في النار يقال بالفارسي يروانه (فأنا آخِذٌ) قَالَ النَّوَوِيُّ يُرْوَى عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا اسم فاعل بكسر الخاء وتنوين الدار وَالثَّانِي فِعْلٌ مُضَارِعٌ بِضَمِّ الْخَاءِ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَهُمَا صَحِيحَانِ (بِحُجُزِكُمْ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ بَعْدَهَا زَايٌ جَمْعُ الْحُجْزَةِ وَهِيَ مَعْقِدُ الْإِزَارِ وَمِنَ السَّرَاوِيلِ مَوْضِعُ التِّكَّةِ
قَالَ الْأَبْهَرِيُّ وَيَجُوزُ ضَمُّ الْجِيمِ فِي الْجَمْعِ (وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيهَا) من باب التفعل بحذف إحدى التائين أَيْ تَدْخُلُونَ فِيهَا بِشِدَّةٍ وَمُزَاحَمَةٍ
قِيلَ التَّقَحُّمُ هُوَ الدُّخُولُ فِي الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَيُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْهَلَاكِ وَإِلْقَاءِ النَّفْسِ فِي الْهَلَاكِ
وَقَالَ الطِّيبِيُّ التَّقَحُّمُ الْإِقْدَامُ وَالْوُقُوعُ فِي أَمْرٍ شَاقٍّ
قَالَ النَّوَوِيُّ وَمَقْصُودُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَّهَ تَسَاقُطَ الْجَاهِلِينَ وَالْمُخَالِفِينَ بِمَعَاصِيهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ فِي نَارِ الْآخِرَةِ وَحِرْصَهُمْ عَلَى الْوُقُوعِ فِي ذَلِكَ مَعَ مَنْعِهِ إِيَّاهُمْ وَقَبْضِهِ عَلَى مَوَاضِعِ الْمَنْعِ مِنْهُمْ بِتَسَاقُطِ الْفَرَاشِ فِي نَارِ الدُّنْيَا لِهَوَاهُ وَضَعْفِ تَمْيِيزِهِ فَكِلَاهُمَا حَرِيصٌ عَلَى هَلَاكِ نَفْسِهِ سَاعٍ فِي ذَلِكَ لِجَهْلِهِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ
قَوْلُهُ (إِنَّمَا أَجَلُكُمْ) قَالَ الطِّيبِيُّ الْأَجَلُ الْمُدَّةُ الْمَضْرُوبَةُ لِلشَّيْءِ قَالَ تَعَالَى وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَيُقَالُ لِلْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ لِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ أَجَلٌ فَيُقَالُ دنا أجله وهو عبارة من دُنُوِّ الْمَوْتِ وَأَصْلُهُ اسْتِيفَاءُ الْأَجَلِ أَيْ مُدَّةِ الْحَيَاةِ وَالْمَعْنَى مَا أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ مَضَى مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ إِلَّا مِقْدَارُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى صَلَاةِ الْمَغْرِبِ مِنَ الزَّمَانِ (فِيمَا خَلَا مِنَ الْأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغَارِبِ الشَّمْسِ) وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ قَالَ الْحَافِظُ ظَاهِرُهُ أَنَّ بَقَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَقَعَ فِي زَمَانِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ الْمُرَادَ قَطْعًا وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ نِسْبَةَ مُدَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى مُدَّةِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ مِثْلُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَغُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى بَقِيَّةِ النَّهَارِ فَكَأَنَّهُ قَالَ إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا سَلَفَ إِلَى آخِرِهِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ فِي بِمَعْنَى إِلَى وَحَذَفَ الْمُضَافَ وَهُوَ لَفْظُ نِسْبَةٍ (وَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى) أَيْ مَعَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا) بِضَمٍّ فَتَشْدِيدٍ جَمْعُ عَامِلٍ(8/142)
أَيْ طَلَبَ مِنْهُمِ الْعَمَلَ (فَقَالَ) أَيْ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ (مَنْ يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ) وَهُوَ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى زَوَالِهَا فَالْمُرَادُ بِالنَّهَارِ الْعُرْفِيُّ لِأَنَّهُ عَرَفَ عَمَلَ الْعُمَّالِ (عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ) أَيْ نِصْفِ دَانِقٍ عَلَى مَا فِي الصِّحَاحِ وَقِيلَ الْقِيرَاطُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الدِّينَارِ وَهُوَ نِصْفُ عُشْرِهِ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ وَالْيَاءُ فِيهِ بَدَلٌ مِنَ الرَّاءِ كَمَا أَنَّهَا بَدَلٌ مِنَ النُّونِ فِي الدِّينَارِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ جَمْعُهُمَا عَلَى دَنَانِيرَ وَقَرَارِيطَ وَكَرَّرَ قِيرَاطٍ الدلالة عَلَى أَنَّ الْأَجْرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قِيرَاطٌ لَا أَنَّ مَجْمُوعَ الطَّائِفَةِ قِيرَاطٌ (ثُمَّ قَالَ) أَيِ الرَّجُلُ الْمُسْتَعْمِلُ لِلْعُمَّالِ (فَغَضِبَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً) أَيْ قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ رَبَّنَا أَعْطَيْتَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ثَوَابًا كَثِيرًا مَعَ قِلَّةِ أَعْمَالِهِمْ
وَأَعْطَيْتنَا ثَوَابًا قَلِيلًا مَعَ كَثْرَةِ أَعْمَالِنَا وَلَعَلَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ يوم القيامة وقد حكي عن النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِ ذَلِكَ أَوْ صَدَرَ عَنْهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ لَمَّا اطَّلَعُوا عَلَى فَضَائِلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي كُتُبِهِمْ أَوْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِمْ وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ لِلْأَعْمَالِ لَيْسَ عَلَى قَدْرِ التَّعَبِ وَلَا عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْقَاقِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى مَوْلَاهُ لِخِدْمَتِهِ أُجْرَةً بَلِ الْمَوْلَى يُعْطِيه مِنْ فَضْلِهِ وَلَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنَ الْعَبِيدِ عَلَى وَجْهِ الْمَزِيدِ
فَإِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ
قَالَ الطِّيبِيُّ لَعَلَّ هَذَا تَخْيِيلٌ وَتَصْوِيرٌ لَا أَنَّ ثَمَّةَ مُقَاوَلَةً وَمُكَالَمَةً حَقِيقِيَّةً اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى حُصُولِهَا عِنْدَ إِخْرَاجِ الذَّرِّ فَيَكُونُ حَقِيقَةً انْتَهَى كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ (فَقَالَ هَلْ ظَلَمْتُكُمْ) أَيْ هَلْ نَقَصْتُكُمْ (شَيْئًا) مَفْعُولٌ بِهِ أَوْ مُطْلَقٌ (قَالُوا) أَيْ أَهْلُ الْكِتَابِ (فَإِنَّهُ) أَيِ الشَّأْنَ (فَضْلِي) أَيْ عَطَائِي الزَّائِدُ (أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ) أَوِ التَّقْدِيرُ فَإِنَّ الْعَطَاءَ الْكَثِيرَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ بِالسِّيَاقِ فَضْلِي
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إن أوله الْعَصْرِ بِصَيْرُورَةِ ظِلِّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْعَصْرِ جَوَابُهُمْ وُجُوهٍ مُفَصَّلًا
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ(8/143)
44 - (كِتَاب فَضَائِلِ الْقُرْآنِ)
(بَاب مَا جَاءَ فِي فَضْلِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ)
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم خَرَجَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ إِلَخْ) وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ كُنْتَ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَخْ
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ جَمَعَ الْبَيْهَقِيُّ بِأَنَّ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَلِأَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ وَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَى ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ مَخْرَجِ الْحَدِيثَيْنِ وَاخْتِلَافِ سِيَاقِهِمَا (وَالْتَفَتَ أُبَيٌّ فَلَمْ يُجِبْهُ) أَيْ لَمْ يَأْتِهِ وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى فَلَمْ آتِهِ حَتَّى صَلَّيْتُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ (أَفَلَمْ تَجِدْ فِيمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ أَنْ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يحييكم) أَيْ إِلَى مَا يُحْيِيكُمْ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ
قَالَ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ إِجَابَةَ الرَّسُولِ لَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ كَمَا أَنَّ خِطَابَهُ بِقَوْلِكَ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ لَا تَقْطَعُهَا قال الحافظ في الفتح فيه بحث لاحتماله أَنْ تَكُونَ إِجَابَتُهُ وَاجِبَةً مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ الْمُخَاطَبُ مُصَلِّيًا أَوْ غَيْرَ مُصَلٍّ أَمَّا كَوْنُهُ(8/144)
يَخْرُجُ بِالْإِجَابَةِ مِنَ الصَّلَاةِ أَوْ لَا يَخْرُجُ فليس في الْحَدِيثِ مَا يَسْتَلْزِمُهُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ الْإِجَابَةُ وَلَوْ خَرَجَ الْمُصَلِّي مِنَ الصَّلَاةِ وَإِلَى ذَلِكَ جَنَحَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ انْتَهَى (وَلَا فِي الْقُرْآنِ) أَيْ فِي بَقِيَّةِ الْقُرْآنِ (مِثْلُهَا) أَيْ سُورَةٌ مِثْلُهَا (كَيْفَ تَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ قَالَ فَقَرَأَ أُمَّ الْقُرْآنِ) يَعْنِي الْفَاتِحَةَ وَسُمِّيَتْ بِهَا لِاحْتِوَائِهَا وَاشْتِمَالِهَا عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ إِجْمَالًا أَوِ الْمُرَادُ بِالْأُمِّ الْأَصْلُ فَهِيَ أَصْلُ قَوَاعِدِ الْقُرْآنِ وَيَدُورُ عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْإِيمَانِ
قَالَ الطِّيبِيُّ فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ طَابَقَ هَذَا جَوَابًا عَنِ السُّؤَالِ بِقَوْلِهِ كَيْفَ تَقْرَأُ لِأَنَّهُ سُؤَالٌ عَنْ حَالَةِ الْقِرَاءَةِ لَا نَفْسِهَا قُلْتُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَدَّرَ فَقَرَأَ أُمَّ الْقُرْآنِ مُرَتِّلًا وَمُجَوِّدًا وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَأَلَ عَنْ حَالِ مَا يقرأه فِي الصَّلَاةِ أَهِيَ سُورَةٌ جَامِعَةٌ حَاوِيَةٌ لِمَعَانِي القرآن أم لا فلذلك بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَخَصَّهَا بِالذَّكَرِ أَيْ هِيَ جَامِعَةٌ لِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَأَصْلٌ لَهَا (وَإِنَّهَا سَبْعٌ مِنَ الْمَثَانِي) يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ بَيَانِيَّةً أَوْ تَبْعِيضِيَّةً وَفِي هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تعالى ولقد آتيناك سبعا من المثاني هِيَ الْفَاتِحَةُ وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عن بن عَبَّاسٍ أَنَّ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ هِيَ السَّبْعُ الطِّوَالُ أَيِ السُّوَرُ مِنْ أَوَّلِ الْبَقَرَةِ إِلَى آخِرِ الْأَعْرَافِ ثُمَّ بَرَاءَةٌ وَقِيلَ يُونُسَ وَعَلَى الْأَوَّلِ فَالْمُرَادُ بِالسَّبْعِ الْآيُ لِأَنَّ الْفَاتِحَةَ سَبْعُ آيَاتٍ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَاخْتُلِفَ فِي تسميتها مثاني فقيل فَقِيلَ لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ أَيْ تُعَادُ وَقِيلَ لِأَنَّهَا يُثْنَى بِهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ لِأَنَّهَا اسْتُثْنِيَتْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ لَمْ تَنْزِلْ عَلَى مَنْ قَبْلَهَا وَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحِجْرِ (وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُهُ) قِيلَ هُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ لِلْمُبَالَغَةِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْفَاتِحَةَ هِيَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ وَأَنَّ الْوَاوَ لَيْسَتْ بِالْعَاطِفَةِ الَّتِي تَفْصِلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَإِنَّمَا هِيَ الَّتِي تَجِيءُ بِمَعْنَى التَّفْصِيلِ كقوله تعالى فاكهة ونخل ورمان وقوله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل انْتَهَى
قَالَ الْحَافِظُ وَفِيهِ بَحْثٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ مَحْذُوفَ الْخَبَرِ وَالتَّقْدِيرُ مَا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ مَثَلًا فَيَكُونُ وَصْفُ الْفَاتِحَةِ انْتَهَى بِقَوْلِهِ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي ثُمَّ عَطَفَ قَوْلَهُ وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ أَيْ مَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ وَذَكَرَ ذَلِكَ رِعَايَةً لِنَظْمِ الْآيَةِ وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ هُوَ الَّذِي أُوتِيته زِيَادَةً على الفاتحة
ث قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ مِنْ قَوْلِهِ مَا أُنْزِلَتْ وَلَمْ يَذْكُرْ أُبَيَّ بن(8/145)
كَعْبٍ
كَذَا فِي الْمِشْكَاةِ وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي الترغيب ورواه بن خزيمة وبن حبان في صحيحهما وَالْحَاكِمُ بِاخْتِصَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أُبَيٍّ وَقَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ أَنَسٍ) أَخْرَجَهُ بن حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ
وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَفِيهِ أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَفْضَلِ الْقُرْآنِ قَالَ بَلَى فَتَلَا (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
(باب ما جاء في سورة البقرة وآية الكرسي)
قَوْلُهُ (لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ) أَيْ خَالِيَةً عَنِ الذِّكْرِ وَالطَّاعَةِ فَتَكُونُ كَالْمَقَابِرِ وَتَكُونُونَ كَالْمَوْتَى فِيهَا أَوْ مَعْنَاهُ لَا تَدْفِنُوا مَوْتَاكُمْ فِيهَا وَيَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ قَوْلُهُ (وَإِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي تُقْرَأُ الْبَقَرَةُ فِيهِ لَا يَدْخُلُهُ الشَّيْطَانُ) وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي يُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ
وَفِي حديث سهل بن سعد عند بن حِبَّانَ مَنْ قَرَأَهَا يَعْنِيَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَيْلًا لَمْ يَدْخُلِ الشَّيْطَانُ بَيْتَهُ ثَلَاثَ لَيَالٍ وَمِنْ قَرَأَهَا نَهَارًا لَمْ يَدْخُلِ الشَّيْطَانُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَخَصَّ سُورَةَ الْبَقَرَةِ بِذَلِكَ لِطُولِهَا وَكَثْرَةِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَحْكَامِ فِيهَا وَقَدْ قِيلَ فِيهَا أَلْفُ أَمْرٍ وَأَلْفُ نَهْيٍ وَأَلْفُ حُكْمٍ وَأَلْفُ خَبَرٍ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
قَوْلُهُ (لِكُلِّ شَيْءٍ سَنَامٌ) بِفَتْحِ السِّينِ أَيْ رِفْعَةٌ وَعُلُوٌّ اسْتُعِيرَ مِنْ سَنَامِ الْجَمَلِ ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهَا حَتَّى صَارَ مَثَلًا وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْبَقَرَةُ سَنَامَ الْقُرْآنِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ(8/146)
وَقَالَ الْجَزَرِيُّ فِي النِّهَايَةِ سَنَامُ كُلِّ شَيْءٍ أَعْلَاهُ وَفِي شِعْرِ حَسَّانَ وَإِنَّ سَنَامَ الْمَجْدِ مِنْ آلِ هَاشِمٍ بَنُو بِنْتِ مَخْزُومٍ وَوَالِدُكَ الْعَبْدُ أَيْ أَعْلَى الْمَجْدِ (وَإِنَّ سَنَامَ الْقُرْآنِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ) إِمَّا لِطُولِهَا وَاحْتِوَائِهَا عَلَى أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ أَوْ لِمَا فِيهَا مِنَ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ وَبِهِ الرِّفْعَةُ الْكَبِيرَةُ (هِيَ سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ) جَمْعُ آيَةٍ (آيَةُ الْكُرْسِيِّ) بِالرَّفْعِ أَيْ هِيَ آيَةُ الْكُرْسِيِّ وَفِيهِ إِثْبَاتُ السِّيَادَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَذَلِكَ شَرَفٌ عَظِيمٌ فَإِنَّ سَيِّدَ الْقَوْمِ لَا يَكُونُ إِلَّا أَشْرَفَهُمْ خِصَالًا وَأَكْمَلَهُمْ حَالًا وَأَكْثَرَهُمْ جَلَالًا
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ حكيم بن جبير) وأخرجه بن حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ وَلَفْظُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ فِيهَا آيَةٌ سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ لَا تُقْرَأُ فِي بَيْتٍ وَفِيهِ شَيْطَانٌ إِلَّا خَرَجَ مِنْهُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ (وَقَدْ تَكَلَّمَ فيه شعبة وضعفه) وأيضا ضعفه أحمد وبن مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُمْ وَقَالَ الْحَافِظُ فِي التَّقْرِيبِ ضَعِيفٌ رُمِيَ بِالتَّشَيُّعِ
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الْمُغِيرَةِ أَبُو سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيُّ الْمَدِينِيُّ) قَالَ الْحَافِظُ صَدُوقٌ رَوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ وَآخَرِينَ وَعَنْهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُمَا
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ صَدُوقٌ ثِقَةٌ وذكره بن حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ ومائتين (أخبرنا بن أَبِي فُدَيْكٍ) اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُلَيْكِيِّ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ هُوَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ الْمَدَنِيُّ ضَعِيفٌ (عَنْ زُرَارَةَ) بِضَمِّ الزَّايِ وَفَتْحِ الرَّاءِ (بْنِ مُصْعَبٍ) بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ الْمَدَنِيُّ ثِقَةٌ مِنْ أَوْسَاطِ التَّابِعِينَ
قَوْلُهُ (مَنْ قَرَأَ حم الْمُؤْمِنُ) أَيْ مَنْ قَرَأَ سُورَةَ حم الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْمُؤْمِنُ (إِلَى إِلَيْهِ المصير) يَعْنِي حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ المصير (وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ) الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ فَيَجُوزُ تَقْدِيمُهَا وَتَأْخِيرُهَا وَيَدُلُّ عَلَى(8/147)
ذَلِكَ تَقْدِيمُ آيَةِ الْكُرْسِيِّ فِي الْحِصْنِ قَالَهُ القارىء (حِينَ يُصْبِحُ) أَيْ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ أَوْ بَعْدَهَا وَهُوَ ظَرْفُ يَقْرَأُ (حُفِظَ بِهِمَا) أَيْ بِقِرَاءَتِهِمَا وَبَرَكَتِهِمَا (حَتَّى يُمْسِيَ) أَيْ يَدْخُلَ اللَّيْلُ لِأَنَّ الْإِمْسَاءَ ضِدُّ الْإِصْبَاحِ كَمَا أَنَّ الْمَسَاءَ ضِدُّ الصَّبَاحِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ وَالصِّحَاحِ
قوله (هذا حديث غريب) وأخرجه الدارمي
باب قوله (أخبرنا سفيان) هو الثوري (عن بن أَبِي لَيْلَى) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى الْأَنْصَارِيُّ الْكُوفِيُّ الْقَاضِي أَبُو عبد الرحمن صدوق سيىء الْحِفْظِ جِدًّا (عَنْ أَخِيهِ) هُوَ عِيسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى الْأَنْصَارِيُّ الْكُوفِيِّ ثِقَةٌ (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى) الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ ثُمَّ الْكُوفِيِّ ثِقَةٌ مِنَ كِبَارِ التابعين
فائدة بن أَبِي لَيْلَى إِذَا أُطْلِقَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ فَالْمُرَادُ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَسَارٍ الْكُوفِيُّ وَإِذَا أُطْلِقَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ فَالْمُرَادُ بِهِ أَبُوهُ كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ لابن الأثير الجزري
فائدة أخرى يطلق بن أَبِي لَيْلَى عَلَى أَرْبَعَةِ رِجَالٍ
الْأَوَّلُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى الْكُوفِيُّ الْقَاضِي الْمَذْكُورُ وَكَانَ قَاضِيَ الْكُوفَةِ مَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ وَكَانَ عَلَى الْقَضَاءِ وَجَعَلَ أبو جعفر المنصور بن أخيه مكانه ذكره بن قُتَيْبَةَ وَفِي طَبَقَاتِ الْقُرَّاءِ لِلذَّهَبِيِّ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَاضِي الْكُوفَةِ قَرَأَ عَلَى أَخِيهِ عِيسَى وَغَيْرِهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِ حَمْزَةُ الزَّيَّاتُ وَهُوَ حَسَنُ الْحَدِيثِ كَبِيرُ الْقَدْرِ مِنْ نُظَرَاءِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفِقْهِ يُكَنَّى أبا عبد الرحمن وفي الكاشف الذهبي بن أَبِي لَيْلَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَن الْأَنْصَارِيُّ الْقَاضِي عَنِ الشَّعْبِيِّ وَخَلْقٍ وَعَنْهُ شُعْبَةُ وَوَكِيعٌ وَأَبُو نعيم وخلق
قال أحمد سيىء الْحِفْظِ انْتَهَى
وَالثَّانِي أَخُوهُ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى الْمَذْكُورُ
والثالث بن أخيه أعني بن عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ(8/148)
وَالرَّابِعُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى الْمَذْكُورُ
أَعْنِي وَالِدَ مُحَمَّدٍ وَعِيسَى الْمَذْكُورَيْنِ
قَوْلُهُ (أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ سَهْوَةٌ) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي التَّرْغِيبِ السَّهْوَةُ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ هِيَ الطَّاقُ فِي الْحَائِطِ يُوضَعُ فِيهَا الشَّيْءُ وَقِيلَ هِيَ الصُّفَّةُ وَقِيلَ الْمُخْدَعُ بَيْنَ الْبَيْتَيْنِ وَقِيلَ هُوَ شَيْءٌ شَبِيهٌ بِالرَّفِّ وَقِيلَ بَيْتٌ صَغِيرٌ كَالْخِزَانَةِ الصَّغِيرَةِ قَالَ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ يُسَمَّى السَّهْوَةَ وَلَفْظُ الْحَدِيثِ يَحْتَمِلُ الْكُلَّ وَلَكِنْ وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا يُرَجِّحُ الْأَوَّلَ انْتَهَى
وَقَالَ الْجَزَرِيُّ فِي النِّهَايَةِ السَّهْوَةُ بَيْتٌ صَغِيرٌ مُنْحَدِرٌ فِي الْأَرْضِ قَلِيلًا شَبِيهٌ بِالْمُخْدَعِ وَالْخِزَانَةِ وَقِيلَ هُوَ كَالصُّفَّةِ تَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ البيت وقيل شبيه بالرف أو الطابق يُوضَعُ فِيهِ الشَّيْءُ انْتَهَى (فَكَانَتْ تَجِيءُ الْغُولُ) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ هُوَ شَيْطَانٌ يَأْكُلُ النَّاسِ وَقِيلَ هُوَ مَنْ يَتَلَوَّنُ مِنَ الْجِنِّ انْتَهَى
وَقَالَ الْجَزَرِيُّ الْغُولُ أَحَدُ الْغِيلَانِ وَهِيَ جِنْسٌ مِنَ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ كَانَتِ الْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ الْغُولَ فِي الْفَلَاةِ تَتَرَاءَى لِلنَّاسِ فتتغول تغولا أي تتولن تَلَوُّنًا فِي صُوَرٍ شَتَّى وَتَغُولُهُمْ أَيْ تُضِلُّهُمْ عَنِ الطَّرِيقِ وَتُهْلِكُهُمْ فَنَفَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبْطَلَهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ لَا غُولَ وَلَا صَفَرَ وَقِيلَ قَوْلُهُ لَا غُولَ لَيْسَ نَفْيًا لِعَيْنِ الْغُولِ وَوُجُودِهِ وَإِنَّمَا فِيهِ إِبْطَالُ زَعْمِ الْعَرَبِ فِي تَلَوُّنِهِ بِالصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ وَاغْتِيَالِهِ
فَيَكُونُ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ لَا غُولَ أَنَّهَا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُضِلَّ أَحَدًا ثُمَّ ذَكَرَ الْجَزَرِيُّ حَدِيثَ إِذَا تَغَوَّلَتِ الْغِيلَانُ فَبَادِرُوا بِالْأَذَانِ
وَقَالَ أي ادفعوا شرها بذكر الله وهذا يدل على أنها لَمْ يُرِدْ بِنَفْيِهَا عَدَمَهَا ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي أَيُّوبَ كَانَ لِي تَمْرٌ فِي سَهْوَةٍ فَكَانَتِ الْغُولُ تَجِيءُ فَتَأْخُذُ
انْتَهَى
قُلْتُ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ الْجَزَرِيُّ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَا غُولَ نَفْيُ وُجُودِهَا بَلْ نَفْيُ مَا زَعَمَتِ الْعَرَبُ مِمَّا لَمْ يَثْبُتْ مِنَ الشَّرْعِ (وَهِيَ مُعَاوِدَةٌ لِلْكَذِبِ) أَيْ مُعْتَادَةٌ لَهُ وَمُوَاظِبَةٌ عَلَيْهِ
قَالَ فِي الْقَامُوسِ تَعُودهُ وَعَاوَدَهُ مُعَاوَدَةً وَعِوَادًا وَاعْتَادَهُ وَاسْتَعَادَهُ جَعَلَهُ مِنْ عَادَتِهِ وَالْمُعَاوِدُ(8/149)
الْمُوَاظِبُ انْتَهَى (آيَةَ الْكُرْسِيِّ) بِالنَّصْبِ بَدَلٌ مِنْ شَيْئًا (وَلَا غَيْرُهُ) أَيْ مِمَّا يَضُرُّكَ (صَدَقَتْ وَهِيَ كَذُوبٌ) هُوَ مِنَ التَّتْمِيمِ الْبَلِيغِ لِأَنَّهُ لما أوهم مدحها بوصفه الصدق فِي قَوْلِهِ صَدَقَتْ اسْتَدْرَكَ نَفْيَ الصِّدْقِ عَنْهَا بِصِيغَةِ مُبَالَغَةٍ وَالْمَعْنَى صَدَقَتْ فِي هَذَا الْقَوْلِ مَعَ أَنَّهَا عَادَتُهَا الْكَذِبُ الْمُسْتَمِرُّ وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ قَدْ يَصْدُقُ الْكَذُوبُ
وَقَدْ وَقَعَ أَيْضًا لِأَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَأَبِي أَسِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عِنْدَ أَبِي الدُّنْيَا
قِصَصٌ فِي ذَلِكَ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّعَدُّدِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) ذَكَرَهُ الْمُنْذِرِيُّ فِي تَرْغِيبِهِ وذكر تحسين الترمذي وأقره
قَوْلُهُ (عَنْ عَطَاءٍ مَوْلَى أَبِي أَحْمَدَ) قَالَ الْحَافِظُ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ عَطَاءٌ مَوْلَى أَبِي أحمد أو بن أَبِي أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ حِجَازِيٌّ رَوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثَ تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَقُومُوا بِهِ
الحديث وعنه سعيد المقبري ذكره بن حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ أَخْرَجُوا لَهُ هَذَا الْحَدِيثَ الْوَاحِدَ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ
قَالَ الْحَافِظُ قَرَأْتَ بِخَطِّ الذَّهَبِيِّ لَا يُعْرَفُ انْتَهَى
قَوْلُهُ (بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثًا) أَيْ أَرَادَ أَنْ يُرْسِلَ جَيْشًا وَالْبَعْثُ بِمَعْنَى الْمَبْعُوثِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْجَيْشُ (وَهُمْ) أَيِ الْجَيْشُ الْمَبْعُوثُ (فاستقرأهم) أي طلب منهم أن يقرأوا (فَاسْتَقْرَأَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ) أَيْ وَاحِدًا وَاحِدًا مِنْهُمْ (فَأَتَى) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنْ لَا أَقُومَ بِهَا) أَيْ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ (تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ) أَيْ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ تَعَلُّمُ الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمُهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ عَدَدُ التَّوَاتُرِ فِيهِ فَلَا يَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ تَبْدِيلٌ وَتَحْرِيفٌ
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ أَوِ الْقَرْيَةِ من(8/150)
يتلو القرآن أثموا بأسرهم (وأقرأوه) وفي رواية فاقرأوه بالفاء
قال الطيبي الفاء في قوله فاقرأوه كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إليه أَيْ تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَدَاوِمُوا تِلَاوَتَهُ وَالْعَمَلَ بِمُقْتَضَاهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّعْلِيلُ بِقَوْلِهِ (فَإِنَّ مَثَلَ الْقُرْآنِ لِمَنْ تَعَلَّمَهُ فَقَرَأَهُ وَقَامَ بِهِ) أَيْ دَاوَمَ عَلَى قِرَاءَتِهِ أَوْ عَمِلَ بِهِ (كَمَثَلِ جِرَابٍ) بِالْكَسْرِ وَالْعَامَّةُ تَفْتَحُهُ قِيلَ لَا تَفْتَحِ الْجِرَابَ وَلَا تَكْسِرِ الْقَنْدِيلَ وَخَصَّ الْجِرَابَ هُنَا بِالذِّكْرِ احْتِرَامًا لِأَنَّهُ مِنْ أَوْعِيَةِ الْمِسْكِ
قَالَ الطِّيبِيُّ التَّقْدِيرُ فَإِنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ لِأَجْلِ مَنْ تَعَلَّمَهُ كَضَرْبِ الْمَثَلِ لِلْجِرَابِ فَمَثَلُ مُبْتَدَأٌ وَالْمُضَافُ مَحْذُوفٌ وَاللَّامُ فِي لِمَنْ تَعَلَّمَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ كَمَثَلِ عَلَى تَقْدِيرِ الْمُضَافِ أَيْضًا وَالتَّشْبِيهُ إِمَّا مُفْرَدٌ وَإِمَّا مُرَكَّبٌ (مَحْشُوٍّ) أَيْ مَمْلُوءٍ مَلْأً شَدِيدًا بِأَنْ حُشِيَ بِهِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِ مُتَّسَعٌ لِغَيْرِهِ (مِسْكًا) نَصَبَهُ عَلَى التَّمْيِيزِ (يَفُوحُ رِيحُهُ) أَيْ يَظْهَرُ وَيَصِلُ رَائِحَتُهُ (في كل مكان) قال بن الملك يعني صدر القارىء كَجِرَابٍ وَالْقُرْآنُ فِيهِ كَالْمِسْكِ
فَإِنَّهُ إِذَا قَرَأَ وَصَلَتْ بَرَكَتُهُ إِلَى تَالِيه وَسَامِعِيهِ انْتَهَى
قَالَ القارىء وَلَعَلَّ إِطْلَاقَ الْمَكَانِ لِلْمُبَالَغَةِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى تدمر كل شيء وأنبتنا فيها من كل شيء مَعَ أَنَّ التَّدْمِيرَ وَالْإِيتَاءَ خَاصٌّ (وَمَثَلُ مَنْ تَعَلَّمَهُ) بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ أَيْ مَثَلُ رِيحِ مَنْ تعلمه (فيرقد) أي ينوم عَنِ الْقِيَامِ وَيَغْفُلُ عَنِ الْقِرَاءَةِ أَوْ كِنَايَةٌ عَنْ تَرْكِ الْعَمَلِ (وَهُوَ) أَيِ الْقُرْآنُ (فِي جَوْفِهِ) أَيْ فِي قَلْبِهِ (أُوكِيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ رُبِطَ (عَلَى مِسْكٍ)
قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ شُدَّ بِالْوِكَاءِ وَهُوَ الْخَيْطُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ الْأَوْعِيَةُ
قَالَ الْمُظْهِرُ فَإِنَّ مَنْ قَرَأَ يَصِلُ بَرَكَتُهُ مِنْهُ إِلَى بَيْتِهِ وَإِلَى السَّامِعِينَ وَيَحْصُلُ اسْتِرَاحَةٌ وَثَوَابٌ إِلَى حَيْثُ يَصِلُ صَوْتُهُ فَهُوَ كَجِرَابٍ مَمْلُوءٍ مِنَ الْمِسْكِ إِذَا فُتِحَ رَأْسُهُ تَصِلُ رَائِحَتُهُ إِلَى كُلِّ مَكَانٍ حَوْلَهُ وَمَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَلَمْ يَقْرَأْ لَمْ يَصِلْ بَرَكَتُهُ مِنْهُ لَا إِلَى نَفْسِهِ وَلَا إِلَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ كَجِرَابٍ مَشْدُودٍ رَأْسُهُ وَفِيهِ مِسْكٌ فَلَا يَصِلُ رَائِحَتُهُ مِنْهُ إِلَى أَحَدٍ
قَوْلُهُ (هَذَا حديث حسن) وأخرجه النسائي وبن ماجه وبن حبان في صحيحه
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَكَ أَعْظَمُ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَكَ أَعْظَمُ قُلْتُ اللَّهُ لا إله إلا هو الحي القيوم قال(8/151)
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ فَضَرَبَ فِي صَدْرِي قَالَ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ يَا أبا المنذر
(بَاب مَا جَاءَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ)
قَوْلُهُ (عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ) هُمَا النَّخَعِيَّانِ قَوْلُهُ (مَنْ قَرَأَ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ) أَيْ آمن الرسول إِلَى آخِرِهِ (فِي لَيْلَةٍ) وَقَدْ أَخْرَجَ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الْعَسْكَرِيُّ بِلَفْظِ مَنْ قَرَأَهُمَا بَعْدَ العشاء الاخرة أجزأنا آمن الرسول إِلَى آخِرِ السُّورَةِ
ذَكَرَهُ الْحَافِظُ (كَفَتَاهُ) أَيْ أَجْزَأَتَا عَنْهُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَقِيلَ أَجْزَأَتَا عَنْهُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ دَاخِلَ الصَّلَاةِ أَمْ خَارِجَهَا
وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَجْزَأَتَاهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِقَادِ لِمَا اشْتَمَلَتَا عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ إِجْمَالًا وَقِيلَ مَعْنَاهُ كَفَتَاهُ كُلَّ سُوءٍ وَقِيلَ كَفَتَاهُ شَرَّ الشَّيْطَانِ وَقِيلَ دَفَعَتَا عَنْهُ شَرَّ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَقِيلَ مَعْنَاهُ كَفَتَاهُ مَا حَصَلَ لَهُ بِسَبَبِهِمَا مِنَ الثَّوَابِ عَنْ طَلَبِ شَيْءٍ آخِرَ وَكَأَنَّهُمَا اخْتَصَّتَا بِذَلِكَ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى الصَّحَابَةِ بِجَمِيلِ انْقِيَادِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَابْتِهَالِهِمْ وَرُجُوعِهِمْ إِلَيْهِ وَمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْإِجَابَةِ إِلَى مَطْلُوبِهِمْ قَالَ الْحَافِظُ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَرَدَ صَرِيحًا مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَفَعَهُ مَنْ قَرَأَ خَاتِمَةَ الْبَقَرَةِ أَجْزَأَتْ عَنْهُ قِيَامَ لَيْلَةٍ
قَالَ وَيُؤَيِّدُ الرَّابِعَ حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ يَعْنِي الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَلَا مَانِعَ مِنْ إِرَادَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ جَمِيعِهَا وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا تَقَرَّرَ فِي علم المعاني والبيان من أن أحذف الْمُتَعَلِّقِ مُشْعِرٌ بِالتَّعْمِيمِ فَكَأَنَّهُ قَالَ كَفَتَاهُ مِنْ كُلِّ شَرٍّ وَمِنْ كُلِّ مَا يَخَافُ وَفَضْلُ اللَّهِ وَاسِعٌ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ(8/152)
قَوْلُهُ (عَنْ أَشْعَثَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجَرْمِيِّ) رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ وَعَنْهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ
قَالَ أَحْمَدُ مَا بِهِ باس وقال بن مَعِينٍ ثِقَةٌ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ شَيْخٌ وَذَكَرَهُ بن حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَأَخْرَجَ حَدِيثَهُ فِي صَحِيحِهِ كَذَا فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ (عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ الْجَرْمِيِّ) قَالَ الْحَافِظُ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ صَوَابُهُ الصَّنْعَانِيُّ لَمْ يَقُلْ فِيهِ الْجَرْمِيِّ غَيْرُ التِّرْمِذِيِّ انْتَهَى قُلْتُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا الصَّنْعَانِيُّ فِي إِسْنَادِ حَدِيثِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ فِي مَنَاقِبِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِي إِسْنَادِ حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ فِي بَابِ النَّهْيِ عَنِ الْمُثْلَةِ مِنْ أَبْوَابِ الدِّيَاتِ
وَأَبُو الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيُّ هَذَا اسْمُهُ شَرَاحِيلُ بْنُ آدَةَ بِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ وَيُقَالُ آدَةُ جَدُّ أَبِيهِ وَهُوَ بن شَرَاحِيلَ بْنِ كَلْبٍ ثِقَةٌ مِنَ الثَّانِيَةِ شَهِدَ فَتْحَ دِمَشْقَ
قَوْلُهُ (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا) أَيْ أَجْرَى الْقَلَمَ عَلَى اللَّوْحِ وَأَثْبَتَ فِيهِ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ عَلَى وَفْقِ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ (قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ) كَنَّى بِهِ عَنْ طُولِ الْمُدَّةِ وَتَمَادِي مَا بَيْنَ التَّقْدِيرِ وَالْخَلْقِ مِنَ الزَّمَنِ فَلَا يُنَافِي عَدَمَ تَحَقُّقِ الْأَعْوَامِ قَبْلَ السَّمَاءِ وَالْمُرَادُ مُجَرَّدُ الْكَثْرَةِ وَعَدَمُ النِّهَايَةِ قَالَهُ الْمُنَاوِيُّ
وَقَالَ الطِّيبِيُّ كِتَابَةُ مَقَادِيرِ الْخَلْقِ قَبْلَ خَلْقِهَا بِخَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ كَمَا وَرَدَ لَا تُنَافِي كِتَابَةَ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ بِأَلْفَيْ عَامٍ لِجَوَازِ اخْتِلَافِ أَوْقَاتِ الْكِتَابَةِ فِي اللَّوْحِ وَلِجَوَازِ أَنْ لَا يُرَادَ به التجديد بَلْ مُجَرَّدُ السَّبْقِ الدَّالِّ عَلَى الشَّرَفِ
انْتَهَى
قَالَ بَعْضُهُمْ وَلِجَوَازِ مُغَايَرَةِ الْكِتَابَيْنِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ انْتَهَى
(أَنْزَلَ) أَيِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (مِنْهُ) أَيْ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ المذكور (ايتين) هما آمن الرسول إِلَى آخِرِهِ (خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ) أَيْ جَعَلَهُمَا خَاتِمَتَهَا
قَالَ الطِّيبِيُّ وَلَعَلَّ الْخُلَاصَةَ أَنَّ الْكَوَائِنَ كُتِبَتْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ بِخَمْسِينَ أَلْفِ عَامٍ
وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْقُرْآنُ
ثُمَّ خَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ فَأَظْهَرَ كِتَابَةَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ وَخُصَّ مِنْ ذَلِكَ هَاتَانِ الْآيَتَانِ وَأَنْزَلَهُمَا مَخْتُومًا بِهِمَا أُولَى الزَّهْرَاوَيْنِ (وَلَا يُقْرَآنِ فِي دَارٍ) أَيْ فِي مَكَانٍ في بَيْتٍ وَغَيْرِهِ (ثَلَاثَ لَيَالٍ) أَيْ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْهَا (فَيَقْرَبُهَا شَيْطَانٌ) فَضْلًا عَنْ أَنْ يَدْخُلَهَا فَعَبَّرَ بِنَفْيِ الْقُرْبِ لِيُفِيدَ نَفْيَ الدُّخُولِ بالأولى(8/153)
قَالَ الطِّيبِيُّ لَا تُوجَدُ قِرَاءَةٌ يَعْقُبُهَا قُرْبَانٌ يَعْنِي أَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ عَطْفًا عَلَى النَّفْيِ وَالنَّفْيُ سُلِّطَ عَلَى الْمَجْمُوعِ وَقِيلَ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِلْجَمْعِيَّةِ أَيْ لَا تَجْتَمِعُ الْقِرَاءَةُ وَقُرْبُ الشَّيْطَانِ
كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وأخرجه النسائي والدارمي وبن حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ إِلَّا أَنَّ عِنْدَهُ وَلَا يُقْرَآنِ فِي بَيْتٍ فَيَقْرَبُهُ شَيْطَانٌ ثَلَاثَ لَيَالٍ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ كَذَا فِي التَّرْغِيبِ لِلْمُنْذِرِيِّ
وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَلَكِنْ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي التَّرْغِيبِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ
انْتَهَى
(بَاب مَا جَاءَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ)
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) هُوَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ (أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) بْنِ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ (أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ العطا) الدِّمَشْقِيُّ ثِقَةٌ فَقِيهٌ عَابِدٌ مِنَ الْعَاشِرَةِ (أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ) بْنُ شَابُورٍ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ الْأُمَوِيُّ مَوْلَاهُمِ الدِّمَشْقِيُّ نَزِيلُ بَيْرُوتَ صَدُوقٌ صَحِيحُ الْكِتَابِ مِنْ كِبَارِ التَّاسِعَةِ
(أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الْأَفْطَسُ الدِّمَشْقِيُّ ثِقَةٌ ثَبْتٌ إِلَّا أَنَّهُ يُرْسِلُ مِنَ الثَّامِنَةِ (عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الْجُرَشِيِّ بِضَمِّ الْجِيمِ وَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ الْحِمْصِيِّ الزَّجَّاجِ ثِقَةٌ مِنَ الرَّابِعَةِ
قَوْلُهُ (يَأْتِي الْقُرْآنُ) أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (وَأَهْلُهُ) عَطْفٌ عَلَى الْقُرْآنِ (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِهِ) دَلَّ عَلَى مَنْ قَرَأَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ وَلَا يَكُونُ شَفِيعًا لَهُمْ بَلْ يَكُونُ الْقُرْآنُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ (تَقْدَمُهُ) أَيْ تَتَقَدَّمُ أَهْلَهُ أَوِ الْقُرْآنَ
(سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ) بِالْجَرِّ وَقِيلَ بِالرَّفْعِ
قَالَ الطِّيبِيُّ الضَّمِيرُ فِي تَقْدَمُهُ لِلْقُرْآنِ
أَيْ يَقْدَمُ ثَوَابُهُمَا ثَوَابَ الْقُرْآنِ
وَقَالَ النَّوَوِيُّ
قَالَ الْعُلَمَاءُ
الْمُرَادُ أَنَّ ثَوَابَهُمَا يَأْتِي كَغَمَامَتَيْنِ انْتَهَى
وَقِيلَ يُصَوِّرُ الْكُلَّ بِحَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ كَمَا يُصَوِّرُ الْأَعْمَالَ لِلْوَزْنِ فِي(8/154)
الْمِيزَانِ وَمِثْلُ ذَلِكَ يَجِبُ اعْتِقَادُهُ إِيمَانًا فَإِنَّ الْعَقْلَ يَعْجِزُ عَنْ أَمْثَالِهِ (وَضَرَبَ لَهُمَا) أَيْ بين لهما (غيايتان) الغياية كُلُّ مَا أَظَلَّ الْإِنْسَانَ مِنْ فَوْقِ رَأْسِهِ كَالسَّحَابَةِ وَنَحْوِهَا
كَذَا فِي الْقَامُوسِ (وَبَيْنَهُمَا شَرْقٌ) بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا قَافٌ
وَقَدْ رُوِيَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ أَيْ ضَوْءٌ وَنُورٌ
قَالَ فِي النِّهَايَةِ الشَّرْقُ هَا هُنَا الضَّوْءُ وَهُوَ الشَّمْسُ وَالشِّقُّ أَيْضًا انْتَهَى
وَقِيلَ أَرَادَ بِالشَّرْقِ الشِّقَّ وَهُوَ الِانْفِرَاجُ أَيْ بَيْنَهُمَا فُرْجَةٌ وَفَصْلٌ كَتَمَيُّزِهِمَا بِالْبَسْمَلَةِ فِي الْمُصْحَفِ وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ (أَوْ) لِلتَّنْوِيعِ لَا لِشَكِّ الرَّاوِي (غمامتان) أي سحابتان (سوداوان) لكثافتهما وارتكام البعض منهما على بعض (أوكأنهما ظُلَّةٌ) بِالضَّمِّ وَهِيَ كُلُّ مَا أَظَلَّكَ مِنْ شَجَرٍ وَغَيْرِهِ (مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ) جَمْعُ صَافَّةٍ أَيْ بَاسِطَاتٍ أَجْنِحَتَهَا فِي الطَّيَرَانِ (تُجَادِلَانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا) أَيْ تُحَاجَّانِ عَنْهُ كَمَا هُوَ فِي رِوَايَةٍ وَالْمُحَاجَّةُ الْمُخَاصَمَةُ وَإِظْهَارُ الْحُجَّةِ وَصَاحِبُهُمَا هُوَ الْمُسْتَكْثِرُ مِنْ قِرَاءَتِهِمَا وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُمَا يَتَجَسَّمَانِ حَتَّى يَكُونَا كَأَحَدِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي شَبَّهَهَا بِهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يُقْدِرُهُمَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى النُّطْقِ بِالْحُجَّةِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ مِنْ قُدْرَةِ الْقَادِرِ الْقَوِيِّ الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ بُرَيْدَةَ وَأَبِي أُمَامَةَ) أَمَّا حَدِيثُ بُرَيْدَةَ فَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ أَمَّا حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ فَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
(فَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِيءُ ثَوَابُ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ الدَّلَالَةِ خَفَاءٌ كما لا يخف)
قوله (وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) هُوَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ الله(8/155)
قَوْلُهُ (مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ أَعْظَمَ مِنْ آيَةِ الْكُرْسِيِّ) فَإِنَّهَا جَمَعَتْ أُصُولَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِنَ الْإِلَهِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقَيُّومَةِ وَالْمُلْكِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ فَهَذِهِ أُصُولُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ (قَالَ سُفْيَانُ لِأَنَّ آيَةَ الْكُرْسِيِّ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) وَفِي قَوْلِ سُفْيَانَ هَذَا نَظَرٌ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ لَا تَكُونَ هَذِهِ الْفَضِيلَةُ مُخْتَصَّةً بِآيَةِ الْكُرْسِيِّ بَلْ تَعُمُّ كُلَّ آيَةٍ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهَا كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى
(بَاب مَا جَاءَ فِي فَضْلِ سُورَةِ الْكَهْفِ)
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ) هُوَ الطَّيَالِسِيُّ (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) هُوَ السَّبِيعِيُّ
قَوْلُهُ (إِذْ رَأَى دَابَّتَهُ) أَيْ فَرَسَهُ (تَرْكُضُ) مِنَ الرَّكْضِ وَهُوَ تحريك
الرجل ومنه أركض برجلك (فَنَظَرَ) أَيِ الرَّجُلُ (فَإِذَا مِثْلُ الْغَمَامَةِ أَوِ السَّحَابَةِ) الظَّاهِرُ أَنَّ أَوْ لِلشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي (فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ وَإِلَى جَانِبِهِ حِصَانٌ مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْنِ فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ فَجَعَلَتْ تَدْنُو وَتَدْنُو وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلك السكينة قال القارىء أَيِ السُّكُونُ وَالطُّمَأْنِينَةُ الَّتِي يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا الْقَلْبُ وَيَسْكُنُ بِهَا عَنِ الرُّعْبِ
قَالَ الطِّيبِيُّ فَإِنَّ المؤمن تزداد طمأنينه بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ إِذَا كُوشِفَ بِهَا
وَقِيلَ هِيَ الرَّحْمَةُ وَقِيلَ الْوَقَارُ وَقِيلَ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ انْتَهَى
وَقَالَ النَّوَوِيُّ الْمُخْتَارُ أَنَّهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ فِيهِ طُمَأْنِينَةٌ وَرَحْمَةٌ وَمَعَهُ الْمَلَائِكَةُ (نَزَلَتْ مَعَ الْقُرْآنِ أَوْ نَزَلَتْ عَلَى الْقُرْآنِ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ تَنَزَّلَتْ بِالْقُرْآنِ(8/156)
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ) أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنْهُ قَالَ بَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ عنده إذ جالت الفرس فسكت فسكنت الْحَدِيثَ
قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ الْبَرَاءِ الْمَذْكُورِ
قَوْلُهُ كَانَ رَجُلٌ قِيلَ هُوَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ كَمَا سَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِهِ نَفْسِهِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ لَكِنْ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَفِي هَذَا أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ وَهَذَا ظَاهِرُهُ التَّعَدُّدُ وَقَدْ وَقَعَ قَرِيبٌ مِنَ الْقِصَّةِ الَّتِي لِأُسَيْدٍ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ لَكِنْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَيْضًا وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقٍ مرسلة قال لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَمْ تَرَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ لَمْ تَزَلْ دَارُهُ الْبَارِحَةَ تُزْهِرُ بِمَصَابِيحَ
قَالَ فَلَعَلَّهُ قَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فسئل قال قرأت سورة القرة
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَسُورَةَ الْكَهْفِ جَمِيعًا أَوْ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا انْتَهَى
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) الْمَعْرُوفُ بِغُنْدَرٍ
قَوْلُهُ (مَنْ قَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ) أَيْ حُفِظَ عَنْ فِتْنَتِهِ وَشَرِّهِ
قَالَ النَّوَوِيُّ قِيلَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا فِي أَوَّلِهَا مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْآيَاتِ فَمَنْ تَدَبَّرَهَا لَمْ يَفْتَتِنْ بِالدَّجَّالِ وَكَذَا فِي آخِرِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يتخذوا انْتَهَى وَقَالَ السُّيُوطِيُّ فِي مِرْقَاةِ الصُّعُودِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ اخْتَلَفَ الْمُتَأَوِّلُونَ فِي سَبَبِ ذَلِكَ فَقِيلَ لنا في قصة أصحاب الكهف من العجائب وا يات فَمَنْ وَقَفَ عَلَيْهَا لَمْ يَسْتَغْرِبْ أَمْرَ الدَّجَّالِ ولم يهله ذلك فلم يفتن بِهِ وَقِيلَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا من لدنه تَمَسُّكًا بِتَخْصِيصِ الْبَأْسِ بِالشِّدَّةِ وَاللَّدُنِيَّةِ وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِمَا يَكُونُ مِنَ الدَّجَّالِ مِنْ دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ وَاسْتِيلَائِهِ وَعِظَمِ فِتْنَتِهِ وَلِذَلِكَ عَظَّمَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أمره وحذر عنه وَتَعَوَّذَ مِنْ فِتْنَتِهِ فَيَكُونُ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَتَدَبَّرَهَا وَوَقَفَ عَلَى مَعْنَاهَا حَذِرَهُ فَأَمِنَ مِنْهُ وَقِيلَ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ السُّورَةِ كُلِّهَا فَقَدْ رُوِيَ مَنْ حَفِظَ سُورَةَ الْكَهْفِ ثُمَّ أَدْرَكَهُ الدَّجَّالُ لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ
وَعَلَى هَذَا يَجْتَمِعُ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى أَوَّلَ سُورَةِ الْكَهْفِ مَعَ مَنْ رَوَى مِنْ آخِرِهَا وَيَكُونُ ذِكْرُ الْعَشْرِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِدْرَاجِ فِي حِفْظِهَا كُلِّهَا انْتَهَى(8/157)
تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ هَذِهِ مَنْ قَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ فَقِيلَ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّلَاثِ وَبَيْنَ الْعَشْرِ أَنَّ حَدِيثَ الْعَشْرِ مُتَأَخِّرٌ وَمَنْ عَمِلَ بِالْعَشْرِ فَقَدْ عَمِلَ بِالثَّلَاثِ وَقِيلَ حَدِيثُ الثَّلَاثِ مُتَأَخِّرٌ وَمَنْ عُصِمَ بِثَلَاثٍ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْعَشْرِ وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى أَحْكَامِ النَّسْخِ
قَالَ مَيْرَكُ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ لا يحكم بالنسخ
قال القارىء النَّسْخُ لَا يَدْخُلُ فِي الْأَخْبَارِ وَقِيلَ حَدِيثُ الْعَشْرِ فِي الْحِفْظِ وَحَدِيثُ الثَّلَاثِ فِي الْقِرَاءَةِ فَمَنْ حَفِظَ الْعَشْرَ وَقَرَأَ الثَّلَاثَ كُفِيَ وَعُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ انْتَهَى
الثَّانِي قَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ قَتَادَةَ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ فَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ مَعْدَانَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مِنْ أَوَّلِ الْكَهْفِ وَفِي رِوَايَتِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ عَنْ قَتَادَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِنْ آخِرِ الْكَهْفِ وَفِي رِوَايَةِ هَشَّامٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْ قَتَادَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ وَفِي رِوَايَتِهِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ عَنْ قَتَادَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِنْ خَوَاتِيمِ سُورَةِ الْكَهْفِ وَفِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ عَنْ قَتَادَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ الْجَمْعِ فِي كَلَامِ السُّيُوطِيِّ الْمَذْكُورِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ
(بَاب مَا جَاءَ فِي فَضْلِ يس)
قَوْلُهُ (وَسُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ) هُوَ الرُّؤَاسِيُّ الْكُوفِيُّ (أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (الرُّؤَاسِيُّ) بِضَمِّ الرَّاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ خَفِيفَةٌ أَبُو عَوْفٍ الْكُوفِيُّ ثِقَةٌ مِنَ الثَّامِنَةِ (عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ) قَالَ فِي التَّقْرِيبِ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ وَهُوَ حَيَّانُ بْنُ شُفَيٍّ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْفَاءِ مُصَغَّرًا الْهَمْدَانِيُّ بِسُكُونِ الْمِيمِ الثَّوْرِيُّ ثِقَةٌ فَقِيهٌ عَابِدٌ رُمِيَ بِالتَّشَيُّعِ مِنَ السَّابِعَةِ (عَنْ هَارُونَ أَبِي مُحَمَّدٍ) مَجْهُولٌ
قَوْلُهُ (وَقَلْبُ الْقُرْآنِ يس) أَيْ لُبُّهُ وَخَالِصُهُ سُورَةُ يس
قَالَ الْغَزَالِيُّ إِنَّ الْإِيمَانَ صِحَّتُهُ(8/158)
بِالِاعْتِرَافِ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَهُوَ مُقَرَّرٌ فِيهَا بِأَبْلَغِ وَجْهٍ فَكَانَتْ قَلْبَ الْقُرْآنِ لِذَلِكَ وَاسْتَحْسَنَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ
قَالَ الطِّيبِيُّ إِنَّهُ لِاحْتِوَائِهَا مَعَ قِصَرِهَا عَلَى الْبَرَاهِينِ السَّاطِعَةِ وَالْآيَاتِ الْقَاطِعَةِ وَالْعُلُومِ الْمَكْنُونَةِ وَالْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ وَالْمَوَاعِيدِ الْفَائِقَةِ وَالزَّوَاجِرِ الْبَالِغَةِ (كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِقِرَاءَتِهَا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ) أَيْ ثَوَابَهَا (عَشْرَ مَرَّاتٍ) أَيْ مِنْ غَيْرِهَا وَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَخُصَّ مَا شَاءَ مِنَ الْأَشْيَاءِ بِمَا أَرَادَ مِنْ مَزِيدِ الْفَضْلِ كَلَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ الْأَزْمِنَةِ وَالْحَرَمِ مِنَ الْأَمْكِنَةِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ (وَبِالْبَصْرَةِ لَا يَعْرِفُونَ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ) لَعَلَّ مَقْصُودَ التِّرْمِذِيِّ بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ بِالْبَصْرَةِ لَا يَعْرِفُونَ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ صَحَابِيٍّ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْ إِلَّا عَنْ أَنَسٍ لِأَنَّ قَتَادَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ صَحَابِيٍّ غَيْرِ أَنَسٍ
قَالَ الْحَافِظُ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ لَمْ يَسْمَعْ قَتَادَةُ مِنْ صَحَابِيٍّ غَيْرِ أنس
وقال بن أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِ الْمَرَاسِيلِ أَنْبَأَ حَرْبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ قَالَ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مَا أَعْلَمُ قَتَادَةَ رَوَى عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِيلَ فَابْنُ سَرْجِسَ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ سَمَاعًا انْتَهَى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ إِلَخْ) قَالَ الحافظ بن كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ نَقْلِ كَلَامِ التِّرْمِذِيِّ هَذَا أَمَّا حَدِيثُ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَوَاهُ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِهِ نَوَادِرِ الْأُصُولِ وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْفَضْلِ فَذَكَرَهُ بِإِسْنَادِهِ بِلَفْظِ إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبًا وَقَلْبُ الْقُرْآنِ يس(8/159)
8 - (بَاب مَا جَاءَ فِي فَضْلِ حم الدُّخَانِ)
قَوْلُهُ (مَنْ قَرَأَ حم الدُّخَانُ فِي لَيْلَةٍ) أَيِّ لَيْلَةٍ كَانَتْ
وَقَالَ فِي الْأَزْهَارِ الْمُرَادُ بِاللَّيْلَةِ الْمُبْهَمَةِ لَيْلَةُ الْجُمْعَةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ يَعْنِي هَذَا الْحَدِيثَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ وَفِي الْحَدِيثِ الثَّانِي يَعْنِي الْآتِي غُفِرَ لَهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مُبَيِّنٌ انْتَهَى
قُلْتُ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ فِي لَيْلَةٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِبْهَامٌ حَتَّى يُقَالَ إِنَّ قَوْلَهُ فِي لَيْلَةِ الْجُمْعَةِ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي مُبَيِّنٌ لَهُ فَتَفَكَّرْ (يَسْتَغْفِرُ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ) أَيْ يَطْلُبُونَ لَهُ مِنَ اللَّهِ الْمَغْفِرَةَ
قَوْلُهُ (غُفِرَ لَهُ) ذُنُوبُهُ أَيِ الصَّغَائِرُ
قَوْلُهُ (وَهِشَامٌ أَبُو الْمِقْدَامِ يُضَعَّفُ) قَالَ فِي التَّقْرِيبِ هِشَامُ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ وَهُوَ هِشَامُ بْنُ أَبِي هِشَامٍ أَبُو الْمِقْدَامِ وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا هِشَامُ بْنُ أَبِي الْوَلِيدِ الْمَدَنِيُّ مَتْرُوكٌ مِنَ السَّادِسَةِ (وَلَمْ يَسْمَعِ الْحَسَنُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) فَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ (هَكَذَا قَالَ أَيُّوبُ وَيُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ وَعَلِيُّ بْنِ زَيْدٍ) هو بن جُدْعَانَ يَعْنِي هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ قَالُوا إِنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ(8/160)
9 - (بَاب مَا جَاءَ فِي فَضْلِ سُورَةِ الْمُلْكِ)
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ النُّكْرِيُّ) بِضَمِّ النُّونِ الْبَصْرِيُّ ضَعِيفٌ وَيُقَالُ إِنَّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ كَذَّبَهُ مِنَ السَّابِعَةِ (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ النُّكْرِيُّ أَبُو يَحْيَى أَوْ أَبُو مَالِكٍ الْبَصْرِيُّ صَدُوقٌ لَهُ أَوْهَامٌ مِنَ السَّابِعَةِ (عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ) بِالْجِيمِ وَالزَّايِ اسْمُهُ أَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّبَعِيُّ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ بَصْرِيٌّ يُرْسِلُ كَثِيرًا ثِقَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ
قَوْلُهُ (ضَرَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِبَاءَهُ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمَدِّ أَيْ خَيْمَتَهُ
قَالَ الطِّيبِيُّ الْخِبَاءُ أَحَدُ بُيُوتِ الْعَرَبِ مِنْ وَبَرٍ أَوْ صُوفٍ وَلَا يَكُونُ مِنْ شَعْرٍ وَيَكُونُ عَلَى عَمُودَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ (عَلَى قَبْرٍ) أَيْ عَلَى مَوْضِعِ قَبْرٍ (وَهُوَ) أَيِ الصَّحَابِيُّ (لَا يَحْسَبُ) بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا أَيْ لَا يَظُنُّ (أَنَّهُ قَبْرٌ) أَيْ أَنَّ ذَلِكَ الْمَكَانَ مَوْضِعُ قَبْرٍ (فَإِذَا) لِلْمُفَاجَأَةِ (قَبْرُ إِنْسَانٍ) أَيْ مَكَانُهُ (فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ صَاحِبُ الْخَيْمَةِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ أَيْ سُورَةُ الْمُلْكِ (الْمَانِعَةُ) أَيْ تَمْنَعُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ أَوْ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تُوجِبُ عَذَابَ الْقَبْرِ (هِيَ الْمُنْجِيَةُ) يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مُؤَكِّدَةً لِقَوْلِهِ هِيَ الْمَانِعَةُ وَأَنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً وَمِنْ ثَمَّةَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ تُنْجِيه مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) فِي سَنَدِهِ يَحْيَى بْنُ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ كَمَا عَرَفْتَ
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ هَذَا(8/161)
قَوْلُهُ (عَنْ عَبَّاسٍ الْجُشَمِيِّ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ يُقَالُ اسْمُ أَبِيهِ عَبْدُ اللَّهِ مَقْبُولٌ مِنَ الثَّالِثَةِ
قَوْلُهُ (قَالَ إِنَّ سُورَةً) أَيْ عَظِيمَةً (مِنَ الْقُرْآنِ) أَيْ كَائِنَةً مِنَ الْقُرْآنِ (ثَلَاثُونَ آيَةً) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هِيَ ثَلَاثُونَ وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِاسْمِ إِنَّ (شَفَعَتْ) بِالتَّخْفِيفِ خَبَرُ إِنَّ وَقِيلَ خَبَرُ إِنَّ هُوَ ثَلَاثُونَ وَقَوْلُهُ شَفَعَتْ خَبَرٌ ثَانٍ (لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ) مُتَعَلِّقٌ بِشَفَعَتْ وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمُضِيِّ فِي الْخَبَرِ يَعْنِي كَانَ رَجُلٌ يَقْرَؤُهَا وَيُعَظِّمُ قَدْرَهَا فَلَمَّا مَاتَ شَفَعَتْ لَهُ حَتَّى دُفِعَ عَنْهُ عَذَابُهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ أَيْ تَشْفَعُ لِمَنْ يَقْرَؤُهَا فِي الْقَبْرِ أَوْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (وَهِيَ تَبَارَكَ الَّذِي بيده الملك) أَيْ إِلَى آخِرِهَا
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ الْبَسْمَلَةُ لَيْسَتْ مِنَ السُّورَةِ وَآيَةٌ تَامَّةٌ مِنْهَا لِأَنَّ كَوَّنَهَا ثَلَاثِينَ آيَةً إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا آيَةً تَامَّةً مِنْهَا وَالْحَالُ أَنَّهَا ثَلَاثُونَ مِنْ غَيْرِ كَوْنِهَا آيَةً تَامَّةً مِنْهَا
فَهِيَ إِمَّا لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْهَا كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالْأَكْثَرِينَ وَإِمَّا لَيْسَتْ بِآيَةٍ تَامَّةٍ بَلْ هِيَ جُزْءٌ مِنَ الْآيَةِ الْأُولَى كَرِوَايَةٍ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وبن ماجه وبن حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ
قوله (أخبرنا الفضيل بن عياض) هو بن مسعود التميمي الزاهد (عن ليث) هو بن أَبِي سُلَيْمٍ
قَوْلُهُ (كَانَ لَا يَنَامُ إِلَخْ) يَأْتِي هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ شَرْحِهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ بَابِ مَا جَاءَ فِيمَنْ يَقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْمَنَامِ مِنْ أَبْوَابِ الدَّعَوَاتِ (وَرَوَاهُ مُغِيرَةُ بْنُ مُسْلِمٍ) الْقَسْمَلِيُّ بِقَافٍ وَمِيمٍ مَفْتُوحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا مُهْمَلَةٌ سَاكِنَةٌ أَبُو سَلَمَةَ السَّرَّاجُ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَدَائِنِيُّ أَصْلُهُ مِنْ مَرْوٍ صَدُوقٌ(8/162)
من السادسة (إنما أخبرنيه صفوان أو بن صَفْوَانَ) أَوْ لِلشَّكِّ أَيْ قَالَ أَخْبَرَنِي صَفْوَانُ أو قال أخبرني بن صَفْوَانَ وَصَفْوَانُ هَذَا هُوَ صَفْوَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ الْقُرَشِيُّ ثِقَةٌ من الثالثة والمراد من بن صَفْوَانَ هُوَ صَفْوَانُ هَذَا
قَالَ فِي التَّقْرِيبِ بن صَفْوَانَ شَيْخُ أَبِي الزُّبَيْرِ هُوَ صَفْوَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ نُسِبَ لِجَدِّهِ
قَوْلُهُ (قال تفضلان) أي سورة ألم تنزيل وسورة تبارك الذي بيده الملك (عَلَى كُلِّ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ بِسَبْعِينَ حسنة) قال القارىء هَذَا لَا يُنَافِي الْخَبَرَ الصَّحِيحَ أَنَّ الْبَقَرَةَ أَفْضَلُ سُوَرِ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ إِذْ قَدْ يَكُونُ فِي الْمَفْضُولِ مَزِيَّةٌ لَا تُوجَدُ فِي الفاضل أوله خُصُوصِيَّةٌ بِزَمَانٍ أَوْ حَالٍ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أَرْبَابِ الْكَمَالِ أَمَّا تَرَى أَنَّ قِرَاءَةَ سَبِّحْ وَالْكَافِرُونَ وَالْإِخْلَاصِ فِي الْوِتْرِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا وَكَذَا سُورَةُ السَّجْدَةِ وَالدَّهْرِ بِخُصُوصِ فَجْرِ الْجُمْعَةِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِمَا فَلَا يُحْتَاجُ فِي الجواب إلى ما قاله بن حَجَرٍ إِنَّ ذَاكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ
وَهَذَا لَيْسَ كذلك انتهى كلام القارىء
قلت ما ذكره القارىء مِنْ وَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ لَا ينفي الاحتياج إلى ما ذكر بن حَجَرٍ فَتَفَكَّرْ وَأَثَرُ طَاوُسٍ هَذَا أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ بِلَفْظِ فُضِّلَتَا عَلَى كُلِّ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ بِسِتِّينَ حَسَنَةً
0 - (بَاب مَا جَاءَ فِي إِذَا زُلْزِلَتْ)
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْجُرَشِيُّ) كَذَا فِي النُّسَخِ الْمَوْجُودَةِ بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ
وَكَذَا فِي مِيزَانِ الِاعْتِدَالِ وَوَقَعَ فِي الْخُلَاصَةِ بِالْحَاءِ وَالرَّاءِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَاتِ وَضَبَطَهُ الْخَزْرَجِيُّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَوَقَعَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ وَالتَّقْرِيبِ بِالْحَاءِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَضَبَطَهُ الْحَافِظُ فِي التَّقْرِيبِ بِقَوْلِهِ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ ثُمَّ شِينٍ مُعْجَمَةٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى(8/163)
هذا هو بن نُفَيْعٍ (أخبرنا الْحَسَنُ بْنُ سَلْمِ بْنِ صَالِحٍ الْعِجْلِيُّ) وَيُقَالُ اسْمُ أَبِيهِ سَيَّارٌ وَقَدْ يُنْسَبُ إِلَى جَدِّهِ مَجْهُولٌ مِنَ الثَّامِنَةِ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ
وَقَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ وَهُوَ شَيْخٌ مَجْهُولٌ لَهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ فِي فَضْلِ إِذَا زُلْزِلَتْ رَوَاهُ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ وَعَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْجُرَشِيُّ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَاسْتَغْرَبَهُ وَكَذَا فَعَلَ الْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ انْتَهَى
قَوْلُهُ (مَنْ قرأ إذا زلزلت عُدِلَتْ لَهُ بِنِصْفِ الْقُرْآنِ إِلَخْ) قَالَ الطِّيبِيُّ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ بِالذَّاتِ مِنَ القرآن بيان المبدأ والمعاد وإذا زلزلت مَقْصُورَةٌ عَلَى ذِكْرِ الْمَعَادِ مُسْتَقِلَّةٌ بِبَيَانِ أَحْوَالِهِ فَيُعَادِلُ نِصْفَهُ وَمَا جَاءَ أَنَّهَا رُبْعُ الْقُرْآنِ فَتَقْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ الْقُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلَى تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّاتِ وَبَيَانِ أَحْكَامِ الْمَعَاشِ وَأَحْوَالِ الْمَعَادِ وَهَذِهِ السُّورَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْقِسْمِ الْأَخِيرِ مِنَ الأربع وقل يا أيها الكافرون مُحْتَوِيَةٌ عَلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْهَا لِأَنَّ البراءة عن الشِّرْكِ إِثْبَاتٌ لِلتَّوْحِيدِ لِيَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا كَأَنَّهَا رُبْعُ الْقُرْآنِ وَهَذَا تَلْخِيصُ كَلَامِ الشَّيْخِ التُّورْبِشْتِيِّ
فَإِنْ قُلْتَ هَلَّا حَمَلُوا الْمُعَادَلَةَ عَلَى التَّسْوِيَةِ فِي الثَّوَابِ عَلَى الْمِقْدَارِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ قُلْتُ مَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ لُزُومُ فَضْلِ إِذَا زلزلت عَلَى سُورَةِ الْإِخْلَاصِ وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ التوربشتي مِنْ قَوْلِهِ نَحْنُ وَإِنْ سَلَكْنَا هَذَا الْمَسْلَكَ بِمَبْلَغِ عِلْمِنَا نَعْتَقِدُ وَنَعْتَرِفُ أَنَّ بَيَانَ ذَلِكَ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا يُتَلَقَّى من قبل الرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُنْتَهَى إِلَيْهِ فِي مَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَالْكَشْفِ عَنْ خَفِيَّاتِ الْعُلُومِ فَأَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ وَنَحُومُ حَوْلَهُ عَلَى مِقْدَارِ فَهْمِنَا وَإِنْ سَلِمَ مِنَ الْخَلَلِ وَالزَّلَلِ لَا يَتَعَدَّى عَنْ ضَرْبٍ مِنَ الِاحْتِمَالِ انْتَهَى
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ هَذَا الشَّيْخِ الْحَسَنِ بْنِ سَلْمٍ) وَهُوَ مَجْهُولٌ كَمَا عرفت والحديث أخرجه أيضا بن مردويه والبيهقي
قوله (وفي الباب عن بن عباس) أخرجه الترمذي فِي الْبَابِ الْآتِي(8/164)
11 - (باب ما جاء في سورة الإخلاص وفي سورة إذا زلزلت)
قَوْلُهُ (تَزَوَّجْ تَزَوَّجْ) أَيْ تَزَوَّجْ بِمَا مَعَكَ مِنَ السُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ إِنِّي وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ فَقَامَتْ طَوِيلًا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهَ زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَقَالَ هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا
الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ قَالَ نَعَمْ سورة كذا وسور كَذَا لِسُوَرٍ سَمَّاهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وأخرجه بن أَبِي شَيْبَةَ وَذَكَرَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ فِي كتاب النكاح وعزاه للترمذي وبن أَبِي شَيْبَةَ وَسَكَتَ عَنْهُ وَذَكَرَهُ فِي فَضَائِلِ القرآن وعزاه للترمذي وبن أبي شيبة وأبي الشيخ قال وزاد بن شَيْبَةَ وَأَبِي الشَّيْخِ وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ تَعْدِلُ رُبُعَ الْقُرْآنِ ثُمَّ قَالَ وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لِضَعْفِ سَلَمَةَ بْنِ وَرْدَانَ وَإِنْ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ فَلَعَلَّهُ تَسَاهَلَ فِيهِ لِكَوْنِهِ مِنْ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ انْتَهَى
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا يَمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْعَنَزِيُّ) الْبَصْرِيُّ أبو حذيفة ضعيف من السادسة (أخبرنا عطاء) هو بن أبي رباح(8/165)
قوله (إذا زلزلت) أَيْ سُورَةُ إِذَا زُلْزِلَتْ (تَعْدِلُ) أَيْ تُمَاثِلُ (نِصْفَ الْقُرْآنِ) تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ فِي الْبَابِ السَّابِقِ (وقل هو الله أحد
تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ) لِأَنَّ عُلُومَ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةٌ عِلْمُ التَّوْحِيدِ وَعِلْمُ الشَّرَائِعِ وَعِلْمُ تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ
وهي مشتملة على الأول (وقل يا أيها الكافرون
تَعْدِلُ رُبْعَ الْقُرْآنِ) لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَحْكَامِ الشَّهَادَتَيْنِ وَأَحْوَالِ النَّشْأَتَيْنِ فَهِيَ لِتَضَمُّنِهَا الْبَرَاءَةَ مِنَ الشِّرْكِ رُبُعٌ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَتَصْحِيحُ الْحَاكِمِ مَرْدُودٌ انْتَهَى
وَذَكَرَ الْحَافِظُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْفَتْحِ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ وَعَزَاهُ لِلتِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمِ وَأَبِي الشَّيْخِ وَقَالَ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَفِي سَنَدِهِ يَمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ انْتَهَى
لَا نَعْرِفهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ يَمَانِ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ يَرْوِي الْمَنَاكِيرَ الَّتِي لَا أُصُولَ لَهَا فاستحق الترك كَذَا فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ
2 - (بَاب مَا جَاءَ فِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ)
قَوْلُهُ (أخبرنا زَائِدَةُ) هُوَ بن قدامة (عن منصور) هو بن الْمُعْتَمِرِ (عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ) هُوَ الْأَوْدِيُّ (عَنِ امْرَأَةِ أَبِي أَيُّوبَ) هِيَ أُمُّ أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّةُ صَحَابِيَّةٌ (عَنْ أَبِي أَيُّوبَ) الْأَنْصَارِيُّ اسْمُهُ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ
قَوْلُهُ (أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ) وَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَزَادَ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَسَأَلُوا أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ (مَنْ قَرَأَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ الله أحد الله الصمد
وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ الْمَذْكُورِ فَقَالَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ الْقُرْآنِ قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رواية أبي(8/166)
خَالِدٍ الْأَحْمَرِ عَنِ الْأَعْمَشِ فَقَالَ يَقْرَأُ قُلْ هو الله أحد فَهِيَ ثُلُثُ الْقُرْآنِ فَكَأَنَّ رِوَايَةَ الْبَابِ بِالْمَعْنَى وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَمَّى السُّورَةَ بِهَذَا الِاسْمِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الصِّفَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ أَوْ يَكُونَ بَعْضُ رواته كان يقرأها كَذَلِكَ
فَقَدْ جَاءَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يقرأ الله أحد الله الصمد بِغَيْرِ قُلْ فِي أَوَّلِهَا (فَقَدْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي أَيُّوبَ فَقَدْ قرأ ثلث القرآن وفي حديث أي سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ فَقَالَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ الْقُرْآنِ كَمَا عَرَفْتَ
قَالَ الْحَافِظُ حَمَلَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَالَ هِيَ ثُلُثٌ بِاعْتِبَارِ مَعَانِي الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ أَحْكَامٌ وَأَخْبَارٌ وَتَوْحِيدٌ
وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هِيَ عَلَى الْقِسْمِ الثَّالِثِ فَكَانَتْ ثُلُثًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَيُسْتَأْنَسُ لِهَذَا بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ جَزَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ ثَلَاثَةَ أجزاء فجعل قل هو الله أحد جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى اسْمَيْنِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى يَتَضَمَّنَانِ جَمِيعَ أَوْصَافِ الْكَمَالِ لَمْ يُوجَدَا فِي غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ وَهُمَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ لِأَنَّهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى أَحَدِّيَّةِ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِجَمِيعِ أَوْصَافِ الْكَمَالِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَحَدَ يُشْعِرُ بِوُجُودِهِ الْخَاصِّ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَالصَّمَدُ يُشْعِرُ بِجَمِيعِ أَوْصَافِ الْكَمَالِ لِأَنَّهُ الَّذِي انْتَهَى إِلَيْهِ سُؤْدُدُهُ فَكَانَ مَرْجِعُ الطَّلَبِ مِنْهُ وَإِلَيْهِ وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التحقيق إلا لمن جاز جَمِيعَ خِصَالِ الْكَمَالِ وَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَمَّا اشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ كَانَتْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَمَامِ الْمَعْرِفَةِ بِصِفَاتِ الذَّاتِ وَصِفَاتِ الْفِعْلِ ثُلُثًا انْتَهَى
وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ الْمِثْلِيَّةَ عَلَى تَحْصِيلِ الثَّوَابِ فَقَالَ مَعْنَى كَوْنِهَا ثُلُثَ الْقُرْآنِ أَنَّ ثَوَابَ قراءتها يحصل للقارى مِثْلُ ثَوَابِ مَنْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَقِيلَ مِثْلُهُ بِغَيْرِ تَضْعِيفٍ
وَهِيَ دَعْوَى بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَيُؤَيِّدُ الْإِطْلَاقَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الأخير وقال فيه قل هو الله تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ
وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْشُدُوا فَإِنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَخَرَجَ فَقَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد ثُمَّ قَالَ أَلَا إِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ
وَلِأَبِي عُبَيْدٍ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ من قرأ قل هو الله أحد فَكَأَنَّمَا قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ
وَإِذَا حُمِلَ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَهَلْ ذَلِكَ لِثُلُثٍ مِنَ الْقُرْآنِ مُعَيَّنٍ أَوْ لِأَيِّ ثُلُثٍ فُرِضَ مِنْهُ فِيهِ نَظَرٌ وَيَلْزَمُ عَلَى الثَّانِي أَنَّ مَنْ قَرَأَهَا ثَلَاثًا كَانَ كَمَنْ قَرَأَ خَتْمَةً كَامِلَةً وَقِيلَ الْمُرَادُ مَنْ عَمِلَ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيدِ كَانَ كَمَنْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ
وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ يَخْتَصُّ بِصَاحِبِ الْوَاقِعَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا رَدَّدَهَا فِي لَيْلَتِهِ كَانَ كَمَنْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ تَرْدِيدٍ قَالَ الْقَابِسِيُّ وَلَعَلَّ الرَّجُلَ الَّذِي جَرَى لَهُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَحْفَظُ غَيْرَهَا فَلِذَلِكَ اسْتَقَلَّ عَمَلُهُ فَقَالَ لَهُ الشَّارِعُ ذَلِكَ تَرْغِيبًا لَهُ في عمل الخير وإن قل
وقال بن عَبْدِ الْبَرِّ مَنْ لَمْ يَتَأَوَّلْ هَذَا الْحَدِيثَ أَخْلَصُ مِمَّنْ أَجَابَ فِيهِ بِالرَّأْيِ(8/167)
قُلْتُ حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ الْمَذْكُورُ بِلَفْظِ مَنْ قرأ قل هو الله أحد فَقَدْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ قراءة سورة قل هو الله أحد تَعْدِلُ قِرَاءَةَ ثُلُثِ الْقُرْآنِ وَكَذَا حَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِي فِي هَذَا الْبَابِ يَدُلَّانِ عَلَى ذَلِكَ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ هو الله أحد تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ قِرَاءَتَهَا تَعْدِلُ قِرَاءَةَ ثُلُثِ الْقُرْآنِ وَيَحْصُلُ لِقَارِئِهَا ثَوَابُ قِرَاءَةِ ثُلُثِ الْقُرْآنِ فَالرِّوَايَاتُ بَعْضُهَا يُفَسِّرُ بَعْضًا هَذَا مَا عِنْدِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي سَعِيدِ إِلَخْ) أَمَّا حَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ قَالُوا وَكَيْفَ يَقْرَأُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ قال قل هو الله أحد تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ وَحَدِيثُ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ فَأَخْرَجَهُمَا الْبُخَارِيُّ وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَدِيثُ أَنَسٍ فَأَخْرَجَهُمَا التِّرْمِذِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَمَّا حَدِيثُ بن عُمَرَ فَأَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ مَرْفُوعًا مَنْ قرأ قل هو الله أحد عَشِيَّةَ عَرَفَةَ أَلْفَ مَرَّةٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا سَأَلَ
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ فَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ والنسائي وبن مَاجَهْ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَذَكَرَهُ الْمُنْذِرِيُّ فِي تَرْغِيبِهِ وَنَقَلَ تَحْسِينَ التِّرْمِذِيِّ وَأَقَرَّهُ
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الرَّازِيُّ أَبُو يَحْيَى (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) يُقَالُ اسْمُ جَدِّهِ السَّائِبُ بْنُ عمير صدوق من السادسة (عن بن حُنَيْنٍ) اسْمُهُ عُبَيْدٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ التِّرْمِذِيُّ فِيمَا بَعْدُ وَصَرَّحَ مَالِكٌ أَيْضًا فِي رِوَايَتِهِ حَيْثُ قَالَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ مَوْلَى آلِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَخْ
وَقَالَ الْحَافِظُ فِي التَّقْرِيبِ عُبَيْدُ بْنُ حُنَيْنٍ بِنُونَيْنِ مُصَغَّرًا الْمَدَنِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ثِقَةٌ قَلِيلُ الْحَدِيثِ مِنَ الثَّالِثَةِ
وَوَقَعَ فِي النُّسْخَةِ الْأَحْمَدِيَّةِ عَنْ أَبِي حُنَيْنٍ وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ رَاوٍ كُنْيَتُهُ أَبُو حُنَيْنٍ(8/168)
قوله (وجبت) أي له (قلت ما وجبت) أي ما مَعْنَى قَوْلِكَ جَزَاءً لِقِرَاءَتِهِ وَجَبَتْ أَوْ مَا فَاعِلُ وَجَبَتْ (قَالَ الْجَنَّةُ) أَيْ بِمُقْتَضَى وَعْدِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ الَّذِي لَا يُخْلِفُهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ مالك والنسائي والحاكم وقال صحيح الإسناد (وبن حُنَيْنٍ هُوَ إِلَخْ) وَقَعَ فِي النُّسْخَةِ الْأَحْمَدِيَّةِ أبو حنين مكان بن حُنَيْنٍ وَهُوَ غَلَطٌ كَمَا عَرَفْتَ
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ) نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ وَاسْمُ أَبِيهِ مُحَمَّدٌ قَالَ فِي التَّقْرِيبِ مُحَمَّدُ بْنُ محمد بن مرزوق الباهلي البصري بن بِنْتِ مَهْدِيٍّ وَقَدْ يُنْسَبُ لِجَدِّهِ مَرْزُوقٍ صَدُوقٌ له أوهام من الحادية عشرة (أخبرنا حَاتِمُ بْنُ مَيْمُونٍ أَبُو سَهْلٍ) الْكِلَابِيُّ الْبَصْرِيُّ صَاحِبُ السَّقَطِ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْقَافِ ضَعِيفٌ مِنَ الثَّامِنَةِ
قَوْلُهُ (مَنْ قَرَأَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَتَيْ مرة قل هو الله أحد) أَيْ إِلَى آخِرِهِ أَوْ هَذِهِ السُّورَةَ (مُحِيَ عَنْهُ) أَيْ عَنْ كِتَابِ أَعْمَالِهِ (إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ) قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْحَقِّ مَا مُحَصَّلُهُ إِنَّ لِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مَعْنَيَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّ هَذَا الذَّنْبَ أَيِ الدَّيْنَ لَا يُمْحَى عَنْهُ وَلَا يُغْفَرُ وَجَعَلَ الدَّيْنَ مِنْ جِنْسِ الذُّنُوبِ تَهْوِيلًا لِأَمْرِهِ وَالثَّانِي أَنَّهُ مَحَى عَنْهُ ذُنُوبَهُ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَلَا تُؤَثِّرُ قِرَاءَةُ هَذِهِ السُّورَةِ فِي مَحْوِهَا
قَوْلُهُ (مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنَامَ عَلَى فِرَاشِهِ فَنَامَ) قَالَ الطِّيبِيُّ الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ وَجَزَاءُ الشَّرْطِ شَرْطٌ مَعَ جَزَائِهِ أَيْ قَوْلُهُ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَلَمْ يَعْمَلِ الشَّرْطُ الثَّانِي فِي جَزَائِهِ أَعْنِي يَقُولُ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَاضٍ فَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ إِذَا فَلَا يَعْمَلْ فِي الْجَزَاءِ كَمَا فِي قول الشاعر(8/169)
وَإِنْ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْغَبَةٍ يَقُولُ لَا غَائِبٌ مَالِي وَلَا حَرَمُ (عَلَى يَمِينِهِ) أَيْ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ (ادْخُلْ عَلَى يَمِينِكَ الْجَنَّةَ) قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ عَلَى يَمِينِكَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ ادْخُلْ فَطَابَقَ هَذَا قَوْلَهُ فَنَامَ عَلَى يَمِينِهِ يَعْنِي إِذَا أَطَعْتَ رَسُولِي وَاضْطَجَعْتَ عَلَى يَمِينِكَ وَقَرَأْتَ السُّورَةَ الَّتِي فِيهَا صِفَاتِي فَأَنْتَ الْيَوْمَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَاذْهَبْ مِنْ جَانِبِ يَمِينِكَ إِلَى الْجَنَّةِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) فِي سَنَدِهِ حَاتِمُ بْنُ مَيْمُونٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ كما عرفت
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) هُوَ الْقَطَّانُ (أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ) الْيَشْكُرِيِّ أَبُو إِسْمَاعِيلَ أَوْ أَبُو مُنَيْنٍ بِنُونٍ مُصَغَّرًا الْكُوفِيُّ صَدُوقٌ يخطىء مِنَ السَّادِسَةِ
قَوْلُهُ (احْشُدُوا) أَيِ اجْتَمِعُوا وَاسْتَحْضِرُوا الناس والحشد والجماعة وَاحْتَشَدَ الْقَوْمُ لِفُلَانٍ تَجَمَّعُوا لَهُ وَتَأَهَّبُوا كَذَا فِي النِّهَايَةِ
وَقَالَ فِي الصُّرَاحِ الْحَشْدُ مِنْ باب ضرب يضرب ونصر يننصر وَحَشَدُوا أَيِ اجْتَمَعُوا وَاحْتَشَدُوا وَتَحَشَّدُوا كَذَلِكَ انْتَهَى (ثُمَّ خَرَجَ) أَيْ مِنَ الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ (إِنِّي لَأُرَى) بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ لَأَظُنُّ (هَذَا خَبَرٌ جَاءَهُ مِنَ السَّمَاءِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَذَلِكَ الَّذِي أَدْخَلَهُ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ مسلم(8/170)
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ) الْقَطَوَانِيُّ بِفَتْحِ القاف والطاء أبو الهيثم البجلي مولاهم الكوفي صدوق يتشبع وَلَهُ أَفْرَادٌ مِنْ كِبَارِ الْعَاشِرَةِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح) وأخرجه بن مَاجَهْ
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) هُوَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ (حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الدَّرَاوَرْدِيُّ (عَنْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) هُوَ الْعُمَرِيُّ
قَوْلُهُ (فَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ لَهُمْ فِي الصَّلَاةِ يَقْرَأُ بِهَا افْتَتَحَ بِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ بِهَا لَهُمْ فِي الصَّلَاةِ مِمَّا يَقْرَأُ بِهِ افْتَتَحَ بِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
قَالَ الْحَافِظُ قَوْلُهُ مِمَّا يَقْرَأُ بِهِ أَيْ مِنَ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ هَذَا مَعْنَاهُ وَاضِحٌ وَأَمَّا لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ فَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي قَوْلِهِ يَقْرَأُ بِهَا تَكْرَارًا فَتَفَكَّرْ (فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ) يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّ صَنِيعَهُ ذَلِكَ خِلَافَ مَا أَلِفُوهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقَالُوا إِنَّكَ تَقْرَأُ بِهَذِهِ السُّورَةِ) أَيْ سورة قل هو الله أحد (مِمَّا يَأْمُرُ بِهِ أَصْحَابُكَ) أَيْ يَقُولُونَ لَكَ وَلَمْ يَرِدِ الْأَمْرُ بِالصِّيغَةِ الْمَعْرُوفَةِ لَكِنَّهُ لَازِمٌ مِنَ التَّخْيِيرِ الَّذِي ذَكَرُوهُ كَأَنَّهُمْ(8/171)
قَالُوا لَهُ افْعَلْ كَذَا وَكَذَا (وَمَا يَحْمِلُكَ أَنْ تَقْرَأَ هَذِهِ السُّورَةَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ
قَالَ الْحَافِظُ سَأَلَهُ عَنْ أَمْرَيْنِ فَأَجَابَهُ بِقَوْلِهِ إِنِّي أُحِبُّهَا وَهُوَ جَوَابٌ عَنِ الثَّانِي مُسْتَلْزِمٌ لِلْأَوَّلِ بِانْضِمَامِ شَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ إِقَامَتُهُ السُّنَّةَ الْمَعْهُودَةَ فِي الصَّلَاةِ فَالْمَانِعُ مُرَكَّبٌ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالْأَمْرِ الْمَعْهُودِ وَالْحَامِلُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَحَبَّةُ وَحْدَهَا (إِنَّ حُبَّهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ) دَلَّ تَبْشِيرُهُ لَهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى الرِّضَا بِفِعْلِهِ وَعَبَّرَ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ أَدْخَلَكَ وَإِنْ كَانَ دُخُولُ الْجَنَّةِ مُسْتَقْبَلًا تَحْقِيقًا لِوُقُوعِ ذَلِكَ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مُعَلَّقًا وَالْبَزَّارُ وَالْبَيْهَقِيُّ
تَنْبِيهٌ رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ وَكَانَ يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بقل هو الله أحد فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قِصَّةَ حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا وَقِصَّةَ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ قِصَّتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ لَا أَنَّهُمَا قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ وَيَدُلُّ عَلَى تَغَايُرِهِمَا أَنَّ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ كَانَ يَبْدَأُ بِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ أَمِيرَ السَّرِيَّةِ كَانَ يَخْتِمُ بِهَا وَفِي هَذَا أَنَّهُ كَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ فِي قِصَّةِ الْآخَرِ وَفِي هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَسْأَلُوا أَمِيرَهُمْ وَفِي هَذَا أَنَّهُ قَالَ إِنَّهُ يُحِبُّهَا فَبَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ وَأَمِيرُ السَّرِيَّةِ قَالَ إِنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ فَبَشَّرَهُ بِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ واللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ(8/172)
13 - (بَاب مَا جَاءَ فِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ)
بِكَسْرِ الْوَاوِ المشددة أي قل أعوذ برب القلق وقل أعوذ برب الناس
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) هُوَ الْقَطَّانُ
قَوْلُهُ (لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَبِرَفْعِ مِثْلُهُنَّ أَيْ فِي بَابِهَا وَهُوَ التَّعَوُّذُ يَعْنِي لَمْ يَكُنْ آيَاتُ سُورَةٍ كُلُّهُنَّ تَعْوِيذًا للقارىء غَيْرُ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ وَلِذَلِكَ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَيْنِ الْجَانِّ وَعَيْنِ الْإِنْسَانِ فَلَمَّا نَزَلَتِ الْمُعَوِّذَتَانِ أَخَذَهُمَا وَتَرَكَ مَا سواهما ولما سحر استشفى بهما
وإنما كان كَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا مِنَ الْجَوَامِعِ فِي هَذَا الْبَابِ (قل أعوذ برب الناس إِلَى آخِرِ السُّورَةِ إِلَخْ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ أي هي قل أعوذ برب الناس إِلَخْ وَفِي الْحَدِيثِ بَيَانُ عِظَمِ فَضْلِ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ وَفِيهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى كَوْنِهِمَا مِنَ الْقُرْآنِ وَفِيهِ أَنَّ لَفْظَةَ قُلْ مِنَ القران ثابتة من أول السورتين بعد البسلمة وَقَدِ اجْتَمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى هَذَا كُلِّهِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
قَوْلُهُ (عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ مُكَبَّرًا وَالْمَشْهُورُ بِضَمِّ الْعَيْنِ مُصَغَّرًا وَكَانَ يَغْضَبُ مِنْهَا (فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ) بِضَمِّ الدَّالِ وَالْمُوَحَّدَةِ أَيْ فِي عَقِبِ كُلِّ صَلَاةٍ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ(8/173)
14 - (بَاب مَا جَاءَ فِي فَضْلِ قَارِئِ الْقُرْآنِ)
قَوْلُهُ (وَهِشَامٌ) هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ قَوْلُهُ (الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ
قَالَ النَّوَوِيُّ الْمَاهِرُ الْحَاذِقُ الْكَامِلُ الْحِفْظِ الَّذِي لَا يَتَوَقَّفُ وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ لِجَوْدَةِ حِفْظِهِ وَإِتْقَانِهِ (مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ) السَّفَرَةُ جَمْعُ سَافِرٍ كَكَاتِبٍ وَكَتَبَةٍ وَالسَّافِرُ الرَّسُولُ وَالسَّفَرَةُ الرُّسُلُ لِأَنَّهُمْ يَسْفِرُونَ إِلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِ اللَّهِ وَقِيلَ السَّفَرَةُ الْكَتَبَةُ وَالْكِرَامُ جَمْعُ الْكَرِيمِ أَيِ الْمُكَرَّمِينَ عَلَى اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَهُ لِعِصْمَتِهِمْ وَنَزَاهَتِهِمْ عَنْ دَنَسِ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُخَالَفَةِ وَالْبَرَرَةُ جَمْعُ الْبَارِّ وَهُمِ الْمُطِيعُونَ مِنَ الْبِرِّ وَهُوَ الطَّاعَةُ قَالَ الْقَاضِي
يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى كَوْنِهِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ أَنَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مَنَازِلَ يَكُونُ فِيهَا رَفِيقًا لِلْمَلَائِكَةِ السَّفَرَةِ لِاتِّصَافِهِ بِصِفَتِهِمْ مِنْ حَمْلِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ عَامِلٌ بِعَمَلِهِمْ وَسَالِكٌ مَسْلَكَهُمْ وَالَّذِي يقرأه قَالَ هِشَامٌ) أَيْ فِي رِوَايَتِهِ (وَهُوَ شَدِيدٌ عَلَيْهِ) أَيْ يُصِيبُهُ شِدَّةٌ وَمَشَقَّةٌ (قَالَ شُعْبَةُ) أَيْ فِي رِوَايَتِهِ (وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ) وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ
قَالَ النَّوَوِيُّ وَأَمَّا الَّذِي يَتَتَعْتَعُ فِيهِ فَهُوَ الَّذِي يَتَرَدَّدُ فِي تِلَاوَتِهِ لِضَعْفِ حِفْظِهِ (فَلَهُ أَجْرَانِ) أَجْرُ الْقِرَاءَةِ وَأَجْرٌ بِتَعْتَعَتِهِ فِي تِلَاوَتِهِ وَمَشَقَّتِهِ قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي يَتَتَعْتَعُ عَلَيْهِ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ أَكْثَرُ مِنَ الْمَاهِرِ بِهِ بَلِ الْمَاهِرُ أَفْضَلُ وَأَكْثَرُ أَجْرًا لِأَنَّهُ مَعَ السَّفَرَةِ وَلَهُ أُجُورٌ كَثِيرَةٌ وَلَمْ يُذْكَرْ هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ لِغَيْرِهِ وَكَيْفَ يَلْحَقُ بِهِ مَنْ لَمْ يَعْتَنِ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِفْظِهِ وَإِتْقَانِهِ وَكَثْرَةِ تِلَاوَتِهِ وَدِرَايَتِهِ كَاعْتِنَائِهِ حَتَّى مَهَرَ فِيهِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وأبو داود والنسائي وبن مَاجَهْ
قَوْلُهُ (عَنْ كَثِيرِ بْنِ زَاذَانَ) النَّخَعِيِّ الْكُوفِيِّ مَجْهُولٌ مِنَ السَّابِعَةِ(8/174)
قَوْلُهُ (مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَاسْتَظْهَرَهُ) أَيْ حَفِظَهُ تَقُولُ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِي أَيْ قَرَأْتُهُ مِنْ حِفْظِي
قَالَهُ الْجَزَرِيُّ (فَأَحَلَّ حَلَالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ) أَيِ اعْتَقَدَ حَلَالَهُ حَلَالًا وَحَرَامَهُ حلااما (أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ) أَيْ فِي أَوَّلِ الْوَهْلَةِ (وَشَفَّعَهُ) بِالتَّشْدِيدِ أَيْ قَبِلَ شَفَاعَتَهُ (فِي عَشْرَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ كُلُّهُمْ) أَيْ كُلُّ الْعَشَرَةِ (قَدْ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ) إِفْرَادُ الضَّمِيرِ لِلَفْظِ الْكُلِّ
قَالَ الطِّيبِيُّ فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ إِنَّمَا تَكُونُ فِي رَفْعِ الْمَنْزِلَةِ دُونَ حَطِّ الْوِزْرِ بِنَاءً عَلَى مَا افْتَرَوْهُ أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ يَجِبُ خُلُودُهُ فِي النَّارِ وَلَا يُمْكِنُ الْعَفْوُ عَنْهُ وَالْوُجُوبُ هُنَا عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاعَدَةِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غريب) وأخرجه أحمد وبن مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ (وَحَفْصُ بْنُ سُلَيْمَانَ إِلَخْ) قَالَ في التقريب حفص بن سلمان الأسدي أبو عمر البزار الْكُوفِيُّ الْغَاضِرِيُّ بِمُعْجَمَتَيْنِ
وَهُوَ حَفْصُ بْنُ أَبِي داود القارىء صَاحِبُ عَاصِمٍ وَيُقَالُ لَهُ حُفَيْصٌ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ مَعَ إِمَامَتِهِ فِي الْقِرَاءَةِ مِنَ الثَّامِنَةِ
5 - (بَاب مَا جَاءَ فِي فَضْلِ الْقُرْآنِ)
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي الْمُخْتَارِ الطَّائِيِّ) قِيلَ اسْمُهُ سَعْدٌ مَجْهُولٌ من السادسة (عن بن أَخِي حَارِثٍ الْأعْوَرِ) مَجْهُولٌ مِنَ السَّادِسَةِ
قَالَ في تهذيب التهذيب بن أَخِي الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ رَوَى عَنِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ وَرَوَى عَنْهُ أَبُو الْمُخْتَارِ الطَّائِيُّ لَمْ يُسَمَّ لَا هُوَ وَلَا أَبُوهُ
قَوْلُهُ (مَرَرْتَ فِي الْمَسْجِدِ) قَالَ الطِّيبِيُّ فِي الْمَسْجِدِ ظَرْفٌ والمرور بِهِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ(8/175)
قَوْلُهُ (فَإِذَا النَّاسُ يَخُوضُونَ فِي الْأَحَادِيثِ) أَيْ أَحَادِيثِ النَّاسِ وَأَبَاطِيلِهِمْ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْحِكَايَاتِ وَالْقَصَصِ وَيَتْرُكُونَ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ وَمَا يَقْتَضِيه مِنَ الْأَذْكَارِ وَالْآثَارِ وَالْخَوْضُ أَصْلُهُ الشُّرُوعُ فِي الْمَاءِ وَالْمُرُورُ فيه ويستعار الشروع فِي الْأُمُورِ وَأَكْثَرُ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَرَدَ فِيمَا يُذَمُّ الشُّرُوعُ فِيهِ نَحْوُ قَوْلِهِ تعالى فذرهم في خوضهم يلعبون (وقد فَعَلُوهَا)
قَالَ الطِّيبِيُّ أَيِ ارْتَكَبُوا هَذِهِ الشَّنِيعَةَ وَخَاضُوا فِي الْأَبَاطِيلِ فَإِنَّ الْهَمْزَةَ وَالْوَاوَ الْعَاطِفَةَ يَسْتَدْعِيَانِ فِعْلًا مُنْكَرًا مَعْطُوفًا عَلَيْهِ أَيْ فَعَلُوا هذه الفعلة الشنيعة وقال القارىء أَيْ أَتَرَكُوا الْقُرْآنَ وَقَدْ فَعَلُوهَا أَيْ وَخَاضُوا فِي الْأَحَادِيثِ (أَمَا) لِلتَّنْبِيهِ (أَلَا) لِلتَّنْبِيهِ أَيْضًا (إِنَّهَا) الضَّمِيرُ لِلْقِصَّةِ (سَتَكُونُ فِتْنَةٌ) أَيْ عَظِيمَةٌ
قال بن الْمَلِكِ يُرِيدُ بِالْفِتْنَةِ مَا وَقَعَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ أَوْ خُرُوجَ التَّتَارِ أَوِ الدَّجَّالِ أَوْ دَابَّةِ الأرض انتهى
قال القارىء وَغَيْرُ الْأَوَّلِ لَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ كَمَا لَا يَخْفَى (فَقُلْتَ مَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا) بِفَتْحِ الْمِيمِ اسْمُ ظَرْفٍ أَوْ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ أَيْ مَا طَرِيقُ الْخُرُوجِ وَالْخَلَاصِ مِنَ الْفِتْنَةِ يَا رَسُولَ اللَّهِ
قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ مَوْضِعُ الْخُرُوجِ أَوِ السَّبَبُ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْخُرُوجِ عَنِ الْفِتْنَةِ (قَالَ كِتَابُ اللَّهِ) أَيْ طَرِيقُ الْخُرُوجِ مِنْهَا تَمَسُّكُ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ (فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ) أَيْ مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ (وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ) وَهِيَ الْأُمُورُ الْآتِيَةُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَأَحْوَالِ الْقِيَامَةِ وَفِي الْعِبَارَةِ تَفَنُّنٌ (وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْكَافِ أَيْ حَاكِمُ مَا وَقَعَ أَوْ يَقَعُ بَيْنَكُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَالْعِصْيَانِ
والحلال والحرام وسائر شرئع الْإِسْلَامِ (وَهُوَ الْفَصْلُ) أَيِ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ أَوِ الْمَفْصُولُ وَالْمُمَيَّزُ فِيهِ الْخَطَأُ وَالصَّوَابُ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعَذَابُ وَصَفَ بِالْمَصْدَرِ مُبَالَغَةً (لَيْسَ بِالْهَزْلِ) أَيْ جِدٌّ كُلُّهُ وَحَقٌّ جَمِيعُهُ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ
وَالْهَزْلُ فِي الْأَصْلِ الْقَوْلُ الْمُعَرَّى عَنِ الْمَعْنَى الْمَرْضِيِّ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْهُزَالِ ضِدِّ السِّمَنِ وَالْحَدِيثُ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى إنه لقول فصل وما هو بالهزل (مَنْ تَرَكَهُ) أَيِ الْقُرْآنَ إِيمَانًا وَعَمَلًا (مِنْ جبار) بين التارك بمن جَبَّارٍ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى التَّرْكِ إِنَّمَا هُوَ التَّجَبُّرُ وَالْحَمَاقَةُ
قَالَ الطِّيبِيُّ مَنْ تَرَكَ الْعَمَلَ بِآيَةٍ أَوْ بِكَلِمَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ مِمَّا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ أَوْ تَرَكَ قِرَاءَتَهَا مِنَ التَّكَبُّرِ كَفَرَ وَمَنْ تَرَكَ عَجْزًا أَوْ كَسَلًا أَوْ ضَعْفًا مَعَ اعْتِقَادِ تَعْظِيمِهِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ أَيْ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ وَلَكِنَّهُ مَحْرُومٌ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ (قَصَمَهُ) أَيْ أَهْلَكَهُ أَوْ كَسَرَ عُنُقَهُ وَأَصْلُ الْقَصْمِ الْكَسْرُ وَالْإِبَانَةُ(8/176)
(وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى) أَيْ طَلَبَ الْهِدَايَةَ مِنَ الضَّلَالَةِ (فِي غَيْرِهِ) مِنَ الْكُتُبِ وَالْعُلُومِ الَّتِي غَيْرُ مَأْخُوذَةٍ مِنْهُ وَلَا مُوَافِقَةٍ مَعَهُ (أَضَلَّهُ اللَّهُ) أَيْ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى وَأَوْقَعَهُ فِي سَبِيلِ الرَّدَى (وَهُوَ) أَيِ الْقُرْآنُ (حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ) أَيِ الْحُكْمُ الْقَوِيُّ وَالْحَبْلُ مُسْتَعَارٌ لِلْوَصْلِ وَلِكُلِّ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى شَيْءٍ أَيِ الْوَسِيلَةُ الْقَوِيَّةُ إِلَى مَعْرِفَةِ رَبِّهِ وَسَعَادَةِ قُرْبِهِ (وَهُوَ الذِّكْرُ) أَيْ مَا يُذْكَرُ بِهِ الْحَقُّ تَعَالَى أَوْ مَا يَتَذَكَّرُ بِهِ الْخَلْقُ أَيْ يَتَّعِظُ (الْحَكِيمُ) أَيْ ذُو الْحِكْمَةِ (هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ) بِالتَّأْنِيثِ وَالتَّذْكِيرِ أَيْ لَا تَمِيلُ عَنِ الْحَقِّ (بِهِ) أَيْ بِاتِّبَاعِهِ (الْأَهْوَاءُ) أَيِ الْهَوَى إِذَا وَافَقَ هَذَا الْهُدَى حُفِظَ مِنَ الرَّدَى وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا يَصِيرُ بِهِ مُبْتَدِعًا وَضَالًّا يَعْنِي لَا يَمِيلُ بِسَبَبِهِ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْآرَاءِ
وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ لَا يَقْدِرُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ عَلَى تَبْدِيلِهِ وَتَغْيِيرِهِ وَإِمَالَتِهِ وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى وُقُوعِ تَحْرِيفِ الْغَالِينَ وَانْتِحَالِ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلِ الْجَاهِلِينَ فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ وَقِيلَ الرِّوَايَةُ مِنَ الْإِزَاغَةِ بِمَعْنَى الْإِمَالَةِ وَالْبَاءُ لِتَأْكِيدِ التَّعْدِيَةِ أَيْ لَا تُمِيلُهُ الْأَهْوَاءُ الْمُضِلَّةُ عَنْ نَهْجِ الِاسْتِقَامَةِ إِلَى الِاعْوِجَاجِ وَعَدَمِ الْإِقَامَةِ كَفِعْلِ الْيَهُودِ بِالتَّوْرَاةِ حِينَ حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى تَكَفَّلَ بِحِفْظِهِ قَالَ تَعَالَى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنا له لحافظون (وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ) أَيْ لَا تَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ أَلْسِنَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَوْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ العرب قال تعالى فإنما يسرناه بلسانك ولقد يسرنا القرآن للذكر وقيل لا يختلط غيره بِحَيْثُ يَشْتَبِهُ الْأَمْرُ وَيَلْتَبِسُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْفَظُهُ أَوْ يَشْتَبِهُ كَلَامُ الرَّبِّ بِكَلَامِ غَيْرِهِ لِكَوْنِهِ كَلَامًا مَعْصُومًا دَالًّا عَلَى الْإِعْجَازِ (وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ) أَيْ لَا يَصِلُونَ إِلَى الْإِحَاطَةِ بِكُنْهِهِ حَتَّى يَقِفُوا عَنْ طَلَبِهِ وُقُوفَ مَنْ يَشْبَعُ مِنْ مَطْعُومٍ بَلْ كُلَّمَا اطَّلَعُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ حَقَائِقِهِ اشْتَاقُوا إِلَى آخَرَ أَكْثَرَ مِنَ الْأَوَّلِ وَهَكَذَا فَلَا شِبَعَ وَلَا سَآمَةَ (وَلَا يَخْلُقُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ اللَّامِ وَبِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ مِنْ خَلُقَ الثَّوْبُ إِذَا بَلِيَ وَكَذَلِكَ أَخْلَقَ (عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ) أَيْ لَا تَزُولُ لَذَّةُ قِرَاءَتِهِ وَطَرَاوَةُ تِلَاوَتِهِ وَاسْتِمَاعُ أَذْكَارِهِ وَأَخْبَارِهِ مِنْ كَثْرَةِ تكراره
قال القارىء وعن عَلَى بَابهَا أَيْ لَا يُصْدِرُ الْخَلْقُ مِنْ كَثْرَةِ تَكْرَارِهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ كَلَامِ غَيْرِهِ تعالى وهذا أولى مما قاله بن حَجَرٍ مِنْ أَنَّ عَنْ بِمَعْنَى مَعَ انْتَهَى
قُلْتُ قَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ التِّرْمِذِيِّ عَلَى مَكَانَ عَنْ وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ بن حَجَرٍ (وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ) أَيْ لَا تَنْتَهِي غَرَائِبُهُ الَّتِي يُتَعَجَّبُ مِنْهَا قِيلَ كَالْعَطْفِ التَّفْسِيرِيِّ لِلْقَرِينَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (هُوَ الَّذِي لَمْ تنته الجن(8/177)
أَيْ لَمْ يَقِفُوا وَلَمْ يَلْبَثُوا (إِذْ سَمِعَتْهُ) أَيِ الْقُرْآنَ (حَتَّى قَالُوا) أَيْ لَمْ يَتَوَقَّفُوا وَلَمْ يَمْكُثُوا وَقْتَ سَمَاعِهِمْ لَهُ عَنْهُ بَلْ أَقْبَلُوا عَلَيْهِ لِمَا بَهَرَهُمْ مِنْ شَأْنِهِ فَبَادَرُوا إِلَى الْإِيمَانِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَاهَةِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ وَبَالَغُوا فِي مَدْحِهِ حَتَّى قَالُوا (إِنَّا سمعنا قرانا عجبا) أَيْ شَأْنُهُ مِنْ حَيْثِيَّةِ جَزَالَةِ الْمَبْنَى وَغَزَارَةِ المعنى (يهدي إلى الرشد) أَيْ يَدُلُّ عَلَى سَبِيلِ الصَّوَابِ أَوْ يَهْدِي اللَّهُ بِهِ النَّاسَ إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ (فَآمَنَّا به) أي بأنه عن عبد اللَّهِ وَيَلْزَمُ مِنْهُ الْإِيمَانُ بِرَسُولِ اللَّهِ (مَنْ قَالَ بِهِ) مَنْ أَخْبَرَ بِهِ (صَدَقَ) أَيْ فِي خَبَرِهِ أَوْ مَنْ قَالَ قَوْلًا مُلْتَبِسًا بِهِ بِأَنْ يَكُونَ عَلَى قَوَاعِدِهِ وَوَفْقَ قَوَانِينِهِ وَضَوَابِطِهِ صَدَقَ (وَمَنْ عَمِلَ بِهِ) أَيْ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ (أُجِرَ) أَيْ أُثِيبَ فِي عَمَلِهِ أَجْرًا عَظِيمًا وَثَوَابًا جَسِيمًا لِأَنَّهُ لَا يَحُثُّ إِلَّا عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَمَحَاسِنِ الْآدَابِ (وَمَنْ حَكَمَ بِهِ) أَيْ بَيْنَ النَّاسِ (عَدَلَ) أَيْ فِي حُكْمِهِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْحَقِّ (وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) قَالَ فِي اللُّمَعَاتِ رُوِيَ مَجْهُولًا أَيْ مَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى الْقُرْآنِ وُفِّقَ لِلْهِدَايَةِ وَرُوِيَ مَعْرُوفًا كَأَنَّ الْمَعْنَى مَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَيْهِ هَدَاهُمْ انْتَهَى (خُذْهَا) أَيْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الطيبات واحفظها (يا أعور) هوالحارث الْأَعْوَرُ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ (وإسناده مجهول) لجهالة أبي المختار الطائي وبن أَخِي الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ (وَفِي حَدِيثِ الْحَارِثِ مَقَالٌ) قَالَ الْحَافِظُ فِي تَرْجَمَتِهِ كَذَّبَهُ الشَّعْبِيُّ فِي رَأْيِهِ وَرُمِيَ بِالرَّفْضِ وَفِي حَدِيثِهِ ضَعْفٌ
6 - (بَاب مَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ)
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ) هُوَ الطَّيَالِسِيُّ (قَالَ سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ) بِضَمِّ الْعَيْنِ مُصَغَّرًا السُّلَمِيَّ
(يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ) اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبٍ(8/178)
قَوْلُهُ (خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ خَيْرُ النَّاسِ بِاعْتِبَارِ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ من تعلم القرآن وعلمه انتهى
قال القارىء فِي الْمِرْقَاةِ وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْعَمَلَ خَارِجٌ عنهما لأن العلم إذا لم يكن مؤرثا لِلْعَمَلِ لَيْسَ عِلْمًا فِي الشَّرِيعَةِ إِذْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ انْتَهَى
قَالَ الْحَافِظُ فَإِنْ قِيلَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُقْرِئُ أَفْضَلَ مِنَ الْفَقِيهِ قُلْنَا لَا لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ كَانُوا فُقَهَاءَ النُّفُوسِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ اللِّسَانِ فَكَانُوا يَدْرُونَ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ بِالسَّلِيقَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَدْرِيهَا مَنْ بَعْدَهُمْ بِالِاكْتِسَابِ فَكَانَ الْفِقْهُ لَهُمْ سَجِيَّةً فَمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ شَأْنِهِمْ شَارَكَهُمْ فِي ذَلِكَ لَا مَنْ كَانَ قَارِئًا أَوْ مُقْرِئًا مَحْضًا لَا يَفْهَمُ شيئا من معاني ما يقرأه أَوْ يُقْرِئُهُ فَإِنْ قِيلَ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُقْرِئُ أَفْضَلَ مِمَّنْ هُوَ أَعْظَمُ عَنَاءً فِي الْإِسْلَامِ بِالْمُجَاهِدَةِ وَالرِّبَاطِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مَثَلًا قُلْنَا حَرْفُ الْمَسْأَلَةِ يَدُورُ عَلَى النَّفْعِ الْمُتَعَدِّي فَمَنْ كَانَ حُصُولُهُ عِنْدَهُ أَكْثَرَ كَانَ أَفْضَلَ فَلَعَلَّ مِنْ مُضْمَرَةٌ فِي الْخَبَرِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْخَيْرِيَّةُ وَإِنْ أُطْلِقَتْ لَكِنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِنَاسٍ مَخْصُوصِينَ خُوطِبُوا بِذَلِكَ كَانَ اللَّائِقُ بِحَالِهِمْ ذَلِكَ أَوِ الْمُرَادُ خَيْرُ الْمُتَعَلِّمِينَ مَنْ يُعَلِّمُ غَيْرَهُ لَا مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَى نَفْسِهِ
انْتَهَى
قَوْلُهُ (قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَذَاكَ الَّذِي أَقْعَدَنِي مَقْعَدِي هَذَا) أَيْ هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي حَدَّثَنِي بِهِ عُثْمَانُ هُوَ الَّذِي أَجْلَسَنِي مَجْلِسِي هَذَا
يَعْنِي هُوَ الَّذِي حَمَلَنِي عَلَى جُلُوسِي مَجْلِسِي هَذَا لِلْإِقْرَاءِ (وَعَلَّمَ) أَيْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ (فِي زَمَانِ عُثْمَانَ حَتَّى بَلَغَ الْحَجَّاجَ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَأَقْرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي إِمْرَةِ عُثْمَانَ حَتَّى كَانَ الْحَجَّاجُ قَالَ الْحَافِظُ أَيْ حَتَّى وُلِّيَ الْحَجَّاجُ عَلَى الْعِرَاقِ قَالَ بَيْنَ أَوَّلِ خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَآخِرِ وِلَايَةِ الْحَجَّاجِ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ سَنَةً إِلَّا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَبَيْنَ آخِرِ خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَأَوَّلِ وِلَايَةِ الْحَجَّاجِ الْعِرَاقَ ثَمَانٍ وَثَلَاثُونَ سَنَةً وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ ابْتِدَاءِ إِقْرَاءِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَآخِرِهِ فاللَّهُ أَعْلَمُ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ وَيُعْرَفُ مِنَ الَّذِي ذَكَرْته أَقْصَى الْمُدَّةِ وَأَدْنَاهَا وَالْقَائِلُ وَأَقْرَأَ إِلَخْ
هُوَ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ(8/179)
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وأبو داود والنسائي وبن مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ (عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) لَمْ يَذْكُرْ سُفْيَانُ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ بَيْنَ عَلْقَمَةَ وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ
قَوْلُهُ (خَيْرُكُمْ أَوْ أَفْضَلُكُمْ) شَكٌّ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ
قَوْلُهُ (قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَأَصْحَابُ سُفْيَانَ لَا يَذْكُرُونَ فِيهِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَهُوَ أَصَحُّ) وَهَكَذَا حَكَمَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ عَلَى يَحْيَى القطان فيه بالوهم
وقال بن عَدِيٍّ
جَمَعَ يَحْيَى الْقَطَّانُ بَيْنَ شُعْبَةَ وَسُفْيَانَ فَالثَّوْرِيُّ لَا يَذْكُرُ فِي إِسْنَادِهِ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ وَهَذَا مِمَّا عُدَّ فِي خَطَأِ يَحْيَى القطان على الثوري قال بن عدي إن يحيى القطان لم يخطىء قَطُّ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَذَا فِي الفتح
وقال أَبُو عِيسَى (وَقَدْ زَادَ شُعْبَةُ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ وَكَانَ حَدِيثُ سُفْيَانَ أَشْبَهَ) وَالْبُخَارِيُّ أَخْرَجَ الطَّرِيقَيْنِ فَكَأَنَّهُ تَرَجَّحَ(8/180)
عِنْدَهُ أَنَّهُمَا جَمِيعًا مَحْفُوظَانِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ عَلْقَمَةَ سَمِعَهُ أَوَّلًا مِنْ سَعْدٍ ثُمَّ لَقِيَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَحَدَّثَهُ بِهِ أَوْ سَمِعَهُ مَعَ سَعْدٍ مِنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَثَبَّتَهُ فِيهِ سَعْدٌ قَالَهُ الْحَافِظُ
قَوْلُهُ (قَالَ عَلِيُّ بن عبد الله هو بن الْمَدِينِيِّ) (قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) هُوَ الْقَطَّانُ (مَا أَحَدٌ يَعْدِلُ عِنْدِي شُعْبَةَ) أَيْ لَيْسَ عِنْدِي أَحَدٌ يُسَاوِي شُعْبَةَ فِي الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ (وَإِذَا خَالَفَهُ سُفْيَانُ أَخَذْتُ بِقَوْلِ سُفْيَانَ) لِأَنَّ سُفْيَانَ أَحْفَظُ وَأَتْقَنُ مِنْ شُعْبَةَ وَقَدِ اعْتَرَفَ بِهِ شُعْبَةُ نَفْسُهُ كَمَا بَيَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ بِقَوْلِهِ (سَمِعْتُ أَبَا عَمَّارٍ يَذْكُرُ عَنْ وَكِيعٍ إِلَخْ) (وَمَا حَدَّثَنِي سُفْيَانُ عَنْ أَحَدٍ بِشَيْءٍ فَسَأَلْتُهُ إِلَّا وَجَدْته كَمَا حَدَّثَنِي) هَذَا دَلِيلُ شُعْبَةَ عَلَى أَنَّ سُفْيَانَ أَحْفَظُ مِنْهُ يَعْنِي لَمْ يُحَدِّثْنِي سُفْيَانُ بِشَيْءٍ عَنْ رَجُلٍ فَسَأَلْتَ ذَلِكَ الرَّجُلَ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ إِلَّا وَجَدْتُ ذَلِكَ الشَّيْءَ عَنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ كَمَا حَدَّثَنِي بِهِ سُفْيَانُ فَبَطَلَ قَوْلُ بَعْضِ الْجَهَلَةِ أَنَّ قَوْلَ شُعْبَةَ سُفْيَانُ أَحْفَظُ مِنِّي مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ قَالَهُ هَضْمًا لِنَفْسِهِ
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ عَلِيٍّ وَسَعْدٍ) أَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ فَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَمَّا حَدِيثُ سَعْدٍ فَأَخْرَجَهُ بن مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ) الْعَبْدِيُّ مَوْلَاهُمِ الْبَصْرِيُّ ثِقَةٌ فِي حَدِيثِهِ عَنِ الْأَعْمَشِ وَحْدَهُ مَقَالٌ (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ) بْنِ الْحَارِثِ الْوَاسِطِيِّ يُكَنَّى بِأَبِي شَيْبَةَ
قَالَ الْحَافِظُ فِي التَّقْرِيبِ ضَعِيفٌ
وَقَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِيهِ نَظَرٌ
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ عَنْ أَبِيهِ لَيْسَ بِذَاكَ وَهُوَ الَّذِي يُحَدِّثُ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَعْدٍ أَحَادِيثَ مَنَاكِيرَ انْتَهَى (عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَعْدٍ) الْأَنْصَارِيِّ الْكُوفِيِّ رَوَى عَنْ عَلِيٍّ وغيره وعنه بن أُخْتِهِ أَبُو شَيْبَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ الْكُوفِيُّ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُهُ فِيمَا قَالَ أبو حاتم وذكره بن حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ قَالَ الْحَافِظُ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ وَالرَّاوِي عَنْهُ ضَعِيفٌ فَلَا يُحْتَجُّ بِخَبَرِهِ انتهى(8/181)
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَخْ) لَمْ يَحْكُمِ التِّرْمِذِيُّ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِشَيْءٍ مِنَ الضَّعْفِ أَوِ الصِّحَّةِ وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لِضَعْفِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ الْوَاسِطِيِّ
7 - (بَاب مَا جاء في من قَرَأَ حَرْفًا مِنْ الْقُرْآنِ)
مَالَهُ مِنْ الْأَجْرِ قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ) اسْمُهُ عَبْدُ الْكَبِيرِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ الصَّغِيرُ
قَوْلُهُ (مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ) أَيِ الْقُرْآنِ (وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا) أَيْ مُضَاعَفَةٌ بِالْعَشْرِ وَهُوَ أَقَلُّ التَّضَاعُفِ الْمَوْعُودِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَاللَّهُ يضاعف لمن يشاء وَالْحَرْفُ يُطْلَقُ عَلَى حَرْفِ الْهِجَاءِ وَالْمَعَانِي وَالْجُمْلَةِ الْمُفِيدَةِ وَالْكَلِمَةِ الْمُخْتَلَفِ فِي قِرَاءَتِهَا وَعَلَى مُطْلَقِ الْكَلِمَةِ
وَلِذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَقُولُ ألم حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ وَفِي رواية بن أَبِي شَيْبَةَ وَالطَّبَرَانِيِّ مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنَ الْقُرْآنِ كُتِبَ لَهُ بِهِ حَسَنَةٌ لَا أَقُولُ ألم ذلك الكتاب وَلَكِنِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَالْمِيمُ وَالذَّالُ وَاللَّامُ وَالْكَافُ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ لَا أَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ بَاءٌ وَسِينٌ وَمِيمٌ وَلَا أَقُولُ الم وَلَكِنِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَالْمِيمُ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ) وَأَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ
قَوْلُهُ (سَمِعْتُ قُتَيْبَةَ بْنَ سَعِيدٍ) يَقُولُ بَلَغَنِي أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرُظِيَّ وُلِدَ فِي حَيَاةِ(8/182)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ الْحَافِظُ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَإِنَّمَا الَّذِي وُلِدَ فِي عَهْدِهِ هُوَ أَبُوهُ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ مِنْ سَبْيِ قُرَيْظَةَ مِمَّنْ لَمْ يَحْتَلِمْ وَلَمْ يُنْبِتْ فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ حَكَى ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدٍ انْتَهَى (وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ يُكَنَّى أَبَا حَمْزَةَ) وَقِيلَ يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَدَنِيٌّ مِنْ حُلَفَاءِ الْأَوْسِ وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ سَبْيِ قُرَيْظَةَ سَكَنَ الكوفة ثم المدينة
قال بن سَعْدٍ كَانَ ثِقَةً عَالِمًا كَثِيرَ الْحَدِيثِ وَرِعًا
قَالَ الْعِجْلِيُّ مَدَنِيٌّ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ رَجُلٌ صَالِحٌ عَالِمٌ بِالْقُرْآنِ
وَقَالَ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَا رَأَيْتَ أَحَدًا أَعْلَمَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ مِنْهُ
وقال بن حِبَّانَ كَانَ مِنْ أَفَاضِلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عِلْمًا وَفِقْهًا وَكَانَ يَقُصُّ فِي الْمَسْجِدِ فَسَقَطَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ سَقْفٌ فَمَاتَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ تحت الهدم سنة ثمان عشرة
قوله (عن عاصم) بن بهدلة وهو بن أَبِي النَّجُودِ
قَوْلُهُ (يَا رَبِّ حَلِّهِ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمْرٌ مِنَ التَّحْلِيَةِ يُقَالُ حَلَّيْتُهُ أُحَلِّيهِ تَحْلِيَةً إِذَا أَلْبَسْتُهُ الْحِلْيَةَ
وَالْمَعْنَى يَا رَبِّ زَيِّنْهُ (اقْرَأْ) أَمْرٌ مِنَ الْقِرَاءَةِ أَيِ اتْلُ (وارق) أمر من رقأ يرقا رقا أَيِ اصْعَدْ
قَالَ فِي الْقَامُوسِ
رَقَأَ فِي الدَّرَجَةِ صَعِدَ وَهِيَ الْمَرْقَأَةُ وَتُكْسَرُ
أَيْ يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ وَاصْعَدْ عَلَى دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ وَسَيَأْتِي تَوْضِيحُهُ عَنْ قَرِيبٍ فِي شَرْحِ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو
قَوْلُهُ (هَذَا حديث حسن) وأخرجه بن خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ
وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ كَذَا فِي التَّرْغِيبِ للمنذري(8/183)
قَوْلُهُ (وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدَنَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الصَّمَدِ عَنْ شُعْبَةَ) أَيْ هَذَا الْحَدِيثُ الْمَوْقُوفُ الَّذِي رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الصَّمَدِ عَنْ شُعْبَةَ الْمَرْفُوعِ الْمَذْكُورِ وَذَلِكَ لِأَنَّ عَبْدَ الصَّمَدِ وإِنْ كَانَ ثِقَةً فِي شُعْبَةَ لَكِنْ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَدَنِيُّ الْبَصْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِغُنْدَرٍ أَوْثَقُ وَأَتْقَنُ مِنْهُ فِي شُعْبَةَ
قَالَ الْحَافِظُ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَعْرُوفُ بِغُنْدَرٍ صَاحِبُ الْكَرَابِيسِ رَوَى عَنْ شُعْبَةَ فَأَكْثَرَ وَجَالَسَهُ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً وَكَانَ رَبِيبَهُ
وَقَالَ الْعِجْلِيُّ بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ وَكَانَ مِنْ أَثْبَتِ النَّاسِ فِي حَدِيثِ شُعْبَةَ
وقال بن الْمُبَارَكِ إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَدِيثِ شُعْبَةَ فكتاب غندر حكم بينهم
8 - باب قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا أَبُو النَّضْرِ) اسْمُهُ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ اللَّيْثِيُّ
(أَخْبَرَنَا بَكْرُ بْنُ خُنَيْسٍ) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالنُّونِ مُصَغَّرًا كُوفِيٌّ عَابِدٌ سَكَنَ بَغْدَادَ صدوق له أغلاط أفرط فيه بن حِبَّانَ قَالَهُ الْحَافِظُ فِي التَّقْرِيبِ قَوْلُهُ (مَا أَذِنَ اللَّهُ) أَيْ مَا أَصْغَى وَمَا اسْتَمَعَ
قَالَ فِي الْقَامُوسِ أَذِنَ إِلَيْهِ وَلَهُ كَفَرِحَ استمع
قال الطيبي وههنا أَذِنَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِقْبَالِ مِنَ اللَّهِ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى الْعَبْدِ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ وَقَدْ فَرَغَ مِنَ الشَّوَاغِلِ مُتَوَجِّهًا إِلَى مَوْلَاهُ مُنَاجِيًا لَهُ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ فاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَيْضًا يُقْبِلُ عَلَيْهِ بِلُطْفِهِ وَإِحْسَانِهِ إِقْبَالًا لَا يُقْبِلُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ (لِعَبْدٍ فِي شَيْءٍ) أَيْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ (أَفْضَلَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ يُصَلِّيهِمَا) يَعْنِي أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ الصَّلَاةُ كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ الصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ
أَيْ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ مَا وَضَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ لِيَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ (وَإِنَّ الْبِرَّ لَيُذَرُّ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ يُنْثَرُ وَيُفَرَّقُ مِنْ قَوْلِهِمْ ذَرَرْتَ الحب(8/184)
وَالْمِلْحَ أَيْ فَرَّقْتُهُ (عَلَى رَأْسِ الْعَبْدِ) أَيْ يُنْزِلُ الرَّحْمَةَ وَالثَّوَابَ الَّذِي هُوَ أَثَرُ الْبِرِّ عَلَى الْمُصَلِّي (وَمَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ) قَالَ فِي مَجْمَعِ الْبِحَارِ أَيْ مَا ظَهَرَ مِنَ اللَّهِ وَنَزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ وَقِيلَ مَا خَرَجَ مِنَ الْعَبْدِ بِوُجُودِهِ عَلَى لِسَانِهِ مَحْفُوظًا فِي صَدْرِهِ مَكْتُوبًا بِيَدِهِ وَقِيلَ مَا ظَهَرَ مِنْ شَرَائِعِهِ وَكَلَامِهِ أَوْ خَرَجَ مِنْ كِتَابِهِ الْمُبِينِ وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ لِلْإِنْكَارِ وَيَجُوزُ كَوْنُهَا نَافِيَةً وَهُوَ أقرب أي ما تقرب بشيء مثل انْتَهَى مَا فِي الْمَجْمَعِ
(قَالَ أَبُو النَّضْرِ) الرَّاوِي عَنْ بَكْرِ بْنِ خُنَيْسٍ (يَعْنِي الْقُرْآنَ) هَذَا تَفْسِيرٌ مِنْ أَبِي النَّضْرِ لِقَوْلِهِ مَا خَرَجَ مِنْهُ
وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَوْلَى عِنْدِي يَعْنِي ضَمِيرُ مِنْهُ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ
وَالْمُرَادُ بِمَا خَرَجَ مِنْهُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْقُرْآنُ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَفِي سَنَدِهِمَا بَكْرُ بْنُ خُنَيْسٍ وَهُوَ مُتَكَلَّمٌ فِيهِ وَلَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ وَقَدِ اخْتَلَطَ أَخِيرًا وَلَمْ يَتَمَيَّزْ حَدِيثُهُ فَتُرِكَ
قَوْلُهُ (وَبَكْرُ بْنُ خنيس قد تكلم فيه بن المبارك وتركه في آخر أمره) قال بن مَعِينٍ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَقَالَ مَرَّةً ضَعِيفٌ وَقَالَ مَرَّةً شَيْخٌ صَالِحٌ لَا بَأْسَ بِهِ وَقَالَ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ ضَعِيفٌ وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ مَتْرُوكٌ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ صَالِحٌ غَزَّاءٌ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَقَالَ بن حِبَّانَ يَرْوِي عَنِ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ أَشْيَاءَ مَوْضُوعَةً يَسْبِقُ إِلَى الْقَلْبِ أَنَّهُ الْمُتَعَمِّدُ لَهَا
كَذَا في الميزان
وإلى قول بن حِبَّانَ هَذَا أَشَارَ الْحَافِظُ بِقَوْلِهِ أَفْرَطَ فِيهِ بن حبان(8/185)
19 - باب قوله (أخبرنا جرير) هو بن عَبْدِ الْحَمِيدِ (عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ) الْجَنْبِيِّ الْكُوفِيِّ
قَالَ فِي التَّقْرِيبِ فِيهِ لِينٌ
وَقَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ رَوَى عَنْ أَبِيهِ حُصَيْنِ بْنِ جُنْدُبٍ وَآخَرِينَ وَعَنْهُ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ وَآخَرُونَ (عَنْ أَبِيهِ) أَبِي ظَبْيَانَ وَاسْمُهُ حُصَيْنُ بْنُ جُنْدُبٍ الْكُوفِيُّ ثِقَةٌ
قَوْلُهُ (إِنَّ الَّذِي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ) أَيْ قَلْبِهِ (شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ أَيِ الْخَرَابِ لِأَنَّ عِمَارَةَ الْقُلُوبِ بِالْإِيمَانِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَزِينَةَ الْبَاطِنِ بِالِاعْتِقَادَاتِ الْحَقَّةِ وَالتَّفَكُّرِ فِي نَعْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى
وَقَالَ الطِّيبِيُّ أُطْلِقَ الْجَوْفُ وَأُرِيدَ بِهِ الْقَلْبُ إِطْلَاقًا لِاسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِ وَقَدِ اسْتُعْمِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جوفه وَاحْتِيجَ لِذِكْرِهِ لِيَتِمَّ التَّشْبِيهُ لَهُ بِالْبَيْتِ الْخَرِبِ بِجَامِعِ أَنَّ الْقُرْآنَ إِذَا كَانَ فِي الْجَوْفِ يَكُونُ عَامِرًا مُزَيَّنًا بِحَسْبِ قِلَّةِ مَا فِيهِ وَكَثْرَتِهِ وَإِذَا خَلَا عَمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنَ التَّصْدِيقِ وَالِاعْتِقَادِ الْحَقِّ وَالتَّفْكِيرِ فِي آلَاءِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَصِفَاتِهِ يَكُونُ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ الْخَالِي عَمَّا يَعْمُرُهُ مِنَ الْأَثَاثِ وَالتَّجَمُّلِ انْتَهَى
قَالَ القارىء بَعْدَ نَقْلِ كَلَامِ الطِّيبِيِّ هَذَا مَا لَفْظُهُ وَكَأَنَّهُ عَدَلَ عَنْ ظَاهِرِ الْمُقَابَلَةِ الْمُتَبَادِرِ إِلَى الْفَهْمِ وَإِذَا خَلَّا عَنِ الْقُرْآنِ لِعَدَمِ ظُهُورِ إِطْلَاقِ الْخَرَابِ عَلَيْهِ انْتَهَى
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ نِسْبَةً إِلَى حَفَرَ مَوْضِعٍ بِالْكُوفَةِ ثِقَةٌ عَابِدٌ
(وَأَبُو نُعَيْمٍ) اسْمُهُ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ (عَنْ زر) هو بن حُبَيْشٍ
قَوْلُهُ (يُقَالُ) أَيْ عِنْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ (لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ) أَيْ مَنْ يُلَازِمُهُ بِالتِّلَاوَةِ وَالْعَمَلِ(8/186)
(وَارْقَ) أَمْرٌ مِنْ رَقِيَ يَرْقَى أَيِ اصْعَدْ إلى درجات الحنة يُقَالُ رَقِيَ الْجَبَلَ وَفِيهِ وَإِلَيْهِ رَقْيًا وَرُقِيًّا أَيْ صَعِدَ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ اقْرَأْ وَارْتَقِ (وَرَتِّلْ) أَيِ اقْرَأْ بِالتَّرْتِيلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ بِالْقِرَاءَةِ (كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا) مِنْ تَجْوِيدِ الْحُرُوفِ وَمَعْرِفَةِ الْوُقُوفِ (فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخر آية تقرأها) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي التَّرْغِيبِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ جَاءَ فِي الْأَثَرِ أَنَّ عَدَدَ آيِ الْقُرْآنِ عَلَى قدر درج الجنة في الاخرة فيقال للقاري ارْقَ فِي الدَّرَجِ عَلَى قَدْرِ مَا كُنْتَ تَقْرَأُ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ فَمَنِ اسْتَوْفَى قِرَاءَةَ جَمِيعِ الْقُرْآنِ اسْتَوْلَى عَلَى أَقْصَى دَرَجِ الْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ وَمَنْ قَرَأَ جُزْءًا مِنْهُ كَانَ رُقِيُّهُ فِي الدَّرَجِ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ فَيَكُونُ مُنْتَهَى الثَّوَابِ عِنْدَ مُنْتَهَى الْقِرَاءَةِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ والنسائي وبن ماجه وبن حبان في صحيحه
0 - (باب)
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ عَبْدُ الْعَزِيزِ) بْنُ أَبِي رَوَّادٍ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ صدوق يخطىء وكان مرجئا أفرط بن حِبَّانَ فَقَالَ مَتْرُوكٌ مِنَ التَّاسِعَةِ (عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ(8/187)
قَالَ فِي التَّقْرِيبِ الْمُطَّلِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن المط بْنِ حَنْطَبِ بْنِ الْحَارِثِ الْمَخْزُومِيِّ صَدُوقٌ كَثِيرُ التَّدْلِيسِ وَالْإِرْسَالِ مِنَ الرَّابِعَةِ قَوْلُهُ (عُرِضَتْ عَلَيَّ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ (أُجُورُ أُمَّتِي) أَيْ ثَوَابُ أَعْمَالِهِمْ (حَتَّى الْقَذَاةُ) بِالرَّفْعِ أَوِ الْجَرِّ وَهِيَ بِفَتْحِ الْقَافِ قَالَ الطِّيبِيُّ الْقَذَاةُ هِيَ مَا يَقَعُ فِي الْعَيْنِ مِنْ تُرَابٍ أَوْ تِبْنٍ أَوْ وَسَخٍ وَلَا بُدَّ فِي الْكَلَامِ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ أُجُورُ أَعْمَالِ أُمَّتِي وَأَجْرُ الْقَذَاةِ أَيْ أَجْرُ إِخْرَاجِ الْقَذَاةِ إِمَّا بِالْجَرِّ وَحَتَّى بِمَعْنَى إِلَى وَالتَّقْدِيرُ إِلَى إِخْرَاجِ الْقَذَاةِ وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ الْمَسْجِدِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلْبَيَانِ وَإِمَّا بِالرَّفْعِ عطفا على أجور فالقذاة مبتدأ ويخرجها خَبَرُهُ (فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا) أَيْ يَتَرَتَّبُ عَلَى نِسْيَانٍ (أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ) أَيْ مِنْ ذَنْبِ نسيان سورة كائنة (من القرآن) قال القارىء فِي الْمِرْقَاةِ فَإِنْ قُلْتَ هَذَا مُنَافٍ لِمَا مَرَّ فِي بَابِ الْكَبَائِرِ قُلْتُ إِنْ سَلِمَ أَنَّ أَعْظَمَ وَأَكْبَرَ مُتَرَادِفَانِ فَالْوَعِيدُ عَلَى النِّسْيَانِ لِأَجْلِ أَنَّ مَدَارَ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْقُرْآنِ فَنِسْيَانُهُ كَالسَّعْيِ فِي الْإِخْلَالِ بِهَا فَإِنْ قُلْتَ النِّسْيَانُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ قُلْتُ الْمُرَادُ تَرْكُهَا عَمْدًا إِلَى أَنْ يُفْضِي إِلَى النِّسْيَانِ وَقِيلَ الْمَعْنَى أَعْظَمُ مِنَ الذُّنُوبِ الصَّغَائِرِ إِنْ لَمْ تَكُنْ عَنِ اسْتِخْفَافٍ وَقِلَّةِ تَعْظِيمٍ كَذَا نَقَلَهُ مَيْرَكُ عَنِ الْأَزْهَارِ انْتَهَى (أَوْ آيَةٍ أُوتِيَهَا) أَيْ تَعَلَّمَهَا وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ وَإِنَّمَا قَالَ أُوتِيَهَا دُونَ حِفْظِهَا إِشْعَارًا بِأَنَّهَا كَانَتْ نِعْمَةً جَسِيمَةً أَوْلَاهَا اللَّهُ لِيَشْكُرَهَا فَلَمَّا نَسِيَهَا فَقَدْ كَفَرَ تِلْكَ النِّعْمَةَ (ثُمَّ نَسِيَهَا) قَالَ الطِّيبِيُّ فَلَمَّا عَدَّ إِخْرَاجَ الْقَذَاةِ الَّتِي لَا يَؤُبْهُ لَهَا مِنَ الْأُجُورِ تَعْظِيمًا لِبَيْتِ اللَّهِ عَدَّ أَيْضًا النِّسْيَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْجُرْمِ تَعْظِيمًا لِكَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَكَأَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ عَدَّ الْحَقِيرَ عَظِيمًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَظِيمِ فَأَزَالَهُ عَنْهُ وَصَاحِبَ هَذَا عَدَّ الْعَظِيمَ حَقِيرًا فَأَزَالَهُ عَنْ قَلْبِهِ قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وبن ماجة وبن خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَسَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَفِي إِسْنَادِهِ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ الْأَزْدِيُّ مَوْلَاهُمِ الْمَكِّيُّ وَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَتَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ(8/188)
(باب)
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ) هُوَ الزُّبَيْرِيُّ (عَنِ الْحَسَنِ) هُوَ الْبَصْرِيُّ قَوْلُهُ (مَرَّ عَلَى قَارِئٍ يَقْرَأُ) أَيِ الْقُرْآنَ (ثُمَّ سَأَلَ) أَيْ طَلَبَ مِنَ النَّاسِ شَيْئًا مِنَ الرِّزْقِ (فَاسْتَرْجَعَ) أَيْ قَالَ عِمْرَانُ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ لابتلاء القارىء بِهَذِهِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي هِيَ السُّؤَالُ عَنِ النَّاسِ بِالْقُرْآنِ أَوْ لِابْتِلَاءِ عِمْرَانَ بِمُشَاهَدَةِ هَذِهِ الْحَالَةِ الشَّنِيعَةِ وَهِيَ مُصِيبَةٌ (مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلْيَسْأَلِ اللَّهَ بِهِ) أَيْ فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقُرْآنِ مَا شَاءَ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ فَلْيَسْأَلْهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِآيَةِ عُقُوبَةٍ فَيَتَعَوَّذُ إِلَيْهِ بِهَا مِنْهَا وَإِمَّا أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ عَقِيبَ الْقِرَاءَةِ بِالْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ وَإِصْلَاحِ الْمُسْلِمِينَ في معاشهم ومعادهم (وقال محمود) أي بن غَيْلَانَ (هَذَا) أَيْ خَيْثَمَةُ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ (خَيْثَمَةُ الْبَصْرِيُّ الَّذِي رَوَى عَنْهُ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ) قَالَ الْحَافِظُ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ خَيْثَمَةُ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِيمَا يُقَالُ أَبُو نَصْرٍ الْبَصْرِيُّ رَوَى عَنْ أَنَسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَوَى عَنْهُ الْأَعْمَشُ وَمَنْصُورٌ وَجَابِرٌ الْجُعْفِيُّ وغيرهم قال عباس عن بن معين ليس بشيء وذكره بن حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَقَالَ فِي التَّقْرِيبِ هُوَ لَيِّنُ الْحَدِيثِ (وَلَيْسَ هُوَ خَيْثَمَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) يَعْنِي خَيْثَمَةُ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ غَيْرُ خَيْثَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ فِي التَّقْرِيبِ خَيْثَمَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ الْجُعْفِيُّ الْكُوفِيُّ ثِقَةٌ وَكَانَ يُرْسِلُ مِنَ الثَّالِثَةِ قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ (وَقَدْ رَوَى جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ عَنْ خَيْثَمَةَ هَذَا أَيْضًا) يَعْنِي أَنَّ جَابِرًا الْجُعْفِيَّ أَيْضًا مِنْ أَصْحَابِ خَيْثَمَةَ هَذَا وَرَوَى عَنْهُ كَمَا أَنَّ الْأَعْمَشَ مِنْ أَصْحَابِهِ(8/189)
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْوَاسِطِيُّ) قَالَ فِي التَّقْرِيبِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْبَخْتَرِيِّ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْمُثَنَّاةِ بَيْنَهُمَا خَاءٌ مُعْجَمَةٌ سَاكِنَةٌ الْحَسَّانِيُّ بِمُهْمَلَتَيْنِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ نَزِيلُ بَغْدَادَ صَدُوقٌ مِنَ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ (عَنْ صُهَيْبٍ) هُوَ بن سِنَانٍ أَبُو يَحْيَى الرُّومِيُّ صَحَابِيٌّ شَهِيرٌ قَوْلُهُ (مَا آمَنَ بِالْقُرْآنِ مَنِ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ) جَمْعُ مَحْرَمٍ بِمَعْنَى الْحَرَامِ الَّذِي هُوَ الْمُحَرَّمُ وَالضَّمِيرُ لِلْقُرْآنِ وَالْمُرَادُ فَرْدٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ قَالَ الطِّيبِيُّ مَنِ اسْتَحَلَّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ فَقَدْ كَفَرَ مُطْلَقًا وَخَصَّ ذِكْرَ الْقُرْآنِ لِعَظَمَتِهِ وَجَلَالَتِهِ قَوْلُهُ (وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ) الْجَزَرِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ مِنَ التَّاسِعَةِ (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ أَبُو فَرْوَةَ يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ (وَلَا يُتَابَعُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ لَا يُتَابَعُ أَحَدٌ (وَأَبُو الْمُبَارَكِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ) قَالَ فِي التَّقْرِيبِ أَبُو الْمُبَارَكِ عَنْ عَطَاءٍ مَجْهُولٌ مِنَ السَّادِسَةِ وَرِوَايَتُهُ عَنْ صُهَيْبٍ مُرْسَلَةٌ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ) يَعْنِي الْبُخَارِيَّ (أَبُو فَرْوَةَ يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ الرَّهَاوِيُّ لَيْسَ بِحَدِيثِهِ بَأْسٌ) قَالَ الْحَافِظُ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ فِي تَرْجَمَتِهِ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ مُقَارِبُ الْحَدِيثِ إِلَّا أَنَّ ابْنَهُ مُحَمَّدًا يَرْوِي عَنْهُ مَنَاكِيرَ وَقَالَ فِي التَّقْرِيبِ هُوَ ضَعِيفٌ قَوْلُهُ (الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ) أَيِ الْمُعْلِنُ بِقِرَاءَتِهِ (كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ) أَيْ كَالْمُعْلِنِ باعطائها(8/190)
(وَالْمُسِرُّ بِالْقُرْآنِ) أَيِ الْمُخْفِي بِقِرَاءَتِهِ قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَسَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ وَفِيهِ مَقَالٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَحِّحُ حَدِيثَهُ عَنِ الشَّامِيِّينَ وَهَذَا الْحَدِيثُ شَامِيُّ الْإِسْنَادِ انْتَهَى قَوْلُهُ (وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الَّذِي يُسِرُّ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ إِلَخْ) قَالَ الطِّيبِيُّ جَاءَ آثَارٌ بِفَضِيلَةِ الْجَهْرِ بِالْقُرْآنِ وَآثَارٌ بِفَضِيلَةِ الْإِسْرَارِ بِهِ وَالْجَمْعُ بِأَنْ يُقَالَ الْإِسْرَارُ أَفْضَلُ لِمَنْ يَخَافُ الرِّيَاءَ وَالْجَهْرُ أَفْضَلُ لِمَنْ لَا يَخَافُهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُؤْذِيَ غَيْرَهُ مِنْ مُصَلٍّ أَوْ نَائِمٍ أَوْ غَيْرِهِمَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِي الْجَهْرِ يَتَعَدَّى نَفْعُهُ إِلَى غَيْرِهِ أَيْ مِنَ اسْتِمَاعٍ أَوْ تَعَلُّمٍ أَوْ ذَوْقٍ أَوْ كَوْنِهِ شِعَارًا لِلدِّينِ وَلِأَنَّهُ يوقظ قلب القارىء وَيَجْمَعُ هَمَّهُ وَيَطْرُدُ النَّوْمَ عَنْهُ وَيُنَشِّطُ غَيْرَهُ لِلْعِبَادَةِ فَمَتَى حَضَرَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ النِّيَّاتِ فالجهر أفضل
2 - (باب)
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي لُبَابَةَ) اسْمُهُ مَرْوَانُ الْوَرَّاقُ الْبَصْرِيُّ ثِقَةٌ مِنَ الرَّابِعَةِ يُقَالُ أَنَّهُ مَوْلَى عَائِشَةَ أَوْ هِنْدِ بِنْتِ الْمُهَلَّبِ أَوْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ قَوْلُهُ (لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالزُّمَرَ) أَيْ لَمْ يَكُنْ عَادَتُهُ النَّوْمَ قَبْلَ قِرَاءَتِهِمَا قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ (قَدْ رَوَى عَنْهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ غَيْرَ حَدِيثٍ) يَعْنِي رَوَى عَنْهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةً(8/191)
قَوْلُهُ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بِلَالٍ) الْخُزَاعِيِّ الشَّامِيِّ مَقْبُولٌ مِنَ الرَّابِعَةِ قَوْلُهُ (كَانَ يَقْرَأُ الْمُسَبِّحَاتِ) بِكَسْرِ الْبَاءِ نِسْبَةٌ مَجَازِيَّةٌ وَهِيَ السُّوَرُ الَّتِي فِي أَوَائِلِهَا سُبْحَانَ أَوْ سَبَّحَ بِالْمَاضِي أَوْ يُسَبِّحُ أَوْ سَبِّحْ بِالْأَمْرِ وَهِيَ سبعة سبحان الذي أسرى وَالْحَدِيدُ وَالْحَشْرُ وَالصَّفُّ وَالْجُمُعَةُ وَالتَّغَابُنُ وَالْأَعْلَى (قَبْلَ أَنْ يَرْقُدَ) أَيْ يَنَامَ (يَقُولُ) اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ الْحَامِلِ لَهُ عَلَى قِرَاءَةِ تِلْكَ السُّوَرِ كُلَّ لَيْلَةٍ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ (إِنَّ فِيهِنَّ) أَيْ فِي الْمُسَبِّحَاتِ (آيَةً) أَيْ عَظِيمَةً (خَيْرٌ) أَيْ هِيَ خَيْرٌ (مِنْ أَلْفِ آيَةٍ) قِيلَ هِيَ {لو أنزلنا هذا القرآن} وَهَذَا مِثْلُ اسْمِ الْأَعْظَمِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ فِي الْفَضِيلَةِ فَعَلَى هَذَا فِيهِنَّ أَيْ في مجموعهن وعن الحافظ بن كثير أنها هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شيء عليم انتهى قال القارىء وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا هِيَ الْآيَةُ الَّتِي صُدِّرَتْ بِالتَّسْبِيحِ وفيهن بِمَعْنَى جَمِيعُهُنَّ وَالْخَيْرِيَّةُ لِمَعْنَى الصِّفَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ الْمُلْتَزِمَةِ لِلنُّعُوتِ الْإِثْبَاتِيَّةِ وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَخْفَى الْآيَةَ فِيهَا كَإِخْفَاءِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي اللَّيَالِي وَإِخْفَاءِ سَاعَةِ الْإِجَابَةِ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ مُحَافَظَةً عَلَى قِرَاءَةِ الْكُلِّ لِئَلَّا تَشِذَّ تِلْكَ الْآيَةُ قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ بَعْدَ نَقْلِ تَحْسِينِ التِّرْمِذِيِّ وَفِي إِسْنَادِهِ بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ بَحِيرِ بْنِ سَعْدٍ وَبَقِيَّةُ فِيهِ مَقَالٌ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ بَحِيرِ بْنِ سَعْدٍ مُرْسَلًا انْتَهَى قُلْتُ وَبَقِيَّةُ كَثِيرُ التَّدْلِيسِ وروى هذا الحديث عن بحير بالعنعنة(8/192)
(باب)
قَوْلُهُ (مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ) أَيْ يَدْخُلُ فِي الصَّبَاحِ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَعُوذُ بِاَللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) التَّكْرَارُ لِلْإِلْحَاحِ فِي الدُّعَاءِ فَإِنَّهُ خَبَرٌ لَفْظًا دُعَاءٌ مَعْنًى أَوِ التَّثْلِيثُ لِمُنَاسَبَةِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ حَتَّى لَا يُمْنَعَ القارىء عَنْ قِرَاءَتِهَا وَالتَّدَبُّرِ فِي مَعَانِيهَا وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِ مَا فِيهَا (وَقَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ) أَيْ مِنْ قَوْلِهِ {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ فَإِنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الِاسْمِ الأعظم عند كثيرين (يصلون عليه) أي يَدْعُونَ لَهُ بِتَوْفِيقِ الْخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ أَوْ يَسْتَغْفِرُونَ لِذُنُوبِهِ (وَمَنْ قَالَهَا) أَيِ الْكَلِمَاتِ الْمَذْكُورَةَ (كَانَ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ) أَيْ بِالرُّتْبَةِ الْمَسْطُورَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا نَقْلٌ بِالْمَعْنَى اقْتِصَارًا مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ وَفِي سَنَدِهِمَا خَالِدُ بْنُ طَهْمَانَ وَكَانَ قَدْ خَلَطَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَشْرِ سِنِينَ
4 - (بَاب مَا جَاءَ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
قَوْلُهُ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) بِالتَّصْغِيرِ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ يُقَالُ اسْمُ أَبِي مُلَيْكَةَ زُهَيْرٌ التَّيْمِيُّ الْمَدَنِيُّ أَدْرَكَ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثِقَةٌ فقيه من الثالثة(8/193)
قوله (ومالكم وَصَلَاتَهُ) بِالنَّصْبِ أَيْ مَا تَصْنَعُونَ بِصَلَاتِهِ وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تُصَلُّوا صَلَاتَهُ (ثُمَّ نَعَتَتْ) أَيْ وَصَفَتْ (قِرَاءَةً مُفَسَّرَةً) أَيْ مُبَيَّنَةً (حَرْفًا حَرْفًا) أَيْ كَانَ يَقْرَأُ بِحَيْثُ يُمْكِنُ عَدُّ حُرُوفِ مَا يَقْرَأُ وَالْمُرَادُ حُسْنُ التَّرْتِيلِ وَالتِّلَاوَةِ عَلَى نَعْتِ التَّجْوِيدِ قَالَ الطِّيبِيُّ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ أَنْ تَقُولَ كَانَتْ قِرَاءَتُهُ كَيْتَ وَكَيْتَ وَالثَّانِي أَنْ تَقْرَأَ مُرَتِّلَةً كَقِرَاءَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال بن عَبَّاسٍ لَأَنْ أَقْرَأَ سُورَةً أُرَتِّلُهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ بِغَيْرِ تَرْتِيلٍ قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أبو داود والنسائي (وقد روى بن جُرَيْجٍ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَخْ) كَذَا ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ ها هنا مُعَلَّقًا وَوَصَلَهُ فِي أَبْوَابِ الْقِرَاءَاتِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ قَوْلُهُ (كُلَّ ذَلِكَ) بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ لِقَوْلِهِ قَدْ كَانَ يَصْنَعُ (رُبَّمَا أَوْتَرَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَرُبَّمَا أَوْتَرَ مِنْ آخِرِهِ) وَفِي رِوَايَةِ مَسْرُوقٍ أَوْتَرَ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَوَسَطَهُ وَآخِرَهُ وَلَكِنِ انْتَهَى وِتْرُهُ حِينَ مَاتَ إِلَى السَّحَرِ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الْأَمْرِ) أَيْ فِي أَمْرِ الشَّرْعِ (سَعَةً) بِالْفَتْحِ أَيْ وَسَعَةً وَتَسْهِيلًا وَتَيْسِيرًا قَالَ الطِّيبِيُّ دَلَّ عَلَى أَنَّ السَّعَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي التَّكَالِيفِ نِعْمَةٌ يَجِبُ تَلَقِّيهَا بِالشُّكْرِ (قَدْ كَانَ رُبَّمَا أَسَرَّ وَرُبَّمَا جَهَرَ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْءَ مُخَيَّرٌ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ أَوْ يُسِرُّ(8/194)
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) هُوَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ (أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ) العبدي البصري ثقة لم يصب من ضعفه من كبار العاشرة (أخبرنا إسرائيل) هو بن يُونُسَ قَوْلُهُ (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ يَعْرِضُ نَفْسَهُ) أَيْ عَلَى النَّاسِ (بِالْمَوْقِفِ) أَيْ بِالْمَوْسِمِ (يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ) أَيْ لِأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي (فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي) زَادَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ التِّرْمِذِيِّ فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ هَمْدَانَ فَأَجَابَهُ ثُمَّ خَشِيَ أَنْ لَا يَتْبَعَهُ قَوْمُهُ فَجَاءَ إِلَيْهِ فَقَالَ آتِي قَوْمِي فَأُخْبِرُهُمْ ثُمَّ آتِيكَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ قَالَ نَعَمْ فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ قال الحافظ في الفتح ذكر بن إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ قَدْ خَرَجَ إِلَى ثَقِيفٍ بِالطَّائِفِ يَدْعُوهُمْ إِلَى نَصْرِهِ فَلَمَّا امْتَنَعُوا مِنْهُ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ فَكَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ وَذَكَرَ بِأَسَانِيدَ مُتَفَرِّقَةٍ أَنَّهُ أَتَى كِنْدَةَ وَبَنِي كَعْبٍ وَبَنِي حُذَيْفَةَ وَبَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَغَيْرَهُمْ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى مَا سَأَلَ وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ فَكَانَ فِي تِلْكَ السِّنِينَ أَيِ الَّتِي قَبْلَ الْهِجْرَةِ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ وَيُكَلِّمُ كُلَّ شَرِيفِ قَوْمٍ لَا يَسْأَلُهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْوُوهُ وَيَمْنَعُوهُ وَيَقُولُ لَا أُكْرِهُ أَحَدًا مِنْكُمْ عَلَى شَيْءٍ بَلْ أُرِيدُ أَنْ تَمْنَعُوا مَنْ يُؤْذِينِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي فَلَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ بَلْ يَقُولُونَ قَوْمُ الرَّجُلِ أَعْلَمُ بِهِ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ جَابِرٍ هَذَا ثُمَّ قَالَ وَجَاءَ وَفْدُ الْأَنْصَارِ فِي رَجَبٍ وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ بِإِسْنَادٍ حسن عن بن عَبَّاسٍ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ خَرَجَ وَأَنَا مَعَهُ وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى مِنًى حَتَّى دَفَعْنَا إِلَى مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْعَرَبِ وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ(8/195)
وَكَانَ نَسَّابَةً فَقَالَ مَنِ الْقَوْمُ فَقَالُوا مِنْ رَبِيعَةَ فَقَالَ مِنْ أَيِّ رَبِيعَةَ أَنْتُمْ قَالُوا مِنْ ذُهْلٍ فَذَكَرُوا حَدِيثًا طَوِيلًا فِي مُرَاجَعَتِهِمْ وَتَوَقُّفِهِمْ أَخِيرًا عَنِ الْإِجَابَةِ قَالَ ثُمَّ دَفَعْنَا إِلَى مَجْلِسِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَهُمِ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَنْصَارَ لِكَوْنِهِمْ أَجَابُوهُ إِلَى إِيوَائِهِ وَنَصْرِهِ قَالَ فَمَا نَهَضُوا حَتَّى بَايَعُوا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الْحَدِيثِ بِالْبَابِ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَلَّغَ قوما القرآن يقرأه عَلَيْهِمْ بِالتَّرْتِيلِ وَالتَّقْطِيعِ وَتَكُونُ قِرَاءَتُهُ عَلَيْهِمْ مُفَسَّرَةً حَرْفًا حَرْفًا لِيَتَدَبَّرُوا فِيهِ وَيَتَّعِظُوا بِهِ قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ الحاكم
5 - (باب)
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) هُوَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ (أَخْبَرَنَا شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ الْعَبْدِيُّ) أَبُو عُمَرَ الْكُوفِيُّ ثِقَةٌ مِنَ الْعَاشِرَةِ (أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني) بالسكون أبو الحسن الكوفي نزيل واسط ضعيف من التَّاسِعَةِ (عَنْ عَطِيَّةَ) هُوَ الْعَوْفِيُّ قَوْلُهُ (مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ) أَيْ مَنِ اشْتَغَلَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَفْرُغْ إِلَى ذِكْرٍ وَدُعَاءٍ أَعْطَى اللَّهُ مَقْصُودَهُ وَمُرَادَهُ أَكْثَرَ وَأَحْسَنَ مِمَّا يُعْطِي الَّذِينَ يَطْلُبُونَ حَوَائِجَهُمْ (وَفَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ) قَالَ مَيْرُك يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ تَتِمَّةِ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَحِينَئِذٍ فِيهِ الْتِفَاتٌ كَمَا لَا يَخْفَى وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا أَظْهَرُ لِئَلَّا يَحْتَاجَ إِلَى ارْتِكَابِ الِالْتِفَاتِ انْتَهَى وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي تُحْفَةِ الذَّاكِرِينَ هَذِهِ الْكَلِمَةُ لَعَلَّهَا خَارِجَةٌ مَخْرَجَ التَّعْلِيلِ لِمَا تَقَدَّمَهَا مِنْ أَنَّهُ يُعْطِي الْمُشْتَغِلَ بِالْقُرْآنِ(8/196)
أَفْضَلَ مَا يُعْطِي اللَّهُ السَّائِلِينَ وَوَجْهُ التَّعْلِيلِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ كَلَامُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَائِقًا عَلَى كُلِّ كَلَامٍ كَانَ أَجْرُ الْمُشْتَغِلِ فَوْقَ كُلِّ أَجْرٍ وَالْحَدِيثُ لَوْلَا أَنَّ فِيهِ ضَعْفًا لَكَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالتِّلَاوَةِ عَنِ الذَّكَرِ وَعَنِ الدُّعَاءِ يَكُونُ لِصَاحِبِهِ هَذَا الْأَجْرُ الْعَظِيمُ قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا عَطِيَّةَ الْعَوْفِيَّ فَفِيهِ ضَعْفٌ انْتَهَى قُلْتُ وَفِي سَنَدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ الْهَمْدَانِيُّ وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ قَالَ الْحَافِظُ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ فِي تَرْجَمَتِهِ قَالَ الذَّهَبِيُّ حَسَّنَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَهُ فَلَمْ يَحْسُنْ انْتَهَى وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الدَّارِمِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شعب الإيمان(8/197)
(أبواب القراءات)
قَوْلُهُ (يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ آيَةً آيَةً أَيْ يَقِفُ عِنْدَ كُلِّ آية (يقرأ الحمد لله رب العالمين ثم يقف الرحمن الرحيم ثُمَّ يَقِفُ) هَذَا بَيَانٌ لِقَوْلِهِ يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ (وَكَانَ يَقْرَؤُهَا) فِي بَعْضِ النُّسَخِ يَقْرَأُ بِحَذْفِهَا (ملك يَوْمِ الدِّينِ) عَلَى وَزْنِ كَتِفٍ قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَسَكَتَ عَنْهُ وزاد بسم الله الرحمن الرحيم قبل الحمد لله رب العالمين وَقَالَ بَعْدَ رِوَايَتِهِ وَسَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُولُ الْقِرَاءَةُ القديمة مالك يوم الدين انْتَهَى قَوْلُهُ (وَبِهِ يَقْرَأُ أَبُو عُبَيْدٍ وَيَخْتَارُهُ) أَبُو عُبَيْدٍ هَذَا اسْمُهُ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ الْبَغْدَادِيُّ الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ ثِقَةٌ فَاضِلٌ مُصَنِّفٌ قَالَهُ الْحَافِظُ فِي التَّقْرِيبِ وَقَالَ وَلَمْ أَرَ لَهُ فِي الْكُتُبِ حَدِيثًا مُسْنَدًا بَلْ أَقْوَالُهُ فِي شَرْحِ الْغَرِيبِ انْتَهَى وَذَكَرَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ تَرْجَمَتَهُ مَبْسُوطَةً وَقَالَ السُّيُوطِيُّ فِي الْإِتْقَانِ أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ فِي الْقِرَاءَةِ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ انْتَهَى وَقَالَ الْحَافِظُ بن كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ قَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ وَقَرَأَ آخَرُونَ مَالِكِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ مُتَوَاتِرٌ فِي السَّبْعِ وَيُقَالُ مَلِكِ بِكَسْرِ اللَّامِ وبإسكانهاويقال مليك أيضاوأشبع نافع كسرةالكاف فقرأ(8/198)
مَلِكِي يَوْمِ الدِّينِ وَقَدْ رَجَّحَ كُلًّا مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ مُرَجِّحُونَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَكِلَاهُمَا صَحِيحَةٌ حَسَنَةٌ وَرَجَّحَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَلِكِ لِأَنَّهَا قِرَاءَةُ أَهْلِ الحرمين ولقوله {لمن الملك اليوم} وقوله {الحق وله الملك} وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَرَأَ مَلَكَ يَوْمَ الدِّينِ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ وَفَاعِلٌ وَمَفْعُولٌ وَهَذَا شَاذٌّ غَرِيبٌ جِدًّا وَقَدْ رَوَى أَبُو بِكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا غَرِيبًا حَيْثُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَزْدِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الفضل عن أبي المطرف عن بن شِهَابٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ ومعاوية وابنة يزيد بن معاوية كانوا يقرؤون مالك يوم الدين قال بن شِهَابٍ وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ مَلِكِ مَرْوَانُ قُلْتُ مَرْوَانُ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِصِحَّةِ مَا قَرَأَهُ لَمْ يطلع عليه بن شِهَابٍ واللَّهُ أَعْلَمُ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ متعددة أوردها بن مَرْدَوَيْهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كان يقرؤها مالك يوم الدين انتهى كلام الحافظ بن كَثِيرٍ وَقَالَ الْبَغَوِيُّ قَرَأَ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ مَالِكِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ مَلِكِ قَالَ قَوْمٌ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ مِثْلُ فَرِهِينَ وَفَارِهِينَ وَحَذِرِينَ وَحَاذِرِينِ انْتَهَى قَوْلُهُ (وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ لِأَنَّ اللَّيْثَ بْنَ سعد روى هذا الحديث عن بن أبي مُلَيْكَةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ مَمْلَكٍ عَنْ أم سلمة) فزاد الليث بين بن أَبِي مُلَيْكَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ يَعْلَى بْنَ مَمْلَكٍ فَعُلِمَ أَنَّ حَدِيثَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيِّ وَغَيْرَهُ بِدُونِ ذِكْرِ يَعْلَى بْنِ مَمْلَكٍ بَيْنَهُمَا مُنْقَطِعٌ (وَحَدِيثُ اللَّيْثِ أَصَحُّ) أَيْ مِنْ حَدِيثِ يحيى بن سعيد الأموي وغيره عن بن جريج عن بن أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قُلْتُ صَرَّحَ الحافظ في تهذيب التهذيب أن بن أَبِي مُلَيْكَةَ رَوَى عَنْ أَسْمَاءَ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سلمة وفي البخاري قال بن أَبِي مُلَيْكَةَ أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ فَيَجُوزُ أن بن أَبِي مُلَيْكَةَ كَانَ يَرْوِي الْحَدِيثَ أَوَّلًا عَنْ يَعْلَى عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ثُمَّ لَقِيَهَا فَسَمِعَهُ مِنْهَا فَرَوَى عَنْهَا بِلَا وَاسِطَةٍ واللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ قوله (أخْبَرَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُوَيْدٍ الرَّمْلِيُّ أبو مسعود الحميري الشيباني صدوق يخطىء كَذَا فِي التَّقرِيبِ وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَيُّوبُ بْنُ سُوَيْدٍ هَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ ارْمِ بِهِ وَضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ انْتَهَى(8/199)
قوله (كانوا يقرؤون مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) أَيْ بِالْأَلِفِ بَعْدَ الْمِيمِ عَلَى وَزْنِ فَاعِلِ قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) فِي سَنَدِهِ أَيُّوبُ بْنُ سُوَيْدٍ وَضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ كَمَا عَرَفْتَ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ (وقد روى بعض أصحاب الزهرى هذا الحديث عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَخْ) يَعْنِي رَوَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا (وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عن سعيد بن المسيب أن النبي إِلَخ) هَذَا أَيْضًا مُرْسَلٌ وَهَذَا الْمُرْسَلُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ ثُمَّ قَالَ هَذَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ وَالزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ انْتَهَى يَعْنِي حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ الْمُرْسَلُ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ الْمُتَّصِلِ وَمِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِي عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ الْمُتَّصِلِ وَحَدِيثِ الزُّهْرِي عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ قَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ وَفِي الدُّرُ الْمَنْثُورِ وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ منصور وبن أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَصَاحِفِ مِنْ طَرِيقِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يقرؤون مالك يوم الدين وأخرج الطبراني في معجمه الكبير عن بن مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مالك يوم الدين بِالْأَلِفِ وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ وَالْفِرْيَابِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَسَعِيدُ بن منصور وعبد بن حميد وبن الْمُنْذِرِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أنه كان يقرأ مالك يوم الدين بِالْأَلِفِ وَأَخرَجَ وَكِيعٌ وَالْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وبن أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يقرؤها مالك يوم الدين بالألف قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ) الْأَيْلِيِّ هُوَ أَخُو يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ قَالَ فِي تهذيب التهذيب ذكره بن حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ مَجْهُولٌ انتهى(8/200)
قَوْلُهُ (وَالْعَيْنُ بِالْعَيْنِ) أَيْ بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى مَحَلِّ أَنَّ النَّفْسَ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ رَفَعَهَا الْكِسَائِيُّ عَلَى أَنَّهَا جُمَلٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى أَنَّ وَمَا فِي حَيِّزِهَا بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى انْتَهَى وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي الْمَعَالِمِ وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَالْعَيْنُ وما بعدها بالرفع وقرأ بن كثير وبن عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَعَمْرٌو وَالْجُرُوحُ بِالرَّفْعِ فَقَطْ وَقَرَأَهَا الْآخَرُونَ كُلَّهَا بِالنَّصْبِ كَالنَّفْسِ انْتَهَى قَوْلُهُ (قَالَ سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ) الْمَرْوَزِيُّ أَبُو الْفَضْلِ الْمَعْرُوفُ بِالشَّاهِ (حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ أَخْبَرَنَا بن الْمُبَارَكِ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ) هَذِهِ الْعِبَارَةُ لَمْ تُوجَدْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَوُجِدَتْ فِي بَعْضِهَا وَحَذْفُهَا هُوَ الظَّاهِرُ قَوْلُهُ (وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَسَكَتَ عَنْهُ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ (قَالَ محمد) يعني البخاري (تفرد بن الْمُبَارَكِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ) وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ لَمْ يَرْوِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ إِلَّا أَبُو عَلِيٍّ وَلَا عَنْهُ إِلَّا يونس تفرد به بن الْمُبَارَكِ كَذَا فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ قَوْلُهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّك) بِالتَّاءِ وَنَصْبِ بَاءِ رَبَّكَ أَيْ هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَسْأَلَ رَبَّكَ هَذِهِ قِرَاءَةُ الكسائي وقراءة غيره هل يستطيع ربك بِالْيَاءِ وَرَفْعِ بَاءِ رَبُّك وَالْآيَةُ بِتَمَامِهَا هَكَذَا {إذ قال الحواريون يا عيسى بن مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كنتم مؤمنين(8/201)
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَصْرِيُّ) السَّعْدِيُّ الذَّارِعُ (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَفْصٍ) الْأَرْطَبَانِيُّ بِمُهْمَلَتَيْنِ وَمُوَحَّدَةٍ أَبُو حَفْصٍ الْبَصْرِيُّ رَوَى عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ أَحْمَدُ مَا أَرَى بِهِ بَأْسًا كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ وَقَالَ فِي التَّقْرِيبِ صَدُوقٌ (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) اسْمُهَا أَسْمَاءُ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ الْأَنْصَارِيَّةُ الْأَشْهَلِيَّةُ رَوَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْهَا شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ وَغَيْرُهُ بَايَعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدَتِ الْيَرْمُوكَ قَوْلُهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَؤُهَا) أَيِ الاية {إنه عمل غير صالح} (إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ) بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَنَصْبِ رَاءِ غَيْرَ وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ سَأَلْتُ أُمَّ سَلَمَةَ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح) فَقَالَتْ قَرَأَهَا (إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ) قَالَ الْخَازِنُ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ عَمِلَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وفتح اللام وغير بِفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى عَوْدِ ضَمِيرِ الْفِعْلِ عَلَى الِابْنِ وَمَعْنَاهُ إِنَّهُ عَمِلَ الشِّرْكَ وَالْكُفْرَ وَالتَّكْذِيبَ وَكُلُّ هَذَا غَيْرُ صَالِحٍ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مِنَ الْقُرَّاءِ عَمَلٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَرَفْعِ اللَّامِ مَعَ التَّنْوِينِ وَغَيْرُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ سُؤَالَكَ إِيَّايَ أَنْ أُنْجِيَهُ مِنَ الْغَرَقِ عَمَلٌ غَيْرُ صالح لأن طلب نجاة الكافر بعد ما حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْهَلَاكِ بَعِيدٌ انْتَهَى قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ قَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ) وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَسَكَتَ عَنْهُ وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ قَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ وَوَثَّقَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ (وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ (وَسَمِعْتُ عَبْدَ بْنَ حُمَيْدٍ) صَاحِبَ الْمُسْنَدِ ثِقَةٌ حَافِظٌ رَوَى عَنْهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَخَلْقٌ (كِلَا الْحَدِيثَيْنِ عِنْدِي(8/202)
وَاحِدٌ) هَذَا قَوْلُ التِّرْمِذِيِّ (وَقَدْ رَوَى شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ غَيْرَ حَدِيثٍ) أَيْ أَحَادِيثَ عَدِيدَةً (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ وَهِيَ أَسْمَاءُ بِنْتُ يَزِيدَ) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ هَذِهِ خَطِيبَةَ النِّسَاءِ وَقَدْ رَوَى شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ أَيْضًا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ بِنْتِ أَبِي أُمَيَّةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَّةَ أحاديث انتهى
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْبَصْرِيُّ) اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ (أَخْبَرَنَا أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ) بْنِ الْأَسْوَدِ الْقَيْسِيُّ بالقاف ثم تحتانية أخو هدية يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيَّ صَدُوقٌ (أَخْبَرَنَا أَبُو الْجَارِيَةِ الْعَبْدِيُّ) قَالَ الْحَافِظُ مَجْهُولٌ (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) هُوَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّبِيعِيُّ قَوْلُهُ (أَنَّهُ قَرَأَ قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لدني عذرا مثقلة) أي قرأ النون في لدني مُثْقَلَةً يَعْنِي مُشَدَّدَةً وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُ قَرَأَ قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي وَثَقَّلَهَا فَقِرَاءَةُ الْأَكْثَرِ بِضَمِّ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ قَالَ الْبَغَوِيُّ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ مِنْ لَدُنِي خَفِيفَةَ النُّونِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِتَشْدِيدِهَا انْتَهَى وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَقَرَأَ نَافِعٌ لَدُنِي بِتَحْرِيكِ النُّونِ وَالِاكْتِفَاءِ بِهَا عَنْ نُونِ الْوِقَايَةِ وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ لَدْنِي بِتَحْرِيكِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ انْتَهَى قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ إِلَخْ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ(8/203)
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ) الرَّازِيُّ أَبُو يَعْلَى نَزِيلُ بَغْدَادَ ثِقَةٌ سُنِيٌّ فَقِيهٌ طُلِبَ لِلْقَضَاءِ فَامْتَنَعَ أَخْطَأَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَحْمَدَ رَمَاهُ بِالْكَذِبِ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ دِينَارٍ) الْأَزْدِيِّ ثم الطاحي بمهملتين البصري صدوق سيىء الْحِفْظِ رُمِيَ بِالْقَدَرِ تَغَيَّرَ قَبْلَ مَوْتِهِ (عَنْ سَعْدِ بْنِ أَوْسٍ) الْعَدَوِيِّ الْبَصْرِيِّ رَوَى عَنْ مصدع أبو يَحْيَى وَعَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ دِينَارٍ الطَّاحِيِّ وَثَّقَهُ بن حبان وضعفه بن مَعِينٍ كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ وَقَالَ فِي التَّقْرِيبِ صَدُوقٌ لَهُ أَغَالِيطُ (عَنْ مِصْدَعٍ) عَلَى وَزْنِ مِنْبَرٍ (أَبِي يَحْيَى) الْأَعْرَجِ الْمُعَرْقَبِ مَقْبُولٌ قَالَهُ الْحَافِظُ وَقَالَ الْخَزْرَجِيُّ مِصْدَعٌ الْأَعْرَجُ أَبُو يَحْيَى الْمُعَرْقَبُ بِفَتْحِ الْقَافِ عَرْقَبَهُ بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ مُوَثَّقٌ قَوْلُهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ وَفِي رِوَايَةِ أَبُو دَاوُدَ أَقْرَأَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ كَمَا أَقْرَأهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عين حمئة مُخَفَّفَةً أَيْ بِحَذْفِ الْأَلِفِ بَعْدَ الْحَاءِ يَعْنِي لَا حَامِيَةٍ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ كَمَا فِي قِرَاءَةٍ قَالَ الْبَغَوِيُّ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ حَامِيَةٍ بِالْأَلْفِ غَيْرَ مَهْمُوزَةٍ أَيْ حَارَّةٍ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ حَمِئَةٍ مَهْمُوزًا بِغَيْرِ الْأَلِفِ أَيْ ذَاتُ حَمْأَةٍ وَهِيَ الطِّينَةُ السَّوْدَاءُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قوله في عين حمئة أَيْ عِنْدَهَا عَيْنٌ حَمِئَةٌ أَوْ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ وَذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَ مَوْضِعًا مِنَ الْمَغْرِبِ لَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ شَيْءٌ مِنَ الْعُمْرَانِ فَوَجَدَ الشَّمْسَ كَأَنَّهَا تَغْرُبُ فِي وَهْدَةٍ مُظْلِمَةٍ كَمَا أن راكب البحريرى الشَّمْسَ كَأَنَّهَا تَغِيبُ فِي الْبَحْرِ وَقَدْ جَاءَ فِي قِرَاءَةِ فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ كُنْتَ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى حِمَارٍ وَالشَّمْسُ عِنْدَ غُرُوبِهَا فَقَالَ هَلْ تَدْرِي أَيْنَ تَغْرُبُ هَذِهِ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ فَإِنَّهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْمُنْذِرِيُّ وَقَالَ بن جَرِيرٍ وَالصَّوَابُ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَأَيُّهُمَا قَرَأَ القارىء فهو مصيب انتهى وقال بن كثير ولا منافاة بين معنيهما إِذْ قَدْ تَكُونُ حَارَّةً لِمُجَاوَرَتِهَا وَهَجَ الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبِهَا وَمُلَاقَاتِهَا الشُّعَاعَ بِلَا حَائِلٍ وَحَمِئَةً في ماء وطين أسود كما قال كَعْبُ الْأَحْبَارِ وَغَيْرُهُ انْتَهَى قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ (وَالصَّحِيحُ مَا رُوِيَ عَنِ بن عَبَّاسٍ قِرَاءَتُهُ) يَعْنِي الصَّحِيحَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ موقوف على بن عباس وهو قرأفي(8/204)
عين حمئة لَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَيُرْوَى أن بن عَبَّاسٍ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ اخْتَلَفَا فِي قِرَاءَةِ هَذِهِ الْآيَةِ وَارْتَفَعَا إِلَى كَعْبِ الْأَحْبَارِ فِي ذلك) أخرج سعيد بن منصور وبن المنذر من طريق عطاء عن بن عَبَّاسٍ قَالَ خَالَفْتُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عِنْدَ معاوية في حمئة وحامية قرأتها في عين حمئة فَقَالَ عَمْرُو حَامِيَةٍ فَسَأَلْنَا كَعْبًا فَقَالَ إِنَّهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ تَغْرُبُ فِي طِينٍ سَوْدَاءَ كَذَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَفِيهِ وَأَخْرَجَ عبد الرزاق وسعيد بن منصور وبن جرير وبن المنذر وبن أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي حاضر أن بن عَبَّاسٍ ذَكَرَ لَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ قَرَأَ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْكَهْفِ تغرب في عين حامية قال بن عَبَّاسٍ فَقُلْتُ لِمُعَاوِيَةَ مَا نَقْرَؤُهَا إِلَّا حَمِئَةٍ فَسَأَلَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو كَيْفَ تَقْرَؤُهَا فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ كَمَا قَرَأْتُهَا قَالَ بن عَبَّاسٍ فَقُلْتُ لِمُعَاوِيَةَ فِي بَيْتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ فَأَرْسَلَ إِلَى كَعْبٍ فَقَالَ لَهُ أَيْنَ تَجِدُ الشَّمْسَ تَغْرُبُ فِي التَّوْرَاةِ فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ سَلْ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ بِهَا وَأَمَّا أَنَا فَإِنِّي أَجِدُ الشَّمْسَ تَغْرُبُ فِي التَّوْرَاةِ فِي مَاءٍ وَطِينٍ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَغْرِبِ (فلو كانت عنده) أي عند بن عَبَّاسٍ (رِوَايَةٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَاسْتَغْنَى بِرِوَايَتِهِ وَلَمْ يَحْتَجْ) مِنَ الِاحْتِيَاجِ (إِلَى كَعْبٍ) فَعُلِمَ أَنَّ الصَّحِيحَ مَا رُوِيَ عن بن عباس قراءته
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ طَرْخَانَ (عن عطية) هو بن سَعْدِ بْنِ جُنَادَةَ الْعَوْفِيُّ قَوْلُهُ (ظَهَرْتَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ) أَيْ غَلَبُوا عَلَيْهِمْ (فَنَزَلَتْ الم غلبت الروم إلى قوله يفرح المؤمنون) أَيْ فَقُرِئَتْ لِأَنَّ نُزُولَ هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ بِمَكَّةَ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْجِلَالَيْنِ (الم غُلِبَتِ الروم) وَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ غَلَبَتْهَا فَارِسُ وَلَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ بَلْ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ فَفَرِحَ كُفَّارُ مَكَّةَ بِذَلِكَ وَقَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ نَحْنُ نَغْلِبُكُمْ كَمَا غلبت فارس الروم في أدنى الأرض أَيْ أَقْرَبِ أَرْضِ الرُّومِ إِلَى فَارِسَ بِالْجَزِيرَةِ فالتقى فيها الجيشان والبادي بالفوز الفارس (وَهُمْ) أَيِ الرُّومُ (مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) أُضِيفَ الْمَصْدَرُ إِلَى الْمَفْعُولِ أَيْ غَلَبَةِ فَارِسَ إِيَّاهُمْ سَيَغْلِبُونَ فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ هُوَ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى التِّسْعِ أَوِ الْعَشْرِ فَالْتَقَى الْجَيْشَانِ فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ مِنَ الِالْتِقَاءِ الْأَوَّلِ وَغَلَبَتِ الرُّومُ فَارِسَ (لِلَّهِ الْأَمْرُ(8/205)
من قبل ومن بعد) أَيْ مِنْ قَبْلِ غَلَبِ الرُّومِ وَمِنْ بَعْدِهِ وَالْمَعْنَى أَنَّ غَلَبَةَ فَارِسَ أَوَّلًا وَغَلَبَةَ الرُّومِ ثَانِيًا بِأَمْرِ اللَّهِ أَيْ إِرَادَتِهِ (وَيَوْمَئِذٍ) أَيْ يوم تغلب الروم ويفرح المؤمنون بنصر الله إِيَّاهُمْ عَلَى فَارِسَ وَقَدْ فَرِحُوا بِذَلِكَ وَعَلِمُوا به يوم وقوعه يوم بدر بنزول جبرائيل بِذَلِكَ فِيهِ مَعَ فَرَحِهِمْ بِنَصْرِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِيهِ (يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ) الْغَالِبُ (الرحيم) بالمؤمنين قال بن جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أدنى الأرض اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَتِهِ فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الأمصار غلبت الروم بِضَمِّ الْغَيْنِ بِمَعْنَى أَنَّ فَارِسَ غَلَبَتِ الروم وقرأ غلبت الروم بفتح الغين والذين قرأوا بِفَتْحِ الْغَيْنِ قَالُوا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ خَبَرًا من الله نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ غَلَبَةِ الرُّومِ قَالَ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا الَّذِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ الم غُلِبَتِ الرُّومُ بِضَمِّ الْغَيْنِ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ فإذا كان ذلك كذلك فتأويلي الْكَلَامَ غَلَبَتْ فَارِسُ الرُّومَ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ إِلَى أَرْضِ فَارِسَ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ يَقُولُ وَالرُّومُ مِنْ بَعْدِ غَلَبَةِ فَارِسَ إِيَّاهُمْ سَيَغْلِبُونَ فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلِ غَلَبَتِهِمْ فَارِسَ وَمِنْ بَعْدِ غَلَبَتِهِمْ إِيَّاهَا يَقْضِي فِي خَلْقِهِ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ وَيُظْهِرُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ عَلَى مَنْ أَحَبَّ إِظْهَارَهُ عَلَيْهِ ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله يَقُولُ وَيَوْمَ يَغْلِبُ الرُّومُ فَارِسَ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهُ بِنَصْرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَنُصْرَةِ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ يَنْصُرُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ نُصْرَةُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ قَالَ وَأَمَّا قَوْلُهُ سَيَغْلِبُونَ فَإِنَّ الْقُرَّاءَ أَجْمَعِينَ عَلَى فَتْحِ الْيَاءِ فِيهَا وَالْوَاجِبُ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ الم غَلَبَتِ الرُّومُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ أَنْ يَقْرَأَ قَوْلَهُ سَيَغْلِبُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ فَيَكُونَ مَعْنَاهُ وَهُمْ مِنْ غَلَبَتِهِمْ فَارِسَ سَيَغْلِبُهُمِ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَصِحَّ مَعْنَى الْكَلَامِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلْكَلَامِ كَبِيرُ مَعْنًى إِنْ فُتِحَتِ الْيَاءُ لِأَنَّ الْخَبَرَ عَمَّا قَدْ كَانَ يَصِيرُ إِلَى الْخَبَرِ عَنْ أَنَّهُ سَيَكُونُ وَذَلِكَ إِفْسَادُ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ بِالْآخَرِ انْتَهَى كَلَامُهُ مُلَخَّصًا قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوجه) وأخرجه بن جرير وبن أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَزَّارُ وَفِي إِسْنَادِهِ عَطِيَّةُ بْنُ سَعْدٍ الْعَوْفِيُّ تَقَدَّمَ تَرْجَمَتُهُ مِنَ التَّقْرِيبِ وَقَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ تَابِعِيٌّ شَهِيرٌ ضَعِيفٌ قَالَ أَبُو حاتم يكتب حديثه ضعيف وقال بن مَعِينٍ صَالِحٌ وَقَالَ أَحْمَدُ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ وَقَالَ بَلَغَنِي أَنَّ عَطِيَّةَ كَانَ يَأْتِي الْكَلْبِيَّ فَيَأْخُذُ عَنْهُ التَّفْسِيرَ وَكَانَ يُكَنِّيه بِأَبِي سَعِيدٍ فَيَقُولُ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ قَالَ الذَّهَبِيُّ يَعْنِي يُوهِمُ أَنَّهُ الْخُدْرِيُّ وَقَالَ النَّسَائِيُّ وَجَمَاعَةٌ ضَعِيفٌ انْتَهَى وَقَدْ بَسَطَ الْحَافِظُ تَرْجَمَتَهُ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ وَقَالَ فِيهِ قَالَ أَحْمَدُ وَحَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ سَمِعْتُ الْكَلْبِيَّ يَقُولُ كَنَّانِي عَطِيَّةُ أَبُو سعيد انتهى(8/206)
قُلْتُ وَفِي عَطِيَّةَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ الْأَوَّلُ أَنَّهُ مُدَلِّسٌ وَالثَّانِي أَنَّهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ ضَعِيفٌ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ التَّفْسِيرَ عَنِ الْكَلْبِيِّ وَيُكَنِّيه بِأَبِي سَعِيدٍ فَيَقُولُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ يُوهِمُ أَنَّهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَحَدِيثُهُ هَذَا ضَعِيفٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَفِي قَوْلِ التِّرْمِذِيِّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ نَظَرٌ (وَيُقْرَأُ غَلَبَتْ) أَيْ بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَاللَّامِ عَلَى بِنَاءِ الفاعل قال البيضاوي وقرىء غَلَبَتْ بِالْفَتْحِ وَسَيُغْلَبُونَ بِالضَّمِّ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الرُّومَ غَلَبُوا عَلَى رِيفِ الشَّامِ وَالْمُسْلِمُونَ سَيَغْلِبُونَهُمْ وَفِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ نُزُولِهِ غَزَاهُمِ الْمُسْلِمُونَ وَفَتَحُوا بَعْضَ بِلَادِهِمْ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِضَافَةُ الْغَلَبِ إِلَى الْفَاعِلِ انْتَهَى (وَغُلِبَتْ) أَيْ بِضَمِّ الْغَيْنِ وَكَسْرِ اللَّامِ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ (يَقُولُ كَانَتْ غُلِبَتْ) بِضَمِّ الْغَيْنِ وَكَسْرِ اللَّامِ (ثُمَّ غَلَبَتْ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَاللَّامِ (هَكَذَا قَرَأَ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ غَلَبَتْ) أَيْ بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَاللَّامِ وَنَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ هَذَا هُوَ الْجَهْضَمِيُّ شَيْخُ التِّرْمِذِيِّ قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا نُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ النَّحْوِيُّ) الْكُوفِيُّ نَزَلَ الرِّيَّ يُكَنَّى أَبَا عُمَرَ صَدُوقٌ مِنَ الثامنة قوله (خلقكم من ضعف) أَيْ بِفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمَعْنَى بَدَأَكُمْ وَأَنْشَأَكُمْ عَلَى ضَعْفٍ وَقِيلَ مِنْ مَاءٍ ضَعِيفٍ وَقِيلَ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ كَانَ جَنِينًا ثُمَّ طِفْلًا مَوْلُودًا وَمَفْطُومًا فَهَذِهِ أَحْوَالُ غَايَةِ الضَّعْفِ (فَقَالَ) أَيْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ضُعْفٍ يَعْنِي بِالضَّمِّ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ قَالَ قَرَأْتَ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} فَقَالَ مِنْ ضُعْفٍ قَرَأْتُهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَرَأْتَهَا عَلَيَّ فَأَخَذَ عَلَيَّ كَمَا أَخَذْتُ عَلَيْكَ قَالَ الْبَغَوِيُّ قُرِئَ بِضَمِّ الضَّادِ وَفَتْحِهَا فَالضَّمُّ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَالْفَتْحُ لُغَةُ تَمِيمٍ انْتَهَى وَقَالَ النَّسَفِيُّ فَتَحَ الضَّادَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَضَمَّ غَيْرُهُمَا وَهُوَ اخْتِيَارُ حَفْصٍ وَهُمَا لُغَتَانِ وَالضَّمُّ أقوى في القراءة لما روى عن بن عُمَرَ قَالَ قَرَأْتُهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم من ضعف فأقرني مِنْ ضُعْفٍ انْتَهَى قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَمَدَارُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ لَا يحتج بحديثه(8/207)
قوله (كان يقرأ فهل من مدكر) بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ كَمَا هُوَ قِرَاءَةُ حَفْصٍ وَسَبَبُ ذِكْرِ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ السَّلَفِ قَرَأَهَا بِالْمُعْجَمَةِ وَهُوَ مَنْقُولٌ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ وَأَصْلُ مُدَّكِرٍ مُذْتَكِرٌ بِمُثَنَّاةٍ بَعْدَ ذَالٍ مُعْجَمَةٍ فَأُبْدِلَتِ التَّاءُ دَالًا مُهْمَلَةً ثُمَّ أُهْمِلَتِ الْمُعْجَمَةُ لِمُقَارَبَتِهَا ثُمَّ أُدْغِمَتْ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَرَأْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فهل من مدكر فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَهُ قَالَ وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأها فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ دَالًا قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ
قَوْلُهُ (عَنْ هَارُونَ الْأَعْوَرِ) هُوَ هَارُونُ بْنُ مُوسَى الْأَزْدِيُّ الْعَتَكِيُّ مَوْلَاهُمِ النَّحْوِيُّ الْبَصْرِيُّ ثِقَةٌ مقرىء إِلَّا أَنَّهُ رُمِيَ بِالْقَدَرِ مِنَ السَّابِعَةِ (عَنْ بديل) بالتصغير هو بن مَيْسَرَةَ قَوْلُهُ (كَانَ يَقْرَأُ فَرُوحٌ) أَيْ بِضَمِّ الرَّاءِ قَالَهُ السُّيُوطِيُّ وَالْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ بِفَتْحِ الرَّاءِ قَالَ الْبَغَوِيُّ قَرَأَ يَعْقُوبُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا فَمَنْ قَرَأَ بِالضَّمِّ قَالَ الْحَسَنُ مَعْنَاهُ يَخْرُجُ رُوحُهُ فِي الرِّيحَانِ وَقَالَ قَتَادَةُ الرُّوحُ الرَّحْمَةُ أَيْ لَهُ الرَّحْمَةُ وَقِيلَ مَعْنَاهُ فَحَيَاةٌ وَبَقَاءٌ لَهُمْ وَمَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ مَعْنَاهُ فَلَهُ رَوْحٌ وَهُوَ الرَّاحَةُ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَرَحَ وَقَالَ الضَّحَّاكُ مَغْفِرَةٌ وَرَحْمَةٌ انْتَهَى (وَرَيْحَانٌ) أَيْ رِزْقٌ قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ(8/208)
قَوْلُهُ (قَدِمْنَا الشَّامَ فَأَتَانَا أَبُو الدَّرْدَاءِ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ حَفْصٍ عَنِ الْأَعْمَشِ قَدِمَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ (أَفِيكُمْ أَحَدٌ يَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ) أي بن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ فَأَشَارُوا إِلَيَّ فَقُلْتُ نَعَمْ) أَيْ أَنَا أَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ فَقَالَ أَيُّكُمْ يَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُلُّنَا قَالَ فَأَيُّكُمْ أَحْفَظُ فَأَشَارُوا إِلَى عَلْقَمَةَ (كَيْفَ سَمِعْتَ عَبْدَ اللَّهِ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ وَاللَّيْلِ إذا يغشى) قال قلت سمعته يقرأها (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيق سُفْيَانَ عَنِ الْأَعْمَشِ فَقَرَأْتَ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى قَالَ أَأَنْتَ سَمِعْتَ مِنْ فِي صَاحِبِكَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ الْحَافِظُ هَذَا صَرِيحٌ فِي أن بن مسعود كان يقرأها كَذَلِكَ وَفِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ عَنْ مُغِيرَةَ فِي الْمَنَاقِبِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى بِحَذْفِ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَأَثْبَتَهَا الْبَاقُونَ قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَهَكَذَا قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى) قَالَ الْحَافِظُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ لم تنقل إلا عمن ذكر هنا ومن عداهم قرأوا وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَعَلَيْهَا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ مَعَ قُوَّةِ إِسْنَادِ ذَلِكَ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ وَلَعَلَّ هَذَا مِمَّا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ وَلَمْ يَبْلُغِ النَّسْخُ أَبَا الدَّرْدَاءِ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ وَالْعَجَبُ مِنْ نَقْلِ الْحُفَّاظِ مِنَ الكوفيين هذه القراءة عن علقمة وبن مَسْعُودٍ وَإِلَيْهِمَا تَنْتَهِي الْقِرَاءَةُ بِالْكُوفَةِ ثُمَّ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ وَكَذَا أَهْلُ الشَّامِ حَمَلُوا الْقِرَاءَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَلَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِهَذَا فَهَذَا مِمَّا يُقَوِّي أَنَّ التلاوة بها نسخت
قوله (أخبرنا عبيد الله) هو بن موسى (عن اسرائيل) هو بن يُونُسَ (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) هُوَ السَّبِيعِيُّ (عَنْ عَبْدِ الرحمن بن يزيد) هو بن قيس النخعي(8/209)
قَوْلُهُ (إِنِّي أَنَا الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) هذه قراءة بن مَسْعُودٍ وَالْقِرَاءَةُ الْمُتَوَاتِرَةُ (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذو القوة المتين) قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو داود والنسائي
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ) اسْمُهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الرَّازِيُّ (وَالْفَضْلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) قَالَ فِي التَّقْرِيبِ الْفَضْلُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَغْدَادِيُّ أَبُو سَهْلِ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَخُو يَحْيَى بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَخُو يَحْيَى بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَاسِطِيُّ الْأَصْلِ ثِقَةٌ مِنَ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ (أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ) بْنِ سَلْمٍ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ الهمداني البجلي أبو علي الكوفي صدوق يخطىء مِنَ الْعَاشِرَةِ (عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ) الْقُرَشِيِّ الْبَصْرِيِّ نَزِيلِ الْكُوفَةِ ضَعِيفٌ مِنَ السَّابِعَةِ قوله (وترى الناس سكارى) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْكَافِ وَهِيَ الْقِرَاءَةُ الْمُتَوَاتِرَةُ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ سَكْرَى كَعَطْشَى قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) فِي سَنَدِهِ الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَفِيهِ انْقِطَاعٌ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ بِقَوْلِهِ وَلَا نَعْرِفُ لِقَتَادَةَ سَمَاعًا إِلَخْ قَوْلُهُ (الْحَدِيثَ بِطُولِهِ) بِالنَّصْبِ أَيِ اقْرَأِ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ وَأَتِمَّهُ وَهَذَا الْحَدِيثُ الطَّوِيلُ(8/210)
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحَجِّ وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ) هُوَ الطَّيَالِسِيُّ (عَنْ منصور) هو بن الْمُعْتَمِرِ (سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ) اسْمُهُ شَقِيقُ بْنُ سلمة (عن عبد الله) أي بن مسعود قوله (بئسما لِأَحَدِهِمْ) مَا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ وَقَوْلُهُ (أَنْ يَقُولَ) مَخْصُوصٌ بِالذَّمِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله} أَيْ بِئْسَ شَيْئًا كَائِنًا لِلرَّجُلِ قَوْلُهُ (نَسِيتُ) بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ السِّينِ الْمُخَفَّفَةِ (آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ) أَيْ آيَةَ كَذَا وَكَذَا وَهُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ فَتْحَهَا وَكَسْرَهَا عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ (بَلْ هُوَ نُسِّيَ) بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ السِّينِ الْمُشَدَّدَةِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ كَرَاهَةُ قَوْلِ نَسِيتُ آيَةَ كَذَا وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ وَأَنَّهُ لَا يُكْرَهُ قَوْلُهُ أُنْسِيتُهَا وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ نَسِيتُهَا لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ التَّسَاهُلَ فِيهَا والتغافل عنها وقال الله تعالى {أتتك آيتنا فَنَسِيتَهَا} وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَوْلَى مَا يُتَأَوَّلُ عليه الحديث أن معناه ذم الحال لازم القول أي بئست الْحَالَةُ حَالَةَ مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ فَغَفَلَ عَنْهُ حَتَّى نَسِيَهُ انْتَهَى (فَاسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ) أَيْ وَاظِبُوا عَلَى تِلَاوَتِهِ وَاطْلُبُوا مِنْ أَنْفُسِكُمِ الْمُذَاكَرَةَ بِهِ وَاسْتَحْضِرُوهُ فِي الْقَلْبِ (لَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا) بِفَتْحِ الْفَوْقَانِيَّةِ وَالْفَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ الثَّقِيلَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ خَفِيفَةٌ أَيْ تَفَلُّتًا وَتَخَلُّصًا وَهُوَ مَنْصُوبٌ على التمييز (من صدور الرجال) متعلق بتفصيا وَتَخْصِيصُ الرِّجَالِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ حِفْظَ الْقُرْآنِ مِنْ شَأْنِهِمْ (مِنَ النَّعَمِ) بِفَتْحَتَيْنِ قَالَ النَّوَوِيُّ النَّعَمُ أَصْلُهَا الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَالْمُرَادُ هُنَا الْإِبِلُ خَاصَّةً لِأَنَّهَا الَّتِي تُعْقَلُ انْتَهَى وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بأشد أَيْ أَشَدُّ مِنْ تَفَصِّي النَّعَمِ الْمُعَقَّلَةِ (مِنْ عُقُلِهِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالْقَافِ جَمْعُ عِقَالٍ كَكُتُبٍ جَمْعُ كِتَابٍ وَهُوَ الْحَبْلُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ ذِرَاعُ الْبَعِيرِ قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ(8/211)
(باب ما جاء أن القرآن أنزل القرآن على سبعة أحرف)
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى) الْأَشْيَبُ أَبُو عَلِيٍّ الْبَغْدَادِيُّ قَاضِي الْمَوْصِلِ وَغَيْرِهَا ثِقَةٌ قَالَ بن عَمَّارٍ الْحَافِظُ كَانَ فِي الْمَوْصِلِ بِيعَةٌ لِلنَّصَارَى فَجَمَعُوا لَهُ مِائَةَ أَلْفٍ عَلَى أَنْ يَحْكُمَ بِأَنْ تُبْنَى فَرَدَّهَا وَحَكَمَ بِأَنْ لَا تُبْنَى مَاتَ بِالرَّيِّ سَنَةَ تِسْعٍ وَمِائَتَيْنِ (أَخْبَرَنَا شَيْبَانُ) بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ التَّمِيمِيُّ مَوْلَاهُمِ النَّحْوِيُّ (عَنْ عاصم) بن بهدلة وهو بن أَبِي النَّجُودِ قَوْلُهُ (إِنِّي بُعِثْتَ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي بَعَثَ في الأميين رسولا منهم} وَالْأُمِّيُّ مَنْ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ كِتَابًا وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ أَرَادَ أَنَّهُمْ عَلَى أَصْلِ وِلَادَةِ أُمِّهِمْ لَمْ يَتَعَلَّمُوا الْكِتَابَةَ وَالْحِسَابَ فَهُمْ عَلَى جِبِلَّتِهِمِ الْأُولَى (مِنْهُمِ الْعَجُوزُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ) وَهُمَا عَاجِزَانِ عَنِ التَّعَلُّمِ لِلْكِبَرِ (وَالْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ) وَهُمَا غَيْرُ مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الْقِرَاءَةِ المصغر (وَالرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ) الْمَعْنَى أَنِّي بُعِثْتَ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ مِنْهُمْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ فَلَوْ أَقْرَأْتُهُمْ عَلَى قِرَاءَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهَا (قَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ) أَيْ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِكُلِّ وَجْهٍ مِنْهَا وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ وَلَا جُمْلَةٍ مِنْهُ تُقْرَأُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ غَايَةَ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ عَدَدُ الْقِرَاءَاتِ فِي الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ إِلَى سَبْعَةٍ فَإِنْ قِيلَ فَإِنَّا نَجِدُ بَعْضَ الْكَلِمَاتِ يُقْرَأُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ فَالْجَوَابُ أَنَّ غَالِبَ ذَلِكَ إِمَّا لَا يُثْبِتُ الزِّيَادَةَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الِاخْتِلَافِ فِي كَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ كَمَا فِي الْمَدِّ وَالْإِمَالَةِ وَنَحْوِهِمَا وَقِيلَ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالسَّبْعَةِ حَقِيقَةَ الْعَدَدِ بَلِ الْمُرَادُ التَّسْهِيلُ وَالتَّيْسِيرُ وَلَفْظُ السَّبْعَةِ يُطْلَقُ عَلَى إِرَادَةِ الْكَثْرَةِ فِي الاحاد كما يطلق السبعين فِي الْعَشَرَاتِ وَالسَّبْعُ مِائَةٍ فِي الْمِئِينَ وَلَا يُرَادُ الْعَدَدُ الْمُعَيَّنُ وَإِلَى هَذَا جَنَحَ عِيَاضٌ ومن تبعه وذكر القرطبي عن بن حِبَّانَ أَنَّهُ بَلَغَ الِاخْتِلَافُ فِي مَعْنَى الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ إِلَى خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ قَوْلًا وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ أكثرها غير مختار كَذَا فِي فَتْحِ الْبَارِي قُلْتُ وَقَدْ أَطَالَ الحافظ بن جَرِيرٍ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِهِ الْكَلَامَ فِي بَيَانِ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُنْزِلَ القرآن على سبعة أحرف وكذا الحافظ بن حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ فَعَلَيْكَ أَنْ تُطَالِعَهُمَا(8/212)
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ عُمَرَ وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ إِلَخْ) أَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ هَذَا وَأَمَّا حَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ فَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ عَلِيمًا حَكِيمًا غَفُورًا رَحِيمًا وَأَمَّا حديث أم أيوب وحديث سمرة فأخرجها أحمد في مسنده وأما حديث بن عَبَّاسٍ فَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي جُهَيْمٍ فَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَالطَّبَرِيُّ قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وأبو داود والنسائي قَوْلُهُ (عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ) بْنِ نَوْفَلٍ لَهُ وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ (وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ) بالتنوين بغير إضافة (القارىء) تشديد الْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ نِسْبَةً إِلَى الْقَارَّةِ بَطْنٍ مِنْ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ (مَرَرْتُ بِهِشَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ) بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ الْقُرَشِيِّ الأسدي صحابي بن صَحَابِيٍّ وَكَانَ إِسْلَامُهُمَا يَوْمَ الْفَتْحِ (فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ آخُذُ بِرَأْسِهِ قَالَهُ الْجُرْجَانِيُّ) وَقَالَ غَيْرُهُ أُوَاثِبُهُ وَهُوَ أَشْبَهُ قَالَ النَّابِغَةُ فَبِتُّ كَأَنِّي سَاوَرَتْنِي ضَئِيلَةٌ مِنَ الرَّقْشِ فِي أنيابها السم نافع أَيْ وَاثَبَتْنِي وَفِي بَانَتْ سُعَادُ إِذَا يُسَاوِرُ قَرْنًا لَا يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْقَرْنَ إِلَّا وَهْوَ مَجْدُولُ كَذَا فِي الْفَتْحِ (فَنَظَرْتُ حَتَّى سَلَّمَ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ أَيْ مِنَ الصَّلَاةِ (لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ) مِنَ التَّلْبِيبِ قَالَ الْحَافِظُ أَيْ جَمَعْتُ(8/213)
عَلَيْهِ ثِيَابَهُ عِنْدَ لَبَّتِهِ لِئَلَّا يَتَفَلَّتَ مِنِّي وَكَانَ عُمَرُ شَدِيدًا بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَفَعَلَ ذَلِكَ عَنِ اجْتِهَادٍ مِنْهُ لِظَنِّهِ أَنَّ هِشَامًا خَالَفَ الصَّوَابَ وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ قَالَ لَهُ أَرْسِلْهُ انْتَهَى وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ لَبَّبَهُ تَلْبِيبًا جَمَعَ ثِيَابَهُ عِنْدَ نَحْرِهِ فِي الْخُصُومَةِ ثُمَّ جَرَّهُ انْتَهَى وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ يُقَالُ لَبَبْتُ الرَّجُلَ وَلَبَّبْتُهُ إِذَا جَعَلْتَ فِي عُنُقِهِ ثَوْبًا أَوْ غَيْرَهُ وَجَرَرْته بِهِ (قُلْتُ لَهُ كَذَبْتَ) فِيهِ إِطْلَاقُ ذَلِكَ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ أَوِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ كَذَبْتَ أَيْ أَخْطَأْتَ لِأَنَّ أَهْلُ الْحِجَازِ يُطْلِقُونَ الْكَذِبَ فِي مَوْضِعِ الْخَطَأِ قَالَهُ الْحَافِظُ (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ) أَوْرَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَطْمِينًا لعمر لئلا ينكر تصويب الشيئين المختلفين (فاقرؤوا ما تيسر منه) أَيْ مِنَ الْمُنَزَّلِ قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو داود النسائي
(باب)
قَوْلُهُ (مَنْ نَفَّسَ) مِنَ التَّنْفِيسِ (عَنْ أَخِيهِ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا) أَيْ أَزَالَهَا وَفَرَّجَهَا قَالَ الطِّيبِيُّ كَأَنَّهُ فَتَحَ مَدَاخِلَ الْأَنْفَاسِ فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ أَنْتَ فِي نَفْسٍ أَيْ سعةكأن في كربة(8/214)
سُدَّ عَنْهُ مَدَاخِلُ الْأَنْفَاسِ فَإِذَا فُرِّجَ عَنْهُ فُتِحَتْ وَالْمُرَادُ مِنْ أَخِيهِ أَخُوهُ فِي الْإِيمَانِ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ (نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) لَمَّا كَانَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالَ اللَّهِ وَتَنْفِيسُ الْكُرَبِ إِحْسَانٌ فَجَزَاهُ اللَّهُ جَزَاءً وِفَاقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا) أَيْ فِي قَبِيحٍ يَفْعَلُهُ فَلَا يَفْضَحُهُ أَوْ كَسَاهُ ثَوْبًا (سَتَرَهُ اللَّهُ) أَيْ عُيُوبَهُ أَوْ عَوْرَتَهُ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَوَاهُ مسلم في حديث بن عمر وأما الستر المندوب إليه هنا فَالْمُرَادُ بِهِ السَّتْرُ عَلَى ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ هُوَ مَعْرُوفًا بِالْأَذَى وَالْفَسَادِ فَأَمَّا الْمَعْرُوفُ بِذَلِكَ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَسْتُرَ عَلَيْهِ بَلْ يَرْفَعُ قَضِيَّتَهُ إِلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ إِنْ لَمْ يَخَفْ مِنْ ذَلِكَ مَفْسَدَةً لِأَنَّ السَّتْرَ عَلَى هَذَا يُطْمِعُهُ فِي الْإِيذَاءِ وَالْفَسَادِ وَانْتِهَاكِ الْحُرُمَاتِ وَجَسَارَةِ غَيْرِهِ عَلَى مِثْلِ فِعْلِهِ هَذَا كُلُّهُ فِي سَتْرِ مَعْصِيَةٍ وَقَعَتْ وَانْقَضَتْ أَمَّا مَعْصِيَةٌ رَآهُ عَلَيْهَا وَهُوَ بَعْدُ مُتَلَبِّسٌ بِهَا فَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ بِإِنْكَارِهَا عَلَيْهِ وَمَنْعُهُ مِنْهَا عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَحِلُّ تَأْخِيرُهَا فَإِنْ عَجَزَ لَزِمَ رَفْعُهَا إِلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ إِذَا لَمْ تَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ انْتَهَى (وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ) أَيْ سَهَّلَ عَلَى فَقِيرٍ وَهُوَ يَشْمَلُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ أَيْ مَنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى فَقِيرٍ فَسَهَّلَ عَلَيْهِ بِإِمْهَالٍ أَوْ بِتَرْكِ بَعْضِهِ أَوْ كُلِّهِ (يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ) بَدَلَ تَيْسِيرِهِ عَلَى عَبْدِهِ مُجَازَاةً بِجِنْسِهِ (واللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ) الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ وَهُوَ تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ (مَا كَانَ الْعَبْدُ) أَيْ مَا دَامَ كَانَ (فِي عَوْنِ أَخِيهِ) أَيْ فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِ (وَمَنْ سَلَكَ) أَيْ دَخَلَ أَوْ مَشَى (طَرِيقًا) أَيْ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا قِيلَ التَّنْوِينُ لِلتَّعْمِيمِ إِذِ النَّكِرَةُ فِي الْإِثْبَاتِ قَدْ تُفِيدُ الْعُمُومَ (يَلْتَمِسُ فِيهِ) حَالٌ أو صفة (علما) نكره ليشمل كل نوع مِنْ أَنْوَاعِ عُلُومِ الدِّينِ قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً (سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِهِ أَيْ بِذَلِكَ السُّلُوكِ أَوِ الِالْتِمَاسِ (طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) أَيْ طَرِيقًا مُوَصِّلًا إِلَى الْجَنَّةِ مَعَ قَطْعِ الْعَقَبَاتِ الشَّاقَّةِ دُونَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ (وَمَا قَعَدَ قَوْمٌ فِي مَسْجِدٍ) وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ (يَتْلُونَ) حَالٌ مِنْ قَوْمٌ (كِتَابَ اللَّهِ) أَيِ الْقُرْآنَ (وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ) التَّدَارُسُ قِرَاءَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ تصحيحا لألفاظه أو كشفا لمعانيه قاله بن الْمَلَكِ وَقَالَ الْجَزَرِيُّ فِي النِّهَايَةِ تَدَارَسُوا الْقُرْآنَ أي اقرؤوه وتعهدوه لئلا تنسوه يقال درس يدرس ودراسة وَأَصْلُ الدِّرَاسَةِ الرِّيَاضَةُ وَالتَّعَهُّدُ لِلشَّيْءِ انْتَهَى وَقَالَ القارىء فِي الْمِرْقَاةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالتَّدَارُسِ الْمُدَارَسَةَ الْمَعْرُوفَةَ بِأَنْ يَقْرَأَ بَعْضُهُمْ عَشْرًا مَثَلًا وَبَعْضُهُمْ عَشْرًا آخَرَ وَهَكَذَا فَيَكُونَ أَخَصَّ مِنْ(8/215)
التِّلَاوَةِ أَوْ مُقَابِلًا لَهَا وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ شَامِلٌ لِجَمِيعِ مَا يُنَاطُ بِالْقُرْآنِ مِنَ التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ انْتَهَى (إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ) يَجُوزُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ كَسْرُ الْهَاءِ وَضَمُّ الْمِيمِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَضَمُّهُمَا وَكَسْرُهُمَا قِيلَ الْمُرَادُ بِالسَّكِينَةِ ها هنا الرَّحْمَةُ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِعَطْفِ الرَّحْمَةِ عَلَيْهِ وَقِيلَ الطُّمَأْنِينَةُ وَالْوَقَارُ وهو أحسن قاله النووي (وحفظتهم الْمَلَائِكَةُ) أَيْ أَحَاطُوا بِهِمْ وَزَادَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَذَكَرَهُمِ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ (وَمَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ) مِنَ الْإِبْطَاءِ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ من بطأ به عمل من التبطئة وهما ضد التعجل والبطوء نَقِيضُ السُّرْعَةِ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ وَالْمَعْنَى مَنْ أَخَّرَهُ عمل عَنْ بُلُوغِ دَرَجَةِ السَّعَادَةِ (لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ) مِنَ الْإِسْرَاعِ أَيْ لَمْ يُقَدِّمْهُ نَسَبُهُ يَعْنِي لَمْ يَجْبُرْ نَقِيصَتَهُ لِكَوْنِهِ نَسِيبًا فِي قَوْمِهِ إِذْ لَا يَحْصُلُ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّسَبِ بَلْ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَالَ تَعَالَى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وَشَاهِدُ ذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ لَا أَنْسَابَ لَهُمْ يُتَفَاخَرُ بِهَا بَلْ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ مَوَالٍ وَمَعَ ذَلِكَ هُمْ سَادَاتُ الْأُمَّةِ وَيَنَابِيعُ الرَّحْمَةِ وَذَوُو الْأَنْسَابِ الْعَلِيَّةِ الَّذِينَ لَيْسُوا كَذَلِكَ فِي مَوَاطِنِ جَهْلِهِمْ نَسْيًا مَنْسِيًّا وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الدِّينِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخرين كذا قال القارىء في المرقاة وقد صدق القارىء قال بن الصَّلَاحِ فِي مُقَدِّمَتِهِ رَوَيْنَا عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ قَدِمْتُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَقَالَ مِنْ أَيْنَ قَدِمْتَ يَا زُهْرِيٌّ قُلْتُ مِنْ مَكَّةَ قَالَ فَمَنْ خَلّفْتَ بِهَا يَسُودُ أَهْلَهَا قُلْتُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ فَمِنْ الْعَرَبِ أَمْ مِنْ الْمَوَالِي قَالَ قُلْتُ مِنْ الْمَوَالِي قُلْتُ مِنْ الْمَوَالِي قَالَ وَبِمَ سَادَهُمْ قُلْتُ بِالدِّيَانَةِ وَالرِّوَايَةِ قَالَ إِنَّ أَهْلَ الدِّيَانَةِ وَالرِّوَايَةِ لَيَنْبَغِي أَنْ يَسُودُوا قَالَ فَمَنْ يَسُودُ أَهْلَ الْيَمَنِ قَالَ قُلْتُ طَاوُسُ بْنُ كَيْسَانَ قَالَ فَمِنْ الْعَرَبِ أَمْ مِنْ الْمَوَالِي قَالَ قُلْتُ مِنْ الْمَوَالِي قَالَ وَبِمَ سَادَهُمْ قُلْتُ بِمَا سَادَهُمْ بِهِ عَطَاءٌ قَالَ إِنَّهُ لَيَنْبَغِي قَالَ فَمَنْ يَسُودُ أَهْلَ مِصْرَ قَالَ قُلْتُ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ قَالَ فَمِنْ الْعَرَبِ أَمْ مِنْ الْمَوَالِي قَالَ قُلْتُ مِنْ الْمَوَالِي قَالَ فَمَنْ يَسُودُ أَهْلَ الشَّامِ قَالَ قُلْتُ مَكْحُولٌ قَالَ فَمِنْ الْعَرَبِ أَمْ مِنْ الْمَوَالِي قَالَ قُلْتُ مِنْ الْمَوَالِي عَبْدٌ نُوبِيٌّ أَعْتَقَتْهُ اِمْرَأَةٌ مِنْ هُذَيْلٍ قَالَ فَمَنْ يَسُودُ أَهْلَ الْجَزِيرَةِ قُلْتُ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ قَالَ فَمِنْ الْعَرَبِ أَمْ مِنْ الْمَوَالِي قَالَ قُلْتُ مِنْ الْمَوَالِي قَالَ فَمَنْ يَسُودُ أَهْلَ خُرَاسَانَ قَالَ قُلْتُ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ قَالَ فَمِنَ الْعَرَبِ أَمِ الْمَوَالِي قَالَ قُلْتُ مِنْ الْمَوَالِي قَالَ فَمَنْ يَسُودُ أَهْلَ الْبَصْرَةِ قَالَ قُلْتُ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ فَمِنْ الْعَرَبِ أَمْ مِنْ الْمَوَالِي قَالَ قُلْتُ مِنْ الْمَوَالِي قَالَ فَمَنْ يَسُودُ أَهْلَ(8/216)
الْكُوفَةِ قَالَ قُلْتُ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ قَالَ فَمِنْ الْعَرَبِ أَمِ الْمَوَالِي قَالَ قُلْتُ مِنْ الْعَرَبِ قَالَ وَيْلَكَ يَا زُهْرِيٌّ فَرَّجْتُ عَنِّي وَاللَّهِ لَيَسُودَنَّ الْمَوَالِي عَلَى الْعَرَبِ حَتَّى يُخْطَبَ لَهَا عَلَى الْمَنَابِرِ وَالْعَرَبُ تَحْتَهَا قَالَ قُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِذًا هُوَ أَمْرُ اللَّهِ وَدِينُهُ مَنْ حَفِظَهُ سَادَهُ وَمَنْ ضَيَّعَهُ سَقَطَ انْتَهَى قَوْلُهُ (هَكَذَا رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ إِلَخْ) أَيْ مُتَّصِلًا (وَرَوَى أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ حُدِّثْتُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ التَّحْدِيثِ (عَنْ أَبِي صَالِحٍ إِلَخْ) فَفِي رِوَايَةِ أَسْبَاطٍ هَذِهِ انْقِطَاعٌ بَيْنَ الْأَعْمَشِ وَأَبِي صَالِحٍ فَإِنَّ الْأَعْمَشَ لَمْ يَذْكُرْ من حَدِيثِهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَحَدِيثُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُخْتَصَرًا فِي أَبْوَابِ الْحُدُودِ وَفِي أَبْوَابِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَفِي أَبْوَابِ العلم
(باب)
قَوْلُهُ (عَنْ مُطَرِّفٍ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَانِيه وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ المكسورة هو بن طَرِيفٍ الْكُوفِيُّ (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) هُوَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّبِيعِيُّ قَوْلُهُ (إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ) أَيْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ (فَمَا رَخَّصَ لِي) أَيْ فِي أَقَلَّ مِنَ الْخَمْسِ وَفِي مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي فَرْوَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كَمْ أَخْتِمُ الْقُرْآنَ قَالَ اخْتِمْهُ فِي شَهْرٍ قُلْتُ إِنِّي أُطِيقُ قَالَ اخْتِمْهُ فِي خَمْسَةَ عَشْرَ الحديث وفي(8/217)
آخِرِهِ قَالَ اخْتِمْهُ فِي خَمْسٍ قُلْتُ إِنِّي أُطِيقُ قَالَ لَا وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ اقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي شَهْرٍ قُلْتُ إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً حَتَّى قَالَ فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ قَالَ الْحَافِظُ أَيْ لَا تُغَيِّرِ الْحَالَ الْمَذْكُورَةَ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى فَأَطْلَقَ الزِّيَادَةَ وَالْمُرَادُ النَّقْصُ وَالزِّيَادَةُ هُنَا بِطَرِيقِ التَّدَلِّي أَيْ لَا تَقْرَأْهُ فِي أَقَلَّ مِنْ سَبْعٍ انْتَهَى وَسَيَأْتِي وَجْهُ الْجَمْعِ قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى بِأَلْفَاظٍ (وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ لَمْ يَفْقَهْ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ وَصَلَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَشَاهِدُهُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ وجه آخر عن بن مسعود إقرأوا القرآن في سبع ولا تقرأوه فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ وَلِأَبِي عُبَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ الطَّيِّبِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ وَهَذَا اخْتِيَارُ أَحْمَدَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَغَيْرِهِمْ وَثَبَتَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ السلف أنهم قرأوا الْقُرْآنَ فِي دُونِ ذَلِكَ قَالَ النَّوَوِيُّ وَالِاخْتِيَارُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِالْأَشْخَاصِ فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَهْمِ وَتَدْقِيقِ الْفِكْرِ اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يقتصر على القدر الذي لا يختل بِالْمَقْصُودِ مِنَ التَّدَبُّرِ وَإِخْرَاجِ الْمَعَانِي وَكَذَا مَنْ كَانَ لَهُ شُغْلٌ بِالْعِلْمِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْهُ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي لَا يُخِلُّ بِمَا هُوَ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَالْأَوْلَى لَهُ الِاسْتِكْثَارُ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ غير خروج إلى الملل ولا يقرأه هَذْرَمَةً انْتَهَى مَا فِي الْفَتْحِ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ اقْرَأِ الْقُرْآنَ أَيْ كُلَّهُ (فِي أَرْبَعِينَ) أَيْ يَوْمًا أَوْ لَيْلَةً وَوَصَلَهُ التِّرْمِذِيُّ فِيمَا بَعْدُ (وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ (وَلَمْ يَقْرَأِ الْقُرْآنَ) أَيْ كُلَّهُ (وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ) تَقَدَّمَ أَسْمَاؤُهُمْ (وَرَخَّصَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ العلم) أي رخص بعضهم في أن يقرأالقرآن فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ(8/218)
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَتَيْنِ وَكَانَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَيَصُومُ الدَّهْرَ وَكَانَ أَبُو حَرَّةَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَكَانَ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ لَيْلَتَيْنِ (وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ يُوتِرُ بِهَا) رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَرَوَى الطحاوي بإسناده عن بن سِيرِينَ قَالَ كَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ يُحْيِي اللَّيْلَ كُلَّهُ بِالْقُرْآنِ كُلِّهِ فِي رَكْعَةٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ فِي الْبَيْتِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَخَرَجَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ إِلَى الْحَجِّ فَرُبَّمَا خَتَمَ الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ فِي لَيْلَةٍ بَيْنَ شُعْبَتَيْ رَحْلِهِ وَكَانَ مَنْصُورُ بْنُ زَاذَانَ خَفِيفَ الْقِرَاءَةِ وَكَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي صَلَاةِ الضُّحَى وَكَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ بَيْنَ الْأُولَى وَالْعَصْرِ وَيَخْتِمُ فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ وَكَانَ يُصَلِّي اللَّيْلَ كُلَّهُ وَكَانَ إِذَا جَاءَ شَهْرُ رَمَضَانَ خَتَمَ الْقُرْآنَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ خَتْمَتَيْنِ ثُمَّ يَقْرَأُ إِلَى الطَّوَاسِينِ قَبْلَ أَنْ تُقَامَ الصَّلَاةُ وَكَانُوا إِذْ ذَاكَ يُؤَخِّرُونَ الْعِشَاءَ لِشَهْرِ رَمَضَانَ إِلَى أَنْ يَذْهَبَ رُبُعُ اللَّيْلِ انْتَهَى مَا فِي قِيَامِ اللَّيْلِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَلَوْ تَتَبَّعْتَ تَرَاجِمَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ لَوَجَدْتَ كثيرا منهم أنهم كانوا يقرأون الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَعْلَامَ لَمْ يَحْمِلُوا النَّهْيَ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ عَلَى التَّحْرِيمِ وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَغَيْرُهُمَا واللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (وَالتَّرْتِيلُ فِي الْقِرَاءَةِ أَحَبُّ إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ) لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِالتَّرْتِيلِ وَكَانَتْ قِرَاءَتُهُ مُفَسَّرَةً حَرْفًا حَرْفًا باتباعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ وَأَوْلَى قَوْلُهُ (أخبرنا علي بن الحسن) هو بن شَقِيقٍ الْمَرْوَزِيُّ (عَنْ سِمَاكِ بْنِ الْفَضْلِ) الْخَوْلَانِيِّ الْيَمَانِيِّ ثِقَةٌ مِنَ السَّادِسَةِ قَوْلُهُ (قَالَ لَهُ اقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي أَرْبَعِينَ) كَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُخْتَصَرًا وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِلَفْظِ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَمْ يقرأ القرآن قال في أربعين يوماثم قال في شهرثم قال في(8/219)
عِشْرِينَ ثُمَّ قَالَ فِي خَمْسَ عَشْرَةَ ثُمَّ قَالَ فِي عَشْرٍ ثُمَّ قَالَ فِي سَبْعٍ لَمْ يَنْزِلْ مِنْ سَبْعٍ قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الحديث وعزوه لأبو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ مَا لَفْظُهُ وَهَذَا إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا احْتَمَلَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِوَايَةِ أَبِي فَرْوَةَ يَعْنِي الَّتِي رَوَاهَا الدَّارِمِيُّ وقد تقدمت تَعَدُّدُ الْقِصَّةِ فَلَا مَانِعَ أَنْ يَتَعَدَّدَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ذَلِكَ تَأْكِيدًا وَيُؤَيِّدُهُ الِاخْتِلَافُ الْوَاقِعُ فِي السِّيَاقِ وَكَأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الزِّيَادَةِ لَيْسَ عَلَى التَّحْرِيمِ كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ وَعُرِفَ ذَلِكَ مِنْ قَرَائِنِ الْحَالِ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا السِّيَاقُ وَهُوَ النَّظَرُ إِلَى عَجْزِهِ عَنْ سِوَى ذَلِكَ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الْمَآلِ انْتَهَى قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعُقَيْلِيُّ أَبُو الْمُثَنَّى الْبَصْرِيُّ أَوِ الْوَاسِطِيُّ ضَعِيفٌ مِنَ السَّابِعَةِ) قَوْلُهُ (الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ) قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي النِّهَايَةِ هُوَ الَّذِي يَخْتِمُ الْقُرْآنَ بِتِلَاوَتِهِ ثُمَّ يَفْتَتِحُ التِّلَاوَةَ مِنْ أَوَّلِهِ شَبَّهَهُ بِالْمُسَافِرِ يَبْلُغُ الْمَنْزِلَ فَيَحِلُّ فِيهِ ثُمَّ يَفْتَتِحُ سَيْرَهُ أَيْ يَبْتَدِئُهُ وَكَذَلِكَ قُرَّاءُ مَكَّةَ إذا ختموا القرآن ابتدأوا وقرأوا الْفَاتِحَةَ وَخَمْسَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ الْبَقَرَةِ إِلَى (وَأُولَئِكَ هُمِ الْمُفْلِحُونَ) ثُمَّ يَقْطَعُونَ الْقِرَاءَةَ وَيُسَمُّونَ فَاعِلَ ذَلِكَ الْحَالَّ الْمُرْتَحِلَ أَيْ خَتَمَ القُرْآنَ وَابْتَدَأَ بِأَوَّلِهِ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا بِزَمَانٍ وَقِيلَ أَرَادَ بِالْحَالِّ الْمُرْتَحِلِ الْغَازِي الَّذِي لَا يَقْفِلُ مِنْ غَزْوٍ إِلَّا عَقَّبَهُ بِآخَرَ انْتَهَى وَقَالَ بن الْقَيِّمِ فِي الْإِعْلَامِ ص 982 ج 2 بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا لَفْظُهُ فَهِمَ مِنْ هَذَا بَعْضُهُمْ أَنَّهُ إِذَا فَرَغَ مِنْ خَتْمِ الْقُرْآنِ قَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّهُ حَلَّ بِالْفَرَاغِ وَارْتَحَلَ بِالشُّرُوعِ وَهَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي كُلَّمَا حَلَّ مِنْ غَزَاةٍ ارْتَحَلَ فِي أُخْرَى أَوْ كُلَّمَا حَلَّ مِنْ عَمَلٍ ارْتَحَلَ إِلَى غَيْرِهِ تَكَمُّلًا لَهُ كَمَا كَمَّلَ الْأَوَّلَ وَأَمَّا هَذَا الَّذِي يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْقُرَّاءِ فَلَيْسَ مُرَادَ الْحَدِيثِ قَطْعًا وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ وَقَدْ جَاءَ تَفْسِيرُ الْحَدِيثِ مُتَّصِلًا بِهِ أَنْ يَضْرِبَ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ إِلَى آخِرِهِ كُلَّمَا حَلَّ ارْتَحَلَ وَهَذَا لَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ كُلَّمَا حَلَّ مِنْ سُورَةٍ أَوْ جُزْءٍ ارْتَحَلَ فِي غَيْرِهِ وَالثَّانِي أَنَّهُ كُلَّمَا حَلَّ مِنْ خَتْمَةٍ ارْتَحَلَ فِي أُخْرَى انْتَهَى(8/220)
قُلْتُ قَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ التِّرْمِذِيِّ التفسير الذي أشار إليه بن الْقَيِّمِ مُتَّصِلًا بِهَذَا الْحَدِيثِ بِلَفْظِ قَالَ وَمَا الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ قَالَ الَّذِي يَضْرِبُ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ إِلَى آخِرِهِ كُلَّمَا حَلَّ ارْتَحَلَ وَحَدِيثُ بن عَبَّاسٍ هَذَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ بِلَفْظِ قَامَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ أَوْ قَالَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ قَالَ فَتْحُ الْقُرْآنِ وَخَتْمُهُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ وَمِنْ آخِرِهِ إِلَى أَوَّلِهِ كُلَّمَا حَلَّ ارْتَحَلَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَدِيثِ السَّيْرُ دَائِمًا لَا يَفْتُرُ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ كَلِمَةُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ وَمِنْ آخِرِهِ إلى أوله فقارىء خَمْسِ آيَاتٍ وَنَحْوِهَا عِنْدَ الْخَتْمِ لَمْ يُحَصِّلْ تِلْكَ الْفَضِيلَةَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الِارْتِحَالُ لِفَوْرِ الْحُلُولِ فَالْمُسَافِرُ السَّائِرُ لَا بُدَّ أَنْ يَنْزِلَ فَيُقِيمَ لَيْلَةً أَوْ بَعْضَ لَيْلَةٍ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أَوْ يُعَرِّسَ انْتَهَى قُلْتُ الْأَمْرُ عِنْدِي كَمَا قَالَ واللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ إِلَخْ) وَأَخْرَجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ كَمَا عَرَفْتَ وَفِي سَنَدِهِمَا صَالِحٌ المري وهو ضعيف قوله (أخبرنا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ الْأَزْدِيُّ (وَهَذَا عِنْدِي أَصَحُّ) أَيْ حَدِيثُ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ مُرْسَلًا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ الْهَيْثَمِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ مُتَّصِلًا لِأَنَّ مُسْلِمَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ وَالْهَيْثَمُ بْنُ الرَّبِيعِ ضَعِيفٌ وَلَكِنْ لَمْ يَتَفَرَّدِ الْهَيْثَمُ بِرِوَايَتِهِ مُتَّصِلًا بَلْ تَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الفضل بن أبي سويد في رواية بن نَصْرٍ الْمَذْكُورَةِ قَوْلُهُ (لَمْ يَفْقَهْ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ) أَيْ لَمْ يَفْهَمْ ظَاهِرَ مَعَانِيهِ وَأَمَّا فَهْمُ دَقَائِقِهِ فَلَا يَفِي بِهِ الْأَعْمَارُ وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْفَهْمِ لَا نَفْيُ الثَّوَابِ كَذَا فِي الْمَجْمَعِ(8/221)
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو داود والنسائي والدارمي وبن ماجه(8/222)
(أبواب تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
بسم الله الرحمن الرحيم التَّفْسِيرُ تَفْعِيلٌ مِنَ الْفَسْرِ وَهُوَ الْبَيَانُ تَقُولُ فَسَرْتَ الشَّيْءَ بِالتَّخْفِيفِ أَفْسُرُهُ فَسْرًا وَفَسَّرْته بِالتَّشْدِيدِ أُفَسِّرُهُ تَفْسِيرًا إِذَا بَيَّنْته وَأَصْلُ الْفَسْرِ نَظَرُ الطَّبِيبِ إِلَى الْمَاءِ لِيَعْرِفَ الْعِلَّةَ وَاخْتَلَفُوا فِي التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَطَائِفَةٌ هُمَا بِمَعْنًى وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا آخَرُونَ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ التَّأْوِيلُ رَدُّ أَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ إِلَى مَا يُطَابِقُ الظَّاهِرَ وَالتَّفْسِيرُ كَشْفُ الْمُرَادِ عَنِ اللَّفْظِ الْمُشْكِلِ وَحَكَى صَاحِبُ النِّهَايَةِ أَنَّ التَّأْوِيلَ نَقْلُ ظَاهِرِ اللَّفْظِ عَنْ وَضْعِهِ الْأَصْلِيِّ إِلَى مَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ لَوْلَاهُ مَا تُرِكَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَقِيلَ التَّأْوِيلُ إِبْدَاءُ احْتِمَالِ اللَّفْظِ مُعْتَضَدٌ بِدَلِيلٍ خَارِجٍ عَنْهُ وَمَثَّلَ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا ريب فيه} قَالَ مَنْ قَالَ لَا شَكَّ فِيهِ فَهُوَ التَّفْسِيرُ وَمَنْ قَالَ لِأَنَّهُ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ فَهُوَ التَّأْوِيلُ كَذَا فِي الْفَتْحِ
1 - (بَاب مَا جَاءَ فِي الَّذِي يُفَسِّرُ الْقُرْآنَ برأيه)
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ (عَنْ عَبْدِ الأعلى) هو بن عَامِرٍ
قَوْلُهُ (مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أَيْ بِغَيْرِ دَلِيلٍ يَقِينِيٍّ أَوْ ظَنِّيٍّ نقلي أو عقلي مطابق للشرعي قاله القارىء
وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ قَوْلًا يَعْلَمُ أَنَّ الْحَقَّ غَيْرُهُ وَقَالَ فِي مُشْكِلِهِ بِمَا لَا يَعْرِفُ(8/223)
(فليتبوأ مقعده من النار) أي ليهيىء مَكَانَهُ مِنَ النَّارِ قِيلَ الْأَمْرُ لِلتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ وقيل الأمر بمعنى الخبر
قال بن حَجَرٍ وَأَحَقُّ النَّاسِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ سَلَبُوا لَفْظَ الْقُرْآنِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ وَأُرِيدَ بِهِ أَوْ حَمَلُوهُ عَلَى مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرِدْ بِهِ فِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ مِمَّا قَصَدُوا نَفْيَهُ أَوْ إِثْبَاتَهُ مِنَ الْمَعْنَى فَهُمْ مُخْطِئُونَ فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ مِثْلُ تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَيْسَانَ الْأَصَمِّ وَالْجُبَائِيِّ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ وَالْهَانِيِّ وَالزَّمَخْشَرِيِّ وَأَمْثَالِهِمْ
وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَدُسُّ الْبِدَعَ وَالتَّفَاسِيرَ الْبَاطِلَةَ فِي كَلَامِهِمِ الْجَذِلِ فَيَرُوجُ عَلَى أَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ كَصَاحِبِ الْكَشَّافِ وَيَقْرُبُ مِنْ هَؤُلَاءِ تفسير بن عطية بل كان الإمام بن العرفة الْمَالِكِيُّ يُبَالِغُ فِي الْحَطِّ عَلَيْهِ وَيَقُولُ إِنَّهُ أَقْبَحُ مِنْ صَاحِبِ الْكَشَّافِ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ اعْتِزَالَ ذَلِكَ فَيَجْتَنِبُهُ بِخِلَافِ هَذَا فَإِنَّهُ يُوهِمُ النَّاسَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وبن جَرِيرٍ
قَوْلُهُ (اتَّقُوا الْحَدِيثَ) أَيِ احْذَرُوا رِوَايَتَهُ (عَنِّي) وَالْمَعْنَى لَا تُحَدِّثُوا عَنِّي (إِلَّا مَا علمتم) أي أنه من حديثي
قال القارىء والظاهر أن العلم هنا يشتمل الظن فأنهم إِذَا جُوِّزَ الشَّهَادَةُ بِهِ مَعَ أَنَّهَا أَضْيَقُ مِنَ الرِّوَايَةِ اتِّفَاقًا فَلَأَنْ تُجَوَّزَ بِهِ الرِّوَايَةُ أَوْلَى وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الرِّوَايَةِ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْخَطِّ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (وَمَنْ قَالَ) أَيْ مَنْ تَكَلَّمَ (فِي الْقُرْآنِ) أَيْ فِي مَعْنَاهُ أَوْ قِرَاءَتِهِ (بِرَأْيِهِ) أَيْ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَتَبُّعِ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ الْمُطَابِقَةِ لِلْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ بَلْ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيه عَقْلُهُ وَهُوَ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَى النَّقْلِ بِأَنَّهُ لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِيهِ كَأَسْبَابِ النُّزُولِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَصَصِ وَالْأَحْكَامِ أَوْ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيه ظَاهِرُ النَّقْلِ وَهُوَ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعَقْلِ كَالْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي أَخَذَ الْمُجَسِّمَةُ بِظَوَاهِرِهَا وَأَعْرَضُوا عَنِ اسْتِحَالَةِ ذَلِكَ فِي الْعُقُولِ أَوْ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيه بَعْضُ الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ مَعَ عَدَمِ مَعْرِفَتِهِ بِبَقِيَّتِهَا وبالعلوم الشرعية فيها يُحْتَاجُ لِذَلِكَ وَلِذَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ الْمُرَادُ رَأْيٌ غَلَبَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ قَامَ عَلَيْهِ أَمَّا مَا يَشُدُّهُ بُرْهَانٌ فَلَا مَحْذُورَ فِيهِ فَعُلِمَ أَنَّ عِلْمَ التَّفْسِيرِ إِنَّمَا يُتَلَقَّى مِنَ النَّقْلِ أَوْ مِنْ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ أَوْ مِنَ الْمَقَايِيسِ الْعَرَبِيَّةِ أَوِ الْقَوَاعِدِ الْأُصُولِيَّةِ الْمَبْحُوثِ عَنْهَا فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَوْ أُصُولِ الدِّينِ(8/224)
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ
قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي حِبَّانُ) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ (وَهُوَ) أَيْ سُهَيْلُ بْنُ عبد الله (بن أَبِي حَزْمٍ) فَأَبُو حَزْمٍ كُنْيَةُ وَالِدُ سُهَيْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ اسْمُهُ وَيُقَالُ لَهُ مِهْرَانُ أَيْضًا (أخو حزم) بدل من بن أَبِي حَزْمٍ أَيْ سُهَيْلُ بْنُ أَبِي حَزْمٍ هُوَ أَخُو حَزْمٍ (الْقُطَعِيُّ) بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ الطَّاءِ
قَالَ الْحَافِظُ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ سُهَيْلُ بْنُ أَبِي حَزْمٍ وَاسْمُهُ مِهْرَانُ وَيُقَالُ عَبْدُ اللَّهِ أَبُو بَكْرٍ الْبَصْرِيُّ رَوَى عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ وَغَيْرِهِ وَعَنْهُ حِبَّانُ بْنُ هِلَالٍ وَغَيْرُهُ
وَقَالَ فِي التَّقْرِيبِ ضَعِيفٌ مِنَ السَّابِعَةِ (عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بِضَمِّ الْجِيمِ والدال تفتح وتضم بن سُفْيَانَ الْبَجَلِيِّ
قَوْلُهُ (مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ) أَيْ فِي لَفْظِهِ أَوْ مَعْنَاهُ (بِرَأْيِهِ) أَيْ بِعَقْلِهِ الْمُجَرَّدِ (فَأَصَابَ) أَيْ وَلَوْ صَارَ مُصِيبًا بحسب الاتفاق (فقد أخطأ) أي فهو مخطىء بحسب الحكم الشرعي
قال بن حَجَرٍ أَيْ أَخْطَأَ طَرِيقَ الِاسْتِقَامَةِ بِخَوْضِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِالتَّخْمِينِ وَالْحَدْسِ لِتَعَدِّيهِ بِهَذَا الْخَوْضِ مَعَ عَدَمِ اسْتِجْمَاعِهِ لِشُرُوطِهِ فَكَانَ آثِمًا بِهِ مُطْلَقًا وَلَمْ يُعْتَدَّ بِمُوَافَقَتِهِ لِلصَّوَابِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عَنْ قَصْدٍ وَلَا تَحَرٍّ بِخِلَافِ مَنْ كَمُلَتْ فِيهِ آلَاتُ التَّفْسِيرِ وَهِيَ خَمْسَةَ عَشْرَ عِلْمًا اللُّغَةُ وَالنَّحْوُ وَالتَّصْرِيفُ وَالِاشْتِقَاقُ لِأَنَّ الِاسْمَ إِذَا كَانَ اشْتِقَاقُهُ مِنْ مَادَّتَيْنِ اخْتَلَفَ الْمَعْنَى بِاخْتِلَافِهِمَا كَالْمَسِيحِ هَلْ هُوَ مِنَ السِّيَاحَةِ أَوِ الْمَسْحِ وَالْمَعَانِي وَالْبَيَانُ وَالْبَدِيعُ وَالْقِرَاءَاتُ وَالْأَصْلَيْنِ وَأَسْبَابُ النُّزُولِ والقصص والناسخ والمنسوخ والفقه والأحاديث المبينة لتفسير الْمُجْمَلَ وَالْمُبْهَمَ وَعِلْمُ الْمَوْهِبَةِ وَهُوَ عِلْمٌ يُورِثُهُ اللَّهُ لِمَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَبَعْضُ هَذِهِ الْعُلُومِ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ السَّلَفِ بِالْفِعْلِ وَبَعْضُهَا بِالطَّبْعِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ فَإِنَّهُ مَأْجُورٌ بِخَوْضِهِ فِيهِ وَإِنْ أَخْطَأَ لِأَنَّهُ لَا تَعَدِّيَ مِنْهُ فَكَانَ مَأْجُورًا أَجْرَيْنِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ أَوْ عَشْرَةَ أُجُورٍ كَمَا فِي أُخْرَى إِنْ أَصَابَ وَأَجْرًا إِنْ أَخْطَأَ كَالْمُجْتَهِدِ فِي الْأَحْكَامِ لِأَنَّهُ بَذَلَ وُسْعَهُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَاضْطَرَّهُ الدَّلِيلُ إِلَى مَا رَآهُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَقْصِيرٌ بِوَجْهٍ
وَقَدْ أَخْطَأَ الْبَاطِنِيَّةُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لِلْقُرْآنِ ظَهْرًا وَبَطْنًا وَأَنَّ الْمُرَادَ بَاطِنُهُ دُونَ ظَاهِرِهِ
وَمِنْ هَذَا مَا يَسْلُكُهُ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ مِنْ تَفْسِيرِهِمْ فِرْعَوْنَ بِالنَّفْسِ وَمُوسَى بِالْقَلْبِ إِنْ زَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ مُرَادٌ بِالْآيَةِ لَا إِشَارَاتٌ ومناسبات ل يات وَقَدْ صَرَّحَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ يَحْرُمُ صَرْفُ شيء من(8/225)
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَنْ ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِصَامٍ فِيهِ بِنَقْلٍ مِنَ الشَّارِعِ وَمِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ تَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَنَقَلَ الطِّيبِيُّ عَنِ التوربشتي أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّأْيِ مَا لَا يَكُونُ مُؤَسَّسًا عَلَى عُلُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَلْ يَكُونُ قَوْلًا تَقَوَّلَهُ بِرَأْيِهِ عَلَى مَا يَقْتَضِيه عَقْلُهُ وَعِلْمُ التَّفْسِيرِ يُؤْخَذُ مِنْ أَفْوَاهِ الرِّجَالِ كَأَسْبَابِ النُّزُولِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَمِنْ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ وَتَأْوِيلَاتِهِمْ بِالْمَقَايِيسِ الْعَرَبِيَّةِ كَالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَالْمُجْمَلِ وَالْمُفَصَّلِ وَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ ثُمَّ يَتَكَلَّمُ عَلَى حَسْبِ مَا يقتضيه أصول الدين فيأول الْقِسْمَ الْمُحْتَاجَ إِلَى التَّأْوِيلِ عَلَى وَجْهٍ يَشْهَدُ بِصِحَّتِهِ ظَاهِرُ التَّنْزِيلِ فَمَنْ لَمْ يَسْتَجْمِعْ هَذِهِ الشرائط كان قوله مهجورا وحسبه من الزاجر أنه مخطىء عند الاصابة فيابعد مَا بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ وَالْمُتَكَلِّفِ فَالْمُجْتَهِدُ مَأْجُورٌ عَلَى الْخَطَأِ وَالْمُتَكَلِّفُ مَأْخُوذٌ بِالصَّوَابِ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
وَقَالَ النَّيْسَابُورِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى النَّقْلِ وَالْمَسْمُوعِ وَتَرْكُ الِاسْتِنْبَاطِ أَوِ الْمُرَادُ بِهِ أَمْرٌ آخَرُ وَبَاطِلٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ أَحَدٌ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا بِمَا سَمِعَهُ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَدْ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ عَلَى وُجُوهٍ وَلَيْسَ كُلُّ مَا قَالُوهُ سَمِعُوهُ كَيْفَ وَقَدْ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ فَإِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ مَسْمُوعًا كَالتَّنْزِيلِ فَمَا فَائِدَةُ تَخْصِيصِهِ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا النَّهْيُ يُحْمَلُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الشَّيْءِ رأي وإليه ميل من طبعه وهواه فيأول الْقُرْآنَ عَلَى وِفْقِ هَوَاهُ لِيَحْتَجَّ عَلَى تَصْحِيحِ غَرَضِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ الرَّأْيُ وَالْهَوَى لَا يَلُوحُ لَهُ مِنَ الْقُرْآنِ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَهَذَا قَدْ يَكُونُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ لَيْسَ ذَلِكَ وَلَكِنْ يُلَبِّسُ عَلَى خَصْمِهِ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْجَهْلِ وَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْآيَةُ مُحْتَمِلَةً فَيَمِيلُ فَهْمُهُ إِلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُوَافِقُ غَرَضَهُ وَيَتَرَجَّحُ ذَلِكَ الْجَانِبُ بِرَأْيِهِ وَهَوَاهُ وَلَوْلَا رَأْيُهُ لَمَا كَانَ يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ ذَلِكَ الْوَجْهُ وَقَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ صَحِيحٌ فَيَطْلُبُ لَهُ دَلِيلًا مِنَ الْقُرْآنِ وَيَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَا أُرِيدَ بِهِ كَمَنْ يَدْعُو إِلَى مُجَاهِدَةِ الْقَلْبِ الْقَاسِي فَيَقُولُ الْمُرَادُ بِفِرْعَوْنَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى اذْهَبْ إِلَى فرعون إنه طغى هُوَ النَّفْسُ
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَتَسَارَعَ إِلَى تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِظَاهِرِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِظْهَارٍ بِالسَّمَاعِ وَالنَّقْلِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِغَرِيبِ الْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُبْهَمَةِ وَالِاخْتِصَارِ وَالْحَذْفِ وَالْإِضْمَارِ وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فَالنَّقْلُ وَالسَّمَاعُ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي ظَاهِر التَّفْسِيرِ أَوَّلًا لِيَتَّقِيَ بِهِ مَوَاضِعَ الْغَلَطِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَّسِعُ لِلتَّفْهِيمِ وَالِاسْتِنْبَاطِ
وَالْغَرَائِبُ الَّتِي لَا تُفْهَمُ إِلَّا بِالسَّمَاعِ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بها مَعْنَاهُ آيَةً مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِقَتْلِهَا فَالنَّاظِرُ إِلَى ظَاهِرِ الْعَرَبِيَّةِ يَظُنُّ الْمُرَادَ أَنَّ النَّاقَةَ كَانَتْ مُبْصِرَةً وَلَمْ تَكُنْ عَمْيَاءَ وَمَا يَدْرِي بِمَا ظَلَمُوا وَأَنَّهُمْ ظَلَمُوا غَيْرَهُمْ أَوْ أَنْفُسَهُمْ
وَمَا عَدَا هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَلَا يَتَطَرَّقُ النَّهْيُ إِلَيْهِ مَا دَامَ عَلَى قَوَانِينِ الْعُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ والقواعد الأصلية(8/226)
وَالْفَرْعِيَّةِ انْتَهَى
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ والنسائي وبن جَرِيرٍ (وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي سُهَيْلِ بْنِ أَبِي حَزْمٍ) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ (وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ شَدَّدُوا فِي هَذَا) قَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ بن كَثِيرٍ فِي أَوَائِلِ تَفْسِيرِهِ آثَارًا عَدِيدَةً عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي التَّحَرُّجِ عَنْ تَفْسِيرِ مَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ (فِي أَنْ يُفَسَّرَ الْقُرْآنُ بِغَيْرِ عِلْمٍ) هَذَا بَيَانٌ لِقَوْلِهِ فِي هَذَا
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَهْدِيٍّ الْبَصْرِيُّ) قَالَ فِي التَّقْرِيبِ الْحُسَيْنُ بْنُ مَهْدِيِّ بْنِ مَالِكٍ الْأُبُلِيُّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ أَبُو سَعِيدٍ صَدُوقٌ مِنَ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَالَ فِي لُبِّ اللُّبَابِ الْأُبَلِّيُّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ نِسْبَةً إِلَى أُبَلَّةَ بَلْدَةٍ عَلَى أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ مِنَ الْبَصْرَةِ
قَوْلُهُ (لَوْ كُنْتَ قرأت قراءة بن مسعود لم أحتج أن أسأل بن عَبَّاسٍ إِلَخْ) أَيْ لِمَا وَقَعَ فِي قِرَاءَتِهِ مِنْ تَفْسِيرِ كَثِيرٍ مِنَ الْقُرْآنِ(8/227)
2 - (باب وَمِنْ سُورَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ)
هِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قوله الْأَكْثَرِ وَقِيلَ مَدَنِيَّةٌ وَقِيلَ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بمكة ومرة بالمدينة
قال بن كَثِيرٍ وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ وَهِيَ سَبْعُ آيَاتٍ بِالِاتِّفَاقِ
قَوْلُهُ (مَنْ صَلَّى) إِمَامًا كَانَ أَوْ مُقْتَدِيًا أَوْ مُنْفَرِدًا (صَلَاةً) جَهْرِيَّةً كَانَتْ أَوْ سَرِيَّةً فَرِيضَةً أَوْ نَافِلَةً (لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ) أَيْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ
قَالَ النَّوَوِيُّ أُمُّ الْقُرْآنِ اسْمُ الْفَاتِحَةِ وَسُمِّيَتْ أُمَّ الْقُرْآنِ لِأَنَّهَا فَاتِحَتُهُ كَمَا سُمِّيَتْ مَكَّةُ أُمَّ الْقُرَى لِأَنَّهَا أَصْلُهَا (فَهِيَ خِدَاجٌ) أَيْ نَاقِصٌ نَقْصَ فَسَادٍ وَبُطْلَانٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْخِدَاجِ فِي بَاب مَا جَاءَ أَنَّهُ لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ (غَيْرُ تَمَامٍ) بَيَانُ خِدَاجٍ أَوْ بَدَلٌ منه
قال القارىء فِي الْمِرْقَاةِ هُوَ صَرِيحٌ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا مِنْ نُقْصَانِ صَلَاتِهِ فَهُوَ مُبَيِّنٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا صَلَاةَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا نَفْيُ الْكَمَالِ لَا نَفْيُ الصِّحَّةِ فَبَطَلَ قَوْلُ بن حَجَرٍ وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا غَيْرُ صَحِيحَةٍ وَبِنَفْيِ لَا صَلَاةَ نَفْيُ صِحَّتِهَا لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ ثُمَّ قَالَ وَدَلِيل ذَلِكَ أَحَادِيثُ لَا تَقْبَلُ تأويلا منها خبر بن خزيمة وبن حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ فِي صِحَاحِهِمْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ لَا تجزىء صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَقَالَ النَّوَوِيُّ رُوَاتُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَفِيهِ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِجْزَاءِ الْكَامِلِ انتهى ما في المرقاة
قلت حديث بن خزيمة وبن حبان والحاكم بلفظ لا تجزىء صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ دَلِيلٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخِدَاجِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نُقْصَانُ الذَّاتِ أَعْنِي نُقْصَانَ الْفَسَادِ وَالْبُطْلَانِ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا صَلَاةَ نَفْيُ الصِّحَّةِ وأما قول القارىء إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِجْزَاءِ الْكَامِلِ فَغَلَطٌ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَعْدِ الْإِجْزَاءِ إِلَّا الْفَسَادُ والبطلان فماذا بعد الحق إلا الضلال
وَقَدْ سَبَقَ تَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَحَلِّهَا وَبَسَطْنَا الْكَلَامَ فِيهَا فِي كِتَابِنَا أَبْكَارُ الْمِنَنِ فِي نَقْدِ آثَارِ السُّنَنِ (إِنِّي أَحْيَانَا أَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ) أَيْ فَهَلْ أَقْرَأُ أَمْ لَا (قال يا بن الفارسي(8/228)
لَعَلَّهُ كَانَ فَارِسِيَّ النَّسْلِ (فَاقْرَأْهَا فِي نَفْسِكَ) أَيْ سِرًّا غَيْرَ جَهْرٍ (قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ) قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ هُنَا الْفَاتِحَةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ إِلَّا بِهَا كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجُّ عَرَفَةُ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهَا بِعَيْنِهَا فِي الصَّلَاةِ
قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْمُرَادُ قَسَمْتُهَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لِأَنَّ نِصْفَهَا الْأَوَّلَ تَحْمِيدٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَتَمْجِيدُهُ وَثَنَاءٌ عَلَيْهِ وَتَفْوِيضٌ إِلَيْهِ وَالنِّصْفَ الثَّانِيَ سُؤَالٌ وَطَلَبٌ وَتَضَرُّعٌ وَافْتِقَارٌ (حَمِدَنِي عَبْدِي) قَالَ النَّوَوِيُّ قَوْلُهُ تَعَالَى حَمِدَنِي عَبْدِي وَأَثْنَى عَلَيَّ وَمَجَّدَنِي إِنَّمَا قَالَهُ لِأَنَّ التَّحْمِيدَ الثَّنَاءُ بِجَمِيلِ الْفِعَالِ وَالتَّمْجِيدَ الثَّنَاءُ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَيُقَالُ أَثْنَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَلِهَذَا جَاءَ جَوَابًا لِلرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِاشْتِمَالِ اللَّفْظَيْنِ عَلَى الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ (وَبَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإياك نستعين) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَذَلُّلَ الْعَبْدِ لِلَّهِ تَعَالَى وَطَلَبَهُ الِاسْتِعَانَةَ مِنْهُ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَ اللَّهِ وَقُدْرَتَهُ عَلَى مَا طَلَبَ مِنْهُ (وَآخِرُ السُّورَةِ لِعَبْدِي) يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ إِلَخْ (وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ) أَيْ غَيْرَ هَذَا (يقول اهدنا الصراط المستقيم) أَيْ ثَبِّتْنَا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ أَوْ طَرِيقِ مُتَابَعَةِ الْحَبِيبِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (صِرَاطَ الَّذِينَ أنعمت عليهم) مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عليهم) أي اليهود (ولا الضالين) أَيِ النَّصَارَى قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو داود والنسائي وبن مَاجَهْ
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى) هُوَ الذُّهْلِيُّ (وَيَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ الْفَارِسِيُّ) أَبُو يُوسُفَ الْفَسَوِيُّ ثِقَةٌ حَافِظٌ مِنَ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ (حدثنا بن أَبِي أُوَيْسٍ) اسْمُهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ (عن(8/229)
أَبِيهِ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُوَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ الْأَصْبَحِيُّ أَبُو أُوَيْسٍ الْمَدَنِيُّ قَرِيبُ مَالِكٍ وَصِهْرُهُ صَدُوقٌ يَهِمُ مِنَ السَّابِعَةِ (وَأَبُو السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ) قَالَ فِي التَّقْرِيبِ أَبُو السائب الأنصاري المدني مولى بن زُهْرَةَ يُقَالُ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ ثِقَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ
قَوْلُهُ (وَسَأَلْتُ أَبَا زُرْعَةَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ) أَيْ سَأَلْتُهُ عَنْ أَنَّ حديث من قال عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ صَحِيحٌ أَوْ حَدِيثَ مَنْ قَالَ عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِي السَّائِبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (فَقَالَ) أَيْ أَبُو زُرْعَةَ (كِلَا الْحَدِيثِينَ صَحِيحٌ) أَيْ حَدِيثُ مَنْ قَالَ عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَدِيثُ مَنْ قَالَ عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِي السَّائِبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كِلَاهُمَا صَحِيحٌ (وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ بن أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْعَلَاءِ) أَيِ احْتَجَّ أَبُو زُرْعَةَ عَلَى قَوْلِهِ كِلَا الْحَدِيثَيْنِ صحيح برواية بن أَبِي أُوَيْسٍ فَإِنَّهُ قَالَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي وَأَبُو السَّائِبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَظَهَرَ مِنْ رِوَايَتِهِ أَنَّ الْعَلَاءَ أَخَذَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَبِي السَّائِبِ كِلَيْهِمَا
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعْدٍ) هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُثْمَانَ الدَّشْتَكِيُّ (عَنْ عَبَّادِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ (بْنِ حُبَيْشٍ) بِمُهْمَلَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ وَمُعْجَمَةٍ مُصَغَّرًا الْكُوفِيِّ مَقْبُولٌ مِنَ الثَّالِثَةِ (عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ الْحَشْرَجِ بِفَتْحِ(8/230)
الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ آخِرُهُ جِيمٌ الطَّائِيِّ صَحَابِيٌّ شَهِيرٌ وَكَانَ مِمَّنْ ثَبَتَ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي الرِّدَّةِ وَحَضَرَ فُتُوحَ الْعِرَاقِ وَحُرُوبَ عَلِيٍّ
قَوْلُهُ (فَلَمَّا دُفِعْتُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ أُحْضِرْتُ وَأَتَى الْقَوْمُ بِي (إِلَيْهِ) أَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَقَدْ كَانَ قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَأَلْقَتْ لَهُ الْوَلِيدَةُ) أَيِ الْجَارِيَةُ (مَا يُفِرُّكَ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْفَاءِ يُقَالُ أَفَرَرْتُهُ أُفِرُّهُ أَيْ فَعَلْتُ بِهِ مَا يَفِرُّ مِنْهُ وَيَهْرُبُ أَيْ مَا يَحْمِلُكَ عَلَى الْفِرَارِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ يَقُولُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْفَاءِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ
قَالَهُ الْجَزَرِيُّ (إِنَّمَا تَفِرُّ) مِنَ الْفِرَارِ أَيْ تَهْرُبُ (وَتَعْلَمُ) أَيْ هَلْ تَعْلَمُ (فَإِنَّ الْيَهُودَ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَإِنَّ النَّصَارَى ضُلَّالٌ) بِضَمِّ الضَّادِ جَمْعُ ضَالٍّ وَفِيهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ اليهود بالضالين النَّصَارَى
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ رَوَى أَحْمَدُ وبن حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْمَغْضُوبِ عليهم اليهود ولا الضالين النصارى هكذا ورده مختصرا وهو عند الترمذي في حديث طويل وأخرجه بن مَرْدَوَيْهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم نحوه وقال بن أَبِي حَاتِمٍ لَا أَعْلَمُ بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا
قَالَ السُّهُيْلِيُّ وَشَاهِدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْيَهُودِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَفِي النَّصَارَى قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كثيرا (فَإِنِّي حَنِيفٌ مُسْلِمٌ) أَيْ مَائِلٌ عَنْ كُلِّ الْأَدْيَانِ إِلَى الْإِسْلَامِ (تَبَسَّطَ) بِصِيغَةِ الْمَاضِي الْمَعْلُومِ مِنَ التَّبَسُّطِ أَيِ انْبَسَطَ (فَرَحًا) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالرَّاءِ أَيْ سُرُورًا مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ (فَأُنْزِلَتْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِنْزَالِ (جَعَلْتُ أَغْشَاهُ) أَيْ آتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَشِيَهُ يَغْشَاهُ إِذَا جَاءَهُ (عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ النبي صلى الله عليه وسلم (من هذه النِّمَارِ) بِكَسْرِ النُّونِ جَمْعُ نَمِرَةٍ بِالْفَتْحِ وَهِيَ كُلُّ شَمْلَةٍ مُخَطَّطَةٍ مِنْ مَآزِرِ(8/231)
الْأَعْرَابِ كَأَنَّهَا أُخِذَتْ مِنْ لَوْنِ النَّمِرِ لِمَا فِيهَا مِنَ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَهِيَ مِنَ الصِّفَاتِ الْغَالِبَةِ أَيْ جَاءَهُ قَوْمٌ لَابِسِي أُزُرٍ مُخَطَّطَةٍ مِنْ صُوفٍ (فَحَثَّ عَلَيْهِمْ) أَيْ فَحَثَّ النَّاسَ عَلَى أَنْ يَتَصَدَّقُوا عَلَيْهِمْ بِمَا تَيَسَّرَ لَهُمْ (وَلَوْ صَاعٌ) أَيْ وَلَوْ تَيَسَّرَ لَهُمْ صَاعٌ (وَلَوْ بِنِصْفِ صَاعٍ) أَيْ وَلَوْ كَانَ تَصَدُّقُهُمْ بِنِصْفِ صَاعٍ (وَلَوْ قَبْضَةٌ) الْقَبْضَةُ مِنَ الشَّيْءِ مِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ وَهِيَ بِضَمِّ الْقَافِ وَرُبَّمَا بفتح (وَقَائِلٌ لَهُ) أَيْ وَهُوَ قَائِلٌ لَهُ وَضَمِيرُ قَائِلٌ لِلَّهِ وَضَمِيرُ لَهُ لِأَحَدِكُمْ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (مَا أَقُولُ لَكُمْ) هُوَ مَفْعُولٌ لِقَوْلِهِ قَائِلٌ (أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ) بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ (وَبَعْدَهُ) أَيْ خَلْفَهُ (حَتَّى تَسِيرَ الظَّعِينَةُ) بِفَتْحِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ الْمَرْأَةُ فِي الْهَوْدَجِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْهَوْدَجِ (يَثْرِبَ) أَيِ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ (وَالْحِيرَةِ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ كَانَتْ بَلَدَ مُلُوكِ الْعَرَبِ الَّذِينَ تَحْتَ حُكْمِ آلِ فَارِسَ وَكَانَ مَلِكُهُمْ يَوْمَئِذٍ إِيَاسُ بْنُ قَبِيصَةَ الطَّائِيُّ وَلِيَهَا مِنْ تَحْتِ يَدِ كَسْرَى بَعْدَ قَتْلِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ (أَكْثَرَ مَا يُخَافُ عَلَى مَطِيَّتِهَا السَّرَقُ) كَذَا فِي النُّسْخَةِ الْأَحْمَدِيَّةِ وَقَدْ سقط عنها لَفَظَّةُ أَوْ قَبْلَ أَكْثَرَ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ أَحْمَدَ فَفِيهَا حَتَّى تَسِيرَ الظَّعِينَةُ بَيْنَ الْحِيرَةِ وَيَثْرِبَ أَوْ أَكْثَرَ مَا تَخَافُ السَّرَقَ عَلَى ظَعِينَتِهَا وَكَلِمَةُ مَا فِي قَوْلِهِ مَا يخاف نافية ويخاف على بناء المجهول والسرق بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ نَائِبُ الْفَاعِلِ وَهُوَ بِفَتْحَتَيْنِ بِمَعْنَى السَّرِقَةِ
وَالْمَعْنَى حَتَّى تَسِيرَ الظَّعِينَةُ فِيمَا بَيْنَ يَثْرِبَ وَالْحِيرَةِ أَوْ فِي أَكْثَرَ مِنْ ذلك لا يخاف على راحلها السرق (فأين لصوص طيء) اللُّصُوصُ جَمْعُ لِصٍّ بِكَسْرِ اللَّامِ وَيُفْتَحُ وَيُضَمُّ وهو السارق والمراد قطاع الطريق وطيء قَبِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ مِنْهَا عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ الْمَذْكُورُ وَبِلَادُهُمْ مَا بَيْنَ الْعِرَاقِ وَالْحِجَازِ وَكَانُوا يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى مَنْ مَرَّ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ جِوَارٍ وَلِذَلِكَ تَعَجَّبَ عَدِيٌّ كَيْفَ تَمُرُّ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِمْ وَهِيَ غَيْرُ خَائِفَةٍ(8/232)
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أحمد في مسنده
قال الحافظ بن كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثُ عَدِيٍّ هَذَا مِنْ طُرُقٍ وَلَهُ أَلْفَاظٌ كَثِيرَةٌ يَطُولُ ذكرها
(باب وَمِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ)
هِيَ مَدَنِيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ وَمِائَتَانِ وَسِتٌّ أَوْ سَبْعٌ وَثَمَانُونَ آيَةً
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) هُوَ الْقَطَّانُ (وبن أَبِي عَدِيٍّ) اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) الْمَعْرُوفُ بِغُنْدَرٍ (وَعَبْدُ الْوَهَّابِ) هُوَ الثَّقَفِيُّ (عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَخِفَّةِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ الْمَازِنِيِّ الْبَصْرِيِّ ثِقَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ
قَوْلُهُ (إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قُبْضَةٍ) بِالضَّمِّ مِلْءُ الْكَفِّ وَرُبَّمَا جَاءَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَمِنَ ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِخَلَقَ أَوْ بَيَانِيَّةٌ حَالٌ مِنْ آدَمَ (قَبَضَهَا) أَيْ أَمَرَ الْمَلَكَ بِقَبْضِهَا (مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ) يَعْنِي وَجْهَهَا (فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ) أَيْ مَبْلَغِهَا مِنَ الْأَلْوَانِ وَالطِّبَاعِ (فَجَاءَ مِنْهُمِ الْأَحْمَرُ وَالْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ) بِحَسَبِ تُرَابِهِمْ وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ أُصُولُ الْأَلْوَانِ وَمَا عَدَاهَا مُرَكَّبٌ مِنْهَا وَهُوَ(8/233)
الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ (وَبَيْنَ ذَلِكَ) أَيْ بَيْنَ الْأَحْمَرِ وَالْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ بِاعْتِبَارِ أَجْزَاءِ أَرْضِهِ (وَالسَّهْلُ) أَيْ وَمِنْهُمِ السَّهْلُ أَيِ اللَّيِّنُ (وَالْحَزْنُ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ أَيِ الْغَلِيظُ (وَالْخَبِيثُ) أَيْ خَبِيثُ الْخِصَالِ (وَالطَّيِّبُ) عَلَى طَبْعِ أَرْضِهِمْ وَكُلُّ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى لَوْنًا وَطَبْعًا وَخَلْقًا
قَالَ الطِّيبِيُّ لَمَّا كَانَتِ الْأَوْصَافُ الْأَرْبَعَةُ ظَاهِرَةً فِي الْإِنْسَانِ وَالْأَرْضِ أُجْرِيَتْ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَأُوِّلَتِ الْأَرْبَعَةُ الْأَخِيرَةُ لِأَنَّهَا مِنَ الْأَخْلَاقِ الْبَاطِنَةِ فَإِنَّ الْمَعْنِيَّ بِالسَّهْلِ الرِّفْقُ وَاللِّينُ
وَبِالْحَزْنِ الْخُرْقُ وَالْعُنُفُ وَبِالطَّيِّبِ الَّذِي يَعْنِي بِهِ الْأَرْضَ الْعَذْبَةَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي هُوَ نَفْعٌ كُلُّهُ وَبِالْخَبِيثِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْأَرْضُ السَّبْخَةُ الْكَافِرُ الَّذِي هُوَ ضُرٌّ كُلُّهُ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ
قَوْلُهُ ادْخُلُوا الْبَابَ أَرَادَ بِهِ بَابَ الْقَرْيَةِ الَّتِي ذَكَرهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ القرية سجدا) أَيْ سَاجِدِينَ لِلَّهِ تَعَالَى شُكْرًا عَلَى إِخْرَاجِهِمْ من التيه وقال بن عَبَّاسٍ مُنْحَنِينَ رُكُوعًا وَقِيلَ خُشُوعًا وَخُضُوعًا (قَالَ دَخَلُوا مُتَزَحِّفِينَ عَلَى أَوْرَاكِهِمْ) أَيْ مُتَمَشِّينَ وَالْأَوْرَاكُ جَمْعُ وَرِكٍ
قَالَ فِي الْقَامُوسِ الْوَرِكُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَكَكَتِفٍ مَا فَوْقَ الْفَخِذِ وَفِي رِوَايَةِ البخاري فدخلوا يزحفون على أستاهم (أَيْ مُنْحَرِفِينَ) هَذَا تَفْسِيرٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ أَيْ مُنْحَرِفِينَ وَمَائِلِينَ عَمَّا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الدُّخُولِ سُجَّدًا فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الذي قيل لهم التَّقْدِيرُ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا بِاَلَّذِي قِيلَ لَهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَمَّنَ بَدَّلَ مَعْنَى قَالَ يَعْنِي قِيلَ لَهُمْ قُولُوا حِطَّةٌ أَيْ مَسْأَلَتُنَا أَنْ تَحُطَّ عَنَّا خَطَايَانَا فَبَدَّلُوهُ قَائِلِينَ حَبَّةٌ فِي شَعِيرَةٍ وَهُوَ كَلَامٌ مُهْمَلٌ وَغَرَضُهُمْ بِهِ مُخَالَفَةُ مَا أُمِرُوا بِهِ (قَالَ قَالُوا حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ شَعَرَةٍ بِفَتْحَتَيْنِ مَكَانَ شَعِيرَةٍ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ خَالَفُوا مَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ فَإِنَّهُمْ أُمِرُوا بِالسُّجُودِ عِنْدَ انْتِهَائِهِمْ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى وَبِقَوْلِهِمْ حِطَّةٌ فَبَدَّلُوا السُّجُودَ بِالزَّحْفِ وَقَالُوا حَبَّةٌ فِي شَعِيرَةٍ بَدَلَ حِطَّةٌ وَهَذَا فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ والمعاندة(8/234)
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
قَوْلُهُ (قَالَ كُنَّا مَعَ النبي فِي سَفَرٍ إِلَخْ) تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ بِإِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ فِي بَابِ الرَّجُلُ يُصَلِّي لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فِي الْغَيْمِ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ
قَوْلُهُ (كَانَ النبي يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ تَطَوُّعًا حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّطَوُّعِ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِلْمُسَافِرِ قِبَلَ جِهَةِ مَقْصِدِهِ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنَ الِاسْتِقْبَالِ حَالَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ ثُمَّ لَا يَضُرُّهُ الْخُرُوجُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ سَمْتِ الْقِبْلَةِ وَهُوَ إِجْمَاعٌ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ وَالْحَافِظُ وَالْعِرَاقِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ عَلَى الدَّابَّةِ حَيْثُ مَا تَوَجَّهَتْ بِهِ (وقال بن عُمَرَ فِي هَذَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ) ذَهَبَ إِلَى هَذَا بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَالُوا إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُسَافِرِ يُصَلِّي النَّوَافِلَ حَيْثُ تَتَوَجَّهُ بِهِ رَاحِلَتُهُ فَمَعْنَى الْآيَةِ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ لِنَوَافِلِكُمْ فِي أَسْفَارِكُمْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أَيْ فَقَدْ صَادَفْتُمُ الْمَطْلُوبَ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعُ الْفَضْلِ غَنِيٌّ فَمِنْ سَعَةِ فَضْلِهِ وَغِنَاهُ رَخَّصَ لَكُمْ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَلَّفَكُمُ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ لَزِمَ أَحَدُ الضَّرَرَيْنِ إِمَّا تَرْكُ النَّوَافِلِ وَإِمَّا النُّزُولُ عَنِ الرَّاحِلَةِ وَالتَّخَلُّفِ عَنِ الرُّفْقَةِ بِخِلَافِ الْفَرَائِضِ فَإِنَّهَا صَلَوَاتٌ مَعْدُودَةٌ مَحْصُورَةٌ فَتَكْلِيفُ النُّزُولِ عَنِ الرَّاحِلَةِ عِنْدَ أَدَائِهَا وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِيهَا لَا يُفْضِي إِلَى الْحَرَجِ بِخِلَافِ النَّوَافِلِ فَإِنَّهَا غَيْرُ مَحْصُورَةٍ فَتَكْلِيفُ الِاسْتِقْبَالِ يُفْضِي إِلَى الْحَرَجِ(8/235)
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ عَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْقِبْلَةُ فَلَمْ يَعْرِفُوا شَطْرَهَا فَصَلَّوْا عَلَى أَنْحَاءَ مُخْتَلِفَةٍ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ فَأَيْنَ وَلَّيْتُمْ وُجُوهَكُمْ فَهُنَالِكَ وَجْهِي وَهُوَ قِبْلَتُكُمْ فَيُعْلِمُكُمْ بِذَلِكَ أَنَّ صَلَاتَكُمْ مَاضِيَةٌ
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ الْمَذْكُورِ وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَكِنْ قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي النَّيْلِ وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَقَالٌ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ وَلَكِنْ لَهُ شَوَاهِدُ تُقَوِّيهِ فَذَكَرهَا وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِهَا وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا فَتَصْلُحُ للاحتجاج بها انتهى
وقال الحافظ بن كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَهَذِهِ الْأَسَانِيدُ فِيهَا ضَعْفٌ وَلَعَلَّهُ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا انْتَهَى
وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ التَّوَجُّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ وَإِنَّمَا أَنْزَلَهَا لِيَعْلَمَ نَبِيُّهُ وَأَصْحَابُهُ أَنَّ لَهُمُ التَّوَجُّهَ بِوُجُوهِهِمْ لِلصَّلَاةِ حَيْثُ شَاءُوا مِنْ نَوَاحِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لِأَنَّهُمْ لَا يُوَجِّهُونَ وُجُوهَهُمْ وَجْهًا مِنْ ذَلِكَ وَنَاحِيَةً إِلَّا كَانَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ وَتِلْكَ النَّاحِيَةِ لِأَنَّ لَهُ تَعَالَى الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ وَأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هو معهم أينما كانوا قَالُوا ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْفَرْضِ الَّذِي فَرَضَ التوجه إلى المسجد الحرام قاله بن جرير
قال بن كَثِيرٍ وَفِي قَوْلِهِ وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ إِنْ أَرَادَ عِلْمَهُ تَعَالَى فَصَحِيحٌ فَإِنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَأَمَّا ذَاتُهُ تَعَالَى فَلَا تَكُونُ مَحْصُورَةً فِي شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا انْتَهَى
وَقَدْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ قَتَادَةُ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ بِقَوْلِهِ وَيُرْوَى عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ إِلَخْ
وَفِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَقْوَالٌ أُخْرَى ذَكَرَهَا الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وغيرهما
قوله (أخبرنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) بِتَقْدِيمِ الزَّايِ مُصَغَّرًا الْبَصْرِيُّ أَبُو مُعَاوِيَةَ ثِقَةٌ ثَبْتٌ مِنِ الثَّامِنَةِ (عَنْ سعيد) هو بن أَبِي عَرُوبَةَ
قَوْلُهُ (وَيُرْوَى عَنْ مُجَاهِدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ قال فثم قبلة الله قال الحافظ(8/236)
بن كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَلَكُمْ قِبْلَةٌ تَسْتَقْبِلُونَهَا الْكَعْبَةُ انْتَهَى
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَ مُجَاهِدٍ هَذَا بَيَانٌ لِقَوْلِهِ الَّذِي ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ
(عَنِ النَّضْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ) الْبَاهِلِيِّ مَوْلَاهُمْ أَبِي رَوْحٍ وَيُقَالُ أَبُو عُمَرَ الْحَرَّانِيُّ لَا بَأْسَ بِهِ مِنِ السَّادِسَةِ
قَوْلُهُ (لَوْ صَلَّيْنَا خَلْفَ الْمَقَامِ) أَيْ لَكَانَ حَسَنًا أَوْ لَوْ لِلتَّمَنِّي وَالْمُرَادُ مِنِ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْمَقَامِ صَلَاةُ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الطَّوَافِ فَنَزَلَتْ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى الْمُرَادُ بِالْمَقَامِ هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُومُ عَلَيْهِ لِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ لَمَّا ارْتَفَعَ الْجِدَارُ أَتَاهُ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهِ لِيَقُومَ فَوْقَهُ وَيُنَاوِلَهُ الْحِجَارَةَ فَيَضَعَهَا بِيَدِهِ لِرَفْعِ الْجِدَارِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مطولا
قوله (أخبرنا هشيم) بالتصغير بن بَشِيرٍ بِوَزْنِ عَظِيمِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ دِينَارٍ السُّلَمِيُّ
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عن بن عُمَرَ) أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنْهُ أخذ النبي بِيَدِ عُمَرَ فَمَرَّ بِهِ عَلَى الْمَقَامِ فَقَالَ لَهُ هَذَا مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَلَا تَتَّخِذُهُ مُصَلًّى فَنَزَلَتْ
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ) اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ (عَنْ أَبِي صَالِحٍ) هُوَ السَّمَّانُ وَاسْمُهُ ذَكْوَانُ
قَوْلُهُ(8/237)
وكذلك جعلناكم أمة وسطا الْكَافُ فِي قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ كَافُ التَّشْبِيهِ جَاءَ لِشَبَهٍ بِهِ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ فِي حَقِّ إبراهيم ولقد اصطفيناه في الدنيا وكذلك جعلناكم أمة وسطا
الثَّانِي أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ يَهْدِي مَنْ يشاء إلى صراط مستقيم وَكَذَلِكَ هَدَيْنَاكُمْ وَجَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا
الثَّالِثُ قِيلَ مَعْنَاهُ كَمَا جَعَلْنَا قِبْلَتَكُمْ وَسَطًا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا يَعْنِي عُدُولًا خيارا (قال عدلا) أي قال النبي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَسَطًا عَدْلًا
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ هَذَا الْحَدِيثَ مُطَوَّلًا وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ هَذَا وَفِي آخِرِ حَدِيثِهِمَا وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ هُوَ مَرْفُوعٌ مِنْ نَفْسِ الْخَبَرِ وَلَيْسَ بِمُدْرَجٍ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الرُّوَاةِ كَمَا وَهَمَ فِيهِ بَعْضُهُمْ وَسَيَأْتِي فِي الِاعْتِصَامِ بِلَفْظِ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا عَدْلًا
وَأَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهَذَا السَّنَدِ فِي قَوْلِهِ وَسَطًا قَالَ عَدْلًا كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا مَرْفُوعًا وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُخْتَصَرًا مَرْفُوعًا وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنِ الْأَعْمَشِ بِلَفْظِ وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ مُخْتَصَرًا مَرْفُوعًا وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ مِثْلَهُ قَالَ الطَّبَرِيُّ الْوَسَطُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْخِيَارُ يَقُولُونَ فُلَانٌ وَسَطٌ فِي قَوْمِهِ وَوَاسِطٌ إِذَا أَرَادُوا الرَّفْعَ فِي حَسَبِهِ قَالَ وَالَّذِي أَرَى أَنَّ مَعْنَى الْوَسَطِ فِي الْآيَةِ الْجُزْءُ الَّذِي بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ وَسَطٌ لِتَوَسُّطِهِمْ فِي الدِّينِ فَلَمْ يَغْلُوا كَغُلُوِّ النَّصَارَى وَلَمْ يُقَصِّرُوا كَتَقْصِيرِ الْيَهُودِ وَلَكِنَّهُمْ أَهْلُ وَسَطٍ وَاعْتِدَالٍ
قَالَ الْحَافِظُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْوَسَطِ فِي الْآيَةِ صَالِحًا لِمَعْنَى التَّوَسُّطِ أَنْ لَا يَكُونَ أُرِيدَ بِهِ مَعْنَاهُ الْآخَرُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ فَلَا مُغَايَرَةَ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَبَيْنَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْآيَةِ انْتَهِي
قَوْلُهُ (يُدْعَى نُوحٌ) وَفِي رِوَايَةٍ يُجَاءُ بِنُوحٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (فَيُقَالُ) أَيْ لِنُوحٍ (فَيَقُولُ نَعَمْ) وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ لِأَنَّ الْإِجَابَةَ غَيْرُ التَّبْلِيغِ وَهِيَ تَحْتَاجُ إِلَى تَفْصِيلٍ لَا يُحِيطُ بِكُنْهِهِ إِلَّا عِلْمُهُ سُبْحَانَهُ بِخِلَافِ نَفْسِ التَّبْلِيغِ لِأَنَّهُ مِنِ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ البديهية (ما أتانا من الْكَذِبُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَنِ الْخَلَاصِ مِنَ النَّارِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ واللَّهِ ربنا ما كنا مشركين (وَمَا أَتَانَا مِنْ أَحَدٍ) أَيْ غَيْرِ النَّذِيرِ للتبليغ نَذِيرٍ) أَيْ مُنْذِرٍ لَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ(8/238)
مبالغة في الإنكار توهما أنه ينفعهم (فَيُقَالُ) أَيْ لِنُوحٍ (مَنْ شُهُودُكَ) وَإِنَّمَا طَلَبَ اللَّهُ مِنْ نُوحٍ شُهَدَاءَ عَلَى تَبْلِيغِهِ الرِّسَالَةَ أمته وهو أعلم به إقامة الحجة وَإِنَافَةً لِمَنْزِلَةِ أَكَابِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ (فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ) وَالْمَعْنَى أَنَّ أُمَّتَهُ شُهَدَاءُ وَهُوَ مُزَكٍّ لَهُمْ وَقُدِّمَ فِي الذَّكَرِ لِلتَّعْظِيمِ وَلَا يَبْعُدُ أنه يَشْهَدُ لِنُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَيْضًا لِأَنَّهُ مَحَلُّ النُّصْرَةِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين
إلى قوله لتؤمنن به ولتنصرنه (فَيُؤْتَى بِكُمْ تَشْهَدُونَ) قَالَ الْحَافِظُ وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ أَتَمَّ مِنْ سِيَاقِ غَيْرِهِ وَأَشْمَلَ وَلَفْظُهُ يَجِيءُ النَّبِيُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَيَجِيءُ النَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلَانِ وَيَجِيءُ النَّبِيُّ وَمَعَهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَيُقَالُ لَهُمْ أَبَلَّغَكُمْ هَذَا فَيَقُولُونَ لَا فَيُقَالُ لِلنَّبِيِّ أَبَلَّغْتَهُمْ فَيَقُولُ نَعَمْ فيقال لهم مَنْ يَشْهَدُ لَكَ الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ والنسائي وبن مَاجَهْ (أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ) قَالَ الْحَافِظُ زَادَ أَبُو مُعَاوِيَةَ فَيُقَالُ وَمَا عَلَّمَكُمْ فَيَقُولُونَ أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا فَصَدَّقْنَاهُ وَيُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ تَعْمِيمُ ذَلِكَ فأخرج بن أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قال لتكونوا شهداء وَكَانُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَانُوا شُهَدَاءَ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ هُودٍ وَقَوْمِ صَالِحٍ وَقَوْمِ شُعَيْبٍ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ رُسُلَهُمْ بَلَّغْتهمْ وَأَنَّهُمْ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَهِيَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ القيامة ومن حديث جابر عن النبي مَا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا وَدَّ أَنَّهُ مِنَّا أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ مَا مِنْ نَبِيٍّ كَذَّبَهُ قَوْمُهُ إِلَّا وَنَحْنُ شُهَدَاؤُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ قَدْ بَلَّغَ رِسَالَةَ اللَّهِ وَنَصَحَ لَهُمْ (لتكونوا شهداء على الناس) أَيْ عَلَى مَنْ قَبْلَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ أَنَّ رسلهم بلغتهم (ويكون الرسول) أَيْ رَسُولُكُمْ وَاللَّامُ لِلْعِوَضِ أَوِ اللَّامُ لِلْعَهْدِ والمراد به محمد (عليكم شهيدا) أَنَّهُ بَلَّغَكُمْ (وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ) هُوَ مَرْفُوعٌ مِنْ نَفْسِ الْخَبَرِ وَلَيْسَ بِمُدْرَجٍ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الرُّوَاةِ كَمَا تَقَدَّمَ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ(8/239)
قَوْلُهُ (سِتَّةَ أَوْ سَبْعَةَ عَشْرَ شَهْرًا) كَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِالشَّكِّ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتَ سِتَّةَ عَشْرَ بِغَيْرِ شَكٍّ وَوَقَعَ فِي بَعْضِهَا سَبْعَةَ عَشْرَ بِغَيْرِ شَكٍّ
قَالَ الْحَافِظُ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ سَهْلٌ بِأَنْ يَكُونَ من جزم بستة عشر نفق مِنْ شَهْرِ الْقُدُومِ وَشَهْرِ التَّحْوِيلِ شَهْرًا وَأَلْغَى الزَّائِدَ وَمَنْ جَزَمَ بِسَبْعَةَ عَشْرَ عَدَّهُمَا مَعًا
وَمَنْ شَكَّ تَرَدَّدَ فِي ذَلِكَ
وَذَلِكَ أَنَّ الْقُدُومَ كَانَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بِلَا خِلَافٍ وَكَانَ التَّحْوِيلُ فِي نِصْفِ شَهْرِ رَجَبٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الصَّحِيحِ وَبِهِ جَزَمَ الجمهور (وكان رسول الله يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ) جَاءَ بَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ بن عباس قال لما هاجر النبي إِلَى الْمَدِينَةِ وَالْيَهُودُ أَكْثَرُ أَهْلِهَا يَسْتَقْبِلُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَفَرِحَتِ الْيَهُودُ فَاسْتَقْبَلَهَا سَبْعَةَ عَشْرَ شَهْرًا وَكَانَ رسول الله يُحِبُّ أَنْ يَسْتَقْبِلَ قِبْلَةَ إِبْرَاهِيمَ فَكَانَ يَدْعُو وَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَنَزَلَتْ
وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ إِنَّمَا كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى الْكَعْبَةِ لِأَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا يُخَالِفُنَا مُحَمَّدٌ وَيَتَّبِعُ قبلتنا فنزلت
وظاهر حديث بن عَبَّاسٍ هَذَا أَنَّ اسْتِقْبَالَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِنَّمَا وَقَعَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ لَكِنْ أَخْرَجَ أحمد من وجه آخر عن بن عباس كان النبي يُصَلِّي بِمَكَّةَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ بِأَنْ يَكُونَ أُمِرَ لما هاجر أن يستمر على الصلاة ببيت المقدس وأخرج الطبراني من طريق بن جريج قال صلى النبي أَوَّلَ مَا صَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ ثُمَّ صُرِفَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهُوَ بِمَكَّةَ فَصَلَّى ثَلَاثَ حِجَجٍ ثُمَّ هَاجَرَ فَصَلَّى إِلَيْهِ بَعْدَ قُدُومِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ وَجَّهَهُ الله إلى الكعبة
فقوله في حديث بن عَبَّاسٍ الْأَوَّلِ أَمَرَهُ اللَّهُ يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِاجْتِهَادٍ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَعَنْ أَبِي العالية أنه صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَتَأَلَّفُ أَهْلَ الْكِتَابِ وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ بِتَوْقِيفٍ
وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ هَذَا قَدْ تَقَدَّمَ بِإِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ فِي بَابِ ابْتِدَاءِ الْقِبْلَةِ مِنْ
(أَبْوَابِ الصَّلَاةِ)
(وَقَدْ رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) كَمَا في رواية الشيخين(8/240)
قَوْلُهُ (قَالَ كَانُوا رُكُوعًا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ) تَقِدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ شَرْحِهِ أَيْضًا فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيِّ إِلَخ) تَقَدَّمَ تَخْرِيجُ أَحَادِيثَ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ
قَوْلُهُ (لَمَّا وُجِّهَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ التَّوْجِيهِ أَيْ أُمِرَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ (كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا) أَيْ كَيْفَ حَالُهُمْ هَلْ صَلَاتُهُمْ ضَائِعَةٌ أَمْ مَقْبُولَةٌ (وَهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَمَا كَانَ اللَّهُ ليضيع إيمانكم أَيْ صَلَاتَكُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَلْ يُثِيبُكُمْ عَلَيْهِ أَطْلَقَ الْإِيمَانَ عَلَى الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ آثَارِ الْإِيمَانِ وَأَشْرَفُ نَتَائِجِهِ وَإِنَّمَا خُوطِبُوا تَغْلِيبًا لِلْأَحْيَاءِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو داود وبن حبان والحاكم وبن جَرِيرٍ
قَوْلُهُ (مَا أَرَى عَلَى أَحَدٍ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ شَيْئًا) أَيْ مِنَ الْجُنَاحِ (وَمَا أُبَالِي أَنْ لَا أَطُوفَ بَيْنَهُمَا) يَعْنِي أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدِي إِذْ مَفْهُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى(8/241)
فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عليه أن يطوف بهما عَدَمُ وُجُوبِ السَّعْيِ لِأَنَّهُ دَلَّ عَلَى رَفْعِ الْجُنَاحِ وَهُوَ الْإِثْمُ عَنْ فَاعِلِهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَتِهِ وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لِمَا قِيلَ فيه مثل ذلك (طاف رسول الله وَطَافَ الْمُسْلِمُونَ) أَيْ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَفِي رِوَايَةٍ للبخاري وقد سن رسول الله الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا (وَإِنَّمَا كَانَ مَنْ أَهَلَّ) أَيْ حَجَّ مِنَ الْأَنْصَارِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا (لِمَنَاةَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ وَبَعْدَ الْأَلْفِ تَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ فَوْقُ وَهُوَ اسْمُ صَنَمٍ كَانَ فِي الجاهلية وقال بن الْكَلْبِيِّ كَانَتْ صَخْرَةً نَصَبَهَا عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ بِجِهَةِ الْبَحْرِ فَكَانُوا يَعْبُدُونَهَا وَقِيلَ هِيَ صَخْرَةٌ لِهُذَيْلٍ بِقُدَيْدَ وَسُمِّيَتْ مَنَاةَ لِأَنَّ النَّسَائِكَ كَانَتْ تُمْنَى بِهَا أَيْ تُرَاقُ
وَقَالَ الْحَازِمِيُّ هِيَ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ وَإِلَيْهَا نَسَبُوا زَيْدَ مَنَاةَ (الطَّاغِيَةِ) صِفَةٌ لِمَنَاةَ إِسْلَامِيَّةٌ وَهِيَ عَلَى زِنَةِ فَاعِلَةٍ مِنَ الطُّغْيَانِ وَلَوْ رُوِيَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ بِالْإِضَافَةِ وَيَكُونُ الطَّاغِيَةِ صِفَةً لِلْفِرْقَةِ وَهُمُ الْكُفَّارُ لَجَازَ (الَّتِي بِالْمُشَلَّلِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْأُولَى الْمَفْتُوحَةِ اسْمُ مَوْضِعٍ قَرِيبٍ مِنْ قُدَيْدَ مِنْ جِهَةِ الْبَحْرِ وَيُقَالُ هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي يُهْبَطُ مِنْهُ إِلَى قُدَيْدَ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَحْرِ وَقَالَ الْبَكْرِيُّ هِيَ ثَنِيَّةٌ مُشْرِفَةٌ عَلَى قُدَيْدَ
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ بِالْمُشَلَّلِ مِنْ قُدَيْدَ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَانُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ فَكَانَتْ مَنَاةُ حَذْوَ قُدَيْدَ أَيْ مُقَابِلَهُ
وَقُدَيْدُ بِقَافٍ مُصَغَّرٌ قَرْيَةٌ جَامِعَةٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ كَثِيرَةُ الْمِيَاهِ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيُّ وَكَانَ لِمَنْ لَا يُهِلُّ لِمَنَاةَ صَنَمَانِ بِالصَّفَا إِسَافُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْمَرْوَةِ نَائِلَةُ وَقِيلَ إِنَّهُمَا كَانَا رَجُلًا وَامْرَأَةً فَزَنَيَا دَاخِلَ الْكَعْبَةِ فَمَسَخَهُمَا اللَّهُ حَجَرَيْنِ فَنُصِبَا عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَقِيلَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِيَعْتَبِرَ النَّاسُ بِهِمَا وَيَتَّعِظُوا ثُمَّ حَوَّلَهُمَا قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ فَجَعَلَ أحدهما ملاصق لِلْكَعْبَةِ وَالْآخِرَ بِزَمْزَمَ وَنَحَرَ عِنْدَهُمَا وَأَمَرَ بِعِبَادَتِهِمَا فلما فتح النبي مَكَّةَ كَسَرَهُمَا (لَا يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) كراهية لذينك الصنمين وحبهم صَنَمَهُمُ الَّذِي بِالْمُشَلَّلِ وَكَانَ ذَلِكَ سُنَّةً فِي آبَائِهِمْ
مَنْ أَحْرَمَ لِمَنَاةَ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصفا والمروة (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ) أَيْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ (أن يطوف) بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَصْلُهُ يَتَطَوَّفُ فَأُبْدِلَتِ التَّاءُ طَاءً لقرب مخرجهما وادغمت الطاء طاء (بِهِمَا) أَيْ بِأَنْ يَسْعَى بَيْنَهُمَا سَبْعًا (وَلَوْ كَانَتْ) أَيْ هَذِهِ الْآيَةُ (كَمَا تَقُولُ) أَيْ كَمَا تَأَوَّلَهَا عَلَيْهِ مِنَ الْإِبَاحَةِ (لَكَانَتْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطُوفَ بِهِمَا) بِزِيَادَةِ لَا بَعْدَ أَنْ فَإِنَّهَا كَانَتْ حِينَئِذٍ تَدُلُّ عَلَى رَفْعِ الْإِثْمِ عَنْ تَارِكِهِ وَذَلِكَ حَقِيقَةُ الْمُبَاحِ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ نَصٌّ عَلَى الْوُجُوبِ وَلَا عَدَمِهِ
قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا مِنْ دَقِيقِ عِلْمِهَا وَفَهْمِهَا الثَّاقِبِ وَكَبِيرِ مَعْرِفَتِهَا بِدَقَائِقِ الْأَلْفَاظِ لِأَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ إِنَّمَا دَلَّ لَفْظُهَا عَلَى رَفْعِ الْجُنَاحِ عَمَّنْ يَطُوفُ بِهِمَا وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ(8/242)
عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ السَّعْيِ وَلَا عَلَى وُجُوبِهِ فَأَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ فِيهَا دَلَالَةٌ لِلْوُجُوبِ وَلَا لِعَدَمِهِ وَبَيَّنَتِ السَّبَبَ فِي نُزُولِهَا وَالْحِكْمَةَ فِي نَظْمِهَا وَأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَنْصَارِ حِينَ تَحَرَّجُوا مِنَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي الْإِسْلَامِ وَأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَمَا يَقُولُ عُرْوَةُ لَكَانَتْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَقَدْ يَكُونُ الْفِعْلُ وَاجِبًا وَيَعْتَقِدُ إِنْسَانٌ أَنَّهُ يُمْنَعُ إِيقَاعُهُ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَذَلِكَ كَمَنْ عَلَيْهِ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَظَنَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِعْلُهَا عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فَيُقَالُ فِي جَوَابِهِ لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ إِنْ صَلَّيْتهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ فَيَكُونُ جَوَابًا صَحِيحًا وَلَا يَقْتَضِي نَفْيَ وُجُوبِ صَلَاةِ الظُّهْرِ انْتَهَى (فَذَكَرْتَ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ) بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ الْمَدَنِيِّ قِيلَ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ وَقِيلَ الْمُغِيرَةُ وَقِيلَ أَبُو بَكْرٍ اسْمُهُ وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَقِيلَ اسْمُهُ كُنْيَتُهُ ثِقَةٌ فَقِيهٌ عَابِدٌ مِنَ الثَّالِثَةِ (فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ) أَيْ كَلَامُ عَائِشَةَ (إِنَّ هَذَا لَعِلْمٌ) بِفَتْحِ اللَّامِ الَّتِي هي التأكيد وَبِالتَّنْوِينِ عَلَى أَنَّهُ الْخَبَرُ أَيْ إِنَّ هَذَا لَعِلْمٌ عَظِيمٌ (إِنَّمَا كَانَ مَنْ لَا يَطُوفُ) أَيْ فِي الْإِسْلَامِ (وَقَالَ آخَرُونَ مِنَ الْأَنْصَارِ) الَّذِينَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ (وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَأُرَاهَا) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ أَظُنُّهَا (قَدْ نَزَلَتْ فِي هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْحَجِّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَاسْمَعْ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا فِي الَّذِينَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالَّذِينَ يَطُوفُونَ ثُمَّ تَحَرَّجُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهِمَا فِي الْإِسْلَامِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ
قَالَ الْحَافِظُ وَحَاصِلُهُ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ كَانَ لِلرَّدِّ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ الَّذِينَ تَحَرَّجُوا أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَهُمَا لِكَوْنِهِ عِنْدَهُمْ مِنْ أَفْعَالِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالَّذِينَ امْتَنَعُوا مِنَ الطَّوَافِ بَيْنَهُمَا لِكَوْنِهِمَا لَمْ يُذْكَرَا انْتَهَى
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ) الْعَدَنِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ صَدُوقٌ مِنَ التَّاسِعَةِ(8/243)
قَوْلُهُ (سَأَلْتَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ قُلْتَ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَالَ نَعَمْ (كَانَا مِنْ شَعَائِرِ الْجَاهِلِيَّةِ) أَيْ مِنَ الْعَلَامَاتِ الَّتِي كَانُوا يَتَعَبَّدُونَ بِهَا (أَمْسَكْنَا عَنْهُمَا) أَيْ عَنِ السَّعْيِ بَيْنَهُمَا (قَالَ) أَيْ أَنَسٌ (هُمَا تَطَوُّعٌ) أَيِ السَّعْيُ بَيْنَهُمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَهَذَا هُوَ قَوْلُ أَنَسٍ
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ الْعَيْنِيُّ قَالَ شَيْخُنَا زَيْنُ الدِّينِ فِي شَرْحِهِ لِلتِّرْمِذِيِّ اخْتَلَفُوا فِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِلْحَاجِّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ رُكْنٌ لَا يَصِحُّ الحج إلا به وهو قول بن عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَجَابِرٍ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَأَحْمَدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عنه وإسحاق وأبو ثور لقوله اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ
رَوَاهُ أَحْمَدُ والدّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي تَجْرَأةَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَقَالَ عَبْدُ الْعَظِيمِ إِنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ
قال العيني قال بن حَزْمٍ فِي الْمُحَلَّى إِنَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي تَجْرَأةَ مَجْهُولَةٌ وَقَالَ شَيْخُنَا هُوَ مَرْدُودٌ لِأَنَّهَا صَحَابِيَّةٌ وَكَذَلِكَ صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ صَحَابِيَّةٌ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ وَاجِبٌ يُجْبَرُ بِدَمٍ وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ كَمَا حكاه بن الْعَرَبِيِّ
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ أَنَّهُ لَيْسَ بِرُكْنٍ وَلَا وَاجِبٍ بَلْ هُوَ سُنَّةٌ وَمُسْتَحَبٌّ وَهُوَ قَوْلُ بن عباس وبن سِيرِينَ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ وَمَنْ طَافَ فَقَدْ حَلَّ انْتَهَى
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ
قَوْلُهُ (عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ) الْمَعْرُوفُ بِالصَّادِقِ (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قال سمعت رسول الله حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ إِلَخْ) تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ شَرْحِهِ فِي بَاب مَا جَاءَ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالصَّفَا قَبْلَ الْمَرْوَةِ(8/244)
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى) الْعَبْسِيُّ الْكُوفِيُّ (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) هُوَ السَّبِيعِيُّ
قَوْلُهُ (كان أصحاب النبي) أَيْ فِي أَوَّلِ افْتِرَاضِ الصِّيَامِ (فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ إِلَخْ) قَالَ الْحَافِظُ فِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ كَانَ إِذَا نَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَعَشَّى لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ شَيْئًا وَلَا يَشْرَبَ لَيْلَهُ وَيَوْمَهُ حَتَّى تَغْرُبَ وَلِأَبِي الشَّيْخِ مِنْ طَرِيقِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ كَانَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا أَفْطَرُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَأْتُونَ النِّسَاءَ مَا لَمْ يَنَامُوا
فَإِذَا نَامُوا لَمْ يَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِلَى مِثْلِهَا
فَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ مُقَيَّدًا بِالنَّوْمِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَقُيِّدَ المنع من ذلك في حديث بن عَبَّاسٍ بِصَلَاةِ الْعَتَمَةِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِلَفْظِ كان الناس على عهد رسول الله إِذَا صَلَّوْا الْعَتَمَةَ حَرُمَ عَلَيْهِمُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالنِّسَاءُ وَصَامُوا إِلَى الْقَابِلَةِ وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ لِكَوْنِ مَا بَعْدَهَا مَظِنَّةَ النَّوْمِ غَالِبًا وَالتَّقْيِيدُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ بِالنَّوْمِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَحَادِيثِ انْتَهَى
قُلْتُ وَمُرَادُ الْحَافِظِ بِقَوْلِهِ وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ يَعْنِي أَنَّ بَيْنَهُمَا عُمُومًا وَخُصُوصًا مِنْ وَجْهٍ (وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ) بِكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ قَالَ فِي الْإِصَابَةِ وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ صِرْمَةُ بْنُ قَيْسٍ وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ أَبُو قَيْسِ بْنُ عَمْرٍو فَإِنْ حُمِلَ هَذَا الِاخْتِلَافُ عَلَى تَعَدُّدِ أَسْمَاءِ مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ وَإِلَّا فَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِرَدِّ جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ إِلَى وَاحِدٍ فَإِنَّهُ قِيلَ فِيهِ صِرْمَةُ بْنُ قَيْسٍ وَصِرْمَةُ بْنُ مَالِكٍ وَصِرْمَةُ بْنُ أَنَسٍ وَصِرْمَةُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ وَقِيلَ فِيهِ قَيْسُ بْنُ صِرْمَةَ وَأَبُو قَيْسِ بْنِ صِرْمَةَ وَأَبُو قَيْسِ بْنِ عَمْرٍو فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنْ كَانَ اسْمُهُ صِرْمَةَ بْنَ قَيْسٍ فَمَنْ قَالَ قَيْسُ بْنُ صِرْمَةَ قَلَبَهُ وَإِنَّمَا اسْمُهُ صِرْمَةُ وَكُنْيَتُهُ أَبُو قَيْسٍ أَوِ الْعَكْسُ وَأَمَّا أَبُوهُ فَاسْمُهُ قَيْسٌ أَوْ صِرْمَةُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنَ الْقَلْبِ وَكُنْيَتُهُ أَبُو أَنَسٍ وَمَنْ قَالَ فِيهِ أَنَسٌ حَذَفَ أَدَاةَ الْكُنْيَةِ ومن قال فيه بن مَالِكٍ نَسَبَهُ إِلَى جَدٍّ لَهُ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى قَالَهُ الْقَسْطَلَّانِيُّ (هَلْ عِنْدَكِ) بِكَسْرِ الْكَافِ (طَعَامٌ فَقَالَتْ لَا وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ أَطْلُبُ لك) ظاهره أنه لم يجيء مَعَهُ بِشَيْءٍ لَكِنْ فِي مُرْسَلِ السُّدِّيِّ(8/245)
أَنَّهُ أَتَاهَا بِتَمْرٍ فَقَالَ اسْتَبْدِلِي بِهِ طَحِينًا وَاجْعَلِيهِ سَخِينًا فَإِنَّ التَّمْرَ أَحْرَقَ جَوْفِي وَفِيهِ لَعَلِّي آكُلُهُ سُخْنًا وَأَنَّهَا اسْتَبْدَلَتْهُ لَهُ وَصَنَعَتْهُ (وَكَانَ يَوْمَهُ) بِالنَّصْبِ (يَعْمَلُ) أَيْ فِي أَرْضِهِ وصرح بها أبو داود وفي رِوَايَتِهِ وَفِي مُرْسَلِ السُّدِّيِّ كَانَ يَعْمَلُ فِي حِيطَانِ الْمَدِينَةِ بِالْأُجْرَةِ
فَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ فِي أَرْضِهِ إِضَافَةُ اخْتِصَاصٍ (فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ) أَيْ نَامَ (قَالَتْ خَيْبَةً لَكَ) بِالنَّصْبِ وَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مَحْذُوفُ الْعَامِلِ وَقِيلَ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ لَامٍ يَجِبُ نَصْبُهُ وَإِلَّا جَازَ وَالْخَيْبَةُ الْحِرْمَانُ يُقَالُ خَابَ يَخِيبُ إِذَا لَمْ يَنَلْ مَا طَلَبَ (فذكر ذلك للنبي) زَادَ فِي رِوَايَةِ زَكَرِيَّا عِنْدَ أَبِي الشَّيْخِ وَأَتَى عُمَرُ اَمْرَأَتَهُ وَقَدْ نَامَتْ فَذَكَرَ ذَلِكَ للنبي فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرفث إلى نسائكم فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمِ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَشَرَحَ الْكَرْمَانِيُّ عَلَى ظَاهِرِهَا فَقَالَ لَمَّا صَارَ الرَّفَثُ وَهُوَ الْجِمَاعُ هُنَا حَلَالًا بَعْدَ أَنْ كَانَ حَرَامًا كَانَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَلِذَلِكَ فَرِحُوا بِنُزُولِهَا وَفَهِمُوا مِنْهَا الرُّخْصَةَ هَذَا وَجْهُ مُطَابَقَةِ ذَلِكَ لِقِصَّةِ أَبِي قَيْسٍ
قَالَ ثُمَّ لَمَّا كَانَ حِلُّهُمَا بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ (وَكُلُوا واشربوا) لِيُعْلَمَ بِالْمَنْطُوقِ تَسْهِيلُ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ صَرِيحًا ثُمَّ قَالَ أَوِ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ هِيَ بِتَمَامِهَا
قَالَ الْحَافِظُ وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَبِهِ جَزَمَ السُّهُيْلِيُّ وَقَالَ إِنَّ الْآيَةَ بِتَمَامِهَا نَزَلَتْ فِي الْأَمْرَيْنِ مَعًا وَقُدِّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِعُمَرَ لِفَضْلِهِ قَالَ الْحَافِظُ قَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي داود فنزلت أحل لكم ليلة الصيام إلى قوله من الفجر فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مَحَلَّ قَوْلِهِ فَفَرِحُوا بِهَا بَعْدَ قَوْلِهِ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ وَقَعَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ وَلَفْظُهُ فنزلت أحل لكم إلى قوله من الفجر فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ
قَوْلُهُ (عَنْ ذَرٍّ) بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَشِدَّةِ راء هو بن عَبْدِ اللَّهِ الْمُرْهِبِيُّ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ ثِقَةٌ عَابِدٌ رُمِيَ بِالْإِرْجَاءِ مِنَ السَّادِسَةِ (عَنْ يُسَيِّعَ الْكِنْدِيِّ) قَالَ فِي التَّقْرِيبِ يُسَيِّعُ بْنُ مَعْدَانَ الْحَضْرَمِيُّ الْكُوفِيُّ وَيُقَالُ لَهُ أُسَيِّعُ ثِقَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ انْتَهَى قُلْتُ يُسَيِّعُ هَذَا بِضَمِّ التَّحْتَانِيَّةِ وَفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ مُصَغَّرًا وَيُقَالُ لَهُ
أُسَيِّعُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ بَدَلَ التَّحْتَانِيَّةِ
قَوْلُهُ (هُوَ الْعِبَادَةُ) أَيْ هُوَ الْعِبَادَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي تَسْتَأْهِلُ أَنْ تُسَمَّى عِبَادَةً لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَاهُ بِحَيْثُ لَا يَرْجُو وَلَا يَخَافُ إِلَّا إِيَّاهُ (وَقَرَأَ) أَيِ النَّبِيُّ (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم قلت يسيع هذا بضم التحتانية وفتح(8/246)
إلى قوله (داخرين) هَذِهِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنَ لَكِنْ لَمَّا ورد تفسيرها عنه وَكَانَتْ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دعان فليستجيبوا لي الذي في سورة البقرة أوردها ها هنا بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ
وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي أَوَائِلِ الدَّعَوَاتِ أَيْضًا وَيَأْتِي هُنَاكَ بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ المؤمن
قوله (أخبرنا هشيم) هو بن بَشِيرِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ دِينَارٍ (أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ) هو بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ
قَوْلُهُ (لَمَّا نَزَلَتْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمِ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ من الفجر) زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ قَالَ لَهُ عَدِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَجْعَلُ تَحْتَ وِسَادَتِي عِقَالَيْنِ عِقَالًا أَبْيَضَ وَعِقَالًا أَسْوَدَ أَعْرِفُ اللَّيْلَ من النهار فقال رسول الله إن وسادك لعريض (قال لي النبي إِلَخْ) قَالَ الْحَافِظُ ظَاهِرُهُ أَنَّ عَدِيًّا كَانَ حَاضِرًا لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَهُوَ يَقْتَضِي تَقَدُّمَ إِسْلَامِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ نُزُولَ فَرْضِ الصَّوْمِ كَانَ مُتَقَدِّمًا فِي أَوَائِلِ الْهِجْرَةِ وَإِسْلَامُ عَدِيٍّ كَانَ فِي التَّاسِعَةِ أَوِ الْعَاشِرَةِ كَمَا ذكره بن إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَغَازِي فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ تَأَخَّرَ نُزُولُهَا عَنْ نُزُولِ فَرْضِ الصَّوْمِ وَهُوَ بعيد جدا وإما أن يأول قَوْلُ عَدِيٍّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ لَمَّا نَزَلَتْ أَيْ لِمَا تُلِيَتْ عَلَيَّ عِنْدَ إِسْلَامِي أَوْ لَمَّا بَلَغَنِي نُزُولُ الْآيَةِ أَوْ فِي السِّيَاقِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ ثُمَّ قَدِمْتَ فَأَسْلَمْتُ وَتَعَلَّمْتُ الشَّرَائِعَ قَالَ لِي (إِنَّمَا ذَلِكَ) أَيِ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ (بَيَاضُ النَّهَارِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ) وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ إِنَّمَا هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ
فَإِنْ قُلْتَ الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ مِنَ الْفَجْرِ كَانَ نَزَلَ حِينَ سَمِعَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ هَذِهِ الْآيَةَ وَهُوَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ الْخَيْطُ الأبيض من الخيط(8/247)
الأسود فَكَيْفَ خَفِيَ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ
قُلْتُ كَأَنَّ عَدِيًّا لَمْ يَكُنْ فِي لُغَةِ قَوْمِهِ اسْتِعَارَةُ الْخَيْطِ لِلصُّبْحِ وَحَمَلَ قَوْلَهُ مِنَ الْفَجْرِ عَلَى السَّبَبِيَّةِ فَظَنَّ أَنَّ الْغَايَةَ تَنْتَهِي إِلَى أَنْ يَظْهَرَ تَمْيِيزُ أَحَدِ الْخَيْطَيْنِ مِنَ الْآخَرِ بِضِيَاءِ الْفَجْرِ أَوْ نَسِيَ قَوْلَهُ مِنَ الْفَجْرِ حَتَّى ذَكَّرَهُ بها النبي وَهَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ بَعْضِ الْعَرَبِ
قَالَ الشَّاعِرُ وَلَمَّا تَبَدَّتْ لَنَا سَدْفَةٌ وَلَاحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا
فَإِنْ قُلْتَ حَدِيثُ عَدِيٍّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ قَوْلَهُ مِنَ الْفَجْرِ نَزَلَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ أُنْزِلَتْ كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمِ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الخيط الأسود وَلَمْ يَنْزِلْ مِنَ الْفَجْرِ فَكَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلَيْهِ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ وَلَا يَزَالُ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ مِنَ الْفَجْرِ فَعَلِمُوا أَنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
فَحَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ هَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ قَوْلَهُ (مِنَ الْفَجْرِ) نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ لِرَفْعِ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنَ الْإِشْكَالِ فَمَا وَجْهُ الْجَمْعِ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ
قُلْتُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ حَدِيثَ عَدِيٍّ مُتَأَخِّرٌ مِنْ حَدِيثِ سَهْلٍ فَكَأَنَّ عَدَّيَا لَمْ يَبْلُغْهُ مَا جَرَى فِي حَدِيثِ سَهْلٍ وَإِنَّمَا سَمِعَ الْآيَةَ مُجَرَّدَةً فَفَهِمَهَا عَلَى مَا وَقَعَ لَهُ فَبَيَّنَ لَهُ النبي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ (مِنَ الْفَجْرِ) أَنْ يَنْفَصِلَ أَحَدُ الْخَيْطَيْنِ عَنِ الْآخَرِ وَأَنَّ قَوْلَهُ مِنَ الْفَجْرِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ (يَتَبَيَّنَ) وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّتَانِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ فِي قِصَّةِ عَدِيٍّ تَلَا الْآيَةَ تَامَّةً كَمَا ثَبَتَ فِي الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ حَالُ النُّزُولِ إِنَّمَا نَزَلَتْ مُفَرَّقَةً كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ
قَالَ الْحَافِظُ وَهَذَا الثَّانِي ضَعِيفٌ لِأَنَّ قِصَّةَ عَدِيٍّ مُتَأَخِّرَةٌ لِتَأَخُّرِ إِسْلَامِهِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ(8/248)
قَوْلُهُ (عَنْ مُجَالِدُ) بْنُ سَعِيدِ بْنِ عُمَيْرٍ الْهَمْدَانِيُّ الْكُوفِيُّ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَقَدْ تَغَيَّرَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ مِنْ صِغَارِ السَّادِسَةِ
قَوْلُهُ (فَأَخَذْتُ عِقَالَيْنِ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ حَبْلَيْنِ وَفِي رِوَايَةٍ خَيْطَيْنِ مِنْ شَعْرٍ (شَيْئًا لَمْ يَحْفَظْهُ سفيان) وحفظه غيره وهو قوله إِنَّ وِسَادَكَ لَعَرِيضٌ
كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ المتقدمة (فقال) أي النبي (إِنَّمَا هُوَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ) يَعْنِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ اللَّيْلُ وَبِالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ النَّهَارُ وَالْمَعْنَى حَتَّى يَظْهَرَ الْفَجْرُ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) فِي سَنَدِهِ مُجَالِدٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ فَتَصْحِيحُ التِّرْمِذِيِّ لَهُ لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ مُجَالِدٍ
قَوْلُهُ (عَنْ أَسْلَمَ) بْنِ يَزِيدَ (أَبِي عِمْرَانَ التُّجِيبِيِّ) الْمِصْرِيِّ ثِقَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ
قَوْلُهُ (كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ فَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا صَفًّا عَظِيمًا مِنَ الرُّومِ) وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ غَزَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ نُرِيدُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ وَعَلَى الْجَمَاعَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَالرُّومُ مُلْصِقُوا ظُهُورِهِمْ بِحَائِطِ الْمَدِينَةِ (وَعَلَى الْجَمَاعَةِ) أَيْ أَمِيرُهُمْ (مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ) بِالنَّصْبِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ (فَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوبَ شَاخِصًا) قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي النِّهَايَةِ شُخُوصُ الْمُسَافِرِ خُرُوجُهُ عَنْ مَنْزِلِهِ وَمِنْهُ حَدِيثُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّمَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ مَنْ كَانَ شَاخِصًا أَوْ بِحَضْرَةِ عَدُوٍّ أَيْ مُسَافِرًا وَمِنْهُ حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ فَلَمْ يَزَلْ شَاخِصًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى انْتَهَى
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِإِلْقَاءِ الْأَيْدِي إِلَى التَّهْلُكَةِ هُوَ الْإِقَامَةُ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَتَرْكُ الْجِهَادِ وَقِيلَ هُوَ الْبُخْلُ وَتَرْكُ الْإِنْفَاقِ فِي الْجِهَادِ
رَوَى(8/249)
الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ قَالَ نَزَلَتْ فِي النَّفَقَةِ
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ قَوْلُهُ فِي النَّفَقَةِ أَيْ فِي تَرْكِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حُذَيْفَةُ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ فَذَكَرَهُ بِتَمَامِهِ ثُمَّ قَالَ وَصَحَّ عن بن عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ نَحْوُ ذَلِكَ فِي تأويل الاية
وروى بن أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهَا كَانَتْ نَزَلَتْ فِي نَاسٍ كَانُوا يَغْزُونَ بِغَيْرِ نَفَقَةٍ
فَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِ اخْتِلَافُ الْمَأْمُورِينَ فالَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا وَأَحْسِنُوا أَصْحَابُ الْأَمْوَالِ وَالَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ وَلَا تُلْقُوا الْغُزَاةُ بِغَيْرِ نَفَقَةٍ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ وَمِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ بْنِ أَبِي جُبَيْرَةَ كَانَ الْأَنْصَارُ يَتَصَدَّقُونَ فأصابتهم سنة فأمسكوا فنزلت وروى بن جرير وبن الْمُنْذِرِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مُدْرِكِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ إِنِّي لَعِنْدَ عُمَرَ فَقُلْتُ إِنَّ لِي جَارًا رَمَى بِنَفْسِهِ فِي الْحَرْبِ فَقُتِلَ فَقَالَ نَاسٌ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ
فَقَالَ عُمَرُ كذبوا لكنه اشترى الاخرة بالدنيا وجاء عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي الْآيَةِ تَأْوِيلٌ آخر أخرجه بن جرير وبن الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمَا عَنْهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ قُلْتُ لِلْبَرَاءِ أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ هُوَ الرَّجُلُ يَحْمِلُ عَلَى الْكَتِيبَةِ فِيهَا أَلْفٌ قَالَ لَا وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يُذْنِبُ فَيُلْقِي بِيَدِهِ فَيَقُولُ لَا تَوْبَةَ لِي وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ نَحْوَهُ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِتَصْدِيرِ الْآيَةِ بِذِكْرِ النَّفَقَةِ فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي نُزُولِهَا وَأَمَّا قَصْرُهَا عَلَيْهِ فَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ
أَمَّا مَسْأَلَةُ حمل الواحد على العدد الكثير من العدد فَصَرَّحَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ لِفَرْطِ شَجَاعَتِهِ وظنه أنه يرهب العدو بذلك أو يجرأ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ فَهُوَ حَسَنٌ وَمَتَى كَانَ مُجَرَّدَ تَهَوُّرٍ فَمَمْنُوعٌ وَلَا سِيَّمَا إِنْ تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ وَهَنٌ فِي الْمُسْلِمِينَ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أبو داود والنسائي وبن جرير وأبو يعلى في مسنده وبن حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ) بْنُ بَشِيرِ بْنِ الْقَاسِمِ (أَخْبَرَنَا مُغِيرَةُ) بْنُ مِقْسَمٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ الضَّبِّيُّ مَوْلَاهُمْ أَبُو هِشَامٍ الْكُوفِيُّ الْأَعْمَى ثِقَةٌ مُتْقِنٌ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُدَلِّسُ وَلَا سِيَّمَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ مِنَ السَّادِسَةِ (قَالَ(8/250)
كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ إِلَخْ) قَدْ سَبَقَ حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ هَذَا فِي بَابِ الْمُحْرِمِ يَحْلِقُ رَأْسَهُ فِي إِحْرَامِهِ مَا عَلَيْهِ مِنْ أَبْوَابِ الْحَجِّ
قَوْلُهُ (لَفِيَّ) بِشِدَّةِ الْيَاءِ أَيْ فِي شَأْنِي (وَلَإِيَّايَ عَنَى بِهَا) اللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ وَإِيَّايَ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ لِعَنَى (وَكَانَتْ لِي وَفْرَةٌ) هِيَ شَعْرُ الرَّأْسِ إِذَا وَصَلَ إِلَى شَحْمَةِ الْأُذُنِ (فَجَعَلَتِ الْهَوَامُّ) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ جَمْعُ هَامَّةٍ وَهِيَ مَا يَدِبُّ مِنَ الْأَخْفَاشِ وَالْمُرَادُ بِهَا ما يلازم جسد الإنسان عالبا إِذَا طَالَ عَهْدُهُ بِالتَّنْظِيفِ وَقَدْ عُيِّنَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ أَنَّهَا الْقَمْلُ (تَسَاقَطُ) بِحَذْفِ إحدى التائين
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي بِشْرٍ) اسْمُهُ جَعْفَرُ بْنُ إِيَاسٍ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ
قَوْلُهُ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا قَافٌ مكسورة بن مُقْرِنٍ الْمُزَنِيِّ الْكُوفِيِّ ثِقَةٌ مِنْ كِبَارِ الثَّالِثَةِ (أَيْضًا) أَيْ كَمَا رَوَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ
قَالَ الحافظ في الفتح ونقل بن عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ الْمِصْرِيِّ قَالَ حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فِي الْفِدْيَةِ سُنَّةٌ مَعْمُولٌ بِهَا لَمْ يَرْوِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ غيره ولا رواها عنه إلا بن أبي ليلى وبن مَعْقِلٍ قَالَ وَهِيَ سُنَّةٌ أَخَذَهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ
قَالَ الزُّهْرِيُّ سَأَلْتُ(8/251)
عَنْهَا عُلَمَاءَنَا كُلَّهُمْ حَتَّى سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ فَلَمْ يُبَيِّنُوا كَمْ عَدَدُ الْمَسَاكِينِ
قَالَ الْحَافِظُ فيما أطلقه بن صَالِحٍ نَظَرٌ فَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ مِنْ رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ غَيْرِ كَعْبٍ
وَرَوَاهُ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ غَيْرُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ
وَقَدْ أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ كَعْبٍ هَذَا فِي أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ مُتَوَالِيَةٍ وَأَوْرَدَهُ أَيْضًا فِي الْمَغَازِي وَالطِّبِّ وَكَفَّارَاتِ الْأَيْمَانِ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى مَدَارُ الجميع على بن أبي ليلى وبن مَعْقِلٍ فَيُقَيِّدُ إِطْلَاقَ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ بِالصِّحَّةِ فَإِنَّ بَقِيَّةَ الطُّرُقِ لَا تَخْلُو عَنْ مَقَالٍ إِلَّا طَرِيقَ أَبِي وَائِلٍ عِنْدَ النَّسَائِيُّ انْتَهَى مُلَخَّصًا
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ (وَقَدْ رَوَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ) هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عُلَيَّةَ
قَوْلُهُ (يَتَنَاثَرُ) مِنَ النَّثْرِ أَيْ يَتَسَاقَطُ (وَانْسُكْ نَسِيكَةً) أَيِ اذْبَحْ ذَبِيحَةً وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ انْسُكْ بِشَاةٍ
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ رِوَايَاتُ الْبَابِ كُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ فِي الْمَعْنَى وَمَقْصُودُهَا أَنَّ مَنِ احْتَاجَ إِلَى حَلْقِ الرَّأْسِ لِضَرَرٍ مِنْ قَمْلٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِمَا فَلَهُ حَلْقُهُ فِي الْإِحْرَامِ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ من صيام أو صدقة أو نسك وبين النبي أَنَّ الصِّيَامَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَالصَّدَقَةُ ثَلَاثَةُ آصُعٍ لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ وَالنُّسُكُ شاة وهي شاة تجزىء فِي الْأُضْحِيَّةِ ثُمَّ إِنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ وَالْأَحَادِيثَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ
وَهَكَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ هَلْ عِنْدَكَ نُسُكٌ
قَالَ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ الصَّوْمَ لَا يُجْزِئُ إِلَّا(8/252)
لِعَادِمِ الْهَدْيِ
بَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَ عَنِ النُّسُكِ فَإِنْ وَجَدَهُ أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ وَإِنْ عَدِمَهُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْقَوْلِ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ أَنَّ نِصْفَ الصَّاعِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحِنْطَةِ فَأَمَّا التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ وَغَيْرُهُمَا فَيَجِبُ صَاعٌ لِكُلِّ مسكين وهذا خلاف نصه فِي هَذَا الْحَدِيثِ ثَلَاثَةَ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رِوَايَةٌ أَنَّهُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهِ وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَبَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ يَجِبُ إِطْعَامُ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ صَوْمُ عَشْرَةِ أَيَّامٍ وَهَذَا ضَعِيفٌ مَنَابِذُ لِلسُّنَّةِ مَرْدُودٌ
انْتَهَى
قَوْلُهُ (عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَطَاءٍ) بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الْكَافِ مُصَغَّرًا اللَّيْثِيِّ الْكُوفِيِّ ثِقَةٌ مِنَ الرَّابِعَةِ (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ) بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ الديلي بِكَسْرِ الدَّالِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ صَحَابِيٌّ
نَزَلَ الْكُوفَةَ وَيُقَالُ مَاتَ بِخُرَاسَانَ
قَوْلُهُ (الْحَجُّ عَرَفَاتٌ) أَيْ مِلَاكُ الْحَجِّ وَمُعْظَمُ أَرْكَانِهِ وُقُوفُ عَرَفَاتٍ لِأَنَّهُ يَفُوتُ بِفَوَاتِهِ
قَالَ فِي الْقَامُوسِ يَوْمُ عَرَفَةَ التَّاسِعُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَعَرَفَاتٌ مَوْقِفُ الْحَاجِّ وَذَلِكَ عَلَى اثْنَيْ عَشْرَ مِيلًا مِنْ مَكَّةَ وَغَلِطَ الْجَوْهَرِيُّ فَقَالَ مَوْضِعٌ بِمِنًى سُمِّيَتْ لِأَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ تَعَارَفَا بِهَا أَوْ لِقَوْلِ جِبْرِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَمَّا عَلَّمَهُ الْمَنَاسِكَ أَعَرَفْتَ قَالَ عَرَفْتُ اسْمٌ فِي لَفْظِ الْجَمْعِ فَلَا تُجْمَعُ مَعْرِفَةً وَإِنْ كَانَتْ جَمْعًا لِأَنَّ الْأَمَاكِنَ لَا تَزُولُ فَصَارَتْ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ مَعْرُوفَةً لِأَنَّ التَّاءَ بِمَنْزِلَةِ الْيَاءِ وَالْوَاوِ فِي مُسْلِمِينَ وَمُسْلِمُونَ وَالنِّسْبَةُ عُرْفِيٌّ
(أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثٌ) أَرَادَ بِهَا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ
وَهِيَ الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ وَأَيَّامُ رَمْيِ الْجِمَارِ وَهِيَ الثَّلَاثَةُ الَّتِي بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ وَلَيْسَ يَوْمُ النَّحْرِ مِنْهَا لِإِجْمَاعِ النَّاسِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النَّفْرُ يوم ثاني النَّحْرِ وَلَوْ كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ مِنَ الثَّلَاثِ لَجَازَ أَنْ يَنْفِرَ مَنْ شَاءَ فِي ثَانِيهِ
قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ (فَمَنْ تَعَجَّلَ) أَيِ اسْتَعْجَلَ بِالنَّفْرِ أَيِ الْخُرُوجِ مِنْ مِنًى (فِي يَوْمَيْنِ) أَيِ الْيَوْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَنَفَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْهَا بَعْدَ رَمْيِ جِمَارِهِ (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) بِالتَّعْجِيلِ (وَمَنْ تَأَخَّرَ) أَيْ عَنِ النَّفْرِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ إِلَيَّ الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَتَّى بَاتَ لَيْلَةَ الثَّالِثِ وَرَمَى يَوْمَ الثَّالِثِ جِمَارَهُ وَقِيلَ الْمَعْنَى وَمَنْ تَأَخَّرَ عَنِ الثَّالِثِ إِلَى الرَّابِعِ وَلَمْ يَنْفِرْ مَعَ الْعَامَّةِ
قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) وَهُوَ أَفْضَلُ لِكَوْنِ الْعَمَلِ فِيهِ أَكْمَلَ لِعَمَلِهِ(8/253)
وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا فِئَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا تَرَى الْمُتَعَجِّلَ آثِمًا وَأُخْرَى تَرَى الْمُتَأَخِّرَ آثِمًا فَوَرَدَ التَّنْزِيلُ بِنَفْيِ الْحَرَجِ عَنْهُمَا وَدَلَّ فِعْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى بَيَانِ الْأَفْضَلِ مِنْهُمَا (وَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ) أَيْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ (قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ) أَيْ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مَنْ جَاءَ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ فَتَمَّ حَجُّهُ (فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ) فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْوُقُوفَ يَفُوتُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ يَوْمَ عَرَفَةَ
وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ وَقْتَهُ يَمْتَدُّ إِلَى مَا بَعْدَ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وأبو داود والنسائي وبن مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ
قَوْلُهُ (أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ) قَالَ الْكَرْمَانِيُّ الْأَبْغَضُ هُوَ الْكَافِرُ فَمَعْنَى الْحَدِيثِ
أَبْغَضُ الرِّجَالِ الْكُفَّارِ الْكَافِرُ الْمُعَانِدُ
أَوْ أَبْغَضُ الرجال المخاصمين قال الحافظ بن حَجَرٍ وَالثَّانِي هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا فَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ فِي حَقِّهِ عَلَى حَقِيقَتِهَا فِي الْعُمُومِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَسَبَبُ الْبُغْضِ أن كثرة المخاصمة تقضي غَالِبًا إِلَى مَا يَذُمُّ صَاحِبَهُ أَوْ يُخَصُّ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَيَشْهَدُ لِلْأَوَّلِ حَدِيثُ كَفَى بِكَ إِثْمًا أَنْ تَكُونَ مُخَاصِمًا
أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ
وَوَرَدَ فِي التَّرْغِيبِ فِي تَرْكِ الْمُخَاصَمَةِ فَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَفَعَهُ أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَالرَّبَضُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا ضَادٌ مُعْجَمَةٌ الْأَسْفَلُ انْتَهَى
(الْأَلَدُّ) أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنَ اللَّدَدِ وَهُوَ شِدَّةُ الْخُصُومَةِ (الْخَصِمُ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الصَّادِ أَيِ الشَّدِيدُ اللَّدَدِ وَالْكَثِيرُ الْخُصُومَةِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ(8/254)
قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ) الْأَزْدِيُّ الْوَاشِحِيُّ بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ الْبَصْرِيُّ الْقَاضِي بِمَكَّةَ ثِقَةٌ إِمَامٌ حَافِظٌ مِنَ التَّاسِعَةِ
قَوْلُهُ (كَانَتِ الْيَهُودُ) جَمْعُ يَهُودِيٍّ كَرُومٍ وَرُومِيٍّ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْيَهُودَ قَبِيلَةٌ سُمِّيَتْ بِاسْمِ جَدِّهَا يَهُودَا أَخِي يُوسُفَ الصِّدِّيقِ وَالْيَهُودِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِمْ بِمَعْنَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ
وَقَالَ النَّوَوِيُّ يَهُودُ غَيْرُ مَصْرُوفٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ قَبِيلَةٌ فَامْتَنَعَ صَرْفُهُ لِلتَّأْنِيثِ وَالْعَلَمِيَّةِ (لَمْ يُؤَاكِلُوهَا) بِالْهَمْزِ وَيُبَدَّلُ وَاوًا (وَلَمْ يُجَامِعُوهَا) أَيْ لَمْ يُسَاكِنُوهَا وَلَمْ يُخَالِطُوهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
ويسألونك عن المحيض قل هو أذى وَتَتِمَّةُ الْآيَةِ فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حيث أمركم الله قال القارىء فِي الْمِرْقَاةِ قَالَ فِي الْأَزْهَارِ الْمَحِيضُ الْأَوَّلُ فِي الْآيَةِ هُوَ الدَّمُ بِالِاتِّفَاقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ هُوَ أَذًى وَفِي الثَّانِي ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا الدَّمُ وَالثَّانِي زَمَانُ الْحَيْضِ وَالثَّالِثُ مَكَانُهُ وَهُوَ الْفَرْجُ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ وَأَزْوَاجِ النبي ثُمَّ الْأَذَى مَا يَتَأَذَّى بِهِ الْإِنْسَانُ
قِيلَ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ لَهُ لَوْنًا كَرِيهًا وَرَائِحَةً مُنْتِنَةً وَنَجَاسَةً مُؤْذِيَةً مَانِعَةً عَنِ الْعِبَادَةِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَالْبَغَوِيُّ التَّنْكِيرُ هُنَا لِلْقِلَّةِ أَيْ أَذًى يَسِيرٌ لَا يَتَعَدَّى وَلَا يَتَجَاوَزُ إِلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ وَحَرَمِهِ فَتُجْتَنَبُ وَتَخْرُجُ مِنَ الْبَيْتِ كَفِعْلِ الْيَهُودِ وَالْمَجُوسِ نَقَلَهُ السَّيِّدُ يَعْنِي الْحَيْضُ أَذًى يَتَأَذَّى مَعَهُ الزَّوْجُ مِنْ مُجَامَعَتِهَا فَقَطْ دُونَ الْمُؤَاكَلَةِ وَالْمُجَالَسَةِ وَالِافْتِرَاشِ أَيْ فَابْعُدُوا عَنْهُنَّ بِالْمَحِيضِ أَيْ فِي مَكَانِ الْحَيْضِ وَهُوَ الْفَرْجُ أَوْ حَوْلَهُ مِمَّا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ احْتِيَاطًا
انْتَهَى مَا فِي الْمِرْقَاةِ (وَأَنْ يَفْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ) مِنَ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُضَاجَعَةِ (مَا خَلَا النِّكَاحَ) أَيِ الْجِمَاعَ وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ
وَقِيلَ فِي الْعَقْدِ فَيَكُونُ إِطْلَاقًا لِاسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ وَهَذَا تَفْسِيرٌ لِلْآيَةِ وَبَيَانٌ لِقَوْلِهِ (فَاعْتَزِلُوا) فَإِنَّ الِاعْتِزَالَ شَامِلٌ لِلْمُجَانَبَةِ عَنِ الْمُؤَاكَلَةِ وَالْمُضَاجَعَةِ وَالْحَدِيثُ بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِمَا تَحْتَ الْإِزَارِ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ وَبَعْضِ المالكية (ما يريد) أي النبي (أَنْ يَدَعَ) أَيْ يَتْرُكَ (مِنْ أَمْرِنَا) أَيْ مِنْ أُمُورِ دِينِنَا (شَيْئًا) مِنَ الْأَشْيَاءِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ (إِلَّا خَالَفَنَا) بِفَتْحِ الْفَاءِ (فِيهِ) إِلَّا حَالَ مُخَالَفَتِهِ إِيَّانَا فِيهِ(8/255)
يَعْنِي لَا يَتْرُكُ أَمْرًا مِنْ أُمُورِنَا إِلَّا مَقْرُونًا بِالْمُخَالَفَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً ولا كبيرة إلا أحصاها (فَجَاءَ عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ) مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ مِنَ الْأَنْصَارِ أَسْلَمَ بِالْمَدِينَةِ عَلَى يَدِ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ قَبْلَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَشَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْمُشَاهَدَ كُلَّهَا وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَبَّادُ بْنُ بَشِيرٍ وَهُوَ غَلَطٌ (وَأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ) بِالتَّصْغِيرِ فِيهِمَا أَنْصَارِيٌّ أَوْسِيٌّ أَسْلَمَ قَبْلَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ عَلَى يَدِ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ أَيْضًا وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ الثَّانِيَةَ وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ (أَفَلَا نَنْكِحُهُنَّ فِي الْمَحِيضِ) أَيْ أَفَلَا نُبَاشِرُهُنَّ بِالْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ أَيْضًا لِكَيْ تَحْصُلُ الْمُخَالَفَةُ التَّامَّةُ مَعَهُمْ (فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ) أَيْ تَغَيَّرَ لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْمُخَالَفَةِ بِارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ لَا يَجُوزُ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَاهُ تَغَيَّرَ وَالْأَصْلُ فِي التَّمَعُّرِ قِلَّةُ النَّضَارَةِ وَعَدَمُ إِشْرَاقِ اللَّوْنِ وَمِنْهُ مَكَانٌ مَعِرٌ وَهُوَ الْجَدْبُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ خَصْبٌ انْتَهَى
قَالَ مُحَشِّي النُّسْخَةِ الْأَحْمَدِيَّةِ مَا لَفْظُهُ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَفَلَا نُجَامِعُهُنَّ كَمَا هُوَ فِي الْمِشْكَاةِ أَيْضًا مَكَانَ أفلا ننكحهن وفسره القارىء فِي الْمِرْقَاةِ وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْحَقِّ الدَّهْلَوِيُّ فِي اللُّمَعَاتِ
أَفَلَا نُجَامِعُهُنَّ فِي الْبُيُوتِ وَفِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لِمُرَافَقَتِهِمْ أَوْ خَوْفِ تَرَتُّبِ الضَّرَرِ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ انْتَهَى مَجْمُوعُ عِبَارَتِهِمَا
وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ أَفَلَا نَنْكِحُهُنَّ كَمَا وَقَعَ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَكَذَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ يَرُدُّ تَوْجِيهَ الشَّارِحِينَ فِي شَرْحَيِ الْمِشْكَاةِ ثُمَّ رَأَيْتَ شَرْحَ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ وَشَرْحَ الْمِشْكَاةِ لِلطَّيِّبِيِّ وَحَاشِيَةَ السَّيِّدِ فَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا مِنْهُمْ مُتَصَدِّيًا لِبَيَانِهِ انْتَهَى
قُلْتُ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ الْمُحَشِّي (حَتَّى ظَنَنَّا) أَيْ نَحْنُ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ ظَنَّا أَيْ هُمَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ يُرِيدُ عَلِمْنَا فَالظَّنُّ الْأَوَّلُ حُسْبَانٌ وَالْآخَرُ عِلْمٌ وَيَقِينٌ
وَالْعَرَبُ تَجْعَلُ الظَّنَّ مَرَّةً حُسْبَانًا وَمَرَّةً عِلْمًا وَيَقِينًا وَذَلِكَ لِاتِّصَالِ طَرَفَيْهِمَا فَمَبْدَأُ الْعِلْمِ ظَنٌّ وَآخِرُهُ عِلْمٌ وَيَقِينٌ
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِينَ يظنون أنهم ملاقو ربهم مَعْنَاهُ يُوقِنُونَ (فَاسْتَقْبَلَتْهُمَا هَدِيَّةٌ مِنْ لَبَنٍ) أَيِ اسْتَقْبَلَ الرَّجُلَيْنِ شَخْصٌ مَعَهُ هَدِيَّةٌ يُهْدِيهَا إِلَى رسول الله وَالْإِسْنَادُ مَجَازِيٌّ
(فِي أَثَرِهِمَا) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ عَقِبَهُمَا (فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَغْضَبْ عَلَيْهِمَا) أَيْ لَمْ يَغْضَبْ غَضَبًا شَدِيدًا بَاقِيًا بَلْ زَالَ غَضَبُهُ سَرِيعًا
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وأبو داود والنسائي وبن ماجه(8/256)
قَوْلُهُ (كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ مَنْ أَتَى امْرَأَةً في قبلها من دبرها) قال بن الْمَلَكِ كَأَنْ يَقِفَ مِنْ خَلْفِهَا وَيُولِجُ فِي قُبُلِهَا فَإِنَّ الْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ مُحَرَّمٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ (كَانَ الْوَلَدُ) أَيِ الْحَاصِلُ بِذَلِكَ الجماع (أحول) لتحول الواطىء عن الحال الْجِمَاعِ الْمُتَعَارَفِ وَهُوَ الْإِقْبَالُ مِنَ الْقُدَّامِ إِلَى الْقُبُلِ وَبِهَذَا سُمِّيَ قُبُلًا إِلَى حَالِ خِلَافِ ذَلِكَ مِنَ الدُّبُرِ فَكَأَنَّهُ رَاعَى الْجَانِبَيْنِ وَرَأَى الْجِهَتَيْنِ فَأَنْتَجَ أَنْ جَاءَ أَحْوَلَ وَهُوَ أَفْعَلُ مِنَ الْحَوَلِ وَهُوَ أَنْ تَمِيلَ إِحْدَى الْحَدَقَتَيْنِ إِلَى الْأَنْفِ وَالْأُخْرَى إِلَى الصُّدْغِ يُقَالُ حَوِلَتْ عينه يحول حولا كَانَ بِهَا حَوَلٌ فَهُوَ أَحْوَلُ وَهِيَ حَوْلَاءُ (فَنَزَلَتْ) أَيْ رَدًّا عَلَيْهِمْ فِيمَا تَخَايَلَ لَهُمْ (نِسَاؤُكُمْ) أَيْ مَنْكُوحَاتُكُمْ وَمَمْلُوكَاتُكُمْ (حَرْثٌ لَكُمْ) أَيْ مَوَاضِعُ زِرَاعَةِ أَوْلَادِكُمْ يَعْنِي هُنَّ لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَرْضِ الْمُعَدَّةِ لِلزِّرَاعَةِ وَمَحَلُّهُ الْقُبُلُ فَإِنَّ الدُّبُرَ مَوْضِعُ الْفَرْثِ لَا مَحَلُّ الْحَرْثِ
(فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنى شئتم) أَيْ كَيْفَ شِئْتُمْ مِنْ قِيَامٍ أَوْ قُعُودٍ أَوِ اضْطِجَاعٍ أَوْ مِنَ الدُّبُرِ فِي فَرْجِهَا وَالْمَعْنَى عَلَى أَيِّ هَيْئَةٍ كَانَتْ فَهِيَ مُبَاحَةٌ لَكُمْ مُفَوَّضَةٌ إِلَيْكُمْ وَلَا يَتَرَتَّبُ مِنْهَا ضَرَرٌ عَلَيْكُمْ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ إِتْيَانُ الزَّوْجَةِ فِي قُبُلِهَا مِنْ جَانِبِ دُبُرِهَا وَعَلَى أَيَّةِ صِفَةٍ كَانَتْ
وَعَلَيْهِ دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حرثكم أني شئتم أَيْ هُنَّ لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ أَرْضٍ تُزْرَعُ وَمَحَلُّ الْحَرْثِ هُوَ الْقُبَلُ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ
قَوْلُهُ (يَعْنِي صِمَامًا وَاحِدًا) بِكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ ثَقْبًا وَاحِدًا وَالْمُرَادُ الْقُبُلُ
قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فأتوا حرثكم أنى شئتم أَيْ مَوْضِعُ الزَّرْعِ مِنَ الْمَرْأَةِ وَهُوَ قُبُلُهَا الَّذِي يُزْرَعُ فِيهِ الْمَنِيُّ لِابْتِغَاءِ الْوَلَدِ فَفِيهِ إِبَاحَةُ وَطْئِهَا فِي قُبُلِهَا إِنْ شَاءَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهَا وَإِنْ شَاءَ مِنْ وَرَائِهَا وَإِنْ شَاءَ مَكْبُوبَةً
وَأَمَّا الدُّبُرُ فَلَيْسَ هُوَ بِحَرْثٍ وَلَا مَوْضِعِ زَرْعٍ وَمَعْنَى قَوْلِهِ(8/257)
(أَنَّى شِئْتُمْ) أَيْ كَيْفَ شِئْتُمْ
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ يُعْتَدُّ بِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِ وَطْءِ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا حَائِضًا كَانَتْ أَوْ طَاهِرًا لِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مَشْهُورَةٍ كَحَدِيثِ مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا قَالَ أَصْحَابُنَا
لَا يَحِلُّ الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْآدَمِيِّينَ وَلَا غَيْرِهِمْ مِنَ الْحَيَوَانِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ
قوله (وبن خُثَيْمٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ) بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ مُصَغَّرًا القارىء المكي وثقه بن معين والعجلي (وبن سَابِطٍ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَابِطٍ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ (الْجُمَحِيُّ) بِضَمِّ الْجِيمِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ (وَحَفْصَةُ هِيَ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ) ثِقَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ
(وَيُرْوَى فِي سِمَامٍ وَاحِدٍ) بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ فِي ثَقْبٍ وَاحِدٍ
قَالَ فِي النِّهَايَةِ فِي الْحَدِيثِ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنى شئتم سِمَامًا وَاحِدًا أَيْ مَأْتًى وَاحِدًا وَهُوَ مِنْ سِمَامِ الْإِبْرَةِ ثُقْبُهَا وَانْتَصَبَ عَلَى الظَّرْفِ أَيْ فِي سِمَامٍ وَاحِدٍ لَكِنَّهُ ظَرْفٌ مَحْدُودٌ أُجْرِيَ مَجْرَى الْمُبْهَمِ
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بْنِ سَعْدٍ الْأَشْعَرِيُّ أَبُو الْحَسَنِ الْقُمِّيُّ بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ صَدُوقٌ يَهِمُ مِنَ الثَّامِنَةِ (عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ) الْخُزَاعِيِّ الْقُمِّيِّ
قِيلَ اسْمُ أَبِي الْمُغِيرَةِ دِينَارٌ صَدُوقٌ يَهِمُ مِنَ الْخَامِسَةِ
قَوْلُهُ (حَوَّلْتَ رَحْلِي اللَّيْلَةَ) كَنَّى بِرَحْلِهِ عَنْ زَوْجَتِهِ أَرَادَ بِهِ غَشَيَانَهَا فِي قُبُلِهَا مِنْ جِهَةِ ظَهْرِهَا لِأَنَّ الْمُجَامِعَ يَعْلُو الْمَرْأَةَ وَيَرْكَبُهَا مِمَّا يَلِي وَجْهَهَا فَحَيْثُ رَكِبَهَا مِنْ جِهَةِ ظَهْرِهَا كَنَّى عَنْهُ(8/258)
بِتَحْوِيلِ رَحْلِهِ إِمَّا نَقْلًا مِنَ الرَّحْلِ بِمَعْنَى الْمَنْزِلِ أَوْ مِنَ الرَّحْلِ بِمَعْنَى الْكُورِ وَهُوَ لِلْبَعِيرِ كَالسَّرْجِ لِلْفَرَسِ كَذَا فِي الْمَجْمَعِ
(أَقْبِلْ) أَيْ جَامِعْ مِنْ جَانِبِ الْقُبُلِ (وَأَدْبِرْ) أَيْ أَوْلِجْ فِي الْقُبُلِ مِنْ جَانِبِ الدُّبُرِ (وَاتَّقِ الدُّبُرَ) أَيْ إِيلَاجَهُ فِيهِ قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ فَأْتُوا حرثكم أنى شئتم فَإِنَّ الْحَرْثَ يَدُلُّ عَلَى اتِّقَاءِ الدُّبُرِ وَأَنَّى شِئْتُمْ عَلَى إِبَاحَةِ الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ وَالْخِطَابُ فِي التَّفْسِيرِ خِطَابٌ عَامٌّ وَأَنَّ كُلَّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ الْإِقْبَالُ وَالْإِدْبَارُ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِمَا (وَالْحِيضَةَ) بِكَسْرِ الْحَاءِ اسْمٌ مِنَ الْحَيْضِ وَالْحَالُ الَّتِي تَلْزَمُهَا الْحَائِضُ مِنَ التَّجَنُّبِ وَالتَّحَيُّضِ كَالْجِلْسَةِ وَالْقِعْدَةِ مِنَ الْجُلُوسِ
كَذَا فِي النِّهَايَةِ
وَالْمَعْنَى اتَّقِ الْمُجَامَعَةَ فِي زَمَانِهَا
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وأبو داود وبن ماجه
قوله (أخبرنا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ) بْنِ مُسْلِمٍ اللَّيْثِيُّ مَوْلَاهُمُ الْبَغْدَادِيُّ أَبُو النَّضْرِ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ وَلَقَبُهُ قَيْصَرُ ثِقَةٌ ثَبْتٌ مِنَ التَّاسِعَةِ (عَنِ الْحَسَنِ) هُوَ الْبَصْرِيُّ
قَوْلُهُ (أَنَّهُ زَوَّجَ أُخْتَه) اسْمُهَا جُمَيْلٌ بِالْجِيمِ مُصَغَّرًا بِنْتَ يَسَارٍ وَقِيلَ اسْمُهَا لَيْلَى وَقِيلَ فَاطِمَةُ (رَجُلًا) قِيلَ هُوَ أَبُو الْبَدَّاحِ بْنُ عَاصِمٍ الْأَنْصَارِيُّ وَقِيلَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ (ثُمَّ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً) وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ ثُمَّ طَلَّقَهَا طَلَاقًا لَهُ رَجْعَةٌ (فَهَوِيَهَا) قَالَ فِي الْقَامُوسِ هَوِيَهُ كَرَضِيَهُ أَحَبَّهُ (يالكع) بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْكَافِ كَصُرَدِ اللَّئِيمُ وَالْعَبْدُ وَالْأَحْمَقُ (لَا تَرْجِعُ إِلَيْكَ أَبَدًا) وَفِي رِوَايَةٍ لَا أُزَوِّجُكَ أَبَدًا (آخِرُ مَا عَلَيْكَ) بِالرَّفْعِ
أَيْ ذَلِكَ آخِرُ مَا عَلَيْكَ مِنْ نِكَاحِكَ إياها وهذا كقوله إذا خرجوا لم يعودوا آخر ما عليهم
قَالَ فِي الْمَجْمَعِ بِالرَّفْعِ أَيْ ذَلِكَ آخِرُ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ دُخُولِهِمْ (إِلَى قَوْلِهِ إِلَخْ) تَتِمَّةُ الْآيَةِ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تعلمون(8/259)
(فَلَمَّا سَمِعَهَا) أَيْ هَذِهِ الْآيَةَ
(قَالَ سَمْعٌ لِرَبِّي وَطَاعَةٌ) أَيْ عَلَيَّ سَمْعٌ لِرَبِّي وَطَاعَةٌ
(ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ أُزَوِّجُكَ وَأُكْرِمُكَ) وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ فَكَفَّرْتَ عَنْ يَمِينِي فَأَنْكَحْتهَا إِيَّاهُ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وأبو داود والنسائي وبن ماجه وبن جَرِيرٍ (وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ) إِلَى قَوْلِهِ (فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ فِي التَّزْوِيجِ مَعَ رِضَاهُنَّ) قَالَ بن جَرِيرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ مَنْ قَالَ لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ مِنَ الْعَصَبَةِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَ الْوَلِيَّ مِنْ عَضْلِ الْمَرْأَةِ إِنْ أَرَادَتِ النِّكَاحَ وَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ
فَلَوْ كَانَ لِلْمَرْأَةِ إِنْكَاحُ نَفْسِهَا بِغَيْرِ إِنْكَاحِ وَلِيِّهَا إِيَّاهَا أَوْ كَانَ لَهَا تَوْلِيَةُ مَنْ أَرَادَتْ تَوْلِيَتَهُ فِي إِنْكَاحِهَا لَمْ يَكُنْ لِنَهْيِ وَلِيِّهَا عَنْ عَضْلِهَا مَعْنًى مَفْهُومٌ إِذْ كَانَ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى عَضْلِهَا وَذَلِكَ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مَتَى أَرَادَتِ النِّكَاحَ جَازَ لَهَا إِنْكَاحُ نَفْسِهَا أَوْ إِنْكَاحُ مَنْ تُوَكِّلُهُ إِنْكَاحَهَا فَلَا عَضْلَ هُنَالِكَ لَهَا مِنْ أَحَدٍ فَيَنْهَى عَاضِلَهَا عَنْ عَضْلِهَا وَفِي فَسَادِ الْقَوْلِ بِأَنَّ لَا مَعْنَى لِنَهْيِ اللَّهِ عَمَّا نَهَى عَنْهُ صِحَّةُ الْقَوْلِ بِأَنَّ لِوَلِيِّ الْمَرْأَةِ فِي تَزْوِيجِهَا حَقًّا لَا يَصِحُّ عَقْدُهُ إِلَّا بِهِ انْتَهَى
قُلْتُ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ فِي (لَا تَعْضُلُوهُنَّ) لِلْأَوْلِيَاءِ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ تَفَكُّكُ نَظْمِ كَلَامِ اللَّهِ لَوْ قِيلَ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ أَيُّهَا الْأَزْوَاجُ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَيُّهَا الْأَوْلِيَاءُ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ نِسْبَةٌ
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْخِطَابَ فِي لَا تَعْضُلُوهُنَّ
وَكَذَا فِي قَوْلِهِ (وَإِذَا طَلَّقْتُمْ) لِلنَّاسِ أَيْ وَإِذَا وَقَعَ بَيْنَكُمُ الطَّلَاقُ فَلَا يُوجَدُ فِيمَا بَيْنَكُمُ الْعَضْلُ لِأَنَّهُ إِذَا وُجِدَ بَيْنَهُمُ الْعَضْلُ مِنْ جِهَةِ الْأَوْلِيَاءِ وَهُمْ رَاضُونَ كَانُوا فِي حُكْمِ الْعَاضِلِينَ
وَتَمَسَّكَ الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ جَائِزٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ النِّكَاحَ إِلَيْهَا إِضَافَةَ الْفِعْلِ إِلَى فَاعِلِهِ وَالتَّصَرُّفَ إِلَى(8/260)
مُبَاشِرِهِ وَنَهَى الْوَلِيَّ عَنْ مَنْعِهَا مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ فَاسِدًا لَمَا نَهَى الْوَلِيَّ عَنْ مَنْعِهَا مِنْهُ وَيَتَأَكَّدُ هَذَا النَّصُّ بِقَوْلِهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْفِعْلَ كَمَا يُضَافُ إِلَى الْمُبَاشِرِ فَقَدْ يُضَافُ أَيْضًا إِلَى السَّبَبِ مِثْلُ بَنَى الْأَمِيرُ دَارًا
قَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْجَوَابِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَجَازًا إِلَّا أَنَّهُ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ لِدَلَالَةِ الْأَحَادِيثِ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا النِّكَاحِ
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ) ثِقَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ
قَوْلُهُ (فَآذِنِّي) بِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ أَيْ أَعْلِمْنِي (فَأَمْلَتْ عَلَيَّ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ الْخَفِيفَةِ مِنْ أَمْلَى وَبِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامِ مُشَدَّدَةً مِنْ أَمْلَلَ يُمْلِلُ أَيْ أَلْقَتْ عَلَيَّ فَالْأُولَى لُغَةُ الْحِجَازِ وَبَنِي أَسَدٍ وَالثَّانِيَةُ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ وَقَيْسٍ (وَصَلَاةِ الْعَصْرِ) بِالْوَاوِ الْفَاصِلَةِ وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُسْطَى غَيْرُ الْعَصْرِ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ وَأُجِيبَ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ شَاذَّةٌ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ ولا يكون له حكم الخبر عن رسول الله لِأَنَّ نَاقِلَهَا لَمْ يَنْقُلْهَا إِلَّا عَلَى أَنَّهَا قُرْآنٌ وَالْقُرْآنُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالتَّوَاتُرِ بِالْإِجْمَاعِ
وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ قُرْآنًا لَا يَثْبُتُ خَبَرًا قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَثَانِيهَا أَنْ يَجْعَلَ الْعَطْفَ تَفْسِيرِيًّا فَيَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ
وَثَالِثُهَا أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ فِيهِ زَائِدَةً وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُهَا (وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ) بِغَيْرِ وَاوٍ قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ قَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمُرَادِ بِالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَجَمَعَ الدِّمْيَاطِيُّ فِي ذَلِكَ جُزْءًا مَشْهُورًا سَمَّاهُ كَشْفُ الْغَطَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى فَبَلَغَ تِسْعَةَ عَشْرَ قَوْلًا ثُمَّ ذَكَرَ الْحَافِظُ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَرَجَّحَ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى هِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَقَالَ كَوْنُهَا صَلَاةَ الْعَصْرِ هُوَ المعتمد وبه قال بن مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلِ أَحْمَدَ وَالَّذِي صَارَ إِلَيْهِ مُعْظَمُ الشَّافِعِيَّةِ لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ فِيهِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ هو قول جمهور التابعين وقال بن عَبْدِ الْبَرِّ هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ
أَهْلِ الْأَثَرِ وبه قال من المالكية بن حبيب وبن العربي وبن عَطِيَّةَ انْتَهَى
قُلْتُ لَا شَكَّ فِي أَنَّ الْقَوْلَ الرَّاجِحَ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ هُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَقِيَّةُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي بَابِ مَا جَاءَ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى أَنَّهَا الْعَصْرُ قَانِتِينَ قِيلَ مَعْنَاهُ مُطِيعِينَ وَقِيلَ سَاكِتِينَ أَيْ عَنْ(8/261)
كَلَامِ النَّاسِ لَا مُطْلَقِ الصَّمْتِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا صَمْتَ فِيهَا بَلْ جَمِيعُهَا قُرْآنٌ وذكر (وقال سمعتها من رسول الله)
قَالَ الْبَاجِيُّ يَحْتَمِلُ أَنَّهَا سَمِعَتْهَا عَلَى أَنَّهَا قُرْآنٌ ثُمَّ نُسِخَتْ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فَلَعَلَّ عَائِشَةَ لَمْ تَعْلَمْ بِنَسْخِهَا أَوِ اعْتَقَدَتْ أَنَّهَا مِمَّا نُسِخَ حُكْمُهُ وبقي رسمه ويحتمل أنه ذكرها عَلَى أَنَّهَا مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ لِتَأْكِيدِ فَضِيلَتِهَا فَظَنَّتْهَا قُرْآنًا فَأَرَادَتْ إِثْبَاتَهَا فِي الْمُصْحَفِ
لِذَلِكَ قَالَهُ الزُّرْقَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ حَفْصَةَ) أَخْرَجَهُ مَالِكُ فِي مُوَطَّإهِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ
قَوْلُهُ (قَالَ صَلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ) تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي بَابِ مَا جَاءَ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى أَنَّهَا الْعَصْرُ
قَوْلُهُ (قَالَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ) هِيَ الْغَزْوَةُ الْمَشْهُورَةُ يُقَالُ لَهَا الْأَحْزَابُ وَالْخَنْدَقُ وَكَانَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَقِيلَ سَنَةَ خَمْسٍ (كَمَا شَغَلُونَا عَنْ صَلَاةِ الْوُسْطَى) بِإِضَافَةِ الصَّلَاةِ إِلَى الْوُسْطَى وَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ وَفِيهِ الْمَذْهَبَانِ الْمَعْرُوفَانِ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ جَوَازُ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ وَمَذْهَبُ الْبَصَرِيَّيْنِ مَنْعُهُ وَيُقَدِّرُونَ فِيهِ مَحْذُوفًا وَتَقْدِيرُهُ هُنَا عَنْ صَلَاةِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى أَيْ عَنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى قَالَهُ النَّوَوِيُّ (حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ) وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا
ثُمَّ صَلَّاهَا بَيْنَ(8/262)
الْعِشَائَيْنِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ
وَحَدِيثُ عَلِيٍّ هَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى هِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي هَذَا الْبَابِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمْ
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا أَبُو النَّضْرِ) اسْمُهُ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ (وَأَبُو دَاوُدَ) هُوَ الطَّيَالِسِيُّ (عَنْ زُبَيْدٍ) بِمُوَحَّدَةٍ مُصَغَّرًا هو بن الْحَارِثِ الْيَامِيُّ
قَوْلُهُ (صَلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ) هَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى هِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ) أَمَّا حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هاشم فأخرج بن جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ كُهَيْلِ بْنِ حَرْمَلَةَ سُئِلَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى فَقَالَ اخْتَلَفْنَا فيها ونحن بفناء بيت رسول الله وَفِينَا أَبُو هَاشِمِ بْنُ عُتْبَةَ فَقَالَ أَنَا أَعْلَمُ لَكُمْ فَقَامَ فَاسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْنَا
فَقَالَ أَخْبَرَنَا أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَأَخْرَجَهُ أَيْضًا بن جَرِيرٍ عَنْهُ مَرْفُوعًا الصَّلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
قَوْلُهُ (وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ) بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ الطنافسي(8/263)
قَوْلُهُ (كُنَّا نَتَكَلَّمُ إِلَخْ) تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ شَرْحِهِ فِي بَابِ نَسْخِ الْكَلَامِ فِي الصلاة
قوله (عن إسرائيل) هو بن يُونُسَ (عَنِ السُّدِّيِّ) بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ هُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ السُّدِّيُّ الْكَبِيرُ (عَنْ أَبِي مَالِكٍ) اسْمُهُ غَزْوَانُ الْغِفَارِيُّ الْكُوفِيُّ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ ثِقَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ
قَوْلُهُ (مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ) بِالنَّصْبِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ (يَأْتِي بِالْقِنْوِ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ النُّونِ هُوَ الْعَذْقُ بِمَا فِيهِ مِنَ الرُّطَبِ يُقَالُ لَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ خوشه خرما (فَيَسْقُطُ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ) الْبُسْرُ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ مَرْتَبَةٌ مِنْ مَرَاتِبِ ثَمَرِ النَّخْلِ
قَالَ فِي الصُّرَاحِ أَوَّلُ مَا بَدَا مِنَ النَّخْلِ طَلْعٌ ثُمَّ خُلَالٌ ثُمَّ بَلَحٌ بِالتَّحْرِيكِ ثُمَّ بُسْرٌ ثُمَّ رُطَبٌ ثُمَّ تَمْرٌ (فِيهِ الشِّيصُ وَالْحَشَفُ) الشِّيصُ بِالْكَسْرِ التَّمْرُ الَّذِي لَا يَشْتَدُّ نَوَاهُ وَيَقْوَى وَقَدْ لَا يَكُونُ لَهُ نَوًى أَصْلًا كَذَا فِي النِّهَايَةِ
وَالْحَشَفُ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ هُوَ أَرْدَأُ التَّمْرِ أَوِ الضَّعِيفُ لَا نَوَى لَهُ أَوِ الْيَابِسُ الْفَاسِدُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم أَيْ مِنْ جِيَادِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ مِنَ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَلَا تَيَمَّمُوا أَيْ لَا تَقْصِدُوا الْخَبِيثَ أَيِ الرَّدِيءَ مِنْهُ أَيِ الْمَذْكُورِ تُنْفِقُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تَيَمَّمُوا وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ أَيِ الْخَبِيثِ لَوْ أَعْطَيْتُمُوهُ في حقوقكم(8/264)
إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ بِالتَّسَاهُلِ وَغَضِّ الْبَصَرِ فَكَيْفَ تُؤَدُّونَ مِنْهُ حَقَّ اللَّهِ قَالَ أَيِ النبي (أُهْدِيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِهْدَاءِ (إِلَّا عَلَى إِغْمَاضِ) أَيْ مُسَاهَلَةٍ وَمُسَامَحَةٍ يُقَالُ أَغْمَضَ فِي الْبَيْعِ يُغْمِضُ إِذَا اسْتَزَادَهُ مِنَ الْمَبِيعِ وَاسْتَحَطَّهُ مِنَ الثَّمَنِ فَوَافَقَهُ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ بن ماجه وبن جرير وبن أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ
قَوْلُهُ (إِنَّ لِلشَّيْطَانِ) أَيْ إِبْلِيسَ أَوْ بَعْضَ جُنْدِهِ (لَمَّةً) بِفَتْحِ اللَّامِ وَشِدَّةِ الْمِيمِ مِنَ الْإِلْمَامِ وَمَعْنَاهُ النُّزُولُ وَالْقُرْبُ وَالْإِصَابَةُ وَالْمُرَادُ بِهَا مَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ بِوَاسِطَةِ الشَّيْطَانِ أَوِ الْمَلَكِ (بِابْنِ آدَمَ) أَيْ بِهَذَا الْجِنْسِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْإِنْسَانُ (وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً) فَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ تُسَمَّى وَسْوَسَةً وَلَمَّةُ الْمَلَكِ إِلْهَامًا (فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ) كَالْكُفْرِ وَالْفِسْقِ وَالظُّلْمِ (وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ) أَيْ فِي حَقِّ اللَّهِ أَوْ حَقِّ الْخَلْقِ أَوْ بِالْأَمْرِ الثَّابِتِ كَالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَالنَّارِ وَالْجَنَّةِ (وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ) كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ (وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ) كَكُتُبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْإِيعَادُ فِي اللَّمَّتَيْنِ مِنْ بَابِ الْإِفْعَالِ وَالْوَعِيدُ فِي الِاشْتِقَاقِ كَالْوَعْدِ إِلَّا أَنَّ الْإِيعَادَ اخْتَصَّ بِالشَّرِّ عُرْفًا يُقَالُ أَوْعَدَ إِذَا وَعَدَ بِشَرٍّ إِلَّا أَنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ فِي الْخَيْرِ لِلِازْدِوَاجِ وَالْأَمْنِ عَنِ الِاشْتِبَاهِ بِذَكَرِ الْخَيْرِ بَعْدَهُ كَذَا قَالُوا وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ وَإِنِّي إِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ لَمُخْلِفٌ إِيعَادِي وَمُنْجِزٌ مَوْعِدِي
وَأَمَّا عِنْدَ التَّقْيِيدِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ بِالتَّجْرِيدِ فِيهِمَا أَوْ بِأَصْلِ اللُّغَةِ وَاخْتِيَارِ الزِّيَادَةِ لِاخْتِيَارِ الْمُبَالَغَةِ فَمَنْ وَجَدَ أَيْ فِي نَفْسِهِ أَوْ أَدْرَكَ وَعَرَفَ (ذَلِكَ) أَيْ لَمَّةَ الْمَلَكِ عَلَى تَأْوِيلِ الْإِلْمَامِ أَوِ الْمَذْكُورِ (فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ) أَيْ مِنَّةٌ جَسِيمَةٌ وَنِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ وَاصِلَةٌ إِلَيْهِ وَنَازِلَةٌ عَلَيْهِ إِذْ أَمَرَ الْمَلَكَ بِأَنْ يُلْهِمَهُ (فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ) أَيْ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْجَلِيلَةِ حَيْثُ أَهَلَّهُ لِهِدَايَةِ الْمَلَكِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى ذَلِكَ الْخَيْرِ (وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى) أَيْ لَمَّةَ الشيطان (ثم قرأ) أي النبي استشهادا الشيطان يعدكم الفقر(8/265)
أَيْ يُخَوِّفُكُمْ بِهِ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ الْآيَةَ مَعْنَاهُ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ لِيَمْنَعَكُمْ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرَاتِ وَيُخَوِّفَكُمُ الْحَاجَةَ لَكُمْ أَوْ لِأَوْلَادِكُمْ فِي ثَانِي الْحَالِ سِيَّمَا فِي كِبَرِ السِّنِّ وَكَثْرَةِ الْعِيَالِ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ أَيِ الْمَعَاصِي وَهَذَا الْوَعْدُ وَالْأَمْرُ هُمَا الْمُرَادَانِ بِالشَّرِّ فِي الْحَدِيثَ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وبن حبان في صحيحه وبن أَبِي حَاتِمٍ
قَوْلُهُ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا) قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ الطَّيِّبُ ضِدُّ الْخَبِيثِ فَإِذَا وصفه بِهِ تَعَالَى أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقَائِصِ مُقَدَّسٌ عَنِ الْآفَاتِ وَإِذَا وُصِفَ بِهِ الْعَبْدُ مُطْلَقًا أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ الْمُتَعَرِّي عَنْ رَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ وَقَبَائِحِ الْأَعْمَالِ وَالْمُتَحَلِّي بِأَضْدَادِ ذَلِكَ وَإِذَا وُصِفَ بِهِ الْأَمْوَالُ أُرِيدَ بِهِ كَوْنُهُ حَلَالًا مِنْ خِيَارِ الْأَمْوَالِ
وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْعُيُوبِ فَلَا يَقْبَلُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَقَرَّبَ إِلَيْهِ إِلَّا بِمَا يُنَاسِبُهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى
وَهُوَ خِيَارُ أَمْوَالِكُمُ الْحَلَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تنفقوا مما تحبون (وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنَينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ) مَا مَوْصُولَةٌ وَالْمُرَادُ بِهَا أَكْلُ الْحَلَالِ وَتَحْسِينُ الْأَمْوَالِ فَقَالَ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عليم هَذَا النِّدَاءُ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ لَا عَلَى أَنَّهُمْ خُوطِبُوا بِذَلِكَ دَفْعَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهُمْ(8/266)
أُرْسِلُوا فِي أَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ بَلْ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ خُوطِبَ بِهِ فِي زَمَانِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا النِّدَاءُ يَوْمَ الْمِيثَاقِ لِخُصُوصِ الأنبياء (وذكر) أي النبي (الرَّجُلَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ (يُطِيلُ السَّفَرَ) أَيْ فِي وُجُوهِ الطَّاعَاتِ كَحَجٍّ وَزِيَارَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ وَصِلَةِ رَحِمٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَهُ النَّوَوِيُّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ حَالَانِ مُتَدَاخِلَانِ أَوْ مُتَرَادِفَانِ وَكَذَا قَوْلُهُ يَمُدُّ يَدَهُ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ يَدَيْهِ بِالتَّثْنِيَةِ أَيْ مَادًّا يَدَيْهِ رَافِعًا بِهِمَا يَا رَبِّ يَا رَبِّ أَيْ قَائِلًا يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيْ مَطْعُومُهُ حَرَامٌ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ أَيْضًا وَكَذَا قَوْلُهُ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ أَيْ مَشْرُوبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبُوسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِضَمِّ الْغَيْنِ وَتَخْفِيفِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ الْمَكْسُورَةِ بِالْحَرَامِ أَيْ رُبِّيَ بِالْحَرَامِ
قَالَ الْأَشْرَفُ ذَكَرَ قَوْلَهُ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ بَعْدَ قَوْلِهِ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ إِمَّا لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمَطْعَمِ حَرَامًا التَّغْذِيَةُ بِهِ وَإِمَّا تَنْبِيهًا بِهِ عَلَى اسْتِوَاءِ حَالَيْهِ أَعْنِي كَوْنَهُ مُنْفِقًا فِي حَالِ كِبَرِهِ وَمُنْفَقًا عَلَيْهِ فِي حَالِ صِغَرِهِ فِي وُصُولِ الْحَرَامِ إِلَى بَاطِنِهِ فَأَشَارَ بِقَوْلِهِ مَطْعَمُهُ حَرَامٌ إِلَى حَالِ كِبَرِهِ وَبِقَوْلِهِ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ إِلَى حَالِ صِغَرِهِ وَهَذَا دَالٌّ عَلَى أَنْ لَا تَرْتِيبَ فِي الْوَاوِ
قَالَ القارىء وَذَهَبَ الْمُظْهِرُ إِلَى الْوَجْهِ الثَّانِي وَرَجَّحَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ عَدَمَ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهِ مُصِرًّا عَلَى تَلَبُّسِ الْحَرَامِ انْتَهَى فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ أَيْ مِنْ أَيْنَ يُسْتَجَابُ لِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ وَكَيْفَ يُسْتَجَابُ لَهُ
وَفِي الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى الْإِنْفَاقِ مِنَ الْحَلَالِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْإِنْفَاقِ مِنْ غَيْرِهِ
وَفِيهِ أَنَّ الْمَشْرُوبَ وَالْمَأْكُولَ وَالْمَلْبُوسَ وَنَحْوَهَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَلَالًا خَالِصًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَأَنَّ مَنْ أَرَادَ الدُّعَاءَ كَانَ أَوْلَى بِالِاعْتِنَاءِ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
قَوْلُهُ (أَحْزَنَتْنَا) جَوَابٌ لَمَّا أَيْ جَعَلَتْنَا مَحْزُونِينَ (قَالَ قُلْنَا) أَيْ قَالَ عَلِيٌّ قلنا معشر الصحابة(8/267)
(لاندري) بِالنُّونِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لَا يَدْرِي بِالتَّحْتِيَّةِ (فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ) أَيْ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نفسا إلا وسعها (بَعْدَهَا) أَيْ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ إِلَخْ (فَنَسَخَتْهَا) قَالَ الْحَافِظُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ نَسَخَتْهَا أَيْ أَزَالَتْ ما تضمنته من الشدة بينت أَنَّهُ وَإِنْ وَقَعَتِ الْمُحَاسَبَةُ بِهِ لَكِنَّهَا لَا تَقَعُ الْمُؤَاخَذَةُ بِهِ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ فِرَارًا مِنْ إِثْبَاتِ دُخُولِ النَّسْخِ فِي الْأَخْبَارِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ خَبَرًا لَكِنَّهُ يَتَضَمَّنُ حُكْمًا وَمَهْمَا كَانَ مِنَ الْأَخْبَارِ يَتَضَمَّنُ الْأَحْكَامَ أَمْكَنَ دُخُولُ النَّسْخِ فِيهِ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَدْخُلُهُ النَّسْخُ مِنَ الْأَخْبَارِ مَا كَانَ خَبَرًا مَحْضًا لَا يَتَضَمَّنُ حُكْمًا كَالْإِخْبَارِ عَمَّا مَضَى مِنْ أَحَادِيثِ الْأُمَمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنَّسْخِ فِي حَدِيثِ التَّخْصِيصِ فَإِنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ يُطْلِقُونَ لَفْظَ النَّسْخِ عَلَيْهِ كَثِيرًا وَالْمُرَادُ بِالْمُحَاسَبَةِ بِمَا يُخْفِي الْإِنْسَانُ مَا يُصَمِّمُ عَلَيْهِ وَيَشْرَعُ فِيهِ دُونَ مَا يَخْطُرُ لَهُ وَلَا يَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ انْتَهَى لَا يُكَلِّفُ الله نفسا إلا وسعها هَذَا بَيَانٌ لِقَوْلِهِ هَذِهِ الْآيَةَ وَمَعْنَى وُسْعَهَا أَيْ مَا تَسَعُهُ قُدْرَتُهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ مِنَ الْخَيْرِ أَيْ ثَوَابُهُ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ مِنَ الشَّرِّ أَيْ وِزْرُهُ وَلَا يُؤَاخَذُ أَحَدٌ بِذَنْبِ أَحَدٍ
وَلَا بِمَا لَمْ يَكْسِبْهُ مِمَّا وَسْوَسَتْ بِهِ نَفْسُهُ
وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذَا رَجُلٌ مَجْهُولٌ وَهُوَ شَيْخُ السُّدِّيِّ
قَوْلُهُ (عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ) هُوَ بن جُدْعَانَ (عَنْ أُمَيَّةَ) بِالتَّصْغِيرِ وَيُقَالُ لَهَا أُمَيْنَةَ مِنَ الثَّالِثَةِ
قَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ أُمَيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَائِشَةَ وَعَنْهَا رَبِيبُهَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ وَقِيلَ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ أُمِّ مُحَمَّدٍ وَهِيَ امْرَأَةُ أَبِيهِ وَاسْمُهَا أُمَيْنَةُ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنَ التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنِ أُمِّهِ وَهُوَ غَلَطٌ فَقَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ عَنِ امْرَأَةِ أَبِيهِ أُمِّ مُحَمَّدٍ عِدَّةَ أَحَادِيثَ انْتَهَى
قُلْتُ ذَكَرَ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ أُمَيَّةَ هَذِهِ فِي فَصْلِ الْمَجْهُولَاتِ
قَوْلُهُ إِنْ تُبْدُوا أَيْ إِنْ تُظْهِرُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَيْ فِي قُلُوبِكُمْ مِنَ السُّوءِ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ أَوْ تُخْفُوهُ أَيْ تُضْمِرُوهُ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَيْهِ إِذْ لَا عِبْرَةَ بِخُطُورِ الْخَوَاطِرِ يحاسبكم اللَّهُ أَيْ يُجَازِيكُمْ بِسِرِّكُمْ وَعَلَنِكُمْ أَوْ يُخْبِرُكُمْ بِمَا أَسْرَرْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَعَنْ قَوْلِهِ مَنْ يَعْمَلْ أَيْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا سُوءًا أَيْ صَغِيرًا أو كبيرا(8/268)
يُجْزَ بِهِ أَيْ فِي الدُّنْيَا أَوِ الْعُقْبَى إِلَّا مَا شَاءَ مِمَّنْ شَاءَ (فَقَالَتْ) أَيْ عَائِشَةُ (مَا سَأَلَنِي عَنْهَا) أَيْ عَنْ هَذِهِ المسألة (منذ سألت رسول الله) أَيْ عَنْهَا (فَقَالَ هَذِهِ) إِشَارَةٌ إِلَى مَفْهُومِ الايتين المسؤول عَنْهُمَا أَيْ مُحَاسَبَةِ الْعِبَادِ أَوْ مُجَازَاتِهِمْ بِمَا يُبْدُونَ وَمَا يُخْفُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ (مُعَاتَبَةُ اللَّهِ الْعَبْدَ) أَيْ مُؤَاخَذَتُهُ الْعَبْدَ بِمَا اقْتَرَفَ مِنَ الذَّنْبِ (بِمَا يُصِيبُهُ) أَيْ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ صِلَةُ مُعَاتَبَةٍ وَيَصِحُّ كَوْنُ الْبَاءِ سَبَبِيَّةً (مِنَ الْحُمَّى) وَغَيْرِهَا مُؤَاخَذَةُ الْمُعَاتَبِ وَإِنَّمَا خُصَّتِ الْحُمَّى بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا مِنْ أَشَدِّ الْأَمْرَاضِ وَأَخْطِرْهَا
قَالَ فِي الْمَفَاتِيحِ الْعِتَابُ أَنْ يُظْهِرَ أَحَدُ الْخَلِيلِينَ مِنْ نَفْسِهِ الْغَضَبَ عَلَى خَلِيلِهِ لِسُوءِ أَدَبٍ ظَهَرَ مِنْهُ مَعَ أَنَّ فِي قَلْبِهِ مَحَبَّتَهُ يَعْنِي لَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنْ يُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُؤْمِنَينَ بِجَمِيعِ ذُنُوبِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَلْ مَعْنَاهَا أَنَّهُ يُلْحِقُهُمْ بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْمَرَضِ وَالْحُزْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَكَارِهِ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا صَارُوا مُطَهَّرِينَ مِنَ الذُّنُوبِ
قَالَ الطِّيبِيُّ كَأَنَّهَا فَهِمَتْ أَنَّ هَذِهِ مُؤَاخَذَةُ عِقَابٍ أُخْرَوِيٍّ فَأَجَابَهَا بِأَنَّهَا مُؤَاخَذَةُ عِتَابٍ فِي الدُّنْيَا عِنَايَةً وَرَحْمَةً انْتَهَى (وَالنَّكْبَةِ) بِفَتْحِ النُّونِ أَيِ الْمِحْنَةِ وَمَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنْ حَوَادِثِ الدَّهْرِ (حَتَّى الْبِضَاعَةَ) بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا وَبِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَهِيَ بِالْكَسْرِ طَائِفَةٌ مِنْ مَالِ الرَّجُلِ (يَضَعُهَا فِي يَدِ قَمِيصِهِ) أَيْ كُمِّهِ سُمِّيَ بِاسْمِ مَا يُحْمَلُ فِيهِ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي كُمِّ قَمِيصِهِ (فَيَفْقِدُهَا) أَيْ يَتَفَقَّدُهَا وَيَطْلُبُهَا فَلَمْ يَجِدْهَا لِسُقُوطِهَا أَوْ أَخْذِ سَارِقٍ لَهَا مِنْهُ (فَيَفْزَعُ لَهَا) أَيْ يَحْزَنْ لضياع البضاعة فيكون كفارة كذا قاله بن الْمَلِكِ
وَقَالَ الطِّيبِيُّ يَعْنِي إِذَا وَضَعَ بِضَاعَةً فِي كُمِّهِ وَوَهَمَ أَنَّهَا غَابَتْ فَطَلَبَهَا وَفَزِعَ كَفَّرَتْ عَنْهُ ذُنُوبَهُ وَفِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ مَا لَا يَخْفَي (حَتَّى) أَيْ لَا يَزَالُ يُكَرِّرُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَحْوَالَ حَتَّى (إِنَّ الْعَبْدَ) قَالَ القارىء بكسر الهمزة وفي نسخة يعني في الْمِشْكَاةِ بِالْفَتْحِ وَأَظْهَرَ الْعَبْدَ مَوْضِعَ ضَمِيرِهِ إِظْهَارًا لِكَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ الْمُقْتَضِي لِلصَّبْرِ وَالرِّضَا بِأَحْكَامِ الرُّبُوبِيَّةِ (لِيَخْرُجَ مِنْ ذُنُوبِهِ) بِسَبَبِ الِابْتِلَاءِ بِالْبَلَاءِ (كَمَا يَخْرُجُ التِّبْرُ الْأَحْمَرُ) التِّبْرُ بِالْكَسْرِ أَيِ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَا دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ فَإِذَا ضُرِبَا كَانَا عَيْنًا (مِنَ الْكِيرِ) بِكَسْرِ الْكَافِ متعلق بيخرج
قوله (هذا حديث حسن غريب) وأخرجه بن جرير وبن أَبِي حَاتِمٍ قَوْلُهُ عَنْ آدَمَ بْنِ سُلَيْمَانَ الْقُرَشِيِّ الْكُوفِيِّ وَالِدِ يَحْيَى صَدُوقٌ مِنَ السَّابِعَةِ
قَوْلُهُ (دَخَلَ قُلُوبَهُمْ) بِالنَّصْبِ (مِنْهُ) أَيْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى هَذَا وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْهَا أَيْ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ (شَيْءٌ) بِالرَّفْعِ فَاعِلُ دَخَلَ أَيْ شَيْءٌ عَظِيمٌ مِنَ الْحُزْنِ (لَمْ يَدْخُلْ) أَيْ قُلُوبَهُمْ وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ لِشَيْءٍ وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لَهُ (مِنْ شَيْءٍ) أَيْ مِنَ الْأَشْيَاءِ المحزنة (فقالوا للنبي) أَيْ ذَكَرُوا لَهُ مَا دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ (سَمِعْنَا) أَيْ مَا أَمَرْتنَا بِهِ سَمَاعَ قَبُولٍ (فَأَلْقَى اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ) أَيْ أَحْكَمَهُ وَأَرْسَخَهُ فِيهَا وَانْدَفَعَ مَا كَانَ دَخَلَهَا آمَنَ أَيْ(8/269)
صدق الرسول أي محمد بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أَيِ الْقُرْآنُ وَالْمُؤْمِنُونَ عَطْفٌ عَلَى الرَّسُولِ (الْآيَةَ) بِالنَّصْبِ أَيْ أَتَمَّ الْآيَةَ وَتَمَامُهَا كُلٌّ آمَنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير لا يكلف نفسا إلا وُسْعَهَا أَيْ مَا تَسَعُهُ قُدْرَتُهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ مِنَ الْخَيْرِ أَيْ ثَوَابُهُ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت من الشر أي زوره رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا بِالْعِقَابِ أَيْ قُولُوا رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا أَيْ تَرَكْنَا الصَّوَابَ لَا عَنْ عَمْدٍ كَمَا أَخَذْتَ بِهِ مَنْ قَبْلَنَا وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ فَسُؤَالُهُ اعْتِرَافٌ بِنِعْمَةِ اللَّهِ (قَالَ قَدْ فَعَلْتَ) أَيْ لَا أُؤَاخِذُكُمْ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصرا يَثْقُلُ عَلَيْنَا حَمْلُهُ كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا أَيْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ فِي التَّوْبَةِ وَإِخْرَاجِ رُبْعِ الْمَالِ فِي الزَّكَاةِ وَقَرْضِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ (قَالَ قَدْ فَعَلْتُ) أَيْ لَا أَحْمِلُ عَلَيْكُمْ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا ما لا طاقة لنا به أَيْ لَا تُكَلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا لَا نُطِيقُ الْقِيَامَ بِهِ لِثِقَلِ حَمْلِهِ عَلَيْنَا
وَتَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا لَيْسَ فِي قُدْرَةِ الْعَبْدِ احْتِمَالُهُ كَتَكْلِيفِ الْأَعْمَى النَّظَرَ وَالزَّمِنَ الْعَدْوَ فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّكْلِيفِ الَّذِي لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ بِهِ عَبْدَهُ بِحَالٍ الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ هُوَ مَا فِي قُدْرَةِ الْعَبْدِ احْتِمَالُهُ مَعَ
الْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ وَالْكُلْفَةِ الْعَظِيمَةِ كَتَكْلِيفِ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ وَالْفَرَائِضِ الثَّقِيلَةِ كَمَا كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ صَلَاةُ اللَّيْلِ وَاجِبَةً وَنَحْوِهِ فَهَذَا الَّذِي سَأَلَ الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ لَا يُحَمِّلُهُمْ مَا لَا طَاقَةَ لهم به (الاية) تمامها مولانا فانصرنا على القوم الكافرين (قال قد فعلت) أي عفوت عنكم(8/270)
الوجه الثاني من تكليف مالا يُطَاقُ هُوَ مَا فِي قُدْرَةِ الْعَبْدِ احْتِمَالُهُ مع وَغَفَرْتُ لَكُمْ وَرَحِمْتُكُمْ وَنَصَرْتُكُمْ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ عن بن عَبَّاسٍ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ وَكَذَا الطَّبَرِيُّ كَمَا فِي الْفَتْحِ
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَفِيهِ) فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا الخ)
(باب وَمِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ)
هِيَ مَدَنِيَّةٌ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ بِالْإِجْمَاعِ وَهِيَ مِائَتَا آيَةٍ
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا أَبُو الْوَلِيدِ) اسْمُهُ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الطَّيَالِسِيُّ (أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) التَّسْتُرِيُّ بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ الْأُولَى وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ رَاءٌ نَزِيلُ الْبَصْرَةِ أَبُو سَعِيدٍ ثِقَةٌ ثَبَتَ إِلَّا فِي رِوَايَتِهِ عَنْ قَتَادَةَ فَفِيهَا لِينٌ مِنْ كِبَارِ السَّابِعَةِ
قَوْلُهُ (عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيات محكمات إِلَى آخِرِ الْآيَةِ بَقِيَّةُ الْآيَةِ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الألباب قَالَ الْحَافِظُ قِيلَ الْمُحْكَمُ(8/271)
مِنَ الْقُرْآنِ مَا وَضَحَ مَعْنَاهُ وَالْمُتَشَابِهُ نَقِيضُهُ وَسُمِّيَ الْمُحْكَمُ بِذَلِكَ لِوُضُوحِ مُفْرَدَاتِ كَلَامِهِ وَإِتْقَانِ تَرْكِيبِهِ بِخِلَافِ الْمُتَشَابِهِ وَقِيلَ الْمُحْكَمُ مَا عُرِفَ الْمُرَادُ مِنْهُ إِمَّا بِالظُّهُورِ وَإِمَّا بِالتَّأْوِيلِ وَالْمُتَشَابِهُ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ كَقِيَامِ السَّاعَةِ وَخُرُوجِ الدَّجَّالِ وَالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ غَيْرُ هَذِهِ نَحْوَ الْعَشَرَةِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ بَسْطِهَا وَمَا ذَكَرْتُهُ أَشْهَرُهَا وَأَقْرَبُهَا إِلَى الصَّوَابِ وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ الْأَخِيرَ هُوَ الصحيح عندنا وبن السَّمْعَانِيِّ أَنَّهُ أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ وَالْمُخْتَارُ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ جَرَى الْمُتَأَخِّرُونَ انْتَهَى
وَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ أَيْ هُنَّ أَصْلُ الْكِتَابِ الَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي الْأَحْكَامِ وَيُعْمَلُ بِهِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَالَ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَلَمْ يَقُلْ هُنَّ أُمَّهَاتُ الْكِتَابِ يُقَالُ لِأَنَّ الْآيَاتِ فِي اجْتِمَاعِهَا وَتَكَامُلِهَا كَالْآيَةِ الْوَاحِدَةِ وَكَلَامُ اللَّهِ كُلُّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَقِيلَ إِنَّ كُلَّ آيَةٍ منهن أم الكتاب كما قال وجعلنا بن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً يَعْنِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا آيَةٌ
فَإِنْ قِيلَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْكِتَابَ هُنَا مُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا وَجَعَلَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ كُلَّهُ مُحْكَمًا فَقَالَ فِي أَوَّلِ هُودٍ الر كتاب أحكمت آياته وَجَعَلَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ كُلَّهُ مُتَشَابِهًا فَقَالَ تَعَالَى فِي الزُّمَرِ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كتابا متشابها فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ يُقَالُ حَيْثُ جَعَلَهُ كُلَّهُ مُحْكَمًا أَرَادَ أَنَّهُ كُلَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ لَيْسَ فِيهِ عَبَثٌ وَلَا هَزْلٌ وَحَيْثُ جَعَلَهُ كُلَّهُ مُتَشَابِهًا أَرَادَ أَنَّ بَعْضَهُ يُشْبِهُ بَعْضًا فِي الْحُسْنِ وَالْحَقِّ وَالصِّدْقِ وَقَوْلُهُ فَأَمَّا الذين في قلوبهم زيغ أَيْ مَيْلٌ عَنِ الْحَقِّ وَقِيلَ الزَّيْغُ الشَّكُّ وَقَوْلُهُ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ أَيْ إِنَّمَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ بِالْمُتَشَابِهِ الَّذِي يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُحَرِّفُوهُ إِلَى مَقَاصِدِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَيُنْزِلُوهُ عَلَيْهَا لِاحْتِمَالِ لَفْظِهِ لِمَا يَصْرِفُونَهُ فَأَمَّا الْمُحْكَمُ فَلَا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهِ لِأَنَّهُ دَافِعٌ لَهُمْ وَحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ أَيِ الْإِضْلَالِ لِأَتْبَاعِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ عَلَى بِدْعَتِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ كَمَا قَالُوا احْتَجَّ النَّصَارَى بِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ نَطَقَ بِأَنَّ عِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وَتَرَكُوا الِاحْتِجَاجَ بِقَوْلِهِ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَبِقَوْلِهِ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ له كن فيكون وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّهُ خَلْقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ وَعَبْدٌ وَرَسُولٌ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ أَيْ تَحْرِيفِهِ عَلَى مَا يُرِيدُونَ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَمَا يعلم تأويله إلا الله اختلف القراء في الوقف ها هنا فقيل على الجلالة وهو قول بن عَبَّاسٍ وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عَائِشَةَ وَعُرْوَةَ وأبي الشعثاء وأبي نهيك وغيرهم واختار بن جَرِيرٍ هَذَا الْقَوْلَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقِفُ عَلَى قَوْلِهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَتَبِعَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلِ الْأُصُولِ وَقَالُوا الْخِطَابُ بِمَا لَا يُفْهَمُ بَعِيدٌ
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَصَّلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَقَالَ التَّأْوِيلُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ فِي الْقُرْآنُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا التَّأْوِيلُ بِمَعْنَى حَقِيقَةِ الشيء وما يؤول أَمْرُهُ إِلَيْهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَقَالَ يَا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل فإن(8/272)
أُرِيدَ بِالتَّأْوِيلِ هَذَا فَالْوَقْفُ عَلَى الْجَلَالَةِ لِأَنَّ حَقَائِقَ الْأُمُورِ وَكُنْهَهَا لَا يَعْلَمُهُ عَلَى الْجَلِيَّةِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَيَكُونُ قَوْلُهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مُبْتَدَأً وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ خَبَرَهُ
وَأَمَّا إِنْ أُرِيدَ بِالتَّأْوِيلِ الْمَعْنَى الْآخَرُ وَهُوَ التَّفْسِيرُ وَالْبَيَانُ وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ أَيْ بِتَفْسِيرِهِ فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَى فَالْوَقْفُ عَلَى وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ وَيَفْهَمُونَ مَا خُوطِبُوا بِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَإِنْ لَمْ يُحِيطُوا عِلْمًا بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى كُنْهِ مَا هِيَ عَلَيْهِ
وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ يقولون امنا به حال مِنْهُمْ وَسَاغَ هَذَا وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَعْطُوفِ دُونَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا أَيْ وَجَاءَ الْمَلَائِكَةُ صُفُوفًا صُفُوفًا وَقَوْلُهُ إِخْبَارًا عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ آمَنَا بِهِ أَيِ الْمُتَشَابِهِ
وَقَوْلُهُ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا أَيِ الْجَمِيعُ مِنَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُصَدِّقُ الْآخَرَ وَيَشْهَدُ لَهُ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِمُخْتَلِفٍ وَلَا مُتَضَادٍّ (فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ اللَّهُ) أَيْ أَهْلَ الزَّيْغِ أَوْ زَائِغِينَ بِقَوْلِهِ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ (فَاحْذَرُوهُمْ) أي لا تجالسوهم ولا تكالموهم أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
وَالْمَقْصُودُ التَّحْذِيرُ مِنَ الْإِصْغَاءِ إِلَى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ مِنَ الْقُرْآنِ
وَأَوَّلُ مَا ظهر ذلك من اليهود كما ذكره بن إِسْحَاقَ فِي تَأْوِيلِهِمُ الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ وَأَنَّ عَدَدَهَا بِالْجُمَلِ مِقْدَارُ مُدَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ثُمَّ أَوَّلُ مَا ظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْخَوَارِجِ حَتَّى جاء عن بن عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسَّرَ بِهِمُ الْآيَةَ وَقِصَّةُ عُمَرَ في إنكاره على ضبيع لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُ يَتَّبِعُ الْمُتَشَابِهَ فَضَرَبَهُ عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى أَدْمَاهُ أَخْرَجَهَا الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ ومسلم وأبو داود وبن ماجه
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ وَهُوَ الْخَزَّازُ) بِمُعْجَمَاتٍ اسْمُهُ صَالِحُ بْنُ رُسْتُمَ (وَيَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هو التستري(8/273)
قَوْلُهُ (فَإِذَا رَأَيْتِيهِمْ فَاعْرِفِيهِمْ) أَيْ وَاحْذَرِيهِمْ خِطَابٌ لِأُمِّ الْمُؤْمِنَينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (وَقَالَ يَزِيدُ) أَيْ فِي رِوَايَتِهِ (فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَاعْرِفُوهُمْ) أَيْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ الْمُخَاطَبِ (قَالَهَا) أَيْ قال رسول الله هذه الكلمة
قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ) قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ بَعْدَ نَقْلِ كَلَامِ الترمذي هذا قد أخرجه بن أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيِّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ جميعا عن بن أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ الْقَاسِمِ فَلَمْ يَنْفَرِدْ يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْقَاسِمِ انْتَهَى
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ) هُوَ الزُّبَيْرِيُّ (أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ (عَنْ أَبِيهِ) اسْمُهُ سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ (عَنْ أَبِي الضُّحَى) اسْمُهُ مُسْلِمُ بْنُ صُبَيْحٍ بِالتَّصْغِيرِ الْهَمْدَانِيُّ الْكُوفِيُّ الْعَطَّارُ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ ثِقَةٌ فَاضِلٌ مِنَ الرابعة (عن عبد الله) أي بن مَسْعُودٍ
قَوْلُهُ (إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلَاةً) بِضَمِّ الْوَاوِ جَمْعُ وَلِيٍّ
قَالَ التُّورْبِشْتِيُّ أَيْ أَحِبَّاءَ وقرناءهم أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ حَالٌ مِنَ الْوُلَاةِ أَيْ كَائِنِينَ مِنَ النَّبِيِّينَ (وَإِنَّ وَلِيِّي أَبِي) يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ (وَخَلِيلُ رَبِّي) خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ لأن (ثُمَّ قَرَأَ) أَيِ اسْتِشْهَادًا إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ أَيْ أَحَقَّهُمْ بِهِ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ أَيْ في زمانه(8/274)
وَهَذَا النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ لِمُوَافَقَتِهِ لَهُ فِي أَكْثَرِ شَرْعِهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَيْ مِنْ أُمَّتِهِ فَهُمُ الَّذِينَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولُوا نَحْنُ عَلَى دِينِهِ لَا أَنْتُمْ واللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنَينَ أَيْ نَاصِرُهُمْ وَحَافِظُهُمْ
فَإِنْ قُلْتَ لَزِمَ مِنْ قَوْلِهِ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلَاةً أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْلِيَاءُ مُتَعَدِّدَةٌ
قُلْتُ لَا لِأَنَّ النَّكِرَةَ إِذَا وَقَعَتْ فِي مَكَانِ الْجَمْعِ أَفَادَتِ الِاسْتِغْرَاقَ أَيْ أَنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ وَاحِدًا وَاحِدًا
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ) اسْمُهُ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ
وَحَدِيثُ أَبِي الضُّحَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هَذَا أَخْرَجَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ
قَوْلُهُ (عَنْ عبد الله) أي بن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ الْمُرَادُ بِالْيَمِينِ هُنَا الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مَجَازًا (وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ) أَيْ كَاذِبٌ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَيْ لِيَفْصِلَ قِطْعَةً مِنْ مَالِهِ وَيَأْخُذَهَا بِتِلْكَ الْيَمِينِ لَقِيَ اللَّهَ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ أَيْ يُعْرِضُ عَنْهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الرَّحْمَةِ وَالْعِنَايَةِ وَغَضْبَانُ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ وَهُوَ صِيغَةُ مبالغة قاله القارىء
قُلْتُ لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَفْظَ غَضْبَانُ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ وَكَيْفِيَّةُ غَضَبِهِ تَعَالَى مَوْكُولَةٌ إِلَيْهِ (فِيَّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ فِي شَأْنِي وَحَالِي (كَانَ ذَلِكَ) أي قوله مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ إِلَخْ (كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَرْضٌ) أَيْ مُتَنَازَعٌ فِيهَا (فَجَحَدَنِي) أَيْ أَنْكَرَ عَلَيَّ (فَقَدَّمْته) بِالتَّشْدِيدِ أَيْ جِئْتَ بِهِ وَرَفَعْتَ أَمْرَهُ (أَلَكَ بَيِّنَةٌ) أَيْ شُهُودٌ (فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ احْلِفْ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ يَحْلِفُ فِي الْخُصُومَاتِ كَمَا يَحْلِفُ الْمُسْلِمُ (وَإِذَنْ) بِالنُّونِ (يَحْلِفَ) بِالنَّصْبِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ(8/275)
قَالَ الطِّيبِيُّ فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ يُطَابِقُ نُزُولَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ إِذَنْ يَحْلِفَ فَيَذْهَبَ بِمَالِي قُلْتَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا كَأَنَّهُ قِيلَ لِلْأَشْعَثِ لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِ إِلَّا الْحَلِفُ فَإِنْ كَذَبَ فَعَلَيْهِ وَبَالُهُ
وَثَانِيهمَا لَعَلَّ الْآيَةَ تَذْكَارٌ لِلْيَهُودِيِّ بِمِثْلِهَا فِي التَّوْرَاةِ مِنَ الْوَعِيدِ
وَالْآيَةُ بِتَمَامِهَا مع تفسيرها هكذا إن الذين يشترون يستبد لون بعهد الله إليهم بالإيمان بالنبي وأداء الأمانة وأيمانهم حلفهم به تعالى كاذبا ثَمَنًا قَلِيلًا مِنَ الدُّنْيَا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ نَصِيبَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ غَضَبًا عَلَيْهِمْ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَرْحَمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ يُطَهِّرُهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ مُؤْلِمٌ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وبن ماجه
قوله (وفي الباب عن بن أَبِي أَوْفَى) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا أَقَامَ سِلْعَةً فِي السُّوقِ فَحَلَفَ بِهَا لَقَدْ أعطى بها ما لم يعطه لِيُوقِعَ فِيهَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ
قَالَ الْحَافِظُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى وَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ النُّزُولَ كَانَ بِالسَّبَبَيْنِ جَمِيعًا وَلَفْظُ الْآيَةِ أَعُمُّ مِنْ ذَلِكَ وَلِهَذَا وَقَعَ فِي صَدْرِ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) هُوَ الْكَوْسَجُ (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ) الْبَاهِلِيُّ أَبُو وَهْبٍ الْبَصْرِيُّ نَزِيلُ بَغْدَادَ امْتَنَعَ مِنَ الْقَضَاءِ ثِقَةٌ حَافِظٌ مِنَ التَّاسِعَةِ
قَوْلُهُ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ أَيْ ثَوَابَهُ وَهُوَ الْجَنَّةُ حَتَّى تُنْفِقُوا أَيْ تَصَدَّقُوا(8/276)
مِمَّا تُحِبُّونَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ أَوْ لِلشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ بِإِنْفَاقِ ماله في سبيل الله قرضا حسنا بأنه يُنْفِقُهُ لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ طِيبِ قَلْبٍ (وَكَانَ لَهُ حَائِطٌ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَالْحَائِطُ الْبُسْتَانُ مِنَ النَّخِيلِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ حَائِطٌ وَهُوَ الْجِدَارُ وَكَانَ اسْمُ هَذَا الْحَائِطِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَ هُوَ مِنْ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ (حَائِطِي لِلَّهِ) أَيْ وَقْفٌ لِلَّهِ أَوْ صَدَقَةٌ لِلَّهِ (وَلَوِ اسْتَطَعْتُ أَنْ أُسِرَّهُ) مِنَ الْإِسْرَارِ أَيْ لَوْ قَدَرْتَ عَلَى إِخْفَاءِ هَذَا التَّصَدُّقِ (لَمْ أُعْلِنْهُ) أَيْ لَمْ أُظْهِرْهُ (فَقَالَ اجْعَلْهُ فِي قَرَابَتِكَ أَوْ أقربيك) الظاهر أَنَّ أَوْ لِلشَّكِّ وَفِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ) الْخُوزِيُّ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَبِالزَّايِ أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْمَكِّيُّ مَوْلَى بَنِي أُمَيَّةَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ مِنَ السَّابِعَةِ (سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ) هُوَ الْمَخْزُومِيُّ
قَوْلُهُ (قَامَ رَجُلٌ إِلَى النبي فَقَالَ مَنِ الْحَاجُّ) أَيِ الْكَامِلُ (قَالَ الشَّعِثُ) بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ أَيِ الْمُغْبَرُّ الرَّأْسِ مِنْ عَدَمِ الْغَسْلِ مُفَرَّقُ الشَّعْرِ مِنْ عَدَمِ الْمَشْطِ وَحَاصِلُهُ تَارِكُ الزِّينَةِ (التَّفِلُ) بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ تَارِكُ الطِّيبِ فَيُوجَدُ مِنْهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ مِنْ تَفَلَ الشَّيْءَ مِنْ فِيهِ إِذَا رَمَى بِهِ مُتَكَرِّهًا لَهُ (فَقَامَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ أَيُّ الْحَجِّ) أَيُّ أَعْمَالِهِ أَوْ خِصَالِهِ بَعْدَ أَرْكَانِهِ (أَفْضَلُ) أَيْ أَكْثَرُ ثَوَابًا (قَالَ الْعَجُّ وَالثَّجُّ) بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ فِيهِمَا وَالْأَوَّلُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ وَالثَّانِي سَيَلَانُ دِمَاءِ الْهَدْيِ وَقِيلَ دِمَاءُ الْأَضَاحِيِّ
قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَنْ نَفْسِ الْحَجِّ وَيَكُونَ الْمُرَادُ مَا فِيهِ الْعَجُّ وَالثَّجُّ وَقِيلَ عَلَى هَذَا يُرَادُ بِهِمَا الِاسْتِيعَابُ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَوَّلَهُ الَّذِي هُوَ الْإِحْرَامُ وَآخِرَهُ الَّذِي هُوَ التَّحَلُّلُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ اقْتِصَارًا بِالْمَبْدَأِ وَالْمُنْتَهَى عَنْ سَائِرِ الْأَفْعَالِ أَيِ الَّذِي اسْتَوْعَبَ جَمِيعَ أَعْمَالِهِ مِنَ الْأَرْكَانِ وَالْمَنْدُوبَاتِ (فَقَامَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ مَا السَّبِيلُ) أَيِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (قَالَ الزاد والراحلة) أي بحسب بالمبدأ والمنتهي عن سائر الأفعال(8/277)
مَا يَلِيقَانِ بِكُلِّ أَحَدٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْوَسَطُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالِ الْحَاجِّ
قَوْلُهُ (قَوْلُهُ هَذَا حَدِيثٌ إِلَخْ) وَأَخْرَجَهُ الْبَغَوِيُّ فِي شرح السنة وبن مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْفَصْلَ الْأَخِيرَ كَذَا فِي الْمِشْكَاةِ
وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ الْفَصْلَ الْأَخِيرَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ فِي كِتَابِ الْحَجِّ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ مَبْسُوطًا
قَوْلُهُ (عَنْ بَكِيرِ) بِضَمِ الْمُوَحَّدَةِ مُصَغَّرًا (بْنِ مِسْمَارٍ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ الزُّهْرِيُّ الْمَدَنِيُّ كُنْيَتُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ صَدُوقٌ مِنَ الرَّابِعَةِ (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ
قَوْلُهُ (قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ) أَيِ الْمُسَمَّاةُ بِآيَةِ الْمُبَاهَلَةِ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ إِلَخ الْآيَةِ بِتَمَامِهَا مَعَ تَفْسِيرِهَا هَكَذَا فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ أَيْ فَمَنْ جَادَلَكَ فِي عِيسَى وَقِيلَ فِي الْحَقِّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ يَعْنِي بِأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَقُلْ تَعَالَوْا أَيْ هَلُمُّوا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ أَيْ يَدْعُ كل منا ومنكم أبناءه وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلُ أَيْ نَتَضَرَّعُ فِي الدُّعَاءِ فَنَجْعَلُ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الكاذبين بأن تقول اللَّهُمَّ الْعَنِ اْلكَاذِبَ فِي شَأْنِ عِيسَى (دَعَا رسول الله عليا) فَنَزَّلَهُ مَنْزِلَةَ نَفْسِهِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْقَرَابَةِ وَالْأُخُوَّةِ (وَفَاطِمَةَ) أَيْ لِأَنَّهَا أَخَصُّ النِّسَاءِ
مِنْ أقاربه (وحسنا وحسينا) فنزلهما بمنزلة ابنيه (فَقَالَ اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي)
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ لَمَّا أورد رسول الله الدَّلَائِلَ عَلَى نَصَارَى نَجْرَانَ ثُمَّ إِنَّهُمْ أَصَرُّوا على جهلهم قال (إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي إِنْ لَمْ تَقْبَلُوا الْحُجَّةَ أَنْ أُبَاهِلَكُمْ
فَقَالُوا يَا أَبَا الْقَاسِمِ بَلْ نَرْجِعُ فَنَنْظُرُ فِي أَمْرِنَا ثُمَّ(8/278)
نَأْتِيكَ فَلَمَّا رَجَعُوا قَالُوا لِلْعَاقِبِ
وَكَانَ ذَا رَأْيِهِمْ يَا عَبْدَ الْمَسِيحِ مَا تَرَى قَالَ وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتُمْ يَا مَعْشَرَ النَّصَارَى أَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيُّ مُرْسَلٌ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْكَلَامِ الْفَصْلِ مِنْ أَمْرِ صَاحِبِكُمْ وَاللَّهِ مَا بَاهَلَ قَومٌ نَبِيًّا قَطْ فَعَاشَ كَبِيرُهُمْ وَلَا نَبَتَ صَغِيرُهُمْ وَلَئِنْ فَعَلْتُمْ لَكَانَ الِاسْتِئْصَالَ فَإِنْ أَبَيْتُمْ إِلَا الْإِصْرَارَ عَلَى دِينِكُمْ وَالْإِقَامَةَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فَوَادِعُوا الرَّجُلَ وَانْصَرِفُوا إِلَى بِلَادِكُمْ فَأَتَوْا رسول الله وقد خرج وعليه مرط من شعر أسود وكان قَدِ احْتَضَنَ الْحُسَيْنَ وَأَخَذَ بِيَدِ الْحَسَنِ وَفَاطِمَةَ تمشي خلفه وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَلْفَهَا وَهُوَ يَقُولُ إِذَا دَعَوْتُ فَأَمِّنُوا
فَقَالَ أُسْقُفُ نَجْرَانَ يَا مَعْشَرَ النَّصَارَى إِنِّي لَأَرَى وُجُوهًا لَوْ دَعَتِ اللَّهَ أَنْ يُزِيلَ جَبَلًا مِنْ مَكَانِهِ لَأَزَالَهُ بها فلا تباهلوا فتهلكوا ولا تبقى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ نَصْرَانِيٌّ إِلَى يَوْمِ الْقِيامَةِ
ثُمَّ قَالُوا يَا أَبَا الْقَاسِمِ رَأَيْنَا أَنْ لَا نُبَاهِلَكَ وَأَنْ نُقِرَّكَ عَلَى دِينِكَ فَقَالَ فَإِذَا أَبَيْتُمِ الْمُبَاهَلَةَ فَأَسْلِمُوا يَكُنْ لَكُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْكُمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَبَوْا فَقَالَ فإني أناجزكم فَقَالُوا مَا لَنَا بِحَرْبِ الْعَرَبِ الْمُسْلِمِينَ طَاقَةٌ وَلَكِنْ نُصَالِحُكَ أَنْ لَا تَغْزُونَا وَلَا تَرُدَّنَا عَنْ دِينِنَا عَلَى أَنْ نُؤَدِّيَ إِلَيْكَ كُلْ عَامٍ أَلْفَيْ حُلَّةً أَلْفًا فِي صَفَرَ وَأَلْفًا فِي رَجَبَ وَثَلَاثِينَ دِرْعًا عَادِيَةً مِنْ حَدِيدٍ فصالحهم على ذلك
قال
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الْهَلَاكَ قَدْ تَدَلَّى عَلَى أَهْلِ نَجْرَانَ وَلَوْ لَاعَنُوا لَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ وَلَاضَطَرَمَ عَلَيْهِمُ الْوَادِي نَارًا وَلَاسْتَأْصَلَ اللَّهُ نَجْرَانَ وَأَهْلَهُ حَتَّى الطَّيْرَ عَلَى رُؤُوسِ الشَّجَرِ وَلَمَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَى النَّصَارَى كُلِّهِمْ حَتَّى يَهْلَكُوا
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مُطَوَلًا وَكَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُطَوَلًا في مناقب علي
قوله (وهو بن صَبِيحٍ) بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ
السَّعْدِيُّ الْبَصْرِيُّ صَدُوقٌ سيىء الْحِفْظِ وَكَانَ عَابِدًا مُجَاهِدًا
قَوْلُهُ (رَأَى أَبُو أُمَامَةَ رُؤوسًا) جَمْعُ رَأْسٍ (مَنْصُوبَةً عَلَى دَرَجِ دِمَشْقَ) أَيْ عَلَى دَرَجِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ الدَّرَجُ الطَّرِيقُ وَجَمْعُهُ الْأَدْرَاجُ وَالدَّرَجَةُ الْمِرْقَاةُ وَجَمْعُهُ الدَّرَجُ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا
أَيْ رَأَى أَبُو أُمَامَةَ رؤوس الْمَقْتُولِينَ مِنَ الْخَوَارِجِ رُفِعَتْ عَلَى دَرَجِ دِمَشْقَ (كِلَابُ النَّارِ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ أَصْحَابُ هذا الرؤوس كِلَابُ النَّارِ (شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ) خَبَرٌ آخِّرَ لِلْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ(8/279)
خَيْرُ قَتْلَى مُبْتَدَأٌ (قَتَلُوهُ) خَبَرُهُ وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي قَتَلُوهُ رَاجِعٌ إِلَى أَصْحَابِ الرُّؤُوسِ وَالْمَنْصُوبُ إِلَى مَنْ (ثُمَّ قَرَأَ) أَيْ أَبُو أُمَامَةَ يوم تبيض وجوه وتسود وجوه إِلَى آخِرِ الْآيَةِ أَيْ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رحمة الله هم فيها خالدون
قَالَ فِي الْمَجْمَعِ أَرَادَ بِالْآيَةِ (فَأَمَّا الَّذِينَ أسودت وجوههم وَأَرَادَ بِهِ الْخَوَارِجَ وَقِيلَ هُمُ الْمُرْتَدُّونَ
وَقِيلَ الْمُبْتَدِعُونَ)
قُلْتُ قَائِلُهُ أَبُو غَالِبٍ (أَنْتَ سَمِعْتَهُ) بِتَقْدِيرِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ أَيْ هَلْ أَنْتَ سَمِعْتَهُ (مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ) أَيْ بَلْ سَمِعْتُهُ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِ مَرَّاتٍ وَلَيْسَ لِي فِي سَمَاعِهِ مِنْهُ شَكٌّ أَصْلًا فَلِذَلِكَ حَدَّثْتُكُمُوهُ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حسن) وأخرجه أحمد وبن ماجه ولفظ بن مَاجَهْ هَكَذَا شَرُّ قَتْلَى قُتِلُوا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ وَخَيْرُ قَتْلَى مَنْ قَتَلُوا كِلَابُ النَّارِ قَدْ كَانَ هَؤُلَاءِ مُسْلِمِينَ فَصَارُوا كُفَّارًا
قُلْتُ يَا أَبَا أُمَامَةَ هَذَا شَيْءٌ تَقُولُهُ قَالَ بل سمعته من رسول الله ولفظ أحمد لما أتى برؤوس الْأَزَارِقَةِ فَنُصِبَتْ عَلَى دَرَجِ دِمَشْقَ جَاءَ أَبُو أُمَامَةَ فَلَمَّا رَآهُمْ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ كِلَابُ النَّارِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ هَؤُلَاءِ شَرُّ قَتْلَى قُتِلُوا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ وَخَيْرُ قَتْلَى قُتِلُوا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ هَؤُلَاءِ قَالَ فَقُلْتُ فَمَا شَأْنُكَ دَمَعَتْ عَيْنَاك قَالَ رَحْمَةً لَهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الْحَدِيثَ وَالْأَزَارِقَةُ مِنَ الْخَوَارِجِ نُسِبُوا إِلَى نَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ كَذَا فِي الْقَامُوسِ وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ جِيءَ برؤوس مِنْ قِبَلِ الْعِرَاقِ فَنُصِبَتْ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ وَجَاءَ أَبُو أُمَامَةَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمْ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ شَرُّ قَتْلَى الْحَدِيثَ (وَأَبُو غَالِبٍ اسْمُهُ حَزَوَّرٌ) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَآخِرُهُ رَاءٌ (وَأَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ اسْمُهُ صُدَيٌّ) بِالتَّصْغِيرِ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ سَكَنَ الشَّامَ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ(8/280)
قَوْلُهُ (فِي قَوْلِهِ تَعَالَى) أَيْ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى (كُنْتُمْ) يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى (خَيْرَ أُمَّةٍ) أَيْ خَيْرَ الْأُمَمِ (أُخْرِجَتْ) أَيْ أُظْهِرَتْ (قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ (إِنَّكُمْ تُتِمُّونَ) بِضَمٍّ فَكَسْرٍ فَتَشْدِيدٍ مِنَ الْإِتْمَامِ أَيْ تُكْمِلُونَ (سَبْعِينَ أُمَّةً) أَيْ يَتِمُّ الْعَدَدُ بِكُمْ سَبْعِينَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لِلتَّكْثِيرِ قَالَهُ الْمُنَاوِيُّ فَقَالَ الطِّيبِيُّ الْمُرَادُ بِسَبْعِينَ التَّكْثِيرُ لَا التَّحْدِيدُ لِيُنَاسِبَ إِضَافَةَ الْخَيْرِ إِلَى الْمُفْرَدِ النَّكِرَةِ لِأَنَّهُ لِاسْتِغْرَاقِ الْأُمَمِ الْفَائِتَةِ لِلْحَصْرِ بِاعْتِبَارِ أَفْرَادِهَا أَيْ إذا نقصت أمة أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ كُنْتُمْ خَيْرَهَا وَتُتِمُّونَ عِلَّةٌ لِلْخَيْرِيَّةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْخَتْمُ فَكَمَا أَنَّ نَبِيَّكُمْ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ أَنْتُمْ خَاتَمُ الْأُمَمِ انْتَهَى
وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تعالى (كنتم خير أمة) أمة النبي عامة
قال الحافظ بن كَثِيرٍ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِأَنَّهُمْ خَيْرُ الْأُمَمِ
فَقَالَ تَعَالَى كُنْتُمْ خَيْرَ أمة أخرجت للناس رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه (كنتم خير أمة أخرجت للناس) قَالَ خَيْرُ النَّاسِ لِلنَّاسِ تَأْتُونَ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ
وهكذا قال بن عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ وَعِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) يَعْنِي خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ خَيْرُ الْأُمَمِ وَأَنْفَعُ النَّاسِ لِلنَّاسِ وَلِهَذَا قَالَ (تَأْمُرُونَ بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) وَرَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ والحاكم في مستدركه عن بن عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أخرجت للناس) قَالَ هُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ
وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأُمَّةِ كُلُّ قَرْنٍ بِحَسْبِهِ وَخَيْرُ قُرُونِهِمُ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ رَسُولُ الله ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسطا أَيْ خِيَارًا (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) الْآيَةَ إِنَّمَا حَازَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ قَصَبَ السَّبْقِ إِلَى الْخَيْرَاتِ بِنَبِيِّهَا مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَإِنَّهُ أَشْرَفُ خَلْقِ اللَّهِ وَأَكْرَمُ الرُّسُلِ عَلَى اللَّهِ وَبَعَثَهُ اللَّهُ بِشَرْعٍ كَامِلٍ عَظِيمٍ لَمْ يُعْطَهُ نَبِيٌّ قَبْلَهُ وَلَا رَسُولٌ مِنَ الرُّسُلِ فَالْعَمَلُ عَلَى مِنْهَاجِهِ وَسَبِيلِهِ يَقُومُ الْقَلِيلُ مِنْهُ مَا لَا يَقُومُ الْعَمَلُ الْكَثِيرُ مِنْ أَعْمَالِ غيرهم مقامه انتهى كلام الحافظ بن كَثِيرٍ مُلَخَّصًا
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ أحمد وبن مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ
قَالَ الْحَافِظُ هُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ وَقَدْ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي سَعِيدٍ نَحْوِهِ(8/281)
قَوْلُهُ (كُسِرَتْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (رَبَاعِيَتُهُ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ الرَّبَاعِيَةُ كَثَمَانِيَةٍ السِّنُّ الَّتِي بَيْنَ الثَّنِيَّةِ وَالنَّابِ
وَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ الْمُرَادُ بِكَسْرِ الرَّبَاعِيَةِ وَهِيَ السِّنُّ الَّتِي بَيْنَ الثَّنِيَّةِ وَالنَّابِ أنها كسرت فذهب مِنْهَا فَلْقَةٌ وَلَمْ تُقْلَعْ مِنْ أَصْلِهَا (وَشُجَّ) عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَالشَّجُّ ضَرْبُ الرَّأْسِ خَاصَّةً وَجَرْحُهُ وَشَقُّهُ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِهِ (وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (فَنَزَلَتْ لَيْسَ لَكَ إِلَخْ) هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ شُجَّ وجه رسول الله
وَقَالَ كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ
وروى البخاري وغيره عن بن عمر
أنه سمع رسول الله إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ مِنَ الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِنَ الْفَجْرِ يَقُولُ اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا بَعْدَ مَا يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ فَأَنْزَلَ الله (ليس لك إلخ) وحديث بن عُمَرَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مَنْعِ اللَّعْنِ عَلَى الْكُفَّارِ فِي قُنُوتِ الْفَجْرِ
قَالَ الْحَافِظُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا فَإِنَّهُمَا كَانَا فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ قَالَ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ وَأَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هريرة نحو حديث بن عُمَرَ لَكِنْ فِيهِ اللَّهُمَّ الْعَنْ لِحْيَانَ وَرِعْلًا وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ قَالَ ثُمَّ بَلَغَنَا أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لَمَّا نَزَلَتْ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شيء قَالَ وَهَذَا إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ نُزُولُ الْآيَةِ تَرَاخَى عَنْ قِصَّةِ أُحُدٍ لِأَنَّ قِصَّةَ رِعْلٍ وَذَكْوَانَ كَانَتْ بَعْدَهَا وَفِيهِ بُعْدٌ وَالصَّوَابُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الَّذِينَ دَعَا عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ قِصَّةِ أُحُدٍ انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شيء أَيْ لَسْتَ تَمْلِكُ إِصْلَاحَهُمْ وَلَا تَعْذِيبَهُمْ بَلْ ذَلِكَ مِلْكُ اللَّهِ فَاصْبِرْ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ بِالْإِسْلَامِ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالنَّهْبِ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ بِالْكُفْرِ
وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ مَالِكُ أَمْرِهِمْ يَصْنَعُ بِهِمْ مَا يَشَاءُ مِنَ الْإِهْلَاكِ أَوِ الْهَزِيمَةِ أَوِ التَّوْبَةِ إِنْ أَسْلَمُوا أَوِ الْعَذَابِ إِنْ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ
قَالَ الْفَرَّاءُ أَوْ بِمَعْنَى إِلَّا وَالْمَعْنَى إِلَّا أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ فَتَفْرَحَ بِذَلِكَ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَتَشْتَفِي بِهِمْ
وَقَالَ السُّيُوطِيُّ أَوْ بِمَعْنَى إِلَى أَنْ يَعْنِي غَايَةً فِي الصَّبْرِ أَيْ إِلَى أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ ومسلم والنسائي(8/282)
قَوْلُهُ (سَمِعْتُ عَبْدَ بْنَ حُمَيْدٍ يَقُولُ غَلِطَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ فِي هَذَا) أَيْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ غَلِطَ فِي قَوْلِهِ وَرُمِيَ رَمْيَةً عَلَى كَتِفِهِ
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ بَشِيرٍ) الْمَخْزُومِيُّ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ أَبُو بَكْرٍ الْكُوفِيُّ وَوَقَعَ فِي النُّسْخَةِ الْأَحْمَدِيَّةِ أَحْمَدُ بْنُ بِشْرٍ وَهُوَ غَلَطٌ (عَنْ عُمَرَ بن حمزة بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْعُمَرِيِّ الْمَدَنِيِّ ضَعِيفٌ مِنَ السَّادِسَةِ)
قَوْلُهُ (اللَّهُمَّ الْعَنْ أَبَا سُفْيَانَ) اسْمُهُ صَخْرُ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ الْأُمَوِيُّ وَالِدُ مُعَاوِيَةَ وَإِخْوَتِهِ كَانَ رَئِيسَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ وَرَئِيسَ الْأَحْزَابِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أسلم زمن الفتح ولقي النبي بِالطَّرِيقِ قَبْلَ دُخُولِ مَكَّةَ وَشَهِدَ حُنَيْنًا وَالطَّائِفَ (اللَّهُمَّ الْعَنِ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ) بْنِ الْمُغِيرَةِ الْقُرَشِيَّ الْمَخْزُومِيَّ شَهِدَ بَدْرًا كَافِرًا مَعَ أَخِيهِ شَقِيقِهِ أَبِي جَهْلٍ وَفَرَّ حِينَئِذٍ وَقُتِلَ أَخُوهُ
ثُمَّ غَزَا أُحُدًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ أَيْضًا ثُمَّ أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ
وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ وَخِيَارِهِمْ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ مُجَاهِدًا وَلَمْ يَزَلْ فِي الْجِهَادِ حَتَّى مَاتَ فِي طَاعُونِ عَمْوَاسَ سَنَةَ ثَمَانِي عَشْرَ
(اللَّهُمَّ الْعَنْ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ) بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيَّ الْقُرَشِيَّ هَرَبَ يَوْمَ الْفَتْحِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رسول الله فَشَهِدَ مَعَهُ حُنَيْنًا وَالطَّائِفَ وَهُوَ كَافِرٌ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَانَ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ وَشَهِدَ اليرموك(8/283)
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَكَذَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخٍ التِّرْمِذِيِّ بَعْدَ هَذَا هَذِهِ الْعِبَارَةُ لَمْ يَعْرِفْهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ حَمْزَةَ وَعَرَفَهُ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ) حَدِيثُ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ عن نافع عن بن عُمَرَ هَذَا أَخْرَجَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ
قَوْلُهُ (يَقُولُ إِنِّي كُنْتَ رَجُلًا إِذَا سَمِعْتُ من رسول الله حَدِيثًا إِلَخْ) تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ بِإِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ عِنْدَ التَّوْبَةِ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هناك(8/284)
قَوْلُهُ (إِلَّا يَمِيدُ) أَيْ يَمِيلُ مِنْ مَادَ يَمِيدُ مَيْدًا وَمَيَدَانًا إِذَا تَحَرَّكَ وَزَاغَ (تَحْتَ حَجَفَتِهِ) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ أَيْ تُرْسِهِ
قَالَ فِي الْقَامُوسِ الْحَجَفُ مُحَرَّكَةً التُّرُوسُ مِنْ جُلُودٍ بِلَا خَشَبٍ وَلَا عَقِبٍ وَاحِدَتُهَا حَجَفَةٌ (مِنَ النُّعَاسِ) بِضَمِّ النُّونِ وَهُوَ الْوَسَنُ أَوْ فَتْرَةٌ فِي الْحَوَاسِّ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بعد الغم أَرَادَ بِهِ الْغَمَّ الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ عِنْدَ الِانْهِزَامِ (أَمَنَةً) الْأَمَنَةُ وَالْأَمْنُ سَوَاءٌ وَقِيلَ الْأَمَنَةُ إِنَّمَا تَكُونُ مَعَ بَقَاءِ أَسْبَابِ الْخَوْفِ وَالْأَمْنُ مَعَ عَدَمِهِ
وَكَانَ سَبَبُ الْخَوْفِ بَعْدُ بَاقِيًا (نُعَاسًا) وَهُوَ أَخَفُّ مِنَ النَّوْمِ بَدَلُ كُلٍّ أَوِ اشْتِمَالٍ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) كَذَا فِي النُّسْخَةِ الْأَحْمَدِيَّةِ وَهُوَ غَلَطٌ وَالصَّحِيحُ عَنِ الزُّبَيْرِ بِحَذْفِ لَفْظَةِ أَبِي
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
قَوْلُهُ (وَنَحْنُ فِي مَصَافِّنَا) الْمَصَافُّ بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ جَمْعُ مَصَفٍّ وَهُوَ الْمَوْقِفُ فِي الْحَرْبِ (حَدَّثَ(8/285)
أَيْ أَبُو طَلْحَةَ (أَجْبَنَ قَوْمٍ) مِنَ الْجُبْنِ وَهُوَ ضِدُّ الشَّجَاعَةِ (وَأَرْعَبَهُ) مِنَ الرُّعْبِ وَهُوَ الْخَوْفُ وَالْفَزَعُ (وَأَخْذَلَهُ) مِنَ الْخَذْلِ وَهُوَ تَرْكُ الْإِعَانَةِ وَالنُّصْرَةِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ
قَوْلُهُ (فِي قَطِيفَةٍ) هِيَ كِسَاءٌ لَهُ خَمْلٌ (افْتُقِدَتْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ طُلِبَتْ بَعْدَ غِيبَتِهَا
قَالَ فِي الْقَامُوسِ افْتَقَدَهُ وَتَفَقَّدَهُ طَلَبَهُ عِنْدَ غَيْبَتِهِ (فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ) رَوَى بن مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ عن مجاهد عن بن عباس قال اتهم المنافقون رسول الله بِشَيْءٍ فُقِدَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا كَانَ لنبي أن يغل (وما كان لنبي أن يغل) أَيْ مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَخُونَ فِي الْغَنَائِمِ فَإِنَّ النُّبُوَّةَ تُنَافِي الْخِيَانَةَ يُقَالُ غَلَّ شَيْئًا مِنَ الْمَغْنَمِ يَغُلُّ غُلُولًا وَأَغَلَّ إِغْلَالًا إِذَا أَخَذَهُ خُفْيَةً
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وبن جرير وبن أَبِي حَاتِمٍ
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَثِيرٍ الْأَنْصَارِيُّ) الْحَرَامِيُّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ المدني صدوق يخطىء مِنَ الثَّامِنَةِ (سَمِعْتُ طَلْحَةَ بْنِ خِرَاشً) بِكَسْرِ المعجمة بعدها راء بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْصَارِيَّ الْمَدَنِيَّ صَدُوقٌ مِنَ الرَّابِعَةِ
قَوْلُهُ (مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا) وَفِي رِوَايَةِ بن مَرْدَوَيْهِ مُهْتَمًّا (فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا) أَيْ مُوَاجِهَةً لَيْسَ(8/286)
بَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَلَا رَسُولٌ (تُحْيِينِي) مِنَ الْإِحْيَاءِ مُضَارِعٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ أَيْ أَحْيِنِي (ثَانِيَةً) أَيْ مَرَّةً ثَانِيَةً (قَالَ الرَّبُّ تَبَارَكَ تَعَالَى إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) زَادَ في رواية بن مردويه قال أَيْ رَبِّ فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي
قَوْلُهُ (هَذَا حديث حسن غريب) وأخرجه بن مَرْدَوَيْهِ (هَكَذَا عَنْ مُوسَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ) أَيْ مُطَوَّلًا (وَقَدْ رَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرٍ شَيْئًا مِنْ هَذَا) أَيْ مُخْتَصَرًا وَرِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ هَذِهِ وَصَلَهَا أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ
قَوْلُهُ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ) هُوَ الهمداني
قوله (فقال) أي بن مَسْعُودٍ (أَمَا) بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا) أي رسول الله (عَنْ ذَلِكَ) أَيْ عَنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ (فَأَخْبَرَنَا) وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَقَالَ
قَالَ النَّوَوِيُّ هَذَا الْحَدِيثُ مَرْفُوعٌ لِقَوْلِهِ إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عن ذلك فقال يعني النبي وقال القاضي المسؤول وَالْمُجِيبُ هُوَ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وَفِي فَقَالَ ضَمِيرٌ لَهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَرِينَةُ الْحَالِ فَإِنَّ ظَاهِرَ حَالِ الصَّحَابِيِّ أَنْ يَكُونَ سؤاله واستكشافه من الرسول لَا سِيَّمَا فِي تَأْوِيلِ آيَةٍ هِيَ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ وَمَا هُوَ مِنْ أَحْوَالِ الْمَعَادِ فَإِنَّهُ غَيْبٌ صِرْفٌ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ إِلَّا بِالْوَحْيِ وَلِكَوْنِهِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مِنَ التَّعَيُّنِ أَضْمَرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَ ذِكْرُهُ (أَنَّ أَرْوَاحَهُمْ فِي طَيْرٍ خُضْرٍ) وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ أَيْ يَخْلُقُ(8/287)
لِأَرْوَاحِهِمْ بَعْدَ مَا فَارَقَتْ أَبْدَانَهُمْ هَيَاكِلَ عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ تَتَعَلَّقُ بِهَا وَتَكُونُ خَلَفًا عَنْ أَبْدَانِهِمْ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ فَيَتَوَسَّلُونَ بِهَا إِلَى نَيْلِ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ اللَّذَائِذِ الْحِسِّيَّةِ وَإِلَيْهِ يُرْشِدُ قَوْلُهُ تَعَالَى يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالطَّيْرُ جَمْعُ طَائِرٍ وَيُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَخُضْرٌ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ جَمْعُ أَخْضَرَ (تَسْرَحُ) أَيْ تَرْعَى (وَتَأْوِي) أَيْ تَرْجِعُ (إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بِالْعَرْشِ) فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ أَوْكَارِ الطَّيْرِ (فَاطَّلَعَ) بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أي أنظري (اطِّلَاعَةً) إِنَّمَا قَالَ اطِّلَاعَةً لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ اطِّلَاعِنَا عَلَى الْأَشْيَاءِ
قَالَ الْقَاضِي وَعَدَّاهُ بِإِلَى وَحَقُّهُ أَنْ يُعْدَى بِعَلَى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الِانْتِهَاءِ (فَقَالَ) أَيِ الرَّبُّ تَعَالَى (وَمَا نَسْتَزِيدُ) أَيْ أَيُّ شَيْءٍ نَسْتَزِيدُ (وَنَحْنُ فِي الْجَنَّةِ نَسْرَحُ حَيْثُ شِئْنَا) يَعْنِي وَفِيهَا ما تشتهيه الأنفس وتلد الْأَعْيُنُ (فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَا يُتْرَكُونَ) أَيْ من أن يسئلوا (قَالُوا تُعِيدُ) مِنَ الْإِعَادَةِ أَيْ تَرُدُّ (فَنُقْتَلُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى زَادَ مُسْلِمٌ فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا أَيْ مِنْ سُؤَالِ هَلْ تَسْتَزِيدُونَ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وبن ماجه
قوله (عن أبي عبيدة) هو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ (وَزَادَ) أي أبو عبيدة في روايته (وتقرىء) أَيْ يَا رَبِّ (نَبِيَّنَا) بِالنَّصْبِ أَيْ عَلَيْهِ (السلام) مفعول ثان لتقرىء (وتخبره) أي النبي (أَنْ قَدْ رَضِينَا) أَيْ بِاَللَّهِ تَعَالَى (وَرُضِيَ عَنَّا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنَّا
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) قَدْ صَرَّحَ التِّرْمِذِيُّ بِعَدَمِ سَمَاعِ أَبِي عُبَيْدَةَ مِنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي بَابِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْحَجَرَيْنِ فَتَحْسِينُهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ لِمَجِيئِهِ مِنَ السَّنَدِ المتقدم(8/288)
قوله (عن جامع وهو بن أَبِي رَاشِدٍ) الْكَاهِلِيُّ الصَّيْرَفِيُّ الْكُوفِيُّ ثِقَةٌ فَاضِلٌ مِنَ الْخَامِسَةِ (وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَعْيَنَ) الْكُوفِيُّ مَوْلَى بَنِي شَيْبَانَ صَدُوقٌ شِيعِيٌّ لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثٌ وَاحِدٌ مُتَابَعَةً مِنَ السَّادِسَةِ (عَنْ أَبِي وَائِلٍ) هُوَ شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ
قَوْلُهُ (إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي عُنُقِهِ شُجَاعًا) بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ الْحَيَّةُ الذَّكَرُ وَقِيلَ الْحَيَّةُ مُطْلَقًا (مِصْدَاقَهُ) أَيْ مَا يُصَدِّقُهُ وَيُوَافِقُهُ (مِنْ كِتَابِ اللَّهِ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ حَالٌ مِنْ مِصْدَاقَهُ أَوْ مِنْ بَيَانٌ لَهُ وَمَا بَعْدَهُ بَدَلُ بعض من الكل لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فضله الْآيَةَ بِتَمَامِهَا مَعَ تَفْسِيرِهَا هَكَذَا وَلَا تَحْسَبَنَّ بِالتَّاءِ وَالْيَاءِ (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ من فضله) أَيْ بَرَكَاتِهِ هُوَ أَيْ بُخْلُهُمْ خَيْرًا لَهُمْ مَفْعُولٌ ثَانٍ وَالضَّمِيرُ لِلْفَصْلِ وَالْأَوَّلُ بُخْلُهُمْ مُقَدَّرًا قَبْلَ الْمَوْصُولِ عَلَى الْفَوْقَانِيَّةِ وَقَبْلَ الضَّمِيرِ عَلَى التَّحْتَانِيَّةِ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بخلوا به أَيْ بِزَكَاتِهِ مِنَ الْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْ يُجْعَلَ حَيَّةً فِي عُنُقِهِ تَنْهَشُهُ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض يَرِثُهُمَا بَعْدَ فَنَاءِ أَهْلِهِمَا واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَيُجَازِيكُمْ بِهِ (وَقَالَ مَرَّةً) أَيْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ مَرَّةً (وَمَنِ اقْتَطَعَ مَالَ أَخِيهِ) أَيْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ (بِيَمِينٍ أَيْ كَاذِبٍ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ والنسائي وبن مَاجَهْ (وَمَعْنَى قَوْلِهِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَعْنِي حَيَّةً) لَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ الْمَذْكُورَةِ أَقْرَعَ نَعَمْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ وَمَعْنَاهُ الَّذِي لَا شَعْرَ عَلَى رَأْسِهِ لِكَثْرَةِ سُمِّهِ وَطُولِ عُمْرِهِ
قَوْلُهُ (وَسَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ) هُوَ الضُّبَعِيُّ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عمرو) هو بن علقمة (عن أبي سلمة(8/289)
هو بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ
قَوْلُهُ (إِنَّ مَوْضِعَ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ) أُرِيدَ بِهِ قَدْرٌ قَلِيلٌ مِنْهَا أَوْ مِقْدَارُ مَوْضِعِهِ فِيهَا (خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) لِأَنَّ الْجَنَّةَ مَعَ نَعِيمِهَا بَاقِيَةٌ وَالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا فَانِيَةٌ (فَمَنْ زُحْزِحَ) أَيْ بَعُدَ (عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) نَالَ غَايَةَ مَطْلُوبِهِ (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) الْعَيْشُ فِيهَا (إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) الْبَاطِلُ يُتَمَتَّعُ بِهِ قَلِيلًا ثُمَّ يَفْنَى
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح) وأخرجه بن أبي حاتم
قال بن كَثِيرٍ هَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِدُونِ هذه الزيادة أي زيادة اقرأوا إِنْ شِئْتُمْ إِلَخْ وَقَدْ رَوَاهُ بِدُونِ هَذِهِ الزيادة أبو حاتم وبن حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو هَذَا
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الْمِصِّيصِيُّ الْأَعْوَرُ (أَنَّ حُمَيْدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزُّهْرِيُّ الْمَدَنِيُّ ثِقَةٌ مِنَ الثَّانِيَةِ وَقِيلَ إِنَّ رِوَايَتَهُ عَنْ عُمَرَ مُرْسَلَةٌ (أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ قَالَ اذْهَبْ يَا رَافِعُ لِبَوَّابِهِ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ مَرْوَانَ قَالَ لِبَوَّابِهِ اذْهَبْ يَا رَافِعُ
قَالَ الْحَافِظُ وَكَانَ مَرْوَانُ يَوْمَئِذٍ أَمِيرًا عَلَى الْمَدِينَةِ مِنْ قِبَلِ مُعَاوِيَةَ ثُمَّ وَلِيَ الْخِلَافَةَ قَالَ وَرَافِعٌ هَذَا لَمْ أَرَ لَهُ ذِكْرًا فِي كِتَابِ الرُّوَاةِ إِلَّا بِمَا جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِ الحديث أنه توجه إلى بن عَبَّاسٍ فَبَلَّغَهُ الرِّسَالَةَ وَرَجَعَ إِلَى مَرْوَانَ بِالْجَوَابِ فَلَوْلَا أَنَّهُ مُعْتَمَدٌ عِنْدَ مَرْوَانَ مَا قَنَعَ بِرِسَالَتِهِ (وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ) بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ (مُعَذَّبًا) خَبَرُ كَانَ (لَنُعَذَّبَنَّ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَهُوَ جَوَابُ قَوْلِهِ لَئِنْ أَيْ لِأَنَّ كُلَّنَا يَفْرَحُ بِمَا أُوتِيَ وَيُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ (أَجْمَعُونَ) بِالْوَاوِ عَلَى أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الَّذِي فِي لَنُعَذَّبَنَّ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ أَجْمَعِينَ بِالْيَاءِ عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الحال أي لنعذبن مجتمعين (فقال بن(8/290)
عباس مالكم ولهذه الاية) إنكار من بن عَبَّاسٍ عَنِ السُّؤَالِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْوَجْهِ المذكور (ثم تلا بن عَبَّاسٍ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكتاب) أَيِ الْعَهْدَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ (لِتُبَيِّنُنَّهُ) أَيِ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ أَيْ طَرَحُوا الْمِيثَاقَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ فَلَمْ يَعْمَلُوا بِهِ وَاشْتَرَوْا بِهِ أَخَذُوا بَدَلَهُ ثَمَنًا قَلِيلًا مِنَ الدُّنْيَا مِنْ سَفَلَتِهِمْ بِرِيَاسَتِهِمْ فِي الْعِلْمِ فَكَتَمُوهُ خَوْفَ فَوْتِهِ عَلَيْهِمْ (فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) شِرَاءَهُمْ هَذَا
وفي تلاوة بن عَبَّاسٍ هَذِهِ الْآيَةَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الَّذِينَ أخبر الله عنهم في الاية المسؤول عَنْهَا هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَةِ
الَّتِي قَبْلَهَا وَأَنَّ اللَّهَ ذَمَّهُمْ بِكِتْمَانِ الْعِلْمِ الَّذِي أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَكْتُمُوهُ وَتَوَعَّدَهُمْ بِالْعَذَابِ عَلَى ذَلِكَ (بما أتو) بفتح الهمزة والفوقية أي بما جاؤوا يَعْنِي بِاَلَّذِي فَعَلُوهُ (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لم يفعلوا) أَيْ وَيُحِبُّونَ أَنْ يَحْمَدَهُمُ النَّاسُ عَلَى شَيْءٍ لم يفعلوه (سألهم النبي عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ) قَالَ الْحَافِظُ الشيء الذي سأل النبي عَنْهُ الْيَهُودَ لَمْ أَرَهُ مُفَسَّرًا وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ سَأَلَهُمْ عَنْ صِفَتِهِ عِنْدَهُمْ بِأَمْرٍ وَاضِحٍ فَأَخْبَرُوا عَنْهُ بِأَمْرٍ مُجْمَلٍ
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ (ليبيننه للناس ولا يكتمونه) قَالَ مُحَمَّدٌ وَفِي قَوْلِهِ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا قَالَ بِكِتْمَانِهِمْ مُحَمَّدًا وَفِي قَوْلِهِ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا
قَالَ قَوْلُهُمْ نَحْنُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ (وَقَدْ أَرَوْهُ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ من الإراءة والضمير المنصوب للنبي (واستحمدوا) بفتح الفوقية مبينا لِلْفَاعِلِ أَيْ طَلَبُوا أَنْ يَحْمَدَهُمْ قَالَ فِي الْأَسَاسِ اسْتَحْمَدَ اللَّهُ إِلَى خَلْقِهِ بِإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ وإنعامه عليهم قاله القسطلاني
وقال العيني واستحمدوا عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ اسْتُحْمِدَ فُلَانٌ عِنْدَ فُلَانٍ أَيْ صَارَ مَحْمُودًا عِنْدَهُ وَالسِّينُ فِيهِ لِلصَّيْرُورَةِ انْتَهَى (بِمَا أُوتُوا مِنْ كِتَابِهِمْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِيتَاءِ أَيْ أُعْطُوا وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بِمَا أَتَوْا مِنْ كِتْمَانِهِمْ مَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ بِمَا أَتَوْا مِنْ كِتْمَانِهِمْ
قَالَ الْحَافِظُ قَوْلُهُ بِمَا أَتَوْا كَذَا للأكثر بالقصر بمعنى جاؤوا أَيْ بِاَلَّذِي فَعَلُوهُ وَلِلْحَمَوِيِّ بِمَا أُوتُوا بِضَمِّ الْهَمْزَةِ بَعْدَهَا وَاوٌ أَيْ أُعْطُوا أَيْ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي كَتَمُوهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فَرِحُوا بما عندهم من العلم وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمُوَافَقَتِهِ التِّلَاوَةَ الْمَشْهُورَةَ انْتَهَى (وَمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ) عَطْفٌ عَلَى مَا أُوتُوا وَالضَّمِيرُ المرفوع في سأل يرجع إلى النبي وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ عَنْهُ إِلَى مَا(8/291)
تَنْبِيهٌ قَدْ وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الاية حديثان صحيحان أحدهما حديث بن عَبَّاسٍ هَذَا وَالثَّانِي مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رِجَالًا من المنافقين على عهد رسول الله كان إذا خرج رسول الله إلى الغزو وتخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله فإذا قدم رسول الله اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ وَحَلَفُوا وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَنَزَلَتْ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ الْآيَةَ
قَالَ الْحَافِظُ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْفَرِيقَيْنِ مَعًا وَبِهَذَا أَجَابَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ
(بَاب وَمِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ)
هِيَ مَدَنِيَّةٌ وَمِائَةٌ وَخَمْسٌ أَوْ سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ آيَةً
قَوْلُهُ (يَقُولُ مرضت فأتاني رسول الله يَعُودنِي) تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْفَرَائِضِ وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ شَرْحُهُ حَتَّى نَزَلَتْ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أولادكم كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ هَذِهِ أَعْنِي مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ آدَمَ عَنْ طَرِيقِ بن عُيَيْنَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْ طَرِيقِ هِشَامٍ عَنِ بن جريج عن بن مُنْكَدِرٍ
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ قَوْلُهُ فَنَزَلَتْ (يوصيكم الله في أولادكم) هكذا وقع في رواية بن جُرَيْجٍ وَقِيلَ إِنَّهُ وَهَمَ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ الصَّوَابَ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ جَابِرٍ هَذِهِ الْآيَةُ الْأَخِيرَةُ مِنَ النِّسَاءِ وَهِيَ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة لِأَنَّ جَابِرًا يَوْمَئِذٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ وَالْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدٌ وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَمْرٍو النَّاقِدِ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ(8/292)
منصور كلاهما عن بن عيينة عن بن الْمُنْكَدِرِ فَقَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَتَّى نَزَلَتْ عَلَيْهِ آيَةُ الْمِيرَاثِ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ في الكلالة ولمسلم أيضا من طريق شعبة عن بن الْمُنْكَدِرِ قَالَ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ فَقُلْتَ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ يَسْتَفْتُونَكَ قل الله يفتيكم في الكلالة قَالَ هَكَذَا أُنْزِلَتْ وَقَدْ أَطَالَ الْحَافِظُ الْكَلَامَ ها هنا فِي الْفَتْحِ فَعَلَيْكَ أَنْ تُرَاجِعَهُ
وَقَدْ ذَكَرَ الحافظ بن كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ حَدِيثَ جَابِرٍ الْمَذْكُورَ عَنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ عن بن جريج عن بن الْمُنْكَدِرِ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ جَابِرٍ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الرَّقِّيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْهُ قَالَ جَاءَتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ إِلَى رَسُولِ الله فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ شَهِيدًا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ ثُمَّ قَالَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ الْأَوَّلَ إِنَّمَا نَزَلَ بِسَبَبِهِ الْآيَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فَإِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ لَهُ إِذْ ذَاكَ أَخَوَاتٌ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَنَاتٌ وَإِنَّمَا كَانَ يُورَثُ كلالة ولكن ذكرنا الحديث ها هنا تَبَعًا لِلْبُخَارِيِّ فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ هَا هُنَا وَالْحَدِيثُ الثَّانِي عَنْ جَابِرٍ أَشْبَهُ بِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ انْتَهَى
قَوْلُهُ (وَفِي حَدِيثِ الْفَضْلِ بْنِ صَبَّاحٍ كَلَامٌ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا) أَيْ حَدِيثُ الْفَضْلِ بْنِ صَبَّاحٍ أَطْوَلُ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ آدَمَ الْمَذْكُورِ وَحَدِيثُ الْفَضْلِ بْنِ صَبَّاحٍ هَذَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ مِيرَاثِ الْأَخَوَاتِ
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا قَتَادَةُ) بْنُ دِعَامَةَ (عَنْ أَبِي عَلْقَمَةَ الْهَاشِمِيِّ) الْفَارِسِيِّ الْمِصْرِيِّ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ وَيُقَالُ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ ثَقةَ وَكَانَ قَاضِي إِفْرِيقِيَّةَ مِنْ كِبَارِ الثَّالِثَةِ
قَوْلُهُ (لَمَّا كَانَ يَوْمُ أَوْطَاسٍ) اسْمُ مَوْضِعٍ أَوْ بُقْعَةٌ فِي الطَّائِفِ يُصْرَفُ وَلَا يُصْرَفُ (لَهُنَّ أَزْوَاجٌ فِي الْمُشْرِكِينَ) صِفَةٌ لِنِسَاءٍ (فكرههن) أي كره وطئهن مِنْ أَجْلِ أَنَّهُنَّ مُزَوَّجَاتٍ وَالْمُزَوَّجَةُ لَا تَحِلُّ لغير(8/293)
زوجها (منهم) أي من أصحاب النبي وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنَّا وَهُوَ الظَّاهِرُ
وَرَوَى مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ بِلَفْظِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَوْمَ حُنَيْنٍ بَعَثَ جَيْشًا إِلَى أَوْطَاسٍ فَلَقَوْا عَدُوًّا فَقَاتَلُوهُمْ فَظَهَرُوا عَلَيْهِمْ وَأَصَابُوا لَهُمْ سَبَايَا فكأن ناسا من أصحاب النبي تَحَرَّجُوا مِنْ غَشَيَانِهِنَّ مِنْ أَجْلِ أَزْوَاجِهِنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْمُحْصَنَاتُ) بِفَتْحِ الصَّادِ بِاتِّفَاقِ الْقُرَّاءِ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى أُمَّهَاتُكُمْ أَيْ وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمُحْصَنَاتُ أَيْ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ لِأَنَّهُنَّ أَحْصَنَّ فُرُوجَهُنَّ بِالتَّزْوِيجِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ أَيْ أَيْمَانُكُمْ أَيْ مَا أَخَذْتُمْ مِنْ نِسَاءِ الْكُفَّارِ بِالسَّبْيِ وَزَوْجُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ فَتَحِلُّ لِلْغَانِمِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ
قَالَ النَّوَوِيُّ اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمَسْبِيَّةَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَا كِتَابَ لَهُمْ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ حَتَّى تُسْلِمَ فَمَا دَامَتْ عَلَى دِينِهَا فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ وَهَؤُلَاءِ الْمَسْبِيَّاتُ كُنَّ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَيُتَأَوَّلُ هَذَا الْحَدِيثُ وَشَبَهُهُ عَلَى أَنَّهُنَّ أَسْلَمْنَ وَهَذَا التَّأْوِيلُ لَا بُدَّ مِنْهُ انْتَهَى
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي النَّيْلِ فِي بَابِ اسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ إِذَا مُلِكَتْ مَا لَفْظُهُ ظَاهِرُ أَحَادِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ وَطْءِ الْمَسْبِيَّةِ الْإِسْلَامُ وَلَوْ كَانَ شَرَطَ الْبَيِّنَةَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمَّا يُبَيِّنْهُ وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ وَذَلِكَ وَقْتُهَا وَلَا سِيَّمَا وَفِي الْمُسْلِمِينَ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ وَغَيْرِهِ مَنْ هُوَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ يَخْفَى عَلَيْهِمْ مِثْلُ هَذَا الْحُكْمِ وَتَجْوِيزُ حُصُولِ الْإِسْلَامِ مِنْ جَمِيعِ السَّبَايَا وَهُنَّ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ بَعِيدٌ جِدًّا فَإِنَّ إِسْلَامَ مِثْلِ عَدَدِ الْمَسْبِيَّاتِ فِي أَوْطَاسٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ لَا يَقُولُ بِأَنَّهُ يَصِحُّ تَجْوِيزُهُ عَاقِلٌ
وَمِنْ أَعْظَمِ الْمُؤَيِّدَاتِ لِبَقَاءِ الْمَسْبِيَّاتِ على دينهن ما ثبت من رده لَهُنَّ بَعْدَ أَنْ جَاءَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ هَوَازِنَ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ مَا أَخَذَ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ فَرَدَّ إِلَيْهِمُ السَّبْيَ فَقَطْ وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى جَوَازِ وَطْءِ الْمَسْبِيَّاتِ الْكَافِرَاتِ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ الْمَشْرُوعِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ طَاوُسٌ وَهُوَ الظَّاهِرُ لِمَا سَلَفَ انْتَهَى
(هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وبن ماجه(8/294)
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ) بْنُ مُسْلِمٍ (الْبَتِّيُّ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ الْمُشَدَّدَةِ أَبُو عَمْرٍو الْبَصْرِيُّ صَدُوقٌ عَابُوا عَلَيْهِ الْإِفْتَاءَ بِالرَّأْيِ مِنَ الْخَامِسَةِ
قَوْلُهُ (أَصَبْنَا سَبَايَا) جَمْعُ السَّبِيَّةِ وَهِيَ الْمَرْأَةُ الْمَنْهُوبَةُ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ
قَوْلُهُ (وَلَا أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا ذَكَرَ أَبَا عَلْقَمَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِلَّا مَا ذَكَرَ هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ) كَذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَقَدْ تَابَعَ هَمَّامًا فِي ذِكْرِ أَبِي عَلْقَمَةَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَشُعْبَةَ أَيْضًا عند مسلم
وقد صرح بهذا الحافظ بن كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ (وَأَبُو الْخَلِيلِ اسْمُهُ صَالِحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ) الضُّبَعِيُّ مَوْلَاهُمُ الْبَصْرِيُّ وَثَّقَهُ بن معين والنسائي وأغرب بن عَبْدِ الْبَرِّ فَقَالَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ مِنَ السَّادِسَةِ
قَوْلُهُ (وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ) أَيْ قَطْعُ صِلَتِهِمَا مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَقِّ وَهُوَ الشَّقُّ وَالْقَطْعُ وَالْمُرَادُ عُقُوقُ أَحَدِهِمَا
قِيلَ هُوَ إِيذَاءٌ لَا يُتَحَمَّلُ مِثْلُهُ مِنَ الْوَلَدِ عَادَةً وَقِيلَ عُقُوقُهُمَا مُخَالَفَةُ أَمْرِهِمَا فِيمَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً وفِي مَعْنَاهُمَا الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ (وَقَتْلُ النَّفْسِ) أَيْ بِغَيْرِ حَقٍّ (وَقَوْلُ الزُّورِ) وَفِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَالْمُرَادُ مِنَ الزُّورِ الْكَذِبِ وَسُمِّيَ زُورًا لِمَيَلَانِهِ عَنْ جِهَةِ الْحَقِّ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ
قَوْلُهُ (وَقَالَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) أَيْ بِالتَّكْبِيرِ (وَلَا يَصِحُّ) بَلِ الصَّحِيحُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ بِالتَّصْغِيرِ
قَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَبُو مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيُّ رَوَى عَنْ جَدِّهِ وَقِيلَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَعَنْهُ شعبة وغيره
قال أحمد وبن مَعِينٍ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ ثِقَةٌ(8/295)
قَوْلُهُ (أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ إِلَخْ) تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ بِإِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ فِي بَابِ عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ مِنْ أَبْوَابِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَفِي الشَّهَادَاتِ
قَوْلُهُ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مُهَاجِرِ بْنِ قُنْفُذٍ) بِضَمِّ الْقَافِ وَالْفَاءِ بَيْنَهُمَا نُونٌ سَاكِنَةٌ الْمَدَنِيُّ ثِقَةٌ مِنَ الْخَامِسَةِ (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْأَنْصَارِيِّ) الْبَكْرِيِّ حَلِيفِ بَنِي حَارِثَةَ اسْمُهُ إِيَاسٌ وَقِيلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ وَقِيلَ ثَعْلَبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ صَحَابِيٌّ لَهُ أَحَادِيثُ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ) بِالتَّصْغِيرِ الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ كُنْيَتُهُ أَبُو يَحْيَى حَلِيفُ الْأَنْصَارِ صَحَابِيٌّ
قَوْلُهُ (إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ الشِّرْكَ بِاَللَّهِ) أَيِ الْإِشْرَاكُ بِهِ فَنَفْيُ الصَّانِعِ أَوْلَى أَوِ الْمُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْكُفْرِ إِلَّا أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِهِ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ فِي الكفرة ومن زَائِدَةٌ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجَوِّزُهُ فِي الْإِثْبَاتِ كَالْأَخْفَشِ أَوْ دُخُولُ مِنْ بِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَالشِّرْكُ هُوَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ لَا مِنْ جُمْلَتِهِ (وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ هُوَ الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ الْفَاجِرَةُ كالَّتِي يَقْتَطِعُ بِهَا الْحَالِفُ مَالَ غَيْرِهِ سُمِّيَتْ غَمُوسًا لِأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي الْإِثْمِ ثُمَّ فِي النَّارِ وَفَعُولٌ لِلْمُبَالَغَةِ (وَمَا حَلَفَ حَالِفٌ بِاَللَّهِ يَمِينَ صَبْرٍ) فِي النِّهَايَةِ الْحَلِفُ هُوَ الْيَمِينُ فَخَالَفَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ تَأْكِيدًا
قَالَ النَّوَوِيُّ يَمِينَ صَبْرٍ بِالْإِضَافَةِ أَيْ أُلْزِمَ بِهَا وَحُبِسَ عَلَيْهَا وَكَانَتْ لَازِمَةً لِصَاحِبِهَا مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ وَقِيلَ لَهَا مَصْبُورَةٌ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمَصْبُورُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا صُبِرَ مِنْ أَجْلِهَا أَيْ حُبِسَ فَوُصِفَتْ بِالصَّبْرِ وَأُضِيفَتْ إِلَيْهِ مَجَازًا انْتَهَى
وتوضيحه ما قاله بن الْمَلِكِ الصَّبْرُ الْحَبْسُ وَالْمُرَادُ بِيَمِينِ الصَّبْرِ أَنْ يَحْبِسَ السُّلْطَانُ الرَّجُلَ حَتَّى يَحْلِفَ بِهَا وَهِيَ لَازِمَةٌ لِصَاحِبِهَا مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ
وَقِيلَ يَمِينُ الصَّبْرِ هِيَ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا مُتَعَمِّدًا لِلْكَذِبِ قَاصِدًا لِإِذْهَابِ مَالِ الْمُسْلِمِ كَأَنَّهُ(8/296)
يَصْبِرُ النَّفْسَ عَلَى تِلْكَ الْيَمِينِ أَيْ يَحْبِسُهَا عَلَيْهَا كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
وَقَالَ فِي الْمَجْمَعِ يَمِينَ صَبْرٍ بِالْإِضَافَةِ أَيْ أُلْزِمَ بِهَا وَحُبِسَ لَهَا شَرْعًا وَلَوْ حَلَفَ بِغَيْرِ إِحْلَافٍ لَمْ يَكُنْ صَبْرًا (فَأَدْخَلَ) أَيِ الْحَالِفُ (فِيهَا) أَيْ فِي تِلْكَ الْيَمِينِ (مِثْلَ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ) بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ رِيشِهَا
وَالْمُرَادُ أَقَلُّ قَلِيلٍ
وَالْمَعْنَى شَيْئًا يَسِيرًا مِنَ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَمِمَّا يُخَالِفُ ظَاهِرُهُ بَاطِنَهُ لِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ (إِلَّا جُعِلَتْ) أَيْ تِلْكَ الْيَمِينُ (نُكْتَةً) أَيْ سَوْدَاءَ أَيْ أَثَرًا قَلِيلًا كَالنُّقْطَةِ تُشْبِهُ الْوَسَخَ فِي نَحْرِ الْمَرْأَةِ وَالسَّيْفِ (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)
قَالَ الطِّيبِيُّ مَعْنَى الِانْتِهَاءِ أَنَّ أَثَرَ تِلْكَ النُّكْتَةِ الَّتِي هِيَ مِنَ الرَّيْنِ يَبْقَى أَثَرُهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا وَبَالُهَا وَالْعِقَابُ عَلَيْهَا فَكَيْفَ إِذَا كَانَ كَذِبًا مَحْضًا
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ والحاكم وبن أَبِي حَاتِمٍ
قَوْلُهُ (عَنْ فِرَاسٍ) بِكَسْرِ الْفَاءِ وبالراء هو بن يَحْيَى الْهَمْدَانِيُّ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
تَنْبِيهٌ اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الْأَرْبَعَةَ أَعْنِي أَحَادِيثَ أَنَسٍ وَأَبِي بَكْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ذَكَرَهَا التِّرْمِذِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما وقد أطال الحافظ بن كَثِيرٍ الْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْقَوْلِ
فَذَكَرَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً تَتَعَلَّقُ بِهِ ثُمَّ ذَكَرَ أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فِي حَدِّ الْكَبِيرَةِ فَمِنْ قَائِلٍ هِيَ مَا عَلَيْهِ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هِيَ مَا عَلَيْهِ وَعِيدٌ مَخْصُوصٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ الشَّهِيرِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ مِنْهُ ثُمَّ اخْتَلَفَ(8/297)
الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الْكَبَائِرِ وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّغَائِرِ وَلِبَعْضِ الْأَصْحَابِ فِي تَفْسِيرِ الْكَبِيرَةِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا أَنَّهَا الْمَعْصِيَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَدِّ وَالثَّانِي أَنَّهَا الْمَعْصِيَةُ الَّتِي يَلْحَقُ صَاحِبَهَا الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ بِنَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ وَهَذَا أَكْثَرُ مَا يُوجَدُ لَهُمْ وَإِلَى الْأَوَّلِ أَمِيلُ لَكِنَّ الثَّانِيَ أَوْفَقُ لِمَا ذَكَرُوهُ عِنْدَ تَفْسِيرِ الْكَبَائِرِ وَالثَّالِثُ قَالَ إِمَامُ الحرمين في الإرشاد وغيره كل جريمة تنبىء بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ وَرِقَّةِ الدِّيَانَةِ فَهِيَ مُبْطِلَةٌ لِلْعَدَالَةِ وَالرَّابِعُ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو سَعِيدٍ الْهَرَوِيُّ أَنَّ الْكَبِيرَةَ كُلُّ فِعْلٍ نَصَّ الْكِتَابُ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَكُلُّ مَعْصِيَةٍ تُوجِبُ فِي جِنْسِهَا حَدًّا مِنْ قَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ وَتَرْكُ كُلِّ فَرِيضَةٍ مَأْمُورٍ بِهَا عَلَى الْفَوْرِ وَالْكَذِبُ وَالشَّهَادَةُ وَالرِّوَايَةُ وَالْيَمِينُ هَذَا مَا ذَكَرُوهُ عَلَى سَبِيلِ الضَّبْطِ ثُمَّ ذَكَرَ فِي تَفْصِيلِ الْكَبَائِرِ أَقْوَالَ بعض أهل العلم
قال الحافظ بن كَثِيرٍ وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ فِي الْكَبَائِرِ مُصَنَّفَاتٍ مِنْهَا مَا جَمَعَهُ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ بَلَغَ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ كَبِيرَةً
وَإِذَا قِيلَ إِنَّ الْكَبِيرَةَ مَا تَوَعَّدَ عَلَيْهَا الشَّارِعُ بالنار بخصوصها كما قال بن عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ وَلَا يُتَّبَعُ ذَلِكَ اجْتَمَعَ مِنْهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ وَإِذَا قِيلَ كُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَكَثِيرٌ جِدًّا انْتَهَى
وَقَدْ تَقَدَّمَ شيء من فِي حَدِّ الْكَبِيرَةِ فِي بَابِ عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ
قَوْلُهُ (يَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا تَغْزُو النِّسَاءُ) وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا تَغْزُو النِّسَاءُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ به بعضكم على بعض مِنْ جِهَةِ الدُّنْيَا أَوِ الدِّينِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلى التحاسد والتباغض
قال الحافظ بن كَثِيرٍ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ بن عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ وَلَا يَتَمَنَّى الرَّجُلُ فَيَقُولُ لَوْ أَنَّ لِي مَالَ فُلَانٍ وَأَهْلَهُ فَنَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ يَسْأَلُ اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ
وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ نَحْوَ هَذَا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ فَيَقُولُ رَجُلٌ لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ مَا لِفُلَانٍ لَعَمِلْتُ مِثْلَهُ فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ فَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ غَيْرُ مَا نَهَتْ عَنْهُ الْآيَةُ وَذَلِكَ أَنَّ الْحَدِيثَ حَضَّ عَلَى تَمَنِّي مِثْلَ نِعْمَةِ هَذَا وَالْآيَةُ نَهَتْ عَنْ تَمَنِّي عَيْنَ نِعْمَةِ هَذَا يَقُولُ وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بعض أَيْ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَكَذَا الدِّينِيَّةِ
قَوْلُهُ (قَالَ مُجَاهِدٌ) هَذَا مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمُتَقَدِّمِ (وَأَنْزَلَ فِيهَا) أَيْ فِي أُمِّ سَلَمَةَ (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ والمسلمات) تمام الاية(8/298)
وَالْمُؤْمِنَينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مغفرة وأجرا عظيما وَرِوَايَةُ مُجَاهِدٍ هَذِهِ مُخْتَصَرَةٌ
وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا لِي أَسْمَعُ الرِّجَالَ يذكرون في القرآن والنساء لا يذكرون فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنَينَ والمؤمنات (أَوَّلَ ظَعِينَةٍ) قِيلَ لِلْمَرْأَةِ ظَعِينَةً لِأَنَّهَا تَظْعَنُ مَعَ الزَّوْجِ حَيْثُ مَا ظَعَنَ أَوْ تُحْمَلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ إِذَا ظَعَنَتْ وَقِيلَ هِيَ الْمَرْأَةُ فِي الْهَوْدَجِ ثُمَّ قِيلَ لِلْمَرْأَةِ وَحْدَهَا وَالْهَوْدَجُ وَحْدَهُ مِنْ ظَعَنَ ظَعْنًا بِالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ إِذَا سَارَ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ) أَيْ مُنْقَطِعٌ وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ
قَوْلُهُ (عَنْ رَجُلٍ مِنْ وَلَدِ أُمِّ سَلَمَةَ) اسْمُ هَذَا الرَّجُلِ سَلَمَةُ
قَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ سَلَمَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيُّ رَوَى عَنْ جَدَّةِ أَبِيهِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ جَدِّهِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَلَهُ صُحْبَةٌ رَوَى عَنْهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ فَنَسَبَهُ إِلَى جَدِّ أَبِيهِ فَقَالَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ
وَعَنْهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ فَنَسَبَهُ إِلَى جَدِّهِ فَقَالَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ
وَقَدْ رَوَى لَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي التَّفْسِيرِ حَدِيثًا وَلَمْ يُسَمِّهِ أخرجه عن بن أَبِي عُمَرَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ وَلَدِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لَا أَسْمَعُ اللَّهَ ذَكَرَ النِّسَاءَ فِي الْهِجْرَةِ بِشَيْءٍ الْحَدِيثَ
وَسَمَّاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ من طريق يعقوب بن حُمَيْدِ بْنِ كَاسِبٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَتَابَعَهُ قُتَيْبَةُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ
وَقَالَ فِي التَّقْرِيبِ فِي تَرْجَمَتِهِ مَقْبُولٌ مِنَ الثَّالِثَةِ
قَوْلُهُ(8/299)
أني لا أضيع عمل عامل منكم يَعْنِي لَا أُحْبِطُ عَمَلَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بَلْ أثيبكم عليه من ذكر أو أنثى يَعْنِي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ ذَكَرًا كان أو أنثى بعضكم من بعض يَعْنِي فِي الدِّينِ وَالنُّصْرَةِ وَالْمُوَالَاةِ وَقِيلَ كُلُّكُمْ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَقِيلَ مِنْ بِمَعْنَى الْكَافِ أَيْ بَعْضُكُمْ كَبَعْضٍ فِي الثَّوَابِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعِقَابِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَهُوَ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ مِنِّي يَعْنِي عَلَى خُلُقِي وَسِيرَتِي وَقِيلَ إِنَّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ فِي الطَّاعَةِ عَلَى شَكْلٍ وَاحِدٍ كَذَا فِي تَفْسِيرِ الْخَازِنِ
وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا سعيد بن منصور وبن جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ ثُمَّ قَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ
وَقَدْ رَوَى بن أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بعض إلى آخرها رواه بن مَرْدَوَيْهِ
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ) اسْمُهُ سَلَامُ بْنُ سُلَيْمٍ الْحَنَفِيُّ (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ بن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (فَكَيْفَ) أَيْ حَالُ الْكُفَّارِ (إِذَا جئنا من كل أمة بشهيد) يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِعَمَلِهَا وَهُوَ نَبِيُّهَا (وَجِئْنَا بِكَ) يَا مُحَمَّدُ (عَلَى هَؤُلَاءِ) أَيْ أُمَّتِكَ (شَهِيدًا) حَالٌ أَيْ شَاهِدًا عَلَى مَنْ آمَنَ بِالْإِيمَانِ وَعَلَى مَنْ كَفَرَ بِالْكُفْرِ وَعَلَى مَنْ نَافَقَ بِالنِّفَاقِ
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ فَضَالَةَ الظفري أن ذلك كان وهو كان في بني ظفر أخرجه بن أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النبي أتاهم في بني ظفر ومعه بن مَسْعُودٍ وَنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَمَرَ قَارِئًا فَقَرَأَ فَأَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَة فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هؤلاء شهيدا فَبَكَى حَتَّى ضَرَبَ لَحْيَاهُ وَوَجْنَتَاهُ فَقَالَ يَا رَبِّ هَذَا عَلَى مَنْ أَنَا بَيْنَ ظَهْرَيْهِ فكيف بمن لم أره
وأخرج بن الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ لَيْسَ مِنْ يَوْمٍ إِلَّا يُعْرَضُ على النبي أُمَّتُهُ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً فَيَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَأَعْمَالِهِمْ فَلِذَلِكَ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ فَفِي هَذَا الْمُرْسَلِ مَا يَرْفَعُ الإشكال الذي تضمنه حديث بن فَضَالَةَ كَذَا فِي الْفَتْحِ (غَمَزَنِي) الْغَمْزُ الْعَصْرُ وَالْكَبْسُ بِالْيَدِ أَيْ أَشَارَ بِالْيَدِ لِأَنْ يَمْتَنِعَ عَنِ الْقِرَاءَةِ وَفِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ قَالَ حَسْبُكَ الْآنَ (وَعَيْنَاهُ تَدْمَعَانِ) وَفِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ تَذْرِفَانِ أي تسيلان دمعا
قال بن بطال إنما بكى عِنْدَ تِلَاوَتِهِ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ مَثَّلَ لِنَفْسِهِ أَهْوَالَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَشِدَّةِ الْحَالِ الدَّاعِيَةِ لَهُ إِلَى شَهَادَتِهِ لِأُمَّتِهِ بِالتَّصْدِيقِ وَسُؤَالِهِ(8/300)
الشَّفَاعَةَ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ وَهُوَ أَمْرٌ يَحِقُّ لَهُ طُولُ الْبُكَاءِ انْتَهَى
قَالَ الْحَافِظُ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ بَكَى رَحْمَةً لِأُمَّتِهِ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِمْ بِعَمَلِهِمْ وَعَمَلُهُمْ قَدْ لَا يَكُونُ مُسْتَقِيمًا فَقَدْ يُفْضِي إِلَى تَعْذِيبِهِمْ
قَالَ الْغَزَالِيُّ يُسْتَحَبُّ الْبُكَاءُ مَعَ الْقِرَاءَةِ وَعِنْدَهَا وَطَرِيقُ تَحْصِيلِهِ أَنْ يَحْضُرَ قَلْبَهُ الْحُزْنُ وَالْخَوْفُ بِتَأَمُّلِ مَا فِيهِ مِنَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ وَالْوَثَائِقِ وَالْعُهُودِ ثُمَّ يَنْظُرَ تَقْصِيرَهُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ حُزْنٌ فَلْيَبْكِ عَلَى فَقْدِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ
قَوْلُهُ (عن عبيدة) بفتح أوله هو بن عَمْرٍو السَّلْمَانِيِّ الْمُرَادِيِّ
قَوْلُهُ (أَقْرَأُ عَلَيْكَ) أَيْ أَأَقْرَأُ عَلَيْكَ (إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غيري) قال بن بَطَّالٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَحَبَّ أَنْ يَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِهِ لِيَكُونَ عَرْضُ الْقُرْآنِ سُنَّةً وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِكَيْ يَتَدَبَّرَهُ وَيَتَفَهَّمَهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَمِعَ أَقْوَى عَلَى التَّدَبُّرِ وَنَفْسُهُ أَخْلَى وَأَنْشَطُ لذلك من القارىء لِاشْتِغَالِهِ بِالْقِرَاءَةِ وَأَحْكَامِهَا وَهَذَا بِخِلَافِ قِرَاءَتِهِ هُوَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَإِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يعلمه كيفية أداء القراءة وخرج نحو ذلك (تَهْمُلَانِ) أَيْ تَدْمَعَانِ وَتَفِيضَانِ
قَالَ فِي الْقَامُوسِ هَمَلَتْ عَيْنُهُ تَهْمِلُ وَتَهْمُلُ هَمْلًا وَهَمَلَانًا وَهُمُولًا فَاضَتْ
قَوْلُهُ (هَذَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ) أَيْ حَدِيثِ سُفْيَانَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ لِأَنَّ عَبْدَ الْوَاحِدِ وَحَفْصَ بْنَ غِيَاثٍ وَغَيْرَهُمَا قَدْ تَابَعُوا سُفْيَانَ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا
وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ هَذَا أَخْرَجَهُ(8/301)
أَيْضًا الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ
قَوْلُهُ (وَسَقَانَا مِنَ الْخَمْرِ) أَيْ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ كَمَا فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ (فَأَخَذَتِ الْخَمْرُ مِنَّا) أي أخذت عقولنا لا تقربوا الصلاة أي لا تصلوا وأنتم سكارى جَمْعُ سَكْرَانَ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تقولون بِأَنْ تَصْحُوا
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَفِي إِسْنَادِهِ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ وَقَدْ قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ وَفَرَّقَ مَرَّةً بَيْنَ حَدِيثِهِ الْقَدِيمِ وَحَدِيثِهِ الْحَدِيثِ وَوَافَقَهُ عَلَى التَّفْرِقَةِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ هَذَا الْحَدِيثُ لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُتَّصِلَ الْإِسْنَادِ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَعْنِي السُّلَمِيَّ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُحَرَّمَ الْخَمْرُ فَحُرِّمَتْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ فَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي إِسْنَادِهِ فَرَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ فَأَرْسَلُوهُ وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي مَتْنِهِ فَفِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ مَا قَدَّمْنَاهُ وَفِي كِتَابِ النَّسَائِيِّ وَأَبِي جَعْفَرٍ النَّحَّاسِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ بِهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَفِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ الْبَزَّارِ أَمَرُوا رَجُلًا فَصَلَّى بِهِمْ وَلَمْ يُسَمِّهِ وَفِي حَدِيثِ غَيْرِهِ فَتَقَدَّمَ بَعْضُ الْقَوْمِ انْتَهَى كَلَامُ الْمُنْذِرِيِّ
قَوْلُهُ (أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ إِلَخْ) تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ بِإِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ فِي بَابِ(8/302)
الرَّجُلَيْنِ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْآخَرِ فِي الْمَاءِ مِنْ أَبْوَابِ الْأَحْكَامِ وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ شَرْحُهُ
قَوْلُهُ (قَالَ سَمِعْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ) والخطمي صَحَابِيٌّ صَغِيرٌ
قَوْلُهُ (رَجَعَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النبي يَوْمَ أُحُدٍ) يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ وَأَصْحَابَهُ وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ فِي الْمَغَازِي وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ كَانَ وَافَقَ رَأْيُهُ رَأْيَ النبي عَلَى الْإِقَامَةِ بِالْمَدِينَةِ فَلَمَّا أَشَارَ غَيْرُهُ بِالْخُرُوجِ وأجابهم النبي فَخَرَجَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ لِأَصْحَابِهِ أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي عَلَامَ نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا فَرَجَعَ بِثُلُثِ الناس
قال بن إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ فَأَتْبَعَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حِرَامٍ وَهُوَ وَالِدُ جَابِرٍ وَكَانَ خَزْرَجِيًّا كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَنَاشَدَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا فَأَبَوْا فَقَالَ أَبْعَدَكُمُ اللَّهُ (فَكَانَ النَّاسُ فِيهِمْ) أَيْ فِي الْحُكْمِ فِي مَنِ انْصَرَفَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ (فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَخْ) هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي سَبَبِ نزولها
وأخرج بن أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ مُعَاذٍ قَالَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَنْصَارِ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ مَنْ لِي بِمَنْ يُؤْذِينِي فَذَكَرَ مُنَازَعَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَأُسَيْدِ بن خضير وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ
وَفِي سَبَبِ نُزُولِهَا قَوْلٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ قَوْمًا أَتَوْا الْمَدِينَةَ فَأَسْلَمُوا فَأَصَابَهُمُ الْوَبَاءُ فَرَجَعُوا فَاسْتَقْبَلَهُمْ نَاسٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَأَخْبَرُوهُمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَافَقُوا وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا فنزلت(8/303)
وأخرجه بن أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ مُرْسَلًا فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا احْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا كَذَا فِي الفتح قال الحافظ بن جَرِيرٍ بَعْدَ ذِكْرِ عِدَّةِ أَقْوَالٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا لَفْظُهُ وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي اخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ الله فِي قَوْمٍ كَانُوا ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ لِأَنَّ اخْتِلَافَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ قَوْمٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى مَا قَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ عَنْهُمْ وَالْآخَرُ أَنَّهُمْ قَوْمٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
وَفِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حتى يهاجروا أَوْضَحُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ رسول الله إِلَى دَارِهِ وَمَدِينَتِهِ مِنْ سَائِرِ أَرْضِ الْكُفْرِ فَأَمَّا مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ فِي دَارِ الْهِجْرَةِ مُقِيمًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الشِّرْكِ فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فَرْضُ هِجْرَةٍ لِأَنَّهُ فِي دَارِ الْهِجْرَةِ كَانَ وَطَنُهُ وَمُقَامُهُ انْتَهَى (إِنَّهَا) أَيِ الْمَدِينَةَ (طِيبَةٌ) هَذَا أَحَدُ أَسْمَاءِ الْمَدِينَةِ وَيُقَالُ لَهَا طَابَةٌ أَيْضًا
رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا (إِنَّ اللَّهَ سَمَّى الْمَدِينَةَ طَابَةً) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سِمَاكٍ بِلَفْظِ كَانُوا يُسَمُّونَ المدينة يثرب فسماها النبي طَابَةً
وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ وَالطَّابُ وَالطِّيبُ لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاشْتِقَاقُهُمَا مِنَ الشَّيْءِ الطَّيِّبِ (إِنَّهَا تَنْفِي الْخَبَثَ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ أَيِ الْوَسَخَ (كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ) أَيْ وَسَخَهُ الَّذِي تُخْرِجُهُ النَّارُ
وَالْمُرَادُ أَنَّهَا لَا تَتْرُكُ فِيهَا مَنْ فِي قَلْبِهِ دَغَلٌ بَلْ تُمَيِّزُهُ عَنِ الْقُلُوبِ الصَّادِقَةِ وَتُخْرِجُهُ كَمَا يُمَيِّزُ الْحَدَّادُ رَدِيءَ الْحَدِيدِ مِنْ جَيِّدِهِ
قَالَ الْخَازِنُ مَعْنَى الْآيَةِ فَمَا لَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنَينَ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ أَيْ صِرْتُمْ فِي أَمْرِهِمْ فِرْقَتَيْنِ فِرْقَةً تَذُبُّ عَنْهُمْ وَفِرْقَةً تُبَايِنُهُمْ وَتُعَادِيهِمْ فَنَهَى اللَّهُ الْفِرْقَةَ الَّذِينَ يَذُبُّونَ عَنْهُمْ وَأَمَرَ الْمُؤْمِنَينَ جَمِيعًا أَنْ يَكُونُوا عَلَى مِنْهَاجٍ واحد في التباين لهم والتبرئ مِنْهُمْ واللَّهُ أَرْكَسَهُمْ يَعْنِي نَكَسَهُمْ فِي(8/304)
كُفْرِهِمْ وَارْتِدَادِهِمْ وَرَدَّهُمْ إِلَى أَحْكَامِ الْكُفَّارِ بِمَا كَسَبُوا أَيْ بِسَبَبِ مَا اكْتَسَبُوا مِنْ أَعْمَالِهِمُ الخبيثة وقيل بما أظهروا من الارتداد بعد ما كَانُوا عَلَى النِّفَاقِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا وَرْقَاءُ بْنُ عُمَرَ) الْيَشْكُرِيُّ وَأَبُو بِشْرٍ الْكُوفِيُّ نَزِيلُ الْمَدَائِنِ صَدُوقٌ فِي حَدِيثِهِ عَنْ مَنْصُورٍ لَيِّنٌ مِنَ السَّابِعَةِ
قَوْلُهُ (يَجِيءُ الْمَقْتُولُ بِالْقَاتِلِ) الْبَاءُ لِلتَّعَدِّيَةِ أَيْ يُحْضِرُهُ وَيَأْتِي بِهِ (نَاصِيَتُهُ) أَيْ شَعْرُ مُقَدَّمِ رَأْسِ الْقَاتِلِ (وَرَأْسُهُ) أَيْ بَقِيَّتُهُ (بِيَدِهِ) أَيْ بِيَدِ الْمَقْتُولِ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ وَيُحْتَمَلُ مِنَ الْمَفْعُولِ عَلَى بُعْدٍ وَقَدِ اكْتَفَى فِيهَا بِالضَّمِيرِ
قَالَ الطِّيبِيُّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا عَلَى تَقْدِيرِ السُّؤَالِ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْمَجِيءِ بِهِ (وَأَوْدَاجُهُ) فِي النِّهَايَةِ هِيَ مَا أَحَاطَ بِالْعُنُقِ مِنَ الْعُرُوقِ الَّتِي يَقْطَعُهَا الذَّابِحُ وَاحِدُهَا وَدَجٌ بِالتَّحْرِيكِ وَقِيلَ الْوَدَجَانِ عِرْقَانِ غَلِيظَانِ عَنْ جَانِبَيْ نَقْرَةِ النَّحْرِ وَقِيلَ عَبَّرَ عَنِ الْمُثَنَّى بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِلْأَمْنِ مِنَ الِالْتِبَاسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فقد صغت قلوبكما (تَشْخَبُ) بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَبِفَتْحِهَا أَيْ تَسِيلُ (دَمًا) تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الْفَاعِلِ أَيْ دَمُهُمَا (يَقُولُ يَا رَبِّ قَتَلَنِي هَذَا) أَيْ وَيُكَرِّرُهُ (حَتَّى يُدْنِيه مِنَ الْعَرْشِ) مِنَ الْإِدْنَاءِ أَيْ يُقَرِّبُ الْمَقْتُولُ الْقَاتِلَ مِنَ الْعَرْشِ وَكَأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِقْصَاءِ الْمَقْتُولِ فِي طَلَبِ ثَأْرِهِ وَعَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي إِرْضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِعَدْلِهِ (فَذَكَرُوا لِابْنِ عَبَّاسٍ التَّوْبَةَ) يَعْنِي قَالُوا لَهُ هَلْ لِلْقَاتِلِ تَوْبَةٌ أَمْ لَا فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةِ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ تَمَامُ الْآيَةِ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ولعنه وأعد له عذابا عظيما (قال) أي بن عَبَّاسٍ (مَا نُسِخَتْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَكَذَا مَا بُدِّلَتْ (وَأَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ) أَيْ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ
قال النَّوَوِيُّ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ لَهُ تَوْبَةً وَجَوَازُ الْمَغْفِرَةِ لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ مَذْهَبُ جَمِيعِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ
وَمَا رُوِيَ عن(8/305)
بَعْضِ السَّلَفِ مِمَّا يُخَالِفُ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى التَّغْلِيظِ وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْقَتْلِ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الاية التي احتج بها بن عَبَّاسٍ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ يُخَلَّدُ (وَإِنَّمَا فِيهَا أَنَّهُ جَزَاؤُهُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يُجَازَى انْتَهَى
وقال الحافظ بن جَرِيرٍ وَأَوْلَى الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ مَعْنَاهُ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فجزاؤه أَنَّ جَزَاءَهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَلَكِنَّهُ يَعْفُو وَيَتَفَضَّلُ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ فَلَا يُجَازِيهِمْ بِالْخُلُودِ فِيهَا وَلَكِنَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ إِمَّا أَنْ يَعْفُوَ بِفَضْلِهِ فَلَا يُدْخِلُهُ النَّارَ وَإِمَّا أَنْ يُدْخِلَهُ إِيَّاهَا ثُمَّ يُخْرِجَهُ مِنْهَا بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ لِمَا سَلَفَ مِنْ وَعْدِهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنَينَ بِقَوْلِهِ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذنوب جميعا فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْقَاتِلَ إِنْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَدْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُشْرِكُ دَاخِلًا فِيهَا لِأَنَّ الشِّرْكَ مِنَ الذُّنُوبِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ ذِكْرُهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ غَيْرُ غَافِرٍ الشِّرْكَ لِأَحَدٍ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَالْقَتْلُ دُونَ الشِّرْكِ انْتَهَى
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حسن) وأخرجه النسائي وبن مَاجَهْ
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رِزْمَةَ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ
قَوْلُهُ (فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ) وَفِي رِوَايَةِ الْبَرَاءِ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ (مَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا لِيَتَعَوَّذَ مِنْكُمْ) قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي النِّهَايَةِ فِي بَابِ عَوَذَ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ إِنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا أَيْ إِنَّمَا أَقَرَّ بِالشَّهَادَةِ لَاجِئًا إِلَيْهَا وَمُعْتَصِمًا بِهَا لِيَدْفَعَ عَنْهُ الْقَتْلَ وَلَيْسَ بِمُخْلِصٍ فِي إِسْلَامِهِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ في سبيل الله يَعْنِي سَافَرْتُمْ إِلَى الْجِهَادِ فَتَبَيَّنُوا مِنَ الْبَيَانِ يُقَالُ تَبَيَّنْتَ الْأَمْرَ إِذَا تَأَمَّلْته قَبْلَ الْإِقْدَامِ عليه
وقرىء فَتَثَبَّتُوا مِنَ التَّثَبُّتِ وَهُوَ خِلَافُ الْعَجَلَةِ
وَالْمَعْنَى فَقِفُوا وَتَثَبَّتُوا حَتَّى تَعْرِفُوا الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ وَتَعْرِفُوا حَقِيقَةَ الْأَمْرِ الَّذِي تَقْدَمُونَ عَلَيْهِ وَلَا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام يَعْنِي التَّحِيَّةَ يَعْنِي لَا تَقُولُوا لِمَنْ حَيَّاكُمْ بِهَذِهِ التَّحِيَّةِ إِنَّهُ إِنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا فَتُقْدِمُوا عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ لِتَأْخُذُوا مَالَهُ وَلَكِنْ كُفُّوا عَنْهُ وَاقْبَلُوا مِنْهُ مَا أَظْهَرَهُ لَكُمْ لَسْتَ مُؤْمِنًا يَعْنِي لَسْتَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ فَتَقْتُلُوهُ بِذَلِكَ(8/306)
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّفْسِيرِ وَمُسْلِمٌ فِي آخِرِ الْكِتَابِ وَأَبُو دَاوُدَ فِي الْحُرُوفِ وَالنَّسَائِيُّ فِي السِّيَرِ وَفِي التَّفْسِيرِ
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) هُوَ السَّبِيعِيُّ
قَوْلُهُ (جَاءَ عَمْرُو بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ) هُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى مُؤَذِّنُ النبي
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ خَلْفَ النَّبِيِّ فَيُجْمَعُ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ جَاءَ أَنَّهُ قَامَ من مقامه خلف النبي حَتَّى جَاءَ مُوَاجَهَةً فَخَاطَبَهُ (وَكَانَ ضَرِيرَ الْبَصَرِ) فِي الْقَامُوسِ الضَّرِيرُ الذَّاهِبُ الْبَصَرِ جَمْعُهُ أَضِرَّاءُ فأنزل هذه الاية غير أولي الضرر الْآيَةَ وَفِي الْبُخَارِيِّ فَنَزَلَتْ مَكَانَهَا لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ في سبيل الله قال بن الْمُنَيِّرِ لَمْ يَقْتَصِرِ الرَّاوِي فِي الْحَالِ الثَّانِي عَلَى ذِكْرِ الْكَلِمَةِ الزَّائِدَةِ وَهِيَ غَيْرُ أُولِي الضرر فَإِنْ كَانَ الْوَحْيُ نَزَلَ بِزِيَادَةِ قَوْلِهِ غَيْرُ أولي الضرر فَقَطْ فَكَأَنَّهُ رَأَى إِعَادَةَ الْآيَةِ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى يَتَّصِلَ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَإِنْ كَانَ الْوَحْيُ نَزَلَ بِإِعَادَةِ الْآيَةِ بِالزِّيَادَةِ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ بِدُونِهَا فَقَدْ حَكَى الرَّاوِي صُورَةَ الْحَالِ
قَالَ الْحَافِظُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ غَيْرُ أُولِي الضرر وَأَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ رِوَايَةُ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ فَفِيهَا ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ اقْرَأْ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ المؤمنين فقال النبي غير أولي الضرر وَفِي حَدِيثٍ الْفَلَتَانِ بْنِ عَاصِمٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ فَقَالَ الْأَعْمَى مَا ذَنْبُنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ فَقُلْنَا لَهُ إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ فَخَافَ أَنْ يَنْزِلَ فِي أَمْرِهِ شَيْءٌ فَجَعَلَ يَقُولُ أتوب إلى الله فقال النبي للكاتب أكتب غير أولي الضرر أخرجه البزار والطبراني وصححه بن حِبَّانَ (إِيتُونِي بِالْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ) الْكَتِفُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ التَّاءِ وَهُوَ(8/307)
عَظْمٌ عَرِيضٌ يَكُونُ فِي أَصْلِ كَتِفِ الْحَيَوَانِ مِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ كَانُوا يَكْتُبُونَ فِيهِ لِقِلَّةِ الْقَرَاطِيسِ عِنْدَهُمْ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ
قَوْلُهُ (وَيُقَالُ عَمْرُو بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ إِلَخْ) قَالَ فِي التَّقْرِيبِ عَمْرُو بْنُ زائدة أو بن قَيْسِ بْنِ زَائِدَةَ وَيُقَالُ زِيَادٌ الْقُرَشِيُّ الْعَامِرِيُّ بن أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى الصَّحَابِيُّ الْمَشْهُورُ قَدِيمُ الْإِسْلَامِ وَيُقَالُ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَيُقَالُ الْحُصَيْنُ كَانَ النبي اسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ مَاتَ فِي آخِرِ خِلَافَةِ عُمَرَ
وَقَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ أَسْلَمَ قَدِيمًا وهاجر قبل مقدم النبي المدينة واستخلفه النبي عَلَى الْمَدِينَةِ ثَلَاثَ عَشْرَة مَرَّةً وَشَهِدَ الْقَادِسِيَّةَ وَقُتِلَ بِهَا شَهِيدًا وَكَانَ مَعَهُ اللِّوَاءُ يَوْمَئِذٍ
قوله (أخبرني عبد الكريم) هو بن مَالِكٍ الْجَزَرِيُّ بَيَّنَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيِّ عَنِ بن جُرَيْجٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيُّ كَذَا فِي الْفَتْحِ (سَمِعَ مِقْسَمًا مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَيُقَالُ لَهُ مَوْلَى بن عَبَّاسٍ لِلُزُومِهِ لَهُ
قَوْلُهُ (عَنْ بَدْرٍ وَالْخَارِجُونَ إلى بدر) هذا تفسير من بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَعْنِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ الْقَاعِدُونَ الْقَاعِدُونَ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَمِنْ قَوْلِهِ الْمُجَاهِدُونَ الْخَارِجُونَ إِلَى غَزْوَةِ بَدْرٍ وَلَكِنَّ الْعِبْرَةَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ) قَالَ الْعَيْنِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ قَوْلُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ قِيلَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ جَحْشٍ كَمَا ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ نَحْوَ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَذَلِكَ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ هُوَ أَخُو أَبِي أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ وَاسْمُ أَبِي أَحْمَدَ عَبْدٌ بِدُونِ إِضَافَةٍ وَهُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ وَأَيْضًا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ لَهُ عُذْرًا إِنَّمَا الْمَعْذُورُ أَخُوهُ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ جَحْشٍ
وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صالح عن بن عباس أنه بن جَحْشٍ وَلَيْسَ بِالْأَسَدِيِّ وَكَانَ أَعْمَى وَأَنَّهُ جَاءَ هو وبن أُمِّ مَكْتُومٍ فَذَكَرَا(8/308)
رَغْبَتَهُمَا فِي الْجِهَادِ مَعَ ضَرَرِهِمَا فَنَزَلَتْ غَيْرُ أولي الضرر فَجَعَلَ لَهُمَا مِنَ الْأَجْرِ مَا لِلْمُجَاهِدِينَ انْتَهَى
اعلم أَنَّ الْحَافِظَ قَدْ نَقَلَ فِي الْفَتْحِ حديث بن عَبَّاسٍ هَذَا عَنِ التِّرْمِذِيِّ بِتَمَامِهِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ ثُمَّ قَالَ هَكَذَا أَوْرَدَهُ التِّرْمِذِيُّ سِيَاقًا وَاحِدًا وَمِنْ قَوْلِهِ دَرَجَةً إِلَخْ مُدْرَجٌ في الخبر من كلام بن جُرَيْجٍ بَيَّنَهُ الطَّبَرِيُّ فَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجٍ نَحْوَ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ إِلَى قَوْلِهِ دَرَجَةً وَوَقَعَ عِنْدَهُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَأَبُو أَحْمَدَ بْنُ جَحْشٍ وَهُوَ الصَّوَابُ في بن جَحْشٍ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ أَخُوهُ وَأَمَّا هُوَ فَاسْمُهُ عَبْدٌ بِغَيْرِ إِضَافَةٍ وَهُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ ثم أخرجه بالسند المذكور عن بن جُرَيْجٍ قَالَ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا درجات منه قَالَ عَلِيٌّ الْقَاعِدِينَ مِنَ الْمُؤْمِنَينَ غَيْرُ أُولِي الضرر
وحاصل تفسير بن جُرَيْجٍ أَنَّ الْمُفَضَّلَ عَلَيْهِ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ أَمَّا أُولُو الضَّرَرِ فَمُلْحَقُونَ فِي الْفَضْلِ بِأَهْلِ الْجِهَادِ إِذَا صَدَقَتْ نِيَّاتُهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَغَازِي مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَأَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مِنْ مَسِيرٍ وَلَا قَطَعْتُمْ مِنْ وَادٍ إِلَّا وَهُمْ مَعَكُمْ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ
ويَحْتَمِلُ أن يكون المراد بقوله فضل الله المجاهدين على القاعدين درجة أي من أولي الضرر وغيرهم
وقوله وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا درجات منه أَيْ عَلَى الْقَاعِدِينَ مِنْ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَنْ أَنَسٍ وَلَا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ مِنَ اسْتِوَاءِ أُولِي الضَّرَرِ مَعَ الْمُجَاهِدِينَ لِأَنَّهَا اسْتَثْنَتْ أُولِي الضَّرَرِ مِنْ عَدَمِ الِاسْتِوَاءِ فَأَفْهَمَتْ إِدْخَالَهُمْ فِي الِاسْتِوَاءِ إِذًا لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الِاسْتِوَاءِ وَعَدَمِهِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ اسْتِوَاؤُهُمْ فِي أَصْلِ الثَّوَابِ لَا فِي الْمُضَاعَفَةِ لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ
وَفِي تَفْسِيرِ الْجَلَالَيْنِ لَا يَسْتَوِي القاعدون من المؤمنين عن الجهاد غير أولي الضرر بِالرَّفْعِ صِفَةٌ وَالنَّصْبِ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ زَمَانَةٍ أَوْ عَمًى وَنَحْوِهِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين لِضَرَرٍ دَرَجَةً فَضِيلَةً لِاسْتِوَائِهِمَا فِي النِّيَّةِ وَزِيَادَةِ الْمُجَاهِدِ بِالْمُبَاشَرَةِ وَكُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ وَعَدَ اللَّهُ الحسنى الجنة وفضل الله المجاهدين على القاعدين لِغَيْرِ ضَرَرٍ أَجْرًا عَظِيمًا وَيُبْدَلُ مِنْهُ دَرَجَاتٍ مِنْهُ مَنَازِلَ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ مِنَ الْكَرَامَةِ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً مَنْصُوبَتَانِ بِفِعْلِهِمَا الْمُقَدَّرِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا لِأَوْلِيَائِهِ رَحِيمًا بِأَهْلِ طَاعَتِهِ انْتَهَى
قَالَ فِي الْكَمَالَيْنِ فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فَضَّلَ الله المجاهدين على القاعدين(8/309)
فَوْقَ بَعْضٍ مِنَ الْكَرَامَةِ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً مَنْصُوبَتَانِ بفعلهما المقدر وكان أَجْرًا عَظِيمًا إِلَخْ فِيمَنْ قَعَدَ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَالَّذِي قَبْلَهُ فِيمَنْ قَعَدَ بِعُذْرٍ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَيْنِ كِلَيْهِمَا فِيمَنْ قَعَدَ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَإِنَّمَا كَرَّرَ وَأَوْجَبَ فِي الْأَوَّلِ دَرَجَةً وَفِي الثَّانِي دَرَجَاتٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّرَجَةِ الظَّفْرُ وَالْغَنِيمَةُ وَالذِّكْرُ الْجَمِيلُ فِي الدُّنْيَا وَبِالدَّرَجَاتِ ثَوَابُ الْآخِرَةِ
بَيَّنَتْ بِالْإِفْرَادِ فِي الْأَوَّلِ وَالْجَمْعِ فِي الثَّانِي لِأَنَّ ثَوَابَ الدُّنْيَا فِي جَنْبِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ يَسِيرٌ انْتَهَى مُلَخَّصًا
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ إِلَى قَوْلِهِ وَالْخَارِجُونَ إِلَى بَدْرٍ
قَوْلُهُ (عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ) الْمَدَنِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ أَوْ أَبُو الْحَارِثِ مُؤَدِّبُ وَلَدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ثِقَةٌ ثَبْتٌ فَقِيهٌ مِنَ الرَّابِعَةِ (رَأَيْتَ مَرْوَانَ بْنَ الحكم) أي بن أَبِي الْعَاصِ أَمِيرَ الْمَدِينَةِ الَّذِي صَارَ بَعْدَ ذَلِكَ خَلِيفَةً
قَوْلُهُ (أَمْلَى عَلَيْهِ) يُقَالُ أَمْلَيْتَ الْكِتَابَ وَأَمْلَلْته إِذَا أَلْقَيْته عَلَى الْكَاتِبِ لِيَكْتُبَ (وَهُوَ يُمِلُّهَا) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ هُوَ مِثْلُ يُمْلِيهَا يُمْلِي وَيُمْلِلْ بِمَعْنًى وَلَعَلَّ الْيَاءَ مُنْقَلِبَةٌ مِنْ إِحْدَى اللَّامَيْنِ (واللَّهِ لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ) أَيْ لَوِ اسْتَطَعْته وَعَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ إِشَارَةً إِلَى الِاسْتِمْرَارِ وَاسْتِحْضَارًا لِصُورَةِ الْحَالِ (وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي) الْوَاوُ لِلْحَالِ (حَتَّى هَمَّتْ) أَيْ قَرُبَتْ (تَرُضُّ فَخِذِي) بِصِيغَةِ(8/310)
المعلوم أي تدق فخذه فَخِذِي أَوْ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ تُدَقُّ (ثُمَّ سُرِّي عَنْهُ) بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ أَيْ كُشِفَ وَأُزِيلَ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ
قَوْلُهُ (وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ رِوَايَةُ رَجُلٍ مِنْ أصحاب النبي) هُوَ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (عَنْ رَجُلٍ مِنَ التَّابِعِينَ) هُوَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ (رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ) بَيَانٌ لِمَا قَبْلَهُ (وَمَرْوَانُ لم يسمع من النبي وَهُوَ مِنَ التَّابِعِينَ) قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ بَعْدَ نَقْلِ كَلَامِ الترمذي هذا ما لفظه لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ السَّمَاعِ عَدَمَ الصُّحْبَةِ وَالْأَوْلَى مَا قَالَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ لَمْ يَرَ
وقد ذكره بن عَبْدِ الْبَرِّ فِي الصَّحَابَةِ لِأَنَّهُ وُلِدَ فِي عهد النبي قَبْلَ عَامِ أُحُدٍ وَقِيلَ عَامَ الْخَنْدَقِ وَثَبَتَ عَنْ مَرْوَانَ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا طَلَبَ الْخِلَافَةَ فذكروا له بن عمر
فقال ليس بن عُمَرَ بِأَفْقَهَ مِنِّي وَلَكِنَّهُ أَسَنَّ مِنِّي وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ
فَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِعَدَمِ صُحْبَتِهِ وإنما لم يسمع من النبي وإن كان سماعه ممكنا لأن النبي نَفَى أَبَاهُ إِلَى الطَّائِفِ فَلَمْ يَرُدَّهُ إِلَّا عُثْمَانُ لَمَّا اسْتُخْلِفَ
قَوْلُهُ (سَمِعْتَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ) الْمَكِّيُّ حَلِيفُ بَنِي جُمَحَ الْمُلَقَّبُ بِالْقَسِّ بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ ثِقَةٌ عَابِدٌ مِنَ الثَّالِثَةِ وَلُقِّبَ بِالْقَسِّ لِعِبَادَتِهِ (عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ) بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ هَمَّامٍ التَّمِيمِيِّ حَلِيفُ قُرَيْشٍ وَهُوَ يَعْلَى بْنِ مُنْيَةَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ النُّونِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ مَفْتُوحَةٌ وَهِيَ أُمُّهُ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ مَاتَ سَنَةَ بِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ (يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَاهُ) بِمُوَحَّدَتَيْنِ بَيْنَهُمَا ألف ساكنة
قوله (قلت لعمر) أي بن الْخَطَّابِ (إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ أَنْ تَقْصُرُوا) أَيْ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أَيْ سَافَرْتُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا (وَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ) أَيْ وَذَهَبَ الْخَوْفُ فَمَا وَجْهُ الْقَصْرِ(8/311)
(فَقَالَ صَدَقَةٌ) أَيْ قَصْرُ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ صَدَقَةٌ (تَصَدَّقَ اللَّهُ) أَيْ تَفَضَّلَ (بِهَا عَلَيْكُمْ) أَيْ تَوْسِعَةً وَرَحْمَةً (فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ) أَيْ سَوَاءٌ حَصَلَ الْخَوْفُ أَمْ لَا
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الْقَصْرِ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ وَفِيهِ أَنَّ الْمَفْضُولَ إِذَا رَأَى الْفَاضِلَ يَعْمَلُ شَيْئًا يُشْكِلُ عَلَيْهِ دَلِيلُهُ يَسْأَلُهُ عَنْهُ انْتَهَى
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي بَابِ التَّقْصِيرِ فِي السَّفَرِ مِنْ أَبْوَابِ الصَّلَاةِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو داود والنسائي وبن مَاجَهْ
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْهُنَائِيُّ) بِضَمِّ الْهَاءِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ الْبَصْرِيُّ لَا بَأْسَ بِهِ مِنَ السَّادِسَةِ
قَوْلُهُ (نَزَلَ بَيْنَ ضُجْنَانَ) بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَالْجِيمِ وَالنُّونِ
قَالَ فِي النِّهَايَةِ هُوَ مَوْضِعٌ أَوْ جَبَلٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ (وَعُسْفَانَ) كَعُثْمَانَ مَوْضِعٌ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ كَذَا فِي الْقَامُوسِ
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ هِيَ قَرْيَةٌ جَامِعَةٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ (فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ) أَيْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ (إِنَّ لِهَؤُلَاءِ) أَيْ لِلْمُسْلِمِينَ (وَهِيَ الْعَصْرُ) لِمَا وَقَعَ فِي تَأْكِيدِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى مُرَاعَاتِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حَافِظُوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى (فَأَجْمِعُوا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ (أَمْرَكُمْ) أَيْ أَمْرَ الْقِتَالِ وَالْمَعْنَى فَاعْزِمُوا عَلَيْهِ (فَمِيلُوا عَلَيْهِمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً) أَيْ فَاحْمِلُوا عَلَيْهِمْ حَمَلَةً وَاحِدَةً (وأن جبرائيل أتى النبي) قَالَ الطِّيبِيُّ حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى نَحْوِ جَاءَ زَيْدٌ وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْسِمَ أَصْحَابَهُ شَطْرَيْنِ أَيْ نِصْفَيْنِ وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ نِصْفَيْنِ (فَيُصَلِّيَ) بِالنَّصِّب (بِهِمْ) وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فَيُصَلِّيَ بِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ (وَتَقُومَ) بِالنَّصْبِ (طَائِفَةٌ أُخْرَى وَرَاءَهُمْ لِيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ وَطَائِفَةٌ مُقْبِلُونَ عَلَى عَدُوِّهِمْ قَدْ أَخَذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ
قَالَ(8/312)
الطِّيبِيُّ أَيْ مَا فِيهِ الْحَذَرُ وَفِي الْكَشَّافِ جَعَلَ الْحَذَرَ وَهُوَ التَّحَرُّزُ وَالتَّيَقُّظُ آلَةً يَسْتَعْمِلُهَا الْغَازِي فَلِذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَسْلِحَةِ فِي الْأَخْذِ دَلَالَةً عَلَى التَّيَقُّظِ التَّامِّ وَالْحَذَرِ الْكَامِلِ وَمِنْ ثَمَّ قَدَّمَهُ عَلَى أَخْذِ الْأَسْلِحَةِ (ثُمَّ يَأْتِي الْآخَرُونَ وَيُصَلُّونَ مَعَهُ رَكْعَةً وَاحِدَةً) وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ ثُمَّ يَتَأَخَّرُ هَؤُلَاءِ وَيَتَقَدَّمُ أُولَئِكَ فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً (ثُمَّ يَأْخُذُ هَؤُلَاءِ) أَيِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى (فَتَكُونُ لَهُمْ رَكْعَةً رَكْعَةً) أَيْ معه وَتُصَلِّي كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمَا رَكْعَةً أُخْرَى لِأَنْفُسِهِمْ لِتَكُونَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا رَكْعَتَانِ وَقَالَ قَوْمٌ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ وَعَدُّوهُ مِنْ خَصَائِصِ صَلَاةِ الْخَوْفِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ إِلَخْ) تقدم تخريج أَحَادِيثَ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي بَابِ صَلَاةِ الْخَوْفِ
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي شُعَيْبٍ أَبُو مُسْلِمٍ الْحَرَّانِيُّ) بِفَتْحِ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَشَدَّةِ رَاءٍ وَبِنُونٍ نَزِيلُ بَغْدَادَ ثِقَةٌ يُغْرِبُ مِنَ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ (أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَاهِلِيِّ مَوْلَاهُمْ ثِقَةٌ مِنَ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ (أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ) هُوَ صَاحِبُ الْمَغَازِي (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ الظُّفَرِيِّ الْأَنْصَارِيُّ الْمَدَنِيُّ مَقْبُولٌ مِنَ الثَّالِثَةِ
قَوْلُهُ (يُقَالُ لَهُمْ بَنُو أُبَيْرِقٍ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ مُصَغَّرًا (ثُمَّ يَنْحَلُهُ بَعْضُ الْعَرَبِ(8/313)
أَيْ يَنْسُبُهُ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّحْلَةُ وَهِيَ النِّسْبَةُ بِالْبَاطِلِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ
وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ نَحَلَهُ الْقَوْلَ كَمَنَعَهُ نَسَبَهُ إِلَيْهِ (قَالَ فُلَانٌ كَذَا وَكَذَا) وَقَعَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مُكَرَّرَةً هَكَذَا قَالَ فُلَانٌ كَذَا وَكَذَا وَقَالَ فُلَانٌ كَذَا وَكَذَا (أَوْ كَمَا قَالَ الرَّجُلُ) أَوْ لِلشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي أَيْ قَالَ لَفْظَ الْخَبِيثِ
أَوْ قَالَ لَفْظَ الرَّجُلِ (وَقَالَ بن الْأُبَيْرِقِ قَالَهَا) أَيْ هَذِهِ الْأَشْعَارَ (وَكَانُوا) أَيْ بَنُو أُبَيْرِقٍ (إِذَا كَانَ لَهُ يَسَارٌ) أَيْ غِنًى (فَقَدِمَتْ ضَافِطَةٌ مِنَ الشَّامِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ الضَّافِطُ وَالضَّفَّاطُ مَنْ يَجْلِبُ الْمِيرَةَ وَالْمَتَاعَ إِلَى الْمُدُنِ وَالْمُكَارِي الَّذِي يُكْرِي الْأَحْمَالَ وَكَانُوا يَوْمَئِذٍ قَوْمًا مِنَ الْأَنْبَاطِ يَحْمِلُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ الدَّقِيقَ وَالزَّيْتَ وَغَيْرَهُمَا (مِنَ الدَّرْمَكِ) بِوَزْنِ جَعْفَرٍ هُوَ الدَّقِيقُ الْحَوَارِيُّ (فَجَعَلَهُ) أَيْ فَوَضَعَهُ (فِي مَشْرَبَةٍ) فِي الْقَامُوسِ الْمَشْرَبَةُ وَقَدْ تُضَمُّ الرَّاءُ الْغُرْفَةُ وَالْعَلِيَّةُ (سِلَاحٌ) بِكَسْرِ السِّينِ وَهُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِآلَاتِ الْحَرْبِ وَالْقِتَالِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ (دِرْعٌ وسيف) بيان لسلاح (فَعُدِيَ عَلَيْهِ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ سُرِقَ مَالُهُ وظلم يقال عدى عَلَيْهِ أَيْ ظَلَمَهُ (فَنُقِّبَتْ) مِنَ التَّنْقِيبِ أَوِ النَّقْبِ (فَتَحَسَّسْنَا) مِنَ التَّحَسُّسِ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ قَالَ فِي النِّهَايَةِ التَّجَسُّسِ بِالْجِيمِ التَّفْتِيشُ عَنْ بَوَاطِنِ الْأُمُورِ وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي الشَّرِّ وَقِيلَ التَّجَسُّسُ بِالْجِيمِ أَنْ يَطْلُبَهُ لِغَيْرِهِ وَبِالْحَاءِ أَنْ يَطْلُبَهُ لِنَفْسِهِ وَقِيلَ بِالْجِيمِ الْبَحْثُ عَنِ الْعَوْرَاتِ وَبِالْحَاءِ الِاسْتِمَاعُ
وَقِيلَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ فِي تَطَلُّبِ مَعْرِفَةِ الْأَخْبَارِ وَفِي الْقَامُوسِ التَّحَسُّسُ الِاسْتِمَاعُ لِحَدِيثِ الْقَوْمِ وَطَلَبُ خَبَرِهِمْ فِي الْخَيْرِ (فِي الدَّارِ) أَيْ فِي الْمَحَلَّةِ (وَنَحْنُ نَسْأَلُ فِي الدَّارِ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (واللَّهِ مَا نَرَى صَاحِبَكُمْ إِلَّا لَبِيدَ بْنَ سَهْلٍ) هَذَا مَقُولُ قَالُوا(8/314)
(رَجُلٌ مِنَّا) أَيْ هُوَ رَجُلٌ مِنَّا (لَهُ صَلَاحٌ وَإِسْلَامٌ) صِفَةٌ لِرَجُلٍ (اخْتَرَطَ سَيْفَهُ) أَيِ استله (إليك عنا) أي تنح عنا (فَمَا أَنْتَ بِصَاحِبِهَا) أَيْ لَسْتَ بِصَاحِبِ السَّرِقَةِ (حَتَّى لَمْ نَشُكَّ أَنَّهُمْ) أَيْ بَنِي أُبَيْرِقٍ (أَهْلَ جَفَاءٍ) بِالنَّصْبِ صِفَةٌ لِأَهْلِ بَيْتٍ وَالْجَفَاءُ بِالْمَدِّ تَرْكُ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ
(وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خصيما بَنِي أُبَيْرِقٍ) قَوْلُهُ بَنِي أُبَيْرِقٍ تَفْسِيرٌ وَبَيَانٌ لِلْخَائِنِينَ (مِمَّا قُلْتَ لِقَتَادَةَ) هَذَا تَفْسِيرٌ وَبَيَانٌ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِالِاسْتِغْفَارِ مِنْهُ (أَيْ لَوِ اسْتَغْفَرُوا اللَّهَ لَغَفَرَ لَهُمْ) هَذَا تَفْسِيرٌ يتعلق بقوله تعالى في الاية ومن يفعل سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يجد الله غفورا رحيما (قَوْلُهُمْ لِلَبِيدٍ) هَذَا تَفْسِيرٌ(8/315)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بريئا
(وَكَانَ شَيْخُنَا قَدْ عَشَا أَوْ عَسَا) هُوَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ كَبِرَ وَأَسَنَّ مِنْ عَسَا الْقَضِيبُ إِذَا يَبِسَ وَبِالْمُعْجَمَةِ أَيْ قَلَّ بَصَرُهُ وَضَعُفَ كَذَا فِي النِّهَايَةِ
وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ عَسَا الشَّيْخُ يَعْسُو عَسْوًا وَعُسُوًّا وَعُسِيًّا وَعَسَاءً وعسى عسى كبر والنبات عسا وعسوا غلظ ويبس والعشاء مَقْصُورَةً سُوءُ الْبَصَرِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كَالْعَشَاوَةِ أَوِ الْعَمَى عَشِيَ كَرَضِيَ وَدَعَا عَشًا (فِي الْجَاهِلِيَّةِ) مُتَعَلِّقٌ بِعَشَا (وَكُنْتَ أُرَى) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ أَظُنُّ (مَدْخُولًا)
قَالَ فِي النِّهَايَةِ الدَّخَلُ بِالتَّحْرِيكِ الْعَيْبُ وَالْغِشُّ وَالْفَسَادُ يَعْنِي أَنَّ إِيمَانَهُ كَانَ مُتَزَلْزِلًا فِيهِ نِفَاقٌ (فَنَزَلَ عَلَى سُلَافَةَ) بِضَمِّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ وَخِفَّةِ لَامٍ وَبِفَاءٍ
قَوْلُهُ (هَذَا حديث غريب) وأخرجه بن جرير وبن الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيُّ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ
وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ أَبِي فَاخِتَةَ وَاسْمُهُ سَعِيدُ بْنُ عِلَاقَةَ الْهَاشِمِيُّ مَوْلَاهُمُ الْكُوفِيُّ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ ثِقَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ(8/316)
قَوْلُهُ (مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَخْ) لِأَنَّهَا حُجَّةٌ عَلَى الْخَوَارِجِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ كُلَّ ذَنْبٍ شِرْكٌ وَأَنَّ صَاحِبَهُ خَالِدٌ فِي النَّارِ كَذَا فِي تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ أَيِ الْإِشْرَاكَ بِهِ وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ بِأَنَّ الشِّرْكَ غَيْرُ مَغْفُورٍ إِذَا مَاتَ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُشْرِكَ إِذَا تَابَ مِنْ شِرْكِهِ وَآمَنَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ وَصَحَّ إِيمَانُهُ وَغُفِرَتْ ذُنُوبُهُ كُلُّهَا الَّتِي عَمِلَهَا فِي حَالِ الشرك ويغفر ما دون ذلك أَيْ مَا سِوَى الْإِشْرَاكِ مِنَ الذُّنُوبِ لِمَنْ يَشَاءُ
يَعْنِي مَنْ يَشَاءُ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ
قال الْعُلَمَاءُ لَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يَغْفِرُ الشِّرْكَ بِالْإِيمَانِ وَالتَّوْبَةِ عَلِمْنَا أَنَّهُ يَغْفِرُ مَا دُونَ الشِّرْكِ بِالتَّوْبَةِ وَهَذِهِ الْمَشِيئَةُ فِي مَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْ ذُنُوبِهِ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ فَإِذَا مَاتَ صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ أَوِ الصَّغِيرَةِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ فَهُوَ عَلَى خَطَرِ الْمَشِيئَةِ إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ ثُمَّ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ بَعْدَ ذلك
قوله (وبن مَهْدِيٍّ كَانَ يَغْمِزُهُ قَلِيلًا) أَيْ يَطْعَنُ فِيهِ قَلِيلًا
قَالَ الْحَافِظُ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ قَالَ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ كَانَ يَحْيَى وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ لَا يُحَدِّثَانِ عَنْهُ وَقَالَ فِي التَّقْرِيبِ ضَعِيفٌ وَرُمِيَ بِالرَّفْضِ
قَوْلُهُ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ) بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ المطلبي قال أبو داود ثقة وذكره بن حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَذَكَرَ الْعَسْكَرِيُّ أَنَّهُ أَدْرَكَ النبي وَهُوَ صَغِيرٌ كَذَا فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ(8/317)
قوله (من يعمل سوءا يجز به) إِمَّا فِي الْآخِرَةِ أَوْ فِي الدُّنْيَا بِالْبَلَاءِ وَالْمِحَنِ كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ (قَارِبُوا) أَيِ اقْتَصِدُوا فَلَا تَغْلُوا وَلَا تُقَصِّرُوا بَلْ تَوَسَّطُوا (وَسَدِّدُوا) أَيِ اقْصِدُوا السَّدَادَ وَهُوَ الصَّوَابُ (حَتَّى الشَّوْكَةِ) بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّ حَتَّى جَارَةٌ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهَا ابْتِدَائِيَّةٌ وَالنَّصْبُ بِتَقْدِيرِ حَتَّى تَجِدَ (يُشَاكُهَا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ يُشَاكُ الْمُؤْمِنُ تلك الشوكة (أو النكبة) هِيَ مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنَ الْحَوَادِثِ (يُنْكَبُهَا) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ لِلْمُؤْمِنَ وَالْبَارِزُ لِلنَّكْبَةِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ ومسلم والنسائي
قوله (وبن مُحَيْصِنٍ اسْمُهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَيْصِنٍ) بِمُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّرًا وَآخِرُهُ نُونٌ السَّهْمِيُّ أَبُو حَفْصٍ قَارِئُ أَهْلِ مَكَّةَ مَقْبُولٌ مِنْ الْخَامِسَةِ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ
وَقَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ
ذكره بن حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ
وَقَالَ صَاحِبُ الْكَمَالِ فِي القراءات كان قرين بن كَثِيرٍ قَرَأَ عَلَى مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ وَكَانَ مُجَاهِدُ يقول بن مُحَيْصِنٍ يَبْنِي وَيَرُصُّ يَعْنِي أَنَّهُ عَالِمٌ بِالْعَرَبِيَّةِ وَالْأَثَرِ رُوِيَ لَهُ عِنْدَهُمْ حَدِيثٌ وَاحِدٌ كُلُّ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُؤْمِنُ كَفَّارَةٌ
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى) الْبَلْخِيُّ
قَوْلُهُ (إِلَّا أَنِّي وجدت في ظهري اقتصاما) بالقاف من باب الافتعال أي انكسارا في بَعْضِ النُّسَخِ انْقِسَامًا مِنْ بَابِ الِانْفِعَالِ
قَالَ فِي الْقَامُوسِ قَصَمَهُ يَقْصِمُهُ كَسَرَهُ وَأَبَانَهُ أَوْ كَسَرَهُ وَإِنْ لَمْ(8/318)
يَبِنْ فَانْقَصَمَ وَتَقَصَّمَ
قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَيُرْوَى انْفِصَامًا بِالْفَاءِ أَيِ انْصِدَاعًا (وَأَمَّا الْآخَرُونَ) أَيِ الْكَافِرُونَ (فَيَجْمَعُ ذَلِكَ) أَيْ أَعْمَالَهُمُ السَّيِّئَةَ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ (وَمُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ) بِضَمِّ العين وفتح الموحدة مصغرا بن نَشِيطٍ الرَّبَذِيُّ الْمَدَنِيُّ (وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الوجه) رواه أحمد وبن جَرِيرٍ كِلَاهُمَا بِرِوَايَاتٍ وَأَلْفَاظٍ وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ أَنَّ أَبَا بَكْرً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الصَّلَاحُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يجز به فَكُلُّ سُوءٍ عَمِلْنَا جُزِينَا بِهِ فَقَالَ رَسُولُ الله غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْتَ تَمْرَضُ أَلَسْتَ تَنْصَبُ أَلَسْتَ تَحْزَنُ
أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللَّأْوَاءُ قَالَ بَلَى قَالَ فَهُوَ مَا تُجْزَوْنَ بِهِ
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ عَائِشَةَ) أَخْرَجَهُ بن أبي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَغَيْرُهُ
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مُعَاذٍ) هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ قَرْمٍ بِفَتْحِ الْقَافِ وسكون الراء بن مُعَاذٍ الْبَصْرِيُّ النَّحْوِيُّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْسُبُهُ إِلَى جده سيىء الْحِفْظِ يَتَشَيَّعُ مِنَ السَّابِعَةِ
قَوْلُهُ (خَشِيَتْ سَوْدَةُ) بِنْتُ زَمْعَةَ بْنِ قَيْسٍ الْقُرَشِيَّةُ الْعَامِرِيَّةُ تَزَوَّجَهَا رسول الله بِمَكَّةَ بَعْدِ مَوْتِ خَدِيجَةَ وَدَخَلَ عَلَيْهَا بِهَا وَكَانَ دُخُولُهُ بِهَا قَبْلَ دُخُولِهِ عَلَى عَائِشَةَ بِالِاتِّفَاقِ وَهَاجَرَتْ مَعَهُ
وَتُوُفِّيَتْ فِي آخِرِ خِلَافَةِ عمر بن الخطاب (أن يطلقها النبي فقالت إلخ(8/319)
قال الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ بَعْدَ نَقْلِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ التِّرْمِذِيِّ وَلَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِدُونِ ذِكْرِ نُزُولِ الْآيَةِ انْتَهَى
قُلْتُ رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ وَكَانَ النبي يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ بِيَوْمِهَا وَيَوْمِ سَوْدَةَ
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُقْبَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ هِشَامٍ
لَمَّا أَنْ كَبِرَتْ سَوْدَةُ وَهَبَتْ وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ هَذَا الْحَدِيثَ وَزَادَ فِيهِ بَيَانَ سَبَبِهِ أَوْضَحَ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَرَوَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هشام بْنِ عُرْوَةَ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ
وَكَانَ رسول الله لَا يُفَضِّلُ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْقَسْمِ الْحَدِيثَ وَفِيهِ وَلَقَدْ قَالَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ حِينَ أَسَنَّتْ وَخَافَتْ أَنْ يُفَارِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَوْمِي لِعَائِشَةَ فَقِبَلَ ذَلِكَ مِنْهَا فَفِيهَا وَأَشْبَاهِهَا نَزَلَتْ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ من بعلها نشوزا الْآيَةَ (إِلَى أَنْ قَالَ) فَتَوَارَدَتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ على أنها خشيت الطلاق فوهبت
وأخرج بن سَعْدٍ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ مِنْ رِوَايَةِ الْقَاسِمِ بن أبي بزة مرسلا أن النبي طَلَّقَهَا فَقَعَدَتْ عَلَى طَرِيقِهِ فَقَالَتْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بالحق مالي فِي الرِّجَالِ حَاجَةٌ وَلَكِنْ أُحِبُّ أَنْ أُبْعَثَ مَعَ نِسَائِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَنْشُدُكَ بِاَلَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ هَلْ طَلَّقْتَنِي لِمَوْجِدَةٍ وَجَدْتَهَا عَلَيَّ قَالَ لَا قَالَتْ فَأَنْشُدُكَ لَمَا رَاجَعْتنِي فَرَاجَعَهَا قَالَتْ فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُ يَوْمِي وَلَيْلَتِي لِعَائِشَةَ حبة رسول الله انتهى
قلت رواية بن سَعْدٍ هَذِهِ مُرْسَلَةٌ فَهِيَ لَا تُقَاوِمُ حَدِيثَ بن عَبَّاسٍ وَمَا وَافَقَهُ فِي أَنَّ سَوْدَةَ خَشِيَتِ الطَّلَاقَ فَوَهَبَتْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا مِنَ الْإِصْلَاحِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْكُوفِيِّينَ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَنْ يَصَّالَحَا مِنَ التَّصَالُحِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ وَالْآيَةُ بِتَمَامِهَا مَعَ تَفْسِيرِهَا هَكَذَا وَإِنِ امْرَأَةٌ مَرْفُوعٌ بِفِعْلٍ يُفَسِّرُهُ خَافَتْ تَوَقَّعَتْ مِنْ بَعْلِهَا زَوْجِهَا نُشُوزًا تَرَفُّعًا عَلَيْهَا بِتَرْكِ مُضَاجَعَتِهَا وَالتَّقْصِيرِ فِي نَفَقَتِهَا لِبُغْضِهَا وَطُمُوحِ عَيْنَيْهِ إِلَى أَجْمَلَ مِنْهَا أَوْ إِعْرَاضًا عَنْهَا بِوَجْهِهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَصَّالَحَا فِيهِ إِدْغَامُ التَّاءِ فِي الْأَصْلِ فِي الصَّادِ وَفِي قِرَاءَةٍ يُصْلِحَا مِنْ أَصْلَحَ بَيْنَهُمَا صُلْحًا فِي الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ بِأَنْ يَتْرُكَ لَهَا شَيْئًا لِبَقَاءِ الصُّحْبَةِ فَإِنْ رَضِيَتْ بِذَلِكَ وَإِلَّا فَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُوَفِّيَهَا حَقَّهَا أَوْ يُفَارِقَهَا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ مِنَ الْفُرْقَةِ وَالنُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ
قَالَ تَعَالَى فِي بَيَانِ مَا جبل عليه الإنسان وأحضرت الأنفس الشح شِدَّةَ الْبُخْلِ أَيْ جُبِلَتْ عَلَيْهِ فَكَأَنَّهَا حَاضِرَتُهُ لَا تَغِيبُ عَنْهُ
الْمَعْنَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَكَادُ تَسْمَحُ بِنَصِيبِهَا مِنْ زَوْجِهَا وَالرَّجُلُ لَا يَكَادُ يَسْمَحُ عَلَيْهَا بِنَفْسِهِ إِذَا أَحَبَّ غَيْرَهَا وَإِنْ تُحْسِنُوا عِشْرَةَ النِّسَاءِ وَتَتَّقُوا الْجَوْرَ عَلَيْهِنَّ فإن الله كان بما تعملون خبيرا(8/320)
فَيُجَازِيكُمْ بِهِ كَذَا فِي الْجَلَالَيْنِ فَمَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ
وَفِي رِوَايَةِ أبو داود الطيالسي في مسنده
قال بن عَبَّاسٍ فَمَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ بن الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ
قَوْلُهُ (قَالَ آخِرُ آيَةٍ أُنْزِلَتْ أَوْ آخِرُ شَيْءٍ أُنْزِلَ) الشَّكُّ مِنَ الرَّاوِي (يَسْتَفْتُونَكَ) أَيْ عَنْ مَوَارِيثِ الْكَلَالَةِ وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قُلِ الله يفتيكم في الكلالة
تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْكَلَالَةِ وَمَا فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي بَابِ مِيرَاثِ الْأَخَوَاتِ مِنْ أَبْوَابِ الْفَرَائِضِ
وَالْآيَةُ بِتَمَامِهَا مَعَ تَفْسِيرِهَا هَكَذَا يَسْتَفْتُونَكَ أَيْ يَسْأَلُونَكَ عَنْ مِيرَاثِ الْكَلَالَةِ يَا مُحَمَّدُ قُلِ الله يفتيكم يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ يُخْبِرُكُمْ عَمَّا سَأَلْتُمْ عَنْهُ إِنِ امْرُؤُ مَرْفُوعٌ بِفِعْلٍ يُفَسِّرُهُ هَلَكَ أَيْ مَاتَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ أَيْ وَلَا وَالِدٌ وهو الكلالة
قال الحافظ بن كَثِيرٍ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْكَلَالَةِ انْتِفَاءُ الْوَالِدِ بَلْ يَكْفِي وُجُودَ الْكَلَالَةِ انْتِفَاءُ الْوَلَدِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عن عمر بن الخطاب رواها بن جَرِيرٍ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَيْهِ وَلَكِنَّ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ قَوْلُ الْجُمْهُورِ
وَقَضَى الصِّدِّيقُ أَنَّهُ الَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ ما ترك وَلَوْ كَانَ مَعَهَا أَبٌ لَمْ تَرِثْ شَيْئًا لِأَنَّهُ يَحْجُبُهَا بِالْإِجْمَاعِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَلَا وَالِدَ بِالنَّصِّ عِنْدَ التَّأَمُّلِ أَيْضًا لِأَنَّ الْأُخْتَ لَا يُفْرَضُ لَهَا النِّصْفُ مَعَ الْوَالِدِ بَلْ لَيْسَ لها ميراث بالكلية
وقد نقل بن جرير وغيره عن بن عباس وبن الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ فِي الْمَيِّتِ تَرَكَ بِنْتًا وَأُخْتًا أَنَّهُ لَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ لِقَوْلِهِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أخت فلها نصف ما ترك
قَالَ فَإِذَا تَرَكَ بِنْتًا وَقَدْ تَرَكَ وَلَدًا فَلَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ فَقَالُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ بِالْفَرْضِ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ الْآخَرُ بِالنَّصِيبِ بِدَلِيلِ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَهُ أُخْتٌ أَيْ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ فَلَهَا نصف ما ترك أَيِ الْمَيِّتُ وَهُوَ أَيِ الْأَخُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ يَرِثُهَا أَيْ يَرِثُ جَمِيعَ تَرِكَةِ الْأُخْتِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ أَيْ ذَكَرٌ يَعْنِي أَنَّ الْأُخْتَ إِذَا مَاتَتْ وَتَرَكَتْ أَخًا مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْ مِنَ الْأَبِ فَإِنَّهُ يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ مِيرَاثِ الْأُخْتِ إِذَا انْفَرَدَ وَلَمْ يَكُنْ لِلْأُخْتِ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهَا وَلَدٌ ذَكَرٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ أَوْ أُنْثَى فله ما فَضَلَ عَنْ نَصِيبِهَا وَلَوْ كَانَتِ الْأُخْتُ أَوِ الْأَخُ مِنْ أُمٍّ فَفَرْضُهُ السُّدُسُ فَإِنْ كَانَتَا أَيِ الْأُخْتَانِ اثْنَتَيْنِ أَيْ فَصَاعِدًا فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مما ترك أَيِ الْأَخُ وَإِنْ كَانُوا أَيِ الْوَرَثَةُ إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً أَيْ ذُكُورًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِنْهُمْ مثل حظ الأنثيين يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ شَرَائِعَ دِينِكُمْ أَنْ تَضِلُّوا أَيْ مَخَافَةَ أَنْ تَضِلُّوا واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عليم وَمِنْهُ الْمِيرَاثُ
تَنْبِيهٌ حَدِيثُ الْبَرَاءِ الْمَذْكُورُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آخِرَ آيَةٍ نَزَلَتْ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ(8/321)
الله يفتيكم إلخ وروى البخاري عن بن عَبَّاسٍ قَالَ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ آيَةُ الرِّبَا وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْآخِرِيَّةَ فِي حديث البراء مفيدة بما يتعلق بالمواريث بخلاف حديث بن عَبَّاسٍ وَيُحْتَمَلُ عَكْسُهُ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ
قَوْلُهُ (ويقال بن يُحْمِدُ) بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هُوَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الْكُوفِيُّ التَّمِيمِيُّ الْيَرْبُوعِيُّ نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ ثِقَةٌ حَافِظٌ مِنْ كِبَارِ الْعَاشِرَةِ
قَوْلُهُ (جَاءَ رَجُلٌ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ رُوِيَ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا لَمْ يُفْتِهِ عَنْ مَسْأَلَتِهِ وَوَكَلَ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ إِلَى بَيَانِ الْآيَةِ اعْتِمَادًا عَلَى عِلْمِهِ وَفَهْمِهِ انْتَهَى مُلَخَّصًا (فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ) زَادَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَتِهِ فَمَا الْكَلَالَةُ
وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ فَسَأَلَهُ عَنِ الْكَلَالَةِ (تُجْزِئُكَ) أَيْ تَكْفِيَكَ (آيَةُ الصيف) أي التي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى ويستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة الْآيَةَ قَالَ الْخَطَّابِيُّ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْكَلَالَةِ آيَتَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي الشِّتَاءِ وَهِيَ الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَفِيهَا إِجْمَالٌ وَإِبْهَامٌ لَا يَكَادُ يَتَبَيَّنُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ ظَاهِرِهَا ثُمَّ أَنْزَلَ الْآيَةَ الْأُخْرَى فِي الصَّيْفِ وَهِيَ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ وَفِيهَا مِنْ زِيَادَةِ الْبَيَانِ مَا لَيْسَ فِي آيَةِ الشِّتَاءِ فَأَحَالَ السَّائِلَ عَلَيْهَا لِيَتَبَيَّنَ الْمُرَادَ بِالْكَلَالَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا انْتَهَى
قَالَ أَبُو دَاوُدَ بَعْدَ رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ قُلْتَ لِأَبِي إِسْحَاقَ هُوَ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَدَعْ وَلَدًا وَلَا وَالِدًا قَالَ كَذَلِكَ ظَنُّوا أَنَّهُ كَذَلِكَ انْتَهَى(8/322)
قال الْخَطَّابِيُّ اخْتَلَفُوا فِي الْكَلَالَةِ مَنْ هُوَ فَقَالَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ هُوَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخطاب مثل قولهم وروي عنه أَنَّهُ قَالَ هُوَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَيُقَالُ إِنَّ هَذَا آخِرُ قَوْلَيْهِ
وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ هَذَا أَخْرَجَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَسَكَتَ عَنْهُ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ
بَاب وَمِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ هِيَ مِائَةٌ وَثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ آيَةً
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ هِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ
قَوْلُهُ (قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ) هَذَا الرَّجُلُ هُوَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ بَيَّنَ ذَلِكَ مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ وَالطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَلِلْبُخَارِيِّ فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ
أَنَّ نَاسًا مِنَ الْيَهُودِ وَلَهُ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ قَالَتِ الْيَهُودُ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا حِينَ سُؤَالِ كَعْبٍ عَنْ ذَلِكَ جماعة وتكلم كعب على لسانهم (لا تخذنا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا) أَيْ لَعَظَّمْنَاهُ وَجَعَلْنَاهُ عِيدًا لَنَا فِي كُلِّ سَنَةٍ لِعِظَمِ مَا حَصَلَ فِيهِ مِنْ إِكْمَالِ الدِّينِ (فَقَالَ عُمَرُ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَيَّ يَوْمٍ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أُنْزِلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَة)
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ طَابَقَ الْجَوَابُ السُّؤَالَ لِأَنَّهُ قَالَ لَاتَّخَذْنَاهُ عِيدًا وَأَجَابَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَعْرِفَةِ الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ وَلَمْ يَقُلْ جَعَلْنَاهُ عِيدًا
وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ اكْتَفَى فِيهَا بِالْإِشَارَةِ وَإِلَّا فَرِوَايَةُ إِسْحَاقَ قَدْ نَصَّتْ عَلَى الْمُرَادِ وَلَفْظُهُ نَزَلَتْ يَوْمَ الْجُمُعَة يَوْمَ عَرَفَةَ وَكِلَاهُمَا بِحَمْدِ اللَّهِ لَنَا عِيدٌ لَفْظُ الطَّبَرِيِّ وَالطَّبَرَانِيِّ وَهُمَا لَنَا عِيدَانِ وَكَذَا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ بن عَبَّاسٍ أَنَّ يَهُودِيًّا سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ نَزَلَتْ فِي يَوْمِ عِيدَيْنِ يَوْمِ جُمُعَةٍ وَيَوْمِ عَرَفَةَ فَظَهَرَ أَنَّ الْجَوَابَ تَضَمَّنَ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا وَهُوَ يَوْمُ(8/323)
الْجُمُعَةِ وَاتَّخَذُوا يَوْمَ عَرَفَةَ لِأَنَّهُ لَيْلَةُ الْعِيدِ وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ شَهْرَا عِيدٍ لَا يَنْقُصَانِ رَمَضَانُ وَذُو الْحِجَّةِ
فَسَمَّى رَمَضَانَ عِيدًا لِأَنَّهُ يَعْقُبُهُ الْعِيدُ قَالَهُ الْحَافِظُ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِمَا وَمُسْلِمٌ فِي آخِرِ الْكِتَابِ وَالنَّسَائِيُّ فِي الْحَجِّ وَالْإِيمَانِ
قَوْلُهُ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لكم دينكم أَحْكَامَهُ وَفَرَائِضَهُ فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا حَلَالٌ وَلَا حرام وأتممت عليكم نعمتي بِإِكْمَالِهِ وَقِيلَ بِدُخُولِ مَكَّةَ آمَنِينَ وَرَضِيتُ اخْتَرْتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا حَالٌ أَيِ اخْتَرْتُهُ لَكُمْ مِنْ بَيْنِ الْأَدْيَانِ وَآذَنْتُكُمْ بِأَنَّهُ هُوَ الدِّينُ المرضي وحده وأخرجه بن جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ
قَوْلُهُ (يَمِينُ الرَّحْمَنِ مَلْأَى) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَهَمْزَةٍ مَعَ الْقَصْرِ تَأْنِيثُ مَلْآنَ
قَالَ الْحَافِظُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ مَلْأَى لَازِمُهُ وَهُوَ أَنَّهُ فِي غَايَةِ الْغِنَى وَعِنْدَهُ مِنَ الرِّزْقِ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ فِي عِلْمِ الْخَلَائِقِ (سَحَّاءُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَتَيْنِ مُثَقَّلٌ مَمْدُودٌ أَيْ دَائِمَةُ الصَّبِّ
يُقَالُ سَحَّ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مُثَقَّلٌ يَسِحُّ بِكَسْرِ السِّينِ فِي الْمُضَارِعِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا (لَا يَغِيضُهَا) بِالْمُعْجَمَتَيْنِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ لَا يُنْقِصُهَا لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ
يُقَالُ غَاضَ الْمَاءُ يَغِيضُ إِذَا نَقَصَ وَغِضْتُهُ أَنَا أَغِيضُهُ أَيْ لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ كَمَا فِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ أَوْ لَا يَغِيضُهَا شَيْءٌ كَمَا فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ (اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِ أَيْ فِيهِمَا (أَرَأَيْتُمْ) أَيْ أَخْبِرُونِي وَقِيلَ أَعَلِمْتُمْ وَأَبْصَرْتُمْ (مَا أَنْفَقَ) مَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ إِنْفَاقَ اللَّهِ وَقِيلَ مَا مَوْصُولَةٌ مُتَضَمِّنَةٌ مَعْنَى الشَّرْطِ أَيِ الَّذِي أَنْفَقَهُ (مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ) زَادَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ وَالْأَرْضَ(8/324)
أَيْ مِنْ يَوْمِ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ فَإِنَّهُ أَيِ الْإِنْفَاقَ أَوِ الَّذِي أَنْفَقَ (لَمْ يُغِضْ) أَيْ لَمْ يُنْقِصْ (مَا فِي يَمِينِهِ) أَيِ الَّذِي فِي يَمِينِهِ (وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ خَلَقَ وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ الْعَرْشِ هُنَا أَنَّ السَّامِعَ هُنَا يَتَطَلَّعُ مِنْ قَوْلِهِ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فَذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَرْشَهُ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كَانَ عَلَى الْمَاءِ كَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ بِلَفْظِ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ (وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْمِيزَانُ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ الْمِيزَانُ هُنَا مَثَلٌ وَإِنَّمَا هُوَ قِسْمَتُهُ بِالْعَدْلِ بَيْنَ الْخَلْقِ (يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ) أَيْ يُوَسِّعُ الرِّزْقَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَيُقَتِّرُ كَمَا يَصْنَعُهُ الْوَزَّانُ عِنْدَ الْوَزْنِ يَرْفَعُ مَرَّةً وَيَخْفِضُ أُخْرَى وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِهَذَا وَأَشْبَاهِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ بَلْ يَجْرِي عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَا يُقَالُ كَيْفَ قَالَهُ الْعَيْنِيِّ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ
قَوْلُهُ (وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَمَّا ضُيِّقَ عَلَيْهِمْ بِتَكْذِيبِهِمُ النَّبِيَّ بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَكْثَرَ النَّاسِ مَالًا يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ مَقْبُوضَةٌ عَنْ إِدْرَارِ الْأَرْزَاقِ عَلَيْنَا كَنَّوْا بِهِ عَنِ الْبُخْلِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى غُلَّتْ أُمْسِكَتْ أَيْدِيهِمْ عَنْ فِعْلِ الْخَيْرَاتِ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ وَبَقِيَّةُ الْآيَةِ مَعَ تَفْسِيرِهَا هكذا ولعنوا بما قالوا أَيْ طُرِدُوا عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِسَبَبِ مَا قالوا بل يداه مبسوطتان مُبَالَغَةٌ فِي الْوَصْفِ بِالْجُودِ وَثَنَّى الْيَدَ لِإِفَادَةِ الْكَثْرَةِ إِذْ غَايَةُ مَا يَبْذُلُهُ السَّخِيُّ مِنْ مَالِهِ أَنْ يُعْطِيَ بِيَدِهِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ مِنْ تَوْسِيعٍ وَتَضْيِيقٍ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ (وَهَذَا الْحَدِيثُ قَالَ الْأَئِمَّةُ يُؤْمَنُ بِهِ كَمَا جَاءَ إِلَخْ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي بَابِ فَضْلِ الصَّدَقَةِ مِنْ أَبْوَابِ الزَّكَاةِ
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ) الْإِيَادِيُّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ أَبُو قُدَامَةَ الْبَصْرِيُّ صَدُوقٌ يخطىء من الثامنة(8/325)
قَوْلُهُ (يُحْرَسُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْحِرَاسَةِ أَيْ يَحْفَظُهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ عَنِ الْكُفَّارِ واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ أَيْ يَحْفَظُكَ يَا مُحَمَّدُ وَيَمْنَعُكَ مِنْهُمْ وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ هُنَا الكفار
فإن قِيلَ أَلَيْسَ قَدْ شُجَّ رَأْسُهُ وَكُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَقَدْ أُوذِيَ بِضُرُوبٍ مِنَ الْأَذَى فَكَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ (واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)
قُلْتُ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ يَعْصِمُهُ مِنَ الْقَتْلِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ أَرَادَهُ بِالْقَتْلِ وَقِيلَ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا إن هذه الاية نزلت بعد ما شُجَّ رَأْسُهُ فِي يَوْمِ أُحُدٍ لِأَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ وَاخْتُلِفَ فِي وصله وإرساله والحديث أخرجه أيضا بن أبي حاتم وبن جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ
وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ (وَرَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الْجُرَيْرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ كان النبي يُحْرَسُ وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ عَنْ عَائِشَةَ) قَالَ الحافظ بن كَثِيرٍ بَعْدَ نَقْلِ كَلَامِ التِّرْمِذِيِّ هَذَا هَكَذَا رواه بن جرير من طريق إسماعيل بن علية وبن مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ وُهَيْبٍ كِلَاهُمَا عَنِ الْجُرَيْرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ مُرْسَلًا
قَوْلُهُ (عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ الْخَفِيفَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ الْجَزَرِيِّ كُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ السُّوَائِيُّ كُوفِيُّ الْأَصْلِ ثِقَةٌ رُمِيَ بِالتَّشَيُّعِ مِنَ السَّادِسَةِ (عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسعود(8/326)
قوله (في المعاصي) أي من الزنى وَصَيْدِ يَوْمِ السَّبْتِ وَغَيْرِهِمَا (فَنَهَتْهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ) أَيْ أَوَّلًا (فَلَمْ يَنْتَهُوا) أَيْ فَلَمْ يَقْبَلُوا النَّهْيَ وَلَمْ يَتْرُكُوا الْمَنْهِيَّ (فَجَالَسُوهُمْ) أَيِ الْعُلَمَاءُ (فِي مَجَالِسِهِمْ) أَيْ مَجَالِسِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْعُصَاةِ وَمَسَاكِنِهِمْ (وَوَاكَلُوهُمْ) مِنَ الْمُوَاكَلَةِ مُفَاعَلَةٌ لِلْمُشَارَكَةِ فِي الْأَكْلِ وَكَذَا قَوْلُهُ وَشَارَبُوهُمْ (فَضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ بِبَعْضٍ
قَالَ القارىء أَيْ خَلَطَ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ يُقَالُ ضَرَبَ اللَّبَنَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ أَيْ خَلَطَهُ ذَكَرَهُ الرَّاغِبُ
وقال بن الْمَلَكِ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ سَوَّدَ اللَّهُ قَلْبَ مَنْ لَمْ يَعْصِ بِشُؤْمِ مَنْ عَصَى فَصَارَتْ قُلُوبُ جَمِيعِهِمْ قَاسِيَةً بَعِيدَةً عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ أَوِ الرَّحْمَةِ بِسَبَبِ الْمَعَاصِي وَمُخَالَطَةِ بَعْضِهِمْ بعضا
انتهى
قال القارىء وَقَوْلُهُ قَلْبَ مَنْ لَمْ يَعْصِ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ لِأَنَّ مُوَاكَلَتَهُمْ وَمُشَارَبَتَهُمْ مِنْ إِكْرَاهٍ وَإِلْجَاءٍ بَعْدَ عَدَمِ انْتِهَائِهِمْ عَنْ مَعَاصِيهمْ مَعْصِيَةٌ ظَاهِرَةٌ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْبُغْضِ فِي اللَّهِ أَنْ يَبْعُدُوا عنهم ويهاجروهم ويقاطعوهم ولم يواصلوهم (وَلَعَنَهُمْ) أَيِ الْعَاصِينَ وَالسَّاكِتِينَ الْمُصَاحِبِينَ (عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ) بِأَنْ دَعَا عَلَيْهِمْ فَمُسِخُوا قِرَدَةً وَهُمْ أصحاب أيلة (وعيسى بن مَرْيَمَ) بِأَنْ دَعَا عَلَيْهِمْ فَمُسِخُوا خَنَازِيرَ وَهُمْ أَصْحَابُ الْمَائِدَةِ (ذَلِكَ) أَيِ اللَّعْنُ (بِمَا عَصَوْا) أَيْ بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ مُبَاشَرَةً وَمُعَاشَرَةً (وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) أي يتجاوزون عن الحد (قال) أي بن مسعود (فجلس رسول الله وَكَانَ مُتَّكِئًا) أَيْ عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ أَوْ مُسْتَنِدًا إِلَى ظَهْرِهِ قَبْلَ ذَلِكَ فَجَلَسَ مُسْتَوِيًا لِلِاهْتِمَامِ بِإِتْمَامِ الْكَلَامِ (فَقَالَ لَا) أَيْ لَا تُعْذَرُونَ أَوْ لَا تَنْجُونَ مِنَ الْعَذَابِ أَنْتُمْ أَيُّهَا الْأُمَّةُ خَلَفَ أَهْلِ تِلْكَ الْأُمَّةِ (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تَأْطِرُوهُمْ) بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَيُبَدَّلُ وَبِكَسْرِ الطَّاءِ (أَطْرًا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِلتَّأْكِيدِ أَيْ حَتَّى تَمْنَعُوا أَمْثَالَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَعْصِيَةِ
قَالَ فِي الْمَجْمَعِ أَيْ لَا تَنْجُونَ مِنَ الْعَذَابِ حَتَّى تَمِيلُوهُمْ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ مِنْ أَطَرْتُ الْقَوْسَ آطِرُهَا بِكَسْرِ طَاءٍ أَطْرًا بِسُكُونِهَا إِذَا حَنَيْتهَا أَيْ تَمْنَعُوهُمْ مِنَ الظُّلْمِ وَتُمِيلُوهُمْ عَنِ الْبَاطِلِ إِلَى الْحَقِّ
وَقَالَ الطيبي حتى متعلقة بلا كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ لَهُ عِنْدَ ذِكْرِ مَظَالِمِ بَنِي إِسْرَائِيلَ هَلْ يُعْذَرُ فِي تَخْلِيَةِ الظَّالِمِينَ وَشَأْنِهُمْ فَقَالَ لَا حَتَّى تَأْطِرُوهُمْ وَتَأْخُذُوا عَلَى أَيْدِيهمْ
وَالْمَعْنَى لَا تُعْذَرُونَ حَتَّى تُجْبِرُوا الظَّالِمَ عَلَى الْإِذْعَانِ لِلْحَقِّ وَإِعْطَاءِ النَّصَفَةِ لِلْمَظْلُومِ
وَالْيَمِينُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ لَا وَحَتَّى وَلَيْسَتْ لَا هَذِهِ بِتِلْكَ الَّتِي يَجِيءُ بِهَا الْمُقْسِمُ تَأْكِيدًا لِقَسَمِهِ انتهى(8/327)
قوله (قال يزيد) هو بن هَارُونَ (وَكَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ لَا يَقُولُ فِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) كَمَا ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ فِيمَا بَعْدُ بِقَوْلِهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ إِلَخْ
ورواه أيضا بن مَاجَهْ بِهَذَا السَّنَدِ مُرْسَلًا
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وأبو داود وبن مَاجَهْ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ
قَوْلُهُ (وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي الْوَضَّاحِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ إِلَخْ) وَصَلَهُ التِّرْمِذِيُّ فِيمَا بَعْدُ بِقَوْلِهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ وَأَمْلَاهُ عَلِيٌّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي الْوَضَّاحِ إِلَخْ
قَوْلُهُ (لَمْ يَمْنَعْهُ مَا رَأَى مِنْهُ) أَيْ لَمْ يَمْنَعِ النَّاهِيَ مَا رَأَى هُوَ مِنَ الْمُذْنِبِ مِنْ وُقُوعِهِ عَلَى الذَّنْبِ (أَنْ يَكُونَ) أَيْ مِنْ أَنْ يَكُونَ النَّاهِي (أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ) أَيْ مُوَاكِلَ الْمُذْنِبِ وَمُشَارِبَهُ وَمُخَالِطَهُ
وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ
كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وقعيده(8/328)
قَوْلُهُ (وَأَمْلَاهُ عَلَيَّ) أَيْ أَلْقَى عَلَيَّ الْحَدِيثَ فكتبته
قوله (حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ) اسْمُهُ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ النَّبِيلُ (أَخْبَرْنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعْدٍ) الْكَاتِبُ الْمُعَلِّمُ
قَوْلُهُ (فَأَنْزَلَ اللَّهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ ما أحل الله لكم) أَيْ مَا طَابَ وَلَذَّ مِنَ الْحَلَالِ
وَمَعْنَى لَا تُحَرِّمُوا لَا تَمْنَعُوهَا أَنْفُسَكُمْ كَمَنْعِ التَّحْرِيمِ أَوْ لَا تَقُولُوا حَرَّمْنَاهَا عَلَى أَنْفُسِنَا مُبَالَغَةً مِنْكُمْ فِي الْعَزْمِ عَلَى تَرْكِهَا تَزَهُّدًا مِنْكُمْ وَتَقَشُّفًا وَلَا تَعْتَدُوا أَيْ وَلَا تُجَاوِزُوا الْحَدَّ الَّذِي حَدَّ عَلَيْكُمْ فِي تَحْلِيلٍ أَوْ تَحْرِيمٍ أَوْ وَلَا تَتَعَدَّوْا حُدُودَ مَا أَحَلَّ لَكُمْ إِلَى مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ أَوْ وَلَا تُسْرِفُوا فِي تَنَاوُلِ الطَّيِّبَاتِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ المعتدين حُدُودَهُ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا حَلَالًا حَالٌ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَوْلُهُ (هَذَا حديث غريب) وأخرجه بن أبي حاتم وبن جرير(8/329)
عمرو بْنِ شُرَحْبِيلَ) الْهَمْدَانِيِّ أَبِي مَيْسَرَةَ الْكُوفِيِّ ثِقَةٌ أَيِ الْقِمَارِ يَعْنِي مَا حُكْمُهُمَا قُلْ لَهُمْ فِيهِمَا أَيْ فِي تَعَاطِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ أَيْ عَظِيمٌ لِمَا يَحْصُلُ بِسَبَبِهِمَا مِنَ الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُشَاتَمَةِ وَقَوْلِ الْفُحْشِ الْآيَةَ أَيْ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ بِاللَّذَّةِ وَالْفَرَحِ فِي الْخَمْرِ وَإِصَابَةِ الْمَالِ بِلَا كَدٍّ فِي الْمَيْسِرِ وَإِثْمُهُمَا أَيْ مَا يَنْشَأُ عَنْهُمَا مِنَ الْمَفَاسِدِ أَكْبَرُ أَعْظَمُ مِنْ نَفْعِهِمَا لِأَنَّ أَصْحَابَ الشُّرْبِ وَالْقِمَارِ يَقْتَرِفُونَ فِيهِمَا الْآثَامَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ (فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ) أَيِ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم لعداوة والبغضاء في الخمر والميسر وَبَعْدَهُ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فهل أنتم منتهون (فَقَالَ) أَيْ عُمَرُ (انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا) أَيْ عَنْ إِتْيَانِهِمَا أَوْ عَنْ طَلَبِ الْبَيَانِ الشَّافِي وَالظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ
قال الطَّيْبِيُّ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَعْنِي قَوْلُهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخمر والميسر الْآيَتَيْنِ وَفِيهِمَا دَلَائِلُ سَبْعَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ أَحَدُهَا قَوْلُهُ (رِجْسٌ) وَالرِّجْسُ هُوَ النَّجِسُ وَكُلُّ نَجِسٍ حَرَامٌ وَالثَّانِي قَوْلُهُ (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) وَمَا هُوَ
مِنْ عَمَلِهِ حَرَامٌ
وَالثَّالِثُ قَوْلُهُ (فَاجْتَنِبُوهُ) وَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِاجْتِنَابِهِ فَهُوَ حَرَامٌ
وَالرَّابِعُ قَوْلُهُ (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وَمَا عُلِّقَ رَجَاءُ الْفَلَاحِ بِاجْتِنَابِهِ فَالْإِتْيَانُ بِهِ حَرَامٌ وَالْخَامِسُ قَوْلُهُ (يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ والبغضاء في الخمر والميسر وَمَا هُوَ سَبَبُ وُقُوعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ المسلمين فهو حرام
والسادس قوله (يصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة) وَمَا يَصُدُّ بِهِ الشَّيْطَانُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهُوَ حَرَامٌ وَالسَّابِعُ قَوْلُهُ (فَهَلْ أنتم منتهون) مَعْنَاهُ انْتَهُوا وَمَا أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِالِانْتِهَاءِ عَنْهُ فَالْإِتْيَانُ بِهِ حَرَامٌ انْتَهَى(8/330)
قَوْلُهُ (وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إِسْرَائِيلَ مُرْسَلًا) أَيْ رُوِيَ عَنْهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ بِلَفْظِ إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ اللَّهُمَّ إِلَخْ كَمَا بَيَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ هَذَا
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) كُنْيَتُهُ أَبُو كُرَيْبٍ وَهُوَ مَشْهُورٌ بِهَا (عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ) هو كنيته عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ الْمَذْكُورِ فِي الْإِسْنَادِ الْمُتَقَدِّمِ (وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ) أَيْ حَدِيثُ وَكِيعٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ بِلَفْظِ إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ محمد بن يوسف عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عُمَرَ وَبِلَفْظِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ لِأَنَّ وَكِيعًا أَحْفَظُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ
قُلْتُ فِيهِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ يُوسُفَ لَمْ يَنْفَرِدْ بِلَفْظِ عَنْ عُمَرَ بَلْ قَدْ تَابَعَهُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَخَلَفُ بْنُ الْوَلِيدِ عِنْدَ أَحْمَدَ
وَحَدِيثُ عُمَرَ هَذَا أَخْرَجَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ
وَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ صَحَّحَهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَكَذَا قال الحافظ بن كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ
قَوْلُهُ (فَلَمَّا حُرِّمَتْ) قَالَ الْحَافِظُ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ تَحْرِيمَهَا كَانَ عَامَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ
وَذَكَرَ رِوَايَاتٍ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جناح فيما طعموا أَيْ لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِمْ فِيمَا شَرِبُوا مِنَ الْخَمْرِ وَأَكَلُوا مِنْ مَالِ الْقِمَارِ فِي وَقْتِ الْإِبَاحَةِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ
قَالَ الشَّاعِرُ فَإِنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُو وَإِنْ شِئْتُ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخًا وَلَا بَرْدًا النُّقَاخُ الْمَاءُ وَالْبَرْدُ النَّوْمُ إِذَا مَا اتَّقَوْا أَيْ إذا ما اتقوا(8/331)
قال بن قُتَيْبَةَ يُقَالُ لَمْ أَطْعَمْ خُبْزًا وَلَا مَاءً ولا نوما الشِّرْكَ وَقِيلَ اتَّقَوْا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَآمَنُوا يَعْنِي بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَيِ ازْدَادُوا مِنْ عَمَلِ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا أَيِ اتَّقَوْا الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ بَعْدَ التَّحْرِيمِ
فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْأُولَى إِخْبَارًا عَنْ حَالِ مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَشْرَبُهَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ أَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ وَالثَّانِيَةُ خِطَابَ مَنْ بَقِيَ بَعْدَ التَّحْرِيمِ أُمِرُوا بِاتِّقَائِهَا وَالْإِيمَانِ بِتَحْرِيمِهَا
ثُمَّ اتَّقَوْا أَيْ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَأَحْسَنُوا أَيِ الْعَمَلَ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالِاتِّقَاءِ الْأَوَّلِ فِعْلُ التَّقْوَى وَبِالثَّانِي الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا وَبِالثَّالِثِ اتِّقَاءُ الظُّلْمِ مَعَ ضَمِّ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ
وَقِيلَ إِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّكْرِيرِ التَّأْكِيدُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْحَثِّ عَلَى الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَضَمُّ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا واللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ الْمُتَقَرِّبِينَ إِلَيْهِ بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالتَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو داود والطيالسي
وَقَدْ رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ أَيْضًا أَيْ كَمَا أَنَّ إِسْرَائِيلَ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ كَذَلِكَ رَوَاهُ شُعْبَةُ أَيْضًا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عن البراء
قَوْلُهُ (أَرَأَيْتَ) أَيْ أَخْبِرْنِي (وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ ظَرْفٌ بِقَوْلِهِ قَالُوا أَيْ قَالُوا حِينَ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ
قَالَ فِي الْقَامُوسِ لَمَّا تَكُونُ بِمَعْنَى حين ولم الجازمة وإلا
قَالَ نَاسٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِخْوَانُنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ(8/332)
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وزاد في آخره ولما حولت القبلة
قوله (قال لي رسول الله قِيلَ لِي) أَنْتَ مِنْهُمْ قَالَ النَّوَوِيُّ مَعْنَاهُ أن بن مَسْعُودٍ مِنْهُمْ انْتَهَى
وَقَالَ الْخَازِنُ مَعْنَاهُ أَنَّ رسول الله قيل له إن بن مَسْعُودٍ مِنْهُمْ يَعْنِي مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَخْ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ والنسائي
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا مَنْصُورُ بْنُ وَرْدَانَ) الْأَسَدِيُّ الْعَطَّارُ الْكُوفِيُّ مَقْبُولٌ مِنَ التَّاسِعَةِ (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ عَامِرٍ الثَّعْلَبِيِّ بِالْمُثَلَّثَةِ وَالْمُهْمَلَةِ الْكُوفِيُّ صَدُوقٌ يَهِمُ مِنَ السَّادِسَةِ
قَوْلُهُ (فِي كُلِّ عَامٍ) بِحَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ (وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ) اسْتُدِلَّ بِظَاهِرِهِ عَلَى أَنَّ الْإِيجَابَ كان مفوضا إليه كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ وَرُدَّ بِأَنَّ قَوْلَهُ لَوْ قُلْتُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ أَوْ بِوَحْيٍ نَازِلٍ أَوْ رَأْيٍ يَرَاهُ إِنْ جَوَّزْنَا لَهُ الِاجْتِهَادَ وَالدَّالُّ عَلَى الْأَعَمِّ لَا يَدُلُّ عَلَى الْأَخَصِّ قَالَهُ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَجُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ أَصْلُهُ شَيْئَاءُ بِهَمْزَتَيْنِ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ وَهِيَ فَعْلَاءُ مِنْ لَفْظِ شَيْءٍ وَهَمْزَتُهَا الثَّانِيَةُ لِلتَّأْنِيثِ وَلِذَا لَمْ تَنْصَرِفْ كَحَمْرَاءَ وَهِيَ مفردة لفظ جَمْعٌ مَعْنًى وَلَمَّا اسْتُثْقِلَتِ الْهَمْزَتَانِ الْمُجْتَمِعَتَانِ قُدِّمَتِ الْأُولَى الَّتِي هِيَ لَامُ الْكَلِمَةِ فَجُعِلَتْ قَبْلَ الشين فصار وزنها لفعاء إن تبدلكم أَيْ تُظْهَرْ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ لِمَا فِيهَا(8/333)
مِنَ الْمَشَقَّةِ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ أَيْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُبْدَ لَكُمْ
الْمَعْنَى إِذَا سَأَلْتُمْ عَنْ أَشْيَاءَ فِي زَمَنِهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ بِإِبْدَائِهَا وَمَتَى أَبْدَاهَا سَاءَتْكُمْ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهَا
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وبن مَاجَهْ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ بِإِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ فِي بَابِ كَمْ فُرِضَ الْحَجُّ وَبَيَّنْتَ هُنَاكَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُنْقَطِعٌ
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عن أبي هريرة وبن عَبَّاسٍ) تَقَدَّمَ تَخْرِيجُ حَدِيثَيْهِمَا فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرِ) بْنِ رِبْعِيٍّ الْقَيْسِيُّ (أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ) الْبَحْرَانِيُّ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَةِ صَدُوقٌ مِنْ كِبَارِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ (أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ أَنَسِ) بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ قَاضِي الْبَصْرَةِ ثِقَةٌ مِنَ الرَّابِعَةِ
قَوْلُهُ (قَالَ رَجُلٌ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ الْقُرَشِيُّ السَّهْمِيُّ وفي رواية البخاري أن رسول الله خَرَجَ فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ فَقَالَ مَنْ أَبِي (مَنْ أَبِي) جُمْلَةٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ مَقُولُ الْقَوْلِ
فَإِنْ قُلْتَ لِمَ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ قُلْتُ لِأَنَّهُ كَانَ يُنْسَبُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ إِذَا لَاحَى أَحَدًا فَنَسَبَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى أَبِيهِ
فَإِنْ قُلْتَ مِنْ أين عرف رسول الله أَنَّهُ ابْنُهُ قُلْتُ إِمَّا بِالْوَحْيِ وَهُوَ الظَّاهِرُ أَوْ بِحُكْمِ الْفَرَاسَةِ قَالَهُ الْعَيْنِيُّ (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِلَخْ) قَالَ الْحَافِظُ قَدْ تَعَلَّقَ بِهَذَا النَّهْيِ مَنْ كَرِهَ السُّؤَالَ عَمَّا لَمْ يَقَعْ وَقَدْ أَسْنَدَهُ الدَّارِمِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ عن جماعة من الصحابة والتابعين
وقال بن الْعَرَبِيِّ اعْتَقَدَ قَوْمٌ مِنَ الْغَافِلِينَ مَنْعَ أَسْئِلَةِ النوازل حتى(8/334)
تَقَعَ تَعَلُّقًا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مَا تَقَعُ الْمَسْأَلَةُ فِي جَوَابِهِ وَمَسَائِلُ النَّوَازِلِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَهُوَ كَمَا قَالَ إِلَّا أَنَّهُ أَسَاءَ فِي قَوْلِهِ الْغَافِلِينَ عَلَى عَادَتِهِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْقُرْطُبِيُّ
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَفَعَهُ أَعْظَمُ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ وَهَذَا يُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ وليس مما أشار إليه بن الْعَرَبِيِّ فِي شَيْءٍ انْتَهَى
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
قَوْلُهُ (أَنَّهُ قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ) وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ قَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثم قال يا أيها الناس (إنكم تقرؤون هَذِهِ الْآيَةَ) زَادَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَتِهِ وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا يَعْنِي تُجْرُونَهَا عَلَى عُمُومِهَا وَتَمْتَنِعُونَ عَنِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا عليكم أنفسكم انْتَصَبَ أَنْفُسَكُمْ بِعَلَيْكُمْ وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ أَيِ الْزَمُوا إِصْلَاحَ أَنْفُسِكُمْ وَاحْفَظُوهَا عَنِ الْمَعَاصِي وَالْكَافُ وَالْمِيمُ فِي عَلَيْكُمْ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ لِأَنَّ اسْمَ الْفِعْلِ هُوَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ لَا عَلَى وَحْدِهَا لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهتديتم أَيْ فَإِذَا أَلْزَمْتُمْ إِصْلَاحَ أَنْفُسِكُمْ وَحَفِظْتُمُوهَا لَمْ يَضُرَّكُمْ إِذَا عَجَزْتُمْ عَنِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ ضَلَالُ مَنْ ضَلَّ بِارْتِكَابِ الْمَنَاهِي إذا اهتديتم اجْتِنَابِهَا
وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ إِذَا كَانَ فِعْلُ ذَلِكَ مُمْكِنًا (فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ) أَيْ لَمْ يَمْنَعُوهُ عَنْ ظُلْمِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى مَنْعِهِ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ أَيْ بِنَوْعٍ مِنَ الْعَذَابِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ والنسائي وبن مَاجَهْ
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي بَابِ نُزُولِ الْعَذَابِ إِذْ لَمْ يُغَيَّرِ الْمُنْكَرُ مِنْ أبواب الفتن(8/335)
قَوْلُهُ (وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ نَحْوَ هَذَا الْحَدِيثِ مَرْفُوعًا الخ) قال الحافظ بن كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وبن حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ عَنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ بِهِ مُتَّصِلًا مَرْفُوعًا وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ عَنْهُ بِهِ مَوْقُوفًا عَلَى الصِّدِّيقِ وَقَدْ رَجَّحَ رَفْعَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا عُتْبَةُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ) الْهَمْدَانِيُّ بِسُكُونِ الْمِيمِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْأُرْدُنِّيُّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالدَّالِ بَيْنَهُمَا رَاءٌ سَاكِنَةٌ وَتَشْدِيدِ النُّونِ صَدُوقٌ يُخْطِئُ كَثِيرًا مِنَ السَّادِسَةِ (أخبرنا عَمْرُو بْنُ جَارِيَةَ) بِالْجِيمِ اللَّخْمِيُّ شَامِيٌّ مَقْبُولٌ
وَقَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ فِي تَرْجَمَتِهِ يُقَالُ إِنَّهُ عَمُّ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ ذَكَرَهُ بن حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ لَهُ عِنْدَهُمْ حَدِيثٌ وَاحِدٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُمَيَّةَ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا الْحَدِيثَ (عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيِّ) الدِّمَشْقِيِّ اسْمُهُ يُحْمِدُ بِضَمِّ التَّحْتَانِيَّةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَقِيلَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالْمِيمِ وَقِيلَ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ مَقْبُولٌ مِنَ الثَّانِيَةِ
قَوْلُهُ (فَقُلْتَ لَهُ كَيْفَ تَصْنَعُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ) وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ كَيْفَ تَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَعْنِي مَا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا تَقُولُ فِيهَا فَإِنَّ ظَاهِرَهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بَلْ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِصْلَاحُ نَفْسِهِ (أَمَا) بِالتَّخْفِيفِ حَرْفُ التَّنْبِيهِ (لَقَدْ سَأَلْتَ) بِفَتْحِ التَّاءِ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ (خَبِيرًا) أَيْ عَارِفًا وَعَالِمًا بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ (سَأَلْتُ) بِضَمِّ التَّاءِ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ (بَلِ ائْتَمَرُوا) أَيِ امْتَثِلُوا (بِالْمَعْرُوفِ) أَيْ وَمِنْهُ الْأَمْرُ بِهِ (وَتَنَاهَوْا) أَيِ انْتَهُوا وَاجْتَنِبُوا (عَنِ الْمُنْكَرِ) وَمِنْهُ الِامْتِنَاعُ عَنْ نَهْيِهِ أَوِ الِائْتِمَارِ بِمَعْنَى التَّآمُرِ كَالِاخْتِصَامِ بِمَعْنَى التَّخَاصُمِ وَيُؤَيِّدُهُ التَّنَاهِي
وَالْمَعْنَى لِيَأْمُرْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ طَائِفَةً عَنِ الْمُنْكَرِ
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ بَلِ ائْتَمِرُوا إِضْرَابٌ عَنْ مقدر أي سألت عنها رسول الله(8/336)
وَقُلْتُ أَمَا نَتْرُكُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا تَتْرُكُوا بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ إِلَخْ (حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ) أَيْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ خِطَابًا عَامًّا
وَالْمَعْنَى إِذَا عَلِمْتَ الْغَالِبَ عَلَى النَّاسِ (شُحًّا مُطَاعًا) أَيْ بُخْلًا مُطَاعًا بِأَنْ أطاعته نفسك وطاوعه غيرك قاله القارىء
وفي النِّهَايَةِ هُوَ أَشَدُّ الْبُخْلِ وَقِيلَ الْبُخْلُ مَعَ الْحِرْصِ وَقِيلَ الْبُخْلُ فِي أَفْرَادِ الْأُمُورِ وَآحَادِهَا وَالشُّحُّ عَامٌّ وَقِيلَ الْبُخْلُ بِالْمَالِ وَالشُّحُّ بِالْمَالِ وَبِالْمَعْرُوفِ (وَهَوًى مُتَّبَعًا) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ وَهَوًى لِلنَّفْسِ مَتْبُوعًا
وَحَاصِلُهُ أَنَّ كُلًّا يَتَّبِعُ هَوَاهُ (وَدُنْيَا) بِالْقَصْرِ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَالِ والجاه في الدار الدنية (موثرة) أَيْ مُخْتَارَةً عَلَى أُمُورِ الدِّينِ (وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ) أَيْ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِعْجَابُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ هُوَ وِجْدَانُ الشَّيْءِ حَسَنًا وَرُؤْيَتُهُ مُسْتَحْسَنًا بِحَيْثُ يَصِيرُ صَاحِبُهُ بِهِ مُعْجَبًا وَعَنْ قَبُولِ كَلَامِ الْغَيْرِ مُجَنَّبًا وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ) مَنْصُوبٌ وَقِيلَ مَرْفُوعٌ أَيْ فَالْوَاجِبُ أَوْ فَيَجِبُ عَلَيْكَ حِفْظُهَا مِنَ الْمَعَاصِي
لَكِنْ يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِلْإِغْرَاءِ بِمَعْنَى الْزَمْ خَاصَّةَ نَفْسِك قَوْلُهُ (وَدَعِ الْعَوَامَّ) أَيِ اتْرُكْ أَمْرَ عَامَّةِ النَّاسِ الْخَارِجِينَ عَنْ طريق الخواص (فإن من وراءكم أَيَّامًا) أَيْ قُدَّامَكُمْ مِنَ الْأَزْمَانِ الْآتِيَةِ (الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ) يَعْنِي يَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ بِالصَّبْرِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ كَمَشَقَّةِ الصَّابِرِ عَلَى قَبْضِ الْجَمْرِ بِيَدِهِ (يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ)
وفي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ أَيْ فِي غَيْرِ زَمَانِهِ (قَالَ لَا بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْكُمْ) قَالَ فِي اللُّمَعَاتِ يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ هَؤُلَاءِ فِي الْأَجْرِ عَلَى الصَّحَابَةِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ وَقَدْ جَاءَ أَمْثَالُ هَذَا أَحَادِيثُ أُخَرُ وَتَوْجِيهُهُ كَمَا ذَكَرُوا أَنَّ الفضل الجزئي لا ينافي الفضل الكلي
وقد تكلم بن عَبْدِ الْبَرِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَالَ يُمْكِنُ أَنْ يَجِيءَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ مَنْ هُوَ فِي دَرَجَةِ بَعْضٍ مِنْهُمْ أَوْ أَفْضَلَ وَمُخْتَارُ الْعُلَمَاءِ خِلَافُهُ انْتَهَى
وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ لَيْسَ هَذَا عَلَى إِطْلَاقِهِ بَلْ هو مبني على قاعدتين أحديهما أَنَّ الْأَعْمَالَ تَشْرُفُ بِثَمَرَاتِهَا وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْغَرِيبَ فِي آخِرِ الْإِسْلَامِ كَالْغَرِيبِ فِي أَوَّلِهِ(8/337)
وَبِالْعَكْسِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ مِنْ أُمَّتِي يُرِيدُ الْمُنْفَرِدِينَ عَنْ أَهْلِ زَمَانِهِمْ
إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَنَقُولُ الْإِنْفَاقُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نصيفه أي مد الحنطة
والسبب فِيهِ أَنَّ تِلْكَ النَّفَقَةِ أَثْمَرَتْ فِي فَتْحِ الْإِسْلَامِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ مَا لَا يُثْمِرُ غَيْرُهَا وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ بِالنُّفُوسِ لَا يَصِلُ الْمُتَأَخِّرُونَ فِيهِ إِلَى فَضْلِ الْمُتَقَدِّمِينَ لِقِلَّةِ عَدَدِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَقِلَّةِ أَنْصَارِهِمْ فَكَانَ جِهَادُهُمْ أَفْضَلَ وَلِأَنَّ بَذْلَ النَّفْسِ مَعَ النُّصْرَةِ وَرَجَاءَ الْحَيَاةِ لَيْسَ كَبَذْلِهَا مَعَ عَدَمِهَا وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَكُونُ الْقَابِضُ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ لَا يَسْتَطِيعُ دَوَامَ ذَلِكَ لِمَزِيدِ الْمَشَقَّةِ فَكَذَلِكَ الْمُتَأَخِّرُ فِي حِفْظِ دِينِهِ وَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ فَلَيْسُوا كَذَلِكَ لكثرة المعين وعدم المنكر
فعلى هذا يترك الْحَدِيثُ انْتَهَى كَذَا فِي مِرْقَاةِ الصُّعُودِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وبن ماجه وبن جرير وبن أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي النَّضْرِ) اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ بْنِ بِشْرٍ الْكَلْبِيُّ الْكُوفِيُّ النَّسَّابَةُ الْمُفَسِّرُ مُتَّهَمٌ بِالْكَذِبِ وَرُمِيَ بِالرَّفْضِ مِنَ السَّادِسَةِ (عَنْ بَاذَانَ) قَالَ فِي التَّقْرِيبِ بَاذَامَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ
وَيُقَالُ آخِرُهُ نُونٌ أَبُو صَالِحٍ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ ضَعِيفٌ مُدَلِّسٌ مِنَ الثَّالِثَةِ (عَنْ تَمِيمٍ الداري) صحابي مشهور
قوله (قال بريء النَّاسُ مِنْهَا) أَيْ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ (غَيْرِي وَغَيْرِ عَدِيِّ بْنِ بَدَّاءِ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ مَعَ الْمَدِّ وَوَقَعَ عِنْدَ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ عَدِيَّ بْنَ بَدَّاءٍ كَانَ أَخَا تَمِيمٍ الدَّارِيِّ فَإِنْ ثَبَتَ فَلَعَلَّهُ أَخُوهُ لِأُمِّهِ أَوْ مِنَ الرَّضَاعَةِ لَكِنْ فِي تَفْسِيرِ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ أَنَّ رَجُلَيْنِ نَصْرَانِيَّيْنِ مِنْ أَهْلِ دَارَيْنِ أَحَدُهُمَا تَمِيمٌ وَالْآخَرُ يَمَانِيٌّ قَالَهُ الْحَافِظُ (يَخْتَلِفَانِ إِلَى الشام) أي يَتَرَدَّدَانِ إِلَيْهِ لِلتِّجَارَةِ (يُقَالُ لَهُ(8/338)
بُدَيْلُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الدال المهملة مصغرا
ووقع في رواية بن جريج أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا وَكَذَا أَخْرَجَهُ بِسَنَدِهِ فِي تَفْسِيرِهِ (وَمَعَهُ جَامٌ) بِالْجِيمِ وَتَخْفِيف الْمِيمِ أَيْ إِنَاءٌ (يُرِيدُ بِهِ الْمَلِكَ) أَيْ لِيَبِيعَهُ مِنْهُ (وَهُوَ عُظْمُ تِجَارَتِهِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ مُعْظَمُ أَمْوَالِ تِجَارَتِهِ أَوْ بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ
وَعُظْمُ الشَّيْءِ كِبَرُهُ (فَمَرِضَ) أَيْ بُدَيْلٌ السَّهْمِيُّ (فَأَوْصَى إِلَيْهِمَا) أَيْ إِلَى تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ
وفي رِوَايَةٍ أَنَّ السَّهْمِيَّ الْمَذْكُورَ مَرِضَ فَكَتَبَ وَصِيَّتَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ دَسَّهَا فِي مَتَاعِهِ ثُمَّ أَوْصَى إِلَيْهِمَا (أَنْ يُبَلِّغَا) مِنَ الْإِبْلَاغِ أَيْ يُوَصِّلَا (مَا ترك) مفعول أول ليبلغا (أَهْلَهُ) مَفْعُولٌ ثَانٍ (فَلَمَّا مَاتَ) أَيْ بُدَيْلٌ (وَفَقَدُوا الْجَامَ) أَيْ فَقَدَ أَهْلُ بُدَيْلٍ الْجَامَ الْمَذْكُورَ وَلَمْ يَجِدُوهُ فِي مَتَاعِهِ (تَأَثَّمْتُ مِنْ ذَلِكَ) أَيْ تَحَرَّجْتُ مِنْهُ قَالَ فِي النِّهَايَةِ يُقَالُ تَأَثَّمَ فُلَانٌ إِذَا فَعَلَ فِعْلًا خَرَجَ بِهِ مِنَ الْإِثْمِ كَمَا يُقَالُ تَحَرَّجَ إِذَا فَعَلَ مَا يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الْحَرَجِ (عِنْدَ صَاحِبِي) أَيْ عَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ (فَأَتَوْا) أَيْ أَهْلُ بُدَيْلٍ (بِهِ) أَيْ بِعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ (فسألهم البينة) أي طلب النبي مِنْ أَهْلِ بُدَيْلٍ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَوْهُ (فَلَمْ يَجِدُوا) أَيِ الْبَيِّنَةَ (أَنْ يَسْتَحْلِفُوهُ) أَيْ عَدِيًّا (فَحَلَفَ) أَيْ عَدِيٌّ
قَوْلُهُ (يَا أَيُّهَا الذين آمنوا شهادة بينكم إِلَخِ) الْآيَةُ بِتَمَامِهَا مَعَ تَفْسِيرِهَا هَكَذَا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أحدكم الموت حين الوصية اثنان ارْتَفَعَ اثْنَانِ لِأَنَّهُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ بِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ أَيْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ حِينَئِذٍ شَهَادَةُ اثْنَيْنِ أَوْ فَاعِلُ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ عَلَى أَنَّ خَبَرَهَا مَحْذُوفٌ(8/339)
أَيْ فِيمَا نَزَّلَ عَلَيْكُمْ أَنْ يَشْهَدَ بَيْنَكُمُ اثْنَانِ وَأَضَافَ الشَّهَادَةَ إِلَى الْبَيْنِ تَوَسُّعًا لِأَنَّهَا جارية بينهم وإذا حضر ظرف للشهادة وحين الْوَصِيَّةِ بَدَلٌ مِنْهُ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ يَعْنِي مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ وَمِلَّتِكُمْ يَا مَعْشَر الْمُؤْمِنَينَ
وَقِيلَ مَعْنَاهُ مِنْ أَقَارِبِكُمْ وَهُمَا صِفَتَانِ لِاثْنَانِ
واختلفوا فِي هَذَيْنِ الِاثْنَيْنِ فَقِيلَ هُمَا الشَّاهِدَانِ اللَّذَانِ يَشْهَدَانِ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُوصِي وَقِيلَ هُمَا الْوَصِيَّانِ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمَا وَلِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ
وَالشَّاهِدُ لَا يَلْزَمُهُ يَمِينٌ وَجَعَلَ الْوَصِيَّ اثْنَيْنِ تَأْكِيدًا فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الشَّهَادَةُ بِمَعْنَى الْحُضُورِ كَقَوْلِكَ شَهِدْتَ وَصِيَّةَ فُلَانٍ بِمَعْنَى حَضَرْتَ أَوْ آخَرَانِ كَائِنَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ يَعْنِي مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دِينِكُمْ وَمِلَّتِكُمْ وَهُمُ الْكُفَّارُ وَقِيلَ مِنْ غَيْرِ عَشِيرَتِكُمْ وَقَبِيلَتِكُمْ وَهُمْ مُسْلِمُونَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَنْسَبُ بِسِيَاقِ الْآيَةِ وَبِهِ قَالَ أبو موسى الأشعري وبن عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا فَيَكُونُ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي السَّفَرِ فِي خُصُوصِ الْوَصَايَا كَمَا يُفِيدُهُ النَّظْمُ الْقُرْآنِيُّ
وَيَشْهَدُ لَهُ السَّبَبُ لِلنُّزُولِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُوصِي مَنْ يَشْهَدُ عَلَى وَصِيَّتِهِ فَلْيَشْهَدْ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ فَإِذَا قَدِمَا وَأَدَّيَا الشَّهَادَةَ عَلَى وَصِيَّتِهِ حَلَفَا بَعْدَ الصَّلَاةِ أَنَّهُمَا مَا كَذَبَا وَلَا بَدَّلَا وَأَنَّ مَا شهد بِهِ حَقٌّ فَيُحْكَمُ حِينَئِذٍ بِشَهَادَتِهِمَا فَإِنْ عُثِرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا كَذَبَا أَوْ خَانَا حَلَفَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمُوصِي وَغَرِمَ الشَّاهِدَانِ الْكَافِرَانِ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِمَا مِنْ خِيَانَةٍ أَوْ نَحْوِهَا هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ عِنْدَ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ
وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو مِجْلَزٍ والنخعي وشريح وعبيدة السلماني وبن سِيرِينَ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَذَهَبَ إِلَى الثَّانِي أَعْنِي تَفْسِيرَ ضَمِيرِ مِنْكُمْ بِالْقَرَابَةِ أَوِ الْعَشِيرَةِ
وَتَفْسِيرِ غَيْرِكُمْ بِالْأَجَانِبِ الزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ من الشهداء وقوله وأشهدوا ذوى عدل منكم وَالْكُفَّارُ لَيْسُوا بِمَرْضِيِّينَ وَلَا عُدُولٍ وَخَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ فَقَالُوا الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ وَهُوَ الْحَقُّ لِعَدَمِ وُجُودِ دَلِيلٍ صَحِيحٍ عَلَى النَّسْخِ
وأما قَوْلُهُ تَعَالَى ممن ترضون من الشهداء وقوله وأشهدوا ذوى عدل منكم فَهُمَا عَامَّانِ فِي الْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ وَهَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ بِحَالَةِ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَالْوَصِيَّةِ وَبِحَالَةِ عَدَمِ الشُّهُودِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ خاص وعام إن أنتم ضربتم أَيْ سَافَرْتُمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ قَيْدٌ فِي قَوْلِهِ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ فَقَطْ
وَالْمَعْنَى يَنْبَغِي أَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَعَذَّرَ كَمَا فِي السَّفَرِ فَمِنْ غَيْرِكُمْ وَقِيلَ هُوَ قَيْدٌ فِي أَصْلِ شَهَادَةٍ وَذَلِكَ أَنْسَبُ عَلَى تَقْدِيرِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ(8/340)
بِاتِّخَاذِ الْوَصِيَّيْنِ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ يَعْنِي فَنَزَلَ بِكُمْ أَسْبَابُ الْمَوْتِ فَأَوْصَيْتُمْ إِلَيْهِمَا ودفعتم ما لكم إليها ثُمَّ ذَهَبَا إِلَى وَرَثَتِكُمْ بِوَصِيَّتِكُمْ وَبِمَا تَرَكْتُمْ فَارْتَابُوا فِي أَمْرِهِمَا وَادَّعَوْا عَلَيْهِمَا خِيَانَةً فَالْحُكْمُ فِيهِ أَنَّكُمْ تَحْبِسُونَهُمَا أَيْ تُوقِفُونَهُمَا وَهُوَ اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ أَوْ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ أَيْ وَآخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ مَحْبُوسَانِ وَالشَّرْطُ بِجَوَابِهِ الْمَحْذُوفِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ وَآخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ أَيْ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْوَقْتَ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ بِالتَّحْلِيفِ بَعْدَهَا فَالتَّقْيِيدُ بِالْمَعْرُوفِ الْمَشْهُورِ أَغْنَى عَنِ التَّقْيِيدِ بِاللَّفْظِ مَعَ مَا عِنْدَ أَهْلِ الْكُفْرِ بِاَللَّهِ مِنْ تَعْظِيمِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَذَلِكَ لِقُرْبِهِ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَيُقْسِمَانِ أَيِ الشَّاهِدَانِ عَلَى الْوَصِيَّةِ أَوِ الْوَصِيَّانِ بِاَللَّهِ إن ارتبتم أَيْ إِنْ شَكَكْتُمْ فِي شَأْنِهِمَا وَاتَّهَمْتُمُوهُمَا فَحَلِّفُوهُمَا وَبِهَذَا يَحْتَجُّ مَنْ يَقُولُ الْآيَةُ نَازِلَةٌ فِي إِشْهَادِ الْكُفَّارِ لِأَنَّ تَحْلِيفَ الشَّاهِدِ الْمُسْلِمِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ
وَمَنْ قَالَ الْآيَةُ نَازِلَةٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ قَالَ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَقَوْلُهُ إِنِ ارْتَبْتُمْ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ يُقْسِمَانِ وَجَوَابُهُ وَهُوَ لَا نَشْتَرِي بِهِ أَيْ بِالْقَسَمِ ثَمَنًا أَيْ لَا نَعْتَاضُ عَنْهُ بِعِوَضٍ قَلِيلٍ مِنَ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ الزَّائِلَةِ ولو كان ذا قربى أَيْ وَلَوْ كَانَ الْمَشْهُودُ لَهُ أَوِ الْمُقْسَمُ لَهُ ذَا قَرَابَةٍ مِنَّا وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله إِنَّمَا أَضَافَ الشَّهَادَةَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِإِقَامَتِهَا وَنَهَى عَنْ كِتْمَانِهَا إِنَّا إِذًا لمن الاثمين يَعْنِي إِنْ كَتَمْنَا الشَّهَادَةَ أَوْ خُنَّا فِيهَا فَإِنْ عُثِرَ يُقَالُ عُثِرَ عَلَى كَذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ وَيُقَالُ عَثَرْتَ مِنْهُ عَلَى خِيَانَةٍ أَيِ اطَّلَعْتَ وَأَعْثَرْتَ غَيْرِي عَلَيْهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وكذلك أعثرنا عليهم وَأَصْلُ الْعُثُورِ الْوُقُوعُ وَالسُّقُوطُ عَلَى الشَّيْءِ وَقِيلَ الْهُجُومُ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَهْجُمْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَكُلُّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى أَمْرٍ كَانَ قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ قِيلَ لَهُ قَدْ عَثَرَ عَلَيْهِ
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا اطَّلَعَ وَظَهَرَ بَعْدَ التَّحْلِيفِ عَلَى أَنَّهُمَا أَيِ الشَّاهِدَيْنِ أَوِ الْوَصِيَّيْنِ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الِاثْنَيْنِ وَصِيَّانِ أَوْ شَاهِدَانِ عَلَى الْوَصِيَّةِ اسْتَحَقَّا إِثْمًا أَيْ فَعَلَا مَا يُوجِبُهُ مِنْ خِيَانَةٍ أَوْ كَذِبٍ فِي الشَّهَادَةِ بِأَنْ وُجِدَ عِنْدَهُمَا مَثَلًا مَا اتُّهِمَا بِهِ وَادَّعَيَا أَنَّهُمَا ابْتَاعَاهُ مِنَ الْمَيِّتِ أَوْ أَوْصَى لَهُمَا بِهِ فَآخَرَانِ أَيْ فَشَاهِدَانِ آخَرَانِ أَوْ فَحَالِفَانِ آخَرَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا أي مقام الذين عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَيَشْهَدَانِ أَوْ يحلفان على ما هو الحق من الذين استحق عليهم على البناء للفاعل قراءة علي وبن عَبَّاسٍ وَأُبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَيْ مِنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْأَوْلَيَانِ مِنْ بَيْنِهِمْ أَيِ الْأَقْرَبَانِ إِلَى الْمَيِّتِ الْوَارِثَانِ لَهُ الْأَحَقَّانِ بِالشَّهَادَةِ وَمَفْعُولُ اسْتَحَقَّ مَحْذُوفٌ أَيِ اسْتَحَقَّا عَلَيْهِمْ أَنَّ يُجَرِّدُوهُمَا لِلْقِيَامِ بِالشَّهَادَةِ لِأَنَّهَا حَقُّهُمَا وَيُظْهِرُوا بِهَا كَذِبَ الْكَاذِبِينَ وَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ الْآخَرَانِ الْقَائِمَانِ مَقَامَ الْأَوَّلَيْنِ عَلَى وَضْعِ الْمُظْهَرِ مقام المضمر وقرىء عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَيْ مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ الْإِثْمُ أَيْ جُنِيَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ أَهْلُ الْمَيِّتِ وَعَشِيرَتُهُ
فَالْأَوْلَيَانِ مَرْفُوعٌ عَلَى أنه خبر لمبتدأ محذوف كأنه قيل ومنهما فَقِيلَ الْأَوْلَيَانِ أَوْ هُوَ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَقُومَانِ أَوْ مِنْ آخَرَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ(8/341)
أي فيحلفان عَلَى خِيَانَةِ الشَّاهِدَيْنِ وَيَقُولَانِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شهادتهما يَعْنِي أَيْمَانُنَا أَحَقُّ وَأَصْدَقُ مِنْ أَيْمَانِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا أَيْ مَا تَجَاوَزْنَا الْحَقَّ فِي أَيْمَانِنَا وَقَوْلِنَا إِنَّ شَهَادَتَنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَةِ هَذَيْنِ الوصيين الخائنين إنا إذا لمن الظالمين أَيْ إِنْ حَلَفْنَا كَاذِبَيْنِ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يأتوا بالشهادة على وجهها يَعْنِي ذَلِكَ الَّذِي حَكَمْنَا بِهِ مِنْ رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ أَقْرَبُ أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا يَعْنِي أَنْ يَأْتِيَ الْوَصِيَّانِ وَسَائِرُ النَّاسِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا الَّذِي تَحَمَّلُوهَا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا خِيَانَةٍ أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أيمانهم أَيْ وَأَقْرَبُ أَنْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ الْأَيمَانُ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ فَيَحْلِفُوا عَلَى خِيَانَتِهِمْ وَكَذِبِهِمْ فَيَفْتَضِحُوا أَوْ يَغْرَمُوا فَرُبَّمَا لَا يَحْلِفُونَ كَاذِبِينَ إِذَا خَافُوا هَذَا الْحُكْمَ وَاتَّقُوا اللَّهَ بِتَرْكِ الْخِيَانَةِ وَالْكَذِبِ وَاسْمَعُوا مَا تُؤْمَرُونَ بِهِ سَمَاعَ قبول والله لا يهدي القوم الفاسقين الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ إِلَى سَبِيلِ الْخَيْرِ (فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَرَجُلٌ آخَرُ) سَمَّى مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ فِي تَفْسِيرِهِ الْآخَرَ الْمُطَّلِبَ بْنَ أَبِي وَدَاعَةَ وَهُوَ سَهْمِيٌّ أَيْضًا
قَوْلُهُ (هَذَا حديث غريب) وأخرجه بن أبي حاتم وبن جَرِيرٍ (وَلَا نَعْرِفُ لِسَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ الْمَدِينِيِّ رِوَايَةً عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ) مَقْصُودُ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ أَبَا النَّضْرِ الَّذِي وَقَعَ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ فَإِنَّ رِوَايَتَهُ عَنْ بَاذَانَ أَبِي صَالِحٍ مَعْرُوفَةٌ وَلَيْسَ أَبُو النَّضْرِ هَذَا سَالِمًا أَبَا النَّضْرِ الْمَدِينِيَّ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ لَهُ رِوَايَةٌ عَنْ بَاذَانَ أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى أُمِّ هانئ
قوله (عن بن أَبِي زَائِدَةَ) هُوَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ) الطَّوِيلِ الْكُوفِيِّ ثِقَةٌ من السادسة(8/342)
قَوْلُهُ (خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ) هُوَ بُدَيْلُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ (مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ) يَعْنِي قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ هُوَ كَمَا تَقَدَّمَ وَعَلَى هَذَا فَهُوَ من مرسل الصحابي لأن بن عَبَّاسٍ لَمْ يَحْضُرْ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَفِي الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُ رَوَاهَا عَنْ تَمِيمٍ نَفْسِهِ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ وَقَعَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ تَأَخَّرَتِ الْمُحَاكَمَةُ حَتَّى أَسْلَمُوا كُلُّهُمْ فَإِنَّ فِي الْقِصَّةِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْجَمِيعَ تَحَاكَمُوا إِلَى النبي فَلَعَلَّهَا كَانَتْ بِمَكَّةَ سَنَةَ الْفَتْحِ (مُخَوَّصًا) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ وَفِي آخره صاد مهملة
قال بن الْجَوْزِيِّ صِيغَتْ فِيهِ صَفَائِحُ مِثْلُ الْخُوصِ مِنَ الذَّهَبِ مَعْنَاهُ مَنْقُوشًا فِيهِ خُطُوطٌ دِقَاقٌ طِوَالٌ كَالْخُوصِ وَهُوَ وَرَقُ النَّخْلِ (مِنْ أَوْلِيَاءِ السَّهْمِيِّ) أَيْ مِنْ أَوْلِيَاءِ السَّهْمِيِّ الْمَذْكُورِ الَّذِي مَاتَ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْقَضَايَا وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فَقَالَ وَقَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يعني بن الْمَدِينِيِّ فَذَكَرَهُ قَالَ الْحَافِظُ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ يَعْنِي الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ فَقَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَهَذَا مِمَّا يُقَوِّي مَا قَرَّرْتُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْ أَنَّهُ يُعَبِّرُ بِقَوْلِهِ وَقَالَ لِي فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي سَمِعَهَا لَكِنْ حَيْثُ يَكُونُ فِي إِسْنَادِهَا عِنْدَهُ نَظَرٌ أَوْ حَيْثُ تَكُونُ مَوْقُوفَةً وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُعَبِّرُ بِهَا فِيمَا أَخَذَهُ فِي الْمُذَاكَرَةِ أَوْ بِالْمُنَاوَلَةِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ قَزَعَةَ) بِفَتْحِ قَافٍ وَسُكُونِ زَايٍ وَفَتْحِهَا وَبِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ بن عُبَيْدٍ الْهَاشِمِيُّ أَبُو عَلِيٍّ الْبَصْرِيُّ صَدُوقٌ مِنْ العاشرة (أخبرنا سُفْيَانُ بْنُ حَبِيبٍ الْبَصْرِيُّ الْبَزَّازُ أَبُو مُحَمَّدٍ) وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ ثِقَةٌ مِنَ التَّاسِعَةِ (حَدَّثَنَا سعيد) هو بن أَبِي عَرُوبَةَ (عَنْ خِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو(8/343)
بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ ثِقَةٌ وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ عَمَّارٍ
قَوْلُهُ (أُنْزِلَتِ الْمَائِدَةُ) قَالَ الرَّاغِبُ الْمَائِدَةُ الطَّبَقُ الَّذِي عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَيُقَالُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَائِدَةٌ أَيْ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْمُشْتَرَكَةِ أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا مَجَازًا بِاعْتِبَارِ الْمُجَاوَرَةِ أَوْ بِذِكْرِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِّ (خُبْزًا وَلَحْمًا) تَمْيِيزٌ (وَأُمِرُوا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (وَلَا يَدَّخِرُوا) بِتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ الْمُبَدَّلَةِ مِنَ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ بَابِ الِافْتِعَالِ مِنَ الذَّخِيرَةِ وَهُوَ التَّخْبِيَةُ (لِغَدٍ) أَيْ لِيَوْمٍ عَقِبَ يَوْمِ نُزُولِ الْمَائِدَةِ أَوْ لِوَقْتٍ مُسْتَقْبَلٍ بَعْدَهُ (فَمُسِخُوا) أَيْ فَغَيَّرَ اللَّهُ صُوَرَهُمُ الْإِنْسَانِيَّةَ بَعْدَ تَغْيِيرِ سِيرَتِهِمُ الْإِنْسِيَّةِ (قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ) مَنْصُوبَانِ عَلَى أَنَّهُمَا مَفْعُولٌ ثَانٍ عَلَى مَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْقَامُوسِ حَيْثُ قَالَ مَسَخَهُ كَمَنَعَهُ حَوَّلَ صُورَتَهُ إِلَى أُخْرَى أَقْبَحَ وَمَسَخَهُ اللَّهُ قِرْدًا فَهُوَ مِسْخٌ وَمَسِيخٌ
وَقَالَ الطِّيبِيُّ حَالَانِ مُقَدَّرَتَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بيوتا قِيلَ الظَّاهِرُ أَنَّ شَبَابَهُمْ مُسِخُوا قِرَدَةً وَشُيُوخَهُمْ خنازير
قوله (هذا حديث غريب) وأخرجه بن أبي حاتم وبن جَرِيرٍ (رَوَاهُ أَبُو عَاصِمٍ) اسْمُهُ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ النَّبِيلُ
تَنْبِيهٌ ذكر التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَ عَمَّارٍ الْمَذْكُورَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ العالمين
قال الحافظ بن كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ ذِكْرِ عِدَّةِ آثَارٍ عن بن عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا لَفْظُهُ وَكُلُّ هَذِهِ الْآثَارِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَائِدَةَ نزلت على بني إسرائيل أيام عيسى بن مَرْيَمَ إِجَابَةً مِنَ اللَّهِ لِدَعْوَتِهِ وَكَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرُ هَذَا السِّيَاقِ مِنَ الْقُرْآنِ العظيم
قال الله إني منزلها عليكم الاية(8/344)
وقال قَائِلُونَ إِنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ فَرَوَى لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ (أنزل علينا مائدة من السماء) قَالَ هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ وَلَمْ يَنْزِلْ شيء رواه بن أبي حاتم وبن جرير
وقال حدثنا بن الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَائِدَةِ إِنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ وَهَذِهِ أَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ إِلَى مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ
وَقَدْ يَتَقَوَّى ذَلِكَ بِأَنَّ خَبَرَ الْمَائِدَةِ لَا تَعْرِفُهُ النَّصَارَى وَلَيْسَ هُوَ فِي كِتَابِهِمْ وَلَوْ كَانَتْ قَدْ نَزَلَتْ لَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ وَكَانَ يَكُونُ مَوْجُودًا فِي كِتَابِهِمْ مُتَوَاتِرًا وَلَا أَقَلَّ مِنَ الْآحَادِ وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أنها نزلت وهو الذي اختاره بن جَرِيرٍ قَالَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ نُزُولَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أعذبه أحدا من العالمين قَالَ وَوَعْدُ اللَّهِ وَوَعِيدُهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَهَذَا الْقَوْلُ واللَّهُ أَعْلَمُ هُوَ الصَّوَابُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَخْبَار وَالْآثَارُ عَنِ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ انْتَهَى كَلَامُهُ بِاخْتِصَارٍ يَسِيرٍ
قَوْلُهُ (يُلَقَّى عِيسَى حُجَّتَهُ) أَيْ يُعَلَّمُ وَيُنَبَّهُ عَلَيْهَا وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يا عيسى بن مَرْيَمَ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي وَقْتِ هَذَا الْقَوْلِ فَقَالَ السُّدِّيُّ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى هَذَا الْقَوْلُ حِينَ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّ حَرْفَ إِذْ يَكُونُ لِلْمَاضِي
وَقَالَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّمَا يَقُولُ اللَّهُ لَهُ هَذَا الْقَوْلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ وَذَلِكَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ هَذَا يَوْمُ ينفع الصادقين صدقهم وَذَلِكَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ
وَأُجِيبَ عَنْ حَرْفِ إِذْ بِأَنَّهَا قَدْ تَجِيءُ بِمَعْنَى إِذَا كَقَوْلِهِ لَوْ ترى إذ فزعوا يَعْنِي إِذَا فُزِعُوا وَقَالَ الرَّاجِزُ ثُمَّ جَزَاكَ اللَّهُ عَنِّي إِذْ جَزَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فِي السماواتَ الْعُلَى أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلهين من دون الله اسْتِفْهَامٌ وَمَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ وَالتَّوْبِيخُ لِمَنِ ادَّعَى ذَلِكَ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ النَّصَارَى لِأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَقُلْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فَإِنْ قُلْتَ إِذَا كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَقُلْهَا فَمَا وَجْهُ هَذَا السُّؤَالِ لَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ قُلْتُ وَجْهُ هَذَا السُّؤَالِ تَثْبِيتُ الْحُجَّةِ عَلَى قَوْمِهِ وَإِكْذَابٌ لَهُمْ فِي ادِّعَائِهِمْ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ أَمَرَهُمْ به فهو كما يقول القائل الاخر أَفَعَلْتَ كَذَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ وَإِنَّمَا أَرَادَ تَعْظِيمَ ذَلِكَ الْفِعْلِ فَنَفَى عَنْ نَفْسِهِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَقَالَ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ربي وربكم فَاعْتَرَفَ بِالْعُبُودِيَّةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِإِلَهٍ كَمَا زَعَمَتْ وَادَّعَتْ فِيهِ النَّصَارَى(8/345)
(قال أبو هريرة عن النبي) أَيْ قَالَ رِوَايَةً عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَلَقَّاهُ اللَّهُ أَيْ عَلَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَكَ أَيْ تَنْزِيهًا لَكَ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِكَ مِنَ الشَّرِيكِ وَغَيْرِهِ) مَا يَكُونُ لِي أَيْ مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لي بحق أَيْ أَنْ أَقُولَ قَوْلًا لَا يَحِقُّ لِي أَنْ أَقُولَهُ (الْآيَةَ كُلَّهَا) بِالنَّصْبِ أَيْ أَتَمَّهَا كُلَّهَا وَبَقِيَّةُ الْآيَةِ مَعَ تَفْسِيرِهَا هَكَذَا إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ أَيْ إِنْ صَحَّ أَنِّي قُلْتُهُ فِيمَا مَضَى فَقَدْ عَلِمْتَهُ
وَالْمَعْنَى أَنِّي لَا أَحْتَاجُ إِلَى الِاعْتِذَارِ لِأَنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَقُلْهُ وَلَوْ قُلْتُهُ عَلِمْتَهُ لِأَنَّكَ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا في نفسك
أَيْ تَعْلَمُ مَا أُخْفِيه فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا تُخْفِيهِ مِنْ مَعْلُومَاتِكَ إِنَّكَ أَنْتَ علام الغيوب تَقْرِيرٌ لِلْجُمْلَتَيْنِ مَعًا لِأَنَّ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ مِنْ جُمْلَةِ الْغُيُوبِ وَلِأَنَّ مَا يَعْلَمُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ لَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ عِلْمُ أَحَدٍ
قوله (هذا حديث حسن صحيح) وأخرجه بن أَبِي حَاتِمٍ
قَوْلُهُ (عَنْ حُيَيٍّ) بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَيَاءَيْنِ مِنْ تَحْتُ الْأُولَى مَفْتُوحَةٌ هُوَ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنُ شُرَيْحٍ الْمَعَافِرِيُّ الْمِصْرِيُّ صَدُوقٌ يَهِمُ مِنَ السَّادِسَةِ
قَوْلُهُ (آخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ وَالْفَتْحِ) قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي الْإِتْقَانِ يَعْنِي إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَيَدُلُّ عَلَى ذلك قول بن عَبَّاسٍ الْآتِي آخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ إِذَا جَاءَ نصر الله والفتح
فَإِنْ قُلْتَ مَا وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو هَذَا وَبَيْنَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ آخر آية نزلت يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ
قُلْتُ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ يُجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ أَجَابَ بِمَا عِنْدَهُ
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي الِانْتِصَارِ هَذِهِ الْأَقْوَالُ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مرفوع إلى النبي وَكُلٌّ قَالَهُ بِضَرْبٍ مِنَ الِاجْتِهَادِ وَغَلَبَةِ الظَّنِّ قَوْلُهُ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وقد روي عن بن عَبَّاسٍ أَنَّهُ
قَالَ إِلَخْ) وَصَلَهُ مُسْلِمٌ
بَاب وَمِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ هِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا سِتَّ آيَاتٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ هِيَ وَمَا(8/346)
قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِلَى آخِرِ ثَلَاثِ آيَاتٍ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ربكم إِلَى آخِرِ ثَلَاثِ آيَاتٌ وَهِيَ مِائَةٌ وَخَمْسٌ أَوْ سِتٌّ وَسِتُّونَ آيَةً
قَوْلُهُ (عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ) الْأَسَدِيِّ ثِقَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ
قَوْلُهُ (إِنَّا لَا نُكَذِّبُكَ بَلْ نُكَذِّبُ بِمَا جِئْتَ بِهِ) أَيْ لَا نُكَذِّبُكَ لِأَنَّكَ صَادِقٌ وَلَكِنْ نَحْسُدُكَ فَبِسَبَبِهِ نَجْحَدُ بِآيَاتِ اللَّهِ كَذَا فِي الْمَجْمَعِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَقَبْلَهُ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْجَلَالَيْنِ قَدْ لِلتَّحْقِيقِ نَعْلَمُ إِنَّهُ أَيِ الشَّأْنُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ لَكَ مِنَ التَّكْذِيبِ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ فِي السِّرِّ لِعِلْمِهِمْ أَنَّكَ صَادِقٌ وَفِي قِرَاءَةٍ بِالتَّخْفِيفِ أَيْ لَا يَنْسُبُونَكَ إِلَى الْكَذِبِ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ وَضَعَهُ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ بِآيَاتِ اللَّهِ أَيِ الْقُرْآنِ يَجْحَدُونَ يَكْذِبُونَ قَوْلُهُ وَهَذَا أَصَحُّ أَيِ الْإِسْنَادِ الثَّانِي بِتَرْكِ ذِكْرِ عَلِيٍّ أَصَحُّ مِنَ الْإِسْنَادِ
الْأَوَّلِ
وَحَدِيثُ عَلِيٍّ هَذَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا
وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ
قَوْلُهُ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَيْ مِنَ السَّمَاءِ كَالْحِجَارَةِ وَالصَّيْحَةِ أَوْ مِنْ تَحْتِ(8/347)
أَرْجُلِكُمْ كَالْخَسْفِ وَالرَّجْفَةِ
(أَعُوذُ بِوَجْهِكَ) وَفِي رِوَايَةٍ أَعُوذُ بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ
فَلَمَّا نَزَلَتْ يُلْبِسَكُمْ شِيَعًا أَيْ يَخْلِطَكُمْ فِرَقًا مُخْتَلِفَةَ الْأَهْوَاءِ وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ أَيْ بِالْقِتَالِ (هَاتَانِ) أَيْ خَصْلَةُ الِالْتِبَاسِ وَخَصْلَةُ إِذَاقَةِ بَعْضِهِمْ بَأْسَ بَعْضٍ (أَهْوَنُ) مِنْ بَعْثِ الْعَذَابِ مِنَ الْفَوْقِ أَوْ مِنَ التَّحْتِ (أَوْ هَاتَانِ أَيْسَرُ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ والنسائي وبن حبان وبن جرير وبن مردويه
قوله (عن راشد بن سعد) المقرئ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ ثُمَّ يَاءُ النَّسَبِ الْحِمْصِيِّ ثِقَةٌ كَثِيرُ الْإِرْسَالِ مِنَ الثَّالِثَةِ
قَوْلُهُ (أَمَا) بِالتَّخْفِيفِ حَرْفُ التَّنْبِيهِ (إِنَّهَا) أَيِ الْخَصْلَةُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ بَعْثِ الْعَذَابِ مِنَ الْفَوْقِ أَوِ التَّحْتِ (كَائِنَةٌ) وَاقِعَةٌ فِيمَا بَعْدُ (وَلَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُهَا) أَيْ عَاقِبَةُ مَا فِيهَا مِنَ الْوَعِيدِ (بَعْدُ) بِالْبِنَاءِ عَلَى الضَّمِّ يَعْنِي إِلَى الْآنَ
فإن قِيلَ هَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الرَّجْمَ وَالْخَسْفَ كَائِنَانِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَحَدِيثُ جَابِرٍ(8/348)
الْمَذْكُورُ يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّهُمَا لَا يَقَعَانِ لِأَنَّ النبي استعاذ منهما
وقد روى بن مردويه عن بن عباس عن النبي قَالَ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يَرْفَعَ عَنْ أُمَّتِي أربعا فرفع عنهم ثنتين وَأَبَى أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ اثْنَتَيْنِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ الرَّجْمَ مِنَ السَّمَاءِ وَالْخَسْفَ مِنَ الْأَرْضِ وَأَنْ لَا يُلْبِسَهُمْ شِيَعًا وَلَا يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْخَسْفَ وَالرَّجْمَ وَأَبَى أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ الْأُخْرَيَيْنِ فَمَا وَجْهُ التَّوْفِيقِ
يُقَالُ إِنَّ الْإِعَاذَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ مُقَيَّدَةٌ بِزَمَانٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ وُجُودُ الصَّحَابَةِ وَالْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَيَجُوزُ وُقُوعُ ذَلِكَ فِيهِمْ وَيُحْتَمَلُ فِي طَرِيقِ الْجَمْعِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ لِجَمِيعِهِمْ وَإِنْ وَقَعَ لِأَفْرَادٍ مِنْهُمْ غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ بِزَمَانٍ كَمَا فِي خَصْلَةِ الْعَدُوِّ الْكَافِرِ وَالسُّنَّةِ الْعَامَّةِ فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ رَفَعَهُ فِي حَدِيثِ إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زَوَى لِي مِنْهَا الْحَدِيثَ وَفِيهِ وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِسَنَةٍ عَامَّةٍ وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِ أَنْفُسِهِمْ وَأَنْ لَا يُلْبِسَهُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتَ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا
وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ شَدَّادٍ نَحْوَهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ فَلَمَّا كَانَ تَسْلِيطُ الْعَدُوِّ الْكَافِرِ قَدْ يَقَعُ عَلَى بَعْضِ الْمُؤْمِنَينَ لَكِنَّهُ لَا يَقَعُ عُمُومًا فَكَذَلِكَ الْخَسْفُ وَالْقَذْفُ هَذَا تَلْخِيصُ مَا فِي الْفَتْحِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ
قَوْلُهُ (عَنْ إبراهيم) هو النخعي (عن علقمة) هو بن قيس (عن عبد الله) هو بن مَسْعُودٍ
قَوْلُهُ (لَمَّا نَزَلَتْ) بِالتَّأْنِيثِ لِكَوْنِ مَا بَعْدَهُ مِنْ فَاعِلِهِ آيَةٌ وَالتَّقْدِيرُ لَمَّا أُنْزِلَتْ آيَةُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ لَمْ يَخْلِطُوا تَقُولُ لَبَسْتُ الْأَمْرَ بِالتَّخْفِيفِ أَلْبِسُهُ بِالْفَتْحِ فِي الْمَاضِي وَالْكَسْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أي خالطته
وَتَقُولُ لَبِسْتُ الثَّوْبَ أَلْبَسُهُ بِالْكَسْرِ فِي الْمَاضِي وَالْفَتْحِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمَصْدَرُ مِنَ الْأَوَّلِ لَبْسٌ بِفَتْحِ اللَّامِ وَمِنَ الثَّانِي لُبْسٌ بِالضَّمِّ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أَيْ لَمْ يَخْلِطُوهُ(8/349)
بِالشِّرْكِ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّيْمِيُّ فِي شَرْحِهِ خَلْطُ الْإِيمَانِ بِالشِّرْكِ لَا يُتَصَوَّرُ فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَمْ تَحْصُلْ لَهُمُ الصِّفَتَانِ كُفْرٌ مُتَأَخِّرٌ عَنْ إِيمَانٍ مُتَقَدِّمٍ أَيْ لَمْ يَرْتَدُّوا أَوْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُمْ لَمْ يَجْمَعُوا بَيْنَهُمَا ظاهرا أو باطنا أي لَمْ يُنَافِقُوا وَهَذَا أَوْجَهُ كَذَا فِي الْفَتْحِ (شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ) أَيِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالظُّلْمِ مُطْلَقُ الْمَعَاصِي كَمَا يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ لَا سِيَّمَا مِنَ التَّنْكِيرِ الَّذِي يُفِيدُ الْعُمُومَ (وَأَيُّنَا) كَلَامٌ إِضَافِيٌّ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ (لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ) خبره (قال) أي رسول الله (لَيْسَ ذَلِكَ) أَيْ لَيْسَ مَعْنَاهُ كَمَا فَهِمْتُمْ (إِنَّمَا هُوَ) أَيِ الظُّلْمُ (الشِّرْكُ) فَفِي التَّنْكِيرِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَيُّ نَوْعٍ مِنَ الْكُفْرِ أَوْ أُرِيدَ بِهِ التَّعْظِيمُ أَيْ بِظُلْمٍ عَظِيمٍ (أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ إِلَخْ) ظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِي لُقْمَانَ كَانَتْ مَعْلُومَةً عِنْدَهُمْ وَلِذَلِكَ نَبَّهَهُمْ عَلَيْهَا وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجل إن الشرك لظلم عظيم
قَالَ الْحَافِظُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهَا وَقَعَ فِي الْحَالِ فَتَلَاهَا عَلَيْهِمْ ثُمَّ نَبَّهَهُمْ فَتَلْتَئِمُ الروايتان
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ
قَوْلُهُ (فَقَالَتْ يَا أَبَا عَائِشَةَ) هُوَ كُنْيَةُ مَسْرُوقٍ (ثَلَاثٌ) أَيْ ثَلَاثُ كَلِمَاتٍ (فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ) بِكَسْرِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ أَيِ الْكَذِبَ يُقَالُ فَرَى الشَّيْءَ يَفْرِيه فَرِيًّا وَافْتَرَاهُ يَفْتَرِيه افْتِرَاءً إِذَا اخْتَلَقَهُ وَجَمْعُ الْفِرْيَةِ فِرًى (مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ أَيْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ) هَذَا هو مذهب عائشة أن رسول الله لَمْ يَرَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ
قَالَ الْحَافِظُ قَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي رُؤْيَةِ النبي ربه فذهبت عائشة وبن مَسْعُودٍ إِلَى إِنْكَارِهَا وَاخْتُلِفَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى إِثْبَاتِهَا وَحَكَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ حَلَفَ أَنَّ محمدا رأى ربه
وأخرج بن خُزَيْمَةَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ إِثْبَاتَهَا وَكَانَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ إِذَا ذَكَرَ لَهُ إِنْكَارَ عَائِشَةَ وبه قال سائر أصحاب بن عَبَّاسٍ وَجَزَمَ بِهِ كَعْبُ الْأَخْبَارِ وَالزُّهْرِيُّ وَصَاحِبُهُ(8/350)
مَعْمَرٌ وَآخَرُونَ وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَغَالِبُ أَتْبَاعِهِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا
هَلْ رَآهُ بِعَيْنِهِ أَوْ بِقَلْبِهِ وَعَنْ أَحْمَدَ كَالْقَوْلَيْنِ
قَالَ الْحَافِظُ جَاءَتْ عَنِ بن عَبَّاسٍ أَخْبَارٌ مُطْلَقَةٌ وَأُخْرَى مُقَيَّدَةٌ فَيَجِبُ حَمْلُ مُطْلَقِهَا عَلَى مُقَيَّدِهَا فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا مِنْ طريق عكرمة عن بن عَبَّاسٍ قَالَ أَتَعْجَبُونَ أَنْ تَكُونَ الْخِلَّةُ لِإِبْرَاهِيمَ والكلام لموسى والرؤية لمحمد
وأخرجه بن خُزَيْمَةَ بِلَفْظِ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى إِبْرَاهِيمَ بِالْخِلَّةِ الحديث
وأخرج بن إِسْحَاقَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سلمة أن بن عمر أرسل إلى بن عَبَّاسٍ هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ نَعَمْ
وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طريق أبي العالية عن بن عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ ما رأى ولقد رآه نزلة أخرى قَالَ رَأَى رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ وَلَهُ مِنْ طريق عطاء عن بن عَبَّاسٍ قَالَ رَآهُ بِقَلْبِهِ
وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ ما أخرجه بن مردويه من طريق عطاء أيضا عن بن عباس قال لم يره رسول الله بعينه إنما رآه بقلبه
وعلى هذا فيمكن الجمع بين إثبات بن عَبَّاسٍ وَنَفْيِ عَائِشَةَ بِأَنْ يُحْمَلَ نَفْيُهَا عَلَى رُؤْيَةِ الْبَصَرِ وَإِثْبَاتُهُ عَلَى رُؤْيَةِ الْقَلْبِ ثُمَّ الْمُرَادُ بِرُؤْيَةِ الْفُؤَادِ رُؤْيَةُ الْقَلْبِ لَا مُجَرَّدُ حصول العلم لأنه كَانَ عَالِمًا بِاَللَّهِ عَلَى الدَّوَامِ بَلْ مُرَادُ مَنْ أَثْبَتَ لَهُ أَنَّهُ رَآهُ بِقَلْبِهِ أَنَّ الرُّؤْيَةَ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ خُلِقَتْ فِي قَلْبِهِ كَمَا يُخْلَقُ الرُّؤْيَةُ بِالْعَيْنِ لِغَيْرِهِ وَالرُّؤْيَةُ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا شَيْءٌ مَخْصُوصٌ عَقْلًا وَلَوْ جَرَتِ العادة بخلقها في العين
وروى بن خُزَيْمَةَ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذر أنه سأل النبي عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ وَلِأَحْمَدَ عَنْهُ قَالَ رَأَيْتَ نُورًا وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ عَنْهُ قَالَ رَآهُ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَرَهُ بِعَيْنِهِ
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ مُرَادُ أَبِي ذَرٍّ بِذِكْرِهِ النُّورَ أَيْ أَنَّ النُّورَ حَالَ بَيْنَ رُؤْيَتِهِ لَهُ بِبَصَرِهِ وَقَدْ رَجَّحَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ قَوْلَ الْوَقْفِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَعَزَاهُ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ وَقَوَّاهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْبَابِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ
وَغَايَةُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ لِلطَّائِفَتَيْنِ ظَوَاهِرُ مُتَعَارِضَةٌ قَابِلَةٌ لِلتَّأْوِيلِ قَالَ وَلَيْسَتِ الْمَسْأَلَةُ مِنَ الْعَمَلِيَّاتِ فَيُكْتَفَى فِيهَا بِالْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ وَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الْمُعْتَقَدَاتِ فَلَا يُكْتَفَى فِيهَا إِلَّا بِالدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ وجنح بن خُزَيْمَةَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ إِلَى تَرْجِيحِ الْإِثْبَاتِ وَأَطْنَبَ فِي الِاسْتِدْلَالِ لَهُ بِمَا يَطُولُ ذِكْرُهُ وحمل ما ورد عن بن عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَا وَقَعَتْ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِقَلْبِهِ وَفِيمَا أَوْرَدْتُهُ مِنْ ذَلِكَ مُقْنِعٌ وَمِمَّنْ أثبت الرؤية لنبينا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَرَوَى الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ عن المروزي(8/351)
قلتَ لِأَحْمَدَ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ فَبِأَيِّ شَيْءٍ يُدْفَعُ قولها بقول النبي رأيت ربي قول النبي
أَكْبَرُ مِنْ قَوْلِهَا
وَقَدْ أَنْكَرَ صَاحِبُ الْهَدْيِ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ قَالَ وَإِنَّمَا قَالَ مَرَّةً رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ وَقَالَ مَرَّةً بِفُؤَادِهِ وَحَكَى عَنْهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ رَآهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ وَهَذَا مِنْ تَصَرُّفِ الْحَاكِي فَإِنَّ نُصُوصَهُ مَوْجُودَةٌ انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ
واللَّهُ يَقُولُ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَفَى أَنْ تُدْرِكَهُ الْأَبْصَارُ وَعَدَمُ الْإِدْرَاكِ يَقْتَضِي نَفْيَ الرُّؤْيَةِ وَأَجَابَ مُثْبِتُو الرُّؤْيَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِدْرَاكِ الْإِحَاطَةُ وَهُمْ يَقُولُونَ بِهَذَا أَيْضًا وَعَدَمُ الْإِحَاطَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ
وَقَالَ النَّوَوِيُّ لَمْ تَنْفِ عَائِشَةُ الرُّؤْيَةَ بِحَدِيثٍ مَرْفُوعٍ وَلَوْ كَانَ مَعَهَا فِيهِ حَدِيثٌ لَذَكَرَتْهُ وَإِنَّمَا اعْتَمَدَتِ الِاسْتِنْبَاطَ عَلَى مَا ذَكَرَتْ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ وَقَدْ خَالَفَهَا غَيْرُهَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَالصَّحَابِيُّ إِذَا قَالَ قَوْلًا وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْقَوْلُ حُجَّةً اتِّفَاقًا
قال الْحَافِظُ جَزْمُ النَّوَوِيِّ بِأَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَنْفِ الرُّؤْيَةَ بِحَدِيثٍ مَرْفُوعٍ عَجِيبٌ فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ الَّذِي شَرَحَهُ الشَّيْخُ فَعِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ مَسْرُوقٌ وَكُنْتَ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ فَقُلْتُ أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى فَقَالَتْ أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ
سَأَلَ رسول الله عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ
وَأَخْرَجَهُ بن مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ دَاوُدَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَقَالَتْ أَنَا أَوَّلُ مَنْ سَأَلَ رَسُولَ الله عَنْ هَذَا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ فَقَالَ لَا إِنَّمَا رَأَيْتُ جِبْرِيلَ مُنْهَبِطًا وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلا وحيا أو من وراء حجاب تَمَامُ الْآيَةِ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِي بِإِذْنِهِ ما يشاء إنه علي حكيم وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَصَرَ تَكْلِيمَهُ لِغَيْرِهِ فِي ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ وَهِيَ الْوَحْيُ بِأَنْ يُلْقِيَ فِي رَوْعِهِ مَا يَشَاءُ أَوْ يُكَلِّمَهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُبَلِّغَهُ عَنْهُ فَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ انْتِفَاءَ الرُّؤْيَةِ عَنْهُ حَالَةَ التَّكَلُّمِ وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ مُطْلَقًا وَغَايَةُ ما يقتضي نفي تكليم الله على غيره الْأَحْوَالَ الثَّلَاثَةَ
فَيَجُوزُ أَنَّ التَّكْلِيمَ لَمْ يَقَعْ حَالَةَ الرُّؤْيَةِ (أَنْظِرِينِي) مِنَ الْإِنْظَارِ أَيْ أَمْهِلِينِي لا تُعْجِلِينِي أَيْ لَا تَسْبِقِينِي
قَالَ فِي الْقَامُوسِ أَعْجَلَهُ سَبَقَهُ كَاسْتَعْجَلَهُ وَعَجَّلَهُ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى ((8/352)
وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ظَنَّ مَسْرُوقٌ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَنْصُوبَ فِي قَوْلِهِ (وَلَقَدْ رَآهُ) فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَاعْتَرَضَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (قَالَ) أي رسول الله (إِنَّمَا ذَلِكَ جِبْرِيلُ) أَيْ هَذَا الْمَرْئِيُّ هُوَ جِبْرِيلُ لَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ) أَيْ مَرَّةً فِي الْأَرْضِ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى وَمَرَّةً فِي السَّمَاءِ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (سَادًّا) بِتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ مَالِئًا (عُظْمُ خَلْقِهِ) بِالرَّفْعِ فَاعِلُ سَادًّا وَالْعُظْمُ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الظَّاءِ وَبِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الظَّاءِ وَهُوَ ضِدُّ الصِّغَرِ (وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَخْ) هَذَا هُوَ الثَّانِي مِنَ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ (وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَخْ) هَذَا هُوَ الثَّالِثُ مِنَ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ
قَوْلُهُ (الْحَرَشِيُّ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ ثُمَّ شِينٍ مُعْجَمَةٍ (الْبَكَّائِيُّ) بِفَتْحِ الموحدة وتشديد الكاف
قوله (أتى ناس) وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ جَاءَتِ الْيَهُودُ إلى النبي فَقَالُوا إِنَّا نَأْكُلُ مِمَّا قَتَلْنَا وَلَا نَأْكُلُ مما قتل الله الخ قال الحافظ بن كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ ذِكْرِ رِوَايَةِ أَبِي داود هذه مَا لَفْظُهُ وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا أَنَّ الْيَهُودَ لَا يَرَوْنَ إِبَاحَةَ الْمَيْتَةِ حَتَّى يُجَادِلُوا
الثَّانِيَ أَنَّ الْآيَةَ مِنَ الْأَنْعَامِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ
الثَّالِثُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رواه الترمذي بلفظ أتى ناس النبي وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ ثُمَّ ذَكَرَ رِوَايَةَ الطَّبَرَانِيِّ عن بن عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسم الله عليه(8/353)
أَرْسَلَتْ فَارِسٌ إِلَى قُرَيْشٍ أَنْ خَاصِمُوا مُحَمَّدًا وقولوا له لما تَذْبَحُ أَنْتَ بِيَدِكَ بِسِكِّينٍ فَهُوَ حَلَالٌ وَمَا ذَبَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِشِمْشِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ يَعْنِي الْمَيْتَةَ فَهُوَ حَرَامٌ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أطعتموهم إنكم لمشركون أَيْ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ مِنْ فَارِسَ لَيُوحُونَ إِلَى أوليائهم من قريش
ثم قال وروى بن جرير من طرق متعددة عن بن عَبَّاسٍ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْيَهُودِ فَهَذَا هُوَ المحفوظ لأن الاية مكية واليهود لا يحبون الْمَيْتَةَ انْتَهَى (أَنَأْكُلُ مَا نَقْتُلُ) أَيْ نَذْبَحُ (وَلَا نَأْكُلُ مَا يَقْتُلُ اللَّهُ) يَعْنُونَ الْمَيْتَةَ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه أَيْ مَا ذُبِحَ عَلَى اسْمِهِ لَا مَا ذُبِحَ عَلَى اسْمِ غَيْرِهِ أَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ
قَالَ الْخَازِنُ هَذَا جَوَابٌ لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ أَتَأْكُلُونَ مِمَّا قَتَلْتُمْ وَلَا تَأْكُلُونَ مِمَّا قَتَلَ رَبُّكُمْ
فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ فَكُلُوا أَنْتُمْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عليه من الذبائح
وعند بن أبي حاتم عن بن عباس قال يوحي الشيطان إلى أوليائهم مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَقُولُوا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلْتُمْ وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَ اللَّهُ
فَقَالَ إِنَّ الَّذِي قَتَلْتُمْ يُذْكَرُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّ الَّذِي مَاتَ لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنَينَ فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِهَا يَقْتَضِي اسْتِبَاحَةَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَاجْتِنَابَ مَا حَرَّمَهُ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ تَحْسِينِ التِّرْمِذِيِّ عَطَاءَ بْنَ السَّائِبِ اخْتَلَفُوا فِي الِاحْتِجَاجِ بِحَدِيثِهِ وَأَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ مَقْرُونًا بِأَبِي بِشْرٍ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي وَحْشِيَّةَ وَفِي إِسْنَادِهِ عِمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَخُو سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِالْمَنَاكِيرِ
قَوْلُهُ (وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الوجه عن بن عباس أيضا) رواه أبو داود وبن ماجه وبن أبي حاتم وغيرهم وصحح الحافظ بن كَثِيرٍ إِسْنَادَهُ (وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ النَّبِيِّ مرسلا) رواه بن أبي حاتم(8/354)
قَوْلُهُ (عَنْ دَاوُدَ الْأَوْدِيِّ) الظَّاهِرُ أَنَّ دَاوُدَ هَذَا هُوَ دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَوْدِيُّ الزَّعَافِرِيُّ بِالزَّايِ وَالْمُهْمَلَةِ وَبِالْفَاءِ أَبُو الْعَلَاءِ الْكُوفِيُّ ثقة من السادسة وهو غيرهم عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) هو بن مَسْعُودٍ
قَوْلُهُ (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الصحيفة التي عليها خاتم محمد فَلْيَقْرَأْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ) كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّ هَذِهِ الايات محكمات غير منسوخات
وقال بن عَبَّاسٍ هَذِهِ الْآيَاتُ مُحْكَمَاتٌ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ لَمْ يَنْسَخْهُنَّ شَيْءٌ وَهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ عَلَى بَنِي آدَمَ كُلِّهِمْ وَهُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ مَنْ عَمِلَ بِهِنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ تَرَكَهُنَّ دَخَلَ النَّارَ ذَكَرَهُ الْخَازِنُ وَرَوَى نَحْوَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ قُلْ يَا مُحَمَّدُ تَعَالَوْا أَيْ هَلُمُّوا وَأَقْبِلُوا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَيْ أَقْرَأُ وَأَقُصُّ عَلَيْكُمْ وَأُخْبِرُكُمْ بِمَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا لَا تَخَرُّصًا وَلَا ظَنًّا بَلْ وَحْيًا مِنْهُ وَأَمْرًا مِنْ عِنْدِهِ وَبَقِيَّةُ الْآيَاتِ مَعَ تفسيرها هكذا أن لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا كَأَنَّ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَتَقْدِيرُهُ وَأَوْصَاكُمْ أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا
وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وقال النيسابوري في تفسيره فإن قيل قوله أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا كَالتَّفْصِيلِ لِمَا أَجْمَلَهُ فِي قَوْلِهِ مَا حَرَّمَ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الشِّرْكِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ مُحَرَّمًا فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّحْرِيمِ الْبَيَانُ الْمَضْبُوطُ أَوِ الْكَلَامُ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تُشْرِكُوا أَوْ أَنْ مُفَسِّرَةٌ أَيْ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ هُوَ قَوْلُهُ لَا تُشْرِكُوا وَهَذَا فِي النَّوَاهِي وَاضِحٌ وَأَمَّا الْأَوَامِرُ فَيُعْلَمُ بِالْقَرِينَةِ أَنَّ التَّحْرِيمَ رَاجِعٌ إِلَى أَضْدَادِهَا وَهِيَ الْإِسَاءَةُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ وَبَخْسُ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ وَتَرْكُ الْعَدْلِ فِي الْقَوْلِ وَنَكْثُ عَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَجُوزُ أن يجعل نَاصِبَةً وَإِلَّا لَزِمَ عَطْفُ الطَّلَبِ أَعْنِي الْأَمْرَ عَلَى الْخَبَرِ انْتَهَى وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا أَيْ أَوْصَاكُمْ وَأَمَرَكُمْ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ بِالْوَأْدِ مِنْ إِمْلَاقٍ أَيْ مِنْ أَجْلِ فَقْرٍ تَخَافُونَهُ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ الْبَنَاتَ خَشْيَةَ الْعَارِ وَرُبَّمَا قَتَلُوا بَعْضَ الذُّكُورِ خَشْيَةَ الِافْتِقَارِ نَحْنُ نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش أَيِ الْكَبَائِرَ كَالزِّنَا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ أَيْ عَلَانِيَتَهَا وَسِرَّهَا وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ التي حرم الله إلا بالحق إِنَّمَا أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الْقَتْلِ وَأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْفَوَاحِشِ وَالْكَبَائِرِ وَقِيلَ إِنَّمَا أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْهُ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ جُمْلَةِ الْفَوَاحِشِ إِلَّا
بِالْإِفْرَادِ فَلِذَلِكَ قَالَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ(8/355)
التي حرم الله إلا بالحق كَالْقَوَدِ وَحَدِّ الرِّدَّةِ وَرَجْمِ الْمُحْصَنِ ذَلِكُمْ أَيِ الْمَذْكُورُ وَصَّاكُمْ بِهِ يَعْنِي أَمَرَكُمْ بِهِ وَأَوْجَبَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أَيْ لِكَيْ تَفْهَمُوا وَتَتَدَبَّرُوا مَا فِي هَذِهِ التَّكَالِيفِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْمَنَافِعِ فَتَعْلَمُوا بِهَا وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بالتي أَيْ بِالْخَصْلَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَهِيَ مَا فِيهِ صَلَاحُهُ وَتَثْمِيرُهُ وَتَحْصِيلُ الرِّبْحِ لَهُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ بِأَنْ يَحْتَلِمَ
قَالَ فِي الْقَامُوسِ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَيُضَمُّ أَوَّلُهُ أَيْ قُوَّتَهُ وَهُوَ مَا بَيْنَ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً إِلَى ثَلَاثِينَ وَاحِدٌ جَاءَ عَلَى بِنَاءِ الْجَمْعِ كَآنُكٍ وَلَا نَظِيرَ لَهُمَا أَوْ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ أَوْ وَاحِدُهُ شِدَّةٌ بِالْكَسْرِ مَعَ أَنَّ فِعْلَةً لَا تُجْمَعُ عَلَى أَفْعُلٍ أو شد لكلب وَأَكْلُبٍ أَوْ شِدٌّ كَذِئْبٍ وَأَذْؤُبٍ وَمَا هُمَا بِمَسْمُوعَيْنِ بَلْ قِيَاسٌ انْتَهَى
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الْأَشُدِّ فَقِيلَ عِشْرُونَ سَنَةً وَقِيلَ ثَلَاثُونَ سَنَةً وَقِيلَ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً
قَالَ الْخَازِنُ هَذِهِ الْأَقْوَالُ الَّتِي نُقِلَتْ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا هِيَ نِهَايَةُ الْأَشُدِّ لَا ابْتِدَاؤُهُ وَالْمُرَادُ بِالْأَشُدِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ ابْتِدَاءُ بُلُوغِ الْحُلُمِ مَعَ إِينَاسِ الرُّشْدِ وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ والميزان بالقسط أَيْ بِالْعَدْلِ وَتَرْكِ الْبَخْسِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلا وسعها أَيْ طَاقَتَهَا وَمَا يَسَعُهَا فِي إِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ وَإِتْمَامِهِ يَعْنِي مَنِ اجْتَهَدَ فِي أَدَاءِ الْحَقِّ وَأَخَذَهُ فَإِنْ أَخْطَأَ بَعْدَ اسْتِفْرَاغِ وُسْعِهِ وَبَذْلِ جُهْدِهِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ وَإِذَا قُلْتُمْ فِي حُكْمٍ أَوْ غَيْرِهِ فَاعْدِلُوا بِالصِّدْقِ وَالْحَقِّ وَلَوْ كَانَ أَيِ الْمَقُولُ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ ذَا قُرْبَى أَيْ ذَا قَرَابَةٍ لَكُمْ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا يَعْنِي مَا عَهِدَ إِلَى عِبَادِهِ وَوَصَّاهُمْ بِهِ وَأَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكُمْ أَيِ الَّذِي ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أَيْ لَعَلَّكُمْ تَتَّعِظُونَ وَتَتَذَكَّرُونَ فَتَأْخُذُونَ مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَأَنَّ بِالْفَتْحِ عَلَى تَقْدِيرِ اللَّامِ والكسر استينافا هَذَا أَيِ الَّذِي وَصَّيْتُكُمْ بِهِ صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا حَالٌ فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ الطُّرُقَ الْمُخَالِفَةَ لَهُ فَتَفَرَّقَ فِيهِ حَذْفُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ أَيْ فَتَمِيلَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ أَيْ دِينِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيْ الطُّرُقَ الْمُخْتَلِفَةَ وَالسُّبُلَ الْمُضِلَّةَ
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا أَبِي) أَيْ حَدَّثَنَا والدي وهو وكيع بن الجراح (عن بن أَبِي لَيْلَى) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى الْأَنْصَارِيُّ (عَنْ عَطِيَّةَ) هُوَ الْعُوفِيُّ
قَوْلُهُ (قَالَ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا) أي قال رسول الله إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ هُوَ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا(8/356)
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بن حميد وأبو يعلى وبن أبي حاتم وأبو الشيخ وبن مردويه
قوله (عن يَعْلَى بْنُ عُبَيْدِ) بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ الْكُوفِيُّ كُنْيَتُهُ أَبُو يُوسُفَ الطَّنَافِسِيُّ ثِقَةٌ إِلَّا فِي حَدِيثِهِ عَنِ الثَّوْرِيِّ فَفِيهِ لِينٌ مِنْ كِبَارِ التَّاسِعَةِ (عَنْ أَبِي حَازِمٍ) هُوَ الْأَشْجَعِيُّ
قَوْلُهُ (ثَلَاثٌ) أَيْ ثَلَاثُ آيَاتٍ (إِذَا خَرَجْنَ) فِيهِ تَغْلِيبٌ أَوْ مَعْنَاهُ ظَهَرْنَ وَالْمُرَادُ هَذِهِ الثَّلَاثُ بِأَسْرِهَا (لَمْ يَنْفَعْ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ من قبل الْآيَةَ) كَذَا فِي النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ بِلَفْظِ لَمْ يَنْفَعْ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ لَا يَنْفَعُ وَهُوَ الظَّاهِرُ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَنْفَعْ بَلْ فِيهَا لَا يَنْفَعُ وَالْآيَةُ بِتَمَامِهَا مع تفسيرها هكذا هل ينظرون أي ما يَنْتَظِرُونَ الْمُكَذِّبُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَيْ لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَيْ أَمْرُهُ بِمَعْنَى عَذَابُهُ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ أَيْ بَعْضُ عَلَامَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى السَّاعَةِ وَهُوَ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ الْجُمْلَةُ صِفَةُ نَفْسٍ أَوْ نَفْسًا لَمْ تَكُنْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا أَيْ طَاعَةً أَيْ لَا تَنْفَعُهَا قَرَابَتُهَا قُلِ انْتَظِرُوا
أَحَدَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ذَلِكَ
قَوْلُهُ (وَالدَّابَّةُ) وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ دَابَّةُ الْأَرْضِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وأحمد وبن جَرِيرٍ
قَوْلُهُ (وَقَوْلُهُ الْحَقُّ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (إِذَا هُمْ) أَيْ أَرَادَ كَمَا فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الشَّيْخَيْنِ
قال الْحَافِظُ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْهَمِّ وَالْإِرَادَةِ لَا يَكْفِي فَعِنْدَ أحمد وصححه بن حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ رَفَعَهُ وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ أَشْعَرَ بِهَا قَلْبَهُ(8/357)
وحرص عليها
وقد تمسك به بن حِبَّانَ فَقَالَ بَعْدَ إِيرَادِ حَدِيثِ الْبَابِ فِي صَحِيحِهِ الْمُرَادُ بِالْهَمِّ هُنَا الْعَزْمُ ثُمَّ قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ يَكْتُبُ الْحَسَنَةَ بِمُجَرَّدِ الْهَمِّ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهَا زِيَادَةً فِي الفضل (فاكتبوها له) أي الذي هم بالحسنة
وفيه دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ يَطَّلِعُ عَلَى مَا فِي قَلْبِ الْآدَمِيِّ إِمَّا بِإِطْلَاعِ اللَّهِ إِيَّاهُ أَوْ بِأَنْ يَخْلُقَ لَهُ عِلْمًا يُدْرِكُ بِهِ ذلك
ويؤيد الأول ما أخرجه بن أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ قَالَ يُنَادِي الْمَلَكَ اكْتُبْ لِفُلَانٍ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ يَا رَبِّ إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْهُ
فَيَقُولُ إِنَّهُ نَوَاهُ وَقِيلَ بَلْ يَجِدُ الْمَلَكُ لِلْهَمِّ بِالسَّيِّئَةِ رَائِحَةً خَبِيثَةً وَبِالْحَسَنَةِ رَائِحَةً طَيِّبَةً
وأخرج ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ عَنْ أَبِي مَعْشَرَ الْمَدَنِيِّ وَجَاءَ مِثْلُهُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ الْحَافِظُ وَرَأَيْتَ في شرح مغلطاني أَنَّهُ وَرَدَ مَرْفُوعًا قَالَ الطُّوفِيُّ إِنَّمَا كُتِبَتِ الْحَسَنَةُ بِمُجَرَّدِ الْإِرَادَةِ لِأَنَّ إِرَادَةَ الْخَيْرِ سَبَبٌ إِلَى الْعَمَلِ وَإِرَادَةُ الْخَيْرِ خَيْرٌ لِأَنَّ إِرَادَةَ الْخَيْرِ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ
وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ لَا تُضَاعَفُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وَأُجِيبَ بِحَمْلِ الْآيَةِ عَلَى عَمَلِ الْجَوَارِحِ وَالْحَدِيثُ عَلَى الْهَمِّ الْمُجَرَّدِ (فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بعشر أمثالها) وفي حديث بن عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ جَعْدٍ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعَطَارِدِيِّ فَإِنْ هو هم بها فعملها كتبها اللَّهُ لَهُ بِهَا عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ
قَالَ الْحَافِظُ يُؤْخَذُ مِنْهُ رَفْعُ تَوَهُّمِ أَنَّ حَسَنَةَ الْإِرَادَةِ تُضَافُ إِلَى عَشْرَةِ التَّضْعِيفِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ إِحْدَى عَشْرَةَ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرُ رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلَفْظُهُ فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ احْتِمَالٌ
ورواية عبد الوراث فِي الْبَابِ ظَاهِرَةٌ فِيمَا قُلْته وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ انْتَهَى (فَإِنْ تَرَكَهَا) زَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَتِهِ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ أَجْلِي
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ
8 - بَاب وَمِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ مَكِّيَّةٌ إِلَّا وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الثَّمَانِ أو(8/358)
الْخَمْسِ آيَاتٍ وَهِيَ مِائَتَانِ وَخَمْسٌ أَوْ سِتُّ آيَاتٍ
قَوْلُهُ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ أَيْ ظَهَرَ نُورُ رَبِّهِ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا أَيْ مدكوكا مستويا بالأرض (قال حماد) هو بن سَلَمَةَ (هَكَذَا) أَيْ أَشَارَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ لِبَيَانِ قِلَّةِ التَّجَلِّي هَكَذَا يَعْنِي وَضَعَ طَرَفَ إِبْهَامِهِ عَلَى أُنْمُلَةِ إِصْبَعِهِ الْيُمْنَى (وَأَمْسَكَ سُلَيْمَانُ إِلَخْ) أَيْ لِبَيَانِ قَوْلِهِ هَكَذَا
وَرَوَى الْحَافِظُ بن جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ أنس أن النبي قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جعله دكا) قال هكذا بإصبعه وضع النبي إِصْبَعَهُ الْإِبْهَامَ عَلَى الْمِفْصَلِ الْأَعْلَى مِنَ الْخِنْصَرِ فساخ الجبل
قال الحافظ بن كَثِيرٍ هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ لَيْثٍ عَنْ أَنَسٍ وَالْمَشْهُورُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ انتهى (قال) أي النبي (فَسَاخَ الْجَبَلُ) أَيْ غَاصَ فِي الْأَرْضِ وَغَابَ فِيهَا (وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا) أَيْ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ لِهَوْلِ مَا رَأَى
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وبن جَرِيرٍ
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذِ) بْنِ نَصْرِ بْنِ حَسَّانٍ الْعَنْبَرِيُّ أَبُو الْمُثَنَّى الْبَصْرِيُّ الْقَاضِي ثِقَةٌ مُتْقِنٌ مِنْ كِبَارِ التَّاسِعَةِ
قَوْلُهُ (عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْيَاءِ هُوَ أَبُو أُسَامَةَ الْجَزَرِيُّ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ الْعَدَوِيِّ أَبِي عُمَرَ الْمَدَنِيِّ ثِقَةٌ مِنَ الرَّابِعَةِ تُوُفِّيَ بِحَرَّانَ فِي خِلَافَةِ هِشَامٍ (عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ) مَقْبُولٌ مِنَ الثَّالِثَةِ
قَوْلُهُ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ) أَيْ عَنْ كَيْفِيَّةِ أَخْذِ اللَّهِ ذُرِّيَّةَ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمُ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ وَإِذْ أَيِ اذْكُرْ يا محمد(8/359)
() حِينَ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظهورهم بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِمَّا قَبْلَهُ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ وَقِيلَ بَدَلُ بَعْضٍ ذُرِّيَّتَهُمْ بِأَنْ أَخْرَجَ بَعْضَهُمْ مِنْ صُلْبِ بَعْضٍ مِنْ صُلْبِ آدَمَ نَسْلًا بَعْدَ نَسْلٍ كَنَحْوِ مَا يَتَوَالَدُونَ كَالذَّرِّ بِنُعْمَانَ يَوْمِ عَرَفَةَ وَنَصَبَ لَهُمْ دَلَائِلَ عَلَى رُبَوبِيَّتِهِ وَرَكَّبَ فِيهِمْ عَقْلًا وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ) قَالَ (أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) أَنْتَ رَبُّنَا (شَهِدْنَا) بِذَلِكَ (أَنْ تَقُولُوا) أَيْ لِئَلَّا تَقُولُوا (يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا) أَيِ التَّوْحِيدِ (غَافِلِينَ) لَا نَعْرِفُهُ (سُئِلَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (عَنْهَا) أَيْ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ (ثُمَّ مَسَحَ ظَهَرَهُ) أَيْ ظَهْرَ آدَمَ (بِيَمِينِهِ)
قَالَ الطِّيبِيُّ يُنْسَبُ الْخَيْرُ إِلَى الْيَمِينِ فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَخْصِيصِ آدَمَ بِالْكَرَامَةِ وَقِيلَ بِيَدِ بَعْضِ مَلَائِكَتِهِ وَهُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ عَلَى تَصْوِيرِ الْأَجِنَّةِ أُسْنِدَ إِلَيْهِ تَعَالَى لِلتَّشْرِيفِ أَوْ لِأَنَّهُ الْآمِرُ وَالْمُتَصَرِّفُ كَمَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ التَّوَفِّيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) وَقَالَ تَعَالَى (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ) وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَاسِحُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْمَسْحُ مِنْ بَابِ التَّصْوِيرِ وَالتَّمْثِيلِ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قُلْتُ هَذِهِ تَأْوِيلَاتٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهَا قَدْ مَرَّ مِرَارًا أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ إِمْرَارُهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَتَكْيِيفٍ (فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً) قِيلَ قَبْلَ دُخُولِ آدَمَ الْجَنَّةَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَقِيلَ بِبَطْنِ نُعْمَانَ وَأَنَّهُ بِقُرْبِ عَرَفَةَ وَقِيلَ فِي الْجَنَّةِ وَقِيلَ بَعْدَ النُّزُولِ مِنْهَا بِأَرْضِ الْهِنْدِ
وَرُوِيَ عن بن عباس رضي الله عنه عن النبي(8/360)
قَالَ أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنُعْمَانَ يَعْنِي عَرَفَةَ فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قُبُلًا قَالَ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا
وَنَقَلَ السَّيِّدُ السَّنَدَ عَنِ الْأَزْهَارِ أَنَّهُ قِيلَ شَقَّ ظَهْرَهُ وَاسْتَخْرَجَهُمْ مِنْهُ وَقِيلَ إِنَّهُ اسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ ثُقُوبِ رَأْسِهِ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ اسْتَخْرَجَهُمْ من مسام شعرات ظهره ذكره القارىء في المرقاة
قلت حديث بن عباس الذي ذكره بقوله وروى عن بن عَبَّاسٍ إِلَخْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالنَّسَائِيُّ في كتاب التفسير من سننه وبن جرير وبن أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ
وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ موقوفا على بن عباس
قال الحافظ بن كثير وهذا أي كونه موقوفا علي بن عَبَّاسٍ أَكْثَرُ وَأَثْبَتُ انْتَهَى
قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ أَطْبَقَتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِأَنَّ قَوْلَهُ مِنْ ظُهُورِهِمْ بَدَلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ
فَالْمَعْنَى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ ظُهُورِ بَنِي آدَمَ فَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ شَيْئًا وما كَانَ الْمُرَادُ الْأَخْذَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ لَقِيلَ مِنْ ظَهْرِهِ وَأَجَابَ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَ الذُّرِّيَّةَ مِنْ ظُهُورِ بَنِي آدَمَ وَأَمَّا أَنَّهُ أَخْرَجَ تِلْكَ الذُّرِّيَّةِ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ فَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى إثباته ونفيه وَالْخَبَرُ قَدْ دَلَّ عَلَى ثُبُوتِهِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِمَا مَعًا بِأَنَّ بَعْضَ الذَّرِّ مِنْ ظَهْرِ بَعْضِ الذَّرِّ وَالْكُلُّ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ صَوْنًا لِلْآيَةِ وَالْحَدِيثِ عَنِ الِاخْتِلَافِ انْتَهَى
وَقَالَ التُّورْبَشْتِيُّ هذا الحديث يعني حديث بن عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ لَا يَحْتَمِلُ مِنَ التَّأْوِيلِ مَا يَحْتَمِلُهُ حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَلَا أَرَى الْمُعْتَزِلَةَ يُقَابِلُونَ هَذِهِ الْحُجَّةَ إِلَّا بقولهم حديث بن عَبَّاسٍ هَذَا مِنَ الْآحَادِ فَلَا نَتْرُكُ بِهِ ظَاهِرَ الْكِتَابِ وَإِنَّمَا هَرَبُوا عَنِ الْقَوْلِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ بِمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ لِمَكَانِ قَوْلِهِ تَعَالَى أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كنا عن هذا غافلين فَقَالُوا إِنْ كَانَ هَذَا الْإِقْرَارُ عَنِ اضْطِرَارٍ حَيْثُ كُوشِفُوا بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَشَاهَدُوهُ عَيْنَ الْيَقِينِ فَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَقُولُوا شَهِدْنَا يَوْمَئِذٍ فَلَمَّا زَالَ عَنَّا عَلِمْنَا عِلْمَ الضَّرُورَةِ وَوُكِلْنَا إِلَى آرَائِنَا كَانَ مِنَّا مَنْ أَصَابَ وَمِنَّا مَنْ أَخْطَأَ وَإِنْ كَانَ عَنِ اسْتِدْلَالٍ وَلَكِنَّهُمْ عُصِمُوا عِنْدَهُ مِنَ الْخَطَأِ فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا أُيِّدْنَا يَوْمَ الْإِقْرَارِ بِالتَّوْفِيقِ وَالْعِصْمَةِ وَحُرِمْنَاهُمَا مِنْ بَعْدُ وَلَوْ مَدَدْنَا بِهِمَا لَكَانَتْ شَهَادَتُنَا فِي كُلِّ حِينٍ كَشَهَادَتِنَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ
فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمِيثَاقَ مَا رَكَّزَ اللَّهُ فِيهِمْ مِنَ الْعُقُولِ وَآتَاهُمْ وَآبَاءَهُمْ مِنَ الْبَصَائِرِ لِأَنَّهَا هِيَ الْحُجَّةُ الْبَاقِيَةُ الْمَانِعَةُ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ هَذَا الْإِقْرَارَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي الْإِشْرَاكِ كَمَا جَعَلَ بَعْثَ الرُّسُلِ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي الْإِيمَانِ بِمَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنَ الْغُيُوبِ
قال الطِّيبِيُّ وَخُلَاصَةُ مَا قَالُوهُ أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا مُحْتَجِّينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنَّهُ زَالَ عَنَّا عِلْمُ الضَّرُورَةِ وَوُكِلْنَا إِلَى آرَائِنَا فَيُقَالُ لَهُمْ كَذَبْتُمْ بَلْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى يُوقِظُونَكُمْ مِنْ سِنَةِ الْغَفْلَةِ وَأَمَّا(8/361)
قَوْلُهُ حُرِمْنَا عَنِ التَّوْفِيقِ وَالْعِصْمَةِ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ إِذْ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا لَا مَنْفَعَةَ لَنَا فِي الْعُقُولِ وَالْبَصَائِرِ حَيْثُ حُرِمْنَا عَنِ التَّوْفِيقِ وَالْعِصْمَةِ
وَالْحَقُّ أَنْ تُحْمَلَ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَلَا يُقْدَمُ عَلَى الطَّعْنِ فِيهَا بِأَنَّهَا آحَادٌ لِمُخَالَفَتِهَا لِمُعْتَقَدِ أَحَدٍ وَمَنْ أَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ حُرِمَ خَيْرًا كَثِيرًا وَخَالَفَ طَرِيقَةَ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُثْبِتُونَ خَبَرَ وَاحِدٍ عَنْ واحد عن النبي وَيَجْعَلُونَهُ سُنَّةً حُمِدَ مَنْ تَبِعَهَا وَعِيبَ مَنْ خَالَفَهَا انْتَهَى
(وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ) أَيْ مِنَ الطَّاعَاتِ (يَعْمَلُونَ) إِمَّا فِي جَمِيعِ عُمْرِهِمْ أَوْ فِي خَاتِمَةِ أَمْرِهِمْ (فَفِيمَ الْعَمَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ) أَيْ إِذَا كَانَ كَمَا ذَكَرْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ سَبْقِ الْقَدَرِ فَفِي أَيِّ شَيْءٍ يُفِيدُ الْعَمَلُ أَوْ بِأَيِّ شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ الْعَمَلُ أَوْ فَلِأَيِّ شَيْءٍ أُمِرْنَا بِالْعَمَلِ (اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ) أَيْ جَعَلَهُ عَامِلًا بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَوَفَّقَهُ لِلْعَمَلِ بِهِ (حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَدَارَ عَلَى عَمَلٍ مُقَارَنٍ بِالْمَوْتِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الموطأ وأحمد والنسائي وبن أبي حاتم وبن جرير وبن حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُمْ (وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُمَرَ إِلَخْ)
قال الْحَافِظُ بن كَثِيرٍ وَكَذَا قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو زُرْعَةَ زَادَ أَبُو حَاتِمٍ وَبَيْنَهُمَا نُعَيْمُ بْنُ رَبِيعَةَ
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُصَفَّى عَنْ بَقِيَّةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ جُعْثُمٍ الْقُرَشِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ كُنْتَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدم من ظهورهم ذريتهم فذكر وَقَالَ الْحَافِظُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَدْ تَابَعَ عُمَرَ بْنَ جُعْثُمٍ يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ أَبُو فَرْوَةَ الرَّهَاوِيُّ وَقَوْلُهُمَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ
قال بن كَثِيرٍ الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِمَامَ مَالِكًا إِنَّمَا أَسْقَطَ ذِكْرَ نُعَيْمِ بْنِ رَبِيعَةَ عَمْدًا لَمَّا جَهِلَ حال(8/362)
نُعَيْمٍ وَلَمْ يَعْرِفْهُ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلِذَلِكَ يُسْقِطُ ذِكْرَ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ لَا يَرْتَضِيهِمْ وَلِهَذَا يُرْسِلُ كَثِيرًا مِنَ الْمَرْفُوعَاتِ وَيَقْطَعُ كَثِيرًا مِنَ الْمَوْصُولَاتِ انْتَهَى
وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ قَالَ أَبُو عُمَرَ النَّمَرِيُّ هَذَا حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ لِأَنَّ مُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ هَذَا لَمْ يَلْقَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَبَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ نُعَيْمُ بْنُ رَبِيعَةَ وَهَذَا أَيْضًا مَعَ الْإِسْنَادِ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ هَذَا مَجْهُولٌ قِيلَ إِنَّهُ مَدَنِيٌّ وَلَيْسَ بِمُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْبَصْرِيِّ وَقَالَ أَيْضًا وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَائِمِ لِأَنَّ مُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ وَنُعَيْمَ بْنَ رَبِيعَةَ جَمِيعًا غَيْرُ مَعْرُوفِينَ بِحَمْلِ الْعِلْمِ وَلَكِنْ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ قَدْ صح عن النبي مِنْ وُجُوهٍ ثَابِتَةٍ كَثِيرَةٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ انْتَهَى
قلتَ مسلم بن يسار هذا وثقة بن حِبَّانَ وَقَالَ الْعِجْلِيُّ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ وَنُعَيْمُ بْنُ ربيعة وثقه أيضا بن حِبَّانَ وَقَالَ الْحَافِظُ هُوَ مَقْبُولٌ
قَوْلُهُ (فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ) أَيْ خَرَجَ مِنْهُ (كُلُّ نَسَمَةٍ) أَيْ ذِي رُوحٍ وَقِيلَ كُلُّ ذِي نَفْسٍ مَأْخُوذَةٍ مِنَ النَّسِيمِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ (هُوَ خَالِقُهَا من ذريته) الجملة صفة نسمة ومن بَيَانِيَّةٌ وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّ إِخْرَاجَ الذُّرِّيَّةِ كَانَ حَقِيقِيًّا (وَبِيصًا) أَيْ بَرِيقًا وَلَمَعَانًا (مِنْ نُورٍ) فِي ذِكْرِهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ وَفِي قَوْلِهِ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ إِيذَانٌ بِأَنَّ الذُّرِّيَّةَ كَانَتْ عَلَى صُورَةِ الْإِنْسَانِ عَلَى مِقْدَارِ الذَّرِّ (فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ) أَيْ سَرَّهُ (هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الْأُمَمِ) جَمْعُ أُمَّةٍ وَالْآخِرِيَّةُ إِضَافِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ فَإِنَّ الْآخِرِيَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ ثَابِتَةٌ لِأُمَّةِ نَبِيِّنَا محمد وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ مِنْهُمْ (يُقَالُ لَهُ دَاوُدُ) قِيلَ تَخْصِيصُ التَّعَجُّبِ مِنْ وَبِيصِ دَاوُدَ إِظْهَارٌ لِكَرَامَتِهِ وَمَدْحٌ لَهُ فَلَا يَلْزَمُ تَفْضِيلُهُ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ الْمَفْضُولَ قَدْ يَكُونُ لَهُ مَزِيَّةٌ بَلْ مَزَايَا لَيْسَتْ فِي الْفَاضِلِ وَلَعَلَّ وَجْهَ الْمُلَاءَمَةِ بَيْنَهُمَا اشْتِرَاكُ نِسْبَةِ الْخِلَافَةِ (قَالَ) أَيْ آدَمُ (رَبِّ) بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ (وَكَمْ جَعَلْتَ عُمُرَهُ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالْمِيمِ وَقَدْ تُسَكَّنُ وَكَمْ مَفْعُولٌ لِمَا بَعْدَهُ وَقُدِّمَ لِمَا لَهُ الصَّدْرُ أَيْ كَمْ(8/363)
سَنَةً جَعَلْتَ عُمُرَهُ (زِدْهُ مِنْ عُمُرِي) يَعْنِي مِنْ جُمْلَةِ الْأَلْفِ وَمِنْ عُمُرِي صِفَةُ أَرْبَعِينَ قُدِّمَتْ فَعَادَتْ حَالًا (أَرْبَعِينَ سَنَةً) مَفْعُولٌ ثَانٍ لِقَوْلِهِ زِدْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا
قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ زَادَ يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا كَقَوْلِك زَادَ الْمَاءُ وَيُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولَيْنِ كَقَوْلِهِ زِدْتُهُ دِرْهَمًا وَعَلَى هَذَا جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى فزادهم الله مرضا (أو لم يَبْقَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً) بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ الْمُنْصَبِّ عَلَى نَفْيِ الْبَقَاءِ فَيُفِيدُ إِثْبَاتَهُ وَقُدِّمَتْ عَلَى الْوَاوِ لِصَدَارَتِهَا وَالْوَاوُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ لِمُجَرَّدِ الرَّبْطِ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا (قَالَ) أي ملك الموت (أو لم تُعْطِهَا) أَيْ أَتَقُولُ ذَلِكَ وَلَمْ تُعْطِ الْأَرْبَعِينَ (فجحد آدم) أي ذلك لأن كَانَ فِي عَالَمِ الذَّرِّ فَلَمْ يَسْتَحْضِرْهُ حَالَةَ مَجِيءِ مَلَكِ الْمَوْتِ لَهُ (فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ) لِأَنَّ الْوَلَدَ سِرُّ أَبِيهِ (فَنَسِيَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ) كَذَا فِي النُّسَخِ الْمَوْجُودَةِ
وَوَقَعَ فِي الْمِشْكَاةِ وَنَسِيَ آدَمُ فَأَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ
قال القارىء قِيلَ نَسِيَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ جِنْسِ الشَّجَرَةِ أَوِ الشَّجَرَةِ بِعَيْنِهَا فَأَكَلَ مِنْ غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ وكان النهي عن الجنس (وخطىء) بِكَسْرِ الطَّاءِ مِنْ بَابِ سَمِعَ يَسْمَعُ أَيْ أَذْنَبَ وَعَصَى
تَنْبِيهٌ قَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا فِي آخِرِ كِتَابِ التَّفْسِيرِ وَفِيهِ قَالَ
يَا رَبِّ مَنْ هَذَا
قَالَ هَذَا ابْنُكَ دَاوُدُ وَقَدْ كَتَبْتُ لَهُ عُمُرَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ يَا رَبِّ زِدْهُ فِي عُمُرِهِ
قَالَ ذَاكَ الَّذِي كُتِبَ لَهُ
قَالَ أَيْ رَبِّي فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُ لَهُ مِنْ عُمُرِي سِتِّينَ سَنَةً
قَالَ أَنْتَ وَذَاكَ ثُمَّ أُسْكِنَ الْجَنَّةَ مَا شَاءَ اللَّهُ
ثُمَّ أُهْبِطَ مِنْهَا وَكَانَ آدَمُ يَعُدُّ لِنَفْسِهِ
قَالَ فَأَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُ آدَمُ قَدْ عَجَّلْتَ قَدْ كُتِبَ لِي أَلْفُ سَنَةٍ
قَالَ بَلَى وَلَكِنَّكَ جَعَلْتَ لِابْنِكَ دَاوُدَ سِتِّينَ سَنَةً فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الَّتِي فِي آخِرِ كِتَابِ التَّفْسِيرِ مُخَالِفَةٌ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مُخَالَفَةً ظاهرة
قال القارىء ويمكن الجمع بأنه جعل لَهُ مِنْ عُمُرِهِ أَوَّلًا أَرْبَعِينَ ثُمَّ زَادَ عِشْرِينَ فَصَارَ سِتِّينَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذْ واعدنا موسى أربعين ليلة وقوله تعالى وإذا وَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ ميقات ربه أربعين ليلة
وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَكَرَّرَ مَأْتَى عِزْرَائِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلِامْتِحَانِ بِأَنْ جَاءَ وَبَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ سِتُّونَ فَلَمَّا جَحَدَهُ رَجَعَ إِلَيْهِ بَعْدَ بَقَاءِ أربعين على رجا أنه تذكر بعد ما تَفَكَّرَ فَجَحَدَ ثَانِيًا وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ بَابِ النِّسْيَانِ واللَّهُ الْمُسْتَعَانُ
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ وَقَعَ شَكٌّ لِلرَّاوِي وَتَرَدُّدٌ فِي كَوْنِ الْعَدَدِ أَرْبَعِينَ أَوْ سِتِّينَ فَعَبَّرَ عَنْهُ تَارَةً بِالْأَرْبَعِينَ وَأُخْرَى بِالسِّتِّينَ وَمِثْلُ هَذَا وَقَعَ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَأَجَابَ عَنْهُ بِمَا ذَكَرْنَا بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ وَمَهْمَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ(8/364)
بِالْوَهْمِ وَالْغَلَطِ فِي رِوَايَةِ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِينَ
وَأَمَّا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ سَاعَاتِ أَيَّامِ عُمُرِ آدَمَ كَانَتْ أَطْوَلَ مِنْ زَمَانِ دَاوُدَ فَمَوْقُوفٌ عَلَى صِحَّةِ النَّقْلِ وَإِلَّا فَبِظَاهِرِهِ يَأْبَاهُ الْعَقْلُ كَمَا حُقِّقَ فِي دَوَرَانِ الْفَلَكِ عِنْدَ أَهْلِ الفضل انتهى كلام القارىء بِلَفْظِهِ
ثُمَّ قَالَ وَالْحَدِيثُ السَّابِقُ يَعْنِي الَّذِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ أَرْجَحُ وَكَذَا أَوْفَقُ لِسَائِرِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ كَمَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
قلتَ كل ما ذكره القارىء مِنْ وُجُوهِ الْجَمْعِ مَخْدُوشٌ إِلَّا الْوَجْهَ الْأَخِيرَ وَهُوَ أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي فِي تَفْسِيرِ سُوَرِهِ الْأَعْرَافِ أَرْجَحُ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي فِي آخِرِ كِتَابِ التَّفْسِيرِ فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ
وَوَجْهُ كَوْنِ الْأَوَّلِ أَرْجَحَ مِنَ الثَّانِي ظَاهِرٌ مِنْ كَلَامِ التِّرْمِذِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ رِوَايَةِ الْأَوَّلِ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
وَقَالَ بَعْدَ رِوَايَةِ الثَّانِي هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَأَيْضًا فِي سَنَدِ الثَّانِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ وَكَانَ قَدْ تَغَيَّرَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ هَذَا مَا عِنْدِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ وَأَخْرَجَهُ بن أبي حاتم في تفسيره
قوله (عن عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) الْعَبْدِيُّ الْبَصْرِيُّ صَاحِبُ الْهَرَوِيِّ صَدُوقٌ فِي حَدِيثِهِ عَنْ قَتَادَةَ ضَعْفٌ مِنَ السَّادِسَةِ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ
وَقَالَ فِي تَهْذِيبِ
التَّهْذِيبِ قَالَ أَحْمَدُ وَهُوَ يَرْوِي عَنْ قَتَادَةَ أحاديث مناكير يخالف وقال بن عَدِيٍّ يَرْوِي عَنْ قَتَادَةَ أَشْيَاءَ لَا يُوَافِقُ عَلَيْهَا وَحَدِيثُهُ خَاصَّةً عَنْ قَتَادَةَ مُضْطَرِبٌ انْتَهَى
قَوْلُهُ (طَافَ بِهَا إِبْلِيسُ) أَيْ جَاءَهَا (وَكَانَ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ) مِنَ الْعَيْشِ وَهُوَ الحياة أي لا يحيى لَهَا وَلَدٌ وَلَا يَبْقَى بَلْ كَانَ يَمُوتُ (فَقَالَ) أَيْ إِبْلِيسُ (سَمِّيهِ عَبْدَ الْحَارِثِ) قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّهُ جَاءَ إِبْلِيسُ إِلَى حَوَّاءَ وَقَالَ لَهَا إِنْ وَلَدْتِ وَلَدًا فَسَمِّيهِ بِاسْمِي فَقَالَتْ مَا اسْمُكَ قَالَ الْحَارِثُ وَلَوْ سَمَّى لَهَا نَفْسَهُ لَعَرَفَتْهُ فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ فَكَانَ هَذَا شِرْكًا فِي التَّسْمِيَةِ وَلَمْ يَكُنْ شِرْكًا فِي الْعِبَادَةِ
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا بِطَرِيقٍ وَأَلْفَاظٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ كذا في(8/365)
تفسير فتح البيان والدين الْخَالِصِ (وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ وَأَمْرِهِ) أَيْ مِنْ وَسْوَسَتِهِ وَحَدِيثِهِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالْحَاكِمُ في مستدركه وبن أبي حاتم وغيرهم
قال الحافظ بن كَثِيرٍ هَذَا الْحَدِيثُ مَعْلُولٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ هَذَا هُوَ البصري وقد وثقه بن مَعِينٍ وَلَكِنْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ لَا يحتج به ولكن رواه بن مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ الْمُعْتَمِرِ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا فاللَّهُ أَعْلَمُ
الثَّانِي أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ قَوْلِ سَمُرَةَ نَفْسِهِ لَيْسَ مَرْفُوعًا
الثَّالِثُ أَنَّ الْحَسَنَ نَفْسَهُ فَسَّرَ الْآيَةَ بِغَيْرِ هَذَا فَلَوْ كَانَ هَذَا عِنْدَهُ عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا لَمَا عَدَلَ عَنْهُ
انْتَهَى
قلتَ عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورُ وَثَّقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ عَنْ قَتَادَةَ كَمَا عَرَفْتَ وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ عَنْ قَتَادَةَ وَفِي سَمَاعِ الْحَسَنِ مِنْ سَمُرَةَ كَلَامٌ مَعْرُوفٌ
تَنْبِيهٌ أورد التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَ سَمُرَةَ الْمَذْكُورَ هُنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ
فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ قَالَ صَاحِبُ فَتْحِ الْبَيَانِ قَدِ اسْتَشْكَلَ هَذِهِ الْآيَةَ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لِأَنَّ ظَاهِرَهَا صَرِيحٌ فِي وُقُوعِ الْإِشْرَاكِ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ عَنِ الشِّرْكِ ثُمَّ اضْطُرُّوا إِلَى التَّفَصِّي مِنْ هَذَا الْإِشْكَالِ
فَذَهَبَ كُلٌّ إِلَى مَذْهَبٍ وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي تَأْوِيلِهَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا حَتَّى أَنْكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنْهُمُ الرَّازِيُّ وَأَبُو السُّعُودِ وَغَيْرُهُمَا
وَقَالَ الْحَسَنُ هَذَا فِي الْكُفَّارِ يَدْعُونَ اللَّهَ فَإِذَا آتاهما صالحا هودوا أو نصروا
وقال بن كَيْسَانَ هُمُ الْكُفَّارُ سَمَّوْا أَوْلَادَهُمْ بِعَبْدِ الْعُزَّى وَعَبْدِ الشَّمْسِ وَعَبْدِ الدَّارِ وَنَحْوَ ذَلِكَ
قال الْحَسَنُ كَانَ هَذَا فِي بَعْضِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَلَيْسَ بِآدَمَ وَقِيلَ هَذَا خِطَابٌ لِقُرَيْشٍ الَّذِينَ كانوا في عهد رسول الله وَهُمْ آلُ قُصَيٍّ وَحَسَّنَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَالَ هَذَا تَفْسِيرٌ حَسَنٌ لَا(8/366)
إِشْكَالَ فِيهِ
وَقِيلَ مَعْنَاهَا عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ جَعْلُ أَوْلَادِهِمَا شُرَكَاءَ وَيَدُلُّ لَهُ ضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ الْآتِي عَمَّا يُشْرِكُونَ وَإِيَّاهُ ذَكَرَ النَّسَفِيُّ وَالْقَفَّالُ وَارْتَضَاهُ الرَّازِيُّ وَقَالَ هَذَا جَوَابٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ
وَقِيلَ مَعْنَى مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ مِنْ هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ وَشَكْلٍ وَاحِدٍ فَجُعِلَ مِنْهَا أَيْ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجُهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا يَعْنِي جِنْسَ الذَّكَرِ جِنْسَ الْأُنْثَى وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ لِآدَمَ وَلَا حَوَّاءَ ذِكْرٌ فِي الْآيَةِ وَتَكُونُ ضَمَائِرُ التَّثْنِيَةِ رَاجِعَةً إِلَى الْجِنْسَيْنِ
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى مُتَخَالِفَةٌ في المبنى ولا يَخْلُو كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنْ بُعْدٍ وَضَعْفٍ وَتَكَلُّفٍ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ الْمُتَقَدِّمَ يَعْنِي حَدِيثَ سَمُرَةَ الْمَذْكُورَ يَدْفَعُهُ وَلَيْسَ فِي واحد في تِلْكَ الْأَقْوَالِ قَوْلٌ مَرْفُوعٌ حَتَّى يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ وَيُصَارَ إِلَيْهِ بَلْ هِيَ تَفَاسِيرُ بِالْآرَاءِ الْمَنْهِيِّ عنها المتوعد عليها
الثاني أن فيه انخرام لنظم القرآن سياقا وسياقا الثالث أن الْحَدِيثُ صَرَّحَ بِأَنَّ صَاحِبَةَ الْقِصَّةِ هِيَ حَوَّاءُ وَقَوْلُهُ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا إِنَّمَا هُوَ لِحَوَّاءَ دُونَ غَيْرِهَا فَالْقِصَّةُ ثَابِتَةٌ لَا وَجْهَ لِإِنْكَارِهَا بِالرَّأْيِ الْمَحْضِ
والحاصل أَنَّ مَا وَقَعَ إِنَّمَا وَقَعَ مِنْ حَوَّاءَ لَا مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يُشْرِكْ آدَمُ قَطُّ وَقَوْلُهُ جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ لَا يُنَافِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ يُسْنَدُ فِعْلُ الْوَاحِدِ إِلَى الِاثْنَيْنِ بَلْ إِلَى جَمَاعَةٍ وَهُوَ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ
وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ وَالذَّهَابُ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مُتَعَيِّنٌ تَبَعًا لِلْكِتَابِ وَالْحَدِيثِ وَصَوْنًا لِجَانِبِ النُّبُوَّةِ عَنِ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالَّذِي ذَكَرُوهُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَرُدُّهُ كُلَّهُ ظَاهِرُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
انْتَهَى مُخْتَصَرًا
قُلْتُ لَوْ كَانَ حَدِيثُ سَمُرَةَ الْمَذْكُورُ صَحِيحًا ثَابِتًا صَالِحًا لِلِاحْتِجَاجِ لَكَانَ كَلَامُ صَاحِبِ فَتْحِ الْبَيَانِ هَذَا حَسَنًا جَيِّدًا وَلَكِنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ حَدِيثٌ مَعْلُولٌ لَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ فَلَا بُدَّ لِدَفْعِ الْإِشْكَالِ الْمَذْكُورِ أَنْ يُخْتَارَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرُوهَا فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا هُوَ الْأَصَحُّ وَالْأَقْوَى وَأَصَحُّهَا عِنْدِي هو ما اختاره الرازي وبن جرير وبن كَثِيرٍ
قَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْمَرْوِيِّ عَنِ بن عَبَّاسٍ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ نَفْسُ آدَمَ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا أَيْ حَوَّاءَ خَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ ضِلَعِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ غَيْرِ أَذًى فَلَمَّا تَغَشَّاهَا آدَمُ حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أَيْ ثَقُلَ الْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا أَتَاهَا إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ قَالَ مَا هَذَا يَا حَوَّاءُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ كَلْبًا أَوْ بَهِيمَةً وَمَا يُدْرِيكِ مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ أَمِنْ دُبُرِكِ فَيَقْتُلُكِ أَوْ يَنْشَقُّ بَطْنُكِ فَخَافَتْ حَوَّاءُ وَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمْ يَزَالَا فِي هَمٍّ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ أَتَاهَا وَقَالَ إِنْ سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَهُ صَالِحًا سَوِيًّا مِثْلَكِ وَيُسَهِّلَ خُرُوجَهُ مِنْ بَطْنِكِ تُسَمِّيهِ عَبْدَ الْحَارِثِ وَكَانَ اسْمُ إِبْلِيسَ فِي الْمَلَائِكَةِ الْحَارِثَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا(8/367)
له شركاء فيما آتاهما أَيْ لَمَّا آتَاهُمَا اللَّهُ وَلَدًا سَوِيًّا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شَرِيكًا أَيْ جَعَلَ آدَمُ وَحَوَّاءُ لَهُ شَرِيكًا وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَارِثُ هَذَا تَمَامُ الْقِصَّةِ
واعلم أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ فَاسِدٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فَتَعَالَى الله عما يشركون
وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أَتَوْا بِهَذَا الشِّرْكِ جَمَاعَةٌ
الثَّانِي أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ أيشركون من لا يخلق شيئا وهم يخلقون وَهَذَا يَدُلُّ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ جَعَلَ الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَا جَرَى لِإِبْلِيسَ اللَّعِينِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرٌ
الثَّالِثُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ إِبْلِيسَ لَقَالَ أَيُشْرِكُونَ مَنْ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَلَمْ يَقُلْ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا لِأَنَّ الْعَاقِلَ إِنَّمَا يُذْكَرُ بِصِيغَةِ مَنْ لَا بِصِيغَةِ مَا
الرَّابِعُ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مَعْرِفَةً بِإِبْلِيسَ وَكَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَسْمَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كلها فَكَانَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ اسْمَ إِبْلِيسَ هُوَ الْحَارِثُ فَمَعَ الْعَدَاوَةِ الشَّدِيدَةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ وَمَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ اسْمَهُ هُوَ الْحَارِثُ كَيْفَ سَمَّى وَلَدَ نَفْسِهِ بِعَبْدِ الْحَارِثِ وَكَيْفَ ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْأَسْمَاءُ حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَجِدْ سِوَى هَذَا الِاسْمِ
الْخَامِسُ أَنَّ الْوَاحِدَ لَوْ حَصَلَ لَهُ وَلَدٌ يَرْجُو مِنْهُ الْخَيْرَ وَالصَّلَاحَ فَجَاءَهُ إِنْسَانٌ وَدَعَاهُ أَنْ يُسَمِّيَهُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَزَجَرَهُ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ فَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ نُبُوَّتِهِ وَعِلْمِهِ الْكَثِيرِ الَّذِي حَصَلَ مِنْ قَوْلِهِ وعلم آدم الأسماء كلها وَتَجَارِبِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ بِسَبَبِ الزَّلَّةِ التي وقع فِيهَا لِأَجْلِ وَسْوَسَةِ إِبْلِيسَ كَيْفَ لَمْ يَتَنَبَّهْ لِهَذَا الْقَدَرِ وَكَيْفَ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا
السَّادِسُ أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَمَّاهُ بِعَبْدِ الْحَارِثِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ جَعَلَ هَذَا اللَّفْظَ اسْمَ عَلَمٍ لَهُ أَوْ جَعَلَهُ صِفَةً لَهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ أَخْبَرَ بِهَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ عَبْدُ الْحَارِثِ وَمَخْلُوقٌ مِنْ قِبَلِهِ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ هَذَا شِرْكًا بِاَللَّهِ لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْأَعْلَامِ وَالْأَلْقَابِ لَا تُفِيدُ فِي الْمُسَمَّيَاتِ فَائِدَةً فَلَمْ يَلْزَمْ مِنَ التَّسْمِيَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ حُصُولُ الْإِشْرَاكِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ كَانَ هَذَا قَوْلًا بِأَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اعْتَقَدَ أَنَّ لِلَّهِ شَرِيكًا فِي الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْجَزْمَ بِتَكْفِيرِ آدَمَ وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ
فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ فَاسِدٌ
وَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الْمُسْلِمِ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ إليه(8/368)
إذا عرفت هذا فتقول فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ وُجُوهٌ صَحِيحَةٌ سَلِيمَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ فَقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَلَى تَمْثِيلِ ضَرْبِ الْمَثَلِ وَبَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ صُورَةُ حَالَّةِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي جَهْلِهِمْ وَقَوْلِهِمْ بِالشِّرْكِ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجَهَا إِنْسَانًا يُسَاوِيه فِي الْإِنْسَانِيَّةِ فَلَمَّا تَغَشَّى الزَّوْجُ الزَّوْجَةَ وَظَهَرَ الْحَمْلُ دَعَا الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتنَا وَلَدًا صَالِحًا سَوِيًّا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لِآلَائِكَ وَنَعْمَائِكَ فَلَمَّا آتَاهُمَا اللَّهُ وَلَدًا صَالِحًا سَوِيًّا جَعَلَ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا لِأَنَّهُمْ تَارَةً يَنْسُبُونَ ذَلِكَ لِلطَّبَائِعِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الطَّبَائِعِيِّينَ وَتَارَةً إِلَى الْكَوَاكِبِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْمُنَجِّمِينَ وَتَارَةً إِلَى الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ كَمَا هُوَ قَوْلُ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ ثُمَّ قَالَ تعالى فتعالى الله عما يشركون أَيْ تَنَزَّهَ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ الشِّرْكِ وَهَذَا جَوَابٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ
ثم ذَكَرَ بَاقِيَ التَّأْوِيلَاتِ مَنْ شَاءَ الْوُقُوفَ عَلَيْهَا فَلْيُرَاجِعْ تفسيره
وقال الحافظ بن كثير في تفسيره قال بن جرير حدثنا بن وَكِيعٍ حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ عَمْرٍو عَنِ الْحَسَنِ جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا قَالَ كَانَ هَذَا فِي بَعْضِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَلَمْ يَكُنْ بِآدَمَ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ قَالَ الْحَسَنُ عَنَى بِهَا ذُرِّيَّةَ آدَمَ وَمَنْ أَشْرَكَ مِنْهُمْ بَعْدَهُ يَعْنِي جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا وَحَدَّثَنَا بِشْرٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى رَزَقَهُمُ اللَّهُ أَوْلَادًا فَهَوَّدُوا وَنَصَّرُوا وَهَذِهِ أَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ عَنِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ فَسَّرَ الْآيَةَ بِذَلِكَ وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ التَّفَاسِيرِ وَأَوْلَى مَا حُمِلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَلَوْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ يَعْنِي حَدِيثَ سَمُرَةَ الْمَذْكُورَ عِنْدَهُ مَحْفُوظًا عَنْ رَسُولِ الله لَمَا عَدَلَ عَنْهُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ لَا سِيَّمَا مَعَ تَقْوَاهُ لِلَّهِ وَوَرَعِهِ فَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الصَّحَابِيِّ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَلَقَّاهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ مِثْلُ كَعْبٍ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَغَيْرِهِمَا إلا إنما بَرِئْنَا مِنْ عُهْدَةِ الْمَرْفُوعِ انْتَهَى
أما أَثَرُ بن عَبَّاسٍ الَّذِي ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ فَهُوَ مَرْوِيٌّ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يكون مأخوذا من الإسرائيليات قال الحافظ بن كَثِيرٍ بَعْدَ ذِكْرِهِ مِنَ الطُّرُقِ الْمُتَعَدِّدَةِ بِالْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلِفَةِ مَا لَفْظُهُ وَقَدْ تَلَقَّى هَذَا الْأَثَرَ عن بن عَبَّاسٍ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ
وَمِنَ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْخَلَفِ وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ جَمَاعَاتٌ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً وَكَأَنَّهُ أَصْلُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فإن بن عَبَّاسٍ رَوَاهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ كَمَا رواه بن أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو(8/369)
الجماهر حدثنا سعيد يعني بن بَشِيرٍ عَنْ عُقْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ عن بن عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ لَمَّا حملت حواء أتاها الشيطان فقال لها أتطيعيني وَيَسْلَمُ لَكِ وَلَدُكِ سَمِّيهِ عَبْدَ الْحَارِثِ فَلَمْ تَفْعَلْ فَوَلَدَتْ فَمَاتَ ثُمَّ حَمَلَتْ فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ حَمَلَتِ الثَّالِثَةَ فَجَاءَهَا فَقَالَ إِنْ تُطِيعِينِي يَسْلَمْ وَإِلَّا فَإِنَّهُ يَكُونُ بَهِيمَةً فَهَيَّبَهُمَا فَأَطَاعَا
وَهَذِهِ الْآثَارُ يَظْهَرُ عَلَيْهَا أَنَّهَا مِنْ آثَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَدْ صح الحديث عن رسول الله أَنَّهُ قَالَ إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ ثُمَّ أَخْبَارُهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ فَمِنْهَا مَا عَلِمْنَا صِحَّتَهُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ وَمِنْهَا مَا عَلِمْنَا كَذِبَهُ بِمَا دَلَّ عَلَى خِلَافِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَيْضًا وَمِنْهَا مَا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ فَهُوَ الْمَأْذُونُ فِي رِوَايَتِهِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَهُوَ الَّذِي لَا يُصَدَّقُ وَلَا يُكَذَّبُ لِقَوْلِهِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ
وَهَذَا الْأَثَرُ هُوَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ فِيهِ نَظَرٌ فَأَمَّا مَنْ حَدَّثَ بِهِ مِنْ صَحَابِيٍّ أَوْ تَابِعِيٍّ فَإِنَّهُ يَرَاهُ مِنَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ
وَأَمَّا نَحْنُ فَعَلَى مَذْهَبِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا وَأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَلِهَذَا قال الله (فتعالى الله عما يشركون) ثُمَّ قَالَ
فَذِكْرُهُ آدَمُ وَحَوَّاءُ أَوَّلًا كَالتَّوْطِئَةِ لِمَا بَعْدَهُمَا مِنَ الْوَالِدِيْنِ وَهُوَ كَالِاسْتِطْرَادِ مِنْ ذِكْرِ الشَّخْصِ إِلَى الْجِنْسِ
انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ بن كثير
باب وَمِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ هِيَ مَدَنِيَّةٌ خَمْسٌ أَوْ سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ آيَةً
قَوْلُهُ (إِنَّ اللَّهَ قَدْ شَفَى صَدْرِي مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَوْ نَحْو هَذَا) أَوْ لِلشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي يَعْنِي قَالَ هَذَا اللَّفْظَ أَوْ قَالَ لَفْظًا آخَرَ نَحْوَ (هَبْ لِي) أَيْ أَعْطِنِي (هَذَا لَيْسَ لِي وَلَا لَكَ) لِأَنَّهُ مِنْ أَمْوَالِ الْغَنِيمَةِ الَّتِي لَمْ تُقْسَمْ (عَسَى أَنْ يُعْطَى) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (هَذَا) أَيِ السَّيْفُ وَهُوَ نَائِبُ الْفَاعِلِ(8/370)
لَيُعْطَى (مَنْ لَا يُبْلِي بَلَائِي) مَفْعُولٌ ثَانٍ لِيُعْطَى
قَالَ فِي النِّهَايَةِ أَيْ لَا يَعْمَلُ مِثْلَ عَمَلِي فِي الْحَرْبِ كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَفْعَلُ فِعْلًا أُخْتَبَرَ فِيهِ وَيَظْهَرَ بِهِ خَيْرِي وَشَرِّي انتهى
وفي رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ مَنْ لَمْ يُبْلِ بَلَائِي
قَالَ السِّنْدِيُّ أَيْ لَمْ يَعْمَلْ مِثْلَ عَمَلِي فِي الْحَرْبِ كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ فِي الْحَرْبِ يُخْتَبَرُ الرَّجُلُ فَيَظْهَرُ حَالُهُ وَقَدِ اخْتُبِرْتَ أَنَا فَظَهَرَ مِنِّي مَا ظَهَرَ فَأَنَا أَحَقُّ بِهَذَا السَّيْفِ مِنَ الَّذِي لَمْ يُخْتَبَرْ مِثْلَ اخْتِبَارِي انتهى (فجاءني الرسول) أي رسول الله (وَلَيْسَ لِي) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ سَأَلْتنِي السَّيْفَ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِي (وَإِنَّهُ قَدْ صَارَ إِلَيَّ) أَيِ الْآنَ (فَنَزَلَتْ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال)
قال البخاري في صحيحه قال بن عَبَّاسٍ الْأَنْفَالُ الْمَغَانِمُ
وَرَوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ سُورَةُ الْأَنْفَالِ قَالَ نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ (الْآيَةَ) قَالَ فِي الْجَلَالَيْنِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ لَمَّا اخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ فَقَالَ الشُّبَّانُ هِيَ لَنَا لِأَنَّا بَاشَرْنَا الْقِتَالَ وَقَالَ الشُّيُوخُ كُنَّا رِدْءًا لَكُمْ تَحْتَ الرَّايَاتِ وَلَوِ انْكَشَفَتْ لَفِئْتُمْ إِلَيْنَا فَلَا تَسْتَأْثِرُوا بِهَا
نَزَلَ يَسْأَلُونَكَ يَا مُحَمَّدُ عَنِ الْأَنْفَالِ الْغَنَائِمِ لِمَنْ هِيَ قُلْ لَهُمْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ يَجْعَلَانِهَا حَيْثُ شَاءَا
فَقَسَمَهَا بَيْنَهُمْ بِالسَّوَاءِ
رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ فَاتَّقُوا الله وأصلحوا ذات بينكم أَيْ حَقِيقَةَ مَا بَيْنِكُمْ بِالْمَوَدَّةِ وَتَرْكِ النِّزَاعِ وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين حَقًّا
وَقَالَ فِي الْمَدَارِكِ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ أَيْ أَحْوَالِ بَيْنِكُمْ يَعْنِي مَا بَيْنَكُمْ مِنَ الْأَحْوَالِ حَتَّى تَكُونَ أَحْوَالَ أُلْفَةٍ وَمَحَبَّةٍ وَاتِّفَاقٍ
وَقَالَ الزَّجَّاجُ مَعْنَى ذَاتَ بَيْنِكُمْ حَقِيقَةَ وَصْلِكُمْ وَالْبَيْنُ الْوَصْلُ أَيْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مُجْتَمِعِينَ عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ
قلتَ مَا ذُكِرَ فِي الْجَلَالَيْنِ مِنْ سَبَبِ نُزُولِ هذه الاية فهو مروي عن بن عباس عند أبي داود والنسائي وبن جرير وبن مردويه وبن حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ وَنَحْوَهُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ وَسَيَجِيءُ لَفْظُهُ قَالَ الْخَازِنُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَسَالُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ
اسْتِفْتَاءٌ يَعْنِي يَسْأَلُكَ أَصْحَابُكَ يَا مُحَمَّدُ عَنْ حُكْمِ الْأَنْفَالِ وَعِلْمِهَا وَهُوَ سُؤَالُ اسْتِفْتَاءٍ لَا سُؤَالَ طَلَبٍ
قَالَ الضَّحَّاكُ وَعِكْرِمَةُ هُوَ سُؤَالُ طَلَبٍ وَقَوْلُهُ عَنِ الْأَنْفَالِ أَيْ مِنَ الْأَنْفَالِ
وعن بِمَعْنَى مِنْ أَوْ قِيلَ عَنْ صِلَةٌ أَيْ يَسْأَلُونَكَ الْأَنْفَالَ انْتَهَى
قُلْتُ حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ سُؤَالُ طَلَبٍ وَحَدِيثُ بن عَبَّاسٍ وَحَدِيثُ عُبَادَةَ يَقْتَضِيَانِ أَنَّهُ سُؤَالُ اسْتِفْتَاءٍ وهو الراجح عندي
وقال صاحب فيح الْبَيَانِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ(8/371)
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى أَنَّ الْأَنْفَالَ كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا شَيْءٌ حَتَّى نَزَلَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خمسه فَهِيَ عَلَى هَذَا مَنْسُوخَةٌ وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وعكرمة والسدي
وقال بن زَيْدٍ مُحْكَمَةٌ مُجْمَلَةٌ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ مَصَارِفَهَا فِي آيَةِ الْخُمُسِ وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُنْفِلَ مَنْ شَاءَ مِنَ الْجَيْشِ مَا شَاءَ قَبْلَ التَّخْمِيسِ انْتَهَى
قلتَ وَالظَّاهِرُ الرَّاجِحُ عِنْدِي أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ بَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ) أَيْ فِي شَأْنِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ (عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ قَالَ خَرَجْتُ مع رسول الله فَشَهِدْتُ مَعَهُ بَدْرًا فَالْتَقَى النَّاسُ فَهَزَمَ اللَّهُ الْعَدُوَّ فَانْطَلَقَتْ طَائِفَةٌ فِي إِثْرِهِمْ يَهْزِمُونَ وَيَقْتُلُونَ وَأَكَبَّتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْغَنَائِمِ يَحْوُونَهُ وَيَجْمَعُونَهُ وَأَحْدَقَتْ طائفة برسول الله لا يصيب العدو منهم غِرَّةً
حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيْلُ وَفَاءَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالَ الَّذِينَ جَمَعُوا الْغَنَائِمَ نَحْنُ حَوَيْنَاهَا وَجَمَعْنَاهَا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا نَصِيبٌ وَقَالَ الَّذِينَ خَرَجُوا فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ لَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِهَا مِنَّا نَحْنُ نَفَيْنَا عَنْهَا الْعَدُوَّ وهزمناهم
وقال الذين أحدقوا برسول الله لَسْتُمْ بِأَحَقَّ مِنَّا نَحْنُ أَحْدَقْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ وَخِفْنَا أَنْ يُصِيبَ الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً فَاشْتَغَلْنَا بِهِ فَنَزَلَتْ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ فقسمها رسول الله عَلَى فَوَاقٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَفِي لَفْظٍ مُخْتَصَرٍ فِينَا أَصْحَابُ بَدْرٍ نَزَلَتْ حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفْلِ وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقُنَا فَنَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أيدينا فجعله إلى رسول الله فَقَسَمَهُ فِينَا عَلَى بَوَاءٍ يَقُولُ عَلَى السَّوَاءِ
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي النَّيْلِ حَدِيثُ عُبَادَةَ قَالَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ رِجَالُ أَحْمَدَ ثِقَاتٌ وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الطَّبَرَانِيُّ وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ الْحَاكِمُ عَنْهُ
قَوْلُهُ (أَبُو زُمَيْلٍ) بِضَمِّ الزَّايِ مُصَغَّرًا اسْمُهُ سِمَاكُ بْنُ الْوَلِيدِ الْحَنَفِيُّ (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسِ) بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ بْنِ عبد مناف بن عم رسول الله وُلِدَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ وَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَهْمِ فِي الْقُرْآنِ فَكَانَ يُسَمَّى الْبَحْرَ وَالْحَبْرَ لِسَعَةِ(8/372)
علمه وقال عمر لو أدرك بن عَبَّاسٍ أَسْنَانَنَا مَا عَثَرَهُ مِنَّا أَحَدٌ مَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ بِالطَّائِفِ وَهُوَ أَحَدُ الْمُكْثِرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَأَحَدُ الْعَبَادِلَةِ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ
قوله (نظر نبي الله إِلَى الْمُشْرِكِينَ) وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ لَمَّا كَانَ يوم بدر نظر رسول الله إِلَى الْمُشْرِكِينَ
قَالَ النَّوَوِيُّ بَدْرٌ هُوَ مَوْضِعُ الْغَزْوَةِ الْعُظْمَى الْمَشْهُورَةِ وَهُوَ مَاءٌ مَعْرُوفٌ وَقَرْيَةٌ عَامِرَةٌ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاحِلَ مِنَ الْمَدِينَةِ بَيْنَهَا وبين مكة
قال بن قتيبة بَدْرٌ بِئْرٌ كَانَتْ لِرَجُلِ يُسَمَّى بَدْرًا فَسُمِّيَتْ بِاسْمِهِ
قال أَبُو الْيَقِظَانِ كَانَتْ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ وَكَانَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ يَوْمَ الْجُمُعَة لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ (ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ) أَيْ رَفَعَهُمَا (وَجَعَلَ يَهْتِفُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَ الْهَاءِ وَمَعْنَاهُ يَصِيحُ وَيَسْتَغِيثُ بِاَللَّهِ بِالدُّعَاءِ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الدُّعَاءِ وَرَفْعِ الْيَدَيْنِ فِيهِ وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِرَفْعِ الصَّوْتِ فِي الدُّعَاءِ (اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتنِي) مِنَ الْإِنْجَازِ أَيْ أَحْضِرْ لِي مَا وَعَدْتنِي يُقَالُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ إِذَا أَحْضَرَهُ (اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تُهْلِكَ هَذِهِ الْعِصَابَةَ)
قال النَّوَوِيُّ ضَبَطُوا تَهْلَكْ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّهَا فَعَلَى الْأَوَّلِ تُرْفَعُ الْعِصَابَةُ عَلَى أَنَّهَا فَاعِلٌ وَعَلَى الثَّانِي تُنْصَبُ وَتَكُونُ مَفْعُولَهُ وَالْعِصَابَةُ الْجَمَاعَةُ انْتَهَى
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ فَلَوْ هَلَكَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ حِينَئِذٍ لَمْ يُبْعَثْ أَحَدٌ مِمَّنْ يَدْعُو إِلَى الْإِيمَانِ وَلَاسْتَمَرَّ الْمُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَ غير الله فالمعنى لايعبد فِي الْأَرْضِ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ (كَفَاكَ)
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ كَذَاكَ بِالذَّالِ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ حَسْبُكَ وَكُلُّهُ بِمَعْنَى كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْجَزَرِيُّ وَالنَّوَوِيُّ (مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ) الْمُنَاشَدَةُ السُّؤَالُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ النَّشِيدِ وَهُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ وَضَبَطُوا مُنَاشَدَتَكَ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَهُوَ الْأَشْهَرُ
قَالَ الْقَاضِي مَنْ رَفَعَهُ حَمَلَهُ فَاعِلًا لِكَفَاكَ وَمَنْ نَصَبَهُ فَعَلَى الْمَفْعُولِ لِمَا فِي حَسْبُكَ وَكَفَاك وَكَذَاكَ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ من الكف(8/373)
قال الْعُلَمَاءُ هَذِهِ الْمُنَاشَدَةُ إِنَّمَا فَعَلَهَا النَّبِيُّ لِيَرَاهُ أَصْحَابُهُ بِتِلْكَ الْحَالِ فَتَقْوَى قُلُوبُهُمْ بِدُعَائِهِ وَتَضَرُّعِهِ مَعَ أَنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ
وَقَدْ كَانَ وَعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إِمَّا الْعِيرُ وَإِمَّا الْجَيْشُ وَكَانَتِ الْعِيرُ قَدْ ذَهَبَتْ وَفَاتَتْ فَكَانَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ حُصُولِ الْأُخْرَى وَلَكِنْ سَأَلَ تَعْجِيلَ ذَلِكَ وَتَنْجِيزَهُ مِنْ غَيْرِ أَذًى يَلْحَقُ الْمُسْلِمِينَ (فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ)
قال الْخَطَّابِيُّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَهَّمَ أَحَدٌ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ أَوْثَقَ بِرَبِّهِ مِنَ النبي في تلك الحال
بل الحامل للنبي عَلَى ذَلِكَ شَفَقَتُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ وَتَقْوِيَةُ قُلُوبِهِمْ لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ فَبَالَغَ فِي التَّوَجُّهِ وَالدُّعَاءِ وَالِابْتِهَالِ لِتَسْكُنَ نُفُوسُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ وَسِيلَتَهُ مُسْتَجَابَةٌ فَلَمَّا قَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا قَالَ كَفَّ عَنْ ذَلِكَ وَعَلِمَ أَنَّهُ اسْتُجِيبَ لَهُ لَمَّا وَجَدَ أَبُو بَكْرٍ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ فَلِهَذَا عَقَّبَ بِقَوْلِهِ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) أَيْ تُطَالِبُونَ مِنْهُ الْغَوْثَ بِالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ (فَاسْتَجَابَ لَكُمْ) أَيْ فَأَجَابَ دُعَاءَكُمْ (أَنِّي مُمِدُّكُمْ) أَيْ بِأَنِّي مُعِينُكُمْ (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ) أي متتابعين يردف بعضهم بعضا(8/374)
وَكَانَ فِيهَا ثَلَاثُونَ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ وَقِيلَ أَرْبَعُونَ وَقِيلَ سِتُّونَ (لَيْسَ دُونَهَا شَيْءٌ) أَيْ لَيْسَ دُونَ الْعِيرِ شَيْءٌ يُزَاحِمُكَ (فَنَادَاهُ الْعَبَّاسُ) أي بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ (وَهُوَ فِي وَثَاقِهِ) وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَهُوَ أَسِيرٌ فِي وَثَاقِهِ وَالْوَثَاقُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا مَا يُشَدُّ بِهِ مِنْ قَيْدٍ وَحَبْلٍ وَنَحْوِهِمَا (لَا يَصْلُحُ) أَيْ لَا يَنْبَغِي لك (لِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَكَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) الْمُرَادُ بِالطَّائِفَتَيْنِ الْعِيرُ وَالنَّفِيرُ فَكَانَ فِي الْعِيرِ أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ كَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلَ وَمَا مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ
وَكَانَ فِي النَّفِيرِ أَبُو جَهْلٍ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَغَيْرُهُمَا من رؤساء قريش (قال) أي النبي (صَدَقْتَ) أَيْ فِيمَا قُلْتَ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ
قوله (أخبرنا بن نُمَيْرٍ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ (عَنْ عَبَّادِ بْنِ يُوسُفَ) قَالَ فِي التَّقْرِيبِ عباد بن يوسف ويقال بن سَعِيدٍ كُوفِيٌّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ مَجْهُولٌ مِنَ السَّادِسَةِ وَيُقَالُ اسْمُهُ عُبَادَةُ (أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ أَمَانَيْنِ) أَيْ فِي الْقُرْآنِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ إِلَخْ قَبْلَهُ وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كان هذا أي الذي يقرأه مُحَمَّدٌ هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ أَيِ الْمُنَزَّلَ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أو ائتنا بعذاب أليم أَيْ مُؤْلِمٍ عَلَى إِنْكَارِهِ قَالَهُ النَّضْرُ وَغَيْرُهُ اسْتِهْزَاءً وَإِيهَامًا أَنَّهُ عَلَى بَصِيرَةٍ وَجَزْمٍ بِبُطْلَانِهِ (وَأَنْتَ فِيهِمْ) أَيْ مُقِيمٌ بِمَكَّةَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ حَتَّى يُخْرِجُوكَ لِأَنَّ الْعَذَابَ إِذَا نَزَلَ عَمَّ وَلَمْ تُعَذَّبْ أُمَّةٌ إِلَّا بَعْدَ خُرُوجِ نَبِيِّهَا وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْهَا
وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يستغفرون حَيْثُ يَقُولُونَ فِي طَوَافِهِمْ غُفْرَانَكَ غُفْرَانَك وَقِيلَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُسْتَضْعَفُونَ فِيهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أليما وَبَعْدَهُ وَمَا لَهُمْ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ أَيْ بِالسَّيْفِ بَعْدَ خُرُوجِكَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ هِيَ نَاسِخَةٌ لِمَا قَبْلَهَا وَقَدْ عَذَّبَهُمْ ببدر وغيرهم وهم يصدون أي يمنعون النبي وَالْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ يَطُوفُوا بِهِ وما كانوا أولياءه كما زعموا إن أولياؤهم إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون أن لا ولاية لهم عليه (فإذا مَضَيْتُ) أَيْ ذَهَبْتُ (تَرَكْتُ فِيهِمْ) أَيْ بَعْدِي (الِاسْتِغْفَارَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) فَمَا دَامُوا يَسْتَغْفِرُونَ لم يعذبوا وروى بن أبي حاتم عن بن عَبَّاسٍ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَمَانَيْنِ
لَا يَزَالُونَ مَعْصُومِينَ مُجَارِينَ مِنْ طَوَارِقِ الْعَذَابِ مَا دَامَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَأَمَانٌ قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَأَمَانٌ بَقِيَ فِيكُمْ قوله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ(8/375)
فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
وروى أَحْمَدُ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ النبي أَنَّهُ قَالَ الْعَبْدُ آمِنٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَا اسْتَغْفَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
قَوْلُهُ (وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ) قَالَ فِي التَّقْرِيبِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرِ بْنِ جَابِرٍ الْبَجَلِيِّ الْكُوفِيِّ ضَعِيفٌ مِنَ السَّابِعَةِ
قَوْلُهُ (عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) هُوَ الليثي
قوله وأعدوا لهم ما استطعتم إلخ ما موصولة والعائد محذوف ومن قُوَّةٍ بَيَانٌ لَهُ فَالْمُرَادُ هُنَا نَفْسُ الْقُوَّةِ
وَفِي هَذَا الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هذه العدة لا تستتب بِدُونِ الْمُعَالَجَةِ وَالْإِدْمَانِ الطَّوِيلِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ عِدَّةِ الْحَرْبِ وَأَدَاتِهَا أَحْوَجَ إِلَى الْمُعَالَجَةِ وَالْإِدْمَانِ عَلَيْهَا مِثْلَ الْقَوْسِ وَالرَّمْيِ بِهَا وَلِذَلِكَ كَرَّرَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ تَفْسِيرَ الْقُوَّةِ بِالرَّمْيِ بِقَوْلِهِ (أَلَا) لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ) أَيْ هُوَ الْعُمْدَةُ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) كَرَّرَهَا ثَلَاثًا لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ أَوْ إِشَارَةً إِلَى الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ مِنَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَبَيْنَهُمَا فَإِنَّهَا نَافِيَةٌ فِي جَمِيعِهَا (وَسَتُكْفَوْنَ الْمُؤْنَةَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ سَيَكْفِيكُمُ اللَّهُ مُؤْنَةَ الْقِتَالِ بِمَا فَتَحَ عَلَيْكُمْ وَفِي رِوَايَةِ مسلم يكفيكم الله
قال القارىء أَيْ شَرَّهُمْ بِقُوَّتِهِ وَقَهْرِهِ لَكِنَّ ثَوَابَكُمْ وَأَجْرَكُمْ مُتَرَتِّبٌ عَلَى سَعْيِكُمْ وَتَعَبِكُمْ (فَلَا يَعْجِزَنَّ) بِكَسْرِ الْجِيمِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَبِفَتْحِهَا عَلَى لُغَةٍ وَمَعْنَاهُ النَّدْبُ إِلَى الرَّمْيِ قال النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِيهِ وَفِي الْأَحَادِيثِ بُعْدُ فَضِيلَةِ الرَّمْيِ وَالْمُنَاضَلَةِ وَالِاعْتِنَاءِ بِذَلِكَ بِنِيَّةِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَذَلِكَ الْمُشَاحَفَةُ وَسَائِرُ أَنْوَاعِ اسْتِعْمَالِ السلاح
وكذا(8/376)
الْمُسَابَقَةُ بِالْخَيْلِ وَغَيْرِهَا وَالْمُرَادُ بِهَذَا كُلِّهِ التَّمَرُّنُ عَلَى الْقِتَالِ وَالتَّدَرُّبُ وَالتَّحَذُّقُ فِيهِ وَرِيَاضَةُ الْأَعْضَاءِ بِذَلِكَ (أَنْ يَلْهُوَ) أَيْ يَشْتَغِلَ يَلْعَبَ (بِأَسْهُمِهِ) جَمْعُ السَّهْمِ أَيْ مَعَ قِسِيِّهَا بِنِيَّةِ الْجِهَادِ وَحَدِيثُ عَقَبَةَ هَذَا أَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ مِنْ وجه آخر
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرِو) بْنِ الْمُهَلَّبِ
بن عَمْرٍو الْأَزْدِيُّ الْمَعْنِيُّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ النُّونِ أَبُو عَمْرٍو الْبَغْدَادِيُّ وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْكَرْمَانِيِّ ثِقَةُ مِنْ صِغَارِ التَّاسِعَةِ (عَنْ زَائِدَةَ) هو بن قدامة
قوله (لأحد سود الرؤوس) بإضافة أحد إلى سود والمراد بسود الرؤوس بنو آدم لأن رؤوسهم سُودٌ (قَالَ سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ فَمَنْ يَقُولُ هَذَا إِلَّا أَبُو هُرَيْرَةَ الْآنَ) لَمْ يَظْهَرْ لِي أَنَّ الْأَعْمَشَ مَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ فَمَنْ يَقُولُ هَذَا إِلَخْ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ مُرَادَهُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَقُولُ أَحَدٌ الْآنَ في هذا الحديث لفظ سود الرؤوس إِلَّا أَبُو هُرَيْرَةَ يَعْنِي لَمْ يَرِدْ هَذَا اللَّفْظُ إِلَّا فِي حَدِيثِهِ وَلَكِنْ يَخْدِشُهُ لَفْظُ الْآنَ فَلْيُتَأَمَّلْ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ بإحلال الغنائم والأسرى لكم لمسكم أي لنا لكم وَأَصَابَكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ مِنَ الْفِدَاءِ
وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْحَدِيثَ وَفِي آخِرِهِ ثُمَّ أَحَلَّ اللَّهُ لَنَا الْغَنَائِمَ ثُمَّ رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَأَحَلَّهَا لَنَا
قال الحافظ في الفتح فيه اخْتِصَاصُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِحِلِّ الْغَنِيمَةِ وَكَانَ ابْتِدَاءُ ذَلِكَ مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَفِيهَا نَزَلَ قَوْلُهُ تعالى فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا فَأَحَلَّ اللَّهُ لَهُمُ الْغَنِيمَةَ
وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ في الصحيح من حديث بن عَبَّاسٍ وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي أَوَائِلِ فَرْضِ الْخُمُسِ أَنَّ أَوَّلَ غَنِيمَةٍ خُمِّسَتْ غَنِيمَةُ السَّرِيَّةِ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَذَلِكَ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِمَا ذَكَرَ بن سعد أنه أَخَّرَ غَنِيمَةَ تِلْكَ السَّرِيَّةِ حَتَّى رَجَعَ مِنْ بَدْرٍ فَقَسَمَهَا مَعَ غَنَائِمِ(8/377)
بَدْرٍ
وَفِيهِ أَنَّ مَنْ مَضَى كَانُوا يَغْزُونَ وَيَأْخُذُونَ أَمْوَالَ أَعْدَائِهِمْ وَأَسْلَابِهِمْ لَكِنْ لَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا بَلْ يَجْمَعُونَهَا وَعَلَامَةُ قَبُولِ غَزْوِهِمْ ذَلِكَ أَنْ تَنْزِلَ النَّارُ مِنَ السَّمَاءِ فَتَأْكُلَهَا وَعَلَامَةُ عَدَمِ قَبُولِهِ أَنْ لَا تَنْزِلَ
وَمِنْ أَسْبَابِ عَدَمِ الْقَبُولِ أَنْ يَقَعَ فِيهِمُ الْغُلُولُ وَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ وَرَحِمَهَا لِشَرَفِ نَبِيِّهَا عِنْدَهُ فَأَحَلَّ لَهُمُ الْغَنِيمَةَ وَسَتَرَ عَلَيْهِمُ الْغُلُولَ فَطَوَى عَنْهُمْ فَضِيحَةَ أَمْرِ عَدَمِ الْقَبُولِ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى نِعَمِهِ تَتْرَى وَدَخَلَ فِي عُمُومِ أَكْلِ النَّارِ الْغَنِيمَةَ السَّبْيُ وَفِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ إِهْلَاكُ الذُّرِّيَّةِ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِنَ النِّسَاءِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ وَيَلْزَمُ اسْتِثْنَاؤُهُمْ مِنْ تَحْرِيمِ الْغَنَائِمِ عَلَيْهِمْ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُمْ كَانَتْ لَهُمْ عَبِيدٌ وَإِمَاءٌ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ لَهُمُ السَّبْيُ لَمَا كَانَ لَهُمْ أَرِقَّاءُ وَيُشْكِلُ عَلَى الْحَظْرِ أَنَّهُ كَانَ السَّارِقُ يُسْتَرَقُّ كَمَا فِي قِصَّةِ يُوسُفَ وَلَمْ أَرَ مَنْ صرح بذلك انتهى
قوله (عن عمرو بن مرة) هو بن عبد الله بن طارق الجعلي
قَوْلُهُ (فَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ قِصَّةً) قَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا فِي بَابِ الْمَشُورَةِ مِنْ أَبْوَابِ الْجِهَادِ (لَا يَنْفَلِتَنَّ أَحَدٌ) أَيْ لَا يَتَخَلَّصَنَّ (مِنْهُمْ) أَيْ مِنَ الْأُسَارَى (وَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِقَوْلِ عُمَرَ) أَيْ نَزَلَ الْقُرْآنُ مُوَافِقًا لِقَوْلِ عُمَرَ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى أَيْ مَا كَانَ يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْنَاهُ لَمْ يَكُنْ لِنَبِيٍّ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ لَكَ يَا مُحَمَّدُ
وَالْمَعْنَى مَا كَانَ لنبي أن يحبس كافرا قدر عليه وسار فِي يَدِهِ أَسِيرًا لِلْفِدَاءِ وَالْمَنِّ
وَالْأَسْرَى جَمْعُ أَسِيرٍ وَأُسَارَى جَمْعُ الْجَمْعِ حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ الْإِثْخَانُ فِي كُلِّ شَيْءٍ عِبَارَةٌ عَنْ قُوَّتِهِ وَشِدَّتِهِ يُقَالُ أَثْخَنَهُ الْمَرَضُ إِذَا اشْتَدَّتْ قُوَّتُهُ عَلَيْهِ وَالْمَعْنَى حَتَّى يُبَالِغَ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَيَغْلِبَهُمْ وَيَقْهَرَهُمْ فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ فَلَهُ أن يقدم على الأسر(8/378)
فيأسر الأسارى وبقبة الْآيَةِ مَعَ تَفْسِيرِهَا هَكَذَا تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا
يَعْنِي تُرِيدُونَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا بِأَخْذِكُمُ الْفِدَاءَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَإِنَّمَا سَمَّى مَنَافِعَ الدُّنْيَا عَرَضًا لِأَنَّهُ لَا ثَبَاتَ لَهَا وَلَا دَوَامَ فَكَأَنَّهَا تَعْرِضُ ثُمَّ تَزُولُ بِخِلَافِ مَنَافِعِ الْآخِرَةِ فَإِنَّهَا دَائِمَةٌ لَا انْقِطَاعَ لَهَا واللَّهُ يُرِيدُ لكم الْآخِرَةَ أَيْ ثَوَابَهَا بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ وَقَهْرِهِمْ وَنَصْرِكُمُ الدِّينَ لِأَنَّهَا دَائِمَةٌ بِلَا زَوَالٍ وَلَا انْقِطَاعٍ واللَّهُ عَزِيزٌ لَا يُقْهَرُ وَلَا يُغْلَبُ حَكِيمٌ في تدبير مصالح عباده
قوله (هذا حديث حسن) وأخرجه أحمد وَاعْلَمْ أَنَّ حَدِيثَ عَلِيٍّ الَّذِي قَدْ مَرَّ فِي بَابِ قَتْلِ الْأَسْرَى وَالْفِدَاءِ مِنْ أَبْوَابِ السِّيَرِ ظَاهِرُهُ يُخَالِفُ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ هَذَا وَظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ الْجَمْعِ هُنَاكَ فَعَلَيْكَ أَنْ تُرَاجِعَهُ
قَوْلُهُ (هذا حديث حسن) وأخرجه أحمد
0 - (باب وَمِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ)
هِيَ مَدَنِيَّةٌ بِإِجْمَاعِهِمْ قَالَ بن الْجَوْزِيِّ سِوَى آيَتَيْنِ فِي آخِرِهَا لَقَدْ جَاءَكُمْ رسول من أنفسكم فَإِنَّهُمَا نَزَلَتَا بِمَكَّةَ وَهِيَ مِائَةٌ وَتِسْعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً وَقِيلَ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ آيَةً
قَوْلُهُ (وَسَهْلُ بْنُ يُوسُفَ) الْأَنْمَاطِيُّ الْبَصْرِيُّ ثِقَةٌ رُمِيَ بِالْقَدَرِ مِنْ كِبَارِ التَّاسِعَةِ
(حَدَّثَنِي يَزِيدُ الْفَارِسِيُّ) الْبَصْرِيُّ مَقْبُولٌ مِنَ الرَّابِعَةِ
قَوْلُهُ (مَا حَمَلَكُمْ) أَيْ مَا الْبَاعِثُ وَالسَّبَبُ لَكُمْ (أَنْ عَمَدْتُمْ) بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ عَلَى أَنْ قَصَدْتُمْ (وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي)
قَالَ فِي الْمَجْمَعِ يُقَالُ الْمَثَانِي عَلَى كُلِّ سُورَةٍ أَقَلَّ مِنَ الْمِئِينَ وَمِنْهُ عَمَدْتُمْ إِلَى الْأَنْفَالِ وَهِيَ مِنْ(8/379)
الْمَثَانِي انْتَهَى
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ الْمَثَانِي السُّورَةُ الَّتِي تَقْصُرُ عَنِ الْمِئِينَ وَتَزِيدُ عَلَى الْمُفَصَّلِ كأن المئين جعلت مبادىء والَّتِي تَلِيهَا مَثَانِيَ (وَإِلَى بَرَاءَةٌ) هِيَ سُورَةُ التَّوْبَةِ وَهِيَ أَشْهَرُ أَسْمَائِهَا وَلَهَا أَسْمَاءٌ أُخْرَى تَزِيدُ عَلَى الْعَشَرَةِ قَالَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ (وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ) أَيْ ذَوَاتِ مِائَةِ آيَةٍ
قَالَ فِي الْمَجْمَعِ أَوَّلُ الْقُرْآنِ السَّبْعُ الطُّوَلُ ثُمَّ ذَوَاتُ الْمِئِينَ أَيْ ذَوَاتُ مِائَةِ آيَةٍ ثم المثاني ثم المفصل انتهى
والمئين جَمْعُ الْمِائَةِ وَأَصْلُ الْمِائَةِ مَأْيٌ كَمَعْيٍ وَالْيَاءُ عوضا عَنِ الْوَاوِ وَإِذَا جَمَعْتَ الْمِائَةُ قُلْتَ مِئُونَ وَلَوْ قُلْتَ مِئَاتٌ جَازَ (فِي السَّبْعِ الطُّوَلِ) بِضَمٍّ فَفَتْحٍ (مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ) تَقْرِيرٌ لِلتَّأْكِيدِ وَتَوْجِيهُ السُّؤَالِ أَنَّ الْأَنْفَالَ لَيْسَ مِنَ السَّبْعِ الطَّوَلِ لِقِصَرِهَا عَنِ الْمِئِينَ لِأَنَّهَا سَبْعٌ وَسَبْعُونَ آيَةً وَلَيْسَتْ غَيْرَهَا لِعَدَمِ الْفَصْلِ بَيْنَهَا وبين براءة (كان رسول الله مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ) أَيِ الزَّمَانُ الطَّوِيلُ وَلَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَرُبَّمَا يَأْتِي عَلَيْهِ الزمان (وهو) أي النبي وَالْوَاوُ لِلْحَالِ (يُنْزَلُ عَلَيْهِ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ) يَعْنِي مِنَ الْقُرْآنِ (دَعَا بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ) أَيِ الْوَحْيَ كَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَمُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِمَا (فَإِذَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ فَيَقُولُ ضَعُوا هَذِهِ الْآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا) هَذَا زِيَادَةُ جَوَابٍ تَبَرَّعَ بِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ الْآيَاتِ تَوْقِيفِيٌّ وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ وَالنُّصُوصُ الْمُتَرَادِفَةُ
وَأَمَّا تَرْتِيبُ السُّوَرِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ كَمَا فِي الْإِتْقَانِ (وَكَانَتْ بَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ) أَيْ نُزُولًا كَمَا فِي رِوَايَةٍ أَيْ فَهِيَ مَدَنِيَّةٌ أَيْضًا وَبَيْنَهُمَا النِّسْبَةُ التَّرْتِيبِيَّةُ بِالْأَوَّلِيَّةِ وَالْآخِرِيَّةِ فَهَذَا أَحَدُ وُجُوهِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا (وَكَانَتْ قِصَّتُهَا) أَيِ الْأَنْفَالِ (شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا) أَيْ بَرَاءَةٍ وَيَجُوزُ الْعَكْسُ وَوَجْهُ كَوْنِ قِصَّتِهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا أَنَّ فِي الْأَنْفَالِ ذِكْرُ الْعُهُودِ وَفِي بَرَاءَةٍ نَبْذُهَا فَضُمَّتْ إِلَيْهَا (فَظَنَنْتَ أَنَّهَا) أَيِ التَّوْبَةَ (مِنْهَا) أَيِ الْأَنْفَالِ وَكَأَنَّ هَذَا مُسْتَنَدُ مَنْ قَالَ إِنَّهُمَا سُورَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ ما أخرجه أبو الشيخ عن دوق وأبو يعلى عن مجاهد وبن أبي حاتم عن سفيان وبن لَهِيعَةَ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ بَرَاءَةٌ مِنَ الْأَنْفَالِ وَلِهَذَا لَمْ تُكْتَبِ الْبَسْمَلَةُ بَيْنَهُمَا مَعَ اشْتِبَاهِ طرقهما ورد بتسمية النبي كُلٍّ مِنْهُمَا بِاسْمٍ مُسْتَقِلٍّ(8/380)
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ
إِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَمْ تَكُنْ فِيهَا لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لم ينزل بها فيها وعن بن عَبَّاسٍ لَمْ تُكْتَبِ الْبَسْمَلَةُ فِي بَرَاءَةٌ لِأَنَّهَا أَمَانٌ وَبَرَاءَةٌ نَزَلَتْ بِالسَّيْفِ
وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّ أَوَّلَهَا لَمَّا سَقَطَ سَقَطَتْ مَعَهُ الْبَسْمَلَةُ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا كَانَتْ تَعْدِلُ الْبَقَرَةَ لِطُولِهَا وَقِيلَ إنها ثابتة أولها في مصحف بن مَسْعُودٍ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَى ذَلِكَ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ (وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا) أَيْ لم يبين لنا رسول الله أَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الْأَنْفَالِ أَوْ لَيْسَتْ مِنْهَا (فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ) أَيْ لِمَا ذُكِرَ مِنْ عدم تبينا ووجود مَا ظَهَرَ لَنَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا (قَرَنْتَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أَيْ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا سُورَةٌ مستقلة لأن البسملة كانت تنزل عليه لِلْفَصْلِ وَلَمْ تَنْزِلْ وَلَمْ أَكْتُبْ وَوَضَعْتُهَا فِي السَّبْعِ الطُّوَلِ
قَالَ الطِّيبِيُّ دَلَّ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهُمَا نَزَلَتَا مَنْزِلَةَ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَمُلَ السَّبْعُ الطُّوَلُ بِهَا ثُمَّ قِيلَ السَّبْعُ الطُّوَلُ هِيَ الْبَقَرَةُ وَبَرَاءَةٌ وَمَا بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ لكن روى النسائي والحاكم عن بن عَبَّاسٍ أَنَّهَا الْبَقَرَةُ وَالْأَعْرَافُ وَمَا بَيْنَهُمَا
قَالَ الرَّاوِي وَذَكَرَ السَّابِعَةَ فَنَسِيتُهَا وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْفَاتِحَةُ فَإِنَّهَا مِنَ السَّبْعِ الْمَثَانِي أَوْ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَنَزَلَتْ سَبْعَتُهَا مَنْزِلَةَ الْمِئِينَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَنْفَالُ بِانْفِرَادِهَا أَوْ بِانْضِمَامِ ما بعدها إليها
وصح عن بن جبير أنها يونس وجاء مثله عن بن عَبَّاسٍ وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ الْأَنْفَالَ وَمَا بَعْدَهَا مُخْتَلَفٌ فِي كَوْنِهَا مِنَ الْمَثَانِي وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سُورَةٌ أَوْ هُمَا سُورَةٌ
(هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وبن حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ
قَوْلُهُ (عن زائدة) هو بن قدامة(8/381)
قَوْلُهُ (أَنَّهُ شَهِدَ) أَيْ حَضَرَ (وَذَكَّرَ) مِنَ التذكير (ثم قال) أي النبي لِلنَّاسِ أَيُّ يَوْمٍ أَحْرَمُ أَيْ أَعْظَمُ حُرْمَةً كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عند أحمد (فقال الناس يوم الحج الأكبر) قِيلَ هُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَقِيلَ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ أَيْ تَعَرُّضُهَا عَلَيْكُمْ حَرَامٌ أَيْ مُحَرَّمٌ لَيْسَ لِبَعْضِكُمْ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِبَعْضٍ فَيُرِيقَ دَمَهُ أَوْ يَسْلُبَ مَالَهُ أَوْ يَنَالَ مِنْ عِرْضِهِ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا يَعْنِي تَعَرُّضَ بَعْضِكُمْ دِمَاءَ بَعْضٍ وَأَمْوَالِهِ وَأَعْرَاضِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ كَحُرْمَةِ التَّعَرُّضِ لَهَا فِي هَذَا الْيَوْمِ فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَيْ مَكَّةَ أَوِ الْحَرَمِ الْمُحْتَرَمِ فِي شَهْرِكُمْ هَذَا أَيْ ذِي الْحِجَّةِ أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابِ تَحْرِيمِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ مِنْ أَبْوَابِ الْفِتَنِ أَلَا حَرْفُ التَّنْبِيهِ إِنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ أَيْ فِي الدِّينِ فَلَيْسَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَيْ لَا يَجُوزُ وَلَا يُبَاحُ لَهُ إِلَّا مَا أَحَلَّ مِنْ نَفْسِهِ أَيْ مَا أَبَاحَ لَهُ أَخُوهُ مِنْ نَفْسِهِ وَإِنَّ كُلَّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ أَيْ كَالشَّيْءِ الْمَوْضُوعِ تَحْتَ القدم وهو مجاز عن إبطاله لكم رؤوس أَيْ أُصُولُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ بِزِيَادَةٍ وَلَا تُظْلَمُونَ بِنَقْصٍ غَيْرَ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ كَذَا وَقَعَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ وَلَمْ يظهر لي معنى الاستثناء ووقع عند بن أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ عَنْ شَبِيبِ بْنِ غَرْقَدَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْأَحْوَصِ عَنْ أبيه قال خطب رسول الله فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ أَلَا إِنَّ كُلَّ رِبًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ عَنْكُمْ كُلُّهُ لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وَأَوَّلُ رِبًا مَوْضُوعٍ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ
وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مسلم وربا الجاهلية موضوعة وَأَوَّلُ مَا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ(8/382)
عبد المطلب فإنه موضوع كله
قال النووي قوله فِي الرِّبَا إِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ مَعْنَاهُ الزَّائِدُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ إِيضَاحٌ وَإِلَّا فَالْمَقْصُودُ مَفْهُومٌ مِنْ نَفْسِ لَفْظِ الْحَدِيثِ لِأَنَّ الرِّبَا هُوَ الزِّيَادَةُ فَإِذَا وُضِعَ الرِّبَا فَمَعْنَاهُ وَضْعُ الزِّيَادَةِ وَالْمُرَادُ بِالْوَضْعِ الرَّدُّ وَالْإِبْطَالُ انْتَهَى
وَإِنَّ كُلَّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ أَيْ مَتْرُوكٌ لَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ وَلَا كَفَّارَةَ وَأَوَّلُ دَمٍ أَضَعُ أَيْ أَضَعُهُ وَأُبْطِلُهُ دَمُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دم بن رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ
قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ وَالْجُمْهُورُ اسْمُ هَذَا الِابْنِ إِيَاسُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَقِيلَ اسْمُهُ حَارِثَةُ وَقِيلَ آدَمُ
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَهُوَ تَصْحِيفٌ وَقِيلَ اسْمُهُ تَمَّامٌ وَمِمَّنْ سَمَّاهُ آدَمُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَرَوَاهُ بَعْضُ رُوَاةِ مُسْلِمٍ دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَقِيلَ وَهُوَ وَهْمٌ والصواب بن ربيعة لأن ربيعة عاش بعد النبي إِلَى زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَتَأَوَّلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فَقَالَ دَمُ رَبِيعَةَ لِأَنَّهُ وَلِيُّ الدَّمِ فَنَسَبُهُ إِلَيْهِ قَالُوا وَكَانَ هَذَا الِابْنُ الْمَقْتُولُ طِفْلًا صَغِيرًا يَحْبُو بَيْنَ الْبُيُوتِ فَأَصَابَهُ حَجَرٌ فِي حَرْبٍ كَانَتْ بَيْنَ بَنِي سَعْدٍ وَبَنِي لَيْثِ بْنِ بَكْرٍ
قَالَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ انْتَهَى (كَانَ مُسْتَرْضَعًا) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ كَانَ لَهُ ظِئْرٌ تُرْضِعُهُ فِي بَنِي لَيْثٍ (أَلَا) بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا الِاسْتِيصَاءُ قَبُولُ الْوَصِيَّةِ أَيْ أُوصِيكُمْ بِهِنَّ خَيْرًا فَاقْبَلُوا وَصِيَّتِي فِيهِنَّ
وَقَالَ الطِّيبِيُّ الْأَظْهَرُ أَنَّ السِّينَ لِلطَّلَبِ أَيِ اطْلُبُوا الْوَصِيَّةَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِخَيْرٍ أَوْ يَطْلُبُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ بِالْإِحْسَانِ فِي حَقِّهِنَّ وَقِيلَ الِاسْتِيصَاءُ بِمَعْنَى الْإِيصَاءِ فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ جَمْعُ عَانِيَةٍ أَيْ أُسَرَاءُ كَالْأُسَرَاءِ شُبِّهْنَ بِهِنَّ عِنْدَ الرِّجَالِ لِتَحَكُّمِهِنَّ فِيهِنَّ
قَالَ فِي النِّهَايَةِ الْعَانِي الْأَسِيرُ وَكُلُّ مَنْ ذُلَّ وَاسْتَكَانَ وَخَضَعَ فَقَدْ عَنَا يَعْنُو أَوْ هُوَ عَانٍ وَالْمَرْأَةُ عَانِيَةٌ وَجَمْعُهَا عَوَانٍ لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا أَيْ شَيْئًا مِنَ الْمِلْكِ أَوْ شَيْئًا مِنَ الْهِجْرَانِ وَالضَّرْبِ غَيْرَ ذَلِكَ أَيْ غَيْرَ الِاسْتِيصَاءِ بِهِنَّ الْخَيْرَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ الْفَاحِشَةُ كُلُّ مَا يَشْتَدُّ قُبْحُهُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي وَكَثِيرًا مَا ترد بمعنى الزنى وَكُلُّ خَصْلَةٍ قَبِيحَةٍ فَهِيَ فَاحِشَةٌ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ فَإِنْ فَعَلْنَ أَيْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَاهْجُرُوهُنَّ(8/383)
يشتد قبحه في المضاجع قال بن عَبَّاسٍ هُوَ أَنْ يُوَلِّيَهَا ظَهْرَهُ فِي الْفِرَاشِ وَلَا يُكَلِّمَهَا وَقِيلَ هُوَ أَنْ يَعْتَزِلَ عَنْهَا إِلَى فِرَاشٍ آخَرَ (وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ قَالَ النَّوَوِيُّ الضَّرْبُ الْمُبَرِّحُ هُوَ الضَّرْبُ الشَّدِيدُ الشَّاقُّ وَمَعْنَاهُ اضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا لَيْسَ بِشَدِيدٍ وَلَا شَاقٍّ وَالْبَرَحُ الْمَشَقَّةُ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ أَيْ فِيمَا يُرَادُ مِنْهُنَّ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أَيْ فَلَا تَطْلُبُوا عَلَيْهِنَّ طَرِيقًا إِلَى هِجْرَانِهِنَّ وَضَرْبِهِنَّ ظُلْمًا فَلَا يُوطِئْنَ بِهَمْزَةٍ أَوْ بِإِبْدَالِهَا مِنْ بَابِ الْإِفْعَالِ فُرُشَكُمْ بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ أَوَّلُ (مَنْ تَكْرَهُونَ) مَفْعُولٌ ثَانٍ أَيْ مَنْ تَكْرَهُونَهُ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً
قَالَ النَّوَوِيُّ الْمُخْتَارُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ لَا يَأْذَنَّ لِأَحَدٍ تَكْرَهُونَهُ فِي دُخُولِ بُيُوتِكُمْ وَالْجُلُوسِ فِي مَنَازِلِكُمْ
سَوَاءٌ كَانَ الْمَأْذُونُ لَهُ رَجُلًا أَجْنَبِيًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَحَدًا مِنْ مَحَارِمِ الزَّوْجَةِ فَالنَّهْيُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ ذَلِكَ وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ هَذَا كَالتَّفْسِيرِ لِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ عَامٌّ (أَلَا وَإِنَّ حَقَّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كسوتهن أو طعامهن) وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح) وأخرجه بن مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ شَبِيبِ بْنِ غَرْقَدَةَ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ فِي بَابِ تَحْرِيمِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدُ الْوَارِثِ) بْنُ سَعِيدِ بْنِ ذَكْوَانَ الْعَنْبَرِيُّ الْبَصْرِيُّ صَدُوقٌ مِنَ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ
قَوْلُهُ (سَأَلْتَ رسول الله عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فَقَالَ يَوْمُ النَّحْرِ) فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ يَقُولُ إِنَّ(8/384)
يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ
وَلِحَدِيثِ على هذا شاهد من حديث بن عمر عند أبي داود وبن مَاجَهْ وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا
وَقَدْ وَرَدَتْ فِي ذلك أحاديث أخرى ذكرها الحافظ بن كثير وغيره
واختاره بن جَرِيرٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ
وَقَالَ آخرون منهم عمرو بن عَبَّاسٍ وَطَاوُسٌ إِنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ
وَحَدِيثُ عَلِيٍّ هَذَا قَدْ تَقَدَّمَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا في أواخر أبواب الحج وأخرجه أيضا بن المنذر وبن أبي حاتم وبن مردويه
قَوْلُهُ (وَعَبْدُ الصَّمَدِ) بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ
قَوْلُهُ (بعث النبي بِبَرَاءَةٍ) يَجُوزُ فِيهِ التَّنْوِينُ بِالرَّفْعِ عَلَى الْحِكَايَةِ وَبِالْجَرِّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَامَةُ الْجَرِّ فَتْحَةً وَهُوَ الثَّابِتُ فِي الرِّوَايَاتِ (مَعَ أَبِي بَكْرٍ) وَكَانَ بَعَثَهُ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِسَنَةٍ وَكَانَتْ حَجَّةُ الْوَدَاعِ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ (ثم دعاه) أي ثم دعا النبي أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُبَلِّغَ هَذَا إِلَّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي فَدَعَا عَلِيًّا قَالَ الْعُلَمَاءُ إِنَّ الْحِكْمَةَ فِي إِرْسَالِ عَلِيٍّ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ جَرَتْ بِأَنْ لَا يَنْقُضَ الْعَهْدُ إِلَّا مَنْ عَقَدَهُ أَوْ مَنْ هُوَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَأَجْرَاهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى عَادَتِهِمْ وَلِهَذَا قَالَ لَا يُبَلِّغُ هَذَا إِلَّا أَنَا أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي (فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ) أَيْ فَأَعْطَى عَلِيًّا بَرَاءَةً
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ(8/385)
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) هُوَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ (أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الضبي أبو عثمان الواسطي نزيل بغداد البزاز لَقَبُهُ سَعْدَوَيْهِ ثِقَةٌ حَافِظٌ مِنْ كِبَارِ الْعَاشِرَةِ
قوله (بعث النبي أبا بكر) وروى الطبري عن بن عباس قال بعث رسول الله أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ وَأَمَرَهُ أَنْ يُقِيمَ لِلنَّاسِ حَجَّهُمْ فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ (وَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ) أَيْ أَمَرَ النَّبِيُّ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُنَادِيَ بِهَا
وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ لَمَّا نَزَلَتْ عَشْرُ آيَاتٍ من براءة بعث بها النبي مَعَ أَبِي بَكْرٍ لِيَقْرَأَهَا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ ثُمَّ دَعَانِي فَقَالَ أَدْرِكْ أَبَا بَكْرٍ فَحَيْثُمَا لَقِيتَهُ فَخُذْ مِنْهُ الْكِتَابَ فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَزَلَ فِيَّ شَيْءٌ فَقَالَ لَا إِلَّا أَنَّهُ لَنْ يُؤَدِّيَ أَوْ لَكِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لَا يُؤَدِّي عَنْكَ إِلَّا أنت أو رجل منك
قال بن كَثِيرٍ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجَعَ مِنْ فَوْرِهِ بَلْ بَعْدَ قَضَائِهِ لِلْمَنَاسِكِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ لِقُرْبِ الْمَسَافَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ عَشْرُ آيَاتٍ فَالْمُرَادُ أَوَّلُهَا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ (ثُمَّ أَتْبَعَهُ عَلِيًّا) أَيْ أَتْبَعَ رَسُولُ اللَّهِ أَبَا بَكْرٍ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا (إذ سمع رغاء ناقة رسول الله) بِضَمِّ الرَّاءِ وَبِالْمَدِّ صَوْتُ ذَوَاتِ الْخُفِّ وَقَدْ رَغَا الْبَعِيرُ يَرْغُو رُغَاءً بِالضَّمِّ وَالْمَدِّ أَيْ ضَجَّ (الْقُصْوَى) هُوَ لَقَبُ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ (فدفع إليه كتاب رسول الله) أَيْ دَفَعَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عَلِيٍّ كِتَابَهُ (فَسِيحُوا) سِيرُوا آمِنَينَ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ (فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ عَلِيٍّ الْآتِي بَعْدَ هَذَا (وَلَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ) أَيْ بَعْدَ الزَّمَانِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْإِعْلَامُ بِذَلِكَ (فَإِذَا عَيِيَ) بِكَسْرِ(8/386)
التحتية الأولى
يقال عيي يعيى عِيًّا وَعَيَاءً بِأَمْرِهِ وَعَنْ أَمْرِهِ عَجَزَ عَنْهُ وَلَمْ يُطِقْ أَحْكَامَهُ أَوْ لَمْ يَهْتَدِ لِوَجْهِ مراده وعيى يعيى عَيًّا فِي الْمَنْطِقِ حُصِرَ
تَنْبِيهٌ قال الْخَازِنُ قَدْ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ فِي بَعْثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِقِرَاءَةِ أَوَّلِ بَرَاءَةٍ عَزْلَ أَبِي بَكْرٍ عَنِ الْإِمَارَةِ وَتَفْضِيلَهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَذَلِكَ جَهْلٌ مِنْ هَذَا الْمُتَوَهِّمِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَزَلْ أَمِيرًا عَلَى الْمَوْسِمِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ بَعَثَهُ في الحجة التي أمره رسول الله عَلَيْهَا قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُونَ فِي النَّاسِ الْحَدِيثَ وَفِي لَفْظِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ قَالَ بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِيمَنْ يُؤَذِّنُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ بِمِنًى أَنَّ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ فَقَوْلُهُ بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ هُوَ الْأَمِيرَ عَلَى النَّاسِ وَهُوَ الَّذِي أَقَامَ لِلنَّاسِ حَجَّهُمْ وَعَلَّمَهُمْ مَنَاسِكَهُمْ وَأَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنْ بَعْثِ رَسُولِ اللَّهِ عَلِيًّا لِيُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ بِبَرَاءَةٍ بِأَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ جَرَتْ أَنْ لَا يَتَوَلَّى تَقْرِيرَ الْعَهْدِ وَنَقْضَهُ إِلَّا سَيِّدُ الْقَبِيلَةِ وَكَبِيرُهَا أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَقَارِبِهِ وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أقرب إلى النبي من أبي بكر لأنه بن عمه ومن رهطه فبعثه النبي لِيُؤَذِّنَ عَنْهُ بِبَرَاءَةٍ إِزَاحَةً لِهَذِهِ الْعِلَّةِ لِئَلَّا يَقُولُوا هَذَا عَلَى خِلَافِ مَا نَعْرِفُهُ عَنْ عَادَتِنَا فِي عَقْدِ الْعُهُودِ وَنَقْضِهَا
وَقِيلَ لَمَّا خَصَّ أَبَا بَكْرٍ لِتَوْلِيَتِهِ عَلَى الْمَوْسِمِ خَصَّ عَلِيًّا بِتَبْلِيغِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ وَرِعَايَةً لِجَانِبِهِ وَقِيلَ إِنَّمَا بَعَثَ عَلِيًّا فِي هَذِهِ الرِّسَالَةُ حَتَّى يُصَلِّيَ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَيَكُونَ جَارِيًا مَجْرَى التَّنْبِيهِ عَلَى إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ بعد رسول الله لأن النبي بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْحَاجِّ وَوَلَّاهُ الْمَوْسِمَ وَبَعَثَ عَلِيًّا خَلْفَهُ لِيَقْرَأَ عَلَى النَّاسِ بِبَرَاءَةٍ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْإِمَامَ وَعَلِيٌّ الْمُؤْتَمَّ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْخَطِيبَ وَعَلِيٌّ الْمُسْتَمِعَ
وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْمُتَوَلِّي أَمْرَ الْمَوْسِمِ وَالْأَمِيرَ عَلَى النَّاسِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِعَلِيٍّ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى عَلِيٍّ وَفَضْلِهِ عَلَيْهِ انْتَهَى
قُلْتُ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَزَلْ أَمِيرًا عَلَى الْمَوْسِمِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ حَدِيثُ جَابِرٍ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ وَإِسْحَاقَ فِي مُسْنَدِهِ وَالنَّسَائِيِّ والدارمي وبن خزيمة وبن حبان أن النبي حِينَ رَجَعَ مِنْ عُمْرَةِ الْجِعِرَّانَةِ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ فَأَقْبَلْنَا مَعَهُ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْعَرَجِ ثَوَّبَ بِالصُّبْحِ فَسَمِعَ رَغْوَةَ نَاقَةِ النبي فَإِذَا عَلِيٌّ عَلَيْهَا فَقَالَ لَهُ أَمِيرٌ أَوْ رسول فقال بل أرسلني رسول الله بِبَرَاءَةٍ أَقْرَؤُهَا عَلَى النَّاسِ الْحَدِيثَ
قَوْلُهُ (وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ عَهْدٌ فَهُوَ إِلَى مُدَّتِهِ
وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَأَجَلُهُ أربعة(8/387)
أَشْهُرٍ)
قَالَ الْحَافِظُ اسْتُدِلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَخْتَصُّ بِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ أَصْلًا وَأَمَّا مَنْ لَهُ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ فَهُوَ إِلَى مُدَّتِهِ
فروى الطبري من طريق بن إِسْحَاقَ قَالَ هُمْ صِنْفَانِ صِنْفٌ كَانَ لَهُ عَهْدٌ دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَأُمْهِلَ إِلَى تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَصِنْفٌ كَانَتْ لَهُ مُدَّةٌ عَهْدِهِ بِغَيْرِ أَجَلٍ فَقُصِرَتْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ
وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ بن عَبَّاسٍ أَنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرَ أَجَلُ مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ بِقَدْرِهَا أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهَا وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ عَهْدٌ فَانْقِضَاؤُهُ إِلَى سَلْخِ الْمُحَرَّمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الحرم فاقتلوا المشركين ومن طريق عبيدة بن سلمان سمعت (عن) الضحاك أن رسول الله عَاهَدَ نَاسًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ فَنَزَلَتْ بَرَاءَةٌ فَنَبَذَ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ عَهْدَهُ وَأَجَّلَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ فَأَجَلُهُ إِلَى انْقِضَاءِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ
وَمِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ نَحْوُهُ وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ كَانَ أَوَّلُ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ عِنْدَ نُزُولِ بَرَاءَةٌ فِي شَوَّالَ فَكَانَ آخِرُهَا آخِرَ الْمُحَرَّمِ فَبِذَلِكَ يُجْمَعُ بَيْنَ ذِكْرِ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا المشركين وَاسْتَبْعَدَ الطَّبَرِيُّ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ بُلُوغَهُمُ الخبر إنما كان عندما وقع به النِّدَاءُ بِهِ فِي ذِي الْحِجَّةِ فَكَيْفَ يُقَالُ لَهُمْ سِيحُوا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا دُونَ الشَّهْرَيْنِ ثُمَّ أُسْنِدَ عَنِ السُّدِّيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ تَمَامَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ فِي رَبِيعٍ الْآخِرَ انْتَهَى
قَوْلُهُ (وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) أَيْ وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَكَذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي بَابِ كَرَاهِيَةِ الطَّوَافِ عُرْيَانًا بَعْدَ رِوَايَةِ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ يُثَيِّعٍ الْمَذْكُورِ وَتَقَدَّمَ تَخْرِيجُهُ هُنَاكَ
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ إِلَخْ) هَذِهِ الْعِبَارَةِ مِنْ هُنَا إِلَى قَوْلِهِ وَلَا يُتَابَعُ عليه(8/388)
قَدْ وَقَعَتْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَسَقَطَتْ فِي بعضها
(عن بن أثيع وعن بن يُثَيِّعٍ) هَذَا بَيَانٌ لِقَوْلِهِ كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ (وَالصَّحِيحُ زَيْدُ بْنُ يُثَيِّعٍ) أَيْ بِالتَّحْتَانِيَّةِ
قَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ قَالَ الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ الْمَحْفُوظُ بِالْيَاءِ (وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أُثَيْلٍ) أَيْ بِاللَّامِ مَكَانَ الْعَيْنِ (وَلَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ) أَيْ لَا يُتَابَعُ شُعْبَةٌ عَلَى لَفْظِ أُثَيْلٍ
قَالَ الدَّوْرِيُّ عن بن مَعِينٍ قَالَ شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ زيد بن أثيل قال بن مَعِينٍ وَالصَّوَابُ يُثَيِّعٌ وَلَيْسَ أَحَدٌ يَقُولُ أُثَيْلٌ إِلَّا شُعْبَةُ وَحْدَهُ كَذَا فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ
قَوْلُهُ (إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ يَتَعَاهَدُ قَالَ فِي الْمَجْمَعِ أَيْ يَتَحَافَظُ وَرُوِيَ يَعْتَادُ وَهُوَ أَقْوَى سَنَدًا وَأَوْفَقُ مَعْنًى لِشُمُولِهِ جَمِيعَ مَا يُنَاطُ بِالْمَسْجِدِ مِنَ الْعِمَارَةِ وَاعْتِيَادِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَتَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ شَرْحِهِ فِي بَابِ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ مِنْ أَبْوَابِ الْإِيمَانِ
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبِ) بْنِ مُسْلِمٍ الْقُرَشِيُّ (عَنْ عَمْرِو بْنِ الحارث) الأنصاري المصري (الْعُتْوَارِيُّ) بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَبِرَاءٍ نِسْبَةً إِلَى عُتْوَرَةَ بَطْنٌ مِنْ كِنَانَةَ
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى) الْعَبْسِيُّ الْكُوفِيُّ (عَنْ ثوبان) الهاشمي مولى النبي(8/389)
قَوْلُهُ (فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أُنْزِلَتْ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) أَيْ هَذِهِ الْآيَةُ وَعَرَفْنَا حُكْمَهُمَا وَمَذَمَّتَهُمَا (لَوْ عَلِمْنَا) لَوْ لِلتَّمَنِّي (أَيُّ الْمَالِ خَيْرٌ) مبتدأ وخبر والجملة سدت مسد المفعولين لعلمنا تَعْلِيقًا (فَنَتَّخِذَهُ) مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ الْفَاءِ جوابا للتمني قيل السؤال وإن كان من تعيين المال ظاهرا لكنهم أراد وما ينتفع به عند تراكم الحوائج فذلك أَجَابَ عَنْهُ بِمَا أَجَابَ فَفِيهِ شَائِبَةٌ عَنِ الْجَوَابِ عَنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ (فَقَالَ أَفْضَلُهُ) أَيْ أَفْضَلُ الْمَالِ أَوْ أَفْضَلُ مَا يَتَّخِذُهُ الْإِنْسَانُ قِنْيَةً (لِسَانٌ ذَاكِرٌ) أَيْ بِتَمْجِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيسِهِ وَتَسْبِيحِهِ وَتَهْلِيلِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ مَحَامِدِهِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ (وَقَلْبٌ شَاكِرٌ) أَيْ عَلَى إِنْعَامِهِ وَإِحْسَانِهِ (وَزَوْجَةٌ مُؤْمِنَةٌ تُعِينُهُ عَلَى إِيمَانِهِ) أَيْ عَلَى دِينِهِ بِأَنْ تُذَكِّرَهُ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ وَغَيْرَهُمَا من العبادات وتمنعه من الزنى وَسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ أحمد وبن مَاجَهْ
قَوْلُهُ (عَنْ غُطَيْفِ بْنِ أَعْيَنَ) الشَّيْبَانِيِّ الْجَزَرِيِّ وَيُقَالُ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ ضَعِيفٌ مِنَ السَّابِعَةِ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ وَقَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ فِي تَرْجَمَتِهِ رَوَى لَهُ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثًا وَاحِدًا وَقَالَ لَيْسَ بِمَعْرُوفِ فِي الْحَدِيثِ
قَوْلُهُ (وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ) هُوَ كُلُّ مَا كَانَ عَلَى شَكْلِ خَطَّيْنِ مُتَقَاطِعَيْنِ
وَقَالَ فِي الْمَجْمَعِ هُوَ الْمُرَبَّعُ مِنَ الْخَشَبِ لِلنَّصَارَى يَدَّعُونَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ صُلِبَ عَلَى خَشَبَةٍ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ (اطْرَحْ عَنْكَ) أَيْ أَلْقِ عَنْ عُنُقِكَ (هذا الوثن) هو كل ماله جثة معمولة(8/390)
مِنْ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ أَوْ مِنَ الْخَشَبِ وَالْحِجَارَةِ كَصُورَةِ الْآدَمِيِّ وَالصَّنَمُ الصُّورَةُ بِلَا جُثَّةٍ وَقِيلَ هُمَا سَوَاءٌ وَقَدْ يُطْلَقُ الْوَثَنُ عَلَى غَيْرِ الصورة ومنه حديث عدي قدمت عليه وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ أَلْقِ هَذَا الْوَثَنَ عَنْكَ قَالَهُ فِي الْمَجْمَعِ (اتَّخَذُوا أخبارهم) أَيْ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ (وَرُهْبَانَهُمْ) أَيْ عُبَّادَ النَّصَارَى (أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) حَيْثُ اتَّبَعُوهُمْ فِي تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ الله
قال أي النبي (أَمَا) بِالتَّخْفِيفِ حَرْفُ التَّنْبِيهِ (إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شيئا) أي جعلوا لَهُمْ حَلَالًا وَهُوَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (اسْتَحَلُّوهُ) أَيِ اعْتَقَدُوهُ حَلَالًا (وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا) أَيْ وَهُوَ مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ (حَرَّمُوهُ) أَيِ اعْتَقَدُوهُ حَرَامًا
قَالَ فِي فَتْحِ الْبَيَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَزْجُرُ مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ عَنِ التَّقْلِيدِ فِي دِينِ اللَّهِ وَتَأْثِيرِ مَا يَقُولُهُ الْأَسْلَافُ عَلَى مَا فِي الْكِتَاب الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ فَإِنَّ طَاعَةَ الْمُتَمَذْهِبِ لِمَنْ يَقْتَدِي بِقَوْلِهِ وَيَسْتَنُّ بِسُنَّتِهِ مِنْ عُلَمَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِمَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ وَقَامَتْ بِهِ حُجَجُ اللَّهِ وَبَرَاهِينُهُ هُوَ كَاتِّخَاذِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِلْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوهُمْ بَلْ أَطَاعُوهُمْ وَحَرَّمُوا مَا حَرَّمُوا وَحَلَّلُوا مَا حَلَّلُوا وَهَذَا هُوَ صَنِيعُ الْمُقَلِّدِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهُوَ أَشْبَهُ بِهِ مِنْ شَبَهِ الْبَيْضَةِ بِالْبَيْضَةِ وَالتَّمْرَةِ بِالتَّمْرَةِ والماء بالماء
فياعباد اللَّهِ مَا بَالُكُمْ تَرَكْتُمُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ جَانِبًا وَعَمَدْتُمْ إِلَى رِجَالٍ هُمْ مِثْلُكُمْ فِي تَعَبُّدِ اللَّهِ لَهُمْ بِهِمَا وَطَلَبِهِ لِلْعَمَلِ مِنْهُمْ بِمَا دلا عليه وأفاداه فعملتم بما جاؤوا بِهِ مِنَ الْآرَاءِ الَّتِي لَمْ تُعْمَدْ بِعِمَادِ الْحَقِّ وَلَمْ تُعْضَدْ بِعَضُدِ الدِّينِ وَنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تُنَادِي بِأَبْلَغِ نِدَاءٍ وَتُصَوِّتُ بِأَعْلَى صَوْتٍ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ وَيُبَايِنُهُ فَأَعَرْتُمُوهَا آذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا وَأَذْهَانًا كَلِيلَةً وَخَوَاطِرَ عَلِيلَةً وَأَنْشَدْتُمْ بِلِسَانِ الْحَالِ وَمَا أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدُ
انْتَهَى
وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ شَيْخُنَا وَمَوْلَانَا خَاتِمَةُ الْمُحَقِّقِينَ وَالْمُجْتَهِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ شَاهَدْتُ جَمَاعَةً مِنْ مُقَلِّدَةِ الْفُقَهَاءِ قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ فَكَانَتْ مَذَاهِبُهُمْ بِخِلَافِ تِلْكَ الْآيَاتِ فَلَمْ يَقْبَلُوا تِلْكَ الْآيَاتِ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا وَبَقَوْا يَنْظُرُونَ إِلَيَّ كَالْمُتَعَجِّبِ يَعْنِي كَيْفَ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَعَ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ سَلَفِنَا وَرَدَتْ إِلَى خِلَافِهَا وَلَوْ تَأَمَّلْتَ حَقَّ التَّأَمُّلِ وَجَدْتَ هَذَا الدَّاءَ سَارِيًا فِي عُرُوقِ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا(8/391)
انْتَهَى
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أحمد وبن جرير وبن سعد وعبد بن حميد وبن المنذر وبن أبي حاتم وأبو الشيخ وبن مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا هَمَّامٌ) هو بن يَحْيَى الْأَزْدِيُّ الْعَوْذِيُّ (حَدَّثَنَا ثَابِتٌ) هُوَ الْبُنَانِيُّ قوله (قلت للنبي وَنَحْنُ فِي الْغَارِ) وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِأَقْدَامِ الْقَوْمِ (لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَنْظُرُ إِلَى قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا) فِيهِ مَجِيءُ لَوِ الشَّرْطِيَّةِ لِلِاسْتِقْبَالِ خِلَافًا لِلْأَكْثَرِ وَاسْتَدَلَّ مَنْ جَوَّزَهُ بِمَجِيءِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ بَعْدَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قَالَهُ حَالَةَ وُقُوفِهِمْ عَلَى الْغَارِ وَعَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ يَكُونُ قَالَهُ بَعْدَ مُضِيِّهِمْ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى صِيَانَتِهِمَا مِنْهُمْ وَوَقَعَ فِي مَغَازِي عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قِصَّةِ الْهِجْرَةِ قَالَ وَأَتَى الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْجَبَلِ الذي فيه الغار الذي فيه النبي حَتَّى طَلَعُوا فَوْقَهُ وَسَمِعَ أَبُو بَكْرٍ أَصْوَاتَهُمْ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ الْهَمُّ وَالْخَوْفُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ له النبي لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا وَدَعَا رَسُولُ الله فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا الْآيَةَ وَهَذَا يُقَوِّي أَنَّهُ قَالَ مَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ حِينَئِذٍ وَلِذَلِكَ أَجَابَهُ بِقَوْلِهِ لَا تَحْزَنْ
فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا
قَالَ الْحَافِظُ فِي رِوَايَةِ مُوسَى فَقَالَ اسْكُتْ يَا أَبَا بَكْرٍ اثْنَانِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا وَقَوْلُهُ اثْنَانِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ نَحْنُ اثْنَانِ وَمَعْنَى ثَالِثُهُمَا نَاصِرُهُمَا وَمُعِينُهُمَا وَإِلَّا فاللَّهُ ثَالِثُ كُلِّ اثْنَيْنِ بِعِلْمِهِ انْتَهَى
وَقَالَ النَّوَوِيُّ مَعْنَاهُ ثَالِثُهُمَا بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ وَالْحِفْظِ وَالتَّسْدِيدِ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هم محسنون وفيه بيان عظيم توكل النبي حَتَّى فِي هَذَا(8/392)
الْمَقَامِ وَفِيهِ فَضِيلَةٌ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهِيَ مِنْ أَجَلِّ مَنَاقِبِهِ وَالْفَضِيلَةُ مِنْ أَوْجُهٍ مِنْهَا بَذْلُهُ نَفْسَهُ وَمُفَارَقَتُهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَرِيَاسَتَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمُلَازَمَةِ النَّبِيِّ وَمُعَادَاةِ النَّاسِ فِيهِ وَمِنْهَا جَعْلُهُ نَفْسَهُ وِقَايَةً عَنْهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ انْتَهَى
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ
قَوْلُهُ (لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ) بْنُ سَلُولَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا لَامٌ هُوَ اسْمُ امْرَأَةٍ وَهِيَ وَالِدَةُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورِ وَهِيَ خُزَاعِيَّةٌ وَأَمَّا هُوَ فَمِنَ الخزرج أحد قبيلتي الأنصار وبن سَلُولَ يُقْرَأُ بِالرَّفْعِ لِأَنَّهُ صِفَةُ عَبْدِ اللَّهِ لَا صِفَةُ أَبِيهِ (أَعَلَى عَدُوِّ اللَّهِ) أَيْ أَتُصَلِّي عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ (الْقَائِلُ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا يَعُدُّ أَيَّامَهُ) يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى مِثْلِ قَوْلِهِ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عند رسول الله حتى ينفضوا إلى مِثْلِ قَوْلِهِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَرَسُولُ الله يتبسم استشكل تبسمه فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مَعَ مَا ثَبَتَ أَنَّ ضحكه كَانَ تَبَسُّمًا وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ شُهُودِ الْجَنَائِزِ يَسْتَعْمِلُ ذَلِكَ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ طَلَاقَةِ وَجْهِهِ بِذَلِكَ تَأْنِيسًا لِعُمَرَ وَتَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ كَالْمُعْتَذِرِ عَنْ تَرْكِ قَبُولِ كَلَامِهِ وَمَشُورَتِهِ (قَالَ أَخِّرْ عَنِّي) أَيْ كَلَامَكَ (قَدْ خُيِّرْتُ) أَيْ بَيْنَ الِاسْتِغْفَارِ وَعَدَمِهِ (اسْتَغْفِرْ) يَا مُحَمَّدُ لَهُمْ (أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) تَخْيِيرٌ لَهُ فِي الِاسْتِغْفَارِ وَتَرْكِهِ (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يغفر الله لهم) قِيلَ الْمُرَادُ بِالسَّبْعِينَ الْمُبَالَغَةُ فِي كَثْرَةِ الِاسْتِغْفَارِ وقيل المراد العدد المخصوص لقوله وَسَأَزِيدُهُ عَلَى السَّبْعِينَ فَبَيَّنَ لَهُ حَسْمَ الْمَغْفِرَةِ بِآيَةِ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تستغفر لهم كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ (فَعَجَبٌ لِي وَجُرْأَتِي) بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ أَيْ إِقْدَامِي عَلَيْهِ
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فَعَجِبْتُ بَعْدُ من جرأتي على رسول الله(8/393)
تنبيه قوله (قد خيرت فاخترت) يدل على أنه فَهِمَ مِنَ الْآيَةِ التَّخْيِيرَ
وَاسْتُشْكِلَ فَهْمُ التَّخْيِيرِ مِنْهَا حَتَّى أَقْدَمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَكَابِرِ عَلَى الطَّعْنِ فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ كَثْرَةِ طُرُقِهِ وَاتِّفَاقِ الشَّيْخَيْنِ وَسَائِرِ الَّذِينَ خَرَّجُوا الصَّحِيحَ عَلَى تَصْحِيحِهِ وَذَلِكَ يُنَادِي عَلَى مُنْكَرِي صِحَّتِهِ بِعَدَمِ مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ وَقِلَّةِ الِاطِّلَاعِ عَلَى طُرُقِهِ
قَالَ الْحَافِظُ وَالسَّبَبُ فِي إِنْكَارِهِمْ صِحَّتَهُ مَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ حَمْلِ أَوْ عَلَى التَّسْوِيَةِ لِمَا يَقْتَضِيه سِيَاقُ الْقِصَّةِ وَحَمْلِ السبعين على المبالغة
قال بن الْمُنَيِّرِ لَيْسَ عِنْدَ الْبَيَانِ تَرَدُّدٌ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالْعَدَدِ فِي هَذَا السِّيَاقِ غَيْرُ مُرَادٍ
قَالَ وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ سَأَزِيدُ عَلَى السَّبْعِينَ اسْتِمَالَةً لِقُلُوبِ عشيرته لأنه أراد إِنْ زَادَ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُ وَيُؤَيِّدُهُ تَرَدُّدُهُ فِي ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ حَيْثُ قَالَ لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُ لَزِدْتُ لَكِنْ قَدَّمْنَا أَنَّ الرِّوَايَةَ ثَبَتَتْ بِقَوْلِهِ سَأَزِيدُ وَوَعْدُهُ صَادِقٌ وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ ثَبَتَ قَوْلُهُ
وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ اسْتِصْحَابًا لِلْحَالِ لِأَنَّ جَوَازَ الْمَغْفِرَةِ بِالزِّيَادَةِ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ مَجِيءِ الْآيَةِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا عَلَى أَصْلِهِ فِي الْجَوَازِ
وَهَذَا جَوَابٌ حَسَنٌ
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْبَقَاءِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ مَعَ فَهْمِ الْمُبَالَغَةِ لَا يَتَنَافَيَانِ فَكَأَنَّهُ جَوَّزَ أَنَّ الْمَغْفِرَةَ تَحْصُلُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى السَّبْعِينَ لَا أَنَّهُ جَازِمٌ بِذَلِكَ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ
قَالَ وَوَقَعَ فِي أَصْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ إِشْكَالٌ آخَرُ وَذَلِكَ أَنَّهُ أَطْلَقَ أَنَّهُ خُيِّرَ بَيْنَ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ وَعَدَمِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَأَخَذَ بِمَفْهُومِ الْعَدَدِ مِنَ السَّبْعِينَ فَقَالَ سَأَزِيدُ عَلَيْهَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ قَبْلَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ نُزُولُ قَوْلِهِ تَعَالَى مَا كان للنبي والذي آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قربى فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ أَبِي طالب حين قال لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ فَنَزَلَتْ وَكَانَتْ وَفَاةُ أَبِي طَالِبٍ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ اتِّفَاقًا وَقِصَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ هَذِهِ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ(8/394)
الْهِجْرَةِ فَكَيْفَ يَجُوزُ مَعَ ذَلِكَ الِاسْتِغْفَارُ لِلْمُنَافِقِينَ مَعَ الْجَزْمِ بِكُفْرِهِمْ فِي نَفْسِ الْآيَةِ
وَقَدْ وَقَفْتَ عَلَى جَوَابٍ لِبَعْضِهِمْ عَنْ هَذَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ اسْتِغْفَارٌ تُرْجَى إِجَابَتُهُ حَتَّى يَكُونَ مَقْصِدُهُ تَحْصِيلَ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ كَمَا فِي قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ بِخِلَافِ الِاسْتِغْفَارِ لِمِثْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَإِنَّهُ اسْتِغْفَارٌ لِقَصْدِ تَطْيِيبِ قلوب من بقي منهموهذا الْجَوَابُ لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ عِنْدِي وَنَحْوُهُ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ خَفِيَ عَلَى أَفْصَحِ الْخَلْقِ وَأَخْبَرِهِمْ بِأَسَالِيبِ الْكَلَامِ وَتَمْثِيلَاتِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْعَدَدِ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ وَلَوْ كَثُرَ لَا يُجْدِي وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ تَلَاهُ قَوْلُهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ الْآيَةَ فَبَيَّنَ الصَّارِفَ عَنِ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ
قُلْتُ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ وَقَالَ مَا قَالَ إِظْهَارًا لِغَايَةِ رَحْمَتِهِ وَرَأْفَتِهِ عَلَى مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِ وَهُوَ كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَفِي إظهار النبي الرَّأْفَةَ الْمَذْكُورَةَ لُطْفٌ بِأُمَّتِهِ وَبَاعِثٌ عَلَى رَحْمَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا انْتَهَى
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّ النَّهْيَ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِمَنْ مَاتَ مُشْرِكًا لَا يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ لِمَنْ مَاتَ مُظْهِرًا لِلْإِسْلَامِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مُعْتَقَدُهُ صَحِيحًا وَهَذَا جَوَابٌ جَيِّدٌ
وَقَدْ قَدَّمْتُ الْبَحْثَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ وَالتَّرْجِيحُ أَنَّ نُزُولَهَا كَانَ مُتَرَاخِيًا عن قصة أبي طالب جيدا وَأَنَّ الَّذِي نَزَلَ فِي قِصَّتِهِ إِنَّكَ لَا تهدي من أحببت وحررت دليل ذلك هنا إِلَّا أَنَّ فِي بَقِيَّةِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نُزُولَ ذَلِكَ وَقَعَ مُتَرَاخِيًا عَنِ الْقِصَّةِ وَلَعَلَّ الَّذِي نَزَلَ أَوَّلًا وَتَمَسَّكَ النَّبِيُّ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فلن يغفر الله لهم إِلَى هُنَا خَاصَّةً وَلِذَلِكَ اخْتَصَرَ فِي جَوَابِ عُمَرَ عَلَى التَّخْيِيرِ وَعَلَى ذِكْرِ السَّبْعِينَ فَلَمَّا وَقَعَتِ الْقِصَّةُ الْمَذْكُورَةُ كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْغِطَاءَ وفضحهم على رؤوس الْمَلَأِ وَنَادَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا تَأَمَّلَ الْمُتَأَمِّلُ الْمُنْصِفُ وَجَدَ الْحَامِلَ عَلَى مَنْ رَدَّ الْحَدِيثَ أَوْ تَعَسَّفَ فِي التَّأْوِيلِ ظَنَّهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ نَزَلَ مَعَ قَوْلِهِ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَيْ نَزَلَتِ الْآيَةُ كَامِلَةً لِأَنَّهُ لَوْ فُرِضَ نُزُولُهَا كَامِلَةً لَاقْتَرَنَ بِالنَّهْيِ الْعِلَّةُ وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ قَلِيلَ الِاسْتِغْفَارِ وَكَثِيرَهُ لَا يُجْدِي وَإِلَّا فَإِذَا فُرِضَ مَا حَرَّرْتُهُ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ نَزَلَ مُتَرَاخِيًا عَنْ صَدْرِ الْآيَةِ لَارْتَفَعَ الْإِشْكَالُ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَحُجَّةُ الْمُتَمَسِّكِ مِنَ الْقِصَّةِ بِمَفْهُومِ الْعَدَدِ صَحِيحٌ وَكَوْنُ ذَلِكَ وَقَعَ للنبي مُتَمَسِّكًا بِالظَّاهِرِ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي الْأَحْكَامِ إِلَى أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ الصَّارِفُ عَنْ ذَلِكَ لَا إِشْكَالَ فِيهِ انْتَهَى(8/395)
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
قَوْلُهُ (جَاءَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ) كَانَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ هَذَا مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا وَاسْتُشْهِدَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَمِنْ مَنَاقِبِهِ أَنَّهُ بَلَغَهُ بَعْضُ مَقَالَاتِ أَبِيهِ فَجَاءَ إِلَى النبي يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَتْلِهِ قَالَ بَلْ أَحْسِنْ صُحْبَتَهُ أخرجه بن مِنْدَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَكَأَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ أَمْرَ أَبِيهِ عَلَى ظَاهِرِ الاسلام فلذلك التمس من النبي أَنْ يَحْضُرَ عِنْدَهُ وَيُصَلِّيَ عَلَيْهِ وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِعَهْدٍ مِنْ أَبِيهِ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ قَالَ أَرْسَلَ عبد الله بن أبي إلى النبي فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ أَهْلَكَكَ حُبُّ يَهُودَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ لِي وَلَمْ أُرْسِلْ إِلَيْكَ لِتُوَبِّخَنِي ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ يُكَفَّنُ فِيهِ وَهَذَا مُرْسَلٌ مَعَ ثِقَةٍ رِجَالِهُ
وَيُعَضِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ عن بن عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا مَرِضَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي جاءه النبي فَكَلَّمَهُ فَقَالَ قَدْ فَهِمْتُ مَا تَقُولُ فَامْنُنْ عَلَيَّ فَكَفِّنِّي فِي قَمِيصِكَ وَصَلِّ عَلَيَّ فَفَعَلَ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَرَادَ بِذَلِكَ دَفْعَ الْعَارِ عَنْ وَلَدِهِ وَعَشِيرَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَأَظْهَرَ الرَّغْبَةَ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ وَوَقَعَتْ إِجَابَتُهُ إِلَى سُؤَالِهِ بِحَسَبِ مَا ظَهَرَ مِنْ حَالِهِ إِلَى أَنْ كَشَفَ اللَّهُ الْغِطَاءَ عَنْ ذَلِكَ وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْأَجْوِبَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ كَذَا فِي الْفَتْحِ (فَقَالَ أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ) إِلَى قَوْلِهِ (فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ) هَذَا مُخَالِفٌ لِحَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ
قَالَ أَتَى النَّبِيُّ عبد الله بن أبي بعد ما دُفِنَ فَأَخْرَجَهُ فَنَفَثَ فِيهِ مِنْ رِيقِهِ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ
قَالَ الْحَافِظُ قَدْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ معنى قوله في حديث بن عُمَرَ فَأَعْطَاهُ أَيْ أَنْعَمَ لَهُ بِذَلِكَ فَأَطْلَقَ عَلَى الْعِدَّةِ اسْمَ الْعَطِيَّةِ مَجَازًا لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهَا
وكذا قوله في حديث جابر بعد ما دُفِنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَيْ دُلِّيَ فِي حُفْرَتِهِ
وَكَانَ أَهْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي خشوا على النبي الْمَشَقَّةَ فِي حُضُورِهِ فَبَادَرُوا إِلَى تَجْهِيزِهِ قَبْلَ وصول النبي فَلَمَّا وَصَلَ وَجَدَهُمْ قَدْ دَلَّوْهُ فِي حُفْرَتِهِ فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ إِنْجَازًا لِوَعْدِهِ فِي تَكْفِينِهِ فِي القميص والصلاة عليه
ووجه إعطاء النبي قَمِيصَهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ مُبَيَّنٌ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ
قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ أُتِيَ بِأُسَارَى وَأُتِيَ بِالْعَبَّاسِ وَلَمْ(8/396)
يكن عليه ثوب فنظر النبي لَهُ قَمِيصًا فَوَجَدُوا قَمِيصَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي يقدر عليه
فكساه النبي إياه فلذلك نزع النبي قميصه الذي ألبسه
قال بن عُيَيْنَةَ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فَأَحَبَّ أَنْ يُكَافِئَهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (فَآذِنُونِي) مِنَ الْإِيذَانِ أَيْ أَعْلِمُونِي (أَلَيْسَ قَدْ نَهَى اللَّهُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ رَبُّكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ
قَالَ الْحَافِظُ كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِطْلَاقُ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ
وَقَدِ اسْتُشْكِلَ جِدًّا حَتَّى أَقْدَمَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ هَذَا وَهْمٌ مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ وَعَاكَسُهُ غَيْرُهُ فَزَعَمَ أَنَّ عُمَرَ اطَّلَعَ عَلَى نَهْيٍ خَاصٍّ فِي ذَلِكَ
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ لَعَلَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي خَاطِرِ عُمَرَ فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْإِلْهَامِ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَهِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يستغفروا للمشركين
قَالَ الثَّانِي يَعْنِي مَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ أَقْرَبُ مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمُ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تصل على أحد منهم وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ تَجَوُّزًا بَيَّنَتْهُ الرِّوَايَةُ الَّتِي فِي الْبَابِ بَعْدَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ فَقَالَ تُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُمْ
وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ والطبري من طريق الشعبي عن بن عُمَرَ عَنْ عُمَرَ قَالَ أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَأَخَذْتُ بِثَوْبِهِ فَقُلْتُ واللَّهِ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهَذَا لَقَدْ قَالَ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مرة فلن يغفر الله لهم ووقع عند بن مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ بن عَبَّاسٍ فَقَالَ عُمَرُ أَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ قَالَ أَيْنَ قَالَ وقال اسْتَغْفِرْ الْآيَةَ
وَهَذَا مِثْلُ رِوَايَةِ الْبَابِ فَكَأَنَّ عُمَرَ قَدْ فَهِمَ مِنَ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ مَا هُوَ الْأَكْثَرُ الْأَغْلَبُ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ مِنْ أَنَّ أَوْ لَيْسَتْ لِلتَّخْيِيرِ بَلْ لِلتَّسْوِيَةِ فِي عِلْمِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ أَيْ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ لَهُمْ وَعَدَمَ الِاسْتِغْفَارِ سَوَاءٌ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ(8/397)
لَكِنَّ الثَّانِيَةَ أَصْرَحُ
وَلِهَذَا وَرَدَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ الْقِصَّةِ
وَفَهِمَ عُمَرُ أَيْضًا مِنْ قوله سبعين مرة أَنَّهَا لِلْمُبَالَغَةِ وَأَنَّ الْعَدَدَ الْمُعَيَّنَ لَا مَفْهُومَ لَهُ بَلِ الْمُرَادُ نَفْيُ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ وَلَوْ كَثُرَ الِاسْتِغْفَارُ
فَيَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ النَّهْيُ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ فَأَطْلَقَهُ
وَفَهِمَ أَيْضًا أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ لِلْمَيِّتِ وَالشَّفَاعَةِ لَهُ فَلِذَلِكَ اسْتَلْزَمَ عِنْدَ النَّهْيِ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ تَرْكَ الصَّلَاةِ فَلِذَلِكَ جَاءَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِطْلَاقُ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ وَلِهَذِهِ الْأُمُورِ اسْتَنْكَرَ إِرَادَةَ الصَّلَاةِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ
هَذَا تَقْرِيرُ مَا صَدَرَ عَنْ عُمَرَ مَعَ مَا عُرِفَ مِنْ شِدَّةِ صَلَابَتِهِ فِي الدِّينِ وَكَثْرَةِ بُغْضِهِ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَهُوَ الْقَائِلُ فِي حَقِّ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ مَعَ مَا كَانَ لَهُ مِنَ الْفَضْلِ كَشُهُودِهِ بدرا وغير ذلك لكونه كاتب قريش قَبْلَ الْفَتْحِ
دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبُ عُنُقَهُ فَقَدْ نَافَقَ فَلِذَلِكَ أَقْدَمَ عَلَى كَلَامِهِ للنبي بِمَا قَالَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى احْتِمَالِ إِجْرَاءِ الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ لِمَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنَ الصَّلَابَةِ الْمَذْكُورَةِ
قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنَيِّرِ وَإِنَّمَا قال ذلك عمر حرصا على النبي وَمَشُورَةً لَا إِلْزَامًا وَلَهُ عَوَائِدُ بِذَلِكَ
تَنْبِيهٌ قال الخطابي إنما فعل النبي مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ مَا فَعَلَ لِكَمَالِ شَفَقَتِهِ عَلَى مَنْ تَعَلَّقَ بِطَرَفٍ مِنَ الدِّينِ
وَلِتَطْيِيبِ قَلْبِ وَلَدِهِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ وَلِتَأَلُّفِ قَوْمِهِ مِنَ الْخَزْرَجِ لِرِيَاسَتِهِ فِيهِمْ فَلَوْ لَمْ يُجِبْ سُؤَالَ ابْنِهِ وَتَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ قَبْلَ وُرُودِ النَّهْيِ الصَّرِيحِ لَكَانَ سُبَّةً عَلَى ابْنِهِ وَعَارًا عَلَى قَوْمِهِ وَاسْتَعْمَلَ أَحْسَنَ الْأَمْرَيْنِ فِي السِّيَاسَةِ إِلَى أَنْ نُهِيَ فَانْتَهَى
وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أبدا ولا تقم على قبره قال فذكر لنا أن نبي الله قَالَ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ قَمِيصِي مِنَ اللَّهِ وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يُسْلِمَ بِذَلِكَ أَلْفٌ مِنْ قَوْمِهِ (أَنَا بَيْنَ خِيرَتَيْنِ) تَثْنِيَةُ خِيَرَةٍ كَعِنَبَةٍ أَيْ أَنَا مُخَيَّرٌ بَيْنَ الِاسْتِغْفَارِ وَتَرْكِهِ (فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أبدا ولا تقم على قبره) لِدَفْنٍ أَوْ زِيَارَةٍ أَيْ لَا تَقِفْ عَلَيْهِ وَلَا تَتَوَلَّ دَفْنَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ قَامَ فُلَانٌ بِأَمْرِ فُلَانٍ إِذَا كَفَاهُ أَمْرَهُ وَنَابَ عَنْهُ فِيهِ وَتَمَامُ الْآيَةِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وماتوا وهم فاسقون وَهَذَا تَعْلِيلٌ لِسَبَبِ الْمَنْعِ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالْقِيَامِ عَلَى قَبْرِهِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ والنسائي وبن ماجه(8/398)
قَوْلُهُ (عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ) الْقُرَشِيِّ الْعَامِرِيِّ الْمَدَنِيِّ نَزَلَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ ثِقَةٌ مِنَ الْخَامِسَةِ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ تَمَارَى رَجُلَانِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ) عَلَى التَّقْوَى إِلَخْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ شَرْحِهِ فِي بَابِ الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَبْوَابِ الصَّلَاةِ
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ الْحَارِثِ) الثَّقَفِيُّ الطَّائِفِيُّ نَزِيلُ الْكُوفَةِ ضَعِيفٌ مِنَ السَّادِسَةِ (عن إبراهيم بن أبي ميمونة) الحجازي ذكره بن حبان في الثقات
وقال بن الْقَطَّانِ الْفَاسِيُّ مَجْهُولُ الْحَالِ
قَوْلُهُ (نَزَلَتْ هَذِهِ الاية) والمسار إِلَيْهَا فِيمَا بَعْدُ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَفِيهِ رِجَالٌ الْآيَةَ (فِي أَهْلِ قُبَاءَ) أَيْ فِي سَاكِنِيهِ وَقُبَاءُ بِضَمِّ الْقَافِ وَخِفَّةِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْمَمْدُودَةِ مَصْرُوفَةٌ وَفِيهِ لُغَةٌ بِالْقَصْرِ وَعَدَمِ الصَّرْفِ مَوْضِعٌ بميلين أو ثلاثة من المدينة
قال بن الْأَثِيرِ هُوَ بِمَدٍّ وَصَرْفٍ عَلَى الصَّحِيحِ (يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) أَيْ يُحِبُّونَ الطَّهَارَةَ بِالْمَاءِ فِي غَسْلِ الْأَدْبَارِ (قَالَ) أَيْ أَبُو هُرَيْرَةَ (كَانُوا) أَيْ أَهْلُ قُبَاءَ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وبن مَاجَهْ
قَالَ الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ سَنَدُهُ ضَعِيفٌ(8/399)
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ) أَمَّا حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ وَأَنَسِ بْنِ مالك فأخرجه بن مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سُفْيَانَ طَلْحَةُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو أَيُّوبَ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ قَالَهُ الْحَافِظُ
وَأَمَّا حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ فَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ قال لقد قدم رسول الله يَعْنِي قُبَاءَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَثْنَى عَلَيْكُمْ فِي الطَّهُورِ خَيْرًا أَفَلَا تُخْبِرُونِي يَعْنِي قَوْلَهُ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يتطهروا فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَجِدُهُ مَكْتُوبًا عَلَيْنَا فِي التَّوْرَاةِ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ
وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا بن أبي شيبة وبن قَانِعٍ وَفِي سَنَدِهِ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ
وَحَكَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ الْخِلَافَ فِيهِ عَلَى شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ
تَنْبِيهٌ روى الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيبٍ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَجَدْتُ فِي كِتَابِ أَبِي عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ بن عَبَّاسٍ قَالَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءَ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا واللَّهُ يُحِبُّ المتطهرين فسألهم رسول الله فَقَالُوا إِنَّا نُتْبِعُ الْحِجَارَةَ الْمَاءَ
قَالَ الْبَزَّارُ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ إِلَّا مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَلَا عَنْهُ إِلَّا ابْنُهُ انْتَهَى
وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ فَقَالَ لَيْسَ لَهُ وَلَا لِأَخَوَيْهِ عِمْرَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ حَدِيثٌ مُسْتَقِيمٌ
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيبٍ ضَعِيفٌ أَيْضًا
وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ من حديث مجاهد عن بن عَبَّاسٍ أَصْلَ هَذَا الْحَدِيثِ وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا ذِكْرُ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ فَحَسْبُ
وَلِهَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ
الْمَعْرُوفُ فِي طُرُقِ الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُمْ كانوا يجمعون بين الماء والأحجار وتبعه بن الرِّفْعَةِ فَقَالَ لَا يُوجَدُ هَذَا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَكَذَا قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ نَحْوَهُ وَرِوَايَةُ الْبَزَّارِ وَارِدَةٌ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةً كَذَا فِي التَّلْخِيصِ
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) هُوَ السَّبِيعِيُّ (عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ) اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بن الخليل أو بن أَبِي الْخَلِيلِ الْحَضْرَمِيُّ أَبُو الْخَلِيلِ الْكُوفِيُّ مَقْبُولٌ من الثانية
وفرق البخاري وبن حِبَّانَ بَيْنَ الرَّاوِي عَنْ عَلِيٍّ فَقَالَ فِيهِ بن أَبِي الْخَلِيلِ وَالرَّاوِي عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فقال فيه بن الخليل(8/400)
قوله (وهما مشركان) جملة حالية (أو ليس استغفر إبراهيم لأبيه) أي أتقول هذا وليس اسْتَغْفَرَ إِلَخْ (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أن يستغفروا للمشركين أَيْ لَا يَصِحُّ وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) وَتَمَامُ الْآيَةِ مَعَ تَفْسِيرِهَا هَكَذَا ولو كانوا أي المشركون أولي القربى أَيْ ذَوِي قَرَابَةٍ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لهم أنهم أصحاب الجحيم أَيِ النَّارِ بِأَنْ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وعدها إياه بِقَوْلِهِ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي رَجَاءَ أَنْ يُسْلِمَ فلما تبين له أنه عدو لله بموته على الكفر تبرأ منه وترك الاستغفار له إن إبراهيم لأواه كَثِيرُ التَّضَرُّعِ وَالدُّعَاءِ
حَلِيمٌ صَبُورٌ عَلَى الْأَذَى
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ
قَوْلُهُ (وفِي الْبَابِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ الله فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَقَالَ رسول الله لِأَبِي طَالِبٍ أَيْ عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عبد المطلب فقال النبي لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ فَنَزَلَتْ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم
قَالَ صَاحِبُ فَتْحِ الْبَيَانِ وَقَدْ رُوِيَ فِي سبب نزول الاية استغفار النبي لِأَبِي طَالِبٍ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَمَا فِيهِمَا مُقَدَّمٌ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا عَلَى فَرْضِ أَنَّهُ صَحِيحٌ فَكَيْفَ وَهُوَ ضَعِيفٌ غَالِبُهُ وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا ثبت عنه فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ كَسَرَ الْمُشْرِكُونَ رَبَاعِيَّتَهُ وَشَجُّوا وَجْهَهُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ تَحْرِيمُ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ وَعَلَى فَرْضِ أَنَّهُ قَدْ كَانَ بَلَغَهُ كَمَا يُفِيدُهُ سَبَبُ النُّزُولِ فَإِنَّهُ قَبْلَ أُحُدٍ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ
فَصُدُورُ هَذَا الِاسْتِغْفَارِ مِنْهُ إِنَّمَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ عَمَّنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ وَيَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ انتهى(8/401)
قَوْلُهُ (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) الْأَنْصَارِيِّ كُنْيَتُهُ أَبُو الْخَطَّابِ الْمَدَنِيِّ ثِقَةٌ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ وَيُقَالُ وُلِدَ فِي عَهْدِ النبي
قَوْلُهُ (حَتَّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ) مَكَانٌ مَعْرُوفٌ هُوَ نِصْفُ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ إِلَى دِمَشْقَ وَيُقَالُ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَبَيْنَهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَرْحَلَةً وَالْمَشْهُورُ فِيهَا عَدَمُ الصَّرْفِ لِلتَّأْنِيثِ وَالْعَلَمِيَّةِ وَمَنْ صَرَفَهَا أَرَادَ الْمَوْضِعَ وَكَانَتْ هَذِهِ الْغَزْوَةُ فِي شَهْرِ رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بلا خلاف (مغيثين لعيرهم) أي معينين لغيرهم مِنَ الْإِغَاثَةِ بِمَعْنَى الْإِعَانَةِ
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مُغَوِّثِينَ
قَالَ فِي النِّهَايَةِ جَاءَ بِهِ عَلَى الْأَصْلِ وَلَمْ يُعِلَّهُ كَاسْتَحْوَذَ وَاسْتَنْوَقَ وَلَوْ رُوِيَ مُغَوِّثِينَ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ غَوَّثَ بِمَعْنَى أَغَاثَ لَكَانَ وَجْهًا وَالْعِيرُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْإِبِلُ بِأَحْمَالِهَا وَقِيلَ هِيَ قَافِلَةُ الْحَمِيرِ فَكَثُرَتْ حَتَّى سُمِّيَتْ بِهَا كُلُّ قَافِلَةٍ (كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كان مفعولا (وَمَا أُحِبُّ أَنِّي كُنْتُ شَهِدْتُهَا مَكَانَ بَيْعَتِي لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ) أَيْ بَدَلَ بَيْعَتِي لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْبَيْعَةَ كَانَتْ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ وَمَنْشَأَهُ وليلة العقبة ليلة بايع فِيهَا الْأَنْصَارَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالنَّصْرِ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ لِيُؤْمِنُوا بِهِ وَيُؤْوُوهُ فَلَقِيَ رَهْطًا مِنَ الْخَزْرَجِ فَأَجَابُوهُ فَجَاءَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ اثْنَا عَشَرَ إِلَى الْمَوْسِمِ فَبَايَعُوهُ عِنْدَ الْعَقَبَةِ وَهِيَ بَيْعَةُ الْعَقَبَةِ الْأُولَى فَخَرَجَ فِي الْعَامِ الْآخَرِ سَبْعُونَ إِلَى الْحَجِّ فَاجْتَمَعُوا عِنْدَ الْعَقَبَةِ وَأَخْرَجُوا مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ نَقِيبًا فَبَايَعُوهُ وَهِيَ الْبَيْعَةُ الثَّانِيَةُ (حَيْثُ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ) بِمُثَلَّثَةٍ وَقَافٍ أَيْ أَخَذَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ الْمِيثَاقَ لَمَّا تَبَايَعْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ
وَالْمِيثَاقُ الْعَهْدُ وَأَصْلُهُ قَيْدٌ أَوْ حَبْلٌ يُشَدُّ بِهِ الْأَسِيرُ أَوِ الدَّابَّةُ (بَعْدُ) بِضَمِّ الدَّالِ أَيْ بَعْدَ غَزْوَةِ بدر (غزاها) الضمير المرفوع للنبي (وَآذَنَ) مِنَ الْإِيذَانِ أَيْ أَعْلَمَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ
رَوَى الْبُخَارِيُّ هَذَا(8/402)
الْحَدِيثَ بِطُولِهِ فِي بَابِ غَزْوَةِ تَبُوكَ (أَبْشِرْ يَا كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ بِخَيْرِ يَوْمٍ أَتَى عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ) اسْتُشْكِلَ هَذَا الْإِطْلَاقُ بِيَوْمِ إِسْلَامِهِ فَإِنَّهُ مَرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ وَلَدَتْهُ أَمَّهُ وَهُوَ خَيْرُ أَيَّامِهِ فَقِيلَ هُوَ مُسْتَثْنًى تَقْدِيرًا وَإِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ لِعَدَمِ خَفَائِهِ وَالْأَحْسَنُ فِي الْجَوَابِ أَنَّ يَوْمَ تَوْبَتِهِ مُكَمِّلٌ لِيَوْمِ إِسْلَامِهِ فَيَوْمُ إِسْلَامِهِ بِدَايَةُ سَعَادَتِهِ وَيَوْمُ تَوْبَتِهِ مُكَمِّلٌ لَهَا فَهُوَ خَيْرُ جَمِيعِ أَيَّامِهِ وَإِنْ كَانَ يَوْمُ إِسْلَامِهِ خَيْرَهَا فَيَوْمُ تَوْبَتِهِ الْمُضَافُ إِلَى إِسْلَامِهِ خَيْرٌ مِنْ يَوْمِ إِسْلَامِهِ الْمُجَرَّدِ عَنْهَا (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ) أَيْ أَدَامَ تَوْبَتَهُ (عَلَى النَّبِيِّ) فِيمَا وَقَعَ مِنْهُ مِنَ الْإِذْنِ فِي التَّخَلُّفِ أَوْ فِيمَا وَقَعَ مِنْهُ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ
وَلَيْسَ مِنْ لَازِمِ التَّوْبَةِ أَنْ يَسْبِقَ الذَّنْبُ مِمَّنْ وَقَعَتْ مِنْهُ أوله لِأَنَّ كُلَّ الْعِبَادِ مُحْتَاجٌ إِلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَقَدْ تَكُونُ التَّوْبَةُ مِنْهُ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ بَابِ أَنَّهُ تَرَكَ مَا هُوَ الْأَوْلَى وَالْأَلْيَقُ كَمَا فِي قَوْلِهِ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أذنت لهم ويجوز أن يكون ذكر النبي لِأَجْلِ التَّعْرِيضِ لِلْمُذْنِبِينَ بِأَنْ يَتَجَنَّبُوا الذُّنُوبَ وَيَتُوبُوا عَمَّا قَدْ لَابَسُوهُ مِنْهَا
قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي هُوَ مِفْتَاحُ كَلَامٍ لِلتَّبَرُّكِ وَفِيهِ تَشْرِيفٌ لَهُمْ في ضم توبتهم إلى توبة النبي كَمَا ضَمَّ اسْمَ الرَّسُولِ إِلَى اسْمِ اللَّهِ في قوله فإن لله خمسه وللرسول فهو تشريف له كذلك تَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى (الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ) فِيمَا قَدِ اقْتَرَفُوهُ مِنَ الذُّنُوبِ وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ماصح عنه مِنْ قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ
وَالْإِنْسَانُ لَا يَخْلُو مِنْ زَلَّاتٍ وَتَبِعَاتٍ فِي مُدَّةِ عُمُرِهِ إِمَّا مِنْ بَابِ الصَّغَائِرِ وَإِمَّا مِنْ بَابِ تَرْكِ الْأَفْضَلِ ثَمَّ وَصَفَ سبحانه المهاجرين والأنصار بأنهم (الذين اتبعوه) أي النبي فلم يتخلفوا عنه (في ساعة العسرة) هِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِيهَا فِي عُسْرَةٍ شَدِيدَةٍ وَتُسَمَّى غَزْوَةَ الْعُسْرَةِ وَالْجَيْشُ الَّذِي سَارَ يُسَمَّى جَيْشَ الْعُسْرَةِ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمْ عسرة في الزاد والظهر والماء
وأخرج بن حبان والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن بن عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حَدِّثْنَا مِنْ شَأْنِ سَاعَةِ الْعُسْرَةِ فَقَالَ خَرَجْنَا مَعَ رسول الله إِلَى تَبُوكَ فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَأَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رِقَابَنَا سَتَنْقَطِعُ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ(8/403)
فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبَهُ وَيَجْعَلَ مَا بَقِيَ عَلَى كيده فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ عَوَّدَكَ فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا فَادْعُ لَنَا فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمْ يَرْجِعْهُمَا حَتَّى قالت السماء فأهطلت ثم سكبت فملأوا مَا مَعَهُمْ ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُرُ فَلَمْ نَجِدْهَا جَاوَزَتِ الْعَسْكَرَ (مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قلوب فريق منهم) فِي كَادَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ بَيَانٌ لِتَنَاهِي الشِّدَّةِ وَبُلُوغِهَا النِّهَايَةَ وَمَعْنَى يَزِيغُ يَتْلَفُ بِالْجَهْدِ وَالْمَشَقَّةِ وَالشِّدَّةِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ يَمِيلُ عَنِ الْحَقِّ وَيَتْرُكُ الْمُنَاصَرَةَ وَالْمُمَانَعَةَ وَقِيلَ مَعْنَاهُ يَهِمُّ بِالتَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ لِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ الْعَظِيمَةِ
وفي قراءة بن مَسْعُودٍ مِنْ بَعْدِ مَا زَاغَتْ وَهُمُ الْمُتَخَلِّفُونَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَفِي تَكْرِيرِ التَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ بقوله (ثم تاب عليهم) تَأْكِيدٌ ظَاهِرٌ وَاعْتِنَاءٌ بِشَأْنِهَا هَذَا إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ التَّوْبَةِ عَنْهُمْ وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ إِلَى الْفَرِيقِ الثَّانِي فلا تكرار وذكر التوبة إو لا قَبْلَ ذِكْرِ الذَّنْبِ تَفَضُّلًا مِنْهُ وَتَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ ثُمَّ ذَكَرَ الذَّنْبَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَرْدَفَهُ بِذِكْرِ التَّوْبَةِ مَرَّةً أُخْرَى تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِمْ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ قَبِلَ تَوْبَتَهُمْ وَعَفَا عَنْهُمْ ثُمَّ أتبعه بقوله (إنه بهم رؤوف رحيم) تَأْكِيدًا لِذَلِكَ أَيْ رَفِيقٌ بِعِبَادِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُحَمِّلْهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَبَيْنَ الرؤف وَالرَّحِيمِ فَرْقٌ لَطِيفٌ وَإِنْ تَقَارَبَا فِي الْمَعْنَى
قَالَ الْخَطَّابِيُّ قَدْ تَكُونُ الرَّحْمَةُ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَلَا تَكَادُ الرَّأْفَةُ تَكُونُ مَعَهَا وَقِيلَ الرَّأْفَةُ عِبَارَةٌ عَنِ السَّعْيِ فِي إِزَالَةِ الضَّرَرِ وَالرَّحْمَةُ عِبَارَةٌ عَنِ السَّعْيِ فِي إِيصَالِ النَّفْعِ
هَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الْأُولَى مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَلَاهَا رسول الله وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ مَعَ تَفْسِيرِهَا هَكَذَا وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الذين خلفوا أَيْ أُخِّرُوا وَلَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُمْ فِي الْحَالِ كَمَا قُبِلَتْ تَوْبَةُ أُولَئِكَ الْمُتَخَلِّفِينَ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ هُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَمَرَارَةُ بن الربيع أو بن رَبِيعَةَ الْعَامِرِيُّ وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ وَكُلُّهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ لَمْ يَقْبَلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْبَتَهُمْ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ بِأَنَّ الله قد تاب عليهم حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ التَّحَيُّرِ وَعَدَمِ الِاطْمِئْنَانِ يَعْنِي أَنَّهُمْ أُخِّرُوا عَنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ وَهِيَ وَقْتُ أَنْ ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِرَحْبِهَا لِإِعْرَاضِ النَّاسِ عَنْهُمْ وَعَدَمِ مُكَالَمَتِهِمْ مِنْ كل أحد لأن النبي نَهَى النَّاسَ أَنْ يُكَالِمُوهُمْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ أَيْ أَنَّهَا ضَاقَتْ صُدُورُهُمْ بِمَا نَالَهُمْ مِنَ الْوَحْشَةِ وَبِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْجَفْوَةِ وَشِدَّةِ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ وَظَنُّوا أَيْ عَلِمُوا وَأَيْقَنُوا أَنْ لا ملجأ من الله أَيْ مِنْ عَذَابِهِ أَوْ مِنْ سَخَطِهِ إِلَّا إِلَيْهِ أَيْ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ ثُمَّ تَابَ أَيْ رَجَعَ عَلَيْهِمْ بِالْقَبُولِ وَالرَّحْمَةِ وَأَنْزَلَ فِي الْقُرْآنِ التَّوْبَةَ عَلَيْهِمْ لِيَسْتَقِيمُوا أَوْ وَفَّقَهُمْ لِلتَّوْبَةِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ إِنْ فَرَطَتْ مِنْهُمْ خَطِيئَةٌ لِيَتُوبُوا عَنْهَا وَيَرْجِعُوا فِيهَا إِلَى اللَّهِ وَيَنْدَمُوا عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُمْ وَيُحَصِّلُوا التَّوْبَةَ وَيُنْشِئُوهَا فَحَصَلَ التَّغَايُرُ وَصَحَّ التَّعْلِيلُ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ أَيِ الْكَثِيرُ الْقَبُولِ لِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ الرَّحِيمُ أي الكثير(8/404)
الرَّحْمَةِ لِمَنْ طَلَبَهَا مِنْ عِبَادِهِ
(قَالَ) أَيْ كَعْبُ بْنُ مَالِكَ (وَفِينَا) أَيْ فِي الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا (أُنْزِلَتْ أَيْضًا) اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مع الصادقين يعني مع من صدق النبي وَأَصْحَابَهُ فِي الْغَزَوَاتِ وَلَا تَكُونُوا مَعَ الْمُتَخَلِّفِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَعَدُوا فِي الْبُيُوتِ وَتَرَكُوا الْغَزْوَ (إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي) أَيْ مِنْ شُكْرِ تَوْبَتِي (أَنْ لَا أُحَدِّثَ إِلَّا صِدْقًا) زَادَ الْبُخَارِيُّ مَا بَقِيتُ (وَأَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ) أَيْ أَخْرُجَ مِنْ جَمِيعِ مَالِي (صَدَقَةً) هُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ مُتَصَدِّقًا أَوْ ضَمَّنَ الْخَلْعَ مَعْنَى أَتَصَدَّقُ وَهُوَ مَصْدَرٌ أَيْضًا (أَبْلَى أَحَدًا) أَيْ أَنْعَمَ عَلَى أَحَدٍ
وَحَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ هَذَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي عَشْرَةِ مَوَاضِعَ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا فِي الْوَصَايَا وفي الجهاد وفي صفة النبي وَفِي وُفُودِ الْأَنْصَارِ وَفِي مَوْضِعَيْنِ مِنَ الْمَغَازِي وَفِي مَوْضِعَيْنِ مِنَ التَّفْسِيرِ وَفِي الِاسْتِئْذَانِ وَفِي الْأَحْكَامِ
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي التَّوْبَةِ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ فِي الطَّلَاقِ
قَوْلُهُ (بَعَثَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ) أَيْ أَرْسَلَ إِلَيَّ رَجُلًا
قَالَ الْحَافِظُ لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ(8/405)
الرَّسُولِ إِلَيْهِ بِذَلِكَ (مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ) نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ أَيْ عَقِبَ قَتْلِ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَالْيَمَامَةُ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَخِفَّةِ الْمِيمِ اسْمُ مَدِينَةٍ بِالْيَمَنِ وَكَانَ مَقْتَلُهُمْ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْيَمَامَةِ هُنَا مَنْ قُتِلَ بِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ فِي الْوَقْعَةِ مَعَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَكَانَ مِنْ شَأْنِهَا أَنَّ مُسَيْلِمَةَ ادَّعَى النبوة وقوى أمره بعد موت النبي بِارْتِدَادِ كَثِيرٍ مِنَ الْعَرَبِ فَجَهَّزَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَحَارَبُوهُ أَشَدَّ مُحَارَبَةٍ إِلَى أَنْ خَذَلَهُ اللَّهُ وَقَتَلَهُ وَقُتِلَ فِي غُضُونِ ذَلِكَ مِنَ الصَّحَابَةِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ قِيلَ سَبْعُمِائَةٍ وَقِيلَ أَكْثَرُ (فَإِذَا عُمَرُ) كَلِمَةُ إِذَا لِلْمُفَاجَأَةِ (عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ أبي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَدِ اسْتَحَرَّ) بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ وَمُثَنَّاةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا حَاءٌ مُهْمَلَةٌ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ رَاءٍ ثَقِيلَةٍ أَيِ اشْتَدَّ وَكَثُرَ وَهُوَ اسْتَفْعَلَ مِنَ الْحَرِّ لِأَنَّ الْمَكْرُوهَ غَالِبًا يُضَافُ إِلَى الْحَرِّ كَمَا أَنَّ الْمَحْبُوبَ يُضَافُ إِلَى الْبَرْدِ يَقُولُونَ أسخن الله عينه وأقرعينه (وَإِنِّي لَأَخْشَى) بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُؤَكَّدَةِ بِلَامِ التَّأْكِيدِ أَيْ لَأَخَافُ (أَنْ يَسْتَحِرَّ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ (فِي الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا) أَيِ الْأَمَاكِنِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الْقِتَالُ مَعَ الْكُفَّارِ (فَيَذْهَبَ قُرْآنٌ كَثِيرٌ) بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى يَسْتَحِرَّ
قَالَ الْحَافِظُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ قُتِلَ فِي وَقْعَةِ الْيَمَامَةِ كَانَ قَدْ حَفِظَ الْقُرْآنَ لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ مَجْمُوعَهُمْ جَمَعَهُ لَا أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ جَمَعَهُ (كَيْفَ أَفْعَلُ شيئا لم يفعله رسول الله)
قال الخطابي وغيره يحتمل أن يكون إِنَّمَا لَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنَ فِي الْمُصْحَفِ لَمَّا كان يترقبه مِنْ وُرُودِ نَاسِخٍ لِبَعْضِ أَحْكَامِهِ أَوْ تِلَاوَتِهِ فلما انقضى نزوله بوفاته أَلْهَمَ اللَّهُ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ ذَلِكَ وَفَاءً لِوَعْدِهِ الصَّادِقِ بِضَمَانِ حِفْظِهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ زَادَهَا اللَّهُ شَرَفًا فَكَانَ ابْتِدَاءُ ذَلِكَ عَلَى يَدِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَشُورَةِ عُمَرَ
ويؤيده ما أخرجه بن أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَصَاحِفِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ قَالَ سَمِعْتَ عَلِيًّا(8/406)
يَقُولُ أَعْظَمُ النَّاسِ فِي الْمَصَاحِفِ أَجْرًا أَبُو بَكْرٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ هُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ كِتَابَ اللَّهِ
وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قال رسول الله لَا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ الْحَدِيثَ
فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي كِتَابَةٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ
وَقَدْ كَانَ الْقُرْآنُ كله كتب في عهد النبي لَكِنْ غَيْرَ مَجْمُوعٍ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَلَا مرتب السور
وأما ما أخرجه بن أبي داود وفي المصاحف من طريق بن سِيرِينَ قَالَ قَالَ عَلِيٌّ لَمَّا مَاتَ رَسُولُ الله آلَيْتَ أَنْ آخُذَ عَلَيَّ رِدَائِي إِلَّا لِصَلَاةِ جُمْعَةٍ حَتَّى أَجْمَعَ الْقُرْآنَ فَجَمَعَهُ فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ لِانْقِطَاعِهِ
وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا فَمُرَادُهُ بِجَمْعِهِ حِفْظُهُ فِي صَدْرِهِ
قَالَ وَالَّذِي وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ حَتَّى جَمَعْتُهُ بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ وَهْمٌ مِنْ رَاوِيهِ
قَالَ الْحَافِظُ وَرِوَايَةُ عَبْدِ خَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ يَعْنِي الَّتِي تَقَدَّمَتْ آنِفًا أصح فهو المعتمد
ووقع عند بن أَبِي دَاوُدَ أَيْضًا بَيَانُ السَّبَبِ فِي إِشَارَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِذَلِكَ
فَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقِيلَ كَانَتْ مَعَ فُلَانٍ فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ فَقَالَ إِنَّا لِلَّهِ وَأَمَرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ جَمَعَهُ فِي الْمُصْحَفِ وَهَذَا مُنْقَطِعٌ فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا حُمِلَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ جَمَعَهُ أَيْ أَشَارَ بِجَمْعِهِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ فَنُسِبَ الْجَمْعُ إِلَيْهِ لِذَلِكَ (قَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّكَ شَابٌّ عَاقِلٌ لَا نَتَّهِمُكَ قَدْ كُنْتَ تكتب لرسول الله الْوَحْيَ) ذكَرَ لَهُ أَرْبَعَ صِفَاتٍ مُقْتَضِيَةٍ خُصُوصِيَّتَهُ بِذَلِكَ كَوْنُهُ شَابًّا فَيَكُونُ أَنْشَطَ لِمَا يُطْلَبُ مِنْهُ
وَكَوْنُهُ عَاقِلًا فَيَكُونُ أَوْعَى لَهُ
وَكَوْنه لَا يُتَّهَمُ فَتَرْكَنُ النَّفْسُ إِلَيْهِ
وَكَوْنُهُ كَانَ يَكْتُبُ الْوَحْيَ فَيَكُونُ أَكْثَرَ مُمَارَسَةً لَهُ وَهَذِهِ الصِّفَاتُ الَّتِي اجْتَمَعَتْ لَهُ قَدْ تُوجَدُ فِي غَيْرِهِ لَكِنْ مُفَرَّقَةً (فَواللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِنْ ذَلِكَ) أَيْ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ
قَالَ الْحَافِظُ كَأَنَّهُ جُمِعَ أَوَّلًا بِاعْتِبَارِ أَبِي بَكْرٍ وَمَنْ وَافَقَهُ وَأَفْرَدَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ الْآمِرُ وَحْدَهُ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ذَلِكَ لِمَا خَشِيَهُ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي إِحْصَاءِ مَا أُمِرَ بِجَمْعِهِ لَكِنِ اللَّهُ تَعَالَى يَسَّرَ لَهُ ذَلِكَ (فَتَتَبَّعْتَ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ) حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ أَيْ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي عِنْدِي وعند(8/407)
غَيْرِي (مِنَ الرِّقَاعِ) جَمْعُ رُقْعَةٍ وَقَدْ تَكُونُ مِنْ جِلْدٍ أَوْ وَرَقٍ أَوْ كَاغَدٍ
وَفِي رِوَايَةٍ وَقِطَعِ الْأَدِيمِ (وَالْعُسُبِ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَتَيْنِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ جَمْعُ عَسِيبٍ وَهُوَ جَرِيدُ النَّخْلِ كَانُوا يَكْشِطُونَ الْخُوصَ وَيَكْتُبُونَ فِي الظَّرْفِ الْعَرِيضِ وَقِيلَ الْعَسِيبُ طَرَفُ الْجَرِيدَةِ الْعَرِيضُ وَقِيلَ الْعَسِيبُ طَرَفُ الْجَرِيدَةِ الْعَرِيضُ الَّذِي لَمْ يَنْبُتْ عَلَيْهِ الْخُوصُ وَالَّذِي يَنْبُتُ عَلَيْهِ الْخُوصُ هُوَ السَّعَفُ (وَاللِّخَافِ) بكسر اللام ثم حاء مُعْجَمَةٍ خَفِيفَةٍ وَآخِرُهُ فَاءٌ وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْبِيضُ الرِّقَاقُ وَاحِدَتُهَا لَخْفَةٌ بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وعند بن أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَصَاحِفِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ قَالَ قَامَ عُمَرُ فَقَالَ مَنْ كَانَ تَلَقَّى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ فَلْيَأْتِ بِهِ وَكَانُوا يَكْتُبُونَ ذَلِكَ فِي الصُّحُفِ وَالْأَلْوَاحِ وَالْعُسُبِ قَالَ وَكَانَ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَيْدًا كَانَ لَا يَكْتَفِي بِمُجَرَّدِ وِجْدَانِهِ مَكْتُوبًا حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ مَنْ تَلَقَّاهُ سَمَاعًا مَعَ كَوْنِ زَيْدٍ كَانَ يَحْفَظُهُ وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي الاحتياط
وعند بن أَبِي دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لِعُمَرَ وَلِزَيْدٍ اقْعُدَا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَمَنْ جَاءَكُمَا بِشَاهِدَيْنِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَاكْتُبَاهُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ مَعَ انْقِطَاعِهِ وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّاهِدَيْنِ الْحِفْظُ وَالْكِتَابُ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَكْتُوبَ كُتِبَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ الله أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ وَكَانَ غَرَضُهُمْ أَنْ لَا يُكْتَبَ إِلَّا مِنْ عَيْنِ ما كتب بين يدي النبي لَا مِنْ مُجَرَّدِ الْحِفْظِ (وَصُدُورِ الرِّجَالِ) أَيِ الْحُفَّاظِ مِنْهُمْ أَيْ حَيْثُ لَا أَجِدُ ذَلِكَ مكتوبا أو الواو بِمَعْنَى مَعَ أَيِ اكْتُبْهُ مِنَ الْمَكْتُوبِ الْمُوَافِقِ لِلْمَحْفُوظِ فِي الصُّدُورِ (فَوَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ بَرَاءَةٌ مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ
قَالَ الْحَافِظُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ
وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطبراني في مسند الشاميين من طريق أبي الْيَمَانِ عَنْ شُعَيْبٍ فَقَالَ فِيهِ خُزَيْمَةَ بْنُ ثابت الأنصاري
وكذا أخرجه بن أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عن بن شِهَابٍ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ أَصَحُّ
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ وَأَنَّ الَّذِي وُجِدَ مَعَهُ آخِرُ سُورَةِ التَّوْبَةِ غَيْرُ الَّذِي وُجِدَ مَعَهُ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْأَحْزَابِ(8/408)
فَالْأَوَّلُ اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِيهِ عَلَى الزُّهْرِيِّ فَمَنْ قَائِلٌ مَعَ خُزَيْمَةَ وَمَنْ قَائِلٌ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ وَمِنْ شَاكٍّ فِيهِ يَقُولُ خُزَيْمَةُ أَوْ أَبِي خُزَيْمَةَ
وَالْأَرْجَحُ أَنَّ الَّذِي وُجِدَ مَعَهُ آخِرُ سُورَةِ التَّوْبَةِ أَبُو خُزَيْمَةَ بِالْكُنْيَةِ وَالَّذِي وُجِدَ مَعَهُ الْآيَةُ مِنَ الْأَحْزَابِ خُزَيْمَةُ وَأَبُو خزيمة قيل هو بن أَوْسِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ أَصْرَمَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ دون اسمه وقيل هو الحرث بن خزيمة وأما خزيمة فهو بن ثَابِتٍ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ صَرِيحًا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ انْتَهَى (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنفسكم) أَيْ مِنْ جِنْسِكُمْ فِي كَوْنِهِ عَرَبِيًّا قُرَشِيًّا مِثْلَكُمْ تَعْرِفُونَ نَسَبَهُ وَحَسَبَهُ وَأَنَّهُ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ لَا مِنَ الْعَجَمِ وَلَا مِنَ الْجِنِّ وَلَا مِنَ الْمَلَكِ
وَالْخِطَابُ لِلْعَرَبِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ
وَقَالَ الزَّجَّاجُ هِيَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ (عزيز عليه ما عنتم) مَا مَصْدَرِيَّةٌ وَالْعَنَتُ التَّعَبُ وَالْمَشَقَّةُ
وَالْمَعْنَى شَدِيدٌ وشاق عليه عنتكم ومشقتكم ولقاءكم المكروه (حريص عليكم) أي على إيمانكم وهدايتكم (بالمؤمنين رؤوف رحيم) أَيْ شَدِيدُ الرَّحْمَةِ (فَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ أَعْرَضُوا عن الإيمان بك (فقل حسبي الله) أَيْ يَكْفِينِي وَيَنْصُرُنِي (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أَيِ الْمُتَفَرِّدُ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ كَالدَّلِيلِ لِمَا قَبْلَهَا (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أَيْ بِهِ وَثَقْتُ لا بغيره (وهو رب العرش العظيم) وَصَفَهُ بِالْعِظَمِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بالجر على أنه صفة العرش وقرىء بالرفع صفة لرب ورويت هذه القراءة عن بن كَثِيرٍ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَعْجَبُ إِلَيَّ لِأَنَّ جَعْلَ الْعَظِيمِ صِفَةً لِلرَّبِّ أولى من جعله صفة للعرش قال بن عَبَّاسٍ إِنَّمَا سُمِّيَ الْعَرْشُ عَرْشًا لِارْتِفَاعِهِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ والنسائي
قوله (أن حذيفة) هو بن الْيَمَانِ (وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّامِ فِي فَتْحِ إِرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ) أَيْ كَانَ عُثْمَانُ يُجَهِّزُ أَهْلَ الشَّامِ وَأَهْلَ الْعِرَاقِ لِغَزْوِ إِرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ وَفَتْحِهِمَا
قَالَ الْحَافِظُ إِنَّ إِرْمِينِيَّةَ فتحت في خلافه عثمان وكان أميرا لعسكر مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيُّ وَكَانَ عُثْمَانُ أَمَرَ أَهْلَ الشَّامِ وَأَهْلَ الْعِرَاقِ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى ذَلِكَ وَكَانَ(8/409)
أَمِيرَ أَهْلِ الشَّامِ عَلَى ذَلِكَ الْعَسْكَرِ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيُّ وَكَانَ حُذَيْفَةُ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ غَزَا مَعَهُمْ وَكَانَ هُوَ عَلَى أَهْلِ الْمَدَائِنِ وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ أَعْمَالِ الْعِرَاقِ انْتَهَى
وَإِرْمِينِيَّةُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ نُونٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ تحتانية مفتوحة خفيفة وقد تثقل
وقال بن السَّمْعَانِيِّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ هِيَ بلد معروف يضم كورا كثيرة
وقال الرشاطي افْتُتِحَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى يَدِ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ
وَأَذْرَبِيجَانُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَقِيلَ بِسُكُونِ الذَّالِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَبِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ جِيمٌ خَفِيفَةٌ وآخره نون
وحكى بن مَكِّيٍّ كَسْرَ أَوَّلِهِ وَضَبَطَهَا صَاحِبُ الْمَطَالِعِ وَنَقَلَهُ عن بن الْأَعْرَابِيِّ بِسُكُونِ الذَّالِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بَلَدٌ كَبِيرٌ مِنْ نَوَاحِي جِبَالِ الْعِرَاقِ وَهِيَ الْآنَ تَبْرِيزٌ وَقَصَبَاتُهَا وَهِيَ تَلِي إِرْمِينِيَّةَ مِنْ جِهَةِ غَرْبِيِّهَا وَاتُّفِقَ غَزْوُهُمَا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَاجْتَمَعَ فِي غَزْوَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا أَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ وَالْمَذْكُورُ فِي ضَبْطِ أَذْرَبِيجَانَ هُوَ الْمَشْهُورُ وَقَدْ تُمَدُّ الْهَمْزَةُ وَقَدْ تُحْذَفُ وَقَدْ تُفْتَحُ الْمُوَحَّدَةُ وَقِيلَ فِي ضَبْطِهَا غَيْرُ ذَلِكَ (فَرَأَى حُذَيْفَةُ اخْتِلَافَهُمْ فِي الْقُرْآنِ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فَأَفْزَعَ حذيفة اختلافهم في القراءة
وذكر الحافظ ها هنا رِوَايَاتٍ تُوَضِّحُ مَا كَانَ فِيهِمْ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي الْقِرَاءَةِ فَفِي رِوَايَةٍ يَتَنَازَعُونَ فِي الْقُرْآنِ حَتَّى سَمِعَ حُذَيْفَةُ مِنَ اخْتِلَافِهِمْ مَا ذَعَرَهُ
وَفِي رِوَايَةٍ فَتَذَاكَرُوا الْقُرْآنَ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ حَتَّى كان يَكُونُ بَيْنَهُمْ فِتْنَةٌ
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ حُذَيْفَةَ قَدِمَ مِنْ غَزْوَةٍ فَلَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهُ حَتَّى أَتَى عُثْمَانَ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنَينَ أَدْرِكِ النَّاسَ قَالَ وَمَا ذَاكَ قَالَ غَزَوْتُ فَرْجَ أرمينية فإذا أهل الشام يقرؤون بِقِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَيَأْتُونَ بِمَا لَمْ يسمع أهل العراق وإذا أهل العراق يقرؤون بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَيَأْتُونَ بِمَا لَمْ يَسْمَعْ أَهْلُ الشَّامِ فَيُكَفِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودِ وَسَمِعَ آخَرَ يَقُولُ قِرَاءَةُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فَغَضِبَ ثُمَّ قَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ هَكَذَا كَانَ مَنْ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا واللَّهِ لَأَرْكَبَنَّ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنَينَ
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ اثْنَيْنِ اخْتَلَفَا فِي آيَةٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَرَأَ هَذَا وأتموا الحج والعمرة لله وَقَرَأَ هَذَا وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلْبَيْتِ فَغَضِبَ حُذَيْفَةُ وَاحْمَرَّتْ عَيْنَاهُ
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ حُذَيْفَةُ يقول أهل الكوفة قراءة بن مَسْعُودٍ وَيَقُولُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ قِرَاءَةُ أَبِي مُوسَى واللَّهِ لَئِنْ قَدِمْتَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنَينَ لَأَمَرْتُهُ أَنْ يَجْعَلَهَا قِرَاءَةً وَاحِدَةً (أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ) أمر من(8/410)
الْإِدْرَاكِ بِمَعْنَى التَّدَارُكِ (فَأَرْسَلَ) أَيْ عُثْمَانُ (إِلَى حفصة أن أرسلي النبأ بالصحف) وكانت الصحف بعد ما جَمَعَ الْقُرْآنَ أَبُو بَكْرٍ عِنْدَهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ (نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدَّهَا إِلَيْكَ) أَيْ نَنْقُلُهَا وَالْمَصَاحِفُ جَمْعُ الْمُصْحَفِ بِضَمِّ الْمِيمِ
قَالَ الْحَافِظُ الْفَرْقُ بَيْنَ الصُّحُفِ وَالْمُصْحَفِ أَنَّ الصُّحُفَ الْأَوْرَاقَ الْمُجَرَّدَةَ الَّتِي جُمِعَ فِيهَا الْقُرْآنُ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ كَانَتْ سُوَرًا مُفَرَّقَةً كُلُّ سُورَةٍ مُرَتَّبَةٍ بِآيَاتِهَا عَلَى حِدَةٍ وَلَكِنْ لَمْ يُرَتَّبْ بَعْضُهَا إِثْرَ بَعْضٍ فَلَمَّا نُسِخَتْ وَرُتِّبَ بَعْضُهَا إِثْرَ بَعْضٍ صَارَتْ مُصْحَفًا انْتَهَى
(فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنِ انْسَخُوا الصُّحُفَ) أَيِ انْقُلُوا مَا فِيهَا
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فَأَمَرَ مَكَانَ فَأَرْسَلَ
وَقَدْ جَاءَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بعد أن استشار الصحابة فأخرج بن أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ
قَالَ عَلِيٌّ لَا تَقُولُوا فِي عُثْمَانَ إِلَّا خَيْرًا فَواللَّهِ مَا فَعَلَ الَّذِي فَعَلَ فِي الْمَصَاحِفِ إِلَّا عَنْ مَلَأٍ مِنَّا قَالَ مَا تَقُولُونَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ إِنَّ قِرَاءَتِي خَيْرٌ مِنْ قِرَاءَتِك وَهَذَا يَكَادُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا
قُلْنَا فَمَا تَرَى قَالَ نَرَى أَنْ نَجْمَعَ النَّاسَ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ فَلَا تَكُونُ فُرْقَةٌ وَلَا اخْتِلَافٌ
قُلْنَا فَنِعْمَ مَا رَأَيْتَ (وَقَالَ) أَيْ عُثْمَانُ (لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَةِ) يَعْنِي سَعِيدًا وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ وَعَبْدَ اللَّهِ لِأَنَّ سَعِيدًا أُمَوِيٌّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مَخْزُومِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ أَسَدِيٌّ وَكُلُّهَا مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ (فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ) أَيْ بلسان قريش
قال القاضي بن أبو بَكْرِ بْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ مَعْنَى قَوْلِ عُثْمَانَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ أَيْ مُعْظَمُهُ وَأَنَّهُ لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَإِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّا جَعَلْنَاهُ قرآنا عربيا أَنَّهُ نَزَلَ بِجَمِيعِ أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ وَمَنْ زَعَمَ أنه أراد مضر درن رَبِيعَةَ أَوْ هُمَا دُونَ(8/411)
الْيَمَنِ أَوْ قُرَيْشًا دُونَ غَيْرِهِمْ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ لِأَنَّ اسْمَ الْعَرَبِ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ تَنَاوُلًا وَاحِدًا ولو ساغت هذه الدعوى لساغ للآخران
ويقول نَزَلَ بِلِسَانِ بَنِي هَاشِمٍ مَثَلًا لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ إلى النبي نَسَبًا مِنْ سَائِرِ قُرَيْشٍ (إِلَى كُلِّ أُفُقٍ) بِضَمَّتَيْنِ أَيْ طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ الْآفَاقِ (بِمُصْحَفٍ مِنْ تِلْكَ الْمَصَاحِفِ الَّتِي نَسَخُوا) زَادَ الْبُخَارِيُّ وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صحيفة أو مصحف أن يحرق
قال بن بَطَّالٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ تَحْرِيقِ الْكُتُبِ الَّتِي فِيهَا اسْمُ اللَّهِ بِالنَّارِ وَأَنَّ ذَلِكَ إِكْرَامٌ لَهَا وَصَوْنٌ عَنْ وَطْئِهَا بِالْأَقْدَامِ
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ أَنَّهُ كَانَ يُحْرِقُ الرَّسَائِلَ الَّتِي فِيهَا الْبَسْمَلَةُ إِذَا اجْتَمَعَتْ وَكَذَا فَعَلَ عُرْوَةُ وَكَرِهَهُ إِبْرَاهِيمُ
وَقَالَ بن عَطِيَّةَ الرِّوَايَةُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَصَحُّ وَهَذَا الْحُكْمُ هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ
وَأَمَّا الْآنَ فَالْغَسْلُ أَوْلَى لِمَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى إِزَالَتِهِ هَكَذَا فِي الْفَتْحِ
وَقَالَ الْعَيْنِيُّ قَالَ أَصْحَابُنَا الْحَنَفِيَّةُ إِنَّ الْمُصْحَفَ إِذَا بَلِيَ بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ يُدْفَنُ فِي مَكَانٍ طَاهِرٍ بعيد عن وطىء النَّاسِ
قُلْتُ لَوْ تَأَمَّلْتَ عَرَفْتَ أَنَّ الِاحْتِيَاطَ هُوَ فِي الْإِحْرَاقِ دُونَ الدَّفْنِ وَلِهَذَا اخْتَارَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ دُونَ هَذَا واللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَوْلُهُ (قَالَ الزُّهْرِيُّ وَحَدَّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ إِلَخْ) هَذَا مَوْصُولٌ إِلَى الزُّهْرِيِّ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ
قَوْلُهُ (مِنَ الْمُؤْمِنَينَ رِجَالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه) من الثبات مع النبي (فمنهم من قضى نحبه) مَاتَ أَوْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (وَمِنْهُمْ من ينتظر) ذَلِكَ (فَوَجَدْتُهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ أَوْ أَبِي خُزَيْمَةَ) كَذَا فِي هَذَا الْكِتَابِ بِالشَّكِّ
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ إِلَّا مَعَ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ بِغَيْرِ شَكٍّ (فَأَلْحَقْتُهَا فِي سُورَتِهَا) فِيهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ اكْتَفَى بِخُزَيْمَةَ وَحْدَهُ وَالْقُرْآنُ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِالتَّوَاتُرِ والذي يظهر(8/412)
في الجواب أن الذي أشار إليه أن فَقَدَهُ فَقْدُ وُجُودِهَا مَكْتُوبَةً لَا فَقْدُ وُجُودِهَا مَحْفُوظَةً بَلْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً عِنْدَهُ وَعِنْدَ غَيْرِهِ
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَمْعِ الْقُرْآنِ فَأَخَذْتُ أَتَتَبَّعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ وَالْعَسْبِ
قَوْلُهُ (قَالَ الزُّهْرِيُّ فَاخْتَلَفُوا يَوْمَئِذٍ فِي التَّابُوتِ وَالتَّابُوهِ) أَيْ هَلْ هُوَ بِالتَّاءِ أَوْ بِالْهَاءِ (فَقَالَ الْقُرَشِيُّونَ التَّابُوتُ) أَيْ بِالتَّاءِ (وَقَالَ زَيْدٌ التَّابُوهُ) أَيْ بِالْهَاءِ (اكْتُبُوهُ التَّابُوتُ) أَيْ بِالتَّاءِ
قَوْلُهُ (إن عبد الله بن مسعود ذكره لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ نَسْخَ الْمَصَاحِفِ إِلَخْ) الْعُذْرُ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ فَعَلَهُ بِالْمَدِينَةِ وَعَبْدُ اللَّهِ بِالْكُوفَةِ وَلَمْ يُؤَخِّرْ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ وَيَحْضُرَ
وَأَيْضًا فَإِنَّ عُثْمَانَ أَرَادَ نَسْخَ الصُّحُفِ الَّتِي كَانَتْ جُمِعَتْ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَأَنْ يَجْعَلَهَا مُصْحَفًا وَاحِدًا وَكَانَ الَّذِي نَسَخَ ذَلِكَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ هُوَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ لِكَوْنِهِ كَاتِبَ الْوَحْيِ فَكَانَتْ لَهُ فِي ذَلِكَ أَوَّلِيَّةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ (أُعْزَلُ عَنْ نَسْخِ كِتَابَةِ الْمَصَاحِفِ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ أُنَحَّى عَنْ نَسْخِ الْمَصَاحِفِ الْمَكْتُوبَةِ (وَيَتَوَلَّاهَا) أَيْ كِتَابَةَ الْمَصَاحِفِ (اكْتُمُوا الْمَصَاحِفَ الَّتِي عِنْدَكُمْ وَغُلُّوهَا إِلَخْ) أَيِ اخْفُوهَا وَاسْتُرُوهَا
قَالَ النَّوَوِيُّ معناه أن بن مَسْعُودٍ كَانَ مُصْحَفُهُ يُخَالِفُ مُصْحَفَ الْجُمْهُورِ وَكَانَتْ مَصَاحِفُ أَصْحَابِهِ كَمُصْحَفِهِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَأَمَرُوهُ بِتَرْكِ مُصْحَفِهِ وَبِمُوَافَقَةِ مُصْحَفِ الْجُمْهُورِ وَطَلَبُوا مُصْحَفَهُ أَنْ يُحَرِّقُوهُ كَمَا فَعَلُوا بِغَيْرِهِ فَامْتَنَعَ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ غُلُّوا مَصَاحِفَكُمْ أَيِ اكْتُمُوهَا (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يَعْنِي فَإِذَا غَلَلْتُمُوهَا جِئْتُمْ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَفَى لَكُمْ بِذَلِكَ شَرَفًا
ثُمَّ قَالَ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَمَنْ هُوَ الَّذِي تَأْمُرُونَنِي أَنْ آخُذَ بِقِرَاءَتِهِ وَأَتْرُكَ مُصْحَفِي الَّذِي أَخَذْتُهُ مِنْ في رسول الله (فالقوا القول) أَمْرٌ مِنَ اللِّقَاءِ (فَبَلَغَنِي أَنَّ ذَلِكَ كُرِهَ(8/413)
إِلَخْ) يَعْنِي أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَفَاضِلِ الصَّحَابَةِ قد كرهوا قول بن مسعود المذكور وقوله من مقالة بن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ
تنبيه قال بن التِّينِ وَغَيْرُهُ الْفَرْقُ بَيْنَ جَمْعِ أَبِي بَكْرٍ وَبَيْنَ جَمْعِ عُثْمَانَ أَنَّ جَمْعَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ لِخَشْيَةِ أَنْ يَذْهَبَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ بِذَهَابِ حَمَلَتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَجْمُوعًا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَجَمَعَهُ فِي صَحَائِفَ مُرَتِّبًا لِآيَاتِ سوره على ما وقفهم عليه النبي وَجَمْعُ عُثْمَانَ كَانَ لَمَّا كَثُرَ الِاخْتِلَافُ فِي وجوه القرآن حين قرأوه بِلُغَاتِهِمْ عَلَى اتِّسَاعِ اللُّغَاتِ فَأَدَّى ذَلِكَ بَعْضُهُمْ إِلَى تَخْطِئَةِ بَعْضٍ فَخَشِيَ مِنْ تَفَاقُمِ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ فَنَسَخَ تِلْكَ الصُّحُفِ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ مُرَتِّبًا لِسُوَرِهِ وَاقْتَصَرَ مِنْ سَائِرِ اللُّغَاتِ عَلَى لُغَةِ قُرَيْشٍ مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَسَّعَ فِي قِرَاءَتِهِ رَفْعًا لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ فَرَأَى أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ انْتَهَتْ فَاقْتَصَرَ عَلَى لُغَةٍ واحدة أو كان لُغَةُ قُرَيْشٍ أَرْجَحَ اللُّغَاتِ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهَا
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ
1 - بَاب وَمِنْ سُورَةِ يُونُسَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ إِلَّا (فَإِنْ كنت في شك) الْآيَتَيْنِ أَوِ الثَّلَاثِ أَوْ (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ به الْآيَةَ) وَهِيَ مِائَةٌ وَتِسْعٌ أَوْ عَشْرُ آيَاتٍ
قوله (عن صهيب) بالتصغير هو بن سِنَانَ الرُّومِيُّ
قَوْلُهُ (وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى) أَيْ في تفسيره (للذين أحسنوا) أَيْ بِالْإِيمَانِ (الْحُسْنَى) أَيِ الْجَنَّةُ(8/414)
(وَزِيَادَةٌ) هِيَ النَّظَرُ إِلَيْهِ تَعَالَى (إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا) أَيْ بَقِيَ شَيْءٌ زَائِدٌ مِمَّا وَعَدَهُ اللَّهُ لَكُمْ مِنَ النِّعَمِ وَالْحُسْنَى (وَيُنَجِّينَا مِنَ النَّارِ) كَذَا فِي النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ بِالتَّحْتَانِيَّةِ
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي بَابِ رُؤْيَةِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ أَبْوَابِ صِفَةِ الجنة ووقع هناك ينجينا بِحَذْفِ التَّحْتَانِيَّةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ
وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ التَّحْتَانِيَّةِ فَقِيلَ عَطْفٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَفِيهِ مَا فِيهِ
قَوْلُهُ (لَهُمْ) أَيْ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا (الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) تَمَامُ الْآيَةِ (وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله ذلك هو الفوز العظيم) وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْبُشْرَى فَقِيلَ هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ هَذَا وَحَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ وَقِيلَ الْمُرَادُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا هِيَ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ وَفِي الْآخِرَةِ الْجَنَّةُ
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ قَالَ تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ فِي تَفْسِيرِ الْبُشْرَى هِيَ نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ بِالْبِشَارَةِ مِنَ اللَّهِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سبحانه وتعالى تتنزل عليهم الملائكة أن لا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ توعدون
وقال عطاء عن بن عَبَّاسٍ الْبُشْرَى فِي الدُّنْيَا عِنْدَ الْمَوْتِ تَأْتِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ بِالْبِشَارَةِ وَفِي(8/415)
الْآخِرَةِ بَعْدَ خُرُوجِ نَفْسِ الْمُؤْمِنَ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيُبَشَّرُ بِرِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى
وَقَالَ الْحَسَنُ هِيَ مَا بَشَّرَ اللَّهُ بِهَا الْمُؤْمِنَينَ فِي كِتَابِهِ مِنْ جَنَّتِهِ وَكَرِيمِ ثَوَابِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله ذلك هو الفوز العظيم (هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ) أَيِ الْحَسَنَةُ أَوِ الصَّادِقَةُ وَهِيَ مَا فِيهِ بِشَارَةٌ أَوْ تَنْبِيهٌ عَنْ غَفْلَةٍ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ (يَرَاهَا الْمُسْلِمُ) أَيْ لِنَفْسِهِ (أَوْ تُرَى) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ يَرَاهَا مُسْلِمٌ آخَرُ (لَهُ) أَيْ لِأَجْلِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي أَوَائِلِ أَبْوَابِ الرُّؤْيَا وَتَقَدَّمَ تَخْرِيجُهُ هُنَاكَ
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي أَوَائِلِ أَبْوَابِ الرُّؤْيَا
قوله (عن علي بن زيد) هو بن جَدْعَانَ (عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَهْرَانَ) الْبَصْرِيُّ وَلَيْسَ هُوَ يُوسُفُ بْنُ مَاهَك ذَاكَ ثِقَةً وَهَذَا لم يرو عنه إلا بن جَدْعَانَ هُوَ لَيِّنُ الْحَدِيثِ مِنَ الرَّابِعَةِ
قَوْلُهُ (لَمَّا أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ قَالَ) أَيْ فِرْعَوْنُ (امنت أنه) أي بأنه وفي قراءة بالكسر استينافا (لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسرائيل)
قال بن عَبَّاسٍ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ إِيمَانَهُ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِ وَقَدْ كَانَ فِي مَهَلٍ
قَالَ الْعُلَمَاءُ إِيمَانُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ
وَذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالتَّوْبَةَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْمَلَائِكَةِ وَالْعَذَابِ غَيْرُ(8/416)
مَقْبُولَيْنِ (وَأَنَا آخِذٌ مِنْ حَالِ الْبَحْرِ) أَيْ طِينِهِ الْأَسْوَدِ (وَأَدُسُّهُ فِي فِيهِ) أَيْ أُدْخِلُهُ فِي فَمِهِ (مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ الرَّحْمَةُ) أَيْ خَشْيَةَ أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَتَنَالُهُ رَحْمَةُ اللَّهِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مسنده وبن جرير وبن أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِمَا كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عن يوسف بن مهران عن بن عَبَّاسٍ
قَوْلُهُ (ذَكَرَ أَحَدُهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَعْنِي رَوَاهُ أَحَدُهُمَا مَرْفُوعًا وَلَمْ يَرْفَعْهُ الْآخَرُ وَضَمِيرُهُمَا رَاجِعٌ إِلَى عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ وَعَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ (فِي فِيِّ فِرْعَوْنَ) أَيْ فِي فَمِهِ أَوْ خَشْيَةَ أَنْ يَرْحَمَهُ أَوْ لِلشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطيالسي وبن جَرِيرٍ كِلَاهُمَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ وَعَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بن جبير عن بن عَبَّاسٍ
تَنْبِيهٌ اعلم أَنَّ الْخَازِنَ ذَكَرَ فِي تفسيره ها هنا فَصْلَيْنِ لِدَفْعِ الْإِشْكَالِ الَّذِي يَرِدُ عَلَى حَدِيثِ بن عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ فَلَنَا أَنْ نَذْكُرَهُمَا قَالَ فَصْلٌ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ فِي الظَّاهِرِ مُشْكِلٌ فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ وَإِيضَاحٍ فَنَقُولُ قَدْ وَرَدَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى طَرِيقَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ عن بن عباس ففي الطريق الأول عن بن زَيْدِ بْنِ جَدْعَانَ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ قَدْ ضَعَّفَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ فَإِنَّهُ كَانَ شيخا نبيلا صدوقا ولكنه كان سيء الحفظ ويغلط وقد احتمل الناس حديثه
وإنما يُخْشَى مِنْ حَدِيثِهِ إِذَا لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ أَوْ خَالَفَهُ فِيهِ الثِّقَاتُ وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِأَنَّ فِي الطَّرِيقِ الْآخَرِ شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
وَهَذَا الْحَدِيثُ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَرَوَاهُ أَيْضًا شُعْبَةُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ ثِقَةٌ قَدْ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ فَهُوَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَإِنْ كَانَ عَطَاءٌ قَدْ تُكُلِّمَ فِيهِ مِنْ قِبَلِ اخْتِلَاطِهِ فَإِنَّمَا يُخَافُ مَا انْفَرَدَ بِهِ أَوْ خُولِفَ فِيهِ وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ فَقَدْ عُلِمَ بِهَذَا أَنَّ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَصْلًا وَأَنَّ رواته(8/417)
ثِقَاتٌ لَيْسَ فِيهِمْ مُتَّهَمٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ من هو سيىء الْحِفْظِ فَقَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ
فَإِنْ قُلْتَ فَفِي الْحَدِيثِ الثَّانِي شَكٌّ فِي رَفْعِهِ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ ذَكَرَ أَحَدُهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قُلْتُ لَيْسَ بِشَكٍّ فِي رَفْعِهِ إِنَّمَا هُوَ جَزْمٌ بِأَنَّ أَحَدَ الرَّجُلَيْنِ رَفَعَهُ وَشَكَّ شُعْبَةُ فِي تَعْيِينِهِ هَلْ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ أَوْ عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ وَكِلَاهُمَا ثِقَةٌ فَإِذَا رَفَعَهُ أَحَدُهُمَا وَشَكَّ فِي تَعْيِينِهِ لَمْ يَكُنْ هَذَا عِلَّةً فِي الْحَدِيثِ
(فَصْلٌ) وَوَجْهُ إِشْكَالِهِ مَا اعْتَرَضَ بِهِ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَ هَلْ يَصِحُّ أَنَّ جِبْرِيلَ أَخَذَ يَمْلَأُ فَمَه بِالطِّينِ لِئَلَّا يَتُوبَ غَضَبًا عَلَيْهِ
وَالْجَوَابُ الْأَقْرَبُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ إِمَّا أَنْ يُقَالَ التَّكْلِيفُ هَلْ كَانَ ثَابِتًا أَمْ لَا فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا لَا يَجُوزُ لِجِبْرِيلَ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ التَّوْبَةِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى التَّوْبَةِ وَعَلَى كُلِّ طَاعَةٍ وَإِنْ كَانَ التَّكْلِيفُ زَائِلًا عَنْ فِرْعَوْنَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِهَذَا الَّذِي نُسِبَ إِلَى جِبْرِيلَ فَائِدَةٌ
وَأَيْضًا لَوْ مَنَعَهُ مِنَ التَّوْبَةِ لَكَانَ قَدْ رَضِيَ بِبَقَائِهِ عَلَى الْكُفْرِ والرضى بِالْكُفْرِ كُفْرٌ وَأَيْضًا فَكَيْفَ يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ أَنْ يَأْمُرَ جِبْرِيلَ بِأَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَلَوْ قِيلَ إِنَّ جِبْرِيلَ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ لَا بِأَمْرِ اللَّهِ فَهَذَا يُبْطِلُهُ قَوْلُ جِبْرِيلَ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ فَهَذَا وَجْهُ الْإِشْكَالِ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْإِمَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي كَلَامٍ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ أَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ وَأَمَّا قَوْلُ الْإِمَامِ إِنَّ التَّكْلِيفَ هَلْ كَانَ ثَابِتًا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَمْ لَا فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا لَمْ يَجُزْ لِجِبْرِيلَ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ التَّوْبَةِ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى أَصْلِ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْأَفْعَالِ لِلَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْإِيمَانِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يحول بين المرى وقلبه وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عليها بكفرهم
وَقَالَ تَعَالَى وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يؤمنوا به أول مرة فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَلَّبَ أَفْئِدَتَهُمْ مِثْلَ تَرْكِهِمُ الْإِيمَانَ أَوَّلَ مَرَّةٍ
وَهَكَذَا فَعَلَ بِفِرْعَوْنَ مَنَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ جَزَاءً عَلَى تَرْكِهِ الْإِيمَانَ أولا فدس الطين في فِرْعَوْنَ مِنْ جِنْسِ الطَّبْعِ وَالْخَتْمِ عَلَى الْقَلْبِ وَمَنْعِ الْإِيمَانِ وَصَوْنِ الْكَافِرِ عَنْهُ وَذَلِكَ جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِ السَّابِقِ
وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْأَفْعَالِ لِلَّهِ وَمِنَ الْمُنْكَرِينَ لِخَلْقِ الْأَفْعَالِ مَنِ اعْتَرَفَ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَفْعَلُ هَذَا عُقُوبَةً لِلْعَبْدِ عَلَى كُفْرِهِ السَّابِقِ فَيَحْسُنُ مِنْهُ أَنْ يُضِلَّهُ وَيَطْبَعَ عَلَى قَلْبِهِ وَيَمْنَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ(8/418)
فَأَمَّا قِصَّةُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهَا مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ غَايَةَ مَا يُقَالُ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَنَعَ فِرْعَوْنَ مِنَ الْإِيمَانِ وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى كُفْرِهِ السَّابِقِ وَرَدَّهُ لِلْإِيمَانِ لَمَّا جَاءَهُ وَأَمَّا فِعْلُ جِبْرِيلَ مِنْ دَسِّ الطِّينِ فَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّهِ لَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ
فَأَمَّا قَوْلُ الْإِمَامِ لَمْ يَجُزْ لِجِبْرِيلَ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ التَّوْبَةِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يعينه عليه وَعَلَى كُلِّ طَاعَةٍ
هَذَا إِذَا كَانَ تَكْلِيفُ جِبْرِيلَ كَتَكْلِيفِنَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَيْنَا وَأَمَّا إِذَا كَانَ جِبْرِيلُ إِنَّمَا يَفْعَلُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ واللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي مَنَعَ فِرْعَوْنَ مِنَ الْإِيمَانِ وَجِبْرِيلُ مُنَفِّذٌ لِأَمْرِ اللَّهِ فَكَيْفَ لَا يَجُوزُ لَهُ مَنْعُ من منعه الله من النوبة وَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَانَةُ مَنْ لَمْ يُعِنْهُ اللَّهُ بَلْ قَدْ حَكَمَ عَلَيْهِ وَأَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَرَى الْعَذَابَ الْأَلِيمَ حِينَ لَا يَنْفَعُهُ الْإِيمَانُ
وَقَدْ يُقَالُ إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِمَّا أَنْ يَتَصَرَّفَ بِأَمْرِ الله فلا يفعل إلا ما أمر اللَّهُ بِهِ وَإِمَّا يَفْعَلُ مَا يَشَاء مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ لَا بِأَمْرِ اللَّهِ وَعَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَانَةُ فِرْعَوْنَ عَلَى التَّوْبَةِ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَنْعُهُ مِنْهَا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُ مَا أُمِرَ بِهِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ فِعْلُ مَا نُهِيَ عَنْهُ واللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يُخْبِرْ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِإِعَانَةِ فِرْعَوْنَ وَلَا حَرَّمَ عَلَيْهِ مَنْعَهُ مِنَ التَّوْبَةِ وَلَيْسَتِ الْمَلَائِكَةُ مُكَلَّفِينَ كَتَكْلِيفِنَا انْتَهَى
وَقَدْ أَطَالَ الْخَازِنُ الْكَلَامَ فِي دَفْعِ الْإِشْكَالِ الَّذِي أَوْرَدَهُ الرَّازِيُّ فَعَلَيْكَ أَنْ تُطَالِعَ بَقِيَّةَ كَلَامِهِ
2 - (بَاب وَمِنْ سُورَةِ هُودٍ)
هِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا أَقِمِ الصلاة الاية أو إلا فلعلك تارك الاية وأولئك يؤمنون به الْآيَةَ وَهِيَ مِائَةٌ وَثِنْتَانِ أَوْ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ آيَةً
قَوْلُهُ (عَنْ وَكِيعِ بْنِ حُدُسٍ) بِالْحَاءِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ الْمَضْمُومَتَيْنِ وَقَدْ يُقَالُ بِالْعَيْنِ بَدَلَ الحاء(8/419)
قَوْلُهُ (قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ) وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ (كَانَ فِي عَمَاءٍ إِلَخْ)
قَالَ الْخَازِنُ فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ لَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ يَعْنِي لَا الْمَاءُ وَلَا الْعَرْشُ وَلَا غَيْرُهُمَا وَقَوْلُهُ (وكان عرشه على الماء) يَعْنِي خَلَقَ الْمَاءَ وَخَلَقَ الْعَرْشَ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ كَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ وَقَوْلُهُ فِي عَمَاءٍ وَجَدْته فِي كِتَابٍ عَمَاءً مُقَيَّدًا بِالْمَدِّ فَإِنْ كَانَ فِي الْأَصْلِ مَمْدُودًا فَمَعْنَاهُ سَحَابٌ رَقِيقٌ
وَيُرِيدُ بِقَوْلِهِ فِي عَمَاءٍ أَيْ فَوْقَ سَحَابٍ مُدَبِّرًا لَهُ وَعَالِيًا عَلَيْهِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ يَعْنِي مَنْ فَوْقَ السَّمَاءِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى لَأُصَلِّبَنَّكُمْ في جذوع النخل يَعْنِي عَلَى جُذُوعِهَا وَقَوْلُهُ مَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ أَيْ مَا فَوْقَ السَّحَابِ هَوَاءٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ (مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ) أَيْ مَا تَحْتَ السَّحَابِ هَوَاءٌ وَقَدْ قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ الْعَمَى مَقْصُورٌ وَالْعَمَى إِذَا كَانَ مَقْصُورًا فَمَعْنَاهُ لَا شَيْءَ ثَابِتٌ لِأَنَّهُ مِمَّا عَمَى عَنِ الْخَلْقِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ شَيْءٍ
فَكَأَنَّهُ قَالَ فِي جَوَابِهِ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ ثُمَّ قَالَ مَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ وَمَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ أَيْ لَيْسَ فَوْقَ الْعَمَى الَّذِي هُوَ لَا شَيْءَ مَوْجُودٌ هَوَاءٌ وَلَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ لِأَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ غَيْرَ شَيْءٍ فليس يثبت له هواه بِوَجْهٍ
وَقَالَ الْهَرَوِيُّ صَاحِبُ الْغَرِيبَيْنِ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مَعْنَاهُ أَيْنَ كَانَ عَرْشُ رَبِّنَا فحذف المضاف اختصارا كقوله واسأل القرية وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَكَانَ عرشه على الماء هذا آخر كلام البيهقي
وقال بن الْأَثِيرِ الْعَمَاءُ فِي اللُّغَةِ السَّحَابُ الرَّقِيقُ وَقِيلَ الْكَثِيفُ وَقِيلَ هُوَ الضَّبَابُ وَلَا بُدَّ فِي الْحَدِيثِ مِنْ حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ أَيْنَ كَانَ عَرْشُ رَبِّنَا فَحُذِفَ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ قوله تعالى وكان عرشه على الماء وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ فِي الْعَمَى الْمَقْصُورِ
أَنَّهُ هُوَ كُلُّ أَمْرٍ لَا يُدْرِكُهُ الْفَطِنُ
وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ إِنَّمَا تَأَوَّلْنَا هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى كَلَامِ الْعَرَبِ الْمَعْقُولِ عَنْهُمْ وَإِلَّا فَلَا نَدْرِي كَيْفَ كَانَ ذَلِكَ الْعَمَاءُ
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُكَيِّفُ صِفَتَهُ انْتَهَى كَلَامُ الْخَازِنِ
وَقَالَ السُّيُوطِيُّ فِي مِصْبَاحِ الزجاجة قال القاضي ناصر الدين بن الْمُنَيِّرِ وَجْهُ الْإِشْكَالِ فِي الْحَدِيثِ الظَّرْفِيَّةُ وَالْفَوْقِيَّةُ والتحتية قال والجواب أن في معنى عَلَى وَعَلَى بِمَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ أَيْ(8/420)
كَانَ مُسْتَوْلِيًا عَلَى هَذَا السَّحَابِ الَّذِي خَلَقَ مِنْهُ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا وَالضَّمِيرُ فِي فَوْقِهِ يَعُودُ إِلَى السَّحَابِ وَكَذَلِكَ تَحْتَهُ أَيْ كَانَ مُسْتَوْلِيًا عَلَى هَذَا السَّحَابِ الَّذِي فَوْقَهُ الْهَوَاءُ وَتَحْتَهُ الْهَوَاءُ وَرُوِيَ بِلَفْظِ الْقَصْرِ فِي الْعَمَى
وَالْمَعْنَى عَدَمُ مَا سِوَاهُ كَأَنَّهُ قَالَ كَانَ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ بَلْ كُلُّ شَيْءٍ كَانَ عَدَمًا عَمًى لَا مَوْجُودًا وَلَا مُدْرَكًا وَالْهَوَاءُ الْفَرَاغُ أَيْضًا الْعَدَمُ كَأَنَّهُ قَالَ كَانَ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ وَلَا فَوْقَ وَلَا تَحْتَ انْتَهَى
قُلْتُ إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ عَمًى بِالْقَصْرِ فَلَا إِشْكَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ حِينَئِذٍ فِي مَعْنَى حَدِيثِ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَإِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ عَمَاءً بِالْمَدِّ فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَأْوِيلٍ بَلْ يُقَالُ نَحْنُ نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُكَيِّفُهُ بِصِفَةٍ أَيْ نُجْرِي اللَّفْظَ عَلَى مَا جَاءَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ كَمَا قَالَ الْأَزْهَرِيُّ وَخَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ
قَالَ الْحَافِظُ قَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ أبي رزين العقلي مَرْفُوعًا إِنَّ الْمَاءَ خُلِقَ قَبْلَ الْعَرْشِ
وَرَوَى السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ بِأَسَانِيدَ مُتَعَدِّدَةٍ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا مِمَّا خَلَقَ قَبْلَ الْمَاءِ
وَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوعًا أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ ثُمَّ قَالَ اكْتُبْ فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ بِأَنَّ أَوَّلِيَّةَ الْقَلَمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عَدَا الْمَاءِ وَالْعَرْشِ أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ مِنَ الْكِتَابَةِ أَيْ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ اكْتُبْ أَوَّلَ مَا خلق انتهى
قوله (قال أحمد) أي بن منيع (قال يزيد) أي بن هَارُونَ فِي تَفْسِيرِ الْعَمَاءِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ (الْعَمَاءُ أَيْ لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ) كَذَا فَسَّرَ يَزِيدُ الْعَمَاءَ بِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْعَمَاءَ بِالْمَدِّ هُوَ السَّحَابُ الرَّقِيقُ وَالْعَمَى بِالْقَصْرِ بِمَعْنَى لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ
قَوْلُهُ (هذا حديث حسن) وأخرجه أحمد وبن مَاجَهْ
قَوْلُهُ (إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُمْلِي) مِنَ الْإِمْلَاءِ
قَالَ فِي الْقَامُوسِ أَمْلَاهُ اللَّهُ أَمْهَلَهُ (حَتَّى إِذَا(8/421)
أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنَ الْإِفْلَاتِ أي لم يخلصه أن إِذَا أَهْلَكَهُ لَمْ يَرْفَعْ عَنْهُ الْهَلَاكَ وَهَذَا عَلَى تَفْسِيرِ الظُّلْمِ بِالشِّرْكِ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَإِنْ فُسِّرَ بِمَا هُوَ أَعَمُّ
فَيُحْمَلُ كُلٌّ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ (وَكَذَلِكَ) أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْأَخْذِ (أَخْذُ رَبِّكَ) قُرِئَ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ وَعَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ (إِذَا أَخَذَ الْقُرَى) أُرِيدَ أَهْلُهَا
وَالْمَعْنَى وَكَمَا أَهْلَكْنَا أُولَئِكَ الْقُرُونَ الظَّالِمَةَ كذلك نفعل بأشباههم (وهي ظالمة) بِالذُّنُوبِ
أَيْ فَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مِنْ أَخْذِهِ شَيْءٌ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ البخاري ومسلم والنسائي وبن مَاجَهْ
قَوْلُهُ (وَقَالَ يُمْلِي) أَيْ بِلَا شَكٍّ
قَوْلُهُ (قَالَ يُمْلِي وَلَمْ يَشُكَّ فِيهِ) قَالَ الحافظ قد رواه مسلم وبن مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ يُمْلِي وَلَمْ يَشُكَّ
قَوْلُهُ (فَمِنْهُمْ) أَيْ فَمِنْ أَهْلِ الْمَوْقِفِ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرُوا
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ لأن ذلك معلوم (شقي وسعيد) الشَّقِيُّ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ الشَّقَاوَةُ فِي الْأَزَلِ وَالسَّعِيدُ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ السَّعَادَةُ فِي الْأَزَلِ (عَلَى شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ أَوْ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يُفْرَغْ مِنْهُ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ لِلْفِعْلَيْنِ أي أتعمل عَلَى شَيْءٍ قَدْ(8/422)
فَرَغَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَضَائِهِ وَقَدَّرَهُ وَجَرَى به القلم أو نعمل عَلَى شَيْءٍ قَدْ فَرَغَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَجَرَى بِهِ الْقَلَمُ أَوْ نَعْمَلُ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَفْرُغِ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ (وَلَكِنْ كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) أَيْ مُوَفَّقٌ وَمُهَيَّأٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ أَيْ لِأَمْرٍ قُدِّرَ ذَلِكَ الْأَمْرُ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالتَّنْوِينُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو يعلى في مسنده وبن جرير وبن المنذر وبن أبي حاتم وأبو الشيخ وبن مَرْدَوَيْهِ
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ فِي بَابِ الشَّقَاءِ وَالسَّعَادَةِ
قَوْلُهُ (إِنِّي عَالَجْتُ امْرَأَةً) أَيْ دَاعَبْتُهَا وَنَاوَلْتُ مِنْهَا مَا يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ غَيْرَ أَنِّي مَا جَامَعْتُهَا (فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ) أَيْ أَسْفَلِهَا وَأَبْعَدِهَا عَنِ الْمَسْجِدِ (مَا دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا) مَا مَوْصُولَةٌ أَيْ أَصَبْتُ مِنْهَا مَا يُجَاوِزُ الْمَسَّ أَيِ الْمُجَامَعَةِ (وَأَنَا هَذَا) أَيْ أَنَا مَوْجُودٌ وَحَاضِرٌ بَيْنَ يَدَيْكَ وَمُنْقَادٌ لِحُكْمِكَ (فَاقْضِ فِيَّ) أَيْ فَاحْكُمْ فِي حَقِّي (مَا شِئْتَ) أَيْ أَرَدْتَهُ مِمَّا يَجِبُ عَلَيَّ كِنَايَةٌ عَنْ غَايَةِ التَّسْلِيمِ وَالِانْقِيَادِ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (لَوْ سَتَرْتَ عَلَى نَفْسِكَ) أَيْ لَكَانَ حَسَنًا (فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الرَّجُلِ أَوْ عَلَى عُمَرَ (شَيْئًا) مِنَ الْكَلَامِ انْتِظَارًا لِقَضَاءِ اللَّهِ فِيهِ رَجَاءَ أَنْ يُخَفِّفَ مِنْ عُقُوبَتِهِ (فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ) أَيْ فَذَهَبَ ظَنًّا مِنْهُ لِسُكُوتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ اللَّهَ سَيُنْزِلُ فِيهِ شَيْئًا وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُبَلِّغَهُ فَإِنْ كَانَ عَفْوًا شَكَرَ وَإِلَّا عَادَ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهُ (فَأَتْبَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ أَرْسَلَ عَقِبَهُ (رَجُلًا) لِيَدْعُوَهُ (فَتَلَا عَلَيْهِ) أَيْ فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرَّجُلِ (أَقِمُ الصَّلَاةَ طرفي النهار) الْغَدَاةَ وَالْعَشِيَّ أَيِ الصُّبْحَ وَالظُّهْرَ وَالْعَصْرَ (وَزُلَفًا) جَمْعُ زُلْفَةٍ أَيْ طَائِفَةً (مِنَ اللَّيْلِ) أَيِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ (إِنَّ الْحَسَنَاتِ) كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ (يُذْهِبْنَ السيئات) أي الذنوب الصغائر (ذلك ذكرى للذاكرين) عِظَةٌ لِلْمُتَّعِظِينَ كَذَا فِي الْجَلَالَيْنِ(8/423)
وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ كَثُرَتِ الْمَذَاهِبُ فِي تفسير طرفي النهار هي الْفَجْرُ وَالْعَصْرُ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَحَدَ طَرَفَيِ النَّهَارِ هُوَ طُلُوعُ الشَّمْسِ وَالطَّرَفُ الثَّانِي مِنْهُ غُرُوبُهَا
فَالطَّرَفُ الْأَوَّلُ هُوَ صَلَاةُ الْفَجْرِ وَالطَّرَفُ الثَّانِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ فَوَجَبَ حَمْلُ الطَّرَفِ الثَّانِي عَلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ انتهى
وقال مجاهد طرفى النهار ويعني صَلَاةَ الصُّبْحِ وَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ يَعْنِي صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ
وقال مُقَاتِلٌ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَالظُّهْرِ طَرَفٌ وَصَلَاةُ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ طَرَفٌ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ يَعْنِي صَلَاةَ الْعِشَاءِ
وقال الْحَسَنُ طَرَفَيِ النَّهَارِ الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ وَزُلَفًا مِنَ الليل المغرب والعشاء وقال بن عَبَّاسٍ طَرَفَيِ النَّهَارِ الْغَدَاةُ وَالْعَشِيُّ يَعْنِي صَلَاةَ الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ كَذَا فِي الْخَازِنِ
وَقَالَ فِي المدارك وأقم الصلاة طرفي النهار غدوة وعشية وزلفا من الليل وَسَاعَاتٍ مِنَ اللَّيْلِ جَمْعُ زُلْفَةٍ وَهِيَ سَاعَاتُهُ الْقَرِيبَةُ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ مِنْ أَزَلَفَهُ إِذَا قَرَّبَهُ وَصَلَاةُ الْغَدْوَةِ الْفَجْرُ وَصَلَاةُ الْعَشِيَّةِ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ
لِأَنَّ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ عِشًى وَصَلَاةُ الزُّلَفِ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ انْتَهَى
وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ الزُّلْفَةُ بِالضَّمِّ الطَّائِفَةُ مِنَ اللَّيْلِ وَالزُّلَفُ سَاعَاتُ اللَّيْلِ الْآخِذَةِ مِنَ النَّهَارِ وَسَاعَاتُ النَّهَارِ الْآخِذَةُ مِنَ اللَّيْلِ انْتَهَى
قلتَ وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي واللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ مَا اخْتَارَهُ فِي تَفْسِيرِ الْجَلَالَيْنِ وَالْمَدَارِكِ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ (فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ) قِيلَ هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَقِيلَ هُوَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ (هَذَا لَهُ) أَيْ هَذَا الْحُكْمُ لِلسَّائِلِ (خَاصَّةً) أَيْ يَخُصُّهُ خُصُوصًا أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً (قَالَ بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً) هَكَذَا تُسْتَعْمَلُ كَافَّةً حَالًا أَيْ كُلِّهِمْ وَلَا يُضَافُ فَيُقَالُ كَافَّةُ النَّاسِ وَلَا الْكَافَّةُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي تَصْحِيفِ الْعَوَامِّ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ قَالَهُ النَّوَوِيُّ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) قَالَ الْحَافِظُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ(8/424)
قَوْلُهُ (وَرِوَايَةُ هَؤُلَاءِ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ) أَيْ رِوَايَةُ أَبِي الْأَحْوَصِ وَإِسْرَائِيلَ وَشُعْبَةُ أَصَحُّ من رواية سفيان الثوري
قَوْلُهُ (فَقَالَ الرَّجُلُ أَلِيَ هَذِهِ) أَيِ الْآيَةِ يَعْنِي خَاصَّةً بِي بِأَنَّ صَلَاتِي مُذْهِبَةٌ لِمَعْصِيَتِي فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ صَاحِبَ الْقِصَّةِ هُوَ السَّائِلُ عن ذلك
ولأحمد والطبراني من حديث بن عَبَّاسٍ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِيَ خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً فَضَرَبَ عُمَرُ صَدْرَهُ وَقَالَ لَا وَلَا نِعْمَةَ عَيْنٍ بَلْ لِلنَّاسِ عَامَّةً فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَ عُمَرُ
وَفِي حَدِيثِ أَبِي الْيُسْرِ فَقَالَ إِنْسَانٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَهُ خَاصَّةً
وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمِ النَّخَعِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَقَالَ مُعَاذٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَهُ وَحْدَهُ أَمْ لِلنَّاسِ كَافَّةً
وللدّارَقُطْنِيِّ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ نَفْسِهِ
وَيُحْمَلُ عَلَى تَعَدُّدِ السَّائِلِينَ عَنْ ذَلِكَ (فَقَالَ لَكَ وَلِمَنْ عَمِلَ بِهَا) أَيْ بِهَذِهِ الْآيَةِ بِأَنْ فَعَلَ حَسَنَةً بَعْدَ سَيِّئَةٍ
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ لِجَمِيعِ أُمَّتِي كُلِّهِمْ
وَتَمَسَّكَ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تعالى إن الحسنات يذهبن السيئات الْمُرْجِئَةُ وَقَالُوا إِنَّ الْحَسَنَاتِ تُكَفِّرُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَبِيرَةً كَانَتْ أَوْ صَغِيرَةً(8/425)
وَحَمَلَ الْجُمْهُورُ هَذَا الْمُطْلَقَ عَلَى الْقَيْدِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ إِنَّ الصَّلَاةَ إِلَى الصَّلَاةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ
فَقَالَ طَائِفَةٌ إِنِ اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ كَانَتِ الْحَسَنَاتُ كَفَّارَةً لِمَا عَدَا الْكَبَائِرِ مِنَ الذُّنُوبِ وَإِنْ لَمْ تُجْتَنَبِ الْكَبَائِرُ لَمْ تَحُطَّ الْحَسَنَاتُ شَيْئًا
وقال آخَرُونَ إِنْ لَمْ تُجْتَنَبِ الْكَبَائِرُ لَمْ تَحُطَّ الْحَسَنَاتُ شَيْئًا مِنْهَا وَتُحَطُّ الصَّغَائِرُ وَقِيلَ الْمُرَادُ إِنَّ الْحَسَنَاتِ تَكُونُ سَبَبًا فِي تَرْكِ السَّيِّئَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَا أَنَّهَا تُكَفِّرُ شَيْئًا حَقِيقَةً وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ
قوله (عن زائدة) هو بن قدامة
قَوْلُهُ (أَرَأَيْتَ رَجُلًا) أَيْ أَخْبِرْنِي عَنْ رَجُلٍ (فَلَيْسَ يَأْتِي الرَّجُلُ إِلَى امْرَأَتِهِ شَيْئًا إِلَّا قَدْ أَتَى هُوَ إِلَيْهَا) يَعْنِي أَنَّهُ اسْتَمْتَعَ بِهَا بِالْقُبْلَةِ وَالْمُعَانَقَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الِاسْتِمْتَاعِ إِلَّا الْجِمَاعَ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ إِلَخْ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ
(وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَرَآهُ)
قَالَ الْحَافِظُ فِي تَهْذِيبِ التهذيب قال بن أَبِي حَاتِمٍ قُلْتَ لِأَبِي يَصِحُّ لِابْنِ أَبِي لَيْلَى سَمَاعٌ مِنْ عُمَرَ قَالَ لَا
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ رَأَى عُمَرَ وَبَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يُدْخِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُمَرَ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ وَبَعْضُهُمْ كَعْبَ بن عجرة(8/426)
وَقَالَ الْآجُرِّيُّ عَنْ أَبِي دَاوُدَ رَأَى عُمَرَ ولا أدري بصح أَمْ لَا
وَقَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ زُبَيْدٍ وَهُوَ الْإِيَامِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى سَمِعْتَ عُمَرَ يَقُولُ صَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَيْنِ وَالْفِطْرِ رَكْعَتَيْنِ الْحَدِيثَ
قَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ تَفَرَّدَ بِهِ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ هَكَذَا وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ سَمِعْتُ عُمَرَ غَيْرُهُ وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ زُبَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الثِّقَةِ عَنْ عُمَرَ وَرَوَاهُ شَرِيكٌ عَنْ زُبَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُمَرَ وَلَمْ يَقُلْ سَمِعْتُ
وقال بن أَبِي خَيْثَمَةَ فِي تَارِيخِهِ وَقَدْ رُوِيَ سَمَاعُهُ من عمر من طرق وليست بصحيح
وَقَالَ الْخَلِيلِيُّ فِي الْإِرْشَادِ الْحُفَّاظُ لَا يُثْبِتُونَ سماعه من عمر
وقال بن الْمَدِينِيِّ كَانَ شُعْبَةُ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ من عمر
قال بن الْمَدِينِيِّ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وكذا قال الترمذي في العلل وبن خزيمة
وقال يعقوب بن شيبة قال بن مَعِينٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُمَرَ وَلَا مِنْ عثمان وسمع من علي انتهى
قَوْلُهُ (تَبْتَاعُ تَمْرًا) أَيْ تَشْتَرِي (فَأَهْوَيْتُ إِلَيْهَا) أي ملت إليها (أختلفت غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي أَهْلِهِ بِمِثْلِ هَذَا) قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي النِّهَايَةِ يُقَالُ خَلَفْتَ الرَّجُلَ فِي أَهْلِهِ إِذَا أَقَمْتَ بَعْدَهُ فِيهِمْ وَقُمْتَ عَنْهُ بِمَا يَفْعَلُهُ وَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلِاسْتِفْهَامِ انْتَهَى
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ وَزَوْجُهَا قَدْ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْثٍ إِلَخْ (حَتَّى تَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ إِلَّا تِلْكَ السَّاعَةَ) لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ وَأَطْرَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(8/427)
قَالَ فِي النِّهَايَةِ الْإِطْرَاقُ أَنْ يُقْبِلَ بِبَصَرِهِ إِلَى صَدْرِهِ وَيَسْكُتَ سَاكِنًا طَوِيلًا أَيْ إِطْرَاقًا طَوِيلًا أَوْ زَمَانًا طَوِيلًا
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَالْبَزَّارُ كَمَا فِي الْفَتْحِ
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَوَائِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) أَمَّا حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ فَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا وَأَمَّا حَدِيثُ وَائِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ فَلْيُنْظَرْ مَنْ أَخْرَجَهُ وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ
قَوْلُهُ (وَأَبُو الْيُسْرِ) بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ (اسْمُهُ كَعْبُ بْنُ عَمْرِو) بْنِ عَبَّادٍ السَّلَمِيُّ بِالْفَتْحِ الْأَنْصَارِيُّ صَحَابِيٌّ بَدْرِيٌّ جَلِيلٌ
3 - (باب وَمِنْ سُورَةِ يُوسُفَ)
هِيَ مَكِّيَّةٌ مِائَةٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً
قَوْلُهُ (يُوسُفُ) مَرْفُوعٌ لِأَنَّهُ خَبَرُ إِنَّ وَاسْمُهَا الْكَرِيمُ وَهُوَ ضِدُّ اللَّئِيمِ وَكُلُّ نَفْسِ كَرِيمٍ هُوَ مُتَنَاوِلٌ لِلصَّالِحِ الْجَيِّدِ دِينًا ودنيا(8/428)
قال النَّوَوِيُّ وَأَصْلُ الْكَرَمِ كَثْرَةُ الْخَيْرِ وَقَدْ جمع يوسف عليه الصلاة والسلام مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ مَعَ شَرَفِ النُّبُوَّةِ
وَكَوْنُهُ ابْنًا لِثَلَاثَةِ أَنْبِيَاءَ مُتَنَاسِلِينَ وَمَعَ شَرَفِ رِيَاسَةِ الدُّنْيَا مُلْكَهَا بِالْعَدْلِ والْإِحْسَانِ وَكَوْنُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَرِيمُ بْنُ الْكَرِيمِ إِلَى آخِرِهِ مَوْزُونًا مُقَفًّى لَا يُنَافِي مَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ إِذْ لَمْ يَكُنْ هَذَا بِالْقَصْدِ بَلْ وَقَعَ بِالِاتِّفَاقِ وَالْمُرَادُ صَنْعَةَ الشِّعْرِ (وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ ثُمَّ جَاءَنِي الرَّسُولُ أَجَبْتَ) أَيْ لَأَسْرَعْتُ الْإِجَابَةَ فِي الْخُرُوجِ مِنَ السِّجْنِ وَلَمَا قَدَّمْتُ طَلَبَ الْبَرَاءَةِ فَوُصِفَ بِشِدَّةِ الصَّبْرِ حَيْثُ لَمْ يُبَادِرْ بِالْخُرُوجِ وَإِنَّمَا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَاضُعًا وَالتَّوَاضُعُ لَا يَحُطُّ مَرْتَبَةَ الْكَبِيرِ بَلْ يَزِيدُهُ رِفْعَةً وَجَلَالًا وَقِيلَ هُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ
وقد قِيلَ إِنَّهُ قَالَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنَ الْجَمِيعِ (فَلَمَّا جَاءَهُ) أَيْ يُوسُفَ (الرَّسُولُ) وَطَلَبَهُ لِلْخُرُوجِ (قَالَ) أَيْ يُوسُفُ قَاصِدًا إِظْهَارَ بَرَاءَتِهِ (ارْجِعْ إِلَى ربك) أَيْ إِلَى سَيِّدِكَ وَهُوَ الْمَلِكُ (فَاسْأَلْهُ) أَنْ يَسْأَلَ (مَا بَالُ) حَالُ (النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أيديهن) لَمْ يُصَرِّحْ بِذِكْرِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ أَدَبًا وَاحْتِرَامًا لَهَا (وَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى لُوطٍ إِنْ كَانَ ليأوي إلى ركن شديد) أي إلى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُشِيرُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قوة أو آوى إلى ركن شديد وَيُقَالُ إِنَّ قَوْمَ لُوطٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ يَجْتَمِعُ مَعَهُ فِي نَسَبِهِ لِأَنَّهُمْ مِنْ سَدُومَ وَهِيَ مِنَ الشَّامِ وَأَصْلُ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ مِنَ الْعِرَاقِ فَلَمَّا هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الشَّامِ هَاجَرَ مَعَهُ لُوطٌ فَبَعَثَ اللَّهُ لُوطًا إِلَى أَهْلِ سَدُومَ فَقَالَ لَوْ أَنَّ لِي مَنَعَةً وَأَقَارِبَ وَعَشِيرَةً لَكُنْتُ أَسْتَنْصِرُ بِهِمْ عَلَيْكُمْ لِيَدْفَعُوا عَنْ ضِيفَانِي وَلِهَذَا جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ قَالَ لُوطٌ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إلى ركن شديد قَالَ فَإِنَّهُ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ وَلَكِنَّهُ عَنَى عَشِيرَتَهُ فَمَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلا في ذروة من قومه زاد بن مَرْدَوَيْهِ أَلَمْ تَرَ إِلَى قَوْلِ قَوْمِ شُعَيْبٍ ولولا رهطك لرجمناك وَقِيلَ مَعْنَى قَوْلِهِ لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ أَيْ إِلَى عَشِيرَتِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَأْوِ إِلَيْهِمْ وَآوَى إِلَى اللَّهِ انْتَهَى وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ
وقال الْجَزَرِيُّ فِي النِّهَايَةِ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ رَحِمَ اللَّهُ لُوطًا إِنَّهُ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ أَيْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ أَشَدُّ الْأَرْكَانِ وَأَقْوَاهَا
وَإِنَّمَا تَرَحَّمَ عَلَيْهِ لِسَهْوِهِ حِينَ ضَاقَ صَدْرُهُ مِنْ قَوْمِهِ حَتَّى قَالَ أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ أَرَادَ عِزَّ الْعَشِيرَةِ الَّذِينَ يَسْتَنِدُ إِلَيْهِمْ كَمَا يَسْتَنِدُ إِلَى الرُّكْنِ(8/429)
مِنَ الْحَائِطِ (فَمَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ) أَيْ بَعْدَ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ (إِلَّا فِي ذُرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ) بِضَمِّ الذَّالِ وَكَسْرِهَا أَيْ أَعْلَا نَسَبِ قَوْمِهِ
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَبْدَةُ) بْنُ سُلَيْمَانَ الْكِلَابِيُّ (وَعَبْدُ الرَّحِيمِ) بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَشَلُّ
قَوْلُهُ (فِي ثَرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ
قَالَ فِي النِّهَايَةِ الثَّرْوَةُ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ وَإِنَّمَا خص لوطا لقوله لو أدلى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ
قَوْلُهُ (الثَّرْوَةُ الْكَثْرَةُ وَالْمَنَعَةُ) يُقَالُ فُلَانٌ فِي عِزٍّ وَمَنَعَةٍ بِفَتْحَتَيْنِ وَقَدْ تُسَكَّنُ النُّونُ وَقِيلَ الْمَنَعَةُ جَمْعُ مَانِعٍ مِثْلُ كَافِرٍ وَكَفَرَةٍ أَيْ هُوَ فِي عِزٍّ وَمَنْ يَمْنَعُهُ مِنْ عَشِيرَتِهِ (وهذا حديث حسن) وأصله في الصحيحين
4 - (باب وَمِنْ سُورَةِ الرَّعْدِ)
مَكِّيَّةٌ إِلَّا (وَلَا يَزَالُ الذين كفروا) الاية ويقول الذين كفروا لست مرسلا الْآيَةَ أَوْ مَدَنِيَّةٌ إِلَّا (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا) الْآيَتَيْنِ ثَلَاثٌ أَوْ أَرْبَعٌ أَوْ خَمْسٌ أَوْ سِتٌّ وَأَرْبَعُونَ آيَةً
قَوْلُهُ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْوَلِيدِ وَكَانَ يَكُونُ فِي بَنِي عِجْلٍ) أَيْ كَانَ يَسْكُنُ فِيهِمْ وَلِذَلِكَ يُقَالُ(8/430)
لَهُ الْعِجْلِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ وَهَذَا هو بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلِ بْنِ مُقْرِنٍ الْمُزَنِيُّ الْكُوفِيُّ
رَوَى عَنْ بُكَيْرِ بْنِ شِهَابٍ وَغَيْرِهِ وَعَنْهُ أَبُو نُعَيْمٍ وَغَيْرُهُ ثِقَةٌ مِنَ السَّابِعَةِ (عَنْ بُكَيْرِ بْنِ شِهَابٍ) الْكُوفِيِّ مَقْبُولٌ مِنَ السَّادِسَةِ
قَوْلُهُ (فَقَالُوا يَا أَبَا الْقَاسِمِ) هُوَ كُنْيَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَعَهُ مَخَارِيقُ) جَمْعُ مِخْرَاقٍ
وَهُوَ فِي الْأَصْلِ ثَوْبٌ يُلَفُّ وَيَضْرِبُ بِهِ الصِّبْيَانُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَأَرَادَ بِهِ هُنَا آلَةً تَزْجُرُ بِهَا الْمَلَائِكَةُ السَّحَابَ (يَسُوقُ) أَيِ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالسَّحَابِ (بِهَا) أَيْ بِتِلْكَ الْمَخَارِيقِ (زَجْرَةٌ) أَيْ هُوَ زَجْرَةٌ (إِذَا زَجَرَهُ) أَيْ إِذَا سَاقَهُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فالزاجرات زجرا يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ تَزْجُرُ السَّحَابَ أَيْ تَسُوقُهُ (حَتَّى يَنْتَهِيَ) أَيْ يَصِلَ السَّحَابُ (إِلَى حَيْثُ أُمِرَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (عَمَّا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ) هُوَ يَعْقُوبُ عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام (قَالَ اشْتَكَى) أَيْ يَعْقُوبُ (عِرْقَ النَّسَاءِ) بِفَتْحِ النون والألف المقصورة هو وجع يبتديء مِنْ مَفْصِلِ الْوَرِكِ وَيَنْزِلُ مِنْ جَانِبِ الْوَحْشِيِّ عَلَى الْفَخِذِ وَرُبَّمَا امْتَدَّ إِلَى الرُّكْبَةِ وَإِلَى الْكَعْبِ وَسَمَّى الْمَرَضَ بِاسْمِ الْمَحَلِّ لِأَنَّ النَّسَا بِالْفَتْحِ وَالْقَصْرِ وَرِيدٌ يَمْتَدُّ عَلَى الْفَخِذِ مِنَ الْوَحْشِيِّ إِلَى الْكَعْبِ
وَجَرَى الْعَادَةُ بِأَنْ يُسَمَّى وَجَعُ النَّسَا بِعِرْقِ النَّسَا وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ وَجَعُ الْعِرْقِ الَّذِي هُوَ النَّسَا (فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا) أَيْ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ (يُلَائِمُهُ) أَيْ يُوَافِقُهُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ شَيْئًا (حَرَّمَهَا) أَيْ لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ هَذِهِ إِجْمَالٌ تُوَضِّحُهُ رِوَايَةُ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ عن عبد الحميد عن شهر عن بن عَبَّاسٍ قَالَ حَضَرَتْ عِصَابَةٌ مِنَ الْيَهُودِ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا حَدِّثْنَا عَنْ خِلَالٍ نَسْأَلُكَ عَنْهُنَّ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ
الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَقَالَ أَنْشُدُكُمْ بِاَلَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا وَطَالَ سَقَمُهُ فَنَذَرَ لِلَّهِ نذرا لئن شفاه الله من سقمه ليحرم مِنْ أَحَبِّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَيْهِ وَكَانَ أَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ لَحْمُ الْإِبِلِ وَأَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ أَلْبَانُهَا فَقَالُوا اللَّهُمَّ نَعَمْ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ(8/431)
قوله (أخبرنا سيف بن محمد الثوري) الكوفي بن أُخْتِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ نَزَلَ بَغْدَادَ كَذَّبُوهُ مِنْ صِغَارِ الثَّامِنَةِ
قَوْلُهُ (وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ في الأكل) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْكَافِ أَيْ فِي الطَّعْمِ (قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الدَّقَلُ) بِفَتْحَتَيْنِ رَدِيءُ التَّمْرِ وَيَابِسُهُ (وَالْفَارِسِيُّ) نَوْعٌ مِنَ التَّمْرِ وَالْآيَةُ بِتَمَامِهَا مَعَ تَفْسِيرِهَا هَكَذَا وَفِي الأرض قطع بقاع مختلفة متجاورات مُتَلَاصِقَاتٌ فَمِنْهَا طَيِّبٌ وَسَبَخٌ وَقَلِيلُ الرِّيعِ وَكَثِيرُهُ وَهُوَ مِنْ دَلَائِلِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَجَنَّاتٌ بَسَاتِينُ مِنْ أَعْنَابٍ
وَزَرْعٌ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى جَنَّاتٌ وَالْجَرُّ عَلَى أَعْنَابٍ وَكَذَا قَوْلُهُ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ جَمْعُ صِنْوٍ وَهِيَ النَّخَلَاتُ يَجْمَعُهَا أَصْلٌ وَاحِدٌ وتتشعب فروعها وغير صنوان منفردة يسقى بِالتَّاءِ أَيِ الْجَنَّاتُ وَمَا فِيهَا وَالْيَاءِ أَيِ المذكور بماء واحد ونفضل بِالنُّونِ وَالْيَاءِ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ بِضَمِّ الْكَافِ وَسُكُونِهَا فَمِنْ حُلْوٍ وَحَامِضٍ وَهُوَ مِنْ دَلَائِلِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لايات لقوم يعقلون يَتَدَبَّرُونَ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ البزار وبن جرير وبن الْمُنْذِرِ
فَإِنْ قُلْتَ فِي سَنَدِهِ سَيْفُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَقَدْ كَذَّبُوهُ فَكَيْفَ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ
قُلْتُ لَمْ يَنْفَرِدْ هُوَ بِرِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ بَلْ تَابَعَهُ زَيْدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ كَمَا صَرَّحَ به الترمذي بقوله وقد رَوَاهُ زَيْدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ (وَعَمَّارٌ أَثْبَتُ مِنْهُ)
قال فِي التَّقْرِيبِ عَمَّارُ بن محمد الثوري أبو اليقظان الكوفي بن أخت سفيان الثوري سكن بغداد صدوق يخطىء وَكَانَ عَابِدًا مِنَ الثَّامِنَةِ(8/432)
15 - (باب ومن سورة إبراهيم)
هِيَ مَكِّيَّةٌ سِوَى آيَتَيْنِ وَهُمَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ الله كفرا) إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ وَهِيَ إِحْدَى وَقِيلَ اثْنَتَانِ وَخَمْسُونَ آيَةً
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا أَبُو الْوَلِيدِ) هُوَ الطَّيَالِسِيُّ (عَنْ شُعَيْبِ بْنِ الْحَبْحَابِ) الْأَزْدِيِّ مَوْلَاهُمْ كُنْيَتُهُ أَبُو صَالِحٍ الْبَصْرِيُّ ثِقَةٌ مِنَ الرَّابِعَةِ
قوله (أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِنَاعٍ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَخِفَّةِ النُّونِ هُوَ الطَّبَقُ الَّذِي يُؤْكَلُ عَلَيْهِ (مَثَلُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ) أَيْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثابت) أي في الأرض (وفرعها) أي أعلاها ورأسها (في السماء) أي ذاهبة في السماء (تؤتي) أي تعطي (أكلها) أي ثمرها (كل حين بإذن ربها) أَيْ بِأَمْرِ رَبِّهَا
وَالْحِينُ فِي اللُّغَةِ الْوَقْتُ يُطْلَقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ
وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ هَا هُنَا فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ الْحِينُ هُنَا سَنَةٌ كَامِلَةٌ لِأَنَّ النَّخْلَةَ تُثْمِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَعْنِي مِنْ وَقْتِ طَلْعِهَا إِلَى حِينِ صِرَامِهَا وَرَوَى ذَلِكَ عَنِ بن عَبَّاسٍ أَيْضًا
وقال عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ يَعْنِي أَنَّ مُدَّةَ حَمْلِهَا بَاطِنًا وَظَاهِرًا ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ وَقِيلَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ ظُهُورِ حَمْلِهَا إِلَى إِدْرَاكِهَا
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ شَهْرَانِ يَعْنِي مِنْ وَقْتِ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهَا إِلَى صِرَامِهَا
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ كُلَّ حِينٍ يَعْنِي غَدْوَةً وَعَشِيَّةً لِأَنَّ ثَمَرَ النَّخْلِ يُؤْكَلُ أَبَدًا لَيْلًا وَنَهَارًا وَصَيْفًا وشتاءا فَيُؤْكَلُ مِنْهَا الْجِمَارُ وَالطَّلْعُ وَالْبَلَحُ وَالْخِلَالُ وَالْبُسْرُ وَالْمُنَصَّفُ وَالرُّطَبُ وَبَعْدَ ذَلِكَ يُؤْكَلُ التَّمْرُ الْيَابِسُ إِلَى حِينِ الطَّرِيِّ الرَّطْبِ
فَأُكُلُهَا دَائِمٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ
كَذَا فِي الْخَازِنِ (قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خبيثة) أي كلمة الكفر والشرك (اجتثت) يعني استؤصلت وقطعت (مالها من قرار) أَيْ مَا لِهَذِهِ الشَّجَرَةِ مِنْ ثَبَاتٍ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّهَا لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ(8/433)
ثَابِتٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فَرْعٌ صَاعِدٌ إِلَى السَّمَاءِ (قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هِيَ) أَيِ الشَّجَرَةُ الْخَبِيثَةُ (الْحَنْظَلَةُ) هِيَ نَبَاتٌ يَمْتَدُّ عَلَى الْأَرْضِ كَالْبِطِّيخِ وَثَمَرُهُ يُشْبِهُ ثَمَرَ الْبِطِّيخِ لَكِنَّهُ أَصْغَرُ مِنْهُ جِدًّا وَيُضْرَبُ الْمَثَلُ بِمَرَارَتِهِ (قَالَ فَأَخْبَرْتُ بِذَلِكَ) أَيْ قَالَ شعيب بن الحبحاب فأخبرت أنس هَذَا (فَقَالَ) أَيْ أَبُو الْعَالِيَةِ (صَدَقَ) أَيْ أَنَسٌ وَحَدِيثُ أَنَسٍ هَذَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ نَحْوَ رِوَايَةِ
التِّرْمِذِيِّ وَفِيهِ كَذَلِكَ كُنَّا نَسْمَعُ مَكَانَ صَدَقَ وَأَحْسَنَ
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ الْحَبْحَابِ) الْأَزْدِيُّ الْبَصْرِيُّ قِيلَ
اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ ثِقَةٌ مِنَ السَّابِعَةِ
قَوْلُهُ (فِي قَوْلِهِ يُثَبِّتُ اللَّهُ) أَيْ في تفسير قوله تعالى يثبت الله إلخ (بالقول الثابت) هُوَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ وَهِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) بِأَنْ لَا يُزَالُوا عَنْهُ إِذَا فُتِنُوا فِي دِينِهِمْ وَلَمْ يَرْتَابُوا بِالشُّبُهَاتِ وَإِنْ أُلْقُوا فِي النَّارِ كَمَا ثَبَتَ الَّذِينَ فَتَنَهُمْ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ وَغَيْرُهُمْ (وَفِي الْآخِرَةِ) أَيْ فِي الْقَبْرِ بِتَلْقِينِ الْجَوَابِ وَتَمْكِينِ الصَّوَابِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (قَالَ فِي الْقَبْرِ) أَيْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَذَابِ(8/434)
الْقَبْرِ فَفِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ
قال الْكَرَمَانِيُّ لَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ عَذَابِ الْقَبْرِ فَلَعَلَّهُ سَمَّى أَحْوَالَ الْعَبْدِ فِي قَبْرِهِ عَذَابَ الْقَبْرِ تَغْلِيبًا لِفِتْنَةِ الْكَافِرِ عَلَى فِتْنَةِ الْمُؤْمِنَ لِأَجْلِ التَّخْوِيفِ وَلِأَنَّ الْقَبْرَ مَقَامُ الْهَوْلِ وَالْوَحْشَةِ
وَلِأَنَّ مُلَاقَاةَ الْمَلَائِكَةِ مِمَّا يَهَابُ منه بن آدَمَ فِي الْعَادَةِ (إِذَا قِيلَ لَهُ) أَيْ لِصَاحِبِ الْقَبْرِ (مَنْ رَبُّكَ وَمَا دِينُكَ وَمَنْ نَبِيُّك) فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا أَزَالَ اللَّهُ الْخَوْفَ عَنْهُ وَثَبَّتَ لِسَانَهُ فِي جَوَابِ الْمَلَكَيْنِ فَيَقُولُ رَبِّي اللَّهُ وَدِينِي الْإِسْلَامُ وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ
قَوْلُهُ (يوم تبدل الأرض غير الأرض) قَالَ صَاحِبُ فَتْحِ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ (يَوْمَ) أَيِ اذْكُرْ وَارْتَقِبْ يَوْمَ (تُبَدَّلُ الأرض) المشاهدة (غير الأرض) وَالتَّبْدِيلُ قَدْ يَكُونُ فِي الذَّاتِ كَمَا فِي بَدَّلْتُ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ وَقَدْ يَكُونُ فِي الصِّفَاتِ كَمَا فِي بَدَّلْتُ الْحَلْقَةَ خَاتَمَك وَالْآيَةُ تَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ وَبِالثَّانِي قَالَ الْأَكْثَرُ وَالسَّمَاوَاتُ أَيْ وَتُبَدَّلُ السَّمَاوَاتُ غَيْرَ السَّمَاوَاتِ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي مَرَّ وَتَقْدِيمُ تَبْدِيلِ الْأَرْضِ لِقُرْبَانِهَا وَلِكَوْنِ تَبْدِيلِهَا أَعْظَمَ أَثَرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا
أخرج مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ
قَالَ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ أَنَا أَوَّلُ مَنْ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ قُلْتُ أَيْنَ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ قَالَ عَلَى الصِّرَاطِ
وَالصَّحِيحُ عَلَى هَذَا إِزَالَةُ عَيْنِ هَذِهِ الْأَرْضِ
وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وبن المنذر والطبراني في في الأوسط والبيهقي وبن عساكر وبن مردويه عن بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ اللَّهِ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غير الأرض
قَالَ أَرْضٌ بَيْضَاءُ كَأَنَّهَا فِضَّةٌ لَمْ يُسْفَكْ فِيهَا دَمٌ حَرَامٌ وَلَمْ يُعْمَلْ بِهَا خَطِيئَةٌ
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ
وَفِي الْبَابِ رِوَايَاتٌ وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ كَقُرْصَةِ نَقِيٍّ وَفِيهِمَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً يَتَكَفَّؤُهَا الْجَبَّارُ بيده
الحديث(8/435)
وَقَدْ أَطَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي بَيَانِ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِهِ وَفِي تَذْكِرَتِهِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ نَصٌّ فِي أَنَّ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ تُبَدَّلُ وَتُزَالُ وَيَخْلُقُ اللَّهُ أَرْضًا أُخْرَى تَكُونُ عَلَيْهَا النَّاسُ بَعْدَ كَوْنِهِمْ عَلَى الْجِسْرِ وَهُوَ الصِّرَاطُ لَا كَمَا قَالَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِنَّ تَبْدِيلَ الْأَرْضِ عِبَارَةٌ عَنْ تَغْيِيرِ صِفَاتِهَا وَتَسْوِيَةِ آكَامِهَا وَنَسْفِ جِبَالِهَا وَمَدِّ أَرْضِهَا ثُمَّ قَالَ وَذَكَرَ شَبِيبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ فِي كِتَابِ الْإِفْصَاحِ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْآثَارِ وَأَنَّهُمَا تُبَدَّلَانِ كَرَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا هَذِهِ الْأُولَى قَبْلَ نَفْخَةِ الصَّعْقِ وَالثَّانِيَةُ إِذَا وَقَفُوا فِي الْمَحْشَرِ وَهِيَ أَرْضٌ عَفْرَاءُ مِنْ فِضَّةٍ لَمْ يُسْفَكْ عَلَيْهَا دَمٌ حَرَامٌ وَلَا جَرَى عَلَيْهَا ظُلْمٌ وَيَقُومُ النَّاسُ عَلَى الصِّرَاطِ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ ثُمَّ ذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ التَّذْكِرَةِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْخَلَائِقَ وَقْتَ تَبْدِيلِ الْأَرْضِ تَكُونُ فِي أَيْدِي الْمَلَائِكَةِ رَافِعِينَ لَهُمْ عَنْهَا قَالَ فِي لجمل فَتَحَصَّلَ مِنْ مَجْمُوعَةِ كَلَامِهِ أَنَّ تَبْدِيلَ هَذِهِ الْأَرْضِ بِأَرْضٍ أُخْرَى مِنْ فِضَّةٍ يَكُونُ قَبْلَ الصِّرَاطِ وَتَكُونُ الْخَلَائِقُ إِذْ ذَاكَ مَرْفُوعَةً فِي أَيْدِي الْمَلَائِكَةِ وَأَنَّ تَبْدِيلَ الْأَرْضِ بِأَرْضٍ مِنْ خبز يكون بعد الصراط وتكون الخلائق إذا ذَاكَ عَلَى الصِّرَاطِ وَهَذِهِ الْأَرْضُ خَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنَينَ عِنْدَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ انْتَهَى مَا فِي فَتْحِ الْبَيَانِ (فَأَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ قَالَ عَلَى الصِّرَاطِ) وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ مَرْفُوعًا يَكُونُونَ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا الْبَيْهَقِيُّ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْجِسْرِ الصِّرَاطُ
وَأَنَّ فِي قَوْلِهِ عَلَى الصِّرَاطِ مَجَازًا لِكَوْنِهِمْ يُجَاوِزُونَهُ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ زِيَادَةً يَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا لِثُبُوتِهَا وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ الزَّجْرَةِ الَّتِي تَقَعُ عِنْدَ نَقْلِهِمْ مِنْ أَرْضِ الدُّنْيَا إِلَى أَرْضِ الْمَوْقِفِ وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى كَلَّا إِذْ دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صفا صفا وجيء يومئذ بجهنم كَذَا فِي الْفَتْحِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ ومسلم وبن ماجه
6 - (باب وَمِنْ سُورَة الْحِجْرِ)
هِيَ مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعِهِمْ وَهِيَ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ آيَةً
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا نُوحُ بْنُ قَيْسٍ الْحُدَّانِيِّ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ الْأُولَى وَتَشْدِيدِ الثَّانِيَةِ آخِرُهُ نُونٌ قَبْلَ يَاءِ(8/436)
النِّسْبَةِ (عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ) هُوَ النُّكْرِيُّ
قَوْلُهُ (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ منكم ولقد علمنا المستأخرين) قال بن جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى ذَلِكَ وَلَقَدْ عَلِمْنَا مَنْ مَضَى مِنَ الْأُمَمِ فَتَقَدَّمَ هَلَاكُهُمْ وَمَنْ قَدْ خُلِقَ وَهُوَ حَيٌّ وَمَنْ لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ مِمَّنْ سَيُخْلَقُ ثُمَّ ذَكَرَ أَسْمَاءَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنَ الْأَئِمَّةِ
ثُمَّ قَالَ وَقَالَ آخَرُونَ عَنِيَ بِالْمُسْتَقْدِمِينَ الَّذِينَ قَدْ هَلَكُوا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ الْأَحْيَاءَ الَّذِينَ لَمْ يَهْلَكُوا ثُمَّ ذَكَرَ أَسْمَاءَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ ثُمَّ قَالَ وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ مَعْنَاهُ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ فِي أَوَّلِ الْخَلْقِ وَالْمُسْتَأْخِرِينَ فِي آخِرِهِمْ
وَذَكَرَ أَسْمَاءَ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ ثُمَّ قَالَ وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَ الْأُمَمِ وَالْمُسْتَأْخِرِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ذَكَرَ أَسْمَاءَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ ثُمَّ قَالَ وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ مَعْنَاهُ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ فِي الْخَيْرِ
وَالْمُسْتَأْخِرِينَ عَنْهُ ثُمَّ ذَكَرَ أَسْمَاءَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ ثُمَّ قَالَ وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ فِي الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ وَالْمُسْتَأْخِرِينَ فِيهَا بِسَبَبِ النِّسَاءِ ثُمَّ ذَكَرَ أَسْمَاءَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ ثُمَّ قَالَ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي ذَلِكَ بِالصِّحَّةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ مَعْنَى ذَلِكَ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْأَمْوَاتَ مِنْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ فَتَقَدَّمَ مَوْتُهُ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ الَّذِينَ اسْتَأْخَرَ مَوْتُهُمْ مِمَّنْ هُوَ حَيٌّ وَمَنْ هُوَ حَادِثٌ مِنْكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَحْدُثْ بَعْدُ
لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ وإنا لنحن نحيى ونميت ونحن الوارثون وَمَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يحشرهم) عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ إِذْ كَانَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ وَلَمْ يَجْرِ قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ وَلَا جَاءَ بَعْدُ وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْمُسْتَقْدِمِينَ فِي الصَّفِّ لِشَأْنِ النِّسَاءِ وَالْمُسْتَأْخِرِينَ فِيهِ
لذلك انتهى كلام بن جرير ملخصا
قلت لو صح حديث بن عَبَّاسٍ هَذَا لَكَانَ هُوَ أَوْلَى الْأَقْوَالِ لَكِنَّ الْأَشْبَهَ أَنَّهُ قَوْلُ أَبِي الْجَوْزَاءِ كَمَا صَرَّحَ به الترمذي
قال الحافظ بن كثير في تفسيره بعد ذكر حديث بن عَبَّاسٍ هَذَا مَا لَفْظُهُ وَهَذَا فِيهِ نَكَارَةٌ شديدة وكذا رواه أحمد وبن أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ في كتاب التفسير من سنيهما وبن مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ عَنْ نُوحِ بْنِ قَيْسٍ الْحُدَّانِيِّ وَقَدْ وَثَّقَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا
وحكى عن بن مَعِينٍ تَضْعِيفُهُ وَأَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ وهذا الحديث(8/437)
فِيهِ نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ
وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ النُّكْرِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الْجَوْزَاءِ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ) فِي الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ وَالْمُسْتَأْخِرِينَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي الْجَوْزَاءِ فَقَطْ لَيْسَ فِيهِ لِابْنِ عَبَّاسٍ ذِكْرٌ
وَقَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا أَشْبَهُ مِنْ رِوَايَةِ نُوحِ بْنِ قَيْسٍ
قَوْلُهُ (عن جنيد عن بن عمر) قال في التقريب جنيد عن بن عُمَرَ قِيلَ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ مَسْتُورٌ مِنَ الْخَامِسَةِ
وَفِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ جُنَيْدٌ غَيْرُ مَنْسُوبٍ
قال أبو حاتم حديثه عن بن عمر مرسل وذكره بن حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ
قَوْلُهُ (لِمَنْ سَلَّ السَّيْفَ) أَيْ حَمَلَهُ عَلَيْهَا وَأَصْلُ السَّلِّ انْتِزَاعُكَ الشَّيْءَ وَإِخْرَاجُهُ فِي رِفْقٍ وَأَوْرَدَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لكل باب منهم جزء مقسوم
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيِّ) اسْمُهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الْبَصْرِيُّ صَدُوقٌ مِنَ التَّاسِعَةِ
قَوْلُهُ (الْحَمْدُ لِلَّهِ أُمُّ الْقُرْآنِ وَأُمُّ الْكِتَابِ وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي) قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بَابُ مَا جَاءَ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُمِّيَتْ أُمَّ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ يُبْدَأُ بِكِتَابَتِهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَيُبْدَأُ بِقِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ(8/438)
قال الْحَافِظُ هُوَ كَلَامُ أبي عُبَيْدَةَ فِي أَوَّلِ مَجَازِ الْقُرْآنِ لَكِنْ لَفْظُهُ وَلِسُوَرِ الْقُرْآنِ أَسْمَاءٌ مِنْهَا أَنَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ تُسَمَّى أُمَّ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ يُبْدَأُ بِهَا فِي أَوَّلِ الْقُرْآنِ وَتُعَادُ قِرَاءَتُهَا فَيُقْرَأُ بِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَبْلَ السُّورَةِ وَيُقَالُ لَهَا فَاتِحَةُ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ يُفْتَتَحُ بِهَا فِي الْمَصَاحِفِ فَتُكْتَبُ قَبْلَ الْجَمِيعِ انْتَهَى
وَبِهَذَا تَبَيَّنَ الْمُرَادُ مِمَّا اخْتَصَرَهُ الْمُصَنِّفُ
وَقَالَ غَيْرُهُ سُمِّيَتْ أُمَّ الْكِتَابِ لِأَنَّ أُمَّ الشَّيْءِ ابْتِدَاؤُهُ وَأَصْلُهُ وَمِنْهُ سُمِّيَتْ مَكَّةُ أُمَّ الْقُرَى لِأَنَّ الْأَرْضَ دُحِيَتْ مِنْ تَحْتِهَا
وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ التَّعْلِيلُ بِأَنَّهَا يُبْدَأُ بِهَا يُنَاسِبُ تسميتها فاتحة الكتاب لا أم للكتاب
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُتَّجَهُ مَا قَالَ بِالنَّظَرِ إِلَى أن اللام مَبْدَأُ الْوَلَدِ وَقِيلَ سُمِّيَتْ أُمَّ الْقُرْآنِ
لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي فِي الْقُرْآنِ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ وَالتَّعَبُّدِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَعَلَى مَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْفِعْلِ وَاشْتِمَالُهَا عَلَى ذِكْرِ الْمَبْدَأِ أَوِ الْمَعَادِ وَالْمَعَاشِ انْتَهَى
وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الْفَاتِحَةُ بِالسَّبْعِ الْمَثَانِي لِأَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ
وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهَا بِالْمَثَانِي
فَقِيلَ لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ أَيْ تُعَادُ
وَقِيلَ لِأَنَّهَا يُثْنَى بِهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى
وَقِيلَ لِأَنَّهَا اسْتُثْنِيَتْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ لَمْ تَنْزِلْ عَلَى مَنْ قَبْلَهَا
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ
قَوْلُهُ (وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي) جَمْعُ مُثَنَّاةٌ مِنَ التَّثْنِيَةِ أَوْ جَمْعُ مُثْنِيَةٍ فَإِنَّهَا تُثَنَّى فِي كُلِّ صَلَاةٍ (وَهِيَ مَقْسُومَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي) قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُرَادُ قَسَمْتُهَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لِأَنَّ نِصْفَهَا الْأَوَّلَ تَحْمِيدٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَتَمْجِيدُهُ وَثَنَاءٌ عَلَيْهِ وَتَفْوِيضٌ إِلَيْهِ
وَالنِّصْفَ الثَّانِيَ سُؤَالٌ وَطَلَبٌ وَتَضَرُّعٌ وَافْتِقَارٌ (وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ) أَيْ بِعَيْنِهِ إِنْ كَانَ وُقُوعُهُ مُعَلَّقًا عَلَى السُّؤَالِ وَإِلَّا فَمِثْلُهُ مِنْ رَفْعِ دَرَجَةٍ وَدَفْعِ مَضَرَّةٍ وَنَحْوِهِمَا
وَأَوْرَدَ التِّرْمِذِيُّ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ العظيم وَمِنْ هَذِهِ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْيِينِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثَانِ الْمَذْكُورَانِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ
وَعَلَى هَذَا الْمُرَادُ مِنَ الْمَثَانِي الْقُرْآنُ كُلُّهُ فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعَ آيَاتٍ مِمَّا يُثَنِّي بَعْضُ آيِهِ بَعْضًا وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَتِ الْمَثَانِي جَمْعَ مُثَنَّاةٍ وَتَكُونُ آيُ الْقُرْآنِ(8/439)
مَوْصُوفَةً بِذَلِكَ لِأَنَّ بَعْضَهَا تُثَنِّي بَعْضًا وَبَعْضُهَا يَتْلُو بَعْضًا بِفُصُولٍ تَفْصِلُ بَيْنَهَا فَيُعْرَفُ انْقِضَاءُ الْآيَةِ وَابْتِدَاءُ الَّتِي تَلِيهَا كَمَا وَصَفَهَا بِهِ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يخشون ربهم
وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا كَمَا قَالَ بن عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ إِنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا قِيلَ لَهُ مَثَانِيَ لِأَنَّ الْقَصَصَ وَالْأَخْبَارَ كُرِّرَتْ فِيهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الدَّرَاوَرْدِيُّ (حَدِيثُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَطْوَلُ وَأَتَمُّ) حَدِيثُ عبد العزيز بل مُحَمَّدٍ هَذَا تَقَدَّمَ بِطُولِهِ وَتَمَامُهُ فِي بَابِ فَضْلِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ (وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ)
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ قَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى الْعَلَاءِ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ الدَّرَاوَرْدِيِّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ رُوحِ بْنِ الْقَاسِمِ وَأَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرحمن بن إبراهيم وبن خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ كُلُّهُمْ عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَرَجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي بْنِ كَعْبٍ فذكر الحديث وأخرجه الترمذي وبن خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ كِلَاهُمَا عَنِ الْعَلَاءِ مِثْلُهُ لَكِنْ قَالَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَرَجَّحَ التِّرْمِذِيُّ كَوْنَهُ مِنْ مُسْنَدِ أَبِي هُرَيْرَةَ
وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَادَى أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَهُوَ مِمَّا يُقَوِّي مَا رَجَّحَهُ الترمذي انْتَهَى
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) هُوَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ (أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بن أَبِي الطَّيِّبِ) الْبَغْدَادِيُّ أَبُو سُلَيْمَانَ الْمَعْرُوفُ بِالْمَرْوَزِيِّ صَدُوقٌ حَافِظٌ لَهُ أَغْلَاطٌ ضَعَّفَهُ بِسَبَبِهَا أَبُو حَاتِمٍ وماله فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى حَدِيثٍ وَاحِدٍ مُتَابَعَةً وَهُوَ مِنَ الْعَاشِرَةِ (أَخْبَرَنَا مُصْعَبُ بْنُ سَلَّامٍ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ التَّمِيمِيُّ الْكُوفِيُّ نَزِيلُ بَغْدَادَ صَدُوقٌ لَهُ أَوْهَامٌ مِنَ الثَّامِنَةِ (عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ) الملائي الكوفي (عن عطية) هو بن سعد العوفي(8/440)
قوله (اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنَ) الْفِرَاسَةُ بِالْكَسْرِ اسْمٌ مِنْ قَوْلِك تَفَرَّسْتُ فِي فُلَانٍ الْخَيْرَ وَهِيَ على نوعين أحدهما ما دل عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَهُوَ مَا يُوقِعُهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ فَيَعْلَمُونَ بِذَلِكَ أَحْوَالَ النَّاسِ بِنَوْعٍ مِنَ الْكَرَامَاتِ وَإِصَابَةِ الْحَدْسِ وَالنَّظَرِ وَالظَّنِّ وَالتَّثَبُّتِ
وَالنَّوْعُ الثَّانِي مَا يَحْصُلُ بِدَلَائِلِ التَّجَارِبِ وَالْخُلُقِ وَالْأَخْلَاقِ تُعْرَفُ بِذَلِكَ أَحْوَالُ النَّاسِ أَيْضًا
وَلِلنَّاسِ فِي عِلْمِ الْفِرَاسَةِ تَصَانِيفُ قَدِيمَةٌ وَحَدِيثَةٌ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْخَازِنِ
وَقَالَ الْمَنَاوِيُّ اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنَ أَيِ اطِّلَاعَهُ عَلَى مَا فِي الضَّمَائِرِ بِسَوَاطِعِ أَنْوَارٍ أَشْرَقَتْ عَلَى قَلْبِهِ فَتَجَلَّتْ لَهُ بِهَا الْحَقَائِقُ (فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ) أَيْ يُبْصِرُ بِعَيْنِ قَلْبِهِ الْمَشْرِقِ بِنُورِ اللَّهِ تَعَالَى
وَأَصْلُ الْفِرَاسَةِ أَنَّ بَصَرَ الرُّوحِ مُتَّصِلٌ بِبَصَرِ الْعَقْلِ فِي عَيْنَيِ الْإِنْسَانِ فَالْعَيْنُ جَارِحَةٌ وَالْبَصَرُ مِنَ الرُّوحِ وَإِدْرَاكُ الْأَشْيَاءِ مِنْ بَيْنِهِمَا فَإِذَا تَفَرَّغَ الْعَقْلُ وَالرُّوحُ مِنْ أَشْغَالِ النَّفْسِ أَبْصَرَ الرُّوحُ وَأَدْرَكَ الْعَقْلُ مَا أَبْصَرَ الرُّوحُ وإنما عجز العامة عن هذا الشغل أَرْوَاحِهِمْ بِالنُّفُوسِ وَاشْتِبَاكِ الشَّهَوَاتِ بِهَا فَشُغِلَ بَصَرُ الرُّوحِ عَنْ دَرْكِ الْأَشْيَاءِ الْبَاطِنَةِ وَمَنْ أَكَبَّ عَلَى شَهَوَاتِهِ وَتَشَاغَلَ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ حَتَّى خَلَّطَ عَلَى نَفْسِهِ الْأُمُورَ وَتَرَاكَمَتْ عَلَيْهِ الظُّلُمَاتُ كَيْفَ يُبْصِرُ شَيْئًا غَابَ عَنْهُ (ثُمَّ قَرَأَ) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ فِي ذلك لايات للمتوسمين) قال بن عَبَّاسٍ لِلنَّاظِرِينَ وَقَالَ قَتَادَةُ لِلْمُعْتَبَرِينَ وَقَالَ مُقَاتِلٌ لِلْمُتَفَكِّرِينَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ لِلْمُتَفَرِّسِينَ
قال الْخَازِنُ وَيُعَضِّدُ هذا للتأويل مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال اتقوا فراسة المؤمن إِلَخْ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التاريخ وبن جرير وبن أبي حاتم وبن السني وأبو نعيم وبن مردويه والخطيب
وأخرجه الحكيم الترمذي والطبراني وبن عدي عن أبي أمامة وأخرجه بن جرير في تفسيره عن بن عمر وأخرجه أيضا بن جرير عن ثوبان وأخرجه أيضا بن جَرِيرٍ وَالْبَزَّارُ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا يَعْرِفُونَ النَّاسَ بِالتَّوَسُّمِ
قَوْلُهُ (وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَفْسِيرِ هذه الاية الخ) روى بن جرير في تفسيره بإسناده عَنْ مُجَاهِدٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ قَالَ لِلْمُتَفَرِّسِينَ انْتَهَى
وَأَصْلُ التَّوَسُّمِ(8/441)
التَّثَبُّتُ وَالتَّفَكُّرُ تَفَعُّلٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَسْمِ وَهُوَ التَّأْثِيرُ بِحَدِيدَةٍ فِي جِلْدِ الْبَعِيرِ أَوِ الْبَقَرِ وقيل أصله الاستقصاء التعرف يُقَالُ تَوَسَّمْتَ أَيْ تَعَرَّفْتَ مُسْتَقْصِيًا وُجُوهَ التَّعَرُّفِ وَقِيلَ هُوَ مِنَ الْوَسْمِ بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ وَلِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ فِي الْفِرَاسَةِ أَخْبَارٌ وَحِكَايَاتٌ مَعْرُوفَةٌ فَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ فِي تَوَالِي التَّأْسِيسِ قَالَ السَّاجِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ قَالَ خَرَجْتَ أَنَا وَالشَّافِعِيُّ مِنْ مَكَّةَ فَلَقِينَا رَجُلًا بِالْأَبْطَحِ فَقُلْتَ لِلشَّافِعِيِّ ازْكَنْ مَا لِلرَّجُلِ فَقَالَ نَجَّارٌ أَوْ خَيَّاطٌ قَالَ فَلَحِقْتُهُ فَقَالَ كُنْتُ نَجَّارًا وَأَنَا خَيَّاطٌ وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ قُتَيْبَةَ قَالَ رَأَيْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ وَالشَّافِعِيَّ قَاعِدَيْنِ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ فَمَرَّ رَجُلٌ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ تَعَالَ حَتَّى نَزْكَنَ عَلَى هَذَا الْآتِي أَيُّ حِرْفَةٍ مَعَهُ فَقَالَ أَحَدُهُمَا خَيَّاطٌ وَقَالَ الْآخَرُ نَجَّارٌ فَبَعَثَا إِلَيْهِ فَسَأَلَاهُ فَقَالَ كُنْتَ خَيَّاطًا وَأَنَا الْيَوْمَ نَجَّارٌ
قال الْحَافِظُ وَسَنَدُ كُلٍّ مِنَ الْقِصَّتَيْنِ صَحِيحٌ فَيُحْمَلُ عَلَى التَّعَدُّدِ وَالزَّكَنُ الْفِرَاسَةُ وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْمُزَنِيِّ قَالَ كُنْتَ مَعَ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَامِعِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ يَدُورُ عَلَى النِّيَامِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ لِلرَّبِيعِ قُمْ فَقُلْ لَهُ ذَهَبَ لَكَ عَبْدٌ أَسْوَدُ مُصَابٌ بِإِحْدَى عَيْنَيْهِ قَالَ الرَّبِيعُ فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ فَقَالَ نَعَمْ فَقُلْتُ تَعَالَ
فَجَاءَ إِلَى الشَّافِعِيِّ فَقَالَ أَيْنَ عَبْدِي فَقَالَ مُرَّ تَجِدْهُ فِي الْحَبْسِ فَذَهَبَ الرَّجُلُ فَوَجَدَهُ فِي الْحَبْسِ قَالَ الْمُزَنِيُّ فَقُلْتُ لَهُ أَخْبِرْنَا فَقَدْ حَيَّرْتنَا فَقَالَ نَعَمْ رَأَيْتَ رَجُلًا دَخَلَ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ يَدُورُ بَيْنَ النِّيَامِ فَقُلْتَ يَطْلُبُ هَارِبًا وَرَأَيْتُهُ يَجِيءُ إِلَى السُّودَانِ دُونَ البيض فقلت هَرَبَ لَهُ عَبْدٌ أَسْوَدُ وَرَأَيْتُهُ يَجِيءُ إِلَى مَا يَلِي الْعَيْنَ الْيُسْرَى فَقُلْتُ مُصَابٌ بِإِحْدَى عَيْنَيْهِ قُلْنَا فَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهُ فِي الْحَبْسِ قَالَ الْحَدِيثُ فِي الْعَبِيدِ إِنْ جَاعُوا سَرَقُوا وَإِنْ شَبِعُوا زَنَوْا فَتَأَوَّلْتُ أَنَّهُ فَعَلَ أَحَدَهُمَا فكان كذلك
قَوْلُهُ (عَنْ بِشْرٍ عَنْ أَنَسٍ) قَالَ فِي التقريب بشر عن أنس قيل هو بن دِينَارٍ مَجْهُولٌ مِنَ السَّادِسَةِ
وَقَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ بِشْرٌ غَيْرُ مَنْسُوبٍ عَنْ أَنَسٍ فِي قوله لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون وَغَيْرِ ذَلِكَ وَعَنْهُ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ قِيلَ إِنَّهُ بِشْرُ بْنُ دِينَارٍ قَالَ الْحَافِظُ كذا قال بن حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَزَادَ فِي الرُّوَاةِ عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى لَيْثٍ اخْتِلَافًا كَثِيرًا
قَوْلُهُ (فِي قَوْلِهِ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أجمعين) قَبْلَهُ فَوَرَبِّكَ قَالَ الْخَازِنُ أَقْسَمَ اللَّهُ بِنَفْسِهِ أنه يسأل(8/442)
هَؤُلَاءِ الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (عَمَّا كانوا يعملون) يَعْنِي عَمَّا كَانُوا يَقُولُونَهُ فِي الْقُرْآنِ وَقِيلَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَقِيلَ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ فِي لَنَسْأَلَنَّهُمْ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرِ لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فَحَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ أَوْلَى انْتَهَى كَلَامُ الْخَازِنِ (قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عَنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَكِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى وبن جرير وبن المنذر وبن أَبِي حَاتِمٍ (وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدريس عن ليث بن أَبِي سُلَيْمٍ إِلَخْ) وَصَلَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ الْمَوْقُوفَةَ بن جرير في تفسيره
7 - (باب وَمِنْ سُورَةِ النَّحْلِ)
مَكِّيَّةٌ إِلَّا (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ) إِلَى آخِرِهَا وَهِيَ مِائَةٌ وَثَمَانٍ وَعِشْرُونَ آيَةً
قَوْلُهُ (أَرْبَعٌ) أَيْ مِنَ الرَّكَعَاتِ (قَبْلَ الظُّهْرِ بَعْدَ الزَّوَالِ) صِفَةٌ لِأَرْبَعٍ وَالْمَوْصُوفُ مَعَ الصِّفَةِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ (تُحْسَبُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (بِمِثْلِهِنَّ مِنْ صَلَاةِ السَّحَرِ) أَيْ بِمِثْلِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ كَائِنَةٍ مِنْ صَلَاةِ السَّحَرِ يَعْنِي تُوَازِي أَرْبَعًا مِنَ الْفَجْرِ مِنَ السُّنَّةِ وَالْفَرِيضَةِ لِمُوَافَقَةِ الْمُصَلِّي بَعْدَ الزَّوَالِ سَائِرَ الْكَائِنَاتِ فِي الْخُضُوعِ وَالدُّخُورِ لِبَارِئِهَا فَإِنَّ الشَّمْسَ أَعْلَى وَأَعْظَمُ مَنْظُورًا فِي الْكَائِنَاتِ وَعِنْدَ زَوَالِهَا يَظْهَرُ هُبُوطُهَا وَانْحِطَاطُهَا وَسَائِرُ مَا يَتَفَيَّأُ بِهَا ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ
وَقِيلَ لَا يَظْهَرُ وَجْهُ الْعُدُولِ عن الظاهر وهو حمل السحر على حقيقته وَتَشْبِيهِ هَذِهِ الْأَرْبَعِ بِأَرْبَعٍ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ إِلَّا بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْمُشَبَّهِ بِهِ مَشْهُودًا بِمَزِيدِ الْفَضْلِ انْتَهَى يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى(8/443)
إن قرآن الفجر كان مشهودا وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعُدُولَ إِنَّمَا هُوَ لِيَكُونَ الْمُشَبَّهُ بِهِ أَقْوَى إِذْ لَيْسَ التَّهَجُّدُ أفضل من سنة الظهر
قال القارىء وَالْأَظْهَرُ حَمْلُ السَّحَرِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَهُوَ السُّدُسُ الْأَخِيرُ مِنَ اللَّيْلِ وَيُوَجَّهُ كَوْنُ الْمُشَبَّهِ بِهِ أَقْوَى بِأَنَّ الْعِبَادَةَ فِيهِ أَشَقُّ وَأَتْعَبُ وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ مَهْمَا أَمْكَنَ فَهُوَ أَوْلَى وَأَحْسَنُ (وَلَيْسَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَهُوَ يُسَبِّحُ اللَّهَ تِلْكَ السَّاعَةِ) أَيْ يُسَبِّحُهُ تَسْبِيحًا خَاصًّا تِلْكَ السَّاعَةِ فَلَا يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ لمقتضي لِكَوْنِهِ كَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ (ثُمَّ قَرَأَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عمر قاله القارىء والظاهر هو الأول (يتفيؤ ظِلَالُهُ إِلَخِ) الْآيَةُ بِتَمَامِهَا مَعَ تَفْسِيرِهَا هَكَذَا (أو لم يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) له ظل كشجر وجبل (يتفيؤ) أَيْ يَمِيلُ (ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ) جَمْعُ شَمْلٍ أَيْ عَنْ جَانِبَيْهَا أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ سُجَّدًا لِلَّهِ حَالٌ أَيْ خَاضِعِينَ بِمَا يُرَادُ مِنْهُمْ وَهُمْ أَيِ الظِّلَالُ دَاخِرُونَ أَيْ صَاغِرُونَ
نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ الْعُقَلَاءِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَفِي سَنَدِهِ يَحْيَى الْبَكَّاءُ وَهُوَ ضَعِيفٌ
قَوْلُهُ (عَنْ عِيسَى بْنِ عُبَيْدِ) بْنِ مَالِكٍ الْكِنْدِيِّ أَبِي الْمُنِيبِ صَدُوقٌ مِنَ الثَّامِنَةِ
قَوْلُهُ (فَمَثَّلُوا بِهِمْ) أَيِ الْكُفَّارُ بِاَلَّذِينَ أُصِيبُوا مِنَ الْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ يُقَالُ مثلث بِالْحَيَوَانِ أُمَثِّلُ بِهِ مَثَلًا إِذَا قَطَعْتَ أَطْرَافَهُ وَشَوَّهْتَ بِهِ وَمَثَّلْتَ بِالْقَتِيلِ إِذَا جَدَعْتَ أَنْفَهُ أَوْ أُذُنَهُ أَوْ مَذَاكِيرَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْ أَطْرَافِهِ والِاسْمُ الْمُثْلَةُ
فَأَمَّا مَثَّلَ بِالتَّشْدِيدِ فَهُوَ لِلْمُبَالَغَةِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ (لَنُرْبِيَنَّ عَلَيْهِمْ) مِنَ الْإِرْبَاءِ أَيْ لَنَزِيدَنَّ وَلَنُضَاعِفَنَّ عَلَيْهِمْ فِي التَّمْثِيلِ (وإن عاقبتم الخ) قال الحافظ بن جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنَينَ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مَنْ ظَلَمَكُمْ وَاعْتَدَى(8/444)
عَلَيْكُمْ فَعَاقِبُوهُ بِمِثْلِ الَّذِي نَالَكُمْ بِهِ ظَالِمُكُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ عَنْ عُقُوبَتِهِ وَاحْتَسَبْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَا نَالَكُمْ بِهِ مِنَ الظُّلْمِ وَوَكَّلْتُمْ أَمْرَهُ إِلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُتَوَلِّي عُقُوبَتَهُ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ يَقُولُ لَلصَّبْرُ عَنْ عُقُوبَتِهِ لِذَلِكَ خَيْرٌ لِأَهْلِ الصَّبْرِ احْتِسَابًا وَابْتِغَاءَ ثَوَابِ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ يُعَوِّضُهُ مِنَ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَنَالَهُ بِانْتِقَامِهِ مِنْ ظَالِمِهِ عَلَى ظُلْمِهِ إِيَّاهُ مِنْ لَذَّةِ الِانْتِصَارِ وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ لَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الصَّبْرِ وَحُسْنِ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَكَرَ قَبْلَ ذَلِكَ الصَّبْرَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ عَلَيْهِ انْتَهَى (كُفُّوا عَنِ الْقَوْمِ إِلَّا أَرْبَعَةً) وَفِي حَدِيثِ سَعْدٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مكة أمن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَّا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَقَالَ اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ وَمَقِيسُ بْنُ صَبَابَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ أَبِي السَّرْحِ الْحَدِيثَ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وبن حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ
8 - (بَاب وَمِنْ سُورَة بَنِي إِسْرَائِيلَ)
مَكِّيَّةٌ إِلَّا (وَإِنْ كادوا ليفتنونك) الايات الثمان ومائة وَعَشْرُ آيَاتٍ أَوْ إِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً
قَوْلُهُ (قَالَ) أَيْ أَبُو هُرَيْرَةَ (فَنَعَتَهُ) أَيْ وَصَفَ النبي مُوسَى (فَإِذَا رَجُلٌ قَالَ حَسِبْتُهُ قَالَ مُضْطَرِبٌ) وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ فَإِذَا رَجُلٌ حَسِبْته قَالَ مُضْطَرِبٌ بِحَذْفِ قَالَ قَبْلَ حَسِبْتُهُ وَكَذَلِكَ فِي بَعْضِ نُسَخِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ الْقَائِلُ حَسِبْتُهُ هُوَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْمُضْطَرِبُ الطَّوِيلُ(8/445)
غَيْرُ الشَّدِيدِ وَقِيلَ الْخَفِيفُ اللَّحْمِ
وَتَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ بِلَفْظِ ضَرِبٌ وَفُسِّرَ بِالنَّحِيفِ وَلَا منافاة بينهما انتهى (الرجل الرَّأْسِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ دَهِينُ الشَّعْرِ مسترسله
وقال بن السِّكِّيتِ شَعْرٌ رَجِلٌ أَيْ غَيْرُ جَعْدٍ (كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ ثُمَّ هَاءُ تَأْنِيثٍ حَيٌّ مِنَ الْيَمَنِ يُنْسَبُونَ إِلَى شَنُوءَةَ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكِ بْنِ نَصْرِ بْنِ الْأَزْدِ وَلُقِّبَ شَنُوءَةَ لِشَنَئَانٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ وَالنِّسْبَةُ إِلَيْهِ شَنُوئِيٌّ بِالْهَمْزِ بَعْدَ الْوَاوِ وَبِالْهَمْزِ بِغَيْرِ وَاوٍ
وقال الدَّاوُدِيُّ رِجَالُ الْأَزْدِ مَعْرُوفُونَ بِالطُّولِ (قَالَ رَبَعَةٌ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا وَهُوَ الْمَرْفُوعُ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَيْسَ بِطَوِيلٍ جِدًّا وَلَا قَصِيرٍ جِدًّا بَلْ وَسَطٌ (مِنْ دِيمَاسٍ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ (يَعْنِي الْحَمَّامَ) هُوَ تَفْسِيرُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ كَمَا فِي الْفَتْحِ وَالدِّيمَاسُ فِي اللُّغَةِ
السِّرْبُ وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْكِنِّ وَالْحَمَّامُ مِنْ جُمْلَةِ الكن
وَالْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ وَصْفُهُ بِصَفَاءِ اللَّوْنِ وَنَضَارَةِ الْجِسْمِ وَكَثْرَةِ مَاءِ الْوَجْهِ حَتَّى كَأَنَّهُ كَانَ فِي مَوْضِعِ كِنٍّ فَخَرَجَ مِنْهُ وَهُوَ عَرْقَانُ
وفي رواية بن عُمَرَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ يَنْطِفُ رَأْسُهُ مَاءً
وَهُوَ مُحْتَمَلٌ لِأَنْ يُرَادَ الْحَقِيقَةُ وَأَنَّهُ عَرَقَ حَتَّى قَطَرَ الْمَاءُ مِنْ رَأْسِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ مَزِيدِ نَضَارَةِ وَجْهِهِ
وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ آدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ (قَالَ وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ) أَيْ قَالَ النَّبِيُّ أنا أشبه أولاد إبراهيم عليه الصلاة والسلام به صورة ومعنى (وأتيت بإنائين أَحَدُهُمَا لَبَنٌ) قِيلَ وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ لَبَنٌ كَأَنَّهُ جَعَلَهُ لَبَنًا كُلَّهُ تَغْلِيبًا لِلَّبَنِ عَلَى الْإِنَاءِ لِكَثْرَتِهِ وَتَكْثِيرًا لِمَا اخْتَارَهُ وَلَمَّا كَانَ الْخَمْرُ مَنْهِيًّا عَنْهُ قَلَّلَهُ فَقَالَ (وَالْآخَرُ فِيهِ خَمْرٌ) أَيْ خَمْرٌ قَلِيلٌ
اعْلَمْ أَنَّهُ قَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي عَدَدِ الْآنِيَةِ فَفِي بَعْضِهَا أتيت بإنائين أَحَدُهُمَا لَبَنٌ وَالْآخَرُ فِيهِ خَمْرٌ كَمَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ ثُمَّ رفع لي البيت المعمور ثم أتيت بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ
وفي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ بن إِسْحَاقَ فِي قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ فَصَلَّى بِهِمْ يَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ ثُمَّ أُتِيَ بِثَلَاثَةِ آنِيَةٍ إِنَاءٌ فِيهِ لَبَنٌ وَإِنَاءٌ فِيهِ خَمْرٌ وَإِنَاءٌ فِيهِ مَاءٌ فأخذت اللبن(8/446)
وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ أَيْضًا فِي مَكَانِ عَرْضِ الْآنِيَةِ فَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَ جِبْرِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ
وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ أُتِيَ رسول الله لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِإِيلِيَاءَ بِإِنَاءٍ فِيهِ خَمْرٌ وَإِنَاءٍ فِيهِ لَبَنٌ فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا فَأَخَذَ اللَّبَنَ
فَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ تَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ عَرْضَ الْآنِيَةِ كَانَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ
وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ الْمَذْكُورَةِ أَنَّهُ كَانَ فِي السَّمَاءِ
قال الْحَافِظُ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَغَيْرِهَا يُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا الِاخْتِلَافِ إِمَّا بِحَمْلِ ثُمَّ عَلَى غَيْرِ بَابِهَا مِنَ التَّرْتِيبِ وَإِنَّمَا هِيَ بِمَعْنَى الْوَاوِ هُنَا وَإِمَّا بِوُقُوعِ عَرْضِ الْآنِيَةِ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَسَبَبُهُ مَا وَقَعَ لَهُ مِنَ الْعَطَشِ كَمَا فِي حَدِيثِ شَدَّادٍ فَصَلَّيْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ وَأَخَذَنِي مِنَ الْعَطَشِ أَشَدُّ مَا أخذني فأتيت بِإِنَاءَيْنِ أَحَدُهُمَا لَبَنٌ وَالْآخَرُ عَسَلٌ إِلَخْ وَمَرَّةً عِنْدَ وُصُولِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَرُؤْيَةُ الْأَنْهَارِ الْأَرْبَعَةِ وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي عَدَدِ الْآنِيَةِ وَمَا فِيهَا فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ ذَكَرَ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْآخَرُ وَمَجْمُوعُهَا أَرْبَعَةُ آنِيَةٍ فِيهَا أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ مِنَ الْأَنْهَارِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي رآها نخرج مِنْ أَصْلِ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى
وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ لَمَّا ذَكَرَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَمِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَمِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَمِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى فَلَعَلَّهُ عُرِضَ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ نَهْرٍ إِنَاءٌ انْتَهَى (هُدِيتَ لِلْفِطْرَةِ أَوْ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي وَالْأَوَّلُ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ مَجْهُولًا وَالثَّانِي مَعْلُومًا
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ تَسْمِيَةِ اللَّبَنِ فِطْرَةً لِأَنَّهُ أَوَّلُ شَيْءٍ يَدْخُلُ بَطْنَ الْمَوْلُودِ وَيَشُقُّ أَمْعَاءَهُ وَالسِّرُّ فِي مَيْلِ النبي إِلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ لِكَوْنِهِ كَانَ مَأْلُوفًا لَهُ وَلِأَنَّهُ لَا يَنْشَأُ عَنْ جِنْسِهِ مَفْسَدَةٌ (أَمَا) بِالتَّخْفِيفِ حَرْفُ التَّنْبِيهِ (إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ) أَيْ ضَلَّتْ نَوْعًا مِنَ الْغَوَايَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى شُرْبِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَرِبَهَا لَأُحِلَّ لِلْأُمَّةِ شُرْبُهَا فَوَقَعُوا فِي ضَرَرِهَا وَشَرِّهَا وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اسْتِقَامَةَ الْمُقْتَدِي مِنَ النَّبِيِّ وَالْعَالِمِ وَالسُّلْطَانِ وَنَحْوِهِمْ سَبَبٌ لِاسْتِقَامَةِ أَتْبَاعِهِمْ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْقَلْبِ لِلْأَعْضَاءِ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ
قَوْلُهُ (أُتِيَ بِالْبُرَاقِ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَرِيقِ فَقَدْ جَاءَ فِي لونه أنه(8/447)
أَبْيَضُ أَوْ مِنَ الْبَرْقِ لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِسُرْعَةِ السَّيْرِ أَوْ مِنْ قَوْلِهِمْ شَاةٌ بَرْقَاءُ إِذَا كَانَ خِلَالُ صُوفِهَا الْأَبْيَضِ طَاقَاتٌ سُودٌ وَلَا يُنَافِيه وَصْفُهُ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ الْبُرَاقَ أَبْيَضُ لِأَنَّ الْبَرْقَاءَ مِنَ الْغَنَمِ مَعْدُودَةٌ فِي الْبَيَاضِ (لَيْلَةَ أُسْرِيَ) بِصِيغَةِ الْمَاضِي الْمَجْهُولِ مِنَ الإسراء (به) أي بالنبي (مُلْجَمًا) اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ الْإِلْجَامِ قَالَ فِي الْقَامُوسِ أَلْجَمَ الدَّابَّةَ أَلْبَسَهَا اللِّجَامَ وَهُوَ كَكِتَابٍ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ (مُسْرَجًا) اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ الْإِسْرَاجِ يُقَالُ أَسْرَجْتَ الدَّابَّةَ إِذَا شَدَدْتَ عَلَيْهَا السَّرْجَ (فَاسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ) أَيْ صَارَ الْبُرَاقُ صَعْبًا عَلَى النبي (أبمحمد) وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ (تَفْعَلُ هَذَا) أَيِ الِاسْتِصْعَابَ (فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ) أَيْ من محمد (فَارْفَضَّ عَرَقًا) أَيْ جَرَى عَرَقُهُ وَسَالَ ثُمَّ سَكَنَ وَانْقَادَ وَتَرَكَ الِاسْتِصْعَابَ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) قَالَ الْحَافِظُ وصححه بن حبان وذكر بن إِسْحَاقَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ لَمَّا شَمَسَ وَضَعَ جبرائيل يَدَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ فَقَالَ أَمَا تَسْتَحْيِي فَذَكَرَ نحوه مرسلا لم يذكر أنسا
وللنسائي وبن مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ مَوْصُولًا وَزَادَ وَكَانَتْ تُسَخَّرُ لِلْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عند بن إِسْحَاقَ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْبُرَاقَ كَانَ مُعَدًّا لِرُكُوبِ الْأَنْبِيَاءِ خِلَافًا لِمَنْ نَفَى ذَلِكَ كَابْنِ دِحْيَةَ وَأَوَّلُ قَوْلِ جِبْرِيلَ فَمَا رَكِبَكَ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ أَيْ مَا رَكِبَكَ أَحَدٌ قَطُّ فَكَيْفَ يَرْكَبُكَ أَكْرَمُ مِنْهُ
وقد جَزَمَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّ الْبُرَاقَ إِنَّمَا اسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ لِبُعْدِ عَهْدِهِ بِرُكُوبِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الزُّبَيْدِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْعَيْنِ وَتَبِعَهُ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ يَرْكَبُونَ الْبُرَاقَ قَالَ وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ
قَالَ الْحَافِظُ قَدْ ذَكَرْتُ النَّقْلَ بِذَلِكَ ثُمَّ ذَكَرَ الْحَافِظُ آثَارًا تَشْهَدُ لِذَلِكَ
قَوْلُهُ (عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ جُنَادَةَ) بِمَضْمُومَةٍ وَخِفَّةِ نُونٍ وَإِهْمَالِ دَالٍ الْهِجْرِيُّ كُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيُّ رَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَعَنْهُ عِيسَى بْنُ يُونُسَ وَأَبُو تُمَيْلَةَ يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ وَغَيْرُهُمَا
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ شَيْخٌ ليس بالمشهور وذكره بن حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَقَالَ(8/448)
فيه جنادة المعلم سكن مرو لَهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ حَدِيثٌ وَاحِدٌ فِي رَبْطِ الْبُرَاقِ
قلتَ وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مَرْوَزِيٌّ ثقة (عن بن بريدة) اسمه عبد الله (لما انتهيا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ) أَيْ وَصَلْنَا إِلَيْهِ (قَالَ جبرائيل بِأُصْبُعِهِ) أَيْ أَشَارَ بِهَا
قَالَ فِي النِّهَايَةِ الْعَرَبُ تَجْعَلُ الْقَوْلَ عِبَارَةً عَنْ جَمِيعِ الْأَفْعَالِ وَتُطْلِقُهُ عَلَى غَيْرِ الْكَلَامِ وَاللِّسَانِ فَتَقُولُ قَالَ بِيَدِهِ أَيْ أَخَذَ وَقَالَ بِرِجْلِهِ أَيْ مَشَى قَالَ الشَّاعِرُ وَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانِ سَمْعًا وَطَاعَةً
أَيْ أَوْمَأَتْ
وَقَالَ بِالْمَاءِ عَلَى يَدِهِ أَيْ قَلَبَ وَقَالَ بِثَوْبِهِ أَيْ رَفَعَهُ وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْمَجَازِ وَالِاتِّسَاعِ (فَخَرَقَ بِهِ الْحَجَرَ) وَفِي البزار لما كان ليلة أسري به فأتى جبريل الصخرة التي ببيت المقدس فوضع أصبعه فِيهَا فَخَرَقَهَا فَشَدَّ بِهَا الْبُرَاقَ
وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَرَكِبْته حَتَّى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ فَرَبَطْته بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ
قوله (هذا حديث غريب) وأخرجه البزار
قوله (لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ) أَيْ نَسَبُونِي إِلَى الْكَذِبِ فِيمَا ذَكَرْتَ مِنْ قَضِيَّةِ الْإِسْرَاءِ وَطَلَبُوا مِنِّي عَلَامَاتِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ (قُمْتُ فِي الْحِجْرُ) بِالْكَسْرِ اسْمُ الْحَائِطِ الْمُسْتَدِيرِ إِلَى جَانِبِ الْكَعْبَةِ الشَّمَالِيِّ (فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مِنَ التَّجْلِيَةِ أَيْ أَظْهَرَهُ لِي قَالَ الْحَافِظُ قِيلَ مَعْنَاهُ كَشَفَ الْحُجُبَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ حَتَّى رَأَيْتُهُ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَ فَسَأَلُونِي عَنْ أَشْيَاءَ لَمْ أُثْبِتْهَا فَكُرِبْتُ كَرْبًا لَمْ أُكْرَبْ مِثْلَهُ قَطُّ فَرَفَعَ اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَنْظُرُ إِلَيْهِ مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا نَبَّأْتهمْ بِهِ
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ حُمِلَ إِلَى أَنْ وُضِعَ بِحَيْثُ يَرَاهُ ثُمَّ أُعِيدَ
وفي حديث بن عَبَّاسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالْبَزَّارِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ حَتَّى وُضِعَ عِنْدَ دَارِ عَقِيلٍ فَنَعَتُّهُ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْمُعْجِزَةِ وَلَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ فَقَدْ أحضر(8/449)
عَرْشُ بِلْقِيسَ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ لِسُلَيْمَانَ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ أُزِيلَ مِنْ مَكَانِهِ حَتَّى أُحْضِرَ إِلَيْهِ وَمَا ذَاكَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ بِعَزِيزٍ انْتَهَى (فَطَفِقْتُ) بِكَسْرِ الْفَاءِ قَبْلَ الْقَافِ أَيْ فَشَرَعْتُ (أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ) أَيْ عَلَامَاتِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَدَلَالَاتُهُ (وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ وأبي سعيد وبن عباس وأبي ذر وبن مَسْعُودٍ) أَمَّا حَدِيثُ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ فَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ أَلَمْ نَشْرَحْ مُخْتَصَرًا وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مُطَوَّلًا
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فأخرجه البيهقي وبن جرير وبن أبي حاتم وأما حديث بن عَبَّاسٍ فَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْبَزَّارُ
وَأَمَّا حديث أبي فأخرجه الشيخان
وأما حديث بن مَسْعُودٍ فَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
تَنْبِيهٌ اعْلَمْ أَنَّ التِّرْمِذِيَّ ذَكَرَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ كَانَ الْإِسْرَاءُ بجسده مَعَ رُوحِهِ أَوْ بِرُوحِهِ فَقَطْ فَذَهَبَ مُعْظَمُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إِلَى الْأَوَّلِ وَذَهَبَ إِلَى الثَّانِي طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ عَائِشَةُ وَمُعَاوِيَةُ والحسن وبن إسحاق
وحكاه بن جَرِيرٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى التَّفْصِيلِ فَقَالُوا كَانَ الْإِسْرَاءُ بِجَسَدِهِ يَقَظَةً إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَإِلَى السَّمَاءِ بِالرُّوحِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ بِقَوْلِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فجعله غاية للإسراء بذاته فَلَوْ كَانَ الْإِسْرَاءُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَعَ بِذَاتِهِ لَذَكَرَهُ وَالَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْكَثِيرَةُ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُعْظَمُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنَ الْإِسْرَاءِ بِجَسَدِهِ وَرُوحِهِ يَقَظَةً إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ السَّمَاوَاتِ وَهُوَ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ وَصَرْفِ هَذَا النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ وَمَا يُمَاثِلُهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْأَحَادِيثِ إِلَى مَا يُخَالِفُ الْحَقِيقَةَ وَلَا مُقْتَضَى لِذَلِكَ إِلَّا مُجَرَّدُ الِاسْتِبْعَادِ وَتَحْكِيمِ مَحْضِ الْعُقُولِ الْقَاصِرَةِ عَنْ فَهْمِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ شَيْءٌ
وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُجَرَّدَ رُؤْيَا كَمَا يَقُولُهُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ بِالرُّوحِ فَقَطْ وَأَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ لم يقع التكذيب من الكفرة للنبي عِنْدَ إِخْبَارِهِ لَهُمْ بِذَلِكَ حَتَّى ارْتَدَّ مَنِ ارْتَدَّ مِمَّنْ لَمْ يَشْرَحْ بِالْإِيمَانِ صَدْرًا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَرَى فِي نَوْمِهِ مَا هُوَ مستبعد بل هُوَ مُحَالٌ وَلَا يُنْكِرُ ذَلِكَ أَحَدٌ وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْسُوطٌ فِي الْمُطَوَّلَاتِ(8/450)
قَوْلُهُ (فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا التي أريناك إلا فتنة للناس) قال الحافظ بن جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ رُؤْيَا عَيْنٍ وَهِيَ ما رأى النبي لَمَّا أُسْرِيَ بِهِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ
وَقَالَ آخَرُونَ هِيَ رُؤْيَاهُ الَّتِي رَأَى أنه يدخل مكة فروى بإسناده عن بن عَبَّاسٍ قَوْلُهُ
وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إلا فتنة للناس قال يقال إن رسول الله أُرِيَ أَنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَهُوَ يومئذ بالمدينة فجعل رسول الله السَّيْرَ إِلَى مَكَّةَ قَبْلَ الْأَجَلِ فَرَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ فقالت أناس قد رد رسول الله وَقَدْ كَانَ حَدَّثَنَا أَنَّهُ سَيَدْخُلُهَا فَكَانَتْ رَجْعَتُهُ فِتْنَتَهُمْ ثُمَّ قَالَ وَقَالَ آخَرُونَ مِمَّنْ قَالَ هِيَ رُؤْيَا مَنَامٍ إِنَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ رَأَى فِي مَنَامِهِ قَوْمًا يَعْلُونَ مِنْبَرَهُ فَذَكَرَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ قَالَ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ عَنَى به الرؤيا رسول الله ما رأى مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ فِي طَرِيقِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَبِبَيْتِ الْمَقْدِسِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ وَإِيَّاهُ عَنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا
فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ وَمَا جَعَلْنَا رُؤْيَاكَ الَّتِي أَرَيْنَاكَ لَيْلَةَ أَسْرَيْنَا بِكَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلا فتنة للناس يقول الإبلاء لِلنَّاسِ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ لَمَّا أُخْبِرُوا بِالرُّؤْيَا الَّتِي رَآهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلِلْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ الَّذِينَ ازْدَادُوا بِسَمَاعِهِمْ ذَلِكَ من رسول الله تَمَادِيًا فِي غَيِّهِمْ وَكُفْرًا إِلَى كُفْرِهِمْ انْتَهَى (قال هي رؤيا عين أريها النبي لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ) أُرِيَهَا بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مِنَ الْإِرَاءَةِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْمَرْئِيِّ وَعِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَالِكٍ قَالَ هُوَ مَا أُرِيَ فِي طَرِيقِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَزَادَ عَنْ سُفْيَانَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ وَلَيْسَتْ رُؤْيَا مَنَامٍ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى إِطْلَاقِ لَفْظِ الرُّؤْيَا عَلَى مَا يُرَى بِالْعَيْنِ فِي الْيَقَظَةِ وَقَدْ أَنْكَرَهُ الْحَرِيرِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ وَقَالُوا إِنَّمَا يُقَالُ رُؤْيَا فِي الْمَنَامِ وَأَمَّا الَّتِي فِي الْيَقَظَةِ فَيُقَالُ رُؤْيَةٌ وَمِمَّنِ اسْتَعْمَلَ الرُّؤْيَا فِي الْيَقَظَةِ الْمُتَنَبِّي فِي قَوْلِهِ
وَرُؤْيَاكَ أَحْلَى فِي الْعُيُونِ مِنَ الْغَمْضِ وَهَذَا التَّفْسِيرُ يَرُدُّ عَلَى مَنْ خَطَّأَهُ كَذَا فِي الْفَتْحِ (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ) بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى الرُّؤْيَا تَقْدِيرُهُ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ (قَالَ هِيَ شجرة الزقوم) هذا هو الصحيح
وذكره بن أَبِي حَاتِمٍ عَنْ بِضْعَةَ عَشَرَ نَفْسًا مِنَ التابعين
وأما(8/451)
الزَّقُّومُ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الدِّينَوَرِيُّ فِي كِتَابِ النَّبَاتِ الزَّقُّومُ شَجَرَةٌ غَبْرَاءُ تَنْبُتُ فِي السَّهْلِ صغير الْوَرَقِ مُدَوَّرَتُهُ لَا شَوْكَ لَهَا زَفْرَةٌ مُرَّةٌ ولها نور أبيض ضعيف تجرسه النحل ورؤوسها قِبَاحٌ جِدًّا وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ قَالَ الْمُشْرِكُونَ يُخْبِرُنَا مُحَمَّدٌ أَنَّ فِي النَّارِ شَجَرَةً وَالنَّارُ تَأْكُلُ الشَّجَرَةَ فَكَانَ ذَلِكَ فِتْنَةً لَهُمْ
فَإِنْ قُلْتَ أَيْنَ لُعِنَتْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ فِي الْقُرْآنِ
قُلْتُ لُعِنَتْ حَيْثُ لُعِنَ الْكُفَّارُ الَّذِينَ يَأْكُلُونَهَا لِأَنَّ الشَّجَرَةَ لَا ذَنْبَ لَهَا حَتَّى تُلْعَنَ وَإِنَّمَا وُصِفَتْ بِلَعْنِ أَصْحَابِهَا عَلَى الْمَجَازِ
وَقِيلَ وَصَفَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِاللَّعْنِ لِأَنَّ اللَّعْنَ الْإِبْعَادُ مِنَ الرَّحْمَةِ وَهِيَ فِي أَصِلْ جَهَنَّمَ فِي أَبْعَدِ مَكَانٍ مِنَ الرَّحْمَةِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ والنسائي
قوله (وقرآن الفجر) قَبْلَهُ (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الليل) فقوله وقرآن الفجر عَطْفٌ عَلَى الصَّلَاةِ وَالْمُرَادُ مِنْ قُرْآنِ الْفَجْرِ صَلَاةُ الْفَجْرِ سُمِّيَتِ الصَّلَاةُ قُرْآنًا لِأَنَّهَا لَا تَجُوزُ إِلَّا بِالْقُرْآنِ (تَشْهَدُهُ) أَيْ تَحْضُرُ قُرْآنَ الفجر يعني صلاته
قال الحافظ بن كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ يَقُولُ تَبَارَكَ وتعالى لرسوله آمِرًا لَهُ بِإِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا أقم الصلاة لدلوك الشمس قيل لغروبها قاله بن مسعود ومجاهد وبن زَيْدٍ
وَقَالَ هُشَيْمٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عن بن عباس دلوكها زوالها ورواه نافع عن بن عُمَرَ وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عن بن عُمَرَ وَقَالَهُ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ وَهُوَ رِوَايَةٌ أيضا عن بن مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٍ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَأَبُو جعفر الباقر وقتادة واختاره بن جَرِيرٍ وَمِمَّا اسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ دَعَوْتُ رسول الله وَمَنْ شَاءَ مِنْ أَصْحَابِهِ فَطَعِمُوا عِنْدِي ثُمَّ خرجوا حين زالت الشمس فخرج النبي فَقَالَ اخْرُجْ يَا أَبَا بَكْرٍ
فَهَذَا حِينَ دَلَكَتِ الشَّمْسُ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ دَخَلَ فِيهَا أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَمِنْ قَوْلِهِ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَهُوَ ظَلَامُهُ وقيل غُرُوبِ الشَّمْسِ أُخِذَ مِنْهُ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَقَوْلُهُ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ يَعْنِي صَلَاةَ الْفَجْرِ
وقد بينت السنة عن رسول الله تَوَاتُرًا مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ تَفَاصِيلَ(8/452)
هَذِهِ الْأَوْقَاتِ عَلَى مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ الْيَوْمَ مِمَّا تَلَقَّوْهُ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ وَقَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوَاضِعِهِ انْتَهَى
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أحمد والنسائي وبن مَاجَهْ
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هُوَ الْإِمَامُ الدَّارِمِيُّ (أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى) الْعَبْسِيُّ الْكُوفِيُّ (عَنْ إِسْرَائِيلَ بْنِ يونس)
قوله (يوم ندعو كل أناس بإمامهم) قال الحافظ بن كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ يُخْبِرُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَنَّهُ يُحَاسِبُ كُلَّ أُمَّةٍ بِإِمَامِهِمْ وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ أَيْ نَبِيِّهِمْ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط الْآيَةَ
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ هَذَا أَكْبَرُ شَرَفٍ لأصحاب الحديث لأن إمامهم النبي وقال بن زَيْدٍ بِكِتَابِهِمُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِمْ مِنَ التشريع واختاره بن جرير وروى عن بن أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ بِكُتُبِهِمْ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ هَذَا وَأَنْ يَكُونَ أراد ما رواه العوفي عن بن عباس في قوله يوم ندعو كل أناس بإمامهم أَيْ بِكِتَابِ أَعْمَالِهِمْ
وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَرْجَحُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ وَقَالَ تَعَالَى وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مما فيه الْآيَةَ وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يُجَاءَ بِالنَّبِيِّ إِذَا حَكَمَ اللَّهُ بَيْنَ أُمَّتِهِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا عَلَى أُمَّتِهِ بِأَعْمَالِهَا وَلَكِنَّ الْمُرَادَ هَا هُنَا بِالْإِمَامِ هُوَ كِتَابُ الأعمال ولهذا قال تعالى(8/453)
يوم ندعو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فأولئك يقرؤون كتابهم إِلَخْ انْتَهَى
قلتَ وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَرْجَحَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا فَإِنَّهُ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ بِإِمَامِهِمْ كِتَابُ أَعْمَالِهِمْ (فَيُعْطَى كِتَابَهُ) أَيْ كِتَابَ أَعْمَالِهِ (وَيُمَدُّ لَهُ فِي جِسْمِهِ) أَيْ يُوَسَّعُ لَهُ فِيهِ (اللَّهُمَّ أَخْزِهِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنَ الْإِخْزَاءِ بِمَعْنَى الْإِذْلَالِ وَالْإِهَانَةِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ بِسَنَدِ التِّرْمِذِيِّ إِلَّا أَنَّ شَيْخَهُ غَيْرُ شَيْخِهِ وَقَالَ لَا يُرْوَى إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ انْتَهَى
وَفِي مُسْنَدِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي كَرِيمَةَ وَالِدُ السُّدِّيِّ وَهُوَ مَجْهُولُ الْحَالِ (وَالسُّدِّيُّ اسْمُهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ أَبِي كَرِيمَةَ وَهُوَ السُّدِّيُّ الْكَبِيرُ
قَوْلُهُ (عَسَى أَنْ يبعثك ربك مقاما محمودا) قال الحافظ بن كَثِيرٍ أَيِ افْعَلْ هَذَا الَّذِي أَمَرْتُكَ بِهِ لِنُقِيمَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَقَامًا مَحْمُودًا يَحْمَدُكَ فِيهِ الخلائق كلهم وخالقهم تبارك وتعالى
قال بن جَرِيرٍ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ ذَلِكَ هُوَ المقام الذي يقومه محمد يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلشَّفَاعَةِ لِلنَّاسِ لِيُرِيحَهُمْ رَبُّهُمْ مِنْ عَظِيمِ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ شِدَّةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ انْتَهَى (وَسُئِلَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (عَنْهَا) أَيْ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ (قَالَ هِيَ الشَّفَاعَةُ) أَيِ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ هُوَ الْمَقَامُ الَّذِي أَشْفَعُ فِيهِ وَتَأْنِيثُ الضَّمِيرِ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ
وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ قال هو المقام الذي أشفع لأمتي فيه
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مسنده وبن جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ(8/454)
قَوْلُهُ (وَدَاوُدُ الزَّعَافِرِيُّ) بِزَايٍ مَفْتُوحَةٍ وَمُهْمَلَةٍ وَكَسْرِ فَاءٍ (هُوَ دَاوُدُ الْأَوْدِيُّ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الواو وبالدال المهملة (بن يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الْأَعْرَجُ الْكُوفِيُّ ضَعِيفٌ مِنَ السَّادِسَةِ (وَهُوَ عَمُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ) بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَوْدِيُّ
قوله (حدثنا سفيان) هو بن عيينة (عن بن أَبِي نَجِيحٍ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَاسْمُ أَبِي نَجِيحٍ يَسَارٌ (وَعَنْ أَبِي مَعْمَرٍ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَخْبَرَةَ
قَوْلُهُ (ثَلَاثُمِائَةِ وَسِتُّونَ نُصُبًا) بِضَمِّ النُّونِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَقَدْ تُسَكَّنُ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ هِيَ وَاحِدَةُ الْأَنْصَابِ وَهُوَ مَا يُنْصَبُ لِلْعِبَادَةِ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى
وَوَقَعَ فِي رواية بن أبي شيبة عن بن عُيَيْنَةَ ضَمًّا بَدَلَ نَصْبًا وَيُطْلَقُ النُّصُبُ وَيُرَادُ بِهِ الْحِجَارَةُ الَّتِي كَانُوا يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا لِلْأَصْنَامِ وَلَيْسَتْ مُرَادَةً هُنَا وَتُطْلَقُ الْأَنْصَابُ عَلَى أَعْلَامِ الطَّرِيقِ وَلَيْسَتْ مُرَادَةً هُنَا وَلَا فِي الْآيَةِ (فجعل النبي يَطْعَنُهَا) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَبِفَتْحِهَا وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ (بِمِخْصَرَةٍ) كَمِكْنَسَةٍ مِمَّا يُتَوَكَّأُ عَلَيْهِ كَالْعَصَا وَنَحْوِهِ
وَمَا يَأْخُذُهُ الْمَلِكُ يُشِيرُ بِهِ إِذَا خَاطَبَ وَالْخَطِيبُ إِذَا خَطَبَ (وَرُبَّمَا قَالَ بِعُودٍ)
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ يَطْعَنُ فِي عَيْنَيْهِ بسية القوس
وفي حديث بن عمر عند الفاكهي وصححه بن حِبَّانَ فَيَسْقُطُ الصَّنَمُ وَلَا يَمَسُّهُ وَلِلْفَاكِهِيِّ وَالطَّبَرَانِيِّ من حديث بن عَبَّاسٍ فَلَمْ يَبْقَ وَثَنٌ اسْتَقْبَلَهُ إِلَّا سَقَطَ عَلَى قَفَاهُ مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ ثَابِتَةً بِالْأَرْضِ وَقَدْ شَدَّ لَهُمْ إِبْلِيسُ أَقْدَامَهَا بِالرَّصَاصِ وَفَعَلَ النبي ذَلِكَ لِإِذْلَالِ الْأَصْنَامِ وَعَابِدِيهَا وَلِإِظْهَارِ أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ وَلَا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا شَيْئًا
كَذَا فِي الْفَتْحِ (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الباطل) أَيْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَبَطَلَ الْكُفْرُ (إِنَّ الْبَاطِلَ كان زهوقا) أي مضمحلا زائلا (جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد) أَيْ زَالَ الْبَاطِلُ وَهَلَكَ لِأَنَّ الْإِبْدَاءَ وَالْإِعَادَةَ مِنْ صِفَةِ الْحَيِّ فَعَدَمُهُمَا عِبَارَةٌ عَنِ الْهَلَاكِ وَالْمَعْنَى جَاءَ الْحَقُّ وَهَلَكَ الْبَاطِلُ
وَقِيلَ الْبَاطِلُ الْأَصْنَامُ
وَقِيلَ إِبْلِيسُ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الْبَاطِلِ أَوْ لِأَنَّهُ هَالِكٌ كَمَا قِيلَ لَهُ الشَّيْطَانُ مِنْ شَاطَ إِذَا هَلَكَ أَيْ لَا يَخْلُقُ الشَّيْطَانُ ولا الصنم أحدا ولا يبعثه فالمنشىء وَالْبَاعِثُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَا شَرِيكَ لَهُ وهذه الاية أعني جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد فِي سُورَةِ سَبَأٍ(8/455)
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ
قوله (وفيه عن بن عمر) أخرجه الفاكهي وصححه بن حِبَّانَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي عِبَارَةِ الْفَتْحِ
قَوْلُهُ (حدثنا جرير) هو بن عَبْدِ الْحَمِيدِ (عَنْ أَبِيهِ) اسْمُهُ حُصَيْنُ بْنُ جُنْدُبِ بْنِ الْحَارِثِ الْجَنْبِيُّ الْكُوفِيُّ ثِقَةٌ مِنَ الثانية
قوله (وقل ربي أدخلني) أي المدينة (مدخل صدق) أَيْ إِدْخَالًا مُرْضِيًا لَا أَرَى فِيهِ مَا أكره (وأخرجني) أي من مكة (مخرج صدق) أَيْ إِخْرَاجًا لَا أَلْتَفِتُ بِقَلْبِي إِلَيْهَا (وَاجْعَلْ لي من لدنك سلطانا نصيرا) أَيْ قُوَّةً تَنْصُرُنِي بِهَا عَلَى أَعْدَائِك
قال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّ كُفَّارَ أَهْلِ مَكَّةَ لَمَّا ائْتَمَرُوا بِرَسُولِ اللَّهِ لِيَقْتُلُوهُ أَوْ يَطْرُدُوهُ أَوْ يُوثِقُوهُ فَأَرَادَ قِتَالَ أَهْلِ مَكَّةَ أَمَرَهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ الْآيَةَ
وَقَالَ قَتَادَةُ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صدق يَعْنِي الْمَدِينَةَ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ يَعْنِي مَكَّةَ وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ
وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَشْهَرُ الْأَقْوَالِ
وَقَالَ العوفي عن بن عَبَّاسٍ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ يَعْنِي الْمَوْتَ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ يَعْنِي الْحَيَاةَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَهُوَ اختيار بن جرير كذا في تفسير بن كَثِيرٍ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ
قَوْلُهُ (نَسْأَلُ عَنْهٌ هَذَا الرَّجُلَ) أَيِ النبي (فَقَالَ سَلُوهُ) كَذَا فِي النُّسَخِ الحَاضِرَةِ عِنْدَنَا(8/456)
بِلَفْظِ الوَاحِدِ وَنَقَلَ الْحَافِظُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْفَتْحِ عَنِ التِّرْمِذِيِّ وَفِيهِ فَقَالُوا بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَهُوَ الظَّاهِرُ
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدِ التِّرْمِذِيِّ وَفِيهِ أَيْضًا فقالوا بصيغة الجمع (فأنزل الله تعالى يسألونك عن الروح) حديث بن عَبَّاسٍ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نزلت بمكة
وفي حديث بن مَسْعُودٍ الْآتِي قَالَ كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ فِي حَرْثٍ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ إِلَخْ
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ صَحِيحِهِ وَفِيهِ بَيْنَا أنا أمشي مع النبي في حرث الْمَدِينَةِ إِلَخْ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ
قَالَ الْحَافِظُ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بأن يتعدد النزول بحمل سكونه فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ عَلَى تَوَقُّعِ مَزِيدِ بَيَانٍ فِي ذَلِكَ وَإِنْ سَاغَ هَذَا وَإِلَّا فَمَا فِي الصَّحِيحِ أَصَحُّ قَالَ وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ حَقِيقَةِ الرُّوحِ الَّذِي فِي الْحَيَوَانِ وَقِيلَ عَنْ جِبْرِيلَ وَقِيلَ عَنْ عِيسَى وَقِيلَ عَنِ الْقُرْآنِ وَقِيلَ عَنْ خَلْقٍ عَظِيمٍ رُوحَانِيٍّ وقيل غير ذلك
وجنح بن الْقَيِّمِ فِي كِتَابِ الرُّوحِ إِلَى تَرْجِيحِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّوحِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا فِي الْآيَةِ مَا وَقَعَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ والملائكة صفا قَالَ وَأَمَّا أَرْوَاحُ بَنِي آدَمَ فَلَمْ يَقَعْ تَسْمِيَتُهَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا نَفْسًا كَذَا قَالَ وَلَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ لِمَا رَجَّحَهُ بَلِ الرَّاجِحُ الْأَوَّلُ يَعْنِي رُوحَ الْإِنْسَانِ
فَقَدْ أَخْرَجَ الطبري من طريق العوفي عن بن عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهُمْ قَالُوا عَنِ الرُّوحِ وَكَيْفَ يُعَذَّبُ الرُّوحُ الَّذِي فِي الْجَسَدِ وَإِنَّمَا الرُّوحُ مِنَ اللَّهِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ هَذَا تَلْخُيصُ كَلْامِ الْحَافِظِ (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ ربي)
قَالَ الْخَازِنُ تَكَلَّمَ قَوْمٌ فِي مَاهِيةِ الرُّوحِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ الدَّمُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَاتَ لَا يَفُوتُ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا الدَّمُ وَقَالَ قَوْمٌ هُوَ نَفْسُ الْحَيَوَانِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَمُوتُ بِاحْتِبَاسِ النَّفْسِ وَقَالَ قَوْمٌ هُوَ عَرَضٌ وَقَالَ قَوْمٌ هُوَ جِسْمٌ لَطِيفٌ يحيى بِهِ الْإِنْسَانُ وَقِيلَ الرُّوحُ مَعْنًى اجْتَمَعَ فِيهِ النُّورُ وَالطِّبُ وَالْعِلْمُ وَاْلعُلُوُّ وَالْبَقَاءُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَوْجُودًا يَكُونُ الْإِنْسَانُ مَوْصُوفًا بِجَمِيعِ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَإِذَا خَرَجَ مِنْهُ ذَهَبَ الْكُلُّ
وَأَقَاوِيلُ الْحُكَمَاءِ وَالصُّوفِيةِ فِي مَاهِيةِ الرُّوحِ كَثِيرَةٌ وَأَوْلَى الْأَقَاوِيلِ أَنْ يُوكَلَ عِلْمُهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ(8/457)
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُطْلِعْ عَلَى الرُّوحِ مَلَكًا مُقَرَّبًا وَلَا نَبِيًّا مُرْسَلًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أمر ربي) أَيْ مِنْ عِلْمِ رَبِّي الَّذِي اسْتَأْثَرَ بِهِ (قالوا) أي لليهود (أُوتِينَا عِلْمًا كَبِيرًا) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ كَثِيرًا مكان كبيرا
(قل لو كان البحر) أَيْ مَاؤُهُ (مِدَادًا) هُوَ مَا يُكْتَبُ بِهِ (لِكَلِمَاتِ رَبِّي) الدَّالَّةِ عَلَى حُكْمِهِ وَعَجَائِبِهِ بِأَنْ تُكْتَبَ بِهِ (لَنَفِدَ الْبَحْرُ) فِي كِتَابَتِهَا وَبَقِيَّةُ الْآيَةِ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ
بِالتَّاءِ وَالْيَاءِ (تَفْرُغُ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ) أَيِ الْبَحْرِ (مَدَدًا) أَيْ زِيَادَةً وَلَمْ تَفْرُغْ هِيِ وَنَصْبُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ رِجَالُهُ رِجَالُ مُسْلِمٍ وَهُوَ عند بن إسحاق من وجه آخر عن بن عباس نحوه
قوله (عن عبد الله) هو بن مَسْعُودٍ
قَوْلُهُ (فِي حَرْثٍ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الراء بعدها مثلثة (وهو يتوكأ) أي تعتمد (عَلَى عَسِيبٍ) بِمُهْمَلَتَيْنِ وَآخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ بِوَزْنِ عَظِيمٍ وَهِيَ الْجَرِيدَةُ الَّتِي لَا خُوصَ فِيهَا وَوَقَعَ في رواية بن حبان ومعه جريدة
قال بن فَارِسٍ الْعُسْبَانُ مِنَ النَّخْلِ كَالْقُضْبَانِ مِنْ غَيْرِهَا (بِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ) هَذَا اللَّفْظُ مَعْرِفَةٌ تَدْخُلُهُ اللَّامُ تَارَةً وَتَارَةً يَتَجَرَّدُ وَحَذَفُوا مِنْهُ يَاءَ النِّسْبَةِ فَفَرَّقُوا بَيْنَ مُفْرَدِهِ وَجَمْعِهِ كَمَا قَالُوا زِنْجٌ وَزِنْجِيٌّ (حَتَّى صَعِدَ الْوَحْيُ) أَيْ حَامِلُهُ (ثم قال الروح من أمر ربي(8/458)
قَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْمُخْتَارُ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْحَيَاةِ وَأَنَّ الْجَوَابَ وَقَعَ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَبَيَانُهُ أَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الرُّوحِ يَحْتَمِلُ عَنْ مَاهِيَّتِه وَهَلْ هِيَ مُتَحَيِّزَةٌ أَمْ لَا وَهَلْ هِيَ حَالَّةٌ فِي مُتَحَيِّزٍ أَمْ لَا وَهَلْ هِيَ قَدِيمَةٌ أو حادثة وهي تَبْقَى بَعْدَ انْفِصَالِهَا مِنَ الْجَسَدِ أَوْ تَفْنَى وَمَا حَقِيقَةُ تَعْذِيبِهَا وَتَنْعِيمِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهَا قَالَ وَلَيْسَ فِي السُّؤَالِ مَا يُخَصِّصُ أَحَدَ هَذِهِ الْمَعَانِي إِلَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنِ الْمَاهِيَّةِ وَهَلِ الرُّوحُ قَدِيمَةٌ أَوْ حَادِثَةٌ
وَالْجَوَابُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا شَيْءٌ مَوْجُودٌ مُغَايِرٌ لِلطَّبَائِعِ وَالْأَخْلَاطِ وَتَرْكِيبُهَا فَهُوَ جَوْهَرٌ بَسِيطٌ مُجَرَّدٌ لَا يَحْدُثُ إِلَّا بِمُحْدِثٍ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى كُنْ فَكَأَنَّهُ قَالَ هِيَ مَوْجُودَةٌ مُحْدَثَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ وَتَكْوِينِهِ وَلَهَا تَأْثِيرٌ فِي إِفَادَةِ الْحَيَاةِ لِلْجَسَدِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ بِكَيْفِيَّتِهَا الْمَخْصُوصَةِ نَفْيُهُ
قَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ مِنْ أَمْرِ رَبِّي الفعل كقوله وما أمر فرعون برشيد أَيْ فِعْلُهُ
فيكون الْجَوَابُ الرُّوح مِنْ فِعْلِ رَبِّي إِنْ كَانَ السُّؤَالُ هَلْ هِيَ قَدِيمَةٌ أَوْ حَادِثَةٌ فَيَكُونُ الْجَوَابُ إِنَّهَا حَادِثَةٌ إِلَى أَنْ قَالَ وَقَدْ سَكَتَ السَّلَفُ عَنِ الْبَحْثِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَالتَّعَمُّقِ فِيهَا انْتَهَى (وَمَا أوتيتم من العلم إلا قليلا) أي بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِهِ تَعَالَى
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ
قَوْلُهُ (عَنْ علي بن زيد) هو بن جَدْعَانَ (عَنْ أَوْسِ بْنِ خَالِدٍ) قَالَ فِي التَّقْرِيبِ أَوْسُ بْنُ أَبِي أَوْسٍ وَاسْمُ أَبِي أَوْسٍ خَالِدٌ الْحِجَازِيُّ يُكَنَّى أَبَا خَالِدٍ مَجْهُولٌ وَقِيلَ إِنَّهُ أَبُو الْجَوْزَاءِ فَإِنْ صَحَّ فَلَعَلَّ لَهُ كُنْيَتَيْنِ
قَوْلُهُ (صِنْفًا مُشَاةً) بِضَمِّ الْمِيمِ جَمْعُ مَاشٍ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ خَلَطُوا صَالِحَ أَعْمَالِهِمْ بِسَيِّئِهَا (وَصِنْفًا رُكْبَانًا) أَيْ عَلَى النُّوقِ وَهُوَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَهُمُ السَّابِقُونَ الْكَامِلُونَ الْإِيمَانَ وَإِنَّمَا بَدَأَ بِالْمُشَاةِ جَبْرًا لِخَاطِرِهِمْ كَمَا قِيلَ في قوله تعالى فمنهم ظالم لنفسه وَفِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إناثا أَوْ لِأَنَّهُمُ الْمُحْتَاجُونَ إِلَى الْمَغْفِرَةِ أَوَّلًا أَوْ لِإِرَادَةِ التَّرَقِّي وَهُوَ ظَاهِرٌ
وَقَالَ التُّورْبَشْتِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنْ قِيلَ لِمَ بَدَأَ بِالْمُشَاةِ بِالذِّكْرِ قَبْلَ أُولِي السَّابِقَةِ(8/459)
قُلْنَا لِأَنَّهُمْ هُمُ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ (وَصِنْفًا عَلَى وُجُوهِهِمْ) أَيْ يَمْشُونَ عَلَيْهَا وَهُمُ الْكُفَّارُ (قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ) أَيْ وَالْعَادَةُ أَنْ يُمْشَى عَلَى الْأَرْجُلِ (قَالَ) إِنَّ الَّذِي أَمَشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمَشِّيهِمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ يَعْنِي وَقَدْ أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما) وَإِخْبَارُهُ حَقٌّ وَوَعْدُهُ صِدْقٌ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيء قدير فلا ينبغي أن يستعد مِثْلُ ذَلِكَ (أَمَا) بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّهُمْ) أَيِ الْكُفَّارُ (يَتَّقُونَ) أَيْ يَحْتَرِزُونَ وَيَدْفَعُونَ (كُلَّ حَدَبٍ) أي مكان مرتفع (وشوكة) وَاحِدَةُ الشَّوْكِ وَهِيَ بِالْفَارِسِيَّةِ خَارَ
قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ يَتَّقُونَ بِوُجُوهِهِمْ يُرِيدُ بِهِ بَيَانَ هَوَانِهِمْ وَاضْطِرَارِهِمْ إِلَى حَدٍّ جَعَلُوا وُجُوهَهُمْ مَكَانَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ فِي التَّوَقِّي عَنْ مُؤْذِيَاتِ الطُّرُقِ وَالْمَشْيِ إِلَى الْمَقْصِدِ لَمَّا لَمْ يَجْعَلُوهَا سَاجِدَةً لِمَنْ خَلَقَهَا وَصَوَّرَهَا
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وأخرجه بن جرير وبن مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ (وَقَدْ رَوَى وُهَيْبُ) بْنُ خَالِدٍ (عن بن طَاوُسٍ) اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ كَيْسَانُ بْنُ سَعِيدٍ
قَوْلُهُ (إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ رِجَالًا) بِكَسْرِ الرَّاءِ جَمْعُ رَاجِلٍ بِمَعْنَى مَاشٍ (تُجَرُّونَ) عَلَى وُجُوهِكُمْ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْجَرِّ أَيْ تُسْحَبُونَ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي بَابِ شَأْنِ الْحَشْرِ مِنْ أَبْوَابِ صِفَةِ الْقِيَامَةِ وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ تَخْرِيجُهُ(8/460)
قَوْلُهُ (إِنَّ يَهُودِيَّيْنِ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اذْهَبْ بِنَا إِلَخْ) تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ شَرْحِهِ فِي بَابِ قِبْلَةُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ أَبْوَابِ الِاسْتِئْذَانِ وَالْأَدَبِ
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ) هُوَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ (عَنْ أَبِي بِشْرٍ) هُوَ جَعْفَرُ بْنُ إِيَاسٍ (وَهُشَيْمٍ) بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى شُعْبَةَ (قَالَ نَزَلَتْ) أَيْ هَذِهِ الْآيَةُ (سَبَّهُ الْمُشْرِكُونَ) الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ لِلْقُرْآنِ (وَمَنْ أَنْزَلَهُ) عَطْفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ (وَمَنْ جاء بِهِ) أَيْ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَاللَّهَ سُبْحَانَهُ وَجِبْرِيلَ (ولا تجهر بصلاتك) أَيْ لَا تُعْلِنْ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إِعْلَانًا شَدِيدًا فَيَسْمَعُكَ الْمُشْرِكُونَ (فَيُسَبَّ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِتَقْدِيرِ أَنْ بَعْدَ الْفَاءِ (الْقُرْآنُ) نَائِبُ الْفَاعِلِ (ولا تخافت بها) أَيْ لَا تَخْفِضْ صَوْتَكَ بِالْقِرَاءَةِ (بِأَنْ تُسْمِعَهُمْ حَتَّى يَأْخُذُوا عَنْكَ الْقُرْآنَ) يَعْنِيَ اقْرَأِ الْقُرْآنَ بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ أَصْحَابُكَ وَيَأْخُذُونَهُ عَنْكَ وَلَا يَسْمَعُهُ الْمُشْرِكُونَ فَيَسُبُّونَهُ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ بن عباس موصولا(8/461)
قوله (ورسول الله مُخْتَفٍ بِمَكَّةَ) يَعْنِي فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ (لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ أَيْ بِقِرَاءَتِكَ) وَهُوَ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْكُلِّ وَإِرَادَةِ الْجُزْءِ (وَابْتَغِ) أَيِ اطْلُبْ (بين ذلك سبيلا) أَيْ طَرِيقًا وَسَطًا بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ
قَوْلُهُ (عن مسعر) هو بن كِدَامٍ (قَالَ لَا) أَيْ قَالَ حُذَيْفَةُ لَمْ يصل رسول الله فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَقَوْلُهُ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أنه لم يبلغه أحاديث صلاته فِيهِ (قُلْتُ بَلَى) أَيْ قَدْ صَلَّى فِيهِ (يَا أَصْلَعُ) هُوَ الَّذِي انْحَسَرَ الشَّعْرُ عَنْ رَأْسِهِ
قَالَهُ الْجَزَرِيُّ وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ الصَّلَعُ مُحَرَّكَةٌ انْحِسَارُ شَعْرِ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ لِنُقْصَانِ مَادَّةِ الشَّعْرِ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ وَقُصُورِهَا عَنْهَا وَاسْتِيلَاءِ الجفاف عَلَيْهَا (بِمَ تَقُولُ ذَلِكَ) أَيْ بِأَيِّ دَلِيلٍ تقول إنه صلى الله عليه وسلم فِيهِ (قُلْتُ بِالْقُرْآنِ) أَيْ أَقُولُ بِالْقُرْآنِ (بَيْنِي(8/462)
وبينك القرآن) أي يحكم بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْقُرْآنُ وَيَفْصِلُ (مَنِ احْتَجَّ بِالْقُرْآنِ فَقَدْ أَفْلَحَ) أَيْ فَازَ بِمَرَامِهِ (قَالَ سُفْيَانُ) أَيْ فِي بَيَانِ مُرَادِ حُذَيْفَةَ بِقَوْلِهِ أَفْلَحَ (يَقُولُ) أَيْ حُذَيْفَةُ يَعْنِي يُرِيدُ (قَدِ احْتَجَّ) أَيْ أَتَى بِالْحُجَّةِ الصَّحِيحَةِ (وَرُبَّمَا قَالَ) أَيْ سُفْيَانُ (قَدْ فَلَجَ) مِنَ الْفَلْجِ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَبِالْجِيمِ وَهُوَ الظَّفْرُ وَالْفَوْزُ وَفَلَجَ عَلَى خَصْمِهِ مِنْ بَابِ نَصَرَ كَذَا فِي مُخْتَارِ الصِّحَاحِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَفْلَحَ مِنْ بَابِ الْإِفْعَال وَهُوَ بِمَعْنَى الْفَلَجِ
قَالَ فِي الْقَامُوسِ الْفَلَجُ وَالظَّفْرُ وَالْفَوْزُ كَالْإِفْلَاجِ (فَقَالَ) أَيْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) يعني إذ أسرى به إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَدَخَلَهُ
فالظاهر أَنَّهُ قَدْ صَلَّى فِيهِ (قَالَ) أَيْ حُذَيْفَةُ (أَفَتَرَاهُ صَلَّى فِيهِ) يَعْنِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَصْرِيحٌ لِصَلَاتِهِ (قُلْتُ لَا) يَعْنِي لَيْسَ فِيهَا تَصْرِيحٌ لَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ صَلَّى فِيهِ (قَالَ لَوْ صَلَّى فِيهِ لَكُتِبَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْكُمْ فِيهِ كَمَا كُتِبَتِ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) قَدْ أَجَابَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ عَنْ قَوْلِ حُذَيْفَةَ هَذَا فَقَالَ (وَالْجَوَابُ عَنْهُ مَنَعُ التَّلَازُمَ فِي الصَّلَاةِ إِنْ كَانَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْفَرْضُ وَإِنْ أَرَادَ التَّشْرِيعَ فَنَلْتَزِمُهُ وَقَدْ شَرَعَ النبي الصَّلَاةَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَرَنَهُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِهِ فِي شَدِّ الرِّحَالِ وَذَكَرَ فَضِيلَةَ الصَّلَاةِ فِيهِ فِي غَيْرِ مَا حَدِيثٍ
وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَأَوْثَقْتُ دَابَّتِي بِالْحَلَقَةِ الَّتِي كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ تَرْبِطُ بِهَا وَفِيهِ فَدَخَلْتُ أَنَا وَجِبْرِيلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَصَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا رَكْعَتَيْنِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ نَحْوَهُ وَزَادَ ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَعَرَفْتُ النَّبِيِّينَ مِنْ بَيْنِ قَائِمٍ وَرَاكِعٍ وَسَاجِدٍ ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ
وَفِي حَدِيثِ بن مسعود عند مسلم وحانت الصلاة فأمتهم انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ مُخْتَصَرًا (بِدَابَّةٍ) هِيَ الْبُرَاقُ (طَوِيلَةِ الظَّهْرِ مَمْدُودَةٍ هَكَذَا) أَيْ أَشَارَ حُذَيْفَةُ لِطُولِ ظَهْرِهَا وَمَدَّ بِيَدِهِ (خَطْوُهُ) فِي الْقَامُوسِ خَطَا خَطْوًا مَشَى وَالْخُطْوَةُ وَيُفْتَحُ مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ (مَدُّ بَصَرِهِ) أَيْ مُنْتَهَى بَصَرِهِ (فَمَا زَايَلَهَا ظَهْرُ الْبَرْقِ) أَيْ مَا فَارَقَ النَّبِيُّ وَجِبْرِيلُ ظَهْرَهُ فِي الْقَامُوسِ زَايَلَهُ مُزَايَلَةً وَزِيَالًا فَارَقَهُ انْتَهَى
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام كان راكبا مع النبي على(8/463)
البراق
وفي صحيح بن حبان من حديث بن مَسْعُودٍ أَنَّ جِبْرِيلَ حَمَلَهُ عَلَى الْبُرَاقِ رَدِيفًا لَهُ وَفِي رِوَايَةِ الْحَرْثِ فِي مُسْنَدِهِ أُتِيَ بِالْبُرَاقِ فَرَكِبَ خَلْفَ جِبْرِيلَ فَسَارَ بِهِمَا فَهَذَا صَرِيحٌ فِي رُكُوبِهِ مَعَهُ
فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ رُكُوبَ جِبْرِيلَ مَعَ النَّبِيِّ عَلَى الْبُرَاقِ (ثُمَّ رَجَعَا عَوْدُهُمَا عَلَى بَدْئِهِمَا) قَالَ فِي الْقَامُوسِ رَجَعَ عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ وَعَوْدُهُ عَلَى بَدْئِهِ أَيْ لَمْ يَقْطَعْ ذَهَابَهُ حَتَّى وَصَلَهُ بِرُجُوعِهِ (وَيَتَحَدَّثُونَ أَنَّهُ رَبَطَهُ لِمَا لَيَفِرُّ مِنْهُ إِلَخْ) قَدْ أَجَابَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ قَوْلِ حُذَيْفَةَ هَذَا وَقَوْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ فَقَالَ الْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي
قال الْحَافِظُ بَعْدَ ذِكْرِ كَلَامِ الْبَيْهَقِيِّ هَذَا يَعْنِي مَنْ أَثْبَتَ رَبْطَ الْبُرَاقِ وَالصَّلَاةَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ عَلَى مَنْ نَفَى ذَلِكَ فَهُوَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ بُرَيْدَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ لما كان ليلة أسري به فأتى جبريل الصخرة التي ببيت المقدس فوضع أصبعه فيها فَخَرَقَهَا فَشَدَّ بِهَا الْبُرَاقَ وَنَحْوَهُ لِلتِّرْمِذِيِّ انْتَهَى
وَقَوْلُهُ لِمَا يَعْنِي لِأَيِّ شَيْءٍ رَبَطَ الْبُرَاقَ ثُمَّ قَالَ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ لِيَفِرَّ مِنْهُ أَيْ هَلْ رَبَطَهُ لِخَوْفِ فِرَارِهِ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ إِنَّمَا سَخَّرَهُ إِلَخْ يَعْنِي لَا يُمْكِنُ مِنْهُ الْفِرَارُ لِأَنَّهُ مُسَخَّرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا حَاجَةَ إِلَى رَبْطِهِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ
قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي نَضْرَةَ) اسْمُهُ الْمُنْذِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ قُطْنَةَ الْعَبْدِيُّ
قَوْلُهُ (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ) قَالَهُ إِخْبَارًا عَمَّا أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْفَضْلِ وَالسُّؤْدُدِ وَتَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَهُ وَإِعْلَامًا مِنْهُ لِأُمَّتِهِ لِيَكُونَ إِيمَانُهُمْ بِهِ عَلَى حَسْبِهِ وَمُوجِبِهِ وَلِهَذَا أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ (وَلَا فَخْرَ) أَيْ أَنَّ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ الَّتِي نِلْتُهَا كَرَامَةً مِنَ اللَّهِ لَمْ أَنَلْهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِي وَلَا بَلَغْتُهَا بِقُوَّتِي فَلَيْسَ لِي أَنْ أَفْتَخِرَ بِهَا قَالَهُ الْجَزَرِيُّ
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا قَالَهُ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى(8/464)
وأما بنعمه ربك فحدث وَثَانِيهِمَا
أَنَّهُ مِنَ الْبَيَانِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ تَبْلِيغُهُ إِلَى أُمَّتِهِ لِيَعْرِفُوهُ وَيَعْتَقِدُوهُ وَيَعْمَلُوا بِمُقْتَضَاهُ في توقيره كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ انْتَهَى (لِوَاءُ الْحَمْدِ) اللِّوَاءُ بِالْكَسْرِ وَبِالْمَدِّ الرَّايَةُ وَلَا يُمْسِكُهَا إِلَّا صَاحِبُ الْجَيْشِ قَالَهُ الْجَزَرِيُّ فِي النِّهَايَةِ
قال الطِّيبِيُّ لِوَاءُ الْحَمْدِ عِبَارَةٌ عَنِ الشُّهْرَةِ وانفراده بالحمد على رؤوس الْخَلَائِقِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِحَمْدِهِ لِوَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَقِيقَةً يُسَمَّى لِوَاءَ الْحَمْدِ
وَقَالَ التُّورْبَشْتِيُّ لَا مَقَامَ مِنْ مَقَامَاتِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَرْفَعُ وَأَعْلَى مِنْ مَقَامِ الْحَمْدِ وَدُونَهُ تَنْتَهِي سَائِرُ الْمَقَامَاتِ وَلَمَّا كَانَ نَبِيُّنَا سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ أَحْمَدَ الْخَلَائِقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أُعْطِيَ لِوَاءَ الْحَمْدِ لِيَأْوِيَ إِلَى لِوَائِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ وَإِلَيْهِ الإشارة بقوله آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي انْتَهَى
قُلْتُ حَمْلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ هُوَ الظَّاهِرُ بَلْ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ لِأَنَّهُ لَا يُصَارُ إِلَى الْمَجَازِ مَعَ إِمْكَانِ الْحَقِيقَةِ (وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي) قَالَ الطِّيبِيُّ نَبِيٌّ نَكِرَةٌ وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَأُدْخِلَ عَلَيْهِ مِنَ الِاسْتِغْراقِيَّة فَيُفِيدُ استغراق الجنس وقوله آدم فمن إما أَوْ بَدَلٌ مِنْ مَحَلِّهِ وَمَنْ فِيهِ مَوْصُولَةٌ وَسِوَاهُ صِلَتُهُ وَصَحَّ لِأَنَّهُ ظَرْفٌ وَأُوثِرَ الْفَاءُ التَّفْصِيلِيَّةُ فِي فَمَنْ سِوَاهُ عَلَى الْوَاوِ لِلتَّرْتِيبِ على منوال قولهم الْأَمْثَلَ فَالْأَمْثَلَ (وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ) أَيْ لِلْبَعْثِ فَلَا يَتَقَدَّمُ أَحَدٌ عَلَيْهِ بَعْثًا فَهُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ (فَيَفْزَعُ النَّاسُ ثَلَاثَ فَزَعَاتٍ)
قال الْقُرْطُبِيُّ كَأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ إِذَا جِيءَ بِجَهَنَّمَ فَإِذَا زَفَرَتْ فَزِعَ النَّاسُ حِينَئِذٍ وَجَثَوْا عَلَى رُكَبِهِمْ (إِنِّي أَذْنَبْتُ ذَنْبًا) يَعْنِي أَكْلَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهَا (أُهْبِطْتُ مِنْهُ) بِسَبَبِهِ وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ ذَنْبًا (فَيَقُولُ إِنِّي دَعَوْتَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ دَعْوَةً فَأُهْلِكُوا) وَفِي رِوَايَةٍ إِنِّي دَعَوْتُ بِدَعْوَةٍ أَغْرَقَتْ أَهْلَ الْأَرْضِ وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ قَوْلُهُ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ ديارا وفي رواية قال إنه لو كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُ بِهَا عَلَى قَوْمِي وَفِي رِوَايَةٍ وَيَذْكُرُ سُؤَالَ رَبِّهِ مَا لَيْسَ له به علم
قال الحافظ ويجمع بينه اعْتَذَرَ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا نَهْيُ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ أَنْ يَسْأَلَ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ فَخَشِيَ أَنْ تَكُونَ شَفَاعَتُهُ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ مِنْ ذَلِكَ ثَانِيهِمَا أَنَّ لَهُ دَعْوَةً وَاحِدَةً مُحَقَّقَةَ الإجابة(8/465)
وَقَدِ اسْتَوْفَاهَا بِدُعَائِهِ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَخَشِيَ أَنْ يَطْلُبَ فَلَا يُجَابَ (فَيَقُولُ إِنِّي كَذَبْتُ ثَلَاثَ كِذْبَاتٍ) يَأْتِي بَيَانُ هَذِهِ الْكِذْبَاتِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ الْحَقُّ أَنَّ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثَ إِنَّمَا هِيَ مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ صُورَتُهَا صُورَةَ الْكَذِبِ أَشْفَقَ مِنْهَا اسْتِصْغَارًا لِنَفْسِهِ عَنِ الشَّفَاعَةِ مَعَ وُقُوعِهَا لِأَنَّ مَنْ كَانَ أَعْرَفَ بِاَللَّهِ وَأَقْرَبَ إِلَيْهِ منزلة كان أعظم خوفا (إلا ما حل بِهَا) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ
قَالَ فِي النِّهَايَةِ أَيْ دَفَعَ وَجَادَلَ مِنَ الْمِحَالِ بِالْكَسْرِ وَهُوَ الْكَيْدُ وَقِيلَ الْمَكْرُ وَقِيلَ الْقُوَّةُ وَالشِّدَّةُ وَمِيمُهُ أَصْلِيَّةٌ وَرَجُلٌ مَحِلٌ أَيْ ذُو كَيْدٍ (فَيَقُولُ إِنِّي قَدْ قَتَلْتُ نَفْسًا) وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ إِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ وَإِنْ يُغْفَرْ لِي الْيَوْمَ حَسْبِي (فَيَقُولُ إِنِّي عُبِدْتُ مِنْ دُونِ اللَّهِ) وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ والنسائي من حديث بن عَبَّاسٍ إِنِّي اتُّخِذْتُ إِلَهًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ وَنَحْوَهُ وَزَادَ وَإِنْ يُغْفَرْ لِيَ الْيَوْمَ حَسْبِي (قَالَ بن جَدْعَانَ قَالَ أَنَسٌ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ قَالَ فَآخُذُ بِحَلْقَةِ بَابِ الْجَنَّةِ فَأُقَعْقِعُهَا) أخذ بن جَدْعَانَ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ لَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَلِذَا صَرَّحَ بِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ فَيُقَالُ مَنْ هَذَا فَيُقَالُ مُحَمَّدٌ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ فَهُوَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ لَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ سُفْيَانُ بِقَوْلِهِ لَيْسَ عَنْ أَنَسٍ إِلَّا هَذِهِ الْكَلِمَةُ فَآخُذُ بِحَلْقَةِ بَابِ الْجَنَّةِ فَأُقَعْقِعُهَا (فَأُقَعْقِعُهَا) أَيْ أُحَرِّكُهَا لِتُصَوِّتَ وَالْقَعْقَعَةُ حِكَايَةُ حَرَكَةِ الشَّيْءِ يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ (فَيَقُولُونَ مَرْحَبًا) هَذَا بَيَانٌ لِقَوْلِهِ يُرَحِّبُونَ بِي (وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ التَّفْعِيلِ أَيْ تُقْبَلَ شَفَاعَتُك
قَوْلُهُ (هذا حديث حسن) وأخرجه أحمد وبن مَاجَهْ مُخْتَصَرًا وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا التِّرْمِذِيُّ فِي(8/466)
أَوَائِلِ الْمَنَاقِبِ مُخْتَصَرًا
قَوْلُهُ (وَقَدْ رَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أبي نضرة عن بن عباس الحديث بطوله) أخرجه أحمد
9 - (باب وَمِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ)
مَكِّيَّةٌ وَهِيَ مِائَةٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً (إِنَّ نَوْفًا) بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الواو بعدها فاء هو بن فَضَالَةَ (الْبِكَالِيُّ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالْكَافِ مُخَفَّفًا وَبَعْدَ الْأَلِفِ لَامٌ وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى بَنِي بِكَالِ بْنِ دَعْمِيِّ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَوْفٍ بَطْنٌ من حمير ويقال إنه بن امرأة كعب الأحبار وقيل بن أَخِيهِ وَهُوَ تَابِعِيٌّ صَدُوقٌ (يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى صَاحِبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَيْسَ بِمُوسَى صَاحِبِ الْخَضِرِ) وفي رواية بن إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ قال كنت عند بن عَبَّاسٍ وَعِنْدَهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ بعضهم يا بن عَبَّاسٍ إِنَّ نَوْفًا يَزْعُمُ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّ مُوسَى الَّذِي طَلَبَ الْعِلْمَ إِنَّمَا هُوَ موسى بن ميشا أي بن إفراثيم بن يوسف عليه السلام فقال بن عَبَّاسٍ أَسَمِعْتَ ذَلِكَ مِنْهُ يَا سَعِيدُ قُلْتُ نعم قال كذب نوف
قال بن إسحاق في المبتدأ كان موسى بن ميشاقيل مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ نَبِيًّا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيَزْعُمُ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُ الَّذِي صَحِبَ الْخَضِرَ كَذَا فِي الْفَتْحِ (قَالَ كَذِبَ عَدُوُّ اللَّهِ) هَذَانِ اللَّفْظَانِ مَحْمُولَانِ عَلَى إِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ وَالتَّنْفِيرِ عَنْ تَصْدِيقِ تِلْكَ الْمُقَابَلَةِ
قَالَ بن التين لم يرد بن عَبَّاسٍ إِخْرَاجَ نَوْفٍ عَنْ وِلَايَةِ اللَّهِ وَلَكِنْ قلوب العلماء تتنفر إذا سَمِعَتْ غَيْرَ الْحَقِّ فَيُطْلِقُونَ أَمْثَالَ هَذَا الْكَلَامِ لِقَصْدِ الزَّجْرِ وَحَقِيقَتُهُ غَيْرُ مُرَادَةٍ (فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ) الْعَتْبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَحْمُولٌ عَلَى ما(8/467)
يَلِيقُ بِهِ لَا عَلَى مَعْنَاهُ الْعُرْفِيِّ فِي الْآدَمِيِّينَ كَنَظَائِرِهِ (أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ) اخْتُلِفَ فِي مَكَانِ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ فَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ بَحْرُ فَارِسَ وَالرُّومِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ وَذَكَرَ الحافظ في الفتح أقوال مُخْتَلِفَةً فِيهِ ثُمَّ قَالَ هَذَا اخْتِلَافٌ شَدِيدٌ (أَيْ رَبِّ) أَصْلُهُ رَبِّي حُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ لِلتَّخْفِيفِ اكْتِفَاءً بِالْكَسْرِ (فَكَيْفَ لِي بِهِ) أَيْ كَيْفَ الِالْتِقَاءُ لِي بِذَلِكَ الْعَبْدِ (أَحْمِلُ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ قَالَ فِي الْقَامُوسِ هُوَ زِنْبِيلٌ يَسَعُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَقِيلَ لَهُ تَزَوَّدْ حُوتًا مَالِحًا
قال الْحَافِظُ يُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْحُوتَ كَانَ مَيِّتًا لِأَنَّهُ لَا يُمَلَّحُ وَهُوَ حَيٌّ (فَهُوَ ثَمَّ) بِفَتْحِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ ظَرْفٌ بِمَعْنَى هُنَاكَ وَقَالَتِ النُّحَاةُ هُوَ اسْمٌ يُشَارُ بِهِ إِلَى الْمَكَانِ الْبَعِيدِ أَيْ فَذَلِكَ الْعَبْدُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ (فَتَاهُ) أَيْ صَاحِبُهُ (وَهُوَ يُوشَعُ) بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ (بْنُ نُونٍ) مَصْرُوفٌ كَنُوحٍ
وَيُوشَعُ بْنُ نُونٍ هَذَا مِنْ أَوْلَادِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنَّمَا قَالَ فَتَاهُ لِأَنَّهُ كَانَ يَخْدُمُهُ وَيَتْبَعُهُ وَقِيلَ كَانَ يَأْخُذُ الْعِلْمَ عَنْهُ وَهُوَ الَّذِي قَامَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مَوْتِ مُوسَى (حَتَّى إِذَا أَتَيَا الصَّخْرَةَ) أَيِ الَّتِي عِنْدَ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ وَالصَّخْرَةُ فِي اللُّغَةِ الْحَجَرُ الْكَبِيرُ (فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُ جَرْيَةَ الْمَاءِ) أَيْ جَرَيَانَهُ (حَتَّى كَانَ مِثْلَ الطَّاقِ) الطَّاقُ مَا عُطِفَ مِنَ الْأَبْنِيَةِ أَيْ جُعِلَ كَالْقَوْسِ مِنْ قَنْطَرَةٍ وَنَافِذَةٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ فَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمَاءِ فَجَعَلَ لَا يَلْتَئِمُ عَلَيْهِ حَتَّى صَارَ مِثْلَ الْكَوَّةِ (وَكَانَ لِلْحُوتِ سربا) أي مسلكا ومذهبا يسرب ويذهب فِيهِ (وَكَانَ لِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَبًا) أَيْ شَيْئًا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ (آتِنَا غَدَاءَنَا) أَيْ طَعَامَنَا وَزَادَنَا (نَصَبًا) أَيْ شِدَّةً وَتَعَبًا (لَمْ يَنْصَبْ) أَيْ لَمْ يَتْعَبْ مِنْ بَابِ سَمِعَ يَسْمَعُ(8/468)
وفي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ (أَرَأَيْتَ) أَيْ أَخْبِرْنِي (إِذْ) ظَرْفٌ بِمَعْنَى حِينَ وَفِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ أَرَأَيْتَ مَا دَهَانِي إِذْ أَوَيْنَا إِلَخْ (ذَلِكَ) أَيْ فُقْدَانُ الْحُوتِ (مَا كُنَّا نَبْغِ) أَيْ هُوَ الَّذِي كَنا نَطْلُبُهُ لِأَنَّهُ عَلَامَةُ وُجْدَانِ الْمَقْصُودِ (فَارْتَدَّا) أَيْ رَجَعَا (عَلَى آثَارِهِمَا) أَيْ آثَارِ سَيْرِهِمَا (قَصَصًا) أَيْ يَقُصَّانِ قَصَصًا (يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا)
قال فِي الْقَامُوسِ قَصَّ أَثَرَهُ قَصًّا وَقَصَصًا تَتَبَّعَهُ وَقَالَ فِيهِ (فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا) أَيْ رَجَعَا مِنَ الطَّرِيقِ الَّذِي سَلَكَاهُ يَقْتَصَّانِ الْأَثَرَ
قَالَ سُفْيَانُ يَزْعُمُ نَاسٌ إِلَى قَوْلِهِ (فَلَمَّا قُطِرَ عَلَيْهِ الْمَاءُ عَاشَ) وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي التَّفْسِيرِ قال سفيان وفي حديث غير عمر
وقال وَفِي أَصْلِ الصَّخْرَةِ عَيْنٌ يُقَالُ لَهَا الْحَيَاةُ لَا يُصِيبُ مِنْ مَائِهَا شَيْءٌ إِلَّا حَيِيَ فَأَصَابَ الْحُوتُ مِنْ مَاءِ تِلْكَ الْعَيْنِ قَالَ فَتَحَرَّكَ وَانْسَلَّ مِنَ الْمِكْتَلِ فَدَخَلَ الْبَحْرَ
قال الْحَافِظُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ الَّتِي ذَكَرَ سُفْيَانُ أَنَّهَا في حديث غير عمر وقد أخرجها بن مَرْدَوَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ سُفْيَانَ مُدْرَجَةً فِي حَدِيثِ عَمْرٍو وَأَظُنُّ أَنَّ بن عُيَيْنَةَ أَخَذَ ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ فَقَدْ أَخْرَجَ بن أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِهِ قَالَ فَأَتَى عَلَى عَيْنٍ فِي الْبَحْرِ يُقَالُ لَهَا عَيْنُ الْحَيَاةِ فَلَمَّا أَصَابَ تِلْكَ الْعَيْنَ رَدَّ اللَّهُ رُوحَ الْحُوتِ إِلَيْهِ وَقَدْ أَنْكَرَ الدَّاوُدِيُّ فِيمَا حَكَاهُ بن التِّينِ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فَقَالَ لَا أَرَى هَذَا يَثْبُتُ فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَهُوَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ انْتَهَى وَقَوْلُهُ قَطَرَ عَلَيْهِ الْمَاءَ مِنَ الْقَطْرِ وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ جكيدن وجكانيدان لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ (مُسَجًّى) اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ التَّسْجِيَةِ أَيْ مُغَطًّى (فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى) وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَكَشَفَ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ (فَقَالَ أَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ) قَالَ الْحَافِظُ هِيَ بِمَعْنَى أَيْنَ أَوْ كَيْفَ وَهُوَ اسْتِفْهَامُ اسْتِبْعَادٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ تِلْكَ الْأَرْضِ لَمْ يَكُونُوا إِذْ ذَاكَ مُسْلِمِينَ (فَقَالَ أَنَا مُوسَى) فِي(8/469)
رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مَنْ أَنْتَ قَالَ أَنَا مُوسَى (إِنَّكَ عَلَى عِلْمٍ مِنَ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ) أَيْ لَا أَعْلَمُ جَمِيعَهُ (وَأَنَا عَلَى عِلْمٍ مِنَ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ) أَيْ لَا تَعْلَمُ جَمِيعَهُ
وَتَقْدِيرُ ذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ لِأَنَّ الْخَضِرَ كَانَ يَعْرِفُ مِنَ الْحُكْمِ الظَّاهِرِ مالا غِنًى بِالْمُكَلَّفِ عَنْهُ وَمُوسَى كَانَ يَعْرِفُ مِنَ الْحُكْمِ الْبَاطِنِ مَا يَأْتِيهِ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ (رَشَدًا) صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ أَيْ عِلْمًا رَشَدًا أَيْ ذَا رَشَدٍ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ رَجُلٍ عَدْلٍ (إِنَّكَ لن تستطيع معي صبرا) كَذَا أُطْلِقَ بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى اسْتِمْرَارِ النَّفْيِ لِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ مُوسَى لَا يَصْبِرُ عَلَى تَرْكِ الْإِنْكَارِ إِذَا رَأَى مَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ لِأَنَّ ذَلِكَ شَأْنُ عِصْمَتِهِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْأَلْهُ مُوسَى عَنْ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّيَانَةِ بَلْ مَشَى مَعَهُ لِيُشَاهِدَ مِنْهُ مَا اطَّلَعَ بِهِ عَلَى مَنْزِلَتِهِ فِي الْعِلْمِ الَّذِي اخْتُصَّ بِهِ (وَكَيْفَ تَصْبِرُ) اسْتِفْهَامٌ عَنْ سُؤَالٍ تَقْدِيرُهُ لِمَ
قُلْتَ أَنِّي لَا أَصْبِرُ وَأَنَا سَأَصْبِرُ قَالَ كَيْفَ تَصْبِرُ (عَلَى مَا لم تحط به خبرا) أَيْ عِلْمًا (فَانْطَلَقَ الْخَضِرُ وَمُوسَى يَمْشِيَانِ) لَمْ يَذْكُرْ فَتَى مُوسَى وَهُوَ يُوشَعُ لِأَنَّهُ تَابِعٌ غير مقصود بالأصالة (فكلما هم) أي أهل السفينة (بِغَيْرِ نَوْلٍ) بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَهُوَ الْأُجْرَةُ (فَنَزَعَهُ) أَيْ قَلَعَهُ (إِمْرًا) أَيْ مُنْكَرًا
قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَوْ عَظِيمًا قَالَهُ قَتَادَةُ (لَا تؤاخذني بما نسيت) كَلِمَةُ مَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً أَيْ بِاَلَّذِي نَسِيتُ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ نَسِيتُهُ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً أَيْ بِنِسْيَانِي وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً بِمَعْنَى شَيْءٍ أَيْ بِشَيْءٍ نَسِيتُهُ (لَا تُرْهِقْنِي) أَيْ لَا تُكَلِّفْنِي (عُسْرًا) أَيْ مَشَقَّةً فِي صُحْبَتِي إِيَّاكَ أَيْ عَامِلْنِي فِيهَا بِالْعَفْوِ وَالْيُسْرِ (فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأْسِهِ فَاقْتَلَعَهُ) وَفِي رواية للبخاري(8/470)
فَأَخَذَ غُلَامًا كَافِرًا ظَرِيفًا فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ بالسكين ويجمع بينهما بأنه ذبحه ثم اقتله رأسه (أقتلت نفسا ذكية) أَيْ طَاهِرَةً مِنَ الذُّنُوبِ (بِغَيْرِ نَفْسٍ) أَيْ بِغَيْرِ قِصَاصٍ لَكَ عَلَيْهَا (نُكْرًا) أَيْ مُنْكَرًا وعن قتادة وبن كَيْسَانَ النُّكْرُ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ مِنَ الْإِمْرِ (وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنَ الْأُولَى) أَيْ أَوْكَدُ مِنَ الْأُولَى حَيْثُ زَادَ كَلِمَةَ لَكَ (فَلَا تُصَاحِبْنِي) أَيْ فارقني (قد بلغت من لدني عذرا) أَيْ بَلَغْتَ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي تُعْذَرُ بِسَبَبِهَا فِي فِرَاقِي (حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ) قِيلَ الْأَيْلَةُ وَقِيلَ أَنْطَاكِيَّةُ وَقِيلَ أَذْرَبِيجَانُ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ
وَذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ أَقْوَالًا عَدِيدَةً ثُمَّ قَالَ هَذَا الِاخْتِلَافُ قَرِيبٌ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي الْمُرَادِ بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ وَشِدَّةُ الْمُبَايَنَةِ فِي ذَلِكَ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَوْثُقَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ (أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا) أَيْ يُنْزِلُوهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْأَضْيَافِ (فِيهَا) أَيْ فِي الْقَرْيَةِ (يُرِيدُ أَنْ ينقض) هذا عن الْمَجَازِ لِأَنَّ الْجِدَارَ لَا يَكُونُ لَهُ حَقِيقَةُ إرادة أي قرب ودنى مِنَ الِانْقِضَاضِ وَهُوَ السُّقُوطُ وَاسْتَدَلَّ الْأُصُولِيُّونَ بِهَذَا عَلَى وُجُودِ الْمَجَازِ فِي الْقُرْآنِ وَلَهُ نَظَائِرُ مَعْرُوفَةٌ (يَقُولُ مَائِلٌ) هَذَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ (فَقَالَ الْخَضِرُ بِيَدِهِ هَكَذَا أَيْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ وَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ وَهَذَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرٌ (قَوْمٌ) أَيْ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ أو هم قوم (لاتخذت عليه أجرا) أَيْ أُجْرَةً وَجُعْلًا (قَالَ) أَيِ الْخَضِرُ لِمُوسَى (هَذَا فِرَاقُ) أَيْ وَقْتُ فِرَاقٍ (بَيْنِي وَبَيْنَكَ) فِيهِ إِضَافَةٌ بَيْنَ إِلَى غَيْرِ مُتَعَدِّدٍ سَوَّغَهَا تَكْرِيرُهُ بِالْعَطْفِ بِالْوَاوِ (سَأُنَبِّئُكَ) قَبْلَ فِرَاقِي (يَرْحَمُ الله موسى) إخبار ولكن والمراد مِنْهُ الْإِنْشَاءُ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ لَهُ بِالرَّحْمَةِ (الْأُولَى) صِفَةٌ مَوْصُوفُهَا مَحْذُوفٌ أَيِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى (نِسْيَانًا) خَبَرُ كَانَتْ وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي التَّفْسِيرِ كَانَتِ الْأُولَى نِسْيَانًا وَالْوُسْطَى شَرْطًا وَالثَّالِثَةُ عَمْدًا
قَالَ الْعَيْنِيُّ قَوْلُهُ نِسْيَانًا حَيْثُ قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتَ وَشَرْطًا حَيْثُ قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا وَعَمْدًا حَيْثُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (وَجَاءَ عُصْفُورٌ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ طَيْرٌ مَشْهُورٌ وَقِيلَ هُوَ الصُّرَدُ (عَلَى(8/471)
حَرْفِ السَّفِينَةِ) أَيْ عَلَى طَرَفِهَا (مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ) لَفْظُ النَّقْصِ ليس له ظَاهِرِهِ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَا يَدْخُلُهُ النَّقْصُ فَقِيلَ مَعْنَاهُ لَمْ يَأْخُذْ وَهَذَا تَوْجِيهٌ حَسَنٌ وَيَكُونُ التَّشْبِيهُ وَاقِعًا عَلَى الْأَخْذِ لَا عَلَى الْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَأَحْسَنُ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ الْمَعْلُومُ بِدَلِيلِ دُخُولِ حَرْفِ التَّبْعِيضِ لِأَنَّ الْعِلْمَ الْقَائِمَ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى صِفَةٌ قَائِمَةٌ لَا تَتَبَعَّضُ وَالْمَعْلُومُ هُوَ الَّذِي يَتَبَعَّضُ
وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْمُرَادُ أَنَّ نَقْصَ الْعُصْفُورِ لَا يَنْقُصُ الْبَحْرَ بِهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ كَمَا قِيلَ وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
أَيْ لَيْسَ فِيهِمْ عَيْبٌ
وَحَاصِلُهُ أَنَّ نَفْيَ النَّقْصِ أُطْلِقَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ وَقِيلَ إِلَّا بِمَعْنَى وَلَا أَيْ وَلَا كَنَقْرَةِ هذا العصفور
وقد وقع في رواية بن جُرَيْجٍ بِلَفْظٍ أَحْسَنَ سِيَاقًا مِنْ هَذَا وَأَبْعَدَ إِشْكَالًا فَقَالَ مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ فِي جَنْبِ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَمَا أَخَذَ هَذَا الْعُصْفُورُ بِمِنْقَارِهِ مِنَ الْبَحْرِ وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِلَّفْظِ الَّذِي وَقَعَ هُنَا كَذَا فِي الْفَتْحِ (يَقْرَأُ وَكَانَ أَمَامَهُمْ) وَالْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ وَكَانَ وَرَاءَهُمْ (مَلِكٌ يَأْخُذُ كل سفينة صالحة) كذا كان يقرأ بن عَبَّاسٍ بِزِيَادَةِ صَالِحَةٍ بَعْدَ كُلَّ سَفِينَةٍ وَكَذَا كَانَ يَقْرَأُ أُبَيٌّ فَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ وَكَانَ أُبَيٌّ يَقْرَأُ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ سُفْيَانَ وكان بن مَسْعُودٍ يَقْرَأُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَحِيحَةٍ غَصْبًا (وَكَانَ يقرأ) أي بن عَبَّاسٍ (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا) وَالْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ فَوْقَ الْعَشَرَةِ وَمُسْلِمٌ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ وَالنَّسَائِيُّ (قَالَ أَبُو مُزَاحِمٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ) اسْمُهُ سباع بكسر السين المهملة بعدها(8/472)
موحدة بن النَّضْرِ مَقْبُولٌ مِنَ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ (وَلَيْسَتْ لِي هِمَّةٌ) بِالْكَسْرِ وَيُفْتَحُ مَا هَمَّ بِهِ مِنْ أَمْرٍ لِيَفْعَلَ وَأُوِّلَ الْعَزْمُ وَالْعَزْمُ الْقَوِيُّ (إِلَّا أَنْ أَسْمَعَ مِنْ سُفْيَانَ يَذْكُرُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْخَبَرَ) أَيْ لَفْظَ حَدَّثَنَا أَوْ أَخْبَرَنَا (حَتَّى سَمِعْتُهُ) أَيْ سُفْيَانَ (يَقُولُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَقَدْ كُنْتَ سَمِعْتَ هَذَا) أَيْ هَذَا الْحَدِيثَ (مِنْ سُفْيَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْخَبَرَ) أَيْ لَمْ يَذْكُرْ سُفْيَانُ لَفْظَ حَدَّثَنَا أَوْ أَخْبَرَنَا بَلْ ذَكَرَ لَفْظَ عَنْ أو اقل أو نحوهما وإنما لم يقنع بن الْمَدِينِيِّ عَلَى مَا سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ سُفْيَانَ بِغَيْرِ لَفْظِ الْخَبَرِ لِأَنَّهُ كَانَ يُدَلِّسُ وَإِنْ كَانَ تَدْلِيسُهُ مِنَ الثِّقَاتِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَافِظُ فِي طَبَقَاتِ الْمُدَلِّسِينَ
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عَبَّاسٍ) الشِّبَامِيُّ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ خَفِيفَةٍ نَزَلَ الْكُوفَةَ صَدُوقٌ يَتَشَيَّعُ مِنَ السَّابِعَةِ
قَوْلُهُ (طُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كَافِرًا) أَيْ خُلِقَ يَوْمَ خُلِقَ كَافِرًا يَعْنِي خُلِقَ عَلَى أَنَّهُ يَخْتَارُ الْكُفْرَ فَلَا يُنَافِي خَبَرَ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ إِذِ الْمُرَادُ بِالْفِطْرَةِ اسْتِعْدَادُ قَبُولِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ شَقِيًّا فِي جِبِلَّتِهِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وبن جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى) هُوَ الْبَلْخِيُّ (إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ أَوْ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَإِسْكَانِ ثَانِيهِ ثَبَتَتْ بِهِمَا الرِّوَايَةُ وَبِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِيهِ وَبِحَذْفِهِمَا قَالَهُ الْحَافِظُ (جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ) زَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ بَعْدَ أن أخرجه الفروة الحشيش الأبيض وما(8/473)
أشبهه
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بَعْدَ أَنْ رَوَاهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ أَظُنُّ هَذَا تَفْسِيرًا مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ انْتَهَى
وَجَزَمَ بِذَلِكَ عِيَاضٌ وَقَالَ الْحَرْبِيُّ الْفَرْوَةُ مِنَ الْأَرْضِ قِطْعَةٌ يَابِسَةٌ مِنْ حَشِيشٍ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ
وعن بن الْأَعْرَابِيِّ الْفَرْوَةُ أَرْضٌ بَيْضَاءُ لَيْسَ فِيهَا نَبَاتٌ وَبِهَذَا جَزَمَ الْخَطَّابِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ (فَاهْتَزَّتْ) أَيْ تَحَرَّكَتِ الْفَرْوَةُ (خَضْرَاءَ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَوْ فَكَسْرٍ مُنَوَّنًا أَيْ نَبَاتًا أَخْضَرَ نَاعِمًا وَهُوَ إِمَّا تَمْيِيزٌ أَوْ حَالٌ
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ خَضْرَاءُ عَلَى زِنَةِ حَمْرَاءَ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ البخاري وغيره
قَوْلُهُ (عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ) كَذَا وَقَعَ فِي النُّسَخِ الْمَوْجُودَةِ بِذِكْرِ لَفْظِ
حَدِيثٍ بَيْنَ عَنْ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِحَذْفِهِ وَكَذَلِكَ وقع في مسند أحمد وسنن بن مَاجَهْ
قَوْلُهُ (فِي السَّدِّ) أَيِ الَّذِي بَنَاهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ (يَحْفِرُونَهُ) الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ لِيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَالْمَنْصُوبُ لِلسَّدِّ (قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ) أَيِ الَّذِي هُوَ أَمِيرٌ عَلَيْهِمْ (فَيُعِيدُهُ) أَيِ السَّدَّ الْمَخْرُوقَ (كَأَمْثَلِ مَا كَانَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ كَأَشَدِّ مَا كَانَ (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مُدَّتَهُمْ) وَفِي رواية بن مَاجَهْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ مُدَّتُهُمْ أَيِ الْمُدَّةُ التي قدرت لهم (واستثنى) أي قال إنشاء الله (قال) أي رسول الله (فيستقون المياه) وفي رواية بن مَاجَهْ فَيُنَشِّفُونَ الْمَاءَ وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَيَشْرَبُونَ مِيَاهَ الْأَرْضِ (وَيَفِرُّ النَّاسُ منهم) وفي رواية بن مَاجَهْ وَيَتَحَصَّنُ النَّاسُ مِنْهُمْ فِي حُصُونِهِمْ وَفِي حديث أبي سعيد عند بن مَاجَهْ وَيَنْحَازُ مِنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى تَصِيرَ بَقِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي مَدَائِنِهِمْ وَحُصُونِهِمْ (فَتَرْجِعُ مُخَضَّبَةً بِالدِّمَاءِ) أَيْ فَتَرْجِعُ السِّهَامُ مَصْبُوغَةً بِالدِّمَاءِ إِلَيْهِمْ (وَعَلَوْنَا من في(8/474)
السَّمَاءِ) أَيْ غَلَبْنَاهُمْ (قَسْوَةً وَعُلُوًّا) أَيْ يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ غِلْظَةً وَفَظَاظَةً وَتَكَبُّرًا (فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَغَفًا) بِفَتْحِ النُّونِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ دُودٌ يَكُونُ فِي أُنُوفِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ جَمْعُ نَغَفَةٍ (فِي أَقْفَائِهِمْ) جَمْعُ قَفًا وَهُوَ وَرَاءَ الْعُنُقِ وَفِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ فِي رِقَابِهِمْ (فيهلكون) وفي حديث أبي سعيد عند بن مَاجَهْ فَيَمُوتُونَ مَوْتَ الْجَرَادِ وَفِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسً وَاحِدَةٍ (إِنَّ دَوَابَّ الْأَرْضِ تَسْمَنُ) مِنَ السِّمَنِ ضِدُّ الْهُزَالِ (وَتَبْطَرُ) مِنَ الْبَطَرِ مُحَرَّكَةٌ النَّشَاطُ وَالْأَشَرُ (وَتَشْكَرُ) يُقَالُ شَكَرَتِ النَّاقَةُ امْتَلَأَ ضَرْعُهَا لَبَنًا وَالدَّابَّةُ سَمِنَتْ وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ الثَّلَاثَةُ مِنْ بَابِ سَمِعَ يَسْمَعُ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وبن مَاجَهْ
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبُرْسَانِيُّ) أبو عثمان الْبَصْرِيُّ (قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي) هُوَ جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ الْأَنْصَارِيِّ ثِقَةٌ مِنَ الثالثة (عن بن مِينَاءَ) اسْمُهُ زِيَادٌ مَقْبُولٌ مِنَ الثَّالِثَةِ (عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي فَضَالَةَ) قَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي فَضَالَةَ الْأَنْصَارِيُّ الْحَارِثِيُّ وَيُقَالُ أَبُو سَعِيدِ بْنُ فَضَالَةَ بْنِ أَبِي فَضَالَةَ الْمَدَنِيِّ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْنَى الشُّرَكَاءِ إِلَخْ
رَوَى عنه زياد بن ميناء ذكره بن سَعْدٍ فِي طَبَقَةِ أَهْلِ الْخَنْدَقِ
قَوْلُهُ (لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) أَيْ لِيَجْزِيَهُمْ فِيهِ (لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ) أَيْ فِي وُقُوعِ ذَلِكَ الْيَوْمِ (أَحَدًا) مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ أَشْرَكَ أَيْ أَحَدًا غَيْرَ اللَّهِ (فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ) أَيْ هُوَ أَغْنَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ عَلَى فَرْضِ أَنَّ لَهُمْ غِنًى (عَنِ الشِّرْكِ) أَيْ عَمَّا يُشْرِكُونَ بِهِ مِمَّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي قَصْدِ الْعَمَلِ وَالْمَعْنَى مَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ وَابْتِغَاءً لِمَرْضَاتِهِ فَاسْمُ الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ الشِّرْكُ(8/475)
مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ
وَهَذَا الْحَدِيثُ أَوْرَدَهُ التِّرْمِذِيُّ هَا هُنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا
قوله (هذا حديث غريب) وأخرجه أحمد وبن ماجه وبن حبان في صحيحه والبيهقي
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ الْجَزَرِيُّ) الرَّسْعَنِيُّ أَبُو الْفَضْلِ وَيُقَالُ لَهُ الرَّاسِبِيُّ صَدُوقٌ حَافِظٌ مِنَ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ (أَخْبَرَنَا صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ) الثَّقَفِيُّ مَوْلَاهُمْ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ الدِّمَشْقِيُّ ثِقَةٌ وَكَانَ يُدَلِّسُ تَدْلِيسَ التَّسْوِيَةِ مِنَ الْعَاشِرَةِ (عَنْ يَزِيدَ بْنِ يُوسُفَ) الرَّحَبِيِّ (الصَّنْعَانِيُّ) صَنْعَاءُ دِمَشْقُ ضَعِيفٌ مِنَ التَّاسِعَةِ
قَوْلُهُ (وَكَانَ تحته كنز لهما قَالَ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْكَنْزَ كَانَ ذَهَبًا وَفِضَّةً وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ فَقَالَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ كَانَ تَحْتَهُ مَالٌ مَدْفُونٌ لَهُمَا وَهَذَا ظَاهِرُ السياق من الآية وهو اختيار بن جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ بن عَبَّاسٍ كَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ عِلْمٌ كَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ صُحُفٌ فِيهَا عِلْمٌ
قُلْتُ لَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ هُوَ الظَّاهِرُ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ هَذَا وَفِي سَنَدِهِ يَزِيدُ بْنُ يُوسُفَ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ والحاكم وصححه(8/476)
20 - (باب وَمِنْ سُورَةِ مَرْيَمَ)
مَكِّيَّةٌ أَوْ إِلَّا سَجْدَتُهَا فَمَدَنِيَّةٌ أَوْ إِلَّا (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) آيَتَيْنِ فَمَدَنِيَّتَانِ وَهِيَ ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ آية
قوله (حدثنا بن إِدْرِيسَ) اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
قَوْلُهُ (إِلَى نَجْرَانَ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ هُوَ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْيَمَنِ انْتَهَى
وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ نَجْرَانُ مَوْضِعٌ بِالْيَمَنِ فُتِحَ سَنَةَ عَشْرٍ سُمِّيَ بِنَجْرَانَ بْنِ زَيْدَانَ بْنِ سَبَأٍ وَمَوْضِعٌ بِالْبَحْرَيْنِ موضع بِحُورَانَ قُرْبِ دِمَشْقَ وَمَوْضِعٌ بَيْنَ الْكُوفَةِ وَوَاسِطٍ انتهى (فقالوا) أي أهل نجران (ألستم تقرأون) أَيْ فِي الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ (يَا أخت هارون) وَبَعْدَهُ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كانت أمك بغيا
قال بن كَثِيرٍ أَيْ يَا شَبِيهَةَ هَارُونَ فِي الْعِبَادَةِ أَنْتِ مِنْ بَيْتٍ طَيِّبٍ طَاهِرٍ مَعْرُوفٍ بِالصَّلَاحِ وَالْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ فَكَيْفَ صَدَرَ هَذَا مِنْكِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَالسُّدِّيُّ قِيلَ لَهَا أُخْتُ هَارُونَ أَيْ أَخِي مُوسَى وَكَانَتْ مِنْ نَسْلِهِ كَمَا يُقَالُ لِلتَّمِيمِيِّ يَا أَخَا تَمِيمٍ وَالْمُضَرِيِّ يَا أَخَا مُضَرَ وَقِيلَ نُسِبَتْ إِلَى رَجُلٍ صَالِحٍ كَانَ فِيهِمُ اسْمُهُ هَارُونُ فَكَانَتْ تَتَأَسَّى بِهِ فِي الزَّهَادَةِ وَالْعِبَادَةِ انْتَهَى (وَقَدْ كَانَ بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى مَا كَانَ) أَيْ مِنْ طُولِ الزَّمَانِ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلَامُ أُخْتًا لِهَارُونَ أَخِي مُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (أَلَّا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ حَرْفُ التَّحْضِيضِ أَيْ هَلَّا (أَخْبَرْتَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ) يَعْنِي أَنَّ هَارُونَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (يَا أخت هارون) لَيْسَ هُوَ هَارُونَ النَّبِيَّ أَخَا مُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَلِ الْمُرَادُ بِهَارُونَ هَذَا رَجُلٌ آخَرُ مُسَمًّى بِهَارُونَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ أَوْلَادَهُمْ بأسماء الأنبياء والصالحين قبلهم
قال بن جَرِيرٍ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي السَّبَبِ الَّذِي قِيلَ لَهَا يَا(8/477)
أُخْتَ هَارُونَ وَمَنْ كَانَ هَارُونُ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ نَسَبُوا مَرْيَمَ إِلَى أنها أخته فقال بعضهم قيل لها هَارُونُ نِسْبَةً مِنْهُمْ لَهَا إِلَى الصَّلَاحِ لِأَنَّ أَهْلَ الصَّلَاحِ فِيهِمْ كَانُوا يُسَمَّوْنَ هَارُونَ وَلَيْسَ بِهَارُونَ أَخِي مُوسَى
ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ ثُمَّ قَالَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنِيَ به هارون أخو مُوسَى وَنُسِبَتْ مَرْيَمُ إِلَى أَنَّهَا أُخْتُهُ لِأَنَّهَا مِنْ وَلَدِهِ يُقَالُ لِلتَّمِيمِيِّ يَا أَخَا تَمِيمٍ وَلِلْمُضَرِيِّ يَا أَخَا مُضَرَ
ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ ثُمَّ قَالَ وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ كَانَ ذَلِكَ رَجُلًا مِنْهُمْ فَاسِقًا مُعْلِنَ الْفِسْقِ فَنَسَبُوهَا إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَعْنِي حَدِيثَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ هَذَا) وَإِنَّهَا نُسِبَتْ إِلَى رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهَا انْتَهَى مُلَخَّصًا
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
قَوْلُهُ (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) يَعْنِي خَوِّفْ يَا مُحَمَّدٌ الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْحَسْرَةِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسِيءَ يَتَحَسَّرُ هَلَّا أَحْسَنَ الْعَمَلَ وَالْمُحْسِنُ هَلَّا زَادَ فِي الْإِحْسَانِ (يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابِ خُلُودِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ (حَتَّى يُوقَفَ عَلَى السُّورِ) أَيْ سُورِ الْأَعْرَافِ (فَيَشْرَئِبُّونَ) بِمُعْجَمَةٍ وَرَاءٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ هَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ موحدة ثقيلة مضمومة من الأشريباب أي يمدون أعناقهم ويرفعون رؤوسهم للنظر (الحياة والبقاء) أي الخلود (فرحا محركة أَيْ سُرُورًا (فِيهَا) أَيْ فِي النَّارِ (تَرَحًا) بِفَتْحَتَيْنِ ضِدُّ الْفَرَحِ أَيْ هَمًّا وَحُزْنًا
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ والنسائي(8/478)
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ) بْنِ بَهْرَامَ التميمي (حدثنا شيبان) هو بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّحْوِيُّ
قَوْلُهُ (وَرَفَعْنَاهُ) أَيْ إِدْرِيسُ (مَكَانًا عَلِيًّا) وَهُوَ السَّمَاءُ الرَّابِعَةُ وَلَا شَكَّ فِي كَوْنِهَا مَكَانًا عَلِيًّا
وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَرْفَعُ مَكَانًا مِنْهُ وَهَذَا الِاسْتِشْكَالُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ أَعْلَى مِنْ كُلِّ أَحَدٍ
وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَمْ يُرْفَعْ إِلَى السَّمَاءِ مَنْ هُوَ حَيٌّ غَيْرُهُ
وَرُدَّ بِأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَيْضًا قَدْ رُفِعَ وَهُوَ حَيٌّ عَلَى الصَّحِيحِ
قَالَ الْحَافِظُ وَكَوْنُ إِدْرِيسَ رُفِعَ وَهُوَ حَيٌّ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ طَرِيقٍ مَرْفُوعَةٍ قَوِيَّةٍ (لَمَّا عُرِجَ بِي رَأَيْتُ إِدْرِيسَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ) هَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى إِدْرِيسَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مُطَوَّلًا
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) أَخْرَجَهُ بن مَرْدَوَيْهِ نَحْوَ حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَذْكُورِ
قَوْلُهُ (وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ وَهَمَّامٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ إِلَخْ) أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ (وَهَذَا عِنْدِي مُخْتَصَرٌ مِنْ ذَلِكَ) أَيْ حَدِيثُ أَنَسٍ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ الطَّوِيلِ
قَوْلُهُ (حدثنا عمر بن ذر) الهمداني المرهبي (عن أبيه) هو ذر بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُرْهِبِيُّ(8/479)
الْهَمْدَانِيُّ
قَوْلُهُ (مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا) أَيْ تَجِيئَنَا وَتَتَنَزَّلَ عَلَيْنَا (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ ربك) أَيْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قُلْ يَا جِبْرِيلُ مَا نَتَنَزَّلُ وَقْتًا غِبَّ وَقْتٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ عَلَى مَا تَقْتَضِيه حِكْمَتُهُ (لَهُ مَا بين أيدينا) أَيْ أَمَامَنَا مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ (وَمَا خَلْفَنَا) مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَتَمَامُ الْآيَةِ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ أَيْ مَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ
أَيْ لَهُ عِلْمُ ذَلِكَ جميعه وما كان ربك نسيا أَيْ نَاسِيًا يَعْنِي تَارِكًا لَكَ بِتَأْخِيرِ الْوَحْيِ عنك كذا في الجلالين
وقال الحافظ بن كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ قِيلَ الْمُرَادُ بِمَا بَيْنَ أَيْدِينَا أَمْرُ الدُّنْيَا وَمَا خَلْفَنَا أَمْرُ الْآخِرَةِ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ هَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ وَعِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُمَا وَالسُّدِّيِّ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَقِيلَ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا مَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَمَا خَلْفَنَا أَيْ مَا مَضَى مِنَ الدُّنْيَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ أَيْ مَا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يُرْوَى نَحْوُهُ عن بن عباس وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وبن جريج والثوري واختاره بن جَرِيرٍ أَيْضًا انْتَهَى
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أحمد البخاري وَالنَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ
قَوْلُهُ (عَنْ قَوْلِ اللَّهِ) وإن منكم إلا واردها
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمُرَادِ بِالْوُرُودِ فِي الْآيَةِ فَقِيلَ هُوَ الدُّخُولُ روى عبد الرزاق عن بن عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَخْبَرَنِي مَنْ سمع من بن عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ وَرَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا الْوُرُودُ الدُّخُولُ لَا يَبْقَى بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ إِلَّا دَخَلَهَا فَتَكُونُ عَلَى المؤمنين بردا وسلاما
وروى الترمذي وبن أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ سَمِعْتَ مُرَّةَ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ يَرُدُّونَهَا أَوْ يَلِجُونَهَا ثُمَّ يَصْدُرُونَ عَنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْوُرُودِ الْمَمَرُّ عَلَيْهَا
رَوَاهُ(8/480)
الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ وَسَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ وَمِنْ طَرِيقِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَزَادَ يَسْتَوُونَ كُلُّهُمْ عَلَى مَتْنِهَا ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ أَمْسِكِي أَصْحَابَكَ وَدَعِي أَصْحَابِي فَيَخْرُجُ الْمُؤْمِنُونَ نَدِيَّةً أَبْدَانُهُمْ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ أَصَحُّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ مَنْ عَبَّرَ بِالدُّخُولِ تَجُوزُ بِهِ عَنِ الْمُرُورِ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَارَّ عَلَيْهَا فَوْقَ الصِّرَاطِ فِي مَعْنَى مَنْ دَخَلَهَا لَكِنْ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُ الْمَارَّةِ بِاخْتِلَافِ أَعْمَالِهِمْ فَأَعْلَاهُمْ دَرَجَةً مَنْ يَمُرُّ كَلَمْحِ الْبَرْقِ وَيُؤَيِّدُ صِحَّةَ هَذَا التَّأْوِيلِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ مُبَشِّرٍ أَنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ النَّارُ أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا الْآيَةَ
وَفِي هَذَا بَيَانُ ضَعْفِ قَوْلِ مَنْ قَالَ الْوُرُودُ مُخْتَصٌّ بِالْكُفَّارِ وَمَنْ قَالَ مَعْنَى الْوُرُودِ الدُّنُوُّ مِنْهَا وَمَنْ قَالَ مَعْنَاهُ الْإِشْرَافُ عَلَيْهَا وَمَنْ قَالَ مَعْنَى وُرُودِهَا مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْحُمَّى
عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَخِيرَ لَيْسَ بِبَعِيدٍ وَلَا يُنَافِيه بَقِيَّةُ الْأَحَادِيثِ انْتَهَى (يَرِدُ النَّاسُ النَّارَ) يَرِدُ عَلَى وَزْنِ يَعِدُ مُضَارِعٌ مِنَ الْوُرُودِ بِمَعْنَى الْحُضُورِ يُقَالُ وَرَدْتَ مَاءَ كَذَا أَيْ حَضَرْته وَإِنَّمَا سَمَّاهُ وُرُودًا لِأَنَّ الْمَارَّةَ عَلَى الصِّرَاطِ يُشَاهِدُونَ النَّارَ وَيَحْضُرُونَهَا
قال التُّورْبَشْتِيُّ الْوُرُودُ لُغَةً قَصْدُ الْمَاءِ ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ هَا هُنَا الْجَوَازُ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ (ثُمَّ يَصْدُرُونَ عَنْهَا) بِضَمِّ الدَّالِ أَيْ يَنْصَرِفُونَ عَنْهَا فإن الصدر إِذَا عُدِّيَ بِعَنِ اقْتَضَى الِانْصِرَافَ وَهَذَا عَلَى الِاتِّسَاعِ وَمَعْنَاهُ النَّجَاةُ إِذْ لَيْسَ هُنَاكَ انْصِرَافٌ وَإِنَّمَا هُوَ الْمُرُورُ عَلَيْهَا فَوَضَعَ الصَّدْرَ مَوْضِعَ النَّجَاةِ لِلْمُنَاسَبَةِ الَّتِي بَيْنَ الصُّدُورِ وَالْوُرُودِ
قَالَ الطِّيبِيُّ ثُمَّ فِي ثُمَّ يَصْدُرُونَ مِثْلُهَا فِي قوله تعالى ثم ننجى الذين اتقوا فِي أَنَّهَا لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ لَا الزَّمَانِ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى التَّفَاوُتَ بَيْنَ وُرُودِ النَّاسِ النَّارَ وَبَيْنَ نَجَاةِ الْمُتَّقِينَ مِنْهَا فَكَذَلِكَ بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّفَاوُتَ بَيْنَ وُرُودِ النَّاسِ النَّارَ وَبَيْنَ صُدُورِهِمْ مِنْهَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصُّدُورِ الِانْصِرَافُ انْتَهَى
قَالَ القارىء الْحَاصِلُ أَنَّ الْخَلْقَ بَعْدَ شُرُوعِهِمْ فِي الْوُرُودِ يَتَخَلَّصُونَ مِنْ خَوْفِ النَّارِ وَمُشَاهَدَةِ رُؤْيَتِهَا وَمُلَاصَقَةِ لَهَبِهَا وَدُخَانِهَا وَتَعَلُّقِ شَوْكِهَا وَأَمْثَالِهَا عَلَى مَرَاتِبَ شَتَّى فِي سُرْعَةِ الْمُجَاوَزَةِ وَإِبْطَائِهَا
(بِأَعْمَالِهِمْ) أَيْ بِحَسْبِ مَرَاتِبِ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ (فَأَوَّلُهُمْ) أَيْ أَسْبَقُهُمْ (كَلَمْحِ الْبَرْقِ) أَيْ كَسُرْعَةِ مُرُورَةِ (ثُمَّ كَحُضْرِ الْفَرَسِ) أَيْ جَرْيِهِ وَهُوَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الضَّادِ الْعَدْوُ الشَّدِيدُ (ثُمَّ كَالرَّاكِبِ فِي رَحْلِهِ) أَيْ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَعَدَّاهُ بِفِي لِتَمَكُّنِهِ مِنَ السَّيْرِ
كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ وَقِيلَ أَرَادَ(8/481)
الرَّاكِبَ فِي مَنْزِلِهِ وَمَأْوَاهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ السَّيْرُ وَالسُّرْعَةُ أَشَدَّ (ثُمَّ كَشَدِّ الرَّجُلِ) أَيْ عَدْوِهِ (ثُمَّ كَمَشْيِهِ) أَيْ كَمَشْيِ الرَّجُلِ عَلَى هَيْئَتِهِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وصححه والبيهقي والدارمي وبن أبي حاتم
قوله (حدثنا عبد الرحمن) هو بن مَهْدِيٍّ
قَوْلُهُ (وَلَكِنِّي أَدْعُهُ عَمْدًا) أَيْ أَتْرُكُهُ يَعْنِي أَتْرُكُ رِوَايَتَهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا وَلَمْ يَذْكُرْ وَجْهَ التَّرْكِ فَلْيُتَأَمَّلْ
تَنْبِيهٌ ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي فَائِدَةِ دُخُولِ الْمُؤْمِنَينَ النَّارَ وُجُوهًا أَحَدُهَا أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُهُمْ سُرُورًا إِذَا عَلِمُوا الخلاص منه
وثانيها أن فيه مزيدهم عَلَى أَهْلِ النَّارِ حَيْثُ يَرَوْنَ الْمُؤْمِنَينَ يَتَخَلَّصُونَ مِنْهَا وَهُمْ بَاقُونَ فِيهَا
وَثَالِثُهَا أَنَّهُمْ إِذَا شَاهَدُوا ذَلِكَ الْعَذَابَ عَلَى الْكُفَّارِ صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَزِيدِ الْتِذَاذِهِمْ بِنَعِيمِ الْجَنَّةِ وَلَا نَقُولُ صَرِيحًا إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَدْخُلُونَ النَّارَ أَدَبًا مَعَهُمْ وَلَكِنْ نَقُولُ إِنَّ الْخَلْقَ جَمِيعًا يَرِدُونَهَا كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَحَادِيثُ الْبَابِ
فَالْعُصَاةُ يَدْخُلُونَهَا بِجَرَائِمِهِمْ وَالْأَوْلِيَاءُ وَالسُّعَدَاءُ يَدْخُلُونَهَا لِشَفَاعَتِهِمْ فَبَيْنَ الدَّاخِلِينَ بَوْنٌ
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الدَّرَاوَرْدِيُّ(8/482)
قوله (إذا أحب الله عبدا نادى جبرائيل) بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ إِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدَّدَةِ أَمْرٌ مِنَ الْإِحْبَابِ أَيْ أَحِبَّهُ أَنْتَ أَيْضًا
قال النَّوَوِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ هِيَ إِرَادَتُهُ الْخَيْرَ لَهُ وَهِدَايَتُهُ وَإِنْعَامُهُ عَلَيْهِ وَرَحْمَتُهُ وَبُغْضُهُ إرادة عقابه أو شقاوته ونحوه وحب جبرائيل وَالْمَلَائِكَةِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا اسْتِغْفَارُهُمْ لَهُ وَثَنَاؤُهُمْ عَلَيْهِ وَدُعَاؤُهُمْ وَالثَّانِي أَنَّ مَحَبَّتَهُمْ عَلَى ظَاهِرِهَا الْمَعْرُوفِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ وَهُوَ مَيْلُ الْقَلْبِ إِلَيْهِ وَاشْتِيَاقٌ إِلَى لِقَائِهِ وَسَبَبُ حُبِّهِمْ إِيَّاهُ كَوْنُهُ مُطِيعًا لِلَّهِ تَعَالَى مَحْبُوبًا لَهُ انْتَهَى
وَقَالَ الْحَافِظُ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ بَيَانُ سَبَبِ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ وَالْمُرَادِ بِهَا فَفِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ أَنَّ الْعَبْدَ لَيَلْتَمِسُ مَرْضَاةَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَقُولَ يَا جِبْرِيلُ إِنَّ عَبْدِي فُلَانًا يَلْتَمِسُ أَنْ يُرْضِيَنِي أَلَا وَإِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ عَلَيْهِ
الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ والطبراني ويشهد له حديث أبي هريرة الاني فِي الرِّقَاقِ فَفِيهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ
الْحَدِيثَ انْتَهَى (قَالَ) أَيْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (فينادي) أي جبرائيل (في السماء) وفي حَدِيثِ ثَوْبَانَ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبَّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ (ثُمَّ تَنْزِلُ لَهُ الْمَحَبَّةُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ) وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ
قَالَ النَّوَوِيُّ أَيِ الْحُبُّ فِي قُلُوبِ النَّاسِ وَرِضَاهُمْ عَنْهُ تَمِيلُ إِلَيْهِ الْقُلُوبُ وَتَرْضَى عَنْهُ (فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)
قال بن كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يَغْرِسُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنَينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ وَهِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي تُرْضِي اللَّهَ لِمُتَابَعَتِهَا الشَّرِيعَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ يَغْرِسُ لَهُمْ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ مَحَبَّةً وَمَوَدَّةً وَهَذَا أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَا مَحِيدَ عَنْهُ انْتَهَى
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أحمد والشيخان(8/483)
قوله (حدثنا سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ (عَنْ أَبِي الضُّحَى) هُوَ مُسْلِمُ بْنُ صُبَيْحٍ
قَوْلُهُ (جِئْتُ الْعَاصَ) بِفَتْحِ الصَّادِ وَكَسْرِهَا أَجَوْفًا وَنَاقِصًا قَالَهُ الْكَرْمَانِيُّ (بْنَ وَائِلٍ السَّهْمِيَّ) هُوَ وَالِدُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الصَّحَابِيِّ الْمَشْهُورِ وَكَانَ لَهُ قَدْرٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَمْ يُوَفَّقْ لِلْإِسْلَامِ (أَتَقَاضَاهُ حَقًّا لِي عِنْدَهُ)
وفي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ كُنْتَ قَيِّنًا بِمَكَّةَ فَعَمِلْتُ لِلْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ سَيْفًا فَجِئْتُ أَتَقَاضَاهُ وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ فَاجْتَمَعَتْ لِي عِنْدَ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَرَاهِمَ (فَقُلْتُ لَا) أَيْ لَا أَكْفُرُ (حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ) مَفْهُومُهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ حِينَئِذٍ لَكِنَّهُ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفْرَ حِينَئِذٍ لَا يُتَصَوَّرُ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا أكفر أبدا والنكتة في تعبيره بالبعث تعيير الْعَاصِ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِهِ (أَفَرَأَيْتَ) لَمَّا كَانَ مُشَاهَدَةُ الْأَشْيَاءِ وَرُؤْيَتُهَا طَرِيقًا إِلَى الْإِحَاطَةِ بِهَا عِلْمًا وَإِلَى صِحَّةِ الْخَبَرِ عَنْهَا اسْتَعْمَلُوا أرأيت فِي مَعْنَى أَخْبِرْ وَالْفَاءُ جَاءَتْ لِإِفَادَةِ مَعْنَاهَا الَّذِي هُوَ التَّعْقِيبُ كَأَنَّهُ قَالَ أَخْبِرْ أَيْضًا بِقِصَّةِ هَذَا الْكَافِرِ وَاذْكُرْ حَدِيثَهُ عَقِيبَ حَدِيثِ أُولَئِكَ وَالْفَاءُ بَعْدَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَاطِفَةٌ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ أَنَظَرْتَ فَرَأَيْتَ (الَّذِي كَفَرَ) يَعْنِي الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ (بِآيَاتِنَا) أَيْ بِالْقُرْآنِ (وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ) أَيْ لَأُعْطَيَنَّ (مَالًا وَوَلَدًا) يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ بَعْدَ الْبَعْثِ وَبَعْدَهُ (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) أَيْ أعلمه وأن يُؤْتَى مَا قَالَهُ وَاسْتَغْنَى بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ همزة الوصل فخذفت أم اتخذ عند الرحمن عهدا بِأَنْ يُؤْتَى مَا قَالَهُ (كَلَّا) أَيْ لَا يُؤْتَى ذَلِكَ (سَنَكْتُبُ) فَأَمَرَ بِكَتْبِ مَا يَقُولُ ونمد له من العذاب مدا أَيْ نَزِيدُهُ بِذَلِكَ عَذَابًا فَوْقَ عَذَابِ كُفْرِهِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ(8/484)
21 - (باب وَمِنْ سُورَةِ طه)
مَكِّيَّةٌ وَهِيَ مِائَةٌ وَخَمْسٌ وَثَلَاثُونَ أَوْ أَرْبَعُونَ أَوْ وَثِنْتَانِ آيَةً
قَوْلُهُ (لَمَّا قَفَلَ) أَيْ رَجَعَ مِنَ الْقُفُولِ (مِنْ خَيْبَرَ) أَيْ مِنْ غَزْوَةِ خَيْبَرَ كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَكَانَتْ هَذِهِ الْغَزْوَةُ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ أَقَامَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُحَاصِرُهَا بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً عَشْرَةً إِلَى أَنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَهِيَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَبْرَادٍ (أَسْرَى لَيْلَةً) أَيْ سَارَ لَيْلَةً (حَتَّى أَدْرَكَهُ الْكَرَى) بِفَتْحَتَيْنِ هُوَ النُّعَاسُ
وَقِيلَ النَّوْمُ (أَنَاخَ) يُقَالُ أَنَخْتُ الْجَمَلَ فَاسْتَنَاخَ أَيْ أَبَرَكْتُهُ فَبَرَكَ (فَعَرَّسَ) مِنَ التَّعْرِيسِ أَيْ نَزَلَ آخِرَ اللَّيْلِ لِلِاسْتِرَاحَةِ
قَالَ النَّوَوِيُّ التَّعْرِيسُ نُزُولُ الْمُسَافِرِينَ آخِرَ اللَّيْلِ لِلنَّوْمِ وَالِاسْتِرَاحَةِ هَكَذَا قَالَهُ الْخَلِيلُ وَالْجُمْهُورُ
وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ هُوَ النُّزُولُ أَيَّ وَقْتٍ كَانَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ
وَفِي الْحَدِيثِ مُعَرِّسُونَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ (أَكْلَأُ) بِهَمْزٍ آخِرُهُ أَيْ أُرَاقِبُ وَأَحْفَظُ وَأَحْرُسُ وَمَصْدَرُهُ الْكِلَاءُ بِكَسْرِ الْكَافِ وَالْمَدِّ (لَنَا اللَّيْلَةَ أَيْ آخِرَهَا لِإِدْرَاكِ الصُّبْحِ فَصَلَّى بِلَالٌ) وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَصَلَّى بِلَالٌ مَا قُدِّرَ لَهُ (ثُمَّ تَسَانَدَ إِلَى رَاحِلَتِهِ) أَيِ اسْتَنَدَ إِلَيْهَا (مُسْتَقْبِلَ الْفَجْرِ) أَيْ لِيَرْقُبَهُ حَتَّى يُوقِظَهُمْ عَقِبَ طُلُوعِهِ (فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ هَذَا عِبَارَةٌ عَنِ النَّوْمِ كَأَنَّ عَيْنَيْهِ غَالَبَتَاهُ فَغَلَبَتَاهُ عَلَى النَّوْمِ انْتَهَى
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ نَامَ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ (فَقَالَ أَيْ بِلَالٌ) وَالْعِتَابُ مَحْذُوفٌ أَوْ مُقَدَّرٌ أَيْ لِمَ نِمْتَ حَتَّى فَاتَتْنَا الصَّلَاةُ (فَقَالَ بِلَالٌ) أَيْ مُعْتَذِرًا (أَخَذَ بِنَفْسِي الَّذِي أَخَذَ بِنَفْسِكَ) يَعْنِي غَلَبَ عَلَى نَفْسِي مَا غَلَبَ عَلَى نَفْسِكَ مِنَ النَّوْمِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتَادُوا) أَمْرٌ مِنَ الِاقْتِيَادِ يُقَالُ قَادَ الْبَعِيرَ وَاقْتَادَهُ إِذَا جَرَّ حَبْلَهُ أَيْ سُوقُوا رَوَاحِلَكُمْ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ
وَفِي رِوَايَةٍ لمسلم فقال(8/485)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ بِرَأْسِ رَاحِلَتِهِ فَإِنَّ هَذَا مَنْزِلٌ حَضَرَنَا فيه الشيطان
(ثم أناخ) أي بعد ما اقْتَادُوا (فَأَقَامَ الصَّلَاةَ) وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ ثُمَّ تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ الصَّلَاةَ (ثُمَّ صَلَّى) أَيْ بِهِمُ الصُّبْحَ (مِثْلَ صَلَاتِهِ فِي الْوَقْتِ فِي تَمَكُّثٍ) أَيْ غَيْرَ مُسْتَعْجِلٍ (ثُمَّ قَالَ) أَيْ قَرَأَ (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) أَيْ لِتَذْكُرَنِي فِيهَا وَقِيلَ لِذِكْرِي خَاصَّةً لَا تَشُوبُهُ بِذِكْرِ غَيْرِي وقيل الإخلاص ذِكْرِي وَطَلَبِ وَجْهِي وَلَا تُرَائِي فِيهَا وَلَا تَقْصِدْ بِهَا غَرَضًا آخَرَ وَقِيلَ مَعْنَاهُ إِذَا تَرَكْتَ صَلَاةً ثُمَّ ذَكَرْتهَا فَأَقِمْهَا كَذَا فِي الْخَازِنِ
قُلْتُ يُؤَيِّدُ الْمَعْنَى الْأَخِيرَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلَاةِ أَوْ غَفَلَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ الله عز وجل يقول أقم الصلاة لذكرى رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ نَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي
فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا وَأَشْهَرُهُمَا أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا
لِأَنَّ الْقَلْبَ إِنَّمَا يُدْرِكُ الْحِسِّيَّاتِ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهِ كَالْحَدَثِ وَالْأَلَمِ وَنَحْوِهِمَا وَلَا يُدْرِكُ طُلُوعَ الْفَجْرِ وَغَيْرَهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ وَإِنَّمَا يُدْرَكُ ذَلِكَ بِالْعَيْنِ وَالْعَيْنُ نَائِمَةٌ وَإِنْ كَانَ الْقَلْبُ يَقْظَانَ
وَالثَّانِي أَنَّهُ كَانَ لَهُ حَالَانِ أَحَدُهُمَا يَنَامُ فِيهِ الْقَلْبُ وَصَادَفَ هَذَا الْمَوْضِعَ وَالثَّانِي لَا يَنَامُ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ مِنْ أَحْوَالِهِ وَهَذَا التَّأْوِيلُ ضَعِيفٌ وَالصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ هُوَ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَصَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرَ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَتَفَرَّدْ بِهِ بَلْ تَابَعَهُ يُونُسُ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بن يحيى التجيبي قال أخبرنا بن وهب قال أخبرني يونس عن بن شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَفَلَ مِنْ غَزْوَةِ خَيْبَرَ الْحَدِيثَ وَتَابَعَهُ أَيْضًا مَعْمَرٌ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَصَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ هَذَا(8/486)
هُوَ الْيَمَامِيُّ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ نَزَلَ الْبَصْرَةَ ضَعِيفٌ يُعْتَبَرُ بِهِ مِنَ السَّابِعَةِ(8/487)
2 - (باب وَمِنْ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ)
مَكِّيَّةٌ وَهِيَ مِائَةٌ وَإِحْدَى أَوِ اثْنَتَا عَشْرَةَ آيَةً [3164] قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى) وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْحُسَيْنُ بْنُ مُوسَى بِالتَّصْغِيرِ وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شُيُوخِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ وَلَا فِي أصحاب بن لَهِيعَةَ مَنِ اسْمُهُ الْحُسَيْنُ بْنُ مُوسَى وَلِأَنَّ التِّرْمِذِيَّ قَدْ أَخْرَجَ فِي بَابِ صِفَةِ قَعْرِ جَهَنَّمَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الصَّعُودُ جَبَلٌ مِنْ نَارٍ يَتَصَعَّدُ فِيهِ الْكَافِرُ سَبْعِينَ خَرِيفًا وَيَهْوِي فِيهِ كَذَلِكَ أَبَدًا
بِعَيْنِ هَذَا السَّنَدِ وَفِيهِ الحسن بن موسى بالتكبير قوله الويل وَادٍ أَيِ اسْمُ وَادٍ يَهْوِي أَيْ يَسْقُطُ قَالَ فِي مُخْتَارِ الصِّحَاحِ هَوَى يَهْوِي كَرَمَى يَرْمِي هَوِيًّا بِالْفَتْحِ سَقَطَ إِلَى أَسْفَلَ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا أَيْ عَامًا
قَالَ الْخَازِنُ الْوَيْلُ كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ لِكُلِّ مَنْ وَقَعَ فِي هَلَكَةٍ وأصلها في اللغة العذاب والهلاك
وقال بن عَبَّاسٍ الْوَيْلُ شِدَّةُ الْعَذَابِ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا
قُلْتُ إِنْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ فَهُوَ مُغْنٍ عَنْ جَمِيعِ مَا ذَكَرُوهُ فِي مَعْنَى الْوَيْلِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وأخرجه أحمد وبن حبان في صحيحه والحاكم وأخرجه بن أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الأعلى عن بن وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ دَرَّاجٍ (لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث بن لهيعة) قال الحافظ بن كثير لم يتفرد به بن لَهِيعَةَ بَلْ تَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ وَلَكِنَّ الْآفَةَ مِمَّنْ بَعْدَهُ وَهَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَرْفُوعًا مُنْكَرٌ انْتَهَى [3165]
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى) الْخُوَارِزْمِيُّ الْخُتَّلِيُّ أَبُو عَلِيٍّ نَزِيلُ بَغْدَادَ ثِقَةٌ مِنَ الْعَاشِرَةِ (أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَزْوَانَ) بِمُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَزَايٍ سَاكِنَةٍ أَبُو نُوحٍ الضَّبِّيُّ الْمَعْرُوفُ بِقُرَادٍ ثِقَةٌ لَهُ أَفْرَادٌ مِنَ التَّاسِعَةِ
قَوْلُهُ (أَنَّ رَجُلًا قَعَدَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم) أي قُدَّامَهُ (إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ) بِكَسْرِ الْكَافِ أَيْ مَمَالِيكَ (يَكْذِبُونَنِي) أَيْ يَكْذِبُونَ فِي إِخْبَارِهِمْ لِي (وَيَخُونُونَنِي) أَيْ فِي مَالِي (وَيَعْصُونَنِي) أَيْ فِي أَمْرِي وَنَهْيِي (وَأَشْتِمُهُمْ) بِكَسْرِ التَّاءِ وَيُضَمُّ أَيْ أَسُبُّهُمْ (فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ) أَيْ كَيْفَ يَكُونُ حَالِي مِنْ أَجْلِهِمْ وَبِسَبَبِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى (قَالَ) أَيْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْسَبُ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مَا خَانُوكَ وَعَصَوْكَ وَكَذَبُوكَ أَيْ مِقْدَارُهَا وَعِقَابُكَ عَطْفٌ عَلَى مَا خَانُوكَ أَيْ وَيُحْسَبُ أَيْضًا قَدْرُ شَتْمِكَ وَضَرْبِكَ إِيَّاهُمْ كَانَ أَيْ أَمْرُكَ كَفَافًا بِفَتْحِ الْكَافِ فِي الْقَامُوسِ كَفَافُ الشَّيْءِ كَسَحَابٍ مِثْلُهُ وَمِنَ الرِّزْقِ مَا كَفَّ عَنِ النَّاسِ وَأَغْنَى وَفِي النِّهَايَةِ الْكَفَافُ الَّذِي لَا يَفْضُلُ عَنِ الشَّيْءِ وَيَكُونُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ أَيْ لَيْسَ لَكَ فِيهِ ثَوَابٌ وَلَا عَلَيْكَ فِيهِ عِقَابٌ دُونَ ذُنُوبِهِمْ أَيْ أَقَلَّ مِنْهَا كَانَ فَضْلًا لَكَ أَيْ عَلَيْهِمْ قِيلَ فَإِنْ قَصَدْتَ الثَّوَابَ تُجْزَ بِهِ وَإِلَّا فَلَا(9/3)
قاله القارىء فَوْقَ ذُنُوبِهِمْ أَيْ أَكْثَرَ مِنْهَا اقْتُصَّ لَهُمْ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ أُخِذَ بِمِثْلِهِ لِأَجْلِهِمْ مِنْكَ الْفَضْلُ أَيِ الزِّيَادَةُ فَتَنَحَّى الرَّجُلُ أَيْ بَعُدَ عَنِ الْمَجْلِسِ فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَهْتِفُ بِكَسْرِ التَّاءِ أَيْ شَرَعَ يَبْكِي وَيَصِيحُ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ أي ذوات العدل ليوم القيامة أي فيه فلا تظلم نفس شيئا من نقص حَسَنَةٍ أَوْ زِيَادَةِ سَيِّئَةٍ وَبَقِيَّةُ الْآيَةِ وَإِنْ كَانَ أَيِ الْعَمَلُ مِثْقَالَ زِنَةَ حَبَّةٍ مِنْ خردل أتينا بها أي أحضرناها وكفى بنا حاسبين إِذْ لَا مَزِيدَ عَلَى عِلْمِنَا وَوَعْدِنَا مَا أَجِدُ لِي وَلَهُمْ شَيْئًا أَيْ مَخْلَصًا وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي (خَيْرًا) صِفَةٌ لِمَا قَبْلَهُ (مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ) أَيْ مِنْ مُفَارَقَتِي إِيَّاهُمْ لِأَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى مُرَاعَاةِ الْمُحَاسَبَةِ وَالْمُطَالَبَةِ عُسْرٌ جِدًّا (أُشْهِدُكَ) بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الْمُتَكَلِّمِ مِنَ الْإِشْهَادِ (كُلَّهُمْ) بِالنَّصْبِ عَلَى التَّأْكِيدِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غريب) وأخرجه بن جَرِيرٍ فِي تَهْذِيبِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ (وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَزْوَانَ هَذَا الْحَدِيثَ) قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا أَبُو نُوحٍ قُرَادٌ أَنْبَأَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ الْحَدِيثَ
وَأَبُو نُوحٍ قُرَادٌ هو عبد الرحمن بن غزوان
قَوْلُهُ أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْحُسَيْنُ بْنُ مُوسَى بِالتَّصْغِيرِ وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شُيُوخِ عَبْدِ بْنِ حميد ولا في اصحاب بن لَهِيعَةَ مَنِ اسْمُهُ الْحُسَيْنُ بْنُ مُوسَى وَلِأَنَّ التِّرْمِذِيَّ قَدْ أَخْرَجَ فِي بَابِ صِفَةِ قَعْرِ جَهَنَّمَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الصَّعُودُ جَبَلٌ مِنْ نَارٍ يَتَصَعَّدُ فِيهِ الْكَافِرُ سَبْعِينَ خَرِيفًا وَيَهْوِي فِيهِ كَذَلِكَ أَبَدًا بِعَيْنِ هَذَا السَّنَدِ وَفِيهِ الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى بِالتَّكْبِيرِ قَوْلُهُ وَيْلٌ وَادٍ أَيِ اسْمُ وَادٍ يَهْوِي أَيْ يَسْقُطُ قَالَ فِي مُخْتَارِ الصِّحَاحِ هَوَى يَهْوِي كَرَمَى يَرْمِي هَوِيًّا بِالْفَتْحِ سَقَطَ إِلَى أَسْفَلَ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا أَيْ عَامًا قَالَ الْخَازِنُ الْوَيْلُ كَلِمَةٌ تَقُولُهَا العرب لكل(9/4)
مَنْ وَقَعَ فِي هَلَكَةٍ وَأَصْلُهَا فِي اللُّغَةِ العذاب والهلاك وقال بن عَبَّاسٍ الْوَيْلُ شِدَّةُ الْعَذَابِ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا قُلْتُ إِنْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ فَهُوَ مُغْنٍ عَنْ جَمِيعِ مَا ذَكَرُوهُ فِي مَعْنَى الْوَيْلِ قَوْلُهُ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وأخرجه أحمد وبن حبان في صحيحه والحاكم وأخرجه بن أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الأعلى عن بن وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ دَرَّاجٍ لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث بن لهيعة قال الحافظ بن كثير لم يتفرد به بن لهيعة بل تابعه عمرو بن الحراث ولكن الآفة ممن بعده وهذا الحديث به إذا الإسناد مرفوعا منكر انتهى
[3166] قَوْلُهُ لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ قَوْلِهِ إِنِّي سقيم ولم يكن سقيما يجر قَوْلِهِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ ثَلَاثٍ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ وَذَلِكَ عِنْدَمَا طَلَبُوا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُمْ إِلَى عِيدِهِمْ فَأَرَادَ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُمْ لِلْأَمْرِ الَّذِي هَمَّ بِهِ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سقيم وَفِيهِ إِيهَامٌ مِنْهُ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِأَمَارَةِ عِلْمِ النُّجُومِ عَلَى أَنَّهُ سَيَسْقَمُ لِيَتْرُكُوهُ فَيَفْعَلُ بِالْأَصْنَامِ مَا أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ أَوْ سَقِيمُ الْقَلْبِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَيْظِ بِاتِّخَاذِكُمُ النُّجُومَ آلِهَةً أَوْ بِعِبَادَتِكُمُ الْأَصْنَامَ وَقَوْلِهِ لِسَارَّةَ أُخْتِي بِالْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدِمَ أَرْضَ جَبَّارٍ وَمَعَهُ سارة وكانت أحسن الناس فقال لها من هَذَا الْجَبَّارَ إِنْ يَعْلَمْ أَنَّكِ امْرَأَتِي يَغْلِبْنِي عَلَيْكِ فَإِنْ سَأَلَكِ فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي فِي الاسلام وقوله بل فعله كبيرهم هذا قَالَ ذَلِكَ حِينَ كَسَّرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَصْنَامَهُمْ إِلَّا كَبِيرَهَا وَعَلَّقَ الْفَأْسَ فِي عُنُقِهِ
قال النووي قال الماذري أَمَّا الْكَذِبُ فِيمَا طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ مِنْهُ سَوَاءٌ كَثِيرُهُ وَقَلِيلُهُ وَأَمَّا مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَلَاغِ وَيُعَدُّ مِنَ الصَّغَائِرِ كَالْكَذْبَةِ الْوَاحِدَةِ فِي حَقِيرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا فَفِي إِمْكَانِ وُقُوعِهِ مِنْهُمْ وَعِصْمَتِهِمْ مِنْهُ الْقَوْلَانِ الْمَشْهُورَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الصَّحِيحُ أَنَّ الْكَذِبَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَلَاغِ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ مِنْهُمْ سَوَاءٌ جَوَّزْنَا الصَّغَائِرَ مِنْهُمْ وَعِصْمَتَهُمْ مِنْهَا أَمْ لَا وَسَوَاءٌ قَلَّ الْكَذِبُ أَمْ كَثُرَ لِأَنَّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ يَرْتَفِعُ عَنْهُ وَتَجْوِيزُهُ يَرْفَعُ الْوُثُوقَ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَوَاحِدَةٌ فِي شَأْنِ سَارَّةَ
فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْكَذَبَاتِ الْمَذْكُورَةَ إِنَّمَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَهْمِ الْمُخَاطَبِ وَالسَّامِعِ وَأَمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَلَيْسَتْ كَذِبًا مَذْمُومًا لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَرَّى بِهَا فَقَالَ فِي سَارَّةَ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ(9/5)
وَهُوَ صَحِيحٌ فِي بَاطِنِ الْأُمُورِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذِبًا لَا تَوْرِيَةَ فِيهِ لكان جائزا في دفع الظالمين
قال الماذري وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَأَخْرَجَهَا عَنْ كونها كذبا ولا معنى لامتناع مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظٍ أَطْلَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ النَّوَوِيُّ أَمَّا إِطْلَاقُ لَفْظِ الْكَذِبِ عَلَيْهَا فَلَا يَمْتَنِعُ لِوُرُودِ الْحَدِيثِ بِهِ وَأَمَّا تَأْوِيلُهَا فَصَحِيحٌ لَا مَانِعَ مِنْهُ وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ فَقَالَ مَا فِيهَا كَذْبَةٌ إِلَّا يُمَاحِلُ بِهَا عَنِ الْإِسْلَامِ أَيْ يُجَادِلُ وَيُدَافِعُ انْتَهَى مُلَخَّصًا
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ قوله (وأبو داود) هو الطيالسي
[3167] إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ أَيْ سَتُبْعَثُونَ عُرَاةً بِضَمِّ الْعَيْنِ جَمْعُ عَارٍ وَهُوَ مَنْ لَا سِتْرَ لَهُ (غُرْلًا) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ جَمْعُ أَغْرَلَ وَهُوَ الْأَقْلَفُ وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ وَهُوَ مَنْ بَقِيَتْ غِرْلَتُهُ وَهِيَ الْجِلْدَةُ الَّتِي يَقْطَعُهَا الْخَاتِنُ مِنَ الذكر كما بدأنا أول خلق نعيده الْكَافُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ نُعِيدُهُ أَيْ نُعِيدُ الْخَلْقَ إِعَادَةً مِثْلَ الْأَوَّلِ وَالْمَعْنَى بَدَأْنَاهُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا نُعِيدُهُمْ يوم القيامة وبقية الاية وعدا علينا مَنْصُوبٌ بِوَعَدْنَا مُقَدَّرٌ قَبْلَهُ وَهُوَ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ ما قبله إنا كنا فاعلين أَيْ مَا وَعَدْنَاهُ قَالَ أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مَبْسُوطًا فِي بَابِ شَأْنِ الْحَشْرِ مِنْ أَبْوَابِ صِفَةِ الْقِيَامَةِ وَتَقَدَّمَ فِيهِ بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ عُرَاةً وَأَنَّهُ سَيُؤْتَى بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي أَيْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ وَالتَّنْكِيرُ لِلتَّقْلِيلِ فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ أَيْ إِلَى جِهَةِ النَّارِ فَأَقُولُ رَبِّ أَصْحَابِي خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هَؤُلَاءِ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ الْمُرَادُ مِنَ الْإِحْدَاثِ الِارْتِدَادُ عَنِ الْإِسْلَامِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْآتِي فَيُقَالُ هَؤُلَاءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ وَفِي حَدِيثٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْهُ أَنَّهُمُ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمُ الْقَهْقَرَى قَالَ الْقَاضِي يُرِيدُ بِهِمْ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فِي أَيَّامِهِ كَأَصْحَابِ مُسَيْلِمَةَ وَالْأَسْوَدِ وَأَضْرَابِهِمْ فَإِنَّ أَصْحَابَهُ وَإِنْ شَاعَ عُرْفًا فِيمَنْ يُلَازِمُهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ شَاعَ اسْتِعْمَالُهُ لُغَةً فِي كُلِّ مَنْ تَبِعَهُ أَوْ أَدْرَكَ حَضْرَتَهُ وَوَفَدَ عَلَيْهِ وَلَوْ مَرَّةً وَقِيلَ أَرَادَ بِالِارْتِدَادِ إِسَاءَةَ السِّيرَةِ وَالرُّجُوعَ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَصِدْقِ النِّيَّةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا انْتَهَى فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ هُوَ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ أَيْ عَلَى أُمَّتِي شَهِيدًا أَيْ مُطَّلِعًا رَقِيبًا حافظا ما دمت فيهم(9/6)
أي موجودا فلما توفيتني أَيْ قَبَضْتَنِي بِالرَّفْعِ إِلَى السَّمَاءِ كُنْتَ أَنْتَ الرقيب عليهم الحفيظ لأعمالهم وأنت على كل شيء مِنْ قَوْلِي وَقَوْلِهِمْ بَعْدِي وَغَيْرِ ذَلِكَ شَهِيدًا أي مطلع عالم به إن تعذبهم أَيْ مَنْ أَقَامَ عَلَى الْكُفْرِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ عبادك أَنْتَ مَالِكُهُمْ تَتَصَرَّفُ فِيهِمْ كَيْفَ شِئْتَ لَا اعتراض عليك وإن تغفر لهم أَيْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ وَتَمَامُ الْآيَةِ فَإِنَّكَ أنت العزيز الغالب على أمره والحكيم فِي صُنْعِهِ فَيُقَالُ هَؤُلَاءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ هَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِحْدَاثِ فِي قَوْلِهِ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ هُوَ الِارْتِدَادُ عَنِ الْإِسْلَامِ
(بَاب وَمِنْ سُورَةِ الْحَجِّ)
مَكِّيَّةٌ إِلَّا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ الله الايتين أو إلا هذان خصمان
السِّتَّ آيَاتٍ فَمَدَنِيَّاتٌ وَهِيَ أَرْبَعٌ أَوْ خَمْسٌ أَوْ سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ أَوْ ثَمَانٍ وَسَبْعُونَ آيَةً قَوْلُهُ [3168] (عَنِ الْحَسَنِ) هُوَ الْبَصْرِيُّ
قَوْلُهُ يا أيها الناس اتقوا ربكم أَيِ احْذَرُوا عِقَابَهُ(9/7)
وَاعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ الزَّلْزَلَةُ شِدَّةُ الْحَرَكَةِ عَلَى الْحَالِ الْهَائِلَةِ وَوَصْفُهَا بِالْعِظَمِ وَلَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِمَّا عَظَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قِيلَ هِيَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ قَبْلَ قيامها وقال بن عَبَّاسٍ زَلْزَلَةُ السَّاعَةِ قِيَامُهَا فَتَكُونُ مَعَهَا وَاخْتَارَهُ بن جرير في تفسيره وبعده يوم ترونها أي الساعة وقيل الزلزلة تذهل قال بن عَبَّاسٍ تَشْغَلُ وَقِيلَ تَنْسَى كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أرضعت أَيْ كُلُّ امْرَأَةٍ مَعَهَا وَلَدٌ تُرْضِعُهُ وَتَضَعُ كل ذات حمل حملها أَيْ تُسْقِطُ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ كُلُّ حَامِلٍ حَمْلَهَا
قَالَ الْحَسَنُ تَذْهَلُ الْمُرْضِعَةُ عَنْ ولدها غير فِطَامٍ وَتَضَعُ الْحَامِلُ مَا فِي بَطْنِهَا غَيْرَ تَمَامٍ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ الزَّلْزَلَةُ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ بَعْدَ الْبَعْثِ لَا يَكُونُ حَبَلٌ وَمَنْ قَالَ تَكُونُ الزَّلْزَلَةُ فِي الْقِيَامَةِ قَالَ هَذَا عَلَى وَجْهِ تَعْظِيمِ الْأَمْرِ وَتَهْوِيلِهِ لَا عَلَى حَقِيقَتِهِ كَمَا تَقُولُ أَصَابَنَا أَمْرٌ يَشِيبُ فِيهِ الْوَلِيدُ تُرِيدُ بِهِ شِدَّتَهُ وَتَرَى النَّاسَ سكارى على التشبيه (وما هم بسكارى) عَلَى التَّحْقِيقِ وَلَكِنْ مَا رَهَقَهُمْ مِنْ خَوْفِ عَذَابِ اللَّهِ هُوَ الَّذِي أَذْهَبَ عُقُولَهُمْ وَأَزَالَ تَمْيِيزَهُمْ وَقِيلَ سُكَارَى مِنَ الْخَوْفِ وَمَا هُمْ بِسُكَارَى مِنَ الشَّرَابِ وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ أَيْ فَهُمْ يَخَافُونَهُ قَالَ أَيْ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَهُوَ فِي سَفَرٍ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَالضَّمِيرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَهُ أَخْرِجْ بَعْثَ جَهَنَّمَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ
قَالَ الْحَافِظُ الْبَعْثُ بِمَعْنَى الْمَبْعُوثِ وَأَصْلُهَا فِي السَّرَايَا الَّتِي يَبْعَثُهَا الْأَمِيرُ إِلَى جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ لِلْحَرْبِ وَغَيْرِهَا وَمَعْنَاهَا هُنَا مَيِّزْ أَهْلَ النَّارِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا خُصَّ بِذَلِكَ آدَمُ لِكَوْنِهِ وَالِدَ الْجَمِيعِ وَلِكَوْنِهِ كَانَ قَدْ عَرَفَ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ
فَقَدْ رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَعَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَنْ شِمَالِهِ أَسْوِدَةٌ الْحَدِيثَ وَمَا بَعْثُ النَّارِ الْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَلَى شَيْءٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ سَمِعْتُ وَأَطَعْتُ وَمَا بَعْثُ النَّارِ أَيْ وَمَا مِقْدَارُ مَبْعُوثِ النَّارِ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ كَمْ أُخْرِجُ قَالَ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرِجْ مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ فَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مُخَالِفٌ لِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَأَبِي سَعِيدٍ مُخَالَفَةً ظَاهِرَةً وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ لَا اعْتِبَارَ لَهُ فَالتَّخْصِيصُ بِعَدَدٍ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الزَّائِدِ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْعَدَدَيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ تَقْلِيلُ عَدَدِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَكْثِيرُ عَدَدِ الْكَافِرِينَ
قَالَ الْحَافِظُ وَمُقْتَضَى كَلَامِهِ الْأَوَّلِ تَقْدِيمُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى حديث(9/8)
أَبِي سَعِيدٍ فَإِنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى زِيَادَةٍ
فَإِنَّ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَصِيبَ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ وَاحِدٌ
وَحَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةٌ
فَالْحُكْمُ لِلزَّائِدِ وَمُقْتَضَى كَلَامِهِ الْأَخِيرِ أَنْ لَا يُنْظَرَ إِلَى الْعَدَدِ أَصْلًا بَلِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَقْلِيلِ الْعَدَدِ قَالَ وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ بِأَجْوِبَةٍ أُخَرَ
وَهُوَ حَمْلُ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى جَمِيعِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ فَيَكُونُ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ وَاحِدٌ وَحَمْلُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى مَنْ عَدَا يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ فَيَكُونُ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ عَشَرَةٌ وَيُقَرِّبُ ذَلِكَ أَنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ذُكِرُوا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ دُونَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ يَتَعَلَّقُ بِالْخَلْقِ أَجْمَعِينَ وَالثَّانِي بِخُصُوصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ
وَيُقَرِّبُهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ إذا أخذ منا
لكن في حديث بن عَبَّاسٍ وَإِنَّمَا أُمَّتِي جُزْءٌ مِنْ أَلْفٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَقَعَ الْقِسْمَةُ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ قَبْلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَقَطْ فَيَكُونُ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ وَاحِدٌ وَمَرَّةً مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَقَطْ فَيَكُونُ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ عَشَرَةٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِبَعْثِ النَّارِ الْكُفَّارَ وَمَنْ يَدْخُلُهَا مِنَ الْعُصَاةِ فَيَكُونُ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ كَافِرًا وَمِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ عَاصِيًا انْتَهَى فَأَنْشَأَ الْمُسْلِمُونَ يَبْكُونَ قَالَ فِي النِّهَايَةِ أَنْشَأَ يَفْعَلُ كَذَا وَيَقُولُ كَذَا أَيِ ابْتَدَأَ يَفْعَلُ وَيَقُولُ قَارِبُوا أَيِ اقْتَصِدُوا فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا وَاتْرُكُوا الْغُلُوَّ فِيهَا وَالتَّقْصِيرَ يُقَالُ قَارَبَ فُلَانٌ فِي أُمُورِهِ إِذَا اقْتَصَدَ وَسَدِّدُوا أَيِ اطْلُبُوا بِأَعْمَالِكُمُ السَّدَادَ وَالِاسْتِقَامَةَ وَهُوَ الْقَصْدُ فِي الْأَمْرِ وَالْعَدْلُ فِيهِ فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ نُبُوَّةٌ قَطُّ قَالَ فِي الْقَامُوسِ ما رأيته قط ويضم ويخفقان وَقَطٍّ مُشَدَّدَةٌ مَجْرُورَةٌ بِمَعْنَى الدَّهْرِ مَخْصُوصٌ بِالْمَاضِي أي في ما مَضَى مِنَ الزَّمَانِ انْتَهَى إِلَّا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهَا جَاهِلِيَّةٌ قَالَ فِي النِّهَايَةِ الْجَاهِلِيَّةُ هِيَ الْحَالُ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا الْعَرَبُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنَ الْجَهْلِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَشَرَائِعِ الدِّينِ وَالْمُفَاخَرَةِ بِالْأَنْسَابِ وَالْكِبْرِ وَالتَّجَبُّرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ انْتَهَى
وَالْمُرَادُ بِالْجَاهِلِيَّةِ هُنَا الْحَالُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا النَّاسُ قَبْلَ بَعْثَةِ نَبِيِّهِمْ فَيُؤْخَذُ الْعَدَدُ أَيْ عَدَدُ بَعْثِ النَّارِ فَإِنْ تَمَّتْ أَيْ هَذِهِ الْعِدَّةُ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا كَمِثْلِ الرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الدَّابَّةِ قَالَ فِي النِّهَايَةِ الرَّقْمَةُ هُنَا الْهَنَةُ النَّاتِئَةُ فِي ذِرَاعِ الدَّابَّةِ مِنْ دَاخِلٍ وَهُمَا رَقْمَتَانِ فِي ذِرَاعَيْهَا انْتَهَى
وَفِي الْقَامُوسِ الرَّقْمَتَانِ هَنَتَانِ شَبَهُ ظُفْرَيْنِ فِي قَوَائِمِ الدَّابَّةِ
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ الرَّقْمَةُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الرَّقْمَتَانِ فِي الْحِمَارِ هُمَا الْأَثَرَانِ فِي بَاطِنِ عَضُدَيْهِ وَقِيلَ هِيَ الدَّائِرَةُ فِي ذِرَاعَيْهِ وَقِيلَ هِيَ الْهَنَةُ النَّاتِئَةُ فِي ذِرَاعِ الدَّابَّةِ مِنْ دَاخِلٍ انْتَهَى أَوْ كَالشَّامَةِ أَيِ الْخَالِ فِي الْجَسَدِ مَعْرُوفَةٌ (فَكَبَّرُوا) تَكْبِيرُهُمْ لِسُرُورِهِمْ بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ الْعَظِيمَةِ وَلَمْ يقل(9/9)
أَوَّلًا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِفَائِدَةٍ حَسَنَةٍ وَهِيَ أَنَّ ذَلِكَ أَوْقَعُ فِي نُفُوسِهِمْ وَأَبْلَغُ فِي إِكْرَامِهِمْ فَإِنَّ إِعْطَاءَ الْإِنْسَانِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى دَلِيلٌ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِهِ وَدَوَامِ مُلَاحَظَتِهِ وَفِيهِ فَائِدَةٌ أُخْرَى هِيَ تَكْرَارُ الْبِشَارَةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَفِيهِ أَيْضًا حَمْلُهُمْ عَلَى تَجْدِيدِ شُكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكْبِيرِهِ وَحَمْدِهِ عَلَى كَثْرَةِ نِعَمِهِ
ثُمَّ إِنَّهُ وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ نِصْفُ أَهْلِ الْجَنَّةِ
وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَرْبَعُونَ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي بَابِ كَمْ صَفُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ
فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ يَكُونُونَ ثُلُثَيْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَكُونُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَوَّلًا بِحَدِيثِ النِّصْفِ ثُمَّ تفضل الله سبحانه بالزيادة فأعمله بِحَدِيثِ الصُّفُوفِ فَأَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الْحَدِيثِ مَعْرُوفَةٌ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ
[3169] قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) هُوَ الْقَطَّانُ (أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الدَّسْتَوَائِيُّ
قَوْلُهُ (فَتَفَاوَتَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِي السَّيْرِ) أَيْ وَقَعَ التَّفَاوُتُ وَالْبُعْدُ (حَثُّوا الْمَطِيَّ) أَيْ حَضُّوهَا وَالْمَطِيُّ جَمْعُ الْمَطِيَّةِ وَهِيَ الدَّابَّةُ تَمْطُو فِي سَيْرِهَا أَيْ تَجِدُّ وَتُسْرِعُ فِي سَيْرِهَا (وَعَرَفُوا أَنَّهُ) أَيْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عِنْدَ قَوْلٍ يَقُولُهُ) أَيْ يُرِيدُ أَنْ يَقُولَ قَوْلًا (حَتَّى مَا أَبْدَوْا بِضَاحِكَةٍ) أَيْ مَا تَبَسَّمُوا وَالضَّوَاحِكُ الْأَسْنَانُ الَّتِي تَظْهَرُ عِنْدَ التَّبَسُّمِ (الَّذِي بِأَصْحَابِهِ) أَيْ مِنَ الْيَأْسِ وَعَدَمِ التَّبَسُّمِ إِنَّكُمْ لَمَعَ خليقتين(9/10)
أَيْ مَخْلُوقَيْنِ إِلَّا كَثَّرَتَاهُ مِنَ التَّكْثِيرِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ بَدَلٌ مِنْ خَلِيقَتَيْنِ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ أَيْ هُمَا يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَمَنْ مَاتَ عَطْفٌ عَلَى يَأْجُوجَ (فَسُرِّيَ) أَيْ كُشِفَ وَأُزِيلُ يُقَالُ سَرَوْتُ الثَّوْبَ وَسَرَيْتُهُ إِذَا خَلَعْتُهُ وَالتَّشْدِيدُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ وَأَبْشِرُوا مِنْ بَابِ سَمِعَ يَسْمَعُ أَوْ مِنْ بَابِ الْإِفْعَالِ قَالَ فِي مُخْتَارِ الصِّحَاحِ يُقَالُ بَشَرَهُ بِكَذَا بِالتَّخْفِيفِ فَأَبْشَرَ إِبْشَارًا وَتَقُولُ أَبْشِرْ بِخَيْرٍ بِقَطْعِ الْأَلِفِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَبْشِرُوا بالجنة وَبَشِرَ بِكَذَا اسْتَبْشَرَ بِهِ وَبَابُهُ طَرِبَ انْتَهَى
قَوْلُهُ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ
[3170] قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) بْنِ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ أَبُو إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ نَزِيلُ بَغْدَادَ ثِقَةٌ حَافِظٌ مِنَ الْحَادِيَةِ عَشْرَةِ (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ) هُوَ الْجُهَنِيُّ أَبُو صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ كَاتِبُ اللَّيْثِ (حَدَّثَنِي اللَّيْثُ) هُوَ بن سَعْدٍ (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ) بْنِ مُسَافِرٍ الْفَهْمِيِّ أَمِيرِ مِصْرَ صَدُوقٌ مِنَ السَّابِعَةِ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) بْنِ الْعَوَّامِ الْأَسَدِيِّ صَدُوقٌ مِنَ الرَّابِعَةِ قَوْلُهُ إِنَّمَا سُمِّيَ الْبَيْتُ الَّذِي هُوَ الْكَعْبَةُ (الْعَتِيقَ) بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِسُمِّيَ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ جَبَّارٌ أَيْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ وَالْجَبَّارُ هُوَ الَّذِي يَقْتُلُ عَلَى الْغَضَبِ وَفِي رِوَايَةٍ لِأَنَّ اللَّهَ أَعْتَقَهُ مِنَ الْجَبَابِرَةِ فَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ جَبَّارٌ قَطُّ قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَرَادَ بِنَفْيِ الظُّهُورِ نَفْيَ الْغَلَبَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ مِنَ الْكُفَّارِ وَقِصَّةُ الْفِيلِ مَشْهُورَةٌ وَقَالَ قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ البصري في قوله وليطوفوا بالبيت العتيق قَالَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّمَا سُمِّيَ الْبَيْتُ الْعَتِيقَ لِأَنَّهُ أُعْتِقَ يَوْمَ الْغَرَقِ زَمَانَ نُوحٍ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ وَمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَقَالَ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَأَقَرُّوهُ قَالَهُ المناوي(9/11)
[3171] قَوْلُهُ (لَيُهْلَكُنَّ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ مِنَ الْإِهْلَاكِ أَوْ للفاعل من الهلاك أذن أي رخص وقرىء عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ أَيْ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى للذين يقاتلون أَيْ يُقَاتِلُهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمَأْذُونُ فِيهِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهِ فَإِنَّ مُقَاتَلَةَ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ دَالَّةٌ على مقاتلتهم إياهم دلالة نيرة وقرىء عَلَى صِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ أَيْ يُرِيدُونَ أَنْ يُقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ فِيمَا سَيَأْتِي وَيَحْرِصُونَ عَلَيْهِ فَدَلَالَتُهُ عَلَى الْمَحْذُوفِ أَظْهَرُ وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْجِهَادِ بِأَنَّهُمْ أَيْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ ظُلِمُوا أَيْ بِظُلْمِ الْكَافِرِينَ إِيَّاهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نصرهم لقدير أَيْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى نَصْرِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ وَلَكِنْ هُوَ يُرِيدُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يُبْلُوا جَهْدَهُمْ فِي طَاعَتِهِ قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وبن جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ
4 - (بَاب وَمِنْ سُورَةِ المؤمنين)
مَكِّيَّةٌ وَهِيَ مِائَةٌ وَثَمَانِي أَوْ تِسْعَ عَشْرَةَ اية(9/12)
[3173] قَوْلُهُ (سُمِعَ) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ (عِنْدَ وَجْهِهِ) أَيْ عِنْدَ قُرْبِ وَجْهِهِ بِحَذْفِ الْمُضَافِ (كَدَوِيِّ النَّحْلِ) بِفَتْحِ الدَّالِ وَكَسْرِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ سُمِعَ عِنْدَ وَجْهِهِ دَوِيٌّ مِثْلُ دَوِيِّ النَّحْلِ وَالدَّوِيُّ صَوْتٌ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ وَهَذَا الصَّوْتُ هُوَ صَوْتُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُبَلِّغُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيَ وَلَا يَفْهَمُ الْحَاضِرُونَ مِنْ صَوْتِهِ شَيْئًا
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رح أَيْ سُمِعَ مِنْ جَانِبِ وَجْهِهِ وَجِهَتِهِ صَوْتٌ خَفِيٌّ كَأَنَّ الْوَحْيَ كَانَ يُؤَثِّرُ فِيهِمْ وَيَنْكَشِفُ لَهُمُ انْكِشَافًا غَيْرَ تَامٍّ فَصَارُوا كَمَنْ يَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتٍ وَلَا يَفْهَمُهُ أَوْ أَرَادَ لَهُمَا سَمِعُوهُ مِنْ غَطِيطِهِ وَشِدَّةِ تَنَفُّسِهِ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ انْتَهَى
وَقَالَ فِي اللُّمَعَاتِ وَهَذَا الدَّوِيُّ إِمَّا صَوْتُ الْوَحْيِ أَوْ مَا كَانُوا يَسْمَعُونَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شِدَّةِ تَنَفُّسِهِ مِنْ ثِقَلِ الْوَحْيِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَفَ الْوَحْيَ بِأَنَّهُ كَانَ تَارَةً مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ انْتَهَى (يَوْمًا) أَيْ نَهَارًا أَوْ وَقْتًا (فَمَكَثْنَا) بِفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا أَيْ لَبِثْنَا (سَاعَةً) أَيْ زَمَنًا يَسِيرًا نَنْتَظِرُ الْكَشْفَ عَنْهُ (فَسُرِّيَ) عَنْهُ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ التَّسْرِيَةِ وَهُوَ الْكَشْفُ وَالْإِزَالَةُ أَيْ كُشِفَ عَنْهُ وَأُزِيلَ مَا اعْتَرَاهُ مِنْ بُرَحَاءِ الْوَحْيِ وَشِدَّتِهِ اللَّهُمَّ زِدْنَا أَيْ مِنَ الْخَيْرِ وَالتَّرَقِّي أَوْ كَثِّرْنَا وَلَا تُنْقِصْنَا أَيْ خَيْرَنَا وَمَرْتَبَتَنَا وَعَدَدَنَا
قَالَ الطِّيبِيُّ رح عُطِفَتْ هَذِهِ النَّوَاهِي عَلَى الْأَوَامِرِ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ وَحُذِفَ الْمَفْعُولَاتُ لِلتَّعْمِيمِ وَأَكْرِمْنَا بِقَضَاءِ مَآرِبِنَا فِي الدُّنْيَا وَرَفْعِ مَنَازِلِنَا فِي الْعُقْبَى وَلَا تُهِنَّا مِنَ الْإِهَانَةِ أَيْ لَا تُذِلَّنَا وَلَا تَحْرِمْنَا بِفَتْحِ التَّاءِ أَيْ لَا تَمْنَعْنَا أَوْ لَا تَجْعَلْنَا مَحْرُومِينَ وَآثِرِنَا مِنَ الْإِيثَارِ أَيِ اخْتَرْنَا بِرَحْمَتِكَ وَإِكْرَامِكَ وَعِنَايَتِكَ لَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا أَيْ غَيْرَنَا بِلُطْفِكَ وَحِمَايَتِكَ وَقِيلَ لَا تَغْلِبْ عَلَيْنَا أَعْدَاءَنَا وَأَرْضِنَا مِنَ الْإِرْضَاءِ أَيْ بِمَا قَضَيْتَ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا بِإِعْطَاءِ الصَّبْرِ وَتَوْفِيقِ الشُّكْرِ وَتَحَمُّلِ الطَّاعَةِ وَالتَّقَنُّعِ بِمَا قَسَمْتَ لَنَا وَارْضَ عَلَيْنَا أَيْ بِالطَّاعَةِ الْيَسِيرَةِ الْحَقِيرَةِ الَّتِي فِي جَهْدِنَا وَلَا تُؤَاخِذْنَا بِسُوءِ أَعْمَالِنَا ثُمَّ قَالَ أُنْزِلَ عَلَيَّ أَيْ آنِفًا مَنْ أَقَامَهُنَّ أَيْ حَافَظَ وَدَاوَمَ عَلَيْهِنَّ وَعَمِلَ بِهِنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ أَيْ دُخُولًا أَوَّلِيًّا(9/13)
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانٍ) هُوَ أَبُو بَكْرٍ الْبَلْخِيُّ (عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ) هُوَ بن أَبِي النِّجَادِ الْأَيْلِيُّ وَحَدِيثُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ هَذَا أَخْرَجَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَفِي سَنَدِهِ يُونُسُ بْنُ سُلَيْمٍ الصَّنْعَانِيُّ قَالَ فِي الْمِيزَانِ فِي تَرْجَمَتِهِ حَدَّثَ عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَتَكَلَّمَ فِيهِ وَلَمْ يَعْتَمِدْ فِي الرِّوَايَةِ وَمَشَاهُ غَيْرُهُ وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ لَا يُتَابَعُ عَلَى حَدِيثِهِ وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهِ انْتَهَى
وَقَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ قَالَ النَّسَائِيُّ هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهُ غَيْرَ يُونُسَ
وَيُونُسُ لَا نعرفه وذكره بن حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ
[3174] قَوْلُهُ (عَنْ سَعِيدِ) بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ (أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ النَّضْرِ) الْأَنْصَارِيَّةَ الْخَزْرَجِيَّةَ عَمَّةَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ صَحَابِيَّةٌ (كَانَ أُصِيبَ) أَيْ قُتِلَ (أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ) أَيْ لَا يُعْرَفُ رَامِيهِ أَوْ لَا يُعْرَفُ مِنْ أَيْنَ أَتَى أَوْ جَاءَ عَلَى غَيْرِ قَصْدٍ مِنْ رَامِيهِ قَالَهُ الْحَافِظُ وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ لَا يُعْرَفُ رَامِيهِ وَهُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِهَا وَبِالْإِضَافَةِ وَالْوَصْفِ وَقِيلَ بِالسُّكُونِ إِذَا أَتَاهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي وَبِالْفَتْحِ إِذَا رَمَاهُ فَأَصَابَ غَيْرَهُ انْتَهَى (لَئِنْ كَانَ أَصَابَ خَيْرًا احْتَسَبْتُ وَصَبَرْتُ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ (وَإِنْ لَمْ يُصِبِ الْخَيْرَ اجْتَهَدْتُ فِي الدُّعَاءِ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ أَقَرَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا أَيْ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْجَوَازُ
قَالَ الْحَافِظُ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ النَّوْحِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ فَإِنَّ تَحْرِيمَهُ كَانَ عَقِبَ غَزْوَةِ أُحُدٍ وَهَذِهِ الْقِصَّةُ كَانَتْ عَقِبَ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ اجْتَهَدْتُ فِي الدُّعَاءِ بَدَلَ قَوْلِهِ فِي الْبُكَاءِ وَهُوَ خَطَأٌ وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ دُونَ بَعْضٍ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ الْآتِيَةِ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ مِنَ الرِّقَاقِ وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ لَمْ أَبْكِ عَلَيْهِ وَهُوَ دَالٌّ عَلَى صِحَّةِ الرِّوَايَةِ بِلَفْظِ الْبُكَاءِ
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ هَذِهِ وَإِلَّا فَسَتَرَى مَا أَصْنَعُ وَنَحْوَهُ فِي(9/14)
رِوَايَةِ حَمَّادٍ عَنْ ثَابِتٍ عِنْدَ أَحْمَدَ إِنَّهَا جِنَانٌ فِي جَنَّةٍ وَفِي رِوَايَةِ أَبَانٍ عِنْدَ أَحْمَدَ إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ فِي جَنَّةٍ
وَفِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ إِنَّهَا جِنَانٌ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ هِيَ الْعَرَبُ تَقُولُ مَا شَاءَتْ وَالْقَصْدُ بذلك التفخيم وَالتَّعْظِيمُ
وَقَالَ الطِّيبِيُّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ وَجِنَانٌ مُبْتَدَأٌ وَالتَّنْكِيرُ فِيهِ لِلتَّعْظِيمِ
وَالْمُرَادُ بِالْجِنَانِ الدَّرَجَاتُ فِيهَا لِمَا وَرَدَ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْفِرْدَوْسُ أَعْلَاهَا (وَالْفِرْدَوْسُ رَبْوَةُ الْجَنَّةِ) أَيْ أَرْفَعُهَا وَالرَّبْوَةُ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ (وَأَوْسَطُهَا وَأَفْضَلُهَا) الْمُرَادُ بِالْأَوْسَطِ هُنَا الْأَعْدَلُ وَالْأَفْضَلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَكَذَلِكَ جعلناكم أمة وسطا فَعَطَفَ الْأَفْضَلَ عَلَيْهِ لِلتَّأْكِيدِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ البخاري والنسائي وبن خُزَيْمَةَ
[3175] قَوْلُهُ (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ) هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ الْهَمْدَانِيُّ الْخَيْرَانِيُّ ثِقَةٌ مِنَ الرَّابِعَةِ ولم يدرك عائشة
قوله والذين يؤتون أي يعطون ما آتوا أَيْ مَا أَعْطَوْا مِنَ الصَّدَقَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وقلوبهم وجلة أَيْ خَائِفَةٌ أَنْ لَا تُقْبَلَ مِنْهُمْ وَبَعْدَهُ أنهم إلى ربهم راجعون أَيْ لِأَنَّهُمْ يُوقِنُونَ أَنَّهُمْ إِلَى اللَّهِ صَائِرُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ كَذَا فِي هذه الرواية وفي القرآن أولئك يسارعون أَيْ يُبَادِرُونَ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَهُمْ لَهَا سابقون أَيْ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَقِيلَ أَيْ لِأَجْلِ الْخَيْرَاتِ سَابِقُونَ إِلَى الْجَنَّاتِ أَوْ لِأَجْلِهَا سَبَقُوا الناس
وقال بن عَبَّاسٍ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ السَّعَادَةُ وَحَدِيثُ عائشة هذا أخرجه أيضا أحمد وبن أَبِي حَاتِمٍ
قَوْلُهُ (وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدٍ) هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ وَهْبٍ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ السَّابِقِ (عن أبي حازم) اسمه سلمان الأشجعي
[3176] بْنُ سَمْعَانَ السَّهْمِيُّ (عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ) اسْمُهُ سُلَيْمَانُ بْنُ عَمْرٍو الْعُتْوَارِيُّ
قَوْلُهُ وَهُمْ فِيهَا كالحون أَيْ عَابِسُونَ وَقَدْ بَدَتْ أَسْنَانُهُمْ وَتَقَلَّصَتْ شِفَاهُهُمْ(9/15)
كَالرَّأْسِ الْمَشْوِيِّ عَلَى النَّارِ قَالَ فِي الْقَامُوسِ كَلَحَ كَمَنَحَ كُلُوحًا وَكُلَاحًا بِضَمِّهِمَا تَكَشَّرَ فِي عبوس أوله تلفح وجوههم النار أَيْ تُحْرِقُهَا تَشْوِيهِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنْ بَابِ رَمَى يَرْمِي أَيْ تُحْرِقُ الْكَافِرَ (فَتَقَلَّصُ) بِحَذْفِ إحدى التائين أَيْ تَنْقَبِضُ حَتَّى تَبْلُغَ أَيْ تَصِلَ شَفَتُهُ وَتَسْتَرْخِي أَيْ تَسْتَرْسِلُ شَفَتُهُ السُّفْلَى تَأْنِيثُ الْأَسْفَلِ كَالْعُلْيَا تَأْنِيثُ الْأَعْلَى حَتَّى تَضْرِبَ سُرَّتَهُ أَيْ تَقْرُبَ شَفَتُهُ سُرَّتَهُ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ
5 - (بَاب وَمِنْ سورة النور)
مدنية وهي اثنتان أَوْ أَرْبَعٌ وَسَبْعُونَ آيَةً [3177] قَوْلُهُ (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَخْنَسِ) النَّخَعِيِّ كُنْيَتُهُ أَبُو مَالِكٍ الخزاز صدوق قال بن حِبَّانَ كَانَ يُخْطِئُ مِنَ السَّابِعَةِ
قَوْلُهُ (كَانَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مَرْثَدُ بْنُ أَبِي الْمَرْثَدِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَبَعْدَهَا دَالٌ مُهْمَلَةٌ الْغَنَوِيُّ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَبَعْدَهَا نُونٌ مَفْتُوحَةٌ صَحَابِيٌّ بَدْرِيٌّ اسْتُشْهِدَ(9/16)
في عهد النبي سَنَةَ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ (وَكَانَ) أَيْ مَرْثَدٌ (يَحْمِلُ الْأَسْرَى) جَمْعُ الْأَسِيرِ (بَغِيٌّ) أَيْ فَاجِرَةٌ وَجَمْعُهَا الْبَغَايَا (وَكَانَتْ صَدِيقَةً لَهُ) أَيْ حَبِيبَةً لِمَرْثَدٍ (يَحْمِلُهُ) أَيْ أَنْ يَحْمِلَهُ (فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ) أَيْ مُضِيئَةٍ (سَوَادَ ظِلِّي) أَيْ شَخْصَهُ (فَلَمَّا انْتَهَتْ إِلَيَّ) أَيْ بَلَغَتْ إِلَيَّ (عَرَفَتْ) أَيْ عَرَفَتْنِي (فَقَالَتْ مَرْثَدٌ) أَيْ أَنْتَ مَرْثَدٌ (فَقُلْتُ مَرْثَدٌ) أَيْ نَعَمْ أَنَا مَرْثَدٌ (هَلُمَّ) أي تعالى (فَبِتْ) أَمْرٌ مِنْ بَاتَ يَبِيتُ بَيْتُوتَةً (حَرَّمَ الله الزنى) أَيْ فَلَا يَجُوزُ لِي أَنْ أَبِيتَ عِنْدَكِ (يَا أَهْلَ الْخِيَامِ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ جَمْعُ الْخَيْمَةِ (هَذَا الرَّجُلُ يَحْمِلُ أُسَرَاءَكُمْ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وفتح السِّينِ جَمْعُ أَسِيرٍ وَالْمَعْنَى تَنَبَّهُوا يَا أَهْلَ الْخِيَامِ وَخُذُوا هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي يَذْهَبُ بِأُسَارَاكُمْ (سَلَكْتُ الْخَنْدَمَةَ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ النُّونِ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ مَكَّةَ (إِلَى غَارٍ أَوْ كَهْفٍ) الْكَهْفُ كَالْبَيْتِ الْمَنْقُورِ فِي الْجَبَلِ جَمْعُهُ كُهُوفٌ أَوْ كَالْغَارِ فِي الْجَبَلِ إِلَّا أَنَّهُ وَاسِعٌ فَإِذَا صَغُرَ فَغَارٌ (فَظَلَّ بَوْلُهُمْ عَلَى رَأْسِي) أَيْ صَارَ وَوَقَعَ عَلَيْهِ (وَعَمَّاهُمُ اللَّهُ) مِنَ التَّعْمِيَةِ أَيْ صَيَّرَهُمْ عُمْيَانًا (إِلَى صَاحِبِي) أَيِ الَّذِي كُنْتُ وَعَدْتُ أَنْ أَحْمِلَهُ (حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى الْإِذْخِرِ) وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فَلَمَّا انْتَهَتْ بِهِ إِلَى الْأَرَاكِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِذْخِرِ وَالْأَرَاكِ هُنَا مَكَانٌ خَارِجَ مَكَّةَ يَنْبُتُ فِيهِ الْأَرَاكُ وَالْإِذْخِرُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِذْخِرِ أَذَاخِرَ وَهُوَ مَوْضِعٌ قُرْبَ مَكَّةَ كَمَا فِي الْقَامُوسِ (فَفَكَكْتُ) أَيْ أَطْلَقْتُ (أَكْبُلَهُ) جَمْعُ قِلَّةٍ لِلْكَبْلِ وَهُوَ قَيْدٌ ضَخْمٌ (وَيُعْيِينِي) مِنَ الأعياء أي يكلني (أنكح عناقا) بحذف همزة الاستفهام (فأمسك رسول الله) وَفِي رِوَايَةِ أَبِي(9/17)
دَاوُدَ فَسَكَتَ عَنِّي (فَلَا تَنْكِحْهَا) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالزَّوَانِي وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ لِأَنَّ فِي آخِرِهَا وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى المؤمنين
فإنه صريح في التحريم
قال بن الْقَيِّمِ وَأَمَّا نِكَاحُ الزَّانِيَةِ فَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ بِتَحْرِيمِهِ فِي سُورَةِ النُّورِ وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ نَكَحَهَا فَهُوَ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ فَهُوَ إِمَّا أَنْ يَلْتَزِمَ حُكْمَهُ تَعَالَى وَيَعْتَقِدَ وُجُوبَهُ عَلَيْهِ أَوْ لَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْهُ فَهُوَ مُشْرِكٌ وَإِنِ الْتَزَمَهُ وَاعْتَقَدَ وُجُوبَهُ وَخَالَفَهُ فَهُوَ زَانٍ ثُمَّ صَرَّحَ بِتَحْرِيمِهِ فَقَالَ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى المؤمنين وَأَمَّا جَعْلُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ وَحُرِّمَ ذَلِكَ إلى الزنى فَضَعِيفٌ جِدًّا إِذْ يَصِيرُ مَعْنَى الْآيَةِ الزَّانِي لَا يَزْنِي إِلَّا بِزَانِيَةٍ أَوْ مُشْرِكَةٍ وَالزَّانِيَةُ لَا يَزْنِي بِهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَهَذَا مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُصَانَ عَنْهُ الْقُرْآنُ ولا يعارض ذلك حديث بن عَبَّاسٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ إِنَّ امْرَأَتِي لَا تَمْنَعُ يَدَ لَامِسٍ قَالَ غَرِّبْهَا قَالَ أَخَافُ أَنْ تَتْبَعَهَا نَفْسِي قَالَ فَاسْتَمْتِعْ بِهَا فَإِنَّهُ فِي الِاسْتِمْرَارِ عَلَى نِكَاحِ الزَّوْجَةِ الزَّانِيَةِ وَالْآيَةُ فِي ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ فَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى نِكَاحِ مَنْ زَنَتْ وَهِيَ تَحْتَهُ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالزَّانِيَةِ
انْتَهَى
وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَلِلْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْآيَةِ الْقَوْلُ فِيهَا كَمَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَقَالَ غَيْرُهُ النَّاسِخُ لها وأنكحوا الأيامى منكم فَدَخَلَتِ الزَّانِيَةُ فِي أَيَامَى الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ مَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلِغَيْرِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا
وَالثَّانِي أَنَّ النكاح ها هنا الْوَطْءُ وَالْمُرَادُ أَنَّ الزَّانِيَ لَا يُطَاوِعُهُ عَلَى فِعْلِهِ وَيُشَارِكُهُ فِي مُرَادِهِ إِلَّا زَانِيَةٌ أَوْ مُشْرِكَةٌ
وَالثَّالِثُ أَنَّ الزَّانِيَ الْمَجْلُودَ لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً مَجْلُودَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَكَذَا الزَّانِيَةُ
وَالرَّابِعُ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي نِسْوَةٍ كَانَ الرَّجُلُ يَتَزَوَّجُ إِحْدَاهُنَّ عَلَى أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِ مما كسبته من الزنى
وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ وَالْخَامِسُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ عَلَى الْعَفِيفِ وَالْعَفِيفِ عَلَى الزَّانِيَةِ
انْتَهَى
قُلْتُ هَذَا الْقَوْلُ الْخَامِسُ هُوَ الظَّاهِرُ الرَّاجِحُ وَبِهِ قَالَ الإمام أحمد وغيره قال الحافظ بن كَثِيرٍ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ مِنَ الرَّجُلِ الْعَفِيفِ عَلَى الْمَرْأَةِ الْبَغِيِّ مَا دَامَتْ كَذَلِكَ حَتَّى تُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَتْ صَحَّ الْعَقْدُ عَلَيْهَا وَإِلَّا فَلَا وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ تَزْوِيجُ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ الْعَفِيفَةِ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ الْمُسَافِحِ حَتَّى يَتُوبَ تَوْبَةً صَحِيحَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَحُرِّمَ ذلك على المؤمنين
انْتَهَى
وَقَدْ بَسَطَ صَاحِبُ فَتْحِ الْبَيَانِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَالَ فِي آخِرِ الْبَحْثِ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ تَزَوُّجِ الرَّجُلِ بِامْرَأَةٍ قَدْ زَنَى هُوَ بِهَا فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ بجواز ذلك
وروى عن بن عباس وعمر وبن(9/18)
مسعود وجابر أنه لا يجوز
قال بن مَسْعُودٍ إِذَا زَنَى الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ ثُمَّ نَكَحَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُمَا زَانِيَانِ أَبَدًا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
انْتَهَى
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ
[3178] قَوْلُهُ (سُئِلْتُ عَنِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ فِي إِمَارَةِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا إِلَخْ) تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ بِإِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ فِي بَابِ اللِّعَانِ وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ شَرْحُهُ(9/19)
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَدِيٍّ قَوْلُهُ (أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَشَدَّةِ الْيَاءِ (قَذَفَ امْرَأَتَهُ) أَيْ نَسَبَهَا إلى الزنى الْبَيِّنَةَ بِالنَّصْبِ أَيْ أَقِمِ الْبَيِّنَةَ وَإِلَّا أَيْ وَإِنْ لَمْ تُقِمِ الْبَيِّنَةَ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ أَيْ يَثْبُتُ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ (أَيَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ) الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِبْعَادِ (إِنَّهُ) أيْ هِلَالٌ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ إِنِّي
وَهُوَ الظَّاهِرُ وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ (الصَّادِقُ) أَيْ فِي الْقَذْفِ (وَلْيُنْزِلَنَّ) بِسُكُونِ اللَّامِ وَضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ الزَّايِ الْمُخَفَّفَةِ وَفِي آخِرِهِ نُونٌ مُشَدَّدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ مِنَ الْإِنْزَالِ وَهُوَ أَمْرٌ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ وَالضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ الذي يحتمل أَنْ يَكُونَ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ مِنَ النُّزُولِ وَفَاعِلُهُ مَا يُبَرِّئُ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فَلْيُنْزِلَنَّ اللَّهُ (مَا يُبَرِّئُ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ مِنَ التَّبْرِئَةِ أَيْ مَا يَدْفَعُ وَيَمْنَعُ (فَأَرْسَلَ) أَيِ النَّبِيُّ (إِلَيْهِمَا) أَيْ إِلَى هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَزَوْجَتِهِ (فشهد) أي لاعن والنبي يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ ظَاهِرُهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ صُدُورِ اللِّعَانِ بَيْنَهُمَا (فَشَهِدَتْ) أَيْ لَاعَنَتْ أن غضب الله عليها جَعَلَ الْغَضَبَ فِي جَانِبِهَا لِأَنَّ النِّسَاءَ يَسْتَعْمِلْنَ اللَّعْنَ كَثِيرًا كَمَا وَرَدَ الْحَدِيثُ فَرُبَّمَا يَجْتَرِئْنَ عَلَى الْإِقْدَامِ لِكَثْرَةِ جَرْيِ اللَّعْنِ عَلَى أَلْسِنَتِهِنَّ وَسُقُوطِ وُقُوعِهِ عَنْ قُلُوبِهِنَّ فَذَكَرَ الْغَضَبَ فِي جَانِبِهِنَّ لِيَكُونَ رَادِعًا لَهُنَّ إِنَّهَا أَيِ الْخَامِسَةَ مُوجِبَةٌ أَيْ لِلْعَذَابِ الْأَلِيمِ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً (فَتَلَكَّأَتْ) بِتَشْدِيدِ الْكَافِ أَيْ تَوَقَّفَتْ يُقَالُ تَلَكَّأَ فِي الْأَمْرِ إِذَا تَبَطَّأَ عَنْهُ وَتَوَقَّفَ فِيهِ (وَنَكَسَتْ) أَيْ خَفَضَتْ رَأْسَهَا وَطَأْطَأَتْ إِلَى الْأَرْضِ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ نَكَصَتْ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ رجعت وتأخرت(9/20)
وَالْمَعْنَى أَنَّهَا سَكَتَتْ بَعْدَ الْكَلِمَةِ الرَّابِعَةِ (أَنْ) مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ أَيْ أَنَّهَا (سَتَرْجِعُ) أَيْ عَنْ مَقَالِهَا فِي تَكْذِيبِ الزَّوْجِ وَدَعْوَى الْبَرَاءَةِ عَمَّا رَمَاهَا بِهِ (سَائِرَ الْيَوْمِ) أَيْ فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ وَأَبَدَ الدَّهْرِ أَوْ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْأَيَّامِ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ اللِّعَانِ وَالرُّجُوعِ إِلَى تصديق الزوج وأريد اليوم الْجِنْسُ وَلِذَلِكَ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْعَامِّ وَالسَّائِرِ كَمَا يُطْلَقُ لِلْبَاقِي يُطْلَقُ لِلْجَمِيعِ أَبْصِرُوهَا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ الْإِبْصَارِ أَيِ انْظُرُوا وَتَأَمَّلُوا فِيمَا تَأْتِي بِهِ مِنْ وَلَدِهَا (بِهِ) أَيْ بِالْوَلَدِ (أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ) أَيِ الَّذِي يَعْلُو جُفُونَ عَيْنِهِ سَوَادٌ مِثْلُ الْكُحْلِ مِنْ غَيْرِ اكْتِحَالٍ (وَسَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ) تَثْنِيَةُ الْأَلْيَةِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَهِيَ الْعَجِيزَةُ أَوْ مَا رَكِبَ الْعَجُزَ مِنْ شَحْمٍ أَوْ لَحْمٍ أَيْ تامهما وَعَظِيمَهَا مِنْ سُبُوغِ النِّعْمَةِ وَالثَّوْبِ (خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ) بِمُعْجَمَةٍ وَمُهْمَلَةٍ وَلَامٍ مُشَدَّدَةٍ مَفْتُوحَاتٍ وَبِالْجِيمِ أَيْ عَظِيمَهَا (فَهُوَ) أَيِ الْوَلَدُ (فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ) قَالَ الطِّيبِيُّ فِي إِتْيَانِ الْوَلَدِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ هُنَا وَفِي قِصَّةِ عُوَيْمِرٍ بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ مُعْجِزَةٌ وَإِخْبَارٌ بِالْغَيْبِ وَلَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ من بيان لما أَيْ لَوْلَا مَا سَبَقَ مِنْ حُكْمِهِ بِدَرْءِ الْحَدِّ عَنِ الْمَرْأَةِ بِلِعَانِهَا (لَكَانَ لَنَا وَلَهَا شَأْنٌ) أَيْ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا إِثْرَ الْمَعْنَى لَوْلَا أَنَّ الْقُرْآنَ حَكَمَ بِعَدَمِ الْحَدِّ عَلَى الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَعَدَمِ التَّغْرِيرِ لَفَعَلْتُ بِهَا مَا يَكُونُ عِبْرَةً لِلنَّاظِرِينَ وَتَذْكِرَةً لِلسَّامِعِينَ
تَنْبِيهٌ اعْلَمْ أن حديث بن عَبَّاسٍ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آيَةَ اللِّعَانِ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَحَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ عُوَيْمِرٍ الْعِجْلَانِيِّ وَلَفْظُهُ فَجَاءَ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَجُلٌ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَصْنَعُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ فَأَمَرَهُمَا رسول الله بِالْمُلَاعَنَةِ
قَالَ الْحَافِظُ قَدِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عُوَيْمِرٍ وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ هِلَالٍ وَمِنْهُمْ مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ هِلَالٌ وَصَادَفَ مَجِيءَ عُوَيْمِرٍ أَيْضًا فَنَزَلَتْ فِي شَأْنِهِمَا مَعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَقَدْ جَنَحَ النَّوَوِيُّ إِلَى هَذَا وَسَبَقَهُ الْخَطِيبُ فَقَالَ لَعَلَّهُمَا اتَّفَقَ كَوْنُهُمَا جَاءَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَلَا مانع أن تتعدى الْقِصَصُ وَيَتَّحِدَ النُّزُولُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ النُّزُولَ سَبَقَ بِسَبَبِ هِلَالٍ فَلَمَّا جَاءَ عُوَيْمِرٌ وَلَمْ يَكُنْ علم بما وقع لهلال أعلمه النبي بِالْحُكْمِ وَلِهَذَا قَالَ فِي قِصَّةِ هِلَالٍ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَفِي قِصَّةِ عُوَيْمِرٍ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فيك فيأول قَوْلُهُ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ أَيْ وَفِيمَنْ كان مثلك وبهذا أجاب بن صَبَّاغٍ فِي الشَّامِلِ وَجَنَحَ الْقُرْطُبِيُّ إِلَى تَجْوِيزِ نُزُولِ الْآيَةِ مَرَّتَيْنِ قَالَ وَهَذِهِ(9/21)
الِاحْتِمَالَاتُ وَإِنْ بَعُدَتْ أَوْلَى مِنْ تَغْلِيطِ الرُّوَاةِ الْحُفَّاظِ انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ مُلَخَّصًا
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وبن مَاجَهْ (وَهَكَذَا رَوَى عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَخْ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ
[3180] قَوْلُهُ (لَمَّا ذُكِرَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (مِنْ شَأْنِي) بَيَانٌ مقدم لقوله (الذي ذكر) وهو نَائِبُ الْفَاعِلِ (وَمَا عَلِمْتُ بِهِ) مَا نَافِيَةٌ وَالْوَاوُ لِلْحَالِ (فِيَّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ فِي شَأْنِي أَشِيرُوا عَلَيَّ مِنَ الْإِشَارَةِ أَبَنُوا أَهْلِي مِنْ بَابِ نَصَرَ وَضَرَبَ مِنَ الْأَبَنِ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ التُّهْمَةُ أَيِ اتَّهَمُوا أَهْلِي وَرَمَوْا بِالْقَبِيحِ وَأَبَنُوا بِمَنْ وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَطُّ هُوَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ (فقام سعد بن معاذ فقال ائْذَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ) اسْتَشْكَلَ ذِكْرُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ هُنَا بِأَنَّ حَدِيثَ الْإِفْكِ كَانَ سَنَةَ سِتٍّ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ وَسَعْدٌ مَاتَ مِنَ الرَّمْيَةِ الَّتِي رُمِيَهَا بِالْخَنْدَقِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي الْمُرَيْسِيعِ فَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنَّهَا سَنَةَ أَرْبَعٍ وكذلك الخندق وقد جزم بن إِسْحَاقَ بِأَنَّ الْمُرَيْسِيعَ كَانَتْ فِي شَعْبَانَ وَالْخَنْدَقُ فِي شَوَّالٍ وَإِنْ كَانَتَا فِي سَنَةٍ فَلَا يمتنع أن يشهدها بن مُعَاذٍ
لَكِنِ الصَّحِيحُ فِي النَّقْلِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنَّ الْمُرَيْسِيعَ سَنَةَ خَمْسٍ
فَالَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ حَمَلُوهُ عَلَى أَنَّهُ سَبْقُ قَلَمٍ وَالرَّاجِحُ أَيْضًا أَنَّ الْخَنْدَقَ أَيْضًا سَنَةَ خَمْسٍ فيصبح الجواب (أن تضرب أَعْنَاقَهُمْ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ إِنْ كَانَ مِنَ الْأَوْسِ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ
قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ سَعْدٌ لِأَنَّهُ كَانَ سَيِّدَ الْأَوْسِ فَجَزَمَ بِأَنَّ حُكْمَهُ فِيهِمْ نَافِذٌ (وَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْخَزْرَجِ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ (وَكَانَتْ أُمُّ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ مِنْ رَهْطِ ذَلِكَ الرَّجُلِ) اسْمُ أُمِّ حَسَّانٍ الْفُرَيْعَةُ(9/22)
بِنْتُ خَالِدِ بْنِ خُنَيْسٍ وَكَانَتْ بِنْتَ عَمِّ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ مِنْ فَخِذِهِ (أَمَا) بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (إِنْ لَوْ كَانُوا) كَلِمَةُ إِنْ زَائِدَةٌ (حَتَّى كَادَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ شَرٌّ فِي الْمَسْجِدِ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فَتَشَاوَرَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا ورسول الله قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ (وَمَا عَلِمْتُ بِهِ) أَيْ بِمَا جَرَى فِي الْمَسْجِدِ (وَمَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ السِّينِ وَفَتْحِ الطَّاءِ وَبَعْدَهَا حَاءٌ مُهْمَلَاتٌ وَاسْمُهَا سَلْمَى وَهِيَ بِنْتُ أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَاسْمُ أَبِي رُهْمٍ أُنَيْسٌ (فَعَثَرَتْ) بِالْفَاءِ وَالْعَيْنِ وَالرَّاءِ الْمَفْتُوحَاتِ مِنَ الْعَثْرَةِ وَهِيَ الزَّلَّةُ يُقَالُ عَثَرَ فِي ثَوْبِهِ يَعْثُرُ بِالضَّمِّ عِثَارًا بِالْكَسْرِ وفي رواية البخاري فعثرت أم سطح فِي مِرْطِهَا (تَعِسَ مِسْطَحٌ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَبِفَتْحِهَا أَيْضًا بَعْدَهَا سِينٌ مُهْمَلَةٌ أَيْ كُبَّ لِوَجْهِهِ أَوْ هَلَكَ أَوْ لَزِمَهُ الشَّرُّ أَوْ بَعُدَ أَقْوَالٌ (أَيْ أُمَّ تَسُبِّينَ ابْنَكِ) بِحَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا (فَقَالَتْ وَاللَّهِ مَا أَسُبُّهُ إِلَّا فِيكِ) أَيْ إِلَّا لِأَجْلِكِ (فَقَالَتْ) أَيْ أُمُّ مِسْطَحٍ (فَبَقَرَتْ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْقَافِ وَالرَّاءِ أَيْ فَتَحَتْ وَكَشَفَتْ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أو لم تَسْمَعِي مَا قَالَ قُلْتُ وَمَا قَالَ قَالَتْ كَذَا وَكَذَا فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ (قُلْتُ وَقَدْ كَانَ هَذَا) بِحَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَكَانَ تَامَّةٌ (كَأَنَّ الَّذِي خَرَجْتُ لَهُ لَمْ أَخْرُجْ) أَيْ كَأَنَّ الْحَاجَةَ الَّتِي خَرَجْتُ لَهَا لَمْ أَخْرُجْ لَهَا (لَا أَجِدُ مِنْهُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا) عِلَّةٌ لِمَا قَبْلَهَا قَالَ الْعَيْنِيُّ مَعْنَاهُ إِنِّي دَهِشْتُ بِحَيْثُ مَا عَرَفْتُ لِأَيِّ أَمْرٍ خَرَجْتُ مِنَ الْبَيْتِ (وَوُعِكْتُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْوَعْكِ أَيْ صِرْتُ مَحْمُومَةً (فَقُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ) أَيْ لَمَّا دَخَلَ عَلَيَّ (فَأَرْسَلَ مَعِيَ الْغُلَامَ) قَالَ الْحَافِظُ لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذَا الْغُلَامِ (فَوَجَدْتُ أُمَّ رُومَانَ) تَعْنِي أُمَّهَا قَالَ الكروماني وَاسْمُهَا زَيْنَبُ (فِي السِّفْلِ) مِنَ الْبَيْتِ وَهُوَ بِكَسْرِ السِّينِ وَبِضَمِّهَا (فَإِذَا هُوَ(9/23)
أَيِ الْحَدِيثُ (لَمْ يَبْلُغْ مِنْهَا مَا بَلَغَ مِنِّي) أَيْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا مِثْلَ مَا أَثَّرَ فِيَّ (خَفِّفِي عَلَيْكِ الشَّأْنَ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ هَوِّنِي عَلَيْكِ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ خَفِّضِي بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ (لَهَا ضَرَائِرُ) جَمْعُ ضَرَّةٍ وَقِيلَ لِلزَّوْجَاتِ ضَرَائِرُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ يَحْصُلُ لَهَا الضَّرَرُ مِنَ الْأُخْرَى بِالْغَيْرَةِ (وَقِيلَ فِيهَا) أَيْ مَا يَشِينُهَا (فَإِذَا هِيَ) أَيْ أُمُّ رُومَانَ (لَمْ يَبْلُغْ مِنْهَا) أَيْ لَمْ يُؤَثِّرِ الْحَدِيثُ فِيهَا (مَا بَلَغَ مِنِّي) أَيْ مِثْلُ مَا أَثَّرَ فِيَّ (وَاسْتَعْبَرْتُ) أَيْ جَرَى دَمْعِي
قَالَ فِي الْقَامُوسِ الْعَبْرَةُ الدَّمْعَةُ وَاسْتَعْبَرَ جَرَتْ عَبْرَتُهُ وَحَزِنَ (الَّذِي ذُكِرَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (أَقْسَمْتُ عَلَيْكِ يَا بُنَيَّةُ إِلَّا رَجَعْتِ إِلَى بَيْتِكِ) هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِمْ نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ إِلَّا فَعَلْتِ أَيْ مَا أَطْلُبُ مِنْكِ إِلَّا رُجُوعَكِ إِلَى بَيْتِ رسول الله (وَسَأَلَ عَنِّي خَادِمَتِي) الْمُرَادُ بِهَا بَرِيرَةُ وَفِي رواية البخاري فدعا رسول الله بَرِيرَةَ فَقَالَ أَيْ بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ قَالَ الْقَسْطَلَّانِيُّ وَاسْتَشْكَلَ هُنَا قَوْلُهُ بَرِيرَةُ بِأَنَّ قِصَّةَ الْإِفْكِ قَبْلَ شِرَاءِ بَرِيرَةَ وَعِتْقِهَا لِأَنَّهُ كَانَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَهُوَ قَبْلَهُ لِأَنَّ حَدِيثَ الْإِفْكِ كَانَ فِي سَنَةِ سِتٍّ أَوْ أَرْبَعٍ وَعِتْقُ بَرِيرَةَ كَانَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ أَوِ الْعَاشِرَةِ وَأَجَابَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ بِأَجْوِبَةٍ أَحْسَنُهَا احْتِمَالُ أَنَّهَا كَانَتْ تَخْدُمُ عَائِشَةَ قَبْلَ شِرَائِهَا وَهَذَا أَوْلَى مِنْ دَعْوَى الْإِدْرَاجِ وَتَغْلِيظِ الْحُفَّاظِ انْتَهَى كَلَامُهُ مُخْتَصَرًا (إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ تَرْقُدُ حَتَّى تَدْخُلَ الشَّاةُ فَتَأْكُلَ خَمِيرَتَهَا أَوْ عَجِينَتَهَا) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ
وَفِي رِوَايَةِ مِقْسَمٍ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ وَالطَّبَرَانِيِّ مَا رَأَيْتُ مُذْ كُنْتُ عِنْدَهَا إِلَّا أَنِّي عَجَنْتُ عَجِينًا لِي فَقُلْتُ احْفَظِي هَذِهِ الْعَجِينَةَ حَتَّى أَقْتَبِسَ نَارًا لِأَخْبِزَهَا فَغَفَلَتْ فَجَاءَتِ الشَّاةُ فَأَكَلَتْهَا (وَانْتَهَرَهَا بَعْضُ أَصْحَابِهِ) أَيْ زَجَرَهَا وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُوَيْسٍ عند أبي عوانة والطبراني أن النبي قَالَ لِعَلِيٍّ شَأْنَكَ بِالْجَارِيَةِ فَسَأَلَهَا عَلِيٌّ وَتَوَعَّدَهَا فَلَمْ تُخْبِرْهُ إِلَّا بِخَيْرٍ ثُمَّ ضَرَبَهَا وَسَأَلَهَا(9/24)
فَقَالَتْ وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى عَائِشَةَ سُوءًا (حَتَّى أَسْقَطُوا لَهَا بِهِ) أَيْ سَبُّوهَا وَقَالُوا لَهَا مِنْ سَقَطِ الْكَلَامِ وَهُوَ رَدِيئُهُ
بِسَبَبِ حَدِيثِ الْإِفْكِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ (فَقَالَتْ) أَيِ الْخَادِمَةُ (سُبْحَانَ اللَّهِ) قَالَتْهَا اسْتِعْظَامًا أَوْ تَعَجُّبًا (وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلَّا مَا يَعْلَمُ الصَّائِغُ عَلَى تِبْرِ الذَّهَبِ الْأَحْمَرِ) أَيْ كَمَا لَا يَعْلَمُ الصَّائِغُ مِنَ الذَّهَبِ الْأَحْمَرِ إِلَّا الْخُلُوصَ مِنَ الْعَيْبِ فَكَذَلِكَ أَنَا لَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا الْخُلُوصَ مِنَ الْعَيْبِ وَالتِّبْرُ بِكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ مَا كَانَ مِنَ الذَّهَبِ غَيْرَ مَضْرُوبٍ فَإِذَا ضُرِبَ دَنَانِيرَ فَهُوَ عَيْنٌ وَلَا يُقَالُ تِبْرٌ إِلَّا لِلذَّهَبِ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُهُ لِلْفِضَّةِ أَيْضًا (فَبَلَغَ الْأَمْرُ) أَيْ أَمْرُ الْإِفْكِ (ذَلِكَ الرَّجُلَ) وَهُوَ صَفْوَانُ (الَّذِي قِيلَ لَهُ) أَيْ عَنْهُ مِنَ الْإِفْكِ مَا قِيلَ فَاللَّامُ هُنَا بِمَعْنَى عَنْ كَمَا هِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كان خيرا ما سبقونا إليه أَيْ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا أَوْ بِمَعْنَى فِي أَيْ قِيلَ فِيهِ فَهِيَ كَقَوْلِهِ يَا لَيْتَنِي قدمت لحياتي أَيْ فِي حَيَاتِي (وَاللَّهِ مَا كَشَفْتُ كَنَفَ أُنْثَى قَطُّ) الْكَنَفُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَالنُّونِ وَهُوَ الْجَانِبُ وَأَرَادَ بِهِ الثَّوْبَ يَعْنِي مَا جَامَعْتُهَا فِي حَرَامٍ وَكَانَ حَصُورًا (فَقُتِلَ) أَيْ صَفْوَانُ (شَهِيدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فِي غَزْوَةِ أَرْمِينِيَّةَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ كَمَا قاله بن إِسْحَاقَ (أَكْتَنِفُ أَبَوَايَ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ اكْتَنَفُوا فُلَانًا أَحَاطُوا بِهِ (إِنْ كُنْتِ قَارَفْتِ سُوءًا) مِنَ الْمُقَارَفَةِ أَيْ كَسَبْتِهِ أَوْ ظَلَمْتِ نَفْسَكِ (فقلت) أي لرسول الله (مِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ) أَيِ الْأَنْصَارِيَّةِ (أَنْ تَذْكُرَ شَيْئًا) أَيْ عَلَى حَسْبِ فَهْمِهَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِ حُرْمَتِكَ (فَقُلْتُ أَجِبْهُ) أَيْ أَجِبْ رَسُولَ الله عني (قالت أقول ماذا) قال بن مَالِكٍ فِيهِ شَاهِدٌ عَلَى أَنَّ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ إِذَا رُكِّبَتْ مَعَ ذَا لَا يَجِبُ تَصْدِيرُهَا فَيَعْمَلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا رَفْعًا وَنَصْبًا (إِنِّي لَمْ أَفْعَلْ) أَيْ مَا قِيلَ فِي شَأْنِي وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنِّي لَصَادِقَةٌ فِي مَا أَقُولُ مِنْ بَرَاءَتِي مَا ذَاكَ بِنَافِعِي بِالْإِضَافَةِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِنَافِعٍ بِغَيْرِ الْإِضَافَةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ (لَقَدْ تَكَلَّمْتُمْ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ لَقَدْ تَكَلَّمْتُمْ بِهِ أَيْ بِالْإِفْكِ (وَأُشْرِبَتْ) عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَأُشْرِبَتْهُ قَالَ الْقَسْطَلَّانِيُّ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ يَرْجِعُ إِلَى الْإِفْكِ (قُلُوبُكُمْ) مَرْفُوعٌ بِأُشْرِبَتْ (قَدْ بَاءَتْ) أَيْ أَقَرَّتْ وَاعْتَرَفَتْ بِهَا (أَيْ بِقِصَّةِ الْإِفْكِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِهِ أَيْ بِأَمْرِ الْإِفْكِ (وَالْتَمَسْتُ) مِنَ الِالْتِمَاسِ أَيْ طَلَبْتُ (اسْمَ يَعْقُوبَ) عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ قَالَ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أَيْ هُوَ أَجْمَلُ وَهُوَ الَّذِي لَا شَكْوَى فِيهِ إِلَى الْخَلْقِ على ((9/25)
) مَا تَصِفُونَ أَيْ عَلَى احْتِمَالِ مَا تَصِفُونَهُ (وَإِنِّي لَأَتَبَيَّنُ السُّرُورَ) أَيْ أَعْرِفُهُ (وَهُوَ يَمْسَحُ جَبِينَهُ) أَيْ مِنَ الْعَرَقِ أَبْشِرِي بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَتَكِ وَفِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي الشَّهَادَاتِ يَا عَائِشَةُ احْمَدِي اللَّهَ فَقَدْ بَرَّأَكِ اللَّهُ (فَكُنْتُ أَشَدَّ) بِالنَّصْبِ خَبَرُ كَانَ (مَا كُنْتُ غَضَبًا أَيْ فَكُنْتُ حين أخبر بِبَرَاءَتِي أَقْوَى مَا كُنْتُ غَضَبًا) مِنْ غَضَبِي قَبْلَ ذَلِكَ (أَمَّا زَيْنَبُ ابْنَةُ جَحْشٍ) أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ (فَعَصَمَهَا اللَّهُ) أَيْ حَفِظَهَا وَمَنَعَهَا (بِدِينِهَا) أَيِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى دِينِهَا وَمُجَانَبَةِ مَا تَخْشَى سُوءَ عَاقِبَتِهِ (فَلَمْ تَقُلْ) أَيْ فِيَّ (فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ) أَيْ حُدَّتْ فِيمَنْ حُدَّ أَوْ أَثِمَتْ مَعَ مَنْ أَثِمَ لِخَوْضِهَا فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ لِتَخْفِضَ مَنْزِلَةَ عَائِشَةَ وَتَرْفَعَ مَنْزِلَةَ أُخْتِهَا زَيْنَبَ (وَكَانَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيهِ) أَيِ الْإِفْكِ (وكان يستوشيه) أَيْ يَسْتَخْرِجُ الْحَدِيثَ بِالْبَحْثِ عَنْهُ ثُمَّ يَفْتِشُهُ وَيُشِيعُهُ وَلَا يَدَعُهُ يَخْمُدُ (وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) أَيْ تَحَمَّلَ مُعْظَمَهُ فَبَدَأَ بِالْخَوْضِ فِيهِ (ينافق أَبَدًا) أَيْ بَعْدَ الَّذِي قَالَ عَنْ عَائِشَةَ(9/26)
ولا يأتل أَيْ لَا يَحْلِفُ مِنَ الْأَلِيَّةِ وَهِيَ الْقَسَمُ أولو الفضل منكم أَيْ فِي الدِّينِ وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ وَالسَّعَةِ يعني في المال أن يؤتوا أَلَّا يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سبيل الله صِفَاتٌ لِمَوْصُوفِ وَاحِدٍ وَهُوَ مِسْطَحٌ لِأَنَّهُ كَانَ مسكينا مهاجرا بدريا وليعفوا وليصفحوا أَيْ عَنْ خَوْضِ مِسْطَحٍ فِي أَمْرِ عَائِشَةَ ألا تحبون خطاب لأبي بكر أن يغفر الله لكم عَلَى عَفْوِكُمْ وَصَفْحِكُمْ وَإِحْسَانِكُمْ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إليكم والله غفور رحيم فَتَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِهِ تَعَالَى (قَالَ أَبُو بَكْرٍ) أَيْ لما قرأ عليه النبي هَذِهِ الْآيَةَ (وَعَادَ) أَيْ أَبُو بَكْرٍ (لَهُ) أَيْ لِمِسْطَحٍ (بِمَا كَانَ يَصْنَعُ) أَيْ إِلَى مِسْطَحٍ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ مُعَلَّقًا وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مُخْتَصَرًا (وَقَدْ رَوَى يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ وَمَعْمَرٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ إِلَخْ) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
[3181] قَوْلُهُ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ) بْنِ محمد بن عمرو بن حَزْمٍ الْأَنْصَارِيِّ قَوْلُهُ (لَمَّا نَزَلَ عُذْرِي) أَيِ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى بَرَاءَتِهَا شَبَّهَتْهَا بِالْعُذْرِ الَّذِي يُبَرِّئُ الْمَعْذُورَ مِنَ الْجُرْمِ (قَامَ رَسُولُ اللَّهِ) أَيْ خَطِيبًا (فَذَكَرَ ذَلِكَ) أَيْ عُذْرِي (وَتَلَا القرآن) تعني قوله تعالى إن الذين جاؤوا بالإفك إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ (فَلَمَّا نَزَلَ) أَيْ رَسُولُ الله مِنَ الْمِنْبَرِ (أَمَرَ بِرَجُلَيْنِ) أَيْ بِحَدِّهِمَا أَوْ بِإِحْضَارِهِمَا وَهُمَا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ (وَامْرَأَةٍ) بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى رَجُلَيْنِ وَهِيَ حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ (فَضُرِبُوا) مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ (حَدَّهُمْ) أَيْ حَدَّ الْقَاذِفِينَ هُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَيْ فحدوا حدهم(9/27)
اعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فِيمَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَكَذَا لَمْ يُذْكَرْ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ وَبَنَى عَلَى ذَلِكَ صَاحِبُ الْهَدْيِ فَأَبْدَى الْحِكْمَةَ فِي تَرْكِ الْحَدِّ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَفَاتَهُ أَنَّهُ وَرَدَ أَنَّهُ ذُكِرَ أَيْضًا فِيمَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُوَيْسٍ وَعَنْ حَسَنِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ
أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْإِكْلِيلِ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمَاوَرْدِيِّ حَيْثُ صَحَّحَ أَنَّهُ لَمْ يَحُدَّهُمْ مُسْتَنِدًا إِلَى أَنَّ الْحَدَّ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ ثُمَّ قَالَ وَقِيلَ إِنَّهُ حَدَّهُمْ وَمَا ضَعَّفَهُ هُوَ الصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ قَالَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وبن ماجه
6 - (باب وَمِنْ سُورَةِ الْفُرْقَانِ)
مَكِّيَّةٌ إِلَّا وَالَّذِينَ لَا يدعون مع الله إلها آخر إِلَى رَحِيمًا فَمَدَنِيٌّ وَهِيَ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ آيَةً
[3182] قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ (عَنْ وَاصِلِ) بْنِ حَيَّانَ الْأَحْدَبِ الْأَسَدِيِّ الْكُوفِيِّ بَيَّاعُ السَّابِرِيَّ ثِقَةٌ ثَبْتٌ مِنَ السَّادِسَةِ (عَنْ أَبِي وَائِلٍ) هُوَ شَقِيقُ بن سَلَمَةَ (عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ) هُوَ الْهَمْدَانِيُّ (عن عبد الله) هو بن مَسْعُودٍ قَوْلُهُ (أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أَكْبَرُ نِدًّا بِكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيْ مِثْلًا وَنَظِيرًا وَهُوَ خَلَقَكَ الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ اللَّهِ أَوْ مِنْ فَاعِلِ أَنْ تَجْعَلَ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا اسْتَحَقَّ بِهِ تَعَالَى أَنْ تَتَّخِذَهُ رَبًّا وَتَعْبُدَهُ فَإِنَّهُ خَلَقَكَ أَوْ إِلَى مَا بِهِ امْتِيَازُهُ تَعَالَى عَنْ غَيْرِهِ فِي كَوْنِهِ إِلَهًا أَوْ إِلَى ضَعْفِ النِّدِّ أَيْ أَنْ تَجْعَلَ لَهُ نِدًّا وَقَدْ خَلَقَكَ غَيْرُهُ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ شَيْءٍ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ أَيْ مِنْ جِهَةِ إِيثَارِ نَفْسِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ مَا يَكْفِي أَوْ مِنْ جِهَةِ الْبُخْلِ مَعَ الْوُجْدَانِ أَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ أي(9/28)
بِزَوْجَتِهِ مِنْ حَلَّ يَحِلُّ بِالْكَسْرِ إِذْ كُلٌّ مِنْهُمَا حَلَالٌ لِلْآخَرِ أَوْ مِنْ حَلَّ يَحُلُّ بِالضَّمِّ لِأَنَّهَا تَحُلُّ مَعَهُ وَيَحُلُّ مَعَهَا
قَوْلُهُ (أخبرنا عبد الرحمن) هو بن مهدي
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ
[3183] قوله (قال) أي بن مَسْعُودٍ (وَتَلَا) أَيْ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حرم الله إلا بالحق أَيْ لَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي هِيَ مَعْصُومَةٌ فِي الْأَصْلِ إِلَّا مُحِقِّينَ فِي قَتْلِهَا وَمَنْ يفعل ذلك أي واحدا من الثلاثة يلق أثاما قِيلَ مَعْنَاهُ جَزَاءَ إِثْمِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْخَلِيلِ وسيبيويه وَأَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَقِيلَ مَعْنَاهُ عُقُوبَةً
قَالَهُ يُونُسُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَقِيلَ مَعْنَاهُ جَزَاءً قاله بن عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ أَوْ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ هُوَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ عَافَانَا اللَّهُ منها قاله النووي يضاعف له العذاب أَيْ يُكَرَّرُ عَلَيْهِ وَيُغَلَّظُ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا حال أَيْ حَقِيرًا ذَلِيلًا وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ الْحَافِظُ هَكَذَا قَالَ بن مَسْعُودٍ وَالْقَتْلُ وَالزِّنَا فِي الْآيَةِ مُطْلَقَانِ وَفِي الْحَدِيثِ مُقَيَّدَانِ أَمَّا الْقَتْلُ فَبِالْوَلَدِ خَشْيَةَ الْأَكْلِ معه وأما الزنى فَبِزَوْجَةِ الْجَارِ وَالِاسْتِدْلَالُ لِذَلِكَ بِالْآيَةِ سَائِغٌ لِأَنَّهَا وإن وردت في مطلق الزنى وَالْقَتْلِ لَكِنَّ قَتْلَ هَذَا وَالزِّنَا بِهَذِهِ أَكْبَرُ وَأَفْحَشُ
قَوْلُهُ (لِأَنَّهُ زَادَ) أَيْ سُفْيَانُ وَهُوَ أَحْفَظُ مِنْ شُعْبَةَ (رَجُلًا) وَهُوَ عَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ وَأَمَّا شُعْبَةُ فَأَسْقَطَهُ وَلَكِنْ لَمْ يَتَفَرَّدْ شُعْبَةُ بِالْإِسْقَاطِ بَلْ تَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُهُ كَمَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الْحَافِظِ فِي شَرْحِ هذا الحديث في تفسير سورة الفرقان
7(9/29)
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ مَكِّيَّةٌ إِلَّا (وَالشُّعَرَاءُ
) إِلَى آخِرِهَا
فَمَدَنِيٌّ وَهِيَ مِائَتَانِ وَسَبْعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً [3184] قَوْلُهُ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أَيْ لَا تَتَّكِلُوا عَلَى قَرَابَتِي فَإِنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ مَكْرُوهٍ يُرِيدُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِكُمْ وَسَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي بَابِ إِنْذَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ مِنْ كِتَابِ الزُّهْدِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ علي وبن عَبَّاسٍ) أَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ فَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَمَّا حَدِيثُ بن عَبَّاسٍ فَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ تَبَّتْ
وَالنَّسَائِيُّ(9/30)
[3185] قَوْلُهُ (جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا) أَيْ قَبَائِلَهُ زَادَ مُسْلِمٌ فَاجْتَمَعُوا (فَخَصَّ وَعَمَّ) أَيْ فِي النِّدَاءِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِلَخْ هَذَا بَيَانٌ لِقَوْلِهِ خَصَّ وَعَمَّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْإِنْقَاذِ أَيْ خَلِّصُوهَا فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ أَيْ لِجَمِيعِكُمْ خَاصِّكُمْ وَعَامِّكُمْ يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ نَصْبُ فَاطِمَةَ وَضَمِّهَا وَالنَّصْبُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ وَأَمَّا بِنْتَ فَمَنْصُوبٌ لَا غَيْرَ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا مَعْرُوفًا فَلَا بَأْسَ بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ لِمَنْ لَا يَحْفَظُهُ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا أَيْ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ تَعَالَى قَالَ تَرْهِيبًا وَإِنْذَارًا وَإِلَّا فَقَدْ ثَبَتَ فَضْلُ بَعْضِ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ وَدُخُولُهُمُ الْجَنَّةَ وَشَفَاعَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ بَيْتِهِ وَلِلْعَرَبِ عُمُومًا وَلِأُمَّتِهِ عَامَّةً وَقَبُولُ شَفَاعَتِهِ فِيهِمْ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وُرُودُ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ بَعْدَ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ
قَالَهُ الطِّيبِيُّ إِنَّ لَكَ رَحِمًا أَيْ قَرَابَةً (وَسَأَبُلُّهَا) أَيْ سَأَصِلُهَا (بِبَلَالِهَا) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِهَا أَيْ بِصِلَتِهَا وَبِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا مِنْ بَلَّهُ يَبُلُّهُ وَالْبَلَالُ الْمَاءُ شُبِّهَتْ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ بِالْحَرَارَةِ وَوَصْلُهَا بِإِطْفَاءِ الْحَرَارَةِ بِبُرُودَةٍ وَمِنْهُ بُلُّوا أَرْحَامَكُمْ أَيْ صِلُوهَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَهُ فِي النِّهَايَةِ الْبَلَالُ جَمْعُ الْبَلَلِ وَالْعَرَبُ يُطْلِقُونَ النَّدَاوَةَ عَلَى الصِّلَةِ كَمَا يُطْلَقُ الْيُبْسُ عَلَى الْقَطِيعَةِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ يَتَّصِلُ بِالنَّدَاوَةِ وَيَحْصُلُ بَيْنَهَا التَّجَافِي وَالتَّفْرِيقُ بِالْيُبْسِ اسْتَعَارُوا الْبَلَلَ لِمَعْنَى الْوَصْلِ وَالْيُبْسَ لِمَعْنَى الْقَطِيعَةِ وَالْمَعْنَى أَصِلُكُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ مُرْسَلًا وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَبَا هُرَيْرَةَ وَالْمَوْصُولُ هُوَ الصَّحِيحُ وَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هريرة قاله الحافظ بن كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ صَفْوَانَ) بْنِ الرَّبِيعِ الثَّقَفِيُّ أَبُو يَحْيَى الْكُوفِيُّ الْكَاتِبُ مَقْبُولٌ مِنَ(9/31)
السَّابِعَةِ
قَوْلُهُ (بِمَعْنَاهُ) أَيْ بِمَعْنَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ
[3186] قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ) الْقَطَوَانِيُّ (أَخْبَرَنَا أَبُو زَيْدٍ) اسْمُهُ سَعِيدُ بْنُ أَوْسِ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ النَّحْوِيُّ الْبَصْرِيُّ صَدُوقٌ لَهُ أَوْهَامٌ وَرُمِيَ بِالْقَدَرِ مِنَ التَّاسِعَةِ (عَنْ عوف) هو بن أَبِي جَمِيلَةَ الْأَعْرَابِيُّ (حَدَّثَنِي الْأَشْعَرِيُّ) هُوَ أَبُو مُوسَى
قَوْلُهُ يَا صَبَاحَاهُ كَلِمَةٌ يَعْتَادُونَهَا عِنْدَ وُقُوعِ أَمْرٍ عَظِيمٍ فَيَقُولُونَهَا لِيَجْتَمِعُوا وَيَتَأَهَّبُوا لَهُ
قوله (هذا حديث غريب إلخ) وأخرجه بن جرير الطبري أيضا موصولا ومرسلا
8 - (بَاب وَمِنْ سُورَةِ النَّمْلِ)
مَكِّيَّةٌ وَهِيَ ثَلَاثٌ أَوْ أَرْبَعٌ أَوْ خَمْسٌ وَتِسْعُونَ آيَةً قَوْلُهُ [3187] تَخْرُجُ الدَّابَّةُ قِيلَ مِنْ مَكَّةَ وَقِيلَ مِنْ غَيْرِهَا فَتَجْلُو وَجْهَ الْمُؤْمِنِ أَيْ تَصْقُلُهُ وَتُبَيِّضُهُ وفي رواية بن مَاجَهْ فَتَجْلُو وَجْهَ الْمُؤْمِنِ بِالْعَصَا حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْخُوَانِ بِضَمِّ الْخَاءِ وَكَسْرِهَا قَالَ الْجَزَرِيُّ هُوَ مَا يُوضَعُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ عِنْدَ الْأَكْلِ وَمِنْهُ حَدِيثُ الدَّابَّةِ حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْخُوَانِ لَيَجْتَمِعُونَ فَيَقُولُ هَذَا يَا مُؤْمِنُ وَهَذَا يَا كَافِرُ وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ الْإِخْوَانِ بِهَمْزَةٍ وَهِيَ لُغَةٌ فِيهِ انْتَهَى(9/32)
فَيَقُولُ هَذَا أَيْ بَعْضُهُمْ لِآخَرَ يَا مُؤْمِنُ أَيْ لِجَلَاءِ وَجْهِهِ وَاسْتِنَارَتِهِ وَيَقُولُ هَذَا يَا كَافِرُ أَيْ لِلْخَتْمِ عَلَى أَنْفِهِ
قَوْلُهُ (هَذَا حديث حسن) أخرجه أحمد وبن مَاجَهْ وَأَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَحُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ) أَمَّا حديث أبي أمامة فأخرجه أحمد وبن مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَخْرُجُ الدَّابَّةُ فَتَسِمُ عَلَى خَرَاطِيمِهِمْ ثُمَّ يَعْمُرُونَ فِيكُمْ حَتَّى يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ الدَّابَّةَ فيقال له ممن اشتريتها فيقول مِنَ الرَّجُلِ الْمُخَطَّمِ
وَأَمَّا حَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ فَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي بَابِ الْخَسْفِ مِنْ كتاب الفتن
اعلم أَنَّ التِّرْمِذِيَّ أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لهم دابة إلخ وهذه الآية مع تفسيرها هكذا إذا وقع القول عليهم يَعْنِي إِذَا وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ
وَقِيلَ إِذَا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ إِذَا وَجَبَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَلَمْ يَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنَ الْقَوْلِ مُتَعَلِّقُهُ وَهُوَ مَا وُعِدُوا بِهِ مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ وَوُقُوعُهُ حُصُولُهُ وَالْمُرَادُ مُشَارَفَةُ السَّاعَةِ وَظُهُورُ أشراطها أخرجنا لهم دابة من الأرض قَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي الدَّابَّةِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدِهَا فِي مِقْدَارِ جِسْمِهَا وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ طُولَهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ رَأْسَهَا تَبْلُغُ السَّحَابَ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا بَيْنَ قَرْنَيْهَا فَرْسَخٌ لِلرَّاكِبِ
وَثَانِيهَا فِي كَيْفِيَّةِ خِلْقَتِهَا فَرُوِيَ لَهَا أَرْبَعُ قَوَائِمَ وزغب وريش وجناحان وعن بن جُرَيْجٍ فِي وَصْفِهَا رَأْسُ ثَوْرٍ وَعَيْنُ خِنْزِيرٍ وَأُذُنُ فِيلٍ وَقَرْنُ أَيِّلٍ وَصَدْرُ أَسَدٍ وَلَوْنُ نَمِرٍ وَخَاصِرَةُ بَقَرٍ وَذَنَبُ كَبْشٍ وَخُفُّ بَعِيرٍ
وَثَالِثِهَا فِي كَيْفِيَّةِ خُرُوجِهَا عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهَا تَخْرُجُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ فَلَا يَخْرُجُ إِلَّا ثُلُثُهَا
وَعَنِ الْحَسَنِ لَا يَتِمُّ خُرُوجُهَا إِلَّا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ
وَرَابِعِهَا فِي مَوْضِعِ خُرُوجِهَا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَيْنَ تَخْرُجُ الدَّابَّةُ فَقَالَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَسَاجِدِ حُرْمَةً عَلَى اللَّهِ تَعَالَى المسجد الحرام
وقيل تخرج من الصفاء فَتُكَلِّمُهُمْ بِالْعَرَبِيَّةِ
وَخَامِسِهَا فِي عَدَدِ خُرُوجِهَا فَرُوِيَ أَنَّهَا تَخْرُجُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَخْرُجُ بِأَقْصَى الْيَمَنِ ثُمَّ تَكْمُنُ ثُمَّ تَخْرُجُ بِالْبَادِيَةِ ثُمَّ تَكْمُنُ دهرا طويلا فبين النَّاسُ فِي أَعْظَمِ الْمَسَاجِدِ حُرْمَةً وَأَكْرَمِهَا عَلَى اللَّهِ فَمَا يَهُولُهُمْ إِلَّا خُرُوجُهَا مِنْ بَيْنِ الرُّكْنِ حِذَاءَ دَارِ بَنِي مَخْزُومٍ عَنْ يَمِينِ الْخَارِجِ مِنَ الْمَسْجِدِ فَقَوْمٌ يَهْرُبُونَ وَقَوْمٌ يَقِفُونَ
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْكِتَابِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فَإِنْ صَحَّ الْخَبَرُ فِيهِ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبِلَ وَإِلَّا لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ انْتَهَى
تُكَلِّمُهُمْ أَيْ تُكَلِّمُ الْمَوْجُودِينَ بِبُطْلَانِ الْأَدْيَانِ سِوَى دِينِ الْإِسْلَامِ وَقِيلَ تُكَلِّمُهُمْ بِمَا يَسُوءُهُمْ وَقِيلَ تُكَلِّمُهُمْ بِالْعَرَبِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى الْآتِي أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بآياتنا لا يوقنون(9/33)
قاله بن عَبَّاسٍ أَيْ بِخُرُوجِهَا لِأَنَّ خُرُوجَهَا مِنَ الْآيَاتِ وقال بن عَبَّاسٍ أَيْضًا تُكَلِّمُهُمْ تُحَدِّثُهُمْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ تُكَلِّمُهُمْ مِنَ التَّكْلِيمِ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ تُنَبِّئُهُمْ وَقُرِئَ بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ الْكَافِ مِنَ الْكَلْمِ وَهُوَ الْجُرْحُ قَالَ عِكْرِمَةُ أَيْ تَسِمُهُمْ وَسْمًا أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون بِكَسْرِ إِنَّ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَقُرِئَ بِفَتْحِهَا قَالَ الْأَخْفَشُ الْمَعْنَى عَلَى الْفَتْحِ بِأَنَّ النَّاسَ
وَبِهَا قرأ بن مَسْعُودٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَيْ تُخْبِرُهُمْ أَنَّ النَّاسَ إِلَخْ وَعَلَى هَذِهِ فَالَّذِي تَكَلَّمَ النَّاسُ بِهِ هُوَ قَوْلُهُ أَنَّ النَّاسَ إِلَخْ وَأَمَّا عَلَى الْكَسْرِ فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ كَمَا قَدَّمْنَا وَلَا يَكُونُ مِنْ كَلَامِ الدَّابَّةِ وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ
وَقَالَ الْأَخْفَشُ إِنَّ كَسْرَ إِنَّ هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ أَيْ تَقُولُ لَهُمْ إِنَّ النَّاسَ فَيَرْجِعُ مَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى عَلَى هَذَا إِلَى مَعْنَى الثَّانِيَةِ وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ فِي الْآيَةِ هُمُ النَّاسُ عَلَى الْعُمُومِ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ كُلُّ مُكَلَّفٍ وَقِيلَ الْمُرَادُ الْكُفَّارُ خَاصَّةً وَقِيلَ كُفَّارُ مَكَّةَ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى كَمَا صَنَعَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمَعْنَى لَا يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ المشتمل على البعث والحساب والعقاب
9 - (بَاب وَمِنْ سُورَةِ الْقَصَصِ)
مَكِّيَّةٌ إِلَّا إِنَّ الذي فرض الْآيَةَ نَزَلَتْ بِالْجُحْفَةِ وَإِلَّا الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ إلى لا نبتغي الجاهلين وَهِيَ سَبْعٌ أَوْ ثَمَانٍ وَثَمَانُونَ آيَةً [3188] قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) هُوَ الْقَطَّانُ
قَوْلُهُ (لِعَمِّهِ) هُوَ أَبُو طَالِبٍ أَشْهَدْ بِالْجَزْمِ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ قُلْ وَبِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ فَقَالَ أَيْ عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْمُحَاجَّةِ وَفِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ أُجَادِلُ عَنْكَ بِهَا (أَنْ تُعَيِّرَنِي) مِنَ التَّعْيِيرِ أَيْ يَنْسُبُونِي إِلَى الْعَارِ (إِنَّمَا يَحْمِلُهُ عَلَيْهِ الْجَزَعُ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالزَّايِ هُوَ نَقِيضُ الصَّبْرِ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ يَقُولُونَ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْجَزَعُ
قَالَ النَّوَوِيُّ هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ وَجَمِيعِ رِوَايَاتِ الْمُحَدِّثِينَ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ بِالْجِيمِ وَالزَّايِ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ عَنْ جَمِيعِ رِوَايَاتِ الْمُحَدِّثِينَ وَذَهَبَ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ إِلَى أَنَّهُ الْخَرَعُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ أَيْضًا وَهُوَ الضَّعْفُ وَالْخَوَرُ وَقِيلَ هُوَ الدَّهَشُ انْتَهَى مُخْتَصَرًا (لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ) قَالَ النَّوَوِيُّ أَحْسَنُ مَا يُقَالُ فِيهِ مَا قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ قَالَ مَعْنَى أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ أَيْ بلغه الله أمنيته حتى يرضى نفسه وتقر عينيه فَلَا تَسْتَشْرِفَ لِشَيْءٍ
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ مَعْنَاهُ أَبْرَدَ اللَّهُ دَمْعَتَهُ لِأَنَّ دَمْعَةَ الْفَرَحِ بَارِدَةٌ
وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَرَاهُ اللَّهُ مَا يَسُرُّهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ إنك لا تهدي أجمع المفسرون(9/34)
عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ وَهِيَ عَامَّةٌ فَإِنَّهُ لَا يَهْدِي وَلَا يُضِلُّ إِلَّا الله تعالى (من أحببت) أَيْ هِدَايَتَهُ وَقِيلَ أَحْبَبْتَهُ لِقَرَابَتِهِ
اعْلَمْ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا طَالِبٍ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ
وَحَدِيثَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ فَفِيهِ فَقَالَ أَيْ عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ
فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيُعَيِّرَانِهِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إله إلا الله
فإن قلت في رواية بن إِسْحَاقَ مِنْ طَرِيقِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن معبد عن بعض أهله عن بن عَبَّاسٍ قَالَ فَلَمَّا تَقَارَبَ مِنْ أَبِي طَالِبٍ الْمَوْتُ قَالَ نَظَرَ الْعَبَّاسُ إِلَيْهِ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ قال فأصغى إليه بأذنه قال فقال يا بن أَخِي وَاللَّهِ لَقَدْ قَالَ أَخِي الْكَلِمَةَ الَّتِي أَمَرْتَهُ أَنْ يَقُولَهَا
قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ أَسْمَعْ قُلْتُ في رواية بن إِسْحَاقَ هَذِهِ مَجْهُولٌ وَهُوَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تُقَاوِمُ حَدِيثَ الصَّحِيحَيْنِ ثُمَّ تَفَرَّدَ بِهَذِهِ الرواية بن إِسْحَاقَ وَمَا تَفَرَّدَ بِهِ لَا يُقَاوِمُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَصْلًا
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ ومسلم والطبري
0 - (باب ومن سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ)
مَكِّيَّةٌ وَهِيَ تِسْعٌ وَسِتُّونَ آيَةً [3189] قوله (عن أبيه سعد) هو(9/35)
بن أَبِي وَقَّاصٍ قَوْلُهُ (أُنْزِلَتْ فِيَّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ (فَذَكَرَ قِصَّةً) رَوَى مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ بِذِكْرِ الْقِصَّةِ فِي بَابِ فَضْلِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مِنْ كِتَابِ الْفَضَائِلِ (وَقَالَتْ أُمُّ سَعْدٍ أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالْبِرِّ وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا حَتَّى أَمُوتَ أَوْ تَكْفُرَ) وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ حَلَفَتْ أُمُّ سَعْدٍ أَلَّا تُكَلِّمَهُ أَبَدًا حَتَّى يَكْفُرَ بِدِينِهِ وَلَا تَأْكُلَ وَلَا تَشْرَبَ قَالَتْ زَعَمْتَ أَنَّ اللَّهَ وَصَّاكَ بِوَالِدَيْكَ فَأَنَا أُمُّكَ وَأَنَا آمُرُكَ بِهَذَا قَالَ مَكَثَتْ ثَلَاثًا حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهَا مِنَ الْجَهْدِ (شَجَرُوا فَاهَا) أَيْ فَتَحُوا فَمَهَا زَادَ مُسْلِمٌ بِعَصًا ثُمَّ أَوْجَرُوهَا
قَالَ النَّوَوِيُّ أَيْ صَبُّوا فِيهَا الطَّعَامَ وَإِنَّمَا شَجَرُوهُ بِالْعَصَا لِئَلَّا تُطْبِقَهُ فَيَمْتَنِعَ وُصُولُ الطَّعَامِ جَوْفَهَا (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بوالديه حسنا) أَيْ بِرًّا وَعَطْفًا عَلَيْهِمَا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بي الآية ما ليس لك به علم أَيْ إِنْ طَلَبَا مِنْكَ وَأَلْزَمَاكَ أَنْ تُشْرِكَ بي إِلَهًا لَيْسَ لَكَ عِلْمٌ بِكَوْنِهِ إِلَهًا فَلَا تطعهما أَيْ فِي الْإِشْرَاكِ وَعَبَّرَ بِنَفْيِ الْعِلْمِ عَنْ نَفْيِ الْإِلَهِ لِأَنَّ مَا لَمْ يُعْلَمْ صِحَّتُهُ لَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ فَكَيْفَ بِمَا عُلِمَ بُطْلَانُهُ وَإِذَا لَمْ تَجُزْ طَاعَةُ الْأَبَوَيْنِ فِي هَذَا الْمَطْلَبِ مَعَ الْمُجَاهَدَةِ مِنْهُمَا لَهُ فَعَدَمُ جَوَازِهَا مَعَ مُجَرَّدِ الطَّلَبِ بِدُونِ مُجَاهَدَةٍ مِنْهُمَا أَوْلَى وَيُلْحَقُ بِطَلَبِ الشِّرْكِ مِنْهُمَا سَائِرُ مَعَاصِي اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَلَا طَاعَةَ لَهُمَا فِيمَا هُوَ مَعْصِيَةُ الله إلي مرجعكم فأنبئكم أي فأخبركم بما كنتم تعملون أي بصالح أعمالكم وسياتيها أي فأجازيكم عليها
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ
[3190] قَوْلُهُ (عَنْ حَاتِمِ بْنِ أَبِي صَغِيرَةَ) هُوَ أَبُو يُونُسَ الْبَصْرِيُّ وَأَبُو صَغِيرَةَ اسْمُهُ مُسْلِمٌ وَهُوَ جَدُّهُ لِأُمِّهِ وَقِيلَ زَوْجُ أُمِّهِ ثِقَةٌ من السادسة
قوله وتأتون في ناديكم النَّادِي وَالنَّدِيُّ وَالْمُنْتَدَى مَجْلِسُ الْقَوْمِ وَمُتَحَدَّثُهُمْ وَلَا يُقَالُ لِلْمَجْلِسِ نَادٍ إِلَّا مَا دَامَ فِيهِ أَهْلُهُ الْمُنْكَرَ اخْتُلِفَ فِي الْمُنْكَرِ الَّذِي كَانُوا يَأْتُونَهُ فِيهِ فَقِيلَ كَانُوا يَخْذِفُونَ النَّاسَ بِالْحَصْبَاءِ وَيَسْتَخِفُّونَ بِالْغَرِيبِ وَقِيلَ كَانُوا يَتَضَارَطُونَ فِي مَجَالِسِهِمْ قَالَتْهُ عَائِشَةُ وَقِيلَ كَانُوا يَأْتُونَ الرِّجَالَ فِي مَجَالِسِهِمْ وَبَعْضُهُمْ يَرَى بَعْضًا وَقِيلَ كَانُوا يَلْعَبُونَ بِالْحَمَامِ وَقِيلَ كَانُوا يُنَاقِرُونَ بَيْنَ الدِّيَكَةِ وَيُنَاطِحُونَ بَيْنَ الْكِبَاشِ وَقِيلَ يَبْزُقُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَيَلْعَبُونَ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ وَيَلْبَسُونَ الْمُصَبَّغَاتِ وَكَانَ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ مَضْغُ الْعِلْكِ وَتَطْرِيفُ الْأَصَابِعِ بِالْحِنَّاءِ وَحَلُّ الْإِزَارِ وَالصَّفِيرُ وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ جَمِيعَ هَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ
ذَكَرَهُ صَاحِبُ فَتْحِ الْبَيَانِ
قُلْتُ يُؤَيِّدُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ حَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ هَذَا كَانُوا يَخْذِفُونَ مِنَ الْخَذْفِ(9/36)
بِالْخَاءِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَهُوَ رَمْيُكَ بِحَصَاةٍ أَوْ نَوَاةٍ أَوْ نَحْوِهُمَا تَأْخُذُ بَيْنَ سَبَّابَتَيْكَ وَهَذَا تَفْسِيرٌ
لِإِتْيَانِهِمُ الْمُنْكَرَ وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ عَطْفٌ عَلَى يَخْذِفُونَ
قَالَ فِي الْقَامُوسِ سَخِرَ مِنْهُ أَيْ هَزِئَ قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وبن جرير وبن أبي حاتم
1 - ومن سُورَةُ الرُّومِ مَكِّيَّةٌ وَهِيَ سِتٌّ أَوْ تِسْعٌ وخمسون اية قَوْلُهُ (لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ظَهَرَتِ الرُّومُ إِلَخْ) تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ شَرْحِهِ فِي أَوَائِلِ أَبْوَابِ الْقِرَاءَاتِ
[3193] قَوْلُهُ (عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ) الْقَصَّابِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحِمَّانِيِّ الْكُوفِيِّ ثِقَةٌ مِنَ السَّادِسَةِ قَوْلُهُ (قَالَ) أَيِ بن عَبَّاسٍ (غُلِبَتْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيِ الرُّومُ أَوَّلًا (وَغَلَبَتْ) بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ أَيْ ثُمَّ غَلَبَتْ وَفِي رواية بن جَرِيرٍ فَغُلِبَ الرُّومُ ثُمَّ غَلَبَتْ (أَنْ يَظْهَرَ) أَيْ يَغْلِبَ (لِأَنَّهُمْ) أَيِ الْمُشْرِكِينَ(9/37)
(فَإِنْ ظَهَرْنَا كَانَ لَنَا كَذَا وَكَذَا) أَيْ مِنْ قَلَائِصَ وَفِي أَثَرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسعود عند بن جَرِيرٍ قَالُوا هَلْ لَكَ أَنْ نُقَامِرَكَ فَبَايَعُوهُ عَلَى أَرْبَعِ قَلَائِصَ أَلَا جَعَلْتَهُ إِلَى دُونَ قال أراه العشر وفي رواية بن جريرة أَفَلَا جَعَلْتَهُ إِلَى دُونِ الْعَشْرِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ والنسائي وبن جرير
قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيُّ) أَبُو سَعِيدٍ الْمَدَنِيُّ قَالَ عُثْمَانُ الدَّارِمِيُّ قُلْتُ لِابْنِ مَعِينٍ كَيْفَ هُوَ فَقَالَ لَا أعرفه
وذكره بن حبان في الثقات وقال بن عَدِيٍّ مَجْهُولٌ
كَذَا فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ
قَوْلُهُ (قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ فِي مُنَاحَبَةِ الم غُلِبَتِ الروم) الْمُنَاحَبَةُ الْمُرَاهَنَةُ أَلَّا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَشَدَّةِ اللَّامِ حَرْفُ التَّحْضِيضِ احْتَطْتَ مِنَ الِاحْتِيَاطِ وَفِي رواية بن جَرِيرٍ لَمَّا نَزَلَتْ الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أدنى الأرض الْآيَةَ نَاحَبَ أَبُو بَكْرٍ قُرَيْشًا ثُمَّ أَتَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ إِنِّي قَدْ نَاحَبْتُهُمْ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلَّا احْتَطْتَ
قَوْلُهُ (هَذَا حديث غريب حسن) وأخرجه بن جَرِيرٍ
[3194] قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) لَمْ يَتَعَيَّنْ لِي أَنَّهُ هُوَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ أَوْ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ(9/38)
السُّلَمِيُّ أَبُو إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ فَإِنَّهُمَا مِنْ شُيُوخِ أَبِي عِيسَى التِّرْمِذِيِّ وَمِنْ أَصْحَابِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ (عَنْ نِيَارِ) بِكَسْرِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتَانِيَّةِ (بْنِ مُكْرَمٍ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ وَفَتْحِ ثَالِثِهِ صَحَابِيٌّ عَاشَ إِلَى أَوَّلِ خِلَافَةِ معاوية وأنكر بن سَعْدٍ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ فِي الطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَقَالَ سَمِعَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَكَانَ ثِقَةً قَلِيلَ الْحَدِيثِ
قَوْلُهُ (يَصِيحُ فِي نَوَاحِي مَكَّةَ) أَيْ يُنَادِي فِيهَا مِنَ الصِّيَاحِ وَهُوَ الصَّوْتُ بِأَقْصَى الطَّاقَةِ (زَعَمَ صَاحِبُكَ) يَعْنُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وتواضعوا الرهان) أي تواطأوا عَلَيْهِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) قَالَ الحافظ بن كَثِيرٍ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا مُرْسَلًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ مِثْلِ عِكْرِمَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَالزُّهْرِيِّ وغيرهم انتهى
قلت أخرج بن جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ رِوَايَةَ عِكْرِمَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَمُجَاهِدٍ وقتادة رحمهم الله تعالى(9/39)
سُورَةُ لُقْمَانَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا وَلَوْ أَنَّ مَا في الأرض من شجرة أقلام الْآيَتَيْنِ فَمَدَنِيَّتَانِ وَهِيَ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ آيَةً [3195] قَوْلُهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تَبِيعُوا الْقَيْنَاتِ إِلَخْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ بِإِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ فِي بَابِ كَرَاهِيَةِ بَيْعِ الْمُغَنِّيَاتِ مِنْ أَبْوَابِ الْبُيُوعِ وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ شَرْحُهُ
3 - (بَاب وَمِنْ سُورَةِ السَّجْدَةِ)
مَكِّيَّةٌ وَهِيَ ثَلَاثُونَ آيَةً [3196] قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأُوَيْسِيُّ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ مُصَغَّرًا أَبُو الْقَاسِمِ الْمَدَنِيُّ ثِقَةٌ مِنْ كِبَارِ الْعَاشِرَةِ (عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ) هُوَ التَّيْمِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ سعيد هو الأنصاري
قوله تتجافى جنوبهم أي ترتفع وتتنحى عن المضاجع أَيْ مَوَاضِعِ الِاضْطِجَاعِ لِصَلَاتِهِمْ (نَزَلَتْ فِي انْتِظَارِ الصَّلَاةِ الَّتِي تُدْعَى الْعَتَمَةَ) أَيْ صَلَاةَ الْعِشَاءِ وروى أبو(9/40)
دَاوُدَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا ومما رزقناهم ينفقون قَالَ كَانُوا يَتَيَقَّظُونَ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ يُصَلُّونَ قَالَ وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ قِيَامُ اللَّيْلِ وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَ بن مردية عَنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عُرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ يُصَلُّونَ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ قَالَ الْعِرَاقِيُّ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي مَنَاقِبِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّيْتُ مَعَهُ المغرب فصلى حتى صلاة العشاء ثم انفتل قال الحافظ بن كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ أَنَسٌ وَعِكْرِمَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ وَأَبُو حَازِمٍ وَقَتَادَةُ هُوَ الصَّلَاةُ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ وَعَنْ أَنَسٍ أَيْضًا هُوَ انْتِظَارُ صلاة العتمة
رواه بن جَرِيرٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ انْتَهَى
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ
[3197] قَوْلُهُ قال الله أَعْدَدْتُ مِنَ الْإِعْدَادِ أَيْ هَيَّأْتُ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ كَلِمَةُ مَا إِمَّا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ وَعَيْنٌ وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَأَفَادَ الِاسْتِغْرَاقَ وَلَا خَطَرَ أَيْ وَقَعَ عَلَى قَلْبِ بشر زاد بن مَسْعُودٍ فِي حَدِيثِهِ وَلَا يَعْلَمُهُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نبي مرسل
أخرجه بن أَبِي حَاتِمٍ وَهُوَ يَدْفَعُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّمَا قِيلَ الْبَشَرُ لِأَنَّهُ يَخْطِرُ بِقُلُوبِ الْمَلَائِكَةِ
قَالَ الْحَافِظُ وَالْأَوْلَى حَمْلُ النَّفْيِ فِيهِ عَلَى عُمُومِهِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ فِي النَّفْسِ فَلَا تَعْلَمُ نفس ما أخفى بصيغة المجهول من الاخفاء أي خبيء قَرَأَ الْجُمْهُورُ أُخْفِيَ بِالتَّحْرِيكِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وقرأ حمزة بالإسكان فعلا مضاعفا مسندا للمتكلم يؤيده قراءة بن مَسْعُودٍ نُخْفِي بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَقَرَأَهَا مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ أَخْفَى بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْفَاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَهُوَ اللَّهُ
وَنَحْوُهَا قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ أخفيت من قرة أعين مَا تَقَرُّ بِهِ أَعْيُنُهُ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ والشيخان
[3198] قوله (أخبرنا سفيان) هو بن عُيَيْنَةَ
قَوْلُهُ وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْخَاءِ قال(9/41)
الْقَاضِي هُوَ مَا أَخَذُوهُ مِنْ كَرَامَةِ مَوْلَاهُمْ وَحَصَّلُوهُ أَوْ يَكُونُ مَعْنَاهُ قَصَدُوا مَنَازِلَهُمْ قَالَ وَذَكَرَهُ ثَعْلَبٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فَإِنَّ لَكَ مِثْلَهُ وَمِثْلَهُ وَمِثْلَهُ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ لَكَ مِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَإِنَّ لك مع هذا ما اشتهت نفسك ولذت عينك زَادَ مُسْلِمٌ قَالَ رَبِّ فَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً قَالَ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ وَلَمْ يَخْطِرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ
قَالَ وَمِصْدَاقُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ الْآيَةَ قَالَ النَّوَوِيُّ مَعْنَى أَرَدْتُ اخْتَرْتُ وَاصْطَفَيْتُ وَأَمَّا غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي إِلَى آخِرِهِ فَمَعْنَاهُ اصْطَفَيْتُهُمْ وَتَوَلَّيْتُهُمْ فَلَا يَتَطَرَّقُ إِلَى كَرَامَتِهِمْ تَغْيِيرٌ وَفِي آخِرِ الْكَلَامِ حَذْفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ تَقْدِيرُهُ وَلَمْ يَخْطِرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ مَا أَكْرَمْتُهُمْ بِهِ وَأَعْدَدْتُهُ لَهُمْ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
4 - (بَاب وَمِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ)
مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ آيَةً [3199] قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هو الإمام الدَّارِمِيُّ (أَخْبَرَنَا صَاعِدُ) بْنُ عُبَيْدٍ الْبَجْلِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ أَوْ أَبُو سَعِيدٍ (الْحَرَّانِيُّ) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَشِدَّةِ الرَّاءِ بِالنُّونِ مَقْبُولٌ مِنْ كِبَارِ العاشرة (أخبرنا زهير) هو بن مُعَاوِيَةَ
قَوْلُهُ (فَخَطَرَ خَطْرَةً) يُرِيدُ الْوَسْوَسَةَ الَّتِي تَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ فِي(9/42)
صَلَاتِهِ
قَالَ فِي النِّهَايَةِ فِي حَدِيثِ سُجُودِ السَّهْوِ حَتَّى يَخْطِرَ الشَّيْطَانُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ يريد الوسوسة ومنه حديث بن عباس قام نبي الله يَوْمًا يُصَلِّي فَخَطَرَ خَطْرَةً فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ إِنَّ لَهُ قَلْبَيْنِ انْتَهَى
وَفِي رِوَايَةٍ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَاةً فَسَهَا فِيهَا فَخَطَرَتْ مِنْهُ كَلِمَةٌ فَسَمِعَهَا الْمُنَافِقُونَ فَقَالُوا إِنَّ لَهُ قَلْبَيْنِ فَنَزَلَتْ (أَلَا تَرَى) وَفِي رِوَايَةٍ أَلَا تَرَوْنَ (أَنَّ لَهُ قَلْبَيْنِ قَلْبًا مَعَكُمْ وَقَلْبًا مَعَهُمْ) أَيْ مَعَ أَصْحَابِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جوفه قال بن جَرِيرٍ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جوفه فَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنَى بِذَلِكَ تَكْذِيبَ قَوْمٍ مِنْ أهل النفاق وصفوا نبي الله بِأَنَّهُ ذُو قَلْبَيْنِ فَنَفَى ذَلِكَ عَنْ نَبِيِّهِ وكذبهم ثم ذكر أثر بن عَبَّاسٍ هَذَا ثُمَّ قَالَ وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ عنى بذلك رجل مِنْ قُرَيْشٍ كَانَ يُدْعَى ذَا الْقَلْبَيْنِ مِنْ ذِهْنِهِ ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ عَنَى بِذَلِكَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ تَبَنَّاهُ فَضَرَبَ اللَّهُ بِذَلِكَ مَثَلًا انْتَهَى
وقال بن كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ يَقُولُ تَعَالَى مُوَطِّئًا قَبْلَ الْمَقْصُودِ الْمَعْنَوِيِّ أَمْرًا مَعْرُوفًا حِسِّيًّا وَهُوَ أَنَّهُ كَمَا لَا يَكُونُ لِلشَّخْصِ الْوَاحِدِ قَلْبَانِ فِي جَوْفِهِ وَلَا تَصِيرُ زَوْجَتُهُ الَّتِي يُظَاهِرُ مِنْهَا بِقَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أُمًّا لَهُ
كَذَلِكَ لَا يَصِيرُ الدَّعِيُّ وَلَدًا لِلرَّجُلِ إِذَا تَبَنَّاهُ فَدَعَاهُ ابْنًا لَهُ فَقَالَ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم الْآيَةَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنَّفْيِ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مولى النبي كان النبي قَدْ تَبَنَّاهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ فَكَانَ يُقَالُ لَهُ زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ فَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَقْطَعَ هَذَا الْإِلْحَاقَ وَهَذِهِ النِّسْبَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وما جعل أدعياءكم أبناءكم كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شيء عليما وقال ها هنا ذالكم قولكم بأفواهكم يَعْنِي تَبَنِّيكُمْ لَهُمْ قَوْلٌ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ابْنًا حَقِيقِيًّا فَإِنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ صُلْبِ رَجُلٍ آخَرَ فَمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَبَوَانِ كَمَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلْبَشَرِ الْوَاحِدِ قَلْبَانِ
وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَ يُقَالُ لَهُ ذُو الْقَلْبَيْنِ وَأَنَّهُ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ لَهُ قَلْبَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا بِعَقْلٍ وَافِرٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ رَدًّا عَلَيْهِ
هكذا روى العوفي عن بن عَبَّاسٍ وَقَالَ بِهِ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ ثم ذكر بن كثير حديث بن عَبَّاسٍ الَّذِي نَحْنُ فِي(9/43)
شَرْحِهِ ثُمَّ قَالَ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جوفه قَالَ بَلَغَنَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ ضُرِبَ لَهُ مَثَلٌ يَقُولُ لَيْسَ بن رَجُلٍ آخَرَ ابْنَكَ وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وبن زَيْدٍ إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهَذَا يُوَافِقُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّفْسِيرِ انْتَهَى
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وبن جرير وبن أَبِي حَاتِمٍ
[3200] قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الْمَعْرُوفُ بمردويه (أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةَ) الْقَيْسِيُّ مَوْلَاهُمُ الْبَصْرِيُّ أَبُو سَعِيدٍ ثِقَةٌ
قَوْلُهُ (قَالَ قَالَ) أَيْ قَالَ ثَابِتٌ قَالَ أَنَسٌ (عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ) مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا وَقَوْلُهُ سُمِّيتُ بِهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ (فَكَبُرَ عَلَيْهِ) وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَشَقَّ عَلَيْهِ (أَوَّلُ مَشْهَدٍ) أَيْ لِأَنَّ بدرا أول غزوة خرج فيها النبي بِنَفْسِهِ مُقَاتِلًا وَقَدْ تَقَدَّمَهَا غَيْرُهَا لَكِنْ مَا خرج فيها بِنَفْسِهِ مُقَاتِلًا (أَمَا) بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (وَاللَّهِ لَئِنْ أَرَانِي اللَّهُ مَشْهَدًا) وَفِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالًا لِلْمُشْرِكِينَ (لَيَرَيَنَّ اللَّهُ) قَالَ النَّوَوِيُّ ضَبَطُوهُ بِوَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا لَيَرَيَنَّ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالرَّاءِ أَيْ يَرَاهُ اللَّهُ وَاقِعًا بَارِزًا وَالثَّانِي لَيُرِيَنَّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَمَعْنَاهُ لَيُرِيَنَّ اللَّهُ النَّاسَ مَا أَصْنَعُهُ وَيُبْرِزُهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ (مَا أَصْنَعُ) مَفْعُولٌ لِقَوْلِهِ لَيَرَيَنَّ وَمُرَادُهُ أَنْ يُبَالِغَ فِي الْقِتَالِ وَلَوْ زَهَقَتْ رُوحُهُ (قَالَ) أَيْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ (فَهَابَ) أَيْ خَشِيَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ (أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا) أَيْ غَيْرَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْأَدَبِ مِنْهُ وَالْخَوْفِ لِئَلَّا يَعْرِضَ لَهُ عَارِضٌ فَلَا يَفِيَ بِمَا يَقُولُ فَيَصِيرَ كَمَنْ وَعَدَ فَأَخْلَفَ (فَقَالَ) أَيْ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ (يَا أَبَا عَمْرٍو) هُوَ كُنْيَةُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ (أَيْنَ) أَيْ أَيْنَ تَذْهَبُ (قَالَ) أَيْ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ ابْتَدَأَ فِي كَلَامِهِ وَلَمْ يَنْتَظِرْ جوابه لغلبته اشْتِيَاقِهِ إِلَى إِيفَاءِ مِيثَاقِهِ وَعَهْدِهِ بِرَبِّهِ بِقَوْلِهِ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ (وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ وَاهًا لَهُ وَيُتْرَكُ تَنْوِينُهُ كَلِمَةُ تَعَجُّبٍ مِنْ طِيبِ شَيْءٍ وَكَلِمَةُ تَلَهُّفٍ انْتَهَى وَالْمُرَادُ هُنَا هُوَ الْأَوَّلُ أَجِدُهَا دُونَ أُحُدٍ أَيْ عِنْدَ أَحَدٍ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي الْمَغَازِي فَقَالَ أَيْنَ يَا سَعْدُ إِنِّي أَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ دُونَ أُحُدٍ
قَالَ الْحَافِظُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى الْحَقِيقَةِ بِأَنْ يَكُونَ شَمَّ رَائِحَةً طَيِّبَةً زَائِدَةً عَمَّا يَعْهَدُ فَعَرَفَ أَنَّهَا رِيحَ الْجَنَّةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَطْلَقَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْيَقِينِ حَتَّى كَأَنَّ الْغَائِبَ عَنْهُ صَارَ مَحْسُوسًا عِنْدَهُ والمعنى أن الموضع الذي أقاتل فيه يؤول بِصَاحِبِهِ إِلَى الْجَنَّةِ (إِلَّا بِبَنَانِهِ) بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالنُّونِ جَمْعُ بَنَانَةٍ وَهِيَ الْأُصْبُعُ وَقِيلَ طَرَفُهَا رجال صدقوا ما عاهدوا ((9/44)
الله عليه الْمُرَادُ بِالْمُعَاهَدَةِ الْمَذْكُورَةِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قبل لا يولون الأدبار وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا خَرَجُوا إِلَى أُحُدٍ وهذا قول بن إِسْحَاقَ وَقِيلَ مَا وَقَعَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ مِنَ الأنصار (إذ بايعوا النبي أن يؤووه وَيَنْصُرُوهُ وَيَمْنَعُوهُ) وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نحبه أَيْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَصْلُ النَّحْبِ النَّذْرُ فَلَمَّا كَانَ كُلُّ حَيٍّ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْمَوْتِ فَكَأَنَّهُ نَذْرٌ لَازِمٌ لَهُ فَإِذَا مَاتَ فَقَدْ قَضَاهُ وَالْمُرَادُ هُنَا مَنْ مَاتَ عَلَى عَهْدِهِ لِمُقَابَلَتِهِ بِمَنْ ينتظر ذلك وأخرج ذلك بن أبي حاتم بإسناد حسن عن بن عَبَّاسٍ كَذَا فِي الْفَتْحِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ أي ذلك وما تبدلوا تبديلا أَيْ مَا غَيَّرُوا عَهْدَ اللَّهِ وَلَا نَقَضُوهُ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ ومسلم والنسائي
[3201] قوله (لأن اللَّهُ أَشْهَدَنِي) أَيْ أَحْضَرَنِي وَاللَّامُ فِي لَئِنْ مَفْتُوحَةٌ دَخَلَتْ عَلَى إِنْ الشَّرْطِيَّةِ لَا جَزَاءَ لَهُ لَفْظًا وَحَذْفُ فِعْلِ الشَّرْطِ فِيهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَالتَّقْدِيرُ لَئِنْ أَشْهَدَنِي اللَّهُ (انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ) وفي رواية وانهزم الناس (مما جاؤوا بِهِ هَؤُلَاءِ) يَعْنِي مِنْ قِتَالِهِمْ مَعَ رَسُولِ الله (وَأَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ) يَعْنِي مِنْ فِرَارِهِمْ (ثُمَّ تَقَدَّمَ) أَيْ نَحْوَ الْمُشْرِكِينَ (فَلَقِيَهُ سعد) أي بن معاذ (فقال) أي سعد (فلم أستطيع أَنْ أَصْنَعَ مَا صَنَعَ) أَيْ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ نَفَى(9/45)
اسْتِطَاعَةَ إِقْدَامِهِ الَّذِي صَدَرَ مِنْهُ حَتَّى وَقَعَ لَهُ مَا وَقَعَ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى تِلْكَ الْأَهْوَالِ بِحَيْثُ وُجِدَ فِي جَسَدِهِ مَا وُجِدَ فَاعْتَرَفَ سَعْدٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَقْدُمَ إِقْدَامَهُ وَلَا يَصْنَعَ صَنِيعَهُ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى بن بَطَّالٍ حَيْثُ قَالَ يُرِيدُ مَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أَصِفَ مَا صَنَعَ أَنَسٌ (فَوَجَدَ فِيهِ) أَيْ فِي جَسَدِهِ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ قَالَ أَنَسٌ فوجد نابه
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن أَبِي حَاتِمٍ
[3202] قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ) هُوَ الْكِلَابِيُّ الْقَيْسِيُّ (عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ) بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ كُنْيَتُهُ أَبُو عِيسَى أَوْ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَدَنِيُّ نَزِيلُ الْكُوفَةِ ثِقَةٌ جَلِيلٌ مِنَ الثَّانِيَةِ وَيُقَالُ إِنَّهُ وُلِدَ فِي عهد النبي قوله (دخلت على معاوية) هو بن أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ طَلْحَةُ مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ طَلْحَةُ هَذَا هُوَ وَالِدُ مُوسَى وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ بِالْجَنَّةِ قُتِلَ فِي وَقْعَةِ الْجَمَلِ وَكَانَ هُوَ مَعَ جَمَاعَةٍ كَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَمُصْعَبٍ وَسَعِيدٍ وَغَيْرِهِمْ نَذَرُوا إِذَا لَقُوا حَرْبًا ثَبَتُوا حَتَّى يَسْتَشْهِدُوا وَقَدْ ثَبَتَ طَلْحَةُ يَوْمَ أُحُدٍ وَبَذَلَ جَهْدَهُ حَتَّى شُلَّتْ يده وقى بها النبي وَأُصِيبَ فِي جَسَدِهِ بِبِضْعٍ وَثَمَانِينَ مِنْ بَيْنِ طَعْنٍ وَضَرْبٍ وَرَمْيٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ ذَاقَ الْمَوْتَ فِي اللَّهِ وَإِنْ كَانَ حَيًّا لِمَا ذَاقَ مِنْ شَدَائِدَ فِيهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَهِيدٍ يَمْشِي إِلَخْ
وَقِيلَ الْمَوْتُ عِبَارَةٌ عَنِ الْغَيْبُوبَةِ عَنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَقَدْ كَانَ هَذَا حَالَهُ مِنَ الِانْجِذَابِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ بن أبي حاتم وبن جَرِيرٍ
[3203] قَوْلُهُ (عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى) بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ الْمَدَنِيِّ
قَوْلُهُ (يوقرونه(9/46)
وَيَهَابُونَهُ) جُمْلَتَانِ حَالِيَّتَانِ مِنْ ضَمِيرِ لَا يَجْتَرِئُونَ هَذَا يَعْنِي طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ بن أبي حاتم وبن جَرِيرٍ وَيَأْتِي هَذَا الْحَدِيثُ وَالَّذِي قَبْلَهُ فِي مَنَاقِبِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ
[3204] قَوْلُهُ (عَنْ يونس بن يزيد) هو بن أبي النحار الأيلي (عن أبي سلمة) هو بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ
قَوْلُهُ فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَسْتَعْجِلِي أَيْ فَلَا بَأْسَ عَلَيْكِ فِي التَّأَنِّي وَعَدَمِ الْعَجَلَةِ حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ أَيْ تُشَاوِرِي وَتَطْلُبِي مِنْهُمَا أَنْ يُبَيِّنَا لَكِ رَأْيَهُمَا فِي ذَلِكَ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ حَتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْكِ يَا أَيُّهَا النبي قل لأزواجك وَهُنَّ تِسْعٌ وَطَلَبْنَ مِنْهُ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا مَا لَيْسَ عِنْدَهُ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدنيا أَيِ السَّعَةَ فِي الدُّنْيَا وَكَثْرَةَ الْأَمْوَالِ وَزِينَتَهَا فتعالين أي أقبلن بإرادتكن واختياركن وبعده أمتعكن أي متعة الطلاق وأسرحكن سراحا جميلا أَيْ أُطَلِّقْكُنَّ مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ وَإِنْ كُنْتُنَّ تردن الله ورسوله والدار الاخرة أَيِ الْجَنَّةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أي بإرادة الاخرة أجرا عظيما أَيِ الْجَنَّةَ (فِي أَيِّ هَذَا) وَيُرْوَى فَفِي أَيِّ شَيْءٍ قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ(9/47)
[3205] قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ) فِي التَّقْرِيبِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيُّ أَبُو عَلِيِّ بْنُ الْأَصْبَهَانِيِّ صَدُوقٌ يُخْطِئُ مِنَ الثَّامِنَةِ (عَنْ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ) قَالَ فِي التَّقْرِيبِ يَحْيَى بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي قَبْلَهُ وَإِلَّا فَمَجْهُولٌ انْتَهَى
وَالَّذِي قَبْلَهُ هُوَ يَحْيَى بْنُ عُبَيْدٍ الْمَكِّيُّ مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ قَالَ الْحَافِظُ ثِقَةٌ مِنَ السَّادِسَةِ
قَوْلُهُ إِنَّمَا يُرِيدُ الله ليذهب عنكم الرجس قِيلَ هُوَ الشَّكُّ وَقِيلَ الْعَذَابُ وَقِيلَ الْإِثْمُ
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ الرِّجْسُ اسْمٌ لِكُلِّ مُسْتَقْذَرٍ مِنْ عَمَلٍ قَالَهُ النَّوَوِيُّ أَهْلَ الْبَيْتِ نَصَبَهُ عَلَى النِّدَاءِ وَيُطَهِّرَكُمْ مِنَ الْأَرْجَاسِ وَالْأَدْنَاسِ (فِي بَيْتِ أُمِّ سَلِمَةَ) مُتَعَلِّقٌ بِنَزَلَتْ (فَجَلَّلَهُمْ بِكِسَاءٍ) أَيْ غَطَّاهُمْ بِهِ مِنَ التَّجْلِيلِ (فَجَلَّلَهُ بِكِسَاءٍ) أَيْ آخَرَ (قَالَتْ أُمُّ سَلِمَةَ وَأَنَا مَعَهُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ) بِتَقْدِيرِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ أَنْتِ عَلَى مَكَانِكِ وَأَنْتِ عَلَى خَيْرٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنْتِ خَيْرٌ وَعَلَى مَكَانِكِ مِنْ كَوْنِكِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي وَلَا حَاجَةَ لَكِ فِي الدُّخُولِ تَحْتَ الْكِسَاءِ كَأَنَّهُ مَنَعَهَا عَنْ ذَلِكَ لِمَكَانٍ عَلِيٍّ وَأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنْتِ عَلَى خَيْرٍ وَإِنْ لَمْ تَكُونِي مِنْ أَهْلِ بَيْتِي كَذَا فِي اللُّمَعَاتِ قُلْتُ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ هُوَ الرَّاجِحُ بَلْ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي أَهْلِ الْبَيْتِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ فقال بن عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ هم زوجات النبي خاصة قالوا والمراد بالبيت بيت النبي وَمَسَاكِنُ زَوْجَاتِهِ لِقَوْلِهِ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بيوتكن وَأَيْضًا السِّيَاقُ فِي الزَّوْجَاتِ مِنْ قَوْلِهِ يَا أيها النبي قل لأزواجك إلى قوله لطيفا خبيرا
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَرُوِيَ عَنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ هُمْ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ خَاصَّةً
وَمِنْ حُجَجِهِمُ الْخِطَابُ فِي الْآيَةِ بِمَا يَصْلُحُ للذكور لا للإناث وهو قوله عنكم وليطهركم وَلَوْ كَانَ لِلنِّسَاءِ خَاصَّةً لَقَالَ عَنْكُنَّ وَلِيُطَهِّرَكُنَّ وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ التَّذْكِيرَ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْأَهْلِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت وَكَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ كَيْفَ أَهْلُكَ يُرِيدُ زَوْجَتَهُ أَوْ زَوْجَاتِهِ فَيَقُولُ هُمْ بِخَيْرٍ وَتَمَسَّكَ الأولون أيضا بما أخرجه بن أبي حاتم وبن عساكر من طريق(9/48)
عكرمة عن بن عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ نَزَلَتْ فِي نِسَاءِ النبي خَاصَّةً
وَقَالَ عِكْرِمَةُ مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّهَا نزلت في أزواج النبي وَرُوِيَ هَذَا عَنْهُ بِطُرُقٍ
وَتَمَسَّكَ الْآخَرُونَ أَيْضًا بِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَحَدِيثِ أَنَسٍ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْبَابِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا وَقَدْ تَوَسَّطَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ فَجَعَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ شَامِلَةً لِلزَّوْجَاتِ وَلِعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ أَمَّا الزَّوْجَاتُ فَلِكَوْنِهِنَّ الْمُرَادَاتِ فِي سِيَاقِ هَذِهِ الْآيَاتِ كَمَا قَدَّمْنَا وَلِكَوْنِهِنَّ السَّاكِنَاتِ فِي بُيُوتِهِ النَّازِلَاتِ فِي مَنَازِلِهِ وَيَعْضُدُ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ عن بن عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ وَأَمَّا دُخُولُ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ فَلِكَوْنِهِمْ قَرَابَتَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ فِي النَّسَبِ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّهُمْ سَبَبُ النُّزُولِ فَمَنْ جَعَلَ الْآيَةَ خَاصَّةً بِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ أَعْمَلَ بَعْضَ مَا يَجِبُ إِعْمَالُهُ وَأَهْمَلَ مَا لَا يَجُوزُ إِهْمَالُهُ وَقَدْ رَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ وبن كَثِيرٍ وَغَيْرُهُمَا
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ بن جرير والطبراني وبن مَرْدَوَيْهِ
[3206] قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ) هُوَ بن جُدْعَانَ قَوْلُهُ الصَّلَاةَ يَا أَهْلَ الْبَيْتِ أَيْ حَضَرَتْ صَلَاةُ الْفَجْرِ وَحَانَتْ أَوِ احْضُرُوا الصَّلَاةَ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وبن أبي شيبة وبن جرير وبن المنذر والطبراني والحاكم وصححه بن مَرْدَوَيْهِ
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي الْحَمْرَاءِ وَمَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ وَأُمِّ سَلِمَةَ) أَمَّا حَدِيثُ أبي الحمراء فأخرجه بن جرير وبن مردويه وفيه قال رأيت رسول الله إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ جَاءَ إِلَى بَابِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البيت ويطهركم تطهيرا وَفِي سَنَدِهِ أَبُو دَاوُدَ الْأَعْمَى وَاسْمُهُ نُفَيْعُ بْنُ الْحَرْثِ وَهُوَ وَضَّاعٌ كَذَّابٌ وَأَمَّا حَدِيثُ معقل بن سيار فَلْيُنْظَرْ مَنْ أَخْرَجَهُ وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي فَضْلِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
وَفِي الْبَابِ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ مسلم عنها قالت خرج النبي غَدَاةً وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ مِنْ شَعَرٍ أَسْوَدَ فَجَاءَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَأَدْخَلَهُ ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ فَدَخَلَ مَعَهُ ثُمَّ جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَدْخَلَهَا ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ فَأَدْخَلَهُ ثُمَّ قَالَ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويطهركم تطهيرا [3207] قَوْلُهُ أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ بِكَسْرِ زَايٍ وَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ وَكَسْرِ رَاءٍ
وَبِقَافٍ الرَّقَاشِيُّ الْبَصْرِيُّ نَزِيلُ بَغْدَادَ مَتْرُوكٌ وَكَذَّبَهُ الْأَزْدِيُّ مِنَ الثَّامِنَةِ
قَوْلُهُ (لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ وَإِذْ) مَنْصُوبٌ بِاذْكُرْ تقول للذي أنعم الله عليه(9/49)
هُوَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ (فأعتقته) وكان من سبي الجاهلية اشتراه رسول الله فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَعْتَقَهُ وَتَبَنَّاهُ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ أَيْ لَا تُطَلِّقْ زَوْجَكَ هِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ابْنَةُ عَمَّةِ رَسُولِ الله وَأُمُّهَا أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَاتَّقِ اللَّهَ أي في أمر طلاقها (وتخفى الْوَاوُ لِلْحَالِ أَيْ وَالْحَالُ أَنَّكَ تُخْفِي فِي نفسك ما الله مبديه أَيْ مُظْهِرُهُ وَهُوَ نِكَاحُهَا إِنْ طَلَّقَهَا زَيْدٌ وَقِيلَ حُبُّهَا وَالصَّحِيحُ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ عِنْدِي هُوَ الأول وتخشى الناس أَيْ تَخَافُ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ تَزَوَّجَ مُحَمَّدٌ زوجة ابنه والله أحق أن تخشاه أي في كل شيء وتزوجكها وَلَا عَلَيْكَ مِنْ قَوْلِ النَّاسِ وَبَعْدَ هَذَا فلما قضى زيد منها وطرا أَيْ حَاجَةً وَقَضَاءُ الْوَطَرِ فِي اللُّغَةِ بُلُوغُ مُنْتَهَى مَا فِي النَّفْسِ مِنَ الشَّيْءِ يُقَالُ وَطَرًا مِنْهُ إِذَا بَلَغَ مَا أَرَادَ مِنْ حَاجَتِهِ فِيهِ وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّهُ قَضَى وَطَرَهُ مِنْهَا بِنِكَاحِهَا وَالدُّخُولِ بِهَا بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ لَهُ فِيهَا حَاجَةٌ وَتَقَاصَرَتْ عَنْهُ هِمَّتُهُ وَطَابَتْ عَنْهُ نَفْسُهُ
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الطَّلَاقُ لِأَنَّ الرَّجُلَ إِنَّمَا يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ إِذَا لَمْ يَبْقَ له فيها حاجة زوجناكها أي لم نحرجك إِلَى وَلِيٍّ مِنَ الْخَلْقِ يَعْقِدُ لَكَ عَلَيْهَا تَشْرِيفًا لَكَ وَلَهَا
فَلَمَّا أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ وَلَا عَقْدٍ وَلَا تَقْدِيرِ صَدَاقٍ وَلَا شَيْءٍ مِمَّا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِي النِّكَاحِ فِي حَقِّ أُمَّتِهِ وَهَذَا مِنْ خصوصياته الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ تَزَوُّجُهُ بِزَيْنَبَ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَقِيلَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَهِيَ أَوَّلُ مَنْ مَاتَ مِنْ زَوْجَاتِهِ الشَّرِيفَاتِ الْمُطَهَّرَاتِ مَاتَتْ بَعْدَهُ بِعَشْرِ سِنِينَ عَنْ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ لَهُ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَبِهِ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ كَذَا فِي فَتْحِ البيان لكيلا يكون على المؤمنين حرج أَيْ ضِيقُ عِلَّةٍ لِلتَّزْوِيجِ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ وَحُكْمَ الْأُمَّةِ وَاحِدٌ إِلَّا مَا خصه الدليل في أزواج أدعيائهم جَمْعُ دَعِيٍّ وَهُوَ الْمُتَبَنَّى أَيْ فِي التَّزْوِيجِ بِأَزْوَاجِ مَنْ يَجْعَلُونَهُ ابْنًا كَمَا كَانَ الْعَرَبُ يَفْعَلُونَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَنَّوْنَ مَنْ يُرِيدُونَ وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ نِسَاءُ مَنْ تَبَنَّوْهُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ نِسَاءُ أَبْنَائِهِمْ حَقِيقَةً فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ أَنَّ نِسَاءَ الْأَدْعِيَاءِ حَلَالٌ لَهُمْ إِذَا قضوا منهن وطرا أي إذا طلق الأدعياء أزواجهم(9/50)
بخلاف بن الصُّلْبِ فَإِنَّ امْرَأَتَهُ تَحْرُمُ عَلَى أَبِيهِ بِنَفْسِ العقد عليها وكان أمر الله مفعولا أَيْ قَضَاءُ اللَّهِ مَاضِيًا وَحُكْمُهُ نَافِذًا وَقَدْ قَضَى فِي زَيْنَبَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ (لَمَّا تَزَوَّجَهَا) أَيْ زَيْنَبَ (قَالُوا تَزَوَّجَ حَلِيلَةَ ابْنِهِ) أَيْ زَوْجَةَ ابْنِهِ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أبا أحد من رجالكم أي فليس أَبَا زَيْدٍ فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّزْوِيجُ بِزَوْجَتِهِ زينب ولكن رسول الله أي ولكن كان رسول الله وخاتم النبيين قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ التَّاءِ وَقُرِئَ بِفَتْحِهَا وَمَعْنَى الْأُولَى أَنَّهُ خَتَمَهُمْ أَيْ جَاءَ آخِرَهُمْ وَمَعْنَى الثَّانِيَةِ أَنَّهُ صَارَ كَالْخَاتَمِ لَهُمُ الَّذِي يَخْتِمُونَ بِهِ وَيَتَزَيَّنُونَ بِكَوْنِهِ مِنْهُمْ
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْوَجْهُ الْكَسْرُ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ أَنَّهُ خَتَمَهُمْ فَهُوَ خَاتِمُهُمْ وَأَنَّهُ قَالَ أَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ وَخَاتِمُ الشَّيْءِ آخِرُهُ
وَقَالَ الْحَسَنُ الْخَاتِمُ هُوَ الَّذِي خُتِمَ بِهِ وَالْمَعْنَى خَتَمَ اللَّهُ بِهِ النُّبُوَّةَ فلا نبوة بعده ولا معه قال بن عَبَّاسٍ يُرِيدُ لَوْ لَمْ أَخْتِمْ بِهِ النَّبِيِّينَ لَجَعَلْتُ لَهُ ابْنًا يَكُونُ بَعْدَهُ نَبِيًّا وَعَنْهُ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا حَكَمَ أَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ لَمْ يُعْطِهِ وَلَدًا ذَكَرًا يَصِيرُ رَجُلًا وَعِيسَى مِمَّنْ نُبِّئَ قَبْلَهُ وَحِينَ يَنْزِلُ يَنْزِلُ عاملا على شريعة محمد كأنه بعض أمته أدعوهم لآبائهم لِلصُّلْبِ وَانْسُبُوهُمْ إِلَيْهِمْ وَلَا تَدْعُوهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ هو أقسط عند الله تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِدُعَاءِ الْأَبْنَاءِ لِلْآبَاءِ وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَصْدَرِ ادْعُوهُمْ وَمَعْنَى أَقْسَطُ أَعْدَلُ أَيْ أَعْدَلُ مِنْ كُلِّ كَلَامٍ يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فَتَرَكَ الْإِضَافَةَ لِلْعُمُومِ كَقَوْلِهِ اللَّهُ أَكْبَرُ أَوْ أَعْدَلُ من قولكم هو بن فُلَانٍ وَلَمْ يَكُنِ ابْنَهُ لِصُلْبِهِ فَإِنْ لَمْ تعلموا آباءهم تنسبونهم إليهم فإخوانكم أي فهم إخوانكم في الدين ومواليكم فقولوا أخي ومولاي ولا تقولوا بن فُلَانٍ حَيْثُ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ عَلَى الْحَقِيقَةِ
قَالَ الزَّجَّاجُ مَوَالِيكُمْ أَيْ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الدِّينِ وَقِيلَ الْمَعْنَى فَإِنْ كَانُوا مُحَرَّرِينَ وَلَمْ يَكُونُوا أَحْرَارًا فَقُولُوا مَوَالِي فُلَانٍ
قَوْلُهُ (هَذَا الْحَرْفُ لَمْ يُرْوَ بِطُولِهِ) أَيْ رُوِيَ مُقْتَصَرًا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ فَحَسْبُ وَلَمْ يُرْوَ بِطُولِهِ مِثْلَ الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ
وَنَقَلَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ حَاصِلَ كَلَامِ التِّرْمِذِيِّ هَذَا بِلَفْظِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ رُوِيَ عَنْ دَاوُدَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ إِلَى قَوْلِهِ لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ وَهَذَا الْقَدْرُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ كَمَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَأَظُنُّ الزَّائِدَ مُدْرَجًا فِي الْخَبَرِ فَإِنَّ الرَّاوِيَ لَهُ(9/51)
عَنْ دَاوُدَ لَمْ يَكُنْ بِالْحَافِظِ انْتَهَى
قُلْتُ وَالرَّاوِي عَنْ دَاوُدَ فِي الرِّوَايَةِ الطَّوِيلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ هُوَ دَاوُدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ مَتْرُوكٌ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
[3209] قَوْلُهُ (حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ) قال الحافظ بن كَثِيرٍ هَذَا أَمْرٌ نَاسِخٌ لِمَا كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ مِنْ جَوَازِ ادِّعَاءِ الْأَبْنَاءِ الْأَجَانِبِ وَهُمُ الْأَدْعِيَاءُ فَأَمَرَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِرَدِّ نَسَبِهِمْ إِلَى آبَائِهِمْ فِي الْحَقِيقَةِ وَأَنَّ هَذَا هُوَ الْعَدْلُ وَالْقِسْطُ وَالْبِرُّ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ هُوَ أَعْدَلُ عِنْدَهُ مِنْ قَوْلِكُمْ هُوَ بن فلان ولم يكن ابنه لصلبه ولم أَقْسَطُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ قَصَدَ بِهِ الزِّيَادَةَ مُطْلَقًا مِنَ الْقِسْطِ بِمَعْنَى الْعَدْلِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ
[3210] قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ) الْمَازِنِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَصْرِيُّ صَدُوقٌ لَهُ أَوْهَامٌ مِنَ الثَّامِنَةِ
قَوْلُهُ (قَالَ) أَيِ الشَّعْبِيُّ (مَا كَانَ لِيَعِيشَ لَهُ فِيكُمْ وَلَدٌ ذكر) يعني حتى يبلغ الحلم فإنه وُلِدَ لَهُ الْقَاسِمُ وَالطَّيِّبُ وَالطَّاهِرُ مِنْ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَمَاتُوا صِغَارًا وَوُلِدَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ مِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ فَمَاتَ أَيْضًا رَضِيعًا وكان له مِنْ خَدِيجَةَ أَرْبَعُ بَنَاتٍ زَيْنَبُ وَرُقْيَةُ وَأُمُّ كُلْثُومٍ وَفَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ
فَمَاتَتْ في حياته ثَلَاثٌ وَتَأَخَّرَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَتَّى أصيبت به ثُمَّ مَاتَتْ بَعْدَهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ [3211] قَوْلُهُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ الْعَبْدِيُّ الْبَصْرِيُّ أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ
الْعَبْدِيُّ أَبُو دَاوُدَ وَيُقَالُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَصْرِيُّ لَا بَأْسَ بِهِ فِي غَيْرِ الزهري من السابعة (عن حصين) هو بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ الْكُوفِيُّ أَبُو الْهُذَيْلِ (عَنْ أُمِّ عُمَارَةَ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ يُقَالُ اسْمُهَا نَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ بْنِ عَمْرٍو فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ(9/52)
) فَذَكَرَ اللَّهُ لَهُنَّ عَشْرَ مَرَاتِبَ مَعَ الرِّجَالِ فَمَدَحَهُنَّ بِهَا مَعَهُمْ الْأُولَى الْإِسْلَامُ وَالثَّانِيَةُ الْإِيمَانُ قال الحافظ بن كَثِيرٍ قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ غَيْرُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَخَصُّ مِنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قلوبكم وَفِي الصَّحِيحَيْنِ لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَيَسْلُبُهُ الْإِيمَانَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ كُفْرُهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَخَصُّ مِنْهُ انْتَهَى
وَالثَّالِثَةُ الْقُنُوتُ وَهُوَ قَوْلُهُ والقانتين والقانتات أَيِ الْمُطِيعِينَ وَالْمُطِيعَاتِ وَقِيلَ الْمُدَاوِمِينَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالْبَاقِيَةُ ظَاهِرَةٌ وَاضِحَةٌ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالطَّبَرَانِيُّ
[3213] قوله (حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ) السَّدُوسِيُّ أَبُو الْفَضْلِ الْبَصْرِيُّ لَقَبُهُ عَارِمٌ ثِقَةٌ ثَبْتٌ تَغَيَّرَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ مِنْ صِغَارِ التَّاسِعَةِ
قَوْلُهُ (تَقُولُ زَوَّجَكُنَّ أَهْلُوكُنَّ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَالْأَهْلُونَ وَالْأَهَالِي كِلَاهُمَا جَمْعُ أَهْلٍ وَالْأَوَّلُ عَلَى الْقِيَاسِ وَالثَّانِي عَلَى غَيْرِهِ وَأَهْلُ الرَّجُلِ امْرَأَتُهُ وَوَلَدُهُ وَكُلُّ مَنْ فِي عِيَالِهِ وَكَذَا كُلُّ أَخٍ أو أخت أو عم أو بن عَمٍّ أَوْ صَبِيٍّ أَجْنَبِيٍّ يَعُولُهُ فِي مَنْزِلِهِ
وَعَنِ الْأَزْهَرِيِّ أَهْلُ الرَّجُلِ أَخَصُّ النَّاسِ بِهِ وَيُكْنَى بِهِ عَنِ الزَّوْجَةِ
قَالَهُ الْعَيْنِيُّ (وَزَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ) وَفِي مُرْسَلِ الشعبي قالت زينب يا رسول الله أَنَا أَعْظَمُ نِسَائِكَ عَلَيْكَ حَقًّا أَنَا خَيْرُهُنَّ مَنْكَحًا وَأَكْرَمُهُنَّ سَفِيرًا وَأَقْرَبُهُنَّ رَحِمًا فَزَوَّجَنِيكَ الرَّحْمَنُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ وَكَانَ جِبْرِيلُ هُوَ السَّفِيرُ بِذَلِكَ وَأَنَا ابْنَةُ عَمَّتِكَ وَلَيْسَ لَكَ مِنْ نِسَائِكَ قَرِيبَةٌ غَيْرِي
أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ وَأَبُو الْقَاسِمِ(9/53)
الطَّحَاوِيُّ فِي كِتَابِ الْحُجَّةِ وَالتِّبْيَانِ لَهُ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ
[3214] قَوْلُهُ (عَنِ السُّدِّيِّ) اسْمُهُ إِسْمَاعِيلُ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (عَنْ أَبِي صَالِحٍ) اسْمُهُ بَاذَامَ وَيُقَالُ لَهُ بَاذَانُ
قَوْلُهُ (فَاعْتَذَرْتُ إِلَيْهِ فَعَذَرَنِي) قَالَ فِي الصُّرَاحِ الِاعْتِذَارُ غَدْرُ خواستن وَالْعُذْرُ بِالضَّمِّ وَالسُّكُونِ مَعْذُورٌ داشتن
وَقَالَ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ فِي الْإِكْمَالِ فِي تَرْجَمَةِ أُمِّ هَانِئٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كان رسول الله خَطَبَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَخَطَبَهَا هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ فَزَوَّجَهَا أَبُو طَالِبٍ مِنْ هُبَيْرَةَ وَأَسْلَمَتْ فَفَرَّقَ الْإِسْلَامُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هُبَيْرَةَ وَخَطَبَهَا النَّبِيُّ فَقَالَتْ وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأُحِبُّكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَكَيْفَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَكِنِّي امْرَأَةٌ مُصْبِيَةٌ فَسَكَتَ عَنْهَا انْتَهَى
وَقَوْلُهَا إِنِّي امْرَأَةٌ مُصْبِيَةٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الصَّادِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ ذَاتُ صَبِيٍّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أجورهن أَيْ مُهُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ الله عليك أَيْ أَبَاحَ لَكَ التَّسَرِّي مِمَّا أَخَذْتَ مِنَ الْمَغَانِمِ وَقَدْ مَلَكَ صَفِيَّةَ وَجُوَيْرِيَةَ فَأَعْتَقَهُمَا وَتَزَوَّجَهُمَا وَمَلَكَ رَيْحَانَةَ بِنْتَ شَمْعُونَ النَّضْرِيَّةَ وَمَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةَ أُمَّ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَتَا مِنَ السَّرَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ معك أَيْ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَنْ لَمْ تُهَاجِرْ مِنْهُنَّ لم يجز له نِكَاحُهَا (الْآيَةَ) بَقِيَّتُهَا مَعَ تَفْسِيرِهَا هَكَذَا(9/54)
وامرأة مؤمنة أَيْ وَأَحْلَلْنَا لَكَ امْرَأَةً مُصَدِّقَةً بِالتَّوْحِيدِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَةَ لَا تَحِلُّ لَهُ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَحْرِيمِ الحرة الكافرة عليه
قال بن الْعَرَبِيِّ وَالصَّحِيحُ عِنْدِي تَحْرِيمُهَا وَبِهَذَا يَتَمَيَّزُ عَلَيْنَا فَإِنَّهُ مَا كَانَ فِي جَانِبِ الْفَضَائِلِ وَالْكَرَامَاتِ فَحَظُّهُ فِيهِ أَكْثَرُ وَمَا كَانَ مِنْ جَانِبِ النقائص فَجَانِبُهُ عَنْهَا أَطْهَرُ
فَجَوَّزَ لَنَا نِكَاحَ الْحَرَائِرِ الكتابيات وقصر هو عَلَى الْمُؤْمِنَاتِ وَلِهَذَا كَانَ لَا تَحِلُّ لَهُ الكتابية الكافر لِنُقْصَانِهَا بِالْكُفْرِ انْتَهَى إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إن أراد أي النبي أن يستنكحها أَيْ يَطْلُبَ نِكَاحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ المؤمنين لَفْظُ خَالِصَةً حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي وَهَبَتْ أَوْ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ أَيْ خَلَصَ لَكَ إِحْلَالُ مَا أَحْلَلْنَا لَكَ خَالِصَةً بِمَعْنَى خُلُوصًا وَالْفَاعِلَةُ فِي الْمَصَادِرِ غَيْرُ عَزِيزٍ كَالْعَافِيَةِ وَالْكَاذِبَةِ وَكَانَ من خصائصه أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ فِي حَقِّهِ بِمَعْنَى الْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ وَلَا مَهْرٍ لقوله خالصة لك من دون المؤمنين وَالزِّيَادَةُ عَلَى أَرْبَعٍ وَوُجُوبُ تَخْيِيرِ النِّسَاءِ
وَاخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ أَوِ التَّزْوِيجِ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالزُّهْرِيِّ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ وَالْهِبَةِ وَمَنْ قَالَ بالقول الأول اختلفوا في نكاح النبي فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ يَنْعَقِدُ فِي حقه بِلَفْظِ الْهِبَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى خَالِصَةً لَكَ مِنْ دون المؤمنين وذهب آخرون إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ أَوِ التَّزْوِيجِ كَمَا فِي حَقِّ سَائِرِ الْأُمَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا وَكَانَ اخْتِصَاصُهُ فِي تَرْكِ الْمَهْرِ لَا فِي لَفْظِ النِّكَاحِ (قَالَتْ) أَيْ أُمُّ هَانِئٍ (كُنْتُ مِنَ الطُّلَقَاءِ) بِضَمِّ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَبِالْمَدِّ جَمْعُ طَلِيقٍ هُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا يَوْمَ الْفَتْحِ وَمَنَّ عَلَيْهِمْ وَخَلَّى عَنْهُمْ
قَوْلُهُ (هَذَا حديث حسن) وأخرجه بن جرير والطبراني وبن أبي حاتم
[3215] قَوْلُهُ (نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَخْ) قَالَ الْحَافِظُ لَمْ تَخْتَلِفِ الرِّوَايَاتُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ (فَهَمَّ بِطَلَاقِهَا) أَيْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا (فَاسْتَأْمَرَ) أَيِ استثار
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ والبخاري
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَبْدُ) بْنُ حُمَيْدٍ (أَخْبَرَنَا رَوْحُ) بْنُ عُبَادَةَ
قَوْلُهُ (قَالَ) أَيِ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أن تبدل بترك إحدى التائين في الأصل بهن من أزواج بِأَنْ تُطَلِّقَهُنَّ أَوْ بَعْضَهُنَّ وَتَنْكِحَ بَدَلَ مَنْ طلقت إلا ما ملكت يمينك من الإماء فتحل لك
قال الحافظ بن(9/55)
كَثِيرٍ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نزلت مجازاة لأزواج النبي وَرِضًا عَنْهُنَّ عَلَى حُسْنِ صَنِيعِهِنَّ فِي اخْتِيَارِهِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةِ لَمَّا خَيَّرَهُنَّ رَسُولُ الله فلما اخترن رسول الله كَانَ جَزَاؤُهُنَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَصَرَهُ عَلَيْهِنَّ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِنَّ أَوْ يَسْتَبْدِلَ بِهِنَّ أَزْوَاجًا غَيْرَهُنَّ وَلَوْ أَعْجَبَهُ حُسْنُهُنَّ إِلَّا الْإِمَاءَ وَالسَّرَارِيَّ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهِنَّ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى رَفَعَ عَنْهُ الْحَرَجَ فِي ذَلِكَ وَنَسَخَ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَبَاحَ لَهُ التَّزَوُّجَ
وَلَكِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَزَوُّجٌ لتكون المنة لرسول الله عَلَيْهِنَّ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ الْآتِيَ ثُمَّ قَالَ وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ مَعْنَى الْآيَةِ لَا يحل لك النساء من بعد أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا ذَكَرْنَا لَكَ مِنْ صِفَةِ النِّسَاءِ اللَّاتِي أَحْلَلْنَا لَكَ مِنْ نِسَائِكَ اللَّاتِي أَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَبَنَاتِ الْعَمِّ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالِ وَالْخَالَاتِ وَالْوَاهِبَةَ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَصْنَافِ النِّسَاءِ فَلَا يَحِلُّ لَكَ هَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَالضَّحَّاكِ فِي رِوَايَةٍ وَأَبِي صَالِحٍ وَالْحَسَنِ وَغَيْرِهِمْ ثُمَّ قَالَ وَاخْتِيَارُ بن جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِيمَنْ ذُكِرَ مِنْ أَصْنَافِ النِّسَاءِ وَفِي النِّسَاءِ اللَّوَاتِي فِي عِصْمَتِهِ وَكُنَّ تِسْعًا وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ جَيِّدٌ وَلَعَلَّهُ مُرَادُ كَثِيرٍ مِمَّنْ حَكَيْنَا عَنْهُ مِنَ السَّلَفِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا وَهَذَا وَلَا مُنَافَاةَ انْتَهَى (ثُمَّ قَالَ) أي ثم قرأ بن عَبَّاسٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وهو في الآخرة من الخاسرين يَعْنِي وَمَنْ يَجْحَدْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ من توحيده ونبوة محمد وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَقَدْ بَطَلَ ثَوَابُ عَمَلِهِ الَّذِي كَانَ عَمِلَهُ فِي الدُّنْيَا وَخَابَ وَخَسِرَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
وَهَذِهِ الآية في سورة المائدة والظاهر أن بن عَبَّاسٍ قَرَأَهَا لِبَيَانِ وَجْهِ تَحْرِيمِ اللَّهِ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ ذَاتِ دِينٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ [3216] قَوْلُهُ عَنْ عَمْرٍو هُوَ بن دينار
قوله (ما مات رسول الله حَتَّى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ) وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سلمة عند بن أبي حاتم لم يمت رسول الله حَتَّى أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنَ النِّسَاءِ مَا شَاءَ إِلَّا ذَاتَ مَحْرَمٍ وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ(9/56)
الآية قال بن كَثِيرٍ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ (فَجُعَلَتْ هَذِهِ) أي ترجى من تشاء منهن الْآيَةَ (نَاسِخَةً لِلَّتِي بَعْدَهَا فِي التِّلَاوَةِ) أَيْ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حسنهن إلا ما ملكت يمينك (كآبتي عِدَّةِ الْوَفَاةِ فِي الْبَقَرَةِ الْأُولَى نَاسِخَةٌ لِلَّتِي بَعْدَهَا) انْتَهَى
الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْأُولَى وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعشرا وَبِالْآيَةِ الثَّانِيَةِ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وصية لأزاوجهم متاعا إلى الحول غير إخراج
قُلْتُ اخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ فَقِيلَ مَعْنَاهُ تَعْتَزِلُ مَنْ شِئْتَ مِنْهُنَّ بِغَيْرِ طلاق وتقسم لغيرها وقال بن عَبَّاسٍ تُطَلِّقُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُمْسِكُ مَنْ تَشَاءُ
وَقَالَ الْحَسَنُ تَتْرُكُ نِكَاحَ مَنْ شِئْتَ وَتَنْكِحُ مَنْ شِئْتَ مِنَ النِّسَاءِ وَقِيلَ تَقْبَلُ مَنْ تَشَاءُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ اللَّاتِي يَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ فَتُؤْوِيهَا إِلَيْكَ وَتَتْرُكُ مَنْ تَشَاءُ فَلَا تَقْبَلُهَا
فَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بعد إِلَخْ إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ والنسائي
[3219] قوله (عن بيان) هو بن بشر
قوله (بنى رسول الله بِامْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ) هِيَ زَيْنَبُ أَيْ دَخَلَ بِهَا
قَالَ فِي النِّهَايَةِ الْبِنَاءُ وَالِابْتِنَاءُ الدُّخُولُ بِالزَّوْجَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً بَنَى عَلَيْهَا قُبَّةً لِيَدْخُلَ بِهَا فِيهَا فَيُقَالُ بَنَى الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَلَا يُقَالُ بَنَى بِأَهْلِهِ
وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْحَدِيثِ وَغَيْرِ الْحَدِيثِ وَعَادَ الْجَوْهَرِيُّ اسْتَعْمَلَهُ فِي كِتَابِهِ انْتَهَى
(إِلَى الطَّعَامِ) أَيْ طَعَامِ الْوَلِيمَةِ (قام رسول الله مُنْطَلِقًا قِبَلَ بَيْتِ عَائِشَةَ فَرَأَى رَجُلَيْنِ جَالِسَيْنِ) فِيهِ اخْتِصَارٌ وَإِجْمَالٌ تُوَضِّحُهُ رِوَايَاتُ الْبُخَارِيِّ وَمُحَصَّلُ الْقِصَّةِ أَنَّ الَّذِينَ حَضَرُوا الْوَلِيمَةَ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ واستحى النبي أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالْخُرُوجِ فَتَهَيَّأَ لِلْقِيَامِ لِيَفْطِنُوا لِمُرَادِهِ(9/57)
فَيَقُومُوا بِقِيَامِهِ فَلَمَّا أَلْهَاهُمُ الْحَدِيثُ عَنْ ذَلِكَ قَامَ وَخَرَجَ فَخَرَجُوا بِخُرُوجِهِ إِلَّا الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ لَمْ يَفْطِنُوا لِذَلِكَ لِشِدَّةِ شُغْلِ بَالِهِمْ بِمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْحَدِيثِ
وَفِي غُضُونِ ذَلِكَ كان النبي يُرِيدُ أَنْ يَقُومُوا مِنْ غَيْرِ مُوَاجَهَتِهِمْ بِالْأَمْرِ بِالْخُرُوجِ لِشِدَّةِ حَيَائِهِ فَيُطِيلُ الْغِيبَةَ عَنْهُمْ بِالتَّشَاغُلِ بِالسَّلَامِ عَلَى نِسَائِهِ وَهُمْ فِي شُغْلِ بَالِهِمْ وَكَانَ أَحَدُهُمْ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ أَفَاقَ مِنْ غَفْلَةٍ فَخَرَجَ وَبَقِيَ الِاثْنَانِ فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ ووصل النبي إِلَى مَنْزِلِهِ فَرَآهُمَا فَرَجَعَ فَرَأَيَاهُ لَمَّا رَجَعَ فحينئذ فطنا فخرجا فدخل النبي وَأُنْزِلَتِ الْآيَةُ فَأَرْخَى السِّتْرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنَسٍ خَادِمِهِ أَيْضًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ بِذَلِكَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبي إلا أن يؤذن لكم أي في الدخول بالدعاء إلى طعام أي فتدخلوا غير ناظرين أي منتظرين إناه أَيْ نُضْجَهُ مَصْدَرُ أَنَى يَأْنِي وَبَعْدَهُ وَلَكِنْ إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم أي أكلتم الطعام فانتشروا أَيْ فَاخْرُجُوا مِنْ مَنْزِلِهِ وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ
أَيْ لَا تُطِيلُوا الْجُلُوسَ لِيَسْتَأْنِسَ بَعْضُكُمْ بِحَدِيثِ بعض (إن ذلكم) أَيِ الْمُكْثَ وَإِطَالَةَ الْجُلُوسِ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فيستحي منكم أي من إخراجكم والله لا يستحي من الحق أَيْ لَا يَتْرُكُ بَيَانَهُ
قَوْلُهُ (وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ) أَيْ طُولٌ وَكَلَامٌ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ (وَرَوَى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ هَذَا الْحَدِيثَ بِطُولِهِ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي بَابِ زَوَاجِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَنُزُولِ الْحِجَابِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ
[3217] قَوْلُهُ (حدثنا أَشْهَلُ بْنُ حَاتِمٍ) الْجُمَحِيُّ مَوْلَاهُمْ أَبُو عَمْرٍو وقيل أبو حاتم بصرى صدوق يخطىء من التاسعة (قال بن عَوْنٍ حُدِّثْنَاهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ) الضَّمِيرُ في قال راجع إلى أشهد وبن عون مبتدأ وحدثناه خبره أي قال أشهد بْنُ عَوْنٍ حُدِّثْنَا هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَمْرِو بن سعيد وبن عَوْنٍ هَذَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ وَعَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ هُوَ أَبُو سَعِيدٍ الْبَصْرِيُّ
قَوْلُهُ (عَرَّسَ بِهَا) مِنَ التَّعْرِيسِ أَيْ بَنَى بِهَا قَالَ فِي النِّهَايَةِ أَعْرَسَ الرَّجُلُ فَهُوَ مُعْرِسٌ إِذَا دَخَلَ بِامْرَأَتِهِ عِنْدَ بِنَائِهَا وَلَا يُقَالُ فِيهِ عَرَّسَ
قُلْتُ قَوْلُهُ وَلَا يُقَالُ فِيهِ عَرَّسَ تَرُدُّهُ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ هَذِهِ وَقَالَ فِي الْمَجْمَعِ قِيلَ هُوَ أَيْ عَرَّسَ لُغَةً فِي أَعْرَسَ (فَاحْتَبَسَ) الْحَبْسُ الْمَنْعُ وَاحْتَبَسَهُ حَبَسَهُ فَاحْتَبَسَ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ كَذَا فِي الْقَامُوسِ (فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ) وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى(9/58)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبي إِلَخْ
[3218] قَوْلُهُ (عَنِ الْجَعْدِ أَبِي عُثْمَانَ) قَالَ فِي التَّقْرِيبِ الْجَعْدُ بْنُ دِينَارٍ الْيَشْكُرِيُّ أَبُو عُثْمَانَ الصَّيْرَفِيُّ الْبَصْرِيُّ صَاحِبُ الْحُلِيِّ ثِقَةٌ مِنَ الرَّابِعَةِ
قَوْلُهُ (فَدَخَلَ بِأَهْلِهِ) هِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ (فَصَنَعَتْ أُمِّي أُمُّ سُلَيْمٍ حَيْسًا) هُوَ الطَّعَامُ الْمُتَّخَذُ مِنَ التَّمْرِ وَالْأَقِطِ وَالسَّمْنِ وَقَدْ يُجْعَلُ عِوَضَ الْأَقِطِ الدَّقِيقُ أَوِ الْفَتِيتُ (فَجَعَلَتْهُ فِي تَوْرٍ) بِفَتْحِ تَاءٍ وَسُكُونِ وَاوٍ هُوَ إِنَاءٌ مِنْ صُفْرٍ أَوْ حِجَارَةٍ كَالْإِجَّانَةِ وَقَدْ يُتَوَضَّأُ مِنْهُ (قَالَ زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ) بِضَمِّ الزَّايِ وفتح الهاء وبالمد أي قدر ثلاث مائة مِنْ زَهَوْتُ الْقَوْمَ أَيْ حَزْرَتُهُمْ وَهُوَ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ كَانُوا وَقِيلَ بِرَفْعِهِ أَيْ عَدَدْنَا مِقْدَارَ ثَلَاثِمِائَةٍ هَاتِ بِكَسْرِ التَّاءِ أَيْ أَعْطِنِي (حَتَّى امْتَلَأَتِ الصُّفَّةُ) بِضَمِّ صَادٍ وَتَشْدِيدِ فَاءٍ هُوَ مَوْضِعٌ مُظَلَّلٌ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الصُّفَّةِ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُمْ مَنْزِلٌ يَسْكُنُهُ فَكَانُوا يَأْوُونَ إِلَيْهِ (لِيَتَحَلَّقْ) الْحَلْقَةُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ هِيَ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ مُسْتَدِيرُونَ كَحَلْقَةِ الْبَابِ وَغَيْرِهِ وَالتَّحَلُّقُ تَفَعُّلٌ مِنْهَا وَهُوَ أَنْ يَتَعَمَّدُوا ذَلِكَ ارْفَعْ أَيِ الطَّعَامَ (حِينَ وَضَعْتُ) أَيِ الطَّعَامَ قَالَ الْحَافِظُ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ(9/59)
صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَيَجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِوَايَةِ حُمَيْدٍ (يَعْنِي عَنْ أَنَسٍ قَالَ أَوْلَمَ رَسُولُ اللَّهِ حِينَ بَنَى بِزَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ فَأَشْبَعَ النَّاسَ خبزا ولحما) بأنه أَوْلَمَ عَلَيْهِ بِاللَّحْمِ وَالْخُبْزِ وَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أُمُّ سُلَيْمٍ الْحَيْسَ انْتَهَى
وَقَالَ النَّوَوِيُّ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِأَصْدِقَاءِ الْمُتَزَوِّجِ أَنْ يَبْعَثُوا إِلَيْهِ بِطَعَامٍ يُسَاعِدُونَهُ بِهِ عَلَى وَلِيمَتِهِ وَفِيهِ الِاعْتِذَارُ إِلَى الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِ وَقَوْلُ الْإِنْسَانِ نَحْوُ قَوْلِ أُمِّ سُلَيْمٍ هَذَا مِنَّا لَكَ قَلِيلٌ انْتَهَى (وَزَوْجَتُهُ مُوَلِّيَةٌ وَجْهَهَا) وَكَذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَزَوْجَتُهُ بِالتَّاءِ قَالَ النَّوَوِيُّ هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ بِالتَّاءِ وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ تَكَرَّرَتْ فِي الْحَدِيثِ وَالشِّعْرِ الْمَشْهُورُ حَذْفُهَا (فَثَقُلُوا) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَضَمِّ الْقَافِ (قَالَ أَنَسٌ أَنَا أَحْدَثُ النَّاسِ عَهْدًا بِهَذِهِ الْآيَاتِ) يَعْنِي أَوَّلُ النَّاسِ عِلْمًا بِهَذِهِ الْآيَةِ فَعَلِمْتُهَا أَوَّلًا ثُمَّ عَلِمَهَا النَّاسِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ والنسائي وبن أَبِي حَاتِمٍ وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ فَقَالَ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنِ الْجَعْدِ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَنَسٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ
[3220] قَوْلُهُ (عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ) كُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ مَوْلَى آلِ عُمَرَ يُعْرَفُ بِالْمُجْمِرِ بِسُكُونِ الْجِيمِ وَضَمِّ الْمِيمِ الْأُولَى وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ وَكَذَا أَبُوهُ ثِقَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ (وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الَّذِي كَانَ(9/60)
أَدَّى النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ) يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ وَالِدَ مُحَمَّدٍ هَذَا هُوَ الَّذِي أَدَّى النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ هُوَ الَّذِي كَانَ أَدَّى النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ (عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ) اسْمُهُ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو صَحَابِيٌّ بَدْرِيٌّ جَلِيلٌ
قَوْلُهُ (فَقَالَ لَهُ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ) بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ جُلَاسٍ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ بَدْرِيٌّ اسْتُشْهِدَ بِعَيْنِ التَّمْرِ (أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ) أَيْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بقوله صلوا عليه وسلموا تسليما
فَكَيْفَ نَلْفِظُ بِالصَّلَاةِ (حَتَّى ظَنَنَّا) مِنَ الظَّنِّ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ حَتَّى تَمَنَّيْنَا مِنَ التَّمَنِّي (أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ) قَالَ النَّوَوِيُّ مَعْنَاهُ كَرِهْنَا سؤاله مخافة من أن يكون النبي كَرِهَ سُؤَالَهُ وَشَقَّ عَلَيْهِ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَى الْبَرَكَةِ هُنَا الزِّيَادَةُ مِنَ الْخَيْرِ وَالْكَرَامَةِ وَقِيلَ هِيَ بِمَعْنَى التَّطْهِيرِ وَالتَّزْكِيَةِ
قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَالسَّلَامُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ مَعْنَاهُ قَدْ أَمَرَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيَّ فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَهَذِهِ صِفَتُهَا وَأَمَّا السَّلَامُ فَكَمَا عَلِمْتُمْ فِي التَّشَهُّدِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهُ وَبَرَكَاتُهُ وَقَوْلُهُ عَلِمْتُمْ هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ اللَّامِ الْمُخَفَّفَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ عَلَّمْتُكُمُوهُ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي حُمَيْدٍ إِلَخْ) أَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ فَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ فَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَأَمَّا حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فَأَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ وَأَمَّا حَدِيثُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ وَأَمَّا حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ خَارِجَةَ فَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَمَّا حَدِيثُ بُرَيْدَةَ فَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَفِي سَنَدِهِ أَبُو دَاوُدَ الْأَعْمَى اسْمُهُ نُفَيْعٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا وَمُتَّهَمٌ بِالْوَضْعِ
وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ أُخْرَى إِنْ شِئْتَ الْوُقُوفَ عَلَى أَلْفَاظِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَرَاجِعِ النَّيْلِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ والنسائي(9/61)
[3221] قوله (عن عوف) هو بن أَبِي جَمِيلَةَ الْأَعْرَابِيُّ (عَنِ الْحَسَنِ) هُوَ الْبَصْرِيُّ (ومحمد) هو بن سِيرِينَ (وَخِلَاسٌ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ وآخره مهملة هو بن عَمْرٍو الْهَجَرِيُّ
قَوْلُهُ كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ التَّحْتَانِيَّةِ الْخَفِيفَةِ بَعْدَهَا أُخْرَى مُثْقَلَةٌ بِوَزْنِ فَعِيلٍ مِنَ الْحَيَاءِ أَيْ ذَا حَيَاءٍ سَتِيرًا بِفَتْحِ السِّينِ بِوَزْنِ كَرِيمٍ وَيُقَالُ ستيرا بكسر السين وتشديد الفوقية المسكورة بِوَزْنِ سِكِّينٍ أَيْ ذَا تَسَتُّرٍ يَسْتَتِرُ فِي الْغُسْلِ
مَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ اغْتِسَالَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عُرَاةً بِمَحْضَرٍ مِنْهُمْ كَانَ جَائِزًا فِي شَرْعِهِمْ وَإِنَّمَا اغْتَسَلَ مُوسَى وَحْدَهُ اسْتِحْيَاءً فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ بِالْمَدِّ فِيهِمَا مِنَ الْإِيذَاءِ إِمَّا بَرَصٌ مُحَرَّكَةٌ بَيَاضٌ يَظْهَرُ فِي ظَاهِرِ الْبَدَنِ لِفَسَادِ مِزَاجٍ وَإِمَّا أُدْرَةٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الدَّالِ نَفْخَةٌ فِي الْخُصْيَةِ يُقَالُ رَجُلٌ آدَرُ بَيِّنُ الْأَدَرِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالدَّالِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ بن مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَوْفٍ الْجَزْمُ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّهُ آدَرُ وَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ مِنَ التَّبْرِئَةِ أَيْ يُنَزِّهَهُ عَنْ نِسْبَةِ ذَلِكَ الْعَيْبِ وَإِنَّ مُوسَى خَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ أَيِ انْفَرَدَ عَنِ النَّاسِ يَوْمًا حَالَ كَوْنِهِ مُنْفَرِدًا عَدَا بِثَوْبِهِ أَيْ فَرَّ وَمَضَى مُسْرِعًا ثَوْبِي حَجَرُ ثَوْبِي حَجَرُ أَيْ أَعْطِنِي ثَوْبِي أَوْ رُدَّ ثَوْبِي وَحَجَرُ بِالضَّمِّ عَلَى حَذْفِ النِّدَاءِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَأٍ أَيْ جَمَاعَةٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِيهِمُ الْمُؤْذِينَ فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَيْ أَبْصَرُوهُ حَالَ كَوْنِهِ عُرْيَانًا وَطَفِقَ بِكَسْرِ الْفَاءِ أخذ وشرع بالحجر ضربا يضربه ضَرْبًا فَالْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ كَمَا فِي قوله سبحانه فطفق مسحا بالسوق والأعناق فَوَاللَّهِ إِنَّ بِالْحَجَرِ لَنَدَبًا بِالتَّحْرِيكِ أَثَرَ الْجُرْحِ إِذَا لَمْ يَرْتَفِعْ عَنِ الْجِلْدِ فَشُبِّهَ بِهِ أَثَرُ الضَّرْبِ فِي الْحَجَرِ قَالَ الْحَافِظُ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ بَقِيَّةُ الْحَدِيثِ وَقَدْ بَيَّنَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ فِي الْغُسْلِ أَنَّهُ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ انْتَهَى
وَلَفْظُ رِوَايَةِ هَمَّامٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي الْغُسْلِ هَكَذَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَنَدَبٌ بِالْحَجَرِ سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ ضَرْبًا بِالْحَجَرِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تكونوا كالذين آذوا موسى(9/62)
أَيْ لَا تُؤْذُوا نَبِيَّكُمْ كَمَا آذَى بَنُو إِسْرَائِيلَ مُوسَى وَهُوَ قَوْلُهُمْ إِنَّهُ آدَرُ فَبَرَّأَهُ الله مما قالوا أَيْ فَطَهَّرَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا فِيهِ وَكَانَ عند الله وجيها أَيْ كَرِيمًا ذَا جَاهٍ وَقَدْرٍ
وَمِمَّا أُوذِيَ به نبينا أَنَّهُ قَسَمَ قَسْمًا فَقَالَ رَجُلٌ هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ
فَغَضِبَ النَّبِيُّ مِنْ ذَلِكَ
وَقَالَ يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ
5 - (باب ومن سُورَةُ سَبَأٍ)
مَكِّيَّةٌ إِلَّا وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا العلم الْآيَةَ وَهِيَ أَرْبَعٌ أَوْ خَمْسٌ وَخَمْسُونَ آيَةً [3222] قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ) اسْمُهُ حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ (عَنْ الْحَسَنِ بْنِ الْحَكَمِ النَّخَعِيِّ) كُنْيَتُهُ أَبُو الْحَكَمِ الْكُوفِيُّ صَدُوقٌ يُخْطِئُ مِنَ السَّادِسَةِ (حَدَّثَنِي أَبُو سَبْرَةَ النَّخَعِيُّ) الْكُوفِيُّ يُقَالُ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَابِسٍ مَقْبُولٌ مِنَ الثَّالِثَةِ (عَنْ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَبِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ مُصَغَّرًا الْمُرَادِيِّ ثُمَّ الْغُطَيْفِيِّ صَحَابِيٌّ سَكَنَ الْكُوفَةَ يُكْنَى أَبَا عُمَيْرٍ وَاسْتَعْمَلَهُ عُمَرُ
قَوْلُهُ (مَنْ أَدْبَرَ) أَيْ عَنِ الْإِسْلَامِ (بِمَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ) أَيْ مَعَ مَنْ آمَنَ مِنْ قَوْمِي (فِي قِتَالِهِمْ) أَيْ فِي قِتَالِ مَنْ أَدْبَرَ مِنْ قَوْمِي (وَأَمَّرَنِي) أَيْ جَعَلَنِي أَمِيرًا مَا فَعَلَ الْغُطَيْفِيُّ يَعْنِي فَرْوَةَ بْنَ مُسَيْكٍ (فأخبر) بصغية الْمَجْهُولِ (فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِي) بِفَتْحَتَيْنِ وَبِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ عَقِبِي قَالَ فِي الْقَامُوسِ خَرَجَ فِي(9/63)
أَثَرِهِ وَإِثْرِهِ أَيْ بَعْدَهُ (فَرَدَّنِي) أَيْ فَأَرْجَعَنِي ادْعُ الْقَوْمَ أَيْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَاقْبَلْ مِنْهُ أَيْ فَاقْبَلِ الْإِسْلَامَ مِنْهُ فَلَا تَعْجَلْ أَيْ بِقِتَالِهِمْ حَتَّى أُحْدِثَ إِلَيْكَ يَعْنِي حَتَّى آمُرَكَ بِأَمْرٍ حَادِثٍ جَدِيدٍ (وَأُنْزِلَ فِي سَبَأٍ) بِفَتْحِ السِّينِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَبِالْهَمْزَةِ وَالْمُرَادُ بِهَا الْقَبِيلَةُ الَّتِي هِيَ مِنْ أَوْلَادِ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ بْنِ هُودٍ (مَا أُنْزِلَ) أَيْ مِنَ الْآيَاتِ وَلَدَ عَشَرَةً بِالنَّصْبِ إِذَا كَانَ وَلَدَ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ وَبِالرَّفْعِ إِذَا كَانَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ وُلِدَ لَهُ عَشَرَةٌ وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ فَتَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ أَيْ أَخَذُوا نَاحِيَةَ الْيَمَنِ وَسَكَنُوا بِهَا وَتَشَاءَمَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ أَيْ قَصَدُوا جِهَةَ الشَّامِ فَلَخْمٌ بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَجُذَامُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ بِوَزْنِ غُرَابٍ (وَغَسَّانُ) بَالِغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ بِوَزْنِ شَدَّادٍ وَعَامِلَةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ قَالَ فِي الْقَامُوسِ بَنُو عَامِلَةَ بْنِ سَبَأٍ حَيٌّ بِالْيَمَنِ وَأَمَّا الَّذِينَ تَيَامَنُوا فَالْأَزْدُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ (وَالْأَشْعَرُونَ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ الْأَشْعَرُ أَبُو قَبِيلَةٍ بِالْيَمَنِ مِنْهُمْ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَيَقُولُونَ جَاءَتْكَ الْأَشْعَرُونَ بِحَذْفِ يَاءِ النَّسَبِ وَحِمْيَرُ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ بِوَزْنِ دِرْهَمٍ وَكِنْدَةُ بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ النُّونِ (وَمَذْحِجٌ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ ذَالٍ مُعْجَمَةٍ وَكَسْرِ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَبِجِيمٍ (وَأَنْمَارٌ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ النُّونِ (الَّذِينَ مِنْهُمْ خَثْعَمٌ) بِوَزْنِ جَعْفَرٍ (وَبَجِيلَةُ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْجِيمِ كَسَفِينَةٍ
قَوْلُهُ (هذا حديث غريب حسن) وأخرجه أحمد وبن جرير وبن أَبِي حَاتِمٍ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مُخْتَصَرًا فِي كِتَابِ الْحُرُوفِ وَالْقِرَاءَاتِ
[3223] قَوْلُهُ (عَنْ عَمْرٍو) هُوَ بن دِينَارٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ فِي السَّمَاءِ أَمْرًا أَيْ إِذَا حَكَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خَضَعَانًا بِفَتْحَتَيْنِ مِنَ الْخُضُوعِ وَفِي رِوَايَةٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ وَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى خَاضِعِينَ قَالَهُ الْحَافِظُ لِقَوْلِهِ أَيْ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى كَأَنَّهَا أَيْ كلماته(9/64)
الْمَسْمُوعَةَ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ كَأَنَّهُ أَيِ الْقَوْلَ الْمَسْمُوعَ سِلْسِلَةٌ أَيْ مِنَ الْحَدِيدِ عَلَى صَفْوَانٍ هُوَ الْحَجَرُ الْأَمْلَسُ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ بِضَمِّ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ كُشِفَ عَنْهُمُ الْفَزَعُ وَأُزِيلَ قَالُوا أَيْ سَأَلَ بعضهم بعضا قالوا الحق أَيْ قَالَ اللَّهُ الْقَوْلَ الْحَقَّ
قِيلَ الْمُجِيبُونَ هم الملائكة المقربون كجبرئيل وميكائيل وغيرهما
قلت ويؤيده حديث بن مسعود الآتي وهو العلي الكبير أي ذو العلو والكبرياء وفي حديث بن مَسْعُودٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ قَالَ إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ صَلْصَلَةً كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَاةِ فَيُصْعَقُونَ فَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ جِبْرِيلُ فَإِذَا جَاءَ فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ فَيَقُولُونَ يَا جَبْرَائِيلُ مَاذَا قَالَ رَبُّكَ فَيَقُولُ الْحَقَّ فَيَقُولُونَ الْحَقَّ وَالشَّيَاطِينُ بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ أَيْ لِاسْتِرَاقِ السَّمْعِ
زَادَ الْبُخَارِيُّ فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُ السَّمْعِ هَكَذَا بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ فَيَسْمَعُ الْكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ ثُمَّ يُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الْكَاهِنِ فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ فَيَكْذِبَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ فَيُقَالُ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا
وَكَذَا فَيُصَدَّقُ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي مِنَ السَّمَاءِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وأبو داود وبن ماجه
[3224] قوله (أخبرنا عبد الأعلى) هو بن عبد الأعلى (عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ) بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْهَاشِمِيُّ الْمَدَنِيُّ الْمَعْرُوفِ بِزَيْنِ الْعَابِدِينَ
قَوْلُهُ (إِذَا رُمِيَ بِنَجْمٍ) أَيْ قُذِفَ بِهِ وَالْمَعْنَى انْقَضَّ كَوْكَبٌ وَهُوَ جَوَابُ بَيْنَمَا (فَاسْتَنَارَ) أَيِ الْجَوُّ بِهِ مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ لِمِثْلِ هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا رَأَيْتُمُوهُ لَيْسَ سُؤَالُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلِاسْتِعْلَامِ لِأَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ بَلْ لِأَنْ يُجِيبُوا عَمَّا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَيُزِيلَهُ عَنْهُمْ وَيَقْلَعَهُ عَنْ أَصْلِهِ (يَمُوتُ عَظِيمٌ) أَيْ رَجُلٌ عَظِيمٌ لَا يُرْمَى بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ بِهِ أَيْ بِالنَّجْمِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ أَيْ وَلَا لِحَيَاةِ أَحَدٍ آخَرَ تَبَارَكَ اسْمُهُ أَيْ تَكَاثَرَ خَيْرُ اسْمِهِ حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ أَيْ صَوْتُهُ أَوْ نَوْبَتُهُ إِلَى هَذِهِ السَّمَاءِ أَيِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُخْبِرُونَهُمْ أَيْ أَهْلُ السَّمَاءِ السَّادِسَةِ بِمَا قَالَ اللَّهُ(9/65)
تَعَالَى حَتَّى يَبْلُغَ الْخَبَرُ أَيْ يَصِلَ وَتَخْتَطِفَ الشَّيَاطِينُ مِنَ الِاخْتِطَافِ أَيْ تَسْتَرِقَ فَيُرْمَوْنَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيِ الشَّيَاطِينُ يُقْذَفُونَ بِالشُّهُبِ فَيَقْذِفُونَهُ أَيْ مَا سَمِعُوهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ مِنَ الكهنة والمنجمين فما جاؤوا به أي أوليائهم عَلَى وَجْهِهِ أَيْ مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ فِيهِ فَهُوَ حَقٌّ أَيْ كَائِنٌ وَاقِعٌ (وَيَزِيدُونَ) أَيْ يَزِيدُونَ فِيهِ دَائِمًا كِذْبَاتٍ أُخَرَ مُنْضَمَّةً إِلَيْهِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ (وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ بن عَبَّاسٍ عَنْ رِجَالٍ مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَخْ) أَخْرَجَهُ مسلم
6 - (باب ومن سُورَةُ الْمَلَائِكَةِ)
وَتُسَمَّى سُورَةَ فَاطِرٍ مَكِّيَّةٌ وَهِيَ خَمْسٌ أَوْ سِتٌّ وَأَرْبَعُونَ آيَةً [3225] قَوْلُهُ ثُمَّ أورثنا أَيْ أَعْطَيْنَا الْكِتَابَ أَيِ الْقُرْآنَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا من عبادنا هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمنهم ظالم لنفسه بالتقصير في العمل به ومنهم مقتصد يعمل بِهِ فِي أَغْلَبِ الْأَوْقَاتِ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ يَضُمُّ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ التَّعْلِيمَ وَالْإِرْشَادَ إِلَى العمل بإذن الله(9/66)
أَيْ بِإِرَادَتِهِ (قَالَ) أَيْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَؤُلَاءِ أَيِ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ كُلُّهُمْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَكُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ قَالَ الحافظ بن كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ مَعْنَاهُ أَيْ فِي أَنَّهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ فَرْقٌ فِي الْمَنَازِلِ فِي الْجَنَّةِ
وَقَالَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عن بن عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الذين اصطفينا من عبادنا قَالَ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَّثَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ فَظَالِمُهُمْ يُغْفَرُ لَهُ وَمُقْتَصِدُهُمْ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَسَابِقُهُمْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الْمُصْطَفَيْنَ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ عِوَجٍ وَتَقْصِيرٍ
وَقَالَ آخَرُونَ بَلِ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا مِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْوَارِثِينَ لِلْكِتَابِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهَذَا اخْتِيَارُ بن جَرِيرٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَكَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طُرُقٍ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا فَذَكَرَهَا وَمِنْهَا حَدِيثُ الْبَابِ وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله فَأَمَّا الَّذِينَ سَبَقُوا فَأُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَأَمَّا الَّذِينَ اقْتَصَدُوا فَأُولَئِكَ الَّذِينَ يُحَاسَبُونَ حِسَابًا يَسِيرًا وَأَمَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ يُحْبَسُونَ فِي طُولِ الْمَحْشَرِ ثُمَّ هُمُ الَّذِينَ تَلَافَاهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ فَهُمُ الَّذِينَ يقولون (الحمد لله الذين أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ حَسَنٌ) وأخرجه أحمد وبن جرير وبن أَبِي حَاتِمٍ وَفِي أَسَانِيدِ كُلِّهِمْ مَنْ لَمْ يُسَمَّ فَتَحْسِينُ التِّرْمِذِيِّ لَهُ لِشَوَاهِدِهِ بَاب وَمِنْ سُورَةُ يس مَكِّيَّةٌ وَهِيَ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ آيَةً قَوْلُهُ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ
الْعَبْدِيِّ الْوَاسِطِيِّ
قَوْلُهُ (كَانَتْ بَنُو سَلِمَةَ) بِكَسْرِ اللَّامِ بَطْنٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَلَيْسَ فِي الْعَرَبِ سَلِمَةُ بِكَسْرِ اللَّامِ غَيْرُهُمْ (فَأَرَادُوا النُّقْلَةَ) بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الْقَافِ أي الانتقال إنا نحن نحيي الموتى أي يوم القيامة وفيه إشارة إلى(9/67)
سُورَةُ يس مَكِّيَّةٌ وَهِيَ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ آيَةً [3226] قوله (عن أبي نضرة) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْيِي قَلْبَ مَنْ يَشَاءُ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ قَدْ مَاتَتْ قُلُوبُهُمْ بِالضَّلَالَةِ فَيَهْدِيهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْحَقِّ وَنَكْتُبُ مَا قدموا أَيْ فِي حَيَاتِهِمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ لِيُجَازَوْا عليهم وآثارهم فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا نَكْتُبُ أَعْمَالَهُمُ الَّتِي بَاشَرُوهَا بِأَنْفُسِهِمْ وَآثَارَهُمُ الَّتِي أَثَرُوهَا مِنْ بَعْدِهِمْ فَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ
كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا
رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ اخْتِيَارُ الْبَغَوِيِّ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ آثَارُ خُطَاهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ أَوِ الْمَعْصِيَةِ قَالَ بن أَبِي نَجِيحٍ وَغَيْرُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ مَا قَدَّمُوا أَعْمَالُهُمْ وَآثَارَهُمْ قَالَ خُطَاهُمْ بِأَرْجُلِهِمْ
وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَآثَارَهُمْ يَعْنِي خُطَاهُمْ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا قال الحافظ بن كَثِيرٍ وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بَلْ فِي هَذَا تَنْبِيهٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى
وَالْأَحْرَى فَإِنَّهُ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآثَارُ تُكْتَبُ فَلَأَنْ تُكْتَبَ تِلْكَ الَّتِي فِيهَا قُدْوَةٌ بِهِمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى انْتَهَى إِنَّ آثَارَكُمْ تُكْتَبُ أَيْ يُكْتَبُ أَجْرُ خُطَاكُمْ وَثَوَابُ أَقْدَامِكُمْ
قَوْلُهُ (هذا حديث حسن غريب) وأخرجه بن أبي حاتم وبن جرير والبزار(9/68)
[3227] قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ حِينَ غَابَتِ الشَّمْسُ إِلَخْ) تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ بِإِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ فِي بَابِ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا مِنْ أَبْوَابِ الْفِتَنِ وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ شَرْحُهُ
8 - (باب ومن سورة الصافات)
مَكِّيَّةٌ وَهِيَ مِائَةٌ وَاثْنَتَانِ وَثَمَانُونَ آيَةً [3228] قَوْلُهُ دَعَا أَيْ أَحَدًا إِلَى شَيْءٍ أَيْ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعْصِيَةِ إِلَّا كَانَ أَيِ الدَّاعِي لَازِمًا لَهُ أَيْ لِلشَّيْءِ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ وَظَاهِرُ رواية بن جَرِيرٍ الْآتِيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَرْفُوعَ فِي كَانَ رَاجِعٌ إِلَى الْمَدْعُوِّ وَالْمَجْرُورَ فِي لَهُ إِلَى الدَّاعِي فَتَفَكَّرْ وَتَأَمَّلْ وَإِنْ وَصْلِيَّةٌ دَعَا رَجُلٌ رَجُلًا أَيْ إِلَى شَيْءٍ
وَرَوَى بن جَرِيرٍ هَذَا الْحَدِيثَ بِلَفْظِ أَيُّمَا رَجُلٍ دَعَا رَجُلًا إِلَى شَيْءٍ كَانَ مَوْقُوفًا لَازِمًا بِغَارِبِهِ لَا يُفَارِقُهُ ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَقِفُوهُمْ إنهم مسؤولون أي احبسوهم عند الصِّرَاطِ حَتَّى يُسْأَلُوا عَنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمُ الَّتِي صدرت عنهم في الدار الدنيا مالكم لا تناصرون أَيْ يُقَالُ لَهُمْ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا مَا لَكُمْ لَا يَنْصُرُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَحَالِكُمْ فِي الدُّنْيَا
قوله (هذا حديث غريب) وأخرجه بن أبي حاتم وبن جَرِيرٍ وَفِي سَنَدِهِ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ وَكَانَ قَدِ اختلط أخيرا ولم يتيمنه حديثه ف ترك وَفِيهِ أَيْضًا بِشْرٌ عَنْ أَنَسٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ [3229]
قوله وأرسلناه أَيْ يُونُسَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ السَّلَامُ إلى مائة(9/69)
ألف أو يزيدون قال بن عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ وَيَزِيدُونَ وَقِيلَ مَعْنَاهُ بَلْ يَزِيدُونَ وَقِيلَ أَوْ عَلَى أَصْلِهَا وَالْمَعْنَى أَوْ يَزِيدُونَ فِي تَقْدِيرِ الرَّائِي إِذَا رَآهُمْ قَالَ هَؤُلَاءِ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ فَالشَّكُّ عَلَى تَقْدِيرِ الْمَخْلُوقِينَ
قَالَ الْخَازِنُ وَالْأَصَحُّ هُوَ قول بن عباس الأول وأما الزيادة تقدير فقال بن عَبَّاسٍ كَانُوا عِشْرِينَ أَلْفًا وَيَعْضُدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ (يَعْنِي حَدِيثَ الْبَابِ الَّذِي نَحْنُ فِي شَرْحِهِ) وَقِيلَ يَزِيدُونَ بِضْعًا وَثَلَاثِينَ أَلْفًا وَقِيلَ سَبْعِينَ أَلْفًا انْتَهَى (قَالَ) أَيْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشْرُونَ أَلْفًا وَبِهِ قال بن عَبَّاسٍ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ كَانُوا مِائَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا وَعَنْهُ مِائَةَ أَلْفٍ وَبِضْعَةً وَأَرْبَعِينَ وَعَنْهُ مِائَةَ أَلْفٍ وَبِضْعَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا
قَوْلُهُ (هَذَا حديث غريب) وأخرجه بن أبي حاتم وبن جَرِيرٍ وَفِي سَنَدِهِ مَجْهُولٌ
[3230] قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ) الْأَزْدِيُّ مَوْلَاهُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَوْ أَبُو سَلَمَةَ الشَّامِيُّ أَصْلُهُ مِنَ الْبَصْرَةِ أَوْ وَاسِطٍ ضَعِيفٌ مِنَ الثَّامِنَةِ
قَوْلُهُ وَجَعَلْنَا ذريته أَيْ ذُرِّيَّةَ نُوحٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ والسلام هم الباقين أَيْ وَحْدَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ ضَمِيرُ الْفَصْلِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أَهْلَكَ الْكَفَرَةَ بِدُعَائِهِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ بَاقِيَةٌ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَاتُوا كَمَا قِيلَ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَوْلَادُهُ (قَالَ) أَيْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَامٌ وَسَامٌ وَيَافِثُ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَلَدُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَلَاثَةٌ سَامٌ وَيَافِثُ وَحَامٌ وَوَلَدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ ثَلَاثَةٌ فَوَلَدُ سَامٍ الْعَرَبُ وَفَارِسُ وَالرُّومُ
وَوَلَدُ يَافِثَ التُّرْكُ وَالصَّقَالِبَةُ وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَوَلَدُ حَامٍ الْقِبْطُ وَالسُّودَانُ وَالْبَرْبَرُ وَرُوِيَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ نَحْوُ هَذَا
قَوْلُهُ (بِالتَّاءِ) أَيِ الْفَوْقِيَّةِ (وَالثَّاءِ) أَيِ الْمُثَلَّثَةِ وَبِكَسْرِ الْفَاءِ فِيهِمَا (وَيُقَالُ يَفَثُ) أَيْ بِحَذْفِ الْأَلِفِ وَبِالْمُثَلَّثَةِ قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حسن غريب) وأخرجه بن جريج وبن أبي(9/70)
حَاتِمٍ وَفِي سَمَاعِ الْحَسَنِ مِنْ سَمُرَةَ كَلَامٌ مَعْرُوفٌ
وَسَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ ضَعِيفٌ كَمَا عَرَفْتَ
[3231] قَوْلُهُ وَيَافِثُ أَبُو الرُّومِ الْمُرَادُ بِالرُّومِ هَا هُنَا هُمُ الرُّومُ الْأُوَلُ وَهُمُ الْيُونَانُ الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى رُومِيِّ بْنِ لَيْطِيِّ بْنِ يُونَانَ بْنِ نوح عليه السلام قاله بن كَثِيرٍ وَحَدِيثُ سَمُرَةَ هَذَا أَخْرَجَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ وأبو يعلى وبن الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ
9 - (بَاب وَمِنْ سُورَةِ ص)
مَكِّيَّةٌ وَهِيَ سِتٌّ أَوْ ثَمَانٍ وَثَمَانُونَ آيَةً [3232] قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ) هُوَ الزُّبَيْرِيُّ (عَنِ يَحْيَى) قَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ يَحْيَى بن عمارة ويقال بن عباد وقيل عبادة كوفي روى عن بن عَبَّاسٍ قِصَّةَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ وَعَنْهُ الْأَعْمَشُ ذكره بن حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ
قَالَ الْحَافِظُ وَجَزَمَ بِكَوْنِهِ يَحْيَى بْنَ عُمَارَةَ وَكَذَا الْبُخَارِيُّ وَيَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ
قَوْلُهُ (مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ فَجَاءَتْهُ قُرَيْشٌ وجاءه النبي) وفي رواية بن جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ لَمَّا مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِيهِمْ أَبُو جَهْلٍ فقالوا إن بن أَخِيكَ يَشْتُمُ آلِهَتَنَا وَيَفْعَلُ وَيَفْعَلُ وَيَقُولُ وَيَقُولُ فَلَوْ بَعَثْتَ إِلَيْهِ فَنَهَيْتَهُ فَبَعَثَ إِلَيْهِ فَجَاءَ النبي فَدَخَلَ الْبَيْتَ (مَجْلِسُ رَجُلٍ) أَيْ مَوْضِعُ جُلُوسِ رجل (كي يمنعه) أي النبي عن الجلوس فيه وفي رواية بن جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَبِي طَالِبٍ قَدْرُ مَجْلِسِ رَجُلٍ فَخَشِيَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ إِنْ جَلَسَ إِلَى جَنْبِ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَكُونَ أَرَقَّ لَهُ عَلَيْهِ فَوَثَبَ فَجَلَسَ فِي ذلك المجلس ولم يجد رسول الله مَجْلِسًا قُرْبَ عَمِّهِ فَجَلَسَ عِنْدَ الْبَابِ (وَشَكَوْهُ إِلَى أَبِي طَالِبٍ) أَيْ قَالُوا لَهُ إِنَّ بن أَخِيكَ يَشْتُمُ آلِهَتَنَا وَيَفْعَلُ وَيَفْعَلُ وَيَقُولُ(9/71)
ويقول كما في رواية بن جَرِيرٍ (فَقَالَ) أَيْ أَبُو طَالِبٍ لِرَسُولِ اللَّهِ (يا بن أَخِي مَا تُرِيدُ مِنْ قَوْمِكَ) وَفِي رِوَايَةِ بن جرير فقال له أبو طالب أي بن أَخِي مَا بَالُ قَوْمِكَ يَشْكُونَكَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّكَ تَشْتُمُ آلِهَتَهُمْ وَتَقُولُ وَتَقُولُ أُرِيدُ مِنْهُمْ كَلِمَةً تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ أَيْ تُطِيعُهُمْ وَتَخْضَعُ لَهُمُ الْعَرَبُ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمُ الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ أَيْ تُعْطِيهِمُ الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ بِسَبَبِ تِلْكَ الْكَلِمَةِ (قَالَ) أَيْ أَبُو طَالِبٍ كَلِمَةً وَاحِدَةً أَيْ تُرِيدُ كَلِمَةً وَاحِدَةً (قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ (كَلِمَةً وَاحِدَةً) أَيْ أُرِيدُ مِنْهُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً (فَقَالُوا إِلَهًا وَاحِدًا) أَيْ أَتَجْعَلُ الْآلِهَةَ إِلَهًا واحدا ما سمعنا بهذا أَيْ بِالَّذِي تَقُولُهُ مِنَ التَّوْحِيدِ فِي الْمِلَّةِ الآخرة وَهِيَ مِلَّةُ النَّصْرَانِيَّةِ فَإِنَّهَا آخِرُ الْمِلَلِ قَبْلَ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ كَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ وَالسُّدِّيُّ وَبِهِ قَالَ بن عَبَّاسٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ يَعْنُونَ بِهِ مِلَّةَ قُرَيْشٍ أَيِ الَّتِي أَدْرَكْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَعَنْ قَتَادَةَ مثله إن هذا أي ما هذا إلا اختلاق أَيْ كَذِبٌ اخْتَلَقَهُ مُحَمَّدٌ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذكر إِلَخْ الْآيَاتُ بِتَمَامِهَا مَعَ تَفْسِيرِهَا هَكَذَا ص اللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ بِهِ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ أَيْ وَالْقُرْآنِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَا فِيهِ ذِكْرٌ لِلْعِبَادِ وَنَفْعٌ لَهُمْ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي تذكيركم وقال بن عباس رضي الله عنهما ذي الذكر أَيْ ذِي الشَّرَفِ وَذِي الشَّأْنِ وَالْمَكَانَةِ
قَالَ بن كَثِيرٍ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فَإِنَّهُ كِتَابٌ شَرِيفٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّذْكِيرِ انْتَهَى
وَجَوَابُ هَذَا الْقَسَمِ مَحْذُوفٌ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ كُفَّارُ مَكَّةَ مِنْ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ بَلِ الَّذِينَ كفروا في عزة أي حمية وتكبر عن الإيمان وشقاق أي خلاف وعداوة للنبي كم أَيْ كَثِيرًا أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ أَيْ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فَنَادَوْا أَيْ بِالتَّوْحِيدِ حِينَ تَوَلَّتِ الدُّنْيَا عَنْهُمْ وَقِيلَ اسْتَغَاثُوا عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ وَحُلُولِ النِّقْمَةِ وَلَاتَ حِينَ مناص أَيْ لَيْسَ الْحِينُ حِينَ فِرَارٍ وَلَاتَ هِيَ لَا الْمُشَبَّهَةُ بِلَيْسَ زِيدَتْ عَلَيْهَا تَاءُ التَّأْنِيثِ كَمَا زِيدَتْ عَلَى رُبَّ وَثُمَّ لِلتَّوْكِيدِ وَتَغَيَّرَ بِذَلِكَ حُكْمُهَا حَيْثُ لَمْ تَدْخُلْ إِلَى عَلَى الْأَحْيَانِ وَلَمْ يَبْرُزْ إِلَّا أَحَدُ مُقْتَضَيَيْهَا إِمَّا الِاسْمُ أَوِ الْخَبَرُ وَامْتَنَعَ بُرُوزُهُمَا جَمِيعًا وَهَذَا مَذْهَبُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَعِنْدَ الْأَخْفَشِ أَنَّهَا لَا النَّافِيَةُ لِلْجِنْسِ زِيدَتْ عَلَيْهَا التَّاءُ وَخُصَّتْ بِنَفْيِ الْأَحْيَانِ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ نَادَوْا أَيِ اسْتَغَاثُوا وَالْحَالُ أَنْ لَا مَهْرَبَ لَهُمْ وَلَا منجا وعجبوا أن جاءهم منذر منهم أَيْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يُنْذِرُهُمْ وَيُخَوِّفُهُمْ بِالنَّارِ بعد البعث وهو النبي وقال الكافرون فِيهِ وَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ هَذَا سَاحِرٌ كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا(9/72)
أَيْ أَزَعَمَ أَنَّ الْمَعْبُودَ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ حَيْثُ قَالَ لَهُمْ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ أي عجيب وانطلق الملأ منهم أَيْ مِنْ مَجْلِسِ اجْتِمَاعِهِمْ عِنْدَ أَبِي طَالِبٍ وسماعهم من النبي قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَنِ امْشُوا أَيْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ امْشُوا وَامْضُوا عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ وَلَا تَدْخُلُوا فِي دِينِهِ واصبروا على آلهتكم أَيِ اثْبُتُوا عَلَى عِبَادَتِهَا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يراد أَيْ إِنَّ هَذَا الَّذِي يَدْعُونَا إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ مِنَ التَّوْحِيدِ لَشَيْءٌ يُرِيدُ بِهِ الشَّرَفَ عَلَيْكُمْ والاستعلاء وأن يكون له منكم ابتاع وَلَسْنَا نُجِيبُهُ إِلَيْهِ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق تَقَدَّمَ تَفْسِيرِهِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ وبن جرير وبن الْمُنْذِرِ
قَوْلُهُ (وَقَالَ) أَيِ الْأَعْمَشُ (يَحْيَى بْنُ عُمَارَةَ) يَحْيَى بْنُ عُمَارَةَ هَذَا هُوَ يَحْيَى بن عباد المذكور في الإسناد المتقدم قَوْلُهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ الظَّاهِرُ أَنَّ إِتْيَانَهُ تَعَالَى كَانَ فِي الْمَنَامِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الرَّاوِي أَحْسَبُهُ فِي الْمَنَامِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا حَدِيثُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ الْآتِي فَفِيهِ فَنَعَسْتُ فِي صَلَاتِي فَاسْتَثْقَلْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَبِّي تَبَارَكَ وتعالى في أحسن صورة
قال القارىء فِي الْمِرْقَاةِ إِذَا كَانَ هَذَا فِي الْمَنَامِ فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ إِذِ الرَّائِي قَدْ يَرَى غَيْرَ الْمُتَشَكِّلِ مُتَشَكِّلًا وَالْمُتَشَكِّلَ بِغَيْرِ شَكْلِهِ ثُمَّ لَمْ يُعَدَّ ذَلِكَ بِخَلَلٍ فِي الرُّؤْيَا وَلَا فِي خَلَدِ الرَّائِي بَلْ لَهُ أَسْبَابٌ أُخَرُ تُذْكَرُ فِي عِلْمِ الْمَنَامِ أَيِ التَّعْبِيرِ وَلَوْلَا تِلْكَ الْأَسْبَابُ لَمَا افْتَقَرَتْ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ إِلَى تَعْبِيرٍ وَإِنْ كَانَ فِي الْيَقَظَةِ وَعَلَيْهِ ظَاهِرُ مَا رَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَإِنَّ فِيهِ فَنَعَسْتُ فِي صَلَاتِي حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ
الْحَدِيثَ فَذَهَبَ السَّلَفُ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْحَدِيثِ إِذَا صَحَّ أَنْ يُؤْمَنَ بِظَاهِرِهِ وَلَا يُفَسَّرُ بِمَا يُفَسَّرُ بِهِ صِفَاتُ الْخَلْقِ بَلْ يُنْفَى عَنْهُ الْكَيْفِيَّةُ وَيُوَكَّلُ عِلْمُ بَاطِنِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُرِي رَسُولَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ وَرَاءِ أَسْتَارِ الْغَيْبِ بِمَا لَا سَبِيلَ لِعُقُولِنَا إِلَى إِدْرَاكِهِ لَكِنْ تُرْكُ التَّأْوِيلِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مَظِنَّةُ الْفِتْنَةِ فِي عَقَائِدِ النَّاسِ لِفُشُوِّ اعْتِقَادَاتِ الضَّلَالِ وَإِنْ تَأَوَّلَ بِمَا يُوَافِقُ الشَّرْعَ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِمَالِ لَا الْقَطْعِ حَتَّى لَا يُحْمَلَ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ شَرْعًا فَلَهُ وَجْهٌ فَقَوْلُهُ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ رَأَيْتُ رَبِّي حَالَ كَوْنِي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ وَصِفَةٍ مِنْ غَايَةِ إِنْعَامِهِ وَلُطْفِهِ عَلَيَّ
أَوْ حَالَ كَوْنِ(9/73)
الرَّبِّ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ وَصُورَةُ الشَّيْءِ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ سَوَاءً كَانَ عَيْنَ ذاته أو جزءه الْمُمَيِّزَ لَهُ عَنْ غَيْرِهِ أَوْ صِفَتَهُ الْمُمَيِّزَةَ وَكَمَا يُطْلَقُ ذَلِكَ فِي الْجُثَّةِ يُطْلَقُ فِي الْمَعَانِي يُقَالُ فِي صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ كَذَا وَصُورَةِ الْحَالِ كَذَا فَصُورَتُهُ تَعَالَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ ذَاتُهُ الْمَخْصُوصَةُ الْمُنَزَّهَةُ عَنْ مُمَاثَلَةِ مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْبَالِغَةِ إِلَى أَقْصَى مَرَاتِبِ الْكَمَالِ أَوْ صِفَتُهُ الْمَخْصُوصَةُ بِهِ أَيْ كَانَ رَبِّي أَحْسَنَ إِكْرَامًا وَلُطْفًا مِنْ وَقْتٍ آخَرَ كَذَا نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ وَالتُّورِبِشْتِيُّ انْتَهَى مَا فِي الْمِرْقَاةِ
قُلْتُ الظَّاهِرُ الرَّاجِحُ أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَنَامِ فَإِنَّ رِوَايَةَ التِّرْمِذِيِّ الْآتِيَةَ أَرْجَحُ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَدَ
قال بن حَجَرٍ الْمَكِّيُّ وَالظَّاهِرُ أَنَّ رِوَايَةَ حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ تَصْحِيفٌ فَإِنَّ الْمَحْفُوظَ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ حتى استثقلت انتهى
وقال الحافظ بن كَثِيرٍ بَعْدَ نَقْلِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَهُوَ حَدِيثُ الْمَنَامِ الْمَشْهُورُ وَمَنْ جَعَلَهُ يَقَظَةً فَقَدْ غَلِطَ انْتَهَى
وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ ذَلِكَ فِي الْيَقَظَةِ فَمَذْهَبُ السَّلَفِ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ إِمْرَارُهُ كَمَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَالْإِيمَانُ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ لَهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ وَعَنْ أَمْثَالِهِ مَعَ الِاعْتِقَادِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البصير وَمَذْهَبُ السَّلَفِ هَذَا هُوَ الْمُتَعَيَّنُ وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ تَرْكَ التَّأْوِيلِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مَظِنَّةُ الْفِتْنَةِ فِي عَقَائِدِ النَّاسِ لِفُشُوِّ اعْتِقَادَاتِ الضَّلَالِ فَمِمَّا لَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِ فِيمَ أَيْ فِي أَيْ شَيْءٍ يَخْتَصِمُ أَيْ يَبْحَثُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى أَيِ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ والملأ هم الأشراف الذين يملأون الْمَجَالِسَ وَالصُّدُورَ عَظَمَةً وَإِجْلَالًا وَوُصِفُوا بِالْأَعْلَى إِمَّا لِعُلُوِّ مَكَانِهِمْ وَإِمَّا لِعُلُوِّ مَكَانَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى
وَاخْتِصَامُهُمْ إِمَّا عِبَارَةٌ عَنْ تَبَادُرِهِمْ إِلَى إِثْبَاتِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ وَالصُّعُودِ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ وَإِمَّا عَنْ تَقَاوُلِهِمْ فِي فَضْلِهَا وَشَرَفِهَا وَإِمَّا عَنِ اغْتِبَاطِهِمُ النَّاسَ بِتِلْكَ الْفَضَائِلِ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِهَا وَتَفَضُّلِهِمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ بِسَبَبِهَا مَعَ تَهَافُتِهِمْ فِي الشَّهَوَاتِ وَإِنَّمَا سَمَّاهُ مُخَاصَمَةً لِأَنَّهُ وَرَدَ مَوْرِدَ سُؤَالٍ وَجَوَابٍ وَذَلِكَ يُشْبِهُ الْمُخَاصَمَةَ وَالْمُنَاظَرَةَ فَلِهَذَا السَّبَبِ حَسُنَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْمُخَاصَمَةِ عَلَيْهِ (قَالَ) أي النبي فَوَضَعَ أَيْ رَبِّي يَدَهُ أَيْ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَخْصِيصِهِ إِيَّاهُ بِمَزِيدِ الْفَضْلِ عَلَيْهِ وَإِيصَالِ الْفَيْضِ إِلَيْهِ فَإِنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُتَلَطِّفِ بِمَنْ يَحْنُو عَلَيْهِ أَنْ يَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ تَنْبِيهًا عَلَى أنه يريد بذلك تكريمه وتأييده قاله القارىء قُلْتُ قَدْ عَرَفْتَ مَذْهَبَ السَّلَفِ فِي مِثْلِ هَذَا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ بِالتَّثْنِيَةِ وَالْإِضَافَةِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ أَيْ قَلْبِي أَوْ صَدْرِي (أَوْ قَالَ فِي نَحْرِي) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي نعم الْكَفَّارَاتِ أَيْ يَخْتَصِمُونَ فِي(9/74)
الْكَفَّارَاتِ وَالْكَفَّارَاتُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ الْمُكْثُ فِي الْمَسْجِدِ إِلَخْ وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ الْكَفَّارَاتِ لِأَنَّهَا تُكَفِّرُ الذُّنُوبَ عَنْ فَاعِلِهَا فَهِيَ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ لَازِمِهِ الْمُكْثُ فِي الْقَامُوسِ الْمُكْثُ مُثَلَّثًا وَيُحَرَّكُ أَيِ اللُّبْثُ (فِي الْمَسْجِدِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي الْمَسَاجِدِ وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ أَيْ إكماله في المكاره أي في شدة الْبَرْدِ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاشَ بِخَيْرٍ وَمَاتَ بِخَيْرٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يعملون وَكَانَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ أَيْ فِيهِ بِفَتْحِ يَوْمَ قَالَ الطِّيبِيُّ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْمَاضِي وَإِذَا أُضِيفَ إِلَى الْمُضَارِعِ اخْتُلِفَ فِي بِنَائِهِ أَيْ كَانَ مُبَرَّأً كَمَا كَانَ مُبَرَّأً يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ إِذَا صَلَّيْتَ أَيْ فَرَغْتَ مِنَ الصَّلَاةِ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَقِيلَ بِفَتْحِهَا وَقِيلَ الْأَوَّلُ اسْمٌ وَالثَّانِي مَصْدَرٌ وَالْخَيْرَاتُ مَا عُرِفَ مِنَ الشَّرْعِ مِنَ الْأَقْوَالِ الْحَمِيدَةِ وَالْأَفْعَالِ السَّعِيدَةِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ هِيَ الَّتِي لَمْ تُعْرَفْ مِنَ الشَّرْعِ مِنَ الْأَقْوَالِ الْقَبِيحَةِ وَالْأَفْعَالِ السَّيِّئَةِ وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً أَيْ ضَلَالَةً أَوْ عُقُوبَةً دُنْيَوِيَّةً فَاقْبِضْنِي بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ تَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ أَيْ غَيْرَ مُنَالٍ أَوْ غَيْرَ مُعَاقَبٍ (قَالَ) أَيِ النبي وَالدَّرَجَاتُ مُبْتَدَأٌ أَيْ مَا تُرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتُ إِفْشَاءُ السَّلَامِ أَيْ بَذْلُهُ عَلَى مَنْ عَرَفَهُ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ وَإِنَّمَا عُدَّتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنَ الدَّرَجَاتِ لِأَنَّهَا فَضْلٌ مِنْهُ عَلَى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَلَا جَرَمَ اسْتَحَقَّ بِهَا فَضْلًا وهو علو الدَّرَجَاتِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ جَمْعُ نَائِمٍ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ
[3234] قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي أَبِي) هُوَ هِشَامُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّسْتَوَائِيُّ (عَنْ خَالِدِ بْنِ اللَّجْلَاجِ) الْعَامِرِيِّ وَيُقَالُ مَوْلَى بَنِي زُهْرَةَ كُنْيَتُهُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْحِمْصِيُّ وَيُقَالُ الدِّمَشْقِيُّ صَدُوقٌ فَقِيهٌ مِنَ الثانية
قوله(9/75)
فَقُلْتُ لَبَّيْكَ مِنَ التَّلْبِيَةِ وَهِيَ إِجَابَةُ الْمُنَادِي أَيْ إِجَابَتِي لَكَ يَا رَبِّ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ لَبَّ بِالْمَكَانِ وَأَلَبَّ إِذَا أَقَامَ بِهِ وَأَلَبَّ عَلَى كَذَا لَمْ يُفَارِقْهُ وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ إِلَّا عَلَى لَفْظِ التَّثْنِيَةِ فِي مَعْنَى التَّكْرِيرِ أَيْ إِجَابَةً بَعْدَ إِجَابَةٍ وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ بِعَامِلٍ لَا يَظْهَرُ كَأَنَّكَ قُلْتَ أُلِبُّ إِلْبَابًا بَعْدَ إِلْبَابٍ وَالتَّلْبِيَةُ مِنْ لَبَّيْكَ كَالتَّهْلِيلِ مِنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبِّي بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ وَسَعْدَيْكَ أَيْ سَاعَدْتُ طَاعَتَكَ مُسَاعَدَةً بعد مساعدة وإسعادا بعد إسعاد ولهذا حدثني وَهُوَ مِنَ الْمَصَادِرِ الْمَنْصُوبَةِ بِفِعْلٍ لَا يَظْهَرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ
قَالَ الْجَرْمِيُّ لَمْ يُسْمَعْ سَعْدَيْكَ مُفْرَدًا رَبِّ بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ وَيَاءِ الْإِضَافَةِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَائِشٍ) أَمَّا حَدِيثُ مُعَاذٍ فَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ هَذَا وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَائِشٍ فَأَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ وَالْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ
[3235] قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ إِلَخْ) لَمْ يَقَعْ هَذَا الْحَدِيثُ فِي بَعْضِ نُسَخِ التِّرْمِذِيِّ (حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هَانِئٍ أَبُو هَانِئٍ السُّكَّرِيُّ) الْقَيْسِيُّ وَيُقَالُ الْعَيْشِيُّ وَيُقَالُ الْيَشْكُرِيُّ وَيُقَالُ الْبَهْرَانِيُّ الْبَصْرِيُّ ثِقَةٌ مِنْ كِبَارِ الْعَاشِرَةِ (حَدَّثَنَا جَهْضَمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بْنِ أَبِي الطُّفَيْلِ الْقَيْسِيُّ مَوْلَاهُمُ الْيَمَانِيُّ وَأَصْلُهُ مِنْ خُرَاسَانَ صَدُوقٌ يُكْثِرُ عَنِ الْمَجَاهِيلِ مِنَ الثَّامِنَةِ (عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ) بْنِ أَبِي سَلَّامٍ مَمْطُورٍ(9/76)
الْحَبَشِيِّ (عَنْ أَبِي سَلَّامٍ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ اسْمُهُ مَمْطُورٌ الْأَسْوَدُ الْحَبَشِيُّ (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عائش) بتحتانية ومعجمة (الحضرمي) أو لسكسكي يُقَالُ لَهُ صُحْبَةٌ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ مَنْ قال في روايته سمعت النبي فَقَدْ أَخْطَأَ
قَوْلُهُ (احْتَبَسَ) بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ وَرُوِيَ مَجْهُولًا (ذَاتَ غَدَاةٍ) لَفْظُ ذَاتَ مُقْحَمَةٌ أَيْ غَدَاةً (مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ) كَذَا فِي النُّسَخِ الْمَوْجُودَةِ وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَفِي الْمِشْكَاةِ عَنْ صلاة الصبح بلفظ عن
قال القارىء بَدَلُ اشْتِمَالٍ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ (حَتَّى كِدْنَا) أَيْ قَارَبْنَا (نَتَرَاءَى) أَيْ نَرَى وَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ كَثْرَةِ الِاعْتِنَاءِ بِالْفِعْلِ وَسَبَبُ تِلْكَ الْكَثْرَةِ خَوْفُ طُلُوعِهَا الْمُفَوِّتِ لِأَدَاءِ الصُّبْحِ (خَرَجَ سَرِيعًا) أَيْ مُسْرِعًا أَوْ خُرُوجًا سَرِيعًا (فَثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ) مِنَ التَّثْوِيبِ أَيْ أُقِيمَ بِهَا (وَتَجَوَّزَ فِي صَلَاتِهِ) أَيْ خَفَّفَ فِيهَا وَاقْتَصَرَ عَلَى خِلَافِ عَادَتِهِ (دَعَا) أَيْ نَادَى عَلَى مَصَافِّكُمْ أَيِ اثْبُتُوا عَلَيْهَا جَمْعُ مَصَفٍّ وَهُوَ مَوْضِعُ الصَّفِّ كَمَا أَنْتُمْ أَيْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَوْ ثُبُوتًا مِثْلَ الثُّبُوتِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ قَبْلَ النِّدَاءِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ وَتَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ (ثُمَّ انْفَتَلَ إِلَيْنَا) أَيْ تَوَجَّهَ إِلَيْنَا وَأَقْبَلَ عَلَيْنَا أَمَا بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ مَا حَبَسَنِي مَا مَوْصُولَةٌ فَنَعَسْتُ مِنَ النُّعَاسِ وَهُوَ النَّوْمُ الْخَفِيفُ مِنْ بَابِ نَصَرَ وَفَتَحَ فَاسْتَثْقَلْتُ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ أَوِ الْمَجْهُولِ أَيْ غَلَبَ عَلَيَّ النُّعَاسُ (فَإِذَا) لِلْمُفَاجَأَةِ قَالَهَا ثَلَاثًا أَيْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْمَقُولَةَ ثَلَاثًا فَتَجَلَّى لِي أَيْ ظَهَرَ وَانْكَشَفَ لِي(9/77)
وَأَسَأَلُكَ حُبَّكَ قَالَ الطِّيبِيُّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَسْأَلُكَ حُبَّكَ إِيَّايَ أَوْ حُبِّي إِيَّاكَ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُهُ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ إِنَّهَا أَيْ هَذِهِ الرُّؤْيَا حَقٌّ إِذْ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ فَادْرُسُوهَا أَيْ فَاحْفَظُوا أَلْفَاظَهَا الَّتِي ذَكَرْتُهَا لَكُمْ فِي ضِمْنِهَا أَوْ أَنَّ هَذِهِ الروايات حق فادرسوها أي اقرأوها ثُمَّ تَعَلَّمُوهَا أَيْ مَعَانِيَهَا الدَّالَّةَ هِيَ عَلَيْهَا قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ لِتَعَلَّمُوهَا فَحَذَفَ اللَّامَ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وبن مَرْدَوَيْهِ
قَوْلُهُ (وَهَذَا غَيْرُ مَحْفُوظٍ) أَيْ كَوْنُهُ من مسند عبد الرحمن بن عايش غَيْرَ مَحْفُوظٍ وَالْمَحْفُوظُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عايش عَنْ مَالِكِ بْنِ يُخَامِرَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ (وَرَوَى بِشْرُ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ (بْنُ بَكْرٍ) التِّنِّيسِيُّ الْبَجْلِيُّ دِمَشْقِيُّ الْأَصْلِ ثِقَةٌ يُغْرِبُ مِنَ التَّاسِعَةِ (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عائش عن النبي) أَيْ بِغَيْرِ لَفْظِ سَمِعْتُ (وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عايش لم يسمع من النبي) قَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ فِي تَرْجَمَتِهِ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ فِي إِسْنَادِ حَدِيثِهِ للتصريح بسماعه من النبي ولكن قال بن خُزَيْمَةَ قَوْلُ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَائِشٍ سَمِعْتُ النبي وَهْمٌ لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ النبي
تنبيه إعلم أن الترمذي أورد حديث بن عباس وحديث معاذ بن جبل المذكورين ها هنا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مَا كَانَ لِيَ من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون لَكِنَّ الِاخْتِصَامَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ الاختصام المذكور في الحديثين المذكورين
قال بن كَثِيرٍ وَلَيْسَ هَذَا الِاخْتِصَامُ (يَعْنِي الْمَذْكُورَ فِي حديث معاذ بن جبل وحديث بن عَبَّاسٍ) هُوَ الِاخْتِصَامَ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّ هَذَا قَدْ فُسِّرَ وَأَمَّا الِاخْتِصَامُ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ فَقَدْ فُسِّرَ بَعْدَ هَذَا وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بشرا من طين) إلخ
0 - (باب ومن سُورَةُ الزُّمَرِ)
مَكِّيَّةٌ إِلَّا قُلْ يَا عِبَادِيَ الذين أسرفوا على(9/78)
أنفسهم الْآيَةَ فَمَدَنِيَّةٌ وَهِيَ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ آيَةً [3236] قَوْلُهُ (عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ) كُنْيَتُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ أَوْ أَبُو بَكْرٍ الْمَدَنِيُّ ثِقَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ
قَوْلُهُ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فِيمَا بَيْنَكُمْ مِنَ الْمَظَالِمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عند ربكم تختصمون قبله إنك ميت وإنهم ميتون قال الحافظ بن كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ
إِنَّكُمْ سَتُنْقَلُونَ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ لَا مَحَالَةَ وَسَتَجْتَمِعُونَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَتَخْتَصِمُونَ فِيمَا أَنْتُمْ فِيهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَيَفْتَحُ بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ فَيُنَجِّي الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ الْمُوَحِّدِينَ وَيُعَذِّبُ الْكَافِرِينَ الْجَاحِدِينَ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَإِنْ كَانَ سِيَاقُهَا فِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَذِكْرِ الْخُصُومَةِ بَيْنَهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَإِنَّهَا شَامِلَةٌ لِكُلِّ مُتَنَازِعَيْنِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ تُعَادُ عَلَيْهِمُ الْخُصُومَةُ فِي الدار الاخرة
قلت الأمر كما قال بن كَثِيرٍ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ الزُّبَيْرِ هَذَا وَأَحَادِيثُ أُخْرَى ذكرها بن كَثِيرٍ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَقِيلَ يَعْنِي الْمُحِقَّ وَالْمُبْطِلَ وَقِيلَ تُخَاصِمُهُمْ يَا مُحَمَّدُ وَتَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَهُمْ وَأَنْذَرْتَهُمْ وَهُمْ يُخَاصِمُونَكَ أَوْ يُخَاصِمُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ وَالظَّالِمُ الْمَظْلُومَ (أَتُكَرَّرُ) بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الْمَجْهُولِ مِنَ التَّكْرِيرِ (عَلَيْنَا الْخُصُومَةُ) أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّنَا
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وبن ماجه وبن أبي حاتم
[3237] قوله (عن ثابت) هو بن أسلم البناني(9/79)
يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم أَيْ أَفْرَطُوا عَلَيْهَا وَتَجَاوَزُوا الْحَدَّ فِي كُلِّ فعل مذموم لا تقنطوا بِفَتْحِ النُّونِ وَبِكَسْرِهَا أَيْ لَا تَيْأَسُوا مِنْ رحمة الله أَيْ مِنْ مَغْفِرَتِهِ إِنَّ اللَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جميعا قال الحافظ بن كَثِيرٍ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ دَعْوَةٌ لِجَمِيعِ الْعُصَاةِ مِنَ الْكَفَرَةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ وَإِخْبَارٌ بِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا لِمَنْ تَابَ مِنْهَا وَرَجَعَ عَنْهَا
وَإِنْ كَانَتْ مَهْمَا كَانَتْ وَإِنْ كَثُرَتْ وَكَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ وَلَا يَصِحُّ حَمْلُ هَذِهِ عَلَى غَيْرِ تَوْبَةٍ لِأَنَّ الشِّرْكَ لَا يُغْفَرُ لِمَنْ لَمْ يتب منه
ثم ذكر حديث بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا وَأَكْثَرُوا وَزَنَوْا وأكثروا فأتوا محمدا فقالوا إن الذي تقول وتدعو إليه محسن لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً فَنَزَلَ والذين لا يدعون مع الله إلها وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بالحق ولا يزنون وَنَزَلَ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تقنطوا من رحمة الله أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ أَحَادِيثَ أُخْرَى مَا لَفْظُهُ فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يَغْفِرُ جَمِيعَ ذَلِكَ مَعَ التَّوْبَةِ
وَلَا يَقْنَطَنَّ عَبْدٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَإِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبُهُ وَكَثُرَتْ فَإِنَّ بَابَ الرَّحْمَةِ وَالتَّوْبَةِ وَاسِعٌ انْتَهَى
وَقَالَ صَاحِبُ فَتْحِ الْبَيَانِ نَقْلًا عَنِ الْقَاضِي الشَّوْكَانِيِّ وَالْحَقُّ أَنَّ الْآيَةَ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِالتَّوْبَةِ بَلْ هِيَ عَلَى إِطْلَاقِهَا قَالَ وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يشاء هُوَ أَنَّ كُلَّ ذَنْبٍ كَائِنًا مَا كَانَ ما عدا الشِّرْكَ بِاللَّهِ مَغْفُورٌ لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ إِخْبَارَهُ لَنَا بِأَنَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَشَاءُ غُفْرَانَهَا جَمِيعًا وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ يَشَاءُ الْمَغْفِرَةَ لِكُلِّ الْمُذْنِبِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَبْقَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ تَعَارُضٌ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ انْتَهَى
قُلْتُ كُلٌّ مُحْتَمَلٌ وَمَا قال بن كَثِيرٍ هُوَ الظَّاهِرُ عِنْدِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَلَا يُبَالِي أَيْ مِنْ أَحَدٍ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَلَا يُبَالِي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
وَالظَّاهِرُ مِنْ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ قَوْلَهُ وَلَا يُبَالِي كَانَ مِنَ الْقُرْآنِ وَلِذَا قَالَ صَاحِبُ الْمَدَارِكِ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي قِرَاءَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ولا يبالي وقال القارىء وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْآيَةِ فَنُسِخَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ زِيَادَةً مِنْ عِنْدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَالتَّفْسِيرِ لِلْآيَةِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ(9/80)
حسن غريب) وأخرجه أحمد وبن الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمُ (لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ ثَابِتٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ) وَشَهْرٌ هَذَا صَدُوقٌ كَثِيرُ الْإِرْسَالِ وَالْأَوْهَامِ
قَوْلُهُ (عَنْ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ النَّخَعِيُّ (عَنْ عَبِيدَةَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الموحدة بن عمر والسلواني (عن عبد الله) هو بن مَسْعُودٍ
قَوْلُهُ (جَاءَ يَهُودِيٌّ) وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ جَاءَ حَبْرٌ (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ) أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (وَالْخَلَائِقَ) أَيْ مَنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ وَفِي رِوَايَةٍ وَسَائِرَ الْخَلْقِ (حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ) جَمْعُ نَاجِذٍ بِنُونٍ وَجِيمٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ ذَالٍ مُعْجَمَةٍ وَهُوَ مَا يَظْهَرُ عِنْدَ الضَّحِكِ مِنَ الْأَسْنَانِ وَقِيلَ هِيَ الْأَنْيَابُ وَقِيلَ الْأَضْرَاسُ وَقِيلَ الدَّوَاخِلُ مِنَ الْأَضْرَاسِ الَّتِي فِي أَقْصَى الْحَلْقِ
وَفِي الرِّوَايَةِ الاتية فضحك النبي تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ فَضَحِكَ رَسُولُ الله تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا لَهُ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ تَعَجُّبًا مِمَّا قَالَ الْحَبْرُ تَصْدِيقًا لَهُ وَفِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ عِنْدَهُ وَتَصْدِيقًا لَهُ بِزِيَادَةِ وَاوٍ
قَالَ النووي ظاهر الحديث أن النبي صَدَّقَ الْحَبْرَ فِي قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْبِضُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرِضِينَ وَالْمَخْلُوقَاتِ بِالْأَصَابِعِ ثُمَّ قَرَأَ الْآيَةَ الَّتِي فِيهَا الْإِشَارَةُ إِلَى نَحْوِ مَا يَقُولُ
قَالَ الْقَاضِي وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ لَيْسَ ضحكة وَتَعَجُّبُهُ وَتِلَاوَتُهُ الْآيَةَ تَصْدِيقًا لِلْحَبْرِ بَلْ هُوَ رَدٌّ لِقَوْلِهِ وَإِنْكَارٌ وَتَعَجُّبٌ مِنْ سُوءِ اعْتِقَادِهِ فَإِنَّ مَذْهَبَ الْيَهُودِ التَّجْسِيمُ فَفُهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ تَصْدِيقًا لَهُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي عَلَى مَا فَهِمَ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ انْتَهَى
وَقَالَ التَّمِيمِيُّ تَكَلَّفَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ وَأَتَى فِي مَعْنَاهُ مَا لَمْ يَأْتِ بِهِ السَّلَفُ وَالصَّحَابَةُ كَانُوا أَعْلَمَ بِمَا رَوَوْهُ وَقَالُوا إِنَّهُ ضَحِكَ تَصْدِيقًا لَهُ وَثَبَتَ فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا وَهُوَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أصابع الرحمن انتهى وقد اشتد إنكار بن خُزَيْمَةَ عَلَى مَنِ ادَّعَى أَنَّ الضَّحِكَ الْمَذْكُورَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ
فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ مِنْ صَحِيحِهِ بِطَرِيقِهِ قَدْ أَجَلَّ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَنْ أَنْ يُوصَفَ رَبُّهُ بِحَضْرَتِهِ بِمَا لَيْسَ هُوَ مِنْ صِفَاتِهِ فَيَجْعَلُ بَدَلَ الْإِنْكَارِ وَالْغَضَبِ عَلَى الْوَاصِفِ ضَحِكًا بَلْ لَا يُوَصِّفُ النَّبِيَّ بِهَذَا الْوَصْفِ مَنْ يُؤْمِنُ بِنُبُوَّتِهِ انْتَهَى
قُلْتُ قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّ الضَّحِكَ الْمَذْكُورَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ لَا شَكَّ عِنْدِي أَنَّهُ يستأهل(9/81)
أَنْ يُنْكَرَ عَلَيْهِ أَشَدُّ الْإِنْكَارِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ قَالَ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي التَّيْسِيرِ ثم قرأ رسول الله وما قدروا الله حق قدره أَيْ مَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ أَوْ مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ حِينَ أَشْرَكُوا بِهِ غَيْرَهُ
قَالَ النَّوَوِيُّ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَفِيهَا مَذْهَبَانِ التَّأْوِيلُ وَالْإِمْسَاكُ عَنْهُ مَعَ الْإِيمَانِ بِهَا مَعَ اعْتِقَادٍ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْهَا غَيْرُ مُرَادٍ فَعَلَى قَوْلِ الْمُتَأَوِّلِينَ يَتَأَوَّلُونَ الْأَصَابِعَ هُنَا عَلَى الِاقْتِدَارِ أَيْ خَلْقِهَا مَعَ عِظَمِهَا بِلَا تَعَبٍ وَلَا مَلَلٍ وَالنَّاسُ يَذْكُرُونَ الْأُصْبُعَ فِي مِثْلِ هَذَا لِلْمُبَالَغَةِ وَالِاحْتِقَارِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ بِأُصْبُعِي أقتل زيدا أي لأكلفه عَلَيَّ فِي قَتْلِهِ وَقِيلَ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ أَصَابِعُ بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ وَهَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ يَدَ الْجَارِحَةِ مُسْتَحِيلَةٌ انْتَهَى
قُلْتُ الْإِمْسَاكُ عَنِ التَّأْوِيلِ وَإِمْرَارُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَحْرِيفٍ هُوَ مَذْهَبُ السلف
قال القارىء فِي الْمِرْقَاةِ هُوَ أَسْلَمُ
قُلْتُ بَلْ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَصَحَّحَهُ النَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ
[3240] قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ) بْنِ الْحَجَّاجِ الْأَسَدِيُّ أَبُو جَعْفَرٍ الْكُوفِيُّ الْأَصَمُّ ثِقَةٌ مِنْ كِبَارِ الْعَاشِرَةِ أَخْبَرَنَا (أَبُو كُدَيْنَةَ) بِكَافٍ وَدَالٍ مُهْمَلَةٍ وَنُونٍ مُصَغَّرًا اسْمُهُ يَحْيَى بْنُ الْمُهَلَّبِ الْبَجَلِيُّ الْكُوفِيُّ صَدُوقٌ مِنَ السَّابِعَةِ (عَنْ أَبِي الضُّحَى) اسْمُهُ مُسْلِمُ بْنُ صُبَيْحٍ بِالتَّصْغِيرِ
قَوْلُهُ (إِذَا وَضَعَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ عَلَى ذِهْ) وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ يَوْمَ يَجْعَلُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى السَّمَاءَ عَلَى ذِهْ وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ (وَأَشَارَ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ أَبُو جَعْفَرٍ بِخِنْصَرِهِ أَوَّلًا ثُمَّ تَابَعَ حَتَّى بَلَغَ الْإِبْهَامَ) قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ بَعْدَ نَقْلِ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ مَا لَفْظُهُ وَوَقَعَ فِي مُرْسَلِ مَسْرُوقٍ عِنْدَ الْهَرَوِيِّ مَرْفُوعًا(9/82)
نَحْوُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ (عَنِ الْحَسَنِ بْنِ شُجَاعِ) بْنِ رَجَاءٍ الْبَلْخِيِّ كُنْيَتُهُ أَبُو عَلِيٍّ أَحَدُ الْحُفَّاظِ مِنَ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ
[3243] قَوْلُهُ (عَنْ مطرف) هو بن طريف
قوله (قال رسول الله كَيْفَ أَنْعَمُ) أَيْ أَفْرَحُ وَأَتَنَعَّمُ وَحَنَى جَبْهَتَهُ أَيْ أَمَالَهَا وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّوَجُّهِ لِإِصْغَاءِ السَّمْعِ وَإِلْقَاءِ الْأُذُنِ وَأَصْغَى سَمْعَهُ أَيْ أَمَالَ أُذُنَهُ لِيَسْمَعَ أَمْرَ اللَّهِ وَإِذْنَهُ بِالنَّفْخِ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ شَرْحِهِ فِي بَابِ الصُّورِ مِنْ أَبْوَابِ صِفَةِ الْقِيَامَةِ
[3244] قوله (أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم) هو بن عُلَيَّةَ
قَوْلُهُ (قَالَ أَعْرَابِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الصُّورُ إِلَخْ) قَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا مَعَ شَرْحِهِ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ وَأَوْرَدَ الترمذي هذا الحديث والذي قبله ها هنا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا من شاء الله إلخ
قوله (أخبرنا مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو) بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيُّ (أَخْبَرَنَا أَبُو سَلَمَةَ) هو بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ
قَوْلُهُ (قَالَ يَهُودِيٌّ فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ لَا وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى(9/83)
الْبَشَرِ) وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ وَكَذَا لِمُسْلِمٍ بَيْنَمَا يَهُودِيٌّ يَعْرِضُ سِلْعَتَهُ أُعْطِيَ بِهَا شَيْئًا كَرِهَهُ فَقَالَ لَا وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ وفي رواية لهما استب وجل مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ الْمُسْلِمُ والذي اصطفى موسى عَلَى الْعَالَمِينَ لِقَسَمٍ يُقْسِمُ بِهِ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ (فَصَكَّ بِهَا وَجْهَهُ) أَيْ لَطَمَ وَجْهَ الْيَهُودِيِّ قَالَ الْحَافِظُ وَإِنَّمَا صَنَعَ ذَلِكَ لِمَا فَهِمَهُ مِنْ عُمُومِ لفظ العالمين فدخل فيه محمد وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ الْمُسْلِمِ أَنَّ مُحَمَّدًا أَفْضَلُ فَلَطَمَ الْيَهُودِيَّ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى كَذِبِهِ (فَقَالَ رسول الله) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى رسول الله
فَقَالَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِنَّ لِي ذِمَّةً وَعَهْدًا فَمَا بَالُ فُلَانٍ لَطَمَ وَجْهِي فَقَالَ لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ
وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سعد فدعا النبي الْمُسْلِمَ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَهُ وَنُفِخَ فِي الصور أَيِ النَّفْخَةُ الْأُولَى فَصَعِقَ أَيْ مَاتَ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أَيْ فِي الصُّورِ أُخْرَى أَيْ مَرَّةً أُخْرَى وَهِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ فَإِذَا هُمْ أَيْ جَمِيعُ الْخَلَائِقِ الْمَوْتَى قِيَامٌ أَيْ مِنْ قُبُورِهِمْ يَنْظُرُونَ أَيْ يَنْتَظِرُونَ مَا يُفْعَلُ بِهِمْ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ وَفِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ وَفِي لَفْظٍ أَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ فَلَا أَدْرِي أَرَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلِي أَمْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ وَفِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ فَلَا أَدْرِي وَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ
قَالَ الْحَافِظُ أَيْ فَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ صَعِقَ أَيْ فَإِنْ كَانَ أَفَاقَ قَبْلِي فَهِيَ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ وَإِنْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ فَلَمْ يُصْعَقْ فَهِيَ فَضِيلَةٌ أَيْضًا
وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فَلَا أَدْرِي كَانَ فِيمَنْ صَعِقَ أَيْ فَأَفَاقَ قَبْلِي أَمْ حُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ الْأُولَى الَّتِي صُعِقَهَا لَمَّا سَأَلَ الرُّؤْيَةَ وبين ذلك بن الْفَضْلِ فِي رِوَايَتِهِ بِلَفْظِ أَحُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ يَوْمَ الطُّورِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَوْ كَانَ ممن استثنى الله أن في رواية بن الْفَضْلِ وَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بَيَانَ السَّبَبِ فِي اسْتِثْنَائِهِ وَهُوَ أَنَّهُ حُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ يَوْمَ الطُّورِ فَلَمْ يُكَلَّفْ بِصَعْقَةٍ أُخْرَى وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ قَوْلُهُ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْقَاضِي هَذَا مِنْ أَشْكَلِ الْأَحَادِيثِ لِأَنَّ مُوسَى قَدْ مَاتَ فَكَيْفَ تُدْرِكُهُ الصَّعْقَةُ وَإِنَّمَا تَصْعَقُ الْأَحْيَاءَ وَقَوْلُهُ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حَيًّا وَلَمْ يَأْتِ أَنَّ مُوسَى رَجَعَ إِلَى الْحَيَاةِ وَلَا أَنَّهُ حَيٌّ كَمَا جَاءَ فِي عِيسَى وَقَدْ قال لَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ
قَالَ الْقَاضِي فَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذِهِ الصَّعْقَةَ صَعْقَةُ فَزَعٍ بَعْدَ الْبَعْثِ حِينَ تَنْشَقُّ(9/84)
السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ فَتَنْتَظِمُ حِينَئِذٍ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ وَيُؤَيِّدُهُ قوله فَأَفَاقَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَفَاقَ مِنَ الْغَشْيِ وَأَمَّا الْمَوْتُ فَيُقَالُ بُعِثَ مِنْهُ وَصَعْقَةُ الطُّورِ لَمْ تكن موتا وأما قوله فلا أدري أفاق قبلي فيحتمل أنه قَالَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ إِنْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ على ظاهره وأن نبينا أول شخص من تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ عَلَى الْإِطْلَاقِ
قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مِنَ الزُّمْرَةِ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُمُ الْأَرْضُ فَيَكُونُ مُوسَى مِنْ تِلْكَ الزُّمْرَةِ وَهِيَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ زمرة الأنبياء وصلوات الله وسلامه عليهم إنتهى
قلت ها هنا أَبْحَاثٌ وَأَنْظَارٌ ذَكَرَهَا الْحَافِظُ وَغَيْرُهُ مِنْ شُرَّاحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَمَنْ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ مَقْصُورًا وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَّ متى اسم أمه وهو مردود بحديث بن عباس عند البخاري ومسلم عن النبي قَالَ مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى وَنَسَبُهُ إِلَى أَبِيهِ فَقَوْلُهُ وَنَسَبُهُ إِلَى أَبِيهِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَتَّى أَبُوهُ لَا أُمُّهُ فَقَدْ كَذَبَ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي مَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ وَإِنَّمَا التَّفَاضُلُ بِاعْتِبَارِ الدَّرَجَاتِ فَلَفْظُ أَنَا وَاقِعٌ
موقع هو ويكون راجعا إلى النبي وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ نَفْسَ الْقَائِلِ فَحِينَئِذٍ كَذَبَ بِمَعْنَى كَفَرَ كَنَى بِهِ عَنِ الْكُفْرِ لِأَنَّ هَذَا الْكَذِبَ مُسَاوٍ لِلْكُفْرِ
كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
وَقَالَ النَّوَوِيُّ الضَّمِيرُ فِي أَنَا قيل يعود إلى النبي وَقِيلَ يَعُودُ إِلَى الْقَائِلِ أَيْ لَا يَقُولُ ذَلِكَ بَعْضُ الْجَاهِلِينَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي عِبَادَةٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَضَائِلِ
فَإِنَّهُ لَوْ بَلَغَ مِنَ الْفَضَائِلِ مَا بَلَغَ لم يبلغ درجة لنبوة وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ الرِّوَايَةُ الَّتِي قَبْلَهُ وَهِيَ قوله لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى انْتَهَى
قُلْتُ ضَمِيرُ أنا إذا عاد إلى النبي فالظاهر أنه قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ أَفْضَلُ الخلق وأما قول من قال إنه قَالَ ذَلِكَ تَوَاضُعًا إِنْ كَانَ قَالَهُ بَعْدَ أَنْ أُعْلِمَ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْخَلْقِ فَفِيهِ أَنَّهُ لَا يُنَاسِبُهُ قَوْلُهُ فَقَدْ كَذَبَ كَمَا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ هَذِهِ
قِيلَ خَصَّ يُونُسَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِأَوْصَافٍ تُوهِمُ انْحِطَاطَ رُتْبَتِهِ حَيْثُ قَالَ فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عليه إذ أبق إلى الفلك المشحون
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ
[3246] قَوْلُهُ (أَخْبَرَنِي أَبُو إِسْحَاقَ) هُوَ السَّبِيعِيُّ
قَوْلُهُ يُنَادِي مُنَادٍ أَيْ فِي الْجَنَّةِ إِنَّ لَكُمْ بكسر(9/85)
الْهَمْزَةِ أَيْ قَائِلًا إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا بِفَتْحِ الْيَاءِ أَيْ أَنْ تَكُونُوا أَحْيَاءً دَائِمًا أَنْ تَصِحُّوا بِكَسْرِ الصَّادِ وَتَشْدِيدِ الْحَاءِ أَيْ تَكُونُوا صَحِيحِي الْبَدَنِ دَائِمًا فَلَا تَسْقَمُوا مِنْ بَابِ سَمِعَ أَيْ لَا تَمْرَضُوا أَنْ تَشِبُّوا بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ تَدُومُوا شَبَابًا فَلَا تَهْرَمُوا مِنْ بَابِ سَمِعَ أَيْ لَا تَشِيبُوا أَنْ تَنْعَمُوا بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ يدوم لكم النعيم فلا تبأسوا سكون الْمُوَحَّدَةِ فَالْهَمْزَةِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ لَا يُصِيبَكُمْ بَأْسٌ وَهُوَ شِدَّةُ الْحَالِ
وَالْبَأْسُ وَالْبُؤْسُ وَالْبَأْسَاءُ وَالْبُؤْسَى بِمَعْنًى قَالَهُ النَّوَوِيُّ
وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ بَئِسَ كَسَمِعَ اشْتَدَّتْ حَاجَتُهُ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بما كنتم تعملون وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ التي أورثتموها بما كنتم تعملون الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي فِي الْكِتَابِ فَهِيَ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ وَكَانَ للترمذي أو يُورِدَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ أَوْ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الزُّخْرُفِ
وَهَذَا الْحَدِيثُ أخرجه أيضا مسلم في صحيحه مرفوعا
[3241] قَوْلُهُ (عَنْ عَنْبَسَةَ بْنِ سَعِيدِ) بْنِ الضُّرَيْسِ بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ مُصَغَّرًا الْأَسَدِيِّ أَبِي بَكْرٍ الْكُوفِيِّ قَاضِي الرَّيِّ ثِقَةٌ مِنَ الثَّامِنَةِ
قَوْلُهُ وَالْأَرْضُ جميعا حال أي السبع قبضته أَيْ مَقْبُوضَتُهُ وَفِي مُلْكِهِ وَتَصَرُّفِهِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كيف يشاء يوم القيامة والسماوات مطويات أَيْ مَجْمُوعَاتٌ بِيَمِينِهِ وَبَعْدَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يشركون أَيْ بِنِسْبَةِ الْوَلَدِ وَالشَّرِيكِ إِلَيْهِ (قَالَ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ) وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ طَرِيقِ مَسْرُوقٍ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ هَذِهِ الْآيَةَ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الأرض قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ قَالَ عَلَى الصِّرَاطِ
وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ يَكُونُونَ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ
وَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ وَجْهُ الْجَمْعِ (وَفِي الْحَدِيثِ(9/86)
قِصَّةٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى مَنْ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ مَعَ الْقِصَّةِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أحمد وبن جرير
1 - (باب ومن سُورَةُ الْمُؤْمِنِ)
وَتُسَمَّى سُورَةَ غَافِرٍ مَكِّيَّةٌ إِلَّا الذين يجادلون في آيات الله وَالَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ خَمْسٌ وَثَمَانُونَ آيَةً
قَوْلُهُ الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ شَيْءٌ مِنْ شَرْحِهِ وَيَأْتِي فِي أَوَائِلِ أَبْوَابِ الدَّعَوَاتِ مَعَ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ
2 - (بَاب وَمِنْ سُورَةِ حم السَّجْدَةِ)
وَتُسَمَّى سُورَةَ فُصِّلَتْ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ وَهِيَ ثَلَاثٌ وَخَمْسُونَ آيَةً [3248] قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ) اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَخْبَرَةَ الْأَزْدِيُّ (اخْتَصَمَ عِنْدَ الْبَيْتِ) أَيِ الْكَعْبَةِ (قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ أَوْ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيٌّ) الشَّكُّ مِنْ أَبِي مَعْمَرٍ كَمَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الْحَافِظِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ عَبْدُ(9/87)
الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ وَهْبِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنِ بن مَسْعُودٍ بِلَفْظِ ثَقَفِيٌّ وَخَتَنَاهُ قُرَشِيَّانِ وَلَمْ يَشُكَّ
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ وَهْبٍ هَذِهِ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهَا (قَلِيلٌ) بِالتَّنْوِينِ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ لِقَوْلِهِ (فِقْهُ قُلُوبِهِمْ) بِإِضَافَةِ فِقْهُ إِلَى قُلُوبِهِمْ وَقِيلَ بِإِضَافَةِ قَلِيلٌ إِلَى فِقْهُ وَقُلُوبُهُمْ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ الْمُبْتَدَأُ أَيْ قُلُوبُهُمْ قَلِيلَةُ الْفِقْهِ
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ (كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ)
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْفِطْنَةَ قَلَّمَا تَكُونُ مَعَ الْبِطْنَةِ
قَالَ الشَّافِعِيُّ مَا رَأَيْتُ سَمِينًا عَاقِلًا إِلَّا مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ (أَتُرَوْنَ) بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ أَيْ أَتَظُنُّونَ (إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا فَهُوَ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا) وَجْهُ الْمُلَازَمَةِ فِيمَا قَالَ أَنَّ نِسْبَةَ جَمِيعِ الْمَسْمُوعَاتِ إِلَى اللَّهِ عَلَى السَّوَاءِ وَأَبْطَلَ الْقِيَاسَ الْفَاسِدَ فِي تَشْبِيهِهِ بِالْخَلْقِ فِي سَمَاعِ الْجَهْرِ دُونَ السِّرِّ وَأَثْبَتَ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ حَيْثُ شَبَّهَ السِّرَّ بِالْجَهْرِ لِعِلَّةِ أَنَّ الْكُلَّ إِلَيْهِ سَوَاءٌ
وَإِنَّمَا جَعَلَ قَائِلَهُ مِنْ جُمْلَةِ قَلِيلِ الْفَهْمِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ بِهِ وَشَكَّ فِيهِ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سمعكم ولا أبصاركم وبعده ولا جلودكم أي أنكم تستترون والحيطان وَالْحُجُبِ عِنْدَ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ وَمَا كَانَ اسْتِتَارُكُمْ ذَلِكَ خِيفَةَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ جَوَارِحُكُمْ لِأَنَّكُمْ كُنْتُمْ غَيْرَ عَالِمِينَ بِشَهَادَتِهَا عَلَيْكُمْ بَلْ كُنْتُمْ جَاحِدِينَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ أَصْلًا وَلَكِنَّكُمْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَيْ وَلَكِنَّكُمْ إِنَّمَا اسْتَتَرْتُمْ لِظَنِّكُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْخَفِيَّاتُ مِنْ أَعْمَالِكُمْ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بربكم أرداكم أي وذلك الظن هو الذين أهلككم وذلكم مبتدأ وظنكم خبر والذي ظننتم بربكم صفته وأرداكم خَبَرٌ ثَانٍ أَوْ ظَنُّكُمْ بَدَلٌ مِنْ ذَلِكُمْ وأرداكم الخبر(9/88)
فأصبحتم من الخاسرين أَيْ فِي مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ
قَوْلُهُ (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ) بْنِ قَيْسٍ النَّخَعِيِّ (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) بْنُ مَسْعُودٍ قَوْلُهُ (قُرَشِيٌّ وَخَتَنَاهُ) تَثْنِيَةُ خَتَنٍ مُحَرَّكَةٌ وَهُوَ الصِّهْرُ أَوْ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ كَالْأَبِ وَالْأَخِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ
قَوْلُهُ (عَنْ وَهْبِ بْنِ رَبِيعَةَ) الْكُوفِيِّ قَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ فِي تَرْجَمَتِهِ رَوَى عَنْ بن مَسْعُودٍ حَدِيثَ إِنِّي لَمُسْتَتِرٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَعَنْهُ عمارة بن عمير ذكره بن حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَقَالَ فِي التَّقْرِيبِ مَقْبُولٌ مِنَ الثَّالِثَةِ انْتَهَى (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ نَحْوَهُ) أَخْرَجَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ
[3250]
قَوْلُهُ (إِنَّ الَّذِينَ قالوا ربنا الله وحده لا شريك له ثم استقاموا أَيْ دَامُوا أَوْ ثَبَتُوا عَلَى التَّوْحِيدِ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى إِلَهٍ غَيْرِ اللَّهِ
قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَعْنَى الِاسْتِقَامَةِ إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لله تعالى
وقال قتادة وبن زَيْدٍ ثُمَّ اسْتَقَامُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ
وَقَالَ الْحَسَنُ اسْتَقَامُوا عَلَى أَمْرِ اللَّهِ فَعَمِلُوا بِطَاعَتِهِ واجتنبوا معاصيه
وقال بن عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ اسْتَقَامُوا عَلَى شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَتَّى مَاتُوا وَقِيلَ غير ذلك
قلت قول بن عَبَّاسٍ وَمَنْ تَبِعَهُ هُوَ الظَّاهِرُ الْمُوَافِقُ لِحَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي نَحْنُ فِي شَرْحِهِ (قَدْ قَالَ النَّاسُ) وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يَعْلَى قَدْ قَالَهَا أُنَاسٌ (ثُمَّ كَفَرَ أَكْثَرُهُمْ) يَعْنِي فَلَيْسَ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةُ مِمَّنِ اسْتَقَامُوا
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ وبن جَرِيرٍ
قَوْلُهُ (سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ يَقُولُ رَوَى عَفَّانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ حَدِيثًا) عَفَّانُ هَذَا هُوَ عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ
وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الْفَلَّاسِ وَرَوَى هُوَ عَنْهُ حَدِيثًا وَاحِدًا كَمَا أَنَّ الْبُخَارِيَّ مِنْ شُيُوخِ التِّرْمِذِيِّ وَرَوَى عَنْهُ حَدِيثَيْنِ كَمَا عَرَفْتَ فِي الْمُقَدِّمَةِ بَاب وَمِنْ سُورَةِ حم عسق وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ سُورَةُ حم عسق وَهِيَ
مَكِّيَّةٌ وَهِيَ ثَلَاثٌ وَخَمْسُونَ آيَةً قَوْلُهُ (عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ) الْهِلَالِيِّ أَبِي زَيْدٍ الْعَامِرِيِّ الْكُوفِيِّ الزَّرَّادِ ثِقَةٌ مِنَ الرَّابِعَةِ قُلْ لا أسألكم عليه(9/89)
43 - أَيْ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ في القربى أَيْ مَظْرُوفَةً فِيهَا بِحَيْثُ تَكُونُ الْقُرْبَى مَوْضِعًا للمودة وظرفا لها لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْ مَحَبَّتِكُمْ عَنْهَا وَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ أَيْ إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي لِقَرَابَتِي بَيْنَكُمْ أَوْ تَوَدُّوا أَهْلَ قَرَابَتِي وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا
قَالَ الزَّجَّاجُ إِلَّا الْمَوَدَّةَ اسْتِثْنَاءٌ لَيْسَ مِنَ الْأَوَّلِ أَيْ إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي لِقَرَابَتِي فَتَحْفَظُونِي وَالْخِطَابُ لِقُرَيْشٍ وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي مَالِكٍ وَالشَّعْبِيِّ فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى الِانْقِطَاعِ لَا أَسْأَلُكُمْ أَجْرًا قَطُّ وَلَكِنْ أَسْأَلُكُمُ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمُ ارْقُبُونِي فِيهَا وَلَا تُعَجِّلُوا إِلَيَّ وَدَعُونِي وَالنَّاسَ وَبِهِ قَالَ قتادة ومقاتل والسدي والضحاك وبن زيد وغيرهم وهو الثابت عن بن عَبَّاسٍ (فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قُرْبَى آلِ مُحَمَّدٍ) قَالَ الْحَافِظُ هَذَا الَّذِي جَزَمَ بِهِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَدْ جَاءَ عَنْهُ مِنْ روايته عن بن عباس مرفوعا فأخرج الطبري وبن أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ بن عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ قَرَابَتُكَ الَّذِينَ وَجَبَتْ عَلَيْنَا مَوَدَّتُهُمْ الْحَدِيثَ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَهُوَ سَاقِطٌ لِمُخَالَفَتِهِ هَذَا الحديث الصحيح يعني حديث بن عَبَّاسٍ هَذَا الَّذِي نَحْنُ فِي شَرْحِهِ (فَقَالَ بن عَبَّاسٍ أَعَلِمْتَ) بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِلْإِنْكَارِ وَفِي رِوَايَةِ البخاري فقال بن عَبَّاسٍ عَجِلْتَ
قَالَ الْحَافِظُ أَيْ أَسْرَعْتَ فِي التَّفْسِيرِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ) الْبَطْنُ مَا دُونَ الْقَبِيلَةِ وَفَوْقَ الْفَخِذِ (لَهُ) أَيْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال إِلَّا أَنْ تَصِلُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ فَحَمَلَ الْآيَةَ عَلَى أَنْ تُوَادُّوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْلِ الْقَرَابَةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَكُمْ فَهُوَ خَاصٌّ(9/90)
بِقُرَيْشٍ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَأَمَّا حَدِيثُ بن عباس أيضا عند بن أَبِي حَاتِمٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ في القربى قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ بِمَوَدَّتِهِمْ قَالَ فَاطِمَةُ وَوَلَدُهَا عَلَيْهِمُ السلام
فقال بن كثير إسناده ضعيف فيه منهم لَا يُعْرَفُ إِلَّا عَنْ شَيْخٍ شِيعِيٍّ مُخْتَرِقٍ وَهُوَ حُسَيْنٌ الْأَشْقَرُ وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ
وَالْآيَةُ مَكِّيَّةٌ وَلَمْ يَكُنْ إِذْ ذَاكَ لِفَاطِمَةَ أَوْلَادٌ بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنَّهَا لَمْ تُزَوَّجْ بِعَلِيٍّ إِلَّا بَعْدَ بَدْرٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ وَتَفْسِيرُ الْآيَةِ بِمَا فَسَّرَ بِهِ حبر الأمة وترجمان القران بن عباس أحق وأولى ولا ننكر الْوَصَاةُ بِأَهْلِ الْبَيْتِ وَاحْتِرَامُهُمْ وَإِكْرَامُهُمْ إِذْ هُمْ مِنَ الذُّرِّيَّةِ الطَّاهِرَةِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ بَيْتٍ وُجِدَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَخْرًا وَحَسَبًا وَنَسَبًا وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا مُتَّبِعِينَ لِلسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُهُمْ كَالْعَبَّاسِ وَبَنِيهِ وَعَلِيٍّ وَآلِ بَيْتِهِ وَذُرِّيَّتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَنَفَعَنَا بِمَحَبَّتِهِمْ قَالَهُ الْقَسْطَلَّانِيُّ
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ ورواه بن جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ والقول بنسخ هذه الاية غير مرضي لِأَنَّ مَوَدَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَفَّ الْأَذَى عَنْهُ وَمَوَدَّةَ أَقَارِبِهِ مِنْ فَرَائِضِ الدِّينِ وَهُوَ قَوْلُ السَّلَفِ فَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَى نَسْخِ هَذِهِ الْآيَةِ
وَرَوَى أَحْمَدُ فِي مسنده عن بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى مَا آتَيْتُكُمْ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى أَجْرًا إِلَّا أَنْ تُوَادُّوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَنْ تَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ وَهَكَذَا رَوَى قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ البصري مثله
قال الحافظ بن كَثِيرٍ وَهَذَا كَأَنَّهُ تَفْسِيرٌ بِقَوْلٍ ثَانٍ كَأَنَّهُ يَقُولُ إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى أَيْ إِلَّا أَنْ تَعْمَلُوا بِالطَّاعَةِ الَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ زُلْفَى انْتَهَى
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ
قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى هَذَا الْبَلَاغِ وَالنُّصْحِ لَكُمْ ما لا تُعْطُونِيهِ وَإِنَّمَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ أَنْ تَكُفُّوا شَرَّكُمْ عَنِّي وَتَذْرُونِي أُبَلِّغُ رِسَالَاتِ رَبِّي إِنْ لَمْ تَنْصُرُونِي فَلَا تُؤْذُونِي لِمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الاية
ويدل على ذلك حديث بن عَبَّاسٍ هَذَا الَّذِي نَحْنُ فِي شَرْحِهِ وَأَمَّا الْأَقْوَالُ الْبَاقِيَةُ فَمَرْجُوحَةٌ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ
[3252] قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمِ) بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْوَازِعِ الْكِلَابِيُّ الْقَيْسِيُّ (أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَازِعِ) الْكِلَابِيُّ الْبَصْرِيُّ مَجْهُولٌ مِنَ السَّابِعَةِ
قَوْلُهُ (فَأُخْبِرْتُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (عَنْ بِلَالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ) بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَاضِي الْبَصْرَةِ كَانَ ظَلُومًا
وَذَكَرَهُ أَبُو الْعَرَبِ الصِّقِلِّيُّ فِي كِتَابِ الضعفاء وذكره بن حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ وَتَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ (فَقُلْتُ إِنَّ فِيهِ) أَيْ فِي(9/91)
بِلَالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ (لَمُعْتَبَرًا) أَيْ عِبْرَةً وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ قَاضِيًا وَالْآنَ هُوَ مَحْبُوسٌ (قَالَ) أَيْ شَيْخُ بَنِي مُرَّةَ الْمَذْكُورُ (وَإِذَا) لِلْمُفَاجَأَةِ (مِنْهُ) أَيْ مِنْ بِلَالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ (فِي قُشَاشٍ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ الْقَشِيشُ كَأَمِيرٍ اللُّقَاطَةُ كَالْقُشَاشِ بِالضَّمِّ وَقَالَ فِيهِ اللُّقَاطَةُ بِالضَّمِّ مَا كَانَ سَاقِطًا مِمَّا لَا قِيمَةَ لَهُ (تُمْسِكُ بِأَنْفِكَ) أَيْ تَكَبُّرًا (هَاتِ) بِكَسْرِ التَّاءِ أَيْ أَعْطِ وَحَدِّثْنِي بِذَلِكَ الْحَدِيثِ (حَدَّثَنِي أَبِي أَبُو بُرْدَةَ) أَبُو بُرْدَةَ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ أَبِي (أَبِي مُوسَى) بِالْجَرِّ بَدَلٌ مِنْ أَبِيهِ نَكْبَةٌ أَيْ مِحْنَةٌ وَأَذًى وَالتَّنْوِينُ لِلتَّقْلِيلِ لَا لِلْجِنْسِ لِيَصِحَّ تَرَتُّبُ مَا بَعْدَهَا عَلَيْهَا بِالْفَاءِ وَهُوَ فَمَا فَوْقَهَا أَيْ فِي الْعِظَمِ أَوْ دُونَهَا أَيْ فِي الْمِقْدَارِ إِلَّا بِذَنْبٍ أَيْ يَصْدُرُ مِنَ الْعَبْدِ وَمَا يَعْفُو اللَّهُ مَا مَوْصُولَةٌ أَيِ الَّذِي يَغْفِرُهُ وَيَمْحُوهُ أَكْثَرُ أَيْ مِمَّا يُجَازِيهِ (قَالَ) أَيْ أَبُو مُوسَى (وَقَرَأَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَمَا أَصَابَكُمْ) خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ مصيبة أي بلية وشدة (فيما كسبت أيديكم أَيْ كَسَبْتُمْ مِنَ الذُّنُوبِ وَعَبَّرَ بِالْأَيْدِي لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَفْعَالِ تُزَاوَلُ بِهَا وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ أَيْ مِنَ الذُّنُوبِ فَلَا يُجَازِي عَلَيْهِ وَهُوَ تَعَالَى أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ الْجَزَاءَ فِي الْآخِرَةِ وَأَمَّا غَيْرُ الْمُذْنِبِينَ فَمَا يُصِيبُهُمْ فِي الدُّنْيَا لِرَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) فِي سَنَدِهِ مَجْهُولَانِ كَمَا عَرَفْتَ(9/92)
44 - سُورَةُ الزُّخْرُفِ مَكِّيَّةٌ وَهِيَ تِسْعٌ وَثَمَانُونَ آيَةً [3253] قَوْلُهُ كَانُوا عَلَيْهِ أَيْ عَلَى الْهُدَى إِلَّا أوتوا الجدل أي أعطوه وهو حال وقد مُقَدَّرَةٌ وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَعَمُّ عَامٌّ الْأَحْوَالَ وَصَاحِبُهَا الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي خَبَرِ كَانَ وَالْمَعْنَى مَا كَانَ ضَلَالَتُهُمْ وَوُقُوعُهُمْ فِي الْكُفْرِ إِلَّا بِسَبَبِ الْجِدَالِ وَهُوَ الْخُصُومَةُ بِالْبَاطِلِ مَعَ نَبِيِّهِمْ وَطَلَبِ الْمُعْجِزَةِ مِنْهُ عِنَادًا أَوْ جُحُودًا وَقِيلَ مُقَابَلَةُ الْحُجَّةِ بِالْحُجَّةِ وَقِيلَ الْمُرَادُ هُنَا الْعِنَادُ وَالْمُرَادُ فِي الْقُرْآنِ ضَرْبُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ لِتَرْوِيجِ مَذَاهِبِهِمْ وَآرَاءِ مَشَايِخِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ نُصْرَةٌ عَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ لَا الْمُنَاظَرَةُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ كَإِظْهَارِ الْحَقِّ فَإِنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ (ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ اسْتِشْهَادًا عَلَى مَا قرره ما ضربوه أَيْ هَذَا الْمَثَلَ لَكَ يَا مُحَمَّدُ وَهُوَ قَوْلُهُمْ أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ أَرَادُوا بِالْآلِهَةِ هُنَا الْمَلَائِكَةَ يَعْنِي الْمَلَائِكَةُ خَيْرٌ أَمْ عِيسَى يُرِيدُونَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ خَيْرٌ مِنْ عِيسَى فَإِذَا عَبَدَتِ النَّصَارَى عِيسَى فَنَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ أَيْ ما قالوا ذلك القول إلا جدلا أي إلا لمخاصمتك وإذائك بالباطل لا لطلب إلا الحق كذا قال بعض العلماء
قال القارىء والأصح في معنى الاية أن بن الزِّبَعْرَى جَادَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حصب جهنم آلِهَتُنَا أَيِ الْأَصْنَامُ خَيْرٌ عِنْدَكَ أَمْ عِيسَى فَإِنْ كَانَ فِي النَّارِ فَلْتَكُنْ آلِهَتُنَا مَعَهُ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ
فَأَوَّلًا أَنَّ مَا لِغَيْرِ ذَوِي الْعُقُولِ فَالْإِشْكَالُ نَشَأَ عَنِ الْجَهْلِ بِالْقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ وَثَانِيًا أَنَّ عِيسَى وَالْمَلَائِكَةَ خُصُّوا عَنْ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ انتهى
قلت بن الزِّبَعْرَى بِكَسْرِ الزَّايِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْأَلِفِ الْمَقْصُورَةِ قَالَ الشهاب بن الزِّبَعْرَى هُوَ عَبْدُ اللَّهِ الصَّحَابِيُّ الْمَشْهُورُ وَهَذِهِ الْقِصَّةُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهَا كَانَتْ قَبْلَ إِسْلَامِهِ كَذَا فِي فَتْحِ الْبَيَانِ(9/93)
بل هم أي الكفار قوم خصمون أي كثير الْخُصُومَةِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وبن ماجه والحاكم وبن جَرِيرٍ (إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ حَجَّاجِ بْنِ دينار) قال الحافظ بن كَثِيرٍ بَعْدَ نَقْلِ كَلَامِ التِّرْمِذِيِّ هَذَا مَا لَفْظُهُ كَذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ فَذَكَرَهُ
قَوْلُهُ (وَأَبُو غَالِبٍ اسْمُهُ حَزَوَّرٌ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالزَّايِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَآخِرُهُ راء
5 - (باب ومن سورة الدخان)
مكية وقيل إلا إنا كاشفو العذاب الْآيَةَ وَهِيَ سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ أَوْ تِسْعٌ وَخَمْسُونَ آيَةً [3254] قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْجُدِّيُّ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمَكِّيُّ مَوْلَى بَنِي عَبْدِ الدَّارِ صَدُوقٌ مِنَ التَّاسِعَةِ (أَبَا الضُّحَى) هُوَ مُسْلِمُ بْنُ صُبَيْحٍ (إِلَى عبد الله) هو بن مَسْعُودٍ (إِنَّ قَاصًّا يَقُصُّ) وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ بَيْنَمَا رَجُلٌ يُحَدِّثُ فِي كِنْدَةَ (فَيَأْخُذُ بِمَسَامِعِ الْكُفَّارِ) جَمْعُ مَسْمَعٍ آلَةُ السَّمْعِ أَوْ جَمْعُ سَمْعٍ بِغَيْرِ قِيَاسٍ وَالْمَسْمَعُ بِالْفَتْحِ خَرْقُهَا وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ فَيَأْخُذُ بِأَسْمَاعِ الْمُنَافِقِينَ وَأَبْصَارِهِمْ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَيَأْخُذُ بِأَنْفَاسِ الْكُفَّارِ (فَغَضِبَ) أَيْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ (فَلْيَقُلْ بِهِ) أَيْ بِمَا يَعْلَمُ (فَإِنَّ مِنْ عِلْمِ الرَّجُلِ إِلَخْ) قوله من علم الرجل خبر مقدم لأن وَاسْمُهَا أَنْ يَقُولَ اللَّهُ أَعْلَمُ وَقَوْلُهُ إِذَا سُئِلَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ عِلْمِ الرَّجُلُ وفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الرُّومِ فَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لَا يَعْلَمُ لَا أَعْلَمُ
قَالَ الْحَافِظُ يَعْنِي أَنَّ تَمْيِيزَ الْمَعْلُومِينَ الْمَجْهُولَ نَوْعٌ مِنَ الْعِلْمِ وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِمَا اشْتُهِرَ مِنْ أَنَّ لَا أَدْرِي نِصْفُ الْعِلْمِ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ فِيمَا لَا يُعْلَمُ قِسْمٌ مِنَ التَّكَلُّفِ (فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وما أنا من المتكلفين(9/94)
) في قول بن مَسْعُودٍ هَذَا وَفِيمَا قَبْلَهُ تَعْرِيضٌ بِالرَّجُلِ الْقَاصِّ الَّذِي كَانَ يَقُولُ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَا فأنكر بن مَسْعُودٍ ذَلِكَ وَقَالَ لَا تَتَكَلَّفُوا فِيمَا لَا تَعْلَمُونَ وَبَيَّنَ قِصَّةَ الدُّخَانِ وَقَالَ إِنَّهُ كَهَيْئَةِ إِلَخْ
وَذَلِكَ قَدْ كَانَ وَوَقَعَ
قَالَ الْعَيْنِيُّ فيه خلاف فإنه روي عن بن عباس وبن عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ أَنَّهُ دُخَانٌ يَجِيءُ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ انْتَهَى وَقَالَ الْحَافِظُ وهذا الذي أنكره بن مَسْعُودٍ قَدْ جَاءَ عَنْ عَلِيٍّ فَأَخْرَجَ عَبْدُ الرزاق وبن أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ آيَةُ الدُّخَانِ لَمْ تَمْضِ بَعْدُ يَأْخُذُ الْمُؤْمِنَ كَهَيْئَةِ الزُّكَامِ وَيُنْفَخُ الْكَافِرُ حَتَّى يَنْفَدَ وَيُؤَيِّدُ كَوْنَ آيَةِ الدُّخَانِ لَمْ تَمْضِ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحَةَ رَفَعَهُ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَرَوْا عَشْرَ آيَاتٍ طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَالدُّخَانَ وَالدَّابَّةَ الْحَدِيثَ وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ رِبْعِيٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا فِي خُرُوجِ الْآيَاتِ وَالدُّخَانِ قَالَ حُذَيْفَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الدُّخَانُ فَتَلَا هَذِهِ الاية
قال أما المؤمن فيصيبه مِنْهُ كَهَيْئَةِ الزَّكْمَةِ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَخْرُجُ مِنْ مَنْخِرَيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَدُبُرِهِ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ
وَذَكَرَ الْحَافِظُ رِوَايَاتٍ أُخْرَى ضَعِيفَةً ثُمَّ قَالَ لَكِنَّ تَضَافُرَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِذَلِكَ أَصْلًا انتهى
قال العيني في العمدة وقال بن دِحْيَةَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ الصَّحِيحُ حَمْلُ أَمْرِ الدُّخَانِ عَلَى قَضِيَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا وَقَعَتْ وَكَانَتْ وَالْأُخْرَى سَتَقَعُ أَيْ بِقُرْبِ الْقِيَامَةِ (اسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ) أَيْ أَظْهَرُوا الْعِصْيَانَ وَلَمْ يَتْرُكُوا الشِّرْكَ بِسَبْعٍ أَيْ بِسَبْعِ سِنِينَ فِيهَا جَدْبٌ وَقَحْطٌ فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ بِفَتْحِ السِّينِ وَهِيَ الْجَدْبُ وَالْقَحْطُ فَأَحْصَتْ كُلَّ شَيْءٍ أَيِ اسْتَأْصَلَتْهُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَحَصَتْ كُلَّ شَيْءٍ أَيْ أَذْهَبَتْهُ وَالْحَصُّ إِذْهَابُ الشَّعَرِ عَنِ الرَّأْسِ بِحَلْقٍ أَوْ مَرَضٍ كَذَا فِي النِّهَايَةِ (وَقَالَ أَحَدُهُمَا) الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَعْمَشِ وَمَنْصُورٍ (الْعِظَامَ) رَوَى مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ وَفِيهِ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ وَرَوَاهُ من طريق مَنْصُورٍ وَفِيهِ حَتَّى أَكَلُوا الْجُلُودَ وَالْمَيْتَةَ (وَجَعَلَ يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ) وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَهُ فَكَانَ يَقُومُ أَحَدُهُمْ فَكَانَ يَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ مِثْلَ الدُّخَانِ مِنَ الْجَهْدِ وَالْجُوعِ
قَالَ الْحَافِظُ وَلَا تَدَافُعَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كان مبدأه مِنَ الْأَرْضِ وَمُنْتَهَاهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَا مُعَارَضَةَ أَيْضًا بَيْنَ قَوْلِهِ يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ لِاحْتِمَالِ وُجُودِ الْأَمْرَيْنِ بِأَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْأَرْضِ بُخَارٌ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنْ شِدَّةِ حَرَارَةِ الْأَرْضِ وَوَهَجِهَا مِنْ عَدَمِ الْغَيْثِ وَكَانُوا يَرَوْنَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ مِثْلَ الدُّخَانِ مِنْ فَرْطِ حَرَارَةِ الْجُوعِ أَوِ الَّذِي كَانَ يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ بِحَسَبِ تَخَيُّلِهِمْ ذَلِكَ مِنْ غَشَاوَةِ أَبْصَارِهِمْ مِنْ فَرْطِ(9/95)
الْجُوعِ أَوْ لَفْظُ مِنَ الْجُوعِ صِفَةُ الدُّخَانِ أَيْ يَرَوْنَ مِثْلَ الدُّخَانِ الْكَائِنِ مِنَ الْجُوعِ يوم تأتي السماء بدخان مبين الْآيَةَ بِتَمَامِهَا مَعَ تَفْسِيرِهَا هَكَذَا فَارْتَقِبْ أَيِ انْتَظِرْ يَا مُحَمَّدُ عَذَابَهُمْ فَحَذَفَ مَفْعُولَ فَارْتَقِبْ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَقِيلَ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ مَفْعُولُ فَارْتَقِبْ يُقَالُ رَقَبْتُهُ فَارْتَقَبْتُهُ نَحْوَ نَظَرْتُهُ فَانْتَظَرْتُهُ يَوْمَ تأتي السماء بدخان مبين أي ظاهر يغشى الناس أي يحيطهم هذا عذاب أليم يَقُولُ اللَّهُ ذَلِكَ وَقِيلَ يَقُولُهُ النَّاسُ رَبَّنَا اكشف عنا العذاب قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا أَصَابَهُمْ قَحْطٌ وَجَهْدٌ قَالُوا رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا العذاب وَهُوَ الْقَحْطُ الَّذِي أَكَلُوا فِيهِ الْمِيتَاتِ وَالْجُلُودَ إنا مؤمنون أي مصدقون بنبيك أنى لهم الذكرى أَيْ كَيْفَ يَتَذَكَّرُونَ وَيَتَّعِظُونَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ وَقَدْ جاءهم رسول مبين مَعْنَاهُ وَقَدْ جَاءَهُمْ مَا هُوَ أَعْظَمُ وَأَدْخَلُ فِي وُجُوبِ الطَّاعَةِ وَهُوَ مَا ظَهَرَ عَلَى يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَاتِ ثُمَّ تَوَلَّوْا عنه أي أعرضوا وقالوا معلم أي يعلمه القرآن بشر مجنون إنا كاشفو العذاب أَيِ الْجُوعِ عَنْكُمْ قَلِيلًا أَيْ زَمَنًا قَلِيلًا فكشف عنهم إنكم عائدون أَيْ إِلَى كُفْرِكُمْ فَعَادُوا إِلَيْهِ يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى هُوَ يَوْمُ بَدْرٍ وَالْبَطْشُ الْأَخْذُ بِقُوَّةٍ إِنَّا منتقمون أَيْ مِنْهُمْ (فَهَلْ يُكْشَفُ عَذَابُ الْآخِرَةِ) وَفِي رواية مسلم فيكشف بِالْهَمْزَةِ قَالَ النَّوَوِيُّ هَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ عَلَى مَنْ يَقُولُ إِنَّ الدُّخَانَ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ يَعْنِي الَّتِي فِيهَا قَالَ يَأْتِي النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دخان فيأخذ بأنفساهم حتى يأخذهم منه كهيئة الزكام فقال بن مَسْعُودٍ هَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قال إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَشْفَ الْعَذَابِ ثُمَّ عَوْدَهُمْ لَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الدُّنْيَا انتهى (قال) أي بن مَسْعُودٍ (مَضَى الْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ وَالدُّخَانُ وَقَالَ أَحَدُهُمُ الْقَمَرُ وَقَالَ الْآخَرُ الرُّومُ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَقَالَ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الظَّاهِرُ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ خَمْسَةٌ قَدْ مَضَيْنَ الدُّخَانُ وَالْقَمَرُ وَالرُّومُ وَالْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا هَلَاكًا
قَالَ الْعَيْنِيُّ قَوْلُهُ خَمْسٌ) أَيْ خَمْسُ عَلَامَاتٍ قَدْ مَضَيْنَ أَيْ وَقَعْنَ
الْأُولَى الدُّخَانُ قَالَ تَعَالَى يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ
الثَّانِيَةُ الْقَمَرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وانشق القمر
الثَّالِثَةُ الرُّومُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى الم غلبت الروم
الرَّابِعَةُ الْبَطْشَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ نبطش البطشة الكبرى وَهُوَ الْقَتْلُ الَّذِي وَقَعَ يَوْمَ بَدْرٍ
الْخَامِسَةُ اللزام(9/96)
فسوف يكون لزاما قِيلَ هُوَ الْقَحْطُ وَقِيلَ هُوَ الْتِصَاقُ الْقَتْلَى بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فِي بَدْرٍ وَقِيلَ هُوَ الْأَسْرُ فِيهِ وَقَدْ أُسِرَ سَبْعُونَ قُرَشِيًّا فِيهِ (قَالَ أَبُو عِيسَى اللِّزَامُ يَوْمُ بَدْرٍ) اخْتُلِفَ فِيهِ فذكر بن أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ الْقَتْلُ الَّذِي أصابهم ببدر روي ذلك عن بن مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ وَاحِدًا وَعَنِ الْحَسَنِ اللِّزَامُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَعَنْهُ أَنَّهُ الْمَوْتُ وَقِيلَ يَكُونُ ذَنْبُكُمْ عَذَابًا لَازِمًا لَكُمْ كَذَا فِي الْعُمْدَةِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ
[3255] قَوْلُهُ وَلَهُ أَيْ مُخْتَصٌّ بِهِ بَابَانِ أَيْ مِنَ السَّمَاءِ يَصْعَدُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَيُضَمُّ أَيْ يَطْلُعُ وَيُرْفَعُ عَمَلُهُ أَيِ الصَّالِحُ إِلَى مُسْتَقَرِّ الْأَعْمَالِ وَهُوَ مَحَلُّ كِتَابَتِهَا فِي السَّمَاءِ بَعْدَ كِتَابَتِهَا فِي الْأَرْضِ وَفِي إِطْلَاقِهِ الْعَمَلَ إِشْعَارٌ بِأَنَّ عَمَلَهُ كُلَّهُ صَالِحٌ يَنْزِلُ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ رِزْقُهُ أَيِ الْحِسِّيُّ أَوِ الْمَعْنَوِيُّ إِلَى مُسْتَقَرِّ الْأَرْزَاقِ مِنَ الْأَرْضِ بَكَيَا أَيِ الْبَابَانِ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى فِرَاقِهِ لِأَنَّهُ انْقَطَعَ خَيْرُهُ مِنْهُمَا بِخِلَافِ الْكَافِرِ فَإِنَّهُمَا يَتَأَذَّيَانِ بِشَرِّهِ فَلَا يبكان عليه
قاله بن الْمَلَكِ وَهُوَ ظَاهِرٌ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ الْبَغَوِيُّ أَنَّ لِلْأَشْيَاءِ كُلِّهَا عِلْمًا بِاللَّهِ وَلَهَا تَسْبِيحٌ وَلَهَا خَشْيَةٌ وَغَيْرُهَا وَقِيلَ أَيْ بَكَى عَلَيْهِ أَهْلُهُمَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ انْكِشَافُ هَذَا تَمْثِيلٌ وَتَخْيِيلٌ مُبَالَغَةً فِي فِقْدَانِ مَنْ دَرَجَ وَانْقَطَعَ خَيْرُهُ وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عن بن عَبَّاسٍ مِنْ بُكَاءِ مُصَلَّى الْمُؤْمِنِ وَآثَارِهِ فِي الْأَرْضِ وَمَصَاعِدِ عَمَلِهِ وَمَهَابِطِ رِزْقِهِ فِي السَّمَاءِ تَمْثِيلٌ وَنَفْيُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَمَا بكت عليهم السماء والأرض تَهَكُّمٌ بِهِمْ وَبِحَالِهِمُ الْمُنَافِيَةِ لِحَالِ مَنْ يَعْظُمُ فَقْدُهُ فَيُقَالُ فِيهِ بَكَتْ عَلَيْهِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ انْتَهَى وَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ وَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ لِمُجَرَّدِ مُخَالَفَتِهِ ظَاهِرَ الْعُقُولِ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ (فَذَلِكَ) أَيْ مَفْهُومُ الْحَدِيثِ أَوْ مصداقه (قوله فما بكت عليهم إِلَخْ) أَيْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ تَصْعَدُ فِي أَبْوَابِ السَّمَاءِ فَتَبْكِي عَلَى فَقْدِهِمْ ولا لهم في الأرض بقاء عَبَدُوا اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا فَقَدَتْهُمْ فَلِهَذَا اسْتَحَقُّوا أَنْ لَا يُنْظَرُوا وَلَا يُؤَخَّرُوا لِكُفْرِهِمْ وَإِجْرَامِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ وَعِنَادِهِمْ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أبو يعلى وبن أبي حاتم(9/97)
46 - (باب ومن سُورَةُ الْأَحْقَافِ)
مَكِّيَّةٌ إِلَّا (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كان من عند الله) الْآيَةَ وَإِلَّا (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ من الرسل) وإلا (ووصينا الإنسان بوالديه) الثَّلَاثَ آيَاتٍ وَهِيَ أَرْبَعٌ أَوْ خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ آيَةً
[3256] قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَيَّاةَ) اسْمُهُ يَحْيَى بن يعلي التيمي (عن بن أَخِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ) مَجْهُولٌ مِنَ الثَّالِثَةِ
قَوْلُهُ (لَمَّا أُرِيدَ عُثْمَانُ) أَيْ أُرِيدَ قَتْلُهُ (جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ) بِتَخْفِيفِ اللَّامِ الصَّحَابِيُّ الْمَشْهُورُ (اخْرُجْ إِلَى النَّاسِ) أَيِ الَّذِينَ حَاصَرُوهُ (فَاطْرُدْهُمْ) مِنَ الطَّرْدِ وَهُوَ الْإِبْعَادُ أَيْ أَبْعِدْهُمْ (فَإِنَّكَ خَارِجٌ خَيْرٌ لِي مِنْكَ دَاخِلٌ) أَيْ كَوْنُكَ خَارِجًا لِطَرْدِهِمْ خَيْرٌ لِي مِنْ كَوْنِكَ دَاخِلًا عِنْدِي (إِنَّهُ كَانَ اسْمِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فُلَانٌ) الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ فُلَانًا بِالنَّصْبِ مُنَوَّنًا لِأَنَّهُ خَبَرُ كَانَ وَفُلَانٌ وَفُلَانَةُ يُكَنَى بِهِمَا عَنِ الْعَلَمِ الَّذِي مُسَمَّاهُ مِمَّنْ يَعْقِلُ فَلَا تَدْخُلُ الْ عَلَيْهِمَا وَفُلَانَةُ مَمْنُوعَةٌ مِنَ الصَّرْفِ فَيُقَالُ جَاءَ فُلَانٌ وَلَكِنْ جَاءَتْ فُلَانَةُ وَيُكَنَى بِهِمَا أَيْضًا عَنِ الْعَلَمِ لِغَيْرِ الْعَاقِلِ فَتَدْخُلُ عَلَيْهِمَا الْ تَقُولُ رَكِبْتُ الْفُلَانَ وَحَلَبْتُ الْفُلَانَةَ وَأَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى أَنَّ فِي كان ضمير الشأن واسمي مبتدأ وفلان خَبَرُهُ وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ كَانَ وَكَانَ اسْمُ عَبْدِ اللَّهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْحُصَيْنَ فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ أخرجه بن مَاجَهْ (فِيَّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بني إسرائيل أَيِ الْعَالِمِينَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَقَبْلَهُ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ الله وكفرتم به وشهد إلخ (على مثله فآمن) أَيْ عَلَى مِثْلِ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَعَانِي الْمَوْجُودَةِ فِي التَّوْرَاةِ الْمُطَابِقَةِ لَهُ مِنْ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
وَهَذِهِ الْمِثْلِيَّةُ هِيَ بِاعْتِبَارِ تَطَابُقِ الْمَعَانِي وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْأَلْفَاظُ قَالَ الْجُرْجَانِيُّ مِثْلٌ صِلَةٌ وَالْمَعْنَى وَشَهِدَ شَاهِدٌ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَذَا قَالَ الْوَاحِدِيُّ فَآمَنَ الشَّاهِدُ بِالْقُرْآنِ لِمَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَمِنْ جِنْسِ(9/98)
مَا يُنَزِّلُهُ عَلَى رُسُلِهِ وَهَذَا الشَّاهِدُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ وَفِي هَذَا نَظَرٌ فَإِنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ كَانَ إِسْلَامُهُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالشَّاهِدِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَدْ آمَنَ بِالْقُرْآنِ فِي مَكَّةَ وَصَدَّقَهُ وَاخْتَارَ هذا بن جَرِيرٍ وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ لَا مَكِّيَّةٌ
وَعَنِ بن عَبَّاسٍ قَالَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ فَيُخَصَّصُ بِهَا عُمُومُ قَوْلِهِمْ إِنَّ سُورَةَ الْأَحْقَافِ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ وَإِيَّاهُ ذَكَرَ الْكُرَاشِيُّ وَكَوْنُهُ إِخْبَارًا قَبْلَ الْوُقُوعِ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَلِذَا قِيلَ لَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ أَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ إِذَا فُسِّرَ الشَّاهِدُ بِابْنِ سَلَامٍ وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مَعْطُوفٌ عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ الْمَاضِي مُسْتَقْبَلًا فَلَا ضَرَرَ فِي شَهَادَةِ الشَّاهِدِ بَعْدَ نُزُولِهَا وَادِّعَاءُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ مَعَ ذِكْرِهِ فِي شُرُوحِ الْكَشَّافِ لَا وَجْهَ لَهُ إِلَّا أَنْ يُرَادَ مِنَ السَّلَفِ الْمُفَسِّرُونَ
قَالَهُ الشِّهَابُ كَذَا فِي فَتْحِ الْبَيَانِ
قُلْتُ حَدِيثُ عَبْدِ الله بن سلام وهذا صَرِيحٌ فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وحديث عوف بن مالك عند بن حبان وحديث بن عباس عند بن مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ كَمَا فِي فَتْحِ الْبَارِي وَهُوَ الْقَوْلُ الرَّاجِحُ وَاسْتَكْبَرْتُمْ أَيْ آمَنَ الشَّاهِدُ وَاسْتَكْبَرْتُمْ أَنْتُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَجَوَابُ الشَّرْطِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَلَسْتُمْ ظَالِمِينَ دَلَّ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظالمين فَحَرَمَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْهِدَايَةَ بِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ وَمَنْ فَقَدَ هِدَايَةَ اللَّهِ لَهُ ضَلَّ كَفَى بالله شهيدا بيني وبينكم أَيْ عَلَى صِدْقِي (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) قِيلَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَقِيلَ هُمْ مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ
وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي آخِرِ سُورَةِ الرَّعْدِ (مَغْمُودًا) أَيْ مَسْتُورًا فِي غِلَافِهِ (فَاللَّهَ اللَّهَ) بِالنَّصْبِ فِيهِمَا أَيِ اتَّقُوا اللَّهَ (فِي هَذَا الرَّجُلِ) أَيْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنْ تَقْتُلُوهُ) بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ (لَتَطْرُدُنَّ) أَيْ لَتُبْعِدُّنَّ (جِيرَانَكُمْ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ (الْمَلَائِكَةَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ (وَلَتَسُلُّنَّ) أَيْ لَتَنْتَزِعُنَّ (فَلَا يُغْمَدُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ
قَالَ فِي مُخْتَارِ الصِّحَاحِ غَمَدَ السَّيْفَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَنَصَرَ جَعَلَهُ فِي غِمْدِهِ فَهُوَ مَغْمُودٌ وأغمده أيضا فهو مغمد وهما لغنان فَصِيحَتَانِ (اقْتُلُوا الْيَهُودِيَّ) أَيْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سلام
قوله(9/99)
(هذا حديث غريب) وأخرجه بن مردويه وبن جرير مختصرا
قوله (عن بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ فِي مَنَاقِبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَعُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَرْجَمَةِ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ هَذَا
[3257] قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرحمن بن الأسود) هو بن الْمَأْمُونِ
قَوْلُهُ (إِذَا رَأَى مَخِيلَةً) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ وَهِيَ السَّحَابَةُ الَّتِي يُخَالُ فِيهَا الْمَطَرُ (أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ) زَادَ الْبُخَارِيُّ وَدَخَلَ وَخَرَجَ وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ أَيْ خَوْفًا أَنْ تُصِيبَ أُمَّتَهُ عُقُوبَةَ ذَنْبِ الْعَامَّةِ كَمَا أصاب الذين قالوا هذا عارض ممطرنا الْآيَةَ (فَإِذَا مَطَرَتْ) أَيِ الْمَخِيلَةُ (سُرِّيَ عَنْهُ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ بِلَفْظِ الْمَجْهُولِ أَيْ كُشِفَ عَنْهُ مَا خَالَطَهُ مِنَ الْوَجَلِ (فَقُلْتُ لَهُ) أَيْ لِمَ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَيَتَغَيَّرُ وَجْهُكَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَخِيلَةِ فَقَالَ وَمَا أَدْرِي لَعَلَّهُ أي المذكور من المخيلة فلما رأوه أي ما هو العذاب عارضا أَيْ سَحَابًا عَرَضَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ مُسْتَقْبِلَ أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا أَيْ مُمْطِرٌ إِيَّانَا بَعْدَهُ بَلْ هُوَ أَيْ قَالَ تَعَالَى بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ رِيحٌ بَدَلٌ مِنْ مَا فِيهَا عذاب أليم أي مؤلم
قال بن الْعَرَبِيِّ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَخْشَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعَذَّبَ الْقَوْمُ وَهُوَ فِيهِمْ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى (وَمَا كَانَ اللَّهُ ليعذبهم وأنت فيهم) وَالْجَوَابُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَيَتَعَيَّنُ الْحَمْلُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى كَرَامَةٍ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِفْعَةٍ فَلَا يُتَخَيَّلُ انْحِطَاطُ دَرَجَتِهِ أَصْلًا
قَالَ الْحَافِظُ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ آيَةَ الْأَنْفَالِ كَانَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِهِ كَانَ إِذَا رَأَى فَعَلَ كَذَا
وَالْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ فِي آيَةِ الْأَنْفَالِ احْتِمَالَ التَّخْصِيصِ بِالْمَذْكُورِينَ لَهُ بِوَقْتٍ دون وقت أو مقام الخوف يقتضي غلبته عَدَمِ الْأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ وَأَوْلَى مِنَ الْجَمِيعِ أَنْ يُقَالَ خَشِيَ عَلَى مَنْ لَيْسَ هُوَ فِيهِمْ أَنْ يَقَعَ بِهِمُ الْعَذَابُ أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَشَفَقَتُهُ عَلَيْهِ لِإِيمَانِهِ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلِرَجَاءِ إِسْلَامِهِ وَهُوَ بُعِثَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ(9/100)
[3258] قوله (أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم) هو بن علية (عن داود) هو بن أَبِي هِنْدٍ
قَوْلُهُ (قَالَ مَا صَحِبَهُ مِنَّا أَحَدٌ) قَالَ النَّوَوِيُّ هَذَا صَرِيحٌ فِي إِبْطَالِ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ المذكور فيه الوضوء بالنبيذ وحضور بن مَسْعُودٍ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَحِيحٌ وَحَدِيثُ النَّبِيذِ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ وَمَدَارُهُ عَلَى زَيْدٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ انْتَهَى
(افْتَقَدْنَاهُ) فَقَدَهُ يَفْقِدُهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ أَيْ عَدِمَهُ وَافْتَقَدَهُ مِثْلُهُ (وَهُوَ بِمَكَّةَ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (اغْتِيلَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ قُتِلَ سِرًّا مِنَ الِاغْتِيَالِ وَهُوَ الْقَتْلُ فِي خِفْيَةٍ (اسْتُطِيرَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْضًا مِنَ الِاسْتِطَارِ أَيْ طَارَتْ بِهِ الْجِنُّ (إِذَا نَحْنُ بِهِ) أَيْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا لِلْمُفَاجَأَةِ (مِنْ قِبَلِ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ (حِرَاءٍ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ حِرَاءٌ كَكِتَابٍ وَكَعَلَى عَنْ عِيَاضٍ وَيُؤَنَّثُ ويمنع جبل بمكة فيه غار تحنث فيه النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَالَ الشَّعْبِيُّ وَسَأَلُوهُ الزَّادَ إِلَخْ)
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ انْتَهَى حَدِيثُ بن مَسْعُودٍ عِنْدَ قَوْلِهِ فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ كَذَا رَوَاهُ أَصْحَابُ دَاوُدَ الرَّاوِي عَنْ الشعبي وبن علية وبن زريع وبن أبي زائدة وبن إِدْرِيسَ وَغَيْرِهِمْ هَكَذَا قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ
وَمَعْنَى قَوْلِهِ إِنَّهُ مِنْ كَلَامِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ مرويا عن بن مَسْعُودٍ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَإِلَّا فَالشَّعْبِيُّ لَا يَقُولُ هَذَا الْكَلَامَ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ النَّوَوِيُّ كُلُّ عَظْمٍ لَمْ يُذْكَرُ اِسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا كَانَ لَحْمًا وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اِسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا
وَفِي هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ تَخَالُفٌ ظَاهِرٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيْ عِنْدَ الذَّبْحِ وَبِقَوْلِهِ لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَعْنِي عِنْدَ الْأَكْلِ وَإِلَّا فَمَا فِي الصَّحِيحِ هُوَ أَصَحُّ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ ومسلم(9/101)
7 - سُورَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُسَمَّى سُورَةَ الْقِتَالِ مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٌ وثلاثون آية [3259] قوله واستغفر لذنبك أَيِ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ مِمَّا رُبَّمَا يَصْدُرُ مِنْكَ مِنْ تَرْكِ الْأَوْلَى
وَقِيلَ لِتَسْتَنَّ بِهِ أُمَّتُهُ وَلِيَقْتَدُوا بِهِ فِي ذَلِكَ
وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ كما ستقف وللمؤمنين والمؤمنات فِيهِ إِكْرَامٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ حَيْثُ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِذُنُوبِهِمْ وَهُوَ الشَّفِيعُ الْمُجَابُ فِيهِمْ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ
قَالَ الْحَافِظُ فِيهِ الْقَسَمُ عَلَى الشَّيْءِ تَأْكِيدًا لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ السَّامِعِ فِيهِ شَكٌّ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَطْلُبُ الْمَغْفِرَةَ وَيَعْزِمُ عَلَى التَّوْبَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ يَقُولُ هَذَا اللَّفْظَ بِعَيْنِهِ وَيُرَجِّحُ الثَّانِيَ مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ جيد من طريق مجاهد عن بن عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِائَةَ مَرَّةٍ وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ عَنْ نَافِعٍ عن بن عُمَرَ بِلَفْظِ إِنَّا كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجْلِسِ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ مِائَةَ مَرَّةٍ (فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً
قَالَ الْحَافِظُ تَحْتَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا لَفْظُهُ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً
فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الْمُبَالَغَةَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الْعَدَدَ بِعَيْنِهِ وَقَوْلُهُ أكثر مبهم فيحتمل أن يفسر بحديث بن عُمَرَ الْمَذْكُورِ وَأَنَّهُ يَبْلُغُ الْمِائَةَ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (وَيُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ إِلَخْ) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ
تَنْبِيهٌ قَدِ اسْتُشْكِلَ وُقُوعُ الِاسْتِغْفَارِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَعْصُومٌ وَالِاسْتِغْفَارُ يَسْتَدْعِي وُقُوعَ مَعْصِيَةٍ وَأُجِيبَ بِعِدَّةِ أَجْوِبَةٍ مِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِاسْتِغْفَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِغْفَارُهُ مِنَ الْغَيْنِ الَّذِي وَقَعَ فِي حَدِيثِ(9/102)
الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ قَالَ عِيَاضٌ
الْمُرَادُ مِنَ الْغَيْنِ فَتَرَاتٌ عَنِ الذِّكْرِ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهِ فَإِذَا فَتَرَ عَنْهُ لِأَمْرٍ مَا عَدَّ ذَلِكَ ذنبا فاستغفر عنه ومنها قول بن الْجَوْزِيِّ هَفَوَاتُ الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ لَا يَسْلَمُ مِنْهَا أَحَدٌ
وَالْأَنْبِيَاءُ وَإِنْ عُصِمُوا مِنَ الْكَبَائِرِ فَلَمْ يُعْصَمُوا مِنَ الصَّغَائِرِ كَذَا قَالَ وَهُوَ مُفَرَّعٌ عَلَى خِلَافِ الْمُخْتَارِ وَالرَّاجِحُ عِصْمَتُهُمْ مِنَ الصَّغَائِرِ أيضا ومنها قول بن بَطَّالٍ الْأَنْبِيَاءُ أَشَدُّ النَّاسِ اجْتِهَادًا فِي الْعِبَادَةِ لِمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْمَعْرِفَةِ فَهُمْ دَائِبُونَ فِي شُكْرِهِ مُعْتَرِفُونَ لَهُ بِالتَّقْصِيرِ انْتَهَى
وَمُحَصَّلُ جَوَابِهِ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي أَدَاءِ الْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِاشْتِغَالِهِ بِالْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ مِنْ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ أَوْ جِمَاعٍ أَوْ نَوْمٍ أَوْ راحة أو لِمُخَاطَبَةِ النَّاسِ وَالنَّظَرِ فِي مَصَالِحِهِمْ وَمُحَارَبَةِ عَدُوِّهِمْ تَارَةً وَمُدَارَاتِهِ أُخْرَى وَتَأْلِيفِ الْمُؤَلَّفَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْجُبُهُ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِذِكْرِ اللَّهِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ وَمُشَاهَدَتِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ فَيَرَى ذَلِكَ ذَنْبًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَقَامِ الْعَلِيِّ وَهُوَ الْحُضُورُ فِي حَظِيرَةِ الْقُدْسِ
وَمِنْهَا أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ تَشْرِيعٌ لِأُمَّتِهِ أَوْ مِنْ ذُنُوبِ الْأُمَّةِ فَهُوَ كَالشَّفَاعَةِ لَهُمْ
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَائِمَ التَّرَقِّي فَإِذَا ارْتَقَى إِلَى حَالٍ رَأَى مَا قَبْلَهَا دُونَهَا فَاسْتَغْفَرَ مِنَ الْحَالَةِ السَّابِقَةِ وَهَذَا مُفَرَّعٌ عَلَى أَنَّ الْعَدَدَ الْمَذْكُورَ فِي اسْتِغْفَارِهِ كَانَ مُفَرَّقًا بِحَسَبِ تَعَدُّدِ الْأَحْوَالِ وَظَاهِرُ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ يُخَالِفُ ذَلِكَ كَذَا فِي الْفَتْحِ
[3260] قَوْلُهُ (عَنِ الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بْنِ يَعْقُوبَ الْحُرَقِيُّ وإن تتولوا أَيْ إِنْ تُعْرِضُوا وَتُدْبِرُوا عَنْ طَاعَتِهِ يَسْتَبْدِلْ قوما غيركم أَيْ يَجْعَلْهُمْ بَدَلَكُمْ (ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) أَيْ فِي التَّوَلِّي عَنْ طَاعَتِهِ بَلْ مُطِيعِينَ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ (قَالُوا) أَيْ قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ (عَلَى مَنْكِبِ سَلْمَانَ) أَيِ الْفَارِسِيِّ وَفِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخِذَ سَلْمَانَ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ عَلَى فَخِذِهِ وَمَنْكِبِهِ هَذَا وَقَوْمُهُ هُمُ الْفُرْسُ قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) فِي سَنَدِهِ شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ مَجْهُولٌ(9/103)
[3261] قَوْلُهُ (اسْتُبْدِلُوا بِنَا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ يُجْعَلُوا بَدَلَنَا لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ مَنُوطًا أَيْ مُعَلَّقًا بِالثُّرَيَّا بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ هُوَ النَّجْمُ
قَالَ فِي الْقَامُوسِ امْرَأَةٌ ثَرْوَى مُتَمَوِّلَةٌ وَالثُّرَيَّا تَصْغِيرُهَا وَالنَّجْمُ لِكَثْرَةِ كَوَاكِبِهِ مَعَ ضِيقِ الْمَحَلِّ لَتَنَاوَلَهُ أَيْ أَخَذَ الْإِيمَانَ رِجَالٌ مِنْ فَارِسَ قَالَ فِي الْقَامُوسِ فَارِسُ وَالْفُرْسُ أَوْ بِلَادُهُمْ
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ الإيمان إلخ صدرمنه عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ صَدَرَ مِنْهُ عِنْدَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صَدَرَ عِنْدَ نُزُولِ كُلٍّ مِنَ الْآيَتَيْنِ وَيَأْتِي الْكَلَامُ مُفَصَّلًا بِمَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ إِلَخْ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَقَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْكَثِيرَ) أَيْ مِنَ الْأَحَادِيثِ يَعْنِي قَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ
(وَحَدَّثَنَا عَلِيٌّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ نَجِيحٍ) أَيْ بِوَاسِطَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جعفر(9/104)
سُورَةُ الْفَتْحِ مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً [3262] قَوْلُهُ (فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ) هُوَ سَفَرُ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم كَانَ يَسِيرُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَسِيرُ مَعَهُ ليلا قال القرطبي وهذا السفر كان ليلا مُنْصَرَفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ لَا أَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ خِلَافًا (فَسَكَتَ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فَلَمْ يُجِبْهُ
قَالَ الْحَافِظُ يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِكُلِّ كَلَامٍ جَوَابٌ بَلِ السُّكُوتُ قَدْ يَكُونُ جَوَابًا لِبَعْضِ الْكَلَامِ وَتَكْرِيرُ عُمَرَ السُّؤَالَ إِمَّا لِكَوْنِهِ خَشِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْمَعْهُ أَوْ لِأَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي كَانَ يَسْأَلُ عَنْهُ كَانَ مُهِمًّا عِنْدَهُ وَلَعَلَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَابَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا تَرَكَ إِجَابَتَهُ أَوَّلًا لِشُغْلِهِ بِمَا كَانَ فِيهِ مِنْ نُزُولِ الْوَحْيِ (فَقُلْتُ) أَيْ لِنَفْسِي (ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَكَسْرِ الْكَافِ مِنَ الثُّكْلِ وَهُوَ فِقْدَانُ الْمَرْأَةِ وَلَدَهَا دَعَا عُمَرُ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ مِنْهُ مِنَ الْإِلْحَاحِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يُرِدِ الدُّعَاءَ عَلَى نَفْسِهِ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُقَالُ عِنْدَ الْغَضَبِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ مَعْنَاهَا (نَزَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِفَتْحِ النُّونِ وَبِالزَّايِ بَعْدَهَا رَاءٌ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّثْقِيلِ وَالتَّخْفِيفُ أَشْهَرُ أَيْ أَلْحَحْتُ عَلَيْهِ (مَا أَخْلَقَكَ) صِيغَةُ التَّعَجُّبِ مِنْ خَلُقَ كَكَرُمَ صَارَ خَلِيقًا أَيْ جَدِيرًا (فَمَا نَشِبْتُ) بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ سَاكِنَةٌ أَيْ مَا لَبِثْتُ
قَالَ فِي النِّهَايَةِ لَمْ يَنْشَبْ أَنْ فَعَلَ كَذَا أَيْ لَمْ يَلْبَثْ وَحَقِيقَتُهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بشيء غيره ولا استغل بسواء (صَارِخًا) أَيْ مُصَوِّتًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَيْ لِمَا فِيهَا مِنَ الْبِشَارَةِ(9/105)
بِالْمَغْفِرَةِ وَالْفَتْحِ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ هَذَا الْفَتْحِ فَقَالَ الْأَكْثَرُ عَلَى مَا فِي الْبُخَارِيِّ هُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ وَالصُّلْحُ قَدْ يُسَمَّى فَتْحًا
قَالَ الْفَرَّاءُ وَالْفَتْحُ قَدْ يَكُونُ صُلْحًا وَقَالَ قَوْمٌ إِنَّهُ فَتْحُ مَكَّةَ وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّهُ فَتْحُ خَيْبَرَ
وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ
وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَسْلَمَ الْعَدَوِيِّ هَذَا قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ والبخاري والنسائي
[3263] قوله ليغفر لك الله أَيْ بِجِهَادِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تأخر أَيْ مِنْهُ لِتَرْغِيبِ أُمَّتِكَ فِي الْجِهَادِ وَهُوَ مأول لِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الْقَاطِعِ مِنَ الذُّنُوبِ وَاللَّامُ لِلْعِلَّةِ الْغَائِبَةِ
فَمَدْخَلُهَا مُسَبَّبٌ لَا سَبَبٌ قَالَهُ الْجَلَالُ الْمَحَلِّيُّ
وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تأخر فَقِيلَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ قَبْلَ الرِّسَالَةِ وَمَا تَأَخَّرَ بَعْدَهَا
قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وبن جَرِيرٍ وَالْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخْرَى ضَعِيفَةٌ وَالظَّاهِرُ الرَّاجِحُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالذَّنْبِ بَعْدَ الرِّسَالَةِ تَرْكُ مَا هُوَ الْأَوْلَى وسمي في حقه ذنب لِجَلَالَةِ قَدْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَنْبًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ (مَرْجِعَهُ) أَيْ وَقْتَ رُجُوعِهِ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ أُنْزِلَتْ (فَقَالُوا هَنِيئًا مَرِيًّا يَا رَسُولَ اللَّهِ) قَالَ الْقَسْطَلَّانِيُّ أَيْ قَالَ أَصْحَابُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَنِيئًا أَيْ لَا إِثْمَ فِيهِ مَرِيئًا أَيْ لَا دَاءَ فِيهِ وَنُصِبَا عَلَى الْمَفْعُولِ أَوِ الْحَالِ أَوْ صِفَةٍ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ صَادَفْتَ أَوْ عِشْ عَيْشًا هَنِيئًا مَرِيئًا يَا رَسُولَ اللَّهِ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ لِيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات إِلَخْ اللَّامُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ أَيْ أَمَرَ بِالْجِهَادِ لِيُدْخِلَ إِلَخْ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ
قَوْلُهُ (وَفِيهِ عَنْ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ) يَعْنِي وَفِي الْبَابِ عَنْ مُجَمِّعَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَكْسُورَةِ بْنَ جَارِيَةَ بِالْجِيمِ بْنَ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيَّ الْأَوْسِيَّ الْمَدَنِيِّ صَحَابِيٌّ أَحَدُ الْقُرَّاءِ الذين قرؤوا الْقُرْآنَ وَأَخْرَجَ حَدِيثَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ فِي الجهاد(9/106)
[3264] قَوْلُهُ (أَنَّ ثَمَانِينَ هَبَطُوا) أَيْ نَزَلُوا وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْحُدَيْبِيَةِ هَبَطَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ ثَمَانُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ بِالسِّلَاحِ (أَنْ يَقْتُلُوهُ) أَيْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَأُخِذُوا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيِ الثَّمَانُونَ (فَأَعْتَقَهُمْ) وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ فَعَفَا عَنْهُمْ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ
[3265] قَوْلُهُ (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ سَعِيدُ بْنُ عِلَاقَةَ أَبُو فَاخِتَةَ
قوله وألزمهم أي المؤمنين كلمة التقوى أَيْ مِنَ الشِّرْكِ وَهِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأُضِيفَ إِلَى التَّقْوَى لِأَنَّهَا سَبَبُهَا وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَزَادَ بَعْضُهُمْ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَزَادَ بَعْضُهُمْ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ هِيَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يُقِرُّوا بِهَا وَامْتَنَعُوا عَنْ كِتَابَتِهَا فِي كِتَابِ الصُّلْحِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ
فَخَصَّ اللَّهُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ بِهَا وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ هِيَ الَّتِي يُتَّقَى بِهَا الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ هَذَا (قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ كَلِمَةِ التَّقْوَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَيْ هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غريب) وأخرجه أحمد وبن جرير والدارقطني في الأفراد وبن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات
9(9/107)
سُورَةُ الْحُجُرَاتِ ثَمَانِي عَشْرَةَ آيَةً وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ [3266] قَوْلُهُ (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَعْمِلْهُ) أَيِ الْأَقْرَعَ (فَقَالَ عُمَرُ لَا تَسْتَعْمِلْهُ) وفي رواية البخاري من طريق بن جريج عن بن أبي مليكة عن بن الزُّبَيْرِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَمَّرَ الْقَعْقَاعَ بْنَ مَعْبَدٍ
وَقَالَ عُمَرُ بَلْ أَمَّرَ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ
وَرِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ أَثْبَتُ مِنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ هَذِهِ لِأَنَّ فِي سَنَدِهَا مُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ وهو صدوق سيء الْحِفْظِ (مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلَافِي) أَيْ لَيْسَ مَقْصُودُكَ إِلَّا مُخَالَفَةَ قَوْلِي (وَكَانَ عُمَرُ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا تَكَلَّمَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُسْمِعْ كَلَامَهُ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ) وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ فَكَانَ عُمَرُ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا حَدَّثَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدِيثٍ حَدَّثَهُ كَأَخِي السِّرَارِ لَمْ يُسْمِعْهُ حَتَّى يستفهمه (قال وما ذكر بن الزُّبَيْرِ جَدَّهُ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ) يَعْنِي أَنَّ بن الزُّبَيْرِ ذَكَرَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا تَكَلَّمَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُسْمِعْ كَلَامَهُ إِلَخْ وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا عَنْ جَدِّهِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي التَّفْسِيرِ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهِ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ
قَالَ الْقَسْطَلَّانِيُّ يُرِيدُ جَدَّهُ لِأُمِّهِ أَسْمَاءَ وَإِطْلَاقُ الْأَبِ عَلَى الْجَدِّ مَشْهُورٌ انْتَهَى
وقال الحافظ في الفتح وقد أخرج بن الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا مُرْسَلٌ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مَوْصُولًا مِنْ حَدِيثِ أبي هريرة نحوه وأخرجه بن مردويه من(9/108)
طَرِيقِ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ قال لما نزلت لا ترفعوا أصواتكم الْآيَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ آلَيْتُ أَلَّا أُكَلِّمَكَ إِلَّا كَأَخِي السِّرَارِ انتهى
قوله (هذا حديث غريب حسن) وَأَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ
[3267] قَوْلُهُ (فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ حَمْدِي زَيْنٌ وَإِنَّ ذَمِّي شَيْنٌ) مَقْصُودُ الرَّجُلِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ مَدْحُ نَفْسِهِ وَإِظْهَارُ عَظَمَتِهِ يَعْنِي إِنْ مَدَحْتُ رَجُلًا فَهُوَ مَحْمُودٌ وَمُزَيَّنٌ وَإِنْ ذَمَمْتُ رَجُلًا فَهُوَ مَذْمُومٌ وَمَعِيبٌ ذَاكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَيِ الَّذِي حَمْدُهُ زَيْنٌ وَذَمُّهُ شَيْنٌ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ مُرْسَلًا وَزَادَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّ الذين ينادونك من وراء الحجرات الْآيَةَ وَمِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ وَرَوَى مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ حَدَّثَنِي الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ اخْرُجْ إِلَيْنَا فَنَزَلَتْ (إِنَّ الذين ينادونك من وراء الحجرات) الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ بِلَفْظِ أَنَّهُ نَادَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ وَفِي رِوَايَةٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ
فَلَمْ يُجِبْهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ حَمْدِي لَزَيْنٌ وَإِنَّ ذَمِّي لَشَيْنٌ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غريب) وأخرجه بن جَرِيرٍ
[3268] قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا أَبُو زَيْدٍ صَاحِبُ الْهَرَوِيِّ) اسْمُهُ سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعَامِرِيُّ الْحَرَشِيُّ الْهَرَوِيُّ الْبَصْرِيُّ كَانَ يَبِيعُ الثِّيَابَ الْهَرَوِيَّةَ ثِقَةٌ مِنْ صغار التاسعة
قوله ولا تنابزوا بالألقاب أَيْ لَا يَدْعُو بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِلَقَبٍ يَكْرَهُهُ وَالتَّنَابُزُ التَّفَاعُلُ مِنَ النَّبْزِ بِالتَّسْكِينِ وَهُوَ الْمَصْدَرُ وَالنَّبَزُ بِالتَّحْرِيكِ اللَّقَبُ مُطْلَقًا أَيْ حَسَنًا كَانَ أَوْ قَبِيحًا خُصَّ فِي الْعُرْفِ بِالْقَبِيحِ وَالْجَمْعُ أَنْبَازٌ وَالْأَلْقَابُ جَمْعُ لَقَبٍ وَهُوَ اسْمٌ غَيْرُ الَّذِي سُمِّيَ بِهِ الْإِنْسَانُ وَالْمُرَادُ لَقَبُ السُّوءِ وَالتَّنَابُزُ بِالْأَلْقَابِ أَنْ يُلَقِّبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَالتَّدَاعِي بِهَا
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وأبو داود وبن مَاجَهْ قَوْلُهُ وَأَبُو جَبِيرَةَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ وَبَعْدَهَا
رَاءٌ مُهْمَلَةٌ وَتَاءُ تَأْنِيثٍ لَا يُعْرَفُ لَهُ اسْمٌ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صُحْبَتِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَهُ صُحْبَةٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَتْ لَهُ صُحْبَةٌ
[3269] قَوْلُهُ (عَنِ الْمُسْتَمِرِّ بْنِ الرَّيَّانِ) بِالتَّحْتَانِيَّةِ الْمُشَدَّدَةِ الْإِيَادِيِّ الزُّهْرَانِيِّ كُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ ثِقَةٌ عَابِدٌ مِنَ السَّادِسَةِ
قَوْلُهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ أَيِ اعْلَمُوا أَنَّ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ رَسُولَ(9/109)
اللَّهِ فَعَظِّمُوهُ وَوَقِّرُوهُ وَتَأَدَّبُوا مَعَهُ وَانْقَادُوا لِأَمْرِهِ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِكُمْ وَأَشْفَقُ عَلَيْكُمْ مِنْكُمْ وَرَأْيُهُ فِيكُمْ أَتَمُّ مِنْ رَأْيِكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ رَأْيَهُمْ سَخِيفٌ بِالنَّسِبَةِ إِلَى مُرَاعَاةِ مَصَالِحِهِمْ فَقَالَ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لعنتم أَيْ لَوْ أَطَاعَكُمْ فِي جَمِيعِ مَا تَخْتَارُونَهُ لَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى عَنَتِكُمْ وَحَرَجِكُمْ وَالْعَنَتُ هُوَ التَّعَبُ وَالْجَهْدُ وَالْإِثْمُ وَالْهَلَاكُ (قَالَ) أَيْ أَبُو سَعِيدٍ (وَخِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ) أَيِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (لَوْ أَطَاعَهُمْ) أَيْ لَوْ أَطَاعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ (لَعَنِتُوا) أَيْ خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ مَعَ كَوْنِهِمْ خِيَارَ الْأَئِمَّةِ (فَكَيْفَ بِكُمُ الْيَوْمَ) الْخِطَابُ فِيهِ وَفِي مَا قَبْلَهُ لِلتَّابِعِينَ أَيْ كَيْفَ يَكُونُ حَالُكُمْ لَوْ يَقْتَدِي بِكُمْ وَيَأْخُذُ بِآرَائِكُمْ وَيَتْرُكُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ [3270]
قَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ أَيْ أَزَالَ وَرَفَعَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِهَا وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ الْمُشَدَّدَتَيْنِ أَيْ نَخْوَتَهَا وَكِبْرَهَا وَفَخْرَهَا وَتَعَاظُمَهَا أَيْ تفاخرها فالناس رجلان الْإِيمَانِ عَلَى الْخَاتِمَةِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بمن اتقى وفاجر أي كأفراد عَاصٍ شَقِيٌّ أَيْ غَيْرُ سَعِيدٍ هَيِّنٌ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِ التَّحْتِيَّةِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ ذَلِيلٌ عَلَى اللَّهِ أَيْ عِنْدَهُ وَالذَّلِيلُ لَا يُنَاسِبُهُ التَّكَبُّرُ وَالنَّاسُ أَيْ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ أَيْ أَوْلَادُهُ وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنَ التُّرَابِ أَيْ فَلَا يليق بمن أصله التراب النخوة والتجبر أو إذا كان الأصل واحدا فالكل إخوة فلا وَجْهَ لِلتَّكَبُّرِ لِأَنَّ بَقِيَّةَ الْأُمُورِ عَارِضَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا حَقِيقَةً يَا(9/110)
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى أي آدم وحواء وجعلناكم شعوبا جَمْعُ شَعْبٍ بِفَتْحِ الشِّينِ وَهُوَ أَعْلَى طَبَقَاتِ النَّسَبِ وَقَبَائِلَ هِيَ دُونَ الشُّعُوبِ وَبَعْدَهَا الْعَمَائِرُ ثُمَّ الْبُطُونُ ثُمَّ الْأَفْخَاذُ ثُمَّ الْفَصَائِلُ آخِرُهَا
مِثَالُهُ خُزَيْمَةُ شَعْبٌ كِنَانَةُ قَبِيلَةٌ قُرَيْشٌ عِمَارَةٌ بِكَسْرِ الْعَيْنِ قُصَيٌّ بَطْنٌ هَاشِمٌ فَخِذٌ الْعَبَّاسُ فصيلة لتعارفوا حذف منه إحدى التائين أَيْ لِيَعْرِفَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا لَا لِتُفَاخِرُوا بِعُلُوِّ النَّسَبِ وَإِنَّمَا الْفَخْرُ بِالتَّقْوَى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أتقاكم أَيْ إِنَّمَا تَتَفَاضَلُونَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّقْوَى لَا بِالْأَحْسَابِ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِكُمْ خَبِيرٌ ببواطنكم
قوله (هذا حديث غريب) وأخرجه بن أَبِي حَاتِمٍ
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ) أَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي آخِرِ الْكِتَابِ وأما حديث بن عَبَّاسٍ فَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ
[3271] قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الْبَغْدَادِيُّ الْمُؤَدِّبُ (عَنْ سَلَّامِ) بِفَتْحِ السِّينِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ (بْنِ أَبِي مُطِيعٍ) الْخُزَاعِيِّ مَوْلَاهُمُ الْبَصْرِيِّ ثِقَةٌ صَاحِبُ سُنَّةٍ فِي رِوَايَتِهِ عن قتادة ضعف من السابقة (عن الحسن) هو البصري قوله الحسب بفحتين الْمَالُ أَيْ مَالُ الدُّنْيَا الْحَاصِلُ بِهِ الْجَاهُ غالبا(9/111)
وَالْكَرَمُ أَيِ الْكَرَمُ الْمُعْتَبَرُ فِي الْعَقِبِ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ الْإِكْرَامُ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى التَّقْوَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى إن أكرمكم عند الله أتقاكم قَالَ الطِّيبِيُّ الْحَسَبُ مَا يَعُدُّهُ مِنْ مَآثِرِهِ وَمَآثِرِ آبَائِهِ وَالْكَرَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ وَالشَّرَفِ وَالْفَضَائِلِ وَهَذَا بِحَسَبِ اللُّغَةِ فَرَدَّهُمَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَ النَّاسِ وَعِنْدَ اللَّهِ أَيْ لَيْسَ ذِكْرُ الْحَسَبِ عِنْدَ النَّاسِ لِلْفَقِيرِ حَيْثُ لَا يُوَقَّرُ وَلَا يُحْتَفَلُ بِهِ بَلْ كُلُّ الْحَسَبِ عِنْدَهُمْ مَنْ رُزِقَ الثَّرْوَةَ وَوُقِّرَ فِي الْعُيُونِ وَمِنْهُ حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ حَسَبِ الرَّجُلِ إِنْقَاءُ ثَوْبَيْهِ أَيْ إِنَّهُ يُوَقَّرُ لِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ دَلِيلُ الثَّرْوَةِ وَذُو الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ عِنْدَ النَّاسِ وَلَا يُعَدُّ كَرِيمًا عِنْدَ اللَّهِ
وَإِنَّمَا الْكَرِيمُ عِنْدَهُ مَنِ ارْتَدَى بِرِدَاءِ التَّقْوَى وَأَنْشَدَ كَانَتْ مَوَدَّةُ سَلْمَانَ لَهُ نَسَبًا وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ نُوحٍ وَابْنِهِ رَحِمٌ انْتَهَى
وَقِيلَ الْحَسَبُ مَا يَعُدُّهُ الرَّجُلُ مِنْ مَفَاخِرِ آبَائِهِ وَالْكَرَمُ ضِدُّ اللُّؤْمِ فَقِيلَ مَعْنَاهُ الشَّيْءُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الرَّجُلُ عَظِيمَ الْقَدْرِ عِنْدَ النَّاسِ هُوَ الْمَالُ وَالشَّيْءُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ عَظِيمَ الْقَدْرِ عِنْدَ اللَّهِ التَّقْوَى
وَالِافْتِخَارُ بِالْآبَاءِ لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْهُمَا
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ) وَأَخْرَجَهُ أحمد وبن ماجه والحاكم
0 - (باب ومن سُورَةُ ق)
مَكِّيَّةٌ إِلَّا وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ الْآيَةَ فَمَدَنِيَّةٌ وَهِيَ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ آيَةً [3272] قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا شَيْبَانُ) بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّحْوِيُّ
قَوْلُهُ لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) أَيْ مِنْ زِيَادَةٍ وَفِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ أَيْ يُطْرَحُ فِيهَا مِنَ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ حَتَّى يَضَعَ فِيهَا رَبُّ الْعِزَّةِ أَيْ صَاحِبُ الْغَلَبَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ قَدَمَهُ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ فِي بَابِ خُلُودِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى إِذَا أُوعِبُوا فِيهَا وَضَعَ الرَّحْمَنُ قَدَمَهُ فِيهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَّامُ هُنَاكَ مَبْسُوطًا عَلَى وَضْعِهِ تَعَالَى قَدَمَهُ فِي النَّارِ فَتَقُولُ قَطْ قَطْ بِفَتْحِ الْقَافِ(9/112)
وَسُكُونِ الطَّاءِ
قَالَ الْحَافِظُ أَيْ حَسْبِي حَسْبِي وَثَبَتَ بِهَذَا التَّفْسِيرُ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَطْ بِالتَّخْفِيفِ سَاكِنًا وَيَجُوزُ الْكَسْرُ بِغَيْرِ إِشْبَاعٍ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ يَعْنِي بَعْضَ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قطي قطي باشباع وَقَطِنِي بِزِيَادَةِ نُونٍ مُشْبَعَةٍ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَرِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ بِالدَّالِ بَدَلَ الطَّاءِ
وَهِيَ لُغَةٌ أَيْضًا وَكُلُّهَا بِمَعْنَى يَكْفِي
وَقِيلَ قَطْ صَوْتُ جَهَنَّمَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ عند الجمهور انتهى (ويزوى) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ يُجْمَعُ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ (وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَعْنِي وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ
1 - (باب ومن سُورَةُ الذَّارِيَاتِ)
مَكِّيَّةٌ وَهِيَ سِتُّونَ آيَةً [3273] قَوْلُهُ (حدثنا سفيان) هو بن عُيَيْنَةَ (عَنْ سَلَّامٍ) بِفَتْحِ السِّينِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ بن سليمان المزني كنيته بن المنذر القارىء النَّحْوِيُّ الْبَصْرِيُّ نَزِيلُ الْكُوفَةِ صَدُوقٌ يَهِمُ قَرَأَ عَلَى عَاصِمٍ مِنَ السَّابِعَةِ (عَنْ أَبِي وَائِلٍ) اسْمُهُ شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ الْأَسَدِيُّ (عَنْ رَجُلٍ مِنْ رَبِيعَةَ) هُوَ الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ الْبَكْرِيُّ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ (فَذُكِرْتُ) بِضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْكَافِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (وَافِدَ عَادٍ) مَفْعُولٌ ثَانٍ لِذُكِرْتُ أَيْ ذَكَرُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَافِدَ عَادٍ بحضرتي وعادهم قَوْمُ هُودٍ (عَلَى الْخَبِيرِ بِهَا سَقَطْتَ) أَيْ عَلَى الْعَارِفِ بِقِصَّةِ وَافِدِ عَادٍ وَقَعْتَ وَهُوَ مَثَلٌ سَائِرٌ لِلْعَرَبِ (لَمَّا أُقْحِطَتْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ يُقَالُ أُقْحِطَ الْقَوْمُ إِذَا انْقَطَعَ عَنْهُمُ الْمَطَرُ (بَعَثَتْ) أَيْ أَرْسَلَتْ عَادٌ (قَيْلًا) بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ وَبِاللَّامِ قَالَ فِي الْقَامُوسِ قَيْلٌ وَافِدُ عَادٍ
وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ فَبَعَثُوا وَافِدًا لهم(9/113)
يُقَالُ لَهُ قَيْلٌ (فَنَزَلَ عَلَى بَكْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ) اسْمُ رَجُلٍ كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ (وَغَنَّتْهُ الْجَرَادَتَانِ) قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي النِّهَايَةِ هُمَا مُغَنِّيَتَانِ كَانَتَا بِمَكَّةَ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ مَشْهُورَتَانِ بِحُسْنِ الصَّوْتِ وَالْغِنَاءِ وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ فَمَرَّ بِمُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ فَأَقَامَ عِنْدَهُ شَهْرًا يَسْقِيهِ الْخَمْرَ وَتُغَنِّيهِ جَارِيَتَانِ يُقَالُ لَهُمَا الْجَرَادَتَانِ فَلَمَّا مَضَى الشَّهْرُ خَرَجَ إِلَى جِبَالِ مَهْرَةَ (ثُمَّ خَرَجَ) أَيْ قَيْلٌ (يُرِيدُ جِبَالَ مَهْرَةَ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ مَهَرَةُ بْنُ حَيْدَانَ حَيٌّ (فَاسْقِ عَبْدَكَ) يُرِيدُ نَفْسَهُ مَعَ قَوْمِهِ (سَحَابَاتٌ) أَيْ قطعات من السحاب (خذها رمادا رمددا ال فِي النِّهَايَةِ الرِّمْدِدُ بِالْكَسْرِ الْمُتَنَاهِي فِي الِاحْتِرَاقِ وَالدِّقَّةِ كَمَا يُقَالُ لَيْلٌ أَلَيْلُ وَيَوْمٌ أَيْوَمُ إِذَا أَرَادُوا الْمُبَالَغَةَ (لَا تَذَرُ مِنْ عَادٍ أَحَدًا) أَيْ لَا تَدَعُهُ حَيًّا بَلْ تُهْلِكُهُ وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ فَمَرَّتْ بِهِ سَحَابَاتٌ سُودٌ فَنُودِيَ مِنْهَا اخْتَرْ فَأَوْمَأَ إِلَى سَحَابَةٍ مِنْهَا سَوْدَاءَ فَنُودِيَ مِنْهَا خُذْهَا رَمَادًا رِمْدِدًا لَا تُبْقِي مِنْ عَادٍ أَحَدًا (وَذَكَرَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثُمَّ قَرَأَ إِذْ أرسلنا عليهم) الْآيَةَ مَعَ تَفْسِيرِهَا هَكَذَا (وَفِي عَادٍ) أَيْ فِي إِهْلَاكِهِمْ آيَةٌ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ العقيم هِيَ الَّتِي لَا خَيْرَ فِيهَا لِأَنَّهَا لَا تَحْمِلُ الْمَطَرَ وَلَا تُلَقِّحُ الشَّجَرَ وَهِيَ الدَّبُورُ ما تذر من شيء أَيْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جعلته كالرميم أَيْ كَالْمَبَانِي الْمُتَفَتِّتِ
[3274] قَوْلُهُ (فَإِذَا هُوَ غَاصٌّ بِالنَّاسِ) أَيْ مُمْتَلِئٌ بِهِمْ
قَالَ فِي مُخْتَارِ الصِّحَاحِ الْمَنْزِلُ غَاصٌّ بِالْقَوْمِ أَيْ مُمْتَلِئٌ بِهِمْ (وَإِذَا رَايَاتٌ) جَمْعُ رَايَةٍ وَهِيَ الْعَلَمُ (سُودٌ) جَمْعُ سَوْدَاءَ (تَخْفِقُ) بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْفَاءِ وَضَمِّهَا
قَالَ فِي الْقَامُوسِ خَفَقَتِ الرَّايَةُ تَخْفُقُ وتخفق خفقا(9/114)
وَخَفَقَانًا مُحَرَّكَةٌ اضْطَرَبَتْ وَتَحَرَّكَتْ (وَجْهًا) أَيْ جَانِبًا
قَوْلُهُ (فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ نَحْوًا مِنْ حَدِيثِ سفيان بن عيينة) أخرجه أحمد والنسائي وبن مَاجَهْ (وَيُقَالُ لَهُ الْحَارِثُ بْنُ حَسَّانٍ) قَالَ الْحَافِظُ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ الْحَارِثُ بْنُ حَسَّانِ بْنِ كَلَدَةَ الْبَكْرِيُّ الذُّهْلِيُّ الرَّبَعِيُّ وَيُقَالُ الْعَامِرِيُّ وَيُقَالُ حُرَيْثٌ وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَكَنَ الْكُوفَةَ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْهُ أَبُو وَائِلٍ وَغَيْرُهُ
قَالَ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ رَبِيعَةَ ثُمَّ عَلَّقَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَسَمَّاهُ الْحَارِثَ بْنَ حَسَّانٍ ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى فَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ الْبَكْرِيُّ ثُمَّ قَالَ وَيُقَالُ لَهُ الْحَارِثُ بْنُ حسان وصحح بن عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ اسْمَهُ حُرَيْثٌ وَقَالَ الْبَغَوِيُّ كَانَ يَسْكُنُ الْبَادِيَةَ
2 - (بَاب وَمِنْ سُورَةِ الطُّورِ)
مَكِّيَّةٌ وَهِيَ تِسْعٌ وَأَرْبَعُونَ آيَةً [3275] قَوْلُهُ (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ كُرَيْبُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ مَوْلَى بن عَبَّاسٍ قَوْلُهُ إِدْبَارُ النُّجُومِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَنَصْبِ الرَّاءِ عَلَى الْحِكَايَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وإدبار النجوم وَيَجُوزُ الرَّفْعُ وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ هُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ الرَّكْعَتَانِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الرَّكْعَتَيْنِ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ إِدْبَارَ النُّجُومِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الْفَجْرِ أَيْ فَرْضِهِ وَالْإِدْبَارُ وَالدُّبُورُ الذَّهَابُ يَعْنِي عُقَيْبَ ذَهَابِ النُّجُومِ وَهُوَ سُنَّةُ الصُّبْحِ وَإِدْبَارُ السُّجُودِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا قِرَاءَتَانِ مُتَوَاتِرَتَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فسبحه وإدبار السجود قَالَ الطِّيبِيُّ صَلَاةُ إِدْبَارِ السُّجُودِ وَإِدْبَارَ نَصَبَهُ بِسَبِّحْ فِي التَّنْزِيلِ أَوْقَعَهُ مُضَافًا فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْحِكَايَةِ انْتَهَى وَالْمُرَادُ بِالسُّجُودِ فَرِيضَةُ الْمَغْرِبِ
قَوْلُهُ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ بن مردويه وبن أبي حاتم (ما أقر بهما) صيغة(9/115)