ 76 – 90 ] 2 بنتا لبون .
[ 91 – 120 ] حقتان .
وعلى هذه المقادير انعقد الإجماع . ثم بعد : 120 ، في كل خمسين حقة ، وفي كل أربعين بنت لبون .
130 : فيها حقة واحدة وبنتا لبون .
150 : فيها 3 حقاق .
بنت اللبون : هي أنثى الإبل تمت لها سنتان وسميت بذلك لأن أمها قد ولدت وأصبحت ذات لبن غالباً .
بنت مخاض : أنثى الإبل ولها سنة واحدة ، وسميت بذلك لأن الغالب أن أمها حامل .
حقة : الأنثى لها ثلاث سنوات سميت بذلك لأنها استحقت أن يطرقها الفحل .
جذعة : أنثى الإبل وتمت لها : 4 سنوات .
البقر :
يبدأ نصابه من : 30 .
قال ابن قدامة : ” لا زكاة فيما دون الثلاثين من البقر وهو قول جمهور العلماء “ .
عن معاذ ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه إلى اليمن ، فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعاً أو تبيعة ومن كل اربعين مسنة ) . رواه أبو داود
30 : فيها : تبيع أو تبيعة .
40 : مسنة .
وهكذا : في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة .
60 : تبيعتان .
70 : تبيع ومسنة .
80 : مسنتان .
التبيع : ما له سنة واحدة ، وسمي بذلك لأنه يتبع أمه .
مسنة : وهي أنثى لها سنتان .
الغنم :
أجمع العلماء على أن أول نصاب الغنم أربعون .
40- 120 : شاة واحدة .
121- 200 : شاتان .
201 – 399 : ثلاث شياه .
400 – 499 : 4 شياه .
وهكذا في كل مائة شاة شاة .
لكن لا بد أن تكون سائمة وهي التي ترعى أكثر الحول . كما سبق .
من فوائد الحديث وجوب الزكاة في الحبوب والثمار .
وهو واجب بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض } .(3/96)
وقال تعالى { وآتوا حقه يوم حصاده } .
أن مقدار نصاب الحبوب والثمار [ 5 ] أوسق : 300 صاع لحديث الباب ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ، لكن يختلف كم يخرج :
العشر : فيما سقي بماء السماء والأنهار ونحوها فيما ليس فيه مؤونة كثيرة .
ونصف العشر : فيما سقي بالنواضح وغيرها مما فيه مؤونة كثيرة .
عن ابن عمر ـ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر ، وفيما سقي بالنضح نصف العشر ) رواه البخاري ، ولأبي داود : ( إذا كان بعلاً العشر ، وفيما سقي بالسواني أو النضح نصف العشر ) .
السماء : المراد به المطر .
العيون : الأنهار الجارية التي يستسقى منها .
أو كان عثرياً : قال الخطابي : ” هو الذي يسقي بعروقه من غير سقي “ .
أو كان بعلاً : البعل : الأشجار التي تشرب بعروقها من الأرض .
السواني : جمع سانية ، وهي الدابة من الإبل أو البقر أو الحمر ذاهبة وآيبة تخرج الماء من البئر .
في الحديث أن تقدير النصاب المخرج مرده إلى الشرع لا إلى العرف .
أن الغني في باب الزكاة هو من ملك نصاباً .
172 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : (( لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ )) .
وَفِي لَفْظٍ : (( إلاَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ )) .
----------------------------------------------------
معاني الكلمات :
عبده : الإضافة هنا للاختصاص والتمليك ، أي في عبده الذي ملكه مختصاً به .
فرسه : أي الفرس الذي اختصها لنفسه ، يركبها ويجاهد فيه ويسابق عليه .
صدقة : أي زكاة .
الفوائد :
الحديث يدل على أنه ليس على المسلم فيما يقتنيه من العبيد والخيل زكاة ، فالأموال المعدة للقنية أو الاستعمال لا زكاة فيها .(3/97)
قال النووي : ” هذا الحديث أصل في أن أموال القنية لا زكاة فيها ، وأنه لا زكاة في الخيل والرقيق إذا لم تكن للتجارة ، وبهذا قال العلماء كافة من السلف والخلف “ .
وقال الصنعاني : ” الحديث نص على أنه لا زكاة في العبيد ولا الخيل ، وهو إجماع فيما كان للخدمة والركوب “ .
وعليه :
فليس على المسلم صدقة في فراش البيت ، وأواني البيت ، وسيارة الركوب ، وما أشبه ذلك ، فكل ما اقتناه الإنسان لنفسه من أي شيء كان ، فليس فيه زكاة .
استدل بالحديث من قال بعدم وجوب الزكاة في الحلي المعد للاستعمال .
وقد اختلف في هذه المسألة : هل في الذهب المباح المستعمل زكاة أم لا على قولين :
القول الأول : أنه فيه الزكاة :
وبه قال عمر بن الخطاب ، وابن مسعود ، وعبد الله بن عمرو ، وعائشة ، وسعيد بن جبير ، وابن المسيب ، وجابر بن زيد وميمون بن مهران ، ومحمد بن سيرين ، ومجاهد ، والزهري ، وعطاء بن أبي رباح ، وعبد الله ابن شداد ، ومكحول ، وعلقمة ، والأسود ، وإبراهيم ، وابن المبارك ، وابن شبرمة ، والطحاوي ، وابن حزم ، وابن المنذر ، والصنعاني .
وهو مذهب أبي حنيفة .
ورجحه الشيخ ابن باز ، والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله تعالى .
ورجحه احتياطاً : الخطابي ، والسندي ، والشنقيطي ، والسبكي ، وأبو بكر الجزائري ، وصالح البليهي . أدلتهم :
لقوله تعالى : ? والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ?
والمراد بكنز الذهب والفضة : عدم إخراج ما يجب فيهما من زكاة وغيرها من الحقوق ، والآية عامة في جميع الذهب والفضة ، لم تخصص شيئاً دون شيء ، فمن ادعى خروج الحلي المباح المستعمل من هذا العموم فعليه الدليل .
ولما ثبت في حديث مسلم من قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي فيها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح ... ) . والحديث عام .(3/98)
ولحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ـ رضي الله عنهما ـ : ( أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعها ابنة لها ، وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب فقال لها : ألا تعطين زكاة هذا ؟ قالت : لا ، قال : أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار ؟ فألقتهما ) . رواه الثلاثة ، وإسناده قوي ، وصححه الحاكم من حديث عائشة
قال ابن حجر: ” إسناده قوي “ . وقال النووي : ” إسناده قوي “ . وقال ابن الملقن : ” إسناده صحيح “
وقال الشنقيطي : ” أقل درجاته الحسن “ . وقال الألباني : ” إسناده حسن “ .
ولحديث أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ ( أنها كانت تلبس أوضاحاً من ذهب ، فقالت : يا رسول الله ، أكنز هو ؟ قال : إذا أديتِ زكاته فليس بكنز ) . رواه أبو داود والدار قطني ، وصححه الحاكم
ولحديث عائشة قالت : ( دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي يدي فتختان من ورق فقال : ما هذا يا عائشة ؟ فقلت : فتختين أتزين لك يا رسول الله ، فقال : أتؤدين زكاتهن ؟ قلت : لا ، قال : هو حسبك من النار ) . رواه أبو داود والحاكم والبيهقي .
قال النووي : ” إسناده حسن “ . وصححه الألباني .
القول الثاني : أنه لا زكاة فيه .
وبه قال ابن عمر ، وجابر ، وأنس ، وأسماء ، وعمرة بنت عبد الرحمن ، والحسن البصري ، وطاووس ، والشعبي ، وابن المسيب .
وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد . أدلتهم :
- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة ) .
قال النووي : ” هذا الحديث أصل في أن أموال القنية لا زكاة فيها “ .
- حديث جابر - رضي الله عنه - في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ليس في الحلي زكاة ) . رواه البيهقي
وهذا مختلف فيه : فقد ذكر الشيخ البسام : ” أنه صححه : أبو زرعة ، والمنذري ، وابن دقيق العيد “ .
وضعفه : البيهقي وقال : ” باطل لا أصل له “ . وضعفه الألباني .(3/99)
- أنه كان للصحابة لنسائهم من الحلية ما هو معروف ولم يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالزكاة في ذلك .
أجاب هؤلاء عن أدلة القول الأول :
أن الآية والحديث ، هذه عمومات ، ولهذا العموم أدلة تخصص معناه وتقيد اطلاقه .
أما الأحاديث التي فيها الأمر بإخراج الزكاة ( كحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وغيره ) ففيها ضعف .
قال الترمذي : ” ليس يصح في هذا الباب شيء “ .
ورجح النسائي إرسال حديث عمرو بن شعيب .
قال ابن عبد البر : ” لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء في الذهب “ .
أجاب أصحاب القول الأول عن أدلة القول الثاني :
أن حديث ( ليس في الحلي زكاة ) ضعيف .
وعلى فرض صحته : فأنتم لا تقولون به ، حيث أنهم يوجبون الزكاة في الذهب إذا أعد للنفقة والأجرة .
والراجح القول الأول ، والله أعلم .
فائدة : الخلاف السابق في الحلي المباح ، أما المحرم فقد نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على وجوب الزكاة فيه .
قال ابن قدامة : ” فيها الزكاة بغير خلاف بين أهل العلم “ .
قال النووي : ” أما الحلي المحرم فتجب الزكاة فيه بالإجماع “ .
مثال : إذا اتخذت المرأة حلياً فيه صورة محرمة .
وإذا أعد للكراء أو النفقة ففيه الزكاة .
الكراء : أي الأجرة .
النفقة : مثل رجل عنده ذهب لنفقته ، كلما احتاج إلى النفقة باع منه ، ففيه الزكاة .
173 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : (( الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ . وَالْبِئْرُ جُبَارٌ . وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ . وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ )) .
------------------------------------------
معاني الكلمات :
العجماء : البهيمة ، وسميت بذلك لأنها لا تتكلم .
جبار : يعني هدر لا ضمان فيه .(3/100)
الركاز : ما وجد من دفن الجاهلية . ( حيث يكون عليه علامة الكفار ، مثل رجل وجد في الأرض مدفوناً حلياً عليها علامة الكفار كصلبان ، فهذا من مال الكفار لأن المسلمين ليس هذا شعارهم ، أو وجد دراهم لا تستعمل إلا في بلاد الكفار .
إن لم تكن عليه علامة الكفار فهو لقطة .
الفوائد :
يبين النبي - عليه السلام - الأشياء التي يحصل منها تلف خارج قدرة الإنسان وتسببه وإهماله ، وأنه ليس عليه من جراء إتلافها شيء .
وذلك كالبهيمة التي لم يفرط في إرسالها ولم يكن متصرفاً فتتلف زرعاً أو تضر أحداً بعضِ أو ضرب بيدها أو نفح برجلها .
وكذلك لو أمره بدون إكراه له أو تغرير به ، بنزول في بئر أو عمل فلا ضمان على الآمر ، لأنه لم يحصل منه تعد ولا تفريط .
أما لو أكرهه على ذلك ، أو كان يعلم أن هذه الأشياء ونحوها خطراً فغره ولم يعلم بذلك ، فإن عليه الضمان .
وقد اختلف العلماء رحمهم الله إذا أتلفت البهائم شيئاً من الزروع .
فأكثر العلماء على أن ما أفسدته البهائم ليلاً يضمنه أرباب الماشية بقيمته .
لحديث ( أن النبي قضى أن على أهل الحوائط حفظها في النهار وما أفسدته المواشي بالليل ضامن على أهلها ) . رواه أبو داود
أن في الركاز الخمس لقوله ( وفي الركاز الخمس ) . مباحث الركاز :
أولاً : فيه الخمس في قليله وكثيره فلا يشترط النصاب .
ثانياً : اتفقوا على أنه لا يشترط له الحول فيخرج الخمس مباشرة .
ثالثاً : اختلف العلماء في مصرف الركاز ؟
فقيل : مصرفه مصرف الزكاة .
وهذا مذهب الشافعي .
وقيل : مصرفه الفىء .
وهذا مذهب الجمهور .
وعلى هذا القول يصرف في مصالح المسلمين لبيت المال .
رابعاً : لا يشترط أن يكون مما تجب فيه الزكاة ، فلو وجد ركازاً من خزف أو من زجاج أو من حديد وجب فيه الخمس .
خامساً : لا يشترط أن يكون واجده من أهل الزكاة ، فيجب فيه الخمس ولو كان واجده كافراً أو عبداً [ لكن تجب على سيده ] .(3/101)
سادساً : الركاز ملك لواجده لأنه أحق به ، ولفعل عمر وعلي ، فإنهما دفعا باقي الركاز لواجده .
سابعاً : وقت إخراج زكاته من حين العثور عليه ، فلا ينتظر دوران الحول عليه .
ثامناً : لو أن رجلاً استأجر عمالاً ليحفروا بئراً في بيته ، فوجدوا ركازاً ؟ فلمن يكون ؟
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ” إذا كان صاحب الأرض استأجر هذا العامل لإخراج هذا الركاز فهو لصاحب البيت .
وإن كان استأجره للحفر فقط ، فوجده العامل فهو للعامل لقوله ( إنما الأعمال بالنيات ) “ .
174 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : (( بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عُمَرَ - رضي الله عنه - عَلَى الصَّدَقَةِ . فَقِيلَ : مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ , وَالْعَبَّاسُ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ , إلاَّ أَنْ كَانَ فَقِيراً : فَأَغْنَاهُ اللَّهُ ؟ وَأَمَّا خَالِدٌ : فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِداً . وَقَدْ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَأَمَّا الْعَبَّاسُ : فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا . ثُمَّ قَالَ : يَا عُمَرُ , أَمَا شَعَرْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ ؟ )) .
-------------------------------------------
معاني الكلمات :
على الصدقة : جاء في رواية : ( بعث رسول الله عمر ساعياً على الصدقة ) وهو مشعر بأنها صدقة الفرض ، لأن صدقة التطوع لا يبعث عليها السعاة .
منع : أبي دفع الزكاة .
ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراًَ فأغناه الله : ما ينقم إلا كونه فقيراً فأغناه الله ، ويسمى مثل هذا التعبير : تأكيد الذم بما يشبه المدح .
احتبس : حبس أي وضعها حبيسة لا يتصرف فيها .
أعتاده : جمع عتد وهو ما يعد للحرب من السلاح والدواب .
أما شعرت : أما علمت .(3/102)
صنو أبيه : شريكه في أصله كالنخلتين في أصل واحد .
الفوائد :
مشروعية بعث السعاة لقبض الزكاة من ذوي الأموال .
فضل عمر بن الخطاب حيث كان موضع الثقة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
جواز شكاية من امتنع من دفعها وإن كبر مقامه .
ذم من امتنع من دفع الزكاة .
في هذا الحديث أحوال ثلاثة من الصحابة :
الأول : ابن جميل .
فهذا منعها وقد ذمه رسول الله .
الثاني : خالد بن الوليد .
قال النبي : ( فإنكم تظلمون خالداً ، فقد احتبس أدرعه ... ) .
هذا الكلام يحتمل أحد أمرين :
أولاً : أنهم طلبوا من خالد زكاة اعتاده ظناً منهم أنها للتجارة ، وأن الزكاة فيها واجبة ، فقال لهم : لا زكاة فيها ، لأنه أوقفها وحبسها في سبيل الله قبل الحول عليه .
ثانياً : يحتمل أن يكون المراد لو وجبت عليه الزكاة لأعطاها ولم يشح بها ، لأنه وقف أمواله لله تعالى متبرعاً ، فكيف يشح بواجب عليه ؟
الثالث : عم النبي العباس ، قال النبي فيه : ” فهي عليّ ومثلها “ . اختلف العلماء في ذلك :
جاء في رواية ( فهي عليه ومثلها معها ) . فعلى هذه الرواية يكون النبي ألزمه بتضعيف صدقته ، فالمعنى : فهي صدقة ثابتة عليه سيصدق بها ويضيف إليها مثلها كرماً .
وجاء في رواية كما في رواية الباب ( فهي علي ومثلها ) قال الشيخ ابن عثيمين :” المعنى : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضمن زكاته لكن ضاعفها ، لأن الرجل من قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم - فضاعف عليه الغرم ، ونظير ذلك قول عمر حين ينهى الناس عن شيء يجمع أهله ويقول : إني نهيت الناس عن كذا وكذا فلا أرى أحداً منكم فعله إلا ضاعفت عليه العقوبة ، وذلك لأن قريب السلطان قد يتجرأ على المعصية لقربه من السلطان “ .
وقيل معنى ( فهي عليّ ) أي عندي قرض لأنني استسلفت منه صدقة عامين ، وقد ورد ذلك صريحاً فيما أخرجه الترمذي من حديث علي وفي إسناده مقال أن النبي قال ( إنا كنا احتجنا فتعجلنا من العباس صدقة ماله سنتين ) .(3/103)
وهذا لو ثبت لكان رافعاً للإشكال .
قبح من جحد نعمة الله عليه شرعاً وعقلاً .
حكم تعجيل الزكاة ؟
يجوز تعجيل الزكاة لحولين فقط ولا يجوز أكثر من ذلك عند أكثر العلماء .
لحديث علي ( أن العباس سأل النبي في تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له في ذلك ) . رواه أبوداود
( وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يجوز . لكنه قول ضعيف ) .
175 – عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ : (( لَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ يَوْمَ حُنَيْنٍ : قَسَمَ فِي النَّاسِ , وَفِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَلَمْ يُعْطِ الأَنْصَارَ شَيْئاً . فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ , إذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ . فَخَطَبَهُمْ , فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ , أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلاَّلاً فَهُدَاكُمْ اللَّهُ بِي ؟ وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمْ اللَّهُ بِي ؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ بِي ؟ . كُلَّمَا قَالَ شَيْئاً ، قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ . قَالَ : مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُجِيبُوا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ . قَالَ : لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ : جِئْتَنَا كَذَا وَكَذَا . أَلا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ , وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ إلَى رِحَالِكُمْ ؟ لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الأَنْصَارِ ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِياً أَوْ شِعْباً لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا . الأَنْصَارُ شِعَارٌ , وَالنَّاسُ دِثَارٌ . إنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً ، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ )) .
-------------------------------------------------
معاني الكلمات :
أفاء : أرجع أموال الكفار إلى المسلمين بالغنيمة .
يوم حنين : غزوة حنين وهو واد قريب من الطائف عام : 8 ه .(3/104)
الأنصار : المراد بهم المؤمنون من أهل المدينة من الأوس والخزرج .
شعار : الثوب الذي يلي الجسد .
أثرة : إستئثار بالأمور .
الحوض : حوض النبي .
الفوائد :
في هذا الحديث أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤلفة قلوبهم من الغنيمة التي غنموها في غزوة حنين ، تأليفاً قلوبهم ، وترغيباً في الإسلام والمؤلف ذكر هذا الحديث في كتاب الزكاة ، مع أنه ليس له تعلق في كتاب الزكاة ، لكن لعل المؤلف أراد أن يبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر حياته وبعدما أعز الله الإسلام أعطى المؤلفة قلوبهم من الغنيمة ، فيقاس على الغنيمة أن يعطوا من الزكاة .
وقد اختلف العلماء هل يعطى المؤلفة قلوبهم من الزكاة على قولين :
القول الأول : أن سهم المؤلفة قلوبهم قد سقط بعد وفاته عليه الصلاة والسلام .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
قالوا : لأن المعنى الذي لأجله كانوا يعطون قد زال بإعزاز الإسلام واستغنائه عن تأليف القلوب .
القول الثاني : أن حكمهم باق ولا يزال معمولاً به .
وهذا مذهب الأكثر .
لعموم الآية ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ...... والمؤلفة قلوبهم .... ) .
فإن الله سمى المؤلفة قلوبهم في الأصناف الذين سمى الصدقة لهم .
قال الزهري : ” لا أعلم شيئاً نسخ حكم المؤلفة قلوبهم “ .
وهذا القول الصحيح .
مشروعية الغنائم لهذه الأمة .
إعطاء المؤلفة قلوبهم من الغنيمة بحسب رأي الإمام واجتهاده .
جواز حرمان من وثق بدينه تبعاً للمصلحة العامة .
فضل الأنصار ، وقد وردت أحاديث كثيرة في فضلهم .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار ) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق ، فمن أحبهم أحبه الله ، ومن أبغضهم أبغضهم أبغضه الله ) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( لو سلكت الأنصار وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبهم ) .(3/105)
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار ) .
وعن أنس . قال ( جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعها صبي ، فقال رسول الله : والذي نفسي بيده ، إنكم أحب الناس إليّ ) .
وقال تعالى { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } .
أنه لا لوم على المرء في حزنه على ما حصل عليه .
حسن رعاية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه .
تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم - واعترافه بالجميل .
مشروعية تسلية المؤمن إذا فاته شيء من الدنيا بما عنده من الإيمان والعمل الصالح وثوابهما .
أن المهاجرين أفضل من الأنصار ، لأن المهاجرين جمعوا بين الهجرة والنصرة ، والله قدمهم في القرآن .
إثبات حوض النبي يوم القيامة .
أولاً : سعته ولون مائه :
قال - صلى الله عليه وسلم - ( حوضي مسيرة شهر ، ماؤه أبيض من اللبن ، وأحلى من العسل ، وريحه أطيب من المسك ، وكيزانه كنجوم السماء ، من شرب منها فلا يظمأ أبداً ) .
وفي رواية ( .... يغث فيه ميزابان يمدانه من الجنة أحدهما من ذهب والآخر من ورق ) .
يغث : يصب . ميزابان : نهران
ثانياً : أول من يرده .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( .... أول الناس وروداً عليه فقراء المهاجرين الشعث رؤوساً الدنس ثياباً ... ) .
ثالثاً : من يحرم من الشرب منه .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( إني فرطكم على الحوض ، ... ليردن عليّ أقوام يعرفوني ، ثم يحال بيني وبينهم ) .
وفي رواية ( ...فيقال : لا تدري ما أحدثوا بعدك ) .
وفي رواية ( ... إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى ) .
وجوب الصبر على المصائب .
بابُ صدقةِ الفِطرِ(3/106)
176- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : (( فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَدَقَةَ الْفِطْرِ - أَوْ قَالَ رَمَضَانَ - عَلَى الذَّكَرِ وَالأُنْثَى وَالْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ : صَاعاً مِنْ تَمْرٍ , أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ . قَالَ : فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ , عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ )) .
وَفِي لَفْظٍ : (( أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلَى الصَّلاةِ )) .
------------------------------------------
معاني الكلمات :
فرض : أوجب .
صدقة الفطر : أي زكاة الفطر ، سميت صدقة : لأنها تدل على صدق إيمان صاحبها ، وأضيفت إلى الفطر إضافة الشيء إلى وقته .
إلى الصلاة : أي صلاة العيد .
الفوائد :
وجوب زكاة الفطر .
قال ابن المنذر : ” أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن صدقة الفطر فرض ، وحديث الباب نص على فرضيتها . وقد فرضت في السنة : 2ه “ .
الحكمة من مشروعيتها :
طهرة للصائم – وإعانة للمحتاجين .
عن ابن عباس . قال : ( فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين ).رواه أبو داود
تجب على كل مسلم صغير وكبير وحر وعبد وذكر وأنثى . كل شخص بنفسه .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ” الصحيح أن كل إنسان يخرج عن نفسه ، فالزوجة لا يلزم زوجها فطرتها ، والولد لا يلزم أباه فطرته ، وأما إذا كان عرف البلد أن الأب يخرج عن جميع من يعوله فإنه جائز “ .
تجب على الإنسان زكاة الفطر إذا كان عنده فاضلاً عن قوته وقوت من تلزمه نفقته يوم العيد وليلته وفاضلاً عن أثاثه ومسكنه وحوائجه الأصلية .
الواجب في زكاة الفطر : صاع ( كيلوين وأربعين جراماً تقريباً ) .
الأجناس التي يخرج منها كما جاءت في الأحاديث :
التمر – والشعير – والزبيب – والأقط – والقمح .(3/107)
ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يجوز العدول عن هذه الأشياء المذكورة في الحديث .
قالوا : لأنها التي جاء النص فيها .
وذهب بعض العلماء إلى أنها تجزىء بأي شيء يعتبر من قوت البلد .
قالوا : إن ذكر الأصناف الماضية في الحديث ليست تعبدية ولا مقصودة لذاتها ، لكنها كانت هي قوتهم في ذلك الزمان .
وهذا القول هو الصحيح واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية .
أفضل وقت لإخراج زكاة الفطر يوم العيد قبل الصلاة لقوله ( أمر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة ) .
والوقت ينقسم إلى أقسام :
وقت أفضلية واستحباب :
وهو يوم العيد قبل الصلاة .
وقت جواز :
قبل العيد بيوم أو يومين .
لما روى البخاري قال ( كانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين ) .
وقت تحريم :
بعد صلاة العيد من غير عذر .
قال - صلى الله عليه وسلم - ( من أداها قبل الصلاة فهي صدقة مقبولة ، ومن أداها بعد الصلاة ، فهي صدقة من الصدقات ) رواه أبو داود .
اختلف العلماء هل يجوز إخراج القيمة أم لا على قولين :
القول الأول : لا يجوز .
وهذا مذهب جمهور العلماء .
لأن ذلك غير ما فرضه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
القول الثاني : أنه يجوز .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
لقوله ( أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم ) حديث ضعيف .
والصحيح الأول .
اختلف العلماء لمن تصرف زكاة الفطر على قولين :
القول الأول : إلى الأصناف الثمانية أهل الزكاة .
قالوا : لأنها صدقة فتدخل في قوله تعالى ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين .. ) .
القول الثاني : أن مصرفها الفقراء فقط .
واختار هذا ابن القيم وقال : وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - تخصيص المساكين بهذه الصدقة ، ولم يكن يقسمها على الأصناف الثمانية.
وهذا القول هو الصحيح .
والله أعلم
أخوكم / سليمان محمد اللهيميد(3/108)
بسم الله الرحمن الرحيم
إيقاظ الأفهام
في شرح
عمدة الأحكام
كتاب الصيام - كتاب الحج
بقلم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية / رفحاء
الموقع على الإنترنت
www.almotaqeen.net
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد
فهذا شرح لمتن عمدة الأحكام ، قمت بشرحه لبعض الطلاب في المسجد في مدينة رفحاء ، وذكرت فيه ما يتعلق بالحديث من فوائد فقهية وغيرها ، ومن كلام أهل العلم كالإمام النووي والحافظ ابن حجر وابن قدامة وغيرهم من العلماء .
وهذه المذكرة تتضمن كتاب الصيام وكتاب الحج .
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً وعملاً صالحاً .
أخوكم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
البريد الإلكتروني
Smr898@hotmail.com
كتاب الصيام
مقدمة
أولاً : تعريفه :
لغة : هو الإمساك .
شرعاً : الإمساك عن الأكل والشرب وغيرهما من المفطرات بنية من طلوع الفجر إلى غروب الشمس .
ثانياً : حكمه :
واجب بالكتاب والسنة والإجماع
- قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون َ } . (البقرة:183 )
كتب : فرض .
- وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( بني الإسلام على خمس . . . وذكر منها وصيام رمضان ) .
قال ابن قدامة : " أجمع المسلمون على وجوب صيام شهر رمضان " .
ثالثاً : متى فرض ؟
قال ابن القيم :
وكان فرضه في السنة الثانية من الهجرة ، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد صام تسع رمضانات .
وقد فرض على مراحل ثلاث :
صيام عاشوراء .
لحديث عائشة رضي الله عنها قالت ( كان رسول الله أمر بصيام عاشوراء ، فلما فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر ) رواه البخاري .
مرحلة التخيير بين الصيام والفدية .(4/1)
قال تعالى { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ }
فرض التعيين .
قال تعالى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } .(البقرة: من الآية185)
رابعاً : الحكمة من شرعيته :
تقوى الله .
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } . (البقرة:183) خامساً : شروط وجوب الصيام :
أن يكون مسلماً .
يخرج الكافر فلا يصح ، والدليل على تخصيصه بالمؤمنين .
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ . . . } .
والخطاب جاء للمؤمنين .
ولأن الكافر ليس أهلاً للعبادة .
بالغ عاقل .
لحديث علي - رضي الله عنه - قال : قال - صلى الله عليه وسلم - :(رفع القلم عن ثلاث : عن الصغير حتى يبلغ ، وعن المجنون حتى يفيق ...) .رواه أبو داود
ولأنهما ليسا أهلاً للتكليف .
قادر عليه .
لقوله تعالى : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا } .(البقرة: من الآية286)
فإن كان عاجزاً عن الصوم فإنه لا يجب عليه .
والعجز ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : عجز طارئ يرجى زواله .
فهذا يفطر ويقضي .
قال تعالى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } .(البقرة: من الآية184)
القسم الثاني : عجز دائم لا يرجى برؤه .
فهذا يفطر و يطعم .
لقول ابن عباس في قوله تعالى : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } ( ليست بمنسوخة هي للكبير الذي لا يستطيع الصوم ( .رواه البخاري
سادساً : اختلف لماذا سمي بهذا الاسم ؟
قيل : لأنه ترمض فيه الذنوب أي تحرق لأن الرمضاء شدة الحر .
وقيل : وافق ابتداء الصوم منه زمناً حاراً .(4/2)
178 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ , أَوْ يَوْمَيْنِ إلاَّ رَجُلاً كَانَ يَصُومُ صَوْماً فَلْيَصُمْهُ )) .
------------------------------------------------------
النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين .
واختلف في هذا النهي هل هو للتحريم أم للكراهة ؟
القول الأول : أنه للتحريم .
لأن الأصل في النهي التحريم .
القول الثاني : للكراهة .
لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - استثنى [ إلا رجل كان له صوم فليصمه ] .
والراجح الأول .
اختلف في علة النهي :
فقيل : التقوي بالفطر لرمضان .
قال الحافظ ابن حجر : ” وهذا فيه نظر ، لأن مقتضى الحديث أنه لو تقدمه بصيام ثلاثة أيام أو أربعة جاز “ .
وقيل : خشية اختلاط النفل بالفرض .
قال الحافظ ابن حجر : ” وفيه نظر أيضاً ، لأنه يجوز لمن له عادة كما في الحديث “ .
وقيل : لأن الحكم علق بالرؤية ، فمن تقدم بيوم أو يومين فقد حاول الطعن في ذلك الحكم .
قال ابن حجر : ” وهذا هو المعتمد “ .
يجوز صيام قبل رمضان بيوم أو يومين بأحوال :
الحالة الأولى : من كان له عادة فإنه يجوز .
مثال : إنسان متعود أن يصوم كل خميس ، فصام يوم الخميس ( 29 ) شعبان ، فإنه يجوز أن يصومه .
الحالة الثانية : إذا كان عليه قضاء من رمضان فأكملها قبل رمضان بيوم أو يومين فإنه لا بأس لأنه صوم واجب .
يفهم من الحديث جواز تقدم رمضان بثلاثة أيام أو أكثر .
استُدل بحديث الباب على جواز قول رمضان من غير ذكر الشهر .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : أنه يجوز من غير كراهة .
لحديث الباب ( إذا جاء رمضان فتحت . . . ) .
ولحديث ( من صام رمضان ) .
القول الثاني : أنه يكره .
واستدلوا بحديث ( لا تقولوا رمضان ، فإن رمضان اسم من أسماء الله ، ولكن قولوا شهر رمضان ) وهذا حديث ضعيف(4/3)
والصحيح هو القول الأول .
حديث الباب ينهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين ، فما الجواب عن حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل : هل صمت من سرر هذا الشهر شيئاً ؟ قال : لا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين مكانه ) رواه البخاري .
سرر الشهر : آخره .
قال العلماء : لا معارضة بين هذا الحديث وحديث الباب ، فإن حديث عمران محمول على أن هذا الرجل كان معتاداً الصيام آخر الشهر ، فتركه خوفاً من الدخول في النهي عن تقدم رمضان ولم يبلغه الاستثناء ، فبين له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الصوم المعتاد لا يدخل في النهي ، وأمره بقضائه لتستمر محافظته على ما وظف نفسه من العبادة ، لأن أحب العمل إلى الله أدومه .
179 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : (( إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا ، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ )) .
------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
إذا رأيتموه : أي الهلال
غمَّ عليكم : أي ستر عليكم بغيم أو غيره .
الفوائد :
وجوب صوم رمضان برؤية الهلال ، وصوم رمضان يجب بأمرين :
الأول : برؤية هلال رمضان .
الثاني : إكمال شعبان ( 30 ) يوماً .
اختلف العلماء في حكم صيام يوم الشك :
وهو يوم ليلة الثلاثين إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو غيره . ( فلا يعلم هل يكون اليوم الأول من رمضان أم اليوم الآخر من شعبان ) .
فقيل : يحرم صومه .
وهذا مذهب الجمهور .
- لحديث عمار - رضي الله عنه - قال ( من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم ) رواه أبو داود .
- ولحديث الباب ( . . . فإن غم عليكم فاقدروا له . . . ) جاء في رواية ( فأكملوا شعبان ثلاثين ) .
وقيل : يجب صومه .(4/4)
وهذا مذهب الحنابلة .
لقوله ( . . . فأقدروا له . . . ) أي ضيقوا ، ومنه : { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ } . أي ضيق عليه رزقه .
والراجح الأول .
قوله ( إذا رأيتموه ) نستفيد أن الرؤية هي المستند الشرعي في أحكام الصيام والإفطار ، وأنه لا عبرة بالحساب ولا يصح الاعتماد عليه بحال من الأحوال .
قال ابن تيمية : ” ولا ريب أنه ثبت بالسنة الصحيحة وآثار الصحابة أنه لا يجوز الاعتماد على حساب النجوم ، والمعتمد كما أنه هناك في الشريعة مبتدع في الدين ، فهو مخطئ في العقل “ .
أن الحكم بالصوم معلق برؤية ( الهلال ) فلا يصام إلا بالرؤية المجردة ولو بواسطة المراصد التي تكبر المرئيات فإنه يعتبر ذلك رؤية بالعين المجردة .
قوله ( إذا رأيتموه ) استدل به بعض العلماء على أن رؤية الهلال في بلد تكفي عن رؤيته في البلاد الأخرى .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال :
فقيل : إذا رآه أهل بلد لزم أهل البلاد الأخرى الصوم .
لقوله ( صوموا لرؤيته ) والخطاب للمسلمين .
وقيل : أن لكل بلد رؤيتهم .
وقيل : أن الحكم باختلاف المطالع وأنه لا يجب الصوم إلا على من وافقهم بالمطالع .
وقيل : أن الحكم يتبع لولي الأمر ( وهو المعمول به الآن )
قوله ( إذا رأيتموه ) ما الحكم لو رأى شخص الهلال وكان لوحده ؟
قيل : لا يصوم .
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الصوم يوم يصوم الناس ) .
وقيل : يصوم .
لقوله : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وهذا المذهب .
يكفي لدخول شهر رمضان شاهد واحد .
لحديث ابن عمر قال ( تراءى الناس الهلال ، فأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم - أني رأيته فصامه وأمر بصيامه ) رواه أبو داود .(4/5)
وعن ابن عباس ( أن أعرابياً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إني رأيت الهلال ، فقال : أتشهد أن لا إله إلا الله ، قال : نعم ، قال : أتشهد أن محمداً رسول الله ، قال : نعم ، فأذن في الناس يا بلال : أن يصوموا غداً ) رواه أبو داود .
الحديثان يدلان على أنه تقبل شهادة الواحد في دخول رمضان .
قال الترمذي : ” والعمل عليه عند أكثر أهل العلم “ .
لو رأى هلال شوال . ( هلال شوال لا بد من شاهدين ) .
فقيل : يجب أن يصوم .
لأن شوال لا يدخل إلا بشاهدين .
وقيل : بل يفطر .
لأنه رآه ( وإذا رأيتموه فأفطروا ) .
وهذا القول هو الصحيح ، لكنه يفطر سراً لئلا يجاهر بمخالفته الجماعة .
لا تقبل شهادة الواحد في دخول شوال عند عامة أهل العلم .
قال الترمذي : ” ولم يختلف أهل العلم في الإفطار إلا بشهادة رجلين ، وإنما أجزأ الواحد في الصوم احتياطاً للعبادة “ .
180 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (( تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً )) .
181 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنهما قَالَ : (( تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . ثُمَّ قَامَ إلَى الصَّلاةِ قَالَ أَنَسٌ : قُلْت لِزَيْدٍ : كَمْ كَانَ بَيْنَ الأَذَانِ وَالسَّحُورِ ؟ قَالَ : قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً )) .
------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
السَّحور : الأكل الذي يتسحر به الإنسان .
السُّحور : بالضم الفعل ، يعني تسحر الإنسان .
الفوائد :
الحديث يدل على استحباب السحور .
قال ابن المنذر : ” وأجمعوا على أن السحور مندوب إليه ولم يقال بوجوبه “ .
لمواصلة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأيضاً واصل بالصحابة .
قوله ( بركة ) ، بركة السحور تكون فيما يلي :
أولاً : امتثال أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - .(4/6)
وامتثال أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - كله بركة وخير ، قال تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } .(آل عمران: من الآية31)
ثانياً : أنه به التفريق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر ) رواه مسلم .
والتمييز بين المسلمين والكفار أمر مقصود في الشريعة .
ثالثاً : أن السحور يعطي الصائم قوة لا يمل معها الصيام .
رابعاً : أنه يكون سبباً للانتباه من النوم في وقت السحر الذي هو وقت الاستغفار والدعاء ونزول الرب .
خامساً : أنه يكون عوناً على طاعة الله .
فضيلة السحور :
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( . . . فلا تدعوه ولو أن يتجرع أحدكم جرعة من ماء ، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين ) .
استحباب تأخير السحور .
- ففي حديث سهل قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر ) متفق عليه .
- ولأحمد ( وأخروا السحور ) .
- ولحديث الباب ( قال أنس : قلت لزيد : كم كان بين الأذان والسحور ؟ قال : قدر خمسين آية ) .
فهذا الحديث يدل على أنه يستحب تأخير السحور إلى قبيل الفجر ، فقد كان بين فراغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه زيد من سحورهما ودخولهما في الصلاة قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية من القرآن ، قراءة متوسطة ، لا سريعة ولا بطيئة ، وهذا يدل على أن وقت الصلاة قريب من وقت الإمساك .
الأذان : أي الإقامة .
182 – عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنهما : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ )) .
-----------------------------------------------
معاني الكلمات :
جنب : الجنب من وجب عليه اغتسال بجماع أو احتلام .
الفوائد :(4/7)
هذا الحديث يدل على أن من أصبح جنباً فصومه صحيح ولا قضاء عليه من غير فرق بين أن تكون الجنابة عن جماع أو غيره .
وإليه ذهب الجمهور .
وقال النووي : ” أجمع أهل هذه الأمصار على صحة صوم الجنب سواء كان عن احتلام أو جماع ، وبه قال جماهير الصحابة والتابعين “ .
إن مثل الجنب الحائض والنفساء إذا طهرتا قبل الفجر ، ثم طلع الفجر قبل اغتسالهما ، فإنه يصح صومهما ويجب عليهما إتمامه سواء تركت الغسل عمداً أو سهواً ، بعذر أو بغير عذر كالجنب .
من طلع عليه الفجر وهو يجامع ، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : عليه كفارة وقضاء
وهذا المذهب .
قالوا : لأنه نزع ، والنزع عندهم جماع .
القول الثاني : لا قضاء عليه ولا كفارة وصومه صحيح .
وهذا مذهب الجمهور .
لأن النزع ليس بجماع ، والواجب عليه النزع فقط .
وهذا القول هو الصحيح .
جواز الجماع في ليالي رمضان وتأخير الغسل إلى ما بعد طلوع الفجر .
183 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : (( مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ . فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ , فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ . فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ )) .
------------------------------------------------------
جاء عند الحاكم ( من أفطر في رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة ) .
معاني الكلمات :
وهو صائم : جملة حالية .
نسي : النسيان ذهول القلب عن معلوم .
أطعمه الله وسقاه : جاء عند الترمذي ( فإنما هو رزق رزقه الله ) .
الفوائد :
يفيد الحديث أن من أكل أو شرب ناسياً وهو صائم لا يفسد صومه ولا يفطر به .
وهذا مذهب أكثر العلماء .
أن الأكل والشرب من المتعمد الذاكر يفطر الصائم .
قال ابن قدامة : ” الأكل والشرب وهذا لا خلاف أن من تعمده يفطر ويجب عليه الإمساك والقضاء “ .(4/8)
- لقوله تعالى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } .
- ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ) .
أنه لا فرق بين قليل الأكل وكثيره .
لما أخرجه أحمد عن أم إسحاق ( أنها كانت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتي بقصعة من ثريد فأكلت معه ، ثم تذكرت أنها كانت صائمة فقال لها ذو اليدين : الآن بعدما شبعتِ ، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : أتمِ صومكِ فإنما هو رزق ساقه الله إليك ) .
قال الحافظ ابن حجر : وفي هذا رد على من فرق بين قليل الأكل وكثيره .
اختلف العلماء هل يجب على من رأى من يأكل أو يشرب أن يذكره أم لا على قولين :
القول الأول : أنه يجب أن يذكره
واختار هذا القول الشيخ ابن باز رحمه الله
- لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من رأى منكم منكراً فليغيره . . . ) .
القول الثاني : أنه لا يجب
لأنك تعلم علم اليقين أنه أكل أو شرب ناسياً ولم يرتكب حينئذٍ منكراً وإنما أطعمه الله وسقاه .
والقول الأول هو الصحيح .
اختلف العلماء في المجامع ناسياً على قولين :
القول الأول : أنه عليه القضاء والكفارة .
واستدلوا بحديث المجامع في نهار رمضان حيث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل منه ، هل كان عن عمد أو نسيان وترك الاستفصال في الفعل ينزل منزلة العموم في القول .
القول الثاني : أنه لا يفسد صومه .
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية .
- لعموم قوله تعالى { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } .
- ولرواية ( من أفطر في رمضان ناسياً . . . ) .
وهذا القول هو الصحيح .
وأما الجواب عن حديث المجامع في نهار رمضان فإنه كان متعمداً ، فقد جاء في رواية ( هلكت ) ، وفي بعض ( احترقت ) .
أنه لا فرق بين صيام الفرض والنفل في هذا الحكم .
من المستظرفات :(4/9)
ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن عمرو بن دينار ( أن إنساناً جاء إلى أبي هريرة - رضي الله عنه - فقال : أصبحت صائماً فنسيت فطعمت ، قال : لا بأس ، قال : ثم دخلت على إنسان فنسيت وطعمت ، قال : لا بأس ، الله أطعمك وسقاك ، ثم قال : دخلت على آخر فنسيت فطعمت ، فقال أبو هريرة : أنت إنسان لم يتعود الصيام ) .
184 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : (( بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ . فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , هَلَكْتُ . قَالَ : مَا أَهْلَكَكَ ؟ قَالَ : وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي , وَأَنَا صَائِمٌ – وَفِي رِوَايَةٍ : أَصَبْتُ أَهْلِي فِي رَمَضَانَ – فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا ؟ قَالَ : لا . قَالَ : فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ؟ قَالَ : لا . قَالَ : فَهَلْ تَجِدُ إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِيناً ؟ قَالَ : لا . قَالَ : فَمَكَثَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ – وَالْعَرَقُ : الْمِكْتَلُ – قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ ؟ قَالَ : أَنَا . قَالَ : خُذْ هَذَا , فَتَصَدَّقَ بِهِ . فَقَالَ الرَّجُلُ : عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَوَاَللَّهِ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا - يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ - أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي . فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ . ثُمَّ قَالَ : أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
( جاء رجل ) : قيل : هو سلمة بن صخر . قال الحافظ : ” ولا يصح ذلك “ .
( هلكت ) : وفي حديث عائشة : ( احترقت ) .(4/10)
( وقعت على امرأتي ) : وفي حديث عائشة : ( وطئت امرأتي ) .
( تعتق رقبة ) : العتق : الخلوص ، وهو تخليص الرقبة من الرق ، وقوله ( رقبة ) المراد بها النفس كاملة .
( بعرق ) : بفتح العين والراء هو الزبيل .
الفوائد :
أن من جامع في الفرج فأنزل أو لم ينزل أو دون الفرج فأنزل أنه يفسد صومه إذا كان عامداً .
قال ابن قدامة : ” لا نعلم بين أهل العلم خلافاً “ .
أن الوطء للصائم في نهار رمضان من الفواحش الكبار المهلكات ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقره على أن فعله هذا مهلك .
أن الوطء عمداً يوجب الكفارة المغلظة ، وهي على الترتيب :
عتق رقبة مؤمنة ، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً .
وهذا مذهب جمهور العلماء على أنها على الترتيب لا على التخيير .
تجب الكفارة إذا جامع في نهار رمضان فقط .
فلو أن رجلاً جامع زوجته وهو يصوم رمضان قضاءً ، فلا كفارة عليه ، وذلك لأن وجوب الكفارة من أجل انتهاك الصوم في زمن محترم ، وهو شهر رمضان .
قال ابن قدامة : ” ولا تجب الكفارة في قول أهل العلم وجمهور الفقهاء “ .
هو حرام الجماع في قضاء رمضان لكن لا يوجب الكفارة .
لو جامع زوجته في نهار رمضان والصوم غير واجب عليه ، فليس عليه كفارة .
مثل : أن يكون هو وزوجته مسافرين وصائمين في السفر ، ثم جامعها في نهار رمضان ، فليس عليه كفارة ، لأنه يباح له الفطر .
الجماع الموجب للكفارة هو إيلاج الذكر في الفرج قبلاً كان أو دبراً ، فأما الإنزال بالمباشرة دون الفرج فإنه يفطر الصائم ويلحقه الإثم ، ولكنه لا يوجب الكفارة .
اختلف العلماء هل ( المرأة ) عليها كفارة أم لا ؟
قيل : ليس عليها كفارة .
وهو قول الشافعية ، واستدلوا :(4/11)
قال ابن حجر : ” واستدلوا بإفراده بذلك على أن الكفارة عليه وحده دون الموطوءة ، وكذا قوله في المراجعة ( هل تستطيع ) و ( هل تجد ) وغير ذلك . . . ، واستدل الشافعية بسكوته - صلى الله عليه وسلم - عن إعلام المرأة بوجوب الكفارة مع الحاجة “.
وقيل : عليها الكفارة .
وهو مذهب الجمهور .
لأن الأصل تساوي الرجال والنساء في الأحكام إلا ما خص بدليل .
قال ابن حجر : ” ثم إن بيان الحكم للرجل بيان في حقها لاشتراكهما في تحريم الفطر وانتهاك حرمة الصوم كما لم يأمره بالغسل ، والتنصيص على الحكم في حق بعض المكلفين كاف عن ذكره في حق الباقين “ .
وهذا القول هو الصحيح أن على المرأة الكفارة إلا إذا كانت مكرهة فلا شيء عليها .
اختلف العلماء في المجامع ناسياً : [ وقد سبقت المسألة في الحديث الماضي ] .وقد استدل من أوجبها على الناسي :
( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك استفساره عن جماعه ، هل كان عن عمد أو نسيان ، وترك الاستفصال في الفعل ينزله منزلة العموم في القول ) .
والجواب عن هذا :
أنه تبين حاله أنه كان متعمداً ، لأنه قال ( هلكت ، واحترقت ) فدل على أنه كان عامداً عارفاً بالتحريم .
فالراجح كما سبق أن المجامع ناسياً لا شيء عليه .
اختلف العلماء : هل تسقط الكفارة بالعجز والإعسار أم لا ؟ على قولين :
فقيل : تسقط بالعجز .
- لعموم قوله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } وقوله : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } .
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال له : ( أطعمه أهلك ) لم يقل : وإذا اغتنيت فكفر ، وهذا يدل على سقوطها .
- وأيضاً لم يبين النبي - صلى الله عليه وسلم - استقرارها في ذمته إلى حين يساره .
وقيل : لا تسقط بالعجز .
وهو مذهب الجمهور . قالوا :
- ليس في الخبر ما يدل على سقوطها عن المعسر ، بل فيه ما يدل على استقرارها عليه .
- والذي أذن له في التصرف فيه ليس على سبيل الكفارة .
والراجح القول الأول .(4/12)
استدل بالحديث على سقط قضاء اليوم الذي أفسده المجامع اكتفاء بالكفارة .
إذ لم يقع التصريح في الصحيحين بقضائه .
وهذا مذهب ابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية ، وهذا من باب الزجر والتخويف .
وذهب الجمهور إلى وجوب قضاء هذا اليوم .
وقد جاء عند أبي داود : ( صم يوماً ) وهذه الزيادة مختلف في صحتها .
وممن أثبتها الحافظ ابن حجر ، وبين أن لها أصلاً كما في الفتح .
إن كرر الجماع :
- إن كرر الجماع في يوم واحد ، ولم يكفر ، فكفارة واحدة ، لأن الفعل واحد واليوم واحد .
- إن جامع في يوم واحد مرتين ، فإن كفر عن الجماع الأول ثم جامع ثانية :
فقيل : يلزمه كفارة ثانية .
وذهب الجمهور : إلى أنه لا يلزمه إلا كفارة واحدة .
لأن الوطء في الثانية لم يصادفه صائماً ، لأن صومه فسد في الجماع الأول .
- إذا جامع في يومين ، بأن جامع في : 1 رمضان وفي : 2 رمضان ، فهل يلزمه كفارتان ؟
فقيل : يلزمه كفارتان .
لأن كل يوم عبادة مستقلة .
وقيل : لا يلزمه إلا كفارة واحدة إذا لم يكفر عن الأول .
لأنها كفارات من جنس واحد ، فاكتفي فيها بكفارة واحدة ، كما لو أحدث بأحداث متنوعة ، فإنه يجزئه وضوء واحد .
والراجح القول الأول .
أن الرجل إذا أفطر بالجماع وجبت عليه الكفارة ، وإن لم يعلم أنها واجبة عليه .
فهذا الرجل لم يدر ما ذا يجب عليه ، لكن يدري أن الجماع حرام ، وعلمنا ذلك من قوله (هلكت) .
ويقاس على ذلك ما لو زنى رجل وهو يعلم أن الزنى حرام ، ولكنه يجهل الحد الواجب فيه ، لأن العلم بالعقوبة ليس بشرط.
أن الإنسان مؤتمن على عبادته البدنية والمالية ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقره على عجزه عن الكفارة بأنواعها .
فضيلة العتق ، لأنه بدأ به أولاً ، ولأنه كفارة عن الذنب العظيم .
اشتراط التتابع في صيام الشهرين ، لقوله : ( متتابعين ) .
أنه لا بد من إطعام ستين مسكيناً لا طعام ستين مسكيناً .(4/13)
يجوز للإنسان أن يخبر بما لا يحيط به علماً إذا غلب على ظنه ذلك ، فقوله : ( ما بين لابتيها أهل بيت ... ) هو إخبار على حسب ظنه ، وإلا فاليقين لا يوصل إليه إلا بالبحث عن أهل المدينة بيتاً بيتاً .
جواز ذكر الإنسان حاله من غنىً أو فقر أو مرض أو حاجة ، لا على وجه الشكاية إلى الخلق .
الرفق بالمتعلم والتلطف في التعليم ، والتألف على الدين والندم على المعصية واستشعار الخوف .
جواز الضحك عند وجود سببه .
التعاون على العبادة ، والسعي في إخلاص المسلم .
فائدة : قوله : ( فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ) .
قيل : إن سبب ضحكه - صلى الله عليه وسلم - كان من تباين حال الرجل ، حيث جاء خائفاً على نفسه ، راغباً في فدائها مهما أمكنه ، فلما وجد الرخصة طمع في أن يأكل ما أعطيه من الكفارة .
وقيل : ضحك من حال الرجل في مقاطع كلامه ، وحسن تأتيه وتلطفه في الخطاب ، وحسن توسله في توصله إلى مقصوده. [ الفتح : 4/202 ]
بابُ الصومِ في السَّفرِ وغيرهِ
185 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها : (( أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأَسْلَمِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ ؟ - وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ - فَقَالَ : إنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ )) .
186 – عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ : (( كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ . وَلا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ )) .(4/14)
187 - عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - قَالَ : (( خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي شَهْرِ رَمَضَانَ . فِي حَرٍّ شَدِيدٍ , حَتَّى إنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ . وَمَا فِينَا صَائِمٌ إلاَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ )) .
188 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ : (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ . فَرَأَى زِحَاماً وَرَجُلاً قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ , فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : صَائِمٌ . قَالَ : لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ )) .
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ : (( عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ )) .
189- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ : (( كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي السَّفَرِ فَمِنَّا الصَّائِمُ , وَمِنَّا الْمُفْطِرُ قَالَ : فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً فِي يَوْمٍ حَارٍّ , وَأَكْثَرُنَا ظِلاً : صَاحِبُ الْكِسَاءِ . وَمِنَّا مَنْ يَتَّقِي الشَّمْسَ بِيَدِهِ . قَالَ : فَسَقَطَ الصُّوَّامُ , وَقَامَ الْمُفْطِرُونَ فَضَرَبُوا الأَبْنِيَةَ . وَسَقَوْا الرِّكَابَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالأَجْرِ )) .
------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
فلم يعب : أي لا يجد الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم .
الفوائد :
حديث عائشة أن حمزة بن عمرو . . . يدل على جواز الصوم في السفر .(4/15)
وجاء عند أبي داود أنه قال ( يا رسول الله ، إني صاحب ظهر أعالجه أسافر عليه وأكريه ، وأنه ربما صادفني هذا الشهر – يعني رمضان – بأن أجد القوة ، وأجدني أهون علي من أن أخره فيكون ديناً علي ، فقال : أي ذلك شئت يا حمزة ).
جواز الفطر للمسافر في رمضان ، وهو جائز بالكتاب والسنة والإجماع
قال تعالى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } .مريضاً أو على سفرٍ فعدة من أيام أخر .
ومن السنة أحاديث كثيرة :
- حديث جابر ( ليس من البر الصيام في السفر ) .
- ولحديث أنس ( كنا نسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يعب الصائم على المفطر ، ولا المفطر على الصائم ) .
ويجوز أيضاً للمسافر أن يصوم ويجزئه ذلك .
وهذا مذهب أكثر العلماء .
- لحديث حمزة ( إن شئت فصم وإن شئت فأفطر ) .
- ولحديث أبي الدرداء ( وما فينا صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعبد الله بن رواحة ) .
- ولحديث أنس ( ... فلم يعب الصائم على المفطر ، ولا المفطر على الصائم ) .
لكن اختلف العلماء أيهما أفضل في السفر الصوم أم الفطر إذا لم يكن هناك مشقة ؟على قولين :
القول الأول : الفطر أفضل .
وهو قول أحمد .
- لحديث ( إن الله يحب أن تؤتى رخصه ) .رواه ابن خزيمة
- ولحديث ( ليس من البر الصيام في السفر ) .
القول الثاني : الصوم أفضل لمن قوي عليه من غير مشقة .
وهذا مذهب الجمهور كما قاله ابن حجر
- لحديث أبي الدرداء ( وما فينا صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعبد الله بن رواحة ) .
- فهو فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
- وأسرع في إبراء الذمة .
- وأسهل على المكلف .
- يدرك الزمن الفاضل وهو رمضان .
وهذا القول هو الصحيح ، لكن إن كان هناك مشقة محتملة فالأفضل الفطر . [ يكره صومه ]
- لحديث ( ليس من البر الصيام في السفر ) .
وإن كان هناك مشقة غير محتملة فهنا يجب الفطر . [ يحرم صومه ](4/16)
لقوله تعالى { ولا تقتلوا أنفسكم }
إذاً حالات صوم المسافر ( 3 ) وهي كما يلي :
الحالة الأولى : إذا كان يشق عليه مشقة محتملة فالأفضل الفطر . [ يكره صومه ]
الحالة الثانية : إذا كان يشق عليه مشقة غير محتملة فهذا يجب عليه الفطر [ يحرم صومه ] .
الحالة الثالثة : إذا لم يكن عليه مشقة فالأفضل الصوم كما سبق .
أن من قوي الصوم وهو مسافر ثم أراد أن يفطر في نهاره فإن له ذلك ، وهو مذهب الجماهير
حديث جابر - رضي الله عنه - ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان ، فصام حتى بلغ كراع الغميم فقام بالناس ، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه فشرب ... ) .
اختلف العلماء لو نوى الصوم وهو مقيم ثم سافر في أثناء النهار فهل له الفطر في ذلك النهار أم لا ؟ على قولان :
قيل : ليس له ذلك . وقيل : له ذلك ، وهذا هو الصحيح .
لحديث جابر السابق .
أن المسافر لا يجوز له الفطر حتى يخلف البيوت وراء ظهره ، فلا يجوز له الفطر قبل خروجه لأنه مقيم .
قول – مقولة العوام - أن المفطر في السفر له أجرين ليس بصحيح .
المسافر إذا قدم بلده مفطراً هل يلزمه الإمساك أم لا ؟
قيل : يلزمه الإمساك . وقيل : لا يلزمه
وهذا هو الصحيح .
إذا قدم المسافر في أثناء النهار وهو صائم فإنه لا يجوز له الفطر
لأن سبب الرخصة قد زال .
190 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (( كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ , فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إلاَّ فِي شَعْبَانَ )) .
------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
الصوم من رمضان : أي يكون عليها قضاء من رمضان .
الفوائد :
قضاء رمضان واجب .
قال تعالى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } .
وقالت عائشة ( كنا نؤمر بقضاء الصوم . . . ) .
أن قضاء رمضان ليس على الفور بل هو على التراخي(4/17)
- لحديث الباب .
قال الحافظ ابن حجر : ” وفي الحديث دلالة على جواز تأخير قضاء رمضان مطلقاً سواء كان لعذر أو لغير عذر
لكن لا يجوز تأخيره عن شعبان “ .
الأفضل أن يبادر في قضاء رمضان متتابعاً .
- لأن هذا أقرب إلى مشابهة الأداء .
- ولأنه أحوط ، فإن الإنسان لا يدري ما يحدث له .
- ولأنه أسرع في إبراء الذمة .
إن أخر قضاء رمضان إلى ما بعد رمضان الثاني فله أحوال :
الحالة الأولى : أن يؤخره بعذر
كأن يستمر مرضه أو سفره .
فهنا يجب عليه القضاء فقط ( فلا إثم ولا كفارة ) .
الحالة الثانية : أن يؤخره بغير عذر . فعليه :
الإثم :
لأنه إذا أخره إلى ما بعد رمضان صار كمن أخر فريضة إلى وقت الثانية من غير عذر ، ومعلوم أنه لا يجوز تأخير صلاة الفريضة إلى وقت الثانية إلا لعذر .
القضاء .
الكفارة
اختلف أهل العلم هل عليه كفارة أم لا ؟
فقيل : عليه كفارة .وهذا مذهب بعض الصحابة كابن عباس وغيره .
وقيل : لا كفارة عليه . لأن الله قال { . . . فعدة من أيام أخر } فلم يوجب إلا الصيام
- ولم يرد دليل على ايجاب الكفارة .
والأول أحوط .
191 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : (( مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ )) . وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ " هَذَا فِي النَّذْرِ , وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ " .
192 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : (( جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ . أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا ؟ فَقَالَ : لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى )) .(4/18)
وَفِي رِوَايَةٍ : (( جَاءَتِ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ . أَفَأَصُومُ عَنْهَا ؟ فَقَالَ : أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ , أَكَانَ ذَلِكَ يُؤَدِّي عَنْهَا ؟ فَقَالَتْ : نَعَمْ . قَالَ : فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ )) .
------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
( صام عنه وليه ) خبر بمعنى الأمر تقديره : فليصم عنه وليه .
الفوائد :
مشروعية الصيام عن الميت من قبل وليه .
ويكون عليه صيام إذا تمكن منه فلم يفعل ، أما إذا لم يتمكن فليس عليه صيام .
مثال : إنسان نذر أن يصوم [ 3 ] أيام ، ثم مات من يومه ، فهذا ليس عليه شيء لأنه لم يتمكن منه .
وهذا الأمر بالحديث بالصيام ليس للوجوب عند جمهور العلماء .
وذهب بعض أهل الظاهر لوجوبه .
الدليل على أنه غير واجب قوله تعالى : { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } . (الأنعام: من الآية164)
اختلف العلماء في الصوم الذي يقضى عن الميت :
فقيل : أنه يقضى عنه النذر فقط .
وهو قول أحمد وإسحاق .
حملاً للعموم الذي في حديث عائشة على المقيد في حديث ابن عباس .
وقيل : يصام عن الميت النذر والواجب بأصل الشرع .
وهذا مذهب أبي ثور ، وأهل الحديث ، ونصره ابن حزم ، واختاره الشيخ السعدي .
لحديث الباب .
وقيل : لا يصام عن الميت مطلقاً .
وهذا مذهب الجمهور .
لقول ابن عباس : ( لا يصلِّ أحد عن أحد ، ولا يصم أحد عن أحد ) . أخرجه النسائي
ولقول عائشة : ( لا تصوموا عن موتاكم ، وأطعموا عنهم ) . أخرجه عبد الرزاق . قالوا :
فلما أفتى ابن عباس وعائشة بخلاف ما روياه ، دلّ ذلك على أن العمل على خلاف ما روياه .(4/19)
قال ابن حجر : ” وهذه قاعدة لهم معروفة ، إلا أن الآثار المذكورة عن عائشة وعن ابن عباس فيها مقال ، وليس فيها ما يمنع الصيام إلا الأثر الذي عن عائشة وهو ضعيف جداً ، والراجح أن المعتبر ما رواه لا ما رآه “ .
والراجح القول الثاني ، وأنه يصام عنه الواجب بأصل الشرع والنذر .
اختلف في المراد بالولي :
فقيل : كل قريب ، وقيل : الوارث خاصة ، وقيل : عصبه .
والأول أرجح .
قال النووي : ” ولا فرق بين أن يقضيه عنه وارث أو غيره ، فيبرأ به بلا خلاف “ .
أنه لا يشترط في القضاء التتابع ، فيجوز متتابعاً ويجوز متفرقاً .
يجوز إذا كان للميت عدد من الأولياء أن يتقاسموا أيام الصيام التي على مورثهم ، ويصوم كل واحد منهم قسماً منها سواء كانوا رجالاً أو نساءً أو من الصنفين .
هذا ما لم يشترط فيه التتابع كالكفارة ، فإنه لا يجوز أن يصوموا جميعاً .
193 – عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : (( لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ )) .
194 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : (( إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَهُنَا ، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَهُنَا : فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ )) .
------------------------------------------------------
الحديث يدل على أدب من آداب الإفطار ، وهو تعجيله والمبادرة به حين حلول وقته .
معاني الكلمات :
ومعنى التعجيل : أنه بمجرد غياب قرص الشمس من الأفق يفطر .
الفوائد :
أن في تعجيل الفطر ثمرات عظيمة :
أولاً : في تعجيل الإفطار اتباع هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد كان يعجل الإفطار .(4/20)
عن عبد الله بن أبي أوفى قال : ( كنا مع رسول الله في سفر وهو صائم ، فلما غابت الشمس قال لبعض القوم : يا فلان ، قم فاجدح لنا [ أي اخلط السويق بالماء ] فقال : يا رسول الله ، لو أمسيت ، قال : انزل فاجدح لنا ، قال : إن عليك نهاراً قال : انزل فاجدح لنا ، فنزل فجدح لهم ، فشرب النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال :إذا رأيتم الليل قد أقبل من ههنا أفطر الصائم ).متفق عليه
ثانياً : تعجيل الفطر من أخلاق الأنبياء .
قال أبو الدرداء : ( ثلاث من أخلاق الأنبياء : تعجيل الإفطار ، وتأخير السحور ، ووضع اليمين على الشمال في الصلاة ) رواه الطبراني
ثالثاً : أن في تعجيل الفطور يعني علامة أن الناس بخير .
لحديث الباب .
رابعاً : في تعجيل الفطور مخالفة لليهود والنصارى .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر ، لأن اليهود والنصارى يؤخرون ) . رواه أبو داود
خامساً : في تعجيل الفطور تيسير على الناس ، وبعد عن التنطع ، وقد امتثل هذا الأدب الصحابة .
قال البخاري : ” أفطر أبو سعيد حين غاب قرص الشمس “ .
وقال عمرو بن ميمون : ( كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أسرع الناس إفطاراً ، وأبطأهم سحوراً ) . رواه عبد الرزاق
يفطر الصائم أول ما تغرب الشمس .
عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا أقبل الليل من ههنا ، وأدبر النهار من ههنا ، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم ) .
قوله ( فقد أفطر الصائم ) :
قال ابن حجر : ” أي دخل في وقت الفطر “ .
ويحتمل أن يكون معناه : فقد صار مفطراً في الحكم لكون الليل ليس ظرفاً للصيام الشرعي ، وقد رد ابن خزيمة هذا الاحتمال ، وأومأ إلى ترجيح الأول .
قال ابن حجر : ” ولا شك أن الأول أرجح “ .
أن تعجيل الفطور فيه مخالفة لليهود والنصارى ، لأنهم يؤخرون الإفطار كما سبق .(4/21)
قال ابن حجر : ” وتأخير أهل الكتاب له أمد ، وهو ظهور النجم ، وقد روى ابن حبان والحاكم من حديث سهل أيضاً بلفظ : ( لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم ) وفيه بيان العلة في ذلك “ .
195 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : (( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْوِصَالِ . قَالُوا : إنَّكَ تُوَاصِلُ . قَالَ : إنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ , إنِّي أُطْعَمَ وَأُسْقَى )) . وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ .
196 - وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - : (( فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ إلَى السَّحَرِ )) .
------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
الوصال هو : صوم يومين فصاعداً من غير أكل وشرب بينهما . [ قاله النووي ]
الفوائد :
اختلف العلماء في حكم الوصال على أقوال :
القول الأول : أنه محرم .
وهو مذهب الجمهور .
قال ابن حجر : ” وذهب الأكثرون إلى تحريم الوصال “ .
لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه كما جاء في حديث الباب ( نهى عن الوصال ) .
وفي رواية : ( لا تواصلوا . . . ) .
ولابن خزيمة : ( إياكم والوصال ) .
ومن الأدلة قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا أقبل الليل من ههنا ، وأدبر النهار من ههنا ، فقد أفطر الصائم ) .
قال الحافظ ابن حجر : ” إذ لم يجعل الليل محلاً لسوى الفطر ، فالصوم فيه مخالفة لوضعه كيوم الفطر “ .
القول الثاني : أنه جائز .
قال الحافظ ابن حجر : ” وقد ذهب إلى جوازه مع عدم المشقة ، عبد الله بن الزبير ، وروى ابن أبى شيبة بإسناد صحيح عنه أنه كان يواصل خمسة عشر يوماً “ .
الأدلة :
مواصلة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه ولو كان حراماً ما أقرهم على فعله .(4/22)
إقدام الصحابة على الوصال بعد النهي ، فدل هذا على أنهم فهموا أن النهي للتنزيه لا للتحريم وإلا لما أقدموا عليه .
ومن الأدلة حديث عائشة قالت : ( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال رحمة لهم ) .
قال ابن حجر : ” ويدل على أنه ليس بمحرم ما أخرجه أبو داود وغيره من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من الصحابة قال : نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحجامة والمواصلة ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه . وإسناده صحيح ، فإن الصحابي قد صرح بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحرم الوصال “ .
القول الثالث : أنه جائز إلى السحر .
وهذا قول أحمد ، وإسحاق ، وابن المنذر ، وابن خزيمة .
لحديث أبي سعيد عند البخاري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تواصلوا ، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر ) .
ورجح هذا القول ابن القيم ، وقال : ” وهذا القول أعدل الأقوال ، أن الوصال يجوز من سحر إلى سحر ، وهو أعدل الوصال وأسهله على الصائم “ .
اختلف العلماء في معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( يطعمني ربي ويسقيني ) :
فقيل : هو على حقيقته .
وضعفه النووي فقال : ” لو كان حقيقة لم يكن مواصلاً “ .
وضعفه ابن القيم فقال : ” إنه غلط من قال : إنه كان يأكل ويشرب طعاماً وشراباً يتغذى به بدنه لوجوه :
أحدهما : أنه قال ( أظل عند ربي يطعمني ويسقيني ) ولو كان أكلاً وشراباً لم يكن وصالاً ولا صوماً .
الثاني : أنه لو كان أكلاً وشراباً يفطر الصائم لم يصح الجواب بالفارق بينهم وبينه ، فإنه حينئذٍ - صلى الله عليه وسلم - هو وهم مشتركون في عدم الوصال ، فكيف يصح الجواب بقوله : لست كهيئتكم .
وقيل : يجعل الله فيه قوة الطاعم الشارب .
ونسبه ابن حجر للجمهور .(4/23)
وقيل : أن المراد ما يغذيه الله به من معارفه ، وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته ، وقرة عينه بقربه ، وتنعمه بحبه ، وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ونعيم الأرواح .
ورجح هذا القول ابن القيم وقال : ” وقد يقوى هذا الغذاء حتى يغني عن غذاء الأجسام مدة من الزمان ، ومن له أدنى تجربة وشوق ، يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الحيواني ، ولا سيما المسرور الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قد قرت عينه بمحبوبه ، وتنعم بقربه ، والرضى عنه “ .
أن الوصال من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - .
أن ما ثبت في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو ثابت في حق أمته إلا ما خصه الدليل ، ووجه ذلك من الحديث قول الصحابة ( فإنك تواصل ) لما نهاهم عن الوصال .
فيه الاستكشاف عن حكمة النهي .
وفيه أن الصحابة كانوا يرجعون إلى فعله المعلوم صفته ، ويبادرون إلى الإنشاء به إلا فيما نهاهم عنه .
بَابُ أَفْضَلِ الصِّيَامِ وَغَيْرِهِ(4/24)
197 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ : (( أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنِّي أَقُولُ : وَاَللَّهِ لأَصُومَنَّ النَّهَارَ , وَلأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَنْتَ الَّذِي قُلْتَ ذَلِكَ ؟ فَقُلْتُ لَهُ : قَدْ قُلْتُهُ , بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَقَالَ : فَإِنَّكَ لا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ . فَصُمْ وَأَفْطِرْ , وَقُمْ وَنَمْ . وَصُمْ مِنْ الشَّهْرِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا . وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ . قُلْتُ : فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ : فَصُمْ يَوْماً وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ . قُلْتُ : أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ : فَصُمْ يَوْماً وَأَفْطِرْ يَوْماً . فَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ دَاوُد . وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ . فَقُلْتُ : إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ : لا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ )) .
وَفِي رِوَايَةٍ : (( لا صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ أَخِي دَاوُد – شَطْرَ الدَّهْرِ – صُمْ يَوْماً وَأَفْطِرْ يَوْماً )) .
198 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضيَ اللهُ عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : (( إنَّ أَحَبَّ الصِّيَامِ إلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُد . وَأَحَبَّ الصَّلاةِ إلَى اللَّهِ صَلاةُ دَاوُد . كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ , وَيَقُومُ ثُلُثَهُ . وَيَنَامُ سُدُسَهُ . وَكَانَ يَصُومُ يَوْماً وَيُفْطِرُ يَوْماً )) .
------------------------------------------------------
- جاء للحديث روايات :
- جاء في رواية ( قال لي رسول الله : يا عبد الله : ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل ؟ فقلت : بلى يا رسول الله ، ولم أرد بذلك إلا الخير ) .(4/25)
- وفي رواية ( فقلت : نعم ، قال : إنك إذا فعلت ذلك هجمتْ العين ونفِهَتْ له النفس ، ولا صام من صام الدهر ) .
- وجاء في رواية ( فلا تفعل ، فصم وأفطر ، وقم ونم ، فإن لجسدك عليك حقاً ، وإن لعينك عليك حقاً ، وإن لزوجك عليك حقاً ، وإن لزورك عليك حقا ) . لزورك : أي ضيفك .
وجاء في رواية ( . . . فصم صيام داود ، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ولا يفر إذا لاقى ) .
- وعند النسائي ( وإذا وعد لم يخلف ) .
- وجاء في رواية ( فكان عبد الله يقول بعدما كبر : يا ليتني قبلت رخصة النبي - صلى الله عليه وسلم - ) .
- وجاء في رواية ( لأن قبلت الثلاثة أيام التي قال رسول الله أحبَّ إليّ من أهلي ومالي ) .
- وجاء في رواية ( لا صام من صام الأبد ) .
رغبة عبد الله بن عمرو في الخير وحرصه على طاعة ربه .
حرص الصحابة على الخيرات والأعمال الصالحات .
بيان رفق النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمته وشفقته عليهم وإرشادهم إلى مصالحهم وحثهم على ما يطيقون الدوام عليه .
النهي عن التعمق والإكثار من العبادات التي يخاف عليهم الملل بسببها أو تركها أو ترك بعضها .
- وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا ) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل ) .
- وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( . . . أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، ولكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ) متفق عليه .
- وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا وأبشروا ) رواه البخاري .(4/26)
- وعن أنس - رضي الله عنه - قال ( دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد ، فإذا حبل مشدود بين الساريتين ، فقال : ما هذا الحبل ، قالوا : هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت به ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : حُلوه ، ليصلِّ أحدكم نشاطه ، فإذا فتر فليرقد ) متفق عليه .
اختلف العلماء في صوم الدهر على أقوال :
القول الأول : أنه يكره .
وهو قول إسحاق وجماعة .
- لحديث الباب وفيه ( لا صام من صام الأبد ) .
- ولحديث أبي قتادة - رضي الله عنه - قال ( قيل يا رسول الله : كيف بمن صام الدهر ؟ قال : لا صام ولا أفطر ) رواه مسلم .
القول الثاني : أنه حرام .
وإليه ذهب ابن حزم وجماعة من العلماء .
- لحديث أبي موسى مرفوعاً ( من صام الدهر ضيقت عليه جهنم ) أخرجه أحمد .
قال ابن حجر : وظاهره أنه تضيق عليه حصراً لتشديده على نفسه ، وحمله عليها ورغبته عن سنة نبيه واعتقاده أن غير سنته أفضل منه . وهذا يقتضي الوعيد الشديد فيكون حراماً .
القول الثالث : أنه مستحب لمن قوي عليه ولم يفوت فيه حقاً .
وهذا مذهب الجمهور كما قاله الحافظ ابن حجر
- لحديث حمزة بن عمرو عند مسلم ( أنه قال : يا رسول الله : إني أسرد الصوم . . . ) .
- ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في صيام ثلاثة أيام من كل شهر ( كصيام الدهر ) قالوا : فدل على أن صوم الدهر أفضل مما شبه به ، وأنه أمر مطلق .
وحملوا قوله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمرو ( لا أفضل من ذلك ) أي في حقك ، فيلتحق به من في معناه ممن يدخل فيه على نفسه مشقة أو يفوت حقاً ، ولذلك لم ينه حمزة بن عمرو عن السرد ، فلو كان السرد ممتنعاً لبينه له ، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .
وأما حديث ( . . . ضيقت عليه جهنم ) :
فقالوا : معناه ضيقت عليه فلا يدخلها .
وقيل : يحمل على من صامه جميعاً ولم يفطر في الأيام المنهي عنها كالعيدين وأيام التشريق .
وهذا اختيار ابن المنذر وجماعة .(4/27)
والراجح أنه حرام .
فضيلة صيام ثلاثة أيام كل شهر ، وأنه يعدل صيام الدهر . ( وسيأتي مباحثها إن شاء الله ) .
أن أفضل صيام التطوع صيام يوم وإفطار يوم .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فصم يوماً وأفطر يوماً ، فذلك مثل صيام داود ، وهو أفضل الصيام ) .
ولحديث ( أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ) .
أن صيام يوم وإفطار يوم كان مشروعاً في الأمم قبلنا .
حكمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وشفقته على أمته حيث كان يرشد إلى الأسهل فالأسهل .
أن الأعمال تتفاوت في محبة الله وكل ما كان أحب إليه فهو أفضل .
أن أفضل صلاة التطوع أن ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه وينام سدسه .
ينبغي الاقتصاد في الطاعة والعبادة ، لأن التعمق والتشدد يؤدي إلى التعب والضجر والانقطاع .
ولذلك جاء في رواية ( قال عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - فشددتُ فشُدِّدَ عليّ ، قال : وقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - : إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر ، قال : فصرت إلى الذي قال لي النبي ز ، فلما كبرت وددت أني كنتُ قبلت رخصة النبي - صلى الله عليه وسلم - ) .
قال النووي : ” معناه أنه كبر وعجز عن المحافظة على ما التزمه ووضعه على نفسه عند رسول الله ، فشق عليه فعله ولا يمكنه تركه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل “ .
قال ابن حجر : ” ومع عجزه وتمنيه الأخذ بالرخصة لم يترك العمل بما التزمه ، بل صار يتعاطى فيه نوع تخفيف كما في رواية حصين ( وكان عبد الله حين ضعف وكبر يصوم تلك الأيام كذلك يصل بعضها إلى بعض ثم يفطر بعدد تلك الأيام فيقوى بذلك ) “ .
199 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : (( أَوْصَانِي خَلِيلِي - صلى الله عليه وسلم - بِثَلاثٍ صِيَامِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ , وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى , وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ )) .(4/28)
------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
أوصاني : الوصية العهد بالشيء مع الحرص .
الخليل : الصديق الخالص .
الفوائد :
استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر .
أن صيامهما فيه أجر عظيم .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر كله ) .
لأن الحسنة بعشر أمثالها .
يجوز صيامها من كل الشهر من غير تخصيص أيام معينة لأن المقصود صيام ثلاثة أيام .
قالت عائشة ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من كل الشهر ثلاثة أيام ، ولم يكن يبالي من أي الشهر يصوم ) رواه مسلم .
لكن الأفضل أن تكون أيام البيض [ 13 ، 14 ، 15 ] من كل شهر .
لحديث أبي ذر قال – قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا صمت من الشهر ثلاثاً ، فصم ثلاث عشرة ، وأربع عشرة ، وخمس عشرة ) رواه الترمذي .
ولحديث جرير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر ، أيام البيض ، صبيحة ثلاث عشر ، وأربع عشر ، وخمس عشر ) رواه النسائي قال المنذر : إسناده جيد .
وسميت البيض لأن القمر يكون فيها بدراً ، فهي بيضاء في النهار بالشمس وفي الليل بنور القمر .
استحباب صلاة الضحى وإن أقلها ركعتان ، وأما أكثرها فقد اختلف العلماء على قولين :
القول الأول : أكثرها ثمان .
القول الثاني : لا حد لأكثرها .
وهذا القول هو الصحيح .
ويبدأ وقتها من طلوع الشمس قيد رمح إلى قبيل الزوال .
استحباب الوتر قبل النوم .
لكن هذا في حق من لم يثق بالاستيقاظ في آخر الليل .
- ففي حديث جابر قال – قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله ، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل ، فإن صلاة الليل مشهودة وذلك أفضل ) رواه مسلم .
فضل عظم هذه الوصية لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى بها بعض الصحابة .
أوصى بها أبو هريرة كما في حديث الباب .(4/29)
وأوصى بها أبو الدرداء كما عند مسلم .
وأوصى بها أبو ذر كما عند الترمذي .
200 - عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ : (( سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَنَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ؟ قَالَ : نَعَمْ )) وَزَادَ مُسْلِمٌ (( وَرَبِّ الْكَعْبَةِ )) .
201 – عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : (( لا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ , إلاَّ أَنْ يَصُومَ يَوْماً قَبْلَهُ , أَوْ يَوْماً بَعْدَهُ )) .
------------------------------------------------------
يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع .
لما في الصحيحين من قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أفضل أيام الأسبوع يوم الجمعة ) .
ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما طلعت الشمس ولا غربت على يوم خير من يوم الجمعة ، هدانا الله له وضلَّ الناس عنه ) .
وعند أبي داود قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة ، فأكثروا فيه من الصلاة علي . . . ) .
النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصيام .
يدل الحديث على جواز الصيام ، وزوال النهي ، بأمرين :
الأول : أن يوافق يوم الجمعة صيام معتاد ، كأن يصوم يوماً ويفطر يوماً ، فصادف يوم صيامه يوم الجمعة .
الثاني : إذا لم يفرده بالصيام ، بل جمع معه غيره .
اختلف العلماء في النهي ، هل هو للتحريم أم للكراهة ؟
قيل : للكراهة .
وهو مذهب الأكثر .
والصارف عن النهي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاز صيامه إذا صيم يوماً قبله أو بعده .
وقيل : للتحريم .
لأن الأصل في النهي التحريم .
والراجح الأول .
اختلف في سبب النهي عن إفراده :
فقيل : لئلا يضعف عن العبادة ، ورجحه النووي .
قال في الفتح : ” وتعقب ببقاء المعنى المذكور مع صوم غيره معه “ .(4/30)
وقال ابن القيم : ” ولكن يشكل عليه زوال الكراهة بضم يوم قبله أو بعده إليه “ .
وقيل : سداً للذريعة من أن يلحق بالدين ما ليس منه ، ويوجب التشبه بأهل الكتاب في تخصيص بعض الأيام بالتجرد من الأعمال الدنيوية . [ قاله ابن القيم ] .
وقيل : لكونه يوم عيد والعيد لا يصام ، ورجحه الحافظ ابن حجر ، وقال : ” ورد فيه صريحاً حديثان :
أحدهما : رواه الحاكم وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً : ( يوم الجمعة يوم عيد ، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا يوماً قبله أو بعده ) .
والثاني : رواه ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي قال : ( من كان منكم متطوعاً من الشهر فليصم يوم الخميس ولا يصم يوم الجمعة ، فإنه يوم طعام وشراب وذكر ) “ .
في الحديث النهي الصريح عن تخصيص يوم الجمعة بصلاة من بين الليالي ويومها بصوم .
واحتج به العلماء على كراهة هذه الصلاة المبتدعة التي تسمى الرغائب قاتل الله واضعها ومخترعها ، فإنها بدعة منكرة من البدع التي هي ضلالة وجهالة ، وفيها منكرات ظاهرة . [ قاله النووي ]
وصلاة الرغائب هي ليلة الجمعة من أول رجب .
فائدة :
لم يصح في فضل صوم رجب حديث .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ” كل ما ورد في فضل الصلاة والصيام في رجب فكله كذب “ .
وقال ابن رجب : ” ولذلك ذهب أكثر العلماء إلى كراهة إفراد رجب بالصوم ، ولعل الحكمة هو أن إفراده بالصيام إحياء لشعار الجاهلية “ .
202 - عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ وَاسْمُهُ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ - قَالَ : (( شَهِدْت الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - فَقَالَ : هَذَانِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صِيَامِهِمَا : يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ , وَالْيَوْمُ الآخَرُ : تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ )) .(4/31)
203 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ : (( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْنِ : الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ . وَعَنْ الصَّمَّاءِ , وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ , وَعَنْ الصَّلاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ )) .
------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
شهدت : حضرت .
العيد : اسم لكل ما يعود ويتكرر .
الفوائد :
تحريم صيام يومي العيد .
قال النووي : ” أجمع العلماء على تحريم صوم هذين اليومين بكل حال ، سواء صامهما عن نذر ، أو تطوع ، أو كفارة “.
وقال ابن قدامة : ” أجمع أهل العلم أن صوم يومي العيد منهي عنه ، محرم في التطوع والنذر المطلق والقضاء
والكفارة “ .
لو نذر صيامهما ، فهل يصح نذره ؟
لا يصح نذره ، ولا ينعقد ، ولا يجوز الوفاء به .
لأنه نذر معصية ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( من نذر أن يعص الله فلا يعصه ) . متفق عليه
قال الشوكاني : ” والحكمة في النهي عن صوم العيدين : أن فيه إعراضاً عن ضيافة الله تعالى لعباده ، كما صرح بذلك أهل الأصول “ .
204 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : (( مَنْ صَامَ يَوْماً فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفاً )) .
------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
خريفاً : أي عاماً .
الفوائد :
قوله ( من صام يوماً في سبيل الله ) ، اختلف العلماء في معنى ( في سبيل الله ) :
فقيل : المراد الجهاد والغزو .
وهذا اختيار ابن الجوزي ، لأنه يجمع بين مجاهدة العدو وبين الصيام .
وقيل : المراد ( في سبيل الله ) أي في مرضاة الله .
وقد استظهر الحافظ ابن حجر في فتح الباري بأن الحديث أعم من هذا كله ، فيشمل الجهاد وغيره .(4/32)
وهذا هو الصحيح .
فضيلة الصيام .
أن الصيام من أسباب النجاة من النار .
وفي الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( الصيام جنة ) ، زاد سعيد بن منصور : ( جنة من النار ) .
ولأحمد : ( جنة وحصن حصين من النار ) . والجنة : بضم الجيم ، الوقاية والستر ، أي وقاية وستر من النار .
وروى النسائي بسند صحيح عن أبي أمامة قال : ( قلت : يا رسول الله ، مرني بعمل آخذه عنك ، قال : عليك بالصوم فإنه لا مثل له ) . وفي رواية : ( لا عدل له ) .
فضل الصيام في الجهاد والغزو ، لكن هذا محمول على من لا يتضرر به ، ولا يفوت به حقاً ، ولا يختل به قتاله ، ولا غيره من مهمات غزوه . [ قاله النووي ]
قوله ( خريفاً ) المراد بالخريف هنا العام ، وإنما خص بالذكر من دون بقية الفصول لأن فيه تنضج الثمار ، وتحصل سعة العيش .
بابُ ليلةِ القَدرِ
205 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما : (( أَنَّ رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ . فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ . فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ )) .
206 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : (( تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنْ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ )) .(4/33)
207 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ . فَاعْتَكَفَ عَاماً , حَتَّى إذَا كَانَتْ لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ - وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنْ اعْتِكَافِهِ - قَالَ : مَنْ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَعْتَكِفْ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ فَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ . ثُمَّ أُنْسِيتُهَا , وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ مِنْ صَبِيحَتِهَا . فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ . وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ . فَمَطَرَتِ السَّمَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ . وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ . فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ , فَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَى جَبْهَتِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ مِنْ صُبْحِ إحْدَى وَعِشْرِينَ )) .
------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
( أن رجالاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ) : قال الحافظ ابن حجر : ” لم أقف على تسمية أحد من هؤلاء “ .
( أروا ) بضم أوله ، أي : قيل لهم في المنام إنها في السبع الأواخر ، والظاهر أن المراد أواخر الشهر .
( أرى رؤياكم ) قال عياض :”كذا جاء بإفراد الرؤيا ، والمراد: مرائيكم، لأنها لم تكن رؤيا واحدة، وإنما أراد الجنس“.
( تواطأت ) أي توافقت وزناً ومعنى .
الفوائد :
اختلف لماذا سميت ليلة القدر بذلك ؟
فقيل : لأن الله يقدر فيها الأرزاق والآجال وحوادث العام .
كما قال تعالى : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } . (الدخان:4) وعزاه النووي للعلماء حيث صدر كلامه فقال : قال العلماء : سميت ليلة القدر لما تكتب فيها الملائكة من الأقدار .
وقيل : سميت بذلك لأنها ليلة عظيمة وذات شرف .(4/34)
وقولهم لفلان قدر عند فلان ، أي : منزلة وشرف .
ويدل لذلك قوله تعالى : { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } . (القدر:3) وقيل : سميت بذلك لأنها تكسب من أحياها قدراً عظيماً .
ويدل لذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) .
أن الصحابة تواطأت رؤياهم على أنها في السبع الأواخر ، ومن ثم قال غير واحد من العلماء بأن أرجى ليالي القدر السبع الأواخر .
أن ليلة القدر ترى في المنام ، وذكر شيخ الإسلام أنها ترى في اليقظة ، فقد قال رحمه الله : ” وقد يكشف الله لبعض الناس في المنام أو اليقظة ، فيرى أنوارها ، أو يرى من يقول له : هذه ليلة القدر ، فقد رآها بعض الصحابة فجاءوا وأخبروا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما رأوا “ .
أن الرؤيا إذا تواطأت على شيء فهذا دليل على صدقها ، والرؤيا تسر المؤمن ولا تغره .
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة ، يراها المؤمن أو تُرى له ) . رواه مسلم
السبع الأواخر من شهر رمضان هي أرجى ما تكون تلك الليلة .
استحباب طلبها والتعرض فيها لنفحات الله تعالى .
اختلف العلماء في تحديد ليلة القدر على أقوال كثيرة ذكرها الحافظ ابن حجر في فتح الباري .
ويمكن تقسيم هذه الأقوال إلى :
هناك أقوال مرفوضة .
كالقول بإنكارها من أصلها أو رفعها .
هناك أقوال ضعيفة .
كالقول بأنها ليلة النصف من شعبان .
هناك أقوال مرجوحة .
كالقول بأنها في رمضان في غير العشر الأخيرة منه .
القول الراجح .
أنها في العشر الأواخر من رمضان ، وآكدها أوتارها .
قال ابن حجر : ” وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين “ .
الدليل على أن أوتار العشر آكد :
حديث عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ) . رواه البخاري ومسلم
وفي رواية : ( في الوتر من العشر الأواخر ) .(4/35)
ولحديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أرى رؤياكم في العشر الأواخر فاطلبوها في الوتر منها ) . رواه مسلم
وآكد هذه الأوتار ليلة سبع وعشرين ، الأدلة :
حديث الباب .
كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - [ المحدث الملهم ] وحذيفة بن اليمان [ صاحب السر ] لا يشكون أنها ليلة سبع وعشرين.
ما رواه مسلم عن أبي بن كعب أنه كان يقول : ( والله الذي لا إله إلا هو ، إنها لفي سبع وعشرين ـ يحلف ما يستثني ـ ووالله إني لأعلم أي ليلة هي ، هي الليلة التي أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقيامها ، وهي سبع وعشرين ) .
قال ابن رجب : ” ومما استدل به من رجح أنها ليلة سبع وعشرين الآيات والعلامات التي رؤيت فيها قديماً وحديثاً “ .
الحكمة من إخفائها :
قال الحافظ ابن حجر في الفتح : ” قال العلماء : الحكمة في إخفاء ليلة القدر ، ليحصل الاجتهاد في التماسها ، بخلاف ما لو عينت لها لاقتصر عليها “ .
علامات ليلة القدر :
جاء في صحيح مسلم عن أبي بن كعب : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن من أماراتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها ) .
ما جاء في حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ليلة القدر ليلة طلقة لا حارة ولا باردة ، تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة ) . رواه ابن خزيمة
وذكر بعض العلماء علامات أخرى :
زيادة النور في تلك الليلة ، طمأنينة القلب وانشراح الصدر من المؤمن .
بعض العلامات التي لا أصل لها :
قال الحافظ : ” وذكر الطبري عن قوم أن الأشجار في تلك الليلة تسقط إلى الأرض ثم تعود إلى منابتها وأن كل شيء يسجد فيها “ .
ذكر بعضهم أن المياه المالحة تصبح في ليلة القدر حلوة ، وهذا لا يصح .
ذكر بعضهم أن الكلاب لا تنبح فيها ولا ترى نجومها ، وهذا لا يصح .
فوائد :(4/36)
روى عبد الرزاق في مصنفه أن التابعي الجليل مكحول الدمشقي كان يرى ليلة القدر ثلاث وعشرين .
قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية في ترجمة أبو زيد الأنصاري : ” يقال أنه كان يرى ليلة القدر “ .
قال النووي في المجموع : ” ويسن لمن رآها كتمها “ .
اختلف العلماء هل يحصل الثواب المرتب عليها لمن اتفق له أنه قامها وإن لم يظهر له شيء ، أو يتوقف ذلك على كشفها ؟
ذهب إلى الأول الطبري وابن العربي وجماعة .
وإلى الثاني ذهب الأكثر ، ويدل له ما وقع عند مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ : ( من يقم ليلة القدر فيوافقها ) .
وفي حديث عبادة بن الصامت عند أحمد : ( من قامها إيماناً واحتساباً ثم وفقت له ) .
قال النووي : ” معنى يوافقها : أي يعلم أنها ليلة القدر فيوافقها “ .
قال النووي في المجموع : ” ليلة القدر مختصة في هذه الأمة زادها الله شرفاً لم تكن لمن كان قبلنا “ .
وقال أيضاً رحمه الله : ” إنه الصحيح المشهور الذي قطع به أصحابنا كلهم وجماهير العلماء “
وقيل : بل كانت موجودة في الأمم الماضية .
لحديث أبي ذر أنه قال : ( يا رسول الله ، أخبرني عن ليلة القدر في رمضان أو في غيره ؟ فقال : بل هي في رمضان ، قال : قلت : يا رسول الله ، تكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبض الأنبياء رفعت أم هي إلى يوم القيامة ؟ قال : لا بل هي إلى يوم القيامة ) . رواه النسائي
بابُ الاعتكافِ
208- عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ , حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ . ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ بَعْدَهُ )) .
وَفِي لَفْظٍ (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ . فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ جَاءَ مَكَانَهُ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ )) .(4/37)
209 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها : (( أَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهِيَ حَائِضٌ , وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ . وَهِيَ فِي حُجْرَتِهَا : يُنَاوِلُهَا رَأْسَهُ )) .
وَفِي رِوَايَةٍ : (( وَكَانَ لا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلاَّ لِحَاجَةِ الإِنْسَانِ )) .
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ " إنْ كُنْتُ لأَدْخُلُ الْبَيْتَ لِلْحَاجَةِ وَالْمَرِيضُ فِيهِ، فَمَا أَسْأَلُ عَنْهُ إلاَّ وَأَنَا مَارَّةٌ " الترجيل : تسريح الشعر .
------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
الاعتكاف لغة : الإقامة ، يقال : عكف بالمكان إذا أقام فيه ، ومنه قوله تعالى : ? مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ? .
وشرعاً : لزوم المسجد بنية مخصوصة لطاعة الله .
لحاجة الإنسان : أي البول والغائط .
الفوائد :
حكمه سنة .
- قال تعالى : ? وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ? .
نقل عن الإمام مالك أنه قال : ” تأملت أمر الاعتكاف وما ورد فيه كيف أن المسلمين تركوه مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتركه ، فرأيت أنهم إنما تركوه لمشقة ذلك عليهم “ .
قال الزهري : ” عجباً للمسلمين تركوا الاعتكاف مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله “ .
ويجب بالنذر :
قال الحافظ : ” وليس واجباً إجماعاً إلا على من نذره “ .
- لحديث عمر أنه قال : ( يا رسول الله إني نذرت أني أعتكف ليلة في المسجد الحرام ، فقال : أوف بنذرك ) متفق عليه .
- ولحديث عائشة : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ) .
آكد الاعتكاف في رمضان ، وأفضله العشر الأواخر ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكفها حتى توفاه الله عز وجل .(4/38)
اتفقوا على أنه لا حد لأكثره . [ قاله في الفتح ]
واختلفوا في أقله :
والأقرب يوم أو ليلة ، ولعله يستأنس بما تقدم من إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام وفاء بنذره .
مبطلاته :
الجماع .
قال ابن المنذر : ” وأجمعوا على أنه من جامع امرأته وهو معتكف عامداً لذلك في فرجها أنه يفسد اعتكافه “ .
وقال الحافظ ابن حجر : ” واتفقوا على فساده بالجماع “ .
- قال تعالى : ? وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِد ? .
نقل ابن المنذر الإجماع على أن المراد بالمباشرة في الآية الجماع .
الخروج بجميع بدنه بلا عذر .
فهذا يبطل اعتكافه باتفاق الأئمة .
- لحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : ( السنة للمعتكف أن لا يخرج لحاجة إلا لما لا بد له ) رواه أبو داود
يشترط لصحة الاعتكاف المسجد ، لقوله تعالى : ? وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِد ? .
قال القرطبي : ” أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد “ .
وقال في المغني : ” لا نعلم فيه خلافاً “ .
لكن اختلفوا ما هو ضابط المسجد :
فقيل : لا يصح إلا في المساجد الثلاثة .
- لحديث حذيفة مرفوعاً : ( لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة ) . رواه سعيد بن منصور
وقيل : يصح في كل مسجد سواء أقيمت فيه الجماعة أم لا .
وقيل : لا يصح إلا في مسجد جماعة .
قال شيخ الإسلام : ” وهو قول عامة التابعين ، ولم ينقل عن صحابي خلافه ، إلا قول من خص الاعتكاف بالمساجد الثلاثة أو مسجد ٍجماعة “ .
وهذا القول هو الصحيح .
ولأن اعتكاف الرجل في مسجد لا تقام فيه الجماعة يفضي إلى أحد أمرين :
إما ترك الجماعة الواجبة .
وإما خروجه إليها فيتكرر ذلك منه كثيراً .
وأما الجواب عن حديث حذيفة :
فهو ضعيف ، وعلى فرض صحته فيحمل على الأفضل .
أن المرأة يشرع لها الاعتكاف كالرجل .(4/39)
ويصح اعتكافها في كل مسجد ، ولو لم تقم فيه الجماعة ، سوى مسجد بيتها .
وهذا مذهب الجمهور .
لعموم قوله تعالى : ? وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِد ? .
ولحديث عائشة وفيه : ( استئذان أزواجه - صلى الله عليه وسلم - أن يعتكفن في المسجد فأذن لهن ) . متفق عليه
وأجاز الحنفية للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها ، وهو المكان المعد للصلاة فيه .
وهذا قول ضعيف ، لأن موضع صلاتها في بيتها ليس بمسجد .
شروط اعتكاف المرأة :
إذن الزوج .
إذا أمنت الفتنة .
أن تكون طاهرة .
أن اعتكاف العشر الأواخر من رمضان آكد من العمرة في رمضان ، والجمع بينهما أكمل ، فإن كان لا بد لأحدهما دون الآخر ، فالاعتكاف أفضل لوجوه :
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر ولم يعتمر .
أن الاعتكاف يعتبر في بعض البلاد من السنن المهجورة ، فكان إحياؤه أولى من العمرة في رمضان
ولأن الاعتكاف في العشر يفوت وقته بخلاف العمرة .
اختلف العلماء متى يدخل معتكفه ، على قولين :
فقيل : يدخل من بعد صلاة الصبح من يوم إحدى وعشـ 21_رين .
ومال إليه الصنعاني .
لحديث عائشة . ( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه ) رواه مسلم .
قال ابن حجر : ” وهو قول الأوزاعي والليث والثوري “
وقيل : يدخل قبيل غروب الشمس [ ليلة إحدى وعشـ 21ــرين ] .
ونسبه الحافظ ابن حجر إلى الأئمة الأربعة .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : ” يدخل المعتكف معتكفه بأن يدخل المسجد الذي يريد الاعتكاف فيه إذا غابت الشمس من ليلة العشرين من رمضان ، ويخرج إذا غابت الشمس من الليلة الأولى من شهر شوال . . . والعشر الأواخر من رمضان تدخل من ليلة إحدى وعشرين وليس من فجر إحدى وعشرين “ .
وهذا القول هو الصحيح .
وأما الجواب عن حديث الباب :(4/40)
قال الحافظ ابن حجر : ” وأولوا الحديث على أنه دخل من أول الليل ، ولكن إنما تخلى بنفسه في المكان الذي أعده لنفسه بعد صلاة الصبح “ .
وقد قسم العلماء خروج المعتكف إلى أقسام :
أولاً : خروج بعض المعتكف .
فهذا لا يبطل الاعتكاف بالاتفاق ، لحديث الباب .
ثانياً : الخروج لما لا بد منه كالغائط والبول .
قال ابن المنذر : ” وأجمعوا على أن للمعتكف أن يخرج عن معتكفه للغائط أو البول “ .
لحديث الباب : ( إلا لحاجة الإنسان ) أي البول أو الغائط .
قال الشوكاني : ” وقد وقع الإجماع على استثنائهما “ .
ثالثاً : الخروج بجميع بدنه بلا عذر .
فهذا يبطل اعتكافه باتفاق الأئمة .
لحديث الباب : ( وكان لا يخرج إلا لحاجة الإنسان إذا كان معتكفاً ) .
رابعاً : الخروج للأكل والشرب .
ليس له ذلك إلا إذا لم يكن هناك من يأتيه به ، وهذا مذهب الجمهور .
خامساً : الخروج لصلاة الجمعة .
إذا تخلل الاعتكاف جمعة في مسجد غير جامع وجب على المعتكف الخروج إلى صلاة الجمعة إذا كان من أهلها .
سادساً : الخروج لقربة من القرب .
كعيادة مريض ، وصلاة جنازة ، له الخروج إذا اشترط .
سابعاً : الخروج لأمر ينافي الاعتكاف كبيع وشراء .
لا يخرج ولو اشترط .
اختلف العلماء هل يصح الاعتكاف من غير صوم أم لا ؟ اختلفوا على قولين :
فقيل : يشترط للاعتكاف صوم .
وهذا مذهب المالكية واختاره ابن القيم وقال : ” القول الراجح في الدليل الذي عليه جمهور السلف أن الصوم شرط في الاعتكاف ، وهو الذي كان يرجحه شيخ الإسلام ابن تيمية “ .
لحديث عائشة : ( لا اعتكاف إلا بصوم ) رواه الدار قطني
وقيل : لا يشترط الصوم للاعتكاف :
وهذا مذهب الشافعية والحنابلة .
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكف العشر الأول من شوال .
ولحديث ابن عمر : ( أن عمر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام ؟ قال : فأوف بنذرك ) . متفق عليه(4/41)
قال الشوكاني : ” استدل به على جواز الاعتكاف بغير صوم ، لأن الليل ليس بوقت صوم “ .
وهذا القول هو الراجح .
210 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - قَالَ : قُلْتُ : (( يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً )).
وَفِي رِوَايَةٍ : (( يَوْماً - فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ . قَالَ فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ )) وَلَمْ يَذْكُرْ بَعْضُ الرُّوَاةِ يَوْماً ولا لَيْلَةً .
------------------------------------------------------
أن الاعتكاف يجب بالنذر .
استدل بالحديث من يقول بصحة الاعتكاف بدون صوم . [ وقد سبقت المسألة ]
وجوب الوفاء بالنذر ولو عقد في حال الكفر .
إذا نذر أن يعتكف في المسجد الأقصى جاز أن يعتكف في المسجد الحرام أو المسجد النبوي ، وإذا نذر أن يعتكف في المسجد النبوي جاز أن يعتكف في الحرام ، وإذا نذر أن يعتكف في المسجد الحرام فلابد أن يعتكف به .
لحديث ( أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله : إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي ببيت المقدس ركعتين فقال له : صل ههنا ، ثم أعاد عليه ، فقال : صل ههنا ، ثم أعاد عليه ، فقال : شأنك إذن ) . رواه أبو داود
فهذا الحديث يدل على أن الناذر إذا أدى نذره في مكان أفضل من المكان الذي عينه فإنه يجزئه ، لأنه أدى أتم مما التزمه .(4/42)
211 - عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ رضي الله عنها قَالَتْ : (( كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُعْتَكِفًا . فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلاً . فَحَدَّثْتُهُ , ثُمَّ قُمْتُ لأَنْقَلِبَ , فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي - وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - فَمَرَّ رَجُلانِ مِنْ الأَنْصَارِ فَلَمَّا رَأَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَسْرَعَا . فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : عَلَى رِسْلِكُمَا . إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ . فَقَالا : سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَقَالَ : إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ . وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرّاً- أَوْ قَالَ شَيْئاً )) .
وَفِي رِوَايَةٍ (( أَنَّهَا جَاءَتْ تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ . فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً . ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ . فَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَعَهَا يَقْلِبُهَا , حَتَّى إذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ )) . ثُمَّ ذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ .
------------------------------------------------------
معاني الكلمات :
لأنقلب : أي ترجع إلى بيتها .
ليقلبني : أي يردها إلى منزلها .
رجلان من الأنصار : قال الحافظ بن حجر : لم أقف تسميتهما في شيء من كتب الحديث .
رسلكما : بكسر الراء : أي تمهلا ولا تسرعا .
ابن آدم : المراد جنس أولاد آدم فيدخل فيه الرجال والنساء .
الفوائد :
جواز زيارة المرأة زوجها وهو في معتكفه وأن يودعها إلى المسجد .
جواز ملامسة الرجل زوجته وهو معتكف .
شفقة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته وحرصه عليها .(4/43)
فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهذين الرجلين : إنها صفية ، لأنه خشي أن يوسوس لهما الشيطان ، وإلا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أنهما لن يظنا به سوءاً لما تقرر عنده من صدق إيمانهما ، لكن خشي النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهما أن يوسوس لهما الشيطان لأنهما غير معصومين فقد يفضي بهما ذلك إلى الهلاك ، فبادر إلى إعلامهما حسماً للمادة وتعليماً لمن بعدهما إذا وقع له مثل ذلك .
خطر الشيطان وأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم .
وقد اختلف في المراد في قوله ( مجرى الدم ) :
فقيل : هو على ظاهره وأن الله أقدره على ذلك .
وقيل : هو على سبيل الاستعارة من كثرة إغوائه ، وكأنه لا يفارقه كالدم فاشتركا في شدة الاتصال وعدم المفارقة .
جواز اشتغال المعتكف بالأمور المباحة من تشييع زائره والقيام معه والحديث مع غيره .
بيان شفقة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته وإرشادهم إلى ما يدفع عنهم الإثم .
التحرز من التعرض لسوء الظن ، والاحتفاظ من كيد الشيطان .
جواز خروج المرأة ليلاً .
قول سبحان الله عند التعجب .
كتاب الحج
مقدمة
تعريف الحج :
لغة : القصد ، يقال : حج كذا بمعنى قصد .
وشرعاً : التعبد لله بأداء المناسك على صفة مخصوصة في وقت مخصوص .
العمرة :
لغة : الزيادة .
وشرعاً : التعبد لله بالطواف والسعي والحلق أو التقصير .
حكم الحج واجب بالكتاب والسنة والإجماع ، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة .
قال تعالى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } . (آل عمران: من الآية97)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( بني الإسلام على خمس : ... وذكر منها : حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ) .
والإجماع ، قال ابن المنذر : " أجمعت الأمة على وجوب الحج في العمر مرة واحدة " .
اختلف العلماء في فرض الحج :
فقيل : قبل الهجرة .
قال في الفتح : " هو شاذ " .(4/44)
وقيل : بعدها ، واختلف في أي سنة :
فالجمهور أنه فرض في السنة السادسة لأنه نزل فيه قوله تعالى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } . (البقرة: من الآية196)
ورجح هذا القول الحافظ ابن حجر .
وقيل : سنة تسع ، ورجحه ابن القيم ، وقال : " فإن فرض الحج تأخر سنة تسع أو عشر ، وأما قوله تعالى :
{ وَأَتِمُّوا ... } فإنها وإن نزلت سنة ست عام الحديبية ، فليس فيها فرض الحج ، وإنما فيها الأمر بإتمامه وإتمام العمرة بعد الشروع فيهما ، وذلك لا يقضي وجوب الابتداء " .
وهذا القول هو الراجح .
فإن قيل : لماذا لم يحج النبي - صلى الله عليه وسلم - في السنة التاسعة ؟
فالجواب :
لكثرة الوفود في تلك السنة ، ولهذا تسمى السنة التاسعة سنة الوفود .
ولأن في السنة التاسعة كان من المتوقع أن يحج المشركون .
قال ابن القيم : " ولا خلاف أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة الوداع ، ولا خلاف أنها كانت سنة عشر " .
الحج فضله عظيم .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) . متفق عليه
لكن ما هو الحج المبرور ؟
قيل : الذي لا يخالطه شيء من الإثم ، ورجحه النووي .
وقال ابن عبد البر : " الحج المبرور هو الذي لا رياء فيه ولا سمعة ولا رفث ولا فسوق ، وخرج بمال حلال " .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : " الحج المبرور هو الذي جمع أوصافاً :
أولاً : أن يكون خالصاً لله . ثانياً : أن يكون بمال حلال . ثالثاً : أن يقوم فيه الإنسان بفعل ما يجب ليكون عبادة " .
ومن الحج المبرور أن لا تحج المرأة إلا بمحرم ، فإن حجت بغير محرم لم يكن حجها مبرور .
شروط الحج :
أولاً : الإسلام .
فكل عبادة لا تصح من كافر .
وهو شرط للوجوب وللصحة وللإجزاء .
ثانياً : الحر .
فلا تجب على العبد ، لأنه مملوك مشغول بسيده .(4/45)
لحديث ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أيما صبي حج ثم بلغ الحنث ، فعليه أن يحج حجة أخرى ، وأيما عبد حج ، ثم أعتق ، فعليه أن يحج حجة أخرى ) . رواه البيهقي ، لكنه موقوف
قال ابن المنذر : ” أجمع أهل العلم إلا من شذ منهم ، على أن العبد إذا حج في حال رقه ، ثم عتق ، أن عليه حجة الإسلام إذا وجد سبيلاً “ .
وهو شرط للوجوب والإجزاء .
ثالثاً : البلوغ .
فالصغير لا يجب عليه الحج .
وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي ركباً بالروحاء ، فقال : ( من القوم ؟ فقالوا : من أنت ؟ فقال : رسول الله ، فرفعت إليه امرأة صبياً فقالت : ألهذا حج ؟ قال : نعم ، ولك أجر ) . رواه مسلم
( الروحاء ) : مكان بين مكة والمدينة . ( ركباً ) : جمع راكب ، وهم الراكبون على الإبل خاصة في السفر من العشرة .
في هذا الحديث صحة حج الصغير ، وقد نقل الإجماع على ذلك الطحاوي .
ومما يدل على صحة حج الصبي ما رواه البخاري عن السائب بن يزيد قال : ( حج بي أبي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن سبع سنين ) .
ومن فوائده : ( أن الصبي لا يجب عليه الحج ، لأنها قالت : ( ألهذا حج ) ولم تقل : أعلى هذا حج .
ومنها : أن حجة من دون البلوغ لا تجزئه عن حجة الإسلام .
وقد حكى الإجماع ابن المنذر ، وابن عبد البر ، والنووي ، وابن قدامة ، أن الصبي لا يجزئه عن حجة الإسلام .
ومما يدل على ذلك الحديث السابق .
ولحديث ابن عباس قال : ( احفظوا عني ولا تقولوا قال ابن عباس ، أي صبي حج ثم بلغ فليحج حجة أخرى ) . رواه ابن أبي شيبة ، وله حكم الرفع
وهو شرط للوجوب والإجزاء .
رابعاً : العقل .
فالمجنون لا يجب عليه الحج ، وهو شرط للوجوب وللصحة وللإجزاء .
خامساً : القدرة .
قادر بماله وبدنه ، قال تعالى : { ... مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } . (آل عمران: من الآية97)
بابُ المواقيتِ(4/46)
212- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : (( أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَّتَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ : ذَا الْحُلَيْفَةِ . وَلأَهْلِ الشَّامِ : الْجُحْفَةَ . وَلأَهْلِ نَجْدٍ : قَرْنَ الْمَنَازِلِ . وَلأَهْلِ الْيَمَنِ : يَلَمْلَمَ . هُنَّ لَهُمْ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ , مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ . وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ : فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ , حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ )) .
213 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : (( يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ , وَأَهْلُ الشَّامِ مِنْ الْجُحْفَةِ , وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ )) . قَالَ : وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : (( وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ )) .
------------------------------------------
معاني الكلمات :
وقت : حدد .
ذا الحليفة : مكان معروف بينه وبين مكة مائتا ميل غير ميلين .
قال النووي : ” وهي أبعد المواقيت من مكة ، بينهما نحو عشر مراحل ، وهي قريبة من المدينة .
الجحفة : قال الحافظ : ” هي قرية خربة بينها وبين مكة خمس مراحل أو ستة .
قال النووي : ” سميت بذلك لأن السيل اجتحفها “ .
يلملم : وهو جبل من جبال تهامة على مرحلتين من مكة .
قرن المنازل : على نحو مرحلتين من مكة ، وهو أقرب المواقيت إلى مكة .
الفوائد :
قال ابن قدامة بعد ما ذكر المواقيت : ” أجمع أهل العلم على أربعة منها ، وهي : ذو الحليفة ، وقرن ، والجحفة ، ويلملم واتفق أئمة النقل على صحة الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها ، ... ثم قال : فأما ذات عرق فميقات أهل المشرق في قول أكثر أهل العلم “ .
وقد اختلف من الذي وقت ميقات أهل العراق ؟(4/47)
فقيل : الذي وقته رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
لحديث عائشة : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل العراق ذات عرق ) . رواه أبو داود ، وقد ضعفه الإمام أحمد وابن خزيمة
وقيل : الذي وقته عمر .
لحديث ابن عمر قال : ( لما فتح هذا المصران أتوا عمر فقالوا : يا أمير المؤمنين ، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حد لأهل نجد قرناً ، وإنه جور عن طريقنا إن أردنا أن نأتي قرناً شق علينا ، قال : فانظروا حذوها من طريقكم ، قال : فحد لهم ذات عرق ) . رواه البخاري
وقيل : وقته عمر ، والنص لم يبلغه ، فجاء على وفق توقيته .
وعمر معروف بموافقاته الكثيرة .
أبعد هذه المواقيت من مكة ذو الحليفة ميقات أهل المدينة ، قال الحافظ : ” فقيل في الحكمة في ذلك أن تعظم أجور أهل المدينة ، وقيل : رفقاً بأهل الآفاق ، لأن أهل المدينة أقرب الآفاق إلى مكة ، أي ممن له ميقات معين “ .
وجوب الإحرام لمريد الحج أو العمرة من هذه المواقيت ، لقوله : ( ويهل ) .
هذه المواقيت لأهلها ولمن مرّ عليها من غير أهلها ممن أراد الحج أو العمرة .
فمن سلك طريقاً فيها ميقات ، فهو ميقاته ، فإذا مرّ أحد من أهل نجد ميقات أهل الشام ، فإنه يحرم منه ، ولا يكلف أن يذهب إلى ميقات أهل نجد .
لكن اختلف فيما إذا مرّ الشامي بميقات أهل المدينة ، هل له أن يؤخر الإحرام إلى الجحفة والتي هي الأصل في ميقات أهل الشام ؟قولان :
فقيل : يجب أن يحرم من ذي الحليفة .
وهذا قول الشافعي وأحمد .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( هنّ لهنّ ولمن مرّ عليهنّ من غير أهلهنّ ) .
وقيل : يجوز ذلك .
وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك ، وهو اختيار شيخ الإسلام .
قالوا : لأن هذا الرجل مرّ بميقاتين ، يجب عليه الإحرام منهما ، أحدهما فرع ، والثاني أصل ، والأصل الجحفة ، وميقات المدينة فرع ، فله أن يدع الإحرام من الفرع إلى الأصل .
والأول أحوط .(4/48)
من كان منزله دون الميقات ، فميقاته من مكانه الذي هو ساكن فيه .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ ) .
أن من تجاوز هذه المواقيت بلا نية النسك ، ثم طرأ العزم على نية النسك ، فإنه يحرم من حيث أراد النسك .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ ) .
الذي لا يمر بميقات ، فإنه يحرم إذا حاذى أقرب المواقيت إليه ، واعتبار المحاذاة أصل بنى عليه عمر حين قرر ذات عرق ميقاتاً لأهل العراق .
من أراد الإحرام فجاوز الميقات غير محرم ، فإنه يلزمه أن يرجع ويحرم من الميقات .
فإن رجع فلا شيء عليه ، وإن لم يستطع الرجوع يحرم من مكانه ويذبح فدية في مكة يوزعها على فقراء مكة .
أن الإحرام قبل الميقات مخالف لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - .
اختلف العلماء إذا مرّ الإنسان بالميقات وهو قد أدى فرضه ، هل يلزمه الإحرام أم لا ؟
فقيل : يلزمه الإحرام .
لحديث ابن عباس قال : ( لا يدخل احد مكة إلا محرماً ) . رواه البيهقي
وذهب الشافعي إلى عدم وجوب ذلك .
ونصر هذا القول ابن حزم ، واختاره شيخ الإسلام .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ممن أراد الحج والعمرة ) فمفهومه أن من لم يرد النسك لا يجب عليه .
ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( الحج مرّة فما زاد فهو تطوع ) ولو كان المرور بالميقات موجباً للإحرام لكان الحج أكثر من مرّة .
وهذا القول هو الصحيح .
أن ميقات أهل مكة من مكة للحج ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( حتى أهل مكة من مكة ) .
فمن حج من مكة فمنها ، حتى لو من غير أهلها ، وأما العمرة فمن الحل .
وهذا مذهب الأئمة الأربعة .
قال ابن قدامة : ” لا نعلم في هذا خلافاً “ .
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج بعائشة إلى الحل لتحرم منه .(4/49)
تحديد النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه المواقيت من معجزات النبوة ، فإنه حددها قبل إسلام أهلها إشعاراً منه بأنهم سيسلمون .
جعل كل أهل جهة لهم ميقات في طريقهم إلى مكة من رحمة الله بخلقه ، وتسهيل شرعه لهم .
مايلبس المُحْرِمُ من الثيابِ
214 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما : (( أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ , مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : لايَلْبَسُ الْقَمِيصَ , وَلا الْعَمَائِمَ , وَلا السَّرَاوِيلاتِ , وَلا الْبَرَانِسَ , وَلا الْخِفَافَ , إلاَّ أَحَدٌ لا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ , وَلا يَلْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ شَيْئاً مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ وَرْسٌ )) .
وَلِلْبُخَارِيِّ : (( وَلا تَنْتَقِبِ الْمَرْأَةُ . وَلا تَلْبَسِ الْقُفَّازَيْنِ )) .
215 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : (( سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ : مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ خُفَّيْنِ , وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إزَاراً فَلْيَلْبَسْ سَّرَاوِيلَ )) . يعني للمحرم
------------------------------------------
وللبخاري : ( ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين ) .
معاني الكلمات :
لا يلبس : قال النووي : ” هذا من بديع الكلام وجزله ، لأن ما لا يلبس منحصر ، وأما الملبوس الجائز فغير منحصر “ .
القميص : هو ما يفصل ويلبس على هيئة البدن .
السراويلات : وهي ما يلبس على أسفل البدن بأكمام .
العمائم : وهي التي تلف وتكور على الرأس .
البرانس : هو ثوب رأسه منه ملصق به .
الزعفران : نبات يصبغ به الثياب .
الوَرَس : نبت أصفر ، يصبغ به الثياب ، له رائحة طيبة .
الفوائد :(4/50)
قال ابن المنذر : ” أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من لبس القميص والعمائم والسراويلات والخفاف والبرانس “ .
قال المجد ابن تيمية : ” واتفقوا على أن التحريم هنا على الرجال المحرمين خاصة دون النساء “ .
المحظورات في الحديث خمسة هي التي لا تلبس ، وما عداها يلبس ، وهي :
القميص : ويشمل ما كان بمعناه كالفنيلة والكوت .
العمائم : وتشمل كل ما غطى الرأس بملاصق ، كالغترة والطاقية .
الخف : يشمل كل ما ستر القدم .
السراويلات : يشمل كل ما ستر بعض البدن ، مثل السراويل القصيرة .
الورس والزعفران : يشمل كل أنواع الطيب ، وهذا عام في حق الرجال والنساء .
ما عدا هذا فهو حلال : الساعة ، والنظارة ، والخاتم ، والعلاقية .
عبر بعض العلماء عن حديث الباب فقال : ” لا يلبس المخيط “ فظن بعض العامة أن المحرم لا يلبس شيئاً فيه خياطة ، وليس مراد أهل العلم النهي عن كل شيء فيه خياطة ، لا ، بل مرادهم أنه يمنع المحرم من اللباس المعتاد الذي خيط على البدن ، كالقميص والسراويل والفنيلة والكوت .
يحرم على المرأة أن تنتقب أو تلبس القفازين [ لباس اليدين ] .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين ) .
ولها أن تلبس جوارب الرجلين .
قال ابن قدامة : ” لا نعلم خلافاً بين أهل العلم في أن للمحرم أن يلبس السراويل إذا لم يجد الإزار ، والخفين إذا لم يجد نعلين “ .
لحديث ابن عباس قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب بعرفات : ( من لم يجد نعلين فليلبس خفين ، ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل ) . متفق عليه
واختلف العلماء في حكم المحرم الذي لا يجد نعلين ووجد خفين ، هل يجب عليه قطعهما من أسفل أم لا ؟ على قولين :
قيل : إنه يجب عليه قطعهما من أسفل من الكعبين .
وهو قول عروة ومالك والثوري والشافعي وإسحاق وابن المنذر .
لحديث ابن عمر حديث الباب [ الحديث الأول ] .
وقيل : لا يجب قطعهما .(4/51)
وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة .
لحديث ابن عباس حديث الباب [ الحديث الثاني ] ، فهو يعتبر ناسخاً لحديث ابن عمر ، لأن حديث ابن عباس كان في عرفات ، ولأن المقام مقام تعليم ، والناس متوافرون ، ولو قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - تقييد هذا الخبر بحديث ابن عمر لبينه ووضحه .
وهذا القول هو الراجح ، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية .
ولأن في القطع إضاعة للمال .
216 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما : (( أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ , لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ , إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ ، لا شَرِيكَ لَكَ )) . قَالَ : وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَزِيدُ فِيهَا " لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ , وَسَعْدَيْكَ , وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ , وَالرَّغْبَاءُ إلَيْكَ وَالْعَمَلُ " .
------------------------------------------
معاني الكلمات :
لبيك : أي إجابة لك بعد إجابة ، وإقامة على طاعتك دائمة ، والمراد بالتثنية التأكيد .
الفوائد :
مشروعية التلبية في الحج ، واختلف في حكمها :
فقيل : سنّة .
وهذا مذهب الشافعي وأحمد .
وقيل : واجبة ، ويلزم بتركها دم .
وقيل : فرض الحج ، وهذا محكي عن طائفة من التابعين .
والراجح الأول .
أن هذه التلبية عظيمة ، فقد أطلق عليها جابر التوحيد ، فقال : ( فأهل – أي النبي - صلى الله عليه وسلم - - بالتوحيد : لبيك اللهم لبيك ...)
الأفضل الاقتصار على تلبية الرسول - صلى الله عليه وسلم - الواردة في هذا الحديث .
يجوز الزيادة عليها ، ومما ورد :
أولاً : ما جاء عن عمر بن الخطاب ، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن المسور بن مخرمة قال : ( كانت تلبية عمر : ... ، لا شريك لك ، لبيك مرغوباً أو مرهوباً ، لبيك ذا النعماء والفضل الحسن ) .(4/52)
ثانياً : ما جاء عن ابن عمر ، كما في حديث الباب : كان يزيد : ( لبيك لبيك وسعديك ، والخير بيديك ، والرغباء إليك والعمل ) .
ثالثاً : عن جابر قال : ( أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكر تلبية النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال : والناس يزيدون : ذا المعارج ) . رواه أبو داود
رابعاً : قال جابر في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( وأهل الناس بهذا الذي يهلون به ، فلم يزد النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم شيئاً ، ولزم رسول الله تلبيته ) .
فدلت هذه الآثار على جواز الزيادة في التلبية ، حيث أقرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك .
يسن للرجل أن يرفع صوته بالتلبية .
لحديث السائب بن خلاد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية ) .
…………………… رواه أبو داود
وعن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل : ( أي الحج أفضل ؟ قال : العج والثج ) . رواه ابن ماجه
العج : رفع الصوت بالتلبية . الثج : إراقة الدم .
وعن سهل قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما من مسلم يلبي إلا لبى من على يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر ).رواه الترمذي
والمرأة تلبي كالرجل بصوت تسمع من حولها من النساء ولا ترفع صوتها ، وهذا مذهب جماهير العلماء .
اختلف العلماء في حكم التلبية للحلال ( لغير المحرم ) :
فقيل : تشرع .
وهذا مذهب الشافعي ، قالوا :
هذا ذكر يستحب كما يستحب للمحرم .
وقيل : يكره .
وهذا قول مالك .
لأن التلبية من شعائر الحج ، وليست بعبادة مستقلة ، وهذا قوي .
أحكام الإهلال :
الإهلال : هو الإهلال بالنسك ، ويطلق على التلبية بالنسك .
- الأفضل أن يذكر نسكه .
لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث أنه جهر بنسكه ، وكذلك هو عمل أبو بكر وعمر وعثمان وعلي .
وقيل : لا يستحب ذلك ، وهذا ضعيف .
- متى يلبي المحرم بنسكه ؟(4/53)
قيل : إذا استوت به راحلته .
لحديث ابن عمر : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهلّ فقال : لبيك ... ) .رواه مسلم
وقيل : يلبي عقب الصلاة .
لحديث أنس : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل دبر صلاة ) . رواه النسائي
وقيل : يلبي إذا علا البيداء .
البيداء : جبل صغير في ذي الحليفة
لحديث جابر الطويل في صفة الحج ، قال : ( ... وصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به راحلته أهلّ بالتوحيد ... ) . رواه مسلم
والراجح أنه لبى حين استوت به راحلته .
وأما حديث جابر : يحمل أنه لم يسمع التلبية إلا حين استوت به راحلة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلا شرف البيداء .
وأما ما رواه النسائي أنه أهل دبر صلاة ، فيقال : دبر الصلاة ما كان بعدها .
217 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : (( لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إلاَّ وَمَعَهَا حُرْمَةٌ )) .
وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ : (( لا تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ )) .
------------------------------------------
معاني الكلمات :
لا يحل : يحرم .
الفوائد :
تحريم سفر المرأة من غير محرم .
وقد وردت روايات كثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مطلقة ومقيدة :
ففي حديث ابن عمر : ( لا تسافر المرأة ثلاثاً ... ) .
وفي حديث أبي سعيد : ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تسافر المرأة مسيرة يومين ... ) .
وفي حديث أبي هريرة : ( لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ... ) .(4/54)
فهذه الأحاديث كلها أفادت حرمة سفر المرأة من غير محرم ، وأما بالنسبة لاختلاف الروايات فقد قال العلماء : ” اختلاف هذه الألفاظ لاختلاف السائلين واختلاف المواطن ، وليس في النهي عن الثلاثة تصريح بإباحة اليوم والليلة “ .
وقد اختلف العلماء في مقدار السفر التي لا يجوز للمرأة أن تسافر فيها ، إلا إذا كان معها زوجها أو محرم لها :
فقيل : لا يجوز أن تسافر مطلقاً كان السفر قريباً أو بعيداً إلا بمحرم .
وهذا مذهب الظاهرية .
لحديث ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ، ولا تسافر إلا مع ذي محرم ، فقام رجل فقال : يا رسول الله ، إن امرأتي خرجت حاجة ، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا ، فقال : انطلق فحج مع امرأتك ) متفق عليه
وقيل : يجوز لها أن تسافر فيما دون اليوم بلا محرم .
وهذا مذهب الأوزاعي ومالك والشافعي .
لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم ) . رواه مسلم
وقيل : ليس لها أن تسافر مسافة ثلاثة أيام فصاعداً إلا مع محرم .
لحديث ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تسافر المرأة ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم ) .
والراجح القول الأول ، وهو أنه لا يجوز أن تسافر مطلقاً بدون محرم .
بالنسبة للسفر للحج ، فقد اختلف العلماء :
فذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز أن تسافر للحج مع النساء الثقات .
وهذا مذهب الشافعية .
لما رواه البخاري معلقاً : ( أن عمر أذن لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر حجة حجها وبعث معهن عثمان وعبد الرحمن بن عوف )
ومعلوم أن عثمان وعبد الرحمن لم يكونا محرمين لهن .
وقيل : لا يجوز إلا بمحرم حتى للحج .
وهذا مذهب سفيان والثوري والحسن وأحمد . وهذا القول هو الصحيح .
لحديث ابن عباس : ( ... انطلق فحج مع ارمأتك ) .(4/55)
فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل هل معها نساء أم لا ، أو صغيرة أو كبيرة ، أو آمنة أو غير آمنة .
المحرم : ضابط المحرم الذي يجوز السفر معه والخلوة به : هو زوجها أو من ترحم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح .
( على التأبيد ) احترازاً من أخت الزوجة وعمتها وخالتها .
( بنسب ) كالأب ، والابن ، والأخ ، والعم ، وابن الأخ ، .... إلخ .
( مباح ) كالرضاع : الأب من الرضاع ، والأخ من الرضاع ... إلخ .
والمحرم بالمصاهرة : أبو زوجها ، ابن زوجها ، زوج أم المرأة ، زوج بنت المرأة .
شروط المحرم :
أن يكون مسلماً ، فأما إن كان كافراً فليس بمحرم .
أما الأب الكافر فإنه محرم لابنته المسلمة بشرط أن يؤمن .
بالغاً ، فالصغير لا يكفي أن يكون محرماً ، لأن المقصود من المحرم حماية المرأة وصيانتها ، ومن دون البلوغ لا يحصل فيه ذلك .
عاقلاً ، فالمجنون لا يصح أن يكون محرماً ، لأنه لا يحصل للمجنون حماية للمرأة وصيانتها .
( لا يشترط أن يكون سميعاً ، لأن البصر يكفي في الحماية ) .
هل يجب على الزوج أن يحج مع زوجته ؟قولان :
قيل : يجب إذا لم يكن لها غيره .
لحديث ابن عباس : ( انطلق فحج مع امرأتك ) .
قال ابن حزم : ” ففرض عليه أن يحج معها “ .
وقيل : لا يلزمه ، وهذا القول أقوى .
وأما حديث : ( انطلق ... ) فهنا أمره بالحج مع امرأته ، لأن المرأة قد شرعت في السفر ، ولا طريق إلى الخلاص من ذلك إلا أن يسافر معها .
لكن ليس للزوج أن يمنعها عن حج فرض باتفاق العلماء .
يرخص في سفر المرأة بدون محرم في حالات متفق عليها :
الكافرة تسلم في دار الحرب ، فيجوز أن تسافر لوحدها لدار المسلمين .
الأسيرة تخلصت من الكفار ، فلها أن تسافر لوحدها .
المرأة إذا نقطعت من الرفقة ، فلها أن تسافر لوحدها .
أن الحج لا يجب على المرأة إذا لم يكن لها محرم .
بابُ الفِدْيَةِ(4/56)
218- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ قَالَ : (( جَلَسْتُ إلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ . فَسَأَلَتْهُ عَنِ الْفِدْيَةِ ؟ فَقَالَ : نَزَلَتْ فِي خَاصَّةً . وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً . حُمِلْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي . فَقَالَ : مَا كُنْتُ أُرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى – أَوْ مَا كُنْتُ أُرَى الْجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى – أَتَجِدُ شَاةً ؟ فَقُلْتُ : لا . فَقَالَ : صُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ , أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ , لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ )) .
وَفِي رِوَايَةٍ : (( فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُطْعِمَ فَرَقاً بَيْنَ سِتَّةٍ , أَوْ يُهْدِيَ شَاةً , أَوْ يَصُومَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ )) .
------------------------------------------
معاني الكلمات :
كعب بن عجرة : بن أمية القضاعي ، حليف الأنصار ، شهد الحديبية ، مات سنة 51 ه .
أُرى : بالضم ، أي أظن .
الفوائد :
الحديث يدل على أن من كان به أذى من رأسه لقمل أو نحوه ، فإنه يحلق شعره ولا إثم عليه ، لأنه حلقه لعذر ، لكن عليه الفدية .
وفاعل المحظور له ثلاثة أحوال :
أولاً : أن يفعل المحظور عالماً متعمداً ذاكراً غير معذور .
فهذا آثم وعليه الفدية .
ثانياً : أن يفعله عالماً مختاراً ذاكراً معذوراً .
فهذا عليه الفدية ولا إثم عليه ، لحديث الباب .
فلوا احتاج الإنسان إلى تغطية رأسه من أجل برد أو حر يخاف منه ، جاز له تغطيته وعليه الفدية .
ثالثاً : أن يفعله معذوراً بجهل أو نسيان .
فهذا لا شيء عليه ، لأنه جاهل أو ناسي .
أن من حلق رأسه لعذر المرض أو غيره ، فإن عليه الفدية ، وهي :
قال تعالى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } . ( البقرة: من الآية196)(4/57)
وقد جاءت السنة بتوضيح هذه الآية :
( صيام ) وضحته السنة أنه ثلاثة أيام .
( أو صدقة ) وضحته السنة أنه إطعام ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع .
( أو نسك ) وضحته السنة أن النسك شاة .
وهذه الفدية هي فدية حلق الرأس ، وتقليم الأظافر ، وقص الشارب ، والطيب ، ولبس المخيط ، والمباشرة ، ولبس القفازين للمرأة .
ألحق جماهير العلماء جميع المحظورات بحلق الرأس ، فأوجبوا الفدية على كل من عمل محظوراً .
أن هذه الفدية على التخيير .
ظاهر الحديث أنه يخرج نصف صاع سواء كانت الفدية من البر أو غيره ، وهذا مذهب جماهير العلماء .
أن السنة مفسرة للقرآن .
قال ابن القيم : ” يجوز للمحرم أن يمشط رأسه ، ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع على منعه من ذلك ولا تحريمه “.
محظورات الإحرام :
أولاً : لبس المخيط .
وسبق ، والمراد به ما خيط على قدر البدن أو على جزء منه أو عضو من أعضائه .
ثانياً : حلق الشعر .
وأحلق به جمهور العلماء بقية شعر الجسد ، لحديث الباب .
ثالثاً : تقليم الأظافر .
قال في الشرح : ” أجمع العلماء على أن المحرم ممنوع من تقليم أظافره إلا من عذر ، لأن إزالة جزء من بدنه يترفه به أشبه الشعر “ .
وقياساً على شعر الرأس .
رابعاً : تغطية الرأس بملاصق .
قال في الشرح : ” أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من تغطية رأسه “ .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ... ولا تخمروا رأسه ... ) .
وللحديث الذي سبق : ( لا يلبس المحرم العمائم ) .
خامساً : الطيب .
قال في الشرح : ” أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من الطيب “ .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ... ولا تمسوه بطيب ... ) .
والطيب يشمل الطيب في رأسه وفي لحيته وفي ثوبه .
سادساً : عقد النكاح .
يحرم على المحرم ولا يصح ، ولا فدية فيه .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب ) . رواه مسلم
سابعاً : الجماع في الفرج .
وهو أشدها ، وهو محرم بنص القرآن :(4/58)
قال تعالى : { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } . (البقرة: من الآية197)
( الرفث ) الجماع في الفرج .
وإذا وقع قبل التحلل الأول فإنه يفسد الحج .
ثامناً : المباشرة في الفرج .
وفيه الإثم فقط .
تاسعاً : قتل الصيد .
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } . (المائدة: من الآية95)
وقال تعالى : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً } . (المائدة: من الآية96)
والصيد المحرم ما جمع ثلاثة أشياء :
أن يكون مأكولاً .
أن يكون برياً ، فأما صيد البحر فلا يحرم على المحرم بغير خلاف ، قال تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً } . (المائدة: من الآية96)
أن يكون وحشياً ، فما ليس بوحشي لا يحرم على المحرم أكله ولا ذبحه ، كبهيمة الأنعام والخيل والدجاج .
أمثلة للصيد المحرم على المحرم :
الحمام – الضبع – الجراد .
بابُ حرمة مكةَ(4/59)
219 - عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ - خُوَيْلِدِ بْنِ عَمْرٍو - الْخُزَاعِيِّ الْعَدَوِيِّ رضي الله عنه : أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ - وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إلَى مَكَّةَ - ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الأَمِيرُ أَنْ أُحَدِّثَكَ قَوْلاً قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ . فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ ، وَوَعَاهُ قَلْبِي ، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ , حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ : (( أَنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ . ثُمَّ قَالَ : إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى , وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ . فَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ : أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَماً , وَلا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً . فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُولُوا : إنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ , وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ . وَإِنَّمَا أُذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ . وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ . فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ . فَقِيلَ لأَبِي شُرَيْحٍ : مَا قَالَ لَكَ ؟ قَالَ : أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ ، إنَّ الْحَرَمَ لا يُعِيذُ عَاصِياً , وَلا فَارَّاً بِدَمٍ وَلا فَارَّاً بِخَرْبَةٍ )) .
-----------------------------------
معاني الكلمات :
عن أبي شريح : اسمه خويلد بن عمرو الخزاعي كما قال المصنف ، وقيل غير ذلك ، أسلم قبل الفتح ، وسكن المدينة ومات بها سنة : 68 .
عمرو بن سعيد : أي ابن أبي العاص بن سعيد بن العاص بن أمية المعروف بالأشدق .
يبعث البعوث إلى مكة : جاء عند أحمد ( لما بعث عمرو بن سعيد إلى مكة بعثه لغزو ابن الزبير أتاه أبو شريح فكلمه وأخبره بما سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) .(4/60)
قال الحافظ ابن حجر : ” وذكرنا أن عمرو بن سعيد كان أميراً على المدينة من قبل يزيد بن معاوية وأنه جهز إلى مكة جيشاً لغزو عبد الله بن الزبير بمكة “ .
يبعث البعوث : جمع بعث ، والمراد به الجيش المجهز للقتال .
لا يعضد بها : أي لا يقطع .
لا يعيذ : لا يجير ولا يعصم .
فاراً : هارباً .
الفوائد :
هذا الحديث ذكره المصنف في كتاب الحج ، ليبين شرف مكة وحرمتها ، لأن من يريد الحج أو العمرة لا بد له من دخول مكة .
قوله ( ائذن لي أيها الأمير ) فيد حسن التلطف في مخاطبة السلطان ليكون أدعى لقبولهم النصيحة ، وأن السلطان لا يخاطب إلا بعد استئذانه ولا سيما إذا كان في أمر يعترض به عليه .
قوله ( سمعته أذناي ) فيه إشارة إلى بيان حفظه له من جميع الوجوه ، فقوله ( سمعته ) أي حملته عنه بغير واسطة ، وذكر الأذنين للتأكيد ، وقوله ( ووعاه قلبي ) تحقيق لفهمه وتثبته ، وقوله ( وأبصرته عيناي ) زيادة في تحقيق ذلك وأن سماعه منه ليس اعتماداً على الصوت فقط بل مع المشاهدة .
قوله ( إنه حمد الله وأثنى عليه ) دليل على أنه يستحب للخطيب أن يبدأ جميع خطبه بحمد الله ، سواء كانت خطبة استسقاء أو عيد أو غيرهما .
استحباب الثناء على الله بين يدي تعليم العلم وتبين الأحكام .
قوله ( إن الله حرم مكة ) أي حكم بتحريمها وقضاه . وقوله ( مكة ) المراد بها المسجد الحرام وما جاوره من البيوت إلى حدود الحرم ، ويقال لها ( بكة ) لأنها تبك رقاب الجبابرة ، فما قصدها جبار إلا قصمه الله .
قوله ( ولم يحرمها الناس ) قيل : المراد أن تحريمها ثابت بالشرع لا مدخل للعقل فيه ، أو أن المراد إنها من محرمات الله فيجب امتثال ذلك ، وليس من محرمات الناس يعني في الجاهلية كما حرموا أشياء من عند أنفسهم فلا يسوغ الاجتهاد في تركه وقيل : معناه أن حرمتها مستمرة من أول الخلق وليس مما اختصت به شريعة النبي - صلى الله عليه وسلم - .(4/61)
قوله ( فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر ) قال ابن دقيق العيد : ” الذي أراه أنه من خطاب التهييج ، نحو قوله تعالى { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } فالمعنى أن استحلال هذا المنهي عنه لا يليق بمن يؤمن بالله واليوم الآخر بل ينافيه ، فهذا هو المقتضي لذكر هذا الوصف “ .
قوله ( لا يحل .. أن يسفك بها دماً ) فيه دليل على تحريم سفك الدماء بمكة .
وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن من أصاب حداً داخل الحرم أقيم الحد عليه ، نقل ذلك القرطبي عن ابن العربي ولفظه : والجمهور من العلماء على أن الحدود تقام في الحرم ، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة .
واختلف العلماء فيمن قتل رجلاً ثم فر هارباً إلى الحرم على قولين :
القول الأول : لا يقتل بالحرم حتى يخرج من الحل باختياره ، لكن لا يجالس ولا يكلم ، ويوعظ ويذكر حتى يخرج .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
القول الثاني : أنه يقام بها الحد مطلقاً .
قال ابن حجر : ” وهذا مذهب مالك والشافعي “ .
لعموم النصوص التي تدل على أن القاتل بغير حق يقتل . قال تعالى { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس .. ) فأخبر أن النفس تقتل بالنفس دون تفصيل .
ولأن العاصي هتك حرمة نفسه فأبطل ما جعل الله له من الأمن .
وهذا القول هو الصحيح .
قوله ( ولا يعضد بها شجرة ) دليل على تحريم قطع شجر مكة ، والشجر له حالتان :
الحالة الأولى : أن يكون نابتاً في الحرم من أصله .
فهذا لا يجوز قطعه ولا قلعه إلا ما استثناه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الإذخر كما سيأتي .
الحالة الثانية : أن يكون الشجر قد أنبته الآدمي بفعله .
فهذا يجوز قطعه وهو مذهب جمهور العلماء .
واختلف هل في قطع شجر مكة جزاء أم لا على قولين :
القول الأول : فيه الجزاء .
لوروده عن بعض السلف .(4/62)
القول الثاني : لا جزاء فيه .
وهذا مذهب مالك وابن المنذر .
وهذا هو الصحيح ، لكنه آثم بلا شك .
قوله ( فإن ترخص أحد بقتال رسول الله ... وإنما أذن لرسوله ساعة من نهار ) وهذه الساعة ما بين طلوع الشمس وصلاة العصر ، كما جاء في مسند الإمام أحمد .
قوله ( ليبلغ الشاهد الغائب ) الشاهد الحاضر ، أي ليبلغ من حضر وسمع من لم يحضر .
قوله عمرو ( أنا أعلم بذلك منك يا شريح ، إن الحرم لا يعيذ عاصياً ) قال ابن حزم : ” لا كرامة للطيم الشيطان يكون أعلم من صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - “ .
قال ابن حجر : ” وقد أغرب ابن بطال فزعم أن سكوت أبي شريْح عن جواب عمرو بن سعيد دال على أنه رجع إليه في التفصيل المذكور ، ويعكر عليه ما وقع في رواية أحمد أنه قال في آخره ( قال أبو شريح : فقلت لعمرو : قد كنتُ شاهداً وكنتَ غائباً ، وقد أمرنا أن يبلغ شاهدنا غائبنا ، وقد بلغتك ) فهذا يشعر بأنه لم يوافقه ، وإنما ترك مشاققته لعجزه عنه لما كان فيه من قوة الشوكة “ .
جواز إخبار الإنسان عن نفسه بما يقتضي ثقته وضبطه لما سمعه ونحو ذلك .
إنكار العالم على الحاكم ما يغيره من أمر الدين والموعظة بلطف وتدرج .
الاقتصار بالإنكار على اللسان إذا لم يستطع باليد .
جواز المجادلة في الأمور الدينية .(4/63)
220 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ – (( لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ , وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ . وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا , وَقَالَ : يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ : إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ . فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأَحَدٍ قَبْلِي , وَلَمْ يَحِلَّ لِي إلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ , وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ , وَلا يَلْتَقِطُ لُقْطَتَهُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا . وَلا يُخْتَلَى خَلاهُ . فَقَالَ الْعَبَّاسُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إلاَّ الإِذْخِرَ . فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ . فَقَالَ : إلاَّ الإِذْخِرَ )) .
------------------------------------------
معاني الكلمات :
يوم فتح مكة : وكان عام : 8 ه .
الهجرة : الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام .
بعد الفتح : أي فتح مكة .
وإذا استنفرتم : طلب منكم النفير والخروج .
لا يعضد شوكه : أي لا يقطع شوكه ، وجاء في رواية : ولا يعضد شجره .
ولا ينفر صيده : أي لا يُزعج .
ولا يختلى خلاه : أي لا يحش حشيشه .
الإذخر : نبت معروف عند أهل مكة ، طيب الرائحة .
الفوائد :
قوله ( لا هجرة بعد الفتح ) قال النووي في تأويل هذا الحديث قولان :
” أحدهما : لا هجرة بعد الفتح من مكة ، لأنها صارت دار إسلام .
والثاني : معناه لا هجرة بعد الفتح فضلها كفضل قبل الفتح “ .(4/64)
والسبب في قول ذلك : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من فتح مكة ، جاءه رجل فقال يا رسول الله : أبايعك على الهجرة ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد نية .
وليس المراد نفي الهجرة ، بل الهجرة باقية كما قال - صلى الله عليه وسلم - ( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، ولا تنقطع التوبة حتى تخرج الشمس من مغربها ) رواه أبو داود .
والهجرة تكون واجبة : إذا لم يستطع الإنسان أن يقيم دينه ويخشى على دينه فيجب أن يهاجر .
وتكون مستحبة : إذا كان يستطيع أن يظهر دينه ولا يخشى عليه ، فهنا لا تجب عليه لكن الأفضل أن يهاجر حتى يسلم من رؤية المنكرات والمحرمات .
قال الحافظ ابن حجر : ” في الحديث بشارة من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن مكة تستمر دار إسلام “ .
قوله ( ولكن جهاد ونية ) المعنى أن وجوب الهجرة من مكة قد انقطع بفتحها إذ صارت دار إسلام ، ولكن بقي وجوب الجهاد على حاله عند الاحتياج إليه ، ونية صالحة لزيارة أقارب أو طلب علم أو نحو ذلك من الطاعات .
قوله ( وإذا استنفرتم فانفروا ) أي إذا دعيتم إلى الجهاد ، واستنفركم الإمام فأجيبوا .
وهذه أحد الحالات التي يكون فيها الجهاد فرض عين :
الحالة الأولى : إذا استنفر الإمام .
كما في حديث الباب .
الحالة الثانية : إذا حضر الصف .
قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ . وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } . } .
الحالة الثالثة : إذا حضر بلده العدو ، أي جاء العدو حتى وصل البلد .
قوله ( فإن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات ) وجاء في حديث أنس ( إن إبراهيم حرم مكة ) .(4/65)
لأن المعنى أن إبراهيم حرم مكة بأمر الله تعالى لا باجتهاده ، أو أن الله قضى يوم خلق السموات والأرض أن إبراهيم سيحرم مكة ، أو أن المعنى أن إبراهيم هو أول من أظهر تحريمها بين الناس ، وكانت قبل ذلك عند الله حراماً .
قوله ( لا يعضد شوكه ) أي لا يحل قطع الشجر فيه ، وسبق البحث فيه .
قوله ( ولا ينفر صيده ) قال الحافظ ابن حجر : ” قال النووي : يحرم التنفير – وهو الإزعاج – عن موضعه ، فإن نفره عصى سواء تلف أو لا “ .
قوله ( ولا يلتقط لقطته ) وجاء في حديث ( ولا تحل إلا لمنشد ) ، فلقطة الحرم لا تحل إلا لمن يريد أن ينشدها على الدوام فمن أخذها للتملك بعد الإنشاد فهذا حرام .
فلقطة الحرم لها ثلاث أحوال :
الحالة الأولى : أن يأخذها للتملك من الآن ، فهذا حرام .
الحالة الثانية : أن يأخذها للتملك بعد الإنشاد ، فهذا حرام .
الحالة الثالثة : أن يأخذها للإنشاد على الدوام ، فهذا جائز .
قوله ( ولا يختلى خلاه ) الخلاء : الرطب من النبات ، واختلاؤه قطعه واحتشاشه ، فيحرم قطع واحتشاش الحشيش الرطب .
قوله ( إلا الإذخر ) قال الحافظ ابن حجر : ” وأهل مكة يسقفون به البيوت بين الخشب ، ويسدون به الخلل بين اللبنات في القبور ، ويستعملونه بدلاً من الحلفاء في الوقود ، ولهذا قال العباس ( فإنه لقيْنهم ) وهو بفتح القاف أي الحداد “ .
عظيم حركة مكة .
جواز مراجعة العالم في المصالح الشرعية .
عظيم منزلة العباس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - .
رفع وجوب الهجرة عن مكة إلى المدينة ، وإبقاء حكمها من بلاد الكفر إلى يوم القيامة .
بابُ ما يجوزُ قتلُهُ
221 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : (( خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ , يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ : الْغُرَابُ , وَالْحِدَأَةُ , وَالْعَقْرَبُ , وَالْفَأْرَةُ , وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ )) .(4/66)
وَلِمُسْلِمٍ : (( يُقْتَلُ خَمْسٌ فَوَاسِقُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ )) .
------------------------------------------
معاني الكلمات :
خمس : ذكر الخمس يفيد نفي الحكم عن غيرها ، لكنه ليس بحجة عند الأكثر ، وعلى تقدير اعتباره فيمكن أن يكون قاله - صلى الله عليه وسلم - أولاً ، ثم بين الحكم بعد ذلك أن غير الخمس تشترك معها في هذا الحكم .
فقد ورد زيادة : ( الحية ) وهي سادسة كما في حديث ابن عمر عن الصعب وابن مسعود عند مسلم .
فواسق : قال النووي : ” تسمية هذه الخمس فواسق تسمية صحيحة جارية على وفق اللغة ، فإن أصل الفسق لغة الخروج ومنه فسقت الرضية إذا خرجت عن قشرها ، فوصفت عن غيرها لخروجها عن حكم غيرها من الحيوان في تحريم قتله أو حل أكله أو خروجها بالإيذاء أو الفساد “ .
وسمي الرجل الفاسق ، لخروجه عن أمر الله وطاعته .
العقرب : دويبة ذات سم تلسع .
الحدأة : طائر معروف يختطف الأموال الثمينة .
الغراب : هذا مطلق أياً كان لونه ، وذهب بعض العلماء إلى تقييده بما جاء عند مسلم عن عائشة بفظ : ( الأبقع ) وهو الذي في ظهره أو بطنه بياض .
فحمل الإمام ابن خزيمة المطلق على المقيد ، وقال : ” لا يقتل إلا الغراب الأبقع “ .
لكن قال ابن قدامة : ” الروايات المطلقة أصح “ .
وقد اعتذر ابن بطال وابن عبد البر عن قبول هذه الروايات بأنها لم تصح ، لأنها من رواية قتادة وهو مدلس .
لكن الحافظ تعقب ذلك ، بأن شعبة لا يروي عن شيوخه المدلسين إلا ما هو مسموع لهم ، وهذه الزيادة من رواية شعبة ، بل صرح النسائي بسماع قتادة .
الفوائد :
جواز قتل الخمسة المذكورة في الحل والحرم ، وهو موضع اتفاق بين العلماء .
واختلف العلماء هل يتعدى القتل إلى غيرها من المؤذيات أم لا ؟
فقيل : لا يتعدى إلى غيرها .
هذا مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر ، لأنها هي التي وردت في النص .
وقيل : بل يتعدى إلى غيرها من كل مؤذ .(4/67)
وهذا مذهب جمهور العلماء ، وأن ما جاء في الحديث على سبيل المثال .
قال ابن القيم : ” إنما اختصت هذه بالذكر ، لينبه على ما يف معناها ، وأنواع الأذى مختلفة ، فيكون ذكر نوع منها منبهاً على جواز قتل ما فيه ذلك من النوع ... “ .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ” والتنبيه بهذه الأمثلة يدل على أن ما كان مثلها في الحكم وما كان أشد منها فهو أولى منها بالحكم ، ولهذا أخذوا قاعدة من ذلك ، وقالوا : يسن قتل كل مؤذٍ “ .
مشروعية قتل كل ما فيه أذية من الحيوانات : كالذئب ، والأسد ، والفهد ، والنمر .
استدل بالحديث على تحريم أكل المذكورات في الحديث ، لأن ما أمر بقتله فإنه يحرم أكله .
أقسام الحيوانات من حيث القتل وعدمه :
قسم أمر بقتله .
مثل الخمس في حديث الباب ، ومثل الوزغ .
قسم منهي عنه .
النملة ، والنحلة ، والهدهد ، والصرد .
قسم سكت عنه .
كالذباب ، والصراصير ، والجعلان .
فهذه إن أذت قتلت ، وإن لم تؤذ : فقيل : يجوز قتلها ، وقيل : يكره ، وهذا الأقرب .
لأن الله خلقها لحكمة ، فلا ينبغي أن تقتل .
بابُ دخولِ مكةَ وغيرِهِ
222- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ , وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ : اُقْتُلُوهُ )) .
------------------------------------------
معاني الكلمات :
المِغْفَرُ : زيادة في الدرع تغطي الرأس ، أو حلقة من حديد متشابكة تجعل على الرأس لتبقى به السهام .
ابن خطل : هو عبد العزى بن خطل ، بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصدقة فقتل مولى كان معه يخدمه ، ثم ارتدّ مشركاً واتخذ قينتين تغنيان بهجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - .
الفوائد :(4/68)
جواز دخول مكة بدون إحرام لمن يرد الحج أو العمرة ، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة :
القول الأول : لا يجوز دخولها مطلقاً إلا بإحرام ، إلا للمترددين عليها كثيراً كالحطابين .
وهذا قول المالكية والحنابلة .
لما رواه البيهقي عن ابن عباس أنه قال : ( لا يدخل مكة أحد من أهلها إلا بإحرام ) .
قال الحافظ ابن حجر : ” رواه البيهقي وإسناده جيد “ .
وقالوا : إن دخول مكة بغير إحرام مناف للتعظيم اللازم لها .
القول الثاني : يجوز دخولها بغير إحرام لمن لم يرد نسكاً .
وهذا قول الشافعية .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ... ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة ) .
فمفهومه أن من لم يرد الحج والعمرة لا إحرام عليه ولو دخل مكة .
ولحديث الباب : حيث أنه - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر ... فهذا دليل على أنه دخل مكة بغير إحرام .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( يا أيها الناس ، إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا ، فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قالها ثلاثاً ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لو قلت نعم لوجبت ، ولما استطعتم ) . رواه مسلم
وفي رواية : ( الحج مرة ، وما زاد فهو تطوع ) .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : ” قوله : ( مرة ) دليل على أنه من مرّ بالميقات ، وقد أدى الفريضة من قبل ، فإنه لا يلزمه الإحرام ، وإن بَعُدَ مجيئه إلى مكة ، لأن الحج يجب مرة واحدة ، ولو أزمناه بالإحرام لألزمناه بزائد عن المرة ، وهذا خلاف النص “ .
وهذا القول هو الصحيح .
فائدة :
قال الشنقيطي رحمه الله : ” وأما قول من قال من المالكية وغيرهم ، أن دخول مكة بغير إحرام من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - ، فهو لا تنهض به حجة ، لأن المقرر أن فعله - صلى الله عليه وسلم - لا يختص حكمه إلا بدليل يجب الرجوع إليه “ .(4/69)
اختلف العلماء في إقامة الحدود في مكة على قولين :
فقيل : يحرم ويضيق عليه حتى يخرج .
لقوله تعالى : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } . (آل عمران: من الآية97)
وقيل : يجوز .
وهذا مذهب مالك والشافعي .
لعموم النصوص الدالة على استيفاء الحدود بالقصاص في كل زمان ومكان .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ، وهذا القول هو الصحيح .
الأخذ بأسباب الوقاية ، وأنه لا ينافي التوكل .
وقد ظاهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين درعين يوم أحد ، ولم يحضر الصف قط عرياناً ، واستأجر دليلاً مشركاً على دين قومه يدله على طريق الهجرة ، وكان يدخر لأهله قوت سنة – وهو سيد المتوكلين – وكان إذا سافر في جهاد أو حج أو عمرة ، حمل الزاد والمزاد .
عظم الكعبة وحرمها في النفوس .
223 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ , مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي بِالْبَطْحَاءِ , وَخَرَجَ مِنْ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى )) .
------------------------------------------
معاني الكلمات :
كدا : بفتح الكاف والمد ، جبل بأعلى مكة .
الثنية : الطريق المرتفع قليلاً بين جبلين .
الفوائد :
في هذا الحديث يخبر ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة من أعلاها ، وخرج من أسفلها .
وقد اختلف العلماء هل هذا يعتبر سنة أو أنه أيسر ؟ على قولين :
القول الأول : أنه سنة .
وهذا قول الأكثر .
لحديث الباب .
ولأنه خالف في خروجه فكان دخوله من أعلاها مقصوداً .
ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - في الاجتماعات العامة كالعيد ونحوه ، يخرج من طريق ويرجع من طريق .
القول الثاني : يسن الدخول من أعلاها إذا كانت في طريقه ، وإذا لم تكن في طريقه فلا يسن يقصدها .(4/70)
اختلف العلماء في المعنى الذي لأجله خالف النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الطريقين :
فقيل : ليتبرك به كل من في طريقه .
وقيل : الحكمة في ذلك لمناسبة العلو عند الدخول ، لما فيه من تعظيم المكان ، وعكسه الإشارة على فراقه .
وقيل : لأن إبراهيم لما دخل مكة دخل منها .
وقيل : لأن من جاء من تلك الجهة كان مستقبلاً للبيت .
224 – عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : (( دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْبَيْتَ , وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلالٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ , فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ فَلَمَّا فَتَحُوا : كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ . فَلَقِيتُ بِلالاً , فَسَأَلَتْهُ : هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قَالَ : نَعَمْ , بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ )) .
------------------------------------------
معاني الكلمات :
دخل : أي عام الفتح .
الفوائد :
استحباب دخول الكعبة المشرفة والصلاة فيها .
وهذا الدخول كان في عام الفتح لا في حجة الوداع ، كما في رواية : ( أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح ... ) .
ذهب بعض الفقهاء إلى أن دخول الكعبة من سنن الحج ، وهذا غلط .
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدخل البيت في الحج .
وقد قال ابن عباس : ( يا أيها الناس ، إن دخولكم البيت ليس في حجكم من شيء ) . رواه ابن أبي شيبة
وجاء عند البخاري تعليقاً : ( وكان ابن عمر يحج كثيراً ولا يدخل ) .
قال الحافظ ابن حجر : ” كأنه – أي البخاري – أشار بهذه الترجمة إلى الرد على من زعم أن دخولها من مناسك الحج ، واقتصر المصنف – أي البخاري – على الاحتجاج بفعل ابن عمر لأنه أشهر من روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخول الكعبة ، فلو كان دخولها من المناسك لما أخل به مع كثرة اتباعه “ .(4/71)
جواز صلاة النافلة في الكعبة ، واختلف العلماء في الفريضة على قولين :
القول الأول : لا تصح الفريضة في الكعبة .
وهذا مذهب مالك وأحمد .
لقوله تعالى : { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } . (البقرة: من الآية144)
أن المصلي فيها أو على ظهرها غير مستقبل لجهتها ، وأما النافلة مبناها على التخفيف .
ورجح هذا القول ابن تيمية في الاختيارات .
القول الثاني : تصح الفريضة داخل الكعبة .
وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي ، قالوا :
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى فيها ، وما ثبت في النفل ثبت في الفرض فلا فرق إلا بدليل ولا دليل .
وهذا القول هو الصحيح .
225 – عَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه - (( أَنَّهُ جَاءَ إلَى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ , فَقَبَّلَهُ . وَقَالَ : إنِّي لأَعْلَمُ أَنَّك حَجَرٌ , لا تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ , وَلَوْلا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ )) .
227- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : (( رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ إذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الأَسْوَدَ - أَوَّلَ مَا يَطُوفُ - يَخُبُّ ثَلاثَةَ أَشْوَاطٍ )) .
228 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : (( طَافَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ , يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ )) .
229 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : (( لَمْ أَرَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَلِمُ مِنْ الْبَيْتِ إلاَّ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ )) .
------------------------------------------
معاني الكلمات :
الحجر الأسود : حجر في ركن الكعبة الشرقي معروف .
محجن : عصا محنية الرأس يحملها الراكب ليوجه بها راحلته .(4/72)
اليمانيين : اللذين من جهة اليمن ، وهما : الحجر الأسود ، والركن اليماني .
الفوائد :
مشروعية تقبيل الحجر الأسود واستلامه ، وله حالات :
الأولى : أن يستلم الحجر ويقبله ، وهذا أعلاها .
لحديث الباب : حديث عمر ، وابن عمر .
الثانية : إن لم يتمكن استلمه بيده وقبّل يده .
عن نافع قال : ( رأيت ابن عمر استلم الحجر بيده ثم قبّل يده ، وقال : ما تركته منذ رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله ) . متفق عليه
الثالثة : أن يستلمه بشيء في يده ، ويقبّل ذلك الشيء .
عن عامر بن واثلة قال : ( رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف بالبيت ويستلم الحجر بمحجن معه ويقبّل المحجن ) . رواه مسلم
الرابعة : إن لم يستطع أشار إليه واكتفى بذلك .
أن مشروعية تقبيل الحجر واستلامه تعظيماً لله واتباعاً للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، لا لكونه حجر ، وبهذا نعرف أن ما يفعله بعض الجهال من أنه يمسح يده بالحجر الأسود ، ثم يمسح بها بدنه تبركاً ، أن هذا من البدع .
في استلام الحجر الأسود فضل عظيم .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( ليبعثنّ الله الحجر الأسود يوم القيامة وله عينان يبصر بهما ، ولسان ينطق به ، ويشهد على من استلمه بحق ) .
…………………………………رواه الترمذي
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن استلام الركنين يحطان الذنوب ) . رواه أحمد
أن مشروعية تقبيل واستلام الحجر الأسود مشروط بعدم إيذاء الناس بالمزاحمة ومدافعته ، فإنه في هذه الحالة ترك الاستلام أفضل .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( يا عمر ، إنك رجل قوي ، فلا تؤذِ الضعيف ، وإذا أردت استلام الحجر ، فإن خلا لك وإلا فاستقبله وكبر ) .
…………………………………رواه أحمد
السنة أن يكبر كلما حاذى الحجر اقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - .
للحديث السابق .
ولحديث ابن عباس قال : (طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بعير ، كلما أتى على الركن أشار إليه بشيء في يده وكبر ).رواه البخاري(4/73)
والتكبير يكون مرة واحدة .
يقتصر بالإشارة على اليد اليمنى دون اليدين معاً .
مشروعية استلام الركن اليماني .
قال ابن قدامة : ” الركن اليماني قبلة أهل اليمن ، ويلي الركن الذي فيه الحجر الأسود ، وهو آخر ما يمرّ عليه من الأركان في طوافه “ .
أحوال استلام الركن اليماني :
مسحه باليد اليمنى ، فإن لم يستطع فلا يشير إليه ولا يفعل شيئاً عنده .
أنه لا يشرع استلام غير الركنين اليمانيين من أركان الكعبة .
قال النووي : ” أجمعت الأمة على استحباب استلام الركنين اليمانيين ، واتفق الجماهير على أنه لا يمسح الركنين الآخرين “ .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ” وأما سائر جوانب البيت ، ومقام إبراهيم ، وحجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومقابر الأنبياء والصالحين ، وصخرة بيت المقدس ، فالطواف بها واستلامها وتقبيلها من أعظم البدع المحرمة باتفاق الأئمة الأربعة “ .
قال النووي في شرح مسلم عن حديث عمر : ( إنك لا تضر ولا تنفع ) قال : ” وإنما قال : ( لا تضر ولا تنفع ) لئلا يغتر بعض قريبي العهد بالإسلام الذين ألفوا عبادة الأحجار وتعظيمها رجاء نفعها وخوف الضرر بالتقصير في تعظيمها ، فخاف عمر أن يراه بعضهم يقبله ويعني به ، فتشتبه عليه ، فبيّن له أنه حجر مخلوق كباقي المخلوقات التي لا تضر ولا تنفع وأشاع عمر هذا في الموسم ليشهد في البلدان ، ويحفظ عنه أهل الموسم “ .
قوله : ( اليمانيان ) هما : الركن الأسود ، والركن اليماني .
وإنما قيل لهما اليمانيان للتغليب ، كما قيل في الأب والأم : ( الأبوان ) ، وفي الشمس والقمر : ( القمران ) ، وفي أبي بكر وعمر : ( العمران ) ، وفي الماء والتمر : ( الأسودان ) .
يؤخذ من كلام عمر أصل شرعي عظيم ، وهو أن الأصل في العبادات الحظر والمنع ، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله ورسوله ، فلا مجال للرأي والاستحسان في ذلك .(4/74)
226 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : (( لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ . فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ : إنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ . فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ الثَّلاثَةَ , وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ , وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّهَا : إلاَّ الإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ )) .
------------------------------------------
معاني الكلمات :
وهنتهم : أضعفتهم .
حمى يثرب : هو اسم المدينة في الجاهلية ، وسميت في الإسلام : المدينة ، وطيبة ، وطابة .
يرملوا : الرمل إسراع المشي مع تقارب الخطى .
الفوائد :
استحباب الرمل في الأشواط الأولى من طواف القدوم .
قال في المغني : ” وهو سنة في الأشواط الأولى من طواف القدوم ، ولا نعلم فيه بين أهل العلم اختلافاً ، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رمل ثلاثاً ، ومشى أربعاً “ . متفق عليه
الحكمة منه :
كما في حديث الباب : هو إظهار القوة وإظهار الجلد للمشركين .
فإن قيل : ما الحكمة في الرمل بعد زوال علته التي شرع من أجلها ؟
الجواب : أن بقاء حكم الرمل مع زوال علته ، لا ينافي أن لبقائه علة أخرى ، وهي أن يتذكر به المسلمون نعمة الله عليهم حيث كثرهم وقواهم بعد القلة والضعف .
ومما يؤيده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمل في حجة الوداع بعد زوال العلة المذكورة .
من أين يكون الرمل ؟
حديث الباب أنه لا رمل بين الركنين .
وقد ذهب إلى ذلك بعض العلماء .
وذهب بعض العلماء إلى أن الرمل من الحَجَر إلى الحَجَر ، وهذا هو الصحيح .
لحديث ابن عمر : ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمل من الحجر إلى الحجر ) . متفق عليه
وهذا يقدم على حديث ابن عباس ، لأن :(4/75)
حديث ابن عباس كان في عمر القضاء في ذي القعدة عام سبع ، وأما حديث ابن عمر : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رمل من الحجر إلى الحجر ) كان في حجة الوداع ، فيكون هذا ناسخاً للمشي بين الركنين الثابت في حديث ابن عباس ، لأنه متأخر عنه .
أن الرمل خاص بالرجال .
استحباب المشي في الأشواط الأربعة الباقية .
قال ابن حجر : ” لا يشرع تدارك الرمل ، فلو تركه في الثلاثة لم يقضه في الأربعة الباقية “ .
أن الرمل يكون فقط في طواف القدوم .
وممن يسن في طواف القدوم الاضطباع ، مباحثه :
أولاً : تعريفه : هو أن يدخل إزاره تحت إبطه الأيمن ، ويرد طرفه على منكبه الأيسر ، ويكون منكبه الأيمن مكشوف .
ثانياً : حكمه : سنة ، وهذا قول جماهير العلماء .
لحديث يعلى ابن أمية : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف مضطبعاً وعليه برد ) . رواه الترمذي
وعن ابن عباس : ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه اعتمروا من الجعرانة ، فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ، ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى ) . رواه أبو داود
ثالثاً : الحكمة منه : أنه يعين على إسراع المشي .
رابعاً : يكون الاضطباع في طواف القدوم في الأشواط السبعة كلها .
خامساً : لا يشرع الاضطباع في غير الطواف ، وما يفعله كثير من الحجيج حيث يضطبعون من الإحرام إلى أن يحلوا ، خطأ وخلاف السنة .
بابُ التَّمتُّعِ(4/76)
230- عَنْ أَبِي جَمْرَةَ نَصْرِ بْنِ عِمْرَانَ الضُّبَعِيِّ ، قَالَ: (( سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْمُتْعَةِ ؟ فَأَمَرَنِي بِهَا , وَسَأَلَتْهُ عَنْ الْهَدْيِ ؟ فَقَالَ : فِيهِ جَزُورٌ , أَوْ بَقَرَةٌ , أَوْ شَاةٌ , أَوْ شِرْكٌ فِي دَمٍ قَالَ : وَكَانَ نَاسٌ كَرِهُوهَا , فَنِمْتُ . فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ: كَأَنَّ إنْسَاناً يُنَادِي : حَجٌّ مَبْرُورٌ , وَمُتْعَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ . فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَحَدَّثَتْهُ . فَقَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - )) .
------------------------------------------
معاني الكلمات :
المتعة : أي متعة الحج ، أي يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويحل منها ، ثم يحرم بالحج من عامه .
فأمرني بها : أي أستمر عليها .
جزور : بفتح الجيم وضم الزاي أي بعير ذكراً كان أو أنثى .
شرك في دم : بكسر الشين أي مشاركة في دم ، حيث يجزىء الشيء الواحد عن جماعة ، وهو موافق لما رواه مسلم عن جابر قال ( خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهلين بالحج ، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة ) وبهذا قول الشافعي والجمهور ، سواء كان الهدي تطوعاً أو واجباً .
عمرة متقبلة : أي هذه عمرة متقبلة .
سنة أبي القاسم : أي هذه السنة .
الفوائد :
مشروعية التمتع بالعمرة إلى الحج [ وسيأتي بحث هذه المسألة إن شاء الله ] .
يسن التكبير عند الأمر الذي يتعجب منه أو الذي يسر .
وقد قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - للصحابة ( إني لأرجو أن تكون ثلث الجنة ؟ قال : فكبرنا ، فقال : إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة ، .. . ) الحديث ، فأقرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على التكبير .(4/77)
قال بعض العلماء : إنما سن للإنسان أن يكبر عند التعجب ، لأنه إذا تعجب من الشيء عظمه ، فإذا استعظم الشيء تذكر أعظم الأشياء وأجلها وهو الله .
الاستئناس بالرؤيا الموافقة للدليل الشرعي .
فرح العالم بموافقته الحق .
حرص السلف على نشر العلم .
عرض الرؤيا على العالم .
جاء في رواية أن ابن عباس قال لأبي جمرة ( أقم عندي فأجعل لك سهماً من مالي ) قال الحافظ ابن حجر : ” يؤخذ منه إكرام من أخبر المرء بما يسره “ .
231- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : (( تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ وَأَهْدَى . فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ . وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ , ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ , فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ , فَكَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى , فَسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ الْحُلَيْفَةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِلنَّاسِ : مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى , فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ . وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ , وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ , ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَلْيُهْدِ , فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْياً فَلْيَصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ . وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ , ثُمَّ خَبَّ ثَلاثَةَ أَطْوَافٍ مِنْ السَّبْعِ , وَمَشَى أَرْبَعَةً , وَرَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ(4/78)
الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ , ثُمَّ انْصَرَفَ فَأَتَى الصَّفَا , وَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ , ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ , وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ . وَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ , ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ , وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ أَهْدَى وَسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ النَّاسِ )) .
232 - عَنْ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهَا قَالَتْ : (( يَا رَسُولَ اللَّهِ , مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا مِنْ الْعُمْرَةِ وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ فَقَالَ : إنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي , وَقَلَّدْتُ هَدْيِي , فَلا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ )) .
----------------------------------
معني الكلمات :
تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي أتى بالعمرة والحج في سفر واحد ، حيث قرن بينهما .
أهدى : أتى بالهدي .
الفوائد :
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حج قارناً ، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة ، هل حج النبي - صلى الله عليه وسلم - متمتعاً أو قارناً أو مفرداً .
والراجح من أقوال أهل العلم أنه حج قارناً .
وهذا مذهب أحمد ورجحه ابن القيم وساق أدلة كثيرة عليه .
منها : حديث الباب ( حديث حفصة ) قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك ؟ قال : إني لبدت رأسي ، وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر ) وهذا يدل على أنه في عمرة معها حج .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولحللت معكم ) وهذا صريح في أنه استمر في حجه ولم يحل إلا يوم النحر .
قال الإمام أحمد : ” لا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارناً “ .
الأنساك ثلاثة أنواع :(4/79)
التمتع : أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ، ويفرغ منها ، ثم يحرم بالحج من عامه .
القران : أن يحرم بالحج والعمرة معاً ، فيقول : لبيك عمرة وحجاً .
الإفراد : أن يحرم بالحج مفرداً فيقول : لبيك حجاً .
وقد اختلف العلماء : ما أفضل الأنساك بعد اتفاقهم على جوازها كلها على أقوال :
القول الأول : أن التمتع أفضلها .
وهذا المشهور من المذهب .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ) ، فتأسف - صلى الله عليه وسلم - على فواته وأمر أصحابه أن يفعلوه .
ولحديث الباب ، حيث أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه لما طافوا بالبيت أن يجعلوها عمرة .
القول الثاني : أن القران أفضل .
وهذا مذهب أبي حنيفة وإسحاق .
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج قارناً ، وما كان الله ليختار لنبيه إلا الأفضل .
القول الثالث : الإفراد أفضل .
والراجح أن التمتع أفضل الأنساك إلا لمن ساق الهدي ، فإن القران أفضل جمعاً بين الأدلة .
قال ابن قدامة : ” أجمع أهل العلم على جواز الإحرام بأي الأنساك الثلاثة “ .
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم من ذي الحليفة .
مشروعية رفع الصوت بالتلبية .
مشروعية فسخ الحج إلى العمرة لمن لم يسق الهدي ليصير متمتعاً .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - ( ... ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ) .
وجوب الهدي على المتمتع لقوله ( وليهد ) ، مباحث الهدي :
أولاً : أنه واجب على المتمتع والقارن وهذا بالإجماع كما قال ابن المنذر .
لقوله تعالى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } .(البقرة: من الآية196)
ولحديث الباب ( ... ومن لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر ثم ليهل بالحج ويهدي ) .
ثانياً : أن المفرد ليس عليه هدي بالإجماه كما حكاه النووي .(4/80)
ثالثاً : يشترط لوجوب الهدي على المتمتع والقارن أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام بالإجماع .
قال تعالى : { .... ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } .
واختلف ما المراد بحاضري المسجد الحرام بعد الاتفاق على أن أهل الحرم داخلون في ذلك :
فقيل : المراد بهم أهل الحرم خاصة دون غيرهم .
وقيل : هم أهل الحرم ومن بينه وبين مكة مسافة دون القصر .
وقيل : هم أهل الحرم ومن كان داخلاً في مسمى مكة .
والراجح أنهم أهل الحرم وأهل مكة .
رابعاً : يشترط في الهدي ما يشترط في الأضحية من اعتبار السن ، والسلامة من العيوب ، وهذا قول أكثر العلماء .
خامساً : يشترط في هدي المتعة أن يذبح في الوقت الذي يذبح فيه الأضاحي وهو يوم العيد وأيام التشريق .
سادساً : يشترط أن يذبح في الحرم ، فلو ذبحه خارج الحرم كعرفة لم يجزىء حتى لو دخل به إلى منى ، وكذلك تفريقه لا بد أن يكون في الحرم .
سابعاً : من لم يجد الهدي كأن لم يوجد هدي في الأسواق ، أو يوجد بهيمة لكن لا يكون معه ثمن ، فإنه يصوم عشرة أيام ، ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله .
قال تعالى ( ... فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ) .
لكن متى يصوم الثلاثة أيام ؟
يبتدىء صومها من حين إحرامه بالعمرة .
لكن الأفضل أن تصام في أيام التشريق [ 11 ، 12 ، 13 ] من ذي الحجة .
لقول عائشة وابن عمر ( لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي ) رواه البخاري .
فظاهر هذا النص أن الصحابة كانوا يصومونها في أيام التشريق ، وصومها في أيام التشريق صوم لها في أيام الحج لأن أيام التشريق من أيام الحج .
هل يلزم التتابع ؟
إذا ابتدأها في أول يوم من أيام التشريق لزم أن تكون متتابعة ، لأنه لا يجوز أن يؤخرها عن أيام التشريق .
وأما إذا صامها قبل أيام التشريق فيجوز أن يصومها متفرقة ومتتابعة .
فائدة :
حكم صوم أيام التشريق لغير الحاج فيها قولان :(4/81)
قيل : يجوز ، وقيل : لا يجوز وهو الصحيح لحديث عائشة وابن عمر السابق ( لم يرخص ..... ) .
أن التقصير في العمرة للمتمتع أفضل ، لأجل أن يتوفر الشعر للحلق في الحج ، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - ( وليقصر .. ) ، وأما في غير هذه الحالة فالحلق أفضل من التقصير .
أن الأفضل لمن قدم مكة محرماً المبادرة بالطواف ، ولهذا طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدم مكة .
أن من دخل الحرم محرماً ، فإنه لا يشرع له أن يصلي ركعتين ، بل يبدأ مباشرة بالطواف لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأما دخل الحرم لغير الطواف ، لصلاة أو حضور درس أو غيره ، فإنه يشرع له أن يصلي ركعتين كغيره من المساجد ، وأما حديث
( تحية البيت الطواف ) فلا يصح .
السنة أن يبدأ بالطواف بالحجر الأسود واستلامه لقوله ( واستلم الركن أول شيء ... ) .
مشروعية الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى من طواف القدوم [ وسبقت مباحثه ] .
استحباب صلاة ركعتين خلف المقام بعد الانتهاء من الطواف .
وقد أجمع العلماء على مشروعيتهما ، واختلفوا في وجوبهما ؟
فقيل : إنهما واجبتان .
وقيل : إنهما من السنن وهذا قول جمهور العلماء ، وهو الصحيح .
ويقرأ بهما في الأولى بعد الفاتحة ( الكافرون ) وفي الثانية بعد الفاتحة ( الإخلاص ) .
فقد ثبت في صحيح مسلم ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ فيهما : الكافرون ، والإخلاص ) .
لا يشترط الدنو من المقام ، وأن السنة تحصل بهما وإن كان مكانهما بعيداً عن المقام .
إذا دار الأمر بين أن يصلي قريباً من المقام مع كثرة حركته لرد المار بين يديه ، وبين أن يصلي بعيداً عن المقام ولكن باطمئنان ، الأفضل البعيد ، لأن ما يتعلق بذات العبادة أولى بالمراعاة مما يتعلق بمكانها .
13 – مشروعية السعي بين الصفا والمروة .
14- أنه يجب البداءة بالصفا .
لقوله تعالى ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) فبدأ الله بالصفا .(4/82)
15- الأفضل أن يكون طواف الإفاضة يوم النحر .
233 - عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : (( أُنْزِلَتْ آيَةُ الْمُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى . فَفَعَلْنَاهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَنْزِلْ قُرْآنٌ يُحَرِّمُهَا , وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا حَتَّى مَاتَ . قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ )) قَالَ الْبُخَارِيُّ " يُقَالُ : " إنَّهُ عُمَرُ " .
وَلِمُسْلِمٍ (( نَزَلَتْ آيَةُ الْمُتْعَةِ - يَعْنِي مُتْعَةَ الْحَجِّ - وَأَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ لَمْ تَنْزِلْ آيَةٌ تَنْسَخُ آيَةَ مُتْعَةِ الْحَجِّ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى مَاتَ )) وَلَهُمَا بِمَعْنَاهُ .
----------------------------------
معاني الكلمات :
أنزلت : أي أنزل الله تعالى .
آية المتعة : أي الآية التي فيها ذكر متعة الحج وهي قوله تعالى ( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ) .
الفوائد :
في هذا الحديث يقرر عمران بن حصين أن متعة الحج ثابتة في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، حيث أنزل الله تعالى فيها آية من القرآن ، وفعلها الصحابة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقرهم بل أمرهم لها ، ولم ينسخ حكمها في كتاب الله ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ويشير بذلك إلى نهي عمر حيث قال : ( أيها الناس أفردوا الحج بالعمرة فإنه أتم لنسككم وأعظم لأجركم ) .
ومعنى هذه الكلمة : أنه أمر الناس أن يأتوا بالحج مفردين وأن يأتوا بالعمرة بها غير متمتعين ، وذلك على سبيل الأفضلية لا على سبيل الإلزام .(4/83)
وما ذهب إليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، قصد عمران بن حصين ردها ، لأنها قد تصرف الناس عن تقرير المتعة وجوازها في أشهر الحج ، ويعود الناس إلى حالهم قبل الإسلام ، وكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى بالإتباع من قول كل أحد مهما كان .
وقول البعض إن عمر كان ينهى عن المتعة مطلقاً بعيد ، لأنه لم يكن لعمر أن يرد هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - .
مشروعية التمتع ، وهو ثابت بالكتاب والسنة .
أن هذا الحكم باق ولم ينسخ .
أنه لا يحل الأخذ برأي أحد خالف ما ورد عن الله أو عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
أن القرآن منزل غير مخلوق .
بابُ الهَدْي
234 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (( فَتَلْتُ قَلائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ أَشْعَرْتُهَا وَقَلَّدَهَا - أَوْ قَلَّدْتُهَا - ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إلَى الْبَيْتِ . وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ , فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ لَهُ حِلاًّ )) .
235 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (( أَهْدَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّةً غَنَماً )) .
----------------------------------
معاني الكلمات :
الهدي : ما أهدي إلى البيت الحرام من الإبل والبقر والغنم .
فتلت : الفتل إحكام ليّ الحبل .
القلائد : جمع قلادة ، وهي ما تعلق بالعنق ، وكانوا يعلقون بأعناق الهدي قطع النعال علامة عليه .
إشعارها : هو جرحها في صفحة سنامها وسلت الدم عنها .
الفوائد :
مشروعية الهدي إلى بيت الله الحرام ، لفقراء الحرم ، والهدي ينقسم إلى قسمين :
هدي واجب : وهو الهدي الذي فرضها الله على المتمتع والقارن [ وهذا له شروط تأتي إن شاء الله ] .
هدي مستحب : هدي غير واجب ، وهو الإهداء إلى بيت الله الحرام من البلاد البعيدة ولو لم يصحبها المهدي .(4/84)
وقد حرم الله التعرض للهدي فقال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً ) .
وأهدى - صلى الله عليه وسلم - إلى البيت وهو بالمدينة ولم يحج ، وأهدى عام حجة الوداع مئة من الإبل .
وأفضل ما يهدى إلى البيت الإبل ثم يليه البقر ثم الغنم .
مشروعية تقليد الهدي من الإبل والبقر والغنم ، وهذا مذهب جماهير العلماء .
وقال مالك : ” لا يسن تقليد الغنم ، واحتجوا على عدم المشروعية بأنها تضعف عن التقليد “ .
ورد الشوكاني على هذه الحجة فقال : ” وهي حجة أوهى من بيت العنكبوت ، فإن مجرد تعليق القلادة مما لا يضعف به الهدي ، وأيضاً إن فرض ضعفها عن بعض القلائد قلدت بما لا يضعفها “ .
قال الشنقيطي : ” ولعل مالكاً لم يبلغه حديث تقليد الغنم ، ولو بلغه لعمل به “ .
يسن إشعار الهدي لثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقال أبو حنيفة : ” مكروه ، لأنه مثلة وهو منهي عنه “ .
والصحيح أنه سنة ، والأحاديث الصحيحة الواردة بالإشعار تخصص عموم النهي .
أن الإشعار يكون للإبل والبقر من الهدي ، أما الغنم فلا تشعر إجماعاً .
جواز أن يكون الهدي من الغنم لحديث الباب ( أهدى النبي - صلى الله عليه وسلم - غنماً ) ، ففيه رد على الحنفية ومن وافقهم في أن الهدي لا يجزىء من الغنم .
وفيه رد على مالك ومن وافقه في أن الغنم لا يقلد لقوله ( .. غنماً وقلدها ) .
والمهدي له حالات :
- أن يقصد النسك ويسوق الهدي معه ، فيكون التقليد والإشعار عند الإحرام .
- وإما أن يبعث بها وهو مقيم فيكونان عند البعث بها من المكان الذي هو مقيم به كما في هذا الحديث .
أن بعث الهدي لا يحرم شيئاً من محظورات الإحرام .
استحباب إشعار الهدي وتقليده بالقرب والنعال ولحاء الشجر ، فيما هو خلاف عادة الناس ليعرفوه فيحترموه .(4/85)
والحكمة من الإشعار والتقليد : ليعلم أنه هدي ، ولأجل أن يرد إذا شرد .
والحكمة قي تقليد الهدي النعال : قيل : أن فيه إشارة إلى السفر والجدة فيه . وقيل : إن العرب تعد النعل مركوبة لكونها تقي صاحبها وتحمل عنه وعر الطريق ، فكأن الذي أهدى خرج عن مركوبه لله تعالى حيواناً وغيره كما خرج حين أحرم عن ملبوسه .
الهدي الواجب له شروط يجب أن تتوفر فيه :
أولاً : أن يكون الهدي من بهيمة الأنعام .
قال تعالى : { لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } .(الحج: من الآية34 ) فخص الذبح ببهيمة الأنعام .
ثانياً : أن تبلغ السن المعتبرة .
وهي الثني من المعز والإبل والبقر ، ( للمعز سنتين ، والبقر ثلاث سنوات ، والإبل خمس سنوات ) ، وأما إذا كان من الضأن فيجزىء فيه الجذع وهو الذي تمت له ستة أشهر .
ثالثاً : أن يكون الهدي سالماً من العيوب .
رابعاً : أن يكون في الزمان والمكان المشروع .
فلا يجوز للإنسان أن ينحر هديه قبل بلوغ البيت ، ويذبح في أي مكة في حدود الحرم .
236 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - : (( أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً , فَقَالَ : ارْكَبْهَا . قَالَ : إنَّهَا بَدَنَةٌ . قَالَ ارْكَبْهَا فَرَأَيْتُهُ رَاكِبَهَا , يُسَايِرُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - )) .
وَفِي لَفْظٍ قَالَ فِي الثَّانِيَةِ , أَوْ الثَّالِثَةِ : (( ارْكَبْهَا . وَيْلَكَ , أَوْ وَيْحَكَ )) .
----------------------------------
معاني الكلمات :
رأى رجلاً : قال الحافظ : لم أقف على اسمه بعد طول البحث .
يسوق : السوق يكون بتقدم الناقة آخذاً بخطامها .
بدنة : جاء في روتيه ( هديه ) وفي رواية أخرى ( بدنة مقلدة ) .(4/86)
فقال : إنه بدنة : أراد أنها بدنة مهداة إلى البيت الحرام ، ولو كان مراده الإخبار عن كونها بدنة لم يكن الجواب مقيداً ، لأن كونها من الإبل معلوم ، فالظاهر أن الرجل ظن أنه خفي على النبي - صلى الله عليه وسلم - كونها هدياً فقال : إنها بدنة .
فقال اركبها : جاء عند النسائي ( وقد جهده المشي ) .
الفوائد :
مشروعية إهداء الإبل .
تعظيم العرب للهدي واحترامه في قلوبهم .
قوله ( اركبها ) استدل بذلك من قال بجواز ركوب الهدي ، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : يجوز للحاجة .
وهذا مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأكير الفقهاء .
لحديث جابر ( أنه سئل عن ركوب الهدي ؟ فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهراً ) رواه مسلم .
القول الثاني : يجوز ركوبه مطلقاً .
وبهذا قال عروة بن الزبير ، ونسبه ابن المنذر إلى أحمد وإسحاق ، وبه قال أهل الظاهر وجزم به النووي .
لحديث الباب ، لكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل صاحب الهدي عن ذلك ، فدل على أن الحكم لا يختلف بذلك
والقول الراجح الأول .
مسألة : إذا قلنا بجواز ركوب الهدي عند وجود الحاجة ، فهل يجوز ركوبه مع المتاع الذي لك ؟
قيل : لا يجوز له أن يركب المتاع .
وبه قال مالك ، لأن الشيء إذا جاز على وجه التخصيص فإنه لا يتوسع به إلى غيره ، بل يبقى الغير على الأصل المقتضي للمنع إن كان الأصل المنع .
وقيل : يجوز .
وبه قال جمهور القائلين بجواز الركوب على الهدي ، قالوا : لأن حكم رحل الإنسان في حكم الإنسان نفسه .
؛؛ والله أعلم ؛؛
قوله - صلى الله عليه وسلم - ( ويلك اركبها ... ) قال القرطبي : ” قالها تأديباً لأجل مراجعته له مع عدم خفاء الحال عليه ، وبهذا جزم ابن عبد البر “ .
وقيل : يحتمل أن يكون فهم عنه أن يترك ركوبها على عادة الجاهلية في السائبة وغيرها فزجره عن ذلك(4/87)
ويحتمل أن يكون ظن أنه يلزمه غرم بركوبها أو إثم وإن الإذن الصادر له بركوبها إنما هو للمشقة عليه فتوقف ، فلما أغلظ له بادر إلى الامتثال .
الندب إلى المبادرة إلى امتثال الأمر .
زجر من لم يبادر إلى ذلك وتوبيخه .
جواز مسايرة الكبار في السفر .
ينبغي للعالم وطلاب العلم إذا رأوا إنساناً أخل بنسكه أو عبادته أن يرشدوه ويبصروه .
237 - عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - قَالَ : (( أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ , وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا وَجُلُودِهَا وَأَجِلَّتِهَا , وَأَنْ لا أُعْطِيَ الْجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئًا )) .
----------------------------------
معني الكلمات :
على بدنه : أي على إبله التي أهداها وكانت مائة بعير .
أتصدق بلحمها : أدفعها للفقراء ، والمراد سوى ما أكل النبي - صلى الله عليه وسلم - منه .
أجلتها : جمع جل بضم الجيم وهو ما يطرح على ظهر البعير من كساء ونحوه .
الفوائد :
جواز التوكيل في ذبح الهدي والأضاحي ، وأنه لا حرج على الإنسان أن يستنيب غيره في القيام على ذبح الهدي .
جواز التوكيل في الصدقات .
في حديث ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تولى ذبح هديه بنفسه ) ففيه دليل على أن السنة أن ينحر الإنسان هديه وأضحيته بنفسه اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأما تقطيع اللحم وغيره فإنه يوليه غيره .
الأفضل في الهدي كونه كثيراً عظيم النفع ، فقد أهدى النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة بعير .
أن يتصدق بها بما يتبعها من جلود وجلال ، وله أن يأكل من هدي التطوع والتمتع والقران قال تعالى ( فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ) .(4/88)
قوله ( وأن أتصدق بلحمها ... ) الواقع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتصدق بجميعه ، وإنما أمر من كل بعير أن تؤخذ قطعة من اللحم ثم طبخ ذلك اللحم فشرب النبي - صلى الله عليه وسلم - من مرقه وأكل منه - صلى الله عليه وسلم - .
قوله ( وأجلتها ) من السنة التصدق بما علي الهدي من الجلال .
قال البخاري : ” وكان ابن عمر إذا نحر الهدي نزع جلالها مخافة أن يفسدها الدم ثم يتصدق بها “ .
لا يجوز إعطاء الجزار شيئاً من الهدي على وجه المعاوضة .
238- عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ : (( رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ , فَنَحَرَهَا . فَقَالَ ابْعَثْهَا قِيَاماً مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - )) .
----------------------------------
معاني الكلمات :
أناخ : برك .
ينحرها : عند أحمد : لينحرها .
قياماً : قائمة .
الفوائد :
في هذا الحديث بيان هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في نحر الإبل : هو أن ينحرها وهي قائمة قد عقلت يده اليسرى ويطعنه في الوهدة تأسياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .
كراهة ذبحها باركة ، لأن فيه تطويلاً في إزهاق روحها .
يستحب للعلماء وأهل الفضل أن يبينوا للناس في هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو كان ذلك من المستحبات .
الأفضل للإنسان إذا تكلم بالحكم الشرعي أن يذكر دليل ذلك الحكم من الكتاب والسنة ما أمكنه .
أن الصحابي إذا قال من السنة ، فإنه يعتبر في حكم المرفوع ، وهذا مذهب جمهور العلماء .
رحمة الله ورأفته بخلقه .
بابُ الغُسْلِ للمُحْرِمِ(4/89)
239 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ : (( أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ اخْتَلَفَا بِالأَبْوَاءِ . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ . وَقَالَ الْمِسْوَرُ : لا يَغْسِلُ رَأْسَهُ . قَالَ : فَأَرْسَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه - . فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ , وَهُوَ يُسْتَرُ بِثَوْبٍ . فَسَلَّمْت عَلَيْهِ . فَقَالَ : مَنْ هَذَا ؟ فَقُلْت : أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ , أَرْسَلَنِي إلَيْكَ ابْنُ عَبَّاسٍ , يَسْأَلُكَ : كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ ؟ فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ , فَطَأْطَأَهُ , حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ . ثُمَّ قَالَ لإِنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ : اُصْبُبْ , فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ . ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ , فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ . ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا رَأَيْتُهُ - صلى الله عليه وسلم - يَغْتَسِلُ )) .
وَفِي رِوَايَةٍ " فَقَالَ الْمِسْوَرُ لابْنِ عَبَّاسٍ : لا أُمَارِيكَ أَبَداً " .
----------------------------------
معاني الكلمات :
الأبواء : بفتح الهمزة موضع بين مكة والمدينة .
عبد الله بن حُنيْن : مولى لابن عباس .
المسور بن مَخْرمَة : بن نوفل صحابي .
القرنين : وهما الخشبتان القائمتان على رأس البئر .
أماريك : أجادلك .
الفوائد :
في هذا الحديث دليل على أن يجوز للمحرم أثناء إحرامه أن يغسل رأسه ولو كان غسله غير واجب .
وهذا مذهب جمهور العلماء ، لأن أبا أيوب رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك .(4/90)
قال ابن عبد البر :” اختلف العلماء في غسل المحرم رأسه ، فكان مالك لا يجيز ذلك للمحرم ويكرهه له ، وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي والأوزاعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور وداود : لا بأس أن يغسل المحرم رأسه بالماء وهو محرم “ .
والراجح مذهب الجمهور ، لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
لكن ينبغي أن يحتاط عند غسله لرأسه فلا يبالغ في حك الرأس عند مخالطته للماء .
قال ابن عبد البر : ” وفيه من الفقه أن الصحابة إذا اختلفوا لم يكن في قول واحد منهم حجة على غيره إلا بدليل يجب التسليم له من الكتاب والسنة ، ألا ترى أن ابن عباس والمسور لما اختلفا لم يكن لواحد منهما حجة على صاحبه حتى أدلى ابن عباس بالحجة بالسنة ففلج “ .
ثم قال : ” وفي هذا الحديث دليل على أن ابن عباس قد كان عنده في غسل المحرم رأسه – والله أعلم – علم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أنبأه ذلك أبو أيوب أو غيره “ .
ينبغي على طلاب العلم إذا اختلفوا أن يرجعوا إلى من هو أعلم ، والرجوع إلى العلماء مأمور به قال تعالى : { فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } .(النحل: من الآية43)
جواز الاغتسال عند البئر .
مشروعية السلام على الإنسان المتجرد ، إذا كان متجرد في حمام أو غيره ما دام أنه مستتر .
دليل على أن الإنسان إذا قيل له : من أنت ، أن يخبر باسمه ويقول أنا فلان بن فلان ، ولا يقول : أنا .
عن جابر . قال ( أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فدققت الباب ، فقال : من هذا ؟ فقلت : أنا ، فقال : أنا ، أنا ! كأنه كرهها ) . متفق عليه
أن الإنسان إذا اغتسل ينبغي أن يبالغ في الاستتار .
فضل المسور بن مخرمة ، لأنه لما بان له الحق شهد بالفضل لا بن عباس .
فضل ابن عباس وعظيم علمه فهو وعاء من أوعية العلم .
بابُ فَسْخِ الحجِّ إِلى العُمْرَةِ(4/91)
240 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ (( أَهَلَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيْرَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَطَلْحَةَ , وَقَدِمَ عَلِيُّ - رضي الله عنه - مِنْ الْيَمَنِ . فَقَالَ : أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمَرِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَصْحَابَهُ : أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً , فَيَطُوفُوا ثُمَّ يُقَصِّرُوا وَيَحِلُّوا , إلاَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ فَقَالُوا : نَنْطَلِقُ إلَى " مِنىً " وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ ؟ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ , وَلَوْلا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لأَحْلَلْتُ . وَحَاضَتْ عَائِشَةُ . فَنَسَكَتِ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا , غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ . فَلَمَّا طَهُرَتْ وَطَافَتْ بِالْبَيْتِ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , يَنْطَلِقُونَ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ , وَأَنْطَلِقُ بِحَجٍّ فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ : أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ )) .
241 - عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ : (( قَدِمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ نَقُولُ : لَبَّيْكَ بِالْحَجِّ . فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً )) .
242 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : (( قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ . فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً . فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَيُّ الْحِلِّ ؟ قَالَ : الْحِلُّ كُلُّهُ )) .(4/92)
----------------------------------
معاني الكلمات :
أهل : أي رفع صوته بالتلبية .
الفوائد :
أجمع العلماء على أن الصحابة الذين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع قد فسخوا حجهم إلى عمرة بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، واختلفوا هل هذا الفسخ لمن بعدهم أيضاً أم لهم خاصة في تلك السنة في تلك الواقعة :
صورة المسألة : لو أن إنساناً أحرم بالحج فلما قدم مكة وقبل أن يطوف فسخ حجه ونوى العمرة ، هل من حقه أن يفسخ هذه النية أو ليس من حقه ؟ اختلف العلماء على قولين :
القول الأول : يجوز أن يفسخ الحج إلى العمرة .
وهذا قول ابن عباس والإمام أحمد وأهل الحديث .
لحديث الباب وغيرها من الأحاديث التي فيها أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي معه في حجة الوداع أن يتحللوا وأن يفسخوا حجهم بعمرة ، ولو كان ممنوعاً لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - به أصحابه .
ومن هذه الأحاديث غير حديث الباب :
عن أبي سعيد الخدري قال ( خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصرخ بالحج صراخاً ، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة إلا من ساق الهدي ، فلما كان يوم التروية ورحنا إلى منى أهللنا ) متفق عليه .
وعن أسماء بنت أبي بكر قالت ( خرجنا محرمين ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من كان معه هدي فليقم على إحرامه ، ومن لم يكن معه هدي فليحلل ) رواه مسلم .
القول الثاني : لا يجوز للإنسان إذا أحرم بالحج أن يفسخ نية الحج إلى عمرة .
وهذا قول جماهير العلماء [ مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ] .
قال النووي : ” وهو قول جمهور السلف والخلف “ .
قال في المغني : ” وهو قول أكثر أهل العلم “ .
لقوله تعالى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } . (البقرة: من الآية196).
قالوا : ففي هذه الآية أمر الله بإتمام الحج ولا يفسخوه ، ولو قلنا بجواز الفسخ الحج بالعمرة لكان في ذلك مخالفة للآية .(4/93)
قال النووي : ” وقال مالك والشافعي وأحمد وجماهير العلماء من السلف والخلف هو مختص بهم في تلك السنة لا يجوز بعدها ، وإنما أمروا به تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج “ .
وقال : ” مما يستدل به للجماهير حديث أبي ذر الذي ذكره مسلم كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة ، يعني فسخ الحج إلى العمرة “ .
وحديث أبي ذر نصه . قال رضي الله عنه ( متعتان لا تصلح إلا لنا معشر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متعة النساء ومتعة الحج ) رواه مسلم ، والمراد بمتعة الحج : إيجاب فسخ الحج بالعمرة .
واستدلوا بحديث بلال بن الحارث ( قلت يا رسول الله ! أرأيت فسخ الحج إلى العمرة لنا خاصة أم للناس عامة ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بل لنا خاصة ) رواه أبو داود .
والراجح القول الأول .
والجواب عن أدلة القول الثاني :
قال ابن القيم : ” قد روى أبو ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر بفسخ الحج إلى العمرة ، وغاية ما نقل عنه إن صح ، أن ذلك مختص بالصحابة فهو رأيه ، وقد قال ابن عباس وأبو موسى : أن ذلك عام للأمة ، فرأي أبو ذر معارض برأيهما .
وأيضاً : فإذا رأينا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختلفوا في أمر قد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله وأمر به ، فقال بعضهم : إنه منسوخ أو خاص ، وقال بعضهم : هو باق إلى الأبد ، فنقول : من ادعى نسخه أو اختصاصه مخالف للأصل فلا يقبل إلا ببرهان “ .
وقد اختلف من قال بجواز الفسخ هل هو للوجوب أو للجواز على قولين :
قيل : للوجوب .
وهو رأي ابن عباس ، ومذهب ابن حزم ، ورجحه ابن القيم .(4/94)
لحديث البراء قال ( خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قال : فأحرمنا بالحج ، فلما قدمنا مكة ، قال : اجعلوا حجكم عمرة ، قال : فقال الناس : يا رسول الله ، قد أحرمنا بالحج ، كيف نجعلها عمرة ، قال : انظروا ما آمركم به فافعلوا ، فردوا عليه القول الأول ، فغضب ، ثم انطلق حتى دخل على عائشة وهو غضبان ، فرأت الغضب في وجهه ، فقالت : من أغضبك أغضبه الله ؟ قال : وما لي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا اتّبع ) رواه أحمد .
وقيل : الفسخ للجواز لا للوجوب .
وهذا مذهب أحمد ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية .
قال ابن القيم : ” واختصاص وجوبه بالصحابة ، هو الذي كان يراه شيخنا قدس الله روحه ، يقول : إنهم قد فرض عليهم الفسخ لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به ، وحتمه عليهم وغضبه عندما توقفوا في المبادرة إلى امتثاله ، وأما الجواز والاستحباب فللأمة إلى يوم القيامة “ .
وهذا القول أصح .
فيه دليل على أنه يجوز أن يهل الإنسان بإهلال الغير ، بشرط أن يمكنه الإطلاع على تلك النية قبل أن يطوف بالبيت .
قوله : ( ثم يقصروا ) فيه دليل على أفضلية الحلق يستثنى منها قرب الوقت للحج ، فإذا قرب وقت الحج بالنسبة لمن تمتع فإنه يقصر ولا يحلق .
جواز تمني الأمور الفائتة إذا كانت من مصالح الدين ، لأنه رغبة في الخير وندم عليه ، واستعمال : لو فيه تفصيل :
- أن يكون المراد به مجرد الخير ، فهذا لا بأس به .
كأن يقول إنسان لشخص آخر : لو زرتني لأكرمتك .
- أن يقصد به التمني ، فهذا بحسب التمني ، إن تمنى خيراً فهو مأجور بنيته ، وإن تمنى بها سوى ذلك فهو بحسبه .
- أن يراد بها التحسر على ما مضى ، فهذا منهي عنه .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - ( ... ولا يقل لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا ، فإن لو تفتح عمل الشيطان ) رواه مسلم .(4/95)
الحائض تفعل جميع المناسك ما عدا الطواف ، وقد اتفق الفقهاء على أن المرأة الحائض تؤدي جميع المناسك وهي حائض إلا الطواف .
ومما يدل على ذلك :
قوله - صلى الله عليه وسلم - : لما حاضت أم المؤمنين صفية : ( عقرى حلقى ، أحابستنا هي ؟ ) .
ففهم من قوله - صلى الله عليه وسلم - : أحابستنا ، أنها لو لم تطف طواف الإفاضة أنها ستحبس النبي - صلى الله عليه وسلم - .
أن الحائض لا يجوز لها المكث في المسجد وهذا مذهب جمهور العلماء .
ومما يدل على ذلك : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة وهو معتكف : ( ناوليني الخمرة ؟ قالت : إني حائض ؟ قال : إن حيضتكِ ليست في يدك ) رواه مسلم .
فقولها : ( إني حائض ) يدل على أن المعروف في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الحائض لا تدخل المسجد .
( يجوز للحائض المكث بالمسعى لأنه ليس من المسجد ) .
قوله : ( فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها للتنعيم ) دليل على من أن كان بمكة وأراد العمرة فإنه يحرم من الحل سواء من التنعيم أو غيره ، ولا يلزم من التنعيم ، فلو خرج إلى عرفات وأحرم منها فإنه يجوز ، أو الحديبية .
وقد جاء في رواية أن عائشة هي التي اختارت التنعيم ، ولم يحدده النبي - صلى الله عليه وسلم - .
243 – عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ : (( سُئِلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ – وَأَنَا جَالِسٌ – كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسِيرُ حِينَ دَفَعَ ؟ قَالَ : كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ . فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ )) .
----------------------------------
معاني الكلمات :
عروة بن الزبير : بن العوام أحد الفقهاء السبعة .
حين دفع : يعني من عرفة .
العنق : بفتح العين والنون وهو السير بين الإبطاء والإسراع .
فجوة : المكان المتسع .
نص : أي أسرع .
الفوائد :(4/96)
استحباب أن يدفع الإنسان من عرفة إلى مزدلفة بسكينة ووقار ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - حين دفع وقد شنق لناقته القصواء يقول بيده اليمنى : أيها الناس ، السكينة السكينة .
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في سيره إذا وجد فجوة وفرجة ليس فيها أحد من الناس حرك دابته فأسرع قليلاً .
حرص السلف على السؤال عن كيفية أحواله - صلى الله عليه وسلم - في جميع حركاته وسكونه ليقتدوا به في ذلك .
أن ما عليه الناس اليوم من الطيش والخفة والسباق على السيارات مناف للسنة وهيبة الحج وسكينته ووقاره .
244 – عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ . فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ . فَقَالَ : رَجُلٌ لَمْ أَشْعُرْ , فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ ؟ قَالَ . اذْبَحْ وَلا حَرَجَ . وَجَاءَ آخَرُ , فَقَالَ : لَمْ أَشْعُرْ , فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ ؟ قَالَ : ارْمِ وَلا حَرَجَ . فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلا أُخِّرَ إلاَّ قَالَ : افْعَلْ وَلا حَرَجَ )) .
----------------------------------
معاني الكلمات :
وقف في حجة الوداع : قال الحافظ : ” لم يعين المكان ولا اليوم ، لكن جاء في رواية ( بمنى ) وفي روية ( عند الجمرة ) وفي رواية ( يخطب يوم النحر ) “ .
حجة الوداع : هي الحجة التي حجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هجرته وكانت العام العاشر من الهجرة .
فقال رجل : قال الحافظ : ” لم أقف على اسمه بعد البحث الشديد ، ولا على اسم أحد سأل في هذه القصة “ .
لم أشعر : أم أفطن . وقد جاء عند مسلم ( لم أشعر أن الرمي قبل النحر فنحرت قبل أن أرمي ) .
اذبح ولا حرج : أي لا ضيق عليك في ذلك .
الفوائد :
أن وظائف يوم النحر هي : رمي جمرة العقبة ، ثم نحر الهدي ، ثم الحلق أو التقصير ، ثم طواف الإفاضة والسعي للمتمتع(4/97)
ففي حديث أنس في الصحيحين ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى منى فأتى الجمرة فرماها ، ثم أتى منزله بمنى فنحر ، وقال للحالق : خذ ) ولأبي داود ( رمى ثم نحر ثم حلق ) .
وقد أجمع العلماء على مشروعية هذا الترتيب ، فإن أخل بترتيبها فلا يخلو من حالين :
الحالة الأولى : أن يكون ذلك نسياناً أو جهلاً ، فإنه لا شيء عليه .
قال في المغني : ” وهذا قول أكثر أهل العلم “ .
الحالة الثانية : أن يخل بترتيبها عامداً .
فهنا اختلف العلماء ماذا يجب عليه :
فقيل : عليه دم .
لقوله السائل ( لم اشعر ) فهذا يدل على أن رفع الحرج هو في حق الناسي والجاهل دون العامد .
وقيل : بجواز ذلك وليس عليه شيء .
لأنه جاء في رواية ( يا رسول الله ! حلقت قبل أن اذبح ، قال : اذبح ولا حرج ) .
وهذا القول هو الصحيح .
جواز القعود على الراحلة للحاجة .
ينبغي لأهل العلم وطلابه الجلوس لإفتاء الناس في الحج .
الحرص على سؤال أهل العلم .
سماحة الشريعة الإسلامية في أحكامها وعباداتها فلا ضيق ولا عنت .
أن الجاهل والناسي غير مؤاخذين . كما قال تعالى ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) .
245 - عنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ النَّخَعِيِّ : (( أَنَّهُ حَجَّ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ . فَرَآهُ رَمَى الْجَمْرَةَ الْكُبْرَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ فَجَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ , وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ . ثُمَّ قَالَ : هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ - صلى الله عليه وسلم - )) .
----------------------------------
معاني الكلمات :
الجمرة الكبرى : أي جمرة العقبة .
الفوائد :
في هذا الحديث ذكر صفة رمي جمرة العقبة المفضل وهو جعل مكة عن اليسار ومنى عن اليمين .
قال النووي : ” وأجمعوا على أنه من حيث رمى جمرة العقبة جاز ، سواء استقبلها أو جعلها عن يمينه أو عن يساره ، أو رماها من فوقها أو أسفلها ، أو وقف وسطها ورماها “ .(4/98)
وهذه الجمرة فيها مباحث :
أولاً : الأفضل في رميها يوم النحر ضحى .
عن جابر ( رمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمرة يوم النحر ضحى ، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس ) رواه مسلم .
ثانياً : ترمى لوحدها بسبع حصيات .
ففي حديث جابر في صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( .. حتى أتى الجمرة التي عند الشجر فرماها بسبع حصيات ) .
وفي حديث الباب ( .. بسبع حصيات ) .
ثالثاً : يسن التكبير مع كل حصاة .
ففي حديث جابر في صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( .. حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ) رواه مسلم .
فلو ترك التكبير فلا شيء عليه .
أما الرمي في أيام الشتريق :
فإنه يرمي الجمرات الثلاث في كل يوم من أيام التريق كل واحدة بسبع حصيات متعاقبات يكبر مع كل حصاة .
مباحثها :
أولاً : أن الرمي أيام التشريق يكون بعد الزوال فلا يجوز قبله .
قال النووي : ” ومذهبنا من الشافعية ومذهب مالك وأحمد وجماهير العلماء أنه لا يجوز الرمي في الأيام الثلاثة إلا بعد الزوال لهذا الحديث الصحيح “ .
وعن ابن عمر قال ( كنا نتحين زوال الشمس ، فإذا زالت الشمس رمينا ) رواه البخاري .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ” ومما يدل على أنه لا يجزىء الرمي قبل الزوال ، أنه لو كان جائزاً لفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فيه من فعل العبادة في أول وقتها من وجه ، ولما فيه من التيسير على العباد من وجه آخر ، ولما فيه من تطويل الوقت من وجه ثالث ، فلما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتعمد أن يؤخر حتى تزول الشمس مع أنه أشق على الناس دل هذا على أنه قبل الزوال لا يجزىء ، ويدل لذلك أيضاً أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من حين أن تزول الشمس يبادر فيرمي قبل أن يصلي الظهر ، وكان يترقب بفارغ الصبر زوال الشمس ليرمي ثم يصلي الظهر “ .(4/99)
( وأما نهاية وقت الرمي : فذهب بعض العلماء إلى أنه ينتهي عند الغروب ، ولكن الصحيح أنه يجوز الرمي بالليل ) .
وقال طاوس وعطاء يجزئه في الأيام الثلاثة قبل الزوال .
وقال أبو حنيفة وإسحاق يجوز في اليوم الثالث قبل الزوال .
ثانياً : يستحب أن يدعو بعد الجمرة الأولى والثانية .
عن ابن عمر ( أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر على إثر كل حصاة ، ثم يتقدم ثم يسهل فيقوم مستقبل القبلة ثم يدعو ويرفع يديه ويقوم طويلاً ، ثم يرمي الوسطى ، ثم يأخذ ذات الشمال ، فيسهل ويقوم مستقبل القبلة ، ثم يدعو فيرفع يديه ويقوم طويلاً ، ثم يرمي جمرة العقبة ولا يقف عندها ، ثم ينصرف ، فيقول : هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ) رواه البخاري .
وقد علل بعض العلماء بعدم الدعاء بعد جمرة العقبة بعدة علل :
قيل : لضيق المكان في ذلك الوقت .
وقيل : لانتهاء العبادة .
وقيل : لأنها ليست من منى .
قوله : ( يرمي بسبع ... ) : دليل على أنه لا بد من الرمي ، فلو وضع الحصى وضعاً لم يجزىء
قوله ( بسبح حصيات ) دليل على أنه لا يجزىء الرمي بغير الحصى ولو كان ثميناً كالجواهر .
قوله ( يكبر مع كل حصاة ) دليل على أنه يستحب أن يكبر مع كل حصاة ، وقد قال جابر في صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - :
( ... حتى أتى الجمرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ) رواه مسلم .
وأما البسملة فلا تستحب .
قوله ( يكبر مع كل حصاة ) دليل على أنه يشترط رمي الجمرات الواحدة بعد الأخرى ، وهذا مذهب جماهير العلماء ، فلو رمى الحصيات دفعة واحدة فإنه لا يجزئه إلا عن واحدة .
فائدة : لا يستحب غسل الحصى
فائدة : اختلف العلماء في حكم الترتيب في الرمي ( وهو أن يبدأ بالصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى ) :
فقيل : شرط ، وهذا المذهب .
وقيل : ليس بشرط ولكنه أفضل .
وقيل : انه واجب وليس بشرط .(4/100)
بمعنى أن الإنسان يأثم بتركه ، ولكن إن نسي أو جهل فإنه يصح ، وهذا القول الراجح .
246 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : (( اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ . قَالُوا : وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ . قَالُوا وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : وَالْمُقَصِّرِينَ )) .
----------------------------------
معاني الكلمات :
اللهم : أي يا الله ، حذفت منها يا النداء وعوض عنها الميم .
ارحم : هذا دعاء ، ولا تكون هنا فعل أمر ، لأنها من الأدنى إلى الأعلى .
المقصرين : التقصير قص بعض الشعر مع عدم استئصاله .
المحلقين : التحليق هو إزالة الشعر من الرأس من أصله .
الفوائد :
في هذا الحديث بيان أن الحلق أفضل من التقصير للحاج أو المعتمر ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة واحدة .
قال النووي : ” أجمع العلماء على أن أفضل من التقصير وعلى أن التقصير يجزىء “ .
قال النووي : ” ووجه فضيلة الحلق على التقصير أنه أبلغ في العبادة ، وأدل على صدق النية في التذلل لله تعالى ، ولأن المقصر مبق على نفسه الشعر الذي هو زينة ، والحاج مأمور بترك الزينة بل هو أشعث أغبر “ .
يستثنى حالة واحدة يكون فيها التقصير أفضل من الحلق : وذلك للمتمتع ، فإن التقصير أفضل لأجل أن يتوفر الشعر للحلق في الحج ، ولهذا لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الرابع من ذي الحجة أمر أصحابه بالتحلل أمرهم بالتقصير فقال : وليقصر ثم ليحل .
بالنسبة للمرأة فإن المشروع لها أن تقصر مقدار أنملة . قال ابن قدامة : ” لا خلاف في ذلك “ .
المفهوم من الحديث أن الحلق أو التقصير لعموم الرأس ، وهذا هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة .
فالصحيح أن الحلق أو التقصير لا بد أن يعم جميع الرأس .(4/101)
لقوله تعالى ( محلقين رؤوسكم ومقصرين ) ومن المعلوم أن الإنسان إذا قصر ثلاث شعرات من جانب الرأس ما أحس أنه مقصر .
أن الحلق أو التقصير نسك يثاب الإنسان على فعله ويعاقب على تركه وهذا مذهب جماهير العلماء .
لقوله تعالى { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } (الفتح: من الآية27) ، فوصفهم ومنّ عليهم بذلك فدل على أنه عبادة .
ولأنه - صلى الله عليه وسلم - دعاء للمحلقين والمقصرين وفاضل بينهم ، فلولا أنه نسك لما استحقوا لأجله الدعاء منه لهم .
الأصلع الذي لا شعر على رأسه يستحب أن يمر الموسى على رأسه .
قال ابن المنذر : ” أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الأصلع يمر بالموسى على رأسه ، وليس ذلك واجباً “ .
السنة في الحلق أن يبدأ بشقه الأيمن .
لأن اليمين أفضل من الشمال ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله .
فائدة :
اختلف العلماء في الوقت الذي قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث .
فقيل : كان عام الحديبية ، ورجحه ابن عبد البر .
وقيل : كان في حجة الوداع ، ورجحه النووي وقال : ” كان هذا في حجة الوداع ، هذا هو الصحيح المشهور “ .
وقيل : كان في الموضعين . قال ابن دقيق العيد : ” إنه الأقرب “ .(4/102)
قال الحافظ ابن حجر : ” بل هو المتعين لتظاهر الروايات بذلك في الموضعين ، إلا أن السبب في الموضعين مختلف ، فالذي في الحديبية كان بسبب توقف من توقف من الصحابة عن الإحلال لما دخل عليهم من الحزن لكونهم منعوا من الوصول إلى البيت مع اقتدارهم في أنفسهم على ذلك فخالفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وصالح قريشاً على أن يرجع من العام المقبل ، فلما أمرهم بالإحلال توقفوا ، فأشارت أم سلمة أن يحل هو - صلى الله عليه وسلم - قبلهم ففعل ، فتبعوه فحلق بعضهم وقصر بعضهم ، وكان من بادر إلى الحلق أسرع إلى امتثال الأمر ممن اقتصر على التقصير ، وقد وقع التصريح بهذا السبب عند ابن ماجه ( أنهم قالوا يا رسول الله ! ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالرحمة ؟ قال : لأنهم لم يشكوا .
وأما السبب في تكرير الدعاء للمحلقين في حجة الوداع ، فالأولى ما قاله الخطابي وغيره : إن عادة العرب أنها كانت تحب توفير الشعر والتزين به ، وكان الحلق فيهم قليلاً وربما كانوا يرونه من الشهرة ومن زي الأعاجم ، فلذلك كرهوا الحلق واقتصروا على التقصير “ .
247 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (( حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ . فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ . فَأَرَادَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهَا مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ . فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنَّهَا حَائِضٌ . قَالَ : أَحَابِسَتُنَا هِيَ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ : اُخْرُجُوا )) .
وَفِي لَفْظٍ : قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : (( عَقْرَى , حَلْقَى . أَطَافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ ؟ قِيلَ : نَعَمْ . قَالَ : فَانْفِرِي )) .
----------------------------------
معاني الكلمات :
أفضنا : أي طواف الإفاضة .(4/103)
يوم النحر : هو اليوم العاشر من شهر ذي الحجة سمي بذلك لوقوع النحر فيه .
حاضت صفية : أي بعد أن أفاضت يوم النحر .
أحابستنا : أي مانعتنا من التوجه من مكة في الوقت الذي أردنا التوجه فيه ، ظناً منه - صلى الله عليه وسلم - أنها ما طافت طواف الإفاضة ، وإنما قال ذلك لأنه كان لا يتركها ويتوجه ، ولا يأمرها بالتوجه معه وهي باقية على إحرامها ، فيحتاج إلى أن يقيم حتى تطهر وتطوف وتحل الحل الثاني .
عقرى ، حلقى : قال الحافظ : ” معنى عقرى : عقرها الله ، أي جرحها ، وقيل : جعلها عاقراً لا تلد ، وقيل : عقر قومها . ومعنى حلقى حلق شعرها وهو زينة المرأة ، أو أصابها وجع في حلقها ، أو حلق قومها بشؤمها أي أهلكهم “ .
ثم قال الحافظ : ” فهذا اصل الكلمتين ، ثم اتسع العرب في قولهما بغير إرادة حقيقتهما كما قالوا : قاتله الله ، وتربت يداه ونحو ذلك “ .
الفوائد :
ركنية طواف الإفاضة وأنه لا يسقط بحال .
قال في المغني : ” طواف الإفاضة ركن للحج لا يتم الحج إلا به ، لا نعلم فيه خلافاً ، لأن الله تعالى قال : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } . (الحج: من الآية29) “ .
قال ابن عبد البر : ” هو من فرائض الحج ، لا خلاف في ذلك بين العلماء “ .
والأفضل في فعله : أن يكون يوم النحر ضحى .
قال جابر في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ... حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها ، ثم انصرف إلى المنحر فنحر ، ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى البيت فصلى بمكة الظهر ) رواه مسلم .
ويجوز تأخيره وفعله في أيام التشريق .
إشكال : جاء عند أبي داود من حديث عائشة ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخر طواف الإفاضة إلى الليل ) .
الجمع بين الحديثين :
قيل : ضعيف وقد حكم عليه الألباني بالشذوذ .(4/104)
قال ابن القيم : ” لكن هذا الحديث وهم ، فإن من المعلوم من فعله - صلى الله عليه وسلم - أنه إنما طاف طواف الإفاضة نهاراً بعد الزوال كما قاله جابر وعبد الله بن عمر ، وهذا أمر لا يرتاب فيه أهل العلم والحديث ... ثم قال : إنما نشأ الغلط من تسمية الطواف ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخر طواف الوداع إلى الليل كما ثبت في الصحيحين “ .
وقيل : أنه - صلى الله عليه وسلم - طاف يوم النحر طواف الإفاضة نهاراً ، وكان يزور البيت في أيام التشريق ليلاً فيطوف نفلاً .
أن الحائض لا يجوز لها الطواف بالبيت حتى تطهر وهذا مذهب جماهير العلماء .
لقوله - صلى الله عليه وسلم - ( أحابستنا ؟ ) فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد بذلك ، أن صفية إذا كانت حائض ولم تطف يوم النحر طواف الإفاضة فإنه يلزمها البقاء حتى تطوف بعد الطهر ، فتحبس النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم إذا حبس النبي - صلى الله عليه وسلم - حبس أصحابه معه ، ففي هذا دليل على أن المرأة الحائض لا يجوز لها أن تطوف .
ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة لما حاضت ( افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي ) متفق عليه .
وهذا القول هو الصحيح .
وذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز لها أن تتحفظ ثم تطوف وهي حائض ، لكنه قول ضعيف .
أن الحائض ليس عليها طواف وداع ( وسيأتي حديث خاص بذلك إن شاء الله ) .
أن طواف الإفاضة ركن لا يسقط بالتأخير ، ولا يمكن التحلل الكامل بدونه إلا في حال الحصر ، ولهذا لما قيل للرسول - صلى الله عليه وسلم - أن صفية حائض ، قال : أحابستنا هي ، ولو كان أحد ينوب عن أحد في طواف الإفاضة ، لأمكن أن يطاف عن صفية ، ولا يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : أحابستنا هي ؟
أن الحيض يمنع الجماع بالفرج وهذا بالاتفاق ، وقد قال تعالى { وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْن } .(البقرة: من الآية222) .(4/105)
أدب أم المؤمنين عائشة في قوله ( فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - منها ما يريد الرجل من امرأته ) فإنه ينبغي عند ذكر الأمور التي تختص بالجماع أن يكنى عنها ولا يصرح بها .
فائدة : أين صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر يوم النحر ؟
ورد في حديث جابر ( ... فصلى الظهر بمكة ) رواه مسلم .
وجاء في الصحيحين عن ابن عمر ( أنه - صلى الله عليه وسلم - صلاها بمنى ) .
والجمع بينهما : قال النووي : ” أنه - صلى الله عليه وسلم - طاف للإقاضة قبل الزوال ثم صلى الظهر بمكة في أول وقتها ، ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر مرة أخرى بأصحابه حين سألوه ذلك ، فيكون متنفلاً بالظهر الثانية التي بمنى “ .
248 – عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : (( أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ , إلاَّ أَنَّهُ خُفِّفَ عَنْ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ )) .
----------------------------------
معاني الكلمات :
أمر الناس : الآمر هو النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد جاء عند مسلم قال - صلى الله عليه وسلم - ( لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت ) .
الفوائد :
الحديث دليل على وجوب طواف الوداع على الحاج إذا أراد أن يخرج مكة .
وهذا قول أكثر العلماء .
قال النووي : ” وهو الصحيح من مذهبنا ، وبه قال أكثر العلماء “ .
لحديث الباب .
قال الشيخ ابن باز رحمه الله : ” وعلى من تركه دم “ .
فإن قيل : قد يكون الأمر للاستحباب ؟
نقول : إن هذا لا يصح لوجهين :
الأول : أن الأصل في الأمر الوجوب إلا بدليل ولا دليل هنا .
الثاني : أنه قال : خفف عن الحائض ، والتخفيف لا يقال إلا في مقابلة الإلزام .
وذهب بعض العلماء إلى أنه سنة وهو قول مالك وداود .
والراجح الأول .
قوله ( لا ينفرن ... ) دليل على أن من كان من أهل مكة فإنه لا يجب عليه طواف وداع ، لأنه لن ينفر من مكة .(4/106)
قوله ( لا ينفرن ... ) دليل على أنه يجب أن يكون طواف الوداع هو آخر شيء يفعله في مكة ، فإن طاف واشتغل بتجارة أو إقامة فإنه يعيد الطواف ,
لكن استثنى العلماء الأشياء التي يفعلها وهو عابر أو ماش ، كأن يشتري حاجة في طريقه ، أو ينتظر رفقة متى جاءوا ركب ومشى ، ومثله لو تغدى أو تعشى .
قوله ( لا ينفر ... ) استدل به بعض العلماء على وجوب طواف الوداع للمعتمر ، وقد اختلف العلماء في هذه المسالة على قولين :
القول الأول : أنه واجب على المعتمر كالحاج .
وبه قال أبو ثور ورجحه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله .
لعموم قوله ( لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهدهم .... ) وكلمة أحد نكرة فتعم كل أحد خرج .
ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ليعلى بن أمية ( اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك ) .
القول الثاني : أنه غير واجب .
وهذا مذهب جماهير العلماء ، واختاره الشيخ ابن باز رحمه الله .
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر الذين حلوا من عمرتهم في حجة الوداع بطواف الوداع إذا خرجوا من مكة .
وأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر المحلين بمكة في حجة الوداع أن يتوجهوا من منازلهم إلى منى ثم إلى عرفة ، ولم يأمرهم بطواف الوداع .
وأما حديث ( لا ينفرن أحد حتى يكون آخر ..... ) فهذا قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج ( في حجة الوداع ) وأما المعتمر فلم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بطواف الوداع .
وهذا القول هو الراجح .
فائدة : أجمع العلماء على أن المعتمر إذا اعتمر ثم خرج مباشرة ، أنه لا يجب عليه طواف وداع ، كأن يقدم مكة فيطوف ويسعى ويحلق ثم يخرج مباشرة ، فهذا لا طواف عليه .
الحديث دليل على سقوط طواف الوداع عن الحائض .
قال في المغني : ” هو قول عامة الفقهاء “ .
قال النووي : ” هذا مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد والعلماء كافة إلا ما حكاه ابن المنذر عن عمر وابن عمر وزيد بن ثابت “ .(4/107)
249- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : (( اسْتَأْذَنَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنىً , مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ فَأَذِنَ لَهُ )) .
----------------------------------
معاني الكلمات :
منى : سميت بذلك لكثرة ما يمنى بها من الدماء .
الفوائد :
مشروعية المبيت بمنى ليالي التشريق : وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة .
قال النووي : ” وهذا متفق عليه “ .
لكن اختلفوا هل هو واجب أم مستحب على قولين :
القول الأول : أنه واجب .
وهذا قول جمهور العلماء .
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بات بمنى ، وقال ( لتأخذوا عني مناسككم ) .
ولحديث الباب ، حيث أن العباس استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ترك المبيت ، ولو لم يكن واجباً ما احتاج إلى الاستئذان
القول الثاني : أنه سنة .
وهو مذهب الحنفية .
والراجح القول الأول .
فائدة :قال الحافظ ابن حجر : ” ولا يحصل المبيت إلا بمعظم الليل “ .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : ” ومثل ذلك في وقتنا الحاضر رجال المرور والأمن ، ومن ذلك الأطباء ، فإنه يسمح لهم في ترك المبيت ، فكل من يشتغل بمصلحة عامة يعذر بترك المبيت قياساً على السقاية والرعاية “ .
قال في المغني : ” وأهل الأعذار كالمرضى ومن له مال يخاف ضياعه ونحوهم كالرعاة في ترك البيتوتة “ .
أن من ترك المبيت بمنى ليالي التشريق فعليه دم لأنه ترك واجباً من واجبات الحج .
أن أهل مكة كغيرهم في المبيت بمنى .
250 - وَعَنْهُ - أَيْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - قَالَ : (( جَمَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ " بِجَمْعٍ " , لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إقَامَةٌ . وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا , وَلا عَلَى إثْرِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا )) .
----------------------------------(4/108)
معاني الكلمات :
جمْع : بفتح الجيم وسكون الميم أي المزدلفة ، قال الحافظ ابن حجر : ” سميت جمعاً لأن آدم اجتمع فيها مع حواء وازدلف إليها أي دنا منها ، وقيل : بوصفت بفعل أهلها لأنهم يجتمعون بها ويزدلفون إلى الله أي يتقربون إليه بالوقوف فيها ، وقيل : سميت بذلك لاجتماع الناس فيها ليلة يوم النحر “ .
ولم يسبح بينهما : أي لم يتنفل بينهما .
ولا على إثر كل واحدة منهما : أي عقبها .
الفوائد :
الحديث دليل على أن السنة لمن دفع من عرفة أن لا يصلي المغرب حتى يصل مزدلفة ، فيجمع بين المغرب والعشاء ، لا خلاف في هذا .
قال ابن المنذر : ” أجمع أهل العلم لا اختلاف بينهم ، أن السنة أن يجمع الحاج بين المغرب والعشاء “ .
أن السنة أن يصليها بأذان واحد وإقامتين .
وقد جاء في حديث جابر في صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ( .. حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً ) رواه مسلم .
وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة ، فإن الرواية لم تختلف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة أذن أذان واحد للظهر والعصر وأقام لكل صلاة .
وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه يؤذن أذان واحد ويقيم إقامة واحدة ، وهو مذهب أبي حنيفة .
لحديث ابن عمر قال ( جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المغرب والعشاء بإقامة واحدة ) رواه أبو داود .
ويجاب عن هذه الرواية : أن قوله ( بإقامة واحدة ) فيه اختصار من بعض الرواة ، ولذلك جاء في رواية أبي داود بعد قوله ( بإقامة واحدة ) قال : ( لكل صلاة ) ، وبذلك يتضح أن حديث ابن عمر هذا موافق لحديثه ( حديث الباب ) ولحديث جابر .
جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة مزدلفة نام حتى أصبح ، فاستدل بعض العلماء بذلك على أن الوتر ، لا يصلى ليلة مزدلفة .(4/109)
والصحيح أنه يشرع الوتر ، وعدم ذكره لا يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله ، والأصل أن الوتر كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يواظب عليه حضراً سفراً .
إن صلى المغرب قبل أن يأتي المزدلفة صحت صلاته ، وهذا مذهب جمهور العلماء ، ويكون خالف السنة .
لو وصل إلى مزدلفة وقت المغرب :
قيل : يؤخر الصلاة لفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وقيل : يقدم ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى من حين وصل إلى مزدلفة .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ” قد روى البخاري عن ابن مسعود أنه قدم المزدلفة العشاء ، فأذن وصلى المغرب ، ثم دعا بعشائه فتعشى ، ثم أذن فصلى العشاء .
وعلى هذا فنقول : من وصل مبكراً فليصل المغرب ، ثم لينتظر حتى يأتي العشاء فيؤذن ويصلي العشاء .
فإن قال الحاج : الراحة لي والأسهل أن أصلي المغرب من حين أن أصل وأصلي معها العشاء ، فيجوز له الجمع “.
أن السنة عدم صلاة سنة المغرب البعدية ولا سنة العشاء البعدية بالسفر لقوله ( ولم يسبح بينهما ) .
بابُ المُحْرِمِ يأْكلُ من صيدِ الحلالِ(4/110)
251 - عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ حَاجَّاً . فَخَرَجُوا مَعَهُ . فَصَرَفَ طَائِفَةً مِنْهُمْ - فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ - وَقَالَ : خُذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ , حَتَّى نَلْتَقِيَ . فَأَخَذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ فَلَمَّا انْصَرَفُوا أَحْرَمُوا كُلُّهُمْ , إلاَّ أَبَا قَتَادَةَ , فَلَمْ يُحْرِمْ . فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ إذْ رَأَوْا حُمُرَ وَحْشٍ . فَحَمَلَ أَبُو قَتَادَةَ عَلَى الْحُمُرِ . فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانَاً . فَنَزَلْنَا فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهَا . ثُمَّ قُلْنَا : أَنَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ , وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ ؟ فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا فَأَدْرَكْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا , أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا ؟ قَالُوا : لا . قَالَ : فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا )) .
وَفِي رِوَايَةٍ : (( قَالَ : هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ ؟ فَقُلْت : نَعَمْ . فَنَاوَلْتُهُ الْعَضُدَ , فَأَكَلَ مِنْهَا )) .
252 – عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ - رضي الله عنه - (( أَنَّهُ أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حِمَاراً وَحْشِيَّاً , وَهُوَ بِالأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ – فَرَدَّهُ عَلَيْهِ . فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِي , قَالَ : إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلاَّ أَنَّا حُرُمٌ )) .
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ " رِجْلَ حِمَارٍ " وَفِي لَفْظٍ " شِقَّ حِمَارٍ " وَفِي لَفْظٍ " عَجُزَ حِمَارٍ ".
----------------------------------
معاني الكلمات :
خرج حاجاً : أي معتمراً وذلك في عمرة الحديبية عام : 6 هـ .
حمر وحش : نوع من من الصيود ، تشبه الحمر الأهلية ، سميت بذلك لأنها متوحشة غير أليفة .(4/111)
أتاناً : أي أنثى .
بالأبواء : أي نازلاً بالأبواء وذلك حين مروره به في سفره إلى حجة الوداع سنة : 10 ه ، والأبواء : موضع بين مكة والمدينة .
أنا محرمون : أي محرمون .
الفوائد :
حل الحمار الوحشي وأنه من الصيد ، بخلاف الحمار الأهلي فإنه حرام أكله .
تحريم الصيد على المحرم والإعانة عليه بدلالة أو إشارة أو مناولة بسلاح أو غير ذلك مما يعين على قتله أو إمساكه .
قال في الشرح : ” لا خلاف بين أهل العلم في تحريم قتل صيد البر واصطياده على المحرم “ .
قال تعالى : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً } . (المائدة: من الآية96)
والمراد بالصيد المحرّم : أن يكون مأكولاً – وأن يكون برياً – وأن يكون متوحشاً .
اختلف العلماء في مسألة إذا صاد المحل صيداً وأطعمه المحرم ، فهل يكون حلالاً للمحرم أم لا على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنه حرام على المحرم .
وهذا قول ابن عباس وعلي وابن عمر والليث والثوري وإسحاق .
لقوله تعالى : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً } . (المائدة: من الآية96)
ولحديث الصعب بن جثّامة ( حديث الباب الثاني ) ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - رده وعلل الرد بكونه حرماً .
القول الثاني : يجوز أكل المحرم مما صاده المحل سواء صاده لأجله أم لا .
وهذا مذهب أبي حنيفة وعطاء وسعيد بن جبير .
لحديث أبي قتادة ( حديث الباب الأول ) ، حيث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة – وهم محرمون – أكلوا مما صاده أبو قتادة .
القول الثالث : الجمع بين الأدلة : وهو ما صاده الحلال لأجل المحرم حرم على المحرم ، وما لم يصده لأجله حل له .
وهذا مذهب جمهور العلماء ، مالك والشافعي وأحمد ورجحه الشوكاني وقال : ” والحق ما ذهب إليه الجمهور من الجمع بين الأحاديث المختلفة “ .(4/112)
فيحمل حديث أبي قتادة : أن أبا قتاده صاده لنفسه ، فيجوز للمحرم الأكل منه ، وأما الصعب بن جثامة صاده للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
ويؤيد هذا الجمع : ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( صيد البر حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم ) .
مباحث في أكل الصيد :
أولاً : في حال تحريم الصيد على المحرم ، لو صاد في حال إحرامه ، فهل له أكله ؟ ليس له أكله ، لأن هذا محرم لحق الله .
ثانياً : الصيد الذي صاده المحرم ، حرام عليه كما سبق ، فهل هو حرام على غيره أيضاً ؟ نعم ، حرام عليه وعلى غيره لأنه بمنزلة الميتة .
ثالثاً : لو اضطر المحرم إلى قتل الصيد فذبح الصيد ، هل يحل ؟ نعم يحل .
قبول الهدية .
ورع الصحابة .
ينبغي للمسلم إذا شك في أمر أن يتوقف فيه حتى يسأل العلماء .
سماحة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحسن خلقه ، حيث أكل من اللحم .قال عياض : ” وعندي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلب من أبي قتادة ذلك تطييباً لقلب من أكل منه بياناً للجواز بالقول والفعل لإزالة الشبهة التي حصلت لهم “ .
جواز رد الهدية لعلة .
وفيه الاعتذار عن رد الهدية تطييباً لقلب المهدي .
تم كتاب الحج
من عمدة الأحكام
أخوكم / سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية – رفحاء
muslem23@hotmail.com(4/113)
بسم الله الرحمن الرحيم
( 5 )
إيقاظ الأفهام
في شرح
عمدة الأحكام
كتاب البيوع
بقلم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية / رفحاء
الموقع على الإنترنت
www.almotaqeen.net
كتاب البيوع
مقدمة
تعريفه :
لغة : أخذ شيء وإعطاء شيء ، وسمي بيعاً من الباع ، لأن كلاً من الآخذ والمعطي يمد يده .
البيع : هو مبادلة مال بمال على التأبيد غير ربا وقرض .
قولنا ( على التأبيد ) احترازاً من الإجارة ، فالإجارة مبادلة مال بمال ولكن ليس على سبيل التأبيد .
مثال : كأن أشتري منك هذا البيت لمدة سنة ، هذا ليس بيعاً لكن إجارة .
قولنا ( غير ربا ) فإنه ليس من البيع لقوله تعالى ( وحرم الربا ) ، مع أنه مبادلة .
مثال : كأن أعطيك ريال بريالين .
قولنا ( وقرض ) فالقرض لا يسمى بيعاً ، وإن كان فيه مبادلة ، لأن القصد من القرض الإرفاق والإحسان ، والبيع القصد منه المعاوضة .
والبيع جائز بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى ( وأحل الله البيع ) .
وقال تعالى ( وأشهدوا إذا تبايعتم ) .
وقال ( ( البيعان بالخيار ) متفق عليه .
وقال ابن قدامة : " وأجمع المسلمون على جواز البيع في الجملة ، والحكمة تقتضيه " .
البيع له صيغتان :
صيغة قولية - وصيغة فعلية
الصيغة القولية : ( وهي الإيجاب والقبول ) .
الإيجاب : اللفظ الصادر من البائع أو من يقوم مقامه كالوكيل .
والقبول : اللفظ الصادر من المشتري .
مثال : يقول البائع بعتك هذه السيارة { هذا إيجاب } ، فيقول المشتري قبلت { هذا قبول } .
الصيغة الفعلية : ( وتسمى المعاطاة ) .
وهي أن يدفع المشتري الثمن ويدفع البائع السلعة بدون لفظ بينهما .
( كما يحصل في الأسواق الحديثة حيث تأتي وتأخذ السلعة وتعطيه الثمن ) .
وقد اختلف العلماء في صحة البيع بهذه الصيغة :
والراجح أنه يصح البيع بهذه الصيغة ( وهذا مذهب المالكية والحنابلة واختاره النووي ) .(5/1)
لأن الله قال ( وأحل الله البيع ) فأطلق الله ، ولم يقل أحل البيع بصورة كذا ، أو بصورة كذا .
( هناك أقوال أخرى في المسألة : قيل : لا يصح البيع بهذه الصيغة وهذا مذهب الشافعي ، وقيل : يصح في الأشياء اليسيرة دون الأشياء النفيسة ) .
_ المعاطاة لها صور :
{ من الطرفين } كأن يكون السعر مكتوب على السلعة ، فيأخذ المشتري السلعة ويعطي البائع القيمة .
{ من المشتري } أن يقول البائع للمشتري خذ هذه بعشرة ( إيجاب ) فأخرج المشتري العشرة وأعطاه إياها ولم يقل قبلت
{ من البائع } أن يقول المشتري أعطني هذه بعشرة ، فأخذها صاحب المحل وأعطاه إياها ولم يقل بعت .
اختلف العلماء أي الكسب أفضل :
فقيل : الزراعة ، لأنه أقربها إلى التوكل .
وقال النووي : " أطيب المكاسب عمل الإنسان بيده " .
عن رفاعة . أن النبي ( سئل أي الكسب أطيب ؟ قال : ( عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور ) رواه البزار .
وفي صحيح البخاري . أن النبي ( قال : ( ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده ) .
وقال الحافظ : " أفضل ما يكسب من الأموال من الجهاد { أي الغنيمة } . فهو مكسب النبي ( ولما فيه من إعلاء كلمة الله " .
ورجحه ابن القيم ، وقال :
" والراجح أن أحلها الكسب الذي جعل منه رزق رسول الله ( وهو كسب الغانمين وما أبيح لهم على لسان الشارع ، وهذا الكسب قد جاء في القرآن مدحه أكثر من غيره ، وأثني على أهله ما لم يثن على غيرهم ، ولهذا اختاره الله لخير خلقه وخاتم أنبيائه ورسله ، حيث يقول : ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ) وهو الرزق المأخوذ بعزة وشرف وقهر لأعداء الله وجعل أحب شيء إلى الله فلا يقاومه كسب غيره " . { زاد المعاد : 5 / 793 } .
شروط البيع
يشترط لصحة البيع سبعة شروط هي :
أولاً : التراضي بين الطرفين :
قال تعالى ( إلا أن تكون تجارة عن تراض ) .(5/2)
وعن أبي سعيد . قال : قال رسول الله ( ( إنما البيع عن تراض ) رواه ابن حبان .
( فإن أكره بغير حق فلا يصح ، كما لو أن سلطاناً أرغم شخصاً على أن يبيع هذه السلعة لفلان ، فباعها فإن البيع لا يصح لأنها صدرت عن غير تراض ) .
( إن كان الإكراه بحق فالبيع صحيح ) .
مثال : كمن كان مديناً وطالبه الغرماء بالسداد وعنده سلع ، فيجبره القاضي على البيع لسداد ديونه ، فإن أبى أن يبيع باع الحاكم أمواله وسدد .
ثانياً : أن يكون العاقد جائز التصرف :
( وهو : الحر ، البالغ ، العاقل ، الرشيد ) .
( الحر ) فالمملوك لا يجوز بيعه ولا شراؤه { أي أنه لا يبيع ولا يشتري } إلا بإذن سيده ، لأن العبد لا يملك ، فما في يد العبد ملك لسيده .
( البالغ ) فالصغير دون التمييز لا يصح بيعه بالإجماع لأنه لا يتأتى منه القصد .
وأما المميز دون البلوغ ، فمحل خلاف بين العلماء على قولين :
قيل : يصح تصرفه ، وقيل : لا يصح ، لكن لوليه أن يأذن له بالتصرف في الأشياء اليسيرة ليتدرب ، وهذا القول هو الصحيح .
( العاقل ) فالمجنون لا يصح بيعه لعدم العقل الذي يحصل به التراضي والقصد .
( الرشيد ) وهو الذي يحسن التصرف في ماله ، وضده السفيه فلا يصح تصرفه .
ثالثاً : أن يكون العقد من مالك أو من يقوم مقامه :
عن حكيم بن حزام . ( أنه جاء إلى النبي ( يسأله فقال : إنه يأتيني الرجل يسألني البيع ليس عندي فأبيعه منه ثم أبتاعه من السوق . فقال : لا تبع ما ليس عندك ) رواه أحمد .
وقال ( ( لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيبة نفس منه ) .
فإذا قلنا بجواز بيع الإنسان لملك غيره أدى ذلك إلى أن يستحل المال فيأكل المال المدفوع في مقابل ذلك المملوك بدون وجه حق .
إذا كان المبيع ليس عنده وقت العقد فإن البيع لا يصح ( كما يفعله بعض التجار أو البنوك يبيع السلعة قبل أن يملكها ، فهذا لا يجوز ) .
( أو من يقوم مقامه كالوكيل : وهو من أذن له بالتصرف في حال الحياة ) .(5/3)
مسألة : بيع ( تصرف ) الفضولي :
هو الذي يبيع ملك غيره بغير إذنه أو يشتري له بغير إذنه .
فقيل : لا يصح تصرف الفضولي ( وهذا مذهب الشافعي لحديث حكيم بن حزام السابق ، ولأنه قد باع ما ليس عنده ، وباع ملك غيره وليس مالكاً للمعقود عليه ولا مأذوناً له فيه ،
وقيل : يصح إذا أجازه صاحب الحق ( وهذا مذهب المالكية _ لحديث عروة . أن النبي ( أعطاه ديناراً يشتري له به شاة فاشترى له به شاتين فباع إحداهما بدينار فجاءه بدينار وشاة ، فدعا له بالبركة في بيعه ) رواه البخاري
وجه الدلالة : أنه لما اشترى الشاة ثبتت ملكية الشاة للنبي ( ، فجاء وتصرف فيها وباع ، فلما باعها أصبح في هذه الحالة تصرفه تصرفاً فضولياً ) .
وهذا القول هو الصحيح .
رابعاً : أن يكون مقدوراً على تسليمه :
لحديث أبي هريرة . ( أن النبي ( نهى عن بيع الغرر ) رواه مسلم .
لأن قبض المبيع واستيلاء العاقد عليه هو المقصود من البيع ، وعلى هذا لا يجوز بيع غير المقدور على تسليمه لفوات الغرض المقصود ، ولأنه غرر .
فلا يجوز بيع العبد الآبق { أي الشارد } ، ولا الجمل الشارد ، ولا الطير في الهواء ، ولا السمك في الماء .
لأنه لا يدرى هل يتمكن من إمساكه أم لا .
( الغرر ) ما خفيت عاقبته .
( السمك الذي يكون في بعض برك البساتين وهو مرئي فهذا يجوز بيعه لأنه يسهل أخذه ، لكن السمك الذي في الأنهار أو البحار لا يصح بيعه ) .
خامساً : أن تكون العين مباحة النفع من غير حاجة .
هذا الشرط تضمن ثلاثة شروط :
أن تكون العين فيها نفع ، وأن يكون النفع مباحاً ، وأن تكون الإباحة بلا حاجة .
( مباحة ) خرج به محرمة النفع ، مثل : آلات اللهو ، فإنه لا يجوز بيعها وكذلك الخمر لأن منفعته محرمة .
عن جابر . قال : قال رسول الله ( ( إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ) متفق عليه
( نفع ) خرج ما لا نفع فيه كالحشرات ، فإنه لا يجوز بيعها .(5/4)
( لأن بذل المال فيما لا نفع فيه يعتبر سفه ) .
سادساً : أن يكون المبيع معلوماً برؤية أو صفة :
لأن النبي ( نهى عن بيع الغرر ، وإذا لم يكن معلوماً كان فيه غرر وجهالة .
فالرؤية فيما يعلم بالرؤية ، والشم فيما يعلم بالشم .
فلا يصح بيع حمل في بطن ، لأن الحمل في البطن مجهول { ذكر أو أنثى ، حي أو ميت } .
( الجهالة مفضية إلى النزاع ، والشريعة راعت سد مفسدة النزاع ) .
( إن بِيْع الحمل مع البهيمة فإنه يصح بيع الحامل ، والحمل هنا يثبت تبعاً والقاعدة ( يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً ) .
سابعاً : أن يكون الثمن معلوماً قدره وصفته للطرفين :
وهل هو حال أو مؤجل ، لأن الرسول ( نهى عن بيع الغرر ، وإذا كان الثمن مجهولاً حصل الغرر والخداع .
فائدة :
( المال يطلق على كل شيء له قيمة سواء كان نقداً {كالذهب والفضة} أو كان منقولاً {كالكتب والأقلام والثياب ...} وهكذا الدواب والبهائم ، ولذلك قال ( : ما من صاحب مال لا يؤدي زكاتها .. ثم ذكر الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم ، فاعتبر الإبل والبقر والغنم مالاً ، وفي حديث الأعمى { أمسك عليك مالك } وقد كان له واد من الغنم ) .
( قال العلماء : سمي المال مالاً لأن النفس تميل إليه ) .
باب الخيار
253- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ( أَنَّهُ قَالَ : (( إذَا تَبَايَعَ الرَّجُلانِ , فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَكَانَا جَمِيعاً , أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ . فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ . فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ )) .
254 - عن حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا - أَوْ قَالَ : حَتَّى يَتَفَرَّقَا - فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا . وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا )) .(5/5)
------------------------------------
معاني الكلمات :
البيعان : أي البائع والمشتري ، وأطلق عليهما ذلك من باب التغليب .
بالخيار : الخيار هو طلب خير الأمرين من إمضاء العقد أو فسخه .
ما لم يتفرقا : أي بأبدانهما على القول الراجح .
وجب البيع : ثبت البيع .
الفوائد :
1- في هذا الحديث إثبات خيار المجلس ( وهو الخيار الذي يثبت للمتعاقدين ما داما في المجلس ، أي مجتمعين ).
وإلى هذا ذهب جماهير العلماء ، كالشافعي وأحمد .
قال ابن قدامة : " وهو مذهب أكثر أهل العلم " .
قال النووي : " وبهذا قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم " .
لحديث الباب .
وذهب الإمام مالك وجماعة إلى أنه لا خيار للمجلس ، بل يلزم العقد بالإيجاب والقبول .
وقد أجاب هؤلاء عن حديث الباب بأجوبة كثيرة كلها ضعيفة .
ولذلك قال النووي : " وهذه الأحاديث الصحيحة ترد على هؤلاء ، وليس لهم عنها جواب صحيح " .
2- المراد بقوله : ( ما لم يتفرقا ) أي بأبدانهما .
قال بعض العلماء : " المراد بالتفرق ، تفرق الأقوال ، وهذا ضعيف " .
3- ضابط التفرق ، لم يحدد ، فيرجع فيه إلى العرف ، والقاعدة : [ كل ما ورد مطلقاً في لسان الشارع ، ولم يحدد ، فإنه يرجع إلى تحديده إلى العرف ] .
أمثلة :
- إذا كانا في بيت ، فبخروج أحدهما منه .
- إذا كانا في غرفة ، فبخروج أحدهما منها .
4- الحكمة من خيار المجلس :
أن الإنسان قبل أن يملك الشيء تتعلق به نفسه تعلقاً كبيراً ، فإذا ملكه زالت تلك الرغبة ، لذلك شرع خيار المجلس .
5- يثبت البيع إذا تفرقا بأبدانهما بعد البيع .
6- إذا أسقط المتبايعان خيار المجلس بعد العقد ، أو شرطا أن لا خيار بينهما ، صح ولزم البيع بمجرد العقد ، لأن الحق لهما في خيار المجلس وقد أسقطاه .
إذاً يسقط خيار المجلس :
- إن نفياه قبل ثبوته ، أو أسقطاه بعد ثبوته .
- إن أسقط أحدهما بقي خيار الآخر ، بأن قال : أسقطت خياري ، فإنه يبقى خيار الآخر .(5/6)
7- يثبت خيار المجلس في البيع ، والإجارة .
فإذا اتفقت أنا وأنت على أن أؤجرك بيتي لمدة سنة ، فما دمنا في المجلس فلكل واحد منا الخيار ، لأن الإجارة كالبيع ، فهي عقد معاوضة .
8- يحرم لأحد المتبايعين أن يقوم خشية الاستقالة .
لقوله ? : ( ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله ) . رواه أبو داود
س ) - ما الجواب عن فعل ابن عمر : أنه كان إذا بايع رجلاً فأراد أن لا يقيله قام فمشى هنيّة ثم رجع إليه ؟
الجواب :
أ- هذا اجتهاد منه ، مدفوع بالحديث المتقدم الذي ينهى عن ذلك .
ب- أو يحمل على أنه لم يبلغه الخبر .
9- وجوب الصدق والبيان في البيع ةالشراء .
فالصدق : أي فيما يصفان السلعة به من الصفات المرغوبة .
والبيان : أي فيما يصفان به السلعة من الصفات المكروهة .
مثال : لو باع شخص سيارة وقال : هذه السيارة جديدة ونظيفة ، ومدحها بما ليس فيها ، فهذا كذب .
مثال : وإذا باع السيارة وفيها عيب ولم يخبره بالعيب ، فهذا كتم ولم يبيّن .
10- أن الصدق والبيان سبب لحلول البركة ، والكذب والكتمان سبب لمحق بركة البيع .
11- وجوب بيان عيب السلعة ، لأن البيان سبب لحلول البركة ، ولأن الكتمان غش ، وقد قال ( : ( من غشَّ فليس منّا ).
12- فضل الصدق ، والصدق له فضائل :
أولاً : أنه سبب للطمأنينة .
كما في حديث الباب : ( فإن الصدق طمأنينة ) .
ثانياً : هو المميز بين المؤمن والمنافق .
قال ( : ( آية المنافق ثلاث : ... وإذا حدث كذب ... ) .
ثالثاً : لا ينفع يوم القيامة إلا الصدق :
قال تعالى : ( هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ( .
رابعاً : الصدق أصل كل بر .
قال ( : ( إن الصدق يهدي إلى البر ) متفق عليه .
خامساً : أن مجاهدة النفس على تحري الصدق توصلها إلى مرتبة الصديقية .
قال ( : ( .. ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ) .(5/7)
قال الشيخ السعدي : " هذا الحديث أصل في بيان المعاملات النافعة ، والمعاملات الضارة ، وأن الفاصل بين النوعين : الصدق والبيان .
فمن صدق في معاملته ، وبيّن جميع ما تتوقف عليه المعاملة من الأوصاف المقصودة ، ومن العيوب والنقص ، فهذه معاملة نافعة في العاجل : بامتثال أمر الله ورسوله ، والسلامة من الإثم ، ونزول البركة في معاملته ، وفي الآجلة : بحصول الثواب ، والسلامة من العقاب .
ومن كذب وكتم العيوب ، وما في المعقود عليه من الصفات ، فهو - مع إثمه - معاملته ممحوقة البركة .
ومتى نزعت البركة من المعاملة خسر صاحبها دنياه وأخراه " . أ.ه
فائدة :من أنواع الخيار خيار الشرط :
هو أن يشترط المتبايعان في العقد مدة معلومة ولو طويلة .
هذا الشرط دل عليه عموم قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ( .
وحديث : ( المسلمون على شروطهم ) .
13- قوله : " أن يشترطاه في العقد " أي في صلب العقد ، فيقول : بعتك هذا الشيء على أن لنا الخيار لمدة خمسة أيام .
وقال بعض العلماء : " يجوز شرط الخيار بصلب العقد ، وفي أثناء خيار المجلس " .
14- قوله : " أن تكون المدة معلومة " فإن كانت مجهولة لا تصح ، قال : بعتك بيتي على أن لي الخيار حتى أشتري بيتاً ، هذا فيه جهالة ، ويحصل فيه نزاع .
15- قوله : " ولو كانت المدة طويلة " هذا صحيح فيما إذا كان الشيء يبقى ، لكن فيما لا يبقى تلك المدة ، مثال : اشتريت منك خضار ، وقلت على أن لي الخيار لمدة ستة أشهر .
قال بعضهم : يصح ، وقالوا : إذا خاف فسادها تباع ويحفظ الثمن . لكن هذا فيه إشكال ، لأنه إذا باعها بأقل من الثمن رجع المشتري ، وإن باع بأكثر رجع البائع .
ولذلك قال بعض الأصحاب : أنه إذا كانت المدة الطويلة يخشى فساد المعقود عليه فلا تصح ، وهذا القول وجيه ، لأن الذي يخشى فساده لا يمكن أن يضرب له مدة يفسد فيها ، لأن هذا شبه تلاعب .
16- متى يبطل خيار الشرط :(5/8)
أ- إذا مضت مدة الخيار .
ب- إذا أسقطاه ، فلو قدر أنهما تبايعا ، على أن يكون الخيار لمدة عشرة أيام ، وبعد مضي خمسة أيام اتفقا على إلغاء الشرط ، فإنه يجوز ويسقط الشرط ، لأن الحق لهما .
5- يثبت خيار الشرط في :
أ- البيع .
ب- الإجارة بالذمة ، أجرتك على أن تبني لي هذا الجدار .
6- إن شرطاه لصاحبهما ، لأحدهما دون صاحبه صح ، فيقول البائع : بعتك هذا البيت على أن لي الخيار لمدة شهر ، فيقول المشتري : قبلت .
7- من له الخيار فإن له الفسخ سواء كان الآخر حاضراً أو غائباً .
إذا كان حاضراً فالأمر واضح ، وإذا كان غائباً فإنه يُشهّد ويقول : إني فسخت العقد .
ومن له الخيار فإن له الفسخ ولو مع سخط الآخر وزعله .
6- النماء المنفصل زمن الخيار : أي المنفصل عن المبيع فهو للمشتري . مثاله :
باع إنسان شاة واشترط هذا المشتري الخيار لمدة أسبوع اللبن نماء منفصل ، فهو للمشتري .
النماء المتصل ، قال بعضهم : يكون للبائع تبعاً للعين .
وذهب بعض العلماء : إلى أن النماء المتصل للمشتري ، لأنه حصل بسببه ، وهذا القول هو الراجح .
مثال : اشتريت عبداً واشترطت الخيار لمدة ستة شهور ، فعلمته القراءة والكتابة في هذه المدة ، فقال البائع : رجعت عن البيع ، العبد الآن يكتب وقد زادت قيمته والكتابة نماء متصل .
فعلى القول الأول يرجع العبد للبائع وليس للمشتري شيء ، وهذا رأي في المذهب .
وعلى القول الراجح : يأخذ البائع العبد ، وتقدر قيمته وهو لا يعرف القراءة والكتابة ، وقيمته وهو متصف بهذه الزيادة ، والفرق بين القيمتين للمشتري .
وعلى هذا فيكون النماء المتصل والمنفصل للمشتري .
7- يحرم ولا يصح تصرف أحدهما في المبيع زمن الخيار ، لأن تصرف أحدهما في المبيع يستلزم سقوط حق الآخر ، يستثنى من ذلك أحوال :
1) إن أذن له صاحب الحق .
2) في حال تجربة المبيع ، لأنه قد يكون قصد المشتري بالخيار لأجل التجربة .
8- إذا مات أحدهما زمن الخيار :(5/9)
قال بعض العلماء : من مات منهما زمن الخيار بطل خيارهما لأن خياره يتعلق به شخصاً ، فإذا مات بطل .
وقال بعض العلماء : أنه لا يبطل خياره بموته ، لأنه إذا مات انتقل الملك إلى الورثة ، فلا يكون الموت مبطلاً .
وهذا القول هو الراجح .
أما إذا كان الموت في خيار المجلس ، فهنا يتوجه القول بأن من مات منهم بطل خياره ، لأن الرسول ( يقول في الحديث : ( ما لم يتفرقا ) والموت أعظم فرقة .
بابُ مانُهِيَ عنْهُ منَ البيوعِ
255 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ( : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( نَهَى عَنْ الْمُنَابَذَةِ - وَهِيَ طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ بِالْبَيْعِ إلَى الرَّجُلِ قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبَهُ , أَوْ يَنْظُرَ إلَيْهِ - وَنَهَى عَنْ الْمُلامَسَةِ . وَالْمُلامَسَةُ : لَمْسُ الثَّوْبِ وَلا يُنْظَرُ إلَيْهِ )) .
------------------------------------
الفوائد :
1- في هذا الحديث النهي عن بيع المنابذة والملامسة ، وهذا النهي نهي تحريم .
2- تفسير بيع المنابذة :
فسر بالحديث : أن يطرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل أن يقلبه أو ينظر إليه .
مثال : يقول البائع للمشتري : أي ثوب نبذته فهو لك بعشرة .
قد يكون هذا الثوب الذي نبذه إليه لا يساوي عشرة ، وقد يساوي أكثر ، وقد يساوي أقل .
فالمشتري و البائع أحدهما غانم والآخر غارم .
وفسرها بعض العلماء بنبذ الحصاة .
كأن يقول : ارم هذه الحصاة فعلى أي شيء تقع فهو لك بعشرة .
فربما تقع على شيء لا يساوي إلا أقل من عشرة، وقد تقع على شيء يساوي مائة، فيكون أحد المتعاقدين بين الغنم والغرم .
بيع الملامسة :
من صورها : أن يجعل مجرد اللمس للمبيع قائماً مقام النظر والعلم به .
كأن يقول البائع : أي ثوب لمسته فهو لك بعشرة ، فقد يلمس المشتري ثوباً يساوي عشرة ، وقد يلمس ثوباً يكون أقل من عشرة ، وقد يكون يساوي مائة .
3- العلة من التحريم :(5/10)
الجهالة والغرر ، ولدخولهم تحت الميسر فيكون : أحدهما إما غانماً أو غارماً .
4- استدل به على بطلان بيع الأعمى ، لأنه لا يرى ، وفيه محذور الملامسة والمنابذة .
والصحيح أنه إذا وصف له المبيع فعرفه صح ، وإلا فلا .
5- النهي عن بيع الغرر .
قال شيخ الإسلام : " الغرر هو المجهول العاقبة " .
وقال ابن القيم : " الغرر هو ما تردد بين الحصول والفوات ، وعلى القاعدة الأخرى : هو ما طويت معرفته وجهلت
عينه " .
6- قال بعض العلماء : إنما سمي بيع ملامسة ، لأنه لا حظ له من النظر ، ولا لمعرفة صفاته إلا بلمسه ، واللمس لا يعرف به المبيع مما يحتاج إلى معرفته من صفات المبيع .
7- أن من شروط البيع العلم بالمبيع برؤيته أو صفته أو نحو ذلك .
256 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( لا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ , وَلا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ . وَلا تَنَاجَشُوا . وَلا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ . وَلا تُصَرُّوا الْغَنَمَ . وَمَنْ ابْتَاعَهَا فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ , بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا . وَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا , وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعاً مِنْ تَمْرٍ )) .
وَفِي لَفْظٍ : (( هُوَ بِالْخِيَارِ ثَلاثَاً )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
لا تلقوا : أصلها : لا تتلقوا ، فحذفت إحدى التأنيثتين تحقيقاً .
الركبان : وهم من يقدمون للبلد لبيع سلعهم ، والتعبير بالركبان خرج مخرج الغالب ، وإلا فهو شامل للمشاة .
ولا تناجشوا : النجش أن يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها .
الفوائد :
1- في هذا الحديث بعض البيوع المحرمة :
أولاً : تلقي الركبان .
أولاً : النهي عن تلقي الركبان ، وهذا النهي للتحريم وعليه جمهور العلماء .
فيحرم أن يتلقاهم أحد فيشتري منهم سلعهم .
ثانياً : الحكمة من النهي :
لأن فيه ضرراً على الركبان ، وعلى أهل البلد .(5/11)
أما الركبان فإن المتلقي لهم سيأخذ السلعة بثمن أقل من ثمن السوق ، فيحصل لهم الخديعة والغبن .
قال النووي : " سبب التحريم إزالة الضرر عن الجالب وصيانته عن الخديعة " .
وأما أهل البلد فإن من تلقى هؤلاء فسوف يشتري منهم برخص ، ويكون شراؤه سبب لرفع الأسعار ، بخلاف ما لو هبطوا بها الأسواق ، فإنه سوف يحصل منهم تنشيط لأهل البلد وربما نزلت الأسعار مع كثرة ما جلب .
ثالثاً : هل البيع صحيح أم فاسد ؟
اختلف العلماء على قولين :
القول الأول : البيع صحيح .
وهذا مذهب الجمهور ورجحه الشوكاني .
لقوله ( : ( ... فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار ) .
قالوا : ثبوت الخيار للسيد فرع عن صحة البيع .
ولأن النهي لا يرجع إلى نفس العقد .
القول الثاني : أن البيع فاسد .
قال الشوكاني : " وقال به بعض المالكية وبعض الحنابلة " .
والراجح الأول .
رابعاً : إذا قدم الراكب السوق ، وعلم أنه قد غبن ، فله الخيار .
لقوله ( : ( لا تلقوا الجلب ، فمن تلقى فاشترى منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار ) . رواه مسلم
[ سيده : المراد المُتَلَّقَىَ ) .
ثانياً : البيع على بيع أخيه
أولاً : تحريم أن يبيع الإنسان على بيع إنسان آخر .
لقوله ( : ( ولا يبع بعضكم على بيع بعض ) .
ثانياً : مثال ذلك :
أن يشتري شخص من إنسان سلعة بعشرة ، فيأتيه آخر ويقول : أعطيك مثلها بتسعة ، أو يقول : أعطيك أحسن منها بعشرة .
فهذا حرام ولا يجوز .
ثالثاً : أنه يحرم الشراء على شراء الآخر .
مثال ذلك : علمتُ أن زيداً باع على عمر بيته بـ 100 ، فذهبت إلى زيد وقلت له : يا فلان ، أنت بعت بيتك على عمر بـ 100 ، أنا سأعطيك 120 .
رابعاً : هل يجوز البيع على بيع الكافر ؟
اختلف العلماء على قولين :
القول الأول : يجوز .
لقوله ( : ( ولا يبع الرجل على بيع أخيه ) والكافر ليس أخاً .
القول الثاني : لا يجوز .
وهذا مذهب جماهير العلماء .(5/12)
قالوا : وأما قوله : ( لا يبع الرجل على بيع أخيه ) فهذا قيد أغلبي لا مفهوم له .
خامساً : الحكمة من النهي :
قطع العدوان على الغير ، واجتناب ما يؤدي إلى العداوة والبغضاء .
سادساً : ما حكم هذا البيع ؟
اختلف العلماء :
القول الأول : أنه صحيح مع الإثم .
وهذا مذهب الجمهور كما ذكر ذلك الشوكاني .
القول الثاني : أنه باطل .
وهذا مذهب المالكية والحنابلة ورجحه ابن حزم .
ثالثاً : النجش
أولاً : تعريفه :
هو أن يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها .
وهو حرام .
لحديث الباب : ( لا تناجشوا ) .
ولحديث ابن عمر : ( نهى رسول الله ( عن النجش ) . متفق عليه
ثانياً : ما هدف الناجش ؟
1- أن ينفع البائع .
2- أن يضر المشتري .
3- أو الأمرين جميعاً .
ثالثاً : لو وقع البيع فإن البيع صحيح عند أكثر العلماء .
لأن المنهي عنه هو الفعل لا العقد .
رابعاً : من وقع عليه النجش فإن له الخيار إذا زاد الثمن عن العادة .
الخيار بين : أن يرد السلعة ويأخذ الثمن ، أو يبقيها بثمنها الذي استقر عليه العقد .
رابعاً : بيع الحاضر للباد
أولاً : الحاضر هو المقيم في المدن والقرى .
والباد هو ساكن البادية .
وقد عبر بعض أهل العلم البادي بأعم من ذلك ، كما قال ابن قدامة : " البادي ها هنا من يدخل البلدة من غير أهلها سواء كان بدوياً أو من قرية أو بلدة أخرى " .
- إذاً يكون ذكر البادي مثالاً لا قيداً .
ثانياً : وجاء في رواية أن طاووس سأل ابن عباس : ما معنى لا يبع حاضر لباد ؟ قال : لا يكون له سمساراً .
[ السمسار هو الذي يبيع لغيره بأجرة ]
ثالثاً : بيع الحاضر للباد حرام وهو مذهب جماهير العلماء .
لدلالة الحديث على ذلك .
وذهب مجاهد وأبو حنيفة وأصحاب الرأي أن البيع صحيح .(5/13)
قالوا : أن النهي كان في أول الإسلام لما كان عليهم من الضيق في ذلك ، ثم نسخ بعموم قوله : " الدين النصيحة " . لكن الجمهور تمسكوا بالأحاديث الكثيرة في هذا الباب ، وأجابوا عن حديث [ الدين النصيحة ] بأنه عام ، والنهي عن بيع الحاضر للباد خاص ، والخاص يقضي على العام .
وهذا هو الصحيح .
وقد جمع الإمام البخاري بين أدلة الفريقين ، وجعل النهي خاص عمن يبيع بالأجرة كالسمسار ، وأما من ينصحه ويعلمه بأن السعر كذا وكذا ، فلا يدخل في النهي عنده .
لكن قال الشوكاني : " البقاء على ظواهر النصوص هو الأولى ، فيكون بيع الحاضر للبادي محرماً على العموم وسواء كان بأجرة أم لا " .
رابعاً : الحكمة من النهي :
قال ابن قدامة : " المعنى في ذلك أنه متى ترك البدوي يبيع سلعته اشتراها الناس برخص ، ويوسع عليهم السعر ، فإذا تولى الحاضر بيعها ، وامتنع من بيعها إلا بسعر البلد ، ضاق على البلد ، وقد أشار النبي ( في تعليله إلى هذا المعنى " .
جاء في رواية : ( لا يبع حاضر لباد ، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض ) .
خامساً : المشهور من مذهب الحنابلة إلى أن بيع الحاضر للباد باطل بشروط :
1- أن يكون بالناس حاجة إلى السلعة .
2- أن يكون جاهلاً بسعر يومها ، فإن كان يعلم السعر فلا حرج أن يبيع حاضر لبادي .
3- أن يقصده الحاضر ليبيع له ، أما إذا قصده البادي فلا بأس أن يبيع .
لكن جمهور العلماء على صحة البيع مع الإثم .
أما بالنسبة للشروط التي ذكرها الحنابلة ، فالأخذ بظاهر الحديث أولى .
قال الشوكاني : " لا يخفى أن تخصيص العموم بمثل هذه الأمور من التخصيص بمجرد الاستنباط " .
سادساً : تصرية الغنم
أولاً : يحرم تصرية الغنم .
وكانوا يجمعون لبنها في ضرعها ليظن من رآها أنها كثيرة اللبن ، فيشتريها بزيادة ، فنهاهم النبي ( عن ذلك لأن ذلك غش وخداع وتدليس وإيذاء للحيوان .
قال ( : ( من غشنا فليس منّا ) .(5/14)
ثانياً : من اشتراها بعد التصرية فهو بالخيار ثلاثة أيام إذا علم بالتصرية .
الخيار بين أمرين :
- أن يمسكها بلا أرش .
- وإن شاء ردها إلى البائع وصاعاً من تمر .
ثالثاً : يردها ويرد معها صاعاً من تمر .
وهذا مذهب الشافعي وأحمد ، لوروده في الحديث : ( وصاعاً من تمر ) .
وقال مالك : " يرد صاعاً من قوت البلد " .
والراجح الأول .
والمصراة قد تكون من البقر أو الإبل أو الغنم ، والجميع يمكن تصريته .
هذا التمر عوض عن اللبن الذي كان في ضرعها .
رابعاً : قدر النبي ( بالصاع ، مع أن اللبن قد يكون كثيراً ، وقد يكون قليلاً قطعاً للنزاع .
بيع حبل الحبلة
257 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ . وَكَانَ بَيْعاً يَتَبَايَعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الْجَزُورَ إلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ . ثُمَّ تُنْتَجَ الَّتِي فِي بَطْنِهَا . قِيلَ : إنَّهُ كَانَ يَبِيعُ الشَّارِفَ - وَهِيَ الْكَبِيرَةُ الْمُسِنَّةُ - بِنِتَاجِ الْجَنِينِ الَّذِي فِي بَطْنِ نَاقَتِهِ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
نهى : النهي طلب الكف على وجه الاستعلاء .
حَبَل الحَبَلة : بفتح الباء ، والحبل : الحمل .
الجزور : هو البعير .
تُنتج : بضم التاء الأولى ، أي تلد .
الفوائد :
1- تحريم بيع حبل الحبلة .
وقد اختلف العلماء في تفسيره على تفسيرين :
التفسير الأول : هو البيع بثمن مؤجل إلى أن تلد الناقة ويلد ولدها .
قال النووي : " وقد ذكر مسلم في هذا الحديث هذا التفسير عن ابن عمر ، وبه قال مالك والشافعي ومن تابعهم " .
التفسير الثاني : وهو بيع ولد الناقة الحامل في الحال .(5/15)
قال النووي : " وهذا تفسير أبي عبيدة معمر بن المثنى وصاحبه أبي عبيد القاسم بن سلام ، وآخرين من أهل اللغة ، وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية ، وهذا أقرب إلى اللغة ، لكن الراوي هو ابن عمر وقد فسره بالتفسير الأول وهو
أعرف " .
قال النووي : " وهذا البيع باطل على التفسيرين " .
2- العلة في النهي عن هذا البيع :
أما على التفسير الأول : فللجهالة في الأجل .
مثال : باع عليه شخص شيء ، وأجل الثمن فقال : لا تسلمني الثمن إلا أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها .
وأما على التفسير الثاني : فلأنه بيع معدوم ومجهول وغير مملوك وغير مقدور على تسليمه .
وقد نقل ابن عبد البر إجماع العلماء على عدم جواز هذه الصورة من البيوع .
فقد يكون الجنين الذي في بطن الناقة ذكراً ، وقد يكون أنثى ، وقد يخرج حياً وقد يخرج ميتاً ، وقد يكون واحداً ، وقد يكون متعدداً .
3- النهي عن كل بيع فيه جهالة سواء كان في عين المبيع أو ثمن المبيع أو الأجل .
4- تحريم بيع الحمل .
قال النووي : " أجمع العلماء على بطلان بيع الجنين " .
للجهالة .
- لكن يجوز بيع الحامل ، لأن الحمل حينئذٍ تبع ، وإذا كان تبعاً [ فإنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً ] .
ومثله : لو باع اللبن في الضرع ، فإنه لا يصح ، لكن لو باع شاة فيها لبن صح .
5- أن المعاملات التي كان يتعامل بها أهل الجاهلية على الإباحة ما لم ينص الشارع على تحريمها ، لأن الأصل في المعاملات الحل والإباحة إلا بدليل .
6- يشترط أن يكون المبيع معلوماًً ، وثمنه معلوماً ، وأجله - إن كان مؤجلاً - معلوماً .
مثال : بعتك هذا الشيء بـ 100 إلى أن يقدم زيد ، فالأجل هنا مجهول ، فالبيع صحيح والشرط فاسد ، فإذا فسد شرط التأجيل فإن البيع يبقى حالاً ، وللمشتري الخيار بين إمضاء البيع ودفع الثمن حالاً ، أو فسخ البيع .
7- أهل الجاهلية : المراد ما كان قبل الإسلام ، وسموا بذلك لغلبة الجهل عليهم .(5/16)
بيع الثمار قبل بدو الصلاح
258 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُهَا . نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ )) .
259 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ( : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ قِيلَ : وَمَا تُزْهِي ؟ قَالَ : حَتَّى تَحْمَرَّ . قَالَ : أَرَأَيْتَ إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ , بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ ؟ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
صلاحها : صلاح كل شيء بحسبه ، منها ما يكون صلاحه باللون ، ومنها ما يكون بالطعم ، ومنها ما يكون باللمس .
تزهي : قال ابن الأثير : " زها النخل يزهو إذا ظهرت ثمرته " .
الفوائد :
1- في الحديث النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها ، وهذا النهي للتحريم .
2- الحكمة في النهي قبل بدو صلاحها : أنه في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها غرراً وخطراً ظاهراً يفضي إلى المفاسد الكثيرة بين المسلمين من إيقاع التشاحن والتشاجر وأكل مال الغير بغير حق .
فالبائع إذا باع قبل بدو الصلاح وتعجل البيع فإنه ستقل قيمتها عما لو أخر البيع إلى ما بعد الصلاح والنضج فيكون في ذلك خسارة عليه .
وأما المشتري : ففي ذلك حفظ لماله من الضياع والمخاطر والتغرير ، لأن الثمرة قد تتلف وتنالها الآفات قبل الانتفاع بها فيذهب ماله ، فنهي عن ذلك تحصيناً للأموال من الضياع وحفظاً للحقوق ، وقطعاً للمخاصمات والمنازعات بين المتبايعين .
3- وقد قسم ابن قدامة بيع الثمر قبل بدو صلاحه إلى أقسام ، فقال رحمه الله :
" لا يخلوا بيع الثمرة قبل بدو صلاحها من ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يشتريها بشرط التبقية ، فلا يصح البيع إجماعاً ، لأن النبي ( نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمشتري ، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه .(5/17)
القسم الثاني : أن يبيعها بشرط القطع في الحال ، فيصح بالإجماع ، لأن المنع إنما كان خوفاً من تلف الثمرة وحدوث العاهة عليها قبل أخذها ، وهذا مأمون فيما يقطع فصح بيعه كما لو بدا صلاحه .
القسم الثالث : أن يبيعها مطلقاً ، ولم يشترط قطعاً ولا تبقية ، فالبيع باطل ، وبه قال مالك والشافعي ، وأجازه أبو حنيفة.
ثم قال مرجحاً رأي الجمهور في حكم هذا القسم الأخير : " ولنا أن النبي ( أطلق النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها فيدخل فيه محل النزاع " .
4- يكون بيع الثمر بعد بدو صلاحه ، وبدو صلاحه جاء بيانه في بعض الأحاديث :
فقد جاء في حديث : ( حتى يزهو ) .
وفي رواية : ( حتى يبدو صلاحها ) .
وأجمع هذه الألفاظ حديث جابر ، وفيه قال : ( نهى النبي ( عن بيع الثمر حتى يطيب ) .
فالضابط أن يطيب أكله ويطهر نضجه .
5- لو وقع العقد على هذا البيع لكان البيع باطلاً ، لأن النهي عائد إلى ذات المنهي عنه . لكن استثنى العلماء :
إذا باعه بشرط القطع ، لأن عاهته مضمونة ، لأنه سيقطع الآن قبل أن يتعرض للعاهات ، وهذا ليس من إضاعة المال لأنه يمكن أن يجعله علفاً لبهائمه ، لكن لو علمنا أنه سيأخذه ليرميه في الأرض ، فهذا يمنع .
6- لو باع البستان جميعاً :
فقيل : لا بد أن يكون اللون في كل شجرة لوحدها .
وقيل : إذا بيع البستان وفيه نخلة واحدة ملونة لكنها صفقة واحدة صح البيع .
وقيل : إن كان النوع واحداً جاز وإلا فلا .
مثال : هناك خمسة أنواع من الثمر [ سكري ، خلاص ، ... ] من كل نوع خمس نخلات ، صلح من النوع الأول نخلة ، فيكون صلاحاً لها وللأربعة التي من نوعها سواء بيعت لوحدها أو مضمومة مع الأربع .
7- إذا أفردت كل نخلة لوحدها بعقد ، فالواجب اعتبار كل نخلة لوحدها .
لأنه صار كل نخلة لها حكم خاص .
الخلاصة :
أ- إذا بيع كل نخلة لوحدها فالواجب اعتبار كل نخلة لوحدها .(5/18)
ب- إذا بيع النخل جميعاً صفقة واحدة ، فإنه إذا لون من كل نوع واحدة صار صلاحاً لها ولسائر النوع الذي في البستان.
ج- وهل يعتبر صلاحاً للنوع الآخر إذا بيع صفقة واحدة ؟
المذهب يعتبرون كل نوع على حدة .
وقيل : إذا بدا صلاح نخلة واحدة فإنه صلاح لجميع الأنواع .
بيع المزابنة
260 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : (( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ( عَنْ الْمُزَابَنَةِ : أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَ حَائِطِهِ , إنْ كَانَ نَخْلاً : بِتَمْرٍ كَيْلاً . وَإِنْ كَانَ كَرْماً : أَنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيبٍ كَيْلاً , أَوْ كَانَ زَرْعاً : أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلٍ طَعَامٍ . نَهَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
المزابنة : بضم الميم ، وهي مأخوذة من الزبن ، وهو الدفع الشديد .
قيل للبيع المخصوص مزابنة كأن كل واحد من المتبايعين يدفع صاحبه عن حقه ، أو لأن أحدهما إذا وقف على ما فيه من العين أراد دفع البيع لفسخه ، أو أراد الآخر دفعه عن هذه الإرادة بإمضاء البيع .
الفوائد :
1- في هذا الحديث تحريم المزابنة .
وهي بيع التمر على النخل بتمر مجذوذ .
مثال : أن يبيع رطباً على رؤوس النخل ، بثمر في الزنبيل ، فهذا لا يجوز .
مثال آخر : رجل عنده شجر من الأعناب ، وآخر عنده أكياس من الزبيب ، فقال أحدهما للآخر : نتبايع هذه الأشجار من الأعناب بهذه الأكياس من الزبيب ، فهذا لا يجوز .
2- الحكمة من النهي :
مظنة الربا لعدم التساوي .
أ- لأن بيع تمر بتمر يشترط فيه التساوي ، والتساوي هنا معدوم .
لأنه لو فرضنا أن أكياس الزبيب معلومة المقدار ، لكن أشجار العنب غير معلومة المقدار .
ب- حصول الغرر به ، وكل ما حصل به غرر فهو غير صحيح .
3- في الحديث دليل على تحريم بيع كل نوعين ربويين جهل تساويهما .(5/19)
261 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ : (( نَهَى النَّبِيُّ ( عَنْ الْمُخَابَرَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ , وَعَنْ الْمُزَابَنَةِ وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُهَا , وَأَنْ لا تُبَاعَ إلاَّ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ , إلاَّ الْعَرَايَا )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
المخابرة : على وزن مفاعلة ، وهي الأرض اللينة القابلة للزرع ، والمراد كراء الأرض لزراعتها بأن يكون لمالك الأرض جانب من الزرع محدد أو معين وللزارع جانب آخر .
المحاقلة : مأخوذة من الحقل ، وسيأتي تعريفها .
الفوائد :
1- في الحديث النهي عن بيع المخابرة والتي يقتضي التحريم .
والمخابرة : مثال : أن يقول زارعتك على أن يكون لي شرقي الأرض ولك غربيها ، فهذا لا يجوز للجهالة والغرر ، لأنه قد يكون المحصول كثير من الشرقي دون الغربي أو بالعكس [وسيأتي باب خاص بكراء الأرض وأحكامها إن شاء الله] .
المحاقلة : هي بيع الزرع على شخص ببر محصود يابس .
مثال : أن يبيع حقله على الآخر بحقله .
مثال : عندي مزرعة وعندك مزرعة فبعتها عليك بمزرعتك وكلتاهما بر ، فهذا لا يجوز .
2- الحكمة من النهي :
لجهالة أحد العوضين ، لأنه مستور بأوراقه ، والجهل في ذلك يوقع في الربا .
3- يستثنى من ذلك العرايا [ وسيأتي الحديث عنها قريباً إن شاء الله ] .
4- تحريم بيع المزابنة وسبقت .
5- النهي عن بيع الأشياء المذكورة في الحديث ، والنهي يقتضي الفساد .
6- التحذير من الربا .
7- يجب الابتعاد عن الربا .
8- قاعدة : الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل .
بيع الكلب
262 - وعن أبي مسعود الأنصاري (: (( أن رسول الله ( نهى عن ثمن الكلب ، ومهر البغيّ ، وَحُلْوَانِ الكاهن )).
متفق عليه
-------------------------------------------------------------
معاني الكلمات :(5/20)
( مهر البغي ) هو ما تأخذه الزانية على الزنا ، وسماه مهراً لكونه على صورته .
( حلوان الكاهن ) هو ما يعطاه على كهانته ، شبه بالشيء الحلو من حيث أنه يأخذه سهلاً بلا كلفة ولا في مقابلة مشقة .
الفوائد :
1- تحريم بيع الكلب ، وأنه لا يصح بيعه ولا يحل ثمنه .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة :
على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنه لا يصح بيعه ولا يحل ثمنه سواء المعلم أو غيره .
قال النووي : " وبهذا قال جماهير العلماء منهم : أبو هريرة ، والحسن ، والبصري ، وربيعة ، والأوزاعي ، والحكم ، وحماد والشافعي ، وأحمد ، وداود ، وابن المنذر وغيرهم " .
- لحديث الباب .
- ولحديث : ( ثمن الكلب خبيث ، ومهر البغي خبيث ... ) .
- وعن ابن عباس مرفوعاً : ( نهى رسول الله ( عن ثمن الكلب وقال : إن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه تراباً ) .
…………………… رواه أبو داود وإسناده صحيح كما قال الحافظ ابن حجر
القول الثاني : يصح بيع الكلب .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
وعللوا بأن فيه منفعة مباحة فتجوز المعاوضة عليها .
القول الثالث : يجوز بيع كلب الصيد دون غيره .
وهذا جاء عن عطاء والنخعي .
لحديث ( أن النبي ( نهى عن ثمن الكلب إلا كلب صيد ) .
والراجح القول الأول .
أما رواية ( إلا كلب صيد ) فإنها غير صحيحة .
وقد ضعفها النسائي والنووي .
مثال : لو وجدنا شخصاً عنده كلب ماشية ، وأبى أن يعطيه أحداً احتاج إليه إلا بثمن ، فإنه يجوز أن يدفع مالاً ليأخذه والإثم على البائع .
مع أن البائع الذي باع الكلب إذا كان مستغنياً عنه حرام عليه اقتناؤه فضلاً عن بيعه .
2- أن الكلب غير متقوم ، بمعنى أنه لو أتلف كلب الصيد أو الحرث فلا قيمة له شرعاً ، وأن إتلافه هدر .(5/21)
3- قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : " هذه الأشياء الثلاثة [ ثمن الكلب ، ومهر البغي ، وحلوان الكاهن ] محرمة على الآخذ ومحرمة على المعطي ، فهذا رجل جاء إلى رجل عنده كلب صيد ، وأبى أن يبيعه إلا بعشرة آلاف ، فقبل المشتري ، ثم قال : : لا أعطيك عشرة آلاف لأن الرسول ( : نهى عن ثمن الكلب ، فنقول إما أن ترجع الكلب إن كان باقياً ، وإلا أعطنا الدراهم ، فنأخذ الدراهم منه ونجعلها في بيت مال المسلمين ، ولا نعطيها لصاحب الكلب ، لأنه لا يستحق ذلك ، فإذا قال صاحب الكلب ردوا علي كلبي ، نظرنا ، إن كان يحتاجه رددناه عليه وإن لم يكن في حاجة إليه قلنا : أنت لست بحاجة إليه ولا يحل لك أن تقتنيه " .
4- جاء في رواية عن جابر : ( أن النبي ( زجر عن ثمن الكلب والسنور ) . والسنور : هو القط .
وقد اختلف العلماء في بيع السنور :
القول الأول : لا يجوز بيعه .
وحكاه ابن المنذر عن أبي هريرة وطاووس ومجاهد وجابر بن زيد ، واحتجوا بالحديث الذي سبق ، وفيه نهي النبي ( عن ثمن السنور .
القول الثاني : يجوز بيعه .
قال النووي : " هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة " .
وأجاب الجمهور عن حديث النهي :
أولاً : الطعن في صحة الحديث ، وأشار إلى هذا الإمام الخطابي وعزاه النووي لابن المنذر .
وتعقبهما النووي بقوله : " أما ما ذكره الخطابي وابن المنذر أن الحديث ضعيف فغلط منهما ، لأن الحديث في صحيح مسلم بإسناد صحيح " .
ثانياً : أن المراد بالنهي نهي تنزيه .
ثالثاً : أن المراد بالنهي : الهرة الوحشية التي لا يملك قيادها فلا يصح بيعها لعدم الانتفاع بها .
قال النووي : " وأما النهي عن ثمن السنور فهو محمول على أنه لا ينفع ، أو على أنه نهي تنزيه حتى يعتاد الناس هبته وإعارته والسماحة به " .
رابعاً : أن الحديث محمول على أن ذلك كان في ابتداء الإسلام حين كان محكوماً بنجاسة السنور ، ثم حين صار محكوماً بطهارة سؤره حل ثمنه .(5/22)
والراجح القول الأول وهو التحريم .
5- خبث الكلب ، ولهذا حرم ثمنه حتى مع جواز الانتفاع به .
6- تحريم مهر البغي .
قال النووي : " وهو حرام بإجماع المسلمين " .
وهو حرام على الزانية وعلى الزاني .
والحكمة : لأن هذا عوض عن محرم ، والقاعدة : أن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه .
7- تحريم الكهانة .
8- تحريم إعطاء الكاهن أجرته على الكهانة .
قال البغوي والقاضي عياض: "أجمع المسلمون على تحريم حلوان الكاهن، لأنه عوض عن محرم، ولأنه أكل المال بالباطل" .
وإتيان الكاهن ينقسم إلى قسمين :
أولاً : أن يأتيه فيسأله ويصدقه ، فهذا كفر .
لقوله ( ( من أتى كاهناً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد ) رواه أبو داود .
ثانياً : أن يأتيه فيسأله ولم يصدقه ، فهذا حرام ولا تقبل له صلاة أربعين ليلة .
لقوله ( ( من أتى عرافاً لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ) رواه مسلم .
263 - عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ ( أَنْ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ: (( ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ . وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ , وَكَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
كسب : أي ما يكتسبه من مال أو أجرة .
الحجام : هو من يقوم بالحجامة ، والحجامة : إخراج الدم الفاسد من الإنسان .
الفوائد :
1- النهي عن ثمن الكلب ومهر البغي .
2- النهي عن كسب الحجام .
وقد اختلف العلماء في حكم كسب الحجام على قولين :
القول الأول : أنه حرام .
لحديث الباب : ( وكسب الحجام خبيث ) .
ولحديث أبي هريرة : ( أن النبي ( نهى عن كسب الحجام ) . رواه أحمد
القول الثاني : أنه حلال .
وهذا مذهب الجمهور .
لحديث ابن عباس قال : ( احتجم النبي ( وأعطى الحجام أجره ، ولو كان سحتاً لم يعطه ) . متفق عليه
وهذا القول هو الصحيح .
قال ابن القيم : " وتسميته إياه خبيثاً كتسميته ( للثوم والبصل خبيثين ، ولم يلزم من ذلك تحريمهما .(5/23)
والخبيث كما يطلق على المحرم ، يطلق على الشيء الرديء والكسب الدنيء ، كقوله تعالى : ( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ( . (البقرة: من الآية267)
3- أن كسب الحجامة كسب رديء ، لأن مهنته دنيئة .
4- ينبغي للمسلم أن يترفع عن سفاسف الأمور .
5- الحرص على معالي الأمور .
باب العرايا وغير ذلك
264 - عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ( (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( رَخَّصَ لِصَاحِبِ الْعَرِيَّةِ : أَنْ يَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا ))
وَلِمُسْلِمٍ : (( بِخَرْصِهَا تَمْراً , يَأْكُلُونَهَا رُطَباً )) .
265 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ )).
------------------------------------
معاني الكلمات :
رخص : الرخصة التسهيل في أمر ملزم به ، إما في تركه وإما في فعله .
العرايا : جمع عريّة ، مشتقة من التعري ، وهو التجرد ، لأنها عريت عن حكم باقي البستان .
الفوائد :
1- من المعلوم أن بيع الرطب بالتمر ( وهو المزابنة ) لا يجوز ، لأن الرطب ينقص إذا جف ، وبيع التمر بالتمر يشترط فيه شرطان :
التساوي - والتقابض .
والتساوي هنا معدوم .
لكن استثني من بيع المزابنة العرايا ، وصورتها :
أن يخرص الخارص نخلات فيقول : هذا الرطب الذي عليها إذا يبس يجيء منه ثلاثة أوسق من التمر مثلاً ، ويتقابضان في المجلس ، فيسلم المشتري التمر ، ويسلم بائع الرطب الرطب بالنخلة .
2- أفاد حديث الباب جواز بيع العرايا ، وهذا مذهب أكثر العلماء .
لحديث الباب .
وخالف أبو حنيفة وقال : " لا يجوز " .
لكن الصحيح مذهب الجمهور .
3- اشترط العلماء لحل العرايا شرطان :
الشرط الأول : أن تباع النخلة بخرصها ، ولا بد أن يكون من عالم به .
فلا يجوز أن يأتي أي أحد من الناس ، لا بد أن يكون الخارص خبيراً .
الشرط الثاني : أن يكون فيما دون خمسة أوسق ، وهذه لها أحوال :(5/24)
أولاً : الزيادة على خمسة أوسق ، لا يجوز بلا خلاف .
ثانياً : أقل من خمسة أوسق ، يجوز .
ثالثاً : في خمسة أوسق ، هذه فيها خلاف :
قيل : لا يجوز .
وهذا مذهب الحنابلة ، والشافعية ، ورجحه ابن المنذر . قالوا :
الأصل أن بيع التمر بالرطب حرام ، وتبقى الخمسة مشكوكاً فيها ، والأصل المنع .
وقيل : يجوز .
عملاً برواية الشك ( خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق ) .
والراجح الأول .
الشرط الثالث : أن يكون المشتري محتاجاً إلى الرطب ، فإن لم يكن محتاجاً فإنها لا تجوز .
لأن بيع العرايا رخص فيه للحاجة .
الشرط الرابع : التقابض بين الطرفين .
لأن الأصل في بيع التمر بالتمر أنه لا بد من شرطين : التساوي والتقابض .
فالتساوي عرفنا أنه رخص فيه ، ويبقى التقابض على الأصل لم يرخص فيه .
بيع النخلة إذا أبرت
266 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( مَنْ بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ , إلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ )) .
وَلِمُسْلِمٍ (( وَمَنْ ابْتَاعَ عَبْداً فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ إلاَّ أَنْ يُشْتَرَطَ الْمُبْتَاعُ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
نخلاً : أي أصول النخل .
أبرت : التأبير هو التلقيح ، وهو وضع طلع الفحل من النخل بين طلع الإناث .
المبتاع : المشتري .
الفوائد :
1- أن من اشترى نخلاً بعد التأبير فثمرتها للبائع .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لحديث الباب ، فهو صريح بذلك ، فهو يدل على أن ثمرة النخل المبيع يكون للبائع بعد التأبير ما لم يشترطه المبتاع .
والحكمة : لأن البائع عمل في هذه الثمرة عملاً يصلحها ، لأن التأبير يصلح الثمرة ، فلما عمل فيها عملاً يصلحها ، تعلقت بها وصار له تأثير فيها ، وبذلك جعلها الشارع له .
2- أنه لو باعها قبل التأبير فثمرتها للمشتري لمفهوم الحديث .(5/25)
3- لو اشترط المشتري أن تكون له الثمرة بعد التأبير فإنه يصح ، لقوله : ( إلا أن يشترط المبتاع ) .
4- يلحق بالتمر ما عداه كالعنب ، والتين ، والبرتقال .
5- هل يجوز للبائع إبقاء الثمرة على رؤوس الشجر إلى وقت الجذاذ ؟
قيل : للبائع إبقاؤها إلى الجذاذ .
وهذا مذهب جمهور العلماء .
وقيل : يجب على البائع قطع ثمرته من أصل المبيع في الحال .
وإليه ذهب الحنفية .
6- جواز الشروط في البيع ، لكن بشرط ألا تخالف الشريعة .
لقوله ( : ( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط ) . متفق عليه
7- هذا الحكم في هذا الحديث إنما هو لعام واحد ، وأما السنوات القادمة فهي للمشتري .
8- أن من باع عبداً وقد جعل بين يديه مالاً يتصرف فيه ، فالمال للبائع إلا أن يشترطه المشتري مع الصفقة ، أو يشترط بعضه ، فيدخل مع المبيع .
بيع الطعام قبل قبضه
267 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ )) وَفِي لَفْظٍ : (( حَتَّى يَقْبِضَهُ )) .
268 - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ .
------------------------------------
معاني الكلمات :
ابتاع : اشترى .
طعاماً : كل مأكول ومشروب .
الفوائد :
1- في هذا الحديث ينهى النبي ( عن بيع الطعام قبل قبضه . [ وستأتي صفة القبض إن شاء الله ]
مثال : اشتريت من صاحب هذه المزرعة هذه الكومة من الحب كل صاع بدرهم ، فجاءني شخص وقال : بع عليّ هذا البر الذي اشتريته ، فهذا لا يجوز حتى يستوفيه ويقبضه ويكيله .
2- وقد اختلف العلماء هل يقاس عليه غيره أم لا ؟ على ثلاثة أقوال :
القول الأول : لا يجوز بيع أي شيء قبل قبضه ، سواء مطعوم أو معدود أو عقار أو سيارات .
وهذا مذهب الشافعية ، وهو قول محمد وزفر من الحنفية ، ورجحه ابن القيم . أدلتهم :(5/26)
- حديث ابن عباس : ( من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه ) قال ابن عباس : " واحسب كل شيء مثله " .
- ولحديث حكيم بن حزام قال : ( قلت : يا رسول الله ، إني أشتري بيوعاً ، فما يحل لي منها وما يحرم ؟ قال : إذا اشتريت بيعاً فلا تبعه حتى تقبضه ) . لكنه حديث ضعيف رواه أحمد .
فقوله : ( إذا اشتريت بيوعاً ) هذا عام في النهي عن بيع ما لم يقبض .
- وبما رواه أبو داود عن زيد بن ثابت : ( أن النبي ( نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم ) .
فقوله : ( نهى أن تباع السلع ... ) يفيد العموم .
وهذا القول رجحه ابن القيم وأطال في نصرته .
القول الثاني : يجوز بيع كل شيء قبل قبضه إلا الطعام المكيل أو الموزون ، فلا يجوز حتى يقبضه . واستدلوا :
بحديث الباب : ( من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه ) . وفي رواية : ( حتى يستوفيه ) .
قالوا : الأحاديث الواردة جاءت خاصة بالطعام ، فدل هذا على أن غير الطعام ليس كذلك في الحكم .
وهذا مذهب المالكية .
القول الثالث : لا يجوز بيع أي شيء قبل قبضه ، لكن يستثنى العقار [ الأراضي ، المزارع ] .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
والراجح القول الأول ، وهو عدم جواز بيع شيء من المبيعات قبل قبضه .
3- ما الحكمة من منع بيع السلع قبل قبضها ؟
لعدم استيلاء المشتري على السلعة .
وعدم انقطاع علاقة البائع عنها ، فإنه يطمع في الفسخ ، وقد يمتنع من الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح .
وربما أمضاه إلى التحيل على فسخ العقد ولو ظلماً ، وجرّ ذلك إلى الخصام والمعاداة .
4- كيفية القبض :
بالنسبة للطعام يكون بالوزن ، فإذا وزنه فإنه يعتبر قبضه ، فيجوز بيعه .
أما بقية المبيعات فيرجع إلى العرف .
العقار : ويحصل بالتخلية ، لأن الشرع أمر بالقبض ، وأطلقه ، فيحمل على العرف والعادة ، وقد جرت العادة بقبض العقار ونحوه بالتخلية .
مثال : بعت بيتي على شخص ، القبض يكون : أن أعطيه المفتاح ، وأترك بيتي .(5/27)
والذهب والسيارات وغيرها من المنقولات : يكون بالنقل والتحويل .
فلو بعت أقلام على شخص ، فالقبض يكون باستلامها بيده .
5- أن البيع قبل القبض لا يجوز وباطل .
6- إذا تلف المبيع :
فإن كان قبل القبض ، فإنه من ضمان البائع .
وإن كان بعد القبض ، فإنه من ضمان المشتري .
تحريم بيع الميتة والخمر والخنزير
279 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ( يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ : (( إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ . فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ ؟ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ , وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ . وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ . فَقَالَ : لا ، هُوَ حَرَامٌ . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( عِنْدَ ذَلِكَ : قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ . إنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا ، جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
الخمر : كل ما أسكر العقل ، وسميت خمراً لأنها تخمر العقل ، أي تغطيه .
عام الفتح : أي فتح مكة ، وكان في رمضان عام ( 8 ) ه .
الميتة : بفتح الميم ، وهي ما زالت عنه الحياة بدون ذكاة شرعية .
الخنزير : حيوان نجس قبيح الشكل .
الأصنام : جمع صنم ، وهو ما كان منحوتاً على شكل صورة .
أرأيت : أي أخبرني ، هل يصح بيعها لما فيها من المنافع .
تطلى بها السفن : المعنى تدهن السفن بالشحوم بعد أن تذاب ، ليمنع ذلك تسرب الماء للخشب .
ويدهن بها الجلود : أي بعد دبغ الجلود تدهن بالشحوم بعد إذابتها لتلين .
قاتل الله اليهود : أي أهلكهم ولعنهم ، وهذا دعاء بالهلاك ، وقيل : معناه لعنهم وطردهم من رحمته .
جملوه : أي أذابوه حتى يصير ودكاً ، فيزول عنه اسم الشحم ، احتيالا على الوقوع في المحرم ، .(5/28)
الفوائد :
1- أن التحليل والتحريم لله ورسوله ، فما حرمه الله ورسوله فهو حرام ، وما أحلوه فهو حلال .
2- تحريم بيع الخمر ، وهذا بالإجماع ، وكذلك شربها واقتنائها .
وقد حكى غير واحد من العلماء الإجماع على تحريم بيعها كابن المنذر والنووي .
عن أنس قال : ( لعن رسول الله ( في الخمر عشرة : عاصرها ، ومعتصرها ، وشاربها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وساقيها وبائعها ، وآكل ثمنها ، والمشتري لها ، والمشتراة له ) . رواه أبو داود
الحكمة من تحريمها :
لما تسببه من العداوة والبغضاء .
ولأنها مفسدة للعقل .
3- تحريم بيع الميتة بجميع أجزائها ، وهذا بالإجماع كما حكاه ابن المنذر .
فالميتة يحرم أكلها ، ويحرم أيضاً بيعها .يستثنى من ذلك :
ميتة السمك ، والجراد .
فقد قال ( لما سئل عن البحر : ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) .
والجراد لما في الحديث: ( أحلت لنا ميتتان : السمك والجراد ) وهذا موقوف على ابن عمر ، وهو الأصح ، وله حكم الرفع.
ويستثنى من ذلك أيضاً :
شعرها والصوف والوبر والريش ، من لا يكتسب من خبثها ، ولا يصدق عليه أنه ميتة ، وهذا قول الجمهور .
والحكمة من تحريمها :
لأنها طعام خبيث مضر بالبدن .
واختلف العلماء في قوله ( : ( لا ، هو حرام ) هل يعود على البيع ، أو على الانتفاع ؟ على قولين :
القول الأول : أنه يعود على البيع ، أي لا يحل البيع .
وعلى هذا القول : يجوز الانتفاع بشحوم الميتة دون بيعها .
ورجح هذا القول ابن تيمية وابن القيم .
قال الصنعاني : " وهذا هو الأظهر " .
قال ابن القيم : " قال شيخنا ، هو راجع إلى البيع فإنه عليه الصلاة والسلام لما أخبرهم أن الله حرم بيع الميتة ، قالوا : إن في شحومها من المنافع كذا وكذا ، فهل ذلك مسوغ لبيعها ؟ فقال : لا ، هو حرام . وهذا القول هو الراجح ، لأن السياق بالبيع فلا يحل بيعها " .(5/29)
ولأن الانتفاع بالشحوم في غير الأكل انتفاع محض لا مفسدة فيه ، فيجوز الانتفاع بها في مثل دون بيعها ، وقد ذكر ابن القيم أن باب الانتفاع أوسع من باب البيع .
فقال رحمه الله : " وينبغي أن يعلم أن باب الانتفاع أوسع من باب البيع ، فليس كل ما حرم بيعه حرم الانتفاع به بل لا تلازم بينهما ، فلا يؤخذ تحريم الانتفاع من تحريم البيع " .
القول الثاني : أن الضمير يعود على الانتفاع ، أي لا يجوز الانتفاع بشحوم الميتة .
وعزاه النووي للجمهور . قالوا :
إن الضمير يعود على الانتفاع ، لأنه أقرب مذكور .
ولأن إباحة الانتفاع ذريعة إلى اقتناء الشحوم وبيعها ، واختاره الشيخ ابن باز رحمه الله .
والأول أصح .
4- تحريم بيع الأصنام .
قال ابن القيم : " تحريم بيع الأصنام أعظم تحريماً وإثماً وأشد منافاة للإسلام من بيع الميتة والخنزير " .
الحكمة من تحريمها :
لأنه ذريعة للشرك ومفسدة للأديان .
5- تحريم بيع الخنزير .
قال ابن المنذر : " أجمع أهل العلم على أن بيع الخنزير وشراؤه محرم " .
وقال ابن القيم : " وأما تحريم بيع الخنزير ، فيتناول جملته ، وجميع أجزائه الظاهرة والباطنة " .
وقال : " والخنزير أشد تحريماً من الميتة " .
لأن فيه مضار كبيرة ، وهو ينقل أمراضاً لجسم الإنسان ، وأيضاً له تأثير سيء على العفة والغيرة على الأعراض .
6- جواز لعن اليهود .
7- أن التحيل على محارم الله سبب لغضب الله .
8- أن المتحيل متشبه باليهود المغضوب عليهم .
والحيل لاستحلال الحرام أو تحريم الحلال حرام .
الأدلة على تحريم الحيلة إذا كانت لاستحلال الحرام أو تحريم الحلال :
- قال ( : ( لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود ، تستحلوا محارم الله بأدنى الحيل ) . رواه ابن بطة في الحيل(5/30)
- أن الله أخبر عن أهل الجنة الذين بلاهم بما بلاهم به في سورة القلم ، وأنه عاقبهم بأنه أرسل على جنتهم طائفاً وهم نائمون ، فأصبحت كالصريم ، وذلك لما تحيلوا على إسقاط نصيب المساكين بأن يصرموها مصبحين ، قبل مجيء المساكين .
- أن الله أخبر عن أهل السبت من اليهود بمسخهم قردة لما احتالوا على إباحة ما حرمه الله تعالى عليهم من الصيد ، بأن نصبوا الشباك يوم الجمعة ، فلما وقع فيها الصيد أخذوه يوم الأحد .
- حديث الباب ، ففيه بطلان كل حيلة يحتال بها المتوصل إلى المحرم ، وأنه لا يتغير حكمه بتغيير هيئته ، وتبديل اسمه وقد مثلت حيلة أصحاب الشحوم بمن قيل له : لا تقرب مال اليتيم ، فباعه وأخذ ثمنه ، فأكله ، وقال : لم آكل نفس مال اليتيم.
فائدة :
جاءت الشريعة بسد الذرائع المؤدية إلى المحرمات :
- نهى سبحانه عن سبّ آلهة المشركين ، لكونه ذريعة إلى أن يسبّوا الله سبحانه وتعالى عدواً وكفراً على وجه المقابلة .
- وأخبر النبي ( أن : ( من أكبر الكبائر شتْم الرجل والديه ، قالوا : وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال : نعم ، يسب أبا الرجل ، فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه ) .
- وأمسك ( عن قتل المنافقين ، مع ما فيه من مصلحة ، لكونه ذريعة إلى التنفير ، وقول الناس : إن محمداً يقتل أصحابه .
- ومنع النساء إذا خرجن إلى المسجد من الطيب والبخور .
- ونهى المرأة أن تصف لزوجها امرأة غيرها ، حتى كأنه ينظر إليها .
- ونهى عن بناء المساجد على القبور ، ولعن فاعله .
- ونهى عن الصلاة عند طلوع الشمس ، وعند غروبها ، لكون هذين الوقتين وقت سجود الكفار للشمس .
فائدة :
قال ابن القيم : " فالمسخ على صورة القردة والخنازير واقع في هذه الأمة ولا بد ، وهو واقع في طائفتين :(5/31)
علماء السوء الكاذبين على الله ورسوله ، الذين قلبوا دين الله وشرعه ، فقلب الله تعالى صورهم كما قلبوا دينه ، والمجاهرين المتهتكين بالفسق والمحارم ، ومن لم يمسخ منهم في الدنيا مسخ في قبره أو يوم القيامة " .
باب السلم
270 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : (( قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ( الْمَدِينَةَ , وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ : السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَالثَّلاثَ . فَقَالَ : مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ , وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ , إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
قدم رسول الله ( المدينة : جاء إليها مهاجراً .
وهم يسلفون : الواو فيه للحال ، أي وأهل المدينة من الأوس والخزرج وغيرهم يتعاملون بالسلف ، أي بالسلم .
والسلم تعريفه شرعاً : عقد على موصوف في الذمة مؤجل ، بثمن مقبوض في مجلس العقد .
السنة والسنتين : أي مدة سنة أو مدة سنتين ، يعني يدفعون المال إلى من يتعاملون معه بالسلم ، ويكون تسليم الثمار مؤجلاً إلى سنة أو إلى سنتين بعد تسليم الثمن .
أسلف : وعد في عقد صفقة سلم .
كيل معلوم : مقدار محدد من الكيل مع ضبط نوع الكيل .
وزن معلوم : أي فيما يوزن .
أجل معلوم : وقت محدد .
الفوائد :
1- مشروعية السلم .
وهو ثابت بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ ( . (البقرة: من الآية282)
وأما السنة : فلحديث الباب .
وقال ابن المنذر : " أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز " .
وقال الحافظ في الفتح : " واتفقوا على مشروعيته إلا ما حكي عن ابن المسيب " .
مثاله : أن أعطي رجل 100 ريال ، على أن يعطيني بعد سنة 100 كيلو من الأرز .
2- الحكمة منه :(5/32)
من أجل التوسعة ، لأن الإنسان يحتاج إلى نقود وعنده تمر أو صنعة تتأخر ، فيحتاج إلى شراء أدوات لصنعته أو ثمرته .
فالزارع يبدأ زرعه في شهر ربيع الثاني مثلاً ، ولا يحصده إلا في شهر شعبان أو بعده ، ففي هذه المدة هو بحاجة إلى دراهم لشراء البذور أو نفقة عماله أو عياله ، أو آلاته ، وأنت عندك دراهم لست بحاجة إليها ، فنقول له : أنا أشتري منك براً بأنقص من قيمته [ مثلاً يساوي الصاع ريالين ، وأنت تقول : أشتريه الآن بريال ] فكل منكما انتفع ، فالأول احتاج المال وأخذه ، والثاني اشتراه رخيصاً .
3- شرح التعريف :
( عقد على موصوف ) خرج به العقد على معين ، فليس بسلم .
( مؤجل ) لا بد أن يكون هناك تأجيل .
( بثمن مقبوض في مجلس العقد ) لا بد أن يقبض الثمن كاملاً في مجلس العقد .
4- شروط صحة السلم :
أولاً : أن يكون لأجل معلوم .
لقوله : ( إلى أجل معلوم ) . كشهر أو شهرين أو أكثر أو أقل بحسب الاتفاق .
فلا يصح أن يكون مجهولاً . لو قال : أسلمت إليك مائة درهم بمائة صاع من البر إلى مقدم زيد ، فهذا لا يجوز ، لأن مقدم زيد غير معلوم .
ثانياً : أن يقبض الثمن بمجلس العقد .
ثالثاً : ضبط صفات المسلم فيه - وهو الشيء المبيع - المراد الصفات التي لها أثر في اختلاف الثمن .
مثال : كصاع من البر أو التمر أو الشعير أو نحوها من المكيلات ، أو ما به كيل من السمك .
خص النبي ( الكيل والوزن بالذكر لغلبتهما وللتنبيه على غيرهما .
رابعاً : أن يكون المسلم فيه عام الوجود .
قال ابن قدامة : " ولا نعلم فيه خلافاً ، وذلك أنه إذا كان كذلك أمكن تسليمه عند وجوب تسليمه " .
5- هل يشترط كون المسلم فيه موجوداً حال السلم ؟
قيل : لا يشترط .
لأن النبي ( قال : ( من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ، أو وزن معلوم ، إلى أجل معلوم ) .
ولم يذكر الوجود ، ولو كان شرطاً لذكره ولنهاهم عن السلف سنتين .
وقيل : يشترط .
والأول أصح .(5/33)
6- اختلف العلماء في مقدار الأجل في السلم :
فقيل : لا فرق بين الأجل القريب والبعيد . فلو قدره بنصف يوم جاز .
وقيل : أقله ثلاثة أيام .
والصحيح أنه لا بد من أجل له وقع في الثمن ، يعني أن الثمن ينقص به ، أما ما لا يتأخر به الثمن فهذا غير مؤجل ، وبناء على ذلك يمكن أن تختلف المدة باعتبار المواسم .
7- اختلف العلماء في حكم الإسلام في الحيوانات على قولين :
القول الأول : لا يصح السلم في الحيوانات .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
لحديث ابن عباس . ( أن النبي ( نهى عن السلم في الحيوان ) رواه الحاكم وهو ضعيف .
ولأن الحيوانات تختلف اختلافاً متبايناً فلا يمكن ضبطه .
القول الثاني : أنه يصح السلم في الحيوان .
قال ابن المنذر : " ومما روينا عنه أنه لا بأس بالسلم في الحيوانات ، وهو قول ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن عمر ، وسعيد بن المسيب ، والحسن البصري ، والزهري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وإسحاق ، ومالك ، وأحمد " .
قالوا : قياساً على جواز القرض فيه ، فقد روى مسلم أنه ( اقترض بكراً . وهذا القول هو الصحيح .
8- حرصت الشريعة على سد كل باب يؤدي إلى التنازع والتباغض والخصومات .
9- السلم من بيوع الجاهلية التي أقرها الشرع ، لكن أضاف بعض الشروط التي تبعد الخصومات والتنازع .
فوائد :
قال ابن قدامة : " أما بيع المسلم فيه قبل قبضه فلا نعلم في تحريمه خلافاً " .
بابُ الشُّروطِ في البيعِ(5/34)
271 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (( جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ : فَقَالَتْ : كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ , فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ . فَأَعِينِينِي فَقُلْتُ : إنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ , وَوَلاؤُكِ لِي فَعَلْتُ . فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إلَى أَهْلِهَا , فَقَالَتْ : لَهُمْ . فَأَبَوْا عَلَيْهَا . فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ وَرَسُولُ اللَّهِ ( جَالِسٌ . فَقَالَتْ : إنِّي عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِي , فَأَبَوْا إلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْوَلاءُ . فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ ( . فَقَالَ : خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلاءَ . فَإِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ . فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ . ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ( فِي النَّاسِ , فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ . ثُمَّ قَالَ : أَمَّا بَعْدُ . فَمَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟ كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ . قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ . وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ . وَإِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
بريرة : مشتقة من البرير ، وهو ثمر الأراك ، قيل : كانت لناس من الأنصار ، وقيل : لناس من بني هلالة قاله ابن عبد البر ، وكانت تخدم عائشة قبل أن تعتق .
كاتبت أهلي : أي مواليها ، والكتابة : شراء العبد نفسه من سيده .
ولاؤك لي : الولاء لغة من الولاية ، وفي الشرع يطلق على عدة معان ، منها : ولاء العتق ، وهو أن الإنسان إذا أعتق عبداً صار عاصباً كعصوبة النسب تماماً .
واشترطي لهم : استشكل كيف يقول النبي ( لها : ( اشترطي لهم ) مع أنه شرط باطل . [ وسيأتي الجواب عن ذلك ]
قضاء الله أحق : أي بالاتباع من الشروط المخالفة له .(5/35)
وشرط الله أوثق : أي باتباع حدوده التي حدها .
ما بال رجال : ما حالهم .
أما بعد : كلمة يؤتى بها عند الدخول في صلب الموضوع بعد المقدمة ، وقول من يقول : يؤتى بها للانتقال من موضوع إلى موضوع ، ضعيف .
ما كان من شرط ليس في كتاب الله : قال ابن بطال : " المراد بكتاب الله هنا حكمه من كتابه أو سنة رسوله ( أو إجماع الأمة " .
وإن كان مائة شرط : قال القرطبي : " خرج مخرج التكثير ، يعني أن الشروط الغير مشروعة باطلة ولو كثرت " .
وقيل : المعنى لو شرط مائة مرة توكيداً فهو باطل ، ويؤيده رواية : ( وإن شرط مائة مرة ) .
الفوائد :
1- مشروعية الكتابة .
وقد أجمعت الأمة على مشروعية كتابة السيد لعبده .
قال تعالى : ( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ( . (النور: من الآية33)
وهل يجب على السيد مكاتبة عبده إذا طلب منه العبد ؟
اختلف العلماء على قولين :
القول الأول : أنه واجب .
وهذا مذهب ابن حزم ، ونقل وجوبه عن مسروق والضحاك .
لقوله تعالى : ( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ( . (النور: من الآية33)
القول الثاني : أنه غير واجب .
وهذا مذهب الجمهور .
والصارف عن الوجوب :
أن هذا مال له ، ولم يوجب الله عز وجل إخراج المال على المالك إلا بالزكاة أو النفقة الواجبة .
وهذا القول هو الصحيح .
لكن يسن للسيد أن يكاتبه إذا علم فيه خيراً ، استجابة لأمر الله .
2- أن الكتابة تكون مؤجلة إلى أقساط يدفعها العبد شيئاً فشيئاً .
3- جواز بيع المكاتب .
وقد اختلف العلماء في ذلك :
فقيل : لا يجوز شراء المكاتب .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
وقيل : يجوز .
وهذا مذهب أحمد والجمهور .
لأن النبي ( أذن لعائشة في شرائها ، وبريرة لم تأت لعائشة إلا لطلب العون .
4- استحباب طلب المعاونة والمساعدة عند العجز .
5- مشروعية إعانة الرقيق في إعتاق نفسه .
6- مشروعية مبايعة المرأة دون علم زوجها .
7- أن الولاء لمن أعتق .(5/36)
أن يكون عندك عبد ، فتعتق هذا الرقيق ، فيبقى ولاء هذا الرقيق لسيده الذي أعتقه ، فإذا توفي هذا الرقيق وعنده مال فإنه يرثه هذا السيد إذا لم يكن له وارث .
فالولاء من أسباب الميراث .
8- ما طلبه أهل بريرة أن يكون الولاء لهم ، مع أن عائشة هي التي تريد أن تعتقها ، هذا شرط باطل .
لكن استشكل صدور الإذن من النبي ( لعائشة بالموافقة بشراء بريرة من أهلها مع موافقتهم على اشتراط الولاء لهم وهو شرط باطل ؟!
قيل : أن معنى ( اشترطي لهم ) أن اللام في ( لهم ) بمعنى ( على ) .
كقوله تعالى : ( وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( . (الاسراء: من الآية7)
وهذا المشهور عن المزني ، وهو قول الشافعي .
وضعف هذا التأويل النووي ، وابن دقيق العيد .
وقيل : الأمر في قوله ( اشترطي ) للإباحة ، وهو على جهة التنبيه على أن ذلك لا ينفعهم ، فوجوده وعدمه سواء ، وكأنه يقول : اشترطي أو لا تشترطي فذلك لا يفيدهم .
ويقوي هذا التأويل رواية : ( اشتريها ودعيهم يشترطون ما شاءوا ) .
وقيل : كان النبي ( أعلم الناس بأن اشتراط البائع الولاء باطل ، واشتهر ذلك بحيث لا يخفى على أهل بريرة ، فلما أرادوا أن يشترطوا ما تقدم لهم العلم ببطلانه ، أطلق الأمر مريداً به التهديد على مآل الحال ، كقوله : ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ( . (التوبة: من الآية105)
وكأنه قال : اشترطي لهم فسيعلمون أن ذلك لا ينفعهم .
وقيل : الأمر فيه بمعنى الوعيد الذي ظاهره الأمر ، وباطنه النهي ، كقوله : ( اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( .
وقيل : اشترطي ودعيهم يعملون ما شاءوا أو نحو ذلك ، لأن ذلك غير قادح في العقد ، بل هو بمنزلة اللغو من الكلام ، وأخر إعلامهم بذلك ليكون رده وإبطاله شهيراً يخطب به على المنبر ظاهراً ، إذ هو أبلغ في التكبير وأوكد في التغيير .
وهذا القول أرجح .(5/37)
9- ينبغي على العلماء إذا علموا أمراً يحتاج إلى تنبيه يجب عليهم تنبيه العامة وتبليغهم .
10- ينبغي الاعتناء بأحكام الشريعة .
11- أن السنة لمن أراد أن يخطب أن يبدأ بتحميد الله ، وسواء في ذلك خطبة العيد والاستسقاء أو غيرهما .
12- أن خطب النبي ( تنقسم إلى قسمين :
دائمة - وعارضة .
الدائمة : مثل خطب الجمعة ، والعيدين .
العارضة : كأن يحدث أمر يريد التنبيه عليه .
13- أن هدي الرسول ( في الخطب أن لا يشهر ولا يفضح ، وإنما يستر وينصح .
14- السنة في الخطبة قول : أما بعد ، وهذه يؤتى بها عند إرادة الدخول في صلب الموضوع ، وكان هدي النبي ( استعمالها .
- لما كسفت الشمس ، قام النبي ( خطيباً وحمد الله بما هو أهله ، ثم قال : ( أما بعد : ما من شيء لم أكن قد رأيته إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار ... ) . متفق عليه
- وخطب مرة فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : ( أما بعد : فوالله إني لأعطي الرجل والذي أدع أحب إليّ .) متفق عليه
- وخطب ( فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : ( أما بعد : فإن هذا الحي من الأنصار ... ) .
15- أن كل شرط لا يوافق الشريعة فهو باطل مردود وإن كثر وأكّد .
16- أن كل شرط لا يخالف الشريعة فهو صحيح معمول به .
17- الشرط إذا كان صحيحاً فإنه يجب الوفاء به .
لقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُود( . (المائدة: من الآية1)
ولقوله سبحانه : ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ( . (الاسراء: من الآية34)
أمثلة للشروط الصحيحة :
- إذا طلب البائع رهناً .
مثال : أبيع على هذا الرجل شيئاً بثمن مؤجل ، فلا أثق به فأقول : ارهني بيتك مثلاً ، أو ساعتك .
- تأجيل الثمن ، وغالباً يطلبه المشتري .
مثال : أشتري سيارة من فلان ، وأطلب تأجيل الثمن لمدة سنة .
أمثلة للشروط الفاسدة :
كأن أبيع عليه سيارة ، وأشترط عليه عدم بيعها ، أو عدم هبتها .(5/38)
مثال : أن تشترط المرأة لقبول الرجل زوجاً لها ، أن يطلق زوجته .
والشروط قسمين :
شروط البيع : التي هي من وضع الشرع . [ وسبقت في أول الكتاب ]
الشروط في البيع : من وضع المتعاقدين ، وهذه يشترط فيها ألا تخالف الشرع .
18- استحباب تبيين الأحكام عند المناسبات .
19- أن السجع جائز إذا كان غير متكلف ، كما فعله النبي ( : ( قضاء الله أحق ، وشرط الله أوثق ، إنما الولاء لمن أعتق ) .
وأما إذا كان متكلفاً فهو من سجع الكهان ، فهذا لا ينبغي .
20- أن الولاء لمن أعتق .
21- أن أقضية الله وأحكامه وشروطه وحدوده هي المتبعة ، وما عداها فلا يتبع ولا يركن إليه .
22- جواز تعجيل الدين المؤجل ، لقولها : ( إن أحب أهلك أن أعدها لهم ) .
لكن لو عجل المدين [ صاحب المال ] الدين من أجل أن يسقط دينه ، فهل يجوز ؟
المذهب لا يجوز .
والصحيح أنه يجوز .
وقد روي عن النبي ( أنه قال : ( ضعوا وتعجلوا ) .
مثال : شخص يطلبني ألف ريال تحل في رمضان ، فقلت له : أدفعها لك الآن ( 900 ) ريال ، فإن ذلك يجوز .
23- إنكار القول الذي لا يوافق الشرع .
24- أنه يجوز للمرء أن يقضي عنه دينه برضاه .
25- جواز بيع التقسيط .
فائدة :
جمهور العلماء على أنه لا يجوز للمكاتب أن يتزوج بغير إذن سيده، لقوله ( : ( أيما عبد تزوج بغير إذن سيده فهو عاهر)
رواه مسلم
ففي هذا الحديث أبطل النبي ( نكاح العبد وشبهه بالزنا، والمكاتب عبد بدليل قوله (: ( المكاتب عبد ما بقي عليه
درهم ) . رواه أبو داود
فإن تزوج بغير إذن سيده فحكم نكاحه :
قيل : باطل : وهو مذهب الشافعي وأحمد .
وقيل : العقد صحيح ، ولكنه موقوف على إجازة السيد ، إن شاء جاز ، وإن شاء رد . وبه قال أبو حنيفة ومالك .(5/39)
272 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما : (( أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ فَأَعْيَا , فَأَرَادَ أَنْ يُسَيِّبَهُ . قال : فَلَحِقَنِي النَّبِيُّ ( فَدَعَا لِي وَضَرَبَهُ . فَسَارَ سَيْراً لَمْ يَسِرْ مِثْلَهُ قط . ثُمَّ قَالَ : بِعْنِيهِ بِأوُقِيَّةٍ . قُلْتُ : لا . ثُمَّ قَالَ : بِعْنِيهِ . فَبِعْتُهُ بِأُوقِيَّةٍ . وَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلانَهُ إلَى أَهْلِي . فَلَمَّا بَلَغْتُ ، أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ . فَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ . ثُمَّ رَجَعْتُ . فَأَرْسَلَ فِي أَثَْرِي . فَقَالَ : أَتُرَانِي مَاكَسْتُكَ لآخُذَ جَمَلَكَ ؟ خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ . فَهُوَ لَكَ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
أعيا : أي تعب .
فأراد أن يسيبه : أي يطلقه ، وليس المراد أن يجعله سائبة لا يركبه أحد كما كانوا يفعلون في الجاهلية ، لأنه لا يجوز في الإسلام .
بعنيه بأوقية ، قلت : لا : وفي رواية لأحمد : ( فكرهت أن أبيعه ) .
واستثنيت حُملانه : بضم الحاء ، أي استثنيت حمله إياي .
أتيته بالجمل : جاء في رواية : ( فلما قدم رسول الله ( المدينة عدوت إليه بالبعير .
فنقدني ثمنه : جاء في رواية : ( فأعطاني ثمن الجمل ، والجمل وسهمي مع القوم ، وفي رواية : ( فأعطاني ثمنه ورده علي ) .
قال الحافظ ابن حجر : " وهذا كله بطريق المجاز ، لأن العطية إنما وقعت له بواسطة بلال ، كما رواه مسلم " .
ما كستك : المماكسة المناقصة في الثمن ، وأشار بذلك إلى ما وقع بينهما من المساومة عند البيع .
الفوائد :
1- جواز ضرب الدابة للسير وإن كانت غير مكلفة ، بشرط ألا يشق عليها .
2- جواز المساومة لمن يعرض سلعته للبيع .
3- رأفة النبي ( وشدة عطفه ولطفه بأصحابه .
4- ينبغي على أمير القوم أن يرفق بضعيفهم .(5/40)
5- في الحديث جواز شرط البائع نفعاً معلوماً في المبيع ، كأن يقول : أبيع عليك داري ، بشرط أن أسكن فيه لمدة أسبوع .
مثال : بعت سيارتي واشترطت على المشتري أن أسافر بها إلى مكة .
وقد اختلف العلماء في هذا :
فقيل : لا يجوز .
وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي .
قالوا : لأن الشرط المذكور ينافي مقتضى العقد .
القول الثاني : أنه يجوز .
وهذا مذهب الأوزاعي ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وطائفة .
وهذا القول هو الصحيح .
لحديث الباب ، فإن جابراً باع على النبي ( الجمل ، واشترط أن يحمله إلى أن يصل المدينة .
لكن لا بد أن يكون الاستثناء معلوماً .
والعلم يكون : بالزمن ويكون بالعمل ويكون بالمسافة .
مثال الزمن : بعت بيتي واشترطت أن أسكن هذا البيت لمدة شهر .
مثال العمل : لو بعت عبداً ، واشترطت أن يخيط لي ثوباً .
مثال المسافة : لو بعت سيارة ، واشترطت أن أسافر بها إلى مكة .
فإن كان مجهولاً فلا يصح .
مثال : أبيعك بيتي بشرط أن أسكنه إلى قدوم زيد .
هذا لا يصح ، لأن قدوم زيد مجهولاً .
فائدة :
ما الحكم لو اشترط النفع في غير المبيع ؟
مثاله : بعتك بيتي على أن تسكنني بيتك شهراً .
المشهور من المذهب أنه لا يصح .
وقيل : يصح ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ، وابن القيم ، والشيخ السعدي .
لحديث الباب .
ولحديث : ( المسلمون على شروطهم ) .
6- جواز تكرار طلب البيع أو الشراء ، لقوله : ( بعنيه ، ثم قال : بعنيه ) وهذا لا يعد من الإلحاح المكروه .
7- جواز تسييب الدابة إذا لم يكن فيها منفعة .
8- إثبات معجزة من معجزات النبي ( ، وأنه من آيات نبوته .
لقول جابر : ( فضربه فسار سيراً لم يسر مثله قط ) .
9- مشروعية تقدم القبول على الإيجاب في البيع ، فلا حرج للمشتري أن يسبق البائع فيقول للبائع : بعني هذه الدار .
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا بد أن يكون الإيجاب قبل القبول ، ولكن هذا القول ضعيف .
10- جواز المماكسة في البيع .(5/41)
11- سماحة النبي ( وكرمه وحسن وفائه لأصحابه .
12- أن القبض ليس شرطاً في صحة البيع .
13- تواضعه ( .
14- جواز الوكالة في وفاء الديون .
15- فضيلة جابر ، حيث ترك حظ نفسه وامتثل أمر النبي ( له ببيع جمله مع احتياجه إليه .
فائدة :
قال الحافظ ابن حجر : " آل أمر جمل جابر هذا لما تقدم له من بركة النبي ( إلى مآل حسن ، فرأيت من ترجمة جابر من تاريخ ابن عساكر بسنده إلى أبي الزبير عن جابر قال : ( فأقام الجمل عندي زمان النبي ( وأبي بكر وعمر ، فعجز ، فأتيت به عمر ، فعرفت قصته ، فقال : اجعله في إبل الصدقة وفي أطيب المراعي ، ففعل به ذلك إلى أن مات " .
فائدة :
رجح الحافظ ابن حجر أن هذه القصة وقعت في غزوة ذات الرقاع في السنة الرابعة .
273 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( قَالَ : (( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ( أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ . وَلا تَنَاجَشُوا وَلا يَبِعِ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ . وَلا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَتِهِ . وَلا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلاقَ أُخْتِهَا لِتَكْفَأَ مَا فِي إِنَائِهَا )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
المرأة : هل المراد بها الزوجة أو هو عام ، والظاهر العموم ، يعني سواء كانت الزوجة السائلة ضرة للمسؤول طلاقها أم أجنبية ، يعني : لا تقل للرجل طلق فلانة .
لتكفأ ما في إنائها : كناية عن قطع إنفاق الزوج عليها ، لأن الزوج إذا أنفق على زوجته يأتي لها بالطعام بإناء ، فإذا طلقت فكأن التي سألت الطلاق حرمتها هذا الطعام فكفأته .
أختها : أي أختها في الدين .
الفوائد :
1- تحريم بيع الحاضر للباد . [ وقد سبقت المسألة ]
2- تحريم النجش . [ وقد سبقت المسألة ]
3- تحريم بيع المسلم على بيع أخيه المسلم . [ وقد سبقت المسألة ]
4- تحريم أن يخطب المسلم على أخيه المسلم .
مثال : أسمع أن فلاناً خطب فلانة ، فأذهب أنا وأخطبها ، فهذا حرام .
الحكمة من التحريم :(5/42)
لما في ذلك من الإفساد على الخاطب الأول ، وإيقاع العدوان بين الناس ، والتعدي على حقوقهم .
5- ما الحكم لو وقع ؟
يصح مع الإثم ، وهذا مذهب أكثر العلماء .
6- حالات الخطبة على الخطبة :
الأولى : إذا أجيب الخاطب الأول بالموافقة ، فهنا لا يجوز للخاطب الثاني أن يخطب .
الثانية : إذا ردّ الخاطب الأول ، فهنا يجوز للثاني أن يخطب .
الثالثة : أن يترك الخاطب الأول الخطبة ، ويعرض عنها ، فهنا يجوز .
الرابعة : أن يأذن الخاطب ، فهنا يجوز .
فقد جاء في الحديث : ( لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له ) .
الخامسة : إذا علم أنه خطب ، لكن لا يعلم هل قبلوه أو ردوه ؟ هذا محل خلاف .
والراجح أنه يحرم أن يخطب .
7- لا يجوز أن يخطب على خطبة غير المسلم .
لقوله ( : ( لا يخطب الرجل على خطبة الرجل ) .
فهذا الحديث ظاهره نهي خطبة الرجل على الرجل بدون تقييد بالإسلام .
وأما حديث : ( لا يخطب على خطبة أخيه ) فهذا التقييد محمول على الغالب فلا مفهوم له .
مثال : علمت أن يهودياً خطب يهودية ، فذهبت وخطبتها [ لأن المسلم يجوز أن يتزوج اليهودية ] .
8- يحرم للمرأة ( الزوجة الأولى ) أو غيرها ، أن تطلب من الرجل أن يطلق زوجته .
لو خطب رجل امرأة ، فشرطت عليه طلاق زوجته :
فقيل : يصح هذا الشرط مع مخالفته للنهي .
وقيل : لا يصح ، بل باطل .
وهذا هو الصحيح ، وهو اختيار ابن تيمية ، والشيخ السعدي .
بابُ الرِّبا والصَّرْفِ
274 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( الذَّهَبُ بِالْذهب رِبًا , إلاَّ هَاءَ وَهَاءَ ، والفضة بالفضة رباً ، إلا هاء وهاء ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِباً , إلاَّ هَاءَ وَهَاءَ . وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِباً , إلاَّ هَاءَ وَهَاءَ )) .(5/43)
275 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( لا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ . وَلا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ . وَلا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إلاَّ مِثْلاًّ بِمِثْلٍ . وَلا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ . وَلا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِباً
بِنَاجِزٍ )) .
وَفِي لَفْظٍ (( إلاَّ يَداً بِيَدٍ )) .
وَفِي لَفْظٍ (( إلاَّ وَزْناً بِوَزْنٍ , مِثْلاً بِمِثْلٍ ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
الذهب بالذهب : أي إذا بعت ذهب بذهب .
هاءَ وهاء : أي التقابض .
إلا مثلاً بمثل : هذا في الوزن ، أي لا يزيد أحدهما على الآخر .
ولا تشفوا : هذا تأكيد لقوله : ( إلا مثلاً بمثل ) أي لا تزيدوا ، فمعنى الحديث : أن بيع الذهب بالذهب ، أو الفضة بالفضة أو البر بالبر ، لا بد من شرطين :
- التقابض ، لقوله : ( إلا هاءَ وهاء ) .
- التماثل ، لقوله : ( إلا مثلاً بمثل ) .
الفوائد :
1- تعريف الربا :
لغة : الزيادة ، ومنه قوله تعالى : ( فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ( . (الحج: من الآية5) أي زادت .
وشرعاً : الزيادة في أشياء مخصوصة [ الأصناف الستة : الذهب ، والفضة ، والبر ، والشعير ، والتمر ، والملح ] .
وحكمه :
حرام بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : ( وَحَرَّمَ الرِّبا ( . (البقرة: من الآية275)
وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( . (البقرة:278)
وقال تعالى : ( يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ( . (البقرة: من الآية276)
وقال ( : ( اجتنبوا السبع الموبقات : ... وذكر منها : وأكل الربا ) .
وقال ( : ( لعن رسول الله ( آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه ) . رواه مسلم(5/44)
وعن ابن مسعود عن النبي ( قال : ( ما أحد أكثر من الربا إلا كان أمره إلى قلة ) . رواه أحمد
وقال ابن قدامة : " أجمعت الأمة على أن الربا محرم " .
والربا ينقسم إلى قسمين :
ربا النسيئة - وربا الفضل .
الأول : ربا النسيئة .
مأخوذ من النسيء ، وهو التأخير .
تعريفه : تأخير القبض عند مبادلة الربوي بالربوي سواء كان من جنسه أو من غير جنسه إذا اتحدا في العلة .
مثال : بر ببر بعد شهر ، ذهب بذهب بعد شهر ، ريالات بدنانير بعد أسبوع .
ومن ربا النسيئة : قلب الدين على المعسر .
وهذا هو أصل الربا في الجاهلية ، أن الرجل يكون له على الرجل المال المؤجل ، فإذا حل الأجل ، قال له : أتقضي أم تربي ؟ فإن وفاه وإلا زاد هذا في الأجل ، وزاد هذا في المال ، فيتضاعف المال في ذمة المدين .
فهذا محرم ، وهو ربا الجاهلية .
لأنه إذا حل الدين وكان الغريم معسراً ، لا يجوز أن يقلب الدين عليه ، بل يجب إنظاره ، ويحرم مطالبته .
لقوله تعالى : ( وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ( . (البقرة: من الآية280)
الثاني : ربا الفضل .
وهو الزيادة في مبادلة مال ربوي بمال ربوي من جنسه .
مثال : لو باع صاع بصاعين ، أو درهماً بدرهمين حالاً .
ويحصل غالباً لوجود صفة في أحد الشيئين كالجودة .
وقد نص الشارع في تحريمه في ستة أشياء ، هي : الذهب ، والفضة ، والبر ، والشعير ، والتمر ، والملح .
ويقاس عليها ما شاركها في العلة . [ كما سيأتي بيانه بعد قليل إن شاء الله ]
فائدة :
وقد يجتمع ربا الفضل مع ربا النسيئة عند مبادلة الربوي بربوي من جنسه مع تأخير القبض .
مثال : مائة ريال بمائة وعشرين بعد شهر مثلاً .
وقد وجد خلاف قديم في ربا الفضل :
فقد ذهب بعض الصحابة كابن عباس وابن عمر ، إلى جوازه . واستدلوا :
بحديث أسامة بن زيد قال : قال رسول الله ( : ( إنما الربا في النسيئة ) .
وذهب جماهير العلماء إلى تحريمه .(5/45)
لحديث عبادة قال: قال رسول الله (:(الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح ، مثلاً بمثل ، سواء بسواء ، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) . رواه مسلم
فالحديث ظاهر في إيجاب التساوي والتقابض في بيع المتماثلين .
ولحديث الباب : ( لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا منها غائباً بناجز ) .
فالحديث ظاهر في منع التفاضل في بيع الجنس بجنسه ، فمن فعل فقد أربى .
حديث أبي هريرة أن رسول الله ( استعمل رجلاً على خيبر فجاءه بتمر جنيب ، فقال : أكل تمر خيبر هكذا ، فقال : لا والله يا رسول الله ، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين ، والصاعين بالثلاثة ، فقال رسول الله ( : لا تفعل ، بع الجمْع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً ) . متفق عليه
الجمع : قال النووي : الجمع : بفتح الجيم وإسكان الميم هو تمر رديء .
الجنيب : نوع من التمر جيد .
فالحديث فيه أن النبي ( نهى عن التفاضل في التمر ببيع الصاع بالصاعين ، ونحو ذلك .
وأجاب الجمهور عن حديث أسامة : ( لا ربا إلا في النسيئة ) بأجوبة :
أولاً : قيل : أنه منسوخ .
ثانياً : وقيل : أن المراد في قوله ( لا ربا ) حصر الكمال ، أي الربا الكامل الأغلظ الأشد المتوعد عليه .
2- اتفق العلماء على جريان الربا في ستة أصناف التي ذكرت في الأحاديث السابقة ، كحديث عبادة وغيره :
الذهب ، والفضة ، والبر ، والشعير ، والتمر ، والملح .
قال ( في حديث عبادة السابق : ( الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والملح بالملح ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، مثلاً بمثل ، يداً بيد ) .
واختلفوا هل يجري الربا في غيرها على أقوال :
القول ألأول : أن الربا لا يجري إلا في هذه الأصناف الستة ، ولا يتعداها على غيرها .
وهذا مذهب طاووس وقتادة .(5/46)
قالوا : أن علل الجمهور التي استنبطوها [ وستأتي بعد قليل ] ضعيفة ، وإذا لم تظهر فيه علة امتنع القياس .
وممن يرى هذا الرأي ابن حزم ، لأنه لا يرى القياس .
القول الثاني : أن الحكم يتعدى إلى غيرها .
وهذا مذهب جماهير العلماء بما فيهم الأئمة الأربعة .
وهذا القول هو الصحيح .
لكن هؤلاء الجمهور اختلفوا في العلة في هذه الأصناف :
[ اتفقوا أن العلة في الذهب والفضة غير العلة في الأربعة الباقية ]
أولاً : العلة في الذهب والفضة :
القول الأول : العلة هي الوزن .
وعلى هذا القول يجري الربا في كل موزون ، كالحديد والرصاص واللحم والسكر .
هذا مذهب الحنفية والحنابلة .
القول الثاني : أن العلة في الذهب والفضة الثمنية .
فكل ما كان ثمناً فإنه يجري فيه الربا .
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ، وابن القيم .
وبناء على ذلك يتعدى الذهب والفضة إلى الفلوس والأوراق النقدية ، وكل ما عده الناس ثمناً .
وهذا القول هو الراجح .
ثانياً : العلة في الأصناف الأربعة [ البر ، والشعير ، والتمر ، والملح ] :
القول الأول : العلة الكيل .
وهذا مذهب أبي حنيفة ، والمشهور من مذهب الحنابلة .
فكل مكيل على هذا القول يجري فيه الربا : كالأرز ، والإشنان ، وغيرهما .
القول الثاني : أن العلة هي الطعم .
وهذا مذهب الشافعي .
وعلى هذا القول يحرم الربا في كل مطعوم ، سواء كان مما يكال ، أو يوزن ، أو غيرهما كالفواكه ، والبصل ، والرمان ، وغيرها ، لأنها مطعومة .
القول الثالث : أن العلة هي القوت والادخار .
أي كون الطعام قوتاً ويدخر .
وهذا مذهب مالك ، واختاره ابن القيم .
القول الرابع : أن العلة هي الطعم ، مع الكيل والوزن .
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية .
وهذا هو الراجح .
لأن حديث عبادة المتقدم ، الأصناف مطعومة مكيلة .
أمثلة :
- بعت سيارة بسيارتين : ليس فيه ربا على جميع الأقوال .(5/47)
- بعت بيضة ببيضتين : ليس فيه ربا على القول الصحيح ، وعند الشافعي فيه ربا .
- بعت كيس رز بكيسين : فيه ربا على جميع الأقوال ، ما عدا الظاهرية .
3- من خلال أحاديث الباب ، وحديث عبادة : ( الذهب بالذهب ، والفضة ... يداً بيد ، مثلاً بمثل ) نستطيع أن نستخرج قواعد وضوابط عن الربا :
الضابط الأول : إذا بيع ربوي بجنسه ، فإنه يشترط فيه شرطان :
التساوي والتماثل ( فلا يزيد بعضهما على بعض ) - والتقابض .
أمثلة : ذهب بذهب ، فضة بفضة ، بر ببر ، تمر بتمر .
مائة صاع بمائة صاع بر .
لقوله ( : ( مثلاً بمثل ) هذا في التساوي .
وقوله ( : ( يداً بيد ) هذا التقابض في المجلس .
الضابط الثاني : إذا بيع الربوي بجنس آخر مما يساويه في العلة ، فإنه يشترط شرط واحد : وهو التقابض .
كذهب بفضة ، بر بشعير ، تمر بملح ، شعير بأرز .
فيجوز أن أبيع مائة صاع من البر بمائتين من التمر ، بشرط التقابض في مجلس العقد .
مثال آخر : باع صاع من البر بصاعين من الشعير ، وتقابضا في مجلس العقد ، فإن هذه معاملة صحيحة .
لقوله ( : ( فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد ) .
ولقوله ( : ( ولا يباع منها غائباً بناجز ) .
الضابط الثالث : إذا بيع الربوي بربوي آخر مما لا يساويه في العلة ، فإنه لا يشترط شيء ، فيجوز التقابض والتأجيل .
مثال : ذهب ببر ، وفضة بشعير .
فوائد :
إذا بيع ربوي بغير ربوي ، فإن المعالمة تصح ولا يشترط التساوي أو الحلول والتقابض .
مثال : إذا باع ريالات بثوب أو بساعة .(5/48)
276- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ( قَالَ : (( جَاءَ بِلالٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ( بِتَمْرٍ بَرْنِيِّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ( : مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا ؟ قَالَ بِلالٌ : كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيءٌ , فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِيَطْعَمَ النَّبِيُّ ( . فَقَالَ النَّبِيُّ ( عِنْدَ ذَلِكَ : أَوَّهْ , أَوَّهْ , عَيْنُ الرِّبَا , عَيْنُ الرِّبَا , لا تَفْعَلْ . وَلَكِنْ إذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعْ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ . ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
برني : تمر جيد من تمر المدينة .
أوّه : كلمة يؤتى بها للتوجع .
الفوائد :
1- في هذا الحديث جاء بلال إلى النبي ( بتمر برني جيد ، فتعجب النبي ( من جودته ، فقال : من أين هذا ، فقال بلال : كان عندنا تمر ، فبعت الصاعين من الردىء بصاع من هذا الجيد ، ليكون مطعم النبي ( ، فعظم ذلك على النبي ( وأخبر بلال بأن عمله هذا هو عين الربا ، فلا تفعل ثم أرشده للطريقة الصحيحة ، وهي إذا أراد استبدال ردىء بجيد ، أن يبيع الردىء بدراهم ثم اشتر بالدراهم تمراً جيداً .
2- أن اختلاف الجنس في الجودة والرداءة لا يؤثر في منع الربا ، فإن النبي ( قال : عين الربا ، مع أن القيمة مختلفة ، فإن الردىء لا يساوي في القيمة الجيد ، ومع ذلك منع الرسول ( الفضل بينهما [ بين التمرين ] لأنهما من جنس الواحد .
3- تحريم التفاضل ببيع نوعي الجنس الواحد من الأشياء الربوية .
4- أن التفاضل بينهما محرما ولو كان أحدهما أجود من الآخر [ فالعبرة بالتساوي قدراً لا جودة أو رداءة ] .
5- شدة إكرام الصحابة للرسول (
6- أن النبي ( لا يعلم الغيب .
7- تعظيم أمر الربا .
8- وجوب إنكار المنكر .
9- لا ذنب على الجاهل .
10- ينبغي للعالم والمفتي إذا أخبر بتحريم شيء ، أن يبين للناس أبواب الحلال التي تغني عن الحرام .(5/49)
11- عظم المعصية ، وكيف بلغت من نفس النبي ( .
12- استدل بحديث الباب الشافعية وقالوا بحل بيع العينة .
والعينة تعريفها : مثل أن يكون محتاج إلى دراهم فلا يجد من يقرضه ، فيقوم ويشتري من شخص سلعة بثمن مؤجل ، ثم يبيعها على صاحبها الذي اشتراها منه بثمن أقل منه نقداً .
وقد اختلف العلماء في حكمها على قولين :
القول الأول : أنها جائزة .
وهذا مذهب الشافعي .
لعموم قوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْع ( . (البقرة: من الآية275 )
ولحديث الباب .
القول الثاني : أنها حرام .
وهذا مذهب جماهير العلماء من الحنفية والمالكية والحنابلة .
لقوله ( ( إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذنباب البقر وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم ) رواه أبو داود .
ولأنها حيلة على الربا .
باب الصرف
277 - عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ قَالَ : (( سَأَلْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ , عَنْ الصَّرْفِ ؟ فَكُلُّ وَاحِدٍ منهما يَقُولُ : هَذَا خَيْرٌ مِنِّي . وَكِلاهُمَا يَقُولُ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ( عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ دَيْناً )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
الصرف لغة : هو الصوت . واصطلاحاً : بيع نقد بنقد كبيع الذهب بالفضة .
الورق : الفضة .
الفوائد :
1- في هذا الحديث ينهى النبي ( عن بيع الذهب بالفضة ديناً ، لاجتماعهما في علة الربا ، فحينئذٍ لا بد فيهما من التقابض في مجلس العقد ، وإلا لما صح الصرف ، وصار ربا النسيئة .
2- فإذا بيع نقد بنقد :
- فإن كان من جنسه ، كذهب بذهب ، أو دولارات بدولارات ، وجب : التساوي - التقابض .
- وإن بيع نقد بنقد من غير جنسه ، كدراهم سعودية ، بدولارات مثلاً ، وجب حينئذٍ شيء واحد : وهو التقابض .
3- فضل أصحاب النبي ( ، وأنهم يعترفون لعلمائهم بالفضل والعلم .
4- جواز التزكية والثناء والمدح ، لكن بشروط :(5/50)
أولاً : وجود الحاجة للتزكية .
ثانياً : أن يكون بالحق لا بالباطل .
ثالثاً : أن لا يبالغ في التزكية .
رابعاً : أن تؤمن الفتنة على الشخص الممدوح .
5- ورع الصحابة في تدافع الفتوى .
6- يجوز للعالم أن يحيل السائل لمن هو أعلم منه .
بابُ الرَّهْنِ وغيرِهِ
278 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَاماً , وَرَهَنَهُ دِرْعاً مِنْ حَدِيدٍ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
يهودي : سموا اليهود بذلك من قولهم : إنا هدنا إليك ، أي تبنا إليك ، وقيل : نسبة إلى جدهم يهودا .
الفوائد :
1- الحديث يدل على جواز الرهن .
والرهن لغة : الثبوت ، يقال : ماء راهن : أي راكد .
واصطلاحاً : توثقة دين بعين يمكن استيفاؤه أو بعضه منها أو من بعضها .
مثال : اشتريت من رجل طاولة إلى أجل ، وطلب رهناً ، فأعطيته ساعتي رهناً .
- فإذا كان الرهن أكثر من الدين ، فإنه يمكن استيفاء الدين من بعضها .
- وإذا كان الدين أكثر من العين المرهونة ، فإنه يمكن استيفاء بعضه منها .
- وإذا كان الدين بقدر العين ، فإنه يمكن استيفاؤه كله منها .
وهو جائز بالكتاب والسنة والإجماع :
قال تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ( . (البقرة: من الآية283)
ومن السنة حديث الباب .
والإجماع ، قال ابن قدامة : " فقد أجمع المسلمون على جواز الرهن في الجملة " .
فالرهن جائز في الحضر والسفر .
أما السفر : للآية الكريمة السابقة .
وأما الحضر : فلحديث الباب ، فإن النبي ( فعله وهو مقيم في المدينة ( موطنه ) .
الحكمة من مشروعية الرهن :
أولاً : توثقة الدين .
ثانياً : ضمان لحقوق الناس من تلاعب المتلاعبين ، وتساهل المتساهلين .(5/51)
فإذا كان الإنسان المدين ، قد أخذ على صاحب الدين رهناً ، فإنه يسعى في سداد دينه ، فإن لم يستطع السداد أمكن لصاحب الدين أن يأخذ حقه دون أن يُماطَل .
ثالثاً : فيه تشجيع للمرتهن أن يدفع ماله ديناً .
رابعاً : فيه ضمان للمرتهنين على أموالهم .
خامساً : فتح باب التعاون والمساعدة .
أركان الرهن :
الراهن : وهو الذي أعطى الرهن .
المرتهن : وهو الذي أخذ الرهن .
ما الذي يجوز رهنه ؟
كل ما يجوز بيعه يجوز رهنه .
لأن مقصود الرهن الاستيثاق من الرهن ، وهذا يتحقق في كل ما يجوز بيعه ، فما كان محلاً للبيع يتحقق فيه المقصود من الرهن .
هل يشترط لصحة الرهن أن يكون مقبوضاً أولاً ؟ اختلف العلماء :
القول الأول : وجوب القبض .
لظاهر الآية : ( فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ( . (البقرة: من الآية283)
فوصفت الآية الرهان بكونها مقبوضة .
وعلى هذا القول ، فإذا رهنتك بيتي ولم تستلمه ولم تقبضه فالرهن في حقي ليس بلازم ، فيجوز أن أبيعه .
مثال آخر : رهنتك سيارتي ، وأنا أستعملها ، فالرهن ليس بلازم ، فيجوز أن أبيعها ، لأن الرهن لا يلزم إلا بالقبض .
القول الثاني : أن القبض ليس شرطاً للزوم .
وهذا مذهب المالكية .
لقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ( . (المائدة: من الآية1) وعقد الرهن تام بالاتفاق فيجب الوفاء به .
وقال تعالى : ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ( . (الاسراء: من الآية34) فالإنسان الذي قد رهنك قد عاهدك ، لأن العقد عهد .
وهذا الذي رجحه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله .
انتفاع المرتهن بالرهن ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : ما لا يحتاج إلى مؤنة ، كالدار والمتاع ونحوه .
فلا يجوز للمرتهن الانتفاع به بغير إذن الراهن بحال ، لا نعلم في هذا خلافاً ، لأن الرهن ملك الراهن .
القسم الثاني : ما يحتاج فيه إلى مؤنة مما يركب أو يحلب .(5/52)
فقد اختلف العلماء : هل يجوز للمرتهن الانتفاع به بغير إذنه على قولين :
القول الأول : لا يجوز إلا بإذن الراهن .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
قالوا : لأن المرهون ملك غيره لم يأذن له في الانتفاع به ، ولا الإنفاق فلم يكن له ذلك .
القول الثاني : يجوز للمرتهن الانتفاع بالدابة بقدر النفقة ، متحرياً العدل .
وهذا مذهب الحنابلة ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ، وابن القيم .
لحديث أبي هريرة قال : قال رسول الله ( : ( الرهن يُركب بنفقته إذا كان مرهوناً ، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً ، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة ) . رواه البخاري
وجه الدلالة : أن الحديث جعل المنفعة بدلاً وعوضاً عن النفقة .
وهذا القول هو الصحيح .
وهو مقتضى القياس لوجوه :
أولاً : أن هذا الرهن بحاجة إلى النفقة ، ولو ترك لهلك .
ثانياً : في إلزام الراهن بالنفقة مشقة ، لأنه قد يكون غائباً أو في بلد آخر ، فكيف يأتي ليعلف دابته ويحلبها كل يوم ففيه مشقة على الراهن ، ومشقة في حق المرتهن ، فلو ترك الراهن النفقة هلك الرهن .
الرهن أمانة في حق المرتهن .
وعلى ذلك ، فإذا تلف عند المرتهن من غير تعد ولا تفريط فلا يضمن ، وإذا تعدى وفرط ضمن .
التعدي : أن يفعل ما لا يجوز .
التفريط : أن يترك ما يجب .
لأنه لو تم تضمين المرتهن ( وهو لم يتعد ولم يفرط ) لا متنع الناس من فعله خوفاً من الضمان .
قال ابن قدامة : " أما إذا تعدى المرتهن في الرهن ، أو فرط في الحفظ للرهن الذي عنده ثم تلف ، فإنه يضمن ، لا نعلم في وجوب الضمان عليه خلافاً ، ولأنه أمانة في يده فلزمه ضمانه إذا تلف بتعديه أو تفريطه كالوديعة " .
لا ينفذ تصرف الراهن والمرتهن بغير إذن الآخر .
- أما عدم نفوذ تصرف المرتهن : لأنه ليس بمالك ، ولا قائماً مقام الملك .(5/53)
مثال : أخذت منك مائة ريال ، وأعطيتك هذا المسجل رهن ، المسجل الآن رهن عند المرتهن ، فالمرتهن لا يملك أن يبيع المسجل ، لأنه ليس ملكاً له ، ولا قائماً مقام الملك .
- وأما عدم نفوذ تصرف الراهن : فلتعلق حق المرتهن به ، فتصرفه فيه يستلزم إبطال حق المرتهن .
إذا حل الأجل :
فإنه يقال للراهن : سدد الدين .
فإن امتنع من تسديد الدين ، قيل له : بع الرهن وسدد منه .
فإن رفض حبس حتى يسدد الدين أو يبيع الرهن .
لقوله ( : ( لي الواجد يحل عرضه وعقوبته ) . رواه أبو داود
لي : بفتح اللام وتشديد الياء ومعناه التسويف والمماطلة . الواجد : القادر على الوفاء .
عرضه : أي يبيح لدائنه أن يصفه بكونه ظالماً . وعقوبته : حبسه أو تأديبه حسب رأي الحاكم .
فإن أبى مع الحبس ، فإن القاضي يتدخل ويبيع الرهن ويوفي الدين .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
2- من فوائد حديث الباب مشروعية التعامل مع الكفار ، فالنبي ( لم يمنعه كفر اليهودي من التعامل معه بالبيع والشراء ، بشرط ألا يتعارض البيع والشراء مع الشرع .
3- يجوز التعامل مع من يتعامل بالربا بالبيع والشراء ، خارج أمور الربا .
مثال : عندي سيارة أريد أن أبيعها ، فأراد شخص ( مرابي ) أن يشتريها ، فلا بأس بذلك .
4- مشروعية بيوع الآجال .
5- مشروعية الأخذ بالأسباب ، وأن ذلك لا ينافي التوكل .
6- فيه ما كان عليه ( من التقلل من الدنيا وملازمة الفقر .
7- جواز رهن آلة الحرب .
8- قال النووي : " وأما شراء النبي ( الطعام من اليهودي ورهنه عنده دون الصحابة ، فقيل : فعله بياناً لجواز ذلك . وقيل : لأنه لم يكن هناك طعام فاضل عن حاجة صاحبه . وقيل : لأن الصحابة لا يأخذون رهنه ( ولا يقبضون منه الثمن ، فعدل إلى معاملة اليهودي لئلا يضيق على أحد من أصحابه " .(5/54)
279 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ . وإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ )) .
------------------------------------
هذا الحديث يحتوي على جملتين :
الجملة الأولى : ( مطل الغني ظلم ) .
معاني الكلمات :
مطل : المراد هنا تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر [ قاله ابن حجر ] .
الغني : القادر على الأداء فأخّره .
الفوائد :
1- تحريم مطل وتأخير سداد الدين إذا كان الإنسان مستطيعاً .
والدليل على تحريم المطل ، أن النبي ( سماها ظلماً ، فإذا كان ظلماً علم بذلك أنه حرام .
مسائل الدين :
أولاً : يحرم على الغني [ القادر على الأداء ] أن يمطل ويؤخر سداد الدين .
لحديث الباب .
ثانياً : أن مطل غير القادر ليس بظلم ، فلو مطل الإنسان الفقير فلا شيء عليه .
ثالثاً : لا يجوز مطالبة الإنسان المعسر ، ويجب إنظاره ، لأنه معذور .
لقوله تعالى : ( وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ( . (البقرة: من الآية280)
قال ابن كثير : " يأمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاءً " .
رابعاً : التحذير من الدين والتساهل به .
قال ( : ( نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه ) . رواه الترمذي
قال الصنعاني : " وهذا الحديث من الدلائل على أنه لا يزال الميت مشغولاً بدينه بعد موته ، ففيه حث على التخلص منه قبل الموت ، وأنه أهم الحقوق ، وإذا كان هذا في الدين المأخوذ برضا صاحبه ، فكيف بما أخذ غصباً ونهباً وسلباً " .
وقال ( : ( يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين ) . رواه مسلم
إلا الدين : المقصود به الذي تساهل به ولم يسدده وهو قادر عليه .
خامساً : يجب على المدين أن ينوي السداد إذا استدان لحاجة .
قال ( : ( من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله ) . رواه البخاري(5/55)
قال الحافظ ابن حجر : " ( أتلفه الله ) ظاهره أن الإتلاف يقع له في الدنيا ، وذلك في معاشه أو في نفسه ، وهو من أعلام النبوة لما نرى من المشاهدة ممن يتعاطى شيئاً من الأمرين ، وقيل المراد بالإتلاف عذاب الآخرة " .
أدى عنه : أي يوفقه ويعينه على السداد .
وقال ( : ( ما من مسلم يدانُ ديناً ، يعلم الله منه أنه يريد أداءه إلا أداه الله عنه في الدنيا ) . رواه ابن ماجه
سادساً : أن النبي ( استعاذ من الدين .
عن أنس عن النبي ( أنه كان يقول : ( اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل ... وضلع الديْن ) . رواه البخاري
قال القرطبي : " ( ضلع الديْن ) هو الذي لا يجد دائنه من حيث يؤديه " .
الجملة الثانية : ( وإذا أتبع أحدكم على مليء ... ) .
معاني الكلمات :
أتبع : أي أحيل .
مليء : أي قادر على الوفاء بماله وبدنه .
- قادر على الوفاء بماله : يعني يكون واجداً للمال الذي أحيل عليه ، فإن كان فقيراً فليس بمليء .
- ببدنه : أي يمكن أن يحضر إلى مجلس الحكم عند المحاكمة فيما إذا امتنع عن الوفاء .
فلوا أحالك على أبيك ، فإنه لا يلزم القبول ، لأنه لا يمكن أن تحاكم أباك .
- وحاله : أي غير مماطل ، فإن كان مماطلاً فإنه لا يلزم التحول .
الفوائد :
1- الحديث دليل على مشروعية الحوالة .
تعريفها : نقل الحق من ذمة إلى ذمة .
مثالها : زيد يطلب عمر مائة درهم ، وعمر يطلب خالد مائة درهم ، فجاء زيد إلى عمر وقال : أعطني حقي ، فقال عمر : إن لي حقاً عند خالد هو مائة درهم ، وقد أحلتك عليه ، إذاً : تحول الحق من ذمة عمر إلى ذمة خالد .
وعمر في هذه الحالة لا يكون مطالباً بشيء ، لأن الحق تحول من ذمته إلى ذمة خالد .
وهي جائزة بالسنة والإجماع .
السنة : لحديث الباب .
والإجماع : قال ابن قدامة : " أجمع أهل العلم على جواز الحوالة في الجملة " .
أركانها :
محيل : وهو من عليه الحق .
محال : وهو من له الحق .
محال عليه : وهو المطلوب للمحيل .(5/56)
الحكمة منها :
هي من عقود الإرفاق ، ففيها إرفاق للطالب والمطلوب .
- أما الطالب : فوجه الإرفاق في حقه أنه ربما يكون المطلوب ذا صلة بالطالب بقرابة أو غيره ، فيشق عليه أن يطالبه ، فيحيل المطلوب على الثالث فيكون إرفاقاً بالمحيل ( الطالب ) .
- أما بالنسبة للمطلوب : فلأن الطالب قد يكون سيء المعاملة بالنسبة للمطلوب ، يضايقه ويكثر الترداد عليه ، فيتخلص منه بالتحويل إلى ذمة الآخر ، فيكون إرفاقاً بالمطلوب .
من الذي لا يشترط رضاه ومن الذي يشترط ؟
أولاً : المحيل .
يشترط رضاه بالإجماع .
قال الشوكاني : " ويشترط في صحة الحوالة رضا المحيل بلا خلاف " .
وقال في المغني : " ولا خلاف في هذا ، أي أن رضا المحيل شرط بلا خلاف " .
ثانياً : المحال عليه .
لا يشترط رضاه ، وهذا مذهب الجمهور .
لأن المطلوب منه تسديد الدين لأحدهما ، فليس لطلب رضاه معنى .
ثالثاً : المحال .
إن أحيل على مليء قادر فإنه يجب أن يتحول ، ولا يشترط رضاه .
لظاهر قوله ( : ( وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع ) .
وهذا أمر ، والأمر يقتضي الوجوب .
وهذا مذهب الحنابلة ، وهو القول الصحيح .
( أما إذا حوله على مماطل ، أو غير مليء ، فإنه لا يلزمه التحول ، ولا بد من رضاه ) .
( وذهب جماهير العلماء إلى أن الأمر للاستحباب ، وأنه لا يلزم للمحيل أن يتحول ، وحملوا الأمر في الحديث على الاستحباب ) .
الخلاصة :
المحيل : يشترط رضاه .
المحال عليه : لا يشترط رضاه .
المحال : تفصيل : إذا كان على مليء قادر ، يجب أن يتحول ولا يشترط رضاه ، وإن كان فقيراً أو مماطلاً ، فإنه لا يجب أن يتحول .
إذا تمت الحوالة :
فإنه ينتقل الحق إلى ذمة المحال عليه ، وبرئ المحيل بمجرد الحوالة .
قال ابن قدامة : " وهذا قول عامة الفقهاء " .(5/57)
280 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( - أَوْ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ ( يَقُولُ - : (( مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ - أَوْ إنْسَانٍ - قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
بعينه : أي لم يتغير ولم يتبدل .
فهو أحق به من غيره : أي كائناً من كان وارثاً وغريماً .
قد أفلس : المفلس شرعاً : ما تزيد ديونه على موجوده ، سمي مفلساً لأنه صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم ودنانير ، إشارة إلى أنه صار لا يملك إلا أدنى الأموال وهي الفلوس ، أو سمي بذلك لأنه يمنع التصرف إلا في الشيء التافه كالفلوس ، لأنهم ما كانوا يتعاملون بها إلا في الأشياء الحقيرة ، أو لأنه صار إلى حالة لا يملك فيها فلساً .
الفوائد :
1- في هذا الحديث يخبر النبي ( أن من باع متاعه [ كسيارة ، أو ثوباً ، أو غيره ] لأحد مؤجلاً، أو ودعه ، فأفلس المشتري ، بأن كان ماله لا يفي بديونه ، فللبائع أخذ متاعه إذا وجد عينه ، بأن كان بحالة لم تتغير صفاته بما يخرجه عن اسمه ، ولم يقبض من ثمنه شيئاً ، فحينئذٍ يكون أحق به من الغرماء .
وهذه المسألة وقع فيها خلاف بين العلماء :
القول الأول : أن من وجد عين ماله عند من أفلس ، فهو أحق به من غيره .
وهذا مذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة .
قال ابن عبد البر : " وممن قال بهذا الحديث ، واستعمله وأفتى به ، فقهاء المدينة ، وفقهاء الشام ، وفقهاء البصرة ، وجماعة من أهل الحديث " .
لحديث الباب .
القول الثاني : أن البائع غير مستحق لأخذ عين ماله حين يجده ، بل يكون أسوة بين الغرماء .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
لكن هذا قول ضعيف مصادم للنص .
والراجح مذهب الجمهور .
وقد جاء في رواية : ( إذا أفلس الرجل فوجد البائع سلعته بعينها فهو أحق بها دون الغرماء ) . رواه ابن حبان(5/58)
2- نستفيد من الحديث أن تقديم صاحب السلعة على غيره يكون بشرط : أن يجد ماله بعينه ، أي لم يتغير ولم يتبدل ، فإن تغير فهو أسوة الغرماء .
مثال : باع رجل على رجل بعيراً ، ثم أفلس هذا الرجل ، لكن البعير سمنت أكثر ، فهنا لا يستحق هذا المال ، بل يكون أسوة الغرماء .
كذلك إذا قبض من ثمنه شيئاً ، فإنه في هذه الحالة لا حق له ، ويكون أسوة الغرماء .
فقد جاء في رواية : ( أيما رجل باع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض البائع من ثمنه شيئاً فوجده بعينه فهو أحق به ).
فمفهومه أنه إذا قبض من ثمنه شيئاً كان أسوة الغرماء .
3- اختلف العلماء إذا مات المفلس ، هل يكون الرجل أحق بماله أو يكون أسوة الغرماء ؟
فقال بعض العلماء : هو أحق بماله .
وهذا مذهب الشافعي .
قال الحافظ ابن حجر : " واحتج الشافعي بحديث أبي هريرة قال : ( قضى رسول الله ( أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه ) وهو حديث حسن يحتج بمثله ، أخرجه أحمد وأبو داود " .
وقيل : بل يكون أسوة الغرماء .
وهذا مذهب مالك وأحمد .
وفرقوا بين الفَلَس والموت : بأن الميت خربت ذمته فليس للغرماء محل يرجعون إليه فاستووا في ذلك بخلاف المفلس .
وبعضهم استدل بقوله : ( من أدرك ماله بعينه عند رجل ) وبعد موته لا يكون أدركه عند هذا الرجل ، وإنما أدركه عند الورثة .
؛؛؛ والله أعلم ؛؛؛
فائدة :
إذا مات صاحب المتاع ، فهل تسقط حق ورثته ، أو أن الورثة ينزلون منزلة المورث ؟
قولان للعلماء ، والراجح فيها أنه يورث فيكون الورثة أحق به من بقية الغرماء .
4- مشروعية الحجر .
وهو لغة المنع .
وشرعاً : منع الإنسان من التصرف في ماله فقط ، وهو ينقسم إلى قسمين :
أولاً : حجر لمصلحة الغير .
مثل الحجر لمصلحة الغرماء .
ثانياً : حجر لمصلحة المحجور عليه .
كالحجر على السفيه والصغير والمجنون .
- الحجر لمصلحة الغير :(5/59)
يمنع الإنسان من التصرف في ماله فقط ، إذا كان الإنسان مدين ودينه أكثر من ماله ، فإنه يحجر عليه لمصلحة الغرماء ، بطلب منهم .
مثال : دينه عشرة آلاف ، وعنده خمسة ، فهذا يحجر عليه ، فيمنعه القاضي من التصرف في ماله فلا يبيع ولا يشتري ولا يهب .
- لكن الحجر لا يكون إلا إذا طلب الغرماء أو بعضهم .
- فإذا حجر القاضي على شخص بطلب من الغرماء : فإن الإنسان الذي يجد ماله بعينه ، ولم يتغير ، فإنه يأخذه ، ولا يكون أسوة الغرماء .
لحديث الباب .
281 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ : (( جَعَلَ - وَفِي لَفْظٍ قَضَى - النَّبِيُّ ( بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ . فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ , وَصُرفَتِ الطُّرُقُ : فَلا شُفْعَةَ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
قضى : أي حكم .
وقعت الحدود : أي عينت .
وصرفت الطرق : أي بينت مصارفها وشوارعها .
الفوائد :
1- الحديث دليل على ثبوت الشفعة .
وهي : انتزاع الشريك حصة شريكه ممن اشتراها منه بالثمن الذي استقر عليه العقد .
مثالها : زيد وعمرو شريكان في أرض ، فباع عمرو نصيبه على خالد ، فلزيد أن ينتزع نصيب عمرو من خالد بثمنه الذي استقر عليه العقد .
والشفعة ثابتة بالسنة والإجماع .
أما السنة : فلحديث الباب .
قال ابن حجر : " وهذا الحديث أصل في ثبوت الشفعة " .
وأما الإجماع فنقله ابن المنذر ، فقال : " وأجمعوا على إثبات الشفعة للشريك الذي لم يقاسم ، فيما بيع من أرض أو دار أو حائط " .
2- لا يخلوا انتقال العين إلى المالك الجديد من حالات :
الحالة الأولى : أن يكون انتقال العين بطريق البيع بعوض مالي .
فهذا تثبت فيه الشفعة بلا خلاف .
الحالة الثانية : أن يكون بطريق الإرث .
وهذا لا شفعة فيه بالاتفاق .(5/60)
مثال : زيد وعمرو شريكان في أرض ، فمات عمرو ، فانتقل نصيبه إلى ورثته ، فليس لزيد أن يشفع ، لأنه انتقل بغير عوض ، ولأنه انتقال غير اختياري .
الحالة الثالثة : أن يكون بغير عوض ، كالهبة ، والصدقة .
مثال : أن يهب الشريك نصيبه لشخص ، فهذا لا شفعة فيه عند أكثر العلماء .
وقيل : له الشفعة .
وهو قول ابن أبي ليلى .
لأن الشفعة شرعت لإزالة الضرر عن الشركاء ، والضرر موجود بينهم في الهبة والصدقة ، ورجح هذا القول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله .
3- حديث الباب دليل على ثبوت الشفعة في العقارات التي لم تقسم ، واختلفوا هل تثبت في غيرها كالمنقولات ، مثل السيارات والأواني ؟ على قولين :
القول الأول : لا شفعة إلا في العقار ، فلا شفعة في المنقولات .
واستدلوا بحديث الباب .
حيث قصر الشفعة على ما هو عقار بقرينة وقوع الحدود وتصريف الطرق .
القول الثاني : أن الشفعة تثبت في كل شيء حتى المنقولات .
وهذا مذهب الظاهرية وجماعة .
لقوله ( في حديث الباب : ( قضى النبي ( بالشفعة في كل شيء ) .
قالوا : و ( كل ) من صيغ العموم .
وقالوا : إن الضرر الحاصل في العقار ، هو بعينه ثابت في المنقول .
وقالوا : إن التفريق بين المنقول وغير المنقول لا معنى له .
وهذا القول هو الراجح .
مثاله : زيد وعمرو شريكان في سيارة ، فباع عمرو نصيبه على بكر ، فإنه على القول الراجح لزيد أن يشفع .
وأجاب أصحاب هذا القول عن قوله : ( ... فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق ) قالوا : إن ذكر الحكم لبعض أفراد العموم لا يقتضي تخصيص .
بمعنى : إذا جاء عموم ، ثم فرع عليه بذكر حكم يختلف ببعض إفراده فإنه لا يقتضي التخصيص .
4- واستدل بحديث الباب من قال أنه لا شفعة للجار .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنه لا شفعة للجار .
روي هذا القول عن عمر وعثمان وعلي الزهري ، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة ، ورجحه ابن المنذر .(5/61)
فهو إذاً مذهب الجمهور .
الأدلة :
حديث الباب : ( ... فإذا وقعت الحدود ... ) .
قالوا : أن منطوق الحديث إثبات الشفعة للشريك بما لم يقسم ، وفي مفهومه نفي الشفعة فيما قسم .
وقالوا : أن الشفعة تثبت للشريك لما قسم بينهما من حقوق متداخلة تؤدي إلى الضرر فيما بينهما ، فبيع الشريك حصته إلى غير شريكه يعرض الشريك إلى استدامة ذلك الضرر اللاحق بحصته من التزاحم في المرافق ، وهذا المعنى غير موجود في
الجوار .
القول الثاني : أن للجار الشفعة .
وهذا مذهب الحنفية .
لحديث جابر قال : قال رسول الله ( : ( الجار أحق بشفعة جاره ، ينتظر بها وإن كان غائباً إذا كان طريقهما واحد ) .
………………………… رواه أبو داود
ولحديث الشريد بن سويد قال : قال رسول الله ( : ( الجار أحق بسقبه ) . رواه البخاري
السقب : هو ما قرب من الدار أو لاصقها .
القول الثالث : تثبت الشفعة للجار بشرط أن يكون بين الجارين مرافق مشتركة من طريق أو مسيل أو فناء أو غير ذلك.
وهذا اختيار شيخ الإسلام وابن القيم ، واختاره الشيخ السعدي .
لحديث جابر قال : قال رسول الله ( : ( الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائباً إذا كان طريقهما واحداً ) .
قالوا : فدل الحديث على ثبوت الشفعة للجار إذا كان شريكاً في الطريق .
وهذا القول هو الراجح جمعاً بين الأدلة .
5- اختلف العلماء هل طلب الشفعة على الفور أم لا ؟ على قولين :
القول الأول : أنها على الفور .
أي أنها تطلب من حين أن يعلم ، فيجب أن يطالب بالشفعة ، فإن أخر سقطت الشفعة .
وهذا مذهب الحنفية والحنابلة .
لحديث ابن عمر قال : قال رسول الله ( : ( والشفعة كحل العقال ) . رواه ابن ماجه
قال الحافظ : " إسناده ضعيف جداً " .
القول الثاني : أنها على التراخي .
وهذا مذهب المالكية والظاهرية .
قالوا : إن الشفيع يحتاج قبل إعلان رغبته في الأخذ بالشفعة إلى مهلة يختار فيها ما يريده من الأخذ والترك .(5/62)
وهذا القول هو الصحيح ، وأن الشفعة لا تسقط إلا بما يدل على سقوطها بقول صريح أو قرينة ظاهرة .
القول الصريح : أن يقول لما علم أن شريكه قد باع يقول : أنا لست بمطالب .
القرينة الظاهرة : أن يسكت ويرى أن المشتري قد تصرف وعمل وهو ساكت ، فهذه قرينة ظاهرة يدل على أنه راضي.
6- تحريم التحيل لإسقاط الشفعة .
لقوله ( : ( لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل ) .
ولأن في التحيل إسقاط لحق المسلم ، والتحيل لإسقاط حق المسلم حرام .
ولأنه من باب العدوان على المسلمين .
والتحيل له صور :
أ- أن يظهر الشريك والمشتري أن الانتقال بغير عوض ، فيقول الشريك لشريكه : إنني قد وهبت فلان نصيبي من الأرض ، فإذا قال : وهبت ، فلا شفعة على مذهب الجمهور .
ب- أن يظهر البائع [ الذي هو الشريك ] والمشتري أن البيع بثمن كثير ، مثل أن يبيعه بعشرة آلاف ، فيقول : إنني بعتها بخمسين ألف ، فهنا الشفيع لن يطالب بالشفعة ، لأنه إذا طالب فإنه سوف يأخذها بالثمن الذي استقر عليه القدر .
282 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : (( قَدْ أَصَابَ عُمَرُ أَرْضاً بِخَيْبَرَ . فَأَتَى النَّبِيَّ ( يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا . فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنِّي أَصَبْتُ أَرْضاً بِخَيْبَرَ , لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ , فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ ؟ فَقَالَ : إنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا , وَتَصَدَّقْتَ بِهَا . قَالَ : فَتَصَدَّقَ بِهَا عمر. غَيْرَ أَنَّهُ لا يُبَاعُ أَصْلُهَا , وَلا يُوهَبُ , وَلا يُورَّثُ . قَالَ : فَتَصَدَّقَ عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ , وَفِي الْقُرْبَى , وَفِي الرِّقَابِ , وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَابْنِ السَّبِيلِ , وَالضَّيْفِ . لا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا ، أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ , أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقاً , غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ )) .(5/63)
وَفِي لَفْظٍ : (( غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
أرضاً بخيبر : جاء في رواية : ( أن عمر أصاب أرضاً من يهود بني حارثة يقال لها ثمغ ) .
أنفس منه : أي أجود ، والنفيس الجدي المغتبط به .
وتصدقت بها : أي بمنفعتها ، وقد جاء في رواية : ( احبس أصلها وسبل ثمرتها ) .
لا يباع أصلها : أي لا تباع هذه الأرض الموقوفة .
ولا يورث : ولا يتقاسمها الورثة بعد موت المالك .
ولا يوهب : ولا يعطى لأحد ليمتلكه .
القربى : قيل : المراد بهم قربى الواقف ، وبه جزم القرطبي .
في سبيل الله : للغزاة المجاهدين في سبيل الله .
وابن السبيل : المسافر الذي انقضت به النفقة في غير بلده .
الضيف : هو من نزل بقوم يريد القرى .
يأكل بالمعروف : المراد بالمعروف القدر الذي جرت به العادة ، وقيل : أن يأخذ منه بقدر عمله . قال الحافظ : " والأول أولى " .
غير متمول فيه : أي غير متخذ منها مالاً ، أي ملكاً ، والمراد أنه لا يتملك شيئاً من رقابها .
الفوائد :
1- الحديث دليل مشروعية الوقف .
تعريفه : هو تحبيس الأصل ، وتسبيل المنفعة .
مثال : بيتي هذا وقف ، البيت أصل ، سكنى البيت منفعة .
وهو مشروع بالسنة والإجماع .
قال النووي : "وفي هذا الحديث دليل على صحة الوقف ، وأنه مخالف لشوائب الجاهلية ، وهذا مذهبنا ومذهب الجماهير ، ويدل عليه أيضاً إجماع المسلمين على صحة وقف المساجد والسقايات " .
ومما يدل على مشروعيته قوله ( : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : ... وذكر منها : أو صدقة جارية ) . رواه مسلم
والوقف من الصدقة الجارية .
2- أن الوقف لا يباع ، لقوله ( : ( لا يباع أصلها ) .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
فلا يجوز بيع الوقف .
وشذ أبو حنيفة فأجاز بيع الوقف والرجوع فيه .
وخالفه أصحابه في ذلك .
قال أبو يوسف : " لو بلغ أبا حنيفة حديث عمر ، لقال به ، ورجع عن بيع الوقف " .(5/64)
إلا أن تتعطل منافعه بالكلية ، كدار انهدمت ولم يمكن عمارتها من ريع الوقف ، أو أرض زراعيه خربت وعادت مواتاً ، ولم يمكن عمارتها بحيث لا يكون في ريع الوقف ما يعمرها ، فيباع الوقف الذي هذه حاله ، ويصرف ثمنه في مثله ، لأنه أقرب إلى مقصود الوقف ، فإن تعذر مثله كاملاً ، صرف في بعض مثله ، ويصير البديل وقفاً بمجرد شراءه .
3- للوقف صيغ يصح بها :
قال في المغني : " وألفاظ الوقف ستة ، ثلاثة صريحة ، وثلاثة كناية :
فالصريحة : وقفت ، حبست ، سبلت .
متى أتى بواحدة من هذه الثلاث صار وقفاً من غير انضمام أمر زائد ، لأن هذه الألفاظ ثبت لها عرف الاستعمال بين الناس، وانضم إلى ذلك عرف الشرع .
وأما الكناية : تصدقت ، حرمت ، أبدت .
فهذه لا يحصل بها الوقف إلا بشروط :
أولاً : النية ، فيكون على ما نوى .
ثانياً : أن ينضم إليها أحد الألفاظ الخمسة .
مثال : تصدقت بداري صدقة موقوفة .
تصدقت بهذه الدار محبسة .
ثالثاً : أن يصفها بصفات الوقف .
فيقول : تصدقت بهذا البيت صدقة لا تباع [ الذي لا يباع هو الوقف ] " .
4- يشترط لصحة الوقف شروط :
أولاً : أن يكون الواقف جائز التصرف .
بأن يكون بالغاً حراً رشيداً .
ثانياً : أن يكون الوقف على بر .
لأن المقصود به التقرب إلى الله .
كالمساجد ، والمساكين ، وكتب العلم ، والأقارب .
ثالثاً : أن يكون الموقف بما ينتفع به انتفاعاً مستمراً مع بقاء عينه .
فلا يصح وقف ما لا يبقى بعد الانتفاع به ، كالطعام .
رابعاً : أن يكون الموقف معيناً .
فلا يصح وقف غير المعين .
مثال : وقفت إحدى بيتيّ ، لا يصح .
5- يجب العمل بشرط الواقف .
لأنه خرج من ملك الواقف على شرط معين.
فيجب العمل بشرطه في الجميع .
قال : هذا وقف على زيد ومحمد وخالد وعلي ، فإنهم يعطون سواء .
ويجب العمل بشرطه في التقديم .
قال : هذا وقف على زيد ثم خالد .(5/65)
إذا لم يشترط شيئاً : استوى في الاستحقاق الغني والفقير والذكر والأنثى من الموقوف عليهم .
6- الناظر على الوقف :
1- إن عين الواقف شخصاً معيناً ، فإنه هو يكون المسؤول .
2- إن لم يعين ، فالناظر هو الموقوف عليهم .
لكن يستثنى :
- إذا كان الموقوف عليهم لا يمكن حصرهم ، كالمساكين ، وطلاب العلم ، فهنا يكون القاضي .
- وإذا كان الموقوف عليهم جهة لا تملك ، كالمساجد .
7- لا تجوز هبة الوقف .
8- أن الوقف لا يجري فيه الميراث .
9- هل يجب تعميم الموقوف عليهم بالتساوي ؟
أولاً : إذا وقف على جماعة يمكن حصرهم ، وجب تعميمهم بالتساوي . مثال :
هذا وقف على عيال أحمد ، وكانوا خمسة ، فهنا يجب التعميم والتساوي .
ثانياً : إذا وقف على جماعة لا يمكن حصرهم ، فيجوز أن يقتصر على صنف واحد . مثال :
الفقراء - طلاب العلم .
10- المشهور من المذهب أنه يجوز أن يوقف على أولاده الذكور دون الإناث .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : " والصحيح أنه لا يجوز ، لأنه ظلم وجور ، وقال ( : ( اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ) " .
- لو قال : هذا وقف على أولاد زيد الذكور دون الإناث ، فإنه يصح ، لأنه لا يجب العدل ، لأنهم ليسوا أبناءه .
- إن أوقف على قبيلة ، فإنه يشمل الجميع الذكور والإناث ، إلا أولاد النساء من غيرهم .
- لا يشترط قبول الوقف إذا كان على جهة كالفقراء .
وأما إذا كان على معين فلا يشترط قبوله أيضاً ، ولكن ينتقل إلى من بعده .
مثال : لو قال : هذا وقف على زيد ، ثم المساكين ، وقال زيد : لا أريده ، ينتقل فوراً إلى المساكين .
11- فضيلة الوقف .
12- فضيلة ظاهرة لعمر .
13- مشاورة أهل الفضل والصلاح في الأمور وطرق الخير .
14- فضيلة صلة الرحم والإنفاق عليهم .
15- أن المشير يشير بأحسن ما يظهر له في جميع الأمور .(5/66)
16- فضيلة الإنفاق من أحب المال ، لقوله تعالى : ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ( . (آل عمران: من الآية92)
17- فضيلة الصدقة الجارية .
18- أن للواقف أن يشترط لنفسه جزءاً من ريع الموقوف ، لأن عمر شرط لمن ولي وقفه أن يأكل منه بالمعروف ولم يستثن .
183 - وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله ( قال : (( العائد في هبته كالعائد في قيئه )) .
وفي لفظ : (( فإن الذي يعود في صدقته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
العائد في هبته : أي الراجع فيها .
والهبة : هي التبرع بالمال حال الحياة .
( حال الحياة ) ليخرج بذلك الوصية.
الفوائد :
1- الحديث دليل على تحريم الرجوع في الهبة .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة :
القول الأول : يحرم الرجوع في الهبة ( المقبوضة ) .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لحديث الباب : ( العائد في هبته ... ) .
فقد شبه النبي ( العائد في هبته في أقبح صورة ، فإن الكلب من أخبث الحيوانات ، ثم إن هذه الصورة من أبشع الصور ، أن يقيء ثم يعود في قيئه .
ويدل على التحريم قوله ( : ( لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده ) . رواه أبو داود
( لا يحل ) أي يحرم .
وقوله ( : ( ليس لنا مثل السوء ، العائد في هبته كالكلب ... ) .
( ليس لنا مثل السوء ) أي لا ينبغي لنا معشر المؤمنين أن نتصف بصفة ذميمة يشابهنا فيها أخس الحيوانات في أخس أحوالها، قال تعالى : ( للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى ( ولعل هذا أبلغ في الزجر عن ذلك وأدل على التحريم مما لو قال مثلاً : لا تعودوا في الهبة . [ قاله الحافظ ابن حجر ]
القول الثاني : يجوز الرجوع في الهبة .
وهذا مذهب الحنفية .
قالوا : لأن النبي ( شبه الراجع في الهبة بالكلب ، والكلب لا يتعلق بعمله تكليف .
وهذا قول ضعيف ، والصحيح الأول .(5/67)
أما قبل القبض فليس الرجوع فيها حراماً .
مثال : قلت لشخص سأعطيك غداً كتاباً ، فلما جاء الغد لم أعطه وتراجعت ، فهذا لا يسمى رجوعاً في الهبة .
لكن هو من باب إخلاف الوعد ، وإخلاف الوعد مذموم ومن صفات المنافقين ، وذهب بعض العلماء إلى أنه حرام .
2- استثنى جمهور العلماء من تحريم الرجوع في الهبة ما يهبه الوالد لولده ، فإن له الرجوع .
لحديث : ( لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده ) . رواه أبو داود
فهذا الحديث فيه فوائد :
- جواز رجوع الوالد فيما وهب ولده .
- المشهور من المذهب أن الرجوع في الهبة جائز للأب خاصة دون الأم ، وذهب بعض العلماء إلى العموم ، وأنه لا فرق بين الأب والأم .
- لا فرق بين أن يكون الولد كبيراً أو صغيراً .
- إذا كان الرجوع حيلة على التفضيل فهنا يحرم الرجوع .
مثال : إنسان عرف أنه لو أعطى أحد بنيه سيارة دون الآخر فهو حرام ، فاحتال وأعطى الاثنين سيارتين ، كل واحد سيارة ، ثم بعد ذلك رجع في هبة أحدهما ، فحصل في الأمر أنه أعطى واحد وترك الآخر ، فإذا كانت بنية الرجوع أن يفضل أحدهما على الآخر صار الرجوع حراماً ، لقول النبي ( : ( إنما الأعمال بالنيات ) .
الفرق بين الهبة والهدية والصدقة :
الهبة : ما قصد به نفع الموهوب .
الهدية : ما قصد به التودد والتحبب .
الصدقة : ما قصد به ثواب الله .
الضابط في الذي تصح هبته :
كل ما جاز بيعه جازت هبته إلا كلب يقتنى فهذا تجوز هبته ولا يجوز بيعه .
شروط قبول الهدية :
أولاً : أن لا يعلم أنه أهدى له خجلاً وحياءً ، فإن علم أنه أهدى خجلاً وحياءً ، فإنه يحرم أن يقبلها .
ثانياً : أن لا تقع موقع الرشوة .
ثالثاً : أن لا تكون الهدية محرمة ، سواء كان التحريم لعينها أو لحق الغير .
مثال لعينها : أن يهدي له خمراً .
مثال لحق الغير : أن يعرف أنه أهدى له قدر سرقة من فلان ، فهنا لا يجوز القبول .(5/68)
لكن إذا كان الواهب أو المهدي ممن كسبه حرام ، لكن لا بعينه ، فهنا يجوز أن تقبل هديته .
لأن الرسول ( قبل هدية اليهود وهم يأكلون الربا .
ولأن هذا محرم لكسبه ، والمحرم لكسبه يتعلق حكمه بالكاسب لا بمن تحول إليه على وجه مباح .
فائدة : هبة المجهول :
مثال : لو وهبت لشخص حمل في بطن ، أو طيراً في هواء .
طبعا سبق معنا : أن بالبيع لا يجوز بيع الحمل في البطن لوحده ، أو الطير في الهواء للجهالة والغرر ؟
لكن هل يجوز هبته ؟
قيل : لا يجوز .
لأنه غرر .
وقيل : يجوز .
وهذا الصحيح .
لأنه لا يترتب عليه شيء ، ولا ضرر ، لأنه إما غانم أو سالم .
284 - عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما قَالَ : (( تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ . فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ : لا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ ( . فَانْطَلَقَ أَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ ( لِيُشْهِدَه عَلَى صَدَقَتِي فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ( : أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ ؟ قَالَ : لا . قَالَ : اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلادِكُمْ ، فَرَجَعَ أَبِي , فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ )) . وَفِي لَفْظٍ : (( فَلا تُشْهِدْنِي إذاً . فَإِنِّي لا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ )) .
وَفِي لَفْظٍ : (( فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
تصدق علي أبي : وفي رواية : ( إني نِحلت ابني هذا غلاماً ) والنِحلة بكسر النون : العطية بغير عوض .
أفعلت هذا بولدك كلهم : جاء في رواية : ( قال : أعطيت سائر ولدك مثل هذا ) وفي رواية : ( فقال : أكلهم وهبت لهم مثل هذا ؟ قال : لا ) .(5/69)
فرد تلك الصدقة : جاء في رواية : ( فاردده ) وفي رواية : ( لا تشهدني على جور ) وفي رواية : ( فلا تشهدني إذاً ، فإني لا أشهد على جوْر ) وفي رواية : ( فليس يصلح هذا وإني لا أشهد إلا على حق ) ولمسلم : ( اعدلوا بين أولادكم في النِّحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر ) ولأحمد : ( أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء ؟ قال : بلى ، قال : فلا إذن ) ولأبي داود : ( إن لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم ، كما لك عليهم من الحق أن يبروك ) .
قال الحافظ ابن حجر : " واختلاف الألفاظ في هذه اللفظة الواحدة يرجع إلى معنى واحد " .
أشهد على هذا غيري : هذا للتوبيخ وليست للإباحة .
الفوائد :
1- مشروعية العدل بين الأولاد [ ذكوراً وإناثاً ] في العطية ، وهذا بالإجماع .
واختلفوا هل هي واجبة أم مستحبة :
القول الأول : أن المساواة واجبة في عطية الأولاد .
فلا يجوز أن يعطي الولد دون البنت ، أو البنت دون الولد ، أو ولد دون ولد .
قال الشوكاني : " وبه صرح البخاري ، وهو قول طاووس والثوري وأحمد وإسحاق وبعض المالكية " .
واستدلوا :
بقوله ( : ( اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ) .
القول الثاني : أن التسوية مستحبة لا واجبة .
وهذا مذهب الجمهور .
وعلى هذا القول : فلو أعطى ولداً ولم يعط الآخر ، فلا يحرم ، وإذا أعطى ولداً دون بنت ، فلا يحرم .
وحملوا الأمر في حديث الباب على الاستحباب .
وأجابوا عن حديث الباب بأجوبة كثيرة ذكرها الحافظ ابن حجر في فتح الباري :
منها : أن الموهوب للنعمان كان جميع مال والده ، حكاه ابن عبد البر ، وتعقب :
بأن كثيراً من طرق الحديث مصرحة بالبعضية ، كما في حديث الباب : ( تصدق علي أبي ببعض ماله ) .
ومنها : أن العطية المذكورة لم تنجز ،وإنما جاء بشير يستشير النبي ( في ذلك فأشار عليه بأن لا يفعل فترك .وتعقب :
بأن أمر النبي ( له بالارتجاع يشعر بالتنجيز .(5/70)
ومنها : أن قوله ( : ( أشهد على هذا غيري ) إذن بالإشهاد على ذلك ، وإنما امتنع من ذلك لكونه الإمام ، وكأنه قال : لا أشهد لأن الإمام ليس من شأنه أن يحكم . وتعقب :
أن الإذن المذكور المراد به التوبيخ ، لما تدل عليه بقية الروايات .
وغيرها من الأجوبة الضعيفة . والراجح القول الأول .
ثم اختلف العلماء في كيفية التسوية :
فقال بعضهم : يعطي الأنثى قدر الذكر .
فإذا أعطى الذكر [ 10 ] يعطي الأنثى [ 10 ] .
وهذا مذهب الأكثر .
لقوله ( : ( سووا بينهم ) .
وقال بعضهم : أن العدل أن يعطون على قدر ميراثهم ، للذكر مثل حظ الأنثيين .
ورجح هذا شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم .
لقوله ( : ( اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ) . قالوا :
ولا أحد أعدل من الله ، حيث قال : ( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ( . (النساء: من الآية11)
ولأن حاجة الأنثى ليست كحاجة الذكر .
وهذا القول هو الراجح .
فإذا أعطى الذكر [ 10 ] أعطى الأنثى [ 5 ] .
- فإن فضل أو خص بعض الأولاد على بعض سوى بينهم .
التفضيل : أن يعطي بعضهم [ 100 ] والآخر يعطيه [ 50 ] .
التخصيص : أن يعطي أحدهم [ 100 ] والآخر لا يعطه شيئاً ، فهنا يجب التعديل .
فإذا أعطى أحدهم [ 100 ] والآخر [ 50 ] فيجب التعديل ، ويكون كالتالي :
أ- أن يأخذ من صاحب المائة خمسين .
ب- أن يعطي صاحب الخمسين خمسين أخرى .
ج- أن يأخذ من صاحب المائة خمس وعشرين يضعها على الناقص ، فيكون نصيب كل واحد منهم خمس وسبعون .
2- من فوائد الحديث أن العدل بين الأقارب غير واجب .
3- تحريم التخصيص أو التفضيل ( هذا إن لم يكن هناك مسوغ شرعي يدعو إلى ذلك ، فإن كان هناك مسوغ فلا يأثم كالعطية .
مثال : أن يكون أحد الأبناء مريضاً ، فلا بأس أن يعطى ، وأن يخصص بأكثر من غيره من أجل العلاج .
4- ينبغي أن يصدر المفتي ترغيبه أو ترهيبه بتقوى الله .
5- أن من تقوى الله العدل بين الأولاد .
6- وجوب تقوى الله في كل شيء .(5/71)
7- لا يجوز الإشهاد على المحرم .
8- وجوب إنكار المنكر .
9- سماحة الشريعة الإسلامية وحرصها على العدل وعدم الظلم .
10- أن الشريعة جاءت بسد كل طريق يؤدي إلى التشاحن والتباغض .
باب المساقات
285 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما : (( أَنَّ النَّبِيَّ ( عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ
زَرْعٍ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
خيبر : قرية قرب المدينة .
شطر : نصف .
الفوائد :
1- الحديث دليل على جواز المساقات .
والمساقات : هي أن يدفع الرجل شجره إلى آخر يقوم بسقيه وعمل سائر ما يحتاج إليه ، بجزء معلوم له من ثمره .
وإنما سميت مساقات: لأنها مفاعلة من السقي ، لأن أهل الحجاز أكثر حاجة شجرهم إلى السقي ، لأنهم يستقون من الآبار، فسميت بذلك .
وجمهور العلماء على جوازها .
لحديث الباب ، وجاء في بعض الروايات : ( أنه ( ساقاهم على نصف ما تخرجه الأرض من الثمرة ) .
وذهب أبو حنيفة إلى عدم جوازها ، لأنها إجارة بثمرة لم تخلق ، أو إجارة بثمرة مجهولة .
والراجح قول الجمهور .
قال الشافعي : " جائزة في النِّحل والكرى فقط " .
وذهب الظاهرية إلى أنها لا تجوز إلا في النِّحل فقط .
والحق أن الحكم شامل لكل ما فيه نفع مقصود من الأشجار ، لأن الحديث ورد بالثمر ، وهو عام في كل ثمر .
2- يشترط أن يكون الجزء من الثمرة مشاعاً معلوماً ، كالربع والثلث .
فلو قال : لي ثمرة هذا العام ، ولك ثمرة العام القادم ، لا يصح .
لو قال : لي ثمرة الجانب الشرقي ، ولك ثمرة الجانب الغربي ، لا يصح .
لو قال : للعامل 100 صاع ، لا يصح .
إن قال : ساقيتك على أن لك الثلث ، فإنه يجوز ، ويكون لصاحب الأرض الثلثان .
فإذا عين حق أحدهما فالباقي للآخر .
واختلف العلماء : هل هي عقد لازم أم جائز ؟
والصحيح أنها عقد لازم .(5/72)
وعلى هذا القول لا يمكن لأحدهما الفسخ ، فإن يقدر على العامل العمل لمرض أو نحوه ، فإنه يقسم ، ويقوم مقامه على حسابه .
ما يلزم العامل وصاحب الأرض :
يلزم العامل : كل ما فيه صلاح الثمر من حرث ، وسقي ، وقطع الأغصان الرديئة .
وعلى رب المال : ما يحفظ الأصل ، كسد حائط ، أي السور الذي على المزرعة .
وقال بعض العلماء : أنه يلزم كل واحد منهما ما يجري فيه العرف ، فإن لم يوجد عرف ، فإنه يرجع إلى كلام الفقهاء .
باب المزارعة
286 - عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ : (( كُنَّا أَكْثَرَ الأنْصَارِ حَقْلاً . وَكُنَّا نُكْرِي الأرْضَ , عَلَى أَنَّ لَنَا هَذِهِ , وَلَهُمْ هَذِهِ فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ , وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ . فَأَمَّا بِالْوَرِقِ : فَلَمْ يَنْهَنَا )) .
289- وَلِمُسْلِمٍ عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ : (( سَأَلْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ ؟ فَقَالَ : لا بَأْسَ بِهِ . إنَّمَا كَانَ النَّاسُ يُؤَاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ( بِمَا عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ , وَأَقْبَالِ الْجَدَاوِلِ , وَأَشْيَاءَ مِنْ الزَّرْعِ فَيَهْلِكُ هَذَا , وَيَسْلَمُ هَذَا وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إلاَّ هَذَا . وَلِذَلِكَ زَجَرَ عَنْهُ . فَأَمَّا شَيْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ : فَلا بَأْسَ بِهِ )).
------------------------------------
معاني الكلمات :
الماذيانات : الأنهار الكبار .
أقبال الجداول : الأوائل .
الجداول : جمع جدول ، وهو النهر الصغير .
الفوائد :
1- في هذا الحديث أحكام المزارعة الصحيحة والفاسدة .
المزارعة : هي دفع أرض لمن يزرعها بجزء معلوم فيما يخرج منها .
وقد اختلف العلماء في حكمها :
القول الأول : أنها لا تصح .
وهذا مذهب الجمهور .(5/73)
عن ابن عمر قال : ( ما كنا نرى بالمزارعة بأساً ، حتى سمعنا رافع بن خديج يقول : نهى رسول الله ( عنها ) . متفق عليه
ولحديث جابر قال : قال رسول الله ( : ( من كانت له أرض فليزرعها ، فإن لم يزرعها فليزرعها أخاه ) . رواه مسلم
القول الثاني : أنها جائزة .
وهذا مذهب الإمام أحمد .
وهو قول جماعة كثيرة من التابعين ، منهم : عمر بن عبد العزيز ، والقاسم بن محمد ، وعروة بن الزبير .
لحديث معاملة الرسول ( ليهود خيبر ، فإنها قصة مشهورة لا تقبل الرد ولا التأويل .
وهذا القول هو الصحيح .
وأما حديث رافع بن خديج الذي فيه النهي عن المزارعة ، فإنه محمول على المزارعة الفاسدة التي دخلها شيء من الغرر والجهالة .
ولذلك قال رافع : ( كنا نكري الأرض ، على أن لنا هذه ولهم هذه ، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه ) .
وقال أيضاً : ( لم يكن للناس كراء إلا هذا ، فلذلك زجر عنه ، وأما بشيءمعلوم مضمون فلا بأس ) .
وقال الخطابي في حديث رافع بن خديج في قوله في الإجارة : ( في الماذيانات ,اقبال الجداول ) قال : " فقد أعلمك رافع في هذا الحديث ، أن المنهي عنه هو المجهول منه دون المعلوم ، وأنه كان من عادتهم أن يشترطوا شروطاً فاسدة ، وأن يستثنوا من الزرع ما على السواقي والجداول ، فيكون خاصاً لرب المال " .
أمثلة :
- قال : أزارعك على أن لي شرقي الأرض ولك غربيها . لا يصح .
- قال : أزارعك على أن لي ما حول الجداول والأنهار ولك ما بعد منها . لا يصح .
فيشترط في المزارعة أن يكون الجزء مشاع ، كالثلث والربع والنصف .
- فإذا قال للعامل : أعطيك هذه الأرض مزارعة ولك الثلث ولي الثلثان ، فإنه يصح .
- إن قال : إزرعها ولك بعض الزرع ، لا يصح لأنه مجهول .
2- لا يشترط أن يكون البذر من ربّ الأرض .
وهذا القول هو الصحيح .
ورجحه صاحب المغني وابن القيم في الزاد .
وذهب بعض العلماء إلى أنه يشترط أن يكون البذر من ربّ الأرض ، وهذا المذهب .(5/74)
قال ابن القيم : " والذين اشترطوا البذر من ربّ الأرض قاسوها على المضاربة ، وهذا القياس مع أنه مخالف للسنة الصحيحة وأقوال الصحابة ، فهو من أفسد القياس ، فإن المال في المضاربة يرجع إلى صاحبه ويقتسمان الربح ، فهذا نظير الأرض في المزارعة ، وأما البذر الذي لا يعود نظيره إلى صاحبه ، بل يذهب نفع الأرض ، فإلحاقه بالنفع الذاهب أولى من إلحاقه بالأصل الباقي ... " .
وحديث ابن عمر : ( أن النبي عامل أهل خيبر ... ) ولم يذكر البذر على النبي ( .
3- جواز إجارة الأرض للزراعة ، وقد أجمع العلماء عليه في الجملة .
مثال : أجرتك هذه الأرض للزراعة بـ 100 درهم ، على أن تزرعها ، الزرع للمستأجر ، ولرب الأرض الأجرة .
وهذا ليس من باب المشاركة ، لأن عقد الأجرة مستقل ، ربما يزرع ولا يحصل مقدار الأجرة ، وربما يزرع الأرض ويحصل له أضعاف أضعاف الأجرة .
باب العُمْرى
287 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ : (( قَضَى رَسُولُ اللَّهِ ( بِالْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ )).
وَفِي لَفْظٍ : (( مَنْ أُعْمِرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ . فَإِنَّهَا لِلَّذِي أُعْطِيَهَا . لا تَرْجِعُ إلَى الَّذِي أَعْطَاهَا ; لأَنَّهُ عَطَاءٌ وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ )) . وَقَالَ جَابِرٌ : (( إنَّمَا الْعُمْرَى الَّتِي أَجَازَهَا رَسُولُ اللَّهِ ( , أَنْ يَقُولَ : هِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ , فَأَمَّا إذَا قَالَ : هِيَ لَك مَا عِشْتَ : فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إلَى صَاحِبِهَا )) .
288 - وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ : (( أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَلا تُفْسِدُوهَا ، فَإِنَّهُ مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلَّذِي أُعْمِرَهَا : حَيّاً وَمَيِّتاً , وَلِعَقِبِهِ )).
------------------------------------
معاني الكلمات :
العمرى : هي أن يهب الإنسان لشخص شيئاً مدة عمره .(5/75)
مثال : أن يقول لشخص : أعرتك داري تسكنها مدة حياتي ، أو مدة حياتك .
وسميت بذلك : لأنها معلقة بالعمر ، وكذا قيل لها ، رقبى ، لأن كلاً منهما يرقب متى يموت الآخر لترجع إليه .
الفوائد :
1- جواز العمرى ، وهذا مذهب جماهير العلماء .
قال ( : ( العمرى جائزة ) . رواه مسلم
ولحديث الباب .
وخالف بعض العلماء فقال بعدم جوازها .
لقوله ( : ( لا تعمروا ولا ترقبوا ) .
والصحيح مذهب الجمهور .
والجواب عن حديث : ( لا تعمروا ولا ترقبوا ) ، أن مراد النبي ( :
- التخفيف في العمرى .
- أو نقض ما كان عليه أهل الجاهلية من رد العُمَر . ففي الجاهلية : إذا أعمر الرجل الرجل داره ، يعطونه مدة حياة العمر ، فإذا مات رجع في عطيته .
2- صور العمرى :
الصورة الأولى : أن يصرح بأنه لها ولعقبه .
فيقول : أعرتك هذا البيت لك ولعقبك .
ففي هذه الصورة تكون للمعمر ولعقبه ، يجري فنها الميراث .
الصورة الثانية : أن يطلق فيقول : أعرتك هذا البيت .
جمهور العلماء على أنها تكون للمعمَر ولعقبه ، كالصورة الأولى ، فلا ترجع إلى المعمِر .
لحديث جابر .
وهذا هو الموافق للقواعد العامة .
الصورة الثالثة : أن يشترط فيقول : هي لك ما عشت ، وليس لعقبك منها شيء ، أو قال : فإذا مت فهي لي .
فهذه اختلف العلماء فيها :
قيل : يصح .
وهذا قول مالك ، وداود ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ، ورجحه ابن عثيمين .
لحديث : ( المسلمون على شروطهم ) .
وقيل : الشرط لاغ وفاسد ، ولا ترجع للواهب .
وهذا مذهب الحنابلة ، وبه قال طائفة ، منهم : إسحاق ، وأبو ثور .
لحديث جابر .
وأما الشرط فقد قال النبي ( : ( كل شرط ليس في كتاب الله ... ) .
والراجح الأول .
3- يشترط لصحة العمرى :
أولاً : أن يكون الموهوب ملكاً للمعمِر .
ثانياً : وجود الإيجاب والقبول .
أن يقول : أعمرتك داري تسكنها مدة حياتي ، فقال : قبلت .
ثالثاً : أن يحصل القبض للمعمَر ، لأن الهبة لا تملك إلا بالقبض .(5/76)
باب أحكام الجوار
289 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( لا يَمْنَعَنَّ جَارٌ جَارَهُ : أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ ، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ : مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ ؟ وَاَللَّهِ لأَرْمِيَنَّ بِها بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
جار : الجار المراد به هنا الملاصق . والجار يطلق على عدة معان :
يطلق ويراد به القريب .
قال تعالى : ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ... والجار الجنب ( أي القريب كما ذكر أهل التفسير .
ويطلق ويراد به الشريك .
كقوله ( : ( الجار أحق بسقبه ) فإن المراد بالجار هنا الشريك في العقار .
خشبة : أي من خشب سقفه الذي يسقف به داره .
في جداره : الضمير يعود على الجار .
عنها : الضمير يعود إلى السنة المذكورة في كلامه .
معرضين : أي غير مسارعين للعمل بها وتضييعها .
الفوائد :
1- في هذا الحديث نهى الجار أن يمنع جاره أن يضع خشبة على جدار جاره .
وهذا الحكم اختلف فيه العلماء :
تحرير محل النزاع :
أولاً : لا يدخل في هذا النزاع الانتفاع الذي ينتج عنه إلحاق ضرر بجدار الجار كتهديمه أو وهنه ، فذلك غير جائز ، لحديث : ( لا ضرر ولا ضرار ) .
ثانياً : كذلك لا يدخل في هذا النزاع الانتفاع الذي ليس له به حاجة ، فليس للجار أن يضع خشبة على جدار جاره إن كان به غنية عن ذلك ، لأنه انتفاع بملك غيره بغير إذنه من غير حاجة ، فلم يجز .
الخلاف وقع :
في الانتفاع غير المضر بالجار ، وهو الذي يحتاج إليه المنتفع لتسقيف بيته أو قيام بنائه .
فهذا اختلف فيه العلماء على قولين :
القول الأول : لا يجوز وضع الخشب على حائط الجدار إلا بإذنه ، وإن لم يأذن فلا يجز ، لكن يستحب له بذله .
وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك ، والقول الجديد عند الشافعية . واستدلوا :(5/77)
- بعموم الآيات التي تنهى عن الظلم والتعدي على أموال الآخرين وحقوقهم .
كقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً ( . (الأحزاب:58)
- وبالأحاديث التي تنهى عن أخذ أموال الآخرين ظلماً وعدواناً .
كقوله ( : ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه ) .
وقوله ( : ( إن دماؤكم وأموالكم عليكم حرام ) .
القول الثاني : أنه يجب على الجار أن يبذل حائطه لجاره مع الحاجة وقلة الضرر ، وأنه يجبر على ذلك إذا امتنع .
وهذا مذهب الحنابلة ، وبه قال أبو ثور ، وإسحاق ، وابن حزم .
واستدلوا بحديث الباب .
وجه الدلالة : أنه نهي صريح عن منع الجار من الانتفاع بجدار جاره ، وظاهر النهي يقتضي التحريم ، وبالتالي فلا يجوز للجار منع جاره من الانتفاع بجداره عند الحاجة .
وهذا القول هو الصحيح .
وأما الجواب عن أدلة أصحاب القول الأول :
أنها نصوص عامة ، وحديث : ( لا يمنع ... ) خاص ، والخاص يقضي على العام .
2- عظم حق الجار .
قال ( ( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ) .
( سيورثه ) : قيل : يجعل له مشاركة في المال ، وقيل : أن ينزل منزلة من يرث بالبر والصلة ، والأول أصح .
وقال ( ( يا أبا ذر ! إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك ) رواه مسلم .
وقال ( ( من كان يؤمن بالله واليوم فليكرم جاره ) رواه مسلم .
وفي رواية ( فلا يؤذجاره ) .
3- وجوب اتباع السنة .
4- فضل نشر السنة .
باب الغصب
290 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنْ الأَرْضِ : طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ
أَرَضِينَ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
قيد : بكسر القاف ، أي قدره .
شبر : هو ما بين طرفي الخنصر والإبهام بالتفريج بينهما المعتاد .(5/78)
طوقه من سبع أرضين : اختلف في معنى [ طوقه .... ] .
فقيل : أن يكلف نقل ما ظلم منها في القيامة إلى المحشر ويكون كالطوق في عنقه .
وقيل : يعاقب بالخسف إلى سبع أرضين ، أي فتكون كل أرض في تلك الحالة طوقاً في عنقه ، ويؤيد هذا حديث ابن عمر . قال : قال رسول الله ( : من أخذ من الأرض شبراً بغير حق خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين ) .
وقيل : أنه يطوق إثم ذلك ويلزمه كلزوم الطوق بعنقه .
الفوائد :
1- الحديث له سبب : أن أروى بنت أويْس ادعت على سعيد بن زيد أنه أخذ شيئاً من أرضها ، فخاصمته إلى مروان بن الحكم ، فقال سعيد : أنا كنت آخذ من أرضها شيئاً بعد الذي سمعت من رسول الله ( قال : وما سمعت من رسول الله ( ؟ قال : سمعت رسول الله ( يقول : ( من أخذ شبراً ... ) فقال مروان : لا أسألك بيّنة بعد هذا ، فقال : اللهم إن كانت كاذبة فعمِّ بصرها وأفلتها من أرضها ، قال : فما ماتت حتى ذهب بصرها ، ثم بينما هي تمشي في أرضها إذ وقعت في حفرة فماتت .
2- الحديث دليل على تحريم الغصب ، وأنه كبيرة من الكبائر .
والغصب : هو الاستيلاء على حق الغير قهراً بغير حق .
( قهراً ) خرج به لو استولى عليه خلسة أو سرقة ، فإن هذا لا يعد غصباً اصطلاحاً .
ودليل تحريمه الكتاب والسنة والإجماع .
- قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ( .
- وقال ( : ( إن دماؤكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ) .رواه مسلم
- وأجمع المسلمون على تحريم الغصب في الجملة . [ قاله النووي ]
3- يجب على الغاصب رد المغصوب إذا كان بحاله .
قال ابن قدامة : " فمن غصب شيئاً لزمه ردده إن كان باقياً بغير خلاف نعلمه " .
لقوله ( : ( على اليد ما أخذت حتى تؤديه ) . رواه أبو داود
ولقوله ( : ( من أخذ عصا أخيه فليردها ) . رواه أبو داود(5/79)
4- ويلزم الغاصب رد المغصوب بزيادته سواء كانت متصلة أو منفصلة .
لأنها من نماء المغصوب ، وهو لمالكه ، فلزمه ردها كالأصل .
مثال الزيادة المتصلة : غصب عناقاً صغيرة ثم كبرت وسمنت ، فيجب عليه أن يردها بزيادتها .
مثال الزيادة المنفصلة : غصب شاة حائلاً ، فولدت عنده ، فيجب عليه أن يردها بزيادتها .
- ولو غرم رده أضعاف قيمته .
يعني إذا لم يمكن رده إلا أن يخسر الغاصب قيمته عشر مرات ، فإنه يلزمه رده .
لقوله ( : ( ليس لعرق ظالم حق ) . رواه أبو داود
- وكذلك يلزمه نقيضه .
لو أن هذه البهيمة هزلت وقلّ لحمها ، وجب عليه أرشها ، فيضمن النقص .
5- إذا غصب جارحاً أو عبداً ، فحصل بذلك الجارح أو العبد صيداً ، فلمالكه ( أي مالك الجارح والعبد ) .
لأنه حصل بسبب ملكه فكان له .
- أما لو غصب فرساً فصاد به صيداً ، فالصحيح أن الصيد للغاصب ، لكن عليه أجرة الفرس ، لأن الفرس لم يباشر الصيد، بل هو وسيلة ، والذي باشر الصيد هو الغاصب .
6- يلزم الغاصب ضمان نقص المغصوب ولو كان بغير فعله .
مثال : غصب أمة شابة ، وبقيت عنده لمدة شهرين ، وأتاها ما يوحشها ، فابيض شعرها ، فكانت بالأول تساوي [100] درهم ، والآن تساوي [ 50 ] درهم ، فيلزم الغاصب [ 50 ] درهم ، لأنها نقصت تحت استيلائه ، فوجب عليه الضمان .
7- اختلف العلماء : هل يضمن الغاصب ما نقص بالسعر ؟
مثال : غصب شاة تساوي [ 200 ] ، وبقيت عنده ، ولم يلحقها نقص في ذاتها ولا عيب ، ولكن القيمة نقصت ، فصارت تساوي [ 100 ] ، فردها الغاصب على صاحبها ، فهل يضمن مائة ؟
قيل : لا يضمن .
لأنه رد العين بحالها ، لم ينقص منها عين ، ولا صفة ، فلم يلزمه شيء .
وقيل : يلزمه .
واختاره ابن تيمية ، وهذا هو الصحيح .
8- وليس اغتصاب الأموال مقصوراً على الاستيلاء عليها بقوة ، بل ذلك يشمل الاستيلاء عليها بطريق الخصومة الباطلة والأيمان الفاجرة .(5/80)
9- قال تعالى:(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بالإثم وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(.
10- وقال ( : ( من قضيت له بحق أخيه ، فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من نار ) .
11- شدة تحريم الظلم .
12- أن الأرضين سبع كالسموات .
وقال ( ( ... لو أن السموات السبع وعامرهن غيري ، والأراضين السبع وعامرهن ..... ) .
وأما في القرآن فلم يرد تصريحاً ، وإنما ورد تلميحاً كقوله تعالى ( ومن الأرض مثلهن ) أي في العدد .
??
??
??
??
14
13(5/81)
بسم الله الرحمن الرحيم
( 6 )
إيقاظ الأفهام
في شرح
عمدة الأحكام
بابُ اللُّقَطَةِ - كتابُ النِّكاحِ
بقلم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية / رفحاء
الموقع على الإنترنت
www.almotaqeen.net
بابُ اللُّقَطَةِ
294 - عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ ( قَالَ : (( سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ( عَنْ لُقَطَةِ الذَّهَبِ , أَوْ الْوَرِقِ ؟ فَقَالَ : اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا , ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ فَاسْتَنْفِقْهَا وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْماً مِنْ الدَّهْرِ : فَأَدِّهَا إلَيْهِ , وَسَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الإِبِلِ ؟ فَقَالَ : مَا لَك وَلَهَا ؟ دَعْهَا فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا , تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ , حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا . وَسَأَلَهُ عَنْ الشَّاةِ ؟ فَقَالَ : خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ , أَوْ لأَخِيك , أَوْ لِلذِّئْبِ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
الورق : الفضة .
وكاءها : الذي يشد به المال في الخرقة .
عفاصها : الوعاء الذي تكون فيه النفقة جلداً كان أو غيره .
مالك ولها : جاء في رواية : ( فذرها حتى يلقاها ربها ) .
حذاءها : الحذاء بكسر الحاء ، أي خفها .
وسقاءها : أي جوفها . وقيل : عنقها ، وأشار بذلك إلى استغنائها عن الحفظ لها بما ركب في طباعها من الجلادة على العطش ، وتناول المأكول بغير تعب لطول عنقها ، فلا تحتاج إلى ملتقط .
الفوائد :
1- هذا الحديث يتكلم عن أحكام اللقطة .
واللقطة لغة : هي الشيء الملقوط . واصطلاحاً : مال ضل عن ربه .
2- قال العلماء : المال الضائع على ثلاثة أقسام :
أولاً : ما لا يتبعه همة أوساط الناس .
كالعصا ، والحبل ، والرغيف ، والتمرة ، فهذا يجوز أخذه ولا يجب تعريفه .
لأن هذا الشيء زهيد ، لكن يشترط في هذا القسم أن لا يكون عالماً بصاحبه .(6/1)
عن أنس ( قال : ( مرّ النبي ( بتمرة في الطريق ، فقال : لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها ) . متفق عليه
قال الحافظ ابن حجر : " قوله ( لأكلتها ) ظاهر في جواز أكل ما يوجد من المحقرات ملقى في الطرقات ، لأنه ( ذكر أنه لم يمتنع من أكلها إلا تورعاً لخشية أن تكون من الصدقة التي حرمت عليه ، لا لكونها مرمية في الطريق فقط ، فلو لم يخش ذلك لأكلها ، ولم يذكر تعريفاً ، فدل على أن مثل ذلك يملك بالأخذ ولا يحتاج إلى تعريف " .
قال في الشرح : " لا نعلم خلافاً بين أهل العلم في إباحة اليسير والانتفاع به " .
ثانياً : الحيوان الذي يمتنع بنفسه من صغار السباع كالذئب والفهد ، فهذا يحرم أخذه .
مثل : الإبل ، فلا يجوز أخذها ، ومثل : الثور والجاموس .
لحديث الباب ، فإن النبي ( لما سئل عن ضالة الإبل ، تمعر وجهه ( فقال : ( مالك ولها ... ) .
( تمعر ) أي تغير .
وهذا مذهب جمهور العلماء ، أن ضالة الإبل لا تلتقط .
وذهب الحنفية إلى أن الأولى أن تلتقط .
والصحيح مذهب الجمهور .
قال العلماء : حكمة النهي عن التقاط الإبل أن بقاءها حيث ضلت أقرب إلى وجدان مالكها لها من تطلّبه لها في رحال الناس ، قالوا في معنى الإبل : كل ما متنع بقوته عن صغار السباع " .
ثالثاً : ما تكثر قيمته من الأثمان والمتاع والحيوان الذي لا يمتنع من صغار السباع .
فهذه يجوز التقاطها .
لكن اختلف العلماء : هل الأفضل أخذها أم لا ؟
قيل : الأفضل ترك الالتقاط .
وهذا مذهب الحنابلة ، وروي عن ابن عباس ، وابن عمر ، وجابر .
لأن تركها أسلم ، ولأنه تعريض لنفسه لأكل الحرام .
وقيل : الأولى أخذها .
قال في المغني : " وممن رأى أخذها سعيد بن المسيب ، والحسن بن صالح ، وأبو حنيفة " .
قالوا : لأن فيها حفظ مال المسلم .
وقيل : التفصيل .
- أن يخشى الواجد نفسه بأن يملكه ولا ينشده ، فهنا يحرم .(6/2)
- أن يأمن نفسه على ذلك ، ولا يخاف عليها [ أي اللقطة ] ، فهنا السلامة أولى فيتركها .
وهذا القول هو الصحيح .
3- من وجد لقطة وأخذها ، فإنه يجب أن يعرفها ، لقوله ( : ( عرفها ) .
ولأن إمساكها من غير تعريف تضييع لها عن صاحبها ، فلم يجز ، كردها إلى موضعها أو إلقائها في غيره .
ولأنه لو لم يجب التعريف لما جاز الالتقاط ، لأن بقاءها في مكانها إذاً أقرب إلى وصولها إلى صاحبها .
4- أن التعريف مدته سنة كاملة .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لقوله ( في الحديث : ( وعرفها سنة ) .
قال ابن قدامة : "إذا ثبت هذا ، فإنه يجب أن تكون هذه السنة تلي الالتقاط ، وتكون متوالية في نفسها ، لأن النبي ( أمر بتعريفها حين سئل عنها ، والأمر يقتضي الفور ، ولأن القصد بالتعريف وصول الخبر إلى صاحبها ، وذلك يحصل بالتعريف عقيب ضياعها متوالياً ، لأن صاحبها في الغالب إنما يتوقعها ويطلبها عقب ضياعها ، فيجب تخصيص التعريف به " .
* مكان التعريف :
قال العلماء : الأسواق ، وأبواب المساجد والجوامع في الوقت الذي يجتمعون فيه كأدبار الصلوات في المساجد ، وكذلك مجامع الناس .
* كيفية التعريف :
أن يذكر جنسها لا غير ، فيقول : من ضاع منه ذهب ، أو فضة ، أو ثياب ، أو نحو ذلك .
ولا يصفها ، لأنه لو وصفها لعلم صفتها من يسمعها فلا تبقى صفتها دليلاً على ملكها ، ولأنه لا يأمن أن يدعيها بعض من سمع صفتها ويذكر صفتها التي يجب دفعها بها فيأخذها وهو لا يملكها ، فتضيع على مالكها .
في زمانه : وهو النهار دون الليل ، لأن النهار مجمع الناس وملتقاهم دون الليل ، ويكون ذلك في اليوم الذي وجدها والأسبوع أكثر ، لأن الطلب فيه أكثر .
لا يشترط أن يعرفها بنفسه ، بل يجوز بوكيله .
5- إذا عرفها اللاقط حولاً ، فلم يعرف مالكها صارت من مال الملتقط حكماً [ أي قهراً ] سواء كان غنياً أو فقيراً .
لقوله ( : ( فإن لم تعرف فاسْتنْفقها ) .(6/3)
وفي رواية :( ثم عرفها سنة ، فإذا جاء صاحبها وإلا شأنك بها ) . أي إن جاء صاحبها فأدها إليه ، وإن لم يجيء فشأنك بها.
وفي رواية : ( فإن جاء صاحبها وإلا استمتع بها ) .
( وقال بعض العلماء : يتصدق بها ، فإذا جاء صاحبها خيره بين الأجر والغرم ) .
* واختلف العلماء فيما إذا تصرف في اللقطة بعد تعريفها سنة ، ثم جاء صاحبها ، هل يضمنها له أم لا ؟
الجمهور على وجوب الرد إن كانت العين موجودة ، أو البدل إن كانت استهلكت .
لقوله ( في رواية : ( ولتكن وديعة عندك ) .
وجاء عند مسلم : ( فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها ، فإن جاء صاحبها فأدها إليه ) .
قال ابن حجر : " فإن ظاهر قوله : ( فإن جاء صاحبها ... ) بعد قوله : ( كلها ) يقتضي وجوب ردها بعد أكلها ، فيحمل على رد البدل " .
قال ابن حجر : " وأصرح من ذلك رواية أبي داود : ( فإذا جاء باغيها فأدها إليه ، وإلا فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها فإن جاء باغيها فأدها إليه ) فأمر بأدائها إليه قبل الإذن في أكلها وبعده ، وهي أقوى حجة للجمهور " .
* تصرف الملتقط في اللقطة : له أحوال :
أولاً : أثناء الحول ، لا يجوز أن يتصرف فيها ، لأنها ليست ملكاً له .
ثانياً : بعد الحول ، فله أن يتصرف فيها ، لكن بعد أن يعرف صفاتها ، من أجل إذا جاء صاحبها دفعها إليه .
* إذا هلكت اللقطة : له أحوال :
أولاً : إذا هلكت في حول التعريف من غير تعد ولا تفريط ، فلا ضمان عليه .
ثانياً : إذا هلكت بعد تمام الحول ، فلا ضمان عليه سواء فرط أو لم يفرط ، لأنها دخلت في ملكه .
* إذا جاء من يدعي اللقطة ، وعرف صفاتها ، فإنها تدفع إليه دون بينة .
لأن النبي ( أطلق وقال : ( فإذا جاء أحد يخبرك بعددها ووعائها ووكائها ، فادفعها إليه ) .
قال ابن المنذر : " هذا الثابت عن رسول الله ( وبه أقول " .
* أجرة التعريف على ربّ اللقطة .
هذا القول هو الصحيح ، لأن التعريف من مصلحته .
فائدة :
حكم لقطة الحرم ، اختلف العلماء :(6/4)
القول الأول : لا يجوز التقاطها إلا لمن أراد ينشدها ويعرفها دائماً وأبداً .
وهذا مذهب الشافعي ، واختاره ابن القيم وقال : " هذا هو الصحيح " .
لقوله ( : ( ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد ) . متفق عليه أي المعرّف على الدوام .
قال الحافظ ابن حجر : " والمعنى : لا تحل لقطتها إلا لمن يريد أن يعرفها فقط ، فأما من أراد أن يعرفها ثم يتملكها فلا " .
القول الثاني : أن لقطة الحرم والحل سواء .
وهذا مذهب المالكية .
لحديث الباب .
فلم يفرق رسول الله ( بين لقطة الحرم وغيرها .
والجواب عن هذا الحديث :
أنه عام ، مخصوص بلقطة مكة لحديث الباب : ( لا تحل ساقطتها إلا لمنشد ) .
بابُ الوصايا
295 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ , لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ , يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ )) .
زَادَ مُسْلِمٌ : قَالَ ابْنُ عُمَرَ : (( مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ( يَقُولُ ذَلِكَ , إلاَّ وَعِنْدِي وَصِيَّتِي )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
مسلم : قال الحافظ : " الوصف بالمسلم خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له ، أو ذكر للتهييج لتقع المبادرة لامتثاله لما يشعر به من نفي الإسلام عن تارك ذلك ، ووصية الكافر جائزة في الجملة " .
شيء يوصي فيه : جاء في رواية : ( له شيء يريد أن يوصي به ) وفي رواية : ( ما حق امرئ مسلم له مال يريد أن يوصي فيه ) .
يبيت : كأن فيه حذفاً تقديره : أن يبيت .
ليلتين : في رواية البيهقي : ( ليلة أو ليلتين ) ولمسلم : ( ثلاث ليال ) قال الحافظ : " وكأن ذكر الليلتين والثلاث لرفع الحرج لتزاحم أشغال المرء التي يحتاج إلى ذكرها ، ففسح له هذا القدر ليتذكر ما يحتاج إليه ، والمعنى : لا يمضي عليه زمان ، وإن كان قليلاً ، إلا ووصيته مكتوبة " .
الفوائد :(6/5)
1- هذا الحديث دليل على مشروعية الوصية .
والوصية : هي الأمر بالتبرع بالمال بعد الموت ، أو الأمر بالتصرف بعد الموت .
مثال تبرع بمال : أوصيت لفلان بعد موتي بـ 100 ريال .
مثال التصرف : وصيِّ على أولادي الصغار فلان من الناس .
وهي مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ ... ( . (البقرة: من الآية180)
وأما السنة حديث الباب .
وأجمع المسلمون على مشروعيتها .
واختلفوا هل هي واجبة أو لا ؟
فقيل : واجبة .
لقوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ ... ( .
وقيل : غير واجبة .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
وأما الآية : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ ... ( فهي منسوخة .
2- فالأصل في الوصية أنها مشروعة .
والوصية تجري فيها الأحكام التكليفية الخمسة :
- فتكون مستحبة : لمن ترك خيراً [ وهو المال الكثير ] .
لقوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ ... ( .
ولأنها من الإحسان ، والإحسان إلى الناس مستحب .
ولقوله : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ... ) . رواه مسلم .
( قوله : لمن ترك خيراً ، هو المال الكثير ، والمال الكثير يرجع فيه إلى العرف ) .
قال ابن قدامة : " والذي يقوى عندي أنه متى كان المتروك لا يفضل عن غنى الورثة ، فلا تستحب الوصية " .
- وتكره : إذا كان ورثته كثير ، وماله قليل .
لأن النبي ( علل المنع من الوصية بقوله : ( إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ) .
ولأنه عدول عن الأقارب المحتاجين إلى الأباعد ، وذلك خلاف الأفضل .
قال الشعبي : " ما من مال أعظم أجراً من مال يتركه الرجل لولده يغنيهم به عن الناس " .
- وتحرم : في حالين :
أ- لوارث بشيء ، لقوله ( : ( لا وصية لوارث ) .(6/6)
ب- لأجنبي بأكثر من الثلث ، لقوله ( : ( الثلث والثلث كثير ) إلا إذا أجاز الورثة ، فإن أجازوا نفذت .
قال ابن هبيرة : " اتفقوا على أنه لا وصية لوارث إلا أن يجيز ذلك الورثة " .
وإجازة الوصية لهما تكون بعد موت الموصي عند أكثر العلماء .
- وتجب : لمن عليه دين لا بينة به .
مثال : إنسان في ذمته دين لشخص وليس لصاحب الحق بينة ، فهنا يجب أن يوصي حتى لا يضيع الحق .
3- يشترط القبول من الموصى له بعد الموت لا قبله .
لأنه هو وقت استحقاق الوصية ، فلا عبرة بقبوله قبل موت الموصي ، وهذا إذا كانت الوصية على معين .
أما إذا كانت على غير معين ،أو غير محصور ، فإن الوصية تثبت بمجرد موت الموصي .
مثال : أوصى بدراهم لبناء المساجد ، فهنا لا يشترط للصحة قبول مدير الأوقاف .
مثال : لو أوصى بدراهم للفقراء ، فهنا لا يشترط القبول ، لأنه لا يمكن حصرهم .
4- من قبل الوصية ثم ردها لم يصح الرد .
لأنه بقبولها أصبحت ملكاً له ، فلا يصح الرد ، وحينئذٍ : فإن قبل ذلك الورثة فهي هبة لهم .
5- يجوز الرجوع في الوصية من الموصي وتغييرها ، لأن الوصية لا تثبت إلا بعد الموت .
مثال : كتب رجل وصية ، أن لفلان الثلث ، ثم بدا له أن يرجع بها ، فله أن يرجع بها .
6- مبطلات الوصية :
أولاً : برجوع الموصي قبل الموت .
ثانياً : بموت الموصَى له .
لأن حقه في الوصية لا تكون إلا بعد موت الموصي ، فإذا مات قبله بطلت الوصية .
ثالثاً : تلف العين الموصى بها .
مثال : أوصى زيد لشخص بهذه البعير ، ثم ماتت قبل الموصي ، ثم مات الموصي ، الموصى ليس له شيء ، فبطلت الوصية .
رابعاً : بقتل الموصى له الموصي .
لأن من تعجل شيئاً قبل أوانه على وجه محرم ، عوقب بحرمانه .
خامساً : برد الموصى له للوصية بعد موت الموصي .
قال ابن قدامة : " لا نعلم فيه خلافاً لأنه أسقط حقه " .(6/7)
296 - عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ( قَالَ : (( جَاءَني رَسُولُ اللَّهِ ( يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ بَلَغَ بِي مِنْ الْوَجَعِ مَا تَرَى ، وَأَنَا ذُو مَالٍ , وَلا يَرِثُنِي إلاَّ ابْنَةٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي ؟ قَالَ : لا ، قُلْتُ : فَالشَّطْرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ : لا ، قُلْت : فَالثُّلُثُ قَالَ : الثُّلُثُ , وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ ورَثَتَكَ أَغنياءَ خيرٌ منْ أَنْ تَذَرَهمْ عالَةً يَتَكَفَّفونَ النَّاسَ ، وإنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إلاَّ أُجِرْتَ بِهَا , حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ . قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ قَالَ : إنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلاً تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إلاَّ ازْدَدْت بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً , وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرُّ بِكَ آخَرُونَ . اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ , وَلا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ ، لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ( أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ )) .
297 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : (( لَوْ أَنَّ النَّاسَ غَضُّوا مِنْ الثُّلُثِ إلَى الرُّبْعِ ؟ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : الثُّلُثُ , وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
حجة الوداع : العام العاشر للهجرة ، وسميت بذلك لأن النبي ( ودع الناس فيها .
ذو مال : أي عندي مال كثير .
لا يرثني إلا ابنة لي : أي ليس لي وارث إلا هذه البنت .
أفأتصدق بثلثي مالي : أي اثنين من ثلاثة .
الشطر : النصف .
تذر : تترك .(6/8)
عالة : واحد عائل ، وهو الفقير .
يتكففون الناس : أي يسألون الناس بأكفهم .
أخلف بعد أصحابي : أي أترك في مكة بعد انصرافهم عنها .
لعلك أن تخلف : تخلف هنا غير تخلف الأولى ، فالمراد هنا : لعلك أن تخلف : أي يطيل عمرك ، وهذا الذي وقع ، فإن سعداً عمر زمناً طويلاً ، حتى ذكر العلماء أنه خلّف سبعة عشر ذكراً واثنتي عشرة بنتاً .
امض : أتمم .
البائس : من اشتدت حاجته واشتد حزنه .
سعد بن خولة : من المهاجرين السابقين ، شهد بدراً ، يقول النبي ( هذا الكلام توجع وحزن له لكونه مات بمكة ، وكانوا يكرهون الإقامة في الأرض التي هاجروا منها وتركوها لله مع حبهم لها .
الفوائد :
1- هذا الحديث ذكره المؤلف ليبين مقدار ما يوصي به .
قال العلماء : الأفضل أن يوصي بالخمس أو الربع ، وإن أوصى بالثلث جاز .
لقوله ( لسعد : ( الثلث والثلث كثير ) مع إخباره إياه بكثرة ماله وقلة عياله .
وقال أبو بكر : ( أرضى ما رضيه الله لنفسه ) . يعني الخمس .
قال ابن قدامة : " فالأفضل للغني الوصية بالخمس ، ونحو هذا يروى عن أبي بكر ، وعلي بن أبي طالب ، وهو ظاهر قول السلف " .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : " ولهذا نعرف أن عمل الناس اليوم ، وكونهم يوصون بالثلث خلاف الأولى ، وإن كان هو جائزاً ، لكن الأفضل أن يكون أدنى من الثلث ، إما الربع ، وإما الخمس " .
وقد قال ابن عباس : ( لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع ، فإن الرسول ( قال : الثلث والثلث كثير ) " .
2- تحريم الوصية بأكثر من الثلث ، لقوله ( : ( الثلث والثلث كثير ) .
3- أن الميت إذا خلّف مالاً للورثة ، فإن ذلك خير له .
4- مشروعية عيادة المريض ، والصحيح أنها فرض كفاية ، لقوله ( : ( عودوا المريض ) .
وفي عيادة المريض فوائد :
منها : يؤدي حق أخيه المسلم - أنه لا يزال في خرفة الجنة - أن في ذلك تذكيراً للعائد بنعمة الله عليه في الصحة - أن فيها جلباً للمحبة والمودة .(6/9)
5- حسن خلق النبي ( .
6- الإنفاق على العيال فيه أجر إذا قصد به وجه الله .
7- ينبغي مشاورة أهل العلم ، لأن سعد استشار النبي ( .
8- أن الأفضل أن تكون الوصية أقل من الثلث .
9- فضل الإخلاص واستحضار نية التقرب إلى الله .
10- أن الإنسان إذا كان ماله قليلاً ، فإنه لا يستحب له أن يوصي .
11- جواز إخبار المريض بشدة مرضه وقوة ألمه إذا لم يقترن بذلك شيء من التبرم .
12- الحث على صلة الأرحام ، والإحسان إلى الأقارب .
13- أن صلة الأقرب أفضل من صلة الأبعد .
14- أن خطاب الشارع للواحد يعم من كان بصفته من المكلفين .
فائدة :
ترتيب الوصية بعد مؤن التجهيز والديون .
فالحقوق المتعلقة بالتركة بعد موت الإنسان :
أولاً : مؤن التجهيز ، ككفن وأجرة حفار .
ثانياً : الحقوق المتعلقة بعين التركة ، كدين برهن .
ثالثاً : الديون المعلقة .
رابعاً : الوصية .
خامساً : الإرث .
مثال : مات ميت وترك [ 200 ] ريال ، وعليه : مؤن التجهيز 100 ، دين برهن 50 ، ودين بغير رهن 50 .
تسقط الوصية والإرث .
بابُ الفَرَائِضِ
298 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ ( قَالَ : (( أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا ، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ )).
وَفِي رِوَايَةٍ : (( اقْسِمُوا الْمَالَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَمَا تَرَكَتْ : فَلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
ألحقوا : أعطوا .
الفرائض : المراد بالفرائض هنا ، الأنصاب المقدرة في كتاب الله ، وهي : النصف ، والربع ، والثلث ، والثلثان ، والسدس، والثمن .
بأهلها : أي من يستحقها بنص القرآن .
فما بقي : أي أبقت .
فهي لأولى : أي لأقرب ، أي لمن يكون أقرب في النسب إلى المورث . قال الخطابي : " المعنى أقرب رجل من العصبة " .
الفوائد :(6/10)
1- في هذا الحديث يأمر النبي ( القائمين على قسمة تركة الميت أن يوزعوها على مستحقيها بالقسمة العادلة الشرعية كما أراد الله ، فيعطى أصحاب الفروض المقدرة فروضهم في كتاب الله ، فما بقي يعطى الأقرب إلى الميت من الرجال .
* الفروض المقدرة في كتاب الله :
الثلثان - الثلث - السدس - النصف - الربع - الثمن .
الثلثان : قال تعالى : ( فإن كنّ نساء فوق اثنتين فلهنّ ثلثا ما ترك ( .
النصف : قال تعالى : ( ولكم نصف ما ترك أزواجكم ( .
الربع : قال تعالى : ( فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن ( .
الثمن : قال تعالى : ( فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم ( .
الثلث : قال تعالى : ( فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث ( .
السدس : قال تعالى : ( فإن كان له إخوة فلأمه السدس ( .
2- أن الإرث ينقسم إلى قسمين :
- إرث بالفرض .
- إرث بالتعصيب .
العصبة في اللغة : قرابة الرجل لأبيه ، سموا بالعصبة لأنهم عصبوا به ، أي أحاطوا .
واصطلاحاً : هو كل وارث ليس له سهم مقدر صريح في الكتاب والسنة ، [ يعني كل من يرث بلا تقدير ] .
* الذين يرثون بالتعصيب :
الابن - وابن الابن - والأخ الشقيق - والأخ لأب - وابن الأخ الشقيق - وابن الأخ لأب - والعم الشقيق - والعم لأب - وابن العم الشقيق - وابن العم لأب .
* الدليل على توريث العصبات :
حديث الباب . ومعناه : أي أعطوا كل ذي فرض فرضه ، وما بقي بعد ذلك من الميراث فادفعوه لأقرب عصبة من الذكور وإنما ذكر في الحديث لفظة [ ذكر ] فقال : ( فلأولى رجل ذكر ) مع أن الرجل لا يكون إلا ذكراً ، وذلك لدفع التوهم ، حتى لا يظن أحد أن المراد من لفظ الرجل هو الكبير القادر ، فإن الطفل وإن كان رضيعاً يستحق الإرث بالتعصيب ، ويأخذ كل المال عند الانفراد ، وهذا هو السر في كلمة [ ذكر ] .
* أحكام العصبة :
أ- إذا انفرد أحدهم أخذ كل المال .
ب- يأخذ الباقي بعد أخذ أصحاب الفروض فروضهم .
أمثلة :(6/11)
- مات شخص عن ابن فقط ، يأخذ المال كله ، لأنه انفرد .
- هلك هالك عن زوجة عم :
الزوجة الربع ، والعم الباقي ، لأنه معصب .
- هلك هالك عن زوجة وابن :
الزوجة الثمن ، والابن الباقي .
299 - عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ : (( قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَتَنْزِلُ غَداً فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ ؟ قَالَ : وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ ؟ ثُمَّ قَالَ : لا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ وَلا الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
الرباع : محلات الإقامة ، والمراد هنا الدور .
الفوائد :
1- في هذا الحديث يبين النبي ( أن المسلم لا يرث الكافر ، والكافر لا يرث المسلم .
فاختلاف الدين من موانع الإرث .
وموانع الإرث ثلاثة : قال في الرحبية :
الأول :اختلاف الدين .
فلو مات أب مسلم عن ابن نصراني ، فإنه لا يرثه .
لو مات ابن نصراني عن أب مسلم فإنه لا يرثه .
وهذا مذهب جماهير العلماء ، أنه لا يرث المسلم من الكافر ، ولا الكافر من المسلم .
لحديث الباب ، فهو نص في محل النزاع .
وقيل : يرث المسلم من الكافر .
روي ذلك عن معاذ بن جبل ، ومعاوية بن أبي سفيان ، ونقل عن سعيد بن المسيب .
واستدلوا بقوله ( : ( الإسلام يزيد ولا ينقص ) . رواه أبو داود
فأثبت الزيادة للإسلام ، ونفى عنه النقص ، وإرث المسلم للكافر زيادة .
لكن هذا القول ضعيف ، لأن الحديث ضعيف .
والمراد به زيادة الإسلام فيمن يدخل فيه وعدم نقصه بمن يخرج منه بالردة .
والراجح القول الأول .
* لو أسلم الكافر قبل قسمة التركة .
مثال : أن يموت ميت مسلم عن ابنين أحدهما مسلم يصلي ، والثاني لا يصلي ، وقبل أن تقسم التركة بين الابن المسلم وزوجة الميت ، قبل ذلك صار الابن الثاني يصلي وتاب وعاد إلى الإسلام .
فهنا اختلف بعض العلماء هل يرث أم لا ؟(6/12)
والصحيح مذهب الجماهير من العلماء أنه لا يرث ولو أسلم قبل قسمة التركة .
لعموم قوله ( : ( لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم ) فنفى إرث الكافر للمسلم ، وهو مطلق ، فيشمل ما إذا أسلم قبل قسمة التركة .
وذهب بعض العلماء إلى أنه يرث ترغيباً له في الإسلام ، لكن هذا القول ضعيف .
المانع الثاني : القتل .
إذا كان القتل عمداً فلا يرث إجماعاً .
فلو أن ابناً قتل والده عمداً ، فإنه لا يرث منه .
وأما إذا كان بحق فإنه يرث .
مثال : رجل محصن زنى ، فرجمه الناس ، وكان ممن رجمه وارثه ، فلا يمنع من الإرث ، لأن القتل بحق .
وأما إذا كان القتل خطأ ففيه خلاف :
فالمشهور من المذهب أن القاتل خطأ لا يرث ، كحوادث السيارات .
والراجح أنه يرث ، ورجحه ابن القيم في إعلام الموقعين .
المانع الثالث : الرق .
والرق في اللغة : العبودية والملك .
واصطلاحاً : عجز حكمي يقوم بالإنسان بسبب كفره بالله .
فالمملوك لا يرث .
مثال : رجل مات عن أب مملوك ، فالأب هنا لا يرث .
وإنما كان الرق مانعاً من الإرث ، لأن الرقيق لا يملك ، فإذا كان لا يملك لم يستحق الإرث ، لأنه لو ورث لكان لسيده وهو أجنبي من الميت .
300- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (( أَنَّ النَّبِيَّ ( نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
الولاء : عصوبة سببها نعمة المعتِق على عتيقه بالعتق .
الفوائد :
1- في هذا الحديث ينهى النبي ( عن بيع الولاء .
وصورة ذلك : أن يقول السيد لرجل : هذا الرقيق أعتقه ، أرثه ولا يرثني ، بعتك هذا الولاء .
فهذا لا يجوز .
وعن هبته :
وصورة ذلك : أن أقول لشخص ، وهبتك ولاء عبدي فلان الذي أعتقه .
فهذه الهبة لا تصح .
2- أن الولاء سبب من أسباب الإرث .(6/13)
فإذا أعتق الرجل عبداً ، فإن هذا الرجل يرث من هذا العتيق ، إذا صار له مال فيما بعد ، ولم يكن له وارث ، أو لم يكن له عصبة .
مثال : هذا العبد الذي أعتقته مات وترك بنتاً ، وابناً ، فهنا للذكر مثل حظ الأنثيين ، ولا يأخذ السيد شيئاً .
مثال آخر : هذا العبد مات عن بنت فقط ، فالبنت لها النصف ، ثم يأخذ السيد الباقي وذلك بسبب الولاء .
* الولاء الإرث فيه من طريق واحد وهو المعتِق [ السيد ] .
* ومن أسباب الميراث :
النكاح - القرابة .
قال في الرحبية :
أولاً : النكاح :
وهو عقد الزوجة الصحيح ، فيتوارث الزوجان .
قال تعالى : ( وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ ... وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ ... ( . (النساء: من الآية12)
* الإرث فيه من الجانبين .
* يمتد الإرث بالزوجة ما دامت الزوجة مع زوجها فالإرث باقي .
* توريث المطلقة :
- المطلقة الرجعية إذا مات المطلق وهي في العدة فإنها ترث إجماعاً ، لأن الرجعية زوجة .
- المطلقة البائن إذا طلقها في حال الصحة فلا توارث إجماعاً ، إلا إذا كان هناك اتهام يقصد حرمانها ، فإنها ترث .
أمثلة :
- رجل طلق زوجته أول تطليقة ، ثم مات وهي في العدة ، فإنها ترث .
- رجل طلق زوجته آخر ثلاث تطليقات ، وهو صحيح شحيح ، ثم مات وهي في العدة ، فإنه لا ترثه .
لأن الطلاق بائن ولا تهمة .
- رجل مرض مرضاً مخوفاً وكان لا يحب زوجته ، وكان عنده أموال كثيرة ، وقال : إذا أنا مت وهذه الزوجة معي فإنها ترث مني ، فالحيلة أن أطلقها ، لأنه لم يبق لها إلا طلقة واحدة ، فطلقها وهو في مرض الموت ، فإنها ترثه ، لأنه متهم .
الثاني : النسب .
هو الاتصال بين إنسانين بولادة .
كالأصول : الآباء والأمهات .
والفروع : الأولاد وأولادهم .
الحواشي : الأخوة والأخوات .(6/14)
301 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (( كَانَتْ فِي بَرِيرَةَ ثَلاثُ سُنَنٍ : خُيِّرَتْ عَلَى زَوْجِهَا حِينَ عَتَقَتْ , وَأُهْدِيَ لَهَا لَحْمٌ , فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ( وَالْبُرْمَةُ عَلَى النَّارِ , فَدَعَا بِطَعَامٍ فَأُتِيَ بِخُبْزٍ وَأُدْمٍ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ فَقَالَ : أَلَمْ أَرَ الْبُرْمَةَ عَلَى النَّارِ فِيهَا لَحْمٌ ؟ قَالُوا : بَلَى , يَا رَسُولَ اللَّهِ . ذَلِكَ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ فَكَرِهْنَا أَنْ نُطْعِمَكَ مِنْهُ فَقَالَ : هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ , وَهُوَ مِنْهَا لَنَا هَدِيَّةٌ وَقَالَ النَّبِيُّ ( فِيهَا : إنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
بريرة : سيد اشتقاقها .
ثلاث سنين : قال ابن حجر : " إن العلماء صنفوا في قصة بريرة تصانيف ، وإن بعضها أوصلها إلى أربعمائة فائدة ، ولا يخالف ذلك قول عائشة ( ثلاث سنن ) لأن مراد عائشة ما وقع من الأحكام فيها مقصوداً خاصة ، أو اقتصر على الثلاث لكونها أظهر ما فيها ، أو لأنها أهم .
عتقت : صارت حرة .
البرمة : بضم الباء ، قدر من حجارة .
لحم : جاء في رواية عن عائشة : ( تصدق على مولاتي بشاة ) .
الفوائد :
1- في هذا الحديث تذكر عائشة أن من بركات بريرة ، ثلاث سنن وأحكام :
الأمر الأول : أنه لما عتقت خيرت بين البقاء مع زوجها أو الفسخ .
وهذه المسألة ، وهي : أنه إذا عتقت الأمة وزوجها عبد ، فإن لها الخيار في البقاء أو فسخ النكاح .
قال في المغني : " أجمع أهل العلم على هذا ، ذكره ابن المنذر وابن عبد البر وغيرهما ، والأصل فيه خبر بريرة ... " .
ثم ذكر حديث الباب .
* فزوج بريرة كان عبداً .
قال ابن عباس : ( كان زوج بريرة عبداً أسود ، يقال له مغيث ، عبداً لبني فلان ، كأني أنظر إليها يطوف وراءها في سكك المدينة ) . رواه البخاري(6/15)
وفي رواية : ( فقال النبي ( : لو راجعتِه ، فقالت : يا رسول الله ، تأمرني ؟ قال : إنما أنا أشفع ، قالت : لا حاجة لي فيه ) .
ولأن عليها ضرراً في كونها حرة تحت العبد ، فكان لها الخيار ، وهذا مما لا خلاف فيه .
* واختلفوا إذا عتقت تحت حرّ ، فهل لها الخيار ؟
فذهب جمهور العلماء إلى أنه لا خيار لها .
وهذا قول ابن عمر ، وابن عباس ، وابن المسيب ، والحسن ، وعطاء .
وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد .
لأنها كافأت زوجها في الكمال فلم يثبت لها الخيار ، كما لو أسلمت الكتابية تحت مسلم .
الأمر الثاني : أن الولاء لمن أعتق .
وهذا سبق شرحه في شرح حديث عائشة .
الأمر الثالث : تحريم الصدقة على النبي ( وآله .
* فالصدقة حرام على النبي ( وآله .
قال ( : ( إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد ، وإنما هي أوساخ الناس ) . رواه مسلم
وعن أبي هريرة ( قال : ( أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة ، فجعلها في فيه ، فقال النبي ( : كخ كخ ، ارم بها ، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة ) . رواه مسلم
وعن أنس ، أن النبي ( وجد تمرة فقال : ( لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها ) . رواه مسلم
* والحكمة من ذلك :
ما جاء في الحديث السابق : ( وإنما هي أوساخ الناس ) .
قال النووي : " ( إنما هي أوساخ الناس ) تنبيه على العلة في تحريمها على بني هاشم وبني المطلب ، وأنها لكرامتهم وتنزيههم عن الوساخ ، ومعنى أوساخ الناس : أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم ، كما قال تعالى : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ( . (التوبة: من الآية103) كغسالة الأوساخ " .
2- أن الفقير إذا تصدق عليه ، فأهدى من صدقته على من لا تحل له الصدقة ، من غني وغيره ، جاز .
3- جواز أكل اللحم .
4- الفرق بين الصدقة والهدية في الحكم .
5- جواز أكل الإنسان من طعام من يسر بأكله منه ، ولو لم يأذن فيه بخصوصه .
6- أن من حرمت عليه الصدقة ، جاز له أكل عينها إذا تغير حكمها .(6/16)
7- ينبغي تعريف الرجل بما يخشى توقفه فيه .
8- استحباب سؤال الرجل عما لم يعهده في بيته .
9- استحباب قبول الهدية وإن كانت قليل .
10- أن من تصدق عليه بصدقة ، فله أن يتصرف فيها بما شاء .
11- استحباب الشفاعة في الأمور المباحة .
12- استحباب الإصلاح بين المتنافرين .
13- أنه لا عار على الرجل في إظهار حبه لزوجته .
كتابُ النِّكاحِ
302- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ( : (( يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ , مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَة فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ , وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ , وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ )).
------------------------------------
معاني الكلمات :
يا معشر : المعشر هم الجماعة الذي يشملهم وصف واحد .
من استطاع : أي من قدر .
الباءة : اختلف في المراد بها هنا : فقيل : القدرة على الوطء . وقيل : القدرة على مؤن النكاح ، وهو الصحيح .
لرواية النسائي : ( من كان ذا طول فليتزوج ) .
ولقوله ( : ( ومن لم يستطع فعليه بالصوم ) فهذا ظاهر في أن المراد القدر على مؤنة النكاح ، لأن العاجز عن الجماع لا يؤمر بالصوم .
فإنه : أي الزوج .
أغض للبصر : أي أن المتزوج أغض بصراً وأحصن فرجاً ممن لم يتزوج .
ومن لم يستطع : أي الباءة المذكورة في أول الحديث .
له وجاء : له : يعني الصوم ، والوجاء : هو رض الخصيتين .
الفوائد :
1- الحديث يدل على مشروعية النكاح والحث عليه .
والنكاح لغة : القران .
واصطلاحاً : اجتماع بين رجل وأنثى على صفة مخصوصة .
وهو مشروع بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ( . (النساء: من الآية3)
وقال تعالى : ( وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ ( . (النور: من الآية32)(6/17)
وقال تعالى : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً ( . (الرعد: من الآية38)
وقال تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( . (الروم:21)
ومن السنة :
- حديث الباب .
- وحديث أنس وسيأتي : ( ... أما أنا فأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ... ) . متفق عليه
- وعن معقل بن يسار قال : قال رسول الله ( : ( تزوجوا الودود الولود ، فإني مكاثر بكم الأمم ) . رواه أبو داود
- وعن سعيد بن جبير قال : ( قال لي ابن عباس : هل تزوجت ؟ قلت : لا ، قال : فتزوج ، فإن خير هذه الأمة أكثرها نساءً ) . رواه البخاري
قال الحافظ ابن حجر : " قيد بهذه الأمة ليخرج مثل سليمان ( فإنه كان أكثر نساء ، وكذلك أبوه داود " .
ثم قال رحمه الله : " قيل المعنى : خير أمة محمد من كان أكثر نساء من غيره ممن يتساوى معه فيما عدا ذلك من الفضائل والذي يظهر أن مراد ابن عباس بالخير النبي ( ، وبالأمة أخصاء أصحابه ، وكأنه أشار إلى أن ترك التزويج مرجوح ، إذ لو كان راجحاً ما آثر النبي ( غيره " .
1- واختلف في وجوبه :
فقال بعض العلماء : إنه واجب .
وهو قول داود .
لحديث الباب : ( يا معشر ... ) .
وذهب جماهير العلماء : إلى أنه سنة غير واجب .
قال في المغني : " وهو قول عامة الفقهاء " .
وهو الصحيح .
2- قال العلماء : أن النكاح تجري فيه الأحكام الخمسة :
أ- سنة مستحب .
وهذا هو الأصل .
ب- واجب .
على من خاف الزنا بتركه ، لأن ترك الزنا واجب ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
ج- مكروه .
إذا كان فقيراً لا شهوة له ، لأنه سوف يرهق نفسه بالنفقات وليس لديه شهوة .
د- مباح .(6/18)
إذا كان غنياً لا شهوة له ، لأنه قادر على الإنفاق ، فهو قد ينفع المرأة بالإنفاق عليها .
ه- حرام .
وذلك فيما إذا كان بدار حرب ، لأنه قد يؤدي إلى أ، يكون له أولاد ، فيقتل أولاده أو يخطفون .
3- اختلف العلماء أيهما أفضل : النكاح أو التخلي لنوافل العبادة ؟ على قولين :
القول الأول : التخلي لنوافل العبادة أفضل .
وهذا مذهب الشافعي .
لأن الله مدح عيسى بقوله : ( وسيداً وحصوراً ( والحصور الذي لا يأتي النساء ، فلو كان النكاح أفضل لما مدح بتركه .
ولأن الله سبحانه ذكر النساء من جملة المزّينات فقال : ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ ( .
القول الثاني : أن النكاح أفضل .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
- لأن النكاح من سنن المرسلين .
- والأحاديث في الحث عليه ، والأمر به ، والرغبة في الولد ، أكثر من أن تحصر .
- ولأن أثر النكاح يصل إلى المرأة ، وإلى المجتمع ، فضلاً عن الزوج نفسه .
4- استدل بحديث الباب على تحريم الاستمناء .
هذه العادة قديمة معروفة في الجاهلية قبل الإسلام، فقد كانوا يجلدون عُمَيْرَة إذا خلوا بواد لا أنيس به .
كما قال الشاعر :
إذا ما خلوتَ بوادٍ لا أنيسَ به فاجْلدْ عُمَيْرةَ لا عيبٌ ولا حرجُ
وعميرة كناية عن الذكر .
ومعنى الاستمناء : هو استدعاء خروج المني بغير جماع ، سواء كان باليد أو بغيرها .
وقد اختلف العلماء في حكمه :
القول الأول : أنه حرام .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ . إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ . فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ( . (المعارج :31 ، 32 ، 33 )
فأوجب الله على المسلم أن يحفظ فرجه إلا من زوجته أو ما ملكت يمينه ، فإذا تجاوز زوجته وملك يمينه إلى غيرهما فإنه من العادين .(6/19)
ولحديث الباب ، فالرسول ( أمر بالصيام ، ولو كان الاستمناء جائزاً لأرشد إليه النبي ( .
ومن الأدلة : أن الله سبحانه وتعالى أباح للصحابة المتعة في أول الأمر ، ثم نسخت بعد ، وسبب إباحتها ما لقوه من شدة العزوبة في أسفارهم ، وقد جعلها الله حلاً مؤقتاً لدفع حاجتهم ، ولو كان الاستمناء مباحاً لبينه لهم ، وهو أيسر وأقل مؤونة وأثراً .
القول الثاني : أنه مباح .
وهو قول لبعض أهل الظاهر .
لعدم الدليل المانع .
؛؛؛ والله أعلم ؛؛؛
لكن يباح الاستمناء في حالتين :
الحالة الأولى : خوف الوقوع بالزنا .
الحالة الثانية : التضرر بحبس هذا الماء .
5- حث النبي ( على الصيام لمن لا يستطيع على مؤن النكاح ، لأمرين :
أولاً : لأن الصيام يورث التقوى . كما قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( . (البقرة:183)
ثانياً : لأن شهوة النكاح تابعة لشهوة الأكل ، تقوى بقوته وتضعف بضعفه .
6- هل يجوز استعمال دواء لدفع الشهوة ؟
المسألة تنقسم إلى حالتين :
الحالة الأولى : أن يستعمل دواء لقطعها ، فهذا حرام .
لأنه قد يقدر بعدُ فيندم .
الحالة الثانية : أن يستعمل دواء لتخفيفها .
فقيل : لا يجوز .
لأن النبي ( أرشد إلى الصيام لمن عجز عن مؤن النكاح ، فهو العلاج النبوي ، فلا يجوز غيره .
وقيل : يجوز .
وهذا هو الصحيح .
7- الحث على غض البصر وتحصين الفرج بكل مستطاع .
فائدة : وفي غض البصر فوائد :
أحدها : تخليص القلب من ألم الحسرة ، فإن من أطلق نظره دامت حسرته .
ثانيها : أنه يورث القلب نوراً وإشراقاً يظهر في العين وفي الوجه .
ثالثها : أنه يورث حجة الفراسة .
فمن غض بصره عن المحارم عوضه الله سبحانه وتعالى إطلاق نور بصيرته .
رابعها : أنه يفتح له طرق العلم وأبوابه ، ويسهل عليه أسبابه .(6/20)
خامسها : أنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته ، وفي الأثر : أن الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله .
سادسها : أنه يورث القلب سروراً وفرحة وانشراحاً أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر .
سابعها : أنه يخلص القلب من أسر الشهوة .
303 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ( : (( أَنَّ نَفَراً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ( سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ ( عَنْ عَمَلِهِ فِي السّرِّ ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لا آكُلُ اللَّحْمَ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ . فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ( فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ : مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا ؟ لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ , وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
أنَّ نفراً : جاء في رواية : ( جاء ثلاثة رهط ) ولا منافاة ، فالرهط من ثلاثة إلى عشرة .
عن عمله في السر : في رواية : ( يسألون عن عبادة النبي ( ، فلما أخبروا كأنهم تقالوها ) أي استقلوها ، أي رأى كل واحد منهم أنها قليلة .
ولا آكل اللحم : جاء في رواية : ( أنا أصوم الدهر ولا أفطر ) .
لا أنام على فراشي : جاء في رواية : ( أما أنا أصلي الليل أبداً ) .
لكني : استدراك من شيء محذوف دلّ عليه السياق ، أي أنا وأنتم بالنسبة للعبودية سواء ، لكن أنا أعمل كذا .
فمن رغب : الرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره .
سنتي : المراد بالسنة الطريقة لا التي تقابل الفرض .
ليس مني : أي ليس على طريقتي ومنهجي .
الفوائد :
1- الحديث دليل على فضل النكاح والترغيب فيه .
2- التحذير من الغلو والتنطع ، وفيه مباحث :
أولاً : مضار التشديد على النفس :
أ- أن التشديد على النفس سبب لوقوع التشديد من الله .(6/21)
قال ( : ( لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم ، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ) . رواه أبو داود
ب- أن مصير الغالي المتشدد الهلاك .
قال ( : ( هلك المتنطعون ، قالها ثلاثاً ) . رواه مسلم
قال النووي : " هلك المتنطعون : أي المتعمقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم " .
ج- أن عاقبة الغلو والتشدد الانقطاع .
قال ( : ( إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا وأبشروا ... ) . رواه البخاري
قال الحافظ ابن حجر : " والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق ، إلا عجز وانقطع فيغلب " .
د- السآمة والملل .
ويدل لذلك ما ورد في قصة عبد الله بن عمرو من قوله بعد ما كبر : ( يا ليتني قبلت رخصة النبي ( ) .
قال النووي : " ومعناه أنه كبر وعجز عن المحافظة على ما التزمه ووظفه على نفسه عند رسول الله ( ، فشق عليه فعله لعجزه ، ولم يعجبه أن يتركه لالتزامه له ، فتمنى لو قبل بالرخصة فأخذ بالأخف " .
ثانياً : علاج الرسول ( لبعض قضايا الغلو التي وقعت في عهده :
- حديث الباب ، حيث جعله خروجاً عن سنته وهديه .
- عن أنس ( قال : ( دخل النبي ( المسجد فإذا حبل ممدود بين ساريتين ، فقال : ما هذا الحبل ؟ قالوا : هذا حبل لزينب ، فإذا فترت تعلقت به ، فقال النبي ( : حلوه ، ليصلّ أحدكم نشاطه ، فإذا فتر فليرقد ) . متفق عليه
في هذا الحديث كما قال الحافظ ابن حجر : " الحث على الاقتصاد في العبادة ، والنهي عن التعمق فيها " .
- عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ : ( أن النبي ( دخل وعندها امرأة ، قال : من هذه ؟ قالت : فلانة ، تذكر من صلاتها قال : مه ، عليكم ما تطيقون ، فوالله لا يمل الله حتى تملوا ) .(6/22)
قال الحافظ ابن حجر : " ( عليكم بما تطيقون ) : أي استغلوا من الأعمال بما تستطيعون من المداومة عليه ، فمنطوقه الأمر بالاقتصار على ما يطاق من العبادة ، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلف ما لا يطاق " .
3- تتبع أحوال الأكابر للتأسي بأفعالهم .
4- حرص الصحابة على الخير .
5- تقديم الحمد والثناء على الله عند الخطب .
6- الرد على من منع استعمال الحلال من الأطعمة والملابس ، وآثر غليظ الثياب وخشن المأكل .
7- وجوب إنكار المنكر .
8- أن العلم بالله ، ومعرفة ما يجب من حقه ، أعظم قدراً من مجرد العبادة البدنية .
9- فائدة : صفات المرأة التي يسن نكاحها :
أولاً : أن تكون ذات دين .
لقوله ( : ( تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها ، فاظفر بذات الدين تربت يداك ) . متفق عليه
( لحسبها ) الحسب في الأصل الشرف بالآباء والأقارب ، مأخوذ من الحساب ، لأنهم كانوا إذا تفاخروا عدوا مناقبهم ومآثر آبائهم وقومهم وحسبوها ، فيحكم لمن زاد على غيره . وقيل : المراد بالحسب هنا الفعال الحسنة .
( لدينها ) أي اللائق بذي الدين والمروءة أن يكون الدين مطمح نظره في كل شيء لا سيما فيما تطول صحبته .
ثانياً : ولود ودود .
لقوله ( : ( تزوجوا الولود الودود ، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ) . رواه أبو داود
( الودود ) هي التي تحب زوجها . [ قاله الخطابي ]
( الولود ) هي التي تكثر ولادتها . [ قاله الخطابي ] . وقال : " ويعرف هذا الوصف في الأبكار من أقاربهن ، إذ الغالب سراية طباع الأقارب بعضهن إلى بعض " .
ثالثاً : أن تكون بكراً .
لقوله ( لجابر : ( هل تزوجت يا جابر ؟ قال : نعم ، قال : بكراً أم ثيباً ؟ قال : بل ثيباً ، قال : فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك ) . متفق عليه
قال النووي : " وفيه فضيلة تزويج الأبكار وثوابهن أفضل " .(6/23)
وقال الحافظ ابن حجر : " وفي الحديث الحث على نكاح الأبكار ، لكن قد يرد أمر يجعل من الأفضل زواج الثيب ، لعارض من الأمور " .
قد يكون العارض جبر خاطر امرأة مات زوجها .
وقد يكون العارض طلب مصاهرة أقوام صالحين ، أو لهم جاه ينفع الله به في أمور الدنيا والدين .
304 - عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ( قَالَ: (( رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ ( عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لاخْتَصَيْنَا )).
------------------------------------
معاني الكلمات :
عثمان بن مظعون : القرشي الجمحي من السابقين ، وهاجر الهجرتين ، وهو أول من دفن بالبقيع .
التبتل : المراد بالتبتل هنا الانقطاع عن النكاح وتوابعه من الملاذ إلى العبادة ، وقيل لفاطمة البتول : إما لانقطاعها عن الأزواج غير علي ، أو لانقطاعها عن نظرائها في الحسن والشرف .
الخصاء : هو الشق عن الأنثيين وانتزاعهما .
قيل مراد سعد : ( لو أذن له لاختصينا ) لفعلنا فعل من يختصي ، وهو الانقطاع عن النساء .
وقيل : ( لاختصينا ) لإرادة المبالغة ، أي لبالغنا في التبتل حتى يفضي بنا الأمر إلى الاختصاء ، ولم يرد به حقيقة الاختصاء لأنه حرام .
وقيل : بل هو على ظاهره ، وكان ذلك قبل النهي عن الاختصاء .
الفوائد :
1- فضل النكاح والترغيب فيه ، وأنه مقدم على التبتل والانقطاع عن العبادة ، لما فيه من المصالح .
2- حرص الصحابة على الخير .
3- التحذير من الغلو في الدين .
4- أن أخذ النفس بالعنت والمشقة والحرمان ، ليس من الدين في شيء .
5- أن ترك ملاذ الحياة المباحة ، زهادة وعبادة ، خروج عن السنة المطهرة واتباع لغير سبيل المؤمنين .
6- حكم الخصاء :
خصاء بني آدم حرام .
قال ابن حجر : " هو نهي تحريم بلا خلاف في بني آدم .(6/24)
وفيه من المفاسد وتعذيب النفس والتشويه ، مع إدخال الضرر الذي يفضي إلى الهلاك ، وفيه إبطال معنى الرجولية وتغيير خلق الله ، وكفر النعمة ، لأن خلق الشخص رجلاً من النعم العظيمة " .
305 - عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ : (( يَا رَسُولَ اللَّهِ , انْكِحْ أُخْتِي ابْنَةَ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ : أَوَتُحِبِّينَ ذَلِكَ ؟ فَقُلْتُ : نَعَمْ , لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ , وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : إنَّ ذَلِكَ لا يَحِلُّ لِي . قَالَتْ : إنَّا نُحَدَّثُ أَنَّك تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ : بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ ؟ قَالَتْ : قُلْت : نَعَمْ , قَالَ : إنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حَجْرِي , مَا حَلَّتْ لِي إنَّهَا لابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ , أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ فَلا تَعْرِضْنَ عَلِيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلا أَخَوَاتِكُنَّ . قَالَ عُرْوَةُ وَثُوَيْبَةُ : مَوْلاةٌ لأَبِي لَهَبٍ أَعْتَقَهَا , فَأَرْضَعَتْ النَّبِيَّ ( فَلَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ أُرِيَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بِشَرِّ حِيبَةٍ فَقَالَ لَهُ : مَاذَا لَقِيتَ ؟ قَالَ أَبُو لَهَبٍ : لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ خَيْراً , غَيْرَ أَنِّي سُقِيتُ فِي هَذِهِ بِعَتَاقَتِي ثُوَيْبَةَ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
انكح أختي : أي تزوج ، جاء في رواية عند مسلم : ( انكح أختي عزة بنت أبي سفيان ) .
أو تحبين ذلك : استفهام تعجب من كونها تطلب أن يتزوج غيرها مع ما طبع عليه النساء من الغيرة .
لست لك بِمُخْلِيَة : أي لست بمنفردة بك ، ولا خالية من ضرة .
وأحب من شاركني في الخير : المراد بالخير ذاته ( ، فقد جاء في رواية : ( وأحب من شركني فيك ) .
إنا نُحَدَّث : بضم أوله وفتح الحاء .(6/25)
أن تنكح : جاء في رواية : ( بلغني أنك تخطب ) . قال ابن حجر : " ولم أقف على اسم من أخبر بذلك ، ولعله كان من المنافقين ، فإنه قد ظهر أن الخبر لا أصل له " .
لو لم تكن ربيبتي : الربيبة بنت الزوجة ، قيل لها ذلك لأنها مربوبة .
ما حلت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة : قال القرطبي : " فيه تعليل الحكم بتعليلين : فإنه علل تحريمها بكونها ربيبة ، وبكونها بنت أخ من الرضاعة "
قال الحافظ ابن حجر : " والذي يظهر لي أنه نبه على أنها لو كان بها مانع واحد لكفى في التحريم ، فكيف وبها مانعان ".
أرضعتني وأبا سلمة : هو عبد الله بن الأسد ، هاجر الهجرتين ، وشهد بدراً وأحداً ، ومات بعد أحد ، دخل عليه النبي ( بعد موته فقال : ( اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين ... ) فلما مات تزوج رسول الله ( أم سلمة .
وكان أبو سلمة رضع من ثويبة .
ثويبة : كانت مولاة لأبي لهب ، وأرضعت النبي ( وهو صغير قبل حليمة السعدية ، ثم أرضعت أبو سلمة ، وأرضعت حمزة .
أُرِيَه : بضم الهمزة وكسر الراء .
بِشَرِّ حِيبة : أي سوء حال .
ماذا لقيت : أي بعد الموت .
الفوائد :
1- هذا الحديث دليل على تحريم نكاح أخت الزوجة ، فلا يجوز للرجل أن يجمع بين المرأة وأختها .
قال الحافظ ابن حجر : " والجمع بين الأختين في التزويج حرام بالإجماع ، سواء كانت شقيقتين أم من أب أم من أم ، وسواء البنت من الرضاع " .
قال تعالى : ( وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ( . (النساء: من الآية23)
قال ابن جرير : " معناه : وحرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين عندكم بنكاح " .
فمن أسلم وتحته أختان خُيّر فيمسك إحداهما ويطلق الأخرى لا محالة .
2- تحريم بنت الزوجة على زوج أمها .
مثال : لو كان لك زوجة ولها بنت من رجل آخر ، فهذه البنت حرام عليك ، لكن لا يقع التحريم إلا بالدخول .(6/26)
قال تعالى : ( وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ (. فضل أم حبيبة وحرصها على الخير .
3- كيف تعرض أم حبيبة أختها مع أنه حرام ؟
قيل : لعل أم حبيبة لم تطلع على تحريم ذلك .
وقيل : لعلها ظنت أنه من خصائص النبي ( ، ورجحه الحافظ ابن حجر .
4- أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، لقوله : ( أرضعتني وأبا سلمة ثويبة ) . [ وستأتي أحكام الرضاع ]
5- السبب الذي جعل أم حبيبة تعرض أختها عزة هو المنافسة على الخير .
6- تحريم بنت الأخ من الرضاع ، لأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب .
7- ما الجمع بين قوله في الحديث : ( فلما مات أبو لهب أُرِيَه بعض أهله بشر حيبة ، فقال له : ماذا لقيت ؟ قال : أبو لهب ، لم ألق بعدكم خيراً غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة ) وبين قوله تعالى : ( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً ( . (الفرقان:23)
فالجواب :
- أن الخبر مرسل ، أرسله عروة ولم يذكر من أرسله .
- وعلى فرض أن يكون موصولاً ، فالذي في الخبر رؤيا منام فلا حجة فيه .
- أن هذا مخصوص بالنبي ( ، بدليل قصة أبي طالب أنه خفف عنه .
306 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( لا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا , وَلا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
بين المرأة وعمتها : أي في الزواج .
الفوائد :
1- في الحديث تحريم أن يجمع الرجل في عصمته بين المرأة وعمتها ، أو المرأة وخالتها .
قال النووي : " في هذا دليل لمذهب العلماء كافة أنه يحرم الجمع بين المرأة وعمتها ، وبينها وبين خالتها " .
2- فإن جمع بينهما :
- إن كان بعقد واحد بطلا .
- وإن كان كل واحدة بعقد ، فنكاح الثاني مفسوخ باطل .(6/27)
3- وقد بين ( الحكمة من ذلك ، فقال ( : ( إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم ) ، وذلك لما يكون بين الضرائر من الغيرة .
فإذا طلقت المرأة وانتهت عدتها ، حلت أختها وعمتها وخالتها ، لانتفاء الضرر .
4- ومثل ذلك الرضاع .
فأخت زوجتك من الرضاع لا تجمعها مع زوجتك .
كذلك عمة زوجتك من الرضاع لا يجوز ، وكذلك خالة زوجتك من الرضاع لا يجوز .
5- عمة الزوجة أو خالتها ، هذه من المحرمات إلى أمد ، لأن المحرمات على الإنسان تنقسم على قسمين :
* إلى أبد :
ومنها : الأم ، والأخت ، والبنت ، والعمة ، والخالة ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت .
* إلى أمد : [ أي إلى حالة معينة ]
فمن المحرمات إلى أمد :
- المحرمة حتى تحل .
لقوله ( : ( لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب ) . رواه مسلم
- المعتدة من الغير .
فالمرأة المطلقة وهي في عدتها الآن ، لا يجوز لغير من له العدة أن يتزوجها حتى تنتهي العدة .
قال تعالى : ( وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ( . (البقرة: من الآية235)
307 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ : مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ
الْفُرُوجَ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
توفوا : أي تؤتوها وافية كاملة .
ما استحللتم به الفروج : أي أحق الشروط بالوفاء شروط النكاح ، لأن أمره أحوط ،وبابه أضيق .
الفوائد :
1- الحديث يبين أنه ينبغي لكل من الزوجين الوفاء بالشروط في النكاح ، فأحق شرط يجب الوفاء به وأولاه ، هو ما استحل به الفرج .
2- والشروط تنقسم إلى قسمين :
صحيحة - وفاسدة .
فالصحيح يجب الوفاء به .
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ( . (المائدة: من الآية1)
وقال تعالى : ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ( . (الاسراء: من الآية34)(6/28)
ولحديث الباب .
فمن الشروط الصحيحة :
- لو شرطت أن لا يخرجها من دارها أو بلدها ، صح هذا الشرط ولم يكن له إخراجها إلا بإذنه .
- لو شرطت زيادة في مهرها ، أو كونه من نقد معين ، صح الشرط وكان لازماً يجب الوفاء به ولها الفسخ بعدمه .
- أن يشترط الرجل في المرأة أن تكون شابة أو بكراً أو صاحبة مال ، صح الشرط .
شروط مختلف فيها :
- إن شرط لا مهر لها .
قال بعض العلماء : يصح النكاح دون الشرط .
واختار ابن تيمية أن هذا الشرط فاسد مفسد .
لقوله تعالى : ( وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ ( . (النساء: من الآية24)
فشرط الله للحل أن تبتغوا بأموالكم ، وما كان مشروطاً في الحل ، فإن الحل لا يتم إلا به .
ولأنه إذا تزوجها بلا مهر ، صار ذلك بمعنى الهبة ، ومعلوم أن الهبة خاصة بالرسول ( .
- إن شرط أن لا نفقة لها .
قال بعض العلماء : الشرط فاسد والنكاح صحيح ، ويُلزم بالنفقة .
وقيل : الشرط صحيح ، لأن المرأة قد ترغب بالزوج لدينه وخلقه ، ويكون فقيراً .
- إن شرط أن يقسم لها أقل من ضرتها ، فإنه يصح .
لحديث سودة : ( أن جعلت يومها لعائشة ، على أن تبقى زوجة للرسول ( ) .
- لكن لو اشترطت الزوجة الجديدة أن يقسم لها أكثر من ضرتها ، فهذا الشرط لا يصح ، لأنه متضمن للجور ، وكذلك يتضمن إسقاط حق للغير بغير إذنه .
3- يشترط في الشروط أن لا تكون مخالفة للشرع ، فإن كانت مخالفة للشرع ، فإنها لا تصح .
قال ( : ( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط ) .
نكاح الشغار
308 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( نَهَى عَنْ الشِّغَارِ )).
------------------------------------
معاني الكلمات :
الشغار : بالتشديد والكسر من شغر الكلب برجله إذا رفعها ، بال أو لم يبل ، أو من شغر المكان من أهله ، أو من شغرت القرية من أميرها .(6/29)
واصطلاحاً : أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق ، وسمي نكاح الشغار شغاراً : لأن المتزوجين يرفعان المهر بينهما ، أو أنهما يخليان النكاح من المهر .
الفوائد :
1- قوله : ( الشغار هو أن يزوج ... ) اختلف هذا التفسير من كلام من ؟
فقيل : من كلام نافع . وقيل : من مالك الراوي عن نافع . وقيل : من كلام ابن عمر .
2- الحديث دليل على تحريم نكاح الشغار .
قال ابن عبد البر : " أجمع العلماء على أن نكاح الشغار لا يجوز " .
3- اختلف العلماء إذا وقع نكاح الشغار على أقوال :
القول الأول : أن النكاح باطل ، سواء وقع قبل الدخول أم بعده .
وهذا مذهب جمهور العلماء .
لحديث الباب ، وفيما معناه من الآثار التي تدل على النهي عن نكاح الشغار ، وأن النهي عن الشيء حكم بفساده وبطلانه.
القول الثاني : أنه إذا وقع على صورة الشغار ، فهو صحيح ، ويجب فيه مهر المثل .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
والراجح الأول .
4- العلة من التحريم :
قال ابن القيم رحمه الله : " واختلف في علة النهي :
فقيل : هي جعل كل واحد من العقدين شرطاً في الآخر . وقيل : العلة التشريك في البُضع ، وجعل بضع كل واحدة مهراً للأخرى ، وهي لا تنتفع به ، فلم يرجع إليها المهر ، بل عاد المهر إلى الولي ، وهو ملكه لبضع زوجته بتمليكه لبضع موليته ، وهذا ظلم لكل واحدة من المرأتين ، وإخلاء لنكاحهما عن مهر تنتفع به ، وهذا هو الموافق للغة العرب " .
5- اختلف العلماء لو سمى المهر : في هذه المسألة قولان للعلماء :
القول الأول : أنه يصح .
لتفسير نافع : ( وليس بينهما صداق ) فإذا جعل صداقاً فليس بشغار .
القول الثاني : أنه لا يصح ولو سمي مهراً .
وهذا القول هو الصحيح .(6/30)
لما جاء أن العباس بن عبد الله بن العباس : ( أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته ، وأنكحه عبد الرحمن ابنته ، وكانا جعلا صداقاً ، فكتب معاوية إلى مروان يأمره بالتفريق بينهما ، وقال في كتابه : هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله ( ) . رواه أبو داود وهو حديث حسن
فهذا معاوية قضى بالتفريق بين الزوجين الذين تزوجا بالشغار وكانا جعلا صداقاً .
6- قال النووي : " وأجمعوا على أن غير البنات من الأخوات ، وبنات الأخ ، والعمات ، وبنات الأعمام ، والإماء ، كالبنات في هذا " .
نكاح المتعة
309 - عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ( : (( أَنَّ النَّبِيَّ ( نَهَى عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ يَوْمَ خَيْبَرَ , وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
خيبر : أي العام السابع للهجرة .
الحمر الأهلية : أي الإنسية التي تعيش في المدن والقرى .
الفوائد :
1- في هذا الحديث دليل على تحريم نكاح المتعة .
والمتعة : هي النكاح إلى أجل محدد بمهر .
قال ابن قدامة : " معنى نكاح المتعة أن تزوج المرأة مدة ، مثل أن يقول زوجتك ابنتي شهراً أو سنة " .
وقال الحافظ ابن حجر : " يعني تزويج المرأة إلى أجل ، فإذا انقضى وقعت الفرقة " .
* وهو حرام ، وهو مذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل الفقه والحديث .
* وقد كان هذا النكاح مباحاً في أول الإسلام ، ثم نهى عنه النبي ( .
لحديث الباب .
* وسبب إذن النبي ( للصحابة بالاستمتاع بالنساء هو الحاجة والحرب .
- ففي حديث ابن مسعود قال : ( كنا نغزوا مع رسول الله ( ليس معنا نساء ، فقلنا ألا نختصي ؟ فنهانا عن ذلك ، ثم رخص لنا بعد أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ) . رواه البخاري
- وذكر أبو ذر كما رواه عنه البيهقي بسند حسن : ( أن الرسول ( أذن لهم فيها لحربهم ولخوفهم ) .(6/31)
- ولحديث سبرة : ( أن أباه حدثه أنه كان مع رسول الله ( يوم الفتح ، فقال : يا أيها الناس ، إني قد كنت آذنت لكم في الاستمتاع من النساء ، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً ) . رواه مسلم
2- وقد اختلف العلماء متى حرم نكاح المتعة على أقوال :
القول الأول : عام خيبر .
وهذا قول الشافعي وغيره .
واستدلوا بحديث الباب .
القول الثاني : أنها حرمت عام الفتح .
ورجحه ابن القيم .
لحديث سبرة الماضي ، فإن فيه التصريح أن التحريم كان عام الفتح .
وهذا جاء في رواية لحديث سبرة : ( أن رسول الله ( نهى عنها في حجة الوداع ) . رواه أبو داود
لكن هذه الرواية شاذة ، كما قال البيهقي .
والرواية الصحيحة عن سبرة أنها عام الفتح .
ولذلك قال الحافظ ابن حجر : " الرواية عنه بأنها في الفتح أصح وأشهر " .
القول الرابع : عام تبوك .
وهذا جاء في بعض الأحاديث والآثار ، لكن لا تصح .
فقد جاء عن أبي هريرة: (أن النبي ( لما خرج نزل ثنية الوداع ، فرأى مصابيح وسمع نساء يبكين ، فقال : ما هذا ؟ فقالوا : يا رسول الله ، نساء كانوا تمتعوا منهن أزواجهن ، فقال رسول الله ( : حرم المتعة النكاح والطلاق والعدة والميراث ) . رواه ابن حبان وهو ضعيف
والراجح أنها حرمت عام الفتح كما قال ابن القيم .
وأما الجواب عن حديث الباب :
بعض العلماء قالوا : إن النبي ( حرم المتعة عام خيبر ، ثم رخص فيها بعد ذلك ، ثم حرمها عام الفتح مرة ثانية .
وقال بعضهم : نقل الحميْدي عن سفيان بن عيينة أنه قال : حرم الرسول ( أكل لحوم الحمر الأهلية عام خيبر ، ولكن تحريم المتعة كان بعد ذلك ، ولما سئل عن جمع علي ( لهما في موضع واحد ، قال : إنه أراد أن يردّ على ابن عباس ، لأنه كان يرى جوازهما جميعاً .
* وقد نقل عن ابن عباس إباحة المتعة .
ونقل عن جابر إباحتها حتى عهد عمر .(6/32)
فقد قال ( : ( استمتعنا على عهد رسول الله ( وأبي بكر وعمر ) . رواه مسلم
وفي رواية : ( ثم نهانا عنها عمر ) .
والجواب عن هذا :
أ- أنه لم يبلغهم النهي .
قال النووي في قوله ( استمتعنا على عهد رسول الله ( وأبي بكر وعمر ) : " هذا محمول على أن الذي استمتع في عهد أبي بكر وعمر لم يبلغه النسخ " .
ب- أن عمر هو الذي حرمها ونهى عنها ، وعمر خليفة راشد مهتد ، وقد أمرنا رسولنا ( باتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين .
قال الخطابي : " تحريم نكاح المتعة كالإجماع بين المسلمين ، وقد كان مباحاً في صدر الإسلام " .
3- الحكمة من تحريم نكاح المتعة :
لأن المقصود من النكاح هو العشرة الدائمة ، وبناء البيت والأولاد ، وهذا لا يمكن مع النكاح المؤجل في الحقيقة ، كأنه استئجار للزنا .
4- اختلف العلماء في الزواج بنية الطلاق :
وصورته : أن يحتاج إليه مع إضمار نية الطلاق عندما تنتهي دراسته أو ينهي عمله أو يستطيع الزواج بأكفأ منها ، فلم يحدد وقتاً ، بل ترك المجال لإرادة الله ، علماً بأنه قد يعدل عن نيته هذه .
اختلف العلماء في حكم هذا الزواج على قولين :
القول الأول : أنه جائز .
وهذا مذهب الجمهور .
قال ابن قدامة : " وإن تزوجها بغير شرط ، إلا أن في نيته طلاقها بعد شهر ، أو إذا انقضت حاجته في هذا البلد ، فالنكاح صحيح في قول عامة أهل العلم إلا الأوزاعي ، لأنه نكاح وقع على وجهه ، وليس فيه شروط ، كشرط المدة في نكاح المتعة وغاية ما في الأمر أن الزوج أضمر الطلاق في قلبه ، ولم تعلم به الزوجة ولا وليها ، وربما لم يعلم بنيته أحد إلا الله ، وإذا كان كذلك فإضمار النية لا يضر ، إذ أن إضمار الطلاق من حقه ، إذ كل متزوج يتزوج وفي نيته إذا لم تعجبه ، فإنه يطلقها ومثل هذا جائز " .
- وخوفاً من الوقوع في الزنا .
القول الثاني : المنع .
وهذا قول الأوزاعي .
لأنه مخالف لمقصود النكاح في الشريعة .
؛؛؛ والله أعلم ؛؛؛(6/33)
5- تحريم لحوم الحمر الأهلية .
6- حل أكل لحوم الحمر الوحشية .
310 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( لا تُنْكَحُ الأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ , وَلا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , فَكَيْفَ إذْنُهَا قَالَ : أَنْ تَسْكُتَ )).
------------------------------------
معاني الكلمات :
الأيم : هي التي يموت زوجها ، أو تبين منه وتنقضي عدتها ، وأكثر ما تطلق على من مات زوجها . [ قاله الحافظ ابن حجر ]
تستأمر : أصل الاستئمار طلب الأمر ، فالمعنى لا يعقد عليها حتى يطلب الأمر منها ، وتؤخذ من قوله : ( تستأمر ) أنه لا يعقد إلا بعد أن تأمر بذلك .
الفوائد :
1- هذا الحديث دليل على أن المرأة الثيب لا تتزوج حتى تستأمر وتطلب ذلك .
وإذن المرأة في الزوج له أحوال :
أولاً : أن تكون البنت بكر صغيرة .
ففي هذه الحالة اتفق الفقهاء على جواز تزويج الأب ابنته البكر الصغيرة بدون إذنها ، لأن الصغيرة لا إذن لها .
قال ابن المنذر : " وأجمع أهل العلم على أن نكاح الأب ابنته البكر الصغيرة جائز ، إذا زوجها من كفء " .
لحديث عائشة قالت : ( تزوجني النبي ( وأنا ابنة ست ، وبنى بي وأنا ابنة تسع ) . متفق عليه
ثانياً : أن تكون ثيباً .
فهذه لا بد من رضاها واستئمارها بذلك .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " وأما البالغ الثيب فلا يجوز تزويجها بغير إذنها لا للأب ولا لغيره بإجماع المسلمين " .
لحديث الباب .
ثالثاً : البكر البالغ .
فهنا اختلف العلماء على قولين :
القول الأول : لا يجب إذنها ، وإنما يستحب ، فيجوز للأب إجبارها .
وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد .
واستدلوا بحديث الباب بالمفهوم ، لأنه جعل الثيب أحق بنفسها من وليها ، فدل على أن ولي البكر أحق بها منها .
وأما الاستئذان فهو تطيب لخاطرها .
القول الثاني : يجب استئذانها ولا تجبر على النكاح .(6/34)
وهذا مذهب أبي حنيفة والثوري وابن المنذر .
واستدلوا بحديث الباب : ( لا تنكح البكر حتى تستأذن ) فعلق النبي ( النكاح على الإذن ، فدل على أنه واجب .
وجاء في رواية : ( والبكر يستأذنها أبوها في نفسها ) وهذا نص في محل النزاع .
وعن ابن عباس : ( أن جارية أتت النبي ( فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة ، فخيرها النبي ( ) . رواه أبو داود
ففي هذا الحديث أن النبي ( ردّ نكاح البكر التي زوجها أبوها وهي كارهة ، فدل على أن إذن البكر لا بد منه في النكاح .
وهذا الحديث مختلف فيه ، وقد صححه ابن القيم .
وهذا القول هو الراجح .
ورجحه ابن القيم ، وقال : " وهو الذي ندين الله به ، ولا نعتقد سواه ، وهو الموافق لحكم الرسول ( وأمره ونهيه وقواعد شريعته ومصالح أمته " .
أما غير الأب ، فلا يجوز له أن يزوج البكر الكبيرة بالاتفاق .
2- يشترط للنكاح أن يكون بولي .
وهذه المسألة اختلف العلماء فيها على قولين :
القول الأول : أن الولي شرط ، فلا تملك المرأة تزويج نفسها ولا غيرها .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
فهو مذهب مالك والشافعي وأحمد .
واستدلوا بقوله تعالى : ( ... فَلا تَعْضُلُوهُنّ ( . (البقرة: من الآية232)
فقد جاء في سبب نزولها ما رواه البخاري عن معقل بن يسار أنها نزلت فيه ، قال : ( زوجت أختاً لي من رجل فطلقها ، حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها ، فقلت له : زوجتك وأفرشتك وأكرمتك فطلقتها ، ثم جئت تخطبها ، لا والله لا تعود إليك أبداً ، وكان رجلاً لا بأس به ، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه ، فأنزل الله هذه الآية : ( ... فَلا تَعْضُلُوهُنّ ( فقلت : الآن أفعل يا رسول الله ، قال : فزوجها إياه ) .
قال الحافظ ابن حجر في شأن هذه الآية : " وهي أصرح دليل على اعتبار الولي ، وإلا لما كان لفضله معنى ، ولأنها لو كان لها أن تزوج نفسها لم تحتج إلى أخيها " .(6/35)
وقال تعالى : ( وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ ( . (النور: من الآية32) والخطاب للأولياء .
ولحديث أبي موسى قال : قال رسول الله ( : ( لا نكاح إلا بولي ) . رواه أبو داود
وعن عائشة قالت : قال رسول الله ( : ( أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل - ثلاثاً - ولها مهرها بما أصاب منها ، فإن اشتجروا فإن السلطان ولي من لا ولي له ) . رواه أحمد
القول الثاني : أنه لا يشترط الولي .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
لقوله تعالى : ( فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُن ( . (البقرة: من الآية232) فأضاف النكاح إليهن ، ونهى عن منعهن منه .
وقياساً على البيع .
والصحيح مذهب الجمهور .
وأما قياسهم على البيع فقياس باطل ، لأنه في مقابلة النص ، ولأن عقد النكاح أخطر من عقد البيع .
3- شروط الولي :
أ- البلوغ .
وهذا هو المذهب ، وهو قول الأكثر .
ب- العقل .
قال ابن قدامة : " أما العقل فلا خلاف في اعتباره " .
ج- الذكورية .
لأن الولاية يعتبر فيها الكمال ، والمرأة ناقصة ، قاصرة ، تثبت الولاية عليها لقصورها عن النظر لنفسها ، فلا تثبت لها ولاية على غيرها من باب أولى .
د- الرشد .
وهو معرفة الكفء ومصالح النكاح .
فائدة : من يقدم في الولاية ؟
الأبوة ، ثم البنوة ، ثم الأخوة ، ثم العمومة .
مثال : لو كان للثيب أب وابن ، فالأب هو الولي .
مثال : لو وجد ابن وأخ شقيق ، يقدم الابن .(6/36)
311 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (( جَاءَتْ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إلَى النَّبِيِّ ( فَقَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلاقِي . فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبَيْرِ وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ . فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ( وَقَالَ : أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ ؟ لا , حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ , وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ , قَالَتْ : وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَهُ , وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ بِالْبَابِ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ , فَنَادَى أَبَا بَكْرٍ : أَلا تَسْمَعُ إلَى هَذِهِ : مَا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ( )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
امرأة رفاعة : قيل : اسمها نميمة ، وقيل : سهيْمة .
فبت طلاقي : البت بمعنى القطع .
يحتمل أنه قال لها : أنت طالق البتة ، ويحتمل أنه طلقها الطلقة الأخيرة ، وهذا الراجح ، فقد جاء عند البخاري :
( طلقني آخر ثلاث تطليقات ) فيكون طلقها ثم راجعها ثم طلقها ثم راجعها ثم طلقها .
عبد الرحمن بن الزَّبير : الزَبِير : بفتح الزاي ، بعدها باء مكسورة .
مثل هدبة الثوب : هدبة بضم الهاء وسكون الدال هو طرف الثوب ، وأرادت أن ذكره يشبه الهدبة في الاسترخاء وعدم الانتشار .
عسيلته : العسيلة حلاوة الجماع الذي يحصل بتغييب الحشفة في الفرج ، قال الجمهور : " ذوق العسيلة كناية عن المجامعة ، وهو تغييب حشفة الرجل في فرج المرأة " .
الفوائد :
1- الحديث دليل على أن المرأة إذا طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات ، فإنها لا ترجع إليه إلا بشروط :
الأول : أن تنكح زوجاً غيره .
لقوله تعالى : ( فَإِنْ طَلَّقَهَا [ يعني الثالثة ] فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ( . (البقرة: من الآية230)
ولحديث الباب .(6/37)
الثاني : أن يجامعها في الفرج .
لقوله ( : ( حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته ) فعلق النبي ( الحل على ذواق العسيلة منها ، ولا يحصل هذا إلا بالوطء في الفرج .
وهذا مذهب جمهور العلماء أنه لا بد من الجماع .
قال ابن المنذر : " أجمع العلماء على اشتراط الجماع لتحل للأول ، إلا سعيد بن المسيب " يعني أنه قال : يكفي العقد .
( يكفي لحلها لمطلقها ثلاثاً ، تغييب حشفة الرجل في الفرج ، ولا بد من انتشار الذكر ) .
( لا يشترط الإنزال ، وهذا مذهب الجمهور خلافاً للحسن البصري ) .
الشرط الثالث : أن يكون النكاح صحيحاً .
فإن كان فاسداً كنكاح التحليل أو الشغار ، فإنه لا يحلها وطئها .
ونكاح التحليل هو : أن يعمد الرجل إلى المرأة المطلقة ثلاثاً فيتزوجها ليحلها لزوجها الأول .
وهو حرام ولا تحل به المرأة لزوجها الأول .
لحديث ابن مسعود قال : ( لعن رسول الله المحلل والمحلل له ) . رواه أحمد والترمذي
وسماه النبي ( تيساً مستعاراً .
فمتى نوى الزوج الثاني أنه متى حللها طلقها ، فإنه لا تحل للأول ، والنكاح باطل .
فالملعون على لسان الرسول ( هو :
المحلل : هو الزوج الثاني إذا قصد التحليل ونواه ، وكان عالماً .
والمحلل له : هو الزوج الأول ، فيلحقه اللعن إذا كان عالماً .
قال ابن القيم : " وسمعت شيخ الإسلام يقول : نكاح المتعة خير من نكاح التحليل من أوجه :
أحدها : أن نكاح المتعة كان مشروعاً في أول الإسلام ، ونكاح التحليل لم يشرع في زمن من الأزمان .
الثاني : أن الصحابة تمتعوا على عهد النبي ( ، ولم يكن في الصحابة محلل قط .
الثالث : أن رسول الله ( لم يجيء عنه في لعن المستمتِع والمستمتَع بها حرف واحد ، وجاء عنه في لعن المحلِلل والمحلَل له .(6/38)
الرابع : أن المستمتِع له غرض صحيح في المرأة ، ولها غرض أن تقيم معه مدة النكاح ، فغرضه المقصود بالنكاح مدة ، والمحلل لا غرض له سوى أنه مستعار للضراب كالتيس ، فنكاحه غير مقصود له ، ولا للمرأة ، ولا للولي ، وإنما هو كما قال الحسن : " مِسمار نار في حدود الله ، وهذه التسمية مطابقة للمعنى " .
الخامس : أن المستمتع لم يَحْتَل على تحليل ما حرم الله ، فليس من المخادعين الذين يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان ، بل هو ناكح ظاهراً وباطناً ، والمحلل ماكر مخادع ، متخذ آيات الله هزواً ، ولذلك جاء في وعيده ولعنه ما لم يجيء في وعيد المستمتع مثله ، ولا قريب منه .
السادس : أن الفِطَر السليمة ، والقلوب التي لم يتمكن منها مرض الجهل والتقليد ، تنفر من التحليل أشد نفار ، وتُعيِّر به أعظم تعيير ، حتى إن كثيراً من النساء تعيّر المرأة به أكثر مما تعيرها بالزنا .
السابع : أن المحلل من جنس المنافق ، فإن المنافق يُظهِر أنه مسلم ملتزم لعقد الإسلام ظاهراً وباطناً ، وهو في الباطن غير ملتزم به له ، وكذلك المحلل يظهر أنه زوج ، وأنه يريد النكاح ، ويُسمِّي المهر ، ويُشهِد على رضا المرأة ، وفي الباطن بخلاف ذلك .
2- وطأها الثاني بحيض أو نفاس أو إحرام ، هل تحل ؟
قيل : لا تحل بالوطء المحرَّم .
قالوا لأنه وطء حرام لحق الله ، فلم يحصل به الإحلال .
وقيل : أنه يحلها .
وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي ، ورجحه ابن قدامة في المغني ، حيث قال : " وظاهر النص حلها ، وهو قوله تعالى :
( حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ( وهذه قد نكحت زوجاً غيره ، وأيضاً قوله ( : ( حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتك ) وهذا قد وُجِد ، ولأنه وطء في نكاح صحيح في محل الوطء على سبيل التمام فأحلها كالوطء الحلال ، وهذا أصح إن شاء الله ، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي " . أ . ه
وهذا هو الصحيح .(6/39)
3- الحكمة من كون الزوج الأول لا يحل له نكاح مطلقته ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره :
أولاً : تعظيم أمر الطلاق ، حتى لا يكثر وقوعه ، فإنه إذا علم أنه لا ترجع إليه بعد الثلاث حتى يتزوجها غيره ، لم يستعجل بإيقاعه .
ثانياً : الرفق بالمرأة ، فإن المرأة إذا طلقت ثلاثاً فإنها تتزوج غيره ، وقد يكون خيراً من زوجها الأول فتسعد به .
4- ينبغي للسائل أن يتأدب عن السؤال ، فالصحابية لم تصرح باللفظ .
5- مشروعية شكوى المرأة زوجها إذا قصر في حقها .
6- حق المرأة في الفراش ، وأنه ينبغي على الزوج أن يسعى لإحصان زوجته .
7- مشروعية فسخ النكاح بالعنة ، وهي : عجز الرجل عن الجماع .
فالعنة عيب من عيوب النكاح ، وقد قضى الصحابة بذلك .
فإذا ادعت المرأة أنه عنين وأقر بذلك ، أجّل سنة ، فإن وطء منها وإلا فلها الفسخ .
وقد جاء التفريق بالعنة عن عمر وعثمان وابن مسعود وسمرة بن جندب ومعاوية والمغيرة .
وأجّله عمر وابن مسعود والمغيرة سنة ، فإن جامع وإلا فرق بينهما .
الحكمة من تأجيله سنة :
لتمر عليه الفصول الأربعة ، فإن تعذر الجماع قد يكون لعارض حرارة فيزول في الشتاء ، أو البرودة فيزول في الصيف ، أو يبوسة فيزول في الربيع ، أو رطوبة فيزول في الخريف ، فإذا مضت الفصول فلم يزل ، علم أنه خِلقة .
8- تبسم النبي ( سببه أنه عرف مراد المرأة ، وذلك برغبتها بالرجوع إلى زوجها الأول .
جاء في رواية أنه قال : ( كَذَبَتْ يا رسول الله ، إني لأنفضها نفض الأديم ) .
9- مشروعية خروج المرأة للسؤال والفتوى بشرط : ألا يكون خروجها يعرضها للفتنة .
10- حسن خلق النبي ( وطيب نفسه .
312 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ( قَالَ : (( مِنْ السُّنَّةِ إذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ : أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعاً ثُمَّ قَسَمَ . وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ : أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاثاً ثُمَّ قَسَمَ )) .
------------------------------------
الفوائد :(6/40)
1- في الحديث أن الإنسان إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعاً ، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً .
قال في المغني : " متى تزوج صاحب النسوة امرأة جديدة قطع الدور وأقام عندها سبعاً إن كانت بكراً لا يقضيها للباقيات ، وإن كانت ثيباً أقام عندها ثلاثاً ولا يقضيها " .
وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد .
لحديث الباب .
ولحديث أم سلمة : ( أن النبي ( لما تزوجها أقام عندها ثلاثاً ، وقال : ( ليس بك هوان على أهلك ، إن شئت سبعت لكِ وإن سبعتُ لكِ سبعت لنسائي ) . رواه مسلم ( هوان على أهلكِ : يعني نفسه ( ) .
2- الحكمة من ذلك :
أ- أن البكر تنفر من الرجل أكثر من نفور الثيب .
ب- أن رغبة الرجل في البكر أكثر من رغبته في الثيب .
3- وجوب القسم بين الزوجات ، لقوله : ( ثم قسم ... ) .
قال ابن قدامة : " لا نعلم بين أهل العلم في وجوب القسم ، والتسوية بين الزوجات في القسم خلافاً " .
- لقوله تعالى : ( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ( . (النساء: من الآية19) وليس مع الميل معروف .
- وعن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله ( : ( من كان له امرأتان ، فمال إلى إحداهما ، جاء يوم القيامة وشقه مائل ) …رواه الترمذي
( شقه مائل ) أي نصفه مائل ، قيل : بحيث يراه أهل العرصات ليكون هذا زيادة في التعذيب .
يستثنى من هذا الميل الحب والجماع :
قال ابن قدامة : " لا نعلم خلافاً بين أهل العلم في أنه لا تجب التسوية بين النساء في الجماع ، وذلك لأن الجماع طريقه الشهوة والميل ، ولا سبيل إلى إحداهما دون الأخرى " .
4- يقسم لحائض ونفساء ومريضة .
قال في المغني : " لأن القسم للأنس ، وذلك حاصل ممن لا يطأ " .
وقد روت عائشة : ( أن رسول الله ( لما كان في مرضه جعل يدور على نسائه ويقول : أين أنا غداً ؟ أين أنا غداً ؟ ) .
…رواه البخاري
ومن الأدلة :(6/41)
ما رواه البخاري عن ميمونة قالت : ( كان رسول الله ( إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض ).
5- وعماد القسْم بالليل لمن كان معاشه بالنهار .
قال في المغني : " لا خلاف في هذا ، وذلك أن الليل للسكن والإيواء ، يأوي فيه الإنسان إلى منزله ويسكن إلى أهله ، وينام في فراشه مع زوجته عادة ، والنهار للمعاش والخروج والتكسب ، إلا أن يكون ممن معاشه بالليل كالحراس ومن أشبههم ، فإنه يقسم بين نسائه بالنهار ، ويكون الليل في حقه كالنهار في حق غيره " .
6- فضل العدل ، وللعدل فضائل :
أولاً : أن الله أمر به .
قال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ( . (النحل: من الآية90)
ثانياً : أن الله يحب أهله .
قال تعالى : ( وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( . (الحجرات: من الآية9)
ثالثاً : على منابر من نور .
قال ( : ( إن المقسطين عند الله على منابر من نور ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ) . رواه مسلم
7- تحريم الظلم .
8- ويقسم لكل امرأة يوماً وليلة .
عن عائشة قالت : ( كان رسول الله يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها غير أن سوْدة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة زوج النبي ( تبتغي بذلك رضا رسول الله ( ) . رواه البخاري
9- إذا سافرت المرأة بغير إذن زوجها ، سقط حقها من القسم والنفقة ، لأن القسم للأنس ، والنفقة للتمكين من الاستمتاع وقد منعت ذلك بالسفر . [ قاله النووي ]
فإن سافرت بإذن زوجها ، للتجارة مثلاً ، أو للحج ، أو للعمرة ، أو للزيارة ، ففي هذه المسألة قولان :
قيل : لا قسم لها .
واختاره ابن قدامة .
وقيل : أن حقها لا يسقط .
لأنها سافرت بإذنه ، فأشبه إذا سافرت معه .
؛؛؛ والله أعلم ؛؛؛
فائدة : تفسير قوله تعالى : ( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ( . (النساء: من الآية129)(6/42)
قال ابن كثير : " أي لن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه ، فإنه وإن وقع القسم الصوري ليلة وليلة ، فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة " .
وقال الشنقيطي : " هذا العدل الذي ذكر الله تعالى هنا أنه لا يستطاع هو العدل في المحبة والميل الطبيعي ، لأنه ليس تحت قدرة البشر ، بخلاف العدل في الحقوق الشرعية فإنه مستطاع " .
فالمنقول عن العلماء أنه لا يجب التسوية بالجماع ، لكن الأفضل والأكمل التسوية .
قال النووي : " ليس في شرط القسم الوطء ، غير أنه من المستحب أن يساوي بينهن في الوطء ، لأنه هو المقصود ، فإن وطء بعضهن دون بعض لم يأثم بذلك ، لأن الوطء طريقه الشهوة " .
وقال ابن قدامة : " وإن أمكنت التسوية بينهما في الجماع كان أحسن وأولى ، فإنه أبلغ في العدل " .
313 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( (( لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ - إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ - قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ , وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا فَإِنَّهُ إنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ , لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ
أَبَداً )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
أتى أهله : أي جامع .
الفوائد :
1- استحباب قول الرجل هذا الدعاء قبل أن يجامع أهله .
2- أن هذا الذكر يقال قبل الشروع في الجماع ، لرواية : ( لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله ) وهي عند أبي داود .
3- اختلف في الضرر المنفي :
قيل : لم يطعن في بطنه ، وهذا ضعيف .
لقوله ( : ( إن كل بني آدم يطعن الشيطان في بطنه حين يولد إلا عيسى بن مريم ) . متفق عليه
وقيل : لم يصرعه ، وهذا ضعيف .
وقيل : لم يفتنه عن دينه إلى الكفر ، وليس المراد عصمته منه عن المعصية .
وقيل : لم يضره بمشاركة أبيه في جماع أمه .(6/43)
وقد جاء عن مجاهد : ( أن الذي يجامع ولا يسمي يلتف الشيطان على إحليله فيجامع معه ) .
ورجح هذا القول الحافظ ابن حجر .
وأقربها الأخير والذي قبله ، والله أعلم بالصواب .
4- أن هذا الدعاء يقوله الرجل دون المرأة .
5- ليس هناك دعاء خاص تقوله المرأة قبل الجماع .
6- بركة اسم الله .
7- أن ذكر الله يطرد الشيطان .
كما قال ( : ( إذا دخل الرجل بيته ، فقال بسم الله ، وإذا أكل فقال بسم الله ، قال الشيطان : لا مبيت لكم ولا طعام ).
رواه مسلم
وقال ( : ( إذا خرج الرجل من بيته فقال : بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله ، يقال له : كفيت وهديت ووقيت ، ويتنحى عنه الشيطان ) . رواه أبو داود
وقال ( : ( من قال في يوم مائة مرة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، كانت له حرزاً من الشيطان ) . متفق عليه
وقال ( : ( وآمركم أن تذكروا الله ، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً ، حتى إذا أتى إلى حصن حصين ، فأحرز نفسه منهم ، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله ) . رواه الترمذي
قال ابن القيم : " فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقاً بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله "
8- عداوة الشيطان للإنسان .
9- ينبغي على الآباء أن يحرصوا على فعل الأسباب التي تصلح أبناءهم .
10- قال بعض العلماء : إن هذا الدعاء من حق الأبناء على آبائهم .
11- أدب النبي ( ، حيث عبر بالإتيان عن التعبير بالجماع .
12- ينبغي للمسلم أن يستعين بالله في جميع أموره .
13- أن الشيطان ملازم لابن آدم لا ينطرد عنه إلا بذكر الله تعالى .
14- هذه أحد الصيغ التي يشرع قول : ( بسم الله ) فيها ، ومن المواضع :
- قبل الوضوء .
لقوله ( : ( لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله تعالى ) . رواه أبو داود
- عند دخول المنزل .
وسبق دليله .
- قبل الجماع .
لحديث الباب .
- قبل الأكل .(6/44)
لقوله ( : ( كل بيمينك وسم الله ) .
وغيرها كثير .
314 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( إيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَرَأَيْتَ الْحَمْوَ ؟ قَالَ : الْحَمْوُ الْمَوْتُ )).
ولِمُسْلِمٍ عنْ أَبي الطَّاهِرِ عنِ ابنِ وَهْبٍ قالَ : " سَمِعْتُ اللَّيثَ يقولُ : الحَمْوُ : أَخو الزَّوْجِ ومَاأَشْبَهَهُ منْ أَقاربِ الزَّوْجِ ، ابنِ عَمٍّ ونَحْوِهِ .
------------------------------------
معاني الكلمات :
إياكم : احذروا .
النساء : أي الأجنبيات عنكم ، كابنة العم ، وابنة الخال أو الخالة .
الحمو : أقارب الزوج .
الفوائد :
1- تحريم الدخول على النساء الأجنبيات ، ومن باب أولى الخلوة بها .
2- أن هذا الحكم عام في الرجال الأجانب ، سواء حتى لو كانوا من أقرباء الزوج كأخيه أو ابن عمه .
3- ينبغي الحذر أكثر من أقارب الزوج .
قال النووي : " أي أن الخوف منه - أي القريب - أكثر من غيره ، والشر يتوقع منه والفتنة أكثر ، لتمكنه من الوصول إلى المرأة والخلوة من غير نكير ، بخلاف الأجنبي " .
4- أن النبي ( سمى دخول أقارب الزوج على زوجته الموت .
قال الطبري : " المعنى أن خلوة الرجل بامرأة أخيه ، أو ابن أخيه ، تنزل منزلة الموت ، والعرب تصف الشيء المكروه بالموت " .
وقال القاضي عياض : " معناه أن الخلوة بالأحماء مؤدية إلى الفتنة والهلاك في الدين ، فجعله كهلاك الموت ، وأورد الكلام مورد التغليظ " .
5- التحذير الشديد من الدخول والخلوة بالنساء .
وقد قال ( : ( لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما ) .
6- حرص الإسلام على سلامة المجتمع ، وسد باب الشر ، ومنع وقوع الزنى ودواعيه .
فائدة :
محرم المرأة من حرم عليه نكاحها على التأبيد .(6/45)
315 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ( (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( أَعْتَقَ صَفِيَّةَ , وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
صفية : بنت حيي بن أخطب ، قال ابن القيم : " وعرض عليها رسول الله ( الإسلام ، فأسلمت ، فاصطفاها لنفسه ، وأعتقها وجعل عتقها صداقها ، وبنى بها في الطريق ، وأولم عليها .
صداقها : الصداق هو المال المبذول ، أو المنفعة المبذولة لعقد نكاح .
ويسمى المهر ، والنحلة ، والفريضة ، والحباء ، والأجر .
الفوائد :
1- وجوب الصداق .
ويدل لذلك قوله تعالى : ( وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ ( . (النساء: من الآية4)
قال القرطبي : " هذه الآية تدل على وجوب الصداق للمرأة ، وهو مجمع عليه لا خلاف فيه " .
وقال ( : ( التمس ولو خاتماً من حديد ) .
2- اختلف العلماء في جواز جعل العتق صداقاً على قولين :
القول الأول : أنه يجوز .
قال ابن القيم : " وهذا ظاهر مذهب أحمد وكثير من أهل الحديث " .
لحديث الباب .
القول الثاني : لا يجوز .
قال ابن القيم : " وهو قول الأئمة الثلاثة ومن وافقهم " .
وأجابوا عن حديث الباب بأجوبة :
قالوا : أن هذا خاص بالنبي ( .
ويجاب عنه : بأن دعوى الاختصاص تفتقر إلى دليل .
وذكروا عدة أجوبة عن حديث الباب ، كلها ضعيفة .
والراجح القول الأول .
3- استدل بحديث الباب من قال أنه لا يشترط النكاح أن يكون بلفظ الإنكاح أو التزويج .
وهذه مسألة اختلف العلماء فيها على قولين :
القول الأول : يشترط أن يكون النكاح بلفظ الإنكاح أو التزويج .
وهذا المشهور من المذهب ، وبه قال عطاء ، وسعيد بن المسيب ، والزهري ، وربيعة ، والشافعي .
لأنهما اللفظان اللذان ورد بهما القرآن الكريم .
كقوله تعالى : ( فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا ( . (الأحزاب: من الآية37)
وقوله تعالى : ( وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ ( . (النساء: من الآية22)(6/46)
القول الثاني : يجوز بأي لفظ يدل عليه النكاح ، ولا يشترط لفظ الإنكاح والتزويج .
وهذا قول الثوري وأبو حنيفة ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم .
لحديث الباب ، فالنبي ( تزوج صفية وجعل عتقها صداقها .
ولحديث الواهبة [ وسيأتي ] وفيه أن النبي ( قال للرجل : ( ملكتك بما معك من القرآن ) . متفق عليه
ولأن صيغة النكاح ليست من العبادات التي نتعبد بلفظها كالتشهد ونحوه ، بل عقد من العقود يجري به الناس على ما يتعارفونه بينهم .
وهذا القول هو الصحيح .
فائدة : صفية زوجة من زوجات النبي ( ، تزوجها ( عام خيبر ( 7 ) ه .
زوجات النبي ( :
خديجة ، تزوجها قبل النبوة .
ثم تزوج سودة ، تزوجها بعد موت خديجة .
عائشة ، بنى بها في شوال في السنة الأولى .
حفصة بنت عمر ، تزوجها بعد موت زوجها في غزوة أحد .
زينب بنت خزيمة ، تزوجها بعد استشهاد زوجها عبد الله بن جحش في أحد .
أم سلمة هند بنت أبي أمية ، تزوجها بعد وفاة زوجها في غزوة أحد .
زينب بنت جحش ، تزوجها بعد مولاه زيد بن حارثة عام 5 ه .
جويرية بنت الحارث ، تزوجها عام 6 ه .
أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان ، تزوجها بعد زوج أسلم ثم تنصر ، وهو عبيد الله بن جحش .
صفية بنت حيي ، تزوجها بعد فتح خيبر .
ميمونة بنت الحارث ، تزوجها عام 7 ه .(6/47)
316 - عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ ( (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ : إنِّي وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ : فَقَامَتْ طَوِيلاً ، فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , زَوِّجْنِيهَا , إنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ . فَقَالَ : هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا ؟ فَقَالَ : مَا عِنْدِي إلا إزَارِي هَذَا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : إزَارَكَ إنْ أَعْطَيْتَهَا جَلَسْتَ وَلا إزَارَ لَكَ ، فَالْتَمِسْ شَيْئاً قَالَ : مَا أَجِدْ . قَالَ : الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَماً مِنْ حَدِيدٍ ، فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئاً ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( هَلْ مَعَكَ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
جاءته امرأة : قال الحافظ : " لم أقف على اسمها " .
إني وهبت نفسي لك : أي كأنها تقول : أتزوجك من غير صداق .
فقامت طويلاً : جاء في رواية : ( فلم يجبها شيئاً ) وفي رواية : ( فنظر إليها ، فصعّد النظر إليها وصوبه ) وهو بتشديد
العين ، والمراد أنه نظر أعلاها وأسفلها .
فقامت طويلاً : أي زمناً طويلاً .
فقال رجل : قال الحافظ : " لم أقف على اسمه " .
زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة : جاء في رواية : ( أنكحنيها ) .
ما عندي إلا إزاري : جاء في رواية : ( لكن هذا إزاري ولها نصفه ) ، والإزار : هو ما يغطي النصف الأسفل من البدن .
الفوائد :
1- جواز عرض المرأة نفسها ، أو الرجل ابنته على رجل من أهل الخير والصلاح ، ومما يدل على ذلك :(6/48)
- عن ثابت البناني قال : ( كنت عند أنس وعنده ابنة له ، قال أنس : جاءت امرأة إلى رسول الله ( تعرض عليه نفسها قالت : يا رسول الله ، ألك بي حاجة ؟ فقالت بنت أنس : ما أقلّ حياءها ، واسوأتاه ، قال : هي خير منك ، رغبت في النبي ( فعرضت عليه نفسها ) . رواه البخاري
- وقال تعالى عن الشيخ الصالح لموسى ( : ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ (. قال القرطبي : " فيه عرض الولي ابنته على الرجل ، وهذه سنة قائمة ، عرض صالح مدين ابنته على صالح بني إسرائيل ، وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على أبي بكر ، وعثمان ، وعرضت الموهوبة نفسها على النبي ( " .
- وعن ابن عمر : ( أن عمر بن الخطاب حين تأيمت حفصة بنت عمر من حنيس بن حذافة ، وكان من أصحاب رسول الله ( فتوفي في المدينة ، فقال عمر : أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة ، فقال : سأنظر في أمري ... قال عمر : فلقيت أبا بكر الصديق ، فقلت : إن شئت زوجتك حفصة ... ) .
قال الحافظ : " وفيه عرض الإنسان بنته وغيرها من مولياته على من يعتقد خيره وصلاحه ، لما فيه من النفع العائد على المعروضة عليه ، وأنه لا استحياء في ذلك ، وفيه أنه لا بأس بعرضها عليه ولو كان متزوجاً ، لأن أبا بكر كان حينئذٍ
متزوجاً " .
2- استدل بالحديث على جواز نظر الخاطب إلى المخطوبة ، ومما يدل لذلك :
حديث جابر أن رسول الله ( قال : ( إذا خطب أحدكم المرأة ، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل
قال : فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها ) . رواه أبو داود
وعن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله ( لرجل تزوج امرأة : ( أنظرت إليها ؟ قال : لا ، قال : اذهب فانظر إليها ، فإن في أعين الأنصار شيئاً ) . رواه مسلم
( شيئاً ) قيل : عمش ، وقيل : صغر ، وهذا هو الصحيح ، لأنه وقع في رواية أبي عوانة في مستخرجه .(6/49)
وعن المغيرة بن شعبة قال : ( أتيت النبي ( فذكرت له امرأة خطبتها ، فقال : اذهب فانظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم
بينكما ) . رواه الترمذي
لهذه الأحاديث ذهب جماهير العلماء إلى استحباب النظر إلى المخطوبة .
لكن اختلف فيما يحل للخاطب أن يرى من مخطوبته :
فقيل : ينظر إلى الوجه والكفين فقط .
وهذا مذهب الشافعي .
قال النووي : " ثم إنه يباح النظر إلى وجهها وكفيها فقط ، لأنه يستدل بالوجه على الجمال أو ضده ، وبالكفين على خصوبة البدن أو عدمها " .
وقيل : ينظر إلى جميع بدنها .
وهو قول داود .
وقيل : ينظر إلى ما يظهر غالباً .
ورجح هذا القول الألباني .
وهو الصحيح .
* هل يشترط رضا المخطوبة في النظر أم لا ؟
ذهب جمهور العلماء إلى جواز النظر إلى المخطوبة وإن لم تأذن .
لقوله ( : ( إذا خطب أحدكم امرأة ، فلا جناح عليه أن ينظر إليها لخطبته وإن كانت لا تعلم ) . رواه أحمد
- شروط النظر إلى المخطوبة :
أولاً : أن يغلب على ظنه موافقتها .
ثانياً : أن لا يقصد التلذذ .
ثالثاً : أن لا يكون بخلوة .
رابعاً : أن يكون عازماً على الخطبة .
3- استدل بالحديث على أنه يجوز أن يكون الصداق قليلاً ، ففيه رد على من قال إن أقله عشرة دراهم .
وقد اختلف العلماء في أقل الصداق ، مع اتفاقهم على أنه لا حد لأكثره ، كما نقل الإجماع القرطبي :
فقيل : أقله عشرة دراهم .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
لحديث جابر قال : قال رسول الله ( : ( لا يزوج النساء إلا الأولياء ، ولا مهر أقل من عشرة دراهم ) . رواه الدار قطني وهو حديث ضعيف .
وقيل : أقله ربع دينار .
وهذا مذهب مالك .
قياساً على نصاب القطع في السرقة ، وهذا قياس في مقابل النص .
وقيل : يصح الصداق بكل ما يسمى شيئاً ولو حبة شعير .
وهذا مذهب ابن حزم .
لقوله ( للرجل : ( التمس شيئاً ) .
وقيل : كل ما صح العقد عليه بيعاً ، أو إجارة ، فإنه يصح أن يكون صداقاً ، سواء كان عيناً أو منفعة .(6/50)
فالعين مثل : أن يعطيها دراهم أو يعطيها متاعاً .
والمنفعة مثل : استخدامها إياه ، أو تستوفي منه بغير الخدمة أن يبني لها بيتاً .
وهذا القول هو الصحيح .
4- الحكمة من الصداق :
- أن الصداق إظهار لشرف هذا العقد وأهميته .
- أن فيه إعزاز للمرأة وتشريف لها .
- أن فيه الدليل على الرغبة في الزوجة .
- تمكين المرأة من تجهيز نفسها بما أحبت من لباس ونفقة وزينة .
5- يسن تسمية الصداق في العقد ، وليست تسميته شرطاً ، وهذا مذهب الجمهور .
لقوله تعالى : ( لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ( . (البقرة: من الآية236)
وجه الدلالة : أن الله تعالى رفع الحرج عن الطلاق في النكاح الذي لم يسم فيه المهر ، والطلاق لا يكون إلا في نكاح قد تم بعقد صحيح .
ولحديث ابن مسعود : ( أنه قضى في رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يدخل بها ولم يفرض لها صداقاً ، قال ( : لها الصداق كاملاً ، وعليها العدة ، ولها الميراث ، فقام معقل بن يسار فقال : سمعت رسول الله ( قضى في بِرْوع بنت واشق بمثل ذلك ) .
وجه الدلالة : أن العقد صح مع عدم تسميته المهر ، فلو لم يكن نكاحاً صحيحاً لما قضى النبي ( لبروع بالصداق .
ويكون لها مهر المثل .
لكن الأفضل تسميته :
- لأنه أقطع للنزاع والخلاف .
- ولقوله ( : ( التمس ولو خاتماً من حديد ) .
* يصح الصداق معجلاً ومؤجلاً ، ويصح أن يكون بعضه معجلاً وبعضه مؤجلاً .
6- اختلف العلماء في حكم جعل تعليم القرآن مهراً على قولين :
القول الأول : لا يجوز .
وهذا مذهب الحنفية والمالكية .
لقوله تعالى : ( أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ ... ( . (النساء: من الآية24)
وقال تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَات ... ( . (النساء: من الآية25)
فالفروج لا تستباح إلا بالأموال .(6/51)
وروي أن رسول الله ( زوج امرأة على سورة من القرآن ، ثم قال : ( لا تكون لأحد بعدك مهراً ).رواه سعيد بن منصور ولا يصح
وقالوا : أن تعلم القرآن لا يقع إلا قربة ، فلا يجوز أن يكون صداقاً كالصلاة .
القول الثاني : يجوز .
وهذا مذهب الشافعي ، واختاره ابن القيم .
لحديث الباب : ( زوجتك بما معك من القرآن ) .
وهذا القول هو الصحيح .
7- أن النكاح ينعقد بكل لفظ دال عليه ، فقد جاء في رواية : ( ملكتكها ) . [ وسبقت المسألة في الحديث الماضي ]
8- أن الهبة في النكاح خاصة بالنبي ( ، لقول الرجل : ( زوجنيها ) ولم يقل : هبها لي .
ولقولها هي : ( وهبت نفسي لك ) وسكت ( على ذلك ، فدل على جوازه له خاصة .
وقال تعالى : ( خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ( . (الأحزاب: من الآية50)
9- أن الإمام يزوج من ليس لها ولي خاص لمن يراه كفؤاً ، ولكن لا بد من رضاها ، لأنه جاء في رواية أن النبي ( قال للمرأة: ( إني أريد أن أزوجك هذا إن رضيت ، فقالت : ما رضيت لي فقد رضيت ) .
10- سكوته ( لما وهبت المرأة نفسها له :
- إما حياء من مواجهتها بالرد ، وكان ( شديد الحياء .
- وإما انتظاراً للوحي .
- وإما تفكراً في جواب يناسب المقام .
11- فطنة الصحابي وحسن أدبه ، حيث قال : ( زوجنيها يا رسول الله ) ثم بالغ في الاحتراز ، فقال : ( إن لم يكن لك بها حاجة ) وإنما قال ذلك بعد تصريحه بنفي الحاجة ، لاحتمال أن يبدو له بعد ذلك ما يدعوه إلى إجابتها .
12- أن النكاح لا بد فيه من الصداق .
لقوله ( : ( هل عندك من شيء تصدقها ) . [ وسبق ذلك ]
13- جواز النكاح بالخاتم من حديد ، وهذا قول الجمهور .
14- قوله : ( زوجتك بما معك من القرآن ) :
يحتمل : أن يعلمها ما معه من القرآن أو مقدار معين منه ، ويكون ذلك صداقها .
ويؤيد هذا ما جاء في بعض طرق الحديث : ( فعلمها من القرآن ) .
ويحتمل : أن تكون الباء بمعنى اللام ، أي لأجل ما معك من القرآن ، فأكرمه .(6/52)
والأول أرجح .
15- الحديث دليل على أن خطبة النكاح غير واجبة .
وهي : إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ... ) . رواه الترمذي
فهذه الخطبة مستحبة غير واجبة ، وهذا مذهب جماهير العلماء .
لحديث الباب ، حيث لم تذكر في حديث الباب .
وخالف داود فقال بوجوبها .
16- أن طالب الحاجة لا ينبغي أن يلح في طلبها ، بل يطلبها برفق وتأن .
17- فيه نظر الإمام في مصالح رعيته وإرشاده إلى ما يصلحهم .
18- اختلف العلماء في حكم لبس خاتم الحديد على قولين :
القول الأول : يكره .
وهذا قول جمهور العلماء .
لحديث عمر بن الخطاب قال : ( إن رسول الله ( رأى في يد رجل خاتماً من ذهب ، فقال : ألقِ ذا ، فألقاه ، فتختم بخاتم من حديد ، فقال : ذا شرّ منه ، فتختم بخاتم من فضة ، فسكت عنه ) . رواه أحمد
وعن عبد الله بن عمرو : ( أن رجلاً أتى النبي ( ، وفي يده خاتم من ذهب ، فأعرض النبي ( عنه ، فلما رأى الرجل كراهيته ، ذهب فألقى الخاتم ، وأخذ خاتماً من حديد فلبسه ، وأتى النبي ( ، فقال ( : هذا شر ، هذا حلية أهل النار فرجع فطرحه ، ولبس خاتماً من ورق ) . رواه أبو داود
القول الثاني : الجواز .
وهذا المذهب عند الشافعية .
واستدلوا بحديث الباب في قوله : ( التمس ولو خاتماً من حديد ) .
قالوا : إن النبي ( جعل خاتم الحديد مهراً ، وهذا يدل على أنه أذن فيه ، ولو كان مكروهاً لم يأذن فيه ، ولا وجه للإذن فيه إلا إذا كان لبسه جائز .
والراجح القول الأول .
والجواب عن قول : ( التمس ولو خاتماً من حديد ) :
قال الحافظ : " استدل به على جواز لبس خاتم الحديد ، ولا حجة فيه ، لأنه لا يلزم من جواز الاتخاذ جواز اللبس ، فيحتمل أنه أراد وجوده لتنتفع المرأة بقيمته " .(6/53)
317 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ( : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( رَأَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ , وَعَلَيْهِ رَدْعُ زَعْفَرَانٍ . فَقَالَ النَّبِيُّ ( : مَهْيَمْ ؟ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً , فَقَالَ : مَا أَصْدَقْتَهَا ؟ قَالَ : وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ : فَبَارَكَ اللَّهُ لَكَ , أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
ردع : بفتح الراء وسكون الدال ، أثر الزعفران .
مهيم : بفتح الميم وسكون الهاء ، ومعناه : ما شأنك ، أو ما هذا ؟ وهي كلمة استفهام .
نواة من ذهب : قيل أنه وزن خمسة دراهم .
أولم : هو طعام النكاح .
الفوائد :
1- استحباب تخفيف الصداق ، فهذا عبد الرحمن بن عوف لم يصدق زوجته إلا خمسة دراهم .
ولحديث عائشة أن رسول الله ( قال : ( إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة ) . رواه أحمد
قال عمر : ( لا تغالوا في صداق النساء ، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا ، أو تقوى عند الله ، لكان أولاكم بها نبي الله ( ما علمت رسول الله ( نكح شيئاً من نسائه على أكثر من ثنتي عشرة أوقية ) . رواه أبو داود
الأوقية : أربعون درهماً .
ولأن في تقليل المهور أدعى للنكاح .
2- استحباب الوليمة للعرس .
لقوله ( : ( أولم ... ) .
وهي الطعام الذي يصنع أيام العرس .
وقد اختلف العلماء في حكمها على قولين :
القول الأول : أنها مستحبة .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لقوله ( : ( أولم ... ) وهذا أمر ، وأقل أحواله الاستحباب .
القول الثاني : أنها واجبة .
وهذا مذهب الظاهرية .
لقوله ( لعبد الرحمن بن عوف : ( أولم ... ) وهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب .
ولقوله ( : ( إنه لا بد للعروس من وليمة ) . رواه أحمد
قال ابن حجر : " سنده لا بأس به " .
والراجح الأول .(6/54)
قالوا : إن الأمر في حديث : ( أولم ... ) للاستحباب ، بدليل أنه ( أمر بالشاة ، ولا خلاف أنه لا يجب عليه الإيلام بالشاة ، وقد أولم ( بغير الشاة مع أنه أمر بها .
ففي حديث أنس : ( أنه ( أولم على صفية وكانت وليمته حيساً ) .
وفي الصحيح : ( أنه ( أولم على امرأة من نسائه بمدين شعير ) .
3- وقت الوليمة :
اختلف السلف في وقت الوليمة :
فاستحبها بعض العلماء قبل الدخول ، واستحبها بعضهم بعد الدخول .
والأمر واسع .
قال في الإنصاف : " الأولى أن يقال وقت الاستحباب موسع من عقد النكاح إلى أيتها أيام العرس ، لصحة الأخبار في هذا وهذا " .
4- مقدار الوليمة :
أخذ بعض العلماء من قوله ( : ( أولم ولو بشاة ) أنه يستحب للموسر أن لا ينقص عن شاة .
ولكن ثبت أنه ( أولم على بعض نسائه بأقل من الشاة ، فقد ثبت أنه أولم على زينب خبزاً ولحماً .
فالراجح أنه لا حد لأكثرها ، والأفضل على قدر حال الزوج .
5- يستحب الدعاء للمتزوج بما ورد ، ومما ورد :
كما في حديث الباب : ( بارك الله لك ) .
ومما ورد ما جاء في حديث أبي هريرة : ( أن النبي ( كان إذا رفأ إنساناً إذا تزوج قال : بارك الله لك ، وبارك عليك ، وجمع بينكما في خير ) . رواه أحمد وأبو داود ( رفأ : أي دعا ) .
ولا يقول : [ بالرفاء والبنين ] كما يفعل الذين لا يعلمون ، فإنه من عمل الجاهلية .
6- يجب إجابة دعوة العرس .
وهذا مذهب جماهير العلماء ، أن إجابة الدعوة في وليمة العرس واجبة .
لحديث ابن عمر قال : قال رسول الله ( : ( إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليأتها ) . متفق عليه
وفي لفظ لمسلم : ( إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليجب ) .
ولحديث أبي هريرة قال : قال رسول الله ( : ( شرّ الطعام طعام الوليمة ، يدعى إليها الأغنياء ، ويترك الفقراء ، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله ) . متفق عليه
وذهب بعض العلماء إلى استحبابها .
والراجح الأول ، لكن لإجابة الدعوة شروطاً :(6/55)
منها : أن لا يكون هناك منكر .
لقوله ( : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر ) . رواه أحمد
قال الفقهاء : إن علم أن هناك منكراً ، يقدر على تغييره ، حضر وغيّره .
أي يجب أن يحضر ، وذلك لسببين :
أ- أنه دعوة وليمة عرس .
ب- فيها إزالة للمنكر ، وإزالته واجبة .
إن امتنع عن الحضور ، فينبغي أن يخبر بالسبب ، وذلك :
أ- لبيان عذره .
ب- ردعاً لهؤلاء .
ج- ربما هؤلاء يجهلون أن هذا الفعل حرام .
ومنها : أن يكون ذلك في اليوم الأول .
بعضهم ذكر أن يكون الداعي مسلماً .
فالمذهب يكره إجابة دعوة الذمي .
والصواب أنه لا يكره ، لأن الرسول ( أجاب دعوة اليهودي ، لا سيما إذا كان في ذلك تأليفاً ومصلحة .
7- اختلف العلماء في حكم لباس المزعفر للرجل على أقوال :
القول الأول : أنه حرام .
لحديث أنس ( قال : ( نهى النبي ( أن يتزعفر الرجل ) . رواه مسلم
وهذا نص في المنع من لبس الرجل للمزعفر من الثياب .
القول الثاني : الجواز .
واستدلوا بحديث الباب ، حيث أقر النبي ( عبد الرحمن بن عوف في لبس ثياب مزعفرة .
والراجح القول الأول .
وأما الجواب عن حديث عبد الرحمن بن عوف ، فأجاب العلماء بأجوبة :
منها:قالوا بجوازه للمتزوج دون غيره، وعلى هذا تدل ترجمة البخاري في صحيحه ، حيث قال: "باب الصفرة للمتزوج" .
ثم ساق بسنده حديث أنس في قصة زواج عبد الرحمن بن عوف .
ومنها : أن ذلك وقع من ابن عوف قبل النهي عن التزعفر ، وهذا وإن كان يحتاج إلى تاريخ ، إلا أنه يؤيده أن سياق قصة عبد الرحمن بن عوف يشعر بأنها كانت في أوائل الهجرة ، وأكثر من روى النهي عن التزعفر ممن تأخرت هجرته .
ومنها : أن أثر الصفرة التي كانت على عبد الرحمن بن عوف ، تعلقت به من زوجته حين مسها ، فكان ذلك غير مقصود له ، وقد رجح هذا النووي ، وعزاه للمحققين من أهل العلم .
وهذا أقرب وأقوى .(6/56)
ومنها : أن الصفرة التي كانت على عبد الرحمن ، كانت يسيره ، ولم يبق إلا أثرها ، فلذلك لم يأمره النبي ( بغسلها ، وإنما استفهم منكراً ذلك ليدل على أن التزعفر للرجال جائز .
اختلف العلماء في سبب النهي عن الثياب المزعفرة :
فقال بعضهم : نهى عنها بسبب لونها ، ومن ثم فكل ما كان أصفر مشابهاً للمزعفر ، فهو حرام .
وقال بعضهم : أن سبب التحريم هو أن الزعفران من طيب النساء .
كتابُ الطَّلاقِ
1- الطلاق لغة : التخلية .
وشرعاً : حل قيد النكاح أو بعضه .
( فإن كان بائناً فهو حله لكله ، وإن كان رجعياً فهو لبعضه ) .
2- والطلاق ثلاثة أنواع :
الأول : الطلاق الرجعي .
وهو إعادة مطلقة غير بائن إلى ما كانت عليه قبل الطلاق .
الثاني :الطلاق البائن بينونة كبرى .
وهو الطلاق الثلاث .
فإن كان الرجل قد طلق الرجل زوجته مرتين سابقتين ثم طلقها الثالثة ، فهذا طلاق بائن بينونة كبرى ، فلا تحل له إلا بعد زوج .
الثالث : الطلاق البائن بينونة صغرى .
وهو الطلاق على عوض .
وهو الطلاق الذي لا يستطيع فيه المطلق إرجاع زوجته بإرادته المنفردة كما كان له ذلك في الطلاق الرجعي .
3- والطلاق جائز بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : ( الطلاق مرتان ... ( .
وقال تعالى : ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ... ( .
ومن السنة حديث ابن عمر الآتي .
وحديث عمر : ( أن رسول الله ( طلق حفصة ثم راجعها ) .
4- ممن يصح الطلاق ؟
من زوج : فغير الزوج لا يصح طلاقه ، إلا إذا قام مقام الزوج بالوكالة .
عاقل : فالمجنون لا يصح طلاقه .
لحديث : ( رفع القلم عن ثلاث : وعن المجنون حتى يفيق ) .
بالغ : فالصبي الغير المميز لا يقع طلاقه بالاتفاق ، أما المميز فيه قولان :
الجمهور على أنه لا يقع طلاقه .
لحديث : ( رفع القلم عن ثلاثة : ... وعن الصبي حتى يبلغ ) .
5- الطلاق تجري فيه الأحكام التكليفية الخمسة :
- يكره : إذا كان بلا سبب يدعوه إلى ذلك ، ولم تكن هناك حاجة إليه .(6/57)
وقد جاء في الحديث : ( أبغض الحلال إلى الله الطلاق ) . رواه أبو داود ، وهو ضعيف
ومما يدل على كراهته قوله ( : ( إن إبليس يضع عرشه على الماء ، ثم يبعث سراياه ، فأدناهم منزلة أعظمهم فتنة ، فيجيء أحدهم فيقول : فعلت كذا وكذا ، فيقول : ما صنعت شيئاً ، قال : ثم يجيء أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته ، قال : فيدنيه منه ، ويقول : نعم أنت ) . رواه مسلم
( وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه يحرم في هذه الحالة ) .
- يستحب : إذا كان في استمرار النكاح ضرر على المرأة ، أو لكونها غير راغبة في الزوج ولم تستطع الافتداء منه ، فيؤجر الزوج في فراقها .
- يباح : عند الحاجة إليه لسوء خلق المرأة وسوء عشرتها ، أو لوجود الشقاق بينهما ، أو لعدم انتظام الحياة الزوجية .
- يحرم : في حالات ستأتي .
أن يطلقها في الحيض - أو في طهر جامعها فيه - أو أن يطلقها ثلاث تطليقات بلفظ . [ وستأتي أدلتها ] .
- يجب : إذا آلى الزوج [ أي حلف ] بألا يطأ زوجته ، فإن الحاكم يحدد له أربعة أشهر ، فإن فاء ( رجع ) وإلا ألزمه الحاكم بالطلاق .
6- طلاق السكران :
أ- أن يقع السكر عن غير عمد .
كأن يشرب الخمر يظنها عصيراً ، فهذا لا يقع الطلاق بإجماع .
ب- أن يتعمد السكر ، ففيه قولان :
القول الأول : يقع الطلاق .
وهذا المذهب .
قال في المغني : " وهو مذهب سعيد بن المسيب ، وعطاء ، ومجاهد ، ومالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة " .
لقوله تعالى : ( ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ( .
فنهاهم حال السكر من قربان الصلاة ، وهذا يقتضي عدم زوال التكليف .
القول الثاني : لا يقع طلاقه .
وهو قول عثمان ، ومذهب عمر بن عبد العزيز ، واختاره ابن تيمية .
لقوله تعالى : ( ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ( .
فهذه الآية دلت على أن السكران غير مكلف ، لأن الله أسقط الصلاة عنه حال السكر .
وأن النبي ( لم يؤاخذ حمزة لما سكر فقال : وهل أنتم إلا عبيد أبي .(6/58)
وهذا القول هو الصحيح .
7- لو نوى الطلاق ، ولم يتلفظ به ، فإنه لا يقع .
وهذا مذهب الأئمة الأربعة .
لقوله ( : ( إن الله تجاوز عن أمتي ما لم تتحدث أو تعمل ) .
فعفى الله عن حديث النفس .
8- لا طلاق قبل نكاح .
لقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنّ ( . (الأحزاب: من الآية49)
فذكر الله تعالى النكاح قبل الطلاق .
وقال ( : ( لا طلاق قبل نكاح ) . رواه ابن ماجه وحسنه ابن حجر
مثال : لو قال رجل : إن تزوجت فلانة فهي طالق ، فلا يعتبر قوله ولا تقع طلقة .
9- طلاق المكره :
اختلف العلماء على قولين :
القول الأول : أنه لا يقع .
وهو مذهب جمهور العلماء .
لقوله تعالى : ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَان ِ (. (النحل: من الآية106)
وجه الدلالة : أن الإنسان إذا أكره على الكفر ، وتلفظ به ظاهراً ، فلا يكون كافراً ، وهذا في العقيدة ، فلئلا يقع طلاقاً عند الإكراه على الطلاق من باب ألوى وأحرى .
القول الثاني : أنه يقع .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
وعللوا ذلك بأنه طلاق من مكلف في محا يملكه ، فوقع .
والراجح الأول .
318- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما ، (( أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ ( ، فَتَغَيَّظَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ ( ، ثُمَّ قَالَ : لِيُرَاجِعْهَا , ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ , ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ , فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَتِلْكَ الْعِدَّةُ , كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ )) .
وَفِي لَفْظٍ : (( حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً مُسْتَقْبَلَةً , سِوَى حَيْضَتِهَا الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا )) .(6/59)
وَفِي لَفْظٍ (( فَحُسِبَتْ مِنْ طَلاقِهَا , وَرَاجَعَهَا عَبْدُ اللَّهِ كَمَا أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ( )) .
------------------------------------
جاء في رواية : ( فليطلقها حائلاً أو حاملاً ) .
معاني الكلمات :
طلق امرأته : اسمها آمنة بنت غفار ، قاله النووي .
وفي مسند الإمام أحمد من حديث نافع أن عمر قال : ( يا رسول الله ، إن عبد الله طلق النوار ) قال الحافظ : " يحتمل أن يكون هذا لقبها " .
فتغيظ منه رسول الله : لماذا تغيظ رسول الله ؟
يحتمل أن يقال النهي عن الطلاق في الحيض كان معروفاً عندهم من نهيه ( .
وإما أن يكون ذلك معروفاً من دلالة القرآن : ( فطلقوهن لعدتهن ( .
وإما أن مقتضى الحال أن يستشار ( قبل إيقاعه ، فلم يفعله ابن عمر .
الفوائد :
1- الحديث يدل على تحريم طلاق الزوجة وهي حائض ، وهذا يسمى طلاق بدعي .
فالطلاق ينقسم إلى قسمين :
أولاً : الطلاق السني :
- أن يطلقها طاهراً غير حائض .
لقوله ( : ( ... فليطلقها قبل أن يمسها ... ) .
- أو أن يطلقها حاملاً .
لقوله ( : ( ... فليطلقها حائلاً أو حاملاً ) .
- أو أن يطلقها مرة واحدة في طهر لم يجامعها فيه .
لقوله ( : ( ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض وتطهر ، ثم إن شاء طلقها قبل أن يمس ) .
ثانياً : الطلاق البدعي المحرم .
- أن يطلقها في الحيض .
لحديث الباب ، فإن النبي ( تغيظ وأمر بمراجعتها .
- أن يطلقها في طهر مسها فيه .
لقوله ( : ( مره فليراجعها ، ثم يمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، ثم إن شاء أمسك ، وإن شاء طلق ) .
- أن يطلق امرأته ثلاث تطليقات بلفظ واحد .
2- فطلاق الحائض حرام ، لكن اختلف العلماء هل يقع أم لا ؟ على قولين :
القول الأول : أنه يقع .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
قال ابن قدامة : " فإن طلقها للبدعة ، وهو أن يطلقها حائضاً ... وقع طلاقه في قول عامة أهل العلم " .
لقوله تعالى : ( الطلاق مرتان ... ( .(6/60)
وقوله تعالى : ( فإن طلقها فلا تحل ... ( .
وجه الدلالة : أن الآيات عامة تدل على وقوع الطلاق في أي وقت ممن له حق وقوعه ، فلم يفرق بين أن يكون الطلاق في حال الحيض أو الطهر ، ولم يخص حالاً دون حال توجب حمل الآيات على العموم .
ولحديث الباب ، قال ( : ( ... مره فليراجعها ... ) .
فهذا دليل على أن الطلاق يقع ، إذ لا تكون المراجعة إلا بعد الطلاق الذي يعتد به .
وروى البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال : ( حسبت علي تطليقة ) .
وفي رواية للدار قطني : ( أن عمر قال : يا رسول الله ، فيحسب بتلك التطليقة ؟ قال : نعم ) .
وعن نافع عن ابن عمر : ( أنه طلق امرأته وهي حائض ، فأتى عمر النبي ( وذكر ذلك له فجعلها واحدة ).رواه الدار قطني
قال الحافظ في الفتح : " وهو نص في موضع الخلاف ، فيجب المصير إليه " .
القول الثاني : لا يقع .
وهذا قول الظاهرية ، واختيار شيخ الإسلام .
لقوله تعالى : ( فطلقوهن لعدتهن ( .
وجه الدلالة : أن المطلق في حال الحيض لا يكون مطلقاً للعدة ، لأن الطلاق المشروع المأذون فيه أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه ، وما عدا هذا لا يكون طلاقاً للعدة في حق المدخول بها .
واستدلوا بما رواه أبو داود من حديث أبي الزبير عن ابن عمر - حديث الباب - : ( أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله ( ، فسأل عمر رسول الله ( ... قال عبد الله : فردها عليّ ولم يرها شيئاً ) .
والجواب عن هذا :
أن قوله : ( ولم يرها شيئاً ) بأنها لا تصح ، فإن أبا الزبير خالف في روايته رواية الجمهور ، وهي أكثر عدداً وأثبت حفظاً ، فروايتهم أولى من روايته .
قال ابن عبد البر : " قوله : ( ولم يرها شيئاً ) منكر ، لم يقله غير أبي الزبير ، وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله ، فكيف فيمن هو أثبت منه " .
قال الخطابي : " لم يرو أبو الزبير حديثاً أنكر من هذا " .
والراجح القول الأول .(6/61)
3- قوله ( : ( مره فليراجعها ) . قال النووي : " أجمعوا على أنه إذا طلقها يؤمر برجعتها " .
لكن هل الرجعة واجبة أم مستحبة ؟
اختلف العلماء على قولين :
فقيل : مستحبة .
وهذا مذهب جمهور العلماء ، كما نقله النووي والشوكاني .
قالوا : لأن ابتداء النكاح لا يجب ، فاستدامته كذلك ، فكان القياس قرينة على أن الأمر للندب .
وقيل : واجب .
وهو قول جماعة من العلماء كداود وغيره .
للأمر به : ( مره ... ) .
4- قوله : ( ثم ليمسكها ) هل يجوز أن يطلق في الطهر الذي يلي هذه الحيضة ؟
جاء في رواية : ( ثم ليمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم إن شاء ... ) .
في هذه الرواية أنه ينتظر إذا أراد أن يطلق إلى طهرتان .
وجاء في رواية : ( مره فليراجعها ، فإذا طهرت فأراد أن يطلقها فليطلقها ) .
ففي هذه الرواية أن للرجل أن يطلق امرأته في الطهر الأول بعد الحيضة التي طلقها فيها وراجعها ، ولا يلزمه الانتظار إلى الطهر الثاني .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة في الانتظار للطهر الثاني :
فذهب جماعة منهم : إلى وجوب الانتظار إلى الطهر الثاني .
منهم الإمام مالك ، كما نقله عنه الصنعاني واستدل بالرواية الأولى .
وذهب جماعة من العلماء : إلى أن الانتظار إلى الطهر الثاني مستحب وليس بواجب .
وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد .
وهذا القول أصح .
5- قوله : ( ثم تحيض ثم تطهر ) هل الطهر الذي علق عليه الجواب هو الاغتسال من الحيض أو انقطاع الدم ؟
جاء في رواية تبين ذلك : ( مر عبد الله فليراجعها ، فإذا اغتسلت من حيضتها ... ) .
يترتب على انقطاع الدم : صحة الصوم - وصحة الغسل - وتترتب الصلاة في الذمة .
ويترتب على الاغتسال : صحة الصلاة - الطواف - اللبث في المسجد - انتهاء العدة على الصحيح بأن الإقراء هي الحيضة .
6- قوله ( : ( وإن شاء طلق قبل أن يمس ) هذا يدل على النوع الثاني من الطلاق البدعي المحرم ، وهو الطلاق في طهر جامعها فيه .(6/62)
والرواية الأخرى : ( فليطلقها طاهراً ) أي غير حائض .
فيحرم الطلاق : في الحيض ، وفي الطهر الذي جامع فيه .
7- الحكمة من النهي عن الطلاق أثناء الحيض :
الحكمة خشية أن تطول العدة ، فإذا طلقها الرجل في وقت الحيض ، فهي في وقت الحيض مطلقة ، ولا تعتبر من عدتها ، والطهر كذلك لا يعتبر من عدتها ، فتطول عليها على القول بأن القرء هو الحيض .
وقال بعضهم : أن الشارع راعى المرأة في ذلك ، حيث أن المرأة إذا حاضت صار لها وضع نفسي مختلف عن وضع الأيام العادية ، وبالتالي يرغب عنها الرجل ، فيكون دافع الطلاق أقوى ، فإذا منع في وقت قوة الدافع وطهرت المرأة ، فإن الرجل في هذه الحالة ، إن كان الدافع للطلاق قوياً ، فإنه سوف يطلق ولا يكون للحيض تأثير على اتخاذ القرار ، وإلا فإنه سوف يعدل عنه .
8- سبب طلاق ابن عمر لامرأته : أن عبد الله بن عمر يحب زوجته ، وكان عمر يكرهها ، فأمره بالطلاق .
فقد جاء في رواية لأبي داود ، قال ابن عمر: (كانت تحتي امرأة وكنت أحبها، وكان عمر يكرهها ، فقال لي : طلقها ...).
هل يطاع الأب في أمره بتطليق زوجة ابنه ؟
قال بعض العلماء : يجب على الابن أن يطيع أبوه بطلاق زوجته .
وقال بعضهم : لا يجب .
وهذا المذهب .
سأل الإمام أحمد رجل فقال : إن أبي يأمرني أن أطلق امرأتي ، قال : لا تطلقها ، قال : أليس عمر أمر ابنه عبد الله أن يطلق امرأته ، قال : حتى يكون أبوك مثل عمر .
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية فيمن تأمره أمه بطلاق امرأته ، فقال : " لا يحل له أن يطلقها ، بل عليه أن يبرها ، وليس تطليق امرأته من برها " .
9- قوله : ( فليطلقها حاملاً ... ) قال النووي : " فيه دلالة لجواز طلاق الحامل التي تبين حملها ، وهو مذهب الشافعي ، قال ابن المنذر : وبه قال أكثر العلماء " .(6/63)
10- وقال الحافظ ابن حجر : " وقد تمسك بهذه الزيادة : ( ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً ) من استثنى من تحريم الطلاق في طهر جامع فيه ما إذا ظهر الحمل ، فإنه لا يحرم ، والحكمة فيه أنه إذا ظهر الحمل فقد أقدم على ذلك على بصيرة فلا يندم على الطلاق ، وأيضاً فإن زمن الحمل زمن رغبته في الوطء ، فإقدامه على الطلاق فيه يدل على رغبته عنها ، ومحل ذلك أن يكون الحمل من المطلق " .
11- قوله : ( مره فليراجعها ... ) استدل به من قال أنه لا يجب الإشهاد على الرجعة .
وهذه مسألة اختلف فيها العلماء . [ وسيأتي بحثها ] .
مباحث الرجعة :
أولاً : تعريفها : هي إعادة مطلقة غير بائن إلى ما كانت عليه بغير عقد .
ثانياً : سمي رجعياً ، لأنه يستطيع الزوج خلال فترة العدة التي تجب على المرأة أن تبقى في بيت زوجها ومراجعتها وإعادة الحياة الزوجية .
ثالثاً : دل على مشروعية الرجعة الكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : ( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِك ( . (البقرة: من الآية228)
وحديث الباب : ( ... مره فليراجعها ... ) .
وثبت أن النبي ( طلق حفصة ثم راجعها .
وأجمع العلماء على مشروعية الرجعة .
رابعاً : اختلف العلماء في حكم الإشهاد على الرجعة على قولين :
القول الأول : أنه واجب .
لقوله تعالى : ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ... ( . (الطلاق: من الآية2)
وهذا أمر ، والأمر يقتضي الوجوب .
القول الثاني : ليس بواجب ولكن سنة .
لقوله ( : ( ... مره فليراجعها ... ) .
ولم يأمره بالإشهاد .
ولأنه عقد لا يفتقر إلى القبول ، فلا يحتاج إلى الإشهاد .
وهذا القول هو الصحيح .
خامساً : الزوجة الرجعية في زمن العدة لها حكم الزوجات ، من نفقة وكسوة ومسكن وسائر الحقوق ، إلا أنها لا قسْم لها.
سادساً : يحرم على الزوج أن يخرج زوجته المطلقة الرجعية من البيت .(6/64)
لقوله تعالى : ( لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ( . (الطلاق: من الآية1)
وما كان الناس عليه الآن من كون المرأة إذا طلقت طلاقاً رجعياً تنصرف إلى بيت أهلها فوراً ، هذا خطأ ومحرم ، لأن الله قال : ( لا تُخْرِجُوهُنَّ ( ( وَلا يَخْرُجْنَ ( ولم يستثن من ذلك إلا إذا أتين بفاحشة مبينة .
سابعاً : كيفية المراجعة :
بالقول : كأن يقول : راجعت زوجتي ، ونحوها مثل : رددتها ، أو أعدتها .
وهل تحصل بالوطء ؟
قيل : تحصل بالوطء ولو لم ينو .
وهذا المذهب . قالوا :
بأن هذا فعل لا يباح إلا مع زوجة .
وقيل : لا تحصل الرلجعة بالوطء إلا بنية المراجعة .
وهذا قول مالك ، واختيار ابن تيمية . قالوا :
لأن مجرد الوطء قد يستبيحه الإنسان في امرأة أجنبية كالزنا .
وهذا القول هو الصحيح .
319 - عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ (( أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ طَلَّقَهَا الْبَتَّةَ , وَهُوَ غَائِبٌ )) .(6/65)
وَفِي رِوَايَةٍ : (( طَلَّقَهَا ثَلاثاً - فَأَرْسَلَ إلَيْهَا وَكِيلَهُ بِشَعِيرٍ , فَسَخِطَتْهُ . فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا لَكِ عَلَيْنَا مِنْ شَيْءٍ : فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ ( فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ , فَقَالَ : لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ )) وَفِي لَفْظٍ : (( وَلا سُكْنَى - فَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ , ثُمَّ قَالَ : تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي , اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ . فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى , تَضَعِينَ ثِيَابَكِ , فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي . قَالَتْ : فَلَمَّا حَلَلْتُ ذَكَرْتُ لَهُ : أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : أَمَّا أَبُو جَهْمٍ : فَلا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ . وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ : فَصُعْلُوكٌ لا مَالَ لَهُ , انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ , فَكَرِهَتْهُ ثُمَّ قَالَ : انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ , فَنَكَحَتْهُ . فَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً , وَاغْتَبَطَتْ بِهِ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
أن أبا عمرو بن حفص : زوجها ، قيل : اسمه عبد الحميد ، وهو قول الأكثر ، وقيل : أحمد ، وقال آخرون : اسمه كنيته .
طلقها البتة : وفي رواية : ( طلقها ثلاثاً ) ليس معناه تكلم بهن دفعة واحدة ، وإنما كما قال النووي : " إنه كان طلقها قبل هذا طلقتين " .
فسخطته : السخط عدم الرضا ، لأنها رأته شيئاً قليلاً .
أم شريك : قال النووي : " هذه قرشية عامرية ، إحدى فضليات الصحابة .
يغشاها أصحابي : يترددون عليها ، قال النووي : " كانوا يزورون أم شريك ويكثرون التردد عليها لصلاحها " .
فآذنيني : أي أعلميني .
فصعلوك : بضم الصاد ، التصعلك هو الفقر .(6/66)
فلا يضع عصاه عن عاتقه : قيل : كثير الأسفار . وقيل : ضراب للنساء ، وهذا أصح ، لرواية مسلم : ( وأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء ) .
الفوائد :
1- في هذا الحديث يخبر النبي ( أن المطلقة ثلاثاً ليس لها النفقة ولا السكنى أثناء العدة .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة :
أولاً : النفقة . اختلف العلماء :
القول الأول : ليس لها النفقة .
وهذا مذهب الشافعي وأحمد ومالك وفقهاء المدينة السبعة .
لظاهر حديث الباب ، فإن النبي ( قال : ( ليس لك نفقة ولا سكنى ) .
القول الثاني : لها النفقة .
وهذا مذهب أبي حنيفة ، وهو قول ضعيف .
ثانياً : السكنى . اختلف العلماء على قولين :
القول الأول : لا سكنى لها .
وهذا مذهب أحمد وداود ، وهو قول ابن عباس .
لحديث الباب ، فهو نص .
القول الثاني : لها السكنى .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
واستدلوا بقوله تعالى : ( أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ( . (الطلاق: من الآية6)
لكن هذا القول ضعيف ، لأن الآية جاءت في حكم الرجعية لا في حكم البائن ، ويوضح ذلك قوله تعالى : ( لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ( . (الطلاق: من الآية1)
وإحداث الأمر معناه تغيره نحو الزوجة ورغبته فيها في زمن العدة ، وهو مستحيل في البائن .
إذاً صار القول الراجح :
- أن المطلقة ثلاثاً ( البائن ) غير الحامل ليس لها نفقة ولا سكنى أثناء العدة .
لحديث الباب .
- أما إذا كانت المطلقة البائن حاملاً فإن لها النفقة من أجل الحمل دون السكنى .
قال تعالى : ( وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ( . (الطلاق: من الآية6)
- أما المطلقة الرجعية فلها السكنى والنفقة أثناء العدة ، لأنها زوجة حكمها حكم الزوجات .
2- وجوب العدة على المطلقة .
3- جواز الطلاق والزوج غائب عن زوجته ، فليس من شروط الطلاق أن تكون المرأة حاضرة في مجلس العقد .(6/67)
ولذلك قال النووي : " فيه جواز طلاق الغائب " .
4- جواز الوكالة في أداء الحقوق .
5- وجوب حرص المرأة وكذا وليها على الاستتار والابتعاد عن الرجال الأجانب .
6- اختلف العلماء في نظر المرأة إلى الرجال الأجانب :
القول الأول : التحريم بشهوة أو بغير شهوة .
ورجح هذا النووي .
لقوله تعالى : ( وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنّ ( . (النور: من الآية31)
ولحديث نبهان مولى أم سلمة عن أم سلمة قالت : ( كنت عند رسول الله ( وعنده ميمونة ، فأقبل ابن أم مكتوم وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب ، فقال النبي ( : احتجبا منه ، فقلنا : يا رسول الله ، أليس أعمى ولا يبصرنا ولا يعرفنا ؟ فقال النبي ( : أفعمياوان أنتما ؟ ألستما تبصرانه ) . رواه أبو داود والترمذي وحسنه النووي ، وضعفه آخرون .
قال النووي : " وأما نظر المرأة إلى وجه الرجل الأجنبي ، فإن كان بشهوة فحرام بالاتفاق ، وإن كان بغير شهوة ، ففي جوازه وجهان لأصحابنا أصحهما تحريمه " .
القول الثاني : الجواز إذا أمنت الفتنة .
لحديث عائشة قالت : ( رأيت رسول الله ( يوماً على باب حجرتي والحبشة يلعبون في المسجد ، ورسول الله ( يسترني بردائه أنظر إلى لعبهم ) . متفق عليه
ولحديث الباب ، وفيه كما جاء في رواية مسلم : ( أن النبي ( قال لفاطمة : اعتدي في بيت أم مكتوم ، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده ) .
وبأن الرجال لم يزالوا على مرّ الزمان مكشوفي الوجوه والنساء يخرجن متنقبات ، فلو استووا لأمر الرجال بالنقاب أو منعهن من الخروج متنقبات .
7- جواز التعريض بخطبة البائن ، لقوله : ( فإذا حللت فآذنيني ) .
8- جواز ذكر الإنسان بما فيه عند المشاورة وطلب النصيحة ، ولا يكون هذا من الغيبة المحرمة ، بل من النصيحة الواجبة .
قال النووي : " اعلم أن الغيبة وإن كانت محرمة ، فإنها تباح في أحوال :
الأول : التظلم ، فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي ، فيذكر أن فلاناً ظلمني .(6/68)
الثاني : الاستعانة على تغيير المنكر ، ورد العاصي إلى الصواب ، فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر : فلان يعمل كذا فازجره .
الثالث : الاستفتاء ، بأن يقول للمفتي : ظلمني أبي .
الرابع : تحذير المسلمين من الشر ونصحهم ، كجرح المجروحين من الرواة ، ومنها إذا استشارك إنسان في مصاهرته ، أو مشاركته ، أو إيداعه ، أو الإيداع عنده ، أو معاملته ، أو غير ذلك .
الخامس : أن يكون مجاهراً بفسقه أو بدعته ، فيجوز ذكره بما يجاهر به ، ويحرم ذكره بغيره من العيوب .
السادس : التعريف ، فإذا كان الإنسان معروفاً بلقب ، كالأعمش والأعرج والأصم والأحول ، جاز تعريفه بذلك بنية التعريف ، ويحرم إطلاقه على جهة النقص " . أ.ه
9- في قوله ( لفاطمة : ( ... تضعين ثيابك عنده ... ) فيه أن حديث عائشة في قوله ( : ( أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيتها هتكت ما بينها وبين الله ) رواه أحمد . ليس على ظاهره ، وإنما محمول :
على الزنا ـ أو لغير حاجة .
10- ينبغي على الإنسان أن ينصح إذا شاوره الغير .
قال ( : ( المستشار مؤتمن ) .
11- لا حرج للولي أن يمنع من تزويج الفقير خوفاً على موليته من أن الزوج لا يستطيع القيام بحقوق المرأة .
12- مشاورة العلماء .
13- سؤال أهل العلم .
14- طاعة الرسول ( كلها خير .
فقد نكحت أسامة ، وهي كارهة طاعة للرسول ( ، وكان في ذلك خير لها .
15- فضل فاطمة في الاستجابة لرسول ( رغم كراهتها لهذا الشيء .
16- أن الإنسان قد يكره الشيء ويكون له فيه خير عظيم .
وقد قال تعالى : ( فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ( . (النساء: من الآية19)
17- لا حرج على الولي أن يمتنع من تزويج من يكون شديداً على النساء .
فوائد :
قال النووي : " معاوية الخاطب في هذا الحديث ، هو معاوية بن أبي سفيان ، وهو الصواب ، وقيل أنه معاوية آخر ، وهذا غلط صريح " .(6/69)
وقال رحمه الله : " وأما إشارته ( بنكاح أسامة فلما علمه من دينه وفضله وحسن طرائقه وكرم شمائله ، فنصحها بذلك ، فكرهته لكونه مولى ، ولكونه كان أسود جداً ، فكرر عليها النبي ( الحث على زواجه لما علم من مصلحتها في ذلك ، وكان كذلك ، ولهذا قالت : فجعل الله لي فيه خيراً " .
باب العدة
مقدمة :
العدة شرعاً : هي تربص محدود شرعاً بسبب فرقة نكاح .
وحكم العدة :
واجبة بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : ( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ( . (البقرة: من الآية228)
قال العلماء : هذا خبر بمعنى الأمر .
وقال تعالى : ( وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ( . (الطلاق: 4)
وقال ( لفاطمة بنت قيس : ( اعتدي في بيت أم مكتوم ) . متفق عليه
وأجمعت الأمة على وجوب العدة .(6/70)
320 - عَنْ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةِ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ - وَهُوَ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ , وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْراً - فَتُوُفِّيَ عَنْهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ , وَهِيَ حَامِلٌ . فَلَمْ تَنْشَبْ أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ , فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا : تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ , فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ - رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ - فَقَالَ لَهَا : مَا لِي أَرَاك مُتَجَمِّلَةً ؟ لَعَلَّكِ تُرَجِّينَ لِلنِّكَاحِ , وَاَللَّهِ مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ حَتَّى يَمُرَّ عَلَيْك أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ . قَالَتْ سُبَيْعَةُ : فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ : جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي حِينَ أَمْسَيْتُ , فَأَتَيْتُ رَسُولَ ( فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ ؟ فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي , وَأَمَرَنِي بِالتَّزْوِيجِ إنْ بَدَا لِي )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
سُبيعة : قال النووي : " بضم السين وفتح الباء " .
سعد بن خولة : زوجها ، مات في حجة الوداع ، وجاء في رواية أنه قتل ، قال ابن حجر : " ومعظم الروايات أنه مات وهو المعتمد " .
فلم تنشب : أي تمكث كثير .
أن وضعت حملها بعد وفاته : جاء في رواية : ( بعد وفاته بليال ) وجاء عند أحمد في المسند : ( فلم أمكث إلا شهرين حتى وضعت ) وفي رواية للبخاري: ( فوضعت بعد موته بأربعين ليلة ) وفي رواية عند النسائي :( بعشرين ليلة ) . قال الحافظ : " الجمع بين هذه الروايات متعذر لاتحاد القصة " .
تعلت من نفاسها : قال النووي : " أي طهرت منه " .
أبو السنابل : اختلف في اسمه : فقيل : عمرو . وقيل : عامر . وقيل : عبد الله .
جاء في رواية : ( فخطبها أبو السنابل ) .
الفوائد :(6/71)
1- في هذا الحديث أن المرأة الحامل المتوفى عنها زوجها عدتها بوضع الحمل .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
قال النووي : " أخذ بهذا جماهير العلماء من السلف والخلف ، فقالوا عدة المتوفى عنها زوجها بوضع الحمل حتى لو وضعت بعد موت زوجها بلحظة قبل غسله انقضت عدتها وحلت في الحال للأزواج ، وهذا قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد " .
وقال الحافظ ابن حجر : " قال جمهور العلماء من السلف وأئمة الفتوى في الأمصار ، أن الحامل إذا مات عنها زوجها تحل بوضع الحمل وتنقضي عدة الوفاة " .
لحديث الباب .
قال النووي : " وهو مخصوص ، لعموم قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً( ، ومبين أن قوله تعالى : ( وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ( عام في المطلقة المتوفى عنها، وأنه على عمومه " .
وذهب بعض العلماء : إلى أنها تعتد بأقصى الأجلين .
قال الحافظ : " ومعناه أنها إن وضعت قبل مضي أربعة أشهر وعشر ، تربصت إلى انقضائها ولا تحل بمجرد الوضع ، وإن انقضت المدة قبل الوضع تربصت إلى الوضع " .
وهذا قول علي وابن عباس .
وقد قيل أن ابن عباس رجع عن هذا القول ، ويقويه أن المنقول عن أتباعه وفاق الجماعة في ذلك .
2- متى يجوز لها أن تنكح ؟
ذهب جمهور العلماء إلى أنه يجوز لها أن تنكح ولو لم تطهر من دم النفاس .
لدلالة ألفاظ الحديث عليه .
ففي رواية : ( فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي ) .
وهو ظاهر القرآن في قوله تعالى : ( يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ( فعلق الحل بحين الوضع وقصره عليه ، ولم يقل إذا طهرت ، ولا إذا انقطع دمك .
لكن لا يطؤها زوجها حتى تطهر من نفاسها وتغتسل .
وذهب بعض العلماء إلى أنها لا تنكح حتى تطهر ، لقوله في الحديث : ( فلما تعلت من نفاسها ) ومعناه : طهرت .
والراجح قول الجمهور .(6/72)
وأما الجواب عن فعلها : ( فلما تعلت من نفاسها ) :
قال النووي : " هذا إخبار عن وقت سؤالها ، ولا حجة فيه ، وإنما الحجة في قول النبي ( : أنها حلت حين وضعت ، ولم يعلل بالطهر من النفاس " .
فائدة : تنقضي عدة الحامل إذا وضعت ما تبين فيه خلق إنسان .
3- العِدَد :
أولاً : الحامل .
عدتها بالوضع ، سواء المطلقة أو المتوفى عنها زوجها .
لعموم قوله تعالى : ( وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ( .
ثانياً : المتوفى عنها زوجها بلا حمل .
أربعة أشهر وعشراً .
قال ابن قدامة : " أجمع أهل العلم على أن عدة المرأة المسلمة غير ذات الحمل من وفاة زوجها أربعة أشهر وعشراً ، مدخولاً بها أو غير مدخول بها " .
لقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً( .
وقال (: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج ، أربعة أشهر وعشراً).متفق عليه
والدليل على أن غير المدخول بها يشملها الحكم :
ما رواه أهل السنن: ( أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يدخل بها ، فقال : عليها العدة ولها الميراث ، فشهد معقل ابن سنان أن النبي ( قضى في بروع بنت واشق بمثل ما قضى ، ففرح ابن مسعود بذلك فرحاً شديداً ) .
ثالثاً : المطلقة غير الحامل التي تحيض .
فعدتها ثلاثة قروء .
قال في المغني : " إن عدة المطلقة إذا كانت حرة ، وهي من ذوات القروء ثلاثة قروء بلا خلاف بين أهل العلم " .
لقوله تعالى : ( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ( . (البقرة: من الآية228)
اختلف العلماء في المراد بالقرء ( ثلاثة قروء ) على قولين :
قيل : المراد به الطهر .
وبه قال زيد بن ثابت ، وابن عمر ، وعائشة ، والقاسم ، والزهري ، ومالك ، والشافعي .
وقيل : المراد به الحيض .(6/73)
وعلى هذا القول فلا تنقضي عدتها حتى تطهر من الحيضة الثالثة .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
واستدلوا لذلك بما جاء في الحديث عن فاطمة بنت أبي حبيش ، أن رسول الله ( قال لها : ( دعي الصلاة أيام أقرائك )
وهذا القول هو الصحيح .
رابعاً : الصغيرة التي لم تبلغ سن المحيض ، والآيسة .
عدة كل واحدة منهن ثلاثة أشهر .
لقوله تعالى : ( وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ( . (الطلاق: 4)
4- اختلف العلماء في المرأة يموت عنها زوجها وهو غائب ، أو طلقها وهو غائب ، من متى تعتد ؟
فقيل : تعتد من يوم مات زوجها .
وهذا مذهب الجمهور .
لعموم الأدلة .
فلو فرض أنه طلقها ، ولم تعلم ، وحاضت حيضتين ثم علمت ، فإنه يبقى عليها حيضة واحدة ، وكذلك إذا مات عنها زوجها ، ولم تعلم إلا بعد مضي شهرين ، فإنه يبقى عليها شهران وعشرة أيام .
وقيل : تعتد من يوم يأتيها الخبر .
وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز .
لأن العدة اجتناب أشياء وما اجتنبتها .
والراجح الأول .
5- لو مات زوج الرجعية .
قال في المغني : " وإذا مات زوج الرجعية استأنفت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً بلا خلاف ، لأن الرجعية زوجة يلحقها طلاقه وينالها ميراثه ، فاعتدت للوفاة كغير المطلقة " .
6- من فوائد حديث سبيعة : أن الصحابة كانوا يفتون في حياة النبي ( .
7- وفيه ما كان في سبيعة من الشهامة والفطنة ، حيث ترددت فيما أفتاها به حتى حملها على ذلك على استيضاح الحكم من الشارع .
8- وفيه الرجوع في الوقائع إلى الأعلم .
9- مباشرة المرأة السؤال عما ينزل بها ولو كان مما يستحي النساء من مثله .
10- استدل به من قال إن الحامل تنقضي عدتها بالوضع على أي صفة كان من مضغة أو من علقة ، سواء استبان خلق الآدمي أم لا ، لأنه ( رتب الحل على الوضع من غير تفصيل .
وقيل : لا بد من وضع الحمل التام المتخلق .(6/74)
11- لا عدة على المطلقة قبل المسيس .
لقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ( . (الأحزاب:49)
قال ابن كثير : " هذا أمر كجمع عليه بين العلماء أن المراد إذا طلقت قبل الدخول بها لا عدة عليها ، فتذهب وتتزوج من فورها متى شاءت " .
321 - عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : (( تُوُفِّيَ حَمِيمٌ لأُمِّ حَبِيبَةَ , فَدَعَتْ بِصُفْرَةٍ , فَمَسَحَتْ بِذِرَاعَيْهَا , فَقَالَتْ : إنَّمَا أَصْنَعُ هَذَا ; لأَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ( يَقُولُ : لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ , إلاَّ عَلَى زَوْجٍ : أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً )) .
322 - عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( قَالَ : (( لا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى الْمَيِّتِ فَوْقَ ثَلاثٍ , إلا عَلَى زَوْجٍ : أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً , وَلا تَلْبَسُ ثَوْباً مَصْبُوغاً إلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ . وَلا تَكْتَحِلُ . وَلا تَمَسُّ طِيباً , إلاَّ إذَا طَهُرَتْ : نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ )) .(6/75)
323 - عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (( جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ( فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا , وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَنُكْحُلُهَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : لا - مَرَّتَيْنِ , أَوْ ثَلاثَاً - ثُمَّ قَالَ : إنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ . وَقَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ ، فَقَالَتْ زَيْنَبُ : كَانَتْ الْمَرْأَةُ إذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا : دَخَلَتْ حِفْشاً , وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا , وَلَمْ تَمَسَّ طِيباً وَلا شَيْئاً حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ - حِمَارٍ أَوْ طَيْرٍ أَوْ شَاةٍ - فَتَفْتَضَّ بِهِ . فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إلاَّ مَاتَ . ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعْرَةً , فَتَرْمِي بِهَا ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
حميم : أي قريب ، وجاء في رواية : ( أنه أبوها ، أبو سفيان بن حرب ) .
أم حبيبة : رملة بنت أبي سفيان .
بصفرة : نوع من أنواع الطيب .
فمسحت بذراعيها : المسح الإمرار على الشيء .
إنما أصنع هذا : أراد أن تبين لماذا تفعل هذا الشيء .
لا تحد : الاحداد لغة المنع ، ومنه سمي البواب حداداً لمنعه الداخل . وشرعاً : تربص تجتنب فيه المرأة ما يدعو إلى جماعها أو يرغب في النظر إليها من الزينة وما في معناها مدة مخصوصة
مصبوغاً : كالأصفر ، والأحمر ، ونحوها من الألوان الزاهية .
عصْب : بفتح العين ، ثياب من اليمن فيها بياض وسواد .
نبذه : أي قطعه .
قُسط : بضم القاف . وأَظفار : بفتح الهمزة ، والقسط والأظفار نوعان من البخور .(6/76)
ترمي بالبعرة : قيل : إشارة إلى أن الفعل الذي فعلته من التربص والصبر على البلاء الذي كانت فيه لما انقضى كان عندها بمنزلة البعرة التي رمتها استحقاراً له وتعظيماً لحق زوجها ، وقيل : بل ترميها على سبيل التفاؤل بعدم العود إلى مثل ذلك ، وقيل : هو إشارة إلى أنها رمت العدة رمي البعرة .
الفوائد :
1- أن الإحداد حكمه واجب على المرأة المتوفى عنها زوجها ، سواء كانت مدخولاً بها أم لا .
لقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ( . (البقرة: من الآية234)
قال ابن كثير : " هذا أمر من الله للنساء اللواتي يتوفى عنهن أزواجهن أن يعتدن أربعة أشهر وعشراً " .
ولحديث الباب : ( لا يحل لامرأة تؤمن ... ) فالحديث ظاهر في المنع من الإحداد على أحد فوق ثلاث إلا الزوج ، فإنه يحد عليه أربعة أشهر وعشراً ، ويدل لذلك رواية مسلم : ( ... إلا على زوجها فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشراً ) فقوله ( : ( فإنها تحد ) خبر بمعنى الأمر .
2- أن الإحداد خاص بالنساء .
لقوله : ( لا يحل لامرأة ... ) .
ولإجماع المسلمين على أنه لا إحداد على الرجل .
3- جواز إحداد المرأة على غير زوجها ، كالأخ - أو الأب ، أو أم ، أو أي قريب - ثلاثة أيام فأقل ، لكنه غير واجب .
فحديث الباب يدل على الجواز والإباحة .
قال الحافظ ابن حجر : " وليس ذلك واجباً لاتفاقهم على أن الزوج لو طالبها بالجماع لم يحل لها منعه في تلك الحال " .
4- قوله : ( لامرأة ... ) تمسك بمفهومه الحنفية ، فقالوا : لا يجب الإحداد على الصغيرة .(6/77)
وذهب جمهور العلماء على وجوب الإحداد عليها ، قالوا : أن التقييد بالمرأة خرج مخرج الغالب ، واستدلوا أيضاً بحديث أم سلمة المذكور في الباب ، وفيه : ( جاءت امرأة إلى رسول الله ( فقالت : يا رسول ، إن ابنتي توفي عنها زوجها ، وقد اشتكت عينها أفنكحلها ؟ قال : لا ) .
وجه الدلالة : قال القرطبي : " ولم يسأل عن سنها حتى يبين الحكم ، وتأخير البيان في مثل هذا لا يجوز " .
5- قوله : ( تؤمن بالله واليوم الآخر ... ) استدل به الحنفية بأن لا إحداد على الذمية ، للتقيد بالإيمان .
وذهب جمهور العلماء إلى وجوب الإحداد على الكتابية .
لعموم الأدلة الموجبة للإحداد ، فإن الأدلة لم تفرق بين مسلمة وكتابية .
وهذا القول هو الصحيح .
وأما المراد بقوله ( : ( تؤمن بالله واليوم الآخر ... ) الإغراء ، أي إغراء المرأة على الفعل .
6- يجب الإحداد على المجنونة ، وهذا مذهب جماهير العلماء .
لعموم الأدلة الدالة على وجوب الإحداد .
7- الذي تجتنبه المحادة أثناء حدادها :
أولاً : الطيب .
قال ابن قدامة : " ولا خلاف في تحريمه عند من أوجب الإحداد " .
لحديث أم عطية : ( ... ولا تمس طيباً ) .
قال ابن قدامة : " ولأن الطيب يحرك الشهوة ، ويدعو إلى المباشرة " .
- الأدهان غير المطيبة لا بأس أن تستعملها المحادة لأنها ليست طيباً ، فلا يشملها النص .
ثانياً : تجنب الزينة في الثياب .
يحرم على المحادة أن تلبس كل ما فيه زينة من الثياب .
لحديث أم عطية : ( ... ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصْب ) . متفق عليه
وفي حديث أم سلمة عند أبي داود : ( ... ولا تلبس المعصفر من الثياب ، ولا الممشَّقة ... ) .
( الممشقة : المصبوغة بالمشق ، بكسر الميم ، وهو الطيب الأحمر ) .
- ذهب بعض العلماء إلى أن المحادة لا تلبس النقاب ، لأن المعتدة من وفاة زوجها مشبهة بالمحْرِمَة ، والمحرمة تمنع من ذلك ، لكن هذا القول فيه بعد .(6/78)
ثالثاً : الخضاب .[ بالحناء ونحوه مما يكون فيه تجمل ]
ففي حديث أم سلمة : ( ولا تختضب ... ) . رواه أبو داود
قال ابن القيم : " فيحرم عليها الخضاب والنقش والحمرة ، فإن النبي ( نص على الخضاب منبهاً على هذه الأنواع التي هي أكثر زينة منه وأعظم فتنة ، وأشد مضادة لمقصود الحداد " .
رابعاً : الكحل .
لحديث أم عطية : ( ... ولا تكتحل ... ) . متفق عليه
وحديث أم سلمة قالت : ( جاءت امرأة إلى رسول الله ( فقالت : يا رسول الله ، إن ابنتي توفي عنها زوجها ، وقد اشتكت عينها ، أفنكحلها ؟ فقال رسول الله ( : لا ) . متفق عليه ، فلم يرخص لها النبي ( مع حاجتها إليه .
الكحل للضرورة :
قيل : لا يجوز الاكتحال مطلقاً لضرورة أم لغير ضرورة ، وهذا قول ابن حزم .
لحديث أم سلمة الذي فيه منعه ( المحادة من الاكتحال مع حاجتها إليه .
وذهب جمهور العلماء : إلى جوازه إذا اضطرت إليه تداوياً لا زينة ، فلها الاكتحال ليلاً لا نهاراً .
واستدلوا بحديث أم سلمة قالت : ( ... دخل علي رسول الله ( حين توفي أبو سلمة ، وقد جعلت علي صبْراً ، فقال : ما هذا يا أم سلمة ، فقلت : إنما هو صبر يا رسول الله ليس فيه طيب ، فقال : إنه يشب الوجه ، فلا تجعليه إلا بالليل وتنزعيه بالنهار ) . وهذا الحديث صححه بعضهم وضعفه بعضهم . وهذا القول هو الصحيح .
خامساً : لبس الحلي .
قال ابن المنذر : " أجمعوا على منع المرأة المحادة من لبس الحلي " .
لحديث أم سلمة عند أبي داود : ( ... ولا تلبس الحلي ... ) .
- وهذا المنع شامل لما ظهر من الحلي وما استتر تحت الثياب .
- الحلي يشمل كل ما تتجمل به المرأة وتتحلى به من قرط أو سوار أو خاتم ، سواء ذلك من فضة أو غيرها .
- ما كان بمعنى الذهب والفضة فله حكم الحلي ، لأن قوله ( : ( ولا الحلي ) والحلي اسم يصدق على الذهب والفضة وغيره كاللؤلؤ والزمرد والألماس .(6/79)
- إذا كانت المحادة متلبسة بشيء من الحلي قبل وفاة زوجها ، فإن الواجب عليها إزالة ما يمكن إزالته منها .
سادساً : لزوم المحادة بيتها .
فيجب عليها لزوم بيت زوجها الذي توفي عنها وهي فيه ، وهذا مذهب أكثر العلماء .
واستدلوا بحديث الفريعة بنت مالك : ( جاءت إلى رسول الله ( تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خُدرة ، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا [ أي هربوا ] حتى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم فقتلوه ، فسألت رسول الله ( أن أرجع إلى أهلي ... الحديث وفيه : قال لها : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ، قالت : فاعتدت فيه أربعة أشهر وعشراً ) . رواه أبو داود
وذهب بعض العلماء : إلى أنه لا يلزمها لزوم بيت زوجها ، بل تعتد حيث شاءت .
وهذا قول علي وابن عباس وجابر ، وهو قول ابن حزم .
خروج المحادة من منزلها له أحوال :
أولاً : أن يكون لضرورة ، فيجوز ليلاً أو نهاراً .
مثل : إذا خيف هدم ، أو عدو ، أو حريق ، أو كانت الدار غير حصينة يخشى فيها من اقتحام اللصوص ، أو كانت بين فسقة تخاف على نفسها ، فإن لها الانتقال .
ثانياً : الخروج المؤقت ، فهذا جائز إذا كان لحاجة نهاراً .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
واستدلوا بحديث الفريعة السابق ، ووجه الدلالة فيه : أن النبي ( لم ينكر عليها خروجها من منزلها لما جاءته سائلة عن جواز انتقالها .
ثالثاً : إذا كان لغير حاجة ولا ضرورة ، فلا يجوز .
- لو بلغها الخبر وهي في بيت غير بيتها ، فذهب أكثر العلماء إلى أنه يجب عليها الاعتداد في المنزل الذي توفي زوجها وهي فيه ، فإذا بلغها الخبر وهي في غيره وجب عليها الرجوع .
- إذا انتقلت المحادة لسبب من الأسباب ، هل يلزمها المسكن الأقرب ؟
الصحيح أن المحادة إذا انتقلت فلها أن تسكن حيث شاءت ، ولا يلزمها في أقرب مسكن كما قال به بعض الفقهاء .
- إن تركت الإحداد أثمت وأتمت عدتها بمضي زمانها .(6/80)
8- أحدث بعض الناس أموراً في الإحداد لا أصل لها في الشرع :
- التزام بعض النساء لباساً معيناً ( كالأسود ) للإحداد .
- امتناع المحادة من مشط شعرها .
- امتناع المحادة من الاغتسال للتنظف .
- امتناع المحادة عن العمل في بيتها من خياطة وغيرها .
- امتناع المحادة من البروز للقمر .
- امتناع المحادة من الظهور على سطح البيت .
9- من فوائد أحاديث الإحداد : سؤال أهل العلم .
10- جواز النيابة في الفتوى .
11- القضاء على أحكام الجاهلية التي مقتضاها الظلم والجور .
كتابُ اللِّعانِ(6/81)
324- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (( أَنَّ فُلانَ بْنَ فُلانٍ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَرَأَيْتَ أَنْ لَوْ وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأَتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ , كَيْفَ يَصْنَعُ ؟ إنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ , وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ . قَالَ : فَسَكَتَ النَّبِيُّ ( فَلَمْ يُجِبْهُ . فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَاهُ فَقَالَ : إنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدْ اُبْتُلِيتُ بِهِ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلاءِ الآيَاتِ فِي سُورَةِ النُّورِ (( وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ )) فَتَلاهُنَّ عَلَيْهِ وَوَعَظَهُ وَذَكَّرَهُ . وَأَخْبَرَهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ . فَقَالَ : لا , وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ , مَا كَذَبْتُ عَلَيْهَا . ثُمَّ دَعَاهَا , فَوَعَظَهَا , وَأَخْبَرَهَا : أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ . فَقَالَتْ : لا , وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ , إنَّهُ لَكَاذِبٌ . فَبَدَأَ بِالرَّجُلِ فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ : إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ . وَالْخَامِسَةَ : أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ . ثُمَّ ثَنَّى بِالْمَرْأَةِ . فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ : إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ , وَالْخَامِسَةَ : أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ . ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا . ثُمَّ قَالَ : إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ ؟ )) ثَلاثاً .(6/82)
وَفِي لَفْظٍ (( لا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , مَالِي ؟ قَالَ : لا مَالَ لَكَ . إنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ فَهُوَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا )) .
325 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (( أَنَّ رَجُلاً رَمَى امْرَأَتَهُ , وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ ( فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ( فَتَلاعَنَا , كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى , ثُمَّ قَضَى بِالْوَلَدِ لِلْمَرْأَةِ , وَفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلاعِنَيْنِ )) .
------------------------------------
الفوائد :
1- تعريفه : اللعان مشتق من اللعن ، وهو الطرد والإبعاد . سمي بذلك :
قيل : لأن اللعن الطرد والإبعاد وهو مشترك بينهما .
وقيل : لأن كل واحد منهما يلعن نفسه في الخامسة إن كان كاذباً .
وقيل : لأن الزوجين لا ينفكان من أن يكون أحدهما كاذباً ، فتحصل اللعنة عليه وهي الطرد والإبعاد .
وشرعاً : هو شهادات مؤكدة من الجانبين مقرونة بلعن الزوج وغضب الزوجة .
وسببه : أن يقذف الرجل زوجته بالزنا ، سواء قذفها بمعين ، كقوله : زنى بك فلان ، أو بغير معين ، كقوله : يا زانية .
فإذا قذف زوجته بالزنا ، فإن أقرت الزوجة أقيم عليها الحد ، أو أن يأتي الزوج ببينة فتحد ، أو تنكر إما أن تلاعن أو يقام عليها الحد ، فإن لاعن ولاعنت ثبت اللعان ، وله أحكام ستأتي .
2- وهو مشروع بالكتاب والسنة والإجماع .
- قال تعالى : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ ( .
- ولحديث الباب .(6/83)
- ولحديث ابن عباس : ( أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي ( بشريك بن سحماء ، فقال النبي ( : البينة أو حد في ظهرك ، فقال : يا رسول الله ، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة ؟ فجعل النبي ( يقول : البينة وإلا حد في ظهرك ، فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ، فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد ، فنزل جبريل وأنزل عليه : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ ... ( فانصرف النبي ( فأرسل إليها ، فجاء هلال فشهد ... ) .رواه البخاري
- ولحديث سهل بن سعد قال : ( إن عُوِيْمراً سأل رسول الله ( ، فقال : يا رسول الله ، رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع ؟ فقال رسول الله ( : كيف أنزل القرآن فيك وفي صاحبتك ... ) . متفق عليه
قال الحافظ : " وأجمعوا على مشروعية اللعان " .
3- يشترط للعان أن يكون بين زوجين ، لقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ... ( .
قال في المغني : " لا لعان بين غير زوجين ، فإذا قذف أجنبية محصنة ، حدّ ولم يلاعن " .
4- من شروط اللعان أن يقذف زوجته بالزنا ، للحديث السابق : ( أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي ( بشريك بن سحمان ... ) .
فلو قال أتيت بشبهة ، أو قبلك فلان ، فإنه لا يثبت اللعان ، لأن هذا لا يثبت به حد القذف .
5- يشترط لصحة اللعان ، أن يبدأ الزوج باللعان .
- لأن الله بدأ به فقال : ( ... فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَات ... ( .
- ولحديث الباب : فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات .
- ولأن لعان الرجل بيّنة لإثبات زناها ، ولعان المرأة للإنكار ، فقدمت بيّنة الإثبات .
- ولأن لعان المرأة لدرء العذاب عنها ، ولا يتوجه عليها ذلك إلا بلعان الرجل .
فلو بدأت به المرأة لم يصح ، وهذا مذهب الشافعي ، وذهب أبو حنيفة إلى أنه لو بدأت به المرأة صح ، لكن القول الأول أصح .
6- صفة اللعان :
كما ورد في حديث الباب :(6/84)
أن الإمام يبدأ بالزوج فيقيمه ويقول له : قل أربع مرات : أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي هذه ، فإذا شهد أربع شهادات ، وقفه الحاكم وقال له : اتق الله فإنها الموجبة ، عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، ويضع يده على فيه حتى لا يبادر بالخامسة ، ثم يرسل يده ، ويقول له : قل : وإن لعنة الله عليّ إن كنت من الكاذبين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا .
ثم يأمر الزوجة ويقول لها : قولي : أشهد بالله أن زوجي هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا ، فإذا كررت أربع مرات أوقفها ووعظها كما في ذكرنا في حق الزوج ، ويأمر امرأة تضع يدها على فيها ، فإن رآها تمضي على ذلك ، قال لها : قولي : وإن غضب الله عليّ إن كان زوجي هذا من الصادقين فيما رماني به من الزنا .
7- إذا تم اللعان فإنه يترتب عليه :
أولاً : الفرقة بين المتلاعنين أبداً .
ففي حديث ابن عمر - ثاني أحاديث الباب - : ( ... فأمرهما رسول الله ( فتلاعنا ، وفرق بين المتلاعنين ) .
وعن علي وابن مسعود قالا : ( مضت السنة في المتلاعنين أن لا يجتمعا أبداً ) . رواه البيهقي
وهذا مذهب جماهير العلماء ، أن الفرقة أبدية .
وذهب سعيد بن المسيب ، وتبعه أبو حنيفة ، إلى أنه إذا تاب الملاعن ، واعترف بعد الملاعنة ، فإنه يجلد ويلحق به الولد وتُطلّق امرأته تطليقة بائنة ويخطبها مع الخطاب ، ويكون ذلك متى أكذب نفسه ، لكن هذا القول ضعيف .
ثانياً : سقوط الحد عن الزوج .
8- اختلف العلماء هل يقع التفريق بمجرد قذف الرجل لامرأته ، أم بعد حلفه وشهادته ، أو بعد ملاعنتهما معاً ؟
فأكثر العلماء على أن التفريق يقع بعد ملاعنتهما معاً ، للأحاديث السابقة .
وقال الشافعي تحصل الفرقة بلعان الزوج وحده وإن لم تلتعن المرأة .
والأول أصح .
9- هل اللعان في حد ذاته تفريق ، أم يلزمه فيه حكم الحاكم ؟ قولان للعماء :
فذهب جمهور العلماء إلى أن اللعان في حد ذاته موجب للفرقة .(6/85)
قال النووي : " قوله ( : ( ذاكم التفريق بين كل متلاعنين ) فمعناه عند مالك والشافعي والجمهور ، بيان أن الفرقة تحصل بنفس اللعان بين كل متلاعنين " .
وقيل : يلزم قضاء القاضي ويشهد لهم .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
واستدلوا بحديث ابن عمر : ( أن رسول الله ( لاعن بين رجل وامرأة وفرق بينهما ) .
والراجح الأول .
10- في قول الرجل : ( يا رسول الله ، مالي ، قال : لا مال لك ... ) .
دليل على أن الرجل لا يأخذ من المهر شيئاً ، وبين النبي ( السبب بقوله : ( إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها ، وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها ) .
قال الحافظ ابن حجر : " قوله : ( مالي ) كأنه لما سمع : لا سبيل لك عليها ، قال : أيذهب مالي ؟ والمراد به الصداق " .
وقال الحافظ أيضاً في باب صداق الملاعنة : " وقد انعقد الإجماع على أن المدخول بها تستحقه جميعه " .
11- خص الرجل باللعن ، وخصت المرأة بالغضب .
قال الحافظ ابن حجر : " وإنما خصت المرأة بلفظ الغضب ، لعظم الذنب إليها ، لأن الرجل إذا كان كاذباً لم يصل ذنبه إلى أكثر من القذف ، وإن كانت هي كاذبة فذنبها أعظم لما فيه من تلويث الفراش والتعرض لإلحاق من ليس من الزوج به ، فتنتشر المحرمية ، وتثبت الولاية والميراث لمن لا يستحقها .
12- أن الولد بعد الملاعنة يلحق بأمه .
وهذا مذهب الجماهير .
لحديث ابن عمر : ( أن النبي ( لاعن بين رجل وامرأته ، فانتفى من ولدها ففرق بينهما وألحق الولد بأمه ) .
13- ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يشترط في اللعان أن يقول الرجل : رأيتها تزني ، بل يكتفى أن يقول : إنها زانية أو زنت .
14- يسن للإمام تذكير المتلاعنين بالله ، وتخويفهما من الكذب على الله .
فقد قال النبي ( للمتلاعنين : ( إن الله يعلم أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب ) . متفق عليه
15- يسن وضع اليد على فم الملاعن بعد الشهادة الرابعة ، وقبل الخامسة ، ويقول له : إنها الموجبة .(6/86)
فعن ابن عباس : ( أن النبي ( أمر رجلاً حين أمر المتلاعنين أن يتلاعنا أن يضع يده عند الخامسة على فيه ، وقال : إنها الموجبة ) . رواه أبو داود
16- فائدة : قال ابن قدامة : " الرجل إذا قذف امرأته ، ثم أكذب نفسه ، فلها عليه الحد ، سواء أكذب نفسه قبل اللعان أو بعده ، وهذا قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي ، ولا نعلم لهم مخالفاً " .
* واختلف الفقهاء فيما إذا أكذب الرجل نفسه ، هل يجتمعان ؟
فقال الجمهور : لا يجتمعان أبداً .
للأحاديث التي سبقت .
وقال أبو حنيفة : إذا كذب نفسه جلد الحد ، وجاز له أن يعقد عليها من جديد .
واستدل أبو حنيفة أنه إذا أكذب نفسه ، فقد بطل حكم اللعان ، فكما يلحق به الولد ، كذلك ترد الزوجة عليه ، وذلك أن السبب الموجب للتحريم إنما هو الجهل بتعيين صدق أحدهما مع القطع بأن أحدهما كاذب ، وإذا انكشف ارتفع التحريم .
وقول الجمهور أصح .
17- من فوائد الحديث : أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة .
18- أن الرسول ( لا يعلم الغيب .
19- لا يجوز أن تنقص الشهادة عن العدد الذي ذكره الله ، وهي أربع شهادات .
والحكمة في كونها أربع شهادات ، لأنها في مقابل أربعة شهود .
20- كراهة المسائل التي لم تقع والبحث عنها .
فوائد :
الفائدة الأولى :
المراد بالعذاب في قوله تعالى : ( وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ ( لمراد حد الزنا .
الفائدة الثانية :
يجب اللعان في حالتين :
- إذا ثبت زناها ووجد الولد ، فيلزمه اللعان لإقامة الحد ونفي الولد ، لأنه ليس منه ويحرم عليه تركه .
- ويجب إذا تأكد أن الولد ليس منه ، ولم يعلم بزناها ، فيلاعن على نفي الولد ، فلعلها وطئت بشبهة أو أكرهت .
- ويجوز إذا ثبت الزنا وليس ثمة ولد .
فيجوز أن يلاعنها لإقامة الحد عليها لكونها أغاضته وأفسدت عليه فراشه ، وله السكوت ، لكن يطلقها إن لم تتب .
- ويحرم اللعان بالشك ، أو بخبر غير الثقة كالعدو .
الفائدة الثالثة :(6/87)
إن نكل الزوج وامتنع عن الأيمان : عليه حد القذف ، لقوله ( : ( البينة أو حد في ظهرك ) .
وإن نكلت الزوجة عن الأيمان :
فقيل : يقام عليها حد الزنا .
وهذا مذهب مالك والشافعي .
لقوله تعالى : ( وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ... ( . (النور: من الآية8)
وقيل : تحبس حتى تموت .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
التعريض بالقذف ليس قذفاً
326 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( قَالَ (( جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ إلَى النَّبِيِّ ( فَقَالَ : إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلاماً أَسْوَدَ . فَقَالَ النَّبِيُّ ( هَلْ لَك إبِلٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَمَا أَلْوَانُهَا ؟ قَالَ : حُمْرٌ . قَالَ : فَهَلْ يَكُونُ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ ؟ قَالَ : إنَّ فِيهَا لَوُرْقاً . قَالَ : فَأَنَّى أَتَاهَا ذَلِكَ ؟ قَالَ : عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ . قَالَ : وَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
جاء رجل : جاء عند النسائي : ( جاء رجل من أهل البادية ) .
إن امرأتي : قال الحافظ : " لم أقف على اسم المرأة ولا على اسم الغلام " .
جاء في رواية : ( قال وإني أنكرته ) أي استنكرته بقلبي . قال الحافظ : " ولم يرد أنه أنكر كونه ابنه بلسانه ، وإلا لكان تصريحاً بالنفي لا تعريضاً " .
أوْرق : بوزن أحمر ، والأورق الذي فيه سواد ليس بحالك ، بل يميل إلى الغبرة .
فأنى أتاها : أي من أين أتاها اللون الذي خالفها .
عسى أن يكون نزعه عرق : العرق المراد به الأصل من النسب ، شبهه بعرق الشجرة ، والنزع الجذب .
الفوائد :
1- هذا الحديث ذكره المصنف بعد أحاديث اللعان ، لأن أحاديث اللعان تبيح للإنسان إذا تحقق من زنا زوجته أن يلاعنها لينفي الولد عنه والعار ، وهذا الحديث يزيل الشبهة في كثير من الأمور ، فالريبة واللون لا يكفي لنفي الولد .(6/88)
2- هذا الرجل جاء يعرض بالقذف ، ويدل لذلك قوله : ( إن امرأتي ولدت غلاماً أسود ) أي وأنا أبيض ، فكيف يكون مني؟
وجاء في رواية لمسلم : ( وهو حينئذ يعرض بأن ينفيه ) ، وجاء في رواية : ( إني أنكرته ) .
3- اختلف العلماء هل التعريض يعتبر قذفاً أم لا ؟ على قولين :
القول الأول : أن التعريض بالقذف ليس قذفاً .
وبهذا قال جمهور العلماء .
واستدلوا أن هذا الرجل أنكر الولد في قلبه وعظم عليه الأمر في نفسه ، ولم يسترخص له النبي ( بالانتفاء منه .
ولأن التعريض ليس كالتصريح ، فالتصريح يحتمل معنى واحداً ، والتعريض يحتمل معنيين ، فكيف يصرف اللفظ إلى أحدهما دون الآخر بلا برهان ولا دليل ، فالتعريض لا يعطى حكم التصريح .
القول الثاني : أن التعريض قذف يثبت به الحد .
لورود ذلك عن بعض الصحابة ، كعمر وعثمان .
والراجح الأول .
4- أن الزوج لا يجوز أن ينتفي من ولده بمجرد الظن والشبهة ، كاختلاف البشرة .
5- أن الشرع احتاط في باب الأنساب ، فمنع أن يحكم الزوج على ضوء الريبة التي حصلت له ، ولو ترك هذا لضاعت أنساب كثيرة .
6- أن الأصل أن الولد للفراش ، وهو باق ما لم يرد أقوى منه فيصار إليه .
7- لا حرج على الإنسان في الشك إذا وجدت أسبابه .
8- أن اختلاف اللون من أسباب الشك .
9- أن الأصل عدم مخالفة الولد لأبيه وأمه في اللون ، لكن لعله نزعه عرق .
10- حسن تعليم النبي ( ، وكيف يخاطب الناس بما يعرفون ويفهمون .
11- فيه ضرب الأمثال ، وتشبيه المجهول بالمعدوم ، ليكون أقرب إلى الفهم .
12- فيه دليل على جواز القياس .
وهذا مذهب الأئمة الأربعة .
وخالف ابن حزم ونفى القياس ، وقوله مرجوح ، فالقياس حجة ، ويدل لذلك :
قوله تعالى : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ( . (الحديد: من الآية25)
الميزان : ما توزن به الأمور ويقايس به بينها .(6/89)
ولحديث الباب .
قال ابن العربي : " فيه دليل على صحة القياس " .
327 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (( اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فِي غُلامٍ . فَقَالَ سَعْدٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا ابْنُ أَخِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ , عَهِدَ إلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ , انْظُرْ إلَى شَبَهِهِ . وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ : هَذَا أَخِي يَا رَسُولَ اللَّهِ , وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي مِنْ وَلِيدَتِهِ , فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ ( إلَى شَبَهِهِ , فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ فَقَالَ : هُوَ لَك يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ , الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ . وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ ، فَلَمْ يَرَ سَوْدَةَ قَطُّ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
اختصم سعد بن أبي وقاص : أحد السابقين إلى الإسلام ، وأحد المبشرين بالجنة .
في غلام : أي فيمن يستلحقه .
عهد إلي : أي أوصى إلي أنه ابنه .
جاء في رواية : ( فلما كان يوم الفتح رأى سعد الغلام فعرفه بالشبه ، فاحتضنه وقال : ابن أخي ورب الكعبة ) .
ولد على فراش أبي : يراد بالفراش صاحبه ، وهو الزوج والسيد .
وليدته : الجارية التي وطئها سيدها ، فجاءت منه بولد .
الولد للفراش : فراش الزوجية إذا كانت زوجة ، وفراش التسري إذا كانت أمة .
وللعاهر : أي الزاني .
الحَجَر : أي للزاني الخيبة والحرمان ، ومعنى الخيبة هنا حرمان الولد الذي يدعيه ، وجرت العرب أن تقول لمن خاب : له الحجر ، وبفيه الحجر والتراب . وقيل : المراد بالحجر هنا أنه يرجم ، لكنه قول ضعيف .
ويؤيد الأول ما أخرجه أحمد من قوله ( : ( الولد للفراش وفي فم العاهر الحَجَر ) .
احتجبي منه يا سودة : هي بنت زمعة زوجة رسول الله ( .
الفوائد :(6/90)
1- معنى الحديث : كانوا في الجاهلية يضربون على الإماء ضرائب يكتسبها من فجورهن ، ويلحقون الولد بالزاني إذا ادعاه .
فزنا عتبة بن أبي وقاص بأمَةٍ لزمعة بن الأسود ، فجاءت بغلام ، فأوصى عتبة إلى أخيه سعدبأن يلحق هذا الغلام بنسبه ، فلما جاء فتح مكة ، ورأى سعد الغلام ، عرفه بشبهه بأخيه ، فأراد استلحاقه .
فاختصكم عليه هو ، وعبد بن زمعة ، فأدلى سعد بحجته ، وهي : أن أخاه أقر بأنه ابنه ، وبما بينهما من شبه .
فقال عبد بن زمعة : هو أخي ، ولد من وليدة أبي .
فنظر النبي ( إلى الغلام ، فرأى فيه شبهاً بيّناً بعتبة ، وحيث أن الأصل أنه تابع لمالك الأمّة ، قضى به لزمعة ، وقال : الولد للفراش وللعاهر الزاني الخيبة والخسار ، لكن لما رأى شبه الغلام بعتبة ، تورع النبي ( أن يستبيح النظر إلى زوجته سودة ، فأمرها بالاحتجاب منه احتياطاً وتورعاً .
2- أن الولد للفراش ، لكن بشرط :
إمكان اللحاق بصاحب الفراش .
كأن يتزوج شخص امرأة وولدت غلاماً بعد ثلاثة أشهر ، فهذا لا يمكن أن يكون من هذا الزوج ، لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر .
3- اختلف العلماء متى تكون الزوجة فراشاً ؟ على قولين :
القول الأول : بمجرد العقد تكون فراشاً ، ويلحق الولد بالزوج .
لعموم قوله ( : ( الولد للفراش ... ) .
القول الثاني : لا تصير فراشاً حتى يتحقق اجتماعه معها مع الوطء .
وهذا مذهب الجمهور .
وهو الصحيح ، لأن الفراش لا يتحقق إلا بالمجامعة .
وعلى القول الأول : لو عقد على امرأة وهو في أقصى المغرب ، وهي في أقصى المشرق ، ثم ولدت له بعد العقد بنصف سنة ، فإن الولد يلحق به وإن لم يسافر إليها . [ لكن هذا القول ضعيف ] .
4- أن الأصل فيما ولد على فراش الإنسان أن الولد له ، والشبهة التي تعتري الإنسان ينبغي ألا يلقي لها بالاً ، لأن الشرع احتاط للنسب احتياطاً بالغاً .
5- أن حكم الشبه إنما يعتمد عليه ، إذا لم يكن هناك أقوى منه كالفراش .(6/91)
6- استدل بهذه القصة على أن الاستلحاق لا يختص بالأب ، بل للأخ أن يستلحق .
وهذا قول الشافعية وجماعة .
وخص مالك الاستلحاق بالأب .
7- أن الأمة تصير فراشاً بالوطء ، فإذا اعترف السيد بوطء أمتهِ أو ثبت ذلك بأي طريق كان ، ثم أتت بولد لمدة الإمكان بعد الوطء ، لحقه من غير استلحاق .
8- أنه إذا زنى رجل بامرأة ، فولدت منه ، فإنه لا يلحقه ولو استلحقه .
لقوله ( : ( وللعاهر الحجر ) .
9- حكم النبي ( لعبد بن زمعة ، وأمر سودة بالاحتجاب عنه مع أنها أخته .
أجاب العلماء :
أن النبي ( أمرها بالاحتجاب أحتياطاً وورعاً ، وأشار الخطابي إلى أن في ذلك مزية لأمهات المؤمنين ، لأن لهن في ذلك ما ليس لغيرهن ، قال : " والشبه يعتبر به في بعض المواطن ، لكن لا يقضى به إذا وجد ما هو أقوى منه " .
10- قال النووي : " قوله ( الولد للفراش ) معناه أنه إذا كان للرجل زوجة أو مملوكة ، صارت فراشاً له ، فأتت بولد لمدة الإمكان منه لحقه الولد وصار ولداً يجري بينهما التوارث وغيره من أحكام الولادة ، سواء كان موافقاً له في الشبه أو مخالفاً ومدة إمكان كونه منه ستة أشهر من حين اجتماعهما " .
328 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ : (( إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( دَخَلَ عَلَيَّ مَسْرُوراً , تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ . فَقَالَ : أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزاً نَظَرَ آنِفاً إلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ , فَقَالَ: إنَّ بَعْضَ هَذِهِ الأَقْدَامِ لَمِنْ بَعْضٍ )) .
وَفِي لَفْظٍ : (( كَانَ مُجَزِّزٌ قَائِفاً )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
مسروراً : أي فرحاً .
تبرق : بفتح التاء وضم الراء ، أي تضيء وتستنير من السرور .
أسارير : أي الخطوط التي في الجبهة .(6/92)
مُجَزِّرَاً : بضم الميم ، ثم جيم مفتوحة ، ثم زاي مشددة ، وهو من بني مدلج ، بضم الميم وإسكان الدال وكسر اللام . قال العلماء : وكانت القيافة فيهم وفي بني أسد تعترف لهم العرب بذلك .
نظر أنفاً : أي قريباً .
الفوائد :
1- في هذا الحديث دليل على ثبوت العمل بالقافة .
وقد اختلف العلماء في العمل بقول القائف :
القول الأول : أنه يعمل به .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لحديث الباب ، لأن النبي ( فرح ، ولا يفرح النبي ( إلا بحق .
القول الثاني : لا يعمل بعمل القائف .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
والراجح الأول .
2- أن العمل بالقيافة ، إذا لم يكن ما هو أقوى منها .
3- سبب فرح النبي ( :
قال النووي : " وكانت الجاهلية تقدح في نسب أسامة لكونه أسود وشديد السواد ، وكان زيد أبيض ، فلما قضى هذا القائف نسبه مع اختلاف اللون ، وكانت الجاهلية تعتمد قول القائف ، فرح النبي ( لكونه زاجراً لهم عن الطعن في
النسب " .
4- يشترط في القائف :
- أن يكون عدلاً .
قال النووي : " واتفق القائلون بالقائف على أنه يشترط فيه العدالة " .
- أن يكون خبيراً بهذا مجرباً .
قال النووي : " واتفقوا على أنه يشترط أن يكون خبيراً بهذا مجرباً " .
- واختلف هل يكتفى فيه بواحد :
فقيل : يكفي واحد . لحديث الباب . وقيل : يشترط اثنان .
والأول أصح .
حكم العزل
329 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ( قَالَ : (( ذُكِرَ الْعَزْلُ لِرَسُولِ اللَّهِ ( . فَقَالَ : وَلِمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ ؟ - وَلَمْ يَقُلْ : فَلا يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ ، فَإِنَّهُ لَيْسَتْ نَفْسٌ مَخْلُوقَةٌ إلاَّ اللَّهُ خَالِقُهَا )) .
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ : (( كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ , لَوْ كَانَ شَيْئاً يُنْهَى عَنْهُ لَنَهَانَا عَنْهُ الْقُرْآنُ )).
------------------------------------
معاني الكلمات :(6/93)
العزل : هو النزع بعد الإيلاج لينزل خارج الفرج . [ قاله ابن حجر ]
لِمَ يفعل ذلك أحدكم : استفهام بمعنى الانكار .
الفوائد :
1- اختلف العلماء في حكم العزل على قولين :
القول الأول : أنه حرام .
وهذا مذهب ابن حزم .
لحديث جذامة بنت وهب قالت : ( سُئل رسول الله ( عن العزل ، فقال : ذلك الوأد الخفي ) . رواه مسلم
القول الثاني : أنه جائز من الزوجة الحر بإذنها .
وهذا مذهب جمهور العلماء .
لحديث جابر : ( كنا نعزل والقرآن ينزل ) .
وهذا القول هو الصحيح ، لكن تركه أولى لأمرين :
أولاً : أن فيه إدخال ضرر على المرأة لما فيه من تفويت لذتها .
ثانياً : أنه يفوت بعض مقاصد النكاح .
2- قوله : ( فإنه ليس نفس مخلوقة ... ) فيه إشارة إلى أن الأولى ترك العزل ، لأن العزل إذا كان خشية حصول الولد فلا فائدة في ذلك ، لأن الله إن كان قدر خلق الولد لم يمنع العزل ذلك ، فقد يسبق الماء ولا يشعر العازل فيحصل العلوق ويلحقه الولد ولا راد لما قضى الله .
وقد جاء عند أحمد في مسنده من حديث أنس : ( أن رجلاً سأل عن العزل ، فقال النبي ( : لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج الله منها ولداً ) .
3- اختلف العلماء في علة النهي عن العزل :
فقيل : لتفويت حق المرأة . وقيل : لمعاندة القدر .
قال الحافظ ابن حجر : " وهذا الثاني هو الذي تقتضيه معظم الأخبار الواردة في ذلك " .
4- في حديث جذامة بنت وهب السابق ، سمى النبي ( العزل الوأد الخفي .
وجاء في حديث آخر رواه الترمذي : سئل عنه جابر قال : ( كانت لنا جواري وكنا نعزل ، فقالت اليهود : إن تلك المؤودة الصغرى ، فسئل رسول الله ( عن ذلك فقال : كذبت اليهود ... ) .
فكيف الجمع بين حديث جذامة ، وفيه : أن النبي ( سمى العزل الوأد الخفي ، وبين حديث جابر في تكذيب اليهود في قولهم ؟
أجاب العلماء بأجوبة :(6/94)
من العلماء : من حمل حديث جذامة على الكراهة ، ومنهم : من ضعف حديث جذامة ، ومنهم : من رجح حديث جذامة ، لأنه في صحيح مسلم .
قال ابن القيم : " الذي كذبت فيه اليهود زعمهم أن العزل لا يتصور معه الحمل أصلاً ، وجعلوه بمنزلة قطع النسل بالوأد ، فأكذبهم وأخبر أنه لا يمنع الحمل إذا شاء الله خلقه " .
5- أنَّ قدر الله واقع لا محالة .
6- أن سكوت الوحي عن التحريم يدل على أنه حلال ، إذ لو كان حراماً لبينه .
7- أن ما وقع في عهد النبي ( يعتبر حجة .
- لأنه إن كان قد علم النبي ( فهذا المطلوب .
- وإذا لم يعلم ، فإن الله قد علم فأقره ، ولو هذا أمراً لا يرضاه لم يقره على فعله .
ولهذا استدل جابر على جواز العزل بأنهم كانوا يعزلون والقرآن ينزل .
8- أن القرآن نزل على رسوله ليبين الشرائع والأحكام .
9- أن القرآن منزل غير مخلوق .
330 - عَنْ أَبِي ذَرٍّ ( : أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ( يَقُولُ (( لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ - وَهُوَ يَعْلَمُهُ - إلاَّ كَفَرَ . وَمَنْ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ : فَلَيْسَ مِنَّا , وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ وَمَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ , أَوْ قَالَ : عَدُوَّ اللَّهِ , وَلَيْسَ كَذَلِكَ, إلاَّ حَارَ عَلَيْهِ )) .
------------------------------------
معاني الكلمات :
ادعى : انتسب .
لغير أبيه : أي قال إنه فلان بن فلان وهو يعلم أنه ليس ابن فلان .
كفر : سيأتي معناها في آخر الحديث .
ليس منّا : أي ليس على طريقتنا وهدينا ، وليس المراد إخراجه من الدين .
حار عليه : أي رجع عليه ، ومنه قوله تعالى : ( إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ ( . (الانشقاق:14)
الفوائد :
1- في الحديث التحذير الشديد من أن يرغب الإنسان من الانتساب إلى غير أبيه ، كأن يصير الولد في رفعة جليلة من غنى أو جاه ونحو ذلك ، وأبوه من الأدنياء ، فيرغب عن الانتساب إليه .(6/95)
2- أن الانتساب إلى غير الأب من الكبائر ، لقوله ( : ( إلا كفر ) .
3- عقوبة الانتساب إلى غير الأب :
أولاً : أنه من الكبائر .
لحديث الباب .
وقد جاء في حديث آخر : ( لا ترغبوا عن آبائكم ، فمن رغب عن أبيه فهو كافر ) .
ثانياً : حرام عليه الجنة .
قال ( : ( من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام .
ثالثاً : عليه لعن الله والملائكة والناس .
قال ( : ( من ادعى إلى غير أبيه ، أو انتمى إلى غير مواليه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، ولا يقبل الله منه يوم القيمة صرفاً ولا عدلاً ) . متفق عليه صرفاً : الفريضة . عدلاً : النافلة .
فإن قال قائل : ما الجواب عن قول النبي ( : ( أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب ) ؟
فالجواب :أنه لا بأس أن ينتمي الإنسان إلى جده ، وأبي جده ، من أجل أنه مشهور ومعروف دون أن ينتفي من أبيه .
4- تحريم أن يدعي الإنسان شيئاً وهو ليس له ، كأن يدعي أن هذه الأرض له ، وهي ليست له ، أو أن هذه السيارة له ، وهي ليست له ، ومن ذلك :
أن يدعي عملاً وهو ليس أهلاً له ، كأن يدعي أنه طبيب وهو ليس بطبيب .
أو يدعي أنه مفتي وهو ليس بمفتٍ ، ليكسب وراء ذلك مالاً .
5- أن من يدعي ما ليس له فإن مصيره النار .
قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ( . (النساء:10)
6- تحريم إطلاق الكفر أو عدم الإيمان على المسلم بغير بينة أو برهان واضح .
وقد قال ( : ( إذا قال الرجل لأخيه يا كافر ، فقد باء بها أحدهما ، فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه ) . متفق عليه
قال القرطبي : " والحاصل أن المقولة له ، إن كان كافراً كفراً شرعياً فقد صدق القائل ، وذهب بها المقول له ، وإن لم يكن رجعت للقائل معرة ذلك القول وإثمه " .
7- التحذير من التكفير والإخراج من الملة ، فإن هذا أمر خطير .(6/96)
8- استدل بالحديث الخوارج على أن فاعل الكبيرة كافر .
ومذهب أهل السنة والجماعة أن فاعل الكبيرة ليس بكافر ، بل مؤمن ناقص الإيمان .
وأجاب أهل السنة والجماعة عن حديث الباب وأشباهه التي فيها لفظ الكفر على بعض الكبائر :
- أن المراد المستحل .
- أو المراد الزجر من فعلها .
- أو المراد كفر النعمة .
??
??
??
??
160
16(6/97)
بسم الله الرحمن الرحيم
( 7 )
إيقاظ الأفهام
في شرح
عمدة الأحكام
كتاب الرضاع - كتاب القصاص
كتاب الحدود - كتاب الأيمان والنذور
بقلم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية / رفحاء
الموقع على الإنترنت
www.almotaqeen.net
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد ة وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد
ضمن شرح كتاب عمدة الأحكام المسمى : إيقاظ الأفهام بشرح عمدة الأحكام ، فهذه المذكرة السابعة وما قبل الأخيرة
نسأل الله أن ينفع بها
أخوكم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية / رفحاء
كتابُ الرَّضاعِ
331 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : (( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( فِي بِنْتِ حَمْزَةَ : لا تَحِلُّ لِي , يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ , وَهِيَ ابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ )) .
332 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : (( إنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلادَةِ )) .
-----------------------------------------
1- الرضاع لغة : اسم لمص الثدي وشرب لبنه .
واصطلاحاً : هو مص طفل صغير لبن امرأة أو شربه ونحوه .
2- الحديث دليل على أن الرضاع محرم كالنسب ، وهذا ثابت بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ) . ذكرهما في جملة المحرمات .
وأما السنة أحاديث الباب وغيرها .
وأجمع علماء الأمة على التحريم بالرضاع .
3- يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب .
فعدد المحرمات من الرضاع سبع ، وهن المحرمات من النسب ، لقوله ( : ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) .
قال ابن قدامة : " كل امرأة حرمت من النسب حرم مثلها من الرضاع ، وهن : الأمهات ، والبنات ، والأخوات ، والعمات ، والخالات ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت " .(7/1)
قال : " لأن الأمهات والأخوات منصوص عليهن ، والباقيات يدخلن في عموم سائر المحرمات ، ولا نعلم في هذا خلافاً ".
4- إذا أرضعت امرأة ولداً [ بشروط الرضاع المعروفة ] صار هذا الطفل ولداً لها في النكاح والنظر والخلوة وفي المحرمية .
في النكاح : أي تحريمه .
في النظر : أي في جوازه .
في الخلوة : أي في جوازها .
في المحرمية : أي ثبوتها .
ولا يكون ولداً لها في وجوب النفقة والبر والميراث والولاية وعدم دفع الزكاة .
فإذا ارتضع من المرأة صارا أبويه ( من الرضاع ) وآباؤهما أجداده وجداته .
وإخوة المرأة وأخواتها أخواله وخالاته .
وإخوة الرجل وأخواته أعمامه وعماته .
وأما بالنسب للمرتضع فتنتشر الحرمية إلى فروعه فقط دون أصوله وحواشيه .
فالقاعدة إذاً :
الرضاع ينتشر إلى المرتضع وفروعه فقط دون أصوله وحواشيه ، وينتشر إلى أصول وفروع وحواشي المرضعة .
5- قوله : ( يحرم من الرضاع ... ) استدل به من قال : إن قليل الرضاع وكثيره محرِّم .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أن قليل الرضاع وكثيره محرِّم .
وهذا مذهب جمهور العلماء .
واستدلوا بالعمومات ، كقوله تعالى : (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ ...) ففي هذه الآية علقت التحريم على مطلق الإرضاع ، فحيث وجد وجد حكمه .
وعموم قوله ( : ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) .
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ ( (أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إهَابٍ , فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ , فَقَالَتْ : قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا , فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ( قَالَ : فَأَعْرَضَ عَنِّي . قَالَ : فَتَنَحَّيْت , فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ . قَالَ : كَيْفَ ؟ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا ) .(7/2)
وجه الدلالة : أن النبي ( أمر الزوج أن يترك زوجته لمجرد علمه بأنهما رضعا من ثدي واحد دون أن يسأل عن عدد الرضعات ، فدل ذلك على أن مطلق الإرضاع يثبت به التحريم .
وعموم قوله ( : ( إنما الرضاعة من المجاعة ) . متفق عليه
القول الثاني : أن المحرم ثلاث رضعات .
وهو قول داود ، وأبي ثور ، وابن المنذر .
لحديث عائشة أن النبي ( قال : ( لا تحرم المصة والمصتان ) . رواه مسلم
وجه الدلالة : أن النبي ( صرح فيها أن المصة والمصتان لا تحرمان ، فيكون ما فوقهما مُحرِّم ، وهو الثلاث ، لأن ذلك لو لم يكن محرماً لبينه النبي ( .
القول الثالث : أن المحرم خمس رضعات .
قال ابن قدامة : " هذا هو الصحيح في المذهب ، وروي هذا عن عائشة وابن الزبير وابن مسعود وعطاء وطاووس " .
لحديث عائشة قالت : ( كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ، ثم نسخت بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله ( وهنّ مما يقرأ من القرآن ) . رواه مسلم
وهذا القول هو الصحيح .
أما أدلة القول الأول : فهي عمومات ، وقد قيدت بالسنة بعدد معين من الرضاعة ، كما في حديث عائشة .
وأما أدلة القول الثاني ( لا تحرم المصة والمصتان ) : هذا الاستدلال بالمفهوم ، وهو لا يعمل به إلا عند القائلين به ، إلا إذا لم يكن هناك منطوق يعارضه ، وقد جاء ما يعارضه مثل حديث عائشة المثبت للتحريم بخمس رضعات .
6- قوله ( يحرم من الرضاع ... ) يشمل ما إذا كان اللبن ناشئاً عن حمل ، أو كان من بكر .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : يشترط أن يكون ناشئاً عن حمل .
وهذا المذهب .
القول الثاني : لا يشترط ، فلو كان من بكر ثبت التحريم .
وهذا مذهب جمهور العلماء .
لعموم قوله تعالى : (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ ...) .
وقد قال ابن قدامة : " ولأنه لبن امرأة متعلق به التحريم كما لو ثاب بوطء " .
وهذا القول هو الصحيح .(7/3)
7- الأحاديث تدل بعمومها على أن التحريم يثبت بلبن المرأة ولو كانت ميتة .
وهذا مذهب جمهور العلماء .
لعموم الأحاديث المثبة للتحريم بالرضاع ، فهي لم تفرق بين لبن من هي على قيد الحياة ، ومن فقدت الحياة .
وذهب الشافعية إلى أن المرأة الميتة لا يثبت بلبنها تحريم .
والصحيح الأول .
8- ذهب جمهور العلماء إلى أن الصغير إذا ارتضع من رجل فإنه لا يثبت به التحريم .
لقوله تعالى : ( وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ ... ( ولفظ الأم لا يتناول إلا الإناث ، فيكون لبن الرجل خارجاً عن مجال التحريم .
333 - وَعَنْهَا قَالَتْ : (( إنَّ أَفْلَحَ - أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ - اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ ؟ فَقُلْت : وَاَللَّهِ لا آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ النَّبِيَّ ( فَإِنَّ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ : لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي , وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ , فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ( فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي , وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَتُهُ . فَقَالَ : ائْذَنِي لَهُ , فَإِنَّهُ عَمُّك , تَرِبَتْ يَمِينُك )) .
قَالَ عُرْوَةُ " فَبِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ : " حَرِّمُوا مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ "
وَفِي لَفْظٍ (( اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ , فَلَمْ آذَنْ لَهُ . فَقَالَ : أَتَحْتَجِبِينَ مِنِّي , وَأَنَا عَمُّك ؟ فَقُلْت : كَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : أَرْضَعَتْك امْرَأَةُ أَخِي بِلَبَنِ أَخِي , قَالَتْ : فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ ( فَقَالَ : صَدَقَ أَفْلَحُ , ائْذَنِي لَهُ , تَرِبَتْ يَمِينُك )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
إن أفلح أخا أبي القعيس : بقاف وعين وسين مهملتين مصغر .(7/4)
والله لا آذن له : في رواية : ( فأبيت أن آذن له ) ولمسلم : ( وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة ) .
ائذني له : وفي رواية : ( صدق أفلح ، ائذني له ) وعند أبي داود : ( دخل علي أفلح فاستترت منه ، فقال : أتستترين مني وأنا عمك ؟ قلت : من أين ؟ قال : أرضعتك امرأة أخي ، فقلت : إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل ) .
الفوائد :
1- معنى الحديث : استرضعت عائشة من زوج أبي القُعَيْس ، وبعد ما أمر الله تعالى نساء النبي ( وبناته ونساء المؤمنين بالحجاب على الرجال الأجانب ، جاء أخو والد عائشة من الرضاعة ، يستأذن عليها من الدخول ، فأبت أن تأذن له ، لأن التي أرضعتها زوجة أبي القعيس لا هو ، واللبن للمرأة لا للرجل فيما يظن .
فدخل عليها رسول الله ( فأخبرته الخبر ، فقال : ( إئذني له ، فإنه عمك ) فعلمت عائشة أن اللبن الذي يرتضع إنما هو من أثر ماء الرجل والمرأة .
2- استدل بحديث الباب جماهير العلماء على أن لبن الفحل محرم .
قال الحافظ ابن حجر : " لبن الفحل ، بفتح الفاء وسكون الحاء ، أي الرجل ، ونسبة اللبن إليه مجازيه لكونه السبب فيه " .
ثم قال رحمه الله : " وفي الحديث أن لبن الفحل يحرم فتنتشر الحرمة لمن ارتضع الصغير بلبنه ، فلا تحل له " .
ثم أشار الحافظ إلى أن خلاف قديم في هذه المسألة ، ثم نقل الحافظ عن القاضي عبد الوهاب ، فقال : " يتصور توضيح لبن الفحل برجل له امرأتان ترضع إحداهما صبياً والأخرى صبية ، فالجمهور قالوا يحرم على الصبي تزوج الصبية " .
فجمهور العلماء ، ومنهم الأئمة الأربعة إلى أن لبن الفحل يحرم .
لحديث الباب .
وسئل ابن عباس عن رجل له امرأتان ، فارتضعت إحداهما غلاماً ، وأرضعت الأخرى جارية ، فقيل له : هل يتزوج الغلام الجارية ؟ فقال : ( لا ، اللقاح واحد ) . رواه مالك(7/5)
قال في المغني : " إن المرأة إذا أرضعت طفلاً بلبن ثاب من وطء رجل ، ... يصير الطفل ولد الرجل والرجل أباه ، وأولاد الرجل إخوانه ، سواء كانوا من تلك المرأة أو من غيرها ، وإخوة الرجل وأخواته أعمام الطفل وعماته ، وآباؤه وأمهاته أجداده وجداته " .
قال ابن عبد البر : " وإليه ذهب فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق والشام ، وجماعة أهل الحديث " .
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يحرم .
روي عن ابن عمر ، وابن الزبير ، ورافع بن خديج ، وسعيد بن المسيب ، وأبي سلمة .
قال ابن حجر : " احتج بعضهم من حيث النظر بأن اللبن لا ينفصل من الرجل ، وإنما ينفصل من المرأة ، فكيف تنتشر الحرمة إلى الرجل ؟ " .
قال الحافظ في الرد عليهم : " الجواب أنه قياس في مقابلة النص فلا يلتفت إليه ، وأيضاً فإن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة معاً ، فوجب أن يكون الرضاع منهما ، وإلى هذا أشار ابن عباس بقوله في هذه المسألة : ( اللقاح واحد ) وأيضاً فإن الوطء يدر اللبن ، فللفحل فيه نصيب " .
3- جواز التسمي بأفلح .
4- وجوب الاستئذان .
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( . (النور:27)
قال الشنقيطي : " اعلم أن الأظهر الذي لا ينبغي العدول عنه ، أن الرجل يلزمه أن يستأذن على أمه وأخته وبنيه وبناته البالغين ، لأنه إن دخل على من ذكر بغير استئذان ، فقد تقع عينه على عورات من ذكر ، وذلك لا يحل " .
5- الأمر بصلة الرحم .
6- أن من ارتاب في حكم مسألة ، فإنه يرجع إلى أهل العلم .(7/6)
334 - وَعَنْهَا رضي الله عنها قَالَتْ (( دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ( وَعِنْدِي رَجُلٌ , فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ , مَنْ هَذَا ؟ قُلْت : أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ . فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ : اُنْظُرْنَ مَنْ إخْوَانُكُنَّ ؟ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
وعندي رجل : قال الحافظ : " لم أقف على اسمه ، وأظنه ابناً لأبي القعيْس " .
جاء في رواية : ( فكأنه تغير وجهه ) وفي رواية : ( فاشتد ذلك عليه ، ورأيت الغضب في وجه ) وفي رواية أبي داود :
( فشق ذلك عليه وتغير وجهه ) .
انظرن من إخوانكن : والمعنى : تأملن ما وقع من ذلك ، هل هو رضاع صحيح بشرطه .
الفوائد :
1- قوله ( : ( إنما الرضاعة من المجاعة ) أي الرضاعة التي تثبت بها الحرمة ، وتحل بها الخلوة ، هي حيث يكون الرضيع طفلاً يسد اللبن جوعته ، لأن معدته ضعيفة يكفيها اللبن وينبت بذلك لحمه فيصير كجزء من المرضعة ، فيشترك في الحرمة مع أولادها ، فكأنه قال : لا رضاعة معتبرة إلا المغنية عن المجاعة أو المطعمة ) . [ قاله في الفتح ]
2- استدل بقوله ( إنما الرضاعة من المجاعة ) على اشتراط الصغر لثبوت الرضاع .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة ، ما هو زمن الرضاع المحرم ؟ على قولين :
القول الأول : أن الرضاع المحرم ما كان في الحولين .
وهذا مذهب جمهور العلماء من الشافعية والحنابلة وبعض المالكية والصاحبان من الحنفية .
لقوله تعالى : ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ( .
قال ابن كثير : " هذا إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة ، وهي سنتان ، فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك ، ولهذا قال : ( لمن أراد أن يتم الرضاعة ( " ، ثم نقل ابن كثير هذا القول عن جمهور العلماء .(7/7)
ولحديث الباب : ( إنما الرضاعة من المجاعة ) فهذا دليل على أن الرضاعة المعتبرة التي يثبت بها الحرمة ، وتحل بها الخلوة ، هي حيث يكون الرضيع طفلاً يسد اللبن جوعته .
ومثله حديث أم سلمة قالت : قال رسول الله ( : ( لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي ، وكان قبل الفطام ) رواه الترمذي وصححه .
قوله ( الثدي ) أي وقت الحاجة إلى الثدي ، أي في الحولين .
وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله ( : ( لا رضاع إلا ما شد العظم ، وأنبت اللحم ) . رواه أبو داود
القول الثاني : أن رضاع الكبير يحرم .
وهذا قول عائشة ونصره ابن حزم .
لحديث عائشة قالت : ( جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي ( فقالت : يا رسول الله ، إني أرى في وجه حذيفة من دخول سالم [ وهو حليفه ] فقال النبي ( : أرضعيه ، قالت : وكيف أرضعه وهو رجل كبير ، فتبسم رسول الله ( وقال : علمت أنه رجل كبير ) . رواه مسلم
قال النووي : " قالت عائشة وداود : تثبت حرمة الرضاع برضاع البالغ ، كما تثبت برضاع الطفل ، لهذا الحديث " .
والراجح مذهب الجمهور ، وهو أن رضاع الكبير غير مؤثر .
وأما الجواب عن حديث سهلة ، فقد أجاب العلماء بأجوبة :
أولاً : أن هذه الحادثة رخصة خاصة بسالم ، فلا يتعداه إلى غيره ، ولذلك فإن أمهات المؤمنين سوى عائشة ، أبَيْن أن يعملن بهذه الحادثة ، لأنهن كنا يرين أن ذلك رخصة لسالم .
ثانياً : أنه حكم منسوخ ، وبه جزم المحب الطبري في أحكامه ، وقرره بعضهم بأن قصة سالم كانت في أوائل الهجرة ، والأحاديث الدالة على اعتبار الحولين من رواية أحداث الصحابة ، فدل على تأخرها ، وهو مستند ضعيف ، إذ لا يلزم من تأخر إسلام الراوي ، ولا صغره ، أن لا يكون ما رواه متقدماً . [ قاله في الفتح ](7/8)
ثالثاً : قول الشوكاني ، حيث قال : " إن الرضاع يعتبر فيه الصغر إلا فيما دعت إليه الحاجة ، كرضاع الكبير الذي لا يستغنى عن دخوله على المرأة ، ويشق احتجابها منه ، وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية ، وهذا هو الراجح عندي ، وبه يحصل الجمع بين الأحاديث ، وذلك بأن تجعل قصة سالم المذكورة مخصصة لعموم : ( إنما الرضاع من المجاعة ) ( ولا رضاع إلا في الحولين ) ( ولا رضاع إلا ما فتق الأمعاء ) " .
3- قوله ( إنما الرضاعة من المجاعة ) استدل به من قال : إن الرضاع يحرّم إذا وصل إلى الجوف ، حتى ولو كان عن طريق الوَجور أو السعوط .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لقوله تعالى : (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ) ففي هذه الآية ثبوت الإرضاع ، ولم تفرق بين أن يكون الإرضاع عن طريق امتصاص الثدي أو غيره .
ولأن العلة في التحريم بالارتضاع ، وهو وصول اللبن إلى جوف الرضيع ، فيتغذى عليه ويسد جوعته وينبت عظمه ، وذلك متحقق في الوجور والسعوط .
الوجور : هو صب اللبن للطفل في حلقه بآلة تدخل في وسط الفم . السعوط : هو صب اللبن للطفل في أنفه .
4- ينبغي التثبت في أمر الرضاع .
5- ينبغي لمن رأى من امرأته أمراً مريباً أن يتثبت ويتأكد من أمرها .
6- غيرة الرجل على أهله ومحارمه من مخالطة الأجانب .
7- جواز دخول من اعترفت المرأة بالرضاعة معه عليها ، وأنه يصير أخاً لها ، وقبول قولها ممن اعترفت به .
335 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ ( (( أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إهَابٍ , فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ , فَقَالَتْ : قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا , فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ( قَالَ : فَأَعْرَضَ عَنِّي . قَالَ : فَتَنَحَّيْت , فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ . قَالَ : كَيْفَ ؟ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :(7/9)
أم يحي : واسمها غَنية ، بفتح الغين وكسر النون ، وقيل : اسمها زينب .
الفوائد :
1- استدل بالحديث من قال بقبول شهادة المرضعة وحدها .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال :
القول الأول : أن شهادة المرأة الواحدة مقبولة في الرضاع إذا كانت مرضية .
قال ابن قدامة : " وبهذا قال طاووس والزهري والأوزاعي " .
لحديث الباب ، فهو يدل على الاكتفاء بالمرأة الواحدة .
القول الثاني : لا يقبل من النساء أقل من أربع ، لأن كل امرأتين كرجل .
قال ابن قدامة : " وبه قال عطاء وقتادة والشافعي " .
القول الثالث : لا يقبل فيه إلا رجلان ، أو رجل وامرأتان .
وهو قول أصحاب الرأي .
لقوله تعالى : ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ( .
والقول الأول هو الصحيح .
2- أن الرضاع موجب للتفريق بين الزوجين بالإجماع .
3- أن الرضاع لا بد من دليل يثبت به .
والرضاع يثبت بأمور :
أولاً : بالإقرار .
بأن يقر الرجل والمرأة أو أحدهما بوجود علامة رضاع محرِّم للزواج بينهما .
ثانياً : البينة [ المقصود فيها الشهادة ] .
وسبق أن الراجح تكفي شهادة امرأة واحدة .
4- اختلف العلماء في مقدار الرضعة المحرمة :
اختلف العلماء وأقرب الأقوال أن الرضعة هي التي تنفصل عن الأخرى بوقت معتاد ، وهذا اختيار السعدي .
وقيل : أن الرضعة هي أن يمسك الطفل الثدي ويرضع منه لبناً ، ثم يتركه للتنفس أو انتقال ، ونحو ذلك ، فإن عاد فرضعة أخرى . [ فتاوى اللجنة ]
5- استدل بحديث الباب من قال : إن قليل الرضاع وكثيره يحرّم ، وهو مذهب الجمهور ، وقد سبقت المسألة .
6- جاء في رواية أن عقبة قال : ( ما أعلم أنكِ أرضعتني ، ولا أخبرتني ، فركب إلى رسول الله ( بالمدينة ، فسأله ... ) .
في هذا الحديث استحباب الرحلة في طلب العلم والحديث ، وقد رحل جابر شهراً كاملاً في طلب حديث واحد .(7/10)
فقد روى أحمد في مسنده عن جابر قال : ( بلغني حديث عن أصحاب رسول الله ( ، فابتعت بعيراً ، فشددت عليه رحْلي ثم سرت إليه شهراً حتى قدمت الشام ، فإذا عبد الله بن أنيس الأنصاري ، فأتيت منزله وأرسلت إليه أن جابراً على الباب ، فرجع إلي الرسول فقال : جابر بن عبد الله ؟ قلت : نعم ، فخرج إليّ فاعتنقته واعتنقني ، وقال : قلت : حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله ( في المظالم لم أسمعه أنا منه ، قال : سمعت رسول الله ( يقول : يحشر الله تبارك وتعالى أو قال الناس ، وأومأ بيده إلى الشام ، عراة غرلاً بهماً ، قلنا : ما بهماً ؟ قال : ليس معهم شيء ، يناديهم بصوت يسمعه من بعد ويسمعه من قَرُب : أنا المالك ، أنا الديان ، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة حتى اللطمة ... ) .
قال أبو العالية : " كنا نسمع الرواية بالبصرة عن أصحاب رسول الله ( فما نرضى حتى ركبنا إلى المدينة فسمعناها من أفواههم " .
وقال سعيد بن المسيب : " إن كنت لأسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد " .
باب الحضانة(7/11)
336 - عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ( قَالَ : (( خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ( - يَعْنِي مِنْ مَكَّةَ - فَتَبِعَتْهُمْ ابْنَةُ حَمْزَةَ , تُنَادِي : يَا عَمُّ , فَتَنَاوَلَهَا عَلِيٌّ فَأَخَذَ بِيَدِهَا , وَقَالَ لِفَاطِمَةَ : دُونَكِ ابْنَةَ عَمِّك , فَاحْتَمَلْتُهَا . فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ وَجَعْفَرٌ وَزَيْدٌ فَقَالَ عَلِيٌّ : أَنَا أَحَقُّ بِهَا , وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّي وَقَالَ جَعْفَرٌ : ابْنَةُ عَمِّي , وَخَالَتُهَا تَحْتِي . وَقَالَ زَيْدٌ : ابْنَةُ أَخِي . فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ( لِخَالَتِهَا , وَقَالَ : الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ . وَقَالَ لِعَلِيٍّ : أَنْتَ مِنِّي , وَأَنَا مِنْك . وَقَالَ لِجَعْفَرٍ : أَشْبَهَتْ خَلْقِي وَخُلُقِي وَقَالَ لِزَيْدٍ : أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلانَا )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
يا عم : قال الحافظ : " كأنها خاطبت النبي ( بذلك إجلالاً له ، وإلا فهو ابن عمها ، أو بالنسبة إلى كون حمزة وإن كان عمه من النسب فهو أخوه من الرضاعة .
دونك : كلمة تدل على الأمر بأخذ الشيء المشار إليه .
خالتها تحتي : أي زوجتي .
ابنة أخي : أي في الإسلام ، فإن النبي ( لما قدم المدينة آخى بين المهاجرين ، فآخى بين زيد وحمزة .
الخالة بمنزلة الأم : أي في هذا الحكم الخاص ، لأنها تقرب منها في الحنو والشفقة والاهتداء إلى ما يصلح الولد .
أنت مني وأنا منك : أي في النسب والصهر والمسابقة والمحبة .
أشبهت خلقي وخلقي : الخَلْق المراد به الصورة .
أخونا ومولانا : أي أخونا في الإيمان ، ومولانا : أي من جهة أنه أعتقه ، وقد تقدم أن مولى القوم منهم .
الفوائد :(7/12)
1- في هذا الحديث أن النبي ( لما فرغ من عمرة القضاء ، في السنة السابعة ، وخرجوا من مكة تبعتهم ابنة حمزة بن عبد المطلب ، تنادي : يا عم يا عم ، فتناولها علي بن أبي طالب فأخذ بيدها وقال لزوجته فاطمة : خذي ابنة عمك ، فاحتملتها .
فاختصم في الأحقية بحضانتها ثلاثة : علي ، وأخوه جعفر ، وزيد بن حارثة ، وكل منهم أدلى بحجته لاستحقاق الحضانة .
فقال علي : هي ابنة عمي ، فأنا أحق بها . وقال جعفر : هي ابنة عمي ، وخالتها زوجتي . وقال زيد : هي بنت أخي الذي عقد بيني وبينه رسول الله ( مؤاخاة ، يثبت بها التوارث والتناصر ، فأنا أحق بها .
فحكم بها النبي ( للخالة ، لأنها بمنزلة الأم ، وكانت عند جعفر ، ثم أرضى ( الجميع بما يطيب قلوبهم .
2- مشروعية الحضانة :
والحضانة مأخوذة من الحضن ، وهو الحجر .
واصطلاحاً : حفظ الصغير وحضانته ، والمجنون عما يضره ، والقيام بمصالحه .
وهي واجبة ، قال في المغني : " كفالة الطفل وحضانته واجبة ، لأنه يهلك بتركه فيجب حفظه عن الهلاك كما يجب الإنفاق عليه وإنجاءه من المهالك " .
3- قوله ( الخالة بمنزلة الأم ) دليل على أن الأم أحق بحضانة الطفل من الأب ما دام في طور الحضانة ما لم تتزوج .
قال في المغني : " وجملته أن الزوجين إذا افترقا ولهما ولد طفل أو معتوه ، فأمه أولى الناس بكفالته إذا كملت الشرائط فيها ذكراً كان أو أنثى " .
والأصل فيه ما روي عن عبد الله بن عمرو : ( أن امرأة قالت : يا رسول الله ، إن ابني هذا كان بطني له وعاء ، وثديي له سقاء ، وحجري له حواء ، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني ، فقال رسول الله ( : أنتِ أحق به ما لم تنكحي ) . رواه أبو داود
4- اختلف العلماء إذا تزوجت الأم هل تسقط حضانتها أم لا ؟ على أقوال :
قال ابن القيم : " واختلف الناس في سقوط الحضانة بالنكاح على أربعة أقوال :
أحدها : سقوطها به مطلقاً ، سواء كان المحضون ذكراً أو أنثى .(7/13)
وهذا مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه ، وحجة هؤلاء :
حديث عبد الله بن عمرو السابق : ( ... ما لم تنكحي ) .
اتفاق الصحابة على ذلك .
القول الثاني : أنها لا تسقط بالتزويج بحال .
حكي هذا المذهب عن الحسن البصري ، وهو قول أبي محمد بن حزم ، واحتجوا بأن أم سلمة لما تزوجت برسول الله ( لم تسقط كفالتها لابنها ، بل استمرت على حضانتها .
واحتجوا بأن رسول الله ( قضى بابنة حمزة لخالتها ، وهي مزوجة بجعفر .
القول الثالث : أنها إذا تزوجت بقريب من الطفل لم تسقط حضانها " .
؛؛ والله أعلم بالراجح ؛؛
5- اختلف العلماء إذا بلغ الطفل عند من يكون ، بالنسبة للغلام ؟
فالمذهب عند الحنابلة ، وهو مذهب الشافعي ، وقضى به عمر وعلي ، وشريح : أنه يخير .
لحديث أبي هريرة : ( أن امرأة قالت : يا رسول الله ، إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد نفعني وقد سقاني ، فقال النبي ( : هذا أبوك ، وهذه أمك ، فخذ بيد أيهما شئت ، فأخذ بيد أمه فانطلقت به ) . رواه أبو داود
قال ابن القيم : " ويخير الولد بين أبويه بالسنة الصحيحة ، فإن اختارهما أو لم يختر أحداً منهما ، أقرع بينهما " .
لكن ينبغي أن يقيد هذا التخيير بما قاله الإمام ابن القيم ، قال : " التخيير لا يكون إلا إذا جهلت به مصلحة الولد ، فلو كانت الأم أصون من الأب وأغير منه ، قدمت عليه ، ولا التفات إلى اختيار الصبي في هذه الحالة ، فإنه ضعيف العقل يؤثر البطالة واللعب ، فإذا اختار من يساعده على ذلك فلا التفات إلى اختياره وكان عند من هو أنفع له منهما ولا تحتمل الشريعة غير هذا " .
وأما الأنثى إذا بلغت سبعاً :
فالمذهب عند أبيها .
قال ابن قدامة معللاً : " ولنا أن الغرض من الحضانة الحفظ ، والحفظ للجارية بعد السبع في الكون عند أبيها ، لأنها تحتاج إلى حفظ ، والأب أولى بذلك ، فإن الأم تحتاج إلى من يحفظها ويصونها ... ) .
وقيل : تبقى عند أمها .
وهذا مذهب الحنفية .(7/14)
لأن الأم أرحم بها من غيرها ، ولأن تعلق الأم بالبنت أكثر من تعلق الطفل ، فتبقى حتى تتزوج .
ورجح هذا القول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله .
والراجح الأول .
6- أن الأم مقدمة في الحضانة على كل أحد ، فإنه لم يعطها الخالة في هذه القصة إلا لأنها بمنزلة الأم ، والخالة تلي الأم في الحضانة ، فهي بمنزلتها في الحنو والشفقة .
7- شروط الحاضن :
والشروط المتفق عليها :
العقل : فلا حضانة لمجنون ، ولا معتوه ، لأن غير العاقل يحتاج إلى من يكفله ويقوم بأمره ، فلا يقوم هو بأمر غيره .
البلوغ : فلا يصح أن يكون الحاضن صغيراً ، لأن الصغير يحتاج إلى من يحضنه ويكفله ، فلا يحضن غيره .
واختلف في اشتراط الإسلام في الأم لكي تستحق حضانة طفلها :
فقيل : الذمية أحق بحضانة ولدها المسلم ما لم يعقل ديناً .
وعللوا ذلك بأن الحضانة مبنية على الشفقة ، والأم مسلمة أو ذمية أتم شفقة على طفلها من غيرها .
وقيل : إن اختلاف الدين مانع من الحضانة ، فلا حضانة لكافر على مسلم .
وهذا مذهب الشافعية والحنابلة .
لقوله تعالى : ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) .
ولحديث رافع بن سنان : ( أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم ، فأقعد النبي ( الأم في ناحية ، والأب في ناحية ، وأقعد الصبي بينهما ، فمال إلى أمه ، فقال : اللهم اهده ، فمال إلى أبيه فأخذه ) . رواه أبو داود
وجه الدلالة : أن النبي ( دعا للصبي بالهداية ، فمال إلى أبيه المسلم ، وهذا يفيد أن كونها مع الكافر خلاف هدى الله تعالى .
وهذا القول هو الصحيح .
8- حسن خلق النبي ( ولطفه ، حيث حكم لواحد من الثلاثة وأرضاهم جميعاً بما طيب أنفسهم ، وأرضى ضمائرهم فراحوا مسرورين مغتبطين .
9- تعظيم صلة الرحم ، بحيث تقع المخاصمة بين الكبار في التوصل إليها .
10- أن الحاكم يبين دليل الحكم للخصم ، وأن الخصم يدلي بحجته .
11- فضل علي بن أبي طالب ، ومن فضائله :(7/15)
قوله ( : ( لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، فأعطاها علي ) . متفق عليه
وقال ( : ( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ) . متفق عليه
وقال ( : ( لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق ) . متفق عليه
12- فضل جعفر بن أبي طالب ، ومن فضائله :
قوله ( : ( رأيت جعفراً يطير في الجنة مع الملائكة ) . رواه الترمذي
كتاب القصاص
مقدمة :
تعريفه : القصاص هو تبع الدم بالقود .
والأصل في مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع والقياس .
قال تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ) .
وأما من السنة فأحاديث كثيرة :
منها الحديث الآتي : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ... النفس بالنفس ) .
وأجمع العلماء عليه .
الحكمة منه : شرع الله القصاص لحكم عظيمة ، ومقاصد سامية ، ومن أهم هذه الحكم :
أولاً : حماية المجتمعات من الجريمة ، وردع كل من تسول له نفسه الاعتداء على الآخرين .
ولهذا قال تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ) .
قال ابن كثير : " يقول تعالى : وفي شرع القصاص لكم ، وهو قتل القاتل ، حكمة عظيمة ، وهي بقاء المهج وصونها ، لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنيعته ، فكان في ذلك حياة للنفوس ، وفي الكتب المتقدمة : القتل أنفى للقتل ، فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح وأبلغ وأوجز " .
وقال الشيخ السعدي : " ثم بين تعالى حكمته العظيمة في مشروعية القصاص ، فقال : (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) أي تنحقن بذلك الدماء ، وتنقمع به الأشقياء ، لأن من عرف أنه مقتول إذا قتل ، لا يكاد يصدر منه القتل ، وإذا رؤي القاتل مقتولاً انذعر بذلك غيره وانزجر ، فلو كانت عقوبة القاتل غير القتل ، لم يحصل انكفاف الشر الذي يحصل بالقتل .
ثانياً : يحقق العدل والانتصار للمظلوم ، فيتمكن ورثة القتيل من أن يفعلوا بالقاتل مثل ما فعل بمورثهم .(7/16)
ولهذا قال تعالى : ( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً ) .
وقال تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) .
ثالثاً : التوبة على القاتل وتطهيره من الذنب الذي اقترفه ، فإن القصاص والحدود عامة كفارة لأهلها .
237- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( (( لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّه إلاَّ بِإِحْدَى ثَلاثٍ : الثَّيِّبُ الزَّانِي , وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ , وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ )) .
338 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( :(( أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ)) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
لا يحل : أي لا يجوز .
الثيب : هو المحصن ، وهو الذي جامع وهو حر مكلف في نكاح سواء كان رجلاً أو امرأة .
النفس بالنفس : المراد به القصاص ، أي إذا قتل إنسان إنساناً عمداً قتل به بالشروط المعروفة .
التارك لدينه : أي المرتد .
ما يقضى : أي ما يحكم .
الفوائد :
1- في هذا الحديث بيان حرمة هذه الأشياء الثلاثة ، وإن فعلها فقد استحق القتل :
الأول : الثيب الزاني ، فإذا زنى الإنسان وهو متزوج ، فإنه يرجم حتى الموت . [ وسيأتي ما يتعلق بهذا المبحث ]
الثاني : النفس بالنفس ، أي من قتل مسلماً فإنه يقتل .
الثالث : إذا ارتد الإنسان من الإسلام إلى الكفر ، فإنه يقتل .
2- تحريم قتل المسلم من ذكر وأنثى وصغير وكبير .
قال في المغني : " وأجمع المسلمون على تحريم القتل ، والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع " .(7/17)
قال تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) .
وقال تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ) .
وقال تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ) .
ولحديث الباب : ( لا يحل دم امرئ ... ) .
وقال ( : ( لقتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا ) . رواه الترمذي
وفي حديث الباب : ( أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء ) .
وقال ( : ( اجتنبوا السبع الموبقات : ... وذكر منها : وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ) .
وقال تعالى : (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ) .
وقال ( : ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) .
فائدة :
القاتل عمداً مسلم ليس بكافر كما هو معتقد أهل السنة والجماعة ، فحكمه حكم أهل الكبائر من أمة محمد ( .
فإن قيل : ما الجواب عن قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا ... ) .؟
الجواب :
قيل : المراد من استحل ذلك .
وهذا جواب ضعيف ، لأن المستحل كافر سواء قتل أم لم يقتل .
وقيل : المراد بالخلود هنا المكث الطويل وليس الإقامة الأبدية .
وقيل : أن هذه النصوص خرجت مخرج الزجر والتغليظ ، ولا يراد حقيقة التخليد .
وقيل : هذا وعيد ، وإخلاف الوعيد لا يذم بل يمدح ، والله تعالى يجوز عليه الوعيد ولا يجوز عليه خلف الوعد .
وقيل : أن هذا جزاؤه ، وهو يستحق هذا الوعيد ، ولكن الله تكرم على عباده الموحدين ومنّ عليهم بعدم الخلود في النار وهذا أقوى .(7/18)
وقد اختلف العلماء : هل للقاتل عمداً توبة أم لا ؟ على قولين :
القول الأول : أن القاتل عمداً لا توبة له .
وهذا المشهور عن ابن عباس .
لقوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا ... ) .
وجه الدلالة : أن هذا الوعيد خرج مخرج الخبر ، والأخبار لا يدخلها نسخ ولا تغيير .
ولأن التوبة من قتل المؤمن عمداً متعذرة ، إذ لا سبيل إليها إلا باستحلاله أو إعادة نفسه التي فوتها عليه إلى جسده ، إذ التوبة من حق الآدمي لا تصح إلا بأحدهما وكلاهما متعذر على القاتل ، فكيف تصح توبته من حق آدمي لم يصل إليه ولم يستحله منه .
ويجاب عن هذا الاستدلال : بأن الله يوفي للقتيل حقه ويعوضه في الآخرة .
القول الثاني : أن توبته مقبولة .
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لعموم الآيات والأحاديث التي تدل على أن الله يقبل توبة التائبين .
قال تعالى : (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) .
وقوله سبحانه : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى) .
وقوله ( : ( إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ) . متفق عليه
وما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي ( قال : ( كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنساناً ، ثم خرج يسأل فأتى راهباً فسأله فقال له : هل من توبة ؟ قال : لا ، فقتله ، فجعل يسأل ، فقال له رجل : ائت قرية كذا وكذا ، فأدركه الموت فَنَاءَ بصدره نحوها ، فاختصمت الملائكة فيه ، ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فأوحى الله إلى هذه أن تقربي ، وأوحى الله إلى هذه أن تباعدي ، وقال : فقاسوا ما بينهما فوجدوا هذه أقرب بشبر فغفر له ) . متفق عليه(7/19)
قالوا : أن التوبة تصح من الكفر ، فمن قتل من باب أولى .
وهذا القول هو الصحيح .
لكن يبقى النظر في القتيل ، كيف يستوفى حقه ، يوجه ذلك ابن القيم ، ويقول : " التحقيق أن القتل يتعلق به ثلاثة حقوق :
حق الله ، وحق المقتول ، وحق الولي .
فإذا تاب القاتل من حق الله ، وسلم نفسه طوعاً إلى الوارث ليستوفي منه حق مورثه سقط عنه الحقان ، وبقي حق الموروث لا يضيعه الله ويجعل من تمام مغفرته للقاتل تعويض المقتول ، لأن مصيبته لم تنجبر بقتل قاتله ، والتوبة النصوح تهدم ما قبلها ، فيعوض هذا عن مظلمته ولا يعاقب هذا لكمال توبته ، وصار هذا كالكافر المحارب لله ولرسوله إذا قتل مسلماً في الصف الأول ثم أسلم وحسن إسلامه فإن الله سبحانه وتعالى يعوض هذا الشهيد المقتول ويعظم للكافر بإسلامه ولا يؤاخذه بقتل المسلم ظلماً ، فإن هدم التوبة لما قبلها كهدم الإسلام لما قبله " .
3- وقوله : ( النفس بالنفس ) فيه دليل على قتل الرجل بالرجل ، وكذلك قتل الرجل بالمرأة كعكسه .
قال في المغني : " هذا قول عامة أهل العلم " .
لعموم حديث الباب : ( النفس بالنفس ... ) .
ولقوله تعالى : (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ ... ) .
ولما ثبت في الصحيحين : ( أن يهودياً رضّ رأس جارية بين حجرين على أوضاح لها - أي حلي - فأخذ فاعترف فأمر رسول الله ( برض رأسه بين حجرين ) .
قال ابن القيم : " وفي هذا الحديث دليل على قتل الرجل بالمرأة " .
ويؤيده النظر في حكمة شرعية القصاص من حقن الدماء وحياة النفوس ، وترك القصاص بين الذكر والأنثى يفضي إلى النقيض من ذلك .
4- قوله : ( النفس بالنفس ) استدل به من قال بقتل الحر بالعبد .
وهذه مسألة اختلف فيها العلماء على قولين :
القول الأول : أن الحر لا يقتل بالعبد .
وهذا مذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة .(7/20)
لقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ) فمفهوم الآية أن الحر لا يقتل بالعبد .
ولقول علي : ( من السنة ألا يقتل حر بعبد ) . رواه الدار قطني ولا يصح
وعن ابن عباس أن النبي ( قال : ( لا يقتل حر بعبد ) . رواه الدار قطني ولا يصح
قالوا : ولأن العبد لا يكافئ الحر ، فإنه منقوص بالرق ، بدليل أن دية الحر كاملة ، أما دية العبد ففي قيمته .
القول الثاني : أن الحر يقتل بالعبد .
وهذا رأي النخعي وداود الظاهري .
واستدلوا بعمومات النصوص القاضية بأن النفس تقتل بالنفس ، مثل قوله تعالى : (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) وقوله ( : ( المؤمنون تتكافأ دماؤهم ) وقوله ( في الحديث :(النفس بالنفس) فهذه نصوص عامة في العبيد والأحرار .
ولحديث الحسن عن سمرة قال : قال رسول الله ( : ( ومن قتل عبده قتلناه ) . رواه الترمذي ، وهو حديث مختلف فيه بسبب : هل الحسن سمع من سمرة ؟
ولأن العبد آدمي معصوم فيقتل بالحر كقتل الحر بالحر .
وهذا القول هو الراجح ، واختاره الشيخ ابن عثيمين رحمه الله .
فائدة : ( أما العبد إذا قتل حراً فإنه يقتل بالإجماع ) .
5- قوله : ( النفس بالنفس ) استدل به من قال أن الوالد لو قتل ابنه فإنه يقتل .
وهذه المسألة اختلف العلماء فيها على قولين :
القول الأول : أن الوالد لا يقتل بولده .
وهذا مذهب الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة .
لحديث عمر قال : قال رسول الله ( : ( لا يقاد والد بولده ) . رواه الترمذي وصححه ابن الجارود والبيهقي .
قال ابن عبد البر : " هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق ، مستفيض عندهم يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد فيه " .
ولأنه سبب إيجاده فلا ينبغي أن يكون الولد سبب إعدامه .
القول الثاني : أن الوالد يقاد بولده مطلقاً .(7/21)
وهذا رأي ابن نافع وابن عبد الحكم وابن المنذر .
واستدلوا بعموم الأدلة من الكتاب والسنة الموجبة للقصاص .
كقوله تعالى : ( أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) .
وحديث الباب : ( ... النفس بالنفس ... ) .
القول الثالث : أن الوالد يقاد بولده إذا كان على وجه العمد المحض ، فيما إذا اضطجعه وذبحه ، وأما إذا قتله على وجه التأديب أو حذفه بالسيف ونحوه ، فلا يقتل به .
وهذا مذهب مالك .
والراجح مذهب الجمهور .
فائدة : يقتل الولد بوالده ، قال في المغني : " هذا قول عامة أهل العلم لعموم الأدلة على وجوب القصاص " .
6- اختلف العلماء : هل يقتل المسلم بالكافر ؟
لا خلاف في عدم جريان القصاص بين المسلم والكافر الحربي .
وإنما الخلاف في جريانه بين المسلم والكافر الذمي على قولين :
القول الأول : أن المسلم لا يقتل بالكافر .
وهذا مذهب الجمهور من الشافعية والمالكية والحنابلة .
لما روى البخاري عن أبي جحيفة قال : ( قلت لعلي : هل عندكم شيء من الوحي غير القرآن ؟ قال : لا ، والذي خلق الحبة ، وبرأ النسمة إلا فهماً يعطيه الله رجلاً من القرآن ، وما في هذه الصحيفة ، قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر ) .
قال الخطابي : " فيه البيان الواضح أن المسلم لا يقتل بأحد من الكفار ، كان المقتول منهم ذمياً أو معاهداً أو مستأمناً أو ما كان " .
ولحديث علي قال : قال رسول الله ( : ( المؤمنون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يدٍ على من سواهم ، ولا يقتل مسلم بكافر ) . رواه أحمد وأبو داود
القول الثاني : أنه يقتل المسلم بالذمي خاصة .
وهذا مذهب أبي حنيفة .
لحديث ابن عمر:(أن رسول الله ( قتل مسلماً بمعاهد ، وقال : أنا أكرم من وفّى بذمته) .رواه الدار قطني وهو حديث ضعيف
قالوا : ولأن الذمي معصوم الدم عصمة مؤبدة ، فيقتل به قاتله كالمسلم .(7/22)
ولأن المسلم يقطع إن سرق من مال الذمي ، فقتله بهما أولى ، لأن الدم أعظم حرمة من المال .
والراجح القول الأول .
لا خلاف بين أهل العلم أن الكافر يقتل بالمسلم ، لأن النبي ( قتل اليهودي الذي رض رأس جارية من الأنصار على أوضاح لها .
7- إذا قتل المسلم آخر عمداً ، فإنه لا بد من إقامة القصاص عليه ، بشروط :
الشرط الأول : أن يكون المقتول معصوماً ، كالمسلم .
فإن كان المقتول مهدر الدم ، كالحربي والمرتد ، فلا قصاص على القاتل .
الشرط الثاني : أن يكون القاتل مكلفاً .
فأما الصبي والمجنون فلا قصاص عليهما لا خلاف في ذلك ، قاله في الشرح .
لحديث عائشة قالت : قال رسول الله ( : ( رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يبلغ ، وعن المجنون حتى يفيق ... ) .
رواه انو داود
الشرط الثالث : المساواة بين القاتل والمقتول في الإسلام والحرية .
فلا يقتل مسلم بكافر ، ولا حر بعبد . [ وهذا مذهب الجمهور وسبقت المسألة ]
الشرط الرابع : عدم الولادة .
فلا يقتل الوالد بولده ، وسبقت المسألة .
8- شروط استيفاء القصاص :
يعني إذا ثبتت شروط القصاص السابقة ، وتقرر قتله ، فإنه لا يستوفى هذا القصاص إلا بشروط ثلاثة :
الشرط الأول : أن يكون مستحق القصاص - أي ولي الدم - مكلف ، أي بالغاً عاقلاً .
فإن كان ولي الدم صبياً أو مجنوناً ، لم يجز استيفاؤه .
لكن ما ذا يفعل بالقاتل ؟
قيل : يحبس حتى يبلغ الصبي ، ويفيق المجنون .
وهذا مذهب الشافعي وأحمد .
لأن معاوية حبس هُدبة بن خشرم في قصاص حتى بلغ ابن القتيل ، وكان ذلك بمحضر من الصحابة فلم ينكر فكان إجماعاً سكوتياً .
ولأن القصاص ثبت لما فيه من التشفي والانتقام ، ولا يحصل ذلك لمستحقه باستيفاء غيره .
وقيل : للأب استيفاء القصاص نيابة عن الصغير والمجنون .
وهذا مذهب الحنفية والمالكية .
قالوا : بأن القصاص أحد بدلي النفس ، فكان للأب استيفاؤه كالدية .
الشرط الثاني : اتفاق جميع الأولياء على الاستيفاء .(7/23)
فإذا عفا بعض المستحقين للقود سقط وكان حق الباقين في الدية .
فلو أن واحداً من الورثة لا يرث إلا واحداً بالألف أسقط القصاص وقال : أنا أريد الدية ، سقط القصاص ووجبت الدية.
لأنه لما سقط القصاص في حق هذا الرجل صار القصاص واجب في حق هذا الرجل [ القاتل ] إلا واحداً من ألف ، والقصاص لا يتبعض .
الشرط الثالث : أن يؤمن من الاستيفاء التعدي إلى غير قاتله .
قال في الشرح : " فلو وجب القصاص على حامل ، أو حملت بعد وجوبه ، لم تقتل حتى تضع الولد وتسقيه اللبن ، لا نعلم في ذلك خلافاً " .
ولأن قتل الحامل قتل لغير الحامل ، فيكون إسرافاً .
ولأن النبي ( قال للغامدية المقرة بالزنا : ارجعي حتى تضعي ما في بطنك ، ... ثم قال لها : ارجعي حتى تضعيه ) .
9- قتل العمد فيه :
الإثم العظيم - لا كفارة فيه - القصاص أو العفو أو الدية .
10- حديث الباب : ( أول ما يقضى بين الناس الدماء ) لا ينافي حديث : ( أول ما يحاسب عليه العبد من أعماله الصلاة ) .
لأن حديث الباب فيما بين العبد وبين غيره من الخلق ، وحديث : ( إن أول ما يحاسب عليه العبد ) بينه وبين الله .
11- أن المرتد عن الإسلام يقتل .
وهذا الحكم ثابت بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : ( وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) .
ولحديث الباب : ( التارك لدينه المفارق للجماعة ) .
ولحديث ابن عباس قال : قال رسول الله ( : ( من ترك دينه فاقتلوه ) . رواه البخاري
وقال ( : ( أيما رجل ارتد عن الإسلام فادْعه ، فإن تاب وإلا فاضرب عنقه ، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن عادت وإلا فاضرب عنقها ) . وسنده حسن كما قال الحافظ ابن حجر
والمرأة كالرجل في هذا الحكم :
وهذا مذهب جماهير العلماء .
لعموم الأدلة : ( من ترك دينه فاقتلوه ) .(7/24)
وحديث : ( التارك لدينه ) .
وللحديث السابق : ( أيما امرأة ارتدت ... ) .
وقال أبو حنيفة : " تجبر على الإسلام بالحبس والضرب ولا تقتل " .
والصحيح الأول .
لكن هل يستتاب المرتد ؟ اختلف العلماء على قولين :
القول الأول : يجب استتابته ، فإن تاب وإلا قتل .
قال ابن قدامة : " إنه لا يقتل حتى يستتاب ثلاثاً ، وهذا قول أكثر أهل العلم ، منهم : عمر وعلي وعطاء والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي ، وهو أحد قولي الشافعي .
وممن نقل أن وجوب الاستتابة هو مذهب الجمهور : ابن حجر في الفتح ، والصنعاني في سبل السلام .
القول الثاني : لا تجب الاستتابة وأنه يقتل في الحال .
وهذا قول الحسن البصري وطاووس وأهل الظاهر .
لظاهر قوله ( : ( من بدل دينه فاقتلوه ) .
والراجح أن ذلك يرجع إلى رأي الإمام .
شروط من يجب قتله في الردة بعد استتابته :
أولاٍ : أن يكون مختاراً .
لقوله تعالى : ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ) .
ثانياً : أن يكون مكلفاً ( عاقل بالغ ) .
لقول النبي ( : ( رفع القلم عن ثلاث : عن الصغير حتى يبلغ ، وعن المجنون حتى يعقل ) .
ثالثاً : أن يكون مريداً للكفر .
رابعاً : أن يكون عالماً بالحكم الشرعي .
خامساً : أن يكون هذا القول أو الفعل مكفر شرعي .
باب القسامة(7/25)
339 - عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ ( قَالَ : (( انْطَلَقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ إلَى خَيْبَرَ , وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ , فَتَفَرَّقَا , فَأَتَى مُحَيِّصَةُ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ - وَهُوَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ قَتِيلاً - فَدَفْنه , ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ , فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إلَى النَّبِيِّ ( فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ , فَقَالَ النَّبِيُّ ( : كَبِّرْ , كَبِّرْ - وَهُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ - فَسَكَتَ ، فَتَكَلَّمَا , فَقَالَ : أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ , أَوْ صَاحِبَكُمْ ؟ قَالُوا : وَكَيْفَ نَحْلِفُ , وَلَمْ نَشْهَدْ , وَلَمْ نَرَ ؟ قَالَ : فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِيناً قَالُوا : كَيْفَ بِأَيْمَانِ قَوْمِ كُفَّارٍ ؟ فَعَقَلَهُ النَّبِيُّ ( مِنْ عِنْدِهِ )) .
وَفِي حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ : (( فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ , فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ , قَالُوا : أَمْرٌ لَمْ نَشْهَدْهُ كَيْفَ نَحْلِفُ ؟ قَالُوا : فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , قَوْمٌ كُفَّارٌ )) .
وَفِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ : (( فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ ( أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ , فَوَدَاهُ بِمِائَةٍ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
انطلق عبد الله بن سهل ومسعود إلى خيبر : جاء في رواية في المسند : ( أتيا خيبر في حاجة لهما ) وللبخاري : ( وخيبر يومئذٍ صلح وأهلها يهود ) .(7/26)
فتفرقا : جاء في رواية : ( خرج عبد الله بن سهل في أصحاب له يمتارون تمراً ) ولمسلم : ( في زمن رسول الله ( وهي يومئذٍ صلح وأهلها يهود ) .
فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلاً : أي مضطرب فيتمرغ في دمه .
جاء في رواية : ( فإذا محيصة يجد عبد الله بن سهل قتيلاً فدفنه ) وفي رواية : ( فأخبر محيصة أن عبد الله قتل وطرح في مقبر) بفاء مفتوحة ثم قاف مكسورة ، أي حفرة .
وفي رواية : ( ووجدوا أحدهم قتيلاً ، وقالوا للذي وجد فيهم ، قد قتلتم صاحبنا ، قالوا : ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً ) وفي رواية : ( فأتى محيصة يهود فقال : أنتم والله قتلتموه ، قالوا : والله ما قتلناه ) .
فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة ووحويصة بن مسعود إلى النبي ( : جاء في رواية : ( فأتى أخو المقتول عبد الرحمن ومحيصة وحويصة فذكروا لرسول الله ( شأن عبد الله حيث قتل ) .
ذهب عبد الرحمن يتكلم فقال الرسول : كبر كبر وهو أحدث القوم : وعند مسلم : ( فبدأ عبد الرحمن يتكلم وكان أصغر القوم ) ولمسلم أيضاً : ( في أمر أخيه ) .
أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم : جاء في رواية للبخاري : ( فقال لهم : تأتون بالبينة على من قتله ؟ قالوا : ما لنا بينة ) .
كيف نأخذ بأيمان قوم كفار : جاء في رواية : ( لا نرضى بأيمان اليهود ) وفي رواية : ( ليسوا بمسلمين ) .
فعقله النبي ( : أي أعطى ديته ، جاء في رواية : ( فكره رسول الله ( أن يطل ) بضم أوله وفتح الطاء وتشديد اللام : أي يهدر ، وفي رواية : ( فوداه بمائة من إبل الصدقة ) .
الفوائد :(7/27)
1- الحديث أصل في مسألة القسامة ، وصفتها : أن يوجد قتيل بجراح غيره ولا يعرف قاتله ، ولا تقوم البينة على من قتله ، ويدَّعي أولياء المقتول على واحد أو جماعة قتله ، وتقوم القرائن على صدق الوليّ المدعِي ، إما بعداوة بين القتيل والمدعى عليه ، أو أن يوجد في داره قتيلاً ، أو يوجد أثاثه مع إنسان ، ونحو ذلك من القرائن ، فيحلف المدّعي خمسين يميناً ويستحق دم القاتل .
فإن نكل حلف المدّعَى عليه خمسين يميناً وبرئ ، وإن نكل مضى عليه بالنكول .
فالقسامة تعريفها :
هي أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم .
والأصل في مشروعيتها السنة لحديث الباب .
ولها شروط :
أولاً : أجمعها وجود اللوث ، وهو العداوة الظاهرة بين القتيل والمتهم بقتله ، كالقبائل التي يطلب بعضها بعضاً بالثأر ، وكل من بينه وبين المقتول ضغن يغلب على الظن أنه قتله من أجله ، فللأولياء حينئذٍ أن يقسموا على القاتل إذا غلب على ظنهم أنه قتله ، وإن كانوا غائبين .
كما وقع في حديث الباب ، فإنه من المعلوم أن بين الأنصار واليهود عداوة .
ثانياً : إمكان القتل من المدعى عليه ، فإن لم يمكن منه القتل لبعده عن مكان الحادث وقت وقوعه لم تسمع الدعوى عليه .
صفة القسامة :
إذا توفرت شروط إقامتها ، يبدأ بالمدعين ، فيحلفون خمسين يميناً توزع على قدر إرثهم من القتيل ، أن فلاناً هو الذي قتله ، ويكون ذلك بحضور المدّعَى عليه ، فإن أبى الورثة أن يحلفوا أو امتنعوا من تكميل الخمسين يميناً ، فإنه يحلف المدّعَى عليه خمسين يميناً إذا رضي المدّعُون بأيمانه ، فإذا حلف برئ ، وإن لم يرض المدعون بتحليف المدّعَى عليه ، فدى الإمام القتيل بالدية من بيت المال ، لأن الأنصار لما امتنعوا من قبول أيمان اليهود ، فدى النبي ( القتيل من بيت المال ، ولأنه لم يبق سبيل لإثبات الدم على المدّعَى عليه ، فوجب الغرم من بيت المال ، لئلا يضيع دم المعصوم هدراً بلا مبرر لإهداره .(7/28)
2- أنه يجري القصاص في باب القسامة ، لقوله ( : ( تستحقون دم صاحبكم ) .
فإذا وجد القتيل المجهول القاتل ، ووجدت القرائن على قاتله ، وحلف أولياء المقتول خمسين يميناً على صحة دعواهم ، فإنهم يستحقون دم المدَّعى عليه إذا كان القتل عمداً محضاً .
قال في المغني : " إن الأولياء إذا حلفوا استحقوا القَوَد إذا كانت الدعوى عمداً " .
روي ذلك عن ابن الزبير وعن عمر بن عبد العزيز ، وبه قال مالك ، وأبو ثور ، وابن المنذر .
لقوله ( : ( يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته ) .
وفي رواية لمسلم : ( فيُسَلّم إليكم ) .
وفي لفظ : ( وتستحقون دم صاحبكم ) فأراد دم القاتل ، لأن دم القتيل ثابت لهم قبل اليمين .
والرمة : الحبل الذي يربط به عليه القود .
وذهب بعض العلماء إلى أنهم لا يستحقون إلا الدية .
لقوله ( : ( إما أن يَدُوا صاحبكم ، وإما أن يُؤْذَنُوا بحرب ) .
3- إذا لم يحلف المدعون ولم يرضوا بيمين المدعَى عليه ، فداه الإمام من بيت المال .
كما في حديث الباب ، فإن النبي ( فداه من بيت المال , ففي قصة حديث الباب ، لم يرض المدعون بيمين اليهود .
4- فإن لم يحلف المدعون ، حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرئ .
قال في المغني : " هذا ظاهر المذهب ، وبه قال يحي وسعيد الأنصاري وربيعة وأبو الزناد ومالك والليث والشافعي وأبو ثور " .
لقوله ( : ( فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم ) أي يتبرؤون منكم .
وفي لفظ : ( فيحلفون خمسين يميناً ويبرؤون من دمه ) .
5- الصحابة في الحديث لم يحلفوا تورعاً ، ولذلك لما قال لهم الرسول ( : ( أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم ؟
قالوا : وكيف نحلف ولم نر ولم نشهد ) .
6- أنه إذا قتل شخص ولم يعلم عين قاتله وليس هناك عداوة توجب التهمة ، فإنه لا قسامة .
7- أن مرجع الصحابة في الأحكام إلى رسول الله ( .
8- استحباب تقديم الأكبر سناً في الأمور .(7/29)
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " هذا إذا تساوى الشخصان في البيان والتعريف ، وأما إذا كان الكبير لا يكاد يبين ، فإنه يقدم الصغير عند الحكومة والخصومة ، لأنه إذا تكلم الكبير وهو لا يكاد يبين ضاع الحق " .
9- الاعتذار بحلف الخصم وإن كان كافراً ، لقوله ( : ( فتحلف لكم يهود ... ) .
340 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ( : (( أَنَّ جَارِيَةً وُجِدَ رَأْسُهَا مَرْضُوضاً بَيْنَ حَجَرَيْنِ , فَقِيلَ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِك : فُلانٌ , فُلانٌ ؟ حَتَّى ذُكِرَ يَهُودِيٌّ , فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا , فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَاعْتَرَفَ , فَأَمَرَ النَّبِيُّ ( أَنْ يُرَضَّ رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ )) .
وَلِمُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيَّ عَنْ أَنَسٍ ( (( أَنَّ يَهُودِيّاً قَتَلَ جَارِيَةً عَلَى أَوْضَاحٍ , فَأَقَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ ( )) .
-----------------------------------------
معاني الكلمات :
يهودياً : قال الحافظ : " لم أقف على اسمه " .
مرضوضاً : أي مدقوقاً .
جارية : يحتمل أن تكون أَمَة ، ويحتمل أن تكون حرة لكن دون البلوغ ، وقد جاء في رواية للبخاري : ( خرجت جارية عليها أوضاح بالمدينة ، فرماها يهودي بحجر ) .
على أوضاح : أي بسبب أوضاح ، قال أبو عبيد : " هي حلي الفضة " .
فقيل من فعل هذا : جاء في رواية بيان الذي خاطبها بذلك في رواية أخرى : ( فقال لها رسول الله ( : فلان قتلك ) وعند مسلم : ( فدخل عليها رسول الله ( فقال لها : من قتلك ) .
فأومأت برأسها : أي أشارة برأسها ، وقد جاء في رواية : ( فأشارت أن نعم ) .
فاعترف : أي أقرّ ، وجاء في رواية : ( فجيء به فلم يعترف ، فلم يزل به حتى اعترف ) .
الفوائد :
1- أن الإقرار يعتبر من الأدلة التي يثبت بها القتل ، والإقرار من أقوى الأدلة الشرعية .
وهو : اعتراف الإنسان بما عليه من حقوق مالية أو غيرها .(7/30)
والسبب أنه من أقوى الأدلة الشرعية : أن الإنسان في الإقرار شاهد على نفسه ، فليس هناك أصدق من شهادة الإنسان على نفسه .
ولذلك قيل : الاعتراف سيد الأدلة .
والإقرار له شروط :
- أن يكون مكلف [ بالغ عاقل ] .
فالمجنون لا يصح إقراره ، لأنه لا حكم لقوله ، وكذلك الصغير لا يصح إقراره ، لأنه غير مكلف .
- أن يكون مختاراً ، فلا يصح من مكره .
فلا بد أن يكون المقر مختاراً بالإقرار .
لقوله تعالى : ( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ) .
ولأن الله رفع حكم الكفر عن المكره ، لقوله : ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ) فكذلك نفوذ تصرفه مرفوع عنه ، لأنه مكره .
2- أن الرجل يقتل بالمرأة ، فلو أن رجلاً قتل امرأة فإنه يقتل [ وسبقت المسألة ] .
3- استدل بالحديث من قال أنه يفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه .
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة [ وهي كيفية قتل القاتل ] :
القول الأول : لا قود إلا بالسيف .
وهذا مذهب أبي جنيفة ، والمشهور من مذهب الحنابلة .
لحديث أبي بكرة قال : قال رسول الله ( : ( لا قود إلا بالسيف ) .
قال الحافظ : " وهو ضعيف أخرجه البزار وابن عدي " .
وقال ابن عدي : " طرقه كلها ضعيفة " .
ولأن القصد من القصاص في النفس تعطيل وإتلاف الجملة ، وقد أمكن هذا بضرب العنق .
القول الثاني : أنه يفعل بالجاني مثل ما فعل ، فإن قتله بحجر ، أو أغرقه ، فعل به مثل فعله .
لقوله تعالى : (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) .
وقوله سبحانه : (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ) .
فبين سبحانه وتعالى أن العقاب يكون بالمثل ، والمثل هو العدل ، فيكون القصاص من القاتل بمثل ما قتل به عقوبة المثل ، وهذا عين العدل .(7/31)
قال ابن القيم : " في هذا الحديث دليل على أن الجاني يُفْعَل به كما فَعل " .
وهذا القول هو الصحيح أنه يفعل بالجاني كما فعل .
قال ابن القيم : " أصح الأقوال أنه يفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه ، ما لم يكن محرماً له لحق الله تعالى ، كالقتل باللواطة ، وتجريع الخمر ونحوه ، فيُحرق كما حرق ، ويلقى من شاهق كما فعل ، ويُخنق كما خنق ، لأن هذا أقرب إلى العدل وحصول مسمى القصاص ، وإدراك الثأر والتشفي والزجر المطلوب من القصاص " .
لكن اختلفوا في التحريق : هل يحرق كما حرق ؟
فقيل : لا يحرق ، لأن التحريق محرم لحق الله تعالى .
لحديث ابن عباس قال : قال رسول الله ( : ( لا يعذب بالنار إلا رب النار ) .
وقيل : يحرق .
وهذا مذهب الشافعي .
؛؛ والله أعلم ؛؛
4- مشروعية القصاص [ وسبقت مباحثه وحكمته ] .
5- أن المقتول إذا وجد في آخر رمقه فأخبر بمن قتله ، فإن هذا يعتبر من القرائن ، فيؤخذ المتهم فيسأل ويقرر ويضبط عليه .
6- أن أهل الكتاب إذا كانوا في بلاد المسلمين فإنه يحكم لهم بحكم الإسلام ، لا بشريعتهم ، لأن الرسول ( حكم هذا اليهودي ، وهذا الحكم من حكم الله .
7- في هذا الحديث أن النبي ( قضى على اليهودي بالقتل لأنه يعتبر قتل عمداً ، حيث ضربها بحجر كبير ، والحجر الكبير يعتبر من القتل العمد .
مباحث قتل العمد :
تعريفه : أن يقصد من يعلمه آدمياً معصوماً فيقتله بما يغلب على الظن موته به .
وهذا ما عليه الجمهور .
وخالف أبو حنيفة ، فالقتل العمد عنده من تعمد ضربه بمحدد كالسيف أو مدبب كالرمح ونحوه .
والراجح مذهب الجمهور ، لتضافر الأدلة الشرعية عليه ، ومن أصرحها حديث الباب ، فاليهودي قتل الجارية بحجر ، فقتله رسول الله ( بين حجرين .
وجه الاستدلال من هذا الحديث : حيث أقيد اليهودي بقتل امرأة بحجر ، والحجر ليس محدداً ولا آدمياً .(7/32)
( أن يقصد ) خرج بذلك الخطأ ، فإن الجاني لم يقصد القتل . ( آدمياً ) خرج بذلك الحيوان . ( معصوماً ) خرج بذلك غير المعصوم .
( بما يغلب على الظن موته ) خرج بذلك شبه العمد ، فإن الأداة المستخدمة فيه لا تقتل غالباً . [ وسيأتي مبحث شبه العمد في حديث قادم إن شاء الله ] .
بعض صور قتل العمد :
* القتل بمحدد .
والمحدد كل ماله موْر في البدن ، أي نفوذ وتفريق للأجزاء سواء أكان من الحديد أو النحاس أو الزجاج .
فالقتل بهذه الأدوات من القتل العمد باتفاق الفقهاء ، ولا خلاف بين أهل العلم على أنه إذا أحدث جرحاً كبيراً بهذه الأدوات فمات به ، فهو قتل عمد .
* القتل بمُثَقَّل .
المثقل : هو ما يقتل لثقله وأثره على الجسد ، لا لنفوذه ، مثل إلقاء صخرة كبيرة ، أو الضرب بعصا كبيرة ، أو الدعس بالسيارة .
فإن النبي ( رضّ رأس اليهودي الذي قتل جارية برض رأسها ، فهذا يدل على أن فعل هذا اليهودي بالجارية يعتبر قتل عمد .
* الإلقاء في هلكة .
مثل أن يلقيه في مهلكة يغلب على الظن موته بها ، مثل : أن يلقيه في زريبة أسد أو حجر أو في مسبغة ، أو يجمع بينه وبين حية في مكان ضيق .
* التغريق والتحريق .
كأن يلقيه في نار أو ماء ولا يمكن التخلص منه ، إما لكثرة الماء أو النار .
* الخنق .
والمقصود أن يمنع خروج نفسه بأي وسيلة كان ، مثل : أن يجعل في عنقه مشنقة ثم يعلقه في خشبة أو في شيء بحيث يرتفع عن الأرض فيختنق ويموت .
* حبسه ومنع الطعام والشراب عنه .
ويشترط لهذه الصورة شرطان :
الأول : أن يحبسه مدة يموت فيها غالباً ، وهذه المدة تختلف باختلاف الناس والزمان والأحوال .
الثاني : أن لا يستطيع المحبوس الاستغاثة أو الطلب ، فإن كان قادراً على الاستغاثة والطلب فلم يفعل حتى مات ، فدمه
هدر .
* القتل بالسم .
كأن يسقيه سماً إكراهاً ، أو يطعمه شيئاً قاتلاً فيموت به ، فهو عمد موجب للقود إذا كان مثله يقتل غالباً .(7/33)