وقوله: «اللهم! إني بشر أغضب كما يغضب البشر، فأي المسلمين لعنته، أو سببته، أو جلدته، فاجعل ذلك له كفارة ورحمة» ظاهر هذا: أنه خاف أن =(6/583)=@ يصدر عنه في حال غضبه شيء من تلك الأمور فيتعلق به حق %(4/1386)% مسلم، فدعا الله تعالى، ورغب إليه في أنه: إن وقع منه شيء من ذلك لغير مستحق في ألا يفعل بالمدعو عليه مقتضى ظاهر ذلك الدعاء، وأن يعوضه من ذلك مغفرة لذنوبه، ورفعة في درجاته، فأجاب الله تعالى طلبة نبيه عليه السلام ووعده بذلك، فلزم ذلك بوعده الصدق، وقوله الحق، وعن هذا عبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «شارطت ربي»، و «شرط (1) علي ربي»، و«اتخذت (2) عنده عهدا (3) لن يخلفنيه» لا أن الله تعالى يشترط (4) عليه شرط، ولا يجب عليه لأحد حق، بل: ذلك كله بمقتض فضله، وكرمه على حسب ما سبق في علمه.
فإن قيل: فكيف يجوز أن يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم لعن، أو سب، أو جلد لغير مستحقه، وهو معصوم من مثل ذلك في الغضب، والرضا؛ لأنَّ كل ذلك محرم وكبيرة، والأنبياء معصومون عن الكبائر، إما بدليل العقل، أو بدليل الإجماع كما تقدَّم؛ قلت: قد أشكل هذا على العلماء، وراموا التخلص من ذلك بأوجه متعددة، أوضحها وجه واحد، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يغضب لما يرى من المغضوب عليه من مخالفة الشرع، فغضبه لله تعالى لا لنفسه، فإنَّه ما كان يغضب لنفسه، ولا ينتقم لها، وقد قررنا في الأصول: أن الظاهر من غضبه تحريم الفعل المغضوب من أجله (5) .
وعلى هذا فيجوز له: أن يؤدب المخالف له باللعن والسب والجلد والدعاء عليه بالمكروه، وذلك بحسب مخالفة المخالف، غير أن ذلك المخالف قد يكون ما صدر منه فلتة أوجبتها غفلة، أو غلبة نفس، أو شيطان، وله فيما بينه وبين الله تعالى عمل خالص، وحال صادق يدفع الله عنه بسبب ذلك أثر ما صدر عن (6) النبي صلى الله عليه وسلم له من ذلك القول، أو الفعل. وعن هذا عبر النبي! &(6/475)&$
__________
(1) في (ح): «وشرطي».
(2) في (ح): «واتخذ عند الله عهدًا».
(3) في (ح): «واتخذ عند الله عهدًا».
(4) في (ح): «يشرط».
(5) في (ح): يشبه «أمثله».
(6) في (ح): يشبه «من النبي».(6/475)
بقوله: «فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعو ليس لها بأهل أن تجعلها له طهورًا، =(6/584)=@ %(4/1387)% وزكاة، وقربة تقربه بها يوم القيامة» أي: عوضه من تلك الدعوة بذلك، والله تعالى أعلم.
قلت: وقد يدخل في قوله: أيما أحد من أمتي دعوت عليه: الدعوات الجارية على اللسان من غير قصد للوقوع، كقوله: «تربت يمينك» و «عقرى حلقى (1) »، ومن هذا النوع قوله لليتيمة: «لا كبر سنك»، فإنَّ هذه لم تكن عن غضب، وهذه عادة غالبة في العرب يصلون كلامهم بهذه الدعوات، ويجعلونها دعاما لكلامهم من غير قصد منهم لمعانيها، وقد قدمنا في كتاب الطهارة في هذا كلامًا للبديع، وهو من القول البديع.وبما ذكرناه يرتفع الإشكال، ويحصل الانفصال .
ووجه لغة أبي هريرة في: جلده: أنه قلب التاء دالاً لقرب =(6/505)=@ مخرجهم (2) ، ثم أدغم التاء في الدال، وهي عكس اللغة المشهورة، فإنهم فيها قلبوا الدال تاء، وأدغموا الدال في التاء. وهي الأولى.
وقوله عليه السلام ليتيمة أم سلمة (3) : «أنت هِيَهْ، لقد كبرت، لا كبرت (4) سنك» الهاء في هيه للوقف، فإذا وصلت حذفتها، وهذا الاستفهام على جهة التعجب، %(4/1388)% وكأنه صلى الله عليه وسلم كان قد رآها صغيرة، ثم غابت عنه مدة فرآها قد طالت وعبلت، فتعجب من سرعة ذلك فقال لها ذلك القول تعجبًا (5) ، فوصل كلامه بقوله: «لا كبر سنك» على ما قلناه من إطلاق ذلك القول من غير إرادة معناه، وهذا واضح هنا ويحتمل أن يقال: إنما دعا عليها بأن لا يكبر سنها كبرة تعود (6) إلى أرذل العمر، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من أن يرد إلى أرذل العمر، والمعنى الأول أظهر من مساق بقية الحديث في اعتذاره عليه السلام عن ذلك. &(6/476)&$
__________
(1) في (ح): «وحلقى».
(2) في (ح): «مخرجهما».
(3) في (ح): «أم سليم».
(4) في (ح): «كبر».
(5) في (ح): «متعجبًا».
(6) في (ح): «تعود بها إلي».(6/476)
وقول اليتيمة لا يكبر سني، أو قالت: قرني: هو بفتح القاف، وتعني به: السن، وهو شك عرض لبعض الرواة، وأصله أن من ساوى آخر في سنه كان قرن رأسه محاذيا لقرنه، وقرن الرأس: جانبه الأعلى، وهذا يدل على: أن إجابة دعوات رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت معلومة بالمشاهدة عند كبارهم وصغارهم لكثرة ما كانوا يشاهدون من ذلك، ولعلمهم بمكانته عليه السلام وتلوث خمارها: تديره على رأسها وعنقها، والطهور هنا: هي الطهارة من الذنوب، وقد سماها في الرواية =(6/586)=@ الأخرى، كفارة والصلاة من الله تعالى: الرحمة، كما قد عبر عنها في الرواية الأخرى. والزكاة: الزيادة في الأجر كما قد عبر عنها في الرواية الأخرى بالأجر. والقربة: ما يقرب إلى الله تعالى وإلى رضوانه. وفيه ما يدلّ على تأكد الشفقة على اليتيم، والذبُ عنه، والحنو عليه. %(4/1389)%
وقول ابن عباس - رضي الله عنهما-: كنت ألعب مع الصبيان: دليل على جواز تخلية الصغير (1) لتعب لتنشط نفسه، وتتقوى أعضاؤه، وتتوقح رجلاه، أي: تتصلب .
وقوله: «فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواريت خلف باب» أي: اختفيت بالباب، وكأنه استحى من النبي صلى الله عليه وسلم وهابه. &(6/477)&$
__________
(1) في (ح): «الصغير للعلب».(6/477)
وقوله: «فحطأني حطأة» فسره (1) أمية بن خالد بقفدني قفدة، وكلاهما يحتاج إلى تفسير، فأمَّا حطأني: فهو بالحاء المهملة، وبالهمزة على قول شمر، وهو المحكي في الصحاح، وهكذا قيده أهل الإتقان والضبط، وهو أن تضرب بيدك مبسوطة في القفا، أو بين الكتفين، وجاء به الهروي غير مهموز في باب الحاء، =(6/587)=@ والطاء، والواو، وقال ابن الأعرابي: الحطو: تحريك الشيء متزعزعًا. وأما القفد - بتقديم القاف على الفاء - فالمعروف عند اللغويين أنه (2) : المشي على صدور القدمين من قبل الأصابع، ولا تبلغ عقباه الأرض.يقال: رجل أقفد، وامرأة قفداء، هو القفد - بفتح القاف والفاء -. %(4/1390)%
قلت: ولم أجد قفدني بمعنى حطأني إلا في تفسير أمية هذا.وهذا الضرب من النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس تأديبًا (3) له، ولعله: لأجل اختفائه منه إذ كان حقه أن يجيء إليه، ولا يفر منه.ويحتمل أن يكون هذا الضرب بعد أن أمره أن يدعو له معاوية، فلم يؤكد على معاوية الدعوة، وتراخى في ذلك، ألا ترى قوله في المرتين: هو يأكل، ولم يزد على ذلك، وكان حقه في المرة الثانية ألا يفارقه حتى يأتي به (4) ، والله تعالى أعلم.ففيه تأديب الصغار بالضرب الخفيف الذي يليق بهم، وبحسب ما يصدر عنه.
وقوله: «ادع لي معاوية» فيه استعمال الصغير (5) فيما يليق بهم من الأعمال .
وقوله: «لا أشبع الله بطنه» يحتمل أن يكون من نوع: «لا كبر سنك» كما قلناه، على تقدير: أن يكون معاوية من الأكل في أمر كان معذورًا به من شدة الجوع، أو مخافة فساد الطعام، أو غير ذلك، وهذا المعنى تأول من أدخل هذا الحديث في مناقب معاوية، فكأنه كنى به عن أنه دعا عليه بسبب أمر كان &(6/478)&$
__________
(1) في (ح): «فسرها».
(2) في (ح): «لأنه».
(3) في (ح): «تأديب».
(4) قوله: «به» سقط من (ح).
(5) في (ح): «الصغار».(6/478)
معذورًا =(6/588)=@ به، فحصل له من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الكفارة والرحمة والقربة إلى الله تعالى التي دعا بها النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرناه.ويحتمل: أن يكون هذا الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم على حقيقته أدبًا لمعاوية على تثبطه في إجابة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.
وإجابة دعوته صلى الله عليه وسلم واجبة على الفور، بدليل حديث أبي الذي أنكر عليه في ترك (1) إجابته، وكان أبي في الصلاة. %(4/1391)%
ومن باب: ما ذكر في ذي الوجهين وفي النميمة والتحذير من الكذب
قوله: «إن (2) من شر الناس ذي (3) الوجهين» يعني به الذي يدخل بين الناس بالشر والفساد، ويواجه (4) كل طائفة بما يتوجه به عندها مما يرضيها من الشر فإنَّ رفع من (5) حديث أحدهما إلى الآخر (6) على جهة الشر: فهو ذو الوجهين النمام، وأما من كان ذا وجهين في الإصلاح بين الناس، فيواجه كل طائفة بوجه خير، وقال لكل واحدة منهما من الخير خلاف ما يقول للأخرى، فهو الذي يسمى: بالمصلح، فعله (7) ذلك يسمى: الإصلاح (8) وإن كان كاذبًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيقول خيرًا، وينمي خير». =(6/589)=@
وقوله: «ألا أنبئكم ما العَضْه؟» هكذا أذكر أني قرأته بفتح العين، وإسكان الضاد والهاء، وهذا (9) عند الجياني، وهو مصدر عضهه يعضهه عضها: إذا رماه بكذب وبهتان، وقد رواه أكثر الشيوخ ما العضة – بكسر %(4/1392)% العين وفتح الضاد والتاء المنقلبة في &(6/479)&$
__________
(1) في (ح): «أنكر فيه عليه ترك».
(2) قوله: «إن» سقط من (ح).
(3) في (ح): يشبه «ذو».
(4) في (ح): «فيواجه».
(5) قوله: «من» سقط من (ح).
(6) في (ح): «أحديهما إلى الأخرى».
(7) في (ح): «وفعله».
(8) في (ح): «بالإصلاح»
(9) في (ح): «وهكذا».(6/479)
الوقف (1) هاج وهي أصوب ؛ لأنَّ العضة اسم، والنميمة (2) : اسم، فصح تفسير الاسم بالاسم، والعضه مصدره (3) ، ولا يحسن تفسير المصدر بالاسم.
فالرواية الثانية أولى، والذي يبين لك أن العضه اسم ما قاله الكسائي: قال: العضه: الكذب والبهتان، وجمعها عضون مثل: عزه وعزين، وقد بينا أن العضة: المصدر، فصح ما قلناه، وقد تقدَّم القول في حكم ذي الوجهين والنمام، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم العضة بالنميمة؛ لأنَّ النميمة لا تنفد عن الكذب والبهتان غالبًا.
وقوله: «عليكم بالصدق، فإنَّ الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإياكم والكذب...» الحديث يهدي: يرشد ويوصل، والبر: العمل =(6/590)=@ الصالح أو الجنة كما قدمناه. والفجور: الأعمال السيئة. وعليكم من ألفاظ الإعزاء المصرحة بالإلزام، نحو على كل من فهم عن الله تعالى أن يلازم الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأعمال، والصفاء في الأحوال، فمن كان كذلك لحق بالأبرار، ووصل إلى رضا الغفار. وقد أرشد الله تعالى إلى ذلك كله بقوله عند ذكر أحوال الثلاثة التائبين فقال: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} والقول في الكذب المحذر عنه على الضد من القول في الصدق، وقد تقدَّم القول في البر والفجور والهدى. %(4/1393)%
وقول أم كلثوم: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث تعني بذلك: أنه لم يرخص في شيء مما يكذب الناس فيه إلا في هذه الثلاث، وقد جاء لفظ الكذب نصًا في كتاب الترمذي. من حديث أسماء بنت =(6/591)=@ يزيد، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل &(6/480)&$
__________
(1) في (ح): «الوقف هاءً وهي».
(2) في (ح): «اسم للنميمة والنميمة» .
(3) في (ح): «مصدر».(6/480)
امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس». فهذه الأحاديث قد أفادت: أن الكذب كله محرم لا يحل منه شيء إلا هذه الثلاثة، فإنَّه رخص فيها لما حصل (1) بذلك من المصالح، ويندفع به من المفاسد، والأولى: ألا يكذب في هذه الثلاثة؛ إذا وجد عنه مندوحة؛ فإنَّ لم توجد المندوحة أعملت الرخصة.وقد يجب ذلك بحسب الحاجة إلى تلك المصلحة، والضرورة إلى دفع تلك المفسدة، وما ذكرته هو - إن شاء الله - مذهب أكثر العلماء، وقد ذهب الطبري إلى أنه لا يجوز الكذب الصريح في شيء من الأشياء لا في هذه الثلاثة، ولا في غيرها متمسِّكًا بالقاعدة الكلية في تحريمه، وتأول هذه الأحاديث على التورية والتعريض، وهو تأويل لا يعضده دليل، ولا تعارض بين العموم والخصوص كما هو عن العلماء منصوص.وأما كذبة تنجي ميتا (2) ، أو وليًا، أو أممًا، أو مظلومًا ممن يريد ظلمه، فذلك لا تختلف في وجوبه أمة من الأمم، لا العرب، ولا العجم. &(6/481)&$
__________
(1) في (ح): «يحصل».
(2) في (ح): «نبيًا».(6/481)
%(4/1394)%
وقوله: «إن الرجل لا يزال يصدق، ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا» يتحرى الصدق يقصد إليه ويتوخاه، ويجتنب نقيضه الذي هو الكذب، حتى يكون الصدق غالب حاله، فيكتب من (1) جملة الصديقين، ويثبت في ديوانهم، وكذلك القول في الكذب. وأصل الكذب: الضم والجمع، ومنه: كتبت البغلة (2) : إذا جمعت بين شفرتها (3) بحلقة. =(6/592)=@
وقوله: {كتب في قلوبهم الإيمان}جمعه وثبته، و{كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} أي: حكم وأوجب، فكأنه جمع ما حكم به في المحكوم عليه، وكتبت الكتاب: جمعت فيه المكتوب وثبته، وقد تقدَّم القول في الصديق. وخرج أبو مسعود الدمشقي حديث عبد الله بن مسعود هذا وزاد فيه: «وإن شر الروايا روايا الكذب، وإن الكذب لا يصلح فيه (4) جد ولا هزل، ولا يعد الرجل صاحبه فيخلفه»، وذكر أبو مسعود: أن مسلمًا خرج هذه الزيادة، ولم تقع لنا هذه الزيادة، ولا لأحد من أشياخنا فيما علمناه، وقال أبو عبد الله الحميدي: وليست عندنا.والروايا: جمع راوية، يعني به: حامل الكذب وراويه، والهاء فيه للمبالغة، كعلامة ونشابة، أو يكون (5) استعارة، شبه حامل الكذب لحمله إياه بالراوية الحاملة للماء.وفيه حجَّة للطبري في تحريمه الكذب مطلقا وعمومًا. وفيه ما يدل على وجوب الوفاء بالوعد، ولو كان بالشيء الحقير مع الصبي وجوب الصبر. =(6/593)=@ &(6/482)&$
__________
(1) في (ح): «في» بدل «من».
(2) في (ح): «العلة».
(3) في (ح): «ضم بين شفريها».
(4) في (ح): «منه».
(5) في (ح): «تكون».(6/482)
%(4/1395)%
ومن باب: ما يقال عند الغضب والنهي عن ضرب الوجه
قوله عليه السلام للغضبان: «إني لأعرف كلمة لو قالها لذهب عنه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» يدلّ: على أن الشيطان له تأثير في تهييج الغضب، وزيادته حتى يحمله على البطش بالمغضوب عليه، أو إتلافه، أو إتلاف نفسه، أو شر يفعله يستحق به العقوبة في الدنيا والآخرة، فإذا تعوذ الغضبان بالله من الشيطان الرجيم، وصح قصده لذلك فقد التجأ إلى الله تعالى، وقصده، واستجار به، والله تعالى أكرم من أن يخذل من استجار به، ولما جهل ذلك الرجل ذلك المعنى، وظن أن الذي يحتاج إلى التعوذ إنما هو المجنون، فقال: أمجنونا تراني؛ منكرًا على من نبهه على ما يصلحه، ورادًّا (1) لما ينفعه، وهذا من أقبح الجنون، والجنون فنون، وكان هذا الرجل كان من جفاة الأعراب الذين قلوبهم من الفقه والفهم (2) خراب.
وقوله: «أتدرون ما تعدون (3) الرقوب فيكم، قال (4) : قلنا: الذي لا يولد له» الرقوب: فعول، وهو الكثير المراقبة، كضروب، وقتول، لكنه صار في عرف &(6/483)&$
__________
(1) في (ح): «وراد».
(2) في (ح): «من الفهم».
(3) قوله: «تعدون» سقط من (ح).
(4) قوله: «قال» سقط من (ح).(6/483)
استعمالهم عبارة عن المرأة التي لا يعيش لها ولد، كما قال عبيد بن الأبرص: =(6/594)=@ %(4/1396)%
........ ....... .... ... كأنها شيخة رقوب
قلت: هذا نقل أهل اللغة، ولم يذكروا أن الرقوب يقال على من لا يولد له، مع أنه قد كان معروفًا عند الصحابة - رضي الله عنهم -، ولذلك أجابوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم. والقياس يقتضيه؛ لأنَّ الذي لا يولد له يكثر ارتقابه للولد، وانتظاره له، ويطمع فيه إذا كان ممن يرتجى ذلك، كما يقال على المرأة التي ترقب (1) موت زوجها رقوب. وللناقة الني ترقب الحوض فتنفر منه، ولا تقربه: رقوب.
قلت: ويحتمل أن يحمل قولهم في الرقوب: إنه الذي لا يولد له (2) بعد فقد أولاده لوصوله من الكبر إلى (3) لا يولد له، فتجتمع عليه مصيبة الفقد ومصيبة اليأس، وهذا هو الأليق بمساق الحديث.ألا ترى قوله: «ليس ذلك الرقوب، ولكنه الرجل الذي لا (4) يقدم من ولده شيئًا) أي: هو (5) أحق باسم الرقوب من ذلك ؛ لأنَّ هذا الذي أصيب بفقد أولاده في الدنيا ينجبر في الآخرة بما يعوض على ذلك من الثواب، وأما من لم يمت له ولد فيفقد في الآخرة ثواب فقد الولد.
فهو أحق باسم الرقوب من الأول، وقد صدر هذا الأسلوب من النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا، كقوله: «ليس المسكين بالطواف عليكم»، و«ليس الشديد بالصرعة» و«ليس الواصل بالمكافئ» ومثله كثير. %(4/1397)%
ولم يرد بهذا السلب سلب الأصل.لكن سلب الأولى =(6/595)=@ والأحق، والصرعة: بفتح الراء هو الذي يصرع الناس كثيرًا، وبالسكون هو الذي يصرعه الناس، وكذلك: هزأة وهزءة (6) ، وسخرة وسخرة، وقد تقدَّم.
وقوله: «لما صور الله تعالى آدم في الجنة ترى ما شاء الله (7) أن يتركه» يعني: أن الله تعالى لما صور طينة آدم، وشكلها بشكله على ما سبق في علمه فلما رآها &(6/484)&$
__________
(1) في (ح): «ترتقب».
(2) زاد بعدها في (ح): «على الذي لا يولد له».
(3) في (ح): «الحالة» بدل «حال».
(4) في (ح): «لم».
(5) في (ح): «هذا».
(6) في (ح): «هدأة وهذاة».
(7) لفظ الجلالة ليس في (أ).(6/484)
إبليس أطاف بها، أي: دار حولها، وجعل ينظر في كيفيتها وأمرها، فلما رآها =(6/596)=@ ذات جوفي وقع له أنها مفتقرة إلى ما يسد جوفها، وأنها لا تتمالك عن تحصيل ما تحتاج إليه من أغراضها، وشهواتها» فكان الأمر على ما وقع. %(4/1398)%
ومن باب: إذا قاتل أحدكم أخاه فلا يلطم الوجه (1)
قوله: «إذا قاتل أحدكم أخاه، فلا يلطمن الوجه». وفي الأخرى: «فليجتنب الوجه، فإنَّ الله تعالى خلق آدم على صورته» معنى قائل: ضرب (2) ، وقد جاء كذلك في بعض رواياته، وقد قلنا: إن أصل المقاتلة المدافعة، ويعني بالأخوة &(6/485)&$
__________
(1) كتب في (ح): «بدل هذا العنوان»: «باب النهي عن ضرب الوجه».
(2) في (ح): «ضارب».(6/485)
هنا - والله أعلم - أخو الآدمية، فإنَّ الناس كلهم بنو آدم، ودل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «فإنَّ الله خلق آدم على صورته» أي: على صورة وجه المضروب، فكأن اللاطم في وجه أحد ولد آدم لطم وجه أبيه آدم. وعلى هذا فيحرم لطم الوجه من المسلم والكافر، ولو أراد الأخوة الدينية لما كان للتعليل بخلق آدم على صورته معنى. لا (1) يقال: فالكافر مأمور **مامور كذا بالورق** بقتله وضربه في أي عضو كان؛ إذ المقصود إتلافه (2) ، والمبالغة =(6/597)=@ في الانتقام منه، ولا شك في أن ضرب الوجه أبلغ في الانتقام والعقوبة، فلا يمنع. إنما (3) مقصود الحديث: إكرام وجه المؤمن لحرمته؛ لأنَّا نقول: مسلم أنا مأمورون بقتل الكافر، والمبالغة في الانتقام منه لكن إذا تمكنا من اجتناب %(4/1399)% وجهه اجتنبناه لشرفية هذا العضو، ولأن الشرع قد نزل هذا الوجه منزلة وجه أبينا.
وقبح (4) لطم الرجل وجهًا يشبه وجه أبي اللاطم، وليس كذلك سائر الأعضاء ؛ لأنَّها كلها تابعه للوجه، وهذا الذي ذكرناه: هو ظاهر الحديث، ولا يكون في الحديث إشكال يوهم في حق الله تعالى تشبيهًا، إنَّما (5) أشكل ذلك على من أعاد الضمير في صورته على الله تعالى، وذلك ينبغي ألا يصار إليه شرعًا، ولا عقلاً (6) ، أما العقل فيحيل الصورة الجسمية على الله تعالى، وأما الشرع فلم ينص على ذلك نصًّا قاطعا، ومحال أن يكون ذلك، فإنَّ النص القاطع صادق، والصادق لا يقول المحال، فيتعين عود الضمير على المضروب ؛ لأنَّه هو الذي سبق الكلام لبيان حكمه.وقد أعادت المشبهة هذا الضمير على الله تعالى، فالتزموا القول بالتجسيم، وذلك نتيجة العقل السقيم، والجهل الصميم، وقد بينا جهلهم، وحققنا كفرهم فيما تقدم، ولو سلمنا: أن الضمير عائد على الله تعالى، فللتأويل فيه وجه صحيح، وهو أن الصورة قد تطلق بمعنى الصفة، كما يقال: صورة هذه المسألة كذا، أي: صفتها، وصور لي فلان كذا فتصورته، أي: وصفه لي ففهمته، &(6/486)&$
__________
(1) في (ح): «لا» وألحق في الهامش «فلا» وكتب فوقها (ح).
(2) في (ح): «قتله».
(3) في (ح): «وأما».
(4) في (ح): «وبقبح».
(5) في (ح): «وإنما».
(6) في (ح): «عقلاً ولا شرعًا».(6/486)
وضبطت وصفه في نفسي، وعلى هذا فيكون معنى قوله: «إن الله خلق آدم على صورته (1) » أي: خلقه موصوفًا بالعلم الذي فصل به بينه وبين جميع أصناف الحيوانات، وخصه منه بما لم يخص به أحدًا من ملائكة (2) الأرضين والسموات، وقد قلنا فيما تقدَّم: إن التسليم في المتشابهات أسلم، والله ورسوله أعلم.
والأنباط: جمع نبط، وهم قوم ينزلون =(6/598)=@ بالبطائح بين العراقين، سقوا بذلك لأنهم ينبطون الماء، أي: يحفرون عليه حتى يخرج (3) على وجه الأرض.يقال: نبط الماء ينبط ويتنبط: إذا نبع، %(4/1400)% وأنبط الحفار الماء إذا بلغ إليه، والاستنباط: استخراج العلوم، ويقال على النبط: نبيط أيضًا، وكانوا إذ ذاك أهل ذمة، ولذلك عذبوا بالشمس، وصب الزيت على رؤوسهم لأجل الجزية، وكأنهم امتنعوا من الجزية مع التمكن، فعوقبوا لذلك، فأمَّا مع تبين عجزهم، فلا تحل عقوبتهم بذلك (4) ، ولا بغيره ؛ لأنَّ من عجز عن الجزية سقطت عنه .
وقوله: «إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا» يعني: إذا عذبوهم ظالمين، إما في أصل التعذيب فيعذبونهم (5) في موضع لا يجوز فيه التعذيب، أو يعذب (6) بزيادة على المشروع في التعذيب: إما في المقدار، وأما في الصفة، كما بيناه في ا لحدود .
وقوله: «وأميرهم يومئذ عمير بن سعد»: كذا (7) صحت الرواية عند أكثر الشيوخ، وفي أكثر النسخ، وهو الصواب ؛ لأنَّه عمير بن سعد بن عمر (8) القارئ من الأنصاري من بني عمرو بن عوف، يكنى أبوه أبا زيد، وهو أحد من جمع القرآن، الذي تقدَّم ذكره في حديث أنس، الذي قال فيه أنس: أبو زيد أحد &(6/487)&$
__________
(1) قوله: «على صورته» سقط من (ح).
(2) في (ح): «الملائكة».
(3) في (ح): «يخرجون».
(4) في (ح): «لذلك».
(5) في (ح): «فيعذبوهم».
(6) قوله: «يعذب» سقط من (ح).
(7) في (ح): «هكذا».
(8) في (ح): «عمير».(6/487)
عمومتي، واختلف في اسم أبي زيد هذا، فقيل (1) : سعد - كما تقدم - وهو الأعرف، وقيل: سعيد، وكان عمر - رضي الله عنه – %(4/1401)% ولي عميرًا حمص وكان يقال له: نسيج =(6/599)=@ وحده ووقع في كتاب القاضي أبي علي الصدفي: عمر بن سعيد.
قال أهل النقل: وهو وهم، وأما عمرو بن سعيد (2) فمعدود في الصحابة، وهو عمرو بن سعيد (3) ربيب الجلاس ويتيمه.حكاه القاضي أبو الفضل. وأوشكت: أسرعت، ومعناه: أنك ترى عن قرب ما يخبرك به.وقد تقدم القول في يوشك، وأنه من أفعال المقاربة، وفي القوم الذين بأيديهم سياط كأذناب البقر .
ومن باب: النهي عن الإشارة بالسلاح وفضل تنحية الأذى عن الطريق
قوله: «من أشار إلى أخيه بحديدة، فإنَّ الملائكة تلعنه حتى» كذا صحت =(6/600)=@ الرواية بالاقتصار على حتى، ولم يذكر المجرور بها استغناء عنه لدلالة الكلام &(6/488)&$
__________
(1) في (ح): «قيل».
(2) في (ح): «سعد».
(3) في (ح): «سعد».(6/488)
عليه، تقديره: حتى يترك، أو يدع، وما أشبهه، ووقع عند بعض %(4/1402)% الرواة بعد حتى (1) : «وإن كان أخاه لأبيه (2) »، وعليه فيكون ما بعده ليس من كلام النبي عليه السلام. وسقطت لبعضهم يعني: فيكون ما بعده من قول النبي صلى الله عليه وسلم حكم (3) أن مساق الكلام واحد.
ولعن النبي صلى الله عليه وسلم للمشير بالسلاح: دليل على تحريم ذلك مطلقا، جدا كان (4) أو هزلا، تحر ولا يخفى وجه لعن من تعتد ذلك؛ لأنَّه يريد قتل المسلم أو جرحه، وكلاهما باد كبيرة. وأما إن كان هازلاً؛ فلأنه ترويع مسلم، ولا يحل ترويعه، ولأنه ذريعة إلى القتل والجرح (5) المحرمين. وقد نص في الرواية الأخرى على صحَّة مراعاة الذريعة حيث قال: «فإنَّه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفر (6) من النار». &(6/489)&$
__________
(1) في (ح): «حتى يعني».
(2) في (ح): «لأبيه وأمه».
(3) في (ح): «بحكم».
(4) في (ح): «كان ذلك أو».
(5) في (ح): «أو للجرح».
(6) في (ح): «حفرة».(6/489)
وقوله: «وإن كان أخاه لأبيه وأمه» يعني: أن (1) ذلك محرم، صلى الله عليه وسلم، وقع من أشفق (2) الناس عليه، وأقربهم رحمًا، وهو يشعر بمنع الهزل بذلك.
ونصال: جمع نصل، وهي - هنا -: حديدة السهم، وتكراره: «فليأخذ بنصاله» ثلاث مرات على جهة التأكيد والمبالغة في سد الذريعة، وهو من جملة ما استدل به مالك - رحمه الله - على أصله في سد الذرائع. =(6/601)=@ %(4/1403)%
وقوله: «كيلا يخدش مسلمًا» فيه ما يدلّ على صحة القول بالقياس، وتعليل الأحكام الشرعية.و(قول أبي موسى: والله؛ ما متنا حتى سددناها، بعضنا في وجوه بعض) يعني: ما مات معظم الصحابة -رضي الله عنهم - حتى وقعت بينهم الفتن والمحن، فرمى بعضهم بعضا بالسهام، وقاتل (3) بعضهم بعضًا. ذكر هذا في معرض التأسف على تغير الأحوال وحصول الخلاف لمقاصد الشرع من: التعاطف والتواصل على قرب العهد، وكمال الجد. =(6/602)=@
وقوله: «فشكر الله له (4) فغفر له» أي: أظهر لملائكته، أو لمن شاء من خلقه الثناء عليه بما فعل من الإحسان لعبيده. وقد تقدَّم: أن أصل الشكر: الظهور، أو يكون جازاه جزاء الشاكر، فسمى الجزاء شكرا، وعبر عنه بشكر.
كما قال في &(6/490)&$
__________
(1) قوله: «أن» سقط من (ح).
(2) في (ح): «وإن وقع مع أشفق».
(3) قوله: «وقاتل» بياض في (ح).
(4) قوله: «له» سقط من (ح).(6/490)
الرواية الأخرى: «فأدخل الجنة» وكل ذلك إنما حصل لذلك الرجل بحسن نيته في تنحيته الأذى، ألا ترى قوله: «والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم»، %(4/1404)%
وقوله: «لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها» أي: يتقلب في نعيم الجنة، وملابسها (1) ، وقصورها، وسائر ما أعد الله تعالى فيها. =(6/603)=@
وقوله: «وأمر الأذى (2) عن طريق المسلمين» هكذا روايتي، ورواية عامة الشيوخ: براء مشددة، من المرور، بمعنى: نح. وعند الطبري: وأمر بزاي معجمة - من الميز، أي: أزله من الطريق، وميزه عنه.وعند ابن ماهان: أخره، وكلها بمعنى واحد .%(4/1405)%
وفيه ما يدل على الترغيب في إزالة الأذى والضرر عن المسلمين، وعلى إرادة الخير لهم، وهذا مقتضى الدين، والنصيحة، والمحبة. =(6/604)=@
ومن باب: عذبت امرأة في هرة (3)
وقوله: «دخلت امرأة النار من جراء هرة (4) » أي: من أجل، وفيه لغتان: المد والقصر، وظاهر هذا أن الهر يملك ؛ لأنَّه عليه السلام أضاف الهر للمرأة باللام التي هي ظاهرة في الملك، وقد تقدَّم الخلاف في ذلك. &(6/491)&$
__________
(1) من قوله: «وقوله: لقد رأيت...» إلى هنا مكرر في (ح).
(2) في (ح): يشبه «وأمر للأذى».
(3) قوله: «ومن باب: عذبت امرأة في هرة» سقط من (ح).
(4) في (ح): «هرة لها».(6/491)
وفيه ما يدلّ على أن الواجب على مالك الهر أحد الأمرين: إما أن يطعمه، أو يتركه يأكل مِمَّا يجده من الخشاش، وهي: حشرات الأرض، وأجناسها.وقد =(6/605)=@ يقال على صغار الطير، وهو بالخاء المعجمة، ويقال بفتح الخاء وكسرها.وحكى أبو علي القالي فيها الضم، فأمَّا الخشاش بالكسر لا غير: فهو الذي يدخل في أنف البعير من خشب، والخزامة من شعر، فأمَّا الخشاش بالفتح: فهو الماضي من الرجال.قال الجوهري: وقد يضم.وترمم: بضم التاء (1) والميم المشددة للعذري والسجزي، وهي الصحيحة. وعند بعضهم: ترمم بضم التاء وكسر الميم الأولى. والثلاثي هو المعروف (2) ، ومعناه: يأكل، مأخوذ من المرمة، وهي: الشفة من كل ذات ظلف .%(4/1406)%
ومن باب: عذاب المتكبر والمتألي
قوله: «العز إزاره، والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني عذبته» كذا جاء هذا اللفظ في كتاب مسلم مفتتحا بخطاب الغيبة، ثم خرج إلى الحضور، وهذا على &(6/492)&$
__________
(1) من قوله: «والميم المشددة للعذري...» إلى هنا سقط من (ح).
(2) قوله: «هو» سقط من (ح).(6/492)
نحو قوله تعالى: {حتى إذا كنتم في الفلك (1) } فخرج من خطاب الحضور إلى الغيبة، وهي طريقة عربية معروفة.وقد جاء هذا الحديث في غير كتاب مسلم: «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما قصمته، ثم ألقيته في النار»، وأصل الإزار: الثوب الذي يشا على الوسط.والرداء =(6/606)=@ يجعل (2) على الكتفين، ولما كان هذان التوبار يخصان اللابس بحيث لا يستغنى عنهما، ولا يقبلان المشاركة عبر الله تعالى عن العز بالإزار، وعن الكبرياء (3) بالرداء على جهة الاستعارة المستعملة عند العرب، كما قال: {ولباس التقوى ذلك خير} فاستعار للتقوى لباسًا، وكما قال عليه السلام: «من أسر سريرة ألبسه الله رداءها». وكما قال: «البسوا قناع المخافة، واذرعوا لباس الخشية»، وهم يقولون: فلان شعاره الزهد والورع، ودثاره التقوى، وهو كثير. ومقصود هذه الاستعارة الحسنة: أن العز، والعظمة، والكبرياء من أوصاف الله تعالى الخاصة به العز التي لا تنبغي لغيره. فمن تعاطى شيئًا منها أذله الله تعالى %(4/1407)% وصغره، وحقره، من» وأهلكه، كما قد أظهر الله تعالى من سنته في المتكبرين السابقين واللاحقين.
و(قول المتألي: والله لا يغفر الله لفلان) ظاهر في أنه قطع بأن الله تعالى، لا يغفر لذلك الرجل، وكأنه حكم على الله، وحجر عليه.وهذه نتيجة الجهل بأحكام الإلهية، والإدلال على الله تعالى بما اعتقد أن له عنده من الكرامة، والحظ، والمكانة. وكذلك المذنب من الخشة والإهانة، فإنَّ كان هذا المتألي مستحلاً لهذه الأمور فهو كافر، فيكون إحباط عمله لأجل الكفر، كما يحبط عمل الكفار، وأما إن لم يكن مستحلاً لذلك، وإنما غلب عليه الخوف، فحكم بإنفاذ &(6/493)&$
__________
(1) زاد في (ح): «وجرين بهم».
(2) في (ح): «ما يجعل».
(3) في (ح): «الكبر».(6/493)
الوعيد فليس بكافر، ولكنه (1) مرتكب كبيرة، فإنَّه قانط من رحمة الله، فيكون إحباط عمله بمعنى: أن ما أوجبت له هذه الكبيرة من الإثم يربي على أجر أعماله الصالحة، فكأنه لم يبق له عمل صالح. =(6/607)=@
وقوله: «من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان» استفهام على جهة الإنكار والوعيد، ويستفاد منه: تحريم الإدلال على الله تعالى، ووجوب التأدب معه في الأقوال، والأحوال، وأن حق العبد أن يعامل نفسه بأحكام العبودية، ومولاه بما يجب له من أحكام الإلهية والربوبية.
وقوله: «فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك» دليل على صحَّة مذهب أهل السنة: أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب، وهو موجب %(4/1408)% قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وأن لله تعالى أن يفعل في عبيده ما يريد من المغفرة والإحباط، إذ هو الفعال لما يريد، القادر على ما يشاء.وقد بينا الإحباط المذكور في هذا الحديث.
وقوله: «إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم» قال أبو إسحاق: لا أدري: أهلكهم بالنصب أو بالرفع. أبو إسحاق هذا: هو إبراهيم بن سفيان الراوي عن مسلم، شك في ضبط هذا الحرف، وقد قيده الناس بعده بالوجهين، وكلاهما له وجه، فإذا كان بالرفع: فمعناه أن القائل كذلك (2) القول هو أحق الناس بالهلاك، أو أشدهم هلاكًا، ومحمله على ما إذا قال ذلك (3) محقرًا للناس، وزاريًا عليهم، معجبًا بنفسه وعمله، ومن كان كذلك فهو الأحق بالهلاك منهم، فأمَّا (4) لو قال ذلك على جهة الشفقة على أهل عصره، وأنهم بالنسبة إلى من تقدمهم من أسلافهم =(6/608)=@ كالهالكين، فلا يتناوله هذا الذم، فإنَّها عادة جارية في أهل العلم والفضل، يعظمون أسلافهم، ويفضلونهم على من بعدهم، ويقصرون (5) بمن خلفهم، وقد يكون هذا على جهة الوعظ والتذكير ليقتدي اللاحق بالسابق، فيجتهد المقصر، ويتدارك المفرط، كما قال الحسن - رحمه الله -: لقد أدركت أقواما لو أدركتموهم لقلتم: مرضى، ولو أدركوكم لقالوا: هؤلاء لا يؤمنون بيوم الحساب. &(6/494)&$
__________
(1) في (ح): «لكنه» بلا واو.
(2) في (ح): «لذلك».
(3) قوله: «ذلك» سقط من (ح).
(4) في (ح): «فأما إذا لو».
(5) في (ح): «ويقصدون».(6/494)
وأما من قيده بالنصب فيكون معناه: أن الذي قال لهم ذلك مقنطًا لهم: هو الذي أهلكهم بهذا القول، فإنَّ الذي يسمعه قد ييأس من رحمة الله تعالى فيهلك، وقد يغلب على القائل رأي الخوارج فيهلك الناس بالخروج %(4/1409)% عليهم، ويشق عصاهم بالقتال، وغير ذلك كما فعلت الخوارج، فيكون قد أهلكهم حقيقة وحسًا، وقيل معناه: إن الذي قال فيهم ذلك (1) ، لا الله تعالى، فكأنه قال: هو الذي ظن ذلك (2) من غير تحقيق ولا دليل من جهة الله تعالى.والله تعالى أعلم.
وقوله: «رب أشعث مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره» الأشعث: المتلبد الشعر غير المدهنة. والمدفوع بالأبواب، أي: عن الأبواب. فلا يترك بقربها احتقارًا له، ويصح أن يكون معناه: يدفع بسد الأبواب في وجهه كلما أراد دخول باب من الأبواب، أو قضاء حاجة من الحوائج.
وقوله: «لو أقسم على الله لأبره» أي: لو وقع منه قسم على الله في شيء لأجابه الله تعالى فيما سأله إكرامًا له، ولطفًا به، وهذا كما تقدَّم من قول أنس بن النضر: لا والله لا يكسر ثنية الربيع أبدًا. فأبر الله قسمه، بأن جعل في قلوب الطالبين للقصاص الرضا بالدية، بعد أن أبوا قبولها، وكنحو ما اتفق للبراء لما =(6/609)=@ التقى بالكفار فاقتتلوا، فطال القتال، وعظم النزال، فقال البراء: أقسمت عليك يا رب! أو عزمت عليك، لتمنحنا أعناقهم (3) ، ولتلحقني بنبيك، فأبر الله قسمه، فكان كذلك.ولقد أبعد من قال: إن القسم – هنا - هو الدعاء من جهة اللفظ والمعنى. &(6/495)&$
__________
(1) في (ح): «ذلك فيهم».
(2) في (ح): «نطق بذلك».
(3) في (ح): «أكتافهم».(6/495)
%(4/1410)%
ومن باب: الوصية بالجار
وفضل السعي على الأرملة واليتيم
قوله: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» قد تقدَّم أن الجار يقال على المجاور في الدار، وعلى الداخل في الجوار، وكل واحد منهما له حق، ولا بد من الوفاء به، وقد تقدَّم قوله عليه السلام: «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه».
وقوله: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره». ولما أكد =(6/610)=@ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم (1) حق الجوار، وكثر عليه من ذلك غلب على ظن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله سيحكم بالميراث بين الجارين. وهذا يدلّ على: أن هذا الجار هنا هو جار الدار؛ لأنَّ الجار بالعهد قد كان من أول الإسلام يرث ثم نسخ ذلك، كما تقدَّم، فإنَّ كان هذا القول صدر من النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر، فقد كان التوارث مشروعًا، فمشروعيته واقعة محققة غير منتظرة، ولا مظنونة، وإن كان بعد ذلك فوقع ذلك الحكم ونسخه محقق، فكيف تظن (2) مشروعيته؟! فتعين: أن المراد بالجوار في هذا الحديث هو جوار الدار، والله تعالى أعلم. &(6/496)&$
__________
(1) قوله: «في» سقط من (ح).
(2) في (ح): «يظن».(6/496)
وقوله: «إذا طبخت مرقة فكثر (1) ماءها وتعاهد جيرانك» هذا الأمر على جهة الندب، والحث (2) على مكارم الأخلاق، وإرشاد إلى محاسنها لما يترتب عليه (3) من المحبة، وحسن العشرة، والألفة، ولما يحصل به من المنفعة، %(4/1411)% ودفع الحاجة والمفسدة، فقد يتأذى الجار بقتار قدر جار (4) ، وعياله، وصغار ولده، ولا يقدر على التوصل إلى ذلك فتهيج من ضعفائهم الشهوة، ويعظم على القائم عليهم الألم والكلفة، وربما يكون يتيمًا، أو أرملة ضعيفة، فتعظم المشقة، ويشتد منهم الألم والحسرة، وكل ذلك يندفع بتشريكهم في شيء من الطبيخ يدفع إليهم، فلا أقبح من منع هذا النذر (5) اليسير الذي يترتب عليه هذا الضرر الكبير.
وقوله: «فأكثر ماءها» تنبيه لطيف على تيسير الأمر على البخيل، إذ الزيادة =(6/611)=@ المأمور بها إنما هي فيما ليس له ثمن، وهو الماء. ولذلك لم يقل إذا طبخت مرقة فأكثر لحمها، أو طبيخها، إذ لا يسهل ذلك على كل أحد.
وقوله: «فأصبهم منها بمعروف» أي: بشيء يهدى مثله عرفًا، تحرزًا من التقليل المحتقر فإنه - وإن كان مما يهدى- فقد لا يقع ذلك الموقع، فلو لم يتيسر إلا القليل المحتقر فليهده ولا يحتقر (6) . كما جاء في الحديث الآخر: «لا تحقرن من المعروف شيء» ويكون المهدى له مأمورًا بقبول ذلك المحتقر، والمكافأة عليه، ولو بالشكر؛ لأنَّه وإن كان قدره محقرًا، دليل على تعلق قلب المهدي بجاره.
وقوله: «ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق» يروى بكسر اللام، وياء بعدها. وطلق الوجه بتسكين اللام بغير ياء، وهما لغتان، يقال: رجل طلق الوجه، وطليق الوجه، وهو المنبسط الوجه السمحه. يقال: طلق وجهه: بضم اللام يطلق طلاقه! =(6/612)=@ &(6/497)&$
__________
(1) في (ح): «فأكثر».
(2) في (ح): «والحض».
(3) في (ح): «عليها».
(4) في (ح): «جاره».
(5) في (ح): «النزر».
(6) في (ح): «فلنهده ولا يحتقره».(6/497)
%(4/1412)%
ومن باب: السعي (1) على الأرملة وكفالة اليتيم
قال الجوهري: الأرمل: الرجل الذي لا امرأة له، والأرملة: المرأة (2) التي لا زوج لها، وقد أرملت المرأة إذا مات عنها زوجها.قال ابن السكيت: الأرامل: المساكين من رجال أو نساء (3) . قال: ويقال لهم، وإن لم يكن فيهم نساء، ويقال: قد جاءت أرملة من نساء ورجال محتاجين، وإنما شبه الساعي على الأرملة بالمجاهد؛ لأنَّ القيام على المرأة بما يصلحها وما يحفظها، ويصونها، لا يتصور الدوام عليه إلا مع الصبر العظيم، ومجاهدة النفس والشيطان، فإنَّهما يكسلان عن ذلك، ويثقلانه، ويفسدان النيات في ذلك، وربما يدعوان بسبب ذلك إلى السوء ويسولانه، ولذلك قل من يدوم على ذلك العمل، وأقل من ذلك من يسلم منه، فإذا حصل ذلك العمل حصلت منه فوائد كشف كرب الضعفاء، وإبقاء رمقهم، وسد خلتهم، وصون حرمتهم .=(6/613)=@
وقوله: «كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو في الجنة كهاتين» قد تقدَّم: أن اليتيم في الناس من قبل فقد الأب، وفي البهائم: من قبل فقد (4) الأم، أو في الطير من قبل الأب والأم ومعنى قوله: «له أو لغيره»- أي: سواء كان اليتيم قريبًا للكافل أو لم يكن - في حصول ذلك الجزاء الموعود على الله.
ومعنى قوله: «أنا وهو في الجنة كهاتين» أي: هو معه (5) في الجنة، وبحضرته، غير أن كل واحد منهما على درجته فيها إذ لا يبلغ درجة الأنبياء غيرهم، ولا يبلغ درجة نبينا صلى الله عليه وسلم أحد من الأنبياء على (6) ما تقدَّم. وإلى هذا المعنى الإشارة بقرانه بين إصبعيه السبابة &(6/498)&$
__________
(1) في (ح): «فضل السعي».
(2) قوله: «المرأة» سقط من (ح).
(3) في (ح): «والنساء».
(4) قوله: «فقد» سقط من (ح).
(5) في (ح): «معي».
(6) في (ح): «إلا على».(6/498)
والوسطى، فيفهم من الجمع بينهما: المعية والحضور، ومن تفاوت ما بينهما: اختصاص كل واحد منهما بمنزلته ودرجته.وقد نص على هذا المعنى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «المرء مع من أحب، وله ما اكتسب» وقد تقدم نحو هذا. =(6/614)=@ %(4/1413)%
ومن باب: التحذير من الرياء والسمعة
قوله تعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك» أصل الشرك المحرم: اعتقاد شريك لله تعالى في إلهيته، وهو الشرك الأعظم، وهو شرك الجاهلية، ويليه في الرتبة اعتقاد شريك لله تعالى (1) في الفعل، وهو قول من قال: إن موجودا ما غير الله تعالى يستقل بأحداث فعل وإيجاده، وإن لم يعتقد كونه إلها، ويلي هذا في الرتبة الإشراك في العبادة، وهو الرياء. وهو أن يفعل شيئا من العبادات التي أمر الله تعالى بفعلها له لغير الله، (وهذا هو الذي سيق الحديث (2) لبيان تحريمه، وأنه &(6/499)&$
__________
(1) من قوله: «في إلهيته وهو...» إلى هنا سقط من (ح).
(2) في (ح): «هذا الحديث».(6/499)
مبطل للأعمال. لهذا (1) أشار بقوله: «من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشريكه» وهذا هو المسمى بالرياء، وهو على الجملة مبطل للأعمال، وضده الإخلاص، وهو من شرط صحَّة العبادات، والقرب. وقد نبهنا على معاقدهما. واستيفاء ما يتعلق بهما مذكور في الرقائق. =(6/615)=@
وقوله: «من سمع سمع الله به» أي: من يحدث بعمله (2) رياء ليسمع الناس فضحه الله تعالى يوم القيامة، وشهره على رؤوس الأشهاد (3) ، كما جاء (4) في غير كتاب مسلم: «يسمع (5) الله به سامع خلقه يوم القيامة» أي: كل من يسمع.وقيل: إن معنى ذلك أن من أذاع على مسلم عيبًا، وشنعه عليه، أظهر الله تعالى عيوبه يوم القيامة. %(4/1414)%
وقوله (6) : «ومن راءى راءى الله به» أي: من راءى بعمله فعمل شيئا من القرب لغير الله قابله الله يوم القيامة بعقوبة ذلك.فسمى العقوبة رياء على جهة المقابلة، كما قال: {ومكروا ومكر الله}.
وقوله: «إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها» أي: من الإثم والعقاب، وذلك لجهله بذلك، أو لترك التثبت، أو للتساهل.وفي غير كتاب مسلم إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقى لها بالا يهوي بها في النار، سبعين خريفا».
وفيه (7) من الفقه: وجوب التثبت عند الأقوال والأفعال، وتحريم، التساهل في شيء من الصغائر، وملازمة الخوف، والحذر عند كل قول وفعل، =(6/616)=@ والبحث عما مضى من الأقوال والأفعال، واستحضار &(6/500)&$
__________
(1) في (ح): «ولهذا».
(2) في (ح): «بعلمه».
(3) في (ح): «الأجتهاد».
(4) في (ح): «جاءت».
(5) في (ح): «سمع».
(6) قوله: «وقوله» سقط من (ح).
(7) في (ح): «فيه» بلا واو.(6/500)
ما مضى من ذلك وتذكره من أول زمان تكليفه؛ لإمكان أن يكون صدر من المكلف شيء بر لم يثبته يستحق (1) به هذا الوعيد (2) الشديد، فإذا تذكر واستعان بالله، فإنَّ ذكر شيئًا من ذلك تاب منه، واستغفر، وإن لم يتذكر وجب عليه أن يتوب جملة بجملة عما علم وعما لم يعلم، كما قال (3) النبي صلى الله عليه وسلم: «أستغفرك عما تعلم ولا أعلم». فمن فعل ذلك وصدقت نيته قبلت بفضل الله تعالى توبته.
وقوله: «من سخط الله»، أي: مما يسخط الله، وذلك بأن يكون كذبه، أو غيبة، أو نميمة، أو بهتانًا، أو بخسًا، أو باطلاً يضحك به الناس، كما قد جاء عن النبي في أنه قال: «ويل للذي يتكلم بالكلمة من الكذب ليضحك الناس (4) ، ويل له، ويل له».
وقوله: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين» كذا رواية أكثر الرواة بتقديم الجيم على الهاء منصوبًا على الاستثناء، وهو جمع مجاهر، اسم فاعل من %(4/1315)% جاهره بالقول وبالعداوة، إذا ناداه، وناجاه بذلك.ووقع في نسخة شيخنا أبي الصبر (5) : «إلا المجاهرون» بالواو رفعًا، وهو جائز، على أن تحمل (إلا) على (غير) كما قد أنشده النحويون:
وكل أخ مفارقه أخوه = لعمر أبيك الا الفرقدان
أي: غير الفرقدين، وهو قليل، والوجه الأول: الفصيح الكثير.
وقوله: «وإن (6) من الجهار» هذه رواية زهير، وهي رواية حسنة؛ لأنَّه =(6/617)=@ مصدر: جاهر، الذي (7) اسم الفاعل منه مجاهر، فيتناسب صدر الكلام وعجزه.
ورواه أكثر رواة مسلم: «وإن من الإجهار»فيكون مصدر: أجهر، أي (8) : &(6/501)&$
__________
(1) في (ح): «فيستحق».
(2) في (ح): «الوعد».
(3) في (ح): «قاله».
(4) في (ح): «الناس بها».
(5) في (ح): «أبي الصبر أيوب».
(6) في (ح): يشبه «فإن».
(7) في (ح): «الذي هو اسم».
(8) في (ح): «إذا» بدل «أي».(6/501)
أعلن.
قال الجوهري: إجهار الرجل: إعلانه، وعند الفارسي: وإن من الإهجار، بتقديم الهاء على الجيم، وهو الإفحاش في القول. قاله الجوهري. قلت: وهذه الروايات، وإن اختلفت ألفاظها، هي راجعه، إلى معنى واحد قد فسره في الحديث، وهو أن يعمل الرجل معصية في خفية، وخلوة، ثم يخرج يتحدث بها مع الناس، ويجهر بها ويعلنها، وهذا من أكبر الكبائر، وأفحش الفواحش.
وذلك: أن هذا لا يصدر إلا من جاهل بقدر المعصية، أو مستهين مستهزيء بها، مصر عليها، غير تائب منها، مظهر للمنكر. والواحد من هذه الأمور كبيرة، فكيف إذا اجتمعت؟! فلذلك كان فاعل هذه الأشياء أشد (1) الناس بلاء في الدنيا، وعقوبة في الآخرة؛ لأنَّه تجتمع عليه عقوبة تلك الأمور كلها، وسائر الناس ممن ليس على مثل حاله، وإن كان مرتكب كبير فأمره أخفت، وعقوبته - إن عويب - أهون.ورجوعه عنها أقرب من الأول؛ لأنَّ ذلك المجاهر قل أن يتوب، أو يرجع عما اعتاده من المعصية، وسهل عليه منها.فيكون كل العصاة بالنسبة إليه إما معافى مطلقا إن تاب، وإما معافى بالنسبة إليه إن عوقب، والله تعالى أعلم. =(6/618)=@ &(6/502)&$
__________
(1) في (ح): «فاعل ذلك أشد».(6/502)
%(4/1416)%
ومن باب: تغليظ عقاب من أمر بمعروف ولم يأته، ونهى عن المنكر وأتاه
قول القائل لأسامة: «ألا تدخل على عثمان فتكلمه» يعني: في تلك الأمور التي تفترى عليه، وكانت أمورًا بعضها كذب عليه، وبعضها كان له فيها عذر، وعنها جواب لو سمع منه، لكن العوام لا ينفع معهم اعتذار ولا ملام، ولم يكن شيء من هذه الأمور يوجب خلعه، ولا قتله قطعا، ولكن جرت الأقدار بأن قتل مظلومًا شهيد الدار.
وقوله: «أترون أني لا أكلمه إلا سمعكم» يعني: أنه كان يجتنب كلامه بحضرة الناس، ويكلمه إذا خلا به، وهكذا يجب أن يعاتب (1) الكبراء والرؤساء، يعظمون في الملأ إبقاء لحرمتهم، وينصحون في الخلاء أداء لما يجب من نصحهم. وسمعكم: منصوب على الظرف. يروى: بسمعكم، بالباء، أي: يحضره سمعكم.ويروى: أسمعكم على أنه فعل مضارع.
وقوله: «والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتح أمرًا، لا أحب أن أكون أول من فتحه» يعني: أنه كلمه مشافهة، كلام لطف (2) ؛ لأنَّه اتقى (3) ما يكون عن المجاهرة بالإنكار والقيام على الأئمة؛ لعظيم ما يطرأ %(4/1417)% بسبب ذلك من الفتن =(6/619)=@ والمفاسد، وخصوصًا على مثل عثمان - رضي الله عنه - ففيه التلطف (4) في الإنكار إذا ارتجى نفعه. &(6/503)&$
__________
(1) في (ح): «يعتب».
(2) في (ح): «لطيف».
(3) في (ح): «أبقى».
(4) في (ح): «من التلطف».(6/503)
وقوله: «ولا أقول لأحد يكون علي أميرا أنه خير الناس» أي: لا أطريه بذلك، ولا أداهنه، لكونه أميرا علي، بل: أقول له الحق، وأصنعه بحاله التي هو عليها (1) من غير تصنع (2) ، ولا ملق.وهذه كانت سيرة القوم، لا يخافون في الله لومة لائم، ولا يبالون في القيام بالحق، وإن أدى إلى العظائم، وهذا هو أعظم الأسباب التي أوجبت الاختلاف بينهم، حتى أدى ذلك إلى الحروب العظيمة، والخطوب الجسيمة؛ فإنَّ كل طائفة كانت ترى أنها المصيبة المحقة، ومخالفتها المخطئة، فإنَّها كانت أمورًا اجتهادية، ولم يكن فيها نصوص قطعية، ويستثنى من ذلك قتله عثمان، فإنَّه لم يرتكب ما يوجب خلعه، ولا قتله، والخوارج على علي والمسلمين فإنَّهم حكموا بكفر الجميع، فهاتان الطائفتان مخطئتان قطعًا، ومن عدا هؤلاء فأمَّا مصيب في اجتهاده فله أجران (3) ، ومن قصر في اجتهاده مذموم على التقصير. %(4/1418)%
وقوله: «فتندلق أقتاب بطنه» أي: تخرج بسرعة. واندلاق السيف : =(6/620)=@ خروجه بسرعة من غمده، والأقتاب: الأمعاء، واحدها قتب. وقال الأصمعي: واحدها قتبة، ويقال لها أيضًا: الأقصاب، واحدها قصب، قاله أبو عبيد. وقال أبو عبيدة: القتب: ما تحوى من البطن يعني: استدار، وهي الحوايا، وإنَّما اشتد (4) عذاب هذا؛ لأنَّه كان عالمًا بالمعروف وبالمنكر، وبوجوب (5) القيام عليه بوظيفة كل واحد منهما، ومع ذلك فلم بعمل بشيء من ذلك، فصار كأنه مستهين بحرمات الله تعالى، ومستخف بأحكامه، ثم إنه لم يتب عن شيء من ذلك، وهذا من &(6/504)&$
__________
(1) في (ح): «لها» بدل «عليها».
(2) في (ح): يشبه «تصنيع».
(3) في (ح): «أجر».
(4) في (ح): «أشد».
(5) في (ح): «بوجوب» بلا واو.(6/504)
جملة من (1) ينتفع بعلمه، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس عذابا يوم القيامة: عالم لم ينفعه (2) الله بعلمه». وإنما ذكر أسامة هذا الحديث مستدلا به على منع إطراء الأمير، بأن يقال له: أنت خير الناس ؛ لأنَّه يمكن أن يكون ذلك الأمير ممن يأمر بالمعروف، ولا يفعله، وينهى عن المنكر ويفعله فيستحق هذا العقاب الشديد، فكيف يقال له: أنت خير الناس؟! ويشهد لهذا مساق قوله، فتأمله، والله أعلم، وقد تقدَّم القول في وجوب تغيير المنكر.=(6/621)=@ %(4/1419)%
ومن باب: تشميت العاطس وكظم التثاؤب
قوله: «إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه» تشميت العاطس: هو الدعاء له بالخير، يقال: شمت (3) العاطس وسمته بالشين والسين (4) : إذا دعا له بالخير. والشين: أعلى اللغتين. قاله أبو عبيد. وقال ثعلب: معنى التشميت بالشين: أبعد الله عنك الشماتة.وأصل السين من الشمت، وهو القصد والهدى.وقال ابن الأنبارى: كل داع بالخير مشمت.وقد اختلف في تشميت العاطس الحامد لله، فأوجبه أهل الظاهر على كل من سمعه، للأمر المتقدم، ولقوله عليه السلام: «إذا عطس أحدكم فحمد الله كان حقًا على كل مسلم يسمعه أن يقول (5) : يرحمك الله». =(6/622)=@ &(6/505)&$
__________
(1) في (ح): «من لم ينتفع».
(2) في (ح): «تنفعه».
(3) في (ح): «أشمت».
(4) في (ح): «بالسين والشين».
(5) في (ح): «يقول له».(6/505)
أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. والمشهور من مذهب مالك، ومن اتبعه في جماعة العلماء (1) : أنه فرض على الكفاية، فيجزئ (2) فيه دعاء بعض عن بعض. وذهبت فرقا: إلى أنه على الندب، وإليه ذهب القاضي أبو محمد ابن نصر، وتأولوا قوله (3) عليه السلام: «حق على كل مسلم سمعه أن يشمته»: أن ذلك حق (4) في حكم الأدب، ومكارم الأخلاق.
كقوله: «حق الإبل أن تحلب على الماء». %(4/1420)% ثم اختلف العلماء في كيفية الحمد والرد لاختلاف الآثار. فقيل: يقول: الحمد لله. وقيل: الحمد لله رب العالمين. وقيل: الحمد لله على كل حال، وخيره الطبري فيما شاء من ذلك، ولا خلاف أنه مأمور بالحمد. وأما المشمت فيقول: ما يرد يرحمنا الله وإياكم، واختلف في رد العاطس على مشمته (5) ، فقيل يقول: يهديكم الله، ويصلح بالكم. وقيل يقول: يغفر الله لنا ولكم. وقيل: يرحمنا الله وإياكم، ويغفر لنا ولكم. وقال مالك والشافعي، إن شاء قال، يغفر الله لنا ولكم، وإن شاء قال: يهديكم الله ويصلح بالكم. &(6/506)&$
__________
(1) في (ح): «من العلماء».
(2) في (ح): «يجزئ».
(3) في (ح): «لقوله».
(4) قوله: «حق» سقط من (ح).
(5) في (ح): «المشمت».(6/506)
وقوله: «وإن لم يحمد الله فلا تشمته» هذا نهي عن تشميت من (1) لم يحمد الله بعد عطاسه، وأقل درجاته: أن يكون الدعاء له مكروها عقوبة له على غفلته عن تثب يحمد نعمة الله عليه في العطاس؛ إذ خرج منه ما احتقن في الدماغ من البخار. قاله بعض شيوخنا، ولا خلاف أعلمه أن من (2) لم يحمد الله لا يشمت، وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم تشميت العاطس الذي لم يحمد الله، ونص على (3) أن ترك الحمد هو المانع من ذلك. =(6/623)=@
وقوله في حديث البخاري: «كان حقًا على كل من (4) سمعه أن يشمته» يدل: على: أن العاطس ينبغي له أن يسمع صوته لحاضريه، وينبغي لكل من سمعه أن يشمته، بحيث يسمع من يليه، وينبغي لمن (5) لم يسمع العاطس وسمع المشمت، أن يشمت العاطس إذا حصل له أن ذلك تشميت له. والأظهر من الأحاديث المتقدمة وجوب التشميت على كل من سمعه إذا حمد الله، وهو مذهب أهل الظاهر، وهي رواية عن مالك»
وقول سلمة بن الأكوع: أن النبي صلى الله عليه وسلم عطس عنده رجل فقال له: «يرحمك الله» ثم عطس أخرى (6) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرجل مزكوم (7) » %(4/1421)% هكذا وقع هذا الحديث في كتاب مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم قال للرجل: «إنك مزكوم»، وهو الصحيح في الثانية، وقد خرجه الترمذي، وقال في الثالثة: «أنت مزكوم». والصحيح (8) في الرواية، وقد جاء في كتاب أبي داود وغيره الأمر بذلك مبلغا: «شمت أخاك ثلاثا، فما زاد فهو مزكوم» وبذلك قال مالك، وإن كان قد روى في موطئه الشك في الثالثة، أو الرابعة. =(6/624)=@
تنبيه: ينبغي للعاطس تغطية وجهه في حال عطاسه، وأن يخفض صوته به، ما لأن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك كان يفعل، ولأن تغطية الوجه ستر لما يغير العطاس من الوجه في والهيئة، ولأن إعلاء الصوت عندها مباعد للأدب والوقار. &(6/507)&$
__________
(1) في (ح): «العاطس» بل «من».
(2) قوله: «من» سقط من (ح).
(3) قوله: «على» سقط من (ح).
(4) في (ح): «كل مسلم سمعه».
(5) في (ح): «لكل» بدل «لمن».
(6) في (ح): «أخر».
(7) في (ح): «إنه» بدل «الرجل».
(8) في (ح): «وهو الصحيح».(6/507)
وقوله: «التثاؤب من الشيطان» التثاؤب: مصدر تثاءب مهموزا، ممدودا، ولا يقال بالواو، ومضارعه: يتثاءب، والاسم: الثؤباء، كل ذلك بالهمز. قال ابن دريد: أصله من: ثاب الرجل، فهو مثوب، إذا استرخى وكسل، ونسبته للشيطان ؛ لأنَّه يصدر عن تكسيله، فإنَّه قل أن يصدر ذلك مع النشاط.وقيل: نسب إليه ؛ لأنَّه يرتضيه.وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يحب العطاس، ويكره التثاؤب، فإذا عطس أحدكم...» الحديث، كما تقدم. قال: «وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع، فإنَّ أحدكم إذا تثاءب ضحك الشيطان منه»، وهذا يشعر بصحَّة %(4/1422)% التأويل الثاني، فإنَّ ضحك الشيطان منه سخرية به (1) ؛ لأنَّه صدر عنه التثاؤب الذي يكون عن الكسل، وذلك كله يرضيه؛ لأنَّه يجد به طريقًا إلى الكسل عن الخيرات والعبادات، ولذلك جاء في بعض طرق هذا الحديث: «التثاؤب في الصلاة من الشيطان»؛ لأنَّ ذلك يدل =(6/625)=@ على كسله فيها، وعدم نشاطه، فتثقل عليه، فيملها، فيستعجل فيها، أو يخل بها.
وقوله: «فليكظم ما استطاع» هذا خطاب لمن غلبه ذلك، فإنَّه يكسره بسد فاهه (2) ما أمكن (3) ، أو بوضع يده على فمه.وأما من أحس بمبادئه فهو المخاطب في حديث البخاري بقوله (4) : «فليرده»، ويحتمل أن يكون اللفظان بمعنى واحد.
وقوله:«فإنَّ الشيطان يدخل» يعني في الفم إذا لم يكظم. ويحصل من &(6/508)&$
__________
(1) قوله: «به» سقط من (ح).
(2) في (ح): «بسده فاه».
(3) في (ح): «ما أمكنه».
(4) في (ح): «بقوله في حديث البخاري».(6/508)
هذه الرواية، ومن حديث البخاري: أن من لم يكظم تثاؤبه ضحك الشيطان منه، ودخل في فمه، وقيل: إنه يتقيأ في فمه.
قال القاضي: ولهذا أمر المتثاءب بالتفل ليطرح ما ألقى الشيطان في فمه. وكل هذا يشعر بكراهة التثاؤب، وكراهة حالة المتثائب إذا لم يكظم، وأوامر هذا الباب من باب الإرشاد إلى محاسن الأحوال، ومكارم الآداب. =(6/626)=@ %(4/1423)%
ومن باب: كراهة المدح
قوله: «ويحك! قطعت عنق صاحبك»، وفي حديث أبي موسى: «قطعتم إلى ظهر الرجل» كل ذلك بمعنى أهلكتموه. وقد جاء عنه لكي أنَّه قال: «إياكم والمدح، فإنَّه الذبح». ويعني بذلك كله: أن الممدوح إذا أكثر عليه من ذلك يخاف عليه العجب بنفسه، والكر على غيره، فيهلك دينه بهاتين الكبيرتين، فإذا المدح مظنة الهلاك الديني، فيحرم، لكن هذه المظنة لا (1) تتحقق إلا عند الإكثار منه، والإطراء به، وأما مع الندرة والقلة؟ فلا يكون مظنة، فيجوز ذلك إذا كان حقا في نفسه، ولم يقصد به الإطراء، وأمن على الممدوح الاغترار به.وعلى هذا يحمل ما وقع للصحابة -رضي الله عنهم - من مدح بعضهم لبعض مشافهة ومكاتبة. وقد &(6/509)&$
__________
(1) في (ح): «ما» بدل «لا».(6/509)
مدح النبي صلى الله عليه وسلم مشافهة نظما ونثرا، ومدح هو أيضًا جماعة من أعيان أصحابه مشافهة، لكن ذلك كله إنما جاز لما (1) صحت المقاصد، وأمنت الآفات المذكورة.
وقوله: «إن كان أحدكم مادحا أخاه لا محالة، فليقل: أحسب فلانا؟ إن ما كان يرى أنه كذلك» ظاهر هذا: أنه لا ينبغي للإنسان أن يمدح أحدًا ما وجد من صلى الله عليه وسلم بر ذلك مندوحة، فإنَّ لم يجد بذا مدح لما (2) يعلمه من %(4/1424)% أوصافه، وبما يظنه، ويتحرر من =(6/627)=@ الجزم والقطع بشيء من ذلك، بل: يتحرر بأن يقول: فيما أحسب أو أظن، ويزيد (3) على ذلك: ولا أزكي على الله أحدًا، أي: لا أقطع بأنه كذلك عند الله، فإنَّ الله تعالى هو المطلع على السرائر، العالم بعواقب الأمور.
وقول هشام (4) : (إن رجلاً جعل يمدح عثمان، فجعل المقداد يحثو في وجهه الحصباء) كأن هذا الرجل أكثر من المدح حتى صدق عليه أنه مداح، ولذلك عمل المقداد بظاهر ذلك الحديث، فحثا في وجهه التراب، ولعل هذا الرجل كان ممن اتخذ المدح عادة وحرفة، فصدق عليه! مداح، وإلا فلا يصدق ذلك على من مدح =(6/628)=@ مرة أو مرتين، أو شيئا أو شيئين.وقد بين الصحابي بفعله: أن مراد النبي (5) صلى الله عليه وسلم من هذا الحديث: حمله على ظاهره، فعاتب المداح (6) برمي التراب في وجهه، وهو أقعد بالحال، وأعلم بالمقال.
وقد قاله غير ذلك الصحابي تأويلات ؛ لأنَّه رأي: أن ظاهره جفاء، والنبي (7) صلى الله عليه وسلم لا يأمر بالجفاء. فقيل: إن معناه: خيبوهم، ولا تعطوهم شيئًا؛ لأنَّ (8) من أعطي التراب لم يعط شيئًا، كما قد جاء في الحديث الآخر: «إذا جاء صاحب الكلب يطلب ثمنه فاملأ كفه تراب». أي: خيبة، ولا تعطه (9) شيئًا. وقيل: إن معناه: أعطه ولا تبخل عليه، فإنَّ مآل كل ما يعطى إلى التراب.كما قال: %(4/1425)%
= .................. ... وكل الذي فوق التراب تراب
&(6/510)&$
__________
(1) في (ح): «إذا» بدل «لما».
(2) في (ح): «بما» بدل «لما».
(3) في (ح): «ولا يزيد».
(4) في (ح): «همام».
(5) في (ح): «مراد الشرع من».
(6) في (ح): «المادح».
(7) في (ح): «وأن النبي».
(8) في (ح): «ألأن» كذا رسمت.
(9) في (ح): «تعطيه».(6/510)
وقيل: معناه: التنبيه للممدوح على أن يتذكر أن المبدأ والمنتهى التراب فليعرضه على نفسه لئلا يعجب بالمدح، وعلى المداح، لئلا يفرط ويطري بالمدح، وأشبه المحامل بعد المحمل (1) الظاهر الوجه الأول، وما بعده ليس عليه معول. =(6/629)=@
ومن باب ما جاء أن أمر المسلم كله له خير، ولا يلدغ من جحر مرتين (2)
وقوله: «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير» المؤمن هنا: هو العالم بالله، الراضي بأحكامه، العامل على تصديق موعوده، وذلك أن المؤمن المذكور إما أن يبتلى بما يضره، أو بما يسره؛ فإن كان الأول صبر واحتسب ورضي، فحصل على خير الدنيا والآخرة وراحتهما، وإن كان الثاني عرف بنعمة (3) &(6/511)&$
__________
(1) في (ح): «الحمل».
(2) من قوله: «ومن باب ما جاء أن أمر...» إلى هنا سقط من (ح).
(3) في (ح): «نعمة».(6/511)
الله عليه، ومنته فيها فشكرها، وعمل بها، فحصل على نعيم الدنيا ونعيم الآخرة.
وقوله: «ليس ذلك إلا للمؤمن» أي المؤمن الموصوف بما ذكرته؛ لأنه إن لم يكن كذلك لم يصبر على المعصية ولم يحتسبها، بل يتضجَّر ويتسخَّط، فينضاف إلى مصيبته (1) الدنيوية مصيبته في دينه، وكذلك لا يعرف النعمة ولا يقوم بحقها ولا يشكرها، فتنقلب النعمة نقمة، والحسنة سيئة. نعوذ بالله من ذلك. =(6/630)=@ %(4/1426)%
وقوله عليه السلام: «لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين» هذا مثل صحيح، وقول بليغ ابتكره النبي صلى الله عليه وسلم من فوره، ولم يسمع من غيره، وذلك أن السبب الذي أصدره عنه هو: أن أبا عزيز بن عمير الشاعر أخا مصعب بن عمير: كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويؤذيه، ويؤذي **في الورق يوذي** المسلمين.فأمكن الله تعالى منه يوم بدر. فأخذ أسيرًا، وجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يمن عليه، ولا يعود لشيء مما كان يفعله، فمن النبي صلى الله عليه وسلم عليه (2) فأطلقه. فرجع إلى مكة، وعاد إلى أشد مما كان عليه، فلما كان يوم أحد، أمكن الله منه، فأسر، فأحضر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يمن عليه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يلدغ المؤمن من جحر واحد (3) مرتين، والله لا تمسح عارضيك بمكة أبدًا». فأمر بقتله.
وأصل هذا المثل: أن الذي يلدغ من جحر لا يعيد يده إليه أبدا، إذا كان فطنا حذرا، بل: ولا لما يشبهه، فكذلك المؤمن لكياسته، وفطانته، وحذره إذا وقع في شيء مما يضره في دينه أو دنياه لا يعود إليه. والرواية المعروفة: «لا يلدغ »بضم الغين، وكذلك قرأته على الخبر، وهو الذي يشهد له سبب الخبر ومساقه، وقد قيده بعضهم بسكون الغين على النهي، وفيه بعد. =(6/631)=@ %(4/1427)% &(6/512)&$
__________
(1) في (ح): «مصيبة».
(2) في (ح): «ممن عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقه».
(3) قوله: «واحد» سقط من (ح).
(4) قوله: «إليَّ» سقط من (ح).
(5) في (ح): «وقال».
(6) في (ح): «وقع في هذا».
(7) في (ح): «وهي».
(8) قوله: «لام» سقط من (ح).(6/512)
ومن باب: اشفعوا إليَّ (4) تؤجروا
قوله: كان رسول الله ! إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه فقال (5) : «اشفعوا تؤجروا» كذا وقع (6) هذا اللفظ «تؤجروا، بغير فاء ولا لام، وهو (7) مجزوم على جواب الأمر المضمن معنى الشرط، ومعناه واضح لا إشكال فيه، وقد روي «فلتؤجروا» بفاء ولام، وهكذا وجدته في أصل شيخنا أبي الصبر أيوب، وينبغي أن تكون هذه اللام مكسورة؛ لأنَّها لام كي، وتكون الفاء زائدة، كما زيدت في قوله عليه السلام: «قوموا فلأصلي لكم» في بعض رواياته، وقد تقدم قول من قال: إن الفاء قد تأتي زائدة، ويكون معنى الحديث: اشفعوا لكي تؤجروا، ويحتمل أن يقال: فيها لام الأمر، ويكون المأمور به التعرُّض للأجر بالاستشفاع، فكأنه قال: استشفعوا وتعرضوا بذلك للأجر، وعلى هذا فيجوز كسر هذه اللام على أصل لام الأمر (8) ، ويجوز تخفيفها بالسكون لأجل حركة الحرف الذي قبلها.
وقوله: «وليفض الله على لسان نبيه ما أحب» هكذا صحت الرواية هنا =(6/632)=@ وليفض باللام، وجزم الفعل بها، ولا يصح أن تكون لام كي كذلك، ولا يصح أيضًا أن تكون لام الأمر؛ لأنَّ الله تعالى لا يؤمر. وكان هذه الصيغة وقعت موقع الخبر كما قد جاء في بعض نسخ مسلم، ويقضي الله: على الخبر بالفعل المضارع، &(6/513)&$(6/513)
ومعناه واضح، وهذه الشفاعة المذكورة هي %(4/1428)% في الحديث في الحوائج والرغبات للسلطان، وذوي الأمر والجاه، كما شهد به صدر الحديث ومساقه، ولا يخفى ما فيها من الأجر والثواب؛ لأنَّها من باب صنائع المعروف، وكشف الكرب، ومعونة الضيف، إذ ليس كل أحد يقدر على الوصول إلى السلطان، وذوي الأمر، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول - مع تواضعه وقربه من الصغير (1) إذ كان لا يحتجب، ولا يحجب-: «أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها» وهذا هو معنى قوله تعالى: {ومن (2) يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها}.
قال القاضي: ويدخل في عموم الحديث الشفاعة للمذنبين، فيما لا حد فيه عند السلطان وغيره، وله قبول الشفاعة فيه، والعفو عنه إذا رأى ذلك كله صلى الله عليه وسلم كما له العفو عن ذلك ابتداء. وهذا فيمن كانت منه الزلة والفلتة، وفي أهل الستر والعفاف. وأما المصرون على فسادهم، المستهترون في باطلهم، فلا تجوز الشفاعة لأمثالهم، ولا ترك السلطان عقوبتهم ليزدجروا عن ذلك وليردع (3) غيرهم بما يفعل بهم. وقد جاء الوعيد بالشفاعة في الحدود.
وقوله: «إنما مثل جليس الصالح. وجليس السوء» كذا وقع في بعض النسخ، وهو من باب: إضافة الشيء إلى صفته، ووقع في بعضها: «الجليس الصالح والجليس السوء» وهو الأفصح والأحسن، ثم قال بعد هذا: «كحامل =(6/633)=@ المسك ونافخ الكير» هذا نحو ما يسميه (4) أهل، الأدب لف الخبرين، وهو نحو قول امرئ القيس: %(4/1429)%
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا = لدى وكرها العناب والحشف البالي
فكأنه قال: قلوب (5) الطير رطبًا العناب، ويابسا الحشف. ومقصود هذا التمثيل الحض على صحبة العلماء والفضلاء، وأهل الدين، وهو الذي يزيدك نطقه علمًا، وفعله أدبًا ونظره خشية والزجر عن مخالطة من هو على نقيض ذلك. &(6/514)&$
__________
(1) في (ح): «والضعيف».
(2) في (ح): «من» بلا واو.
(3) في (ح): «وليرتدع».
(4) في (ح): «تسميه».
(5) في (ح): «كأن قلوب».(6/514)
وقوله: «فحامل (1) المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه» تطابقت الأخبار، واستفاضت على أن المسك يجتمع في غدة (2) هو الغزال أو يشبهه فيتعفن في تلك الغدد حتى تيبس وتسقط، فتؤخذ تلك الغدد كالجليدات المحشوة، وتلك الجلدة هي المسماة: بفأرة (3) . والجمهور من علماء الخلف والسلف على طهارة المسك، وفأرته، وعلى ذلك يدل استعمال النبي صلى الله عليه وسلم له، وثناؤه عليه، وإجازة بيعه، كما دل عليه هذا (4) الحديث. ومن المعلوم بالعادة المستمرة بين العرب والعجم استعماله، واستطابة ريحه، واستحسانه في الجاهلية والإسلام، لا يستقذره أحد من العقلاء، ولا ينهى عن استعماله أحد من العلماء، حتى (5) قال القاضي أبو الفضل: نقل بعض أئمتنا الاجتماع على طهارته، غير أنه قد ذكر عن (6) العمرين كراهيته، ولا يصح ذلك، فإن عمر قد قسم ما غنم منه بالمدينة، وقال أبو عبد الله المازري: وقال قوم بنجاسته، ولم يعينهم. والصحيح: القول =(6/634)=@ بطهارته، وإن لم يكن مجمعًا عليه للأحاديث الصحيحة، الدالة على ذلك، إذ قد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يستعمله، حتى إنه كان يخرج (7) ، ووبيص المسك في مفرقه، كما قالت عائشة - رضي الله %(4/1430)% عنها - وقد تقدم قوله: «أطيب الطيب المسك»، وغير ذلك.
وقد قلنا: إن أهل الأعصار الكريمة مطبقون على استطابته واستعماله، فإنَّ قيل: كيف لا يكون نجسا وقد قلتم: إنه دم، والدم نجس في أصله بالإجماع، وإنما يعفى عن اليسير منه لتعذر التحرز منه على ما هو مفصل في الفقه.
فالجواب: إنا وإن سلمنا أن أصل المسك الدم، فلا نسلم أنه بقي على أصل الدموية، فإنَّ الدم إذا تعفن تغير لونه ورائحته إلى ما يستقذر ويستخبث، فاستحال إلى فساد، وليس كذلك المسك، فإنَّه قد استحال إلى صلاح يستطاب ويستحسن» ويفضل على أنواع كل الطيب، وهذا كاستحالة الدم لبنًا وبيضا، وإن شئت حررت فيه قياسًا فقهيًا فقلت: مانع له مقر يستحيل فيه إلى صلاح، ويكون (8) طاهرًا كاللبن والبيض. وتكميل هذا القياس في مسائل الخلاف. &(6/515)&$
__________
(1) في (ح): «للحامل».
(2) في (ح): «غدد».
(3) في (ح): «بفأرة المسك».
(4) قوله: «هذا» سقط من (ح).
(5) قوله: «حتى» سقط من (ح).
(6) قوله: «عن» سقط من (ح).
(7) في (ح): «يحرم».
(8) في (ح): «فيكون».(6/515)
وقوله: «إما أن يحذيك» هو بضم الياء رباعيا من أحذيته: إذا أعطيته، وفي الصحاح: أحذيته نعلاً: إذا أعطيته نعلاً، تقول منه: استحذيته فأحذاني، وأحذيته من الغنيمة: إذا أعطيته منها، والاسم: الحذيا.والكير: منفخ الحداد.والكور: المبنى الذي ينفخ فيه على النار والحديد. ويجوز أن يعثر بالكير عن الكور. =(6/635)=@ %(4/1431)%
ومن باب: ثواب القيام على البنات والإحسان إليهن
قوله: «من ابتلي بشيء من البنات فأحسن إليهن كن (1) له سترا من النار» ابتلي: امتحن واختبر. وأحسن إليهن: صانهن، وقام بما يصلحهن، ونظر في أصلح الأحوال لهن، فمن فعل ذلك، وقصد به وجه الله تعالى، عافاه الله تعالى من النار، وباعده منها، وهو المعبر عنه بالستر من النار. ولا شك في أن من لم يدخل النار دخل الجنة، وقد دل على ذلك قوله في الرواية الأخرى في المرأة التي قسمت التمرة بين بنتيها: إن الله قد أوجب لها الجنة، وأعاذها من النار. &(6/516)&$
__________
(1) في (ح): «فكن».(6/516)
وقوله: «بشيء من البنات» يفيد بحكم عمومه: أن الستر من النار يحصل بالإحسان إلى واحد من البنات، فأمَّا إذا عال زيادة على الواحدة فيحصل له زيادة على الستر من النار السبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجنة، كما جاء في الحديث الآخر، وهو قوله: «من عال جاريتين حتى تبلغا (1) جاء يوم القيامة أنا وهو وضم بين أصابعه.
ومعنى (2) :«من عال جاريتين حتى تبلغا (3) »: قام عليهما بما يصلحهما ويحفظهما.يقال منه: عال الرجل عياله، يعولهم، %(4/1432)% عولا وعيالة، ويقال: علته شهرًا، إذا كفيته معاشه.ويعني ببلوغها (4) وصولهما إلى حال يستقلان بأنفسهما، وذلك إنما يكون في النساء، إلى أن يدخل بهن أزواجهن، ولا يعني ببلوغها إلى أن =(6/636)=@ تحيض وتكلف، إذ قد تتزوج قبل ذلك فتستغني بالزوج عن قيام الكافل، وقد تحيض وهي غير مستقلة بشيء من مصالحها، ولو تركت لضاعت، وفسدت أحوالها. بل هي في هذه الحال أحق بالصيانة (5) ، والقيام عليها لتكمل صيانتها فيرغب في تزويجها، ولهذا المعنى قال علماؤنا: لا تسقط النفقة عن والد الصبية بنفس بلوغها، بل: بدخول الزوج بها. =(6/637)=@ &(6/517)&$
__________
(1) في (ح): يشبه «يبلغا».
(2) في (ح): «ويعني» بدل «ومعنى».
(3) في (ح): يشبه «يبلغا».
(4) في (ح): «به بلوغها».
(5) في (ح): «بالصيانة والحفظ».(6/517)
%(4/1433)%
ومن باب: من يموت له شيء من الولد فيحتسبهم (1)
قوله (2) : «لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار...» الولد: يقال على الذكر والأنثى بخلاف الابن، فإنَّه يقال على الذكر: ابن، وعلى الأنثى: ابنة، وقد تقيد مطلق هذه الرواية، بقوله في الرواية الأخرى: «لم يبلغوا الحنث» كما تقيد مطلق حديث أبي هريرة بحديث أبي (3) النضر السلمي فإنَّه قال فيه: «لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فيحتسبهم»، فقوله: «لم يبلغوا الحنث» أي: التكليف.والحنث: الإثم. وإنما خصه (4) بهذا الحديث (5) ؛ لأنَّ الصغير حقه (6) أشد، والشفقة عليه أعظم، وقيده بالاحتساب لما قررناه غير مرة: أن الأجور على لا المصائب لا تحصل إلا بالصبر والاحتساب، وإنما خص الولد بثلاثة؛ لأنَّ الثلاثة لا أول مراتب الكثرة، فتعظم المصائب، فتكثر الأجور، فأمَّا إذا زاد على الثلاثة فقد &(6/518)&$
__________
(1) من قوله: «ومن باب ...» إلى هنا سقط من (ح).
(2) في (ح): «وقوله».
(3) في (ح): «ابن» بدل «أبي».
(4) في (ح): «خصهم».
(5) في (ح): «الحد».
(6) في (ح): «حبه» بدل «حقه».(6/518)
يخف أمر المصيبة الزائدة، لأنها: كأنها (1) صارت عادة وديدنًا» كما قال المتنبي:
أَنْكَرتُ طارِقَةَ الحوادِثِ مَرَّة = ثمَّ اعْتَرفتُ بها فصارَتْ دَيْدَنًا
وقال آخر:
رُوِّعتُ بالبَيْنِ حتَّى (2) ما أُراعَ لَهُ = وبِالمَصائِبِ في أَهلِي وجِيرانِي
ويُحتمل أن يقال: إنما لم يذكر ما بعد الثلاثة؛ لأنَّه من باب الأحرى والأولى، إذ من المعلوم: أن من كثرت مصائبه كثر ثوابه، فاكتفي بذلك عن ذكره، =(6/638)=@ والله تعالى أعلم.
وقد استشكل بعض الناس قوله عليه السلام: «لا يموت لإحداكن (3) ثلاثة **ثلاثه كذا بالورق** من الولد إلا كانوا لها (4) حجابًا من النار»، ثم لما سئل عن اثنين، قال: واثنين. ووجهه: أنه إذا كان حكم الاثنين حكم الثلاثة، %(4/1434)% فلا فائدة لذكر الثلاثة أولا، وهذا إنما يصدر عمن يعتقد أن دلالة المفهوم نص كدلالة المنظوم، وليس الأمر كذلك، بل: هي عند القائلين بها من أضعف جهات دلالات الألفاظ، وسائر وجوه الدلالات مرجحة عليها كما بيناه في الأصول، هذا إن قلنا: إن أسماء الأعداد لها مفهوم، فإنَّه قد اختلف في ذلك القائلون بالمفهوم، وألحقوا هذا النوع باللقب الذي لا مفهوم له باتفاق المحققين، ثم إن الرافع لهذا الإشكال أن يقال: إن الثواب على الأعمال إنما يعلم بالوحي، فيكون الله تعالى قد أوحى إلى نبيه بذلك في الثلاثة (5) ، ثم إنه لما سئل عن الاثنين أوحى الله إليه في الاثنين بمثل ما (6) أوحى إليه بالثلاثة (7) ، ولو سئل عن الواحد لأجاب بمثل ذلك كما قد دلت عليه الأحاديث المذكورة في ذلك، ويحتمل أن يقال: إن ذلك بحسب شدة وجد الوالدة، وقوة صبرها، فقد لا يبعد أن تكون (8) من فقدت واحدًا أو اثنين أشد ممن فقدت ثلاثة أو مساوية لها، فتلحق بها في درجتها، والله تعالى أعلم.
وقوله: «إلا تحلَّة القسم» أي: ما يحل به القسم (9) ، وهو اليمين. وقد اختلف في هذا القسم، هل هو قسم معين، أم لا؟ فالجمهور على أنه قسم بعينه، فمنهم من قال: هو قوله تعالى: {فوربك لنحشرنهم والشياطين}.وقيل: هو قوله: {وإن منكم إلا واردها}. وقيل: هو قوله: {كان &(6/519)&$
__________
(1) في (ح): «كانت».
(2) قوله: «حتى» سقط من (ح).
(3) في (ح): «لأحدكن».
(4) في (ح): «له».
(5) في (ح): «في الثلاث».
(6) في (ح): «ذلك» وكأنه أصلحها إلى «ما». ...
(7) في (ح): «في الثلاثة».
(8) في (ح): «يكون».
(9) قوله: «أي ما يحل به القسم» سقط من (ح).(6/519)
على ربك حتمًا مقضيًا}، أي: قسمًا واجبًا، كذلك فسره ابن مسعود =(6/639)=@ والحسن.وأما من قال: لم يعتين به قسم بعينه (1) ، فهو ابن قتيبة. %(4/1435)% قال معناه: التقليل لأمر ورودها. ولا تحلة القسم: تستعمل في هذا في كلام العرب، وقيل معناه: لا تمسه النار قليلا، ولا تحلة القسم، كما قيل في قوله:
وَكُلُّ أخٍ مُفارِقُهُ أَخُوهُ = لعَمْرُ أَبيكَ إلا الفَرقَدانِ
أي: والفرقدان، على أحد الأقوال فيه.
قلت: والأشبه: قول أبي عبيد، ولبيان وجه ذلك موضع آخر.
وقوله عليه السلام للنساء: «اجتمعن في يوم كذا» يدلّ على أن الإمام ينبغي له أن يعلم النساء ما يحتجن إليه من أمر أديانهن، وأن يخضن بيوم مخصوص لذلك، لكن في المسجد أو فيما كان في معناه حتى تؤمن الخلوة بهن، فإنَّ تمكن الإمام من ذلك بنفسه فعل، وإلا استنهض الإمام شيخًا يوثق بعلمه ودينه لذلك حتى يقوم بهذه الوظيفة، وفي هذا الحديث ما يدل على فضل نساء ذلك الوقت، وما كانوا =(6/640)=@ عليه من الحرص على العلم، والحديث عن %(4/1436)% رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قالت عائشة - رضي الله عنها-: نعم النساء نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين.
وقوله: «صغارهم دعاميص الجنة» هي جمع دعموص، وهو دويبة تغوص في الماء، والجمع دعاميص، ودعامص.قال الأعشى:
فمَا ذَنبُنا إِنْ جاشَ في بَحْرِ عَمِّكُم وَبُحْرُكَ ساجٍ لا يُوارِي الدَّعامِصَا
ودعيميص الرهل (2) : اسم رجل كان داهيًا، يضرب به المثل، يقال دعيميص (3) هذا الأمر؛ أي: عالم به.قلت: هذا الذي وجدته في كتب اللغة، وأصحاب الغريب: أن الدعموص دويبة، تغوص في الماء، ولا يليق هذا المعنى بالدعاميص المذكورين في هذا الحديث، إلا على معنى تشبيه صغار الجنة بتلك الدُّويبة في صغرها، أو في &(6/520)&$
__________
(1) في (ح): «قسمًا».
(2) في (ح): «دعيص الرمل».
(3) في (ح): «دعيمص».(6/520)
غوصهم في نعيم الجنة، وكل ذلك فيه بعد. وقد سمعت من بعض من لقيته: أن الدعموص يراد به الآذن على الملك، المتصرف بين يديه.وأنشد لأمية بن أبي الصلت:
دُعمُوصِ أبوابِ المُلُوكِ وجانبً (1) للخَرقِ فَاتِح
قلت: وهذا يناسب ما ذكره في هذا الحديث.
وقوله: «كما آخذ أنا بصنفَةِ ثوبك» هو بكسر النون.قال الجوهري: صنفِة الإزار **في الورق الازار** - بكسر النون -: طرفه، وهو جانبه الذي لا هدب له (2) ، ويقال: هي حاشية =(6/641)=@ الثوب في جانب كان، وقال غيره: صنفة الثوب وصنيفته: طرفه. %(4/1437)%
وقوله: «فلا يتناهى، أو قال ينتهي حتى يدخله (3) الله وأبويه الجنة» أي: ما يترك ذلك.
يقال: انتهى وتناهى وأنهى بمعنى ترك، وهكذا الرواية المشهورة: «أبويه» بالتثنية.
وعند ابن ماهان: «أباه» بالباء بواحدة.
وعند عبدالغافر: «وإياه» بالياء من تحتها، وكل له وجه واضح.
وفي هذا الحديث ما يدلّ على أن صغار أولاد المؤمنين في الجنة، وهو قول أكثر أهل العلم، وهو الذي تدل عليه أخبار صحيحة كثيرة، وظاهر قوله تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم (4) ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم (5) }وقد أنكر بعض العلماء الخلاف فيهم، وهذا فيما عدا أولاد الأنبياء، فإنَّه قد تقرر الإجماع على أنهم في الجنة، حكاه أبو عبد الله المازري، له إنما الخلاف في أولاد المشركين على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
وقوله: «لقد احتظرت بحظار شديد من النار» أي: امتنعت، وأصل الحظر: المنع. والحظار: ما يدار (6) بالبستان من عيدان وقصب، سمي (7) بذلك لأنه يمنع من يريد الدخول.والحظيرة والمحظور منه، والحظار هنا: هو الحجاب المذكور في الحديث الآخر. =(6/642)=@ &(6/521)&$
__________
(1) في (ح): «وجايب».
(2) قوله: «له» سقط من (ح).
(3) لفظ الجلالة ليس في (ح).
(4) في (ح): «واتبعاهم».
(5) في (ح): «ذرياتهم».
(6) في (ح): «المنع والحظار منه والحظار ما دار».
(7) في (ح): «وسمي».(6/521)
%(4/1438)%
ومن باب: إذا أحب الله عبدا حببه إلى عباده،
والأرواح أجناد مجندة، والمرء مع من أحب
قد تقدَّم: أن معنى محبة الله للعبد: إرادة إكرامه، وإثابته. ولأعمال العباد: محبة إثابتهم عليها، وأن محبة الله تعالى منزهة عن أن تكون ميلا للمحبوب، أو شهوة، إذ كل ذلك من صفاتنا، وهي دليل حدوثنا، والله تعالى منزه عن كل ذلك. وأما محبة الملك فلا بد في أن تكون على حقيقتها المعقولة في حقوقنا، ولا إحالة في شيء من ذلك. وإعلام الله تعالى جبريل، وإعلام جبريل الملائكة بمحبة العبد المذكور تنويه به، وتشريف له في ذلك الملأ الكريم، وليحصل من المنزلة المنيفة على الحظ للعبد العظيم، وهذا من نحو قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى حيث قال: «أنا مع عبدي إذا ذكرني؛ إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم». ويجوز أن يراد بمحبة الملائكة: ثناؤهم عليه، واستغفارهم له، وإكرامهم له عند لقائه إياهم. =(6/643)=@ &(6/522)&$(6/522)
%(4/1439)%
وقوله: «ثم يوضع له القبول في الأرض» يعني بالقبول: محبة قلوب أهل الدين والخير له، والرضا به، والشرور بلقائه، واستطابة ذكره في حال غيبته، كما (1) أجرى الله تعالى عادته بذلك في حق الصالحين من سلف هذه الأمة ومشاهير الأئمة.والقول في البغض على النقيض من القول في الحب. وقوله: «الأرواح أجناد مجندة». قد تقدَّم القول في الروح والنفس في كتاب الطهارة.ومعنى (أجناد مجندة: أصناف مصنفة. وقيل: أجناس مختلفة. ويخص بذلك: أن الأرواح وإن اتفقت في كونها أرواحا، فإنَّها تتمايز بأمور وأحوال مختلفين تتنوع بها فتتشاكل أشخاص النوع الواحد، وتتناسب بسبب ما اجتمعت فيه من المعنى الخاص لذلك النوع للمناسبة، ولذلك نشاهدا أشخاص كل نوع تألف نوعها، وتنفر من مخالفها، ثمَّ إنا نجد بعض أشخاص النوع الواحد (2) تتألف، وبعضها تتنافر، وذلك بحسب أمور تتشاكل فيها، وأمور تتباعد فيها، =(6/644)=@ كالأرواح المجبولة على الخير، والرحمة، والشفقة، والعدل، فتجد من جبل على الرحمة يميل بطبعه لكل من كان فيه ذلك المعنى، ويألفه، ويسكن إليه، وينفر من اتصف بنقيضه، وهكذا في الجفاء والقسوة، ولذلك قد (3) شاع في كلام الناس قولهم: المناسبة تؤلف بين الأشخاص، والشكل يألف شكله، والمثل يجذب مثله.وهذا المعنى هو أحد ما حمل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «فما تعارف منها ائتلف، وما معنى تنافر منها اختلف» وعلى هذا فيكون معنى تعارف: تناسب.
وقيل: إن معنى ذلك هو ما تعرف الله به إليها من صفاته، ودلها عليه من لطفه وأفعاله، فكل روح عرف من الآخر أنه تعرف إلى الله بمثل ما تعرف هو به إليه. وقال الخطابي: هو ما خلقها الله تعالى عليه من السعادة والشقاوة في المبدأ الأول. &(6/523)&$
__________
(1) في (ح): «كما قد».
(2) قوله: «الواحد» سقط من (ح).
(3) في (ح): «ولك لك» بدل «ولذلك قد».(6/523)
%(4/1440)%
قلت: وهذان القولان راجعان إلى القول الأول، فتدبرهما. ويستفاد من هذا الحديث: أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة ممن له فضيلة أو صلاح (1) فتش على (2) الموجب لتلك النفرة، ويحث عنه بنور العلم؛ فإنَّه ينكشف له، فيتعين عليه أن يسعى في إزالة ذلك، أو في تضيفه بالرياضة السياسية، والمشاهدة، الشرعية حتى يتخلص من ذلك الوصف المذموم، فيميل لأهل =(6/645)=@ الفضائل والعلوم، وكذلك القول فيما إذا وجد ميلًا لمن فيه شر، أو وصف مذموم. وقد تقدَّم القول على قوله: «الناس معادن» في كتاب المناقب .
ومن باب: المرء مع من أحب وفي الثناء على الرجل الصالح (3)
قوله: «فلقينا رجلا عند سدة المسجد» يعني: عند باب المسجد (4) ، والسدة تقال على ما يسد به الباب، وعلى المسدود الذي هو الباب. &(6/524)&$
__________
(1) في (ح): «نفرة» بدل «صلاح».
(2) في (ح): «عن».
(3) من قوله: «ومن باب ...» إلى هنا سقط من (ح).
(4) قوله: «يعني عند باب المسجد» سقط من (ح).(6/524)
وقوله: «فكان الرجل استكان» أي: سكن تذللا.
وقوله: «ما أعددت لها كبير صلاة، ولا صيام، ولا صدقة» يعني بذلك: النوافل من الصلاة، والصدقة، والصوم ؛ لأنَّ الفرائض لا بد له ولغيره من %(4/1441)% فعلها، فيكون معناه: أنه لم يأت منها بالكثير الذي يعتمد عليه، ويرتجى دخول الجنة =(6/646)=@
بسببه، هذا ظاهره، ويحتمل أن يكون أراد أن (1) الذي فعله من تلك الأمور - وإن كان كثيرًا - فإنَّه محتقر بالنسبة إلى ما عنده من محبة الله تعالى ورسوله، فكأنه ظهر له: أن محبة الله ورسوله أفضل الأعمال، وأعظم القرب، فجعلها عمدته، واتخذها عدته، والله تعالى أعلم.
وقوله: «فأنت مع من أحببت» قد تكلمنا عليه في غير موضع.
وقوله: «ما فرحنا بعد الإسلام فرحًا أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم» هكذا وقع هذا اللفظ في الأصول، وفيه حذف وتوسع، تقديره: فما فرحنا فرحا أشد من فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك القول، وسكت عن ذلك المحذوف للعلم به. وإنَّما كان فرحهم بذلك أشد؛ لأنَّهم لم يسمعوا أن في أعمال البر ما يحصل به ذلك المعنى من القرب من النبي صلى الله عليه وسلم والكون معه، إلا حب الله ورسوله، فأعظم بأمر يلحق المقصر بالمشمر، والمتأخر بالمتقدِّم.
ولما فهم أنس: أن هذا اللفظ محمول على عمومه عتق به رجاءه، وحق فيه ظنه، فقال: أنا (2) أحب الله، ورسوله، وأبا بكر، وعمر، فأرجو أن أكون معهم، وإن لم أعمل بأعمالهم. &(6/525)&$
__________
(1) قوله: «أن» سقط من (ح).
(2) في (ح): «فأنا».(6/525)
والوجه الذي تمسك به أنس يشمل من المسلمين %(4/1442)% المحبين كل ذي نفس، فلذلك تعلقت أطماعنا بذلك؛ وإن كنا مقصرين، ورجونا (1) رحمة الرحمن، وإن كنا غير مستأهلين. =(6/647)=@
وقوله: «أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه» يعني: في (2) الرجل الذي يعمل العمل الصالح خالصًا، ولا يريد إظهاره للناس؛ لأنَّه لو عمله ليحمده الناس أو يبروه لكان مرائيا، ويكون ذلك العمل باطلاً فاسدًا، وإنما الله تعالى بلطفه، ورحمته، وكرمه يعامل المخلصين في الأعمال، الصادقين في الأقوال والأحوال بأنواع من اللطف، فيقذف في القلوب محبتهم، ويطلق الألسنة بالثناء عليهم، لينوه بذكرهم في الملأ الأعلى، ليستغفروا لهم، وينشر طيب ذكرهم في الدنيا ليقتدى بهم، فيعظم أجرهم (3) ، وترتفع منازلهم، وليجعل ذلك علامة على استقامة أحوالهم (4) ، وبشرى بحسن مآلهم، وكثير ثوابهم، ولذلك قال: «تلك عاجل بشرى المؤمن». والله تعالى أعلم. =(6/648)=@ &(6/526)&$
__________
(1) في (ح): «وترجوا» وكتب في الهامش «ورجونا».
(2) قوله: «في» سقط من (ح).
(3) في (ح): «فتعظم أجورهم».
(4) في (ح): «حالهم».(6/526)
%(4/1443)%(6/527)
كتاب القدر
ومن باب: في كيفية خلق ابن آدم (1)
قد تقدم في كتاب الإيمان القول في لفظ القدر، ومعناه، واختلاف الناس فيه.
وقوله: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا» يعني - والله تعالى أعلم -: أن المني يقع في الرحم حين انزعاجه بالقوة الشهوانية الدافعة مبثوثا =(6/649)=@ متفرقا، فيجمعه الله تعالى في محل الولادة من الرحم في هذه المدة. وقد جاء في بعض الحديث عن ابن مسعود (2) - رضي الله عنه - تفسير: «يجمع في بطن أمه»: أن النطفة إذا وقعت في الرحم، فأراد الله تعالى أن يخلق منها بشرًا طارت في بشر المرأة تحت كل ظفر وشعر، ثم تمكث أربعين ليلة، ثم تصير دما في الرحم، فذلك جمعها، وهذا وقت كونها علقة، والعلق: الدم. &(6/527)&$
__________
(1) من قوله: «ومن باب...» إلى هنا سقط من (ح).
(2) زاد بعدها في (ح) قوله: «تفسير».(6/528)
وقوله: «ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك» و «ذلك» الأول إشارة إلى المحل الذي اجتمعت فيه النطفة، وصارت علقة، و«ذلك» الثاني إشارة إلى الزمان الذي هو الأربعون، وكذلك القول في قوله: «ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك» والمضغة: قدر ما يمضغه الماضغ من لحم أو غيره. %(4/1444)%
وقوله: «ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح» يعني: الملك الموكل بالرحم، كما قال في حديث أنس - رضي الله عنه -: «إن الله قد وكل بالرحم ملك». وظاهر هذا السياق: أن الملك عند مجيئه ينفخ الروح في المضغة، وليس الأمر كذلك، بل: إنما ينفخ الروح فيها بعد أن تستهل (1) تلك المضغة بشكل ابن آدم، وتتصور بصورته، كما قال تعالى: {فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحما} وكما قال في الآية (2) الأخرى: {من مضغة مخلقة وغير =(6/650)=@ مخلقة}فالمخلقة: المصورة، وغير المخلقة: السقط.قال أبو العالية وغيره: وهذا التخليق والتصوير يكون في مدة أربعين يوما، وحينئذ ينفخ فيه الروح، وهو المعني بقوله تعالى: {ثم أنشأناه خلقا آخر}في قول الحسن والكلبي من المفسرين.قال القاضي: ولم يختلف: أن (3) نفخ الروح فيه بعد مئة وعشرين يومًا، وذلك تمام أربعة أشهر، ودخوله في الخامس (4) ، وهذا موجود بالمشاهدة، وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام في الاستحقاق عند التنازع، وفي وجوب النفقات على حل المطلقات، وذلك لتيقنه بحركة الجنين في الجوف.وقد قيل: إنه الحكمة في عدة المرأة من الوفاة بأربعة أشهر وعشر.وهذا الدخول في الخامسة يحقق براءة الرحم ببلوغ هذه المدة إذا لم يظهر حمل.ونفخ الملك في الصورة سبب يخلق الله تعالى عنده بها (5) الروح والحياة؛ لأنَّ النفخ المتعارف إنَّما هو إخراج ريح من النافخ يتصل بالمنفوخ فيه، ولا يلزم منه %(4/1445)% عقلا، ولا عادة في حقنا تأثير في المنفوخ فيه، فإنَّ قدر حدوث شيء عند ذلك النفخ، فذلك بأحداث الله تعالى لا &(6/528)&$
__________
(1) في (ح): «تتشكل».
(2) في (ح): «الرواية».
(3) في (ح): «في أن».
(4) في (ح): «الخامسة».
(5) في (ح): «فيها» بدل «بها».(6/529)
بالنفخ، وغاية النفخ: أن يكون معدًا عاديًا لا موجبًا عقليًا، وكذلك القول في سائر الأسباب المعتادة، فتأمل هذا الأصل، وتمسك به، فبه النجاة من مذاهب أهل الضلال من أهل الذيغ (1) وغيرهم.
وقوله: «ويؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد» ظاهر هذا اللفظ: أن الملك يؤمر بكتب هذه الأربعة ابتداء، وليس كذلك، بل: إنما يؤمر بذلك بعد أن يسأل عن ذلك فيقول: يا رب! ما الرزق؟ ما الأجل؟ ما العمل؟ وهل شقي أو سعيد، كما تضمنته الأحاديث الآتية بعد، بل: قد روى يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال: حدثنا داود، عن عامر، عن علقمة، عن ابن مسعود، وعن ابن عمر: «إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه، وقال (2) : أي رب! أذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ ما الأجل؟ ما الأثر؟ بأي أرض تموت؟ فيقال له: انطلق إلى أم الكتاب؟ فإنك تجد قصة هذه النطفة، فينطلق فيجد =(6/651)=@ قصتها في أم الكتاب؟ فتلحق؟ فتأكل رزقها، وتطأ أثرها، فإذا جاء أجلها قبضت فدفنت في المكان الذي قدر له» وزاد في بعض روايات حديث ابن مسعود: «إن الملك يقول: يا رب! مخلقة أو غير مخلقة؟ فإنَّ كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دما، وإن قيل: مخلقة قال: أي رب ذكر أم أنثى؟». وذكر نحو ما تقدَّم.
فقوله: «إن النطفة إذا استقرت في الرحم» يعني بهذا الاستقرار: صيرورة النطفة علقة، ومضغة؛ لأنَّ النطفة قبل ذلك غير مجتمعة كما تقدَّم، فإذا اجتمعت، وصارت ماء واحدًا علقة %(4/1446)% أو مضغة، أمكن حينئذ أن تؤخذ بالكف، وسماها نطفة في حال كونها علقة أو مضغة باسم مبدئها، والله تعالى أعلم. &(6/529)&$
__________
(1) في (ح): «الطبائع».
(2) في (ح): «فقال».(6/530)
ويستفاد من جملة ما ذكرناه أن المرأة إذا ألقت نطفة لم يتعلق بها حكم، إذ لم تجتمع في الرحم، فتبين أنها كانت حاملاً، إذ الرحم قد يدفع النطفة قبل استقرارها فيه (1) ، فإذا طرحته علقة تحققنا أن النطفة قد استقرت واجتمعت واستحالت إلى أول أحوال ما يتحقق به أنه ولد.وعلى هذا: فيكون وضع العلقة فما فوقها من المضغة وضع حمل يبرأ (2) الرحم، وتنقضي به العدة، ويثبت لها به حكم أم الولد، وهذا مذهب مالك وأصحابه.
وقال الشافعي: لا اعتبار بإسقاط العلقة، إنَّما (3) الاعتبار بظهور الصورة والتخطيط، فإنَّ خفي التخطيط، وكان لحما فقولان: بالنقل والتخريج، وعمدة أصحابنا: التمسك بالحديث المتقدم، وبأن مسقطة العلقة، أو المضغة يصدق على المرأة (4) إذا ألقتها أنها كانت حاملا وضعت ما استقر في رحمها، فشملها قوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} ويصدق عليها قوله صلى الله عليه وسلم لسبيعه الأسلمية: «قد وضعت فانكحي من شئت» ولأنها وضعت مبدأ =(6/652)=@ الولد عن نطفة متجسدا كالمخطط. واستيفاء ما يتعلق به سؤالاً وجوابًا في الخلاف.
وقوله: «وإن (5) أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها... الحديث إلى آخره» ظاهر هذا الحديث: أن هذا العامل كان عمله صحيحًا، وأنه قرب من الجنة بسبب عمله حتى أشرف على دخولها، وإنما منعه من دخولها سابق القدر (6) الذي يظهر عند الخاتمة، وعلى هذا %(4/1447)% فالخوف - على التحقيق - إنما هو مما سبق، إذ لا تبديل له ولا تغيير، فإذا (7) : الأعمال بالسوابق (8) ، لكن لما كانت السوابق مستورة عنا، والخاتمة ظاهرة لنا، قال عليه السلام: «إنما الأعمال بالخواتيم (9) » أي: عندنا، وبالنسبة إلى اطلاعنا في بعض الأشخاص، وفي بعض الأحوال. وأما العامل المذكور في حديث سهل المتقدم في الإيمان، فإنَّه لم يكن عمله صحيحا في نفسه، وإنما كان رياء وسمعة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو =(6/653)=@ &(6/530)&$
__________
(1) في (ح): «فيها».
(2) في (ح): «تبرأ».
(3) في (ح): «وإنما».
(4) في (ح): «العلقة» بدل «المرأة».
(5) في (ح): «إن» بلا واو.
(6) قوله: «القدر الذي» مكرر في (ح).
(7) في (ح): «فإذ» بدل «فإذا».
(8) في (ح): «السابقة».
(9) في (ح): «بالخواتم».(6/531)
للناس، وهو من أهل النار»، فيستفاد من هذا الحديث: الاجتهاد في إخلاص، الأعمال لله تعالى، والتحرز (1) من الرياء. ويستفاد من حديث ابن مسعود: ترك العجب بالأعمال، وترك الالتفات والركون إليها، والتعويل على كرم الله تعالى ورحمته، والاعتراف بمنته (2) ، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لن ينجي أحدا منكم عمله...ا لحديث» .
ومن باب: السعيد سعيد في بطن أمه، والشقي شقي في بطن أمه (3)
قوله (4) : «الشقي شقي في بطن أمه» يعني: أن أول مبدأ الإنسان في بطن أمه يظهر من حاله للملائكة، أو لمن شاء الله من خلقه ما سبق في علم الله تعالى من سعادته، ومن شقوته، ورزقه، وأجله، وعمله. إذ قد سبق كتب ذلك في اللوح &(6/531)&$
__________
(1) في (ح): «وللتحذير».
(2) في (ح): «بمننه».
(3) من قوله: «ومن باب السعيد ...» إلى هنا سقط من (ح).
(4) في (ح): «وقوله».(6/532)
المحفوظ، كما دل عليه الكتاب، والأخبار الكثيرة الصحيحة، وكل ذلك قد سبق به العلم الأزلي، والقضاء الإلهي الذي لا يقبل التغيير، ولا التبديل، المحيط بكل الأمور على التعين والتفصيل. ألا ترى الملائكة كيف تستخرج ما عند الله من علم =(6/654)=@ حال النطفة، فتقول: يا رب! ما الرزق؟ ما الأجل؟ فيقضي ربك ما شاء، أي: يظهر من قضائه وحكمه للملائكة ما سبق به عمه، وتعلقت به إرادته. %(4/1448)%
وقوله: «ويكتب الملك» يعني من اللوح المحفوظ، كما تقدَّم في حديث يحيى بن أب! زائدة، ولذلك (1) عطف هذه الجملة على ما تقدم بالواو؛ لأنَّها لا تقتضي رتبة، ثم يخرج الملك بالصحيفة، أي: يخرج من حال الغيبة عن هذا العالم إلى حال مشاهدته، فيطلع الله تعالى بسبب تلك الصحيفة من شاء من الملائكة الموكلين بأحواله على ذلك ليقوم كل بما عليه من وظيفته حسب ما سطر في صحيفته .&(6/532)&$
__________
(1) قوله: «ولذلك» مكرر في (ح).(6/533)
وقوله: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون، أو ثلاثة وأربعون، أو خمسة وأربعون» هذا كله (1) ، من الرواة، وحاصله: أن بعث الملك المذكور في هذا بعث الحديث إنما هو في الأربعين الرابعة التي هي مدة التصوير، كما دل على ذلك ما قدمناه قبل هذا. وسمي المضغة نطفة بمبدئها، ألا ترى قوله: «بعث الله إليها =(6/655)=@ ملكا وصورها (2) وخلق سمعها وبصرها، وجلدها، وعظامه» فعطف بالفاء المرتبة، وهذا لا يكون حتى تصل النطفة إلى حال (3) نهاية المضغة، كما دل عليه ما تقدَّم. وبهذا تتفق الروايات، ويزول الاضطراب المتوهم فيها (4) - والله أعلم -. %(4/1449)%
ونسبة الخلق والتصوير للملك نسبة مجازية لا حقيقية (5) ، وإنما صدر عنه فعل ما في المضغة - كان عنه التصوير والتشكيل - بقدرة الله تعالى، وخلقه، واختراعه.ألا ترى أن الله تعالى قد أضاف إليه الخلقة الحقيقية، وقطع عنا جميع (6) الخليقة، فقال: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم}، وقال: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين}الآية، وقال: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة...} وغير ذلك من الآيات. هذا مع ما دلت عليه قاطعات البراهين من أنه لا خالق لشيء من المخلوقات إلا رب العالمين.
تنبيه: هذا الترتيب العجيب، وإن خفيت حكمته، فقد لاحت لنا حقيقته، &(6/533)&$
__________
(1) في (ح): «كله شك».
(2) في (ح): «فصورها».
(3) في (ح): «حالة».
(4) قوله: «فيها» سقط من (ح).
(5) في (ح): «لا حقيقة».
(6) في (ح): «عنا نسب جميع».(6/534)
وهو أنه كذلك سبق في علمه، وثبت في قضائه وحلمه، وإلا فمن الممكن أن يوجد الإنسان، وأصناف الحيوان، بل وجميع المخلوقات في أسرع من لحظة، =(6/656)=@ وأيسر من النطق بلفظة، كيف لا؛ وقد سمع السامعون قوله: {إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون}. %(4/1450)%
ومن باب: قوله: {كل ميسر لما خلق له
بقيع الغرقد: مدفن أهل المدينة، وقد تقدَّم ذكره. والمخصرة: قضيب كان يمسكه بيده في بعض الأحوال على عادة رؤساء العرب؛ فإنَّهم يمسكونها ويشيرون بها، ويصلون بها كلامهم.وجمعها مخاصر، والفعل منها: تخصر. حكاه ابن قتيبة.والنكت بها في الأرض: تحريك الأرض بها، وهذا فعل المتفكر المعتبر. =(6/657)=@
وقوله: «أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ وفي الرواية الأخرى: أفلا نتكل على كتابنا؟» حاصل هذا السؤال أنه إذا وجبت السعادة والشقاوة بالقضاء الأزلي، والقدر الإلهي، فلا فائدة للتكليف، ولا حاجة بنا إلى العمل فنتركه، وهذه أعظم شبه النافين للقدر. وقد أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يبقى معه إشكال، &(6/534)&$(6/535)
فقال: «اعملوا كل (1) ميسر لما خلق له» ثم قرأ: %(4/1451)% {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى} (2) ، ووجه الانفصال: أن الله تعالى أمرنا بالعمل، فلا بد من امتثال أمره، وغيب عنا المقادير لقيام حجته وزجره.ونصب الأعمال علامة على ما سبق في مشيئته، وحكمته، وعزه {لا يسل عما يفعل} لا يبقى معها لقائل مقول، وقهر (3) {وهم يسئلون} يخضع له المتكبرون.وقد بينا فيما تقدَّم أن مورد التكليف: فعل الاختيار، وأن ذلك ليس مناقضا لما سبقت به ا لأقدار .
وقوله: {فأما من أعطى}أي: الفضل من ماله. ابن عباس: حق الله تعالى.الحسن: الصدق من قلبه.و{اتقى} أي: رجه.ابن عباس وقتادة: محارمه.مجاهد: البخل.{وصدق بالحسنى} أي: الكلمة الحسنى، وهي كلمة التوحيد. الضحاك: بموعود (4) الله. قتادة: بالصلاة والزكاة والصوم.زيد بن أسلم. =(6/658)=@
وفي أخرى فقال: «كل عامل ميسر لعمله (5) »: {فسنيسره} أي: نهون عليه ونهيئه {لليسرى} أي: للحالة اليسرى من العمل الصالح والخير الراجح.وقيل: للجنة.{وأما من بخل} أي: بماله: ابن عباس.وقال قتادة: بحق الله.و {استغنى} بماله: عن الحسن (6) . ابن عباس: عن ربه.{وكذب بالحسنى} أي: بالجنة. و{للعسرى (7) }: نقيض (8) ما تقدم في اليسرى. و{تردى}: هلك بالجهل والكفر، وفي الآخرة بعذاب الله. &(6/535)&$
__________
(1) في (ح): «فكل».
(2) في (ح): «الآية».
(3) قوله: «لا يبقى معها لقائل مقول وقهر» سقط من (ح).
(4) في (ح): «بموعد».
(5) من قوله: «وفي أخرى...» إلى هنا سقط من (ح).
(6) في (ح): «الحسنى».
(7) في (ح): «والعسرى».
(8) في (ح): «تقتضي».(6/536)
%(4/1452)% و (قول سراقة: بيِّن لنا ديننا كأنا خلقنا الآن) أي: بين لنا أصل ديننا، أي: ما نعتقده وندين به من حال أعمالنا، هل سبق بها تدل أم لا، وقوله: كانا خلقنا الآن يعني أنهم غير عالمين بهذه المسألة، فكأنهم خلقوا الآن بالنسبة إلى علمها، وفائدته: استدعاء أوضح البيان.
وقوله: «فيم العمل اليوم» أي: فيما (1) جفت به الأقلام، هكذا صحيح =(6/659)=@ الرواية.فيم الأول (2) : بغير ألف؛ لأنَّها استفهامية. والثانية: بألف (3) ، لأنها خبرية.وقد وقع في بعض النسخ بالعكس، والأول الصواب.ومقتضى هذا السؤال: أن ما يصدر عنا من الأعمال، وما يترتب عليها من الثواب والعقاب، هل سبق علم الله تعالى بوقوعه، فنفذت (4) به مشيئته، أو ليس كذلك؟ وإنما أفعالنا صادرة عنا بقدرتنا ومشيئتنا، والثواب والعقاب مرتب عليها بحسبها، وهذا القسم الثاني هو، مذهب القدرية، وقد أبطل النبي هذا القسم بقوله: «لا، بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير»، أي: ليس الأمر مستأنفا، بل قد سبق به علم الله، ونفذت به مشيئته، وجفت به أقلام الكتبة في اللوح المحفوظ، وفي صحف الملائكة المكتوبة في البطن (5) ، بل: قد سبق على هذا في حديث عمران بن حصين المذكور بعد هذا.
وأنص من هذا كله ما خرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص (6) - رضي الله عنهما - قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان، فقال للذي في يده اليمين: «هذا كتاب من رب العالمين.
فيه أسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، فلا يزاد =(6/660)=@ فيهم، ولا ينقص منهم أبدًا». ثم &(6/536)&$
__________
(1) في (ح): «أفبما» بدل «أي فيما».
(2) في (ح): «الأولى».
(3) في (ح): «بالألف».
(4) في (ح): «ونفذت».
(5) زاد بعدها في (ح): «كما تقدم».
(6) في (ح): «العاصي قال».(6/537)
قال للذي في يده اليسرى: «هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل النار، وأسماء آبائهم، وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، فلا يزاد فيهم ولا ينقص %(4/1453)% منهم أبدًا (1) » ثم رمى بهما، وقال: «فرغ ربكم من العباد، فريق في الجنة، وفريق في السعير». قال: هذا حديث حسن صحيح. والأحاديث في هذا الباب كثيرة صحيحة، يفيد مجموعها العلم القطعي واليقين الحقيقي الاضطراري بإبطال مذاهب القدرية، لكنهم كابروا في ذلك كله وردوه، وتأولوا ذلك تأويلا فاسدا، وموهوه للأصول التي ارتكبوها من التحسين، والتقبيح، والتعديل، والتجويز، والقول بتأثير القدرة الحادثة على جهة الاستقلال، وقد تكلم أئمة أهل السنة معهم في هذه الأصول، وبينوا فسادها في كتبهم.
وقوله: «فيم العمل» هذا السؤال: هو الأول الذي تضمنه قوله: أفلا نمكث على كتابنا، وندع العمل؟ وقد بيناه .
ومن باب: في قوله تعالى: {ونفس وما سواها فألهما فجورها وتقواها} (2)
قوله: «أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه» الكدح: السعي في العمل لدنيا كان أو لآخرة، وأصله: العمل الشاق، والكسب المتعب. =(6/661)=@ &(6/537)&$
__________
(1) قوله: «أبدًا» سقط من (ح).
(2) من قوله: «ومن باب: في ...» إلى هنا سقط من (ح).(6/538)
%(4/1454)%
وقوله: «فلا يكون ظلمًا؟» كذا الرواية بغير ألف استفهام، وهي مراده، إذ بالاستفهام حصل فزع المسؤول، وبه صح أن يكون ما أتى به من قوله: كل شيء خلق الله وملك يده...إلى آخره.جوابًا عما سأله عنه، ولو لم يكن الاستفهام مرادًا لكان الكلام نفيا للظلم، وهو صحيح وحق، ولا يفزع من ذلك، ولا يستدعي جوابا. وبيان ما سأله (1) عنه أنه لما تقرر عنده: أن ما يعمل الناس فيه شيء قضي به عليهم، ولا بد لهم منه، فكأنهم (2) يلجئون إليه، فكيف يعاتبون على ذلك؛ فعقابهم على ذلك ظلم، وهذه من شبه القدرية المبنية على التحسين والتقبيح، وقد أجاب عن ذلك أبو الأسود، وأحسن في الجواب، ومقتضى الجواب: أن الظلم لا يتصور من الله تعالى، فإنَّ الكل خلقه، وملكه، لا حجر عليه، ولا حكم، فلا يتصور في حقه الظلم لاستحالة شرطه، على ما بينا. غير مرة، ثم عضد بقوله: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون}، ولما سمع عمران هذا الجواب تحقق: أنه قد وفق للحق، وأصاب (3) عين الصواب، فاستحسن ذلك منه، وأخبره أنه إنما امتحنه بذلك السؤال ليختبر عقله، وليستخرج عمله ثم أفاده الحديث المذكور، ومعناه قد تقدم الكلام عليه ثم قال: وتصديق ذلك في كتاب &(6/538)&$
__________
(1) في (ح): «سأل».
(2) في (ح): «فكانوا».
(3) في (ح): «وقد أصاب».(6/539)
الله تعالى: {ونفس وما سواها فألهما فجورها وتقواها}، وقوله: {ونفس} هو قسم بنفوس بني آدم، =(6/662)=@ وأفردها، لأن مراده النوع، وهذا نحو %(4/1455)% قوله: {علمت نفس ما قدمت وأخرت} أي: كل نفس.كما قال: {كل نفس بم كسبت رهينة}. ألا ترى قوله: {فألهمها فجورها وتقواها} أي: حملها على ما أراد من ذلك، فمنها ما خلق للخير، وأعانها عليه ويسره لها، ومنها ما خلق للشر ويسره لها، وهذا هو الموافق للحديث المتقدِّم، المصدق بالآية.وقوله: {وما سواها} أي: والذي سواها، وقد قدمنا أن ما في أصلها لما لا يعقل، أوقد (1) تجيء بمعنى الذي، ويرتفع لمن يعقل ولما لا يعقل. والتسوية: التعديل.يعني: أنه خلقها مكللة بكل ما تحتاج إليه، مؤهلة لقبول الخير والشر، غير أنه يجري عليها في حال وجودها وما لها ما سبق لها مما قضي به عليها. وفي حديث عمران هذا من الفقه جواز اختبار العالم عقول أصحابه اجتب الفضلاء بمشكلات المسائل، والثناء عليهم إذا أصابوا، وبيان العذر عن ذلك، والذي قضي عليها: أنها إما من أهل السعادة وبعمل أهل السعادة الذي به تدخل الجنة تعمل، وأما من أهل الشقاوة (2) وبعمل أهل الشقاوة (3) الذي به تدخل (4) النار تعمل.كما قال تعالى: «هؤلاء &(6/539)&$
__________
(1) في (ح): «وقد».
(2) في (ح): «الشقوة».
(3) في (ح): «الشقوة».
(4) في (ح): «يدخل به».(6/540)
للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، وهؤلاء للنار، =(6/663)=@ وبعمل أهل النار يعملون، فطوبى لمن قضيت له بالخير، ويسرته عليه، والويل لمن قضيت عليه بالشر، ويسرته له»، وما أحسن قول من قال: قسم قسمت، ونعوت %(4/1456)% أجريت، كيف تجتلب بحركات (1) ، أو تنال بسعايات؟! ومع ذلك فغيب الله عنا المقادير، ومكننا من الفعل والترك رفعا للمعاذير، وخاطبنا بالأمر والنهي خطاب المستقلين، ولم يجعل التمسك بسابق القدر حجة للمقصرين، ولا عذرا للمعتذربن، وعلق الجزاء على الأعمال، وجعلها له سببا، فقال تعالى: {ولنجزي كل نفس بما كسبت}، وقال في أهل الجنة: {جزاء بما كانوا يعملون}، وقال في أهل النار: {جزاء بما كانوا بآيتنا يجحدون}، وقال: {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى}، وقال على لسان نبيه: «يا عبادي! إنما هي أعمالكم أردها عليكم، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد الأخرى، فلا يلومن إلا نفسه»، وكل ذلك من الله ابتلاء وامتحان، فيجب التسليم له والإذعان. =(6/664)=@ %(4/1457)%
ومن باب: محاجة آدم وموسى - عليهما السلام –
قوله: «احتج آدم وموسى عند ربهما» ظاهر هذا اللفظ، وهذه المحاجة أنهما التقيا بأشخاصهما، وهذا كما قررناه فيما تقدَّم في الأنبياء من إحيائهم بعد &(6/540)&$
__________
(1) قوله: «بحركات» لم يتضح في (ح).(6/541)
الموت كالشهداء، بل: هم أولى بذلك، ويجوز أن يكون ذلك لقاء أرواح، وقد قال بكل قول منهما طائفة من علمائنا، وهذه العندية عندية اختصاص، وتشريف، لا عندية مكان، فالله تعالى منزه عن المكان والزمان، وإنما هي كما قال تعالى: {إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر} أي: في محل التشريف والاحترام (1) والاختصاص. روى هذا الحديث بعضهم، وزاد فيه: إن هذا اللقاء كان بعد أن سأل موسى، فقال (2) : يا رب! أرنا آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة، فآراه الله إياه، فقال: أنت آدم، فقال: نعم.وذكر الحديث. وقوله: «فحج آدم موسى» أي: غلبه بالحجَّة. يقال: حاججت فلانًا فحججته، أي: غلبته. =(6/665)=@
وقوله: «أنت آدم الذي خلقك الله بيده» هو استفهام تقرير، وإضافة الله خلق آدم إلى يده إضافة تشريف، ويصح أن يراد باليد هنا: القدرة والنعمة، إذ كلاهما موجود في اللسان مستعمل فيه، فأمَّا يد الجارحة فالله منزه عن ذلك قطعا. %(4/1458)%
وقوله: «ونفخ فيك من روحه» يحتمل أن تكون (من) زائدة على المذهب الكوفي.ونفخ: بمعنى خلق، أي: خلق فيك روحه، فأضاف (3) الروح إليه على جهة الملك تخصيصا وتشريفا، كما قال: بيتي، وعبادي.واستعار (خلق): نفخ ؛ لأنَّ الروح من نوع الريح، ويحتمل تأويلاً آخر، والله بمراده أعلم، والتسليم للمتشابهات أسلم، وهي طريقة السلف، وأهل الاقتداء من الخلف. &(6/541)&$
__________
(1) في (ح): «والإكرام» بدل «والإحترام».
(2) في (ح): «فقال له أنت».
(3) في (ح): «وأضاف».(6/542)
وقوله في الأم: «أنت الذي خيبتنا، وأخرجتنا من الجنة» أي: كنت سبب ذلك كله، وقال في رواية أخرى: «أنت الذي أغويت الناس»، أي: كنت سبب غواية من غوى منهم، والغواية ضد الرشد، كما قال الله تعالى: {قد تبين الرشد من الغي}، وقد يراد بها الخطأ، وعليها يحمل: {وعصى آدم ربه فغوى}، أي: أخطأ (1) صواب ما أمر به، وهذا أحسن ما قيل في ذلك - إن شاء الله تعالى-
وقوله: «وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء» يعني: الألواح التي قال الله تعالى فيها: {وكتبنا له في الألواح من كل شيء}وهي =(6/666)=@ جمع لوح بفتح اللام، وسمي بمصدر لاح الشيء يلوح لوحا: إذا ظهر، وسمي بذلك لظهور ما يكتب فيه.فأما اللوح - بضم اللام -: فهو ما بين السماء %(4/1459)% والأرض.قال مجاهد: كانت الألواح سبعة من زمردة خضراء. وقال ابن جبير: من ياقوتة حمراء. ومعنى كتبنا: أمرنا من يكتب، أو خلق فيها رقومًا وخطوطا مكتوبة مثل الذي يكتب بالأقلام.
وقوله: «{فيها تبيان كل شيء}» أي: كل شيء (2) قصد إلى تبيينه، ومن كل نوع شيئًا، أو من كل أصل! فرعًا.
وقوله: «وقربك نجيا» أي: للمناجاة وهي: المسارة. والتقريب: بالمرتبة، لا بالموضع والمكان.
وقوله: «أفتلومني على أن عملت عملاً كتبه (3) الله على قبل أن يخلقني بأربعين سنة».
قال: فحج آدم موسى ظاهر هذا أن آدم إنما غلب موسى بالحجة، لأنه اعتذر بما سبق له من القدر عما صدر عنه من المخالفة، وقبل عذره، وقامت بذلك حجته، فإنَّ صح هذا لزم عليه أن يحتج به كل من عصى ويعتذر بذلك فيقبل عذره، وتثبت حجته، فحينئذ تكون للعصاة على الله حجَّة، وهو مناقص لقوله تعالى: {فلله &(6/542)&$
__________
(1) قوله: «أخطأ» لم يتضح في (ح).
(2) قوله: «أي كل شيء» سقط من (ح).
(3) في (ح): «كتبها».(6/543)
الحجة البالغة}.
وقد اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث فقيل: إما غلبه آدم بالحجة؛ لأنَّ آدم أبو (1) موسى، وموسى ابن، ولا يجوز لوم الابن أباه، ولا عتبه. =(6/667)=@
قلت: وهذا نأي عن معنى الحديث، وعما سيق له، وقيل: إنما كان ذلك؛ لأنَّ موسى قد كان علم من التوراة: أن الله تعالى قد جعل تلك الأكلة سبب إهباطه من الجنة، وسكناه الأرض، ونشر نسله فيها ليكلفهم، ويمتحنهم، ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم الأخروي. %(4/1460)%
قلت: وهذا إبداء حكمة تلك أكلة، لا انفصال عن إلزام تلك الحجَّة، والسؤال باق لم ينفصل عنه.
وقيل: إنما توجهت حجته عليه؛ لأنَّه قد علم من التوراة ما ذكروا: أن الله تاب (2) عليه، واجتباه، وأسقط عنه اللوم والعتب (3) .فلوم موسى، وعتبه (4) له - مع علمه بأن الله تعالى قدر المعصية، وقضى بالتوبة، وبإسقاط اللوم، والمعاتبة حتى صارت تلك المعصية كأن لم تكن - وقع في غير محله، وعلى غير مستحقه، وكان هذا من موسى نسبة جفاء في حالة صفاء، كما قال بعض أرباب الإشارات: ذكر (5) الجفاء في حال الصفاء جفاة وهذا الوجه إن شاء الله تعالى أشبه ما ذكر، وبه يتبين أن ذلك الإلزام لا يلزم، والله تعالى أعلم.
ومن باب: كتب الله المقادير قبل الخلق، وكل شيء بقدر (6)
قوله: «كتب الله مقادير الخلائق (7) قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة» أي: أثبتها في اللوح المحفوظ، كما قلناه آنفا، أو فيما شاء، فهو =(6/668)=@ &(6/543)&$
__________
(1) في (ح): «أب».
(2) في (ح): «قد تاب».
(3) في (ح): «والعنب».
(4) في (ح): «عتبه» بلا واو.
(5) في (ح): «إن ذكر».
(6) من قوله: «ومن باب...» إلى هنا سقط من (ح).
(7) في (ح): «الخلق».(6/544)
توقيت للكتب (1) ، لا للمقادير؛ لأنَّها راجعة إلى علم الله تعالى وإرادته، وذلك قديم لا أول له، ويستحيل عليه تقديره بالزمان، إذ الحق سبحانه وتعالى بصفاته موجود، ولا زمان ولا مكان، وهذه الخمسون ألف سنة سنون تقديرية، إذ قبل خلق السموات لا يتحقق وجود الزمان (2) ، فإنَّ الزمان (3) الذي يعثر عنه بالسنين والأيام والليالي، إنما هو راجع إلى أعداد حركات الأفلاك (4) ، وسير الشمس، والقمر في المنازل والبروج السماوية (5) ، فقبل السموات لا يوجد ذلك، وإنما يرجع ذلك إلى مدة في علم الله تعالى لو كانت السموات موجودة فيها لعددت بذلك العدد، وهذا نحو مما قاله %(4/1461)% المفسرون في قوله تعالى: {خلق السموات والأرض في ستة أيام}، أي: في مقدار ستة أيام، ثم هذه الأيام كل يوم منها مقدار ألف سنة من سنين الدنيا، كما قال تعالى (6) : {في يوم كان مقداره ألف سنة}، هذا قول ابن عباس وغيره من سلف المفسرين على ما رواه الطبري في تاريخه عنهم، ويحتمل أن يكون ذكر الخمسين ألفا جاء مجيء الإغياء في التكثير، ولم يرد عين ذلك العدد، فكأنه قال: كتب الله مقادير الخلائق قبل خلق هذا العالم بآماد كثيرة، وأزمان عديدة، وهذا نحو مما قلناه في قوله تعالى: {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم}، والأول: أظهر وأولى.
وقوله: «وعرشه على الماء» أي: قبل خلق السموات والأرض.حكي عن كعب الأحبار: أن أول ما خلق الله تعالى ياقوتة خضراء، فنظر إليها بإلهيته فصارت ماء» ثم وضع عرشه على الماء. قال ابن عباس في قوله تعالى: {وكان عرشه على الماء}، أي: فوق الماء؛ إذ لم يكن سماء ولا أرض.
قلت: أقوال المفسرين كثيرة، والمسند المرفوع منها قليل، وكل ذلك =(6/669)=@ ممكن، والله تعالى أعلم بحقيقة ذلك.والذي نعلمه قطعا: أن الله تعالى قديم، لا أول لوجوده، فكان موجودًا وحده، ولا موجود (7) سواه، %(4/1462)% ثم اخترع بقدرته وإرادته ما سبق في (8) علمه، ونفذت به مشيئته، كما شاء ومتى شاء، والذي نعلم استحالته &(6/544)&$
__________
(1) في (ح): «للكبت».
(2) في (ح): «الأزمان».
(3) قوله: «الزمان» لم يتضح في (ح).
(4) في (ح): يشبه «الأفلاك».
(5) في (ح): «السمايية» كذا رسمت.
(6) زاد بعدها في (ح): «وإن يوم عند ربك كألف سنة مما تعدون» وكقوله:
(7) في (ح): «موجودًا».
(8) في (ح): «به» بدل «في».(6/545)
قطعا: أزلية شيء غير الله تعالى من عرش، أو كرسي، أو ماء، أو هواء، أو أرض، أو سماء، إذ كل ذلك ممكن في نفسه، وكل موجود ممكن محدث، ولأن كل ذلك لا يخلو عن الحوادث، وما لا يخلو عن الحوادث حادث على ما تعرف حقيقته في موضعه، ولأنه المعلوم الضروري من الشرع، فمن شك فيه، أو جحده فهو كافر، ومما يعلم (1) استحالته: كون العرش حاملا لله تعالى، وأن الله تعالى مستقر عليه كاستقرار الأجسام، إذ لو كان محمولاً لكان محتاجا فقيرا لما يحمله، وذلك ينافي وصف الإلهية، إذ أخص أوصاف الإله: الاستغناء المطلق، ولو كان ذلك للزم كونه جسما مقدرًا، ويلزم كونه حادثا على ما سبق، فإنَّ قيل: فما معنى قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى}. قيل: له محامل واضحة، وتأويلات صحيحة، غير أن الشرع لم يعين لنا محملا من تلك المحامل فيتوقف في التعيين ويسلك مسلك السلف الصالح في التسليم.
وقوله: «كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس» قيدناه بكسر الزاي والسين وضمهما. و(حتى) هي العاطفة، والرفع عطف على كل، والخفض على شيء. =(6/670)=@
والكيس: - بفتح الكاف - لا يجوز غيره، ومعنى هذا الحديث: أن ما من شيء يقع في هذا الوجود كائنا كان إلا وقد سبق %(4/1463)% به علم الله تعالى، ومشيئته، سواء كان من أفعالنا، أو صفاتنا، أو من غيرها، ولذلك أتى بـ «كل» التي هي للاستغراق، والإحاطة، وعقبها بحتى التي هي للغاية، حتى لا يخرج عن (2) تلك المقدمة الكنية من الممكنات شيء ولا يتوهم فيها تخصيص، وإنما جعل العجز والكيس غاية لذلك ليبين أن أفعالنا، وإن كانت معلومة، ومرادة لنا، فلا تقع منا إلا بمشيئة الله تعالى، له إرادته وقدرته (3) ، كما (4) قال تعالى: {وما تشأوون إلا &(6/545)&$
__________
(1) في (ح): «تعلم».
(2) في (ح): يشبه «من».
(3) من قوله: «ليبين أن أفعالنا...» إلى هنا سقط من (ح).
(4) في (ح): «بما» بدل «كما ».(6/546)
أن يشاء الله}، وصار هذا من نحو (1) قول العرب: قدم الحاج حتى المشاة. فيكون معناه: أن كل ما يقع في الوجود بقدر الله تعالى ومشيئته (2) ، حتى ما يقع منكم بمشيئتكم. والعجز: التثاقل عن المصالح حتى لا تحصل، أو تحصل لكن على غير الوجه المرضي.والكيس: نقيض ذلك، وهو الجد والتشمير في تحصيل المصالح على وجوهها، والعجز في أصله: معنى من المعاني منافي (3) للقدرة، وكلاهما من الصفات المتعلقات بالممكنات على ما يعرف في علم الكلام. =(6/671)=@ %(4/1464)%
ومن باب: تصريف الله تعالى القلوب وكتب على ابن أدم حظه من الزنى (4)
قوله: «قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يصرفه كيف يشاء» ظاهر الإصبع محال على الله تعالى قطعا لما قلناه أنفًا ولأنه لو كانت له أعضاء وجوارح، لكان كل جزء منه مفتقرًا للآخر، فتكون جملته محتاجة، وذلك يناقض الإلهية، وقد تأول بعض أئمتنا هذا الحديث فقال: هذا (5) استعارة جارية مجرى قولهم: فلان في كفي، وفي قبضي (6) .
يراد به: أنه متمكن من التصرف فيه، والتصريف له كيف شاء، وأمكن من ذلك في المعنى، مع إفادة &(6/546)&$
__________
(1) في (ح): «نوع».
(2) قوله: «ومشيئته» سقط من (ح).
(3) في (ح): «مناقض».
(4) من قوله: «ومن باب: تصريف...» إلى هنا سقط من (ح).
(5) في (ح): «هو».
(6) في (ح): «وقبضتي».(6/547)
التيسير أن بقال: فلان بين إصبعي، أصرفه كيف شئت. يعني: أن التصرف متيسر عليه غير متعذر.وقال بعضهم: يحتمل أن يريد بالإصبع هنا النعمة.وحكي أنه يقال: لفلان عندي إصبع حسنة، أي: نعمة. كما قيل في اليد. فإنَّ قيل: فلأي شيء ثني الإصبع، ونعمه كثيرة لا تخص؛ قلنا: لأن النعم، وإن كانت كذلك، فهي قسمان: نفع ودفع، فكأنه قال: قلوب بني آدم بين أن يصرف الله عنها ضرا، وبين أن يوصل إليها نفعا. =(6/672)=@
قلت: وهذا لا يتم حتى يقال: إن بني آدم - هنا - يراد بهم الصالحون، الذين تولى الله حفظ قلوبهم.وأما الكفار والفساق، فقد أوصل الله تعالى إلى قلوبهم ما شاءه، ربهم من الطيع (1) ، والختم، والزين، وغير ذلك. وحينئذ يخرج الحديث عن مقصده، فالتأويل الأول أولى، وقد بلغا: إن التسليم الطريق السليم. %(4/1465)%
وقوله: «اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك» هذا الكلام يعضد ذلك التأويل الأول، وقد وقع هذا الحديث (2) في غير كتاب مسلم فقال: «يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك»، وهما بمعنى واحد، وحاصلة: أحد أحوال القلوب منتقلة غير ثابتة ولا دائمة. فحق العاقل أن يحذر على قلبه من قلبه، ويفرغ إلى ربه في حفظه. &(6/547)&$
__________
(1) في (ح): «الضيع» كذا رسمت.
(2) من قوله: «وقد قلنا ...» إلى هنا كتب مكانها في (ح): «وقد وقع هذا الحديث في غير كتاب مسلم فقال يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك وهذا الحديث يعضد ذلك التأويل الأول وقد وقع».(6/548)
وقوله: «ما رأيت شيئًا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة» هذا من ابن عباس معنى (1) تفسير قوله تعالى: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم}. وهي ما دون الكبائر. والفواحش: هي الصغائر (2) . وقال زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: هي ما ألموا به في الجاهلية. وقيل: هي مقاربة المعصية من غير إلمام. وقيل: الذنب الذي يقلع عنه ولا يصر عليه، وقيل غير هذا.وأشبه هذه الأقوال القول الأول.وعليه يدلّ (3) قوله عليه السلام: «الصلوات الخمس مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر (4) » والفواحش: جمع فاحشة، وهي ما يتفحش (5) من الكبائر كالزنى بذوات المحارم، واللواط، ونحو ذلك. =(6/673)=@
وقوله: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى» أي ؟ قضاه وقدره، وهو: نص في الرد على القدرية.
وقوله: «مدرك ذلك لا محالة» كذا صح، وهو مرفوع على أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: فهو مدرك ذلك، ولا محالة، أي: لا بد من وقوع ذلك منه.
وقوله: «فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى» يعني: أن هواه وتمنيه: هو زناه. وإنَّما أطلق على هذه الأمور كلها: %(4/1466)% زنى؛ لأنَّها مقدماتها (6) ، إذ لا يحصل الزنى الحقيقي في الغالب إلا بعد استعمال هذه الأعضاء في تحصيله.والزنى الحقيقي: هو إيلاج الفرج المحرم شرعا في مثله.ألا ترى قوله: «ويصدق ذلك الفرج ويكذبه» يعني (7) : إن حصل إيلاج (8) الفرج الحقيقي، ثم =(6/674)=@ زنى تلك الأعضاء، وثبت (9) إثمه، وإن لم يحصل ذلك واجتنب كفر زنى تلك الأعضاء، كما قال تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم}.
ومن باب: كل مولود يولد على الفطرة وما جاء في أولاد المشركين وغيرهم، وفي الغلام الذي قتله الخضر (10)
قوله: «كل مولود يولد على الفطرة» قد تقدَّم: أن أصل الفطرة: الخلقة أصل (11) المبتدأة، وقد اختلف الناس في الفطرة المذكورة في هذا الحديث، وفي الآية، فقيل: هي سابقة السعادة والشقاوة، وهذا إنما يليق بالفطرة %(4/1467)% المذكورة في القرآن ؛ لأنَّ الله تعالى قال: {لا تبديل لخلق الله}، وأما في الحديث فلا؛ لأنَّه =(6/675)=@ قد أخبر في بقية الحديث: بأنها تبدل وتغير، وقيل: هي ما أخذ عليهم من الميثاق، وهم في أصلاب آبائهم. وهذا إنما يليق بالرواية التي جاء فيها: «كل مولود يولد على الفطرة» ويبعد في رواية من رواه: «على هذه الملة»وهي إشارة إلى ملة الإسلام. وقال بظاهر. هذه الآية طائفة من المتأولين، وهذا القول أحسن ما قيل في ذلك - إن شاء الله تعالى- لصحَّة هذه الرواية، ولأنها مبينة لرواية من قال: على الفطرة. ومعنى الحديث: إن الله تعالى خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول &(6/549)&$
__________
(1) قوله: «معنى» سقط من (ح).
(2) في (ح): «وهي».
(3) كتب بعدها في (ح): «مقصود الآية ويدل عليه».
(4) زاد بعدها في (ح): «وقد تقدم القول في الكبائر».
(5) في (ح): «يستفحش».
(6) في (ح): «مقدماته».
(7) في (ح): «يعني إنه».
(8) في (ح): «زنا» بدل «إيلاج».
(9) في (ح): «ثبت» بلا واو.
(10) من قوله: «ومن باب: كل...» إلى هنا سقط من (ح).
(11) قوله: «أصل» سقط من (ح).(6/549)
الحق كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات فما دامت باقية على ذلك القبول، وعلى تلك الأهلية أدركت الحق.ودين الإسلام هو الدين الحق، وقد جاء ذلك صريحا في الصحيح: «جبل الله الخلق على معرفته، فاجتالتهم الشياطين» وقد تقدَّم هذا المعنى، وقد دل على صحة هذا المعنى بقية الخبر حيث قال: «كما (1) تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحشون فيها من جدعاء» يعني: أن البهيمة تلد ولدها كامل الخلق، سليما من الآفات، فلو نزل على أصل تلك الخلقة لبقي كاملاً بريئا من العيوب، لكن يتصرف فيه، فتجدع أذنه، ويوسم وجهه، فتطرأ عليه الآفات والنقائص، فيخرج عن الأصل، وكذلك الإنسان، وهو تشبيه واقع، ووجهه واضح. والرواية «تنتج »بضم التاء الأولى، وفتح الثانية مبنيًا لما لم يسم فاعله.يقال ذلك إذا ولدت، ومصدرها نتاجا، وقد نتجها أهلها نتجا بفتح النون والتاء مبنيا للفاعل. %(4/1468)% وهم ناتجوها، إذا ولدت عندهم، وقولوا نتاجها.وحكى الأخفش فيه: أنه يقال: أنتجت الناقة (2) - رباعيا -. ويقال: أنتجت الفرس والناقة: حان نتاجهما.وقال يعقوب: إذا استبان حملها، فهي نتوج، ولا يقال: منتج، وأتت =(6/676)=@ الناقة على منتجها - بكسر الجيم - أي: الوقت الذي تنتج فيه.ونصب جمعاء على الحال، وبهيمة: منصوبة على التوطئة لتلك الحال. والجدع: القطع. وتحشون: تدركون بحسكم وحواسكم.
وقوله: «ما من مولود إلا يولد (3) » كذا لكلهم غير السمرقندي (4) ، فعنده تلد بتاء باثنتين من فوقها مضمومة، وبكسر اللام على وزن: ولد، وضرب، وتخرج على ما ذكر الهجري في نوادره. قال: يقال ولد وتلد بمعنى، ويكون على إبدال الواو تاء لانضمامهما (5) .
وقوله: «كل ابن آدم يلمز الشيطان في حضنيه (6) » كذا لجميعهم. والحضن: الجنب.وقيل: الخاصرة، غير أن ابن ماهان رواه: خصييه، تثنية خصية، وهو وهم وتصحيف بدليل قوله: «إلا مريم وابنها». &(6/550)&$
__________
(1) قوله: «كما» سقط من (ح).
(2) في (ح): «الناقبة».
(3) زاد بعدها في (ح): «على الفطرة».
(4) في (ح): «عن» بدل «غير».
(5) في (ح): «لانضمامها».
(6) في (ح): «حضينيه».(6/550)
وقوله: «أرأيت من يموت صغيرًا» هذا السؤال إنما كان عن أولاد المشركين، كما جاء مفسرًا من حديث ابن عباس: «فأمَّا أولاد المؤمنين، فقد تقدم الاستدلال على أنهم في الجنة، وأما أطفال المشركين (1) فاختلف فيهم على ثلاثة أقوال: فقيل: في النار مع آبائهم، وقيل: في الجنة، وقيل: %(4/1469)% تؤجج لهم نار =(6/677)=@ ويؤمرون بدخولها، فمن أطاع منهم دخل الجنة، ومن عصى منهم (2) دخل النار. وذهب قوم - وأحسبهم من غير أهل السنة - فقالوا: يكونون في برزخ. وسبب اختلاف الثلاثة الأقوال: اختلاف الآثار في ذلك، ومخالفة بعضها لظاهر قوله تعالى:{وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً}. والصبي والمجنون لا يفهمون ولا يخاطبون، فهم كالبهائم، فلم يبعث إليهم رسول، فلا يعذبون. والحاصل من مجموع ذلك - وهو: القول الحق الجاري على أصول أهل الحق -: أن العذاب المترتب على التكليف لا يعذبه من لم يكلف. ثم لله تعالى أن يعذب من شاء ابتداء من غير تكليف (3) من صبي أو مجنون، أو غير ذلك بحكم المالكية، وأنه لا حجر عليه، ولا حكم، فلا يكون ظالما بشيء من ذلك إن فعله كما قررناه في الباب قبل هذا. وعلى هذا يدلّ قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة - رضي الله عنها -: «إن الله خلق (4) للجنة أهلاً، وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً، وهم في أصلاب آبائهم،.قد (5) قدمنا: أن الأعمال معرفات (6) لا موجبات.
وقوله: «الله أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم» معناه: الله أعلم بما جبلهم عليه، وطبعهم عليه، فمن خلقه الله تعالى على جبلة المطيعين كان من أهل الجنة، ومن خلقه الله على جبلة الكفار من القسوة والمخالفة كان من أهل النار. وهذا كما &(6/551)&$
__________
(1) من قوله: «كما جاء مفسرًا...» إلى هنا سقط من (ح).
(2) قوله: «منهم» سقط من (ح).
(3) في (ح): «بغير» بدل «من غير».
(4) في (ح): «خلق للخلق للجنة».
(5) في (ح): «وقد».
(6) في (ح): «مقرونات».(6/551)
قال في غلام الخضر: «طبع يوم طبع كافر».وهذا الثواب والعقاب ليس مرئيا على تكليف ولا مرتبطا به، وإنما هو بحكم علمه ومشيئته.
وأما من قال: إنهم في النار مع آبائهم، فمعتمده قوله عليه السلام: «هم من آبائهم». ولا حجَّة فيه لوجهين: =(6/678)=@ %(4/1470)%
أحدهما: أن المسألة علمية، وهذا خبر واحد، وليس نصًا في الفرض (1) .
وثانيهما: سلمناه، لكنا نقول ذلك في أحكام الدنيا، وعنها سئل، وعليها خرج الحديث، وذلك أنهم قالوا: يا رسول الله! إنا (2) نبيت أهل الدار من المشركين وفيهم الذراري. فقال: «هم من آبائهم» يعني في جواز القتل في حال التبييت، وفي غير ذلك من أحكام آبائهم الدنيوية، والله تعالى أعلم.
وقول عائشة رضي الله عنها في الصبي الأنصاري المتوفى: عصفور من عصافير الجنة) إنما قالت هذا عائشة؛ لأنَّها بنت على أن: كل مولود يولد على فطرة الإسلام، وأن الله تعالى: لا يعذب حتى يبعث رسولاً، فحكمت بذلك، فأجابها النبي صلى الله عليه وسلم بما ذكر. =(6/679)=@
وقوله: «وهم في أصلاب آبائهم» لا يعارض ما تقدَّم من قوله أنه يكتب وهو في بطن أمه شقي أو سعيد، لما قدمناه من أن قضاء الله وقدره راجع إلى علمه وقدره، وهما أزليان، لا أول لهما.ومقصود هذه الأحاديث كلها: أن قدر الله سابق على حدوث المخلوقات، وأن الله تعالى يظهر من ذلك ما شاء لمن شاء متى شاء قبل وجود الأشياء (3) . &(6/552)&$
__________
(1) في (ح): «الغرض».
(2) في (ح): «إنما».
(3) قوله: «قبل وجود الأشياء» سقط من (ح).(6/552)
%(4/1471)%
ومن باب: الآجال محدودة والأرزاق مقسومة (1)
قول (2) أم حبيبة: اللهم متعني بزوجي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية) أي: أطل أعمارهم حتى أتمتع بهم زمانا طويلاً. =(6/680)=@
وقوله: «لا يعجل شيئًا منها قبل حله، ولا يؤخر شيئًا منها بعد (3) حله» كذا الرواية بفتح الحاء في الموضعين، وهو مصدر حل الشيء يحل حلا وحلولا ومحلا، والمحل أيضًا، الموضع الذي يحد (4) فيه، أي: ينزل.
وقوله: «لقد سألت الله لآجال مضروبة.... إلى آخره»، ثم قال بعد هذا: «ولو سألت الله أن يعافيك من عذاب في القبر، وعذاب في النار، كان خيرًا لك»، وقد (5) أورد بعض علمائنا على هذا سؤالا، فقال: ما معنى صرفه لها عن الدعاء بطول الأجل، وحضه (6) لها على العياذ من عذاب القبر. وكل ذلك مقدر (7) لا يدفعه أحد ولا يرده سبب، فالجواب: أنه عليه السلام: لم ينهها عن الأول، وإنَّما أرشدها إلى ما هو الأولى والأفضل، كما سبق عليه، ووجهه (8) : أن الثاني أولى وأفضل، أنه قيام بعبادة الاستعاذة من عذاب النار والقبر، فإنَّه قد يتعبدنا بها في غير ما حديث، =(6/681)=@ ولم يتعبدنا بشيء من القسم الذي دعت هي به، فافترقا.وأيضًا: فإنَّ التعوذ من &(6/553)&$
__________
(1) قوله: «ومن باب ...» إلى هنا سقط من (ح).
(2) في (ح): «وقول».
(3) في (ح): «قبل» بدل «بعد».
(4) في (ح): «يحل».
(5) في (ح): «قد» بلا واو.
(6) في (ح): «وحطه».
(7) في (ح): «مقدر مقضي لا».
(8) في (ح): «ووجه».(6/553)
عذاب القبر والنار تذكير بهما، فيخافهما المؤمن، فيحذرهما، ويتقيهما، فيجعل من المتقين الفائزين بخير الدنيا والآخرة. %(4/1472)%
ومن باب: الأمر بالتقوى والحرص على ما ينفع
قوله: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف» أي: القوي البدن والنفس، الماضي العزيمة، الذي يصلح للقيام بوظائف العبادات من الصوم، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على ما يصيبه في ذلك، وغير ذلك (1) مما يقوم به الدين، وتنهض به كلمة المسلمين، فهذا هو الأفضل، والأكمل، وأما من لم يكن كذلك من المؤمنين، ففيه خير من حيث كان مؤمنا، قائما بالصلوات، مكثرًا لسواد المسلمين، ولذلك قال عليه السلام: «وفي كل خير» لكنه قد فاته الحظ الأكبر، والمقام الأفخر. &(6/554)&$
__________
(1) قوله: «وغير ذلك» سقط من (ح).(6/554)
وقوله: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز» أي: استعمل الحرص، والاجتهاد في تحصيل ما تنتفع به في (1) أمر دينك ودنياك التي تستعين بها على صيانة دينك، وصيانة عيالك، ومكارم أخلاقك، ولا تفرط في طلب ذلك، ولا تتعاجز عنه ميلاً على القدر، فتنسب للتقصير، %(4/1473)% وتلام على التفريط شرعا وعادة. ومع إنهاء الاجتهاد نهايته، وإبلاغ الحرص غايته، فلا بد من الاستعانة =(6/682)=@ بالله، والتوكل عليه، والالتجاء في كل الأمور إليه، فمن سلك هذين الطريقين (2) حصل على خير الدارين.
وقوله: «وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا.قل: قدر الله، وما شاء فعل» يعني: إن الذي يتعين بعد وقوع المقدور التسليم لأمر الله، والرضا بما قدره الله تعالى، والإعراض عن الالتفات لما مضى وفات. فإنَّ افتكر فيما فاته من ذلك وقال: لو أني فعلت كذا لكان كذا جاءته وساوس الشيطان، ولا تزال به حتى تقضي به إلى الخسران، لتعارض قولهم (3) التدبير سابق المقادير، وهذا هو عمل الشيطان الذي نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: «فلا تقل: لو، فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان»، ولا يفهم من هذا: أنَّه لا يجوز النطق بـ (لو) مطلقا إذ قد نطق بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لو أني (4) استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، ولجعلتها عمرة». و «لو كنت راجما أحدًا بغير بينة لرجمت هذه». وقال أبو بكر: لو أن أحدهم نظر إلى رجليه لرآنا.ومثله كثير؛ لأنَّ محل النهي عن إطلاقها إنما هو فيما إذا أطلقت في معارضة القدر، أو مع اعتقاد: أن ذلك المانع لو ارتفع لوقع خلاف المقدور، فأمَّا لو أخبر بالمانع على جهة أن تتعلق (5) به فائدة في المستقبل، فلا يختلف في جواز إطلاقه، إذ ليس في ذلك فتح لعمل الشيطان، ولا شيء يفضي إلى ممنوع، ولا حرام، والله تعالى أعلم. =(6/683)=@ &(6/555)&$ %(4/1474)%
__________
(1) في (ح): «من» بدل «في».
(2) في (ح): «الطرفين».
(3) في (ح): «قوهم».
(4) قوله: «أني» سقط من (ح).
(5) في (ح): «يتعلق».(6/555)
كتاب العلم
ومن باب: فضائل (1) طلب العلم
قوله: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة» أي: من مشى إلى تحصيل علم شرفي قاصدا به وجه الله تعالى جازاه الله تعالى عليه بأن يوصله إلى الجنة مسلما مكرما. ويلتمس: معناه يطلب، كما قال: «التمس ولو =(6/684)=@ خاتما من حديد»، وهو حض وترغيب في الرحلة في طلب العلم.والاجتهاد في تحصيله، وقد ذكر أبو داود هذا الحديث من حديث أبي الدرداء وزاد زيادات حسنة، فقال: عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سلك الله تعالى به طريقا من طرق الجنة (2) ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وأن العالم ليستغفر له من في السموات، ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وفضل (3) العالم على العابد &(6/556)&$
__________
(1) في (ح): «فضل».
(2) في (ح): «به طريقًا إلى الجنة» وكتب في الهامش «من طرق الجنة» ووضع (م).
(3) في (ح): «وأن فضل».(6/556)
كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، والعلماء ورثة %(4/1475)% الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهما، ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر»، وهذا حديث عظيم يدل على أن طلب العلم أفضل الأعمال، وأنه لا يبلغ أحد رتبة العلماء، وأن رتبتهم ثانية عن رتبة الأنبياء.
وقوله: «إن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم» قيل: معناه تخضع له وتعظمه، وقيل: تبسطها له بالدعاء؛ لأنَّ جناح الطائر يده.
وقوله: «وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض»، يعني بـ «من» هنا: من يعقل، وما لا يعقل، غير أنه غلب عليه من يعقل، بدليل أن هذا الكلام قد جاء في غير كتاب أبي داود، فقال: «حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في جوف الماء»، وعلى هذا المعنى يدلّ - من حديث أبي داود هذا (1) - عطف الحيتان بالواو على من في السموات، ومن في الأرض، فإنَّه يفيد أن من يعقل، وما لا يعقل يستغفر للعالم، فأمَّا استغفار من يعقل فواضح، فإنَّ دعاء له =(6/685)=@ بالمغفرة، وأما استغفار ما (2) لا يعقل، فهو - والله أعلم - أن الله يغفر له، ويأجره بعدد كل شيء لحقه أثر من علم العالم.وبيان ذلك: أن العالم يبين حكم الله تعالى في السموات وفي الأرض، وفي كل ما فيهما، وما بينهما، فيغفر له ذنبه، ويعظم له أجره بحسب ذلك، ويحتمل أن يكون ذلك على جهة الإغياء، والأول أولى، والله تعالى أعلم.
وقوله: «وإن فضل العالم على العابد، كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» هذه المفاضلة لا تصح حتى يكون كل واحد منهما قائما بما رجب &(6/557)&$
__________
(1) في (ح): «وهذا».
(2) في (ح): «من» بدل «ما».(6/557)
عليه من العلم والعمل، فإنَّ العابد لو ترك شيئًا من الواجبات، أو عملها على جهل لم يستحق اسم العابد، ولا تصح له عبادة، والعالم لو ترك شيئا من الواجبات لكان مذموما، ولم يستحق اسم العالم، فإذا محل التفضيل: إنما هو في النوافل، فالعابد يستعمل أزمانه في النوافل %(4/1476)% من الصلاة، والصوم، والذكر وغير ذلك، والعالم يستعمل أزمانه في طلب العلم وحفظه، وتقييده، وتعليمه، فهذا هو الذي (1) شبهه بالبدر؛ لأنَّه قد كمل في نفسه، واستضاء به كل شيء في العالم من حيث أن علمه تعدى لغيره، وليس كذلك العابد؟ فإنَّ غايته أن ينتفع في نفسه، ولذلك شبهه بالكوكب الذي غايته أن يظهر نفسه.
وقوله: «وإن العلماء ورثة الأنبياء» إنما خلق العلماء بالورثة، وإن كان العباد - أيضًا- قد ورثوا عنه العلم بما صاروا به عبادًا؛ لأنَّ العلماء هم الذين نابوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في حملهم العلم عنه، وتبليغهم إياه لأمته، وإرشادهم لهم، وهدايتهم. وبالجملة فالعلماء: هم العالمون بمصالح الأمة بعده، الذابون عن سنته، الحافظون لشريعته، فهؤلاء الأحق بالوراثة، والأولى بالنيابة والخلافة، وأما العباد فلم يطلق عليهم اسم الوراثة لقصور نفعهم، ويسير حظهم.
وقوله: «إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما» يعني: أنهم صلوات الله =(6/686)=@ عليهم كان الغالب عليهم الزهد، فلا يتركون ما يورث عنهم، ومن ترك منهم شيئا، يصح أن يورث عنه تصدق قبل موته، كما فعل نبينا صلى الله عليه وسلم حين قال: «لا نورث، ما تركنا صدقة».
وقوله: «فمن أخذه أخذ بحظ وافر» أي: بحظ عظيم، لا شيء أعظم منه ولا أفضل، كما ذكرناه.
وقوله: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة» بيوت الله هي المساجد كما قال تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه}. ففيه ما يدلّ على جواز تعليم (2) في القرآن في المساجد، أما للكبار الذين يتحفظون بالمسجد فلا إشكال فيه، ولا &(6/558)&$
__________
(1) قوله: «الذي» سقط من (ح).
(2) في (ح): «التعليم».(6/558)
يختلف فيه، وأما الصغار، الذين لا يتحفظون %(4/1477)% بالمساجد، فلا يجوز؛ لأنَّه تعريض المسجد (1) للقذر والعبث، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم»، وقد تمسك بهذا الحديث من يجيز قراءة الجماعة القرآن على لسان واحد، كما يفعل عندنا بالمغرب، وقد كره بعض علمائنا ذلك، ورأوا أنها بدعة إذ لم تكن كذلك قراءة السلف، وإنَّما الحديث محمول على: أن كل واحد يدرس لنفسه، أو مع من يصحح (2) عليه، وليستعين به.
وقوله: «إلا نزلت عليهم السكينة» قد (3) تقدَّم الكلام على السكينة في كتاب الصلاة، وأنها إما السكون، والوقار، والخشوع، وإما الملائكة الذين يستمعون =(6/687)=@ القرآن، سموا بذلك لما هم عليه من السكون والخشوع.
وقوله: «وغشيتهم الرحمة» أي: تكفير خطيئاتهم، ورفع درجاتهم، وإيصالهم إلى جنته وكرامته.
وقوله: «وذكرهم الله فيمن عنده» يعني: في الملأ الكريم من الملائكة المقربين، كما قال: «إن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم»، وهذا الذكر يحتمل أن يكون ذكر ثناء وتشريف، ويحتمل أن يكون ذكر مباهاة، كما باهى الملائكة بأهل عرفة.
وقوله: «من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه» يعني (4) : أن الآخرة لا ينفع فيها إلا تقوى (5) الله تعالى والعمل الصالح، لا الفخر الراجح، ولا النسب الواضح. =(6/688)=@ &(6/559)&$
__________
(1) في (ح): «للمسجد».
(2) في (ح): «يصلح».
(3) في (ح): «وقد».
(4) في (ح): «يعني به أن».
(5) قوله: «تقوى» لم يتضح في (ح).(6/559)
%(4/1478)%
ومن باب: كراهة الخصومة في الدين والغلو في التأويل
والتحذير من إتباع الأهواء
قوله: «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم» الرواية الخصم - بسكون الصاد-، وقد قيده بعضهم بكسرها، وكلاهما اسم للمخاصم، غير أن الذي بالسكون هو مصدر في الأصل، وضع موضع الاسم، ولذلك يكون في المذكر والمؤنث، والتشبيه والجمع بلفظ واحد في الأكثر، ومن العرب من يثنيه ويجمعه ؛ لأنَّه يذهب به (1) مذهب الاسم، وقد جاءت اللغتان في كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: {وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب}، ثم قال: {خصمان بغى بعضنا على بعض}، فأمَّا الذي بالكسر فهو الشديد الخصومة، ويجمع: خصم، فيقال: خصم (2) ، وخصم خصمون، كما قال تعالى: {بل هم قوم خصمون}. والألد: هو الشديد الخصومة، مأخوذ من اللديدين، وهما جانبا الوادي ؛ لأنَّه كلما أخذ عليه جانب أخذ في جانب آخر، وقيل: لإعماله =(6/689)=@ لديديه، وهما: صفحتا عنقه عند خصومته. وكان حكم الألد أن يكون تابعا للخصم؛ لأنَّ الألد صفة، والخصم اسم، لكن لما كان خصم مصدرا في الأصل، %(4/1479)% وكان الألد صفة مشهورة عكس الأمر، فجعل التابع متبوعا، وهذا على نحو قوله: {وغرابيب سود} إنَّما (3) يقال: أسود غربيب. وهذا الخصم المبغوض عند الله تعالى هو الذي يقصد بخصومته: مدافعة الحق، ورده بالأوجه الفاسدة، والشبه الموهمة، وأشد ذلك الخصومة في أصول (4) الدين، &(6/560)&$
__________
(1) قوله: «به» سقط من (ح).
(2) في (ح): «خصوم» بدل «خصم».
(3) في (ح): «وإنما».
(4) في (ح): «أمور».(6/560)
كخصومة أكثر المتكلمين (1) المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله، وسنة نبيه، وسلف أمته إلى طرق مبتدعة، واصطلاحات مخترعة، وقوانين جدلية، وأمور صناعية، مدار أكثرها على مباحث سوفسطائية، أو مناقشات لفظية ترد بشبهها (2) على الآخذ فيها شبه ** شبة كما في الورق** ربما يعجز عنها، وشكوك يذهب الإيمان معها، وأحسنهم انفصالا عنها أجدلهم، لا أعلمهم، فكم من عالم بفساد الشبهة لا يقوى على حلها! وكم من منفصل! عنها لا يدرك حقيقة علمها! ثم إن هؤلاء المتكلمين قد ارتكبوا أنواعا من المحال لا يرتضيها البله، ولا الأطفال، لما بحثوا عن تحيز (3) الجواهر، والأكوان، والأحوال، ثم إنهم أخذوا يبحثون فيما أمسك عن البحث فيه السلف الصالح، ولم يوجد عنهم فيه بحث واضح، وهو كيفية تعلقات (4) صفات الله تعالى، وتقديرها، واتخاذها في أنفسها، وأنها هي الذات، أو غيرها، وأن الكلام، هل هو متحد، أو منقسم إذا (5) كان منقسما فهل ينقسم بالأنواع، أو بالأوصاف؟ وكيف تعلق في الأزل بالمأمور؟ ثم إذا انعدم المأمور فهل يبقى (6) ذلك التعلق؟ وهل الأمر لزيد بالصلاة مثلا هو عين الأمر لعمرو بالزكاة، إلى غير ذلك من الأبحاث المبتدعة التي لم يأمر الشرع بالبحث عنها، وسكت أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ومن سلك سبيلهم عن الخوض فيها لعلمهم بأنها بحث عن كيفية ما لا نعلم كيفيته، فإنَّ العقول لها حد تقف عنده، وهو العجز عن التكييف لا يتعداه (7) ، ولا فرق بين البحث %(4/1480)% في كيفية الذات، وكيفية الصفات، ولذلك قال العليم الخبير: {ليس كمثله شيء وهو =(6/690)=@ السميع البصير}، ولا تبادر بالإنكار فعل الأغبياء الأغمار، فإنك قد حجبت عن كيفية حقيقة نفسك مع علمك بوجودها، وعن كيفية إدراكاتك، مع أنك تدرك بها. وإذا عجزت عن إدراك كيفية ما بين جنبيك، فأنت عن إدراك ما ليس كذلك أعجز. وغاية علم (8) العلماء، وإدراك عقول الفضلاء (9) أن يقطعوا بوجود فاعل هذه (10) المصنوعات منزه عن صفاتها، مقدس عن أحوالها، موصوف بصفات الكمال اللائق به. ثم مهما أخبرنا الصادقون عنه بشيء من أوصافه، وأسمائه قبلناه، واعتقدناه، وما لم يتعرضوا له سكتنا عنه، وتركنا الخوض فيه. هذه طريقة &(6/561)&$
__________
(1) في (ح): «المكلمين».
(2) في (ح): «بشبها».
(3) في (ح): «تحييز».
(4) في (ح): «بتعلقات».
(5) في (ح): «وإذا».
(6) فثي (ح): «يفي».
(7) في (ح): يشبه «لا تتعداه».
(8) في (ح): «العلم».
(9) في (ح): «العقلاء».
(10) في (ح): «لهذه».(6/561)
السلف، وما سواها مهاوٍ وتلف، ويكفي في الردع عن الخوض في طرق (1) المتكلمين ما قد ورد في ذلك عن الأئمة المتقدمين، فمن ذلك قول عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقل، والدين قد فرغ منه، ليس بأمر يؤتكف (2) على (3) النظر فيه.وقال مالك: ليس هذا الجدال من الدين في شيء وقال: كان يقال: لا تمكن زائغ القلب من أذنك، فإنك لا تدري ما (4) يعلقك من ذلك.
وقال الشافعي: لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه، ما عدا الشرك، خير له من أن ينظر في علم الكلام. وإذا سمعت من يقول: الاسم هو المسمى، أو غير المسمى (5) ، فاشهد أنه من أهل الكلام، ولا دين له.قال: وحكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد (6) ، ويطاف بهم في (7) العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأخذ في الكلام.وقال الإمام (8) أحمد بن حنبل: لا يفلح صاحب %(4/1481)% الكلام أبدًا، علماء الكلام زنادقة.وقال ابن عقيل: قال بعض أصحابنا: أنا أقطع أن الصحابة - رضي الله عنهم - ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض، فإنَّ رضيت أن تكون مثلهم فكن. وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيته (9) . قال: وقد أفضى هذا الكلام بأهله إلى الشكوك، وبكثير =(6/691)=@ منهم إلى الإلحاد، وأصل ذلك: أنهم ما قنعوا بما بعثت (10) به الشرائع، وطلبوا الحقائق، وليس في قوة العقل إدراك ما عند الله تعالى من الحِكَم التي انفرد بها، ولو لم يكن في الجدال إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه الضلال (11) ، كما قال فيما خرجه الترمذي : «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل» ، وقال: إنه صحيح.
قلت: وقد رجع كثير من أئمة المتكلمين عن الكلام بعد انقضاء أعمار مديدة، وآمال (12) بعيدة لما لطف الله تعالى بهم، وأظهر لهم آياته (13) ، وباطن برهانه (14) فمنهم: إمام المتكلمين أبو المعالي، فقد حكى عنه الثقات أنه قال: لقد خليت أهل الإسلام وعلومهم (15) ، وركبت البحر الأعظم، وغصت في الذي نهوا عنه، كل ذلك &(6/562)&$
__________
(1) في (ح): «طريق».
(2) قوله: «يؤتكف» لم يتضح في (ح).
(3) قوله: «على» سقط من (ح).
(4) في (ح): «ماذا».
(5) قوله: «أو غير المسمى» سقط من (ح).
(6) في (ح): «بالحديد».
(7) قوله: «في» سقط من (ح).
(8) قوله: «الإمام» سقط من (ح).
(9) في (ح): «ما رأيت».
(10) قوله: «بعثت» لم يتضح في (ح).
(11) في (ح): «علامة الضلال».
(12) في (ح): «آماد».
(13) في (ح): «آفاته».
(14) في (ح): «ترهاته».
(15) في (ح): «وعمومهم».(6/562)
رغبة في طلب الحق، وهربا من التقليد، والآن فقد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، وأختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص، والويل لابن الجويني. وكان يقول لأصحابه: يا أصحابنا ألا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ (1) ما تشاغلت به. %(4/1482)% وقال أحمد بن سنان: كان الوليد بن أبان الكرابيسي، خالي، فلما حضرته الوفاة قال لبنيه: تعلمون (2) أحدًا أعلم مني؟ قالوا: لا، قال: فتتهموني؟ قالوا: لا.قال: فإني أوصيكم أفتقبلون (3) ؟ قالوا: نعم.قال؟ عليكم بما عليه أصحاب الحديث فإني رأيت الحق معهم.وقال أبو الوفا بن عقيل: لقد بالغت في الأصول طول عمري، ثم عدت القهقرى إلى مذهب المكتب (4) . =(6/692)=@
قلت: وهذا الشهرستاني صاحب «نهاية الإقدام في علم الكلام» وصف حاله فيما وصل إليه من الكلام وما ناله، فتمثل بما قاله:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها وصبرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر على ذقن أو قارعا سن نادم
ثم قال: عليكم بدين العجائز؟ فإنَّه، أسنى الجوائز.
قلت: ولو لم يكن في الكلام شيء يذم به إلا مسألتان هما من مبادئه، لكان حقيقًا بالذم، وجديرًا بالترك.
إحداهما (5) : قول طائفة منهم: إن أول الواجبات الشك في الله تعالى.
والثانية: قول جماعة منهم: إن من لم يعرف الله تعالى بالطرق التي طرقوها، والأبحاث التي حرروها، فلا يصح إيمانه، وهو كافر. %(4/1483)% فيلزمهم على هذا تكفير أكثر المسلمين من السلف الماضين، وأئمة المسلمين، وأن (6) من يبدأ بتكفيره أباه (7) ، وأسلافه، وجيرانه، وقد أورد على بعضهم هذا، فقال: لا يشنع علي بكثرة أهل النار، وكما (8) قال: ثم إن من لم يقل بهاتين المسألتين من &(6/563)&$
__________
(1) في (ح): «ما بلغت».
(2) في (ح): «تعلمون أن أحدا».
(3) في (ح): «أتقبلون».
(4) في (ح): «المتكبت».
(5) في (ح): «أحديهما».
(6) في (ح): «وأول من» بدل «أن من».
(7) في (ح): «أباؤه».
(8) في (ح): «أو كما» بدل «وكما».(6/563)
المتكلمين ردوا على من قال بهما بطرق النظر والاستدلال بناء منهم على: أن هاتين (1) المسألتين نظريتان، وهذا خطأ فاحش، فالكل مخطئون (2) الطائفة الأولى بأصل القول بالمسألتين، والثانية بتسليم (3) أن فسادها ليس بضروري، ومن شك في تكفير من قال: إن الشك في الله (4) تعالى واجب، وأن (5) معظم الصحابة والمسلمين كفار، فهو كافر شرعا، أو مختل العقل وضعًا؛ إذ كل واحدة منهما معلومة الفساد بالضرورة الشرعية الحاصلة بالأخبار المتواترة القطعية، وإن لم يكن =(6/693)=@ كذلك فلا ضروري يصار إليه في الشرعيات ولا العقليات. عصمنا الله من بدع المبتدعين، وسلك بنا طرق السلف الماضين. وإنما طولت في هذه المسألة الأنفاس؛ لما قد شاع من هذه البدع في الناس، ولأنه قد اغتر كثير من الجهال بزخرف (6) تلك الأقوال، وقد بذلت ما وجب علي من النصيحة، والله تعالى يتولى إصلاح القلوب الجريحة.
وقوله: «لتتبعن سنن الذين من قبلكم، شبرا بشبر، وذراعا بذراع» سنن (7) بفتح السين، وهو الطريق وبضمها، وهو جمع سنة. وهي الطريقة المسلوكة. وذكر الشبر، والذراع، والحجر تفيد (8) أن هذه الأمة يطرأ عليها من الابتداع والاختلاف مثل الذي كان وقع لبني إسرائيل. وقد روى الترمذي هذا المعنى بأوضح من هذا، فقال: «ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل، حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من يأتي أمه علانية، لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل %(4/1484)% تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين، كلها في النار إلا واحدة»، قالوا: ومن هي يا رسول الله؛ قال: «ما أنا عليه وأصحابي». خرجه (9) من حديث عبد الله بن عمر (10) . وقد رواه أبو داود من &(6/564)&$
__________
(1) قوله: «هاتين» سقط من (ح).
(2) في (ح): يشبه «يخطئون».
(3) قوله: «بتسليم» سقط من (ح).
(4) في (ح): «في حق الله».
(5) في (ح): «أو أن» بدل «وأن».
(6) في (ح): «بتزخرف».
(7) في (ح): «قيدناه سنن».
(8) في (ح): «والحجر أمثال تفيد».
(9) ألحق في هامش (ح) قوله: «أظنه الترمذي».
(10) في (ح): «عمرو».(6/564)
حديث معاوية بن أبي سفيان وقال: «اثنتان (1) وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي =(6/694)=@ الجماعة«. يعني: جماعة أصحابه ومن تابعهم على هديهم، وسلك طريقهم، كما قال في حديث الترمذي.
وقد تبين بهذه الأحاديث أن هذا الافتراق المحذر منه، إنما هو في أصول الدين وقواعده، لأنه قد أطلق عليها مللا، وأخبر أن التمسك بشيء من تلك الملل موجب لدخول النار، ومثل هذا لا يقال على الاختلاف في الفروع؛ فإنه لا يوجب تعديد الملل، ولا عذاب النار، وإنما هو على أحد المذهبين السابقين، إما مصيب فله أجران، وإما مخطئ فله أجر على ما ذكرناه من الأصول. والضب: جرذون الصحراء. وجحره خفي، ولذلك ضرب به المثل. %(4/1485)%
ومن باب: كيفية التفقه في كتاب الله تعالى
قوله تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات...} الآية.
اختلف الناس في المحكمات والمتشابهات على أقوال كثيرة؛ منها أن المحكم هو الناسخ، والمتشابه، هو المنسوخ.
ومنها: أن المحكم هو القرآن كله، والمتشابه: الحروف المقطعة في أوائل السور. =(6/695)=@ &(6/565)&$
__________
(1) في (ح): «ثنتان».(6/565)
ومنها: أن المحكم آيات الأحكام، والمتشابه: آيات الوعيد.
ومنها: أن المتشابه آيات إبهام قيام الساعة، والمحكم: ما عداها.
ومنها: أن المحكم ما وضح معناه، وانتفى عنه الاشتباه، والمتشابه: نقيضه.وهذا أشبه ما قيل في ذلك ؛ لأنَّه جار على وضع اللسان، وذلك أن المحكم (1) اسم مفعول من: أحكم.والإحكام: الإتقان.ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه، ولا تبرير، وإنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته، واتفاق تركيبها، ومتى اختلف أحد الأمرين جاء التشابه والإشكال، وإلى نحو ما ذكرناه صار جعفر بن محمد، ومجاهد، وابن إسحاق. %(4/1486)%
وقوله: «هن أم الكتاب» أي: أصله الذي يرجع إليه عند الإشكال والاستدلال، ومنه سميت الفاتحة: أم القرآن ؛ لأنَّها أصله، إذ هي آخذة بجملة علومه، فكأنه قال: المحكمات: أصول ما أشكل من الكتاب، فتعين رد ما أشكل منه إلى ما وضح منه، وهذا أيضًا أحسن ما قيل في ذلك.
وقوله: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} الزيغ: الميل عن الحق، وابتغاء الفتنة: طلب الفتنة، وهي الضلال. مجاهد: الشك. وتأويله ما آل إليه أمره، وكنهه (2) حقيقته، فكأنهم تعمقوا في التأويل طلبا لكنه الأمر وحقيقته، فكره لهم التعمق.
وقوله: {وما يعلم تأويله إلا الله} أي: ما يعلم حقيقة ما أريد بالمتشابه إلا الله. والوقف على (الله) أولى.
وقوله: {والراسخون في العلم يقولون: آمنا به كل من عند ربنا} جملة =(6/696)=@ ابتدائية مستأنفة. مقتضاها: أن حال الراسخين عند سماع المتشابه الإيمان والتسليم، وتفويض علمه إلى الخبير العليم، وهذا قول ابن مسعود وغيره.وقيل: &(6/566)&$
__________
(1) في (ح): «المحكوم».
(2) في (ح): «وكنه».(6/566)
والراسخون: معطوف على الله تعالى، حكي (1) عن علي وابن عباس، والأول أليق و أسلم .والله أعلم (2) .
وقوله: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم» يعني: يتبعونه ويجمعونه طلبا للتشكيك (3) في القرآن، %(4/1487)% وإضلالا للعوام، كما فعلته الزنادقة، والقرامطة الطاعنون في القرآن، أو طلبا لاعتقاد ظواهر المتشابه كما فعلته المجسمة؛ الذين جمعوا ما وقع في الكتاب والسنة مما يوهم ظاهره الجسمية، حتى اعتقدوا: أن البارئ تعالى جسم مجسم، وصورة مصورة ذات وجه، وعين، ويد، وجنب، ورجل، وإصبع، تعالى الله عن ذلك، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن سلوك طريقهم. فأمَّا القسم الأول، فلا شك في كفرهم، وأن حكم الله فيهم القتل من غير استتابة .
وأما القسم الثاني، فالصحيح القول بتكفيرهم، إذ لا فرق بينهم وبين عباد الأصنام والقبور (4) ، ويستتابون، فإنَّ تابوا وإلا قتلوا، كما يفعل بمن ارتد. فأمَّا من يتبع المتشابه، لا على تلك الجهتين، فإنَّ كان ذلك على إبداء مذهب (5) تأويلاتها، وإيضًاح معانيها، فذلك مختلف في جوازه بناء على الخلاف في جواز تأويلها، وقد عرف أن مذهب السلف ترك التعرض لتأويلاتها مع قطعهم باستحالة =(6/697)=@ ظواهرها. ومذهب غيرهم: إبداء تأويلاتها، وحملها على ما يصح حمله في &(6/567)&$
__________
(1) في (ح): «حكي ذلك عن».
(2) قوله: «والله أعلم».
(3) في (ح): «للتشكيك».
(4) في (ح): «والصور».
(5) قوله: «مذهب» سقط من (ح).(6/567)
اللسان عليها من غير قطع متعين محمل منها. وأما من يتبع المتشابه على نحو ما فعل صيغ فحكمه حكم عمر فيه الأدب البليغ.والراسخ في العلم: هو الثابت فيه، المتمكن منه .
وقوله: «هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما«: أي: خرجت إليه (1) في الهاجرة، وهي: شدة الحر .
وقوله: «فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج يعرف في وجهه الغضب فقال: «إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب» هذا الاختلاف لم يكن اختلافا في القراءة؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم قد سوغ أن يقرأ القرآن %(4/1488)% على سبعة أحرف كما تقدَّم، ولم يكن أيضًا في كونها قرآنا؛ لأنَّ ذلك معلوم لهم ضرورة، ومثل هذا لا يختلف فيه المسلمون، ولا يقرون عليه، فإنَّه كفر، فلم يبق إلا أنه كان اختلافا في المعنى. ثم تلك الآية يحتمل أن كانت من المحكمات القاهرة المعنى، فخالف فيها (2) أحدهما الآخر (3) إما لقصور فهم، وإما لاحتمال بعيد، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، إذ قد ترك الظاهر الواضح، وعدل إلى ما ليس كذلك، ويحتمل أن كانت من المتشابه، فتعرضوا لتأويلها، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فيكون فيه حجَّة لمذهب السلف في التسليم للمتشابهات (4) ، وترك تأويلها. =(6/698)=@
وقوله: «اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فيه فقوموا» يحتمل هذا الخلاف أن يحمل على ما قلناه آنفا. قال القاضي: وقد يكون أمره بالقيام عند الاختلاف في عصره وزمنه، إذ لا وجه للخلاف والتنازع حينئذ، لا في حروفه، ولا في معانيه، وهو صلى الله عليه وسلم حاضر معهم، فيرجعون إليه في مشكله، ويقطع تنازعهم بتبيانه. قلت: ويظهر لي: أن مقصود هذا الحديث الأمر بالاستمرار في قراءة الأمر القرآن، وفى تدبره، والزجر عن كل شيء يقطع عن ذلك. والخلاف فيه في &(6/568)&$
__________
(1) قوله: «إليه» سقط من (ح).
(2) في (ح): «فيه».
(3) قوله: «الآخر» سقط من (ح).
(4) في (ح): «في المتشابهات».(6/568)
حالة القراءة قاطع عن ذلك في أي شيء كان من حروفه، أو معانيه، والقلب إذا وقع فيه شيء لا يمكن رده على الفور، فأمرهم بالقيام إلى أن تزول تشويشات القلب (1) . ويستفاد هذا من قوله: %(4/1489)% «اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم» فإن القراءة باللسان، والتدبر بالقلب، فأمر باستدامة القراءة مدة دوام تدبر القلب، فإذا وقع الخلاف في تلك الحال انصرف اللسان عن القراءة، والقلب عن التدبر. وعلى هذا فمن أراد أن يتلو القرآن، فلا يبحث عن معانيه في حال قراءته مع غيره، ويفرد لذلك وقتا غير وقت القراءة. والله تعالى أعلم. والحاصل: أن الباحثين في فهم معاني القرآن يجب عليهم أن يقصدوا ببحثهم التعاون على فهمه، واستخراج أحكامه، قاصدين بذلك وجه الله تعالى، الباحث ملازمين الأدب والوقار، فإنَّ اتفقت أفهامهم، فقد كملت نعمة الله تعالى عليهم، وإن اختلفت، وظهر لأحدهما خلاف ما ظهر للآخر، وكان ذلك من مثارات الفنون، ومواضع الاجتهاد، فحق كل واحد أن يصير إلى ما ظهر له، ولا يثرب على الآخر، ولا يلومه، ولا يجادله، وهذه حالة الأقوياء والمجتهدين، وأما من لم =(6/699)=@ يكن كذلك فحقه الرجوع إلى قول الأعلم، فإنَّه عن الغلط أبعد وأسلم، وأما إن كان ذلك من المسائل العلمية فالصائر إلى خلاف القطع فيها محروم، وخلافه فيها محرم مذموم، ثم حكمه على التحقيق إما التكفير، وإما التفسيق.
وقوله: «هلك المتنطعون - ثلاثا -» هم المتعمقون في الكلام، الغالون فيه، ويعني بهم: الغالين في التأويل، العادلين عن ظواهر الشرع بغير دليل، كالباطنية، وغلاة الشيعة.وهلاكهم بأن صرفوا عن الحق في الدنيا، وبأن يعذبوا في الآخرة. والتكرار: تأكيد وتفخيم بعظيم (2) هلاكهم. &(6/569)&$
__________
(1) في (ح): «القلوب».
(2) في (ح): «لعظيم».(6/569)
%(4/1490)%
ومن باب: إثم من طلب العلم لغير الله (1)
قوله: «كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه حتى ألقي في النار» دليل على =(6/700)=@ وجوب الإخلاص في طلب العلم، وقراءة القرآن، وكذلك سائر العبادات، ولقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}. وتعلم العلم من أعظم العبادات وأهمها، فيجب فيها النية والإخلاص.وقد روى أبو داود من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تعلم علما منا يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة». وهذا يعم جميع العلوم الشرعية؛ سواء كان من العلوم المقصودة لعينها، أو للعمل بها كعلم القرآن والسنة والفقه، أو من العلوم الموصلة إلى ذلك كعلم الأصول واللسان.وهذا وعيد شديد، والتخلص منه بعيد، إذ الإخلاص في طلب العلم عسير، والمجاهد نفسه عليه قليل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. &(6/570)&$
__________
(1) من قوله: «ومن باب...» إلى هنا سقط من (ح).(6/570)
%(4/1491)%
ومن باب: طرح العالم المسألة على أصحابه ليختبرهم
قوله: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم» قد تقدَّم أن الشجر ما كان على ساق، والنجم ما لم يكن على ساق، وتشبيه المسلم بالنخلة صحيح، وهو من حيث إن أصل دينه وإيمانه ثابت، وأن ما يصدر عنه من العلم والخير قوت للأرواح مستطاب، وأنه لا يزال مستورًا بدينه لا يسقط من دينه شيء، وأنه ينتفع بكل ما يصدر عنه، ولا يكره منه شيء.وكذلك النخلة. ففيه من الفقه، =(6/701)=@ جواز ضرب الأمثال واختبار العالم أصحابه بالسؤال، وإجابة من عجز عن الجواب.
و(قول عمر لابنه: لئن تكون قلت: هي النخلة أحب إلي من كذا وكذا) إنما تمنى ذلك عمر ليدعو النبي صلى الله عليه وسلم لأبنه، فتناله بركة دعوته، كما نالت عبد الله بن =(6/702)=@ عباس، وليظهر على ابنه فضيلة الفهم من صغره، ويسود بذلك في كبره.والله تعالى أعلم .&(6/571)&$(6/571)
%(4/1492)%
ومن باب: النهي عن أن يكتب عن النبي
صلى الله عليه وسلم شيء غير القرآن ونسخ ذلك (1)
قوله: «لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه» كان هذا النهي متقدمًا، وكان ذلك لئلا يختلط (2) بالقرآن ما ليس منه، ثم لما أمن من ذلك أبيحت الكتابة، كما أباحها النبي صلى الله عليه وسلم لأبي شاة في حجَّة الوداع حين قال: «اكتبوا لأبي شاة»، فرأى علماؤنا هذا ناسخا لذلك.
قلت: ولا يبعد أن يكون النبي وإنما نهاهم عن كتب غير القرآن لئلا &(6/572)&$
__________
(1) من قوله: «ومن باب النهي عن ...» إلى هنا سقط من (ح).
(2) في (ح): «يخلط».(6/572)
يتكلوا على كتابة الأحاديث ولا يحفظونها (1) ، فقد يضيع المكتوب، ولا يوجد في =(6/703)=@ وقت الحاجة، ولذلك قال مالك: ما كتبت في هذه الألواح قط.قال: وقلت لابن شهاب: أكنت تكتب الحديث ؟ قال: لا. %(4/1493)%
ومن باب: رفع العلم وظهور الجهل
قوله أنس - رضي الله عنه -: «لأحدثكم (2) حديثا سمعته من رسول الله لا يحدثكم أحد بعدي» إنما قال ذلك ؛ لأنَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كانوا انقرضوا في ذلك الوقت، فلم يبق منهم غيره، فإنه من آخرهم موتا، توفي (3) بالبصرة سنة ثلاث وتسعين على ما قاله خليفة بن خياط.
وقيل: كان سنه يوم مات مئة سنة =(6/704)=@ وعشر سنين، وقيل: أقل من ذلك، والأول أكثر، وكان (4) ذلك ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك. &(6/573)&$
__________
(1) في (ح): «ولا يحفظوها».
(2) في (ح): «لأحدثنكم».
(3) في (ح): «فإنه توفي».
(4) في (ح): «وكل».(6/573)
وقوله: «إن من أشراط الساعة» أي: من علامات قرب يوم القيامة، وقد تقدم القول في الأشراط، وأنها منقسمة إلى ما يكون من قبيل المعتاد، وإلى ما لا يكون كذلك، بل: خارقا للعادة على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
وقوله: «أن يرفع العلم، ويظهر الجهل» وقد (1) بين كيفية رفع العلم ظهور الجهل في حديث عبد الله بن عمرو الذي قال فيه: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء... الحديث»، وهو نص. في أن رفع العلم لا يكون بمحوه من الصدور. بل: %(4/1494)% بموت العلماء، وبقاء الجهال الذين يتعاطون مناصب العلماء في الفتيا والتعليم، يفتون (2) بالجهل، ويعلمونه، فينتشر الجهل. ويظهر، وقد ظهر ذلك ووجد على نحو ما أخبر صلى الله عليه وسلم فكان ذلك &(6/574)&$
__________
(1) في (ح): «قد» بلا واو.
(2) في (ح): «فيفتون».(6/574)
دليلا من أدلة نبوته، وخصوصا في هذه الأزمان؟ إذ قد ولي المدارس والفتيا كثير من الجهال والصبيان وحرمها أهل ذلك الشأن، غير أنه قد جاء في كتاب الترمذي عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء ما يدلّ على أن الذي يرفع هو العمل.
قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: كنا مع النبي فشخص ببصره إلى السماء، ثم =(6/705)=@ قال: «هذا أوان يختلس فيه العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء»، فقال زياد بن لبيد الأنصاري: وكيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه، ولنقرئنه (1) نساءنا وأبناءنا، فقال: «ثكلتك أمك يا زياد إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة. هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى، فماذا تغني عنهم؟». قال: فلقيت عبادة بن الصامت، فقلت: ألا تسمع إلى ما يقول أخوك أبو الدرداء، فأخبرته بالذي قال أبو الدرداء. قال: صدق أبو الدرداء، إن شئت لأحدثنك بأول علما يرفع: الخشوع، يوشك أن تدخل مسجد الجامع فلا ترى فيه رجلا خاشعا، قال: هذا حديث حسن غريب، وقد خرجه النسائي من حديث جبير بن نفير أيضًا عن عوف بن مالك الأشجعي من طرق صحيحة. =(6/706)=@ %(4/1495)%
وظاهر هذا الحديث أن الذي يرفع إنما هو العمل بالعلم، لا نفس العلم، وهذا بخلاف ما ظهر من حديث عبدالله بن عمر، فإنَّه صريح في رفع العلم بالعلم (2) . =(6/707)=@ %(4/1496)%
قلت: ولا تباعد فيهما، فإنَّه إذا ذهب العلم بموت العلماء، خلفهم الجهال، فأفتوا بالجهل، فعمل به، فذهب العلم والعمل، وإن كانت المصاحف والكتب بأيدي الناس، &(6/575)&$
__________
(1) في (ح): «أو لنقرئنه».
(2) قوله: «بالعلم» سقط من (ح).(6/575)
كما اتفق لأهل الكتابين من قبلنا، ولذلك قال رسول الله لزياد على ما نص عليه النسائي: «ثكلتك أمك زياد! هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى؟»وذلك أن علماءهم لما انقرضوا خلفهم جهالهم، فحرفوا الكتاب، وجهلوا المعاني، فعملوا بالجهل، وأفتوا به، فارتفع العلم والعمل، وبقيت أشخاص الكتب لا تغني شيئًا. وقد تقدَّم الكلام على قوله: «من سن في الإسلام سنة حسنة» في كتاب الزكاة. =(6/708)=@ %(4/1497)%
ومن باب: تقليل الحديث حال الرواية وتبيانه
قد تقدم القول (1) في تقارب الزمان، وفي الشح.
قول أبي هريرة: «اسمعي يا ربة الحجرة» يعني عائشة - رضي الله عنها - كان ذلك منه &(6/576)&$
__________
(1) في (ح): «الكلام» وكتب في الهامش «القول».(6/576)
ليسمعها ما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم إما ليذكرها بما تعرفه، أو يفيدها بما لم تسمعه، فقد كان أبو هريرة يحضر مع النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن لم تكن تحضرها عائشة، بل: قد (1) كان لأبي هريرة من الملازمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدَّم في مناقبه ما لم يكن لغيره من الصحابة - رضي الله عنهم -، ثم قد اتفق له من الخصوصية التي أوجبت له الحفظ ما لم يتفق لغيره، فكان عنده من الحديث ما لم يكن عند عائشة، لكن عائشة أنكرت عليه سرده للحديث (2) والإكثار منه في المجلس الواحد، لذلك (3) قالت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد الحديث سردكم» فما كان يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه. وقد سلك هذا المسلك كثير من السلف، أو كانوا (4) لا يزيدون على عشرة =(6/709)=@ أحاديث ليست بطوال في المجلس الواحد، وقد كره الإكثار من الأحاديث كثير من السلف، مخافة ما يكون في الإكثار من الآفات. روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: أقلوا الحديث عن %(4/1498)% رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم.قال مالك: يقول: وأنا أيضا أقل من (5) الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد عاب كثير من الصحابة على أبي هريرة الإكثار من الحديث حتى احتاج أبو هريرة إلى الاعتذار عن ذلك، والإخبار بموجب ذلك قال: إن ناسا يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آية في كتاب الله ما حدثت حديثا، ثم قال: إن إخواننا من الأنصار كان شغلهم العمل في أموالهم، وإن إخواننا من المهاجرين كان شغلهم (6) الصفق بالأسواق (7) ، وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشبع بطني، أحضر ما لا يحضرون، وأحفظ ما لا &(6/577)&$
__________
(1) في (ح): «وقد».
(2) في (ح): «لسرده الحديث».
(3) في (ح): «ولذلك».
(4) في (ح): «وكانوا».
(5) قوله: «من» سقط من (ح).
(6) في (ح): «يشغلهم».
(7) في (ح): «في الأسواق».(6/577)
يحفظون. ودخل مالك (1) على ابني أخته أبي بكر وإسماعيل بن (2) أبي أوشى، وهما يكتبان الحديث، فقال لهما: إن أردتما أن ينفعكما الله بهذا الأمر، فأقلا منه، وتفقها.ولقد جاء عن شعبة أنه قال لكتبة الحديث: إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون؟! قال أبو الحسن القابسي - رحمه الله -: يريد شعبة بقوله هذا عيب تكثير الروايات؟ لما قد دخل على المكثرين من اختلاط الأحاديث، وغير ذلك فيصيرون بالتكلف إلى أن يتقولوا على الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يقل .
قلت: ويظهر لي من قول شعبة أنه قصد تحذير من غلبت عليه شهوة كتب الحديث وروايته، حتى يحمله ذلك على التفريط في مثاله المندوبات من =(6/710)=@ الصلوات، والأذكار، والدعوات؟ حرصا على الإكثار، وقضاة للشهوات والأوطار. %(4/1499)% قلت: وهذه (3) وصايا السلف وسير أئمة الخلف قد نبذها أهل هذه الأزمان، صفات وانتحلوا ضروبا من الهذيان، فترى الواحد منهم كحاطب ليل، وكجالب رجل وخيل، فيأخذ عمن أقبل وأدبر من العوام، وممن لم يشعر بشيء قط من هذا الشأن، غير أنه قد وجد اسمه في طبق السماع على فلان، أو أجاز له فلان، وأن كان في ذلك الوقت في سن من لا يعقل من الصبيان، ويسمون مثل ذلك بالسند العالي؛ وإن كان باتفاق السلف (4) ، وأهل العلم في أسفل سفال، وكل ذلك قصد من كثير منهم إلى الإكثار، ولأن يقال: انفرد فلان بعالي الروايات والآثار. ومن ظهر منه أنه على تلك الحال فالأخذ عنه حرام وضلال، بل: الذي يجب الأخذ عنه من اشتهر بالعلم، والإصابة، والصدق، والصيانة ممن كتب (5) الحديث المشهورة، والأمهات المذكورة التي مدار الأحاديث عليها، ومرجع أهل الإسلام إليها، فيعارض كتابه بكتابه، ويقيد منه ما قيده، ويهمل ما أهمله، فإنَّ كان ذلك الكتاب ممن شرط مصنفه الصحة كمسلم والبخاري، أو ميز بين الصحيح وغيره كالترمذي، وجب التفقه في ذلك والعمل به، وإن لم يكن كذلك وجب التوقف إلى أن يعلم حال أولئك الرواة، &(6/578)&$
__________
(1) قوله: «مالك» سقط من (ح).
(2) في (ح): «أخي» بدل «ابن».
(3) في (ح): «هذه» بلا واو.
(4) في (ح): «العلم» ثم أصلحها إلى قوله: «السلف».
(5) في (ح): «ممن نقد كتب».(6/578)
إما بنفسه إن كانت له أهلية البحث في الرجال، وإما بتقليد من له أهلية ذلك، فإذا حصل ذلك وجب التفقه والعمل، وهو المقصود الأول، وعليه المعول. وكل ما قبله طريق (1) موصل إليه، ومحرم عليه.وإن من علامات عدم التوفيق البقاء في الطريق من غير وصول إلى المقصود على التحقيق. %(4/1500)% وقوله تعالى(ا): «كل مال نحلته عبدا حلال» معنى نحلته: أعطيته، والنحلة: العطية - كما تقدَّم - ويعني بها هنا: العطية بطريق شرعي، فكأنه قال: كل =(6/711)=@ من ملكته شيئًا بطريق شرعي قليلاً كان أو كثيرًا، خطيرًا كان أو حقيرًا، فالانتفاع له (2) به مباح مطلقًا، لا ينفع من شيء منه، ولا يزاحم عليه، والمال هنا: كل ما يتمول، ويتملك من سائر الأشياء، وفائدة هذه القضية الكلية رفع توهم من يتوهم أن ما يستلذ، ويستطاب (3) من رفيع الأطعمة، والملابس، والمناكح، والمساكن محرم، أو مكروه، وإن كان ذلك من الكسب الجائز، كما قد (4) ذهب إليه بعض غلاة المتزهدة.وسيأتي استيعاب هذا المعنى في كتاب الزهد - إن شاء الله تعالى (5) .
وقوله: «وإني خلقت (6) عبادي كلهم حنفاء» هو جمع حنيف، وهو: المائل عن الأديان كلها إلى فطرة الإسلام، وهذا نحو قوله عليه السلام: (كل مولود يولد على الفطرة»، وقد تقدَّم في كتاب: القدر.
وقوله: «وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم» يعني: شياطين الإنس من الآباء والمعلمين بتعليمهم وتدريبهم، وشياطين الجن بوساوسهم. ومعنى اجتالتهم، أي: صرفتهم عن مقتض الفطرة الأصلية، كما قال: «حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه.
وفي الرواية الأخرى: «حتى يعبر عنه لسانه» يعني بما يلقي إليه الشيطان من الباطل والفساد المناقض لفطرة الإسلام. =(6/712)=@ &(6/579)&$
__________
(1) في (ح): «قبله من طريق».
(2) قوله: «له» سقط من (ح).
(3) في (ح): «ويطاب».
(4) قوله: «قد» سقط من (ح).
(5) قوله: «إن شاء الله تعالى» ليس في (ح).
(6) في (ح): «فإني جعلت».(6/579)
%(4/1501)%
ومن باب: إقرار النبي عليه الصلاة والسلام
إقرار النبي صلى الله عليه وسلم حجَّة، ودليل (1) على جواز ذلك (2) الفعل إذا صدر ذلك الفعل من مسلم، ورآه النبي صلى الله عليه وسلم ينكر عليه (3) . =(6/713)=@ &(6/580)&$ %(4/1502)%
__________
(1) قوله: «ودليل» سقط من (ح).
(2) قوله: «ذلك» سقط من (ح).
(3) في (ح): «ولم ينكر عليه».(6/580)
المفهم
لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم
الجزء السابع
كتاب الأذكار والدَّعوات
ومن باب: الترغيب في ذكر الله تعالى (1)
قوله تعالى: «أنا عند ظن عبدي بي »؛ قيل: معناه ظن الإجابة عند الدعاء، معنى وظن القبول عند التوبة، وظن المغفرة عند الاستغفار، وظن قبول الأعمال عند فعلها على شروطها تمسكا بصادق وعده، وجزيل فضله.
قلت: ويؤيده قوله عليه السلام: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة». وكذلك ينبغي للتائب والمستغفر، وللعامل أن يجتهد في القيام بما عليه من ذلك، موقنًا (2) أن الله تعالى يقبل عمله، ويغفر ذنبه، =(7/5)=@ فإنَّ الله تعالى قد وعد بقبول التوبة الصادقة، والأعمال الصالحة، فأما لو عمل هذه الأعمال، وهو يعتقد، أو يظن أن الله تعالى لا يقبلها، وأنها لا تنفعه، فذلك هو القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، وهو من أعظم الكبائر، ومن (3) مات على ذلك وصل إلى ما ظن منه، كما قد (4) جاء في بعض ألفاظ &(7/3)&$
__________
(1) من قوله: «ومن باب ...» إلى هنا سقط من (ح).
(2) قوله: «موقنًا» سقط من (ح).
(3) في (ح): «وأما من».
(4) قوله: «قد» سقط من (ح).(7/3)
هذا الحديث: «أنا عند ظن عبدي بي، فليظن عبدي بي (1) ما شاء». فأمَّا ظن المغفرة والرحمة مع الإصرار على المعصية، فذلك محض الجهل، والعزة، وهو يجز إلى مذهب المرجئة، وقد قال عليه السلام: «الكيس من دان نفسه، وعمل (2) لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، %(4/1503)% وتمنى على الله»، والظن: تغليب أحد المجوزين بسبب يقتضي التغليب، فلو خلا عن السبب المغلب لم يكن ظنا بل غرة وتمنيا.
وقد تقدَّم في الجنائز الكلام على قوله: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله».
وقوله: «وأنا معه حين يذكرني» أصل الذكر: التنبه بالقلب للمذكور، والتيقظ له، ومنه قوله: {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم}أي: تذكروها.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «من نام عن صلاة، أو نسيها فليصلها إذا ذكرها». أي: إذا تذكرها (3) بقلبه. وهو في القران كثير. وسمي القول باللسان ذكرا؛ لأنَّه دلالة على الذكر القلبي، غير أنه قد كثر اسم الذكر على القول اللساني حتى صار هو السابق للفهم، وأصل مع الحضور والمشاهدة، كما قال تعالى: {إنني (4) معكما أسمع وأرى}، وكما قال: {وهو معكم أينما كنتم} أي: مطلع عليكم، =(7/6)=@ ومحيط بكم، وقد ينجرُّ مع ذلك الحفظ والنصر. كما قيل في قوله تعالى: {إنني (5) معكما أسمع وأرى}، أي: أحفظكما ممن يريد كيدكما.
وإذا تقرر هذا فيمكن أن يكون معنى: {وأنا معه إذا ذكرني} أن من ذكر الله. مكانة (6) في نفسه مفرغة مما سواه رفع الله عن قلبه الغفلات، والموانع، وصار كأنه يرى الله &(7/4)&$
__________
(1) في (ح): «بي عبدي».
(2) في (ح): «وعل» بدل «وعمل».
(3) قوله: «أي إذا تذكرها» سقط من (ح).
(4) في (ح): «إني» بدل «إنني».
(5) في (ح): «إني» بدل «إنني».
(6) قوله: «مكانه» سقط من (ح).(7/4)
ويشاهده - وهي: الحالة العليا التي هي: أن تذكر الله كأنك تراه، فإنَّ لم تصل إلى هذه الحالة، فلا أقل من أن يذكره، وهو عالم بأن الله يسمعه ويراه. ومن كان هكذا كان الله له أنيسًا إذا ناجاه، ومجيبًا إذا دعاه، وحافظًا له من كل ما يتوقعه ويخشاه، ورفيقًا به يوم يتوفاه، ومحلا له من الفردوس أعلاه.
وقوله: «فإنَّ ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي» النفس: اسم مشترك يطلق على نفس الحيوان، وهي المتوفاة بالموت والنوم، وبطلق ويراد به: الذم، والله تعالى منزه %(4/1504)% عن ذينك المعنيين، ويطلق ويراد به ذات الشيء وحقيقته، كما يقال: رايت زيدًا نفسه عينه، أي: ذاته. وقد يطلق ويراد به الغيب كما قد قيل في قوله تعالى: {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك}أي: ما في غيبك. والأليق بهذا الحديث: أن يكون معناه: أن من ذكر الله تعالى خاليا منفردًا (1) ثواب بحيث لا يطلع أحد من الخليقة على ذكره، جازاه الله على ذلك بأن يذكره بما أعد له من كرامته التي أخفاها عن خليقته. حتى لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون. وقد قلنا: إن التسليم هو الطريق المستقيم. &(7/5)&$
__________
(1) في (ح): «متفردًا».(7/5)
وقوله: «وإن ذكرني في ملا ذكرته في ملا خير منهم» يعني: أن من يذكره في ملا من الناس ذكره الله في ملا من الملائكة، أي: أثنى عليه، ونوه باسمه في الملائكة، وأمر جبريل أن ينادي بذكره في ملائكة السموات كما تقدَّم، وهو ظاهر =(7/7)=@ في تفضيل الملائكة على بني آدم، وهو أحد القولين للعلماء. وللمسألة غور ليس هذا موضع ذكره.
وقوله: «وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا... إلى قوله: أتيته هرولة» هذه كلها أمثال ضربت لمن عمل عملا من أعمال الطاعات، وقصد (1) به التقرب إلى الله تعالى، يدلّ على أن الله تعالى لا يضيع عمل عامل وإن قل، بل يقبله ويجعل له ثوابه مضاعفًا. ولا يفهم من هذا الحديث: الخطأ: نقل (2) الأقدام؟ إلا من ساوى الحمر في الأفهام. فإنَّ قيل: مقتضى ظاهر هذا الخطاب: أن من عمل حسنة جوزي بمثليها، فإنَّ الذراع: شبران، والباع: ذراعان. وقد تقرر في الكتاب والسنة: أن أقل ما يجازى على الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمئة ضعف إلى أضعاف كثيرة لا تحصى، فكيف وجه %(4/1505)% الجمع؟ قلنا: هذا الحديث ما سيق لبيان مقدار الأجور، وعدد تضاعيفها، وإنما سيق لتحقيق أن الله تعالى لا يضيع عمل عامل - قليلا كان أو كثيرا - وأن الله تعالى يسرع إلى قبوله، وإلى مضاعفة الثواب عليه إسراع من جيء إليه بشيء فبادر لأخذه، وتبشبش له بشبشة من سر به، ووقع منه الموقع، ألا ترى قوله: «من أتاني يمشي أتيته هرولة» وفي لفظ آخر: «أسرعت إليه» ولا تتقدر الهرولة والإسراع (3) بضعفي المشي، وأما عدد الأضعاف، =(7/8)=@ فيؤخذ من موضع آخر لا من هذا الحديث. والله تعالى أعلم.
وقوله: «هذا جمدان » هو بضم الجيم وسكون الميم، وهو جبل بين قديد وعسفان من منازل أسلم.
وقوله: «سبق المفردون» قال القاضي: ضبطته عن متقني شيوخنا بفتح الفاء وكسر الراء. قال الهروي: قال أبو العباس عن ابن الأعرابي: فرد الرجل: &(7/6)&$
__________
(1) في (ح): «قصد» بلا واو.
(2) في (ح): «بنقل».
(3) في (ح): «الإسراع» بلا واو.(7/6)
إذا تفقه، واعتزل الناس، وخلا بمراعاة الأمر والنهي. وقال الأزهري: هم المتخلقون من الناس بذكر الله تعالى. وقد بشرهم النبي فقال: «هم الذاكرون الله كثيرا والذاكرات» وقال في غير كتاب مسلم: «هم (1) المستهترون (2) بذكر الله تعالى، يضع عنهم الذكر أوزارهم فيردون يوم القيامة خفافا». وإنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول عقيب قوله: «هذا جمدان»، لأن جمدان جبل منفرد بنفسه هنالك، ليس بحذائه جبل مثله، فكأنه تفرد هناك فذكره بهؤلاء المفردين (3) . والله أعلم. وهؤلاء القوم سبقوا في الدنيا إلى الأحوال السنية، وفي الآخرة إلى المنازل العلية.
وقوله: «الذاكرون الله كثيرا والذاكرات» هذه الكثرة المذكورة هنا هي =(7/9)=@ المأمور %(4/1506)% بها في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله كثيرا}، وهذا المساق يدلّ على أن هذا الذكر الكثير واجب، ولذلك لم يكف بالأمر (4) حتى أكده بالمصدر، ولم يكف بالمصدر حتى أكده بالصفة، ومثل هذا لا يكون في المندوب. وظهر أنه ذكر كثير واجب، ولا يقول أحد بوجوب الذكر باللسان دائمًا، وعلى (5) كل حال، كما هو ظاهر هذا الأمر، فتعين أن يكون ذكر القلب، كما قاله مجاهد. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: ليس شيء فمن الفرائض إلا وله حال! ينتهي إليه إلا ذكر الله » ولم يقل هو ولا غيره - فيما علمناه - أن ذكر الله باللسان يجب على الدوام، فلزم أنه ذكر القلب، وإذا ثبت ذلك، فذكر القلب لله تعالى، إما على جهة الإيمان والتصديق بوجوده، وصفات كماله وأسمائه فهذا يجب استدامته بالقلب ذكرا أو حكما &(7/7)&$
__________
(1) في (ح): «وفي غير كتاب مسلم فقال هم».
(2) في (ح): «المستهزؤن».
(3) في (ح): «المفردون».
(4) في (ح): «وذلك أنه لم يكتف بالأمر».
(5) في (ح): «على» بلا واو.(7/7)
في حال النفلة؛ لأنَّه لا ينفد عنه إلا بنقيضه، وهو الكفر. والذكر الذي ليس راجعا إلى الإيمان: هو ذكر الله عند الأخذ في الأفعال، فيجب على كل مكلف ألا يقدم على فعل من الأفعال، ولا قول من الأقوال - ظاهرا ولا باطنًا حتى يعرف حكم الله في ذلك الفعل، لإمكان أن يكون الشرع منعه منه، فأمَّا على طريق الاجتهاد إن كان مجتهدا، أو على طريق التقليد إن كان غير مجتهد، ولا ينفك المكلف عن فعل أو قول دائما، فذكر الله يجب عليه دائمًا، ولذلك قال بعض السلف: اذكر الله عند همك إذا هممت، وحكمك إذا حكمت، وقسمك اذا قسمت، وما عدا هذين الذكرين لا يجب (1) استدامته ولا كثرته. والله تعالى أعلم. =(7/10)=@ %(4/1507)%
ومن باب: فضل مجالس الذكر
قوله: «إن لله ملائكة سيارة فضلاً» بفتح الفاء وإسكان الضاد. رواية الشيوخ في مسلم والبخاري (2) . أي: زيادة على كتاب الناس، وعند الهروي (3) : فضل - برفع اللام -على أنه خبر مبتدأ. ووقع عند بعضهم: فضلا - بضم الفاء والضاد -. وكأنه تأوله على أنه جمع فاضل، ولا تساعده العربية، ولا المعنى. وعند بعضهم: فضلاء - بضم الفاء وفتح الضاد والمد والهمز - كظرفاء. والملائكة وإن كانوا كلهم كذلك، فليس هذا موضع ذكر ذلك، والصواب التقييد الأول. &(7/8)&$
__________
(1) في (ح): «لا تجب».
(2) في (ح): «وفي البخاري».
(3) في (ح): «الهوزني» بدل «الهروي».(7/8)
وقوله: «فإذا وجدوا مجلس ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم (1) بعضا بأجنحتهم» هذه رواية السجزى والسمرقندي، أي: يحدقون حولهم، ومصداقها في البخاري: «يحفونهم بأجنحتهم» وفي كتاب ابن (2) عيسى: وحط - بحاء وطاء مهملتين - ومعناه: أشار بعضهم لبعض بالنزول، ووقع عند العذري: حط: - بالظاء القائمة المعجمة - وعند بعضهم: بالساقطة، وليسا (3) بشيء، وهما تصحيف.
وقوله: «سيارة» يعني: سائرين (4) ، كما قال في رواية أخرى: «سياحين» وقوله: «فإذا وجدوا مجلس ذكر قعدوا معهم» يعني: مجالس العلم والتذكير. وهي المجالس التي يذكر فيها كلام الله، وسنة رسوله، وأخبار السلف واق الصالحين، وكلام الأئمة الزهاد المتقدِّمين، المبرأة عن التصنع والبدع، والمنزهة عن المقاصد الردية والطمع، وهذه المجالس قد انعدمت في هذا الزمان، وعوض =(7/11)=@ منها الكذب والباغ، ومزامير الشيطان. نعوذ بالله من حضورها، ونسأله العافية من شرورها. %(4/1508)%
وقوله: «فيسألهم - وهن أعلم -: من أين جئتم؟» هذا السؤال من الله تعالى للملائكة، هو على جهة التنبيه للملائكة على قولها (5) : {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء}، وإظهار لتحقيق قوله: {إني أعلم ما لا تعلمون}، وهو من نحو مباهاة الله تعالى الملائكة (6) بأهل عرفة حين قال لهم: «ما أراد هؤلاء؟ انظروا إلى عبادي جاؤوني شعثا غبرا، أشهدكم أني قد غفرت لهم». وكذلك نص عليه في الحديث.
وقوله: «ويمجدونك » أي: يعلمونك بذكر صفات كمالك وجلالك. &(7/9)&$
__________
(1) قوله: «وحف بعضهم» مكرر في «ح».
(2) في (ح): «أبي».
(3) في (ح): «وليتا».
(4) في (ح): «سيارين».
(5) في (ح): «قوله».
(6) في (ح): «للملائكة».(7/9)
وقد تقدَّم: أن أصل المجد الكثرة، ومنه قولهم: في كل شجرة نار، واستمجد المرخ وا لعفار .
وقوله: «كيف لو رأوا جنتي؟» هذا يدلّ على أن للمعاينة زيادة مزية على العلم في التحقيق والوضوح؟ فإنَّ هؤلاء القوم المتذكرين للجنة والنار كانوا عالمين بذلك، ومع ذلك: فإنَّ الله تعالى قال: «فكيف لو رأوها، يعني: لو رأوها لحصل من اليقين والتحقيق زيادة على ما عندهم، ولتحصيل هذه الزيادة سأل موسى الززية، والخليل مشاهدة إحياء الموتى، وقد تقدَّم هذا المعنى. =(7/12)=@
وقول الملائكة: «فيهم فلان عبد خطاء، إنما مر فجلس معهم» إنما استبعدت الملائكة أن يدخل هذا مع أهل المجلس في المغفرة؛ لأنَّه لم تكن عادته حضور مجالس الذكر، وإنما كانت عادته ملازمة الخطايا، فعرض له هذا المجلس، فجلسه، فدخل مع %(4/1509)% أهله فيما قسم لهم من المغفرة والرحمة. فيستفاد منه الترغيب العظيم، في حضور مجالس الذكر، ومجالسة العلماء والصالحين، وملازمتهم (1) .
وقوله: «هم القوم لا يشقى بهم (2) جليسهم» هذه مبالغة في إكرامهم، وزيادة في إعلاء مكانتهم، ألا ترى: أنه أكرم جليسهم بنحو ما فرموا به لأجلهم، وان لم يشفعوا فيه، ولا طلبوا له شيئًا، وهذه حالة شريفة، ومنزلة منيفة، لا خيبنا الله تعالى منهم، وجعلنا من أهلها. =(7/13)=@ &(7/10)&$
__________
(1) ي (ح): يشبه «ملازمتهم» بلا واو.
(2) قوله: «بهم» سقط من (ح).(7/10)
%(4/1510)%
ومن باب: فضل إحصاء أسماء الله تعالى
قوله: «إن لله تسعة وتسعين اسما - مئة إلا واحدًا -» الاسم في العرف العام: هو الكلمة الدالة على معرف (1) مفر «وبهذا الاعتبار لا فرق بين الاسم والفعل والحرف، إذا (2) كل واحد! منها يصدق عليه ذلك الحال، فلا فعل، ولا حرف في العرف (3) العام، له إنما ذلك اصطلاح النحويين والمنطقيين، وليس ذلك من غرضنا. وإذا فهمت هذا فهمت غلط من قال: إن الاسم هو المسمى حقيقة، كما قالت طائفة من جهال الحشوية؟ فإنَّهم صرحوا بذلك واعتقدوه حتى ألزموا على ذلك أن من قال: سم: مات، ومن قال نار: احترق. وهؤلاء أحسن من أن يشتغل بمخاطبتهم، وأما من قال من النحويين، ومن المتكلمين: الاسم هو المسمى، فحاشاهم أن يريدوا هذه الحماقة، وإنَّما أرادوا: أنه هو من حيث أنه لا يدلّ إلا عليه، ولا يفيد إلا هو، فإنَّ كان ذلك الاسم من الأسماء الدالة على ذات المسقى دل عليها من غير مزيد أمر آخر، فإن كان من الأسماء الدالة على معنى زائد: دل =(7/14)=@ على تلك الذات منسوبة إلى ذلك الزائد خاصة دون غيره. وبيان ذلك: أنك إذا قلت: زبد – مثلاً - فهو يدلّ على ذات مشخصة في الوجود من غير زيادة ولا نقصان، فلو قلت - مثلا -: العالم، هذا (4) على تلك الذات منسوبة إلى العلم، وكذلك لو قلت: الغني، دل ذلك (5) على تلك الذات مع إضافة مال إليها، وكذلك لو قلت: الفقير، دل على تلك الذات مع سلب المال عنها، وهذا جاء في (6) كل ما يقال عليه: اسم بالعرف العام. ومن هنا صح عقلا أن تكثر الأسماء المختلفة على %(4/1511)% ذات واحدة، ولا يوجب تعدد فيها (7) ، ولا تكثيرا، وقد غمض فهم هذا عما وضوحه، على بعض أئمة المتكلمين، وفر منه هربا من لزوم &(7/11)&$
__________
(1) في (ح): «معنى» بدل «معرف».
(2) في (ح): «إذ» بدل «إذا».
(3) قوله: «العرف» سقط من (ح).
(4) في (ح): «دل هذا».
(5) في (ح): يشبه «دلك ذلك».
(6) في (ح): «جار على كل».
(7) في (ح): «تعددًا».(7/11)
تعدد في ذات الإله حتى تأول هذا الحديث، بأن قال: إن الاسم فيه يراد به التسمية، ورأى أن هذا يختصه من التكثر (1) ، وهذا فرار من غير مفز إلى غير مفر، وذلك أن. التسمية إنما هي وضع الاسم، أو ذكر الاسم، فإنَّه يقال لمن سمى ابنه عند ولادته بزيد، سمى يسمي تسمية، وكذلك نقول لمن ذكر اسم زيد لغيره، وعلى هذا فالتسمية هي نسبة الاسم إلى مسماه، فاذا قلنا: إن لله تعالى تسعة وتسعين تسمية اقتض ذلك: أن يكون له تسعة وتسعون اسما ينسبها (2) كلها إليه، فبقي الإلزام بعد ذلك التكلف والتعسف، والحق ما ذكرناه، والمفهم الإله. وقد يقال: الاسم هو المسمى، ويعني به: أن هذه الكلمة التي هي الاسم قد يطلق ويراد به المسمى، كما قيل ذلك في قوله تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى}أي: سبح ربك، فأريد بالاسم المسمى، وهذا بحث لفظي لا ينبغي أن ينكر، ولا جرم قال به في هذه الآية، وفيما يشبهها جماعة من علماء اللسان وغيرهم، وإذا تقرر هذا فافهم أن أسماء مسوا الحق سبحانه لم ان تعددت فلا تعدد في ذاته تعالى، ولا تركيب، لا عقليا كترتيب أسما (3) المحدودات، ولا محسوسا كترتيب الجسمانيات، وإنما تعددت أسماؤه تعالى بحسب الاعتبارات الزائدة على الذات، ثم هذه الأسماء من جهة دلالتها على أربعة أضرب، فمنها: ما يدلّ على الذات مجردة كاسم (4) الله تعالى على قول من يقول: =(7/15)=@ إنه علم غير مشتق، وهو الخليل وغيره؛ لأنَّه يدلّ على الوجود الحق الموصوف بصفات الجلال والكمال دلالة مطلقة غير مقيدة بقيد، ولأنه أشهر أسمائه حتى تعرف كل أسمائه به (5) ، فيقال: الرحمن: اسم الله، ولا يقال الله اسم الرحمن، ولأن العرب عاملته معاملة الأسماء الأعلام في النداء، فجمعوا بينه وبين ياء النداء، ولو كان مشتقا لكانت لامه زائدة، وحينئذ لا يجمع بينه وبينها في النداء، كما لا تقول العرب: يا لحارث ولا يا لعباس. ولاستيفاء المباحث علم الاشتقاق. ومنها: ما يدلّ على صفات الباري تعالى الثابتة له كالعالم والقادر، والسميع والبصير. %(4/1512)% ومنها: ما يدلّ على إضافة أمر ما إليه، كالخالق، والرازق. &(7/12)&$
__________
(1) في (ح): «يخلصه من التكثير».
(2) في (ح): يشبه «نسبتها».
(3) قوله: «أسما» سقط من (ح).
(4) في (ح): «كأسمه» بدل «كأسم».
(5) قوله: «به» سقط من (ح).(7/12)
ومنها: ما يدلّ على سلب شيء عنه، كالقدوس، والسلام. وهذه الأقسام الأربعة لازمة منحصرة، دائرة بين النفي والاثبات، فاختبرها تجذها كذلك. وقوله: «مئة إلا واحدًا» تأكيد للجملة الأولى، ليرفع به وهم متوهم في النطق أو الكتابة؛ لأنَّ تسعة مقاربة لسبعة فيهما (1) . ومئة منصوبة بدل من تسعة.
وقوله: «من أحصاها دخل الجنة» هذه الجملة خبر ثان للمئة المذكورة في الجملة الأولى، غير أن هذه الجملة هي الفائدة المقصودة لعينها، والجملة الأولى مقصودة لها، لا أن مقصودها حصر الأسماء فيما ذكر، وهذا كقول القائل: لزيد مئة دينار، أعدها للصدقة، لا يفهم من هذا: أنه ليس له مال غير المئة دينار، وإنما يفهم أن هذه المئة هي التي أعدها للصدقة لا غيرها. وقد دل على أن لله أسماء أخر ما قدمناه من قوله عليه السلام: «اللهم إني أسالك بكل اسم سميت به نفسك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك».
وقوله: «فاحمده بمحامد لا أقدرعليها، إلا أن =(7/16)=@ يلهمنيها الله». وقد بحث الناس عن هذه الأسماء في الكتاب والسنة، فجمعوها في كتبهم كالخطابي، والقشيري، وغيرهما (2) ، فمن أرادها وجدها. وقد روى الترمذي حديث أبي هريرة هذا، وزاد فيه ذكر الأسماء وتعديدها إلى تسعة وتسعين، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح، وهو ثقة عند أهل الحديث. والإحصاء في الكلام: على ثلاث (3) مراتب، أولها: العدد، ومنه قوله تعالى: {وأحصى كل شيء عددا}.
والثانية: بمعنى الفهم، ومنه يقال: رجل ذو حصاة أي: ذو لمب وفهم، ومنه سمي العقل: حصاة، قال كعب بن سعد الغنوي:
وأن لسان المرء ما لم يكن له (4) حصاة على عوراته لدليل
&(7/13)&$
__________
(1) في (ح): «للسبعة فهما».
(2) في (ح): «وغيرهم».
(3) في (ح): «ثلاثة».
(4) قوله: «له» سقط من (ح).(7/13)
والثالثة: بمعنى الإطاقة على العمل والقوة (1) «ومنه قوله تعالى: {علم ألا تحصوه} أي: لن تطيقوا العمل بذلك، والمرجو من كرم الله تعالى، أن من حصل له %(4/1513)% إحصاء هذه الأسماء على إحدى هذه المراتب مع صحَّة النية أن يدخله الله الجنة، لكن المرتبة الأولى: هي مرتبة أصحاب اليمين،
والثانية: للسابقين، والثالثة: للصديقين، ونعني بإطاقتها حسن المراعاة لها، والمحافظة على حدودها، والاتصاف بقدر الممكن منها، كما أشار إليه الطوسي في «المقصد ا لأسنى» .
وقوله: «والله وتر يحب الوتر» قد تقدَّم أن الوتر: الفرد، والشفع: الزوج، وأن معنى وحدانية الله تعالى: أنَّه واحد في ذاته فلا انقسام له، وواحد في إلهيته، فلانظيرله، وواحد في ملكه (2) فلا شريك له. =(7/17)=@
وقوله: «يحب الوتر» ظاهره: أن الوتر هنا للجنس: لا معهود جرى ذكره تجمل عليه، فيكون معناه على هذا: أنه يحب كل وتر شرعه، وأمر به، كالمقرب، فإنها وتر صلاة النهار، ووتر صلاة الليل، وكالصلوات الخمس، فإنَّها وتر، «كالوتر في مرار الطهارة، وغسل الميت، ونحو هذا مما شرع فيه الوتر، ومعنى محبته لهذا النوع: أنه أمر به، وأثاب عليه. ويصلح ذلك للعموم لما خلقه وترا من مخلوقاته كالسموات السبع، والأرضين السبع، والدراري السبع، وكآدم الذي خلقه من تراب، وعيسى الذى خلقه من غير أب (3) ، وهكذا كل ما خلقه الله وترا من مخلوقاته، ومعنى محبته لهذا النوع أنه خصصها بذلك لحكم علمها، وأمور رووها. ويحتمل أن يريد بذلك الوتر واحدًا بعينه، فقيل: هو صلاة الوتر، وقيل: يوم الجمعة، وقيل: يوم عرفة، وقيل: آدم، وقيل غير ذلك. وقيل: يحتمل أن كون معناه منصرفا إلى صفة من يعبد الله بالوحدانية والتفرد على سبيل الإخلاص، الاختصاص. &(7/14)&$
__________
(1) في (ح): «والقوة وعنه ومنه».
(2) في (ح): «في ملكه وملكه. فلا».
(3) في (ح): «تراب» بدل «أب».(7/14)
قلت: وهذه الأقوال كلها متكافئة، وأشبه ما تقدَّم: حمله على العموم، قد ظهر لي وجه، وأرجو أن يكون أولى بالمقصود، وهو أن الوتر يراد به التوحيد، فيكون معناه إن الله تعالى في ذاته وكماله، وأفعاله واحد، ويحب التوحيد، أي: يوحد ويعتقد انفراده دون خلقه، فيلتم (1) أول الحديث وآخره، ظاهره وباطنه. =(7/18)=@ %(4/1514)%
ومن باب: فضل التهليل والتسبيح والتحميد
قوله في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يوم مئة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مئة حسنة، ومحيت عنه مئة سيئة» يعني: أن ثواب هذه الكلمات بمنزلة ثواب من أعتق عشر رقاب، وقد تقدَّم في العتق: أن من أعتق رقبة واحدة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار، ثم يراد مع ذلك كتب منة حسنة، ومحو (2) مئة سيئة، يجمع ذلك كله له، وكل واحد (3) من هذه الحسنات مضاعفة بعشر، كما قال تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها}، &(7/15)&$
__________
(1) في (ح): «وظاهره».
(2) في (ح): «ومحيت» بدل «ومحو».
(3) في (ح): «واحدة».(7/15)
وكما في حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - المذكور بعد هذا، وهذا الحديث وجميع ما في الباب من الأحاديث يدلّ على: أن ذكر الله تعالى أفضل الأعمال كلها، وقد صرح بهذا المعنى في آخر هذا الحديث حين قال: «ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك» وانص ما في هذا الباب ما خرجه مالك عن أبي الدرداء قال: «ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها =(7/19)=@ عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، وبضربوا أعناقكم» قالوا: بلى. قال: «ذكر الله»، وهذا لا يقوله أبو الدرداء من رأيه، ولا بنظره، فإنه لا يتوصل إليه برأيه، فلا يقوله إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم غير أنه سكت عن رفعه للعلم بذلك عند من حدثه بذلك. وقد رواه الترمذي مرفوعه، والله تعالى أعلم. %(4/1515)%
وقوله: «وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي» يعني: أن الله تعالى يحفظه من الشيطان في ذلك اليوم فلا يقدر منه على زلة (1) ، ولا وسوسة ببركة تلك الكلمات.
قلت: وهذه الأجور العظيمة، والفوائد الجمة إنما تحصل كاملة لمن قام بحق هذه الكلمات، فأحضر معانيها بقلبه، وتأملها بفهمه، واتضحت له معانيها، وخاض في بحار معرفتها، ووقع في رياض زهرتها، ووصل فيها إلى عين اليقين، فإنَّ لم يكن، فإلى علم اليقين، وهذا هو الاحسان في الذكر؟ فإنَّه من أعظم العبادات. وقد قال عليه السلام فيما قدمناه في الإحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإنَّ لم تكن تراه فإنَّه يراك». ثم لما كان الذاكرون في إدراكاتهم وفهومهم مختلفين كانت أجورهم على ذلك بحسب ما أدركوا، وعلى هذا ينزل اختلاف مقادير الأجور، والثواب المذكور &(7/16)&$
__________
(1) في (ح): «منزلة» بدل «زلة».(7/16)
في أحاديث الأذكار، فإنك تجد في بعضها ثوابا عظيما مضاعفا، وتجد تلك الأذكار باعيانها في رواية أخرى أكثر أو أقل (1) ، كما اتفق هنا في حديث أبي هريرة =(7/20)=@ المتقدم، فإنَّ فيه: ما ذكرناه من الثواب، وتجد تلك الأذكار بأعيانها وقد علق عليها من ثواب عتق الرقاب أكثر مما علقه على حديث أبي هريرة، وذلك أنه قال في حديث أبي هريرة: «من قال ذلك في يوم مئة مرة كانت له عدل عشر رقاب» وفي حديث أبي أيوب: «من قالها عشر مرات كانت له عدل أربع رقاب» وعلى هذا فمن قال ذلك مئة مرة كانت له عدل أربعين رقبة، وكذلك تجده في غير هذه الأذكار، فيرجع الاختلاف الذي في الأجور لاختلاف أحوال الذاكرين، وبهذا يرتفع الاضطراب بين أحاديث هذا الباب، والله الموفق للصواب. %(4/1516)%
وقوله: «إلا أحد عمل أكثر من ذلك» أي: قال، فسمى القول عملا، كما قد صرح به في الرواية الأخرى. والذكر من الأعمال التي لا تنفع إلا بالنية والإخلاص. =(7/21)=@
وقوله: «لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، &(7/17)&$
__________
(1) في (ح): «وأقل».(7/17)
أحب إلي مما طلعت عليه الشمس» أي: من أن تكون له الدنيا بكليتها، فيحتمل أن يكون هذا على جهة الإغياء على طريقة العرب في ذلك. ويحتمل أن يكون معنى ذلك: =(7/22)=@ أن تلك الأذكار أحب إليه من أن تكون له الدنيا فينفقها في سبيل الله، وفي أوجه البر والخير، لي الا فالدنيا من حيث هي دنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، وكذلك هي عند أنبيائه، وأهل معرفته (1) ، فكيف تكون أحب إليه من ذكر أسماء الله وصفاته، التي يحصل بها (2) ذلك الثواب العظيم، والحظ الجزيل.
وقوله: «الله أكبر كبيرا» نصبَ كبيرا (3) على أنه مفعول بفعل مضمر تقديره: أكبر كبيرا، هذا قول بعغى النحويين.
وقوله: «الحمد لله كثيرا» نصب كثيرا على: أنه نعت لمصدر (4) محذوف. كأنه قال: والحمد لله حمدا كثيرا.
وقوله: «فهؤلاء لربي» أي: هؤلاء الكلمات هي حق الله تعالى، إذ هي أوصافه. فما لي، أي: فما الذي أذكره لحقي وحظي، فدله صلى الله عليه وسلم على دعاء يشمل (5) له مصالح الدنيا والآخرة، فقال: قل: اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وارزقني، وعافني «أي: اغفر لي %(4/1517)% ذنوبي السالفة، وارحمني بنعمك المتوالية، واهدني إلى السبيل الموصل إليك، وارزقني ما أستعين به على ذلك، ويغنيني عن غيرك «وعافني عما ينقض لي شيئًا أو ينقصه. &(7/18)&$
__________
(1) في (ح): «وأهل المعرفة به».
(2) في (ح): «الذي يحصل به».
(3) في (ح): «كبير».
(4) في (ح): يشبه «للمصدر».
(5) في (ح): «شمل».(7/18)
وقوله: «يجمع بين (1) أصابعه» أي: عند الكلمات (2) المدعو بها عليك (3) ، تمكينا لها في النفس، وضبطا لها في الحفظ. =(7/23)=@
وقوله: «فإنَّ هؤلاء تجمع دنياك وآخرتك» أي: هذه الدعوات تجمع لك خيرات الدارين، وتكفيك شرورهما.
وقوله: «يكتب الله له ألف حسنة أو يحظ ) كذا وقع هذا اللفظ في بعض النسخ بألف قبل الواو، وفي بعضها بإسقاط الألف، وهو صحيح رواية ومعنى: لأن الله تعالى قد جمع ذلك كله لقائل تلك الكلمات كما تقدم، ولو صحت رواية الألف لحملت (4) على المذهب الكوفي في أن (أو) تكون بمعنى الواو. =(7/24)=@ %(4/1518)%
ومن باب: يذكر الله تعالى بوقار وتعظيم
وفضل لا حول ولا قوة إلا بالله (5)
قوله عليه السلام: «أيها الناس أربعوا على أنفسكم، إنكم لستم تدعون أصم ولا غائبًا» أي: ارفقوا. يقال: ربع الرجل يربع: إذا وقف وتحبس، ومنه قولهم: &(7/19)&$
__________
(1) قوله: «بين» سقط من (ح).
(2) من (ح): «تلك الكلمات».
(3) في (ح): «عليها».
(4) في (ح): «لحمله».
(5) من قوله: «ومن باب ...» إلى هنا سقط من (ح).(7/19)
اربع على ضلعك، أى: ارفق بنفسك. وإنما قال: «لستم تدعون أصم ولا غانبًا» لأنهم رفعوا أصواتهم كما ترفع لمن كان أصم، أو غائبا.
ثم قال: «تدعون (1) سميعًا قريبًا (2) ، وهو معكم). ثم مثل لهم بما بين أيديهم فيما يحسونه ويدركونه، فقال: «تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» فهذه معية وقرب بالاطلاع والمشاهدة، لا بالمكان والزمان. =(7/25)=@ %(4/1519)%
ومن باب: تجديد النوبة والاستغفار في اليوم مئة مرة (3)
قوله: «إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة» ليغان: ليغلى، والغين: التغطية، ومنه يقال للغيم: الغين، لأنه يغطي. ولا يظن أن &(7/20)&$
__________
(1) في (ح): «تدعونه».
(2) في (ح): «بصيرًا» بدل «قريبًا».
(3) من قوله: «ومن باب: تجديد ...» إلى هنا سقط من (ح).(7/20)
أحدا قال إن قلب النبي صلى الله عليه وسلم تأثر بسبب ذنب وقع منه بغين أو زين، أو طبع عليه، فإنَّ من جور الصغائر على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يقل إنها إذا وقعت منهم أثرت في قلوبهم كما تؤثر الذنوب في قلوب العصاة، بل: هم منفور لهم ومكرمون، وغير مؤاخذين بشيء من ذلك، فثبت بهذا أن ذلك الغين ليس هو بسبب ذنب، ولكن اختلفوا في ذلك الغين. فقالت طائفة: إنه عبارة عن فترات وغفلات عن =(7/26)=@ الذكر الذي كان دأبه، فكان يستغفر الله (1) من تلك الفترات، وقيل: كان ذلك بسبب ما اطلع عليه من أحوال أفته. وما يكون منها بعده، فكان يستغفر الله (2) لهم. وقيل: كان ذلك لما يشغله من النظر في أمور أمته ومصالحهم، ومحاربة عدوه عن عظيم مقامه، فكان يرى أن ذلك - وإن كان من أعظم الطاعات، وأفضل الأعمال - نزول عن علو درجاته ورفعة مقامه، فيستغفر ربه من ذلك، وقيل: كان ذلك حاك خشية وإعظام لله تعالى. والاستغفار الذي صدر منه لم يكن لأجل ذلك الغين بل للقيام بالعبادة، ألا ترى قوله في الحديث: «إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله «فأخبر بأمرين مستأنفين ليس أحدهما معلقا على آخر. وقال بعض أرباب الإشارات: إن النبي كان دائم الترقي في المقامات سريع التنفل في المنازلات، فكأن إذا ترقى من مقام إلى غيره. اطلع على المنتقل عنه، فظهر له: أنه نقص بالنسبة إلى المنتقل إليه، فكان يستغفر الله من الأول ويتوب منه. كما قال في ا لحديث: وقد أشار الجنيد - رحمه الله - إلى هذا بقوله: حسنات الأبرار سيئات المقربين، والله تعالى أعلم. %(4/1520)% وقوله: «يا أيها الناس، توبوا إلى الله» أمر على جهة الوجوب، كما قال تعالى (3) : {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون}، وقال: {فمن لم يتب فأولئك هم الظالمون}، ولا خلاف أنها واجبة على كل من أذنب، وير في اللغة: معنى الرجوع. يقال: تاب وثاب وأثاب وأناب (4) وآب، بمعنى: رجع. وهي في الشرع: الرجوع عما هو مذموم في الشرع إلى ما هو محمود فيه، وسيأتي استيفاء الكلام فيها في الرقائق -إن شاء الله تعالى-. =(7/27)=@ &(7/21)&$
__________
(1) لفظ الجلالة ليس في (ح).
(2) لفظ الجلالة ليس في (ح).
(3) زاد بعدها في (ح): «توبوا إلى الله توبة نصوحًا» وقال:
(4) قوله: «وأناب» سقط من (ح).(7/21)
وقوله: «فإني أتوب إلى الله في اليوم مئة مرة» هذا يدل على استدامة التوبة، وأن الإنسان مهما ذكر ذنبه جدد التوبة؛لأنَّه من حصول الذنب على يقين، ومن الخروج عن عقوبته على التائب أن يجعل ذنبه نصب عينيه، وينوح دائمًا عليه، حتى يتحقق أنه قد غفر له ذنبه، ولا يتحقق أمثالنا ذلك إلا بلقاء الله تعالى، فواجب عليه ملازمة الخوف من الله تعالى، والرجوع إلى الله بالندم على ما فعل، والعزم (1) على ألا يعود إليه، والاقلاع عنه. ثم لو قدرنا أنه تحقق أنه غفر له ذلك الذنب تعين (2) عليه وظيفة الشكر، كما قال صلى الله عليه وسلم: «أفلا أكون عبدا شكورا». وإنَّما أخبر النبي بأنه يكرر توبته كل يوم مع كونه مغفورا له، ليلحق به غيره نفسه بطريق الأولى؛ لأنَّ غيره يقول: إذا كانت حال (3) من تحقق مغفرة ذنوبه هكذا، كانت (4) حال من هو من ذلك (5) في شك أحرى، وأولى، وكذلك القول في الاستغفار والتوبة يقتض شيئا يرساب منه؟ إلا أن ذلك منقسم بحسب حال من صدر منه (6) ذلك الشيء، فتوبة العوام من السيئات، وتوبة الخواص من الغفلات، وتوبة خواص الخواص من الالتفات إلى الحسنات، هكذا قاله (7) بعض أرباب القلوب، وهو كلام حسن في نفسه، بالغ في فنه. =(7/28)=@ &(7/22)&$
__________
(1) في (ح): «وبالعزم».
(2) في (ح): «تعينت».
(3) في (ح): «كان هذا حال».
(4) قوله: «كانت» لم يتضح في (ح).
(5) قوله: «من ذلك» سقط من (ح).
(6) في (ح): «عنه» بدل «منه».
(7) في (ح): يشبه «قال».(7/22)
%(4/1521)%
ومن باب: قوله ليحقق الداعي طلبه وليعزنم في دعانه
قوله: «لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت» إنما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا القول؛ لأنَّه يدل على فتور الرغبة، وقلة التهمم بالمطلوب. وكان هذا القول يتضمن: أن هذا المطلوب إن حصل، وإلا استش عنه، ومن كان هذا حاله لم يتحقق من حاله الافتقار والاضطرار الذي هو روح عبادة الدعاء، وكان ذلك دليلاً على قلة اكتراثه بذنوبه، ولرحمة ربه، وأيضًا فإنَّه لا يكون موقنا بالإجابة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه». ثم إن النبي لم يأمر بالنهي عن ذلك حتى أمر بنقيضه فقال صلى الله عليه وسلم:«ليعزم في الدعاء» أي: ليجزم في طلبته، وليحقق رغبته ويتيقن الإجابة، فإنَّه إذا فعل ذلك: دل على علمه بعظيم قدر (1) ما يطلب من المغفرة والرحمة، وعلى أنه مفتقر لما يطلب، مضطر إليه، وقد وعد الله المضطر بالإجابة بقوله :{أمن يجيب المضطر إذا دعاه}.
وقوله: «فإنَّ الله صانع ما شاء لا مكره له» إظهار لعدم فائدة تقييد (2) &(7/23)&$
__________
(1) في (ح): «قدرة».
(2) في (ح): «التقيد».(7/23)
الاستغفار والرحمة بالمشيئة؛ لأنَّ الله تعالى لا يضطره إلى فعل شيء، دعاء ولا =(7/29)=@ غيره، بل يفعل ما يريد ويحكم ما يشاء، ولذلك قيد الله تعالى الإجابة بالمشيئة في قوله: {فيكشف ما تدعون إليه إن شاء} فلا معنى لاشتراط مشيئته فيما هذا سبيله، فأما اشتراطها في الإيمان فقد تقدم القول فيه. %(4/1522)%
ومن باب: أكثر ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو به
إنما كان أكثر دعوة يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم ربنا (1) آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة» لأنَّها من الدعوات الجوامع التي تتضمن خير الدنيا والآخرة وذلك أن حسنة نكرة في سياق الطلب، فكانت عامة، فكأنه يقول: أعطني كل حالة حسنة في الدنيا والآخرة.
وقد اختلفت (2) أقوال المفسرين في الآية اختلافا يدلّ على عدم التوقيف (3) ، وعلى قلة التأمل لموضع (4) الكلمات، فقيل: الحسنة في الدنيا هي: العلم العبادة، وفي الآخرة الجنة، وقيل: العافية والعاقبة. وقيل: المال وحسن المآل، =(7/30)=@ وقيل: المرأة الصالحة والحور العين، والصحيح: الحمل على العموم، والله أعلم. &(7/24)&$
__________
(1) قوله: «ربنا» ليس في (ح).
(2) في (ح): «اختلف».
(3) في (ح): «التوقف».
(4) في (ح): «لموضوع».(7/24)
وقوله: إنه عليه السلام عاد رجلا من المسلمين قد خفت حتى صار مثل الفرخ أي: ضعف ونحل في جسمه، وخفي كلامه، وتشبيهه له بالفرخ: يدل على أنه نناثر كثر شعره، ويحتمل أن يكون شبهه به لضعفه، والأول أوقع في التشبيه. ومعلوم أن مثل هذا المرض لا يبقى معه شعر ولا قوة. %(4/1523)% ما وقوله عليه السلام: «سبحان الله؛إنك لا تطيقه» يعني أن عذاب الآخرة لا يطيقه أحد =(7/31)=@ في الدنيا؛لأنَّ نشأة الدنيا ضعيفة لا تحتمل العذاب الشديد، والألم العظيم، بل إذا عظم عليه ذلك هلك ومات، فأمَّا نشأة الآخرة فهي للبقاء، إما في نعيم، أو (1) في عذاب، إذ لا (2) موت، كما قال في حق الكفار: {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب} فنسأل (3) الله تعالى العافية في الدنيا والآخرة - ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أرشده إلى أحسن ما يفال؟ وهو قوله: «آتنا في الدنيا حسنة»
ومن باب: ما يدعى به وما يتعؤذ منه
قول أبي بكر - رضي الله عنه -: علمني دعاء أدعو به في صلاتي: إنما خص الصلاة؛ لأنَّها بالإجابة أجدر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو &(7/25)&$
__________
(1) في (ح): «وإما» بدل «أو».
(2) في (ح): «إذ» بدل «إذا».
(3) في (ح): «نسأل».(7/25)
ساجد، فأكثروا الدعاء». وقد تقدَّم: أن الظلم: وضع الشيء في (1) غير موضعه، وظلم الإنسان لنفسه: هو تركها مع هواها حتى يصدر عنها من المعاصي ما يوجب عقوبتها. وغفران الذنوب: هو سترها بالتوبة منها، أو بالعفو (2) عنها.
وقوله: «اغفر لي مغفرة من عندك» أي: تفضلاً من عندك، وإن لم أكن لها أهلاً، وإلا فالمغفرة، والرحمة، وكل شيء من عنده تعالى. وقد أكد ذلك قوله: «وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» أي: لأنك الكثير المغفرة والرحمة، =(7/32)=@ لا لأني %(4/1524)% أستحق ذلك، وقد استحب بعض العلماء أن يدعى بهذا الدعاء في الصلاة قبل التسليم، والصلاة كلها عند علمائنا محل للدعاء، غير أنه يكره الدعاء في الركوع، وأقربه لحي جابة: السجود، كما قلناه. وقد قدمنا: أنه يجوز أن يدعى في الصلاة بكل دعاء كان بألفاظ القرآن، أو بألفاظ السنة، أو غيرها خلافا لمن منع ذلك إذا كان بألفاظ الناس، وهو أحمد بن حنبل وأبو حنيفة. وقوله: «اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار، وعذاب القبر (3) » الفتنة هنا: هي ضلال أهل النار المفضي بهم إلى عذاب النار. وفتنة القبر: هي الضلال عن صواب إجابة الملكين فيه، وهما: منكر ونكير - كما تقدَّم -. وعذاب القبر: هو ضرب من لم يوثق للجواب بمطارق الحديد، وتعذيبه إلى يوم القيامة. وشر فتنة النبى: هي الحرص على الجمع للمال، وحفه حف يكتسبه من غير حقه، وبمنعه من واجبات إنفاقه وحقوقه. وشر فتنة الفقر: يعني به: الفقر المدقع الذي لا يصحبه صبر ولا ورع، حتى يتورط صاحبه بسببه فيما لا يليق بأهل الأديان، ولا بأهل المروءات، حتى لا يبالي بسبب فاتته على أي حرام وثب، ولا في أي ركاكة &(7/26)&$
__________
(1) قوله: «في» سقط من (ح).
(2) في (ح): «وبالعفو».
(3) في (ح): «النار» بدل «القبر».(7/26)
تورط، وقيل: المراد به فقر النفس الذي لا يرده ملك الدنيا بحذافيرها. وليس في شيء من هذه الأحاديث ما يدلّ على أن النبى أفضل من الفقر، ولا أن الفقر أفضل =(7/33)=@ من الغنى؛ لأنَّ الغنى والفقر المذكورين هنا مذمومان باتفاق العقلاء. وقد تكلمنا على مسالة التفضيل فيما تقدَّم. %(4/1525)% والكسل المتعوذ منه هو التثاقل عن الطاعات، وعن السعي في تحصيل المصالح الدينية والدنيوية. والعجز المتعوذ منه: هو عدم القدرة على تلك الأمور. والهرم المتعوذ منه: هو المعبر عنه في الحديث الآخر: بأرذل العمر، وهو: ضعف القوى، واختلال الحواس والعقل الذي يعود الكبير بسببه إلى أسوأ من حال (1) الصبر، وهو الذي قال الله تعالى فيه: {ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون (2) }. =(7/34)=@
وقوله: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من سوء القضاء، ومن درك الشقاء» يروى بفتح الراء وبإسكانها، فبالفتح: الاسم، وبالإسكان: المصدر، وهما متقاربان، والمتعوذ منه: أن يلحقه شقاة في الدنيا يتعبه (3) ، ويثقله (4) ، وفي الآخرة: يعذبه. وجهد البلاء: يروى بفتح الجيم وضمها. قال ابن دريد: هما لغتان بمعنى واحد، وهو (5) : التعب والمشقة، وقال غيره - وهو نفطويه - بالضم: وهو الوسع والطاقة، وبالفتح: المبالغة والغاية. وروي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: جهد البلاء: &(7/27)&$
__________
(1) ي (ح): «من حالة».
(2) في (ح): «تعقلون».
(3) في (ح): «يلحقه».
(4) في (ح): «يتعبه ويثقله».
(5) قوله: «وهو» سقط من (ح).(7/27)
قلة المال، وكثرة العيال. وشماتة الأعداء: هي ظفرهم به، أو فرحهم بما يلحقه من الضرر والمصائب. وقد جاء هذا الدعاء مسجعا - كما ترى الآن - ذلك السجع لم يكن متكلفا، وإنَّما يكره من ذلك ما كان متكلفا - كما تقدم -. لإنَّما دعا النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الدعوات، وتعوذ بهذه التعوذات إظهارا للعبودية، وبيانا للمشروعية؟ ليقتدى بدعواته - ويعوذ بتعويذاته - والله أعلم. =(7/35)=@ %(4/1526)%
ومن باب: ما يقول إذا نزل منزلا وعند النوم
قوله: «إذا نزل أحدكم متزلا، فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من شز ما خلق » قيل معناه: الكاملات اللاتي (1) لا ينحقها نقص، ولا عيب، كما يلحق كلام البشر. وقيل معناه: الشافية الكافية. وقيل: الكلمات - هنا - هي: القران ؟ فإنَّ الله تعالى قد أخبر عنه بانه هدى رشفاء، وهذا الأمر على جهة الارشاد إلى ما يدفع به الأذى، ولما كان ذلك استعاذة بصفات الله تعالى، والتجاء إليه، كان ذلك &(7/28)&$
__________
(1) في (ح): «الذي».(7/28)
على من باب المتدرب إليه، المرغب فيه. وعلى هذا نحو؟ المتعوذ بالله تعالى، وبأسمائه وصفاته أن يصدق الله في إلتجائه إليه، ويتوكل في ذلك عليه، ويحضر ذلك في قلبه، فمتى فعل ذلك وصل إلى منتهى طه لله، ومغفرة ذنبه.
وقوله: «فإنَّه لا يضره شيء حتى يرتحل منه» هذا خبر صحيح، وقود صادق علمنا صدقه دليلا وتجربة، فإني منذ سمعت هذا الخبر عملت عليه، فلم يضرني شيء إلى أن تركته، فلدغني عقرب بالمهدية ليلاً، فتفكرت في نفسي، فإذا بي قد نسيت أن أتعوذ بتلك الكلمات، فقلت لنفسي - ذاما لها وموبخا- ما قاله - صلى الله عليه وسلم - =(7/36)=@ للرجل الملدوغ: «أما إنك لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق. لم تضرك». %(4/1527)%
ومن باب: ما يقول عند النوم وأخذ المضجع وما بعد ذلك (1)
قوله: «إذا أخذت مضجعك، فتوضما وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شفك الأيمن» هذا الأمر على جهة الندب؛ لأنَّ النوم وفاة «وربما يكون موتا، كما قال تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها &(7/29)&$
__________
(1) من قوله: «ومن باب ...» إلى هنا سقط من (ح).(7/29)
فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى}، ولما كان الموت =(7/37)=@ كذلك ندب النبي صلى الله عليه وسلم النائم إلى أن يستعد للموت بالطهارة، والاضطجاع على اليمين، على الهيئة التي يوضع عليها في قبره. وقيل: الحكمة في الاضطجاع على اليمين، أن يتعلق القلب إلى الجانب الأيمن، فلا يثقل النوم، وفيه دليل على: أن النوم على طهارة كاملة أفضل، ويتأكد الأمر في حق الجنب، غير أن الشرع قد جعل وضوء الجنب عند النوم بدلا من غسله تخفيفا عنه، وإلا فذلك الأصل يقتضي: ألا ينام حتى يغتسل. وقد تقدَّم الغول في الأمر في حق الجنب عند النوم والطهارة.
وقوله: «قل: اللهم إني أسلمت وجهي إليك»، وفي رواية: «نفسي» بدل: «وجهي» وكلاهما بمعنى: الذات والشخص. فكأنه قال: أسلمت ذاتي وشخصي. وقد قيل: إن معنى الوجه: القصد، والعمل الصالح، ولذلك جاء في روايتن: «أسلمت %(4/1528)% نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك «فجمع بينهما، فدل ذلك على أنهما أمران متنايران كما قلناه. ومعنى أسلمت: سلمت، واستسلمت، أي: سلمها لك؟ إذ لا قدرة لي على تدبيرها، ولا على جنب ما ينفعها، ولا على دفع ما يضرها، بل: أقرها إليك مسلم تفعل فيها (1) ما تريد، واستسلمت لما تفعل فيها، فلا اعتراض على ما تفعل، ولا معارضة.
وقوله: «وفوضت أمري إليك» أي: توكلت عليك في أمري كله، لتكفيني هذه، وتتوك إصلاحه.
وقوله (2) : «وألجات ظهرى إليك» أي: أسندته إليك لتقويه وتعينه على ما ينفعني؛ لأنَّ من استند إلى شيء تقومى به، واستعان. &(7/30)&$
__________
(1) في (ح): «بها» بدل «فيها».
(2) قوله: «قوله» مكرر في (ح).(7/30)
وقوله: «رغبة ورهبة إليك » أي: طمعا في رفدك وثوابك، وخوفا منك، ومن أليم عقابك. =(7/38)=@
وقوله: «فإنَّ معت ممت على الفطرة» أي: على دين الإسلام، كما قال في الحديث الآخر: «من كان اخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة».
قلت: هكذا قال الشيوخ في هذا الحديث، وفيه نظر؛ لأنَّه: إذا كان قائل ارج هذه الكلمات المقتضية للمعاني التي ذكرناها من التوحيد، والتسليم، والرضا إلى بال أن يموت على الفطرة، كما يموت من قال: لا إله إلا الله، ولم يخطر له شيء من تلك الأمور، فاين فائدة تلك الكلمات العظيمة، وتلك المقامات الشريفة؟. فالجواب: أن كلا منهما - لان مات على فطرة الإسلام - فبين الفطرتين ما بين الحالتين، ففطرة الطائفة الأولى: فطرة المقربين والصديقين (1) ، وفطرة الثانية: فطرة أصحاب اليمين.
وقوله: «وان أصبحت أصبت خيرا» أي: صلاحا في حالك وزيادة في أجرك، وأعمالك. %(4/1529)%
وقوله: «قل: آمنت بنبيك الذي أرسلت» هذا حجَّة لمن لم يجز نقل الحديث بالمعنى، وهو الصحيح من مذهب مالك، وقد ذكرنا الخلاف فيه، ولا =(7/39)=@ شيء في أن لفظ النبوة من النبا، وهو الخبر، فالنبي في العرف: هو المنتا من جهة الله تعالى لأمر يقتضي تكليفا، فإنَّ أمر بتبليغه إلى غيره فهو رسول، لي الا فهو نبي غير رسول. وعلى هذا فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسول (2) ؛ لأنَّ الرسول والنبي قد اشتركا في أمر عام وهو النبا، وافترقا في أمر خاص (3) وهو الرسالة، &(7/31)&$
__________
(1) قوله: «والصديقين» سقط من (ح).
(2) في (ح): «رسولاً».
(3) قوله: «خاص» سقط من (ح).(7/31)
فم اذا قلت: محمد رسول الله، تضمن ذلك أنه نبي رسول، فلما اجتمعا في النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يجمع بينهما في اللفظ حتى يفهم من كل واحد منهما من حيث النطق ما وضع له، وأيضًا فليخرج عما يشبه تكرار اللفظ من غير فائدة؛ لأنَّه إذا قال: ورسولك، فقد فهم منه أنه أرسله، فاذا قال الذي أرسلت صار (1) كالحشو الذي لا فاندة له، بخلاف نبيك (2) الذي أرسلت، فإنَّهما لا تكرار فيهما لا محققا ولا متوهما. والله تعالى أعلم.
وقوله: «اللهم باسمك أحيا، وباسمك أموت» أي: بك يكون ذلك، فالاسم هنا: هو المسمى، كقوله تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى}، أي: سبح ربك. هذا قول الشارحين.
قلت: وقد استفدت فيه من بعض مشايخنا معنى آخر وهو: أنه يحتمل أنه يعني بأسمك المحيي المميت من أسمائه تعالى، ومعنى ذلك: أن الله تعالى إنما سمى نفسه بأسمائه الحسنى؛ لأنَّ معانيها ثابتة في حقه وواجبة له، فكل ما %(4/1530)% ظهر في الوجود من الآثار إنما هي صادرة عن تلك المقتضيات، فكل إحياء في الدنيا والآخرة: إنما هو صادر عن قدرته على الإحياء، وكذلك القول في الإماتة، وفي الرحمة والملك، وغير ذلك من المعاني التي تدل عليها أسماؤه، فكأنه (3) : =(7/40)=@ قال باسمك المحيي أحيا، وباسمك المميت أموت، وكذلك القول في سانر الأسماء الذائة على المعاني. وبسط ذلك (4) يستدعي تطويلا، وفيما (5) ذكرناه تنبيه يكتفي به النبيه .
وقوله: «وإليك النشور» أي: المرجع بعد الإحياء. يقالى: نشر الله الموتى فنشروا، أي: أحياهم فحيوا، وخرجوا من قبورهم منتشرين، أي: جماعات في تفرتة، كما قال تعالى: {كأنهم جراد منتشر}. &(7/32)&$
__________
(1) في (ح): «صار ذلك كالحشو».
(2) في (ح): «ونبيك». ...
(3) في (ح): «فكأنه قال».
(4) في (ح): «هذا» بدل «ذلك».
(5) في (ح): «فها» كذا رسمت.(7/32)
وقوله: «لك مماتها ومحياها» أي: موتها وحياتها، أي: ذلك لك وحدك لا لغيرك.
وقوله: «فالق الحب والنوى» أي: شاى الحبة، !رج منها سنبلة، والنواة: نيخرج منها نخلة. ومنه (1) القسم المشهور عن علي: والذي فلق الحتة، وبرا النسمة، أي: شفها. =(7/41)=@ %(4/1531)%
و(قول الرجل لابن عمر: سمعت من ابن عمر؟ فقال: من خير من ابن عمر) هكذا رواه السمرقندي بزيادة ابن في الموضعين، وهو وهم؛ لأنَّ القائل: سمعت (2) من خير من عمر، هو ابن عمر لا عمر، وكذلك رواية الجماعة، وهو الصحيح. وأصل رب: اسم فاعل من رب الشيء يربه: إذا أصلحه، وقام عليه، ثم إنه يقال: على السيد والمالك.
وقوله: «أنت الأول فليس قبلك شيء. .. الحديث إلى اخره » تضمن هذا الدعاء من أسماء الله تعالى ما تضمنه قوله تعالى: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن}، وقد اختلفت عبارات العلماء في ذلك، وأوثق عباراتهم في ذلك قول من قال: الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء، والظاهر بلا اقتراب، والباطن بلا احتجاب. وقيل: الأول بالإبداء، والآخر بالانتهاء (3) ، والظاهر بالآيات، والباطن عن الإدراكات. وقيل: الأول: القديم، والآخر: الباقي، والظاهر: الغالب، والباطن: الخفي اللطيف، الرفيق بالخلق. وهذا القول يناسب الحديث، وهو بمعناه .&(7/33)&$
__________
(1) في (ح): «ومنها».
(2) من قوله: «من خير من ابن عمر ...» إلى هنا سقط من (ح).
(3) في (ح): «بالافناء».(7/33)
وقوله: «فليس فوقك شيء» أي: لا يقهرك شيء.
وقوله: «فليس دونك شيء» أي: لا شيء ألطف منك، ولا أرفق. =(7/42)=@ %(4/1532)%
وقوله: «إذا أوى أحدكم إلى فراشه» أي: انضم.
قال الأزهري: آوى وأوى بمعنى واحد، لازتم ومتعذ، وفي الصحاح عن أبي زبد: آويته أنا إيواء وأويته: إذا أنزلته بك. فعلت وأفعلت بمعنى. فأما أويت له، بمعنى ربيت له، فبالقصر لا غير. قال ذو الزمة:.. ... .. .... .. .. ... .. .. ولو أنني استاويته ما أوى ليا
وقوله: «فليأخذ (1) داخلة إزاره فلينفض بها فراشه، وليسم (2) الله، فإنَّه لا يعلم ما خلفه بعده على فراشه» داخلة الازار: هي ما يلي الجسد من طرفي الإزار. قلت: هذا الحديث يتضمن الإرشاد إلى مصلحتين:
إحداهما (3) معلومة ظاهرة وهي: أن الإنسان إذا قام عن فراشه لا يدرى ما دب عليه بعده من الحيوانات ذوات السموم، فينبغي له إذا أراد أن ينام عليه أن يتفقده، ويمسحه، لإمكان أن يكون فيه شيء يخفى من رطوبة أو غيرها، فهذه مصلحة ظاهرة، وأما =(7/43)=@ اختصاص هذا النفض بداخلة الإزار فمصلحة (4) لم تظهر لنا، بل: إنما ظهرت تلك للنبي صلى الله عليه وسلم &(7/34)&$
__________
(1) في (ح): «وليأخذ».
(2) في (ح): «ويسم».
(3) في (ح): «أحديهما».
(4) في (ح): «فمصلحته».(7/34)
بنور النبوة، وإنَّما الذي علينا نحن الامتثال. ويقع لي: أن النبي صلى الله عليه وسلم علم فيه خاصية طبية تنفع من ضرر بعض الحيوانات كما قد أمر بذلك في حق العائن كما تقدَّم. والله تعالى أعلم.
ويدلّ على ذلك ما زاده الترمذي في هذا الحديث: «فليأخذ صنفة إزاره، فلينفض بها فراشه ثلاثا». فحذا بها حذو تكرار الرقى .%(4/1533)%
وقوله: «لك وضعت جنبي، وبك أرفعه» كذا صح: لك وضعت، باللام، لا بالباء، وبك أرفعه: روي بالباء وباللأم، فالباء (1) للاستعانة. أي: بك أستعين على وضع جنبي ورفعه. فاللأم يحتمل (2) أن يكون معناه: لك تقربت بذلك. فإنَّ فرمه إنما كان ليستجم (3) به لما عليه من الوظائف؟ ولأنه كان يوحى إليه في نومه، ولأنه كان يقتدى به، فصار نومه عبادة، وأما يقظته. فلا تخفى أنها كانت كلها عبادة، ويحتمل أن يكون معناه لك وضعت جنبي لتحفظه، ولك رفعته لترحمه. =(7/44)=@
وقوله: «فكم من (4) لا كافي له، ولا مؤوي» أي: كثير من الناس ممن أراد الله تعالى إهلاكه، فلم يطعنه، ولم يسقه، ولم يكسه، إما لأنه أعدم هذه الأمور في حقه، وإما لأنه لم يقدره على الانتفاع بها حتى هلك، هذا ظاهره. ويحتمل أن &(7/35)&$
__________
(1) في (ح): «فباء» بدل «فالباء».
(2) في (ح): «باللام فيحتمل».
(3) في (ح): «يستجم».
(4) في (ح): «ممن» بدل «من»(7/35)
يكون معناه، فكم من أهل الجهل والكفر بالله تعالى لا يعرف أن له إلها يطعمه ويسقيه، ويؤربه، ولا يقر بذلك، فصار الإله في حقه وفي اعتقاده كأنه معدوم .%(4/1534)%
ومن باب: مجموع أدعية كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بها
قوله: «اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت، وما لم أعمل» هذا كقوله في الحديث الآخر: «اللهم إني أعوذ بك من كل شر (1) »). غير أنه نبه في هذا على =(7/45)=@ معنى زائد، وهو أنه قد يعمل الإنسان العمل لا يقصد به إلا الخير، ويكون في باطن أمره شر لا يعلمه، فاستعاذ منه. ويؤيد هذا أنه قد روي في غير كتاب مسلم: «من شر ما علمت، وما لم أعلم» ويحتمل أن يريد به ما عمل غيره، فيما يظن أنه يقتدي به فيه. &(7/36)&$
__________
(1) في (ح): «من شر كل ذي شر».(7/36)
وقوله: «وإليك أنبت » أي: تبت ورجعت.
وقوله: «وبك خاصمت» أي: باعانتك، وتعليمك، وبكلامك جادلت المخالفين فيك حتى خصمتهم.
وقوله: «والجن والإنس يموتون» إنما خص هذين النوعين بالموت؛ وإن كان جميع الحيوان يموت؛ لأنَّ هذين النوعين هما المكتفان المقصودان بالتبليغ، والله أعلم.
وقوله: «إذا كان في سفر فأسحر (1) ») أي: استيقظ في السحر، أو خرج في السحر.
والسحر: آخر الليل. %(4/1535)%
وقوله: «سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه (2) » وجدته في كتاب شيخنا أبي الصبر أيوب: سمع بفتح السين والميم وتشديدها.
قال القاضي: أي بلغ من سمع =(7/46)=@ قولي. وقيده الخطابي: سمع سامع: بفتح السين وكسر الميم، وتخفيفها (3) ، وهكذا أذكر أفي (4) قرأته، أي: استمع سامع، وشاهد (5) شاهد بحمدنا ربنا على نعمه.
قلت: وعلى هذين التقييدين والتفسيرين فهو خبر بمعنى الأمر، أي: ليسمع سامع وليبتغ.
وهذا نحو قوله: «تصدق رجل بديناره، ودرهمه» أي: ليتصدق. وجمع عليه ثيابه. أي: ليجمع، وقد تقدَّم القول في نحو هذا. وحسن بلائه، بمعنى: ابتلائه، وقد تقدَّم: أن أصل الابتلاء: الاختبار، وقد يكون نعمة، وقد يكون (6) نقمة.
وقوله: «ربننا صاحبنا» أي: بحفظك، وكفايتك، وهدايتك. &(7/37)&$
__________
(1) قوله: فأسحر» لم يتضح في (ح).
(2) في (ح): «بلائه علينا وجدته».
(3) قوله: «وتخفيفها» سقط من (ح).
(4) في (ح): «ذكر أبي قرأته».
(5) في (ح): «وشهد».
(6) في (ح): «تكون».(7/37)
وقوله: «عائذا بالله من النار»، هو منصوب على الحال، أي: أقول ذلك في هذه الحال.
وقوله: «اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي» قد تقدَّم القول في عصمة الأنبياء من الذنوب، وفي معنى ذنوبهم غير مرة، ونريد هنا نكتتين:
إحداهما: أنا وإن قلنا: إن الذنوب تقع منهم، غير أنهم يتوقعون وقوعها، =(7/47)=@ وأن (1) ذلك ممكن، وكانوا يتخوفون من وقوع الممكن المتوقع، ويقدرونه واقعا فيتعوزون منه، %(4/1536)% وعلى هذا فيكون قوله: «وكل ذلك عندي» أي: ممكن الوقوع عندي، ودليل صحة ذلك أنهم مكلفون بإجتناب المعاصي كلها كما كلفه غيرهم، فلولا إمكان (2) الوقوع لما صح التكليف.
والثانية: أن هذه التعويذات، وهذه الدعوات والتضرعات قيام بحق وظيفة العبودية، واعتراف بحق الربوبية، ليقتدي بهم مذنبو أممهم، ويسلكوا مناهج سبلهم، فيستجاب دعوتهم، وتقبل توبتهم، والله تعالى أعلم. وقد أطنب الناس في ذلك، وما ذكرناه خلاصته.
وقوله: «أنت المقدم وأنت المؤخر» أي: المقدم لمن شئت بالنبوة، والولاية، والطاعة.
والمؤخر لمن شئت بصد ذلك.
والأولى: أنه تعالى مقدم كل مقدم في الدنيا والآ خرة، ومؤخر كل مؤخر في الدنيا والآخرة، وهذان الأسمان من أسماء الله تعالى المزدوجة كالأول والآخر، والمبدىء والمعيد، والقابض والباسط، والخافض والرافع، والضار والنافع، فهذه الأسماء لا تقال إلا مزدوجة، كما جاءت في الكتاب والسنة. هكذا قال بعض العلماء (3) ، ولم يجز أن يقال (4) : يا خافض حتى يضم إليه: يا رافع.
وقوله: «اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري» أي: رباطه (5) .
__________
(1) في (ح): «فإن».
(2) في (ح): «فلولا صحة إمكان».
(3) في (ح): «بعض أهل العلم».
(4) في (ح): «القول».
(5) زاد بعدها في (ح): «وعماده والأمر بمعنى الشأن ومعنى هذا أن الدين إن فسد لم يصلح للإنسان دنيا ولا آخره وهذا دعاء عظيم جمع خير الدنيا والآخرة والدين والدنيا فحق للإنسان دنيا ولا آخره وهذا دعاء عظيم جمع خير الدنيا والآخرة والدين والدنيا فحق على كل سامع له أن يحفظه ويدعوا به آناء الليل وآناء النهار لعل الإنسان يوافق ساعة إجابة فيحصل على ساعة إجابة فيحصل على خير الدنيا والآخرة. %(4/1537)% وقوله: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى ...» الحديث الهدى: يعني إلى الصراط المستقيم وهو صراط الذين أنعم عليهم والتقى يعنيالخوف والحذر من مخالفته ويعني بالعفاف الصيانة من مطامع الدنيا والغنى غنى النفس». =(7/49)=@ &(7/39)&$(7/38)
=(7/48)=@ &(7/38)&$(7/39)
وقوله: «اللهم إفي أعوذ بك من علم لا ينفع» هو (1) الذي لا يعمل قال (2) عليه السلام: «العلم ابذي لا يعمل به كالكنز الذي لا ينفق منه، أتعب صاحبه (3) جمعه، ثم لم يصل إلى نفعه ».
وقوله: «فلا شيء بعده» أي: لا شيء ينصر، ولا يدفع غيره. =(7/50)=@ %(4/1538)%
ومن باب: ما يقال عند الصباح وعند المساء (4)
قوله: «من الكسل وسوء الكبر» يروى بفتح الباء راسكانها، وبالفتح يعني به: الهرم. وقد قلنا: إن المراد بذلك: أرذل العمر، وبالإسكان (5) : يعني بذلك: كبر النفس المذموم المحزم الذي تقدَّم ذكره. =(7/51)=@ &(7/40)&$
__________
(1) في (ح): «وهو».
(2) في (ح): «لا يعمل به كما قال عليه السلام».
(3) في (ح): «صاحبه نفسه في جمعه».
(4) من قوله: ««ومن باب...» إلى هنا سقط من (ح).
(5) في (ح): «والإسكان».(7/40)
%(4/1539)%
ومن باب: كثرة ثواب الدعوات الجوامع وما جاء
في أن الداعي يستحضر معافي دعواته في قلبه (1)
قوله (2) : «لو وزنت بما قلت (3) منذ اليوم لوزنتهن» أي: لرجحث عليهن في الثواب. وهو دليل على أن الدعوات والأذكار الجوامع يحصل عليهن من الثواب، أضعاف ما يحصل على ما ليست كذلك. ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يحب الدعوات الجوامع.
وقوله: «سبحان الله، وبحمده» هذا الكلام على اختصاره جملتان؟ إحداهما (4) : جملة سبحان الله؟ فإنَّها واقعة موقع المصدر، والمصدر يدلّ على صدره، فكأنه قال: سبحت الله التسبيح الكثير، أو التسبيح كله، على قول من قال: إن سبحان الله: اسم علم للتسبيح، وبحمده: متعلق بمحذوف تقديره: وأثني =(7/52)=@ عليه بحمده، أي: بذكر صفات كماله وجلاله، فهذه جملة ثانية غير الجملة ا لأولى .
وقوله: «مداد كلماته» هو بكسر الميم، وبألف بين الدالين، ويعني به: كلامه القديم المنزه عن الحروف، والأصوات، وعن الانقطاع، والتغييرات، كما &(7/41)&$
__________
(1) من قوله: «ومن باب كثرة ...» إلى هنا سقط من (ح).
(2) في (ح): «وقوله».
(3) في (ح): «بها ما قلت».
(4) في (ح): «أحدهما».(7/41)
قال تعالى: {قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا %(4/1540)% بمثله مددا}. وزنة عرشه، أي: وزنه الذي لا يعلم مقداره إلا الله. ورضا نفسه: يعني أن رضاه عمن رضي عنه من النبيين والصالحين لا ينقطع، ولا ينقضي، له انما ذكر النبي هذه الأمور على جهة الإغياء، والكثرة التي لا تنحصر، منئهأ على أن (1) الذاكر بهذه الكلمات ينبغي له أن يكون بحيث لو تمكن من تسبيح الله وتحميده وتعظيمه عددًا لا يتناهى ولا ينحصر لفعل ذلك، فحصل (2) له من الثواب ما لا يدخل في حساب.
وقوله: «واذكر بالهدى هدايتك الطريق، والسداد سداد السهم»، هذا الأمر =(7/53)=@ منه فيدل على أن الذي (3) ينبغي له أن يهتم بدعائه فيستحضر معاني دعواته في قلبه، ويبالغ في ذكرها بلفظه بضرب من الأمثال، وتأكيد الأقوال، فاذا قال: {إهدنا الصراط المستقيم} وسددني سداد (4) السهم الصائب كان أبلغ وأهم من قوله: اهدني وسددني فقط، وهذا واضح .&(7/42)&$
__________
(1) قوله: «أن» سقط من (ح).
(2) في (ح): «فيحصل».
(3) في (ح): «الداعي» بدل «الذي».
(4) في (ح): «وسودني سواد».(7/42)
%(4/1541)%
ومن باب: التسلي عند الفاقات (1) بالأذكار
قوله: إن فاطمة اشتكت ما تلقى من الرحى في يدها يعني: من مشقة الطحن في الرحى. وفي غير كتاب مسلم: أنها جرت بالرحى حتى مجلت يدها، وقمت البيت حتى اغبر شعرها، وخبزت حتى تنثر وجهها.
ففيه دليل على: أن المرأة وإن كانت شريفة عليها أن تخدم بيت زوجها، وتقوم بعمله الخاص به.
وبه قال بعض أهل العلم، وقيل: ليس عليها شيء من ذلك سواء كانت شريفة أو دنيئة، حكاه ابن خواز منداد عن بعض أصحابنا، ومشهور مذهب مالك الفرق بين الشريفة فلا يلزمها، وبين من ليس كذلك فيلزمها. ومجمل هذا الحديث على أن فاطمة تبرعت بذلك، ولا خلاف في استحباب ذلك لمن تبرع به؛ لأنَّه معونة للزوج، وهي مندوب إليها، وقد تقدَّم هذا في النكاح. وفيه ما يدلّ على ما كان عليه ذلك الصدر الصالح من شظف العيش وشدة الحال، وأن الله تعالى حماهم =(7/54)=@ الدنيا مع أنه متهمم منها، وهي سنة الله تعالى في الأنبياء والأولياء، كما قال: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل». &(7/43)&$
__________
(1) في (ح): «الآفات» بدل «الفاقات».(7/43)
قوله: «فجاء وقد أخذنا مضاجعنا» كان هذا المجيء بالليل؛ لأنَّه قد جاء في بعض طرقه أنه قال: طرقهما ليلا.
وقوله: «على مكانكما» أي: اثبتا على مكانكما، والزماه. وقعود النبي صلى الله عليه وسلم بين ابنته وبين علي دليل على جواز مثل ذلك، وأنه لا يعاب على (1) من فعله إذا لم يؤد ذلك إلى اطلاع على عورة، أو إلى شيء ممنوع شرعا. %(4/1542)%
وقوله: «ما ألفيتيه (2) عندنا» أي: ما وجدت الخادم عندنا، ثم إنه أحالهما على التسبيح والتهليل والتكبير، ليكون ذلك عوضا من الدعاء عند الكرب والحاجة، كما كانت عادته عند الكرب على ما يأتي في الحديث المذكور بعد هذا. ويمكن أن يكون من جهة أنه أحب لابنته ما يحب لنفسه، إذا (3) كانت بضعة منه (4) ، من =(7/55)=@ التصريح بسؤال خادم، والله تعالى أعلم.
وقوله: كان عليه السلام يقول عند الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم... الحديث» قال الطبري: كان السلف يدعون بهذا الدعاء، ويسمونه: دعاء الكرب، فإنَّ قيل: كيف يسمى هذا دعاء وليس فيه من معنى الدعاء شيء، وإنَّما هو تعظيم لله تعالى، ويثاب عليه، فالجواب: إن هذا يسمى دعاء لوجهين:
أحدهما: أنه يستفتح به الدعاء، ومن بعده يدعو.
وقد ورد في بعض طرقه: «ثم يدعو»
وثانيهما: أن ابن عيينة قال - وقد سئل عن هذا (5) -: أما علمت أن الله تعالى &(7/44)&$
__________
(1) قوله: «على» سقط من (ح).
(2) في (ح): «ما ألفيته».
(3) في (ح): «إذ».
(4) زاد بعدها في (ح): «من إيثار الفقر وتحمل شدته والصبر عليه ترفيعًا لمنازلهم وتعظيمًا لأجورهم وبهذين المعنيان أو أحدهما يكون تلك الأذكار خيرًا لهما من خادم أي».
(5) في (ح): «عن هذا فقال».(7/44)
يقول: «إذا شغل عبدي ثناؤه عن مسألتي أعطيته أفضل (1) ما أعطي السائلين».
وقد (2) قال أمية بن أبي الصلت: %(4/1543)%
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضك الثئاء =(7/56)=@
قلت: وهذا (3) الكلام حسن، وتتميمه أن ذلك إنما كان لنكتتين:
إحداهما: كرم المثنى عليه، فإنه إذا (4) اكتفى بالثناء عن السؤال دل ذلك على (5) سهولة (6) البذل عليه، والمبالغة في كرم الخلق.
وثانيهما: أن المثنى لما آثر الثناء، الذي هو حق المثنى (7) على حق نفسه (8) ؛ مجازاة له على ذلك الإيثار، والله تعالى أعلم. ومما قد جاء منصوصًا عليه. وسمي دعاء؛ وإن لم يكن فيه دعاء (9) ولا طلب، ما خرجه النسائي من حديث سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوة ذي النون إذ دعا بها في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين؛ فإنه لن يدعو بها مسلم في شيء إلا استجيب له». ومعنى إذا حزبه أمر؛ أي: أصابه ودهمه، وهو بالحاء المهملة وبالزاي وبالباء المعجمة بواحدة. &(7/45)&$
__________
(1) في (ح): «فوق» بدل «أفضل».
(2) قوله: «قد» سقط من (ح).
(3) قوله: «وهذا» سقط من (ح).
(4) قوله: «إذا» سقط من (ح).
(5) قوله: «دل ذلك على» سقط من (ح).
(6) في (ح): « السهولة».
(7) في (ح): «المثنى عليه على».
(8) زاد بعدها في (ح): «الذي هو حاجته بودر إلى قضاء حاجته من غير إحواج إلى إظهار مذلة السؤال».
(9) في (ح): «فيه صيغة دعاء».(7/45)
ما يقال عند صراخ الديكة ونهيق الحمير (1)
وقوله: «إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، فإنها رأت ملكًا» هذا يدل على أن الله تعالى خل للديكة إدراكًا تدرك به الملائكة، كما خلق =(7/57)=@ للحمير (2) إدراكا تدرك به الشياطين. ويفيد: أن كل نوع من الملائكة والشياطين موجودان، وهذا معلوم من الشرع قطعا، والمنكر لشيء منهما كافر، وكأنه إنما أمر النبي (3) بالدعاء عند صراخ الديكة لتؤمن الملائكة على ذلك الدعاء، فتتوافق (4) الدعوتان، فيستجاب للداعي، والله أعلم. وإنما أمر بالتعوذ من الشيطان عند نهيق الحمير، لأن الشيطان لما حضر مندلحا... أى من شره، فينبغي أن يتعوذ منه .%(4/1544)%
ومن باب: أحب الكلام إلى الله تعالى (5)
قوله (6) عليه السلام وقد سئل - أي الكلام أفضل - فقال: «ما اصطفى الله لملائكته، أو &(7/46)&$
__________
(1) من قوله: «ما يقال عند ...» إلى هنا سط من (ح).
(2) في (ح): «كما خلق للحمير».
(3) قوله: «النبي» ليس في (ح).
(4) في (ح): «فتوافق».
(5) من قوله: «ومن باب: أحب...» إلى هنا سقط من (ح).
(6) في (ح): «وقوله».(7/46)
لعباده: سبحان الله وبحمده» وفي الرواية الأخرى: «إن أحب الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده». =(7/58)=@
قلت: هذا الحديث يعارضه قوله في حديث أبي هريرة المتقدِّم في فضل التهليل. ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك.
وقوله: «أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله». وقد تقدَّم في حديث سمرة ابن جندب قوله عليه السلام: «أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إ لا الله، والله أكبر، لا يضرك بأيهن بدأت» فقد مضى هذا ا لحديث بأن الأربعة متساوية في الأفضلية والأحبية من غير مراعاة تقديم بعضها على بعض، ولا تأخيره، وأن التسبيح وحده لا ينفرد بالأفضلية، ولا التهليل وحده (1) أيضًا ينفرد بها. واذا ثبت ذلك فحيث أطلق أن أحد هذه الأذكار الأربعة أفضل الكلام أو أحبه، إنما يراد (2) إذا انضمت إلى أخواتها الثلاث المذكورة في هذا الحديث. إما مجموعة في اللفظ، أو في القلب بالذكر؛ لأنَّ اللفظ إذا دل على واحد منهما (3) بالمطابقة دل على سائرها باللزوم. وبيان ذلك: أن معنى سبحان الله: البراءة له من كل النقائص، والتنزيه معبر عما لا يليق بجلاله، ومن جملتها تنزيهه عن الشركاء، والأنداد، وهذا معنى لا إله الله إلا الله. هذا مدلول اللفظ من جهة مطابقته «ولما وجب تنزيهه عن صفات النقص لزم اتصافه %(4/1545)% بصفات الكمال (4) ، إذ لا واسطة بينهما، وهي المعبر عنها (5) بالحمد لله. ثم لما تنزه عن صفات النقص، واتصف بصفات الكمال وجبت له العظمة والجلال، =(7/59)=@ وهو معن: الله أكبر. فقد ظهر لك أن هذه الأربعة الأذكار متلازمة في المعنى، وأنها قد شملها لفظ الأحقية، كما جاء في الحديث. فمن نطق بجميعها فقد &(7/47)&$
__________
(1) قوله: «وحده» سقط من (ح).
(2) في (ح): «فإنما يريد».
(3) في (ح): «منها».
(4) في (ح): «عنه» بدل «عنها».
(5) من قوله: «إذ لا وسطة...» إلى هنا مكرر في (ح). ولكن الناسخ كتب في المكرر قوله «عنها» بدل «عنه».(7/47)
ذكر الله تعالى بأحب الكلام إلى الله (1) ، لفظا ومعنى، ومن نطق بأحدها فقد ذكر الله ببعض أحب الكلام نطقا، ولجميعها (2) معنى من جهة اللزوم الذي ذكرناه. فتدبر هذه الطريقة، فإنَّها حسنة، ولها (3) يرتفع التعارض المتوهم بين تلك الأحاديث - والله تعالى أعلم -. ولم أجد في كلام المشايخ ما يقنع، وقد استخرت الله تعالى فيما ذكرته .
ومن باب: ما يقال عند الأكل والشرب والدعاء للمسلم بظهر الغيب (4)
قوله: «إن الله ليستضي عن العبد يأكل الأكلة (5) ، فيحمده عليها، أو يشرب الشربة، فيحمده عليها» قد تقدَّم أن الأكلة بفتح الهمزة: المرة الواحدة من الأكل، وبالضم: اللقمة، ويصلح هذا اللفظ هنا للتقييدين (6) ، وبالفتح وجدته مقيدا في كتاب شيخنا. والحمد هنا بمعنى الشكر، وقد قذمنا: أن الحمد يوضع موضع الشكر، =(7/60)=@ ولا توضع الشكر موضع الحمد، وفيه دلالة على أن شكر النعمة، وإن قلت سبب نيل رضا الله تعالى؛ الذي هو أشرف أحوال أهل الجنة، وسيأتي قول الله عز وجل لأهل الجنة حين يقولون: «أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك أفيقولون: ما هو؛ &(7/48)&$
__________
(1) قوله: «إلى الله» ليس في (ح).
(2) في (ح): «وبجميعها».
(3) في (ح): «وبها».
(4) من قوله: ومن باب: «ما يقال...» إلى هنا سقط من (ح).
(5) في (ح): «أن يأكل».
(6) في (ح): «للتقيدين».(7/48)
ألم تبيض وجوهنا، وتدخلنا الجنة، وتزحزحنا عن (1) ؟%(4/1546)% فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا». وإنما كان الشكر سببًا لذلك الإكرام العظيم؛ لأنَّه يتضمن معرفة المنعم، وانفراده بخلق تلك النعمة،وبإيصالها إلى المنعم عليه، تفضلا من المنعم، وكرمًا، ومنة، وأن المنعم عليه فقير محتاج إلى تلك النعم، ولا غنى به عنها، فقد تضمن ذلك معرفة حق الله وفضله، وحق العبد وفاقته، وفقره، فجعل الله تعالى جزاء تلك المعرفة تلك الكرامة الشريفة.
وقوله: «ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك: ولك بمثل» المسلم هنا: هو الذى سلم المسلمون من لسانه ويده، الذي يحب للناس ما يحب لنفسه؛ لأنَّ هذا هو الذي يحمله حاله وشفقته على أخيه المسلم أن يدعو له بظهر الغيب، أي: في حال غيبته عنه، وإنما خص حالة الغيبة بالذكر لبعدها عن داء (2) الرياء، والأغراض المفسدة أو المنقصة؛ فإنه في حال الغيبة يتمخض الإخلاص، لا ويصح قصد وجه الله تعالى بذلك، فيوافقه الملك في الدعاء، ويبشره على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بأن له مثل ما دعا به لأخيه. والأخوة هنا: هي الأخوة الدينية، وقد =(7/61)=@ تكون معها صداقة ومعرفة، وقد لا يكون، وقد يتعين، وقد لا يتعين، فإنَّ الإنسان (3) إذا دعا لإخوانه المسلمين حيث كانوا، وصدق الله في دعائه، وأخلص فيه في حال النية عنهم، أو عن بعضهم، قال الملك له ذلك القول، بل قد يكون ثوابه أعظم؛لأنَّه دعا بالخير، وقصده للإسلام، ولكل المسلمين، والله تعالى أعلم .&(7/49)&$
__________
(1) من قوله: «فيقولون: ما هو...» إلى هنا سقط من (ح).
(2) قوله: «داء» سقط من (ح).
(3) قوله: «فإن الإنسان» مكرر في (ح).(7/49)
ومن باب: يستجاب للعبد ما لم يعجل أو يدعو باثم (1)
قوله (2) : «يستجاب للمسلم (3) ما لم يةدع بإثم أو قطيعة رحم» يعني بالعبد: الصالح لقبول دعائه، فإنَّ إجابة الدعاء لا بد لها من شروط في الداعي، وفي الدعاء، وفي الشيء المدعو به، فمن شرط الداعي بأن (4) يكون عالمًا بأنه لا قادر على حاجته إلا الله تعالى، وأن الوسائط في قبضته، ومسخرة بتسخيره، وأن يدعو بنية صادقة، وحضور قلب، وأن يكون مجتنبا لأكل الحرام، كما قدمناه، وألا =(7/62)=@ يحل من الدعاء %(4/1547)% فيتركه ويقول: قد دعوت فلم يستجب لي كما قال في الحديث. ومن شروط (5) المدعو فيه أن يكون من الأمور الجائزة الطلب والفعل شرعا، كما قال: ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، فيدخل (6) في الإثم كل ما يأثم به من الذنوب، فى ويدخل في قطيعة الرحم جميع حقوق المسلمين، ومظالمهم. وقد بينا أن الرحم ضربان: رحم الإسلام، ورحم القرابة. ويستحسر: يعني: ويمل. يقال: حسر البعير يحسر، ويحسر حسورا: أعيا. واستحسر وتحسر مثله. وفائدة هذا: استدامة &(7/50)&$
__________
(1) من قوله: «ومن باب: يستجاب ...» إلى هنا سقط من (ح).
(2) في (ح): «وقوله».
(3) في (ح): «للعبد».
(4) في (ح): «أن» بدل «بأن».
(5) في (ح): «شرط».
(6) في (ح): «فدخل».(7/50)
الدعاء، وترك اليأس من الإجابة، ودوام رجائهما، واستدامة الإلحاح في الدعاء؛ فإنَّ الله يحب الملحين عليه في الدعاء، وكيف لا؟ والدعاء مخ العبادة، وخلاصة العبودية. والقائل: قد دعوت، فلم يستجاب لي، ويشرك - قانطا- من رحمة الله، وفي صورة الممتن بدعائه على ربه، ثم إنه جاهل بالإجابة، فإنَّه يظنها إسعافه في عين ما طلب، فقد يعلم الله تعالى: أن في عين ما طلب مفسدة، فيصرفه عنها، فتكون إجابته في الصرف، وقد يعلم الله أن تأخيره إلى وقت آخر أصلح للداعي، وقد يؤخره لأنه سبحانه يحب استماع دعائه، ودوام تضرعه، فتكثر أجوره حتى يكون ذلك أعظم وأفضل من عين المدعو به لو قضي له، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث: إما أن يستجاب له، راما أن يذخر له، راما أن يكفر عنه»، ثم بعد هذا كله فأجابة الدعاء - وإن وردت في مواضع من الشرع مطلقة - في مقين دة بمشيئته، كما قال تعالى: {فيكشف ما تدعون إليه إن شاء}. =(7/63)=@ %(4/1548)%
ومن باب: الدعاء بصالح ما عمل من الأعمال
غريب حديث الغار: الطوفان هنا: المطر الكثير. وأووا إلى غار: أي: انضموا، وقد تقدَّم أنه يمد ويقصر. فانحطت (1) : نزلت. فأطبقت عليهم: أي: صارت على باب النار كالطبق، وأرعى عليهم: أي أرعى الماشية وأكتسب بها &(7/51)&$
__________
(1) في (ح): «وانحطت».(7/51)
لأجل العيال والأبوين. وناى بي الشجر: أى: بعد عليه ابتغاء الشجر الذي رعاه بماشيته. والحلاب: إناء يحلب فيه، وهو المحلب أيضًا، وقد يكون اللبن. ويتضاغون: يضخون من الجوع، والضغاء ممدود، مضموم الأول، صوت الذلة والفاقة. والدأب: الحال اللازمة، والعادة المتكررة. وافرج: افتح. والفرجة بضم الفاء؛ لأنَّه من السعة، فاذا كان بمعنى الراحة قلت فيه: فرجة وفرج، وفعل كل واحد منهما فرج بالفتح والتخفيف، يفرج بالضم لا غير. والغبوق: شرب العشي، والصبوح: شرب الصباح، والجاشرية: عند انغلاق الفجر (1) ، يقال: جشر الصبح، أى (2) : انفلق. وبغيت: طلبت. =(7/54)=@ &(7/52)&$
__________
(1) في (ح): «الصبح».
(2) قوله: «أي» سقط من (ح).(7/52)
%(4/1549)%
وقوله: «لا تفض الخاتم إلا بحقه» الفض: الكسر والفتح، والخاتم: كناية عن الفرج، وعذرة البكارة، وحقه: التزويج المشروع. والفرق: مكيال يسع =(7/65)=@ ثلاثة أصع (1) ، ويقال: بفتح الراء، وهو الأفصح، وقال ابن دريد: ويقال بسكونها، وقد أنكره غيره، وفيه أبواب من الفقه لا تخفى. %(4/1550)%
ومن باب: فضل الدوام على الذكر (2)
قول (3) حنظلة الأسيدي: هو بتخفيف الياء منسوب إلى أسيد، قيل (4) من بني تميم. ومن رواه الأسدي فقد أخطا، وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: «نافق حنظلة». إنكار منه على نفسه لما وجد منها في خلوتها خلاف ما &(7/53)&$
__________
(1) في (ح): «أصوع».
(2) من قوله: «ومن باب: فضل ...» إلى هنا سقط من (ح).
(3) في (ح): «وقول».
(4) ي (ح): «قبيل» بدل «قيل».(7/53)
يظهر منها بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فخاف أن يكون ذلك من أنواع النفاق، وأراد من نفسه أن يستديم تلك الحالة التي كان يجدها عند موعظة النبي صلى الله عليه وسلم ولا يشتغل عنها بشيء.
وقوله: «يذكرنا بالجنة والنار، كأنا رأي عين» الذي قراته وقئذته راي عين منصوبا على المصدر، كانه قال: كأنا نراهما رأي عين.
قال القاضي: ضبطناه بالضم أي: كأنا بحال من يراهما، وبصح النصب على المصدر.
وقوله: «عافسنا الأزواج، والأولاد، والضيعات» الرواية الصحيحة =(7/66)=@ المعروفة: عافسنا بالعين المهملة، وبالفاء والسين المهملة، ومعناه: عالجنا وحاولنا. في الصحاح: المعافسة: المعالجة، يعني أنهم إذا خرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتغلوا (1) بهذه الأمور، وتركوا تلك الحالة الشريفة التي كانوا يجدونها عند سماع موعظة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشاهدته، وروى الخطابي هذا الحرف: عافسنا بالنون، وفسره بلاعبنا، ورواه القتيبي: عانشنا، بالنون (2) والشين المعجمة، وفسره بعانقنا، والتقييد الأول أولى رواية ومعنى. وقد جاء مفسرا في الرواية الأخرى فقال: ضاحكت الصبيان، ولاعبت المرأة. %(4/1551)% والضيعات: جمع ضيعة، وهي: ما يكون معاش الرجل منه من مال، أو حرفة، أو صناعة. وقد تقدَّم ذكرها. و قول أبي بكر: «والله إنا (3) لنلقى مثل هذا» رد على غلاة الصوفية الذين يزعمون دوام مثل تلك الحال، ولا يعرجون بسببها على أهل ولا بذل مال، ووجه الرد أن أبا بكر - رضي الله عنه - أفضل الناس كلهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، ومع ذلك فلم يدغ خروجا عن جبلة البشرية، ولا تعاطى من دوام الذكر وعدم الفترة ما هو خاصة الملائكة. وقد ادعى قوم منهم دوام (4) الأحوال، وهو بما ذكرناه شبه المحال، &(7/54)&$
__________
(1) في (ح): «أشغلوا».
(2) قوله: «بالنون» سقط من (ح).
(3) في (ح): «وإنا».
(4) قوله: «دوام» سقط من (ح).(7/54)
وإنما الذي يدوم المقامات، لكنها تتفاوت فيها المنازلات. والمقام: ما يحصل للأنسان بسعيه وكسبه. والحال: ما يحصل له بسعيه وكسبه (1) . ولذلك قالوا: المقامات مكاسب، والأحوال مواهب، ومن طاب وقته علا نعته، ومن صفا وارده طاب ورده. وعلى الجملة فسنة الله في هذا العالم الإنساني جعل تمكينهم في قلوبهم، ومشاهدتهم في مكابدتهم. وسر ذلك أن هذا العالم متوسط بين عالمي الملائكة والشياطين، فمنهن الملائكة في الخير بحيث يفعلون ما يؤمرون، ويسبحون الليل والنهار لا يفترون، ومكن الشياطين في الشر والإغواء =(7/67)=@ بحيث لا ينفلون، وجعل هذا العالم الإنساني متلونا فيمكنه ويلونه، ويفنيه ويبقيه، ويشهده وبفقده، وإليه أشار صاحب الشفاعة بقوله: «ولكن يا حنظلة! ساعة وساعة» وقال في حديث أبي ذر -رضي الله عنه -: «وعلى العاقل أن يكون (2) له ساعاتي: ساعة يناجي فيها رئه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفكر فيها في صنع الله (3) ، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب». هكذا الكمال، وما عداه ترهات وخيال. %(4/1552)%
وقوله: «لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم س الملاثكة» هكذا صحت الرواية بالواو العاطفة للطرف الثاني على الأول، ويفيد أنه وقف مصافحة الملائكة على حصول حالتين لنا: على حال مشاهدة الجنة (4) والنار مع ذكر الله عز وجل ودوام ذلك، فيعني - والله تعالى أعلم - أن التمكن: إنما هو أن يشاهدوا الأمور كئها بالله تعالى، فاذا شاهد الجنة مثلا لم يحجنه ما يشاهد (5) من نعيمها وحسنها من رزية الله تعالى؟ بل: لا يلتفت إليها من حيث هي جئة؟ بل: من حيث هي أنها محل القرب من الله تعالى، ومحل رؤيته، ومشاهدته، فيكون فرقه في جمعه، وعطاؤه في منعه، ومن كان كذلك ناسب الملائكة في معرفتها، فبادرت إلى إكرامه، ومشافهته، وإعظامه، ومصافحته. والمسؤول من الكريم المتعال أن يمنحنا من صفاء هذه الأحوال. =(7/68)=@ &(7/55)&$ %(4/1553)%
__________
(1) في (ح): «والحال مما يصحل له بهبة ربه ولذلك».
(2) في (ح): «تكون».
(3) في (ح): «في صنع الله إليه».
(4) قوله: «الجنة» ليس في (ح).
(5) في (ح): «ما شاهد».(7/55)
كتاب الرقاق
قد (1) تقدم القول في وجوب التوبة، وفي معناها اللغوي،وقد اختلفت عبارات العلماء والمشايخ فيها، فقائل يقول: عنها (2) الندم، وآخر يقول: إنها العزم على ألا يعود والآخر (3) يقول: إنها الإقلاع عن الذنب، ورابع يجمع بين تلك الأمور الثلاثة (4) ، فيقول إنها الندم على ذنب وقع، والإقلاع عنه في الحال، والعزم على ألا يعود غليه، وهذا أكملها! غير أنه مع فيه من التركيب المحذور ي الحدود غير مانع ولا جامع. =(7/69)=@
بيان الأول: أنه قد يندم، ويقلع، وبعزم، ولا يكون تائبا شرعا، إذ قد يفعل ذلك شحا على ماله، أو لئلا يعيره الناس من ذلك. ولا تصح التوبة الشرعية إلا بالنية، والإخلاص فإنَّها من أعظم العبادات الواجبات؟ ولذلك قال تعالى: {توبوا إلى الله توبة نصوحا}. &(7/56)&$
__________
(1) كتب قبلها في (ح): «ومن باب وجوب التوبة وفضلها».
(2) في (ح): «إنها» بدل «عنها».
(3) في (ح): «وآخر».
(4) قوله: «الثلاثة» سقط من (ح).(7/56)
%(4/1554)%
وأما الثاني: فبيانه أنه يخرج منه من زنى مثلا، ثم قطع ذكره، فإنَّه لا يتأتى منه غير الندم على ما مضى من الزنى، وأما العزم والإقلاع فغير متصورين منه، ومع ذلك فالتوبة من الزنى صحيحة في حقه إجماعا، وبهذا اغتر من قال: إن الندم يكفي في حد التوبة، وليس بصحيح؛لأنَّه لو ندم ولم يقلع، وعزم على العود لم يكن تانبا اتفاتا، ولما فهم بعض المحققين هذا حذ التوبة بحذ آخر، فقال: هي ترك اختيار ذنب سبق منك مثله حقيقة أو تقديرا لأجل الله تعالى، وهذا أسذ العبارات وأجمعها، وبيان ذلك: أن التائب لا بذ أن يكون تاركا للذنب، غير أن ذلك الذنب الماضي قد وقع، وفرغ منه، فلا يصخ تركه ؟ إذ هو غير متمكن من عينه لا تركا ولا فعلا، وإنما هو متمكن من مثله حقيقة، وهو زنى اخر مثلا، فلو جمبئ لم تصخ منه حقيقة الزنى، بل: الذي يصخ منه أن يقذر أنه لو كان متمئهنا من الزنى لتركه. فلو قذرنا من لم يقغ منه ذنمت لم يصخ منه إلا اتقاء ما يمكن أن يقع، لا ترك مثل ما وقع، فيكون متقيا لا تائبا، فتدتجر هذا.
وقوله: «لأجل الله تعالى»؛ تحرز من ترك ذلك لغير الله تعالى؛ إذ ذلك لا يكون تائبا اتفاقا، فلا يكون فعله ذلك توبة، وهذا واضح، وإذا تقرر هذا فاعلم أن لم الباعث على التوبة تنبية إلهي ينبه به من أراد سعادته لقبح الذنوب وضررها؛ فإنها (1) سموم مهلكة تفوت على الإنسان سعادة الدنيا والآخرة، وتحجبه عن معرفة الله تعالى في الدنيا، وعن تقريبه وكرامته في الدار الآخرة. ومن انكشف له هذا، وتففد نفسه وجد نفسه مشحونة بهذا السم، ومملوءة بهذه الآفات، فلا شك في أن =(7/70)=@ من حصل (2) له علم ذلك انبعث منه خوف هجوم الهلاك، فتتعين عليه المبادرة لطلب أمر يدفع به (3) عن نفسه ضرر ما يتوقعه، ويخافه. فحينئذ ينبعث منه الندم على ما فرط، وترك مثل ما سبق مخافة عقوبة الله تعالى، فيصدق عليه أنه تائب، فإنَّ لم يكن كذلك كان مصرا على المعصية، وملازما لأسباب الهلكة.
ثم اعلم بعد هذا: أن الذنوب إما كفر، وإما غيره، فتوبة الكفر عند موته مقطوع بقبولها، وما عداها فمقبولة، إن شاء الله تعالى بوعده الصدق (4) ، وقوله &(7/57)&$
__________
(1) في (ح): «وإنها».
(2) في (ح): «أن من حصل».
(3) قوله: «به» سقط من (ح).
(4) في (ح): «الصادق».(7/57)
الحق. وأعني بالقبول: الخلاص من ضرر الذنوب حتى يرجع كمن لم يعمل ذنبا، كما قال صلى الله عليه وسلم: %(4/1555)% «التائب من الذنب كمن لا ذنب له». ثم إن الذنب الذي يتاب منه إما حق الله تعالى، وإما حق لغيره، فحق الله تعالى يكفي في التوبة منه الترك الذي ذكرناه، غير أن منها: ما لم يكف (1) الشرع منه بمجرد الترك، بل: أضاف إلى ذلك في بعضها قضاء (2) كالصلاة والصوم، ومنها: ما أضاف إليها كفارة كالحنث في الأيمان والظهار وغير ذلك، فلا يرتفع ضرر ذلك الذنب إلا بتركه، وفعل ما أمره الله تعالى به من القضاء والكفارة. وأما حقوق الآدميين، فلا بد من إيصالها إلى مستحقيها (3) ، فإنَّ لم توصل إلى أربابها لم يتخمن من ضرر ذلك الذنب إلا بتركه وفعل ما أمره الله به (4) ، ومن اجتهد في الخروج عن الحقوق، فلم يقدر على الخروج منها، فعفو الله تعالى مأمول، وفضله مبذول، وكم ضمن (5) من التبعات، وكم بدل من السيئات بالحسنات، وتفصيل ما أجملناه موجود في كتب مشايخ الإسلام - رضي الله عنهم-
وقوله عليه السلام: «له أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دوية (6) مهلكة. .. الحديث » هذا مثل قصد به بيان سرعة قبول الله تعالى لتوبة عبده التائب =(7/71)=@ وإنَّه يقبل عليه بمغفرته ورحمته، ويعامله معاملة من يفرح به. ووجه هذا المثل: أن العاصي حصل بسبب معصيته في قبضة الشيطان وأسره. وقد أشرف على الهلاك. فاذا لطف الله تعالى به، وأرشده للتوبة خرج من شؤم تلك المعصية، &(7/58)&$
__________
(1) في (ح): «يكتف».
(2) في (ح): «أضاف إلى بعضها في ذللك قضاء».
(3) في (ح): «مستحقها».
(4) قوله: «إلا بتركه وفعل ما أمرة الله به» سقط من (ح).
(5) في (ح):: «ضم» بدل «ضمن».
(6) في (ح): يشبه «هدية».(7/58)
وتخلص من شر (1) الشيطان، ومن المهلكة (2) التي أشرف عليها، فاقبل الله تعالى عليه برحمته ومغفرته، وبادر إلى ذلك مبادرة هذا ا لذي قد ا نتهى به ا لفرح، واستفزه السرور إلى أن نطق بالمحال، ولم يشعز به لشدة سروره وفرحه، والا فالفرح الذي هو من صفاتنا محال على الله تعالى؛ لأنَّه اهتزاز وطرب، يجده الإنسان من نفسه عند ظفره بغرض يستكمل به الانسان نقصانه، ويسد به خلته، أو يدفع (3) عن نفسه ضررا، أو نقصا، وكل ذلك محال على الله تعالى، فإنَّه الكامل بذاته، الغني بوجوده، الذي لا يلحقه نقص ولا قصور، لكن هذا الفرح عندنا له ثمرة وفائدة، وهو الإقبال على الشيء المفروح به، وإحلاله المحل الأعلى، وهذا هو الذي يصح في حقه تعالى، فعبر عن ثمرة الفرح بالفرح على طريقة العرب في تسميتها الشيء باسم ما جاوره، أو كان منه بسبب. وقد قدمنا أن ذلك القانون جار في كل ما أطلقه الله تعالى على نفسه من الصفات التي لا تليق به، كالغضب، والرضا، والضحك وغير ذلك. %(4/1556)%
وقوله: «دوية مهلكة» الرواية المشهورة بفتح الدال، وتشديد الواو المكسورة (4) ، وتشديد الياء مفتوحة، وهي: القفر والفلاة. وجمعها: داوي. قال (5) =(7/72)=@ الخليل: الداوية: المفازة. وقال الهروي في خظبة الحجاج: قد لفها القيل بعضلبي أروع خزاج من الداوي .
قال: يعني الفلوات. الواحدة: داوية. في الصحاح: الدو والدوي: المفازة، وكذلك (6) الدوية، لأنها مفازة مثلها فنسبت إليها، قال: والدو أيضًا &(7/59)&$
__________
(1) في (ح): «أسر» بدل «شر».
(2) في (ح): «الهلكة».
(3) في (ح): «أو يدفع به عن».
(4) في (ح): «مكسرورة».
(5) في (ح): «وقال».
(6) في (ح): «وكلها» بدل «وكذلك».(7/59)
موضع، وهو (1) من أرض العرب. وربما قالوا: داوية، قلبوا الواو الأولى الساكنة ألفا لانفتاح ما قبلها، ولا يقاس عليه.
وقوله: «مهلكة». الرواية بفتح الميم واللام، أي: يهلك فيها، وقد قيد مهلكة بضم الميم وكسر اللام، اسم فاعل، أي: يهلك من يدخل فيها، لى انما سئيت القفر المفازة من قولهم: فوز الرجل، إذا هلك. وقيل: بل على طريق التفاؤل، كما يقال للديغ: سليم.
وقول الحارث بن سويد: «حدثني عبد الله حديثين، أحدهما عن رسول الله ت، والآخر عن (2) نفسه». ثم حدث بالحديث الذي ذكرناه في التوبة. ولم يذكر مسلم الحديث الأول الذي حدث به نفسه، وقد ذكر البخاري والترمذي وغيرهما، فقال: المؤمن (3) يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، والفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا فهذا هو الذي حدثه ابن مسعود عن نفسه، لا أنه رفعه للنبي صلى الله عليه وسلم وهو صحيح المعنى (4) ، يشهد له ما في الوجود من خوف المؤمن، وتهاون الفاجر والمنافق. =(7/73)=@ &(7/60)&$
__________
(1) في (ح): «وهو أرض من».
(2) في (ح): «من» بدل «عن».
(3) من قوله: «الذي حدث به ...» إلى هنا سقط من (ح).
(4) في (ح): «بالمعنى».(7/60)
%(4/1557)%
وقوله: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد». يعني: لو علم ذلك، وجرد النظر إليه، ولم يلتفت إلى مقابله، وأما إذا نظر إلى مقابل كل واحد من الطرفين، فالكافر ييأس (1) من رحمة الله تعالى، والمؤمن يرجو رحمة الله تعالى، ويخاف عقابه، كما قال بعضهم: لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدل.
وقوله: «قال رجل لم يعمل خيرا» هذه الرواية فيها (2) توسع في العبارة؛ لأنَّا نعلم قطعا أن هذا الرجل كان متدئنم أ بدين حق، ومن كان كذلك لا بد أن يعمل حسنة: صومًا، أو صلاة، أو لفظا بخير، أو شيئًا من الخير الذي تقتضيه شريعته، دائما الرجل كان خطأ كثير المعاصي، وقد نص على هذا المعنى في رواية أخرى في الأصل فقال: «أسرف رجل على نفسه فلما حضرته الوفاة ... » وذكر الحديث. =(7/74)=@
وقوله: «لئن قدر الله عليه ليعذبنه» الرواية التي لا يعرف غيرها قدر بتخفيف الدال، وظاهر هذا اللفظ أنه شك في كون الله تعالى يقدر على إحيائه وإعادته، ولذلك أمر أهله أن يحرقوه، ويسحقوه، ويذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فكأنه توقع إذا فعل به ذلك تعسرت (3) إعادته. وقد أوضح هذا المعنى ما رواه بعض الرواة في غير كتاب مسلم قال: «فلعلي أضل الله بهم أي: أغيب عنه. وهذا ظاهر %(4/1558)% في شك الرجل في علم الله تعالى، والأولى ظاهر في شبهه في أنه تعالى يقدر على إعادته، ولما كان هذا قسم الناس في تأويل هذا الحديث قسمين: القسم الأول طائفة حملت ذلك على ظاهره، وقالوا: إن هذا الرجل &(7/61)&$
__________
(1) في (ح): يشبه «الكافر يأبى».
(2) في (ح): «فيما» بدل «فيها».
(3) في (ح): «تعذرت».(7/61)
جهل صفتين من صفات الله تعالى وهما: العلم والقدرة، ومن جهل ذلك لم يخرج من اسم الإيمان، بخلاف من جحدها (1) ، وإليه رجع أبو الحسن الأشعري، مع أنه قد كان تقدَّم له توذ اخر بأنه مكفر. وهو مذهب الطبري. قلت ؟ وهذه الطانفة انصرفث عن معنى الحديث إلى معنى آخر، اختلف فيه المتكلمون. وهو تكفير من اعترف بأن الله قادز بلا تدرة، وعالم بلا علم، ومريذ بلا إرادة، فهل يكفر أم لا يكفر؟ على اختلاف (2) القولين المتقدمين. ولا يختلف المسلمون في أن من جهل أو ش! في كون الباري تعالى عالما به وقادرا على إعادته كافر، حلال الدم في الدنيا، مختد في النار في الآخرة؛ لأنَّ ذلك معلوئم من الشرع بالضرورة، وجحده أو الشك فيه تكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم قطعا. فمقتضى الحديث بظاهره أن الرجل كافز على مقتضى شريعتنا. ولذلك قالت طائفة: فلعل شزع ذلك الرجل لم يكن فيه الحكم بهتكفير من جهل ذلك، أو شك فيه، والتكفير حكئم من الأحكام الشرعية فيجوز أن تختلف الشرائع فيه، كما قال تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا} =(7/75)=@
قلت: وهذا فيه نظر؛ لأنَّ هاتين القاعدتين من ضروريات الشرائع، إذ لا (3) تصح شريعة مع الجهل، فإنَّ (4) الله عالم، قادر، مريد، ولا مع الشك فيها، فلا بد أن تنمق الرسل لقومهم على هذه الصفات، مع أن العقول تدل عليها، فيكون العلم بها ضروريا من كل الشرائع، كما كان ذلك ضروريا في شرعنا، فيكون %(4/1559)% جاحد ذلك والشاك فيه مكذبا لرسوله، وتكذيب الرسل كفر في كل شرع بالضرورة. وقالت طانفة ثالثة: يجوز أن تكون شريعة أولئك القوم أن الكافر يغفر له، فإنَّ هذا جائز عقلا، فلا يبعد أن يكون ذلك شرعا مع القطع بأن ذلك لا يصح في شرعنا، ومن شك فيه فهو كافر.
قلت: وهذا يتطلب (5) أيضًا أحاديث الشفاعة المتقدِّمة في الإيمان، فإنها (6) تقتضي أن أهل التوحيد المعذبين في النار إذا شفع فيهم أنبياؤهم، وشفع نبينا جا حتى لا &(7/62)&$
__________
(1) في (ح): «جحدها».
(2) قوله: «اختلاف» سقط من (ح).
(3) في (ح): «إذ لا بدل «إذا لا».
(4) في (ح): «بأن» بدل «فإن».
(5) في (ح): «تبطله».
(6) في (ح): «لأنها».(7/62)
يبقى أحد من أمته في النار قال حينئذ نبتنا: «يا رب ! ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، فيقول الله له: ليس ذاك (1) إليك، حينئذ يقول الله: وعزتي وجلالي ! لأخرجن من قال لا إله إلا الله». وعمومات القرآن تدل على أن من مات كافرا، كائنا من كان، لا يخرج من النار، ولا تناله شفاعة شافع.
القسم الثاني: قالوا إنه لم يكن جاهلا بصفة من صفات الله تعالى، ولا شاكا في شيء منها، وتأولوا الحديث تأويلات (2) :
أحدها (3) : أن الرجل صدر عنه ما صدر حالة خوف غالب عليه، فغلط، فلم =(7/76)=@ يؤاخذ بقوله ذلك، كما لم (4) يؤاخذ القائل: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك».
وثانيها: أن هذا جار على نحو ما قد جرى في كلام العرب البليغ مِمَّا يسميه أهل النقد: قجاهل العارف، وسئاه ابن المعتز: مزج الشك باليقين، وهو نحو قوله تعالى: {لعله يتذكر أو يخشى}، وقوله: {وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين}، وكقول الشاعر:
لا ظبة الوغساء بين جلاجل وبين النقا أأنت أم أم سالم
وقد علم أنها هي. ومثله كثير. %(4/1560)%
وثالثها: أن «قدر» معناه: ضيق يعني أن الله تعالى إن ناقشه (5) الحساب وضيقه عليه ليعذبنه أشد العذاب، ومنه قوله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه}أي: ضيق عليه (6) ، وهذا التأويل حسن (7) ، لكنه يخص لفظ قدر، والتأويل الأول أولى (8) لأنه يعم: (قدر)، و (لعلي أضل الله) ويشهد لكون هذا الحديث مؤولا، وليس على ظاهره قوله في آخر الحديث حين قال الله له: «ما حملك على ما صنعت؟ فقال: خشيتك يا رب» فلو كان جاهلا بالله، أو بصفاته، لما خافه، ولما عمل شيئا لله، والله تعالى أعلم.
وقوله: «راشه الله مالا» كذا الرواية الصحيحة، ومعناه: أكسبه الله مالا. &(7/63)&$
__________
(1) في (ح): «ذلك».
(2) في (ح): «تأويلات».
(3) في (ح): «أحدهما».
(4) في (ح): «كما لا» بدل «كما لم».
(5) في (ح): يشبه «فاقشه».
(6) من قوله: «ليعذبنه أشد ...» إلى هنا سقط من (ح).
(7) في (ح): «أحسن».
(8) في (ح): «الأولى».(7/63)
قال ابن الأعرابي: الرياش: المال. قال القتبي: أصله من الريش، كان المعدم لا نهوض له مثل المقصوص من الطير. وعند الفاسي: رأسه بألف مهموزة وسين مهملة، وهو تصحيف، ولا ونجه له. وفي رواية: «رغسه الله مالا وولدا» بغين. =(7/77)=@
معجمة وسين مهملة، أي: أعطاه الله تعالى من ذلك كثيرا. قال أبو عبيد: يقال: رغسه الله يرغسه رغسا: إذا كان ماله ناميا كثيرا، وكذلك هو في الحسب.
وقوله: «فلم يبتهر» بالهاء رواية الشيوخ، وعند ابن ماهان: لم يبتئر، بالهمزة، وكلاهما بمعنى واحد، والهمزة تبدل من الهاء، وكذلك ابتار وامتار بالباء، والميم فإنَّها تبدل منها. وقد فسرها في الأصل فقال: لم يدخر. وهو تفسير صحيح، وبشهد له المعنى والمساق. %(4/1561)%
وقوله: «فإنَّ الله يقدر على أن يعذبني» وجدنا الروايات والنسخ تختلف في ضبط هذه الكلمات، وحاصله يرجع إلى تقييدين:
أحدهما: تشديد إن مكسورة ونصب الاسم المعظم بها، ويقدر مرفوعا فعل مضارع، وهو خبر إن، على (1) أن يعذبنى متعلق به، وهذا خبر محقق عن الرجل، أخبر به عن نفسه أن الله يقدر على تعذيبه، وهي رواية صحيحة لقول من قال: لم يكن جاهلا ولا شاكا، وإنما كان خائف (2) . =(7/78)=@
وثانيهما (3) : تخفيف إن المكسورة، ورفع اسم الله تعالى بعدها، وجزم يقدر بها على مشددة الياء، ويعذبني مجزوم على جواب الشرط. وهذه الرواية مصححة لقول من قال: إن الرجل كان شاكا على ما ذكرناه. والأول أشبه ما اخترناه، والله تعالى أعلم.
ومعظم فوائد هذا الحديث أن المسرف على نفسه لا ييأس من رحمة الله تعالى ومغفرته.
وفيه ما يدلّ على أنه كان من شرانع من قبلنا أن للرجل أن يورث ماله من يشاء من الناس، فنسخ ذلك شرعنا .&(7/64)&$
__________
(1) في (ح): «وعلى».
(2) في (ح): «خائفا».
(3) في (ح): «ما ثانيهما» كذا رسمت.(7/64)
%(4/1562)%
ومن باب: رجاء مغفرة الله سبحانه وسعة (1) رحمته
قوله: «ليس أحد أحب إليه المدح من الله»، القييد الصحيح رفع أحب على أنه خبر مقدم، ومبتدؤه المدح، والجملة خبر ليس. وقد بين بعض الناس: أحب بالنصب على أنه خبر ليس، وفيه بعد وتكلف، وقد تقدَّم القول في محبة الله غير مرة، ومعناها هنا: أن الله تعالى يثيب مادحيه بما لا يثيب أحد من الخلق مادحه .
وقوله: «من أجل ذلك مدح نفسه» أي: من أجل أن (2) يثيب مادحيه مدح نفسه، لا أنه يهتز للمدح ويرتاح له، فإنَّ ذلك من سمات فقرنا وحدوثنا، وهو منزه عن ذلك كله، وقد تقدَّم القول في غيرة الله تعالى في الحدود. =(7/79)=@
وقوله: «وليس أحد أحب إليه العذر من الله تعالى»؛ أي: الاعتذار؛ يعني التقدمة بالبيان والإنذار، ويحتمل أن يريد به الاعتذار من عباده له من ذنوبهم إذا استغفروا منها.
وقوله: «من أحد أصبر على أذى يسمعه من الله»؛ الصبر في اللغة: حبس النفس على ما تكرهه، أو يشق عليها، وذلك على الله تعالى محال، لكنه &(7/65)&$
__________
(1) في (ح): «مغفرة الله تعالى وحلمه وسعة رحمته».
(2) في (ح): «أنه».(7/65)
قد يكون معه الصفح عن الجاني،ـ والحلم عليه، والرفق به، وكل ذلك موجود من الله تعالى فحسن أن يطلق الله على (1) نفسه، وقد سمى نفسه بالصبور، كما جاء في الحديث. =(7/80)=@ %(4/1563)%
وقوله: «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء (2) بقوم يذنبون، ويستغفرون الله فيغفر لهم» هذا خبر من الله تعالى عن ممكن مقدور الوقوع مع علم الله تعالى بأنه لا يقع، فحصل منه أن الله تعالى يعلم حال المقدر الوقوع، كما يعلم حال المحقق الوقوع، ونحو من هذا قول الله تعالى: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه}. وقد عبر بعض العلماء عن هذا بأن قال: إن الله تعالى يعلم ما كان وما يكون، وما لو كان كيف كان يكون، وحاصل هذا الحديث: أن الله تعالى سبق في علمه أنه يخلق من يعصيه فيتوب، فيغفر له، فلو قدر ألا عاصي يظهر في الوجود لذهب الله تعالى بالطائعين إلى جنته، ولخلق من يعصيه فيغفر له، حتى يرجد ما سبق في علمه، وبظهر من مغفرته ما تضمنه اسمه الغفار، ففيه من الفواند رجاء مغفرته والطماعية في سعة رحمته. =(7/81)=@
وقوله: «لما قضى الله الخنق كتب في كتاب عنده على نفسه» أي: لما أظهر قضاءه، وأبرز أمره لمن شاء (3) ، أظهر كتابا في اللوح المحفوظ، أو فيما شاءه قضاءه (4) خبر حق، ووعد صدق: «إن رحمتي تغلب غضبي» أي: تسبقه وتزيد عليه. وقد تقدَّم القول في غضب الله تعالى ورضاه، وأن ذينك (5) يرجعان إلى إرادته، وإلى متعلقها من إيصال المنافع والألطاف إلى المرحوم، أو إيصال المضار والانتقام &(7/66)&$
__________
(1) في (ح): «ذلك على نفسه».
(2) في (ح): «ولجاء».
(3) في (ح): «وأبرزه لمن شاء».
(4) في (ح): «مقتضاه».
(5) في (ح): «ذلك».(7/66)
للمغضوب عليه، فيرجع غضبه إذا ورحمته إلى الأفعال، وهو المراد بهذا الحديث. وإذا ظهر هذا فمعنى غلبة الرحمة، أو سبقها على ما جاء في الرواية الأخرى: أن رفقه بالخلق، وإنعامه عليهم، ولطفه بهم، أكثر من انتقامه، وأخذه، كيف لا؟ وابتداؤه الخلق وتكميله وإتقانه، %(4/1564)% وترتيبه، وخلق أول نوع الإنسان في الجنة، كل ذلك رحمته السابقة، وكذلك ما رتب على ذلك من النعم والألطاف في الدنيا والآخرة، وكل ذلك رحمات متلاحقات (1) ، ولو بدأ بالانتقام لما كمل لهذا العالم نظام. ثم العجب أن الانتقام به كملت الرحمة والإنعام، وذلك أن بانتقامه من الكافرين كملت رحمته على المؤمنين، و (2) بذلك حصل صلاحهم وإصلاحهم، وتم لهم دينهم وفلاحهم، وظهر لهم قدر نعمة الله عليهم في صرف ذلك الانتقام عنهم، فقد ظهر أن رحمته سبقت غضبه، وانعامه غلب انتقامه.
وقوله: «إن لله مئة رحمة أنزل منها (3) رحمة» هذا نص في أن الرحمة يراد بها متعلق إرادة الحق سبحانه، لا نفس الإرادة، وأنها راجعة إلى المنافع والنعم، ومقتضى هذا الحديث: أن الله تعالى علم أن أنواع النعم التي ينعم بها على خلقه مئة نوع، فأرسل منها فيهم في هذه الدار نوعا واحدا، فيه انتظمت مصالحهم ، =(7/82)=@ وحصلت مرافقهم، كما نبه عليها في بقية الحديث، فإذا كان يوم القيامة كمل لعباده المؤمنين ما بقي في علمه، وهو التسعة والتسعون، فكملت الرحمة كلها للمؤمنين، وهو المشار إليه بقوله: {فلا تعلم نفس ما أخفي لها من قرة أعين}، وهو الذي صرح به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال لهم: «إن في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فله ما أطلعكم عليه». وعند هذا يفهم معنى قوله تعالى: {وكان بالمؤمنين رحيما}. فإنَّ رحيما من أبنية المبالغة التي لا شيء أبلغ منها، ويفهم من هذا أن الكافرين لا يبقى لهم &(7/67)&$
__________
(1) في (ح): «متلاحقه».
(2) في (ح): «إذ» بدل «و»
(3) في (ح): «أنزل الله منها».(7/67)
في النار رحمة، ولا تنالهم نعمة، لا من جنس رحمات الدنيا، ولا من غيرها، إذا (1) كمل كل ما علم الله من الرحمات للمؤمنين، ختم الله لنا بما ختم للمؤمنين، ووقانا أحوال الكافرين. %(4/1565)% وما قلناه في هذا الحديث أولى من قول من قال: إن معنى قوله: «إن لله مئة رحمة» الاغياء والتكثير؛ لأنَّه لم تخر عادتهم بذلك في مئة، وإنما جرث بالسبعين، ولو جرث بذلك لكان ذلك مجازا، وما ذكرناه حقيقة، فكان أولى، والله أعلم. وقوله: «إن الله خلق - يرم خلق الشموات والأرض - مئة رحمة» معنى =(7/83)=@ خلق - هنا -: قدر (2) ، وهو أصل هذا (3) اللفظ، كما قال زهير: &(7/68)&$
__________
(1) في (ح): «إذ» بدل «إذا».
(2) في (ح): «وقدر».
(3) في (ح): «لهذا».(7/68)
ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثمَّ لا يفري
أى: يقدر، ويكون معناه: إن الله أظهر تقديره لتلك الرحمات، أي: علمه بها يوم أظهر تقديره لاختراع السموات. ويصح أن يقال: إن معنى خلق: اخترع وأوجد يوم خلق السموات والأرض المئة الرحمة، فأرسل في هذا العالم نوعا واحدًا من تلك الأنواع، وادخر في الجنة سائرها ليوم القيامة.
وقوله: «كل رحمة طباق بين (1) السماء والأرض» إغياء وتكثير، وقد جاء هذا الاغياء بهذا النوع كثيرًا في الشرع واللغة، وقد جاء في بعض ألفاظ رواة مسلم: «جعل الله الرحم مئة جزء (2) » روي بضم الراء وفتحها، وهو بمعنى (3) الرحمة، واللفظ الذي ذكرناه هو الأصح والأوضح.
وقوله: «فاذا امراة من السبي تبتغي إذا وجدت صبيًا أخذته) قال القاضي: =(7/84)=@
كذا في جميع نسخ مسلم، ولرواته فيه (4) وهم، وفي كتاب البخاري: تسعى، مكان تبتغي. وهو وجه الكلام وصوابه. %(4/1566)%
قلت: ولا (5) خفاء بحسن رواية تسعى، ووضوحها، لكن لرواية (6) تبتغي وجه واضح، فلا يغلط الرواة كلهم، وذلك أن تبتغي معناه: تطلب ولدها، وحذف مفعوله للعلم به .&(7/69)&$
__________
(1) في (ح): «ما بين».
(2) في (ح): «جزو» بدل «جزء».
(3) في (ح»: «معنى».
(4) في (ح): «وفيه».
(5) في (ح): «لا» بلا واو.
(6) في (ح): «الرواية».(7/69)
ومن باب: من عاد الى الذنب فليعد إلى الاستغفار (1)
قوله: «أذنب عب ذنبًا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا علم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب» يدلّ على عظيم فائدة الاستغفار، وعلى عظيم فضل الله وسعة رحمته، وحلمه وكرمه، ولا شك في أن هذا الاستغفار ليس هو الذي ينطق به اللسان، بل الذي يثبت معناه في الجنان، فيحل به عقد الإصرار، ويندم معه على ما سلف من الأوزار. فاذا الاستغفار ترجمة التوبة، وعبارة عنها، ولذلك قال: «خياركم كل متق (2) تواب». قيل: هو الذي يتكرر منه الذنب والتوبة، فكلما وقع في الذنب عاد إلى التوبة، وأما من قال =(7/85)=@ بلسانه: أستغفر الله، وقلبه مصر على معصيته، فاستغفاره (3) ذلك يحتاج إلى استغفار (4) ، وصغيرته لاحقة بالكبار إذ لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار. وفائدة هذا الحديث أن العود إلى الذنب، وإن كان أقبح من ابتدائه، لأنه انضاف إلى الذنب نقض التوبة، فالعود إلى التوبة أحسن من ابتدائها، لأنها: &(7/70)&$
__________
(1) من قوله: «ومن باب: من عاد...» إلى هنا سقط من (ح).
(2) في (ح): «مقتن» بدل «متق».
(3) في (ح): «واستغفاره».
(4) في (ح): «استغفاره».(7/70)
انضاف إليها ملازمة الإلحاح بباب الكريم، وأنه لا غافر للذنوب سواه. %(4/1567)%
وقوله: «اعمل ما شئت فقد غفرت لك» قد تقدَّم القول فيه، ونزيد هنا نكتة» وير: أن هذا الأمر يحتمل أن يكون معناه الاكرام، فيكون من باب قوله تعالى: {ادخلوها بسلام آمنين}. وآخر الكلام خبر عن حال المخاطب؛ لأنَّه (1) مغفور له ما سلف من ذنبه، ومحفوظ -إن شاء الله - فيما يستقبل من شأنه. =(7/86)=@ %(4/1568)%
ومن باب: في قوله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات}
قوله: «إني عالجت امرأة» أي: حاولتها لأصيب (2) منها غرضًا وشهوة، وأقص المدينة: ما بعد منها، يعني موضعا خاليا عن الناس.
وقوله: «إني أصبت منها ما دون أن أمسها» أي: لم أجامعها، وقد قال في رواية أخرى: إن الذي أصاب منها قبلة قبلها، وإياها عنى في الرواية الأخرى بقوله: أصبت حدًا، ويحتمل أن يكون معناه أصبت منها شيئا ممنوعا، لأن الحد في أصله (3) هو المنع، ويحتمل أنه ظن أن في ذلك حدًا فأطلق عليه ذلك. وهو الظاهر من قوله: أصبت حدًا فأقم (4) علي كتاب الله. &(7/71)&$
__________
(1) في (ح): «بأنه».
(2) في (ح): «لأصبت».
(3) من قوله: «الأخرى بقوله...» إلى هنا سقط من (ح).
(4) في (ح): «في» بدل «علي».(7/71)
وقوله: فانطلق فاتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلا فدعاه، فتلا عليه هذه الآية: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل} إنما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم بعد انصرافه عنه، لأن الله تعالى أنزل الآية بعد انصرافه بسبب سؤال الرجل المذكور كما جاء نصا في رواية أخرى: أن رجلا أصاب من امراة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له. قال: فنزلت الآية. فبين أن الآية نزلت بسبب ذلك الرجل. وإقامة الصلاة: القيام بفعلها على سنتها والمثابرة عليها. وطرفا النهار: هما الصبح والعصر (1) . وقيل: الظهر والعصر، وقيل: العشاء والمغرب.
{وزلفا من الليل (2) }: بفتح اللام على قراءة الجماعة، وهي الساعات المتقاربة، جمع زلفة، وهي القربة والمنزلة، =(7/87)=@ وقرأها يزيد بضم اللام، وابن محيصن: بسكونها. والمراد المغرب والعشاء، والله أعلم. %(4/1569)%
وقوله: {إن الحسنات يذهبن السيئات} يعني الصلوات الخمس، كما جاء مفسرًا عنه صلى الله عليه وسلم قاله الطبري، وقال مجاهد: هي: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله.
قلت: واللفظ بحكم عمومه صالح لما قالاه، ولزيادة عليه، كما قال صلى الله عليه وسلم: «والصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارة (3) لما بينهن إذا اجتبت الكبائر، وقد تقدم القول في معنى هذا الحديث في الطهارة (4) . &(7/72)&$
__________
(1) في (ح): «قيل هما».
(2) قوله: «من الليل» سقط من (ح).
(3) في (ح): «مكفرات».
(4) في (ح): «كتاب الطهارة».(7/72)
وقوله: {ذلك ذكرى للذاكرين}؛ أي: تذكرة (1) لمن تذكر، واتعاظ لمن اتعظ.
وقيل: إن هذا الرجل هو عمرو بن غزية، كان يبيع التمر، فقال لامرأة (2) في البيت: =(7/88)=@ تمر أجود من هذا، فدخلت، فوثب عليها وقبلها ثم تركها نادما. فجاء باكيا (3) إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية، فقال له: «هل حضرت معنا الصلاة؟» فقال: نعم. قال: «غفر (4) لك»، وقيل: إنها كانت صلاة العصر. %(4/1570)%
ومن باب: لا ييأس من قبول التوبة ولو قتل مئة نفس (5)
وقول الراهب لقاتل التسعة والتسعين إنه لا توبة له؛ دليل على قلة علم =(7/89)=@ ذلك الراهب، وعدم فطنته، حيث لم يصب وجه الفتيا،ولا سلك طريق التحرز على نفسه، ممن صار القتل له عادة معتادة، فقد صارهذا مثل الأسد الذي لا يبالي بمن يفترسه، فكان حقه ألا يشافهه بمنع التوبة مداراة لدفع القتل عن نفسه، كما يداري الأسد الضاري، لكنه أعان على نفسه، فغنه لما آيسه من رحمة الله &(7/73)&$
__________
(1) في (ح): «تذكر».
(2) في (ح): «لامرأته».
(3) قوله: «باكيًا».
(4) في (ح): «قد غفر».
(5) من قوله: «ومن باب: لا ييأس...» إلى هنا سقط من (ح).(7/73)
وتوبته قتله (1) ، بحكم سبعيته ويأسه من رحمة الله تعالى وتوبته عليه، ولما لطف الله به بقي في نفسه الرغبة في السؤال عن حاله. فما زال يبحث إلى أن ساقه الله تعالى إلى هذا الرجل العالم الفاضل، فلما ساله نطق بالحق والصواب، فقال له: ومن يحول بينك وبينها؟ مفتيا ومنكرا على من ينفيها عنه، ثم إنه أحاله على ما ينفعه، وهو مفارقته لأرضه (2) التي كانت غلبت عليه بحكم عادة أهلها الفاسدة، ولقومه الذين كانوا يعينونه على ذلك، ويحملونه عليه. وبهذا يعلم فضل العلم على العبادة، فإنَّ الأول غلبت عليه الرهبانية. واغتر بوصف الناس له بالعلم، فافتى بغير علم، فهلك في نفسه وأهلك غيره. والثاني كان مشتغلا بالعلم ومعتنيا به، فوفق للحق، فأحياه الله في نفسه، وأحيا به الناس (3) .
قال القاضي: ومذهب أهل السنة والجماعة أن التوبة تكفر القتل كسائر الذنوب، وهو قول كافة العلماء، وما روي عن بعضهم من تشديد في الزجر وتورية في القول (4) فإنما ذلك لئلا يجترىء الناس على الدماء، وقد اختلف في قوله %(4/1571)% تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها}فقيل معناه: إن جازاه، وقيل: الخلود: طول الإقامة لا التأبيد، وقيل: الآية في رجل بعينه قتل رجلا له عليه دم بعد أخذ الدية ثم ارتد، وقد تقدَّم القول على أن كل ما دون الشرك يجوز أن يغفره الله تعالى، وأنه ليس من ذلك شيء كفرا؛ قتلا كان أو ترك صلاة أو غيرها، كما دل عليه قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}. ولقوله في حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -: «تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا، ولا =(7/90)=@ تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب شيئا من ذلك (5) فستره &(7/74)&$
__________
(1) في (ح): «من التوبة قتله».
(2) في (ح): «المدينة» بدل «لأرضه».
(3) قوله: «الناس» سقط من (ح).
(4) في (ح): «القتل».
(5) من قوله: «فعوقب به ...» إلى هنا سقط من (ح).(7/74)
الله عليه، فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه»، ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة أيضًا: «خمس صلوات افترضهن الله عز وجل على العباد، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئا كان له عند الله عهد أن (1) يغفر له، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء غفر له وإن شاء عذبه». وهذه حجج صريحة تبين فساد مذهب المكفرة بشيء من ذلك.
وقوله: «نصف الطريق» أي: بلغ نصفه، يقال: نصف الماء والشجرة وغيرهما؛ إذا بلغ نصف ذلك.
وقوله: «نأى بصدره» أي: نهض به مع ثقل ما أصابه من الموت، وذلك دليل على (2) صحة توبته وصدق رغبته.
وقوله: «فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: إنه جاء تائبًا مقبلا بقلب (3) ». هذا نص صريح في أن الله تعالى أطلع ملائكة %(4/1572)% الرحمة على ما في قلبه من صحة قصده إلى التوبة وحرصه عليها، وأن ذلك خفي على ملائكة العذاب حتى قالت: إنه لم يعمل خيرا قط. ولو اطلعث على ما في قلبه من التوبة، لما صح لها أن تقول هذا، ولا تنازع ملائكة الرحمة في قولها: إنه =(7/91)=@ جاء تائبا مقبلا بقلبه، بل شهدت بما في علمها، كما شهد الآخرون بما تحققوه. لكن شهادة ملائكة الرحمة على إثبات، وشهادة ملائكة العذاب على عدم (4) علم، وشهادة الإثبات مقدمة. فلا جرم لما تنازع الصنفان وخرج كلاهما عن الشهادة إلى الدعاوى (5) ، بعث الله إليهما ملكا حاكما يفصل بينهما، وصوره بصورة الادمي، إخفاة عن الملائكة وتنويها بني آدم، وأن منهم من يصلح لأن يفصل بين الملائكة إذا تنازعوا.
وقوله: «فجعلوه بينهم» فيه (6) حجَّة لمالك على قوله إن المتخاصمين إذا حكما &(7/75)&$
__________
(1) في (ح): «أي» بدل «أن».
(2) قوله: «على» سقط من (ح).
(3) في (ح): «بقلبه».
(4) في (ح): «نفي» بدل «عدم».
(5) في (ح): «الدعا».
(6) في (ح): «فيهم».(7/75)
بينهما رجلا يصلح للتحكيم لزمهما ما يحكم به، وقد خالفه في ذلك الشافعي.
وقوله: «فقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له». دليل على أن الحاكم إذا تعارضت الأقوال عنده، وتعذرت الشهادات، وأمكنه أن يستدل بالقرائن على ترجيح بعض الدعاوى، نفذ الحكم بذلك، كما فعله سليمان عليه السلام حيث قال: {ائتوني بالسكين أشفه بينهما}.
تنبيه: قال القاضي: جعل الله قربه من القرية علامة للملك عند اختلافهم مع عدمهم معرفة حقيقة باطنه التي اطلع الله عليها، ولو تحققوا توبته لم يختلفوا ولم يحتاجوا (1) للمقايسة.
قلت: وهذه غفلة منه عن قول ملائكة الرحمة: جاء (2) تائبا مقبلا بقلبه إلى الله عزوجل. وهذا نص في أن ملائكة الرحمة علمت ما في قلبه، فلو علمت =(7/92)=@ %(4/1573)% ملائكة العذاب ما في قلبه (3) لما تنازعوا، لأن الملائكة كتهم، لا يخفى عليهم أن تبولم التوبة إذا صحت في القلب، وعمل على مقتضاها بالجوارح بالقدر الممكن مقبولة بفضل الله تعالى ووعده الصادق، والأحسن ما ذكرناه إن شاء الله تعالى، وإنما جعل الله قرب تلك الأرض سببا مرجحا لحجَّة ملائكة الرحمة. ومصدقا لصحة التوبة، وفيه دليل على أن أعمال الظاهر عنوان على الباطن.
وقوله: «فأوحى الله إلى هذه أن تباعدى وإلى هذه أن تقربي». إنما كان ذلك لما حكم الحاكم بقياس الأرض. ويفهم منه أن الرجل كان أقرب إلى الأرض التي خرج منها، فلو ترك الله الأرض على حالها، لقبضته (4) ملائكة العذاب، لكن غمرته الألطاف الإلهية، وسبقت له العناية الأزلية، فقربت البعيد، وألانت الحديد. ويستفاد منه أن الذنوب وإن عظمت، فعفو الله أعظم منها، وأن من ألهم صدق التوبة. فقد سلك به طريق اللطف والقربة. =(7/93)=@ &(7/76)&$
__________
(1) في (ح): «ولا احتاجوا».
(2) في (ح): «جاءنا».
(3) زاد بعدها في (ح): «ما كلمته ملائكة الرحمة».
(4) في (ح): «لقبضه».(7/76)
%(4/1574)%
ومن باب: يفجر من ظهرث معصيته حتى تتحقق توبته
وقبول الله تعالى للتوبة الصادقة، وكيف تكون أحوال التاثب (1) العير (2) : الإبل التي عليها أحمائها. وقد جلى للناس أمرهم؛ أي: كشفه وأوضحه. يعني: أنه بين لهم وجهه. =(7/94)=@ %(4/1575)%
وقوله: «فقل رجل يريد أن يتغتب يظن أن ذلك سيخفى له» كذا وقع هذا الكلام في سائر روايات مسلم، وفي نسخه، وسقط (3) من الكلام (إلا) قبل (يظن ) وبه يستقيم الكلام. وهي إيجاب بعدما تضمنه (قل) من معنى النفي، لأن معنى قوله: قل رجل بمعنى: ما رجل، فكأنه قال: ما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى له.
وقوله: «فانا إليها أصعر» هو (4) بالعين المهملة، ومعناه: أميل.
وقوله: «وتفارط الغزو» أي: تقدَّم الغزاة. والفرط والفارط: المتقدم. وجمعه: فراط. والأسوة: القدوة. والمغموص عليه: المعيب، المتهم، المحتقر. =(7/95)=@ &(7/77)&$
__________
(1) من قوله: «قبول الله تعالى ...» إلى هنا سقط من (ح).
(2) في (ح): «العنق».
(3) في (ح): «وقد سقط».
(4) قوله: «هو» سقط من (ح).(7/77)
%(4/1576)%
وقوله: حبسه بزداه والنظر في عطفيه ) البزدان: يعني به: الرداء والإزار، والرداء والقميص، وسماهما بزدين؛لأنَّ القميص والإزار قد يكونان من برود، والبرود: ثياب من اليمن فيها خطوط. ويحتمل أن تسميتها (1) بردين على طريقة: العمرين، والبكرين، والقمرين. والعطف: الجانب. وكان هذا القائل كان في نفسه حقد، ولعله كان منافقا، فنسب كعبا إلى الزهو والكبر، وكانت نسبة باطلة بدليل شهادة العدل الفاضل معاذ بن جبل، إذا (2) قال: بئس ما قلت. والله يا رسول الله! ما علمنا عليه إلا خيرا. فيه جواز الذم والتقبيح للمتكلم في حق المسلم بالعيب والقبيح، ونصرة المسلم في حال غيبته، والرد عن عرضه.
وقوله: «إذ رأى رجلا مبيضا يزول به السراب»، هو بكسر الياء: اسم فاعل، من: بيض فهو مبيض؛ أي: أظهر بياض نفسه في السراب. ويزول: يتحرك ويضطرب. والسراب: ما يرى نصف النهار كانه ماء. وقوله: «كن أبا خيثمة» هذه صيغة أمر، ومعناها الخبر، أي: هو أبو خيثمة، وقيل معناها: لتوجد أبا خيثمة، واسمه عبد الله، وقيل: مالك بن قيس. ولمزه المنافقون: عابوه، واللمز: الطعن والعيب. وقافلا: راجعا. والبث: أشد الحزن. وطفقت: أخذت، وهي من أفعال المقاربة على ما تقدم. وأظل قادما: أقبل، وهو رباني. وراح (3) : ذهب وزال. وأجمعت صدقه: عزمت عليه. =(7/96)=@ %(4/1577)%
وقوله: «وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه» إنما كان يفعل ذلك ليبدأ بتعظيم بيت الله قبل بيته، وليقوم بشكر نعمة الله تعالى عليه في سلامته، ويسلم (4) عليه الناس، وليسن ذلك في شرعه. والجدل: الخصومة المحكمة. والظهر &(7/78)&$
__________
(1) في (ح): «تسميتها».
(2) في (ح): «إذ».
(3) في (ح): «وزاح».
(4) في (ح): «ويسنن».(7/78)
هنا: الإبل التي يحمل على ظهورها. ومرارة بن ربيعة، كذا وقع في كتاب مسلم، وذكره البخاري: ابن الربيع. وذكره أبو عمر بالوجهين، ونسبه مسلم فقال: العامري. والصواب: العفري، وكذا ذكره البخاري، وابن إسحاق، وأبو عمر بن عبد البر، وهو منسوب لعمرو بن عوف. =(7/97)=@ %(4/1578)%
وقوله: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا - أيها الثلاثة» هو دليل على وجوب هجران من ظهرث معصيته، فلا يستم عليه إلا أن يفلع وتظهر توبته. والثلاثة مرفوع على الصفة د (أى)، ويجوز نصبه على الاختصاص، وحكى سيبويه؛ اللهم اغفر لنا أيتها العصابة. وتنكرت: تغيرت. واستكانا: سكنا، أي: خضعا وذلاً، وأشب القوم: أصغرهم. وأجلدهم: أقواهم. وأسارقه النظر: أي أنظر إليه بطرف خفي. وتسورت الجدار، أي: علوت سوره. وأنشدك الله؛ أي: أسالك بالله، ومنه النشيد، وهو: رفع الصوت بالشعر وغيره .=(7/98)=@ %(4/1579)%
و«قول أبي قتادة: الله ورسوله أعلم» ظاهره: أنه أجابه عند إلحاحه عليه بالسؤال، فيكون قد كتمه (1) . فيكون مخالفا للنهي. وقد تؤول بأن أبا قتادة قال ذلك لنفسه مخبرا عن اعتقاده، ولم يقصد كلامه ولا إسماعه. &(7/79)&$
__________
(1) في (ح): «قد كلمه».(7/79)
قلت: ربحتمل أن يقال: إن أبا قتادة (1) فهم أن الكلام الذي نهى عنه إنما هو الحديث معه والمباسطة، وإفادة المعاني، فأمَّا مثل هذا الكلام الذي يقتضي الإبعاد والمنافرة، فلا - والله أعلم - ألا ترى أنه لم يرد عليه السلام، ولا التفت لحديثه؛ والثبطي: واحد الثبط، وهم العامرون لتلك الأراضي، وسموا بذلك لأنهم ينبطون المياه؛ أي: يستخرجونها؛ وتأممت (2) بها التنور فسجرتها؛ أي: قصدت بالصحيفة التنور فرميتها فيه، وأحرقتها (3) ، ويقال: تيمم بالياء وبالهمزة. والمضيعة: بفتح =(7/99)=@ الميم وكسر الضاد، وسكونها: الضياع، وهو الإهمال، وترك المبالاة به حتى يضيع. %(4/1580)%
وقوله: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر: هذا يدل على أن: الحقي بأهلك ليس من ألفاظ الطلاق، لا من صرائحه، ولا من كناياته الظاهرة، وغايته: أن يكون (4) مما يحتمل أن يراد به الطلاق إذا نوى ذلك. &(7/80)&$
__________
(1) من قوله: «قال ذلك لنفسه...» إلى هنا سقط من (ح).
(2) في (ح): «به» بدل «بها».
(3) في (ح): «فأحرقتها».
(4) في (ح): «تكون».(7/80)
وقوله: وضاقت علي الأرض بما رحبت: أي: برحبها، وما مصدرية، =(7/100)=@ والرحب - بضم الراء -: السعة. وأوفى: أطل وأشرف. وسلع: - بفتح السين وسكون اللام -: جبل بالمدينة معروف. %(4/1581)%
وقوله: فخررت ساجد هذه سجدة الشكر، وظاهر هذا ألها كانت معلومة عندهم، سولا بها فيما بينهم (1) ، وقال بها الشافعي ومالك في أحد قوليه، ومشهور مذهبه الكراهة. وكغير الفرس: اجراؤه الجري الشديد. وكشوته للبشير ثوبيه مع كونه ليس له غيرهما، دليل على جواز مثل ذلك إذا ارتجى حصول ما يستبشر به، وهو دليل على جواز إظهار الفرح بأمور الخير والدين، وجواز البذل والهبات عندها، وقد نحر عمر لما حفظ سورة البقرة جزورا.
وقوله: «فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة» أي: زمرة زمرة، وجماعة &(7/81)&$
__________
(1) في (ح): «منهم» بدل «فيما بينهم».(7/81)
بعد جماعة. وفيه دليل على جواز التهنئة بأمور الخير، بل على ندبتيها إذا كانت دينية، فإنه إظهار السرور بما يسر به أخوه المسلم، وإظهار المحبة، وتصفية القلب بالمودة.
وقوله: «فقام طلحة بن عبيد الله يرول حتى صافحني وهنأني» دليل لمن =(7/101)=@ قال (1) بجواز، بجواز القيام للداخل والمصافحة. وقد بينا الخلاف في ذلك في الجهاد. %(4/1582)%
وقوله: «وكان كعب لا ينساها لطلحة» أي: تلك القومة، والبشاشة التي صدرت له منه. ومعناه: أن تلك الفعلة أكدت في قلبه محبته، وألزمته حرمته حتى عدها من الأيدي الجسيمة، والمنن العظيمة.
وقوله: «إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله» أي: إن من علامات صدق توبتي، أو من شكر توبتي أن أتصدق بمالي، أي إن علي &(7/82)&$
__________
(1) في (ح): «قام».(7/82)
ذلك، فهي صيغة نذر والتزام، خرج مخرج الشكر وابتغاء الثواب. أقر عليه النبي صلى الله عليه وسلم فكان ذلك جائزا، ولم يدخل في عموم النذر المنهي عنه بقوله: «لا تنذروا» وقد بينا ذلك فيما (1) تقدَّم. وعلى مقتضى هذا اللفظ فقد وجب عليه إخراج كل ماله، لكن لما كان ذلك يؤدي إلى أن يبقى فقيرا محتاجا، وربما يفضي =(7/102)=@ به (2) ذلك إلى سؤال الناس، والى الدخول في مفاسد، اكتفى الشرع منه ببعضه فقال: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك) وهذا البعض الذي أمره بإمساكه هو أكثر (3) ، والمتصدق به هو الأقل، كما قال في حديث سعد: «الثلث والثلث كثير» كما تقدم.
وقوله: «فما أعلم أحدًا أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلاني» أي: أنعم، ومنه قوله تعالى: {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} أي: نعمة.
وبقال في الخير والشر، ثلاثيا ورباعيا، وقد جمع بينهما زهير فقال: %(4/1583)%
. .. .. .. .. .. .. .. .. .. ... فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
&(7/83)&$
__________
(1) في (ح): «فلا» بدل «فيما».
(2) قوله: «به» سقط من (ح).
(3) في (ح): «الأكثر».(7/83)
وأصله من الابتلاء، وهو الامتحان والاختبار. ويمتحن بالخير والشر كما قال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة}والعسرة: الشدة وسوء الحال، وهو العسر أيضًا، وتزيغ: تميل وتذهب {ثم تاب عليهم ليتوبوا} =(7/103)=@ أي: ألهمهم أسباب التوبة، وأعانهم عليها، ليتوبوا، أي: ليقبلها منهم. وقيل: تاب عليهم قبل توبتهم، وليتوبوا: أي: ليدوموا عليها (1) . &(7/84)&$
__________
(1) من قوله: «ليتوبوا أي...» إلى هنا سقط من (ح).(7/84)
%(4/1584)%
وقوله: «ما أنعم الله علي من نعمة قظ بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أكون كذبته فأهلك» كذا عند جميع رواه مسلم والبخاري: ألا أكون وهي زائدة، وتقدير الكلام: أن أكون، وكما (1) قال تعالى:{ما منعك ألا تسجد} معناه: أن تسجد، وقد رواه الأصيلي عن البخاري: إلا أن أكون كذبته، وليست بشيء والأولى (2) الصواب. والرجس: المستخبث، المستقذر، المذموم. &(7/85)&$
__________
(1) في (ح): «كما» بلا واو.
(2) في (ح): «الأولى» بلا واو.(7/85)
وقوله: كنا خلقنا أيها الثلاثة) أي: أخروا عن المنافقين، ولم يقض فيهم بشي » وقد بئين ذلك في بقية الحديث .=(7/104)=@ %(4/1585)%
ومن باب: من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه
يعني: أن التوبة تصح وتقبل دائما إلى الوقت الذي تطلع فيه الشمس من حيث تغرب، فاذا كان ذلك طبع على كل قلب بما فيه، ولم تنفع توبة أحد، &(7/86)&$(7/86)
وهذا معنى قوله تعالى:{يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسب في إيمانها خيرا} وسر ذلك وسببه: أن ذلك هو أول قيام الساعة؛ فاذا شوهد ذلك، وعوين حصل الإيمان الضروري، وارتفع الإيمان بالغيب الذي هو المكلف به، وسيأتي القول في تحقيق القول في طلوع الشمس من مغربها .=(7/105)=@
وقوله: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل» وقد تقدم الكلام على اليد المنسوبة لله تعالى غير مرة، وهذا الحديث أجري مجرى المثل الذي يفهم منه دوام قبول التوبة، واستدامة اللطف والزحمة، وهذا تنزل عن مقتضى: الغني، القوي، القاهر، إلى مقتضى: اللطيف، الرؤوف، الغافر، وهو نحو قوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا}.
وقوله: «من يقرض غير عدوم، ولا ظلوم». فمن لطيف لطفه: أنه (1) خاطبنا مخاطبة الأخذ لنفسه، المحتاج. ومن عجائب كرمه: أنه استقرض مِمَّا ماله استقراض من احتاج، فنسأله بعظمته وجلاله، وبحق محمد وآله (2) ؛ أن: يعاملنا بلطفه، وعفوه، وإفضاله (3) .=(7/106)=@ &(7/87)&$ %(4/1586)%
__________
(1) قوله: «أنه» سقط من (ح).
(2) زاد بعدها في (ح): «وأزواجه».
(3) في (ح): «أن يعاملنا بالعفوه ولطفه وإفضاله».(7/87)
كتاب الزهد
باب (1) : هوان الدنيا على الله تعالى، وأنها سجن المؤمن (2)
قوله: «والناس كنفتنه» أي: بجنبتيه، ويروى كتفيه: تثنية كتف، وهو منصوب على الظرف، وهو خبر المبتدأ.
وقوله: «بجدي أسك» أي: صغير الأذنين، ضيق صماخهما، وقيل: هو الذي لا يسمع .=(7/107)=@ %(4/1587)%
وقوله: «والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم» الدنيا: وزنها فعلى وألفها للتأنيث، وهي من الدنو بمعنى القرب، وهي صفة لموصوف محذوف، كما &(7/88)&$
__________
(1) في (ح): «ومن باب».
(2) قوله: «على الله تعالى وأنها سجن المؤمن» سقط من (ح).(7/88)
قال تعالى: {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}غير أنه قد كثر استعمالها استعمال الأسماء، فاستغنى عن موصوفها، كما جاء في هذا الحديث. والمراد: الدار الدنيا، أو الحياة الدنيا التي تقابلها الدار الأخرى، أو الحياة الأخرى، ومعنى هوان الدنيا على الله: أن الله تعالى لم يجعلها مقصودة لنفسها؛ بل: جعلها طريقا موصلة إلى ما هو المقصود لنفسه، وأنه لم يجعلها دار إقامة، ولا جزاء، وإنَّما جعلها دار رحلة وبلاء، وأنه ملكها في الغالب الكفرة والجهال، وحماها الأنبياء والأولياء» والأبدال. وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى فقال: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة (1) ماء»، وحسبك بها هوانا، أن الله قد صغرها، وحقرها، وذمها، وأبغضها، وأبغض أهلها، ومحبيها، ولم يرض العاقل فيها إلا بالتزود منها، والتأهب للارتحال عنها، ويكفيك من ذلك ما رواه أبو عيسى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، أو عالم، أو متعلم» - ومن التنافى.
وباب: لا تنظر إلى من فضل الله عليك في الدنيا، وانظر إلى من فضنت عليه. وباب: في الابتلاء بالدنيا ركيف يعمل فيها، وباب: الخمول في الدنيا والتقتل منها. (ا) رراه ابن ماجه ( 4110). ( 2 ) رواه الترمذي(2322). =(7/108)=@
رواه من حديث أبي هريرة، وقال: حديث حسن غريب. ولا يقهم من هذا الحديث إباحة لعن الدنيا وستها مطلقا؟ لما رويناه من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ت: الا تسبوا الدنيا فنعمت مطية المؤمن عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشر، إنه إذا قال العبد: لعن الله الدنيا، قالت الدنيا: لعن الله أعصانا لرئه »ا). خرجه الشريف أبو القاسم زيد بن عبد الله بن مسعود الهاشمي. وهذا يقتضي المنع من سمبئ الدنيا، ولغنها، ووجه الجمع ا بينهما: أن المباح لغنه من الدنيا &(7/89)&$
__________
(1) في (ح): «ماسقى منها الكافر شربة».(7/89)
ما كان منها منعدأ عن الته، وشاغلا عنه، كما قال ا بعض السلف: كل ما شغلك (1) عن الله تعالى من مال ورلد فهو عليك مشؤوم، وهو الذي نبه الله على ذمة بقوله تعالى: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ %(4/1588)% وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الحديد: 20]، وأما ما كان من الدنيا يقرب إلى الله تعالى، ويعين على عبادة الله تعالى، فهو المحمود بكل لسان، والمحبوب لكل إنسان، فمثل هذا لا يسب، بل: يرغب فيه، ويحمبئ، وإليه الإشارة بالاستثناء حيث قال: «إلا ذكر الله، وما والاه، أو عالم، أو متعلم » وهو المصزح به في قوله: «فإنَّها نعممت مطيه المؤمن، عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشر» وبهذا يرتفع التعارض بين الحديثين. والنه أعلم. وقوله: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» إنما كانت الذنيا كذلك لأن =(7/109)=@ المؤمن فيها مقتذ بقيود التكاليف، فلا يقدر على حركة ولا سكون إلا أن يفسح له الشرع، فيفك قيده، ويمئهنه من الفعل أو الترك، مع ما هو فيه من توالي أنواع البلايا والمحن والمكابدات من الهموم، والغموم، والأسقام، والآلام، ومكابدة الأنداد، والأضداد، والعيال، والأولاد. وعلى الجملة: (وأشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل. يبتلى الرجل بحمب دينه ،(ا) كما قاله (2) عليه السلام. وأئ سخز أعظم من هذا؟! &(7/90)&$
__________
(1) في (ح): «يشغلك».
(2) في (ح): «قال».(7/90)
ثم هو في هذا السجن على غاية الخوف والوجل، إذا (1) لا يدري بماذا يختم له من عمل. كيف وهو يتوفع أمرا لا شيء أعظم منه، ويخاف هلاكا لا هلاك فوته ؟! نلولا أنه يرتجي الخلاص. ق هذا السجن لهلك مكانه، لكنه لطف به، فهؤن عليه ذلك كثه بما وعد على صبره، وبما كشف له من حميد عاتبة أمره. والكافر منفد عن تلك الحالات بالتكاليف (2) ، امن من تلك المخاويف، مقبل على لذاته، منهمك في شهواته، معتز بمساعدة الأيام، ياكل ربتمتع كما تاكل الأنعام، وعن تريب يستيقظ من هذه الأحلام، ويحصل في السجن الذي لا يرام، فنسال الله السلامة من أهوال يوم القيامة. %(4/1589)% وقوله: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1]، يعني: شغلكم الإكثار من الدنيا ومن الالتفات إليها عما هو الأولى بكم من الاستعداد للاخرة، وهذا الخطاب =(7/110)=@
للجمهور إذ جنس الانسان على ذلك مفطور، كما قال تعالى: !لأبذتجون آلعالجة » ؤذطذ*فز، أالقيامة: 20 - 21أ، وكما قال: ! زين سناس صمبئ الثمهؤت مت أون البنين (3) . .. » الاية أآل عمران: 4 ا!. وقوله: «يقول ابن ادم مالي مالي » أي: يغتز بنسبة المال إليه وكونه في يديه، حتى ربما يعجب به ويفخر به، ولعئه ممن تعب هو في جمعه، ويصل غيره إلى نفعه، ثم أخبر بالأوجه التي ينتفع بالمال فيها، وافتتح الكلام ب (إنما) التي هي للتحقيق والحصر فقال: «إنما له من ماله ثلاث » وذكر الحديث. وقوله: «أو أعطى فاقتنى» هكذا وقع هذا اللفظ عند جمهورهم، وونجهه: =(7/111)=@ أخشى عليكم ؟ ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم، كما بسطت*
أعطى الصدقة فاقتنى الثواب لنفسه، كما قال في الرواية الأخرى: &(7/91)&$
__________
(1) في (ح): «إذ».
(2) في (ح): «التكاليف» بدل «بالتكاليف».
(3) زاد بعدها في (ح): «الآية».(7/91)
"تصدقت فامضيت »ا)، وقد رواه ابن ماهان: «فاقنى» بمعنى: ممسب غيره، كما قال تعالى: {أَغْنَى وَأَقْنَى}، [النجم: 48]. %(4/1590)% وقوله: فوافوا صلاة الفجر مع رسول المهه صة) أي: جاؤوا فاجتمعوا عند صلاة الصبح معه ليقسم بينهم ما جاء به أبو عبيدة؛ لأنَّهم أرهقتهم الحاجة والفاقة التي كانوا عليها (1) ، لا الحرص على الدنيا، ولا الرغبة فيها، ولذلك قال لهم رسول الله ف: «أبشروا وأضلوا ما يسزكم » وهذا تهوين منه عليهم ما هم فيه من الثدة، وبشارة لهم بتعجيل الفتح عليهم. وقوله: «والته ما الفقر أخشى عليكم » الفقر منصوب على أنه مفعول مقدم =(7/112)=@
ب (أخشى) (2) ، ولا يجوز رفعه إلا على وجه بعيد، وهو أن يحذف ضمير المفعول، ونعامله معاملة الملفوظ، كما قال امرؤ القيس: %(4/1591)%
.... ... ... ... .. .. .. ... فثؤبانسيت، وثؤبا أجر(1) فكانه قال: فثوب نسيته، وثوب أجزه، وهي قليلة بعيدة. وفيه ما يدلّ على أن الفقر أقرب للسلامة، والاتساع في الدنيا أقرب للفتنة، فنسال الله الكفاف الا والعفات. &(7/92)&$
__________
(1) في (ح): «فيها».
(2) في (ح): «بيخشى».(7/92)
ئلة وقوله: «فتنافسوها كما تنافسوها» أي: تتحاسدون فيها، فتختلفون وتتقاتلون فيهلك بعضكم بعضا، كما قد ظهر ووجد، وقد سمى في هذا الحديث التحاسد تنافسا توشعا لقرب ما بينهما، وقد بينا حقيقة كل واحد منهما فيما تقدم، ومعنى قلهيكم: تشغلكم عن أمور دينكم، وعن الاستعداد لآخرتكم. وقوله: ا إذا فتحت عليكم فارس والروم، أئ قوم أنتم ؟» هذا استفهائم يشوبه إخباز منه ت عن أمر قبل وتوعه، وقع على نحو ما أخبر عنه، فكان ذلك من أدلة صحة نبو،له ورسالته ت وكم له ف منها وكم ! ومعنى: (أقي قوم أنتم؟) =(7/113)=@
أي: على أئ حالي تكونون ؟ فكانه قال: أتبقون على ما أنتم عليه ؟ أو تتغير بكم الحال ؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله تعالى. أي: نقول قولا مثل الذي أمرنا الله، وكان هذا منه إشارة إلى قول الله تعالى: ا حسبنا الله ولمحغم وال آتولحصيمات، ا ال عمران: 173 م، وذلك أنه فهم أن رسول الله صون خاف عليهم الفتنة ، وبسط (1) الدنيا عليهم، فاجابه بذلك، فكانه قال: %(4/1592)% نستكفي الفتن والمحن بالنه، ونقول كما أمرنا، وهذا إخباز منهم عتا يتضيه حالهم في ذلك الوقت، فاخبرهم النبي عليه الصلاة والسلام بانههم لا يبقون على تلك الحال، وأنها تتغئر بهم. وقال بعض الشارحين: لعثه يكون كما أمرنا الله، وهذا تتديز غلط للرراة، لا يختاج إليه مع صحة المعنى الذي أبديناه، والله تعالى أعلم. &(7/93)&$
__________
(1) في (ح): «من بسط».(7/93)
وقوله: «أز غير ذلك » هو بسكون الواو، وهي القاطعة، وغير بالنصب على إضمار فعل، تقديره: أرتفعلون غير ذلك، ويجوز رفعه على تقدير: أو يكون غير ذلك. ر (قوله: ة تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون ،) أي: تتسابقون إلى أخذ الدنيا، ثم تتحاسدون بعد الأخذ، ثم تتقاطعون، فيولي كل واحد منكم (1) دبره عن الاخر مغرضا عنه، ثم تثبت البنضاء في القلوب، وتتراكم حتى يكون (2) عنها الخلاف، والققال، والهلاك، كما قد وجد. وقوله: «ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين نتجعلون بعضهم على رقاب بعض»، وفي رواية السمرتندي: «فتحملون » قال بعضم: لعل أصول (3) هذا =(7/114)=@ الكلام: «ثم تنطلقون في (4) مساكين المهاجرين » قال القاضي: لا أدري ما الذي حمل هذا على تفسير الرواية مع عدم توجيه الكلام على (5) ما قبله، واستقلاله بالمراد، لاسيما مع ترله بعد هذا: «فتحملون بعضهم على رقاب بعض » والأشبه (6) أن يكون الكلام على وجهه، وأراد أن مساكبن المهاجرين، وضعفتهم ستفتح عليهم إذ ذاك الدنيا، حتى يكونوا أمراء بعضهم على رقاب بعض. &(7/94)&$
__________
(1) قوله: «منكم» سقط من (ح).
(2) في (ح): «تكونوةن».
(3) في (ح): «أصوب».
(4) قوله: «في» مكرر في (ح).
(5) في (ح): «مع» بدل «على».
(6) في (ح): «قال والأشبه».(7/94)
%(4/1593)% قلت: والعجب من إنكار القاضي على هذا المتاؤل، واختياره هذا المعنى الذي لا يقبله مساق (1) الحديث، ولا يشهد له معناه، وذلك أن معنى الحديث: أنه أخبرهم أنهم تتغير بهم الحال، وأنهم يصدر (2) عنهم أو عن بعضهم أحواذ غير مرضية، تخالف حالهم التي كانوا عليها معه من الئنافس والئباغفى، وانطلاقهم في مساكين المهاجرين، فلا بذ أن يكون هذا الوصف غير مرضئ كالأوصاف التي قبله، وأن تكون تلك الأوصاف المتقذمة توجبه، وحينئذ يلتئم الكلام أوله وآخره، ولا يصخ ذلك إلا بذلك التقدير الذى أنكر القاضي، فيكون معنى الحديث أنه إذا وقع التنافس، والتحاسد، والتباغض حملهم ذلك على أن ياخذ القوئ ما أفاءه الله تعالى على المسكين ؟ الذي لا يقدر على مدافعته، فيمنعه (3) عنه ظلمأ رهذا (4) بمقتض التنافس، والئحاسد، والتباغض (5) ، ويعضده رواية السمرقندي: «فيحملون بعضهم =(7/115)=@ بني إسرائيل ابرص، وامرع، واعمى، لاراد الله ار يبتليهم، لمبعت إليهم ملكا، فاتى الأبرص فقال: أقي شيء أحمت إليك ؟ قال: لون حسن، وجلد على رقاب بعضهم » أي: بالقهر والغلبة، وأما ما اختاره القاضي فغير ملائما (6) للحديث، فتدئره تجده كما أخبرتك، والله تعالى أعلم. وقوله: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو (7) فوقكم»، أي: اعتبروا بمن فضلتم عليه في المال، والخنق، والعافية، فيظهر عليكم ما أنعم الله به عليكم فتشكرونه على ذلك، فتقومون بحق النعمة، وذلك بخلاف ما إذا نظر إلى (8) ما فضل عليه غيره من ذلك ؟ فإنَّه يضحل عنده ما أنعم الله عليه به (9) من الئعم، وبحتقرها، فلا يحسبها نعما، فينسى حن الله فيها، وربما حمله ذلك النظر إلى أن تمتذ عينه إلى الدنيا فينافس أهلها، ويتقلع لحسرة فؤيها، ويحسد أهلها، وذلك هو الهلاك في الدنيا والآخرة. &(7/95)&$
__________
(1) في (ح): «سياق».
(2) في (ح): «تصدر».
(3) في (ح): «فمنعه».
(4) قوله: «وهذا» سقط من (ح).
(5) قوله: «والتباغض» سقط من (ح).
(6) في (ح): «ملائم».
(7) قوله: «هو» سقط من (ح).
(8) قوله: «إلى» سقط من (ح).
(9) قوله: «به» سقط من (ح).(7/95)
%(4/1594)% وقوله: «فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم » هو عانذ على مصدر: انظروا، وأجدر بمعنى أحق وأؤجب، والازدراء: الاحتقار .=(7/116)=@
فاعطي شاة-والدا، فانتج هذان ووتد هذا. قال: فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم .
رقوله: «ناقة عشراء» ير التي مض لها من حفلها عشرة أشهر، وجمعها: عشار، وكانت أنفس أموال العرب لقرب ولادتها، ورجاء لبنها. وقال ابن جئي: ير التي أتى عليها بعد وضعها عشرة أشهر. في الصحاح: العشار -بالكسر- جمع عشراء: وير الناقة التي أتى عليها من يوم أرسل عليها الفحل عشرة أشهر وزال عنها اسم المخاض، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع، وبعدما تضع أيضًا. يقال: ناقتان عشراوان، ونوق عشار، وعشراوات (1) ، يبدلون من همزة التانيث واوأ، وقد عشرت الناقة تعشيرا إذا صارت (2) عشراء. %(4/1595)% وقوله: «فاتتج هذان (3) ، وولد هذا (4) » أي: تولى نتاج ناقته وولادة شاته، ووقع هنا أنتج رباعيا، والمعروف الثلاثي، وحكى الأخفش: نتجها، وأنتجها بمعتف، وقد أشبعنا القول فيه فيما تقدَّم .=(7/117)=@
وقوله: «انقطعت بي الحبال في سفري» الرواية المشهورة بالحاء المهملة والموحدة (5) ، والباء المعجمة - بواحدة تحتها - وبالألف، وير: جمع حبل، وهو المستطيل من الرمل، وقيل: هي الأسباب التي يتوضل بها إلى البلاغ، وهذا أوقع التفسيريخن، ورواه ابن الحذاء: الحيل: جمع حيلة، ررراه بعضهم كذلك غي!ر أنه زاد الفاء، ووقع لبعفر رواة البخاري: الجبال بالجيم، وفيه بعد. &(7/96)&$
__________
(1) في (ح): «وعشروات».
(2) في (ح): «إذا اصارت» كذا رسمت.
(3) في (ح): «هذا» بدل «هذان».
(4) في (ح): «وأولدهذا».
(5) قوله: «والموحدة» سقط من (ح).(7/96)
%(4/1596)%
وقوله: «والله لا أجهدك اليوم شيئًا أخذته لله» كذا أكثر (1) الرواة، ومعناه: =(7/118)=@ لا أبلغ منك جهدًا، ومشقة في صنعك شيئًا أخذته لله. قال صاحب «الأفعال ا: جهدته وأجهدته: بلغت مشقته، وقيل: معنى لا أنجهدك: لا أقلل (2) فيما تاخذ، والجهد: ما يعيش به المقل، ومنه: ا والذيئ لا مجدون إلا جفدقى » أالتوبة: 79،. وعند ابن ماهان: لا أحمدك، بالحاء المهملة والميم، من الحمد، وكذا رواه البخارقي، ومعناه: لا أحمدك في أخذ شي » أو إبقائه لطيب نفسي بما تاخذ (3) ، كما قال المرفش:
ليسى على طول الحياة ندم (4) . .. .. .. .. .. .. .. .. .. ..
أي: ليى على فوت الحياة ندم. وقوله: «إنما ورثت هذا كابرا عن كابر» أي: كبيرا عن كبير، يعني: أنه ورث ذلك المال عن أجداده الكبراء، نحمله بخله على نسيان مثة الله تعالى، وعلى جخد نعمه، وعلى الكذب، ثم أورثه ذلك سخط الله الدائم، وكل ذلك بشؤم البخل. واعتبر بحال الأعمى؟ لئا اعترف بنعمة الله تعالى عليه، وشكره عليها، وسمحت نفسه بها ثبتها الله عليه، وشكر فعله، ورضي عنه، فحصل على الرتب الفاخرة، وجمعت له نعم الدنيا والاخرة .=(7/119)=@ %(4/1597)%
وقوله عليه السلام: «إن الله يحعت العبد التقي الغني الخفي » جمهور الرواة قيدوه الخفي - بالخاء المعجمة - من الخفاء، والتقي: المتقي لله تعالى، وقد بتنا التقوى فيما تقدم. والغني: يعني به: من استغنى بالثه، ورضي بما قسم الله له، وقيل: يعني به غنى النفس. والخفي: يعني به الخامل الذي لا يريد العلؤ فيها ولا الظهور في &(7/97)&$
__________
(1) في (ح): «لأكثر».
(2) في (ح): «لا أقلل لك».
(3) في (ح): «تأخذه».
(4) في (ح): «من ندم».(7/97)
مناصبها، وهذا نحو ما قال في حديث آخر في صفة ولف الله: «وكان غامضا في الناس »1) أي: لا يعرف موضعه ولا يؤبه له، وقد رواه الدولابي (1) : الحفي بالحاء المهملة، فقيل: معناه العالم، من قوله: اكائك حض غنها » أ الأعراف: 1187، وقيل: المتحفي باهله، الوصول لهم بماله، الشاعي في حوائجهم. وقوله: ما لنا طعام ناكله إلا ورق الحنلة، هذا السمر) كذا وقع عند عامة الرواة. وعند الطبري، والتميمي: وهذا السمر بواو، ووقع في البخاري: إلا الحبلة، وورق السمر (2) ، وكذلك ذكره أبو عبيد. %(4/1598)% الحبلة بضم الحاء وسكون الباء: ثمر العضاه. وقال ابن الأعرابي: ثمر =(7/120)=@ السمر شبه (3) اللوبياء، ورواية البخاري: أحسنها؛ لأنَّه بين فيها أنهم يأكلون ثمر العضاه، وورق الشجر (4) السمر. وقوله: ثم أصبحت بنو أسد تعزرني (5) على الدين ) هو بالزاي أولى وبالراء ثانية من التعزير، واختلف في معناه هنا، نقال الهروي: معناه (6) : توقفني عليه (7) ، والتعزير: التوقيف على الأحكام، والفرائض. وقال الطبرقي: أي: تقومني وتعلمني، ومنه تعزير السلطان ؟ أي: تقويمه بالتاديب، وقال الحربي: التعزير بمعنى اللوم والعثب. قلت: هذه أتوال الشارحين لهذه الكلمة، وفيها كئها بغذ عن معنى الحديث، &(7/98)&$
__________
(1) في (ح): «الدلابي» كذا رسمت.
(2) في (ح): «ورق» بلا واو.
(3) في (ح): «يشبه».
(4) في (ح): «شجر» بدل «الشحر».
(5) في (ح): «تعززني».
(6) في (ح): «في معناه».
(7) قوله: «عليه» سقط من (ح).(7/98)
والذي يظهر لي: أن الأليق بمعناه: أن التعزير معناه الإعظام والإكبار، كما قال تعالى: ا وشروه، أالفتح: 9،، أي: تعفموه وتبروه، فيكون معناه على هذا: أنه وصف ما كانت حالتهم عليه في أول أمرهم من شدة الحال، وصعوبة العيش، والجهد مع النبي رز، ثم إنهم اتسعت عليهم الدنيا، وفتحت عليهم الفتوحات، ورلوا الولايات، فعبهمهم الناس لشهرة فضلهم، ودينهم، وكانه كره تعظيم الناس له، وخصق بني أسد بالذكر لأنهم أفرطوا في تعظيمه، والثه تعالى أعلم. وهذا الذي ذكرناه هو الذي صزح به عتبة بن غزوان في الحديث الاتي بعد هذا، حيث قال: لقد رايتني مع رسول الله سابع سبعة، وما لنا طعائم إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك، فا،لزرت بنصفها، واتزر سعذ بنصفها، فما أصبح منا اليوم أحذ إلا أصبح أميرا على =(7/121)=@ مصر من الأمصار، له اثي أعوذ بالثه أن ممون في نفسي عظيما، وعند الله صغيراء ا). فيحتمل أن يكون هذا هو %(4/1599)% الذي عنى به سعد بن أبي وقاص، والثه تعالى أعلم. وأما ما فشرت به المشايخ ذلك الكلام فيقتضي تفسيرهم: أن بني أسد كانوا عتبوا عليه أمورا من الدين، وعابوها عليه، فرذ عليهم قولهم. ويعضد &(7/99)&$(7/99)
هذا (1) ما ذكره البخاري (2) من حديث جابر بن سمرة، قال: شكا أهل الكوفة سعدا حتى ذكروا: أنه لا يحسن أن يصلي، فاستحضره عمر فقال: إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي، فقال: أما أنا فافي كنت أصئي بهم صلاة رسول الله لكض، وفيه: ولم ياغ مسجدا إلا سال عنه، ويثنون معروفا، حتى دخل مسجدا لبني عبس، فقام رجل منهم، يقال له: أسامة بن تتادة، فقال: أما إذ نشدتنا، فإنَّ سعدا كان لا يسيز بالسرية، ولا يعدل في القضية. .. وذكر الحديث. (7) ومن باب: الزهد في الدنيا(3) (قوله: خطبنا عتبة بن غزوان -وكان أميرا على البصرة-) عتبة هذا مازني، وحليف لبني نوفل، قديم الإسلام. أسلم سابع سبعة كما (1) =(7/122)=@ قال. وهاجر &(7/100)&$
__________
(1) قوله: «هذا» سقط من (ح).(7/100)
وشهد المشاهد (1) مع رسول الله كظ بدرا والمشاهد كلها، أمره عمر - رضي الله عنه - على جيش، فتونجه إلى العراق، ففتح الأبتة والبصرة ووليها (2) ، وبنى مسجدها الأعظم بالقصب، ثم انه حخ فاستعفى عمر عن ولاية البصرة، فلم يعفه فقال: اللهم لا ترذني إليها، فسقط عن راحلته فمات سنة سبع عشرة، وهو منصرف من مكة إلى البصرة، بموضع يقال له: معذر ببني سليم (3) ، قاله ابن سعد. ويقال: مات بالربذة، قاله المدائني. %(4/1600)% وقوله: إن الدنيا قد آذنت بصزم ) أي: أَشعرت وأَعلمت بزوال وانقطاع. وقوله: ووئت حشاء) أي: سريعة خفيفة، ومنه قيل للقطاة: حذاء، أي: منقطعة الذنب قصيرته، ويقال: حمار أحذ؟ إذا كان قصير الذنب، حكاه أبو عبيد، وهذا مثل كانه قال: إن الدنيا قد (4) انقطعت مسرعة. وقوله: رلم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصاتجها صاحبها) الضبابة: بضم الصاد: البقية اليسيرة، والضبابة - بالفتح -: رقة الشوق، ولطيف المحبة، ويتصاتجها: يروم صتها على قئة الماء رضغفه. وقوله: فانتقلرا بخير ما بحضرتكم ) أي: ارتحلوا إلى الآخرة بخير ما يحضركم من أعمال البز. جعل الخير المتمتهن منه كالحاضر. رقوله: فإنَّه قد ذكر لنا أن الحجر لينقى(ا) من شفير جهنم. .. الحديث إلى اخره ) يعني: أنه ذكر له عن رسول الله ت ذلك؛لأنَّ مثل هذا لا يغرف إلا من جهة النبي ظ فكانه لم يسمغه هو من النبف قي، سمعه من غيره، فسكت عنه إما (ا) =(7/123)=@ في صحيح مسلم والتلخيص: ينقى.
نسيانا، لاما لأمر يسوخ له ذلك. ريحتمل أن يكون سمعه هو من النبف لكض وسكت عن رفعه للعلم بذلك. ونسفير جهنم: حزفها الأعلى. وحرف كل شيء أعلاه وشفيره. ومنه: شفير العين. ومصراع الباب: ما بين عضادتيه، وجمعه مصاريع، وهو ما يسده الغلق. &(7/101)&$
__________
(1) قوله: «المشاهد» سقط من (ح).
(2) في (ح): «وولها» كذا رسمت.
(3) من قوله: «سنة سبع عشرة ...» إلى هنا سقط من (ح).
(4) في (ح): يشبه «فقد».(7/101)
وقوله: وهو كظيظ من الزحام ) أي: ممتلى ة منه. يقال: كبهه الشراب كظيظا. وترحمث أشداقنا: أي: تقرحت؟ أي: انجرحت من خشونة الورق. والبردة: %(4/1601)% الشملة، والعرب تس!مي الكساء الذي يلتحف به بردة، والبرد - بغير تاء -: نوغ من نوع ثياب اليمن الموشية. وقوله؟ وإنها لم تكن نبوة قط إلا تناسخت، حتى يكون اخرها(ا) ملكل يعني: أن زمان النبؤ يكون الناس فيه يعملون بالشرع، ويقومون بالحق، ويزهدون في الدنيا، ويرغبون في الاخرة، ثم إنه بعد انقراضهم، وانقراض خلفائهم يتغير الحال، وينعكس الأمر، ثم لا يزال الأمر في تناتص، وإدبار إلى أن لا يبقى على (ا) =(7/124)=@ في التلخيص ومسلم: عاقبتها .
الأرض من يقول: الله ! الله ! فيرتفع ما كان الصدر الاؤل علية، وهذا هو المعبر عنه هنا: بالتناسخ ؟ فإنَّ النسخ: هو الرفع والازالة، وهذا الحديث نحو قوله عليه السلام: «ما من نبئ بعثه الله تعالى في أفة قبلي (1) إلا كان له من أضته حواريون وأصحاب ياخذون بسنته، ويقتدون بامره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. .. الحديث». &(7/102)&$
__________
(1) قوله: «قبلي» سقط من (ح).(7/102)
وقوله: حتى يكون اخر عاقبتها ملكل يعني أنهم يعدلون عن سنن النبيين (2) وخلفائهم إلى الاقبال على الدنيا واتباع الهوى. وهذه أحوال أكثر الملوك، فأمَّا من سلك سبيل الصدر الأول الذى هو زمان النبوة والخلافة من العدل، واتباع الحق، وا*عراض عن الدنيا، فهو من خلفاء الأنبياء، وإن تاخر زمانه كعمر بن عبد العزيز إذ لم يكن بعد الخلفاء من سلك سبيلهم، واقتدى بهم في غالب أحوالهم غيره - رضي الله عنه -، لا جرم هو معدوذ منهم، وداخل في زمرتهم إن شاء الله تعالى. %(4/1602)% أ(8) باب: ما الدنيا في الاخرة إلا كما يجعل الأصبع في اليم (1) أ(3) و(قرله: «ما الدنيا في الاخرة إلا مبل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظز بماذا ترجع » 0 اليتم: البحر. وهذا مثل لحقارة الدنيا وقئتها، وهو نحو قوله (ا) =(7/125)=@ رراه مسلم (50)0 (2) في (ز): النبوة. (3) هذا العنوان لم يذكره المؤلف - رحمه الله - في المفهم، واصتدركناه من التلخيص .
تعالى: {قل متاع الدنيا قليل} أ النساء: 77، أي: كذ شيء يئمتع به في الدنيا من أولها إلى آخرها قليل، إذا (2) لا بقاء له ولا صفو فيه، وهذا بالنسبة إلى نفسها، وأما بالنسبة إلى الاخرة، فلا خطر، ولا قدر للدنيا، وهذا هو المقصود بتمثيل هذا الحديث حيث قال: «فلينظر بماذا يرجع» ووجه هذا التمثيل أن القدر الذي يتعئق بالإصبع من ماء البحر لا قذر له ولا خطر، وكذلك الانيا بالنسبة إلى الاخرة. &(7/103)&$
__________
(1) من قوله: «باب: ما الدنيا...» إلى هنا سقط من (ح).
(2) في (ح): «إذ».(7/103)
وقوله: «مثل المؤمن كخامة الزرع» الخامة هي: النضة الرطبة من النبات. وأنشدوا: إنَّما نخن مثل خامة زرغ فمتى يان يات محتصده وتفئعها الرياح: أي: تردها من جانب إلى جانب، وقد بئيئ ذلك بقوله: تصرعها مزة وتعدلها أخرى، وصوابه: تفيئها؟ بضم التاء وكسر الفاء، وتخفيف الياء والهمز؟ فإنَّه يقال: أفات الشء: رجعته. أو فاء هو في نفسه: رجع، ومن فتح الفاء %(4/1603)% وشدد الياء فقد أخطا؛ لأنَّه إنما يقال: فيات الشجرة، يعني (1) إذا ظهر فيئها لا غير. والأززة: شجرة الصنوبر، وسميت بذلك لثبوتها، يقال: شجرة أرزة؟ =(7/126)=@
من طعام بز ثلاث ليال تباعا حتى قبض .
أي: ثابتة في الأرض، وقد أبرزت تارز، ويقال للناقة القوية: أرزة. والمرزية على أصلها: القائمة الراسخة، وهذا مثل للغالب من المؤمنين والغالب من الكافرين، وحكمة الله في ابتلاء المؤمنين في الدنيا أن يهديهم فيها، ويختصهم (2) من تبعاتها، » وأن توثراجورهم في الاخرة، وعكس ذلك في الكفاروالمنافقين. ابئ ش وفاندة هذا الحديث احتساب المصائب، والصبر عليها، وانتظار الثواب عليها، والخوف من عدم المصانب وبسط الدنيا. &(7/104)&$
__________
(1) في (ح): يشبه «تعني».
(2) في (ح): «ويخليهم».(7/104)
%(4/1604)% (9 و10) ومن باب: شذة ميش النبي في لحييظ(1) الزف: خشبة ترفع عن الأرض يلقى عليها ما يرفع، قاله الحربي، وقال غيره: هي الغرفة. والشطر: النصف، وهو هنا نصف وسق شعير. والذقل: أردأ =(7/127)=@ (1) ضرح المزلف - رحمه الهه - تحت هذا العنوان: هذا الباب، والباب الذي يليه، وهو باب: سبق فقراء المهاجرين إلى الجنة، رمن النقير الئابق .
التمر، وقد أدقل النخل: إذا ردىء. وقيل: هو جنس من النخل له تمر، وهو حمث اء. ى له نواة مدزرة مقدار الجوزة يشبه نوى التمر، فاذا يبس صار عليه مثل الليفة (1) . ،لهي .-ر وأحاديث هذا %(4/1605)% الباب ككها، وإن اختلفت ألفاظها تدل على: أن النبي ب محظ لم يكن =(7/128)=@ يديم ال!بع، ولا الترفه في العيش، لا هو ولا من حوته بيوته، ولا آله. بل: كانوا ياكلون ما خشن من الماكل العلق، ويقتصرون منه على ما يسذ الزمق، ضعرضين عن متاع الدنيا، مؤثرين ما يبقى على ما يفنى، ثم لم يزل كذلك حالهم مع إقبال الدنيا عليهم، واجتماعها بحذافيرها لديهم إلى أن وصلوا إلى ما طلبوا، وظفروا بما فيه رغبوا .=(7/129)=@ %(4/1606)%
وقوله عليه السلام: «اللهم اجعل رزق آل محئد توتا» أي: كفافا، كما جاء في الرواية الأخرى، ولمجني به: ما يقوت الأبدان ويكفي (2) عن الحاجة والفاقة، وهذا &(7/105)&$
__________
(1) في (ح): «يشبه الليفية».
(2) في (ح): «ويكف».(7/105)
الحديث حجة لمن قال: إن الكفاف أفضل من الغنى والفقر، وقد تقذمت هذه المسالة في الزكاة. ووجه التمسك بهذا الحديث: أن النبي لكسييه إنما يدعو لنفسه بافضل الأحوال، وأيضًا: فإنَّ الكفاف حالة متوسطة بين الغنى والفقر، وقد قال عليه السلام: «خير الأمور أوساطها»ا). وأيضًا: فإنَّ هذه الحال سليمة من آفات الغنى، وافات الفقر المدقع، فكانت أفضل منها ثم إن حالة صاحب الكفاف حالة الفقير إذ لا يترفه في طئبات الدنيا، ولا في زهرتها، فكانت حاله إلى الفقر أقرب، فقد حصل له ما حصل للفقير من الثواب على الصبر، وكفي مرارته وآفاته. لا يقال: فقد كانت حالة رسول الله ! الفقر الشديد المدقع، كما دتت عليه أحاديث =(7/130)=@
هذا الباب وغيرها (1) ، ألا ترى أنه يطوي الأيام، ولا يشبع يومين متواليين (2) ، ويشد على بطنه الحجر من الجوع والحجرين، ولم يكن له سوى ثوب واحد، فاذا غسله انتظره إلى أن يجف، وربما خرج، وفيه بقع الماء، ومات ودرعه مرهونة في شعير لأهله، ولم يخئف دينارا ولا درهما، ولا شاة، ولا بعيرا، ولا حالة في الفقر أشذ من هذه، وعلى هذا نلم يكن حاله الكفاف، بل: الفقر. فلم يجنه الله تعالى في الكفاف لعلمه: بأن الفقر أفضل له؛لأنَّا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع له حال الفقر والغنى والكفاف، فكانت أول أحواله الفقر مبالغة في مجاهدة النفس. وفطامها عن مالوفات عاداتها، فلما حصلت له ملكة ملكها» وتخثص له خلاصة سبكها، خئره الله تعالى في أن يجعل له جبال تهامة ذهبا تسير معه حيث سار، فلم يلتفت إليها، رجاءته فتوحات الدنيا فلم يعزج عليها، بل: صرفها وانصرف عنها، حتى قال: «ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود %(4/1607)% فيكم »ا). وهذه حالة الغني الشاكر، ثم اقتصر من ذلك كله على قدر ما يرد &(7/106)&$
__________
(1) في (ح): «هذه الأحاديث وغيرها».
(2) في (ح): «متوالين».(7/106)
ضروراته، وضرورات عياله، ويرذ حاجتهم، فاقتنى أرضه بخيبر، وكان ياخذ منها قوت عياله، ويذخره لهم سنة، فاندفع عنه الفقر المدقع، وحصل الكفاف الذي دعا به، ثم إنه لما احتضر (1) ، وتف تلك الأرض على أهله ليدوم لهم ذلك الكفاف الذي ارتضاه لنفسه، ولتظهر إجابة دعوته حتى في أهله من بعده، وعلى ذلك المنهج نهج الخلفاء الراشدون على ما تدل عليه سيرهم وأخبارهم. وعلى هذا فاهل الكفاف هم صدر =(7/131)=@ كتيبة (2) الفقراء الداخلين الجثة قبل الأغنياء بخمسمئة عام؛ لأنَّهم وسطهم، والوسط: العدل. وليسوا من الأغنياء كما قررناه فاقتضى ذلك ما ذكرناه، والله تعالى أعلم. و (قول الرجل لعبد الله بن عمرو: ألسنا من الفقراء؟) سؤال تقرير (3) ، وكانه سال شيئًا من الفيء الذي قال الله تعالى فيه: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا}وكان ذلك الرجل قال: ألسنا من الفقراء الذين يستحفون من الفيء سهما بنمق القران ؟ وكانه أنجز له مع ذلك الالتفات (4) إلى الفقراء المهاجرين (5) ، رتبجح به، فاجابه عبد الله بما يكسر &(7/107)&$
__________
(1) في (ح): «اختير».
(2) في (ح): يشبه «كتيبته».
(3) ي (ح): «تقدير».
(4) في (ح): «إلتفات».
(5) في (ح): «المهاجري».(7/107)
ذلك منه، وبزيل افة الالتفات إلى الأعمال بما يقتض: أن الأحق باسم الفقر المهاجرين (1) من كان متفردا (2) عن الأهل والمسكن، كما كان حال أهل الضفة في أول الأمر. وصار معنى هذا الحديث إلى نحو قوله عليه السلام: «ليس الشديد بالضرعة»ا) و (ليس المسكين بالطواف »2، فكان عبد الله قال %(4/1608)% له: ليس الفقير المهاجرين (3) الذي تكون له زوجة ومسكن، وإنما الفقير المتجزد عن ذلك، ولم يرذ أن من كان فقيرا مهاجريا، له زوجة ومسكن أنه (4) لا يستحق من الفيء شيئا؛ لأنَّ صاحب العيال الفقير أشذ فاتة وبلاة؟ ولأنه خلاف (5) ما وقع لهم، فإنَّ النبي ط كان يغطيهم بحسب فاتتهم وحاجتهم، ويفضمل في العطاء من له عياذ على من ليس كذلك، وكذلك فعل الخليفتان بغده، على ما هو المعلوم من حالهما، وإن حمل قول عبد الله على ظاهره لزم عليه: أن من كان له زوجة ومسكن لا غير ذلك لم يعذ مني الفقراء المهاجرين الذين وصفهم الة تعالى، والذين يسبقون إلى الجنة، فيلزم ألا يكون أبوبكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علئ من الفقراء من الشابقين إلى الجنة، وذلك باطل قطعا. =(7/132)=@
وقوله: أنت من الملوك ) لما أخبره أن له خادما على جهة الإغياء والمبالنة؟ لا أنه ألحقه بالملوك حقيقة، ولا بالأغنياء، ولا سلبه ذلك اسم الفقراء؟ إذ لم يكن له غير ما ذكر، والهه تعالى أعلم. وقوله: جاء ثلاثة نفر إلى عبد الله بن عمرو) هذه قضية أخرى غير القضية &(7/108)&$
__________
(1) في (ح): «المهاجري».
(2) في (ح): «متجردا».
(3) في (ح): «المهاجري».
(4) في (ح): «أن».
(5) قوله: «خلاف» سقط من (ح).(7/108)
المتقدمة، وإن اثفق راوياهما، فإنَّهما من رواية أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبدالله بن عمرو بن العاص (1) ؛ لأنَّ هؤلاء ثلاثة وذلك واحد، ولأن مقصوده من هذا الحديث غير مقصوده من الأول، وذلك أن هؤلاء الثلاثة شكوا إليه شدة (2) فاقتهم، وأنهم لا شيء لهم، نخثرهم بين الضبر على ما هنم فيه حتى يلقوا الله، فيحصلون على ما وعدهم الله به على لسان نبيه من السبق إلى الجنة قبل الناس كئهم، وبين أن يرفع أمرهم إلى السلطان، فيدفع إليهم (3) ما يننيهم، وبين أن يواسيهم من ماله، فاختار القوم البقاء على الحالة الأولى، والصبر على مضغى الفقر وشذته. ويفهم من هذا الحديث: أن مذهب عبد الله، وهؤلاء الثلاثة: أن الفقر المدقع، والتجزد عن المكتسبات كئها أفضل، وقد بثنا آنفا: أن المسالة مسالة خلاف، وأن الكفات أفضل على ماذكرناه انفا. &(7/109)&$
__________
(1) في (ح): «العاصي».
(2) قوله: «شدة» مكرر في (ح).
(3) في (ح): «لهم».(7/109)
%(4/1609)% وقوله ت: «إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة =(7/123)=@ اد باربعين خريفا» هذا الحديث اختلفت ألفاظ الرواة فيه عن النبف جمظ فروى عبد الله ابن عمرو الحديث المتقذم، و (1) روى الترمذي من حديث أبي سعيد الخدرئ قال: قال رسول الله ت: «فقراء المهاجرين يدخلون الجنة تبل أغمنيائهم نجمسمئة عام »ا). قال: هذا حديست حسن غريب من هذا الوجه. ويروى (2) أيضًا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ت: «يدخل الفقراء الجنة قبل أغنيانهم نجمسمنة عام، نصف يوم »2)، قال: هذا حديث حسن صحيح. وفي طريق أخرى: «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم، وهو خمسمئة عام »3). وقال: حديث حسن صحيح، وروي أيضًا عن جابربن عبدالله أن رسول الله ت قال: «يدخل فقراء المسلمين الجنة (3) قبل أغنيائهم باربعين خريفا»،). قال: هذا حديث حسن صحيح، فاختلفت هذه الأحاديث في أئ الفقراء هم الشابقون، وفي مقدار المذة التي بها يسبقون، فهذان موضعان، ويرتفع الخلاف عن الموضع الأرل بأن يرذ مطلق حديث أبي هريرة إلى مقتد روايته الأخرى، ورواية جابر، فيعني بالفقراء: فقراء المسلمين، وحينئذ يكون حديث عبد الله بن عمرو، وحديث أبي سعيد مخصوصا بفقراء المهاجرين، &(7/110)&$
__________
(1) في (ح): يشبه «عن» بدل «و».
(2) في (ح): «وروي».
(3) قوله: «الجنة» سقط من (ح).(7/110)
وحديث أبي هريرة، وجابر يعتم جميع نقراء قرون المسلمين، فيدخل الجنة فقراء كل قرن تبل أغنيائهم بالمقدار المذكور، وهذه طريقة حسنة، ونزيدها وضوحا بما =(7/134)=@ قد صح عنه بر أنه قال: «أصحاب الجنة محبوسون على قنطرة بين الجنة والنار، يسالون عن فضول أموال كانت بايديهم »ا)، وهذا واضح. وأما الموضع الثاني فقد تقدَّم: أن الخريف هو العام هنا، وأصل الخريف: فصل من فصول %(4/1610)% السنة، وهو الفصل الذي تخترف فيه الثمار، أي: تجتنى (1) ، فسئي العام بذلك، ويمكن الجمع بين الأربعين، حديث (2) الخمسمئة عام؟ بأن سياق الفقراء يدخلون (2) قبل ستاق الأغنياء باربعين عاما، وغير سثاق الأغنياء بخمسمئة عام ؟ إذ في كل صنف من الفريقين سئاق، والته أعلم. وهذه الأحاديث: حجَّة واضحة على تفضيل الفقر على الغنى، ويتقرر ذلك من وجهين: أحدهما: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال هذا لجبر كمنعر قلوب الفقراء، ويهؤن عليهم ما يجدونه من مرارة الفقر، وشدائده ؟ بمزيرله تحصل لهم في الدار الاخرة على الأغنياء ة عوضا لهم عما حرموه من الذنيا، وصنرهم، ورضاهم بذلك. وثانيهما: أن السبق إلى الجنة ونعيمها أولى من التاخر عنها بالقحرورة، فهو أشل. وثالثها: أن السبق إلى الفوز من أهوال يوم القيامة، والضراط أولى من المقام في تلك الأهوال بالضرورة، فالشابق إلى ذلك أفضل بالضرورة، وحيننذ لا يلتفت لقول من قال: إن السبق إلى الجنة لا يدلّ على أفضلية السابق. وزخرف ذلك: بأن النبي ف أفضل الخليقة، رمع ذلك فدخوله الجنة متاخر عن دخول هؤلاء الفقراء؛ لأنَّهم يدخلون تبله، وهو في أرض القيامة؟ تارة عند الميزان ، =(7/135)=@
وتارة عند الضراط، وتارة عند الحوض، كما قد أخبر عن ذلك فيما صح عنه، وهذا قوذ باطل صدر عمن هو بما ذكرناه وبالنقل جاهل، فكانه لم يسمغ ما تقدَّم في كتاب الإيمان من قوله عليه السلام: «أنا أؤل من يقرع باب الجنة، فيقول الخازن: من &(7/111)&$
__________
(1) في (ح): «تجتنى فيه».
(2) في (ح): «وحديث».(7/111)
أنت ؟ فاقول: أنا محمد. نيقول الخازن: بك أمزت لا أفتح لأحد قبلك »ا). وفي حديث أنه عليه السلام قال: «أنا أول من يدخل الجنة، ومعي فقراء المهاجرين »2). وعلى هذا فيدخل الجنة، ويتسثم ما أعذ له فيها، ويبوصىء الفقراء منازلهم، ثم يرجع إلى أرض القيامة ليخلص أمته بمقتض ما جعل الله في قلبه من الحنو (1) على أمته، والشفقة عليهم، والزأفة بهم، نيلازمهم في أوقات شدائدهم، %(4/1611)% ولمجمعى بمكنه في نجاتهم، فيحضرهم (2) عند وزن أعمالهم، ولمجمقيهم عند ظمئهم، ويدعو لهم بالسلامة عند جوم زهم، ويشفع لمن دخل النار منهم، وهو مع ذلك كئه في أعلى نعيم الجنة الذي هو غاية القزب من الحق، والجاه الذي لم ينله أحذ غيره من الخلق، ولذة النظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه الحكيم بالطف خطاب، وممرم تكليم، كيف لا؟ وهو يسمع: «يا محمدأ قل يسمع (3) لك، سل تنط، اشفغ تشفع، فيقول: أمتي ! أمتي ! أمتي أ فيقال: انطلق فادخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن »3،. وهذه خطوة (4) لا تتسع لها العبارات، ولا تحيط بها الإشارات حشرنا الله في زمرته، ولا خثبنا من شفاعته. قال القاضي أبو الفضل: ويحتمل أن هؤلاء السابقين إلى الجنة يتننمون في أفنيتها وظلالها، ويتلذذون بما هم فيه إلى أن يدخل محمد لكهغ بعد تمام شفاعته، ثم يدخلونها معه على قدر منازلهم وسبقهم، والثه تعالى أعلم .=(7/136)=@
قلت: وهذا لا يحتاج إلى تقديره؛لأنَّ الذي هو فيه من النعيم بما ذكرناه أعلى وأشرف مما هم فيه، فلا يكون سبقهم لأذون النعيمين أشرف ممن سبق إلى أعظمها، وهذا واضح .&(7/112)&$
__________
(1) في (ح): «الخف» بل «الحنو» كذا رسمت.
(2) في (ح): «ويحضرهم».
(3) في (ح): «تسمع».
(4) في (ح): «حظوة».(7/112)
%(4/1612)%
(11 و 12 ر 3 ا) ومن باب: كرامة من قنع بالكفاف، والاجتهاد (1) في العبادة وفي التواضع (1 ) الفلاة من الأرض: هي القفر. والحديقة: البستان، وسميث بذلك؛لأنَّها أخدق بها حاجز. قالوا: وأصله كل ما أحاط به البناء. والحديقة أيضًا: القطعة من النخل. والحزة: أرض ذات حجارة سود ؟ كانها أحرقت بالنار. وال!رجة: مسيل الماء، وهي بفتح الشين، وسكون الراء، وتجمع: شراج وشروج. ومن &(7/113)&$
__________
(1) في (ح): «وفي الاجتهاد».(7/113)
قال: شرجة -بفتح الراء - فقد أخطا المعررف من اللغة. واستوعبت: جمعث. فتتبع الماء؟ أي: تبعه. وقوله: تنخى ذلك السحاب )؟ أي: اعتمد وقصد. والنحو في أصله: هو القصد. وفى هذا الحديث دليل على صحة القول بكرامات الأولياء، وأن الولي قد =(7/137)=@ -11 (ا) شرح المصنف تحت هذا العنوان ما أشكل في حديث هذا الباب، وأحاديث الباب الذي يليه بعنوان: باب: الاجتهاد في العبادة، والذي يليه، وهو بعنوان: باب: في ا لتوا ضع.
يكرن له مال، وضيعة، ولا يناقضه قوله ت: «لا تتخذوا الضيعة فتركنوا إلى الدنيا» %(4/1613)% ا) لما قدمنا من أن المقصود بالنهي إنما هو: من اتخذها مستكثرا، ومتنعما، ومتمتعا بزهرة الذنيا، لما يخاف عليه من الميل إلى الدنيا، والركون إليها، وأما من اتخذها معاشم أ يصون بها دينه وعياله، فاتخاذها بهذه النية من أنضل الأعمال. وهي من أفضل الاموال. =(7/138)=@
*تنبيه: من =(7/139)=@ إلى =(7/141)=@ غير موجود صفحاتهم (جمال)
* تنبيه: نسخة (هاني الحاج) صفحة (115، 116) غير موجودين بالورد (جمال)
* تنبيه: نسخة (التازي) صفحة (1614، 1615) غير موجودين بالورد (جمال)
وقولهم للنبي لكض: أتكئف هذا؟) أي: أتتكلف فنله، وتتحقل مشفته ؟ وهذا أخرجه منهم ظن أنه إنما يعبد الله تعالى خوفا من الذوب، وطلبًا للمغفرة، &(7/114)&$(7/114)
********************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************ء بصالح ما عمل من الأعمال فريب حديث النار: الطوفان هنا: المطر الكثير. وأووا إلى غار: أي: انضثوا، وقد تقدَّم أنه يمه ربفصر. فانحطت: نزلت. فاطبقت عليهم: أي: صارت على باب النار كالطبق، وأرعى عليهم: أي أرعى الماشية وأكتسب بها لأجل العيال والأبوين. وناى بي الشجر: أى: بعد عليه ابتناء الشجر الذي رعاه بماشيته. والحلاب: إناء يحلب فيه، وهو المحلب أيضًا، وقد يكون اللبن. ويتضاغون: يضخون من الجوع، والضناء ممدرد، مضوم الأول، صوت الذتة والناتة. والدأب: الحال اللازمة، والعادة المتكررة. وافرج: افتح. والفر أصلح للداعي، وقد يؤخره لأنه سبحانه يحعبئ استماع دعائه، ودوام تضزعه، فتكثر أجوره حتى يكون ذلك أعظم وأفضل من عين المدعو به لو قضي له، وقد قال ت: «ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث: إما أن يستجاب له، راما أن يذخر له، راما أن يكفر عنه »1)، ثم بعد هذا كله ناجابة الدعاء - وإن وردت في مواضع من الشرع مطلقة - في مقين دة بمشيئته، كما قال تعالى: ا فينهشف ماتذعون ،لران شإ، أ الأنعام: 141. ( 1 ) رواه الترمذي (3568) .
فلم ات حتى امسيت، فوجدتهما قد ناما، قحلبت كما حنت احلب، لهجتت
(21) ومن باب: الدعاثلاثة اصع، ويقال: بفتح الراء، وهو الأفصح، وقال ابن دريد: ويقال بسكونها، وقد أنكره غيره، وفيه أبواب من الفقه لا تخفى. أ(22) ومن باب: فضل الدوام على الذكر،(1) قول حنظلة الأسيدي: هو بتخفيف الياء منسوب إلى أسيد، قيل (2) من بني تميم. ومن رواه الأسدي فقد أخطا، وكان من كثاب رسول الله جمين. وقوله: نافق حنظلة). إنكار منه على نفسه لما وجد منها في خلوتها خلاف ما يظهر منها بحضرة النب!! فخاف أن يكون ذلك من أنواع الئفاق، وأراد من نفسه أن يستديم تلك الحالة التي كان يجدها عند موعظة النبي ب سيئي ولا يشتغل عنهخوف(7/115)
كتاب ذكر الموت
قوله عليه السلام: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله»؛ أي استصحبوا الأعمال الصالحة؛ والآداب الحسنة التي ترتجى العامل لها قبولها، ويتحقق ظنه =(7/142)=@ برحمة ربه عند فعلها، فإن رحمة الله قريب من المحسنين، وعقابه مخوف على العصاة والمذنبين، وقد قلنا: إن حعنمن الظن بنير عمل غزب، كما قال (1) صلى الله عليه وسلم: (الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله» (2) وهذا إنما %(4/1616)% يكون في حالة الصحة والقوة على العمل، وأما في حال حضور الموت فليس ذلك الوقت وقغا يقدر فيه على استعناف غير الفكر في سعة &(7/117)&$
__________
(1) في (ح): «كما قال النبي صلى الله عليه وسلم».
(2) رواه أحمد (4/124)، والترمذي (2459)، وابن ماجه (4260).(7/116)
رحمة الله تعالى، وعظيم فضله، وأنه: لا يتعاظمه ذنمب يغفره، وأنه الكريم الحليم، الغفور الشكور، المنعم الزحيم. ويذكر بآيات الرخص وأحاديثها لعل ذلك يقع بقلبه، فيحب الله تعالى، فيختم عليه بذلك، فيلقى الله تعالى، وهو محب لله تعالى، فيحشر في زمرة المحبين بعد أن كان في زمرة الخطائين، ويشهد له قوله: "يبعث كل عبد على ما مات عليه".
وقوله: "إذا أراد الله بقوم عذابًا أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على نياتهم" يعني: إذا أراد الله أخذ قوم بما ظهر فيهم من المنكر، أهلك =(7/143)=@ جميعهم بعذاب يرسله على جميعهم، صالحهم وطالحهم، فأما تعذيب الصالح فترفيع له في درجاته، وتكثير لثوابه، ثم يحشر على نيته الصالحة، فتتم له الصفقة الرابحة. وأما تعذيب الطالح، فانتقام منه، والمؤخر له أعظم من الواقع به، وهذا نحو مما قالته عائشة – رضي الله عنها -: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم إذا كثر الخبث" (1) . %(4/1617)%
(2 و3 و4 و5) ومن باب: من عرض مقعده عليه بعد الموت (2)
قوله: "إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي" هذا منه صلى الله عليه وسلم &(7/118)&$
__________
(1) رواه الترمذي (2185)، وهو في مسلم (2880) من حديث زينب بنت جحش.
(2) شرح المؤلف – رحمه الله – تحت هذا العنوان: هذا الباب والأبواب الثلاثة التالية له في التلخيص، وهي: باب: سؤال الملكين، وباب: في أرواح المؤمنين والكافرين، وباب: ما جاء أن الميت ليسمع ما يقال.(7/117)
أخبار عن غير الشهداء، فإنه قد تقدم أن رواحهم في حواصل طير تسرح في الجنة، وتأكل من ثمارها. وغير الشهداء: إما مؤمن، وإما غير مؤمن. فغير المؤمن: هو الكافر. فهذا يرى مقعده من النار غدوًا وعشيًا، وهذا هو المعني بقوله تعالى: {النار يعرضون عليها غدوًا وعشيًا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب}. [غافر: 46]. وأما المؤمن: فإما ألا يدخل النار، أو يدخلها بذنوبه. فالأول يرى =(7/144)=@ مقعده من الجنة لا يرى غيره رؤية خوف، وأما المؤمن المؤاخذ بذنوبه فله مقعدان: مقعد في النار زمن تعذيبه، ومقعد في الجنة بعد إخراجه، فهذا يقتضي أن يعرضا عليه بالغداة والعشي، إلا إن قلنا: إنه أراد بأهل الجنة كل من يدخلها كيف كان، فلا يحتاج إلى ذلك التفسير، والله أعلم. وهذا الحديث وما في معناه يدل على: أن الموت ليس بعدم، وإنما هو انتقال من حال إلى حال، ومفارقة الروح للبند، ويجوز أن يكون هذا العرض على الروح وحده، ويجوز أن يكون عليه مع جزء من البدن، والله أعلم بحقيقة ذلك. %(4/1618)% والغداة والعشي: إنما هما بالنسبة إلى الحي، لا بالنسبة إلى الميت، إذ لا يتصور في حقه شيء من ذلك. &(7/119)&$(7/118)
وقوله: "لولا ألا تدافنوا لدعوات الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه" قد تقدم القول على عذاب القبر، وأنه مما يجب الإيمان به، وقد صح =(7/145)=@ الإخبار عنه في الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة. ولا يلتفت لاستبعاد المبتدعة، فإن الإمكانات متسعة، والقدرة صالحة، وامتناع التدافن لو سمع عذاب القبر يحتمل أن يكون سببه: غلبة الخوف عند سماعه؛ فيغلب الخوف على الحي، فلا يقدر على قرب القبر للدفن، أو يهلك الحي عند سماعه، إذ لا يطاق سماع شيء من عذاب الله في هذه الدار، بل: بنفس سماعه يهلك السامع، لضعف هذه القوى في هذه الدار. ألا ترى أنه إذا سمع الناس صعقة الرعد القاصف، أو الزلازل الهائلة هلك كثير من الناس؟ أو أين صعقة الرعد من صيحة الذي تضربه الملائكة بمطارق الحديد، التي يسمعها كل من يليه إلا الثقلين؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ولو سمعها إنسان لصعق" (1) . =(7/146)=@ %(4/1619)%
وقوله: "إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم" هذا نص في أن الميت يسمع، وقد تقدم الكلام في هذا، وفي إنكار عائشة رضي - الله عنها – إياه علي ابن عمر في كتاب الجنائز.
وقوله: "فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار" أي: لو لم تؤمن، ولم تقم بحجتك، قد أبدلك الله تعالى به مقعدا من الجنة لما قمت بحجتك.
وقوله: "فيراهما جميعًا" يدل على أن رؤيته لهما حقيقة بالعين، وعلى &(7/120)&$
__________
(1) رواه أحمد (3/41 و58)، والبخاري (1314).(7/119)
هذا فيحيا الميت في قبره حياة محققة بحيث يرى، ويسمع، ويسأل، ويتكلم، وعلى هذا تدل أدلة الكتاب والسنة في غير ما موضع. والحكمة في أن الله تعالى يريه إياهما ليعلم قدر نعمة الله، فيما صرف عنه من عذاب جهنم، وفيما أوصل إليه من كرامة الجنة. %(4/1620)%
وقوله: "فيفسح له في قبره" أي: يوسع له فيه سبعون ذراعًا، فيحتمل البقاء على ظاهره، ويكون معناه: أنه ترفع الموانع عن بصره، فيبصر مما يجاوره مقدار سبعين ذراعًا، حتى لا تناله ظلمة القبر، ولا ضيقه، متى رد روحه فيه إليه. =(7/147)=@ ويحتمل أن يكون ذلك كله استعارة عن سعة رحمة الله تعالى له، وإكرامه إياه. والأول أولى، والله تعالى أعلم.
وقوله: "ويملأ عليه خضرًا" أي: نعمًا غضة ناعمة، وأصله من خضرة الشجر، والخضر – بكسر الضاد-: اسم جنس للنبات الرطب الأخضر.
وقوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} [إبراهيم: 27] أي: يثبتهم في هذه الدار على التوحيد والإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم &(7/121)&$(7/120)
حتى يميتهم عليه، وفي الآخرة عند المساءلة في القبر، كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو المقصود، وإن كان من قول البراء، فهذا =(7/148)=@ لا يقوله أحد من قبل نفسه ورأيه، فهو محمول على أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، وسكت البراء عن رفعه لعلم المخاطب بذلك، والله تعالى أعلم، وقد قيل عن البراء أنه قال: هما سؤال القبر وسؤال القيامة، يعني: يرشد المؤمن فيهما إلى الصواب، ويصرف الكافر عن الجواب. &(7/122)&$(7/121)
%(4/1621)%
وقوله: {ويضل الله الظالمين} [إبراهيم: 27] أي: يخذلهم عند السؤال، قاله قتادة.
وقوله: {ويفعل الله ما يشاء} [إبراهيم: 27] أي: لا حجر عليه فيما يفعل. فهدى من شاء، ومن شاء خذل.
وقوله: "صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه" الصلاة هنا: بمعنى &(7/123)&$(7/122)
الرحمة، وهذا يدل على: أن الروح كالساكن في المنزل، فهو عامره ومدبره. ويفيد أن الروح من قبيل الجواهر، وأنها داخلة في الجسد، وقد تكلمنا على الأرواح.
وقوله: "فينطلق به إلى ربه" أي: إلى كرامة ربه، أو إلى محل إكرام ربه =(7/149)=@ له. وآخر الأجل: هو يوم القيامة. والريطة: الملاءة التي ليست لفقين (1) . =(7/150)=@ %(4/1622)%
وقوله: "كيف يسمعون، وأنى يجيبون وقد جيفوا" هذا من عمر – رضي الله عنه – استبعاد على حكم ما جرت به العادة، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يسمعون كسمع %(4/1623)% الأحياء، فيجوز أن يكون ذلك منهم دائمًا، غير أنه منع الأحياء من إدراك ذلك من الميت، ويجوز أن يكون في بعض الأوقات. وقد تقدم استيفاء هذا المعنى في الجنائز. والرواية وصناديد قريش: ساداتها؛ واحدهم صنديد. والطوي: البئر المطوي، وقد سماها ي الرواية الأخرى قليبًا، وهي البئر غير المطوية، وهي: الركي أيضًا، وقد تسامح من أطلق على القليب طويًا. =(7/151)=@ &(7/124)&$
__________
(1) "اللفق": شقة من شقتي الملاءة.(7/123)
ومن باب: الحشر وكيفيته
الحشر: الجمع. ومنه قوله تعالى: {وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدًا} [الكهف: 147]. والغرل: جمع أغرل، وهو الأقلف، والغرلة والقلفة (1) : ما يقطعه ا لخاتن .%(4/1624)%
وقوله (2) : {كما بدأنا أول خلق نعيده} [الأنبياء: 104]. أي: يعيده (3) على خلقته الاولى لا ينقمر منها شيء.
وقوله: «ألا إن أول الناس (4) يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام» هذا، يدل على: أن الناس كلهم - الأنبياء وغيرهم - يحشرون عراة، كما قال في الحديث =(7/152)=@ المتقدم؛ وأن أهل السعادة يكسون من ثياب الجنة، ولا شك في أن من كسي من ثياب الجنة فقد لبس جبة تقيه مكاره الحشر وعرقه، وحر الشمس والنار، وغير ذلك، فظاهر (5) عمومه يقتضي: أن إبراهيم يكسى قبل نبئنا محمد صلى الله عليه وسلم فيجوز أن يكون هذا من خصاض إبراهيم، كما قد خص موسى - عليه السلام - بأن النبي صلى الله عليه وسلم يجده متعلقًا بساق العرش، مع أن النبي أول من تنشق عنه الأرض، ولا يلزم من هذا أن يكونا أفضل منه مطلقا، بل: هو أفضل من وافى القيامة، وسيد ولد ادم، كما دلننا عليه فيما تقدَّم، وبجوز أن يراد بالناس من عداه من الناس، فلم يدخل تحت خطاب نفسه، والله تعالى أعلم. وقد تقدَّم القول على قوله: «إنهم لم يزالوا مرتدين منذ فارقتهم». &(7/125)&$
__________
(1) في (ح): «الغلقة».
(2) في (ح): «قوله» بلا واو.
(3) قوله: «أي يعيده» سقط من (ح).
(4) في (ح): «القماش» بدل «الناس».
(5) في (ح): «وظاهر».(7/124)
%(4/1625)%
وقوله: «يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين وراهبين ،) الطرائق: الأحوال المختلفة، والفرق المتفزتة، رمنه قوله تعالى: {ذلك كنا طرائق قددا} [الجن: 11] أي: فرقا مختلفة. قال القاضي: هذا الحشر هو في الدنيا قبل قيام الشاعة، وهو آخر أشراطها، كما ذكره مسلم بعد هذا في آيات الساعة، قال فيه: ((وآخر ذلك نار تخرج من قعر عدن ترحل الناس))، وفي رواية: «تطرد الناس إلى =(7/153)=@ محشرهم» (1) . وفي حديث آخر: «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز» (2) . وبدل على: أنها قبل يوم القيامة قوله: (فتقيل معهم حيث قالوا، وتمسي معهم حيث أمسؤا، وتصبح معهم حيث أصبحوا» قال: وفي بعض الررايات في غير مسلم: افاذا سمعتم بها فاخرجوا إلى الشام » كانه أمر بسبقها إليه قبل إزعاجها لهم. وقد قال الأزهرقي في قوله: {لأول الحشر} [الحشر: 2]، إن (3) الحشر الأول إلى الشام، إجلاء بني النضير من (4) بلادهم إلى الشام. &(7/126)&$
__________
(1) رواه مسلم (2901) (39 و40).
(2) رواه البخاري (7118)، ومسلم (2902) (42).
(3) في (ح): «إنه».
(4) في (ح): «عن».(7/125)
قلت: وعلى هذا فيكون (1) معنى راغبين في لقاء الله وفي ثوابه، وهؤلاء هم المؤمنون الذين وسموا باسم الإيمان. وراهبين: أي: خائفين، يعني بهم الكفار الذين وسموا باسم الكفر؛ وذلك إذا طبع على كل قلب بما فيه عند طلوع الشمس من مغربها، واذا خرجت دابة الأرض فنفخت في وجوه الناس ما تسم في وجه المؤمن: مؤمن، وفي وجه الكافر: كافر، على ما يأتي إن شاء الله تعالى. =(7/154)=@ %(4/1626)%
ومن باب: دنو الشمس من الخلائق يوم القيامة والمحاسبة (2)
قوله: «تدنى الشمس يوم القيامة» أي: تقرب. والميل: اسئم مشترك بين مسافة الأرض، والمرود الذي تكحل (3) به العين. ولذلك أشكل المراد على سليم بن عامر، والأولى به هنا: مسافة الأرض؛لأنَّها إذا كان بينها وبين الرؤوس مقدار المرود فهي متصلة بالرزوس لقلة مقدار المرود. &(7/127)&$
__________
(1) في (ح): «فيجوز» وصححها إلى قوله: «فيكون».
(2) شرح المؤلف – رحمه الله – تحت هذا العنوان ما أشكل في أحاديث باب: دنو الشمس من الخلائق .. وباب: في المحاسبة، ومن نوقش هلك.
(3) في (ح) «تكتحل».(7/126)
وقوله: «ويكون الناس في العرق على قدر أعمالهم، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما» وقد تقدَّم أن الحقوين: الخصران. وقيل: هما طرفا =(7/155)=@ الوركين، والاول المعروف. وهذا العرق إنما هو لشدة الضغط، وحر الشمس التي على الرؤوس بحيث تغلي منها الهام (1) ، وحرارة الأنفاس، وحرارة النار المحدقة بأرض المحشر؟ ولأنها تخرج %(4/1627)% منها أعناق تلتقط الناس من الموقف، فترشح رطوبة الأبدان من كل إنسان بحسب عمله، ثم يجمع عليه ما يرشح منه بعد أن يغوص عرقهم في الأرض مقدار سبعين باعا، أو ذراعا، أو عاما على اختلاف الروايات، فإنَّ قيل: فعلى هذا يكون الناس في مثل البحر من العرق، فيلزم أن يسبح الكل فيها سبحا واحدا، فكيف يكونون متفاضلين (2) بعضهم إلى عقبيه، وبعضهم إلى فمه، وما بينهما. قلنا: يزول هذا الاستبعاد باوجه؛ أقربها وجهان:
أحدهما: أن يخلق الله تعالى ارتفاعا في الأرض التي تحت قدم كل إنسان، بحسب عمله، فيرتفع عن الأرض بحسب ارتفاع ما تحته.
وثانيهما: أن يخشر الناس جماعات في تفرقة، فيحشر كل من يبه لغ عرقه إلى =(7/156)=@ كعبيه في جهة، وكل من يبلغ حقويه في جهة، وهكذا. والقدرة صالحة لأن تمسك عرق كل إنسان عليه بحسب عمله، فلا يتصل بغيره، وإن كان بإزائه، كما قد أمسك جرية البحر لموسى – عليه السلام - حيث طلب لقاء الخضر؛ ولبني إسرائيل حين (3) اتبعهم فرعون، والله تعالى أعلم بالواقع من هذه الأوجه. والحاصل: أن هذا المقام مقام هائل لا تفي بهوله العبارات، ولا تحيط به الأوهام، ولا الإشارات، وأبلنع ما نطق به في ذلك الناطقون: {قل هو نبأ عظيم * أنتم عنه معرضون} [ص: 67-68]. &(7/128)&$
__________
(1) جمع الهامة، وهي: الرأس.
(2) في (ح): «فيه متفاضلين».
(3) في (ح): «لما» بدل «حين».(7/127)
%(4/1628)%
وقوله: «من حوسب يوم القيامة عذب» يعني حساب مناقشة ومطالبة، كما قال في اللفظ الآخر: «من نوتش المحاسبة» والمناقشة: الاستقصاء في المطالبة بالجليل والحقير، والصغير والكبير، وترك المسامحة في شيء من ذلك. قال الهروي: يقال: انتقشت منه حقي؛ أي: استقصيته منه.
وقوله: «عذب » ظاهره: عذاب النار جزاء عن سيئات ما أظهره حسابه. ويدل على ذلك قوله «هلك» أي: بالعذاب في النار. ويجوز أن يكون عذاب بعض من يناقش نفس المناقشة، وما يلازمها من التوبيخ واللوم، تم يغفر الله تعالى، كما حكي أن بعض الصالحين رؤي (1) في النوم بعد موته، فقيل له: ما نعل الله بك؟ فقال: حاسبونا فدققوا، ثم منوا فاعتقوا. واعتراض عائشة – رضي الله عنها - بقول الله تعالى: {فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا} [الانشقاق: 8]. إنما حملها عليه أنها تمسكت بظاهر لفظ الحساب؛ لأنَّه يتناول القليل والكثير، ولو سمعث لفظ المناقشة لما وقع لها ذلك، والله تعالى أعلم. =(7/157)=@
وقوله: «إنما ذلك العرض» يعني: أن الحساب المذكور في الآية إنما هو أن تعرض أعمال المؤمن عليه، ويوقف عليها تفصيلا حتى يعرف منة الله تعالى عليه في سترها عليه في الذنيا، وفي عفوه عنها في الآخرة، كما جاء (2) في حديث (3) ابن عمر الآتي بعد هذا. %(4/1629)%
وقوله: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسال عن أربع» عبد هنا: يراد به العموم؛ لأنَّه نكرة في سياق النفي، لكنه مخصص بمن لا حساب عليه، وهم الزمرة السابقة إلى الجنة أولا؛ الذين يقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم: «أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن » (4) . وبقوله تعالى: {يعرف المجرمون &(7/129)&$
__________
(1) في (ح): «وأي».
(2) ليست في (ز).
(3) في (ح): «الحديث».
(4) رواه البخاري (4712)، ومسلم (194).(7/128)
بسيمامهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام} [الرحمن: 41]. ويؤيد هذا ما قد صح في الحديث: أنه «يخرج من النار عنق فيقول: وُكلت بكل جئار» (1) وكأن المراد بهذا الحديث الأكثر من الناس، والله تعالى أعلم.=(7/158)=@
وقوله: «عن عمره فيم أفناه ؟ وعن جسده فيم أبلاه ؟ وعن علمه ما عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه ؟ وفيم أنفقه ؟» ظاهره: أنه يسال عن هذه الأربع مجملة كما نطق بها، وليس (2) كذلك ؟ بل: يسال عن آحاد كل نوع منها، فيسال عن أزمانه من وقت تكليفه زمانا زمانا، وعما عمل عملا عملا، وعن معلوماته، &(7/130)&$
__________
(1) رواه أحمد (6/110).
(2) في (ح): «بها فيه وليس».(7/129)
وما عمل بها واحدًا واحدًا، وهكذا في سائرها تعيينا، وتعديدا، وتفصيلا. والدليل على ذلك قوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خير يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره} [الزلزلة: 7 – 8]. ،، وقالوا (1) : {يا ولتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} [الكهف: 49]. وقوله: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئًا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} [الأنبياء: 47]. ومثل هذا كثيز في الشريعة، ومن تصفح ذلك حصل على العلم القطعي، واليقين الضروري من ذلك. %(4/1630)%
وقوله: «يدنى المؤمن من ربه يوم القيامة (2) » هذا إدناء تقريب وإكرام، لا إدناء مسافة ومكان، ويحتمل أن يكون من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، كما قال: {وسئل القرية} [يوسف: 82] أي: أهلها. =(7/159)=@
وقوله: «حتى يضع عليه (3) كنفه» أي: ستره، وجناح إكرامه ولطفه، فيخاطبه خطاب الملاطفة، ويناجيه مناجاة المصافاة والمحادثة، فيقول: هل &(7/131)&$
__________
(1) زاد بعدها في (ح): «يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وقوله».
(2) في (حج): «يوم القيامة من ربه».
(3) قوله: «عليه» سقط من (ح).(7/130)
تعرف؟ فيقول بلسان الفرح والاستبشار: رب أعرف، فيقول الله له ممتنا عليه، ومظهرا فضله لديه: «فاني سترتها عليك في الدنيا» أي: لم أفضحك بها بين الخلائق، ولم أطلعهم على شيء منها. ويحتمل أن يكون معنى ستره إياها: ترك المؤاخذة عليها؛ إذ لو واخذه بها لفضحت العقوبة الذنب، كما افتضحت ذنوب الأمم السالفة بسبب العقوبات التي وقعت بهم، فسارث بذنوبهم وعقوبتهم الركبان، وعلمها كل إنسان. وهل هذه الذنوب كبائر وصغانر، أو صغائر فقط؟ وهل كان (1) تاب منها، أو لم يكن؟ هذه مباحث تطول، وقد أشرنا إلى نكت منها فيما تقدَّم. =(7/160)=@ %(4/1631)%
ومن باب: قوله: حفت الجنة بالمكاره وحفث النار بالشهوات
هذا من التمثيل الواقع موقعه، ومن الكلام البليغ الذي انتهى نهايته، وذلك أنه مثل المكاره بالحفاف، وهو الداء بالشيء المحيط به؛ الذي لا يتوصل إلى ذلك الشيء (2) إلا بعد أن يتخطى، وفائدة هذا التمثيل: أن الجنة لا تنال إلا بقطع مفاوز &(7/132)&$
__________
(1) في (ح): «كل» وكأنه أصلحها إلى قوله «كان».
(2) قوله: «الشيء» سقط من (ح).(7/131)
المكاره، وبالصبر عليها، وأن النار لا ينجى منها إلا بترك الشهوات، وفطام النفس عنها. وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه مثل طريق الجنة، وطريق النار بتمثيل آخر، فقال: «طريق الجنة حزن بربوة، وطريق النار: سهل بسهوة» (1) . والحزن: هو الطريق الوعر المسلك، والربوة: المكان المرتفع، وأراد به أعلى ما يكون من الروابي. والسهوة: بالسين المهملة، وهيم الموضع السهل الذي لا غلظ فيه، ولا وعورة، وهذا أيضًا تمثيل حسن واقع موقعه، وقد تقدَّم القول على أول حديث عياض في كتاب العلم. =(7/161)=@
وقوله: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم (2) ، إلا بقايا من أهل الكتاب» نظر: بمعنى أبصر، والمقت: أشد البغض، وأراد بالعجم هنا: كل من لا يتكلم بكلام العرب، ويعني بذلك قبل بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك: أن كلا الفريقين كان يعبد غير (3) الله، أو يشرك معه غيره، فكان الكل ضلالاً عن الحق، خارجين عن مقتضى العقول والشرائع، فابغضهم الله لذلك أشد البغض، لكن لم يعاجلهم %(4/1632)% بالانتقام منهم حتى أعذر إليهم بأن أرسل إليهم رسولا، وأنزل عليهم كتابا قطعًا لمعاذيرهم، واظهارا للحجة (4) عليهم. وإنما اسثشى البقايا من أهل الكتاب؛ لأنَّهم كانوا متمسكين بالحق؛ الذي جاءهم به نبيهم، ويعني بذلك - والله أعلم -: من كان في ذلك الزمان متمسِّكًا بدين المسيح؛ لأنَّ من كفر من اليهود بالمسيح لم يبق على دين موسى، ولا متمسِّكًا بما في التوراة، ولا دخل في دين عيسى، فلم يبق أحد من اليهود متمسِّكًا بدين حق إلا من آمن بالمسيح، واتبع الحق الذي كان عليه، وأما من لم يؤمن به، فلا تنفعه يهوديته، ولا تمسكه بها؛ لأنَّه قد ترك أصلا عظيما مِمَّا فيها، وهو العهد الذي أخذ عليهم في الإيمان بعيسى – عليه السلام -؛ وكذلك نقول: كل نصراني بلغه أمر نبينا وشرعنا، فلم يؤمن به لم تنفنه نصرانيته؛ لأنَّه قد ترك ما أخذ عليه من العهد في شرعه. ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : «والذي نفسي بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي، ولا نصراني، ثم يموت، ولم يؤمن بالذي أرسلت إلا كان من أصحاب النار" (5) . &(7/133)&$
__________
(1) رواه أحمد (1/327).
(2) قوله: «عربهم وعجمهم» سقط من (ح).
(3) في (ح): «يعبد غير الله» وكتب في الهامش قوله: «يعبد الله».
(4) في (ح): «لمحجته» كذا رسمت.
(5) رواه مسلم (153).(7/132)
وقوله: «إنما بعثتك لأبتليك، وأبتلي بك» أي: لأمتحنك بتبليغ الرسالة، والصبر على معاناة أهل الجاهلية، وأمتحن بك؛ أي: من آمن بك واتبعك أثبئه، =(7/162)=@ ومن كذبك وخالفك انتقمت منه وعاقبته.
وقوله: «وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء» أي: يسرت تلاوته وحفظه، فخف على الألسنة، ووعته القلوب، فلو غسلت المصاحف (1) لما انغسل من الصدور، ولما ذهب من الوجود، ويشهد لذلك قوله تعالى: {إناتحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9]، وقوله: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} [القمر: 17]، وفي الإسرائيليات: أن موسى - عليه السلام - قال: يا رب! إني أجد أمة تكون أنا جيلها في صدورها فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة محمد. %(4/1633)%
وقوله: «تقرؤه نائما ويقظان » يحتمل أن يريد بذلك: أنه يوحى إليه القرآن في اليقظة والمنام، وقد تقدَّم أن رؤيا الأنبياء وحي. ويحتمل أن يكون معنى نائم هنا: مضطجعًا، يعني في صلاة المريض، قالهما القاضي، وفيهما بعد، وأشبه منهما إن شاء الله أن الله يسره على لسان نبيه، وذكره، بحيث (2) كان يقرؤه نائما كما كان يقرؤه منتبهًا. لا يخل منه بحرف، لا سيما وقد كان - صلى الله عليه وسلم - تنام عيناه ولا ينام قلبه (3) . وقد شاهدنا المديمين على تكرار القرآن يقرؤون منه الكثير وهم نيام، وذلك قبل استحكام غلبة النوم عليهم. وقوله: «إن الله أمرني أن أحرق قريشًا» أي: أغيظهم بما أنمعهم من الحق الذي يخالف أهواءهم، وأؤلم قلوبهم بعيب آلهتهم، وتسفيه أحلام آبائهم، وقتالهم، ومغالبتهم حتى كأني أحرق قلوبهم بالنار. ولا يصح أن يحمل ذلك على حقيقته؛ لأنَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يصح عنه أنه حرق أحدًا من قريش بالنار، بل قد نهى عن التعذيب بالنار، وقال: «لا يعذب بالنار إلا الله» (4) . =(7/163)=@ &(7/134)&$
__________
(1) في (ح): «المصاحف كلها لما».
(2) في (ح): «حيث».
(3) في (ح): «قلبه يقظان».
(4) رواه البخاري (3016)، وأبو داود (2674)، والترمذي (1571).(7/133)
وقوله: «فقلت إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة» الرواية الصحيحة المشهورة (1) بالثاء المثلثة والعين المعجمة، ومعناه: يشدخوا. قاله الهروي، وقال شمر: الثلغ: فضخك الشيء الرطب باليابس، وقد (2) رواه العذري: فقلعوا - بالقاف والعين المهملة -، ولا يصح مع قوله: «فيدعوه خبرة» ومعنى هذا أنه شبه الرأس إذا شدخ بالخبزة إذا شدخت لتثرد.
فلت: وهذا الذي قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو ما قاله موسى -عليه السلام - حين أمر بتبليغ الرسالة إلى فرعون: {قال (3) رب إني أخاف أن يكذبون * ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون * ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون} [الشعراء: 12-14]. فهذا صريح في أنهما خافا غير (4) الله، وحينئذ يعارضه قوله تعالى في صفة الرسل الذين يبلغون رسالات الله، ويخشونه، ولا يخشون أحدًا إلا الله. وهذا نص في أن الرسل لا %(4/1634)% تخشى إلا الله، وهذا هو المناسب لمعرفتهم بالله، وأنه ليس في الوجود فاعل، ولاخالق إلا هو، وخصوصًا لأولي العزم من الرسل، وخصوصًا لمحمد وموسى - صلى الله عليهما -. ويرتفع التعارض من وجهين: أحدهما: أن ذلك الخوف كان منهما في بدايتهم قبل تمكنهم إعلامهم بحميد عواقب أحوالهم، وقبل تأمينهم، فلما مكنوا وأمنوا لم يخشوا إلا الله، ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول أمره يخرس، وهو في منزله، فلما أنزل الله تعالى: {والله يعصمك من الناس} [المائدة: 67] أخرج رأسه إليهم فقال: «اذهبوا فقد عصمني ربي » (5) .
وثانيهما: على تسليم أن يكون ذلك منهم في غير بدايتهم، لكن ذلك الخوف هو الذي لا ينفك البشر عن فجأته، ووقوع بادرته، حتى إذا راجع الإنسان عقله، وتدبر أمره اضمحل ذلك الخوف (6) أي اضمحلال، وحصل له من =(7/164)=@ معرفة الله وخشيته ما يستحقر (7) معه رسوخ الجبال، والله تعالى أعلم. &(7/135)&$
__________
(1) قوله: «المشهورة» سقط من (ح).
(2) قوله: «قد» سقط من (ح).
(3) في (ح): «فقال».
(4) في (ح): «عند» بدل «غير».
(5) رواه الترمذي (3046).
(6) من قوله: «كان منهما في بدايتهم...» إلى هنا سقط من (ح).
(7) في (ح): «يستحقره».(7/134)
وقوله: «استخرجهم كما استخرجوك» أي: أخرجهم كما أخرجوك.
والسين والتاء زائدتان كما يقال: استجاب بمعنى أجاب. وقد رواه العذري: كما أخرجوك (1) . وهذا يدل على أن هذا القول صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة بعد الهجرة؟ فإنَّ أهل مكة هم الذين أخرجوه من مكة حتى هاجر إلى المدينة.
وقوله: «واغزهم نغزك » أي: اعزم على غزوهم، واشرع فيه نُعنك على غزوهم، وننصرك عليهم.
وقوله: «وابعث جيشا نبعث خمسة مثله» هذا يدل على أن هذا كان قبل غزوة بدر؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوم بدبى في ثلاثمئة من أصحابه ونيف، وقيل (2) : ثلاثة %(4/1635)% عشر، وقيل: سبعة عشر، فأمده الله تعالى بخمسة آلاف من الملائكة كما نطق القرآن به.
وقوله: «أهل الجنة ثلاثة» أى: المتأهلون لدخولها، الصالحون له.
وقوله: «ذو سلطان مقسط، متصدق، موفق» مقسط وما بعده مرفوع على أنها صفات لذو، وهي بمعنى صاحب. والمقسط: العادل. والمتصدق: المعطي للصدقات. والموفق: المسدد لفعل الخيرات.
وقوله: «رحيم، رقيق القلب لكل ذي قربى ومسكين» (3) رحيم: كثير =(7/165)=@ الرحمة. والقربى: القرابة. ورقيق القلب: الله (4) عند التذكر والموعظة، ويصح أن يكون بمعنى الشفيق .
وقوله: «وضعيف متضغف » يعني: ضعيفا في أمور الدنيا، قويا في أمر دينه، كما قال: «المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير» (5) . وكما قد ذم الضعيف (6) في أمور الدين، جعله (7) من صفات أهل النار كما (8) &(7/136)&$
__________
(1) من قوله: «والسين والتاء زائدتان» إلى هنا سقط من (ح).
(2) في (ح): «قيل» بلا واو.
(3) في التلخيص ومسلم: مسلم.
(4) في (ح): «ليته» بدل «لله».
(5) رواه أحمد (2/366)، وابن ماجه (4168).
(6) في (ح): «الضعف».
(7) في (ح): «وجعله».
(8) في (ح): «لما» بدل «كما».(7/135)
قال: «وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له » والزبر هنا: العقل. قاله الهروي. وفي الصحاح: يقال: ما له زبر، أي: عقل وتماسك.
قلت: وسمي العقل زبرا؛ لأنَّ الزبر في أصله هو المنع والزجر. يقال: زبره يزبره بالضم زبرا؛ إذا انتهره ومنعه. ولما كان العقل هو المانع لمن اتصف به من المفاسد والزاجر عنها؛ سمي بذلك. وقد قيل في الزبر في هذا الحديث: أنه المال، وليس بشيء
وقوله: «الذين هم فيكم تبعا لا يبتغون (1) أهلا ولا مالا» هذا تفسير من النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله أولًا: «الضعيف الذي لا زبر له» فيعني بذلك: أن هؤلاء القوم ضعفاء العقول، فلا يسعون في تحصيل مصلحة دنيوية، ولا فضيلة نفسية، ولا %(4/1636)% دينية، بل: يهملون أنفسهم إهمال الأنعام، ولا يبالون بما يثبون عليه من الحلال والحرام، وهذه الأوصاف الخبيثة الدنيئة هي أوصاف هذه الطائفة المسماة بالقلندرية (2) . =(7/166)=@
وقوله: قلت: ويكون ذلك يا أبا عبد الله؟ قال: نعم! والله لقد أدركتهم في الجاهلية، وإن الرجل ليرعى على الحي ما به (3) إلا وليدتهم يطؤها (4) هذا القائل هو قتادة. وأبو عبد الله هو مطرف بن الشخير الذي روى عن عياض بن حمار. ويدل هذا على أن مطرفا أدرك الجاهلية، وأنَّه صحابي، وإن لم يذكره أبو عمر في «الصحابة» وكان حقه أن يذكره؛ لأنَّ من شرطه أن يذكر من ولد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومطزف ولد في زمانه - صلى الله عليه وسلم - على ما قاله ابن قتيبة وغيره. والحي: القبيل. والوليدة: الأمة، ووجدت مقيدا في أصل أبي الصبر، معتنى به، مصححا عليه: «إلا وليدتهم» بفتح التاء، ووجهه أنه استثناء من مستثنى محذوف، تقديره: ما به &(7/137)&$
__________
(1) في (ح): يشبه «يمتعون».
(2) طريقة صوفية، أسسها قلندر يوسف العربي الإسباني.
(3) في (ح): «ما به».
(4) في (ح): «يطاها».(7/136)
شيء أو حاجة إلا وليدتهم. ووقع في بعض النسخ: إلا وليدة، غير مضاف.
وقوله: «والخائن الذي لا يخفى له طمع - وإن دق - إلا خانه» الخائن: هو الذي يأخذ مما اؤتمن عليه بغير إذن مالكه، ويخفى له - هنا - بمعنى يظهر كما قال (1) : خفاهن من أنفاقهن كأنما خفاههن ودق من عشي مجلب (2) أي: أظهرهن. وخفي من الأضداد. يقال: خفيت الشيء أي: أظهرته وسترته. قاله أبو عبيد. %(4/1637)%
وقوله: «وذكر البخل والكذب» هكذا الرواية المشهورة فيه بالواو (3) =(7/167)=@ الجامعة، وقد رواه ابن أبي جعفر عن الطبري بأو التي للشك. قال القاضي: ولعله الصواب. وبه وتصح (4) القسمة؛ لأنَّه ذكر أن أصحاب النار خمسة: الضيف الذي وصف، والخائن الذي وصف، والرجل المخادع الذي وصف. قال: وذكر البخل والكذب، ثم ذكر الشنظير الفحاش، فرأى هذا القائل أن الرابع هو صاحب أحد الوصفين، وقد يحتمل أن يكون الرابع من جمعهما على رواية واو العطف، كما جمعهما في الشنظير الفخاش. وكذلك قوله: «أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسكين (5) ، وعفيف متعفف ذو عيال». قال: كذا قيدناه بخفض مسلم عطفا على ما قبله، وفي رواية أخرى: «ومسلم عفيف» بالرفع وحذف الواو.
قلت: العفيف (6) : الكثير العفة، وهي الانكفاف عن الفواحش، وعما لا يليق. والمتعفف: المتكئف للعفة. والشنظير: السيىء الخلق، في الصحاح: رجل شنظير وشنظيرة، أي: سيىء الخلق. قالت امرأة من العرب: شنظيرج زز جنيه أفلي من حنقه يخسب رأسي رجلي كأنه لم ير أنثى قبلي!! &(7/138)&$
__________
(1) هو الشاعر: امرؤ القيس.
(2) قوله: «سحاب مُرَكَّب» لم يتضح في (ح).
(3) هو الشاعر: امرؤ القيس .
(4) في (ح): «تصح» بلا واو.
(5) في (ح): «ومسلم» بدل «ومسكين».
(6) في (ح): «والعفيف».(7/137)
وربما قالوا: شنذيرة -بالذال المعجمة- لقربها من الظاء لغة، أو لثغة. والفحاش: الكثير الفحش. وقيل: الشنظير: هو الفحاش. قال صاحب (العين): يقال: شنظر بالقوم: شتم أعراضهم. والشنظير: الفحاش من الرجال الغلق، وكذلك من الإبل. %(4/1638)%
وقوله: «ألا أخبركم بأهل الجنة: كل ضيف متضعف» الصحيح في =(7/168)=@
متضعف -فتح العين - على أنه اسم مفعول، وكذا وجدتة في كتاب الشيخ أبي الصبر، ويعني بذلك: أن الغالب على صفة أهل الجنة الضعيف (1) عن نيل الدنيا، ومالها، وجاهها، ومناصبها، وإيثار الخمول والتواضع فيها، يلبسون زري الملابس (2) ، ولا يلتفتون إلى فاخر المراكب، ولا إلى صدور المجالس، علما منهم بأنهم على جادة سفر، وأن الدنيا ليست بمقر، فأحوالهم أحوال المسافرين المرملين. فهم كما وصفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره» (3) . والأشعث: المتلبدالشعر، والأغبر: الذي علته (4) غبرة الغبار. والأطمار: الثياب الرثة. ولا يؤبه له: لا يلتفت إليه. يقال: فلان لا يؤبه (5) ، ولا يؤبه له؟ أي: لا يبالى به. ابن السكيت: ما وبهت به (6) ، وما وبهت له؛ أي: ما فطنت له. وأنت تيبه (7) بكسر التاء مثل تيجل؛ أي: تبالي. فإنَّ قيل كيف تكون هذه أوصاف أهل الجنة، وكيف تحمد هذه الأوصاف، وقد أمر الشرع بالنظافة والزينة في الجمع والأعياد والتطيب، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتطيب ويتنظف، ويتزين للوفود وللجمع والأعياد. قلنا: لا تناقض بين هذا، وبين ما وصف به النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل الجنة، فإنه - صلى الله عليه وسلم - إنما وصف هؤلاء القوم بأغلب أحوالهم. وغالب أحوالهم: ملازمة الأسفار الشرعية من الحج والجهاد، والسياحة في الأرض، والفرار بأديانهم من الفتن. ومع ذلك كله فيتنظفون النظافة الشرعية، ويتزينون التزين الشرعي إذا حضر وقته، وأمكنهم ذلك، ويحضرون جماعات المسلمين وجمعاتهم. فهم مع الناس كائنون، وعنهم بائنون، داخلون في غمارهم، ومستترون بخمولهم» وأطمارهم، وقد (8) توجهوا إلى الحق، وأعرضوا عن &(7/139)&$
__________
(1) في (ح): «الضعف».
(2) في (ح): يشبه «يعني الملابس».
(3) رراه أحمد(5/3 4 ا)،والترمذى(4 385)عن أنس -رضي الله عنه -.
(4) قوله: «علته» سقط من (ح).
(5) في (ح): «لا يؤبه له».
(6) قوله: «به» سقط من (ح).
(7) في (ح): «وأنث ثنية».
(8) في (ح): «قد» بلا واو.(7/138)
الخلق. وعلى الجملة فمقصود هذا الحديث أن أحوال أهل، الجنة على النقيض من أحوال أهل النار، ألا ترى أنه =(7/169)=@ قابل صفات أهل الجنة وذكر نقائضها في أهل النار؛ فقال: وأهل النار كل جواظ، زنيم، متكبر، عتل. فالجواظ: الجموع المنوع. حكاه الهروي (1) . وقال غيره: الكثير اللحم %(4/1639)% المختال (2) ، يقال: جاظ يجوظ جوظا: إذا كان كذلك. وقال ابن دريد: هو الجافي القلب. والعتل: قيل: الجافي الشديد الخصومة. وقيل: هو الأكول الشروب الظلوم (3) . والعتل: هو العنف. ومنه سميت القسي الفارسية: عتلا لشدتها. والزنيم هنا: هو الذي يعرف بالشر. كما تعرف الشاة بزنمتها. وقيل: هو اللئيم، وأما الزنيم المذكور في الآية؛ فقيل: إنه رجل بعينه له زنمة كزنمة التيس، وهي الغديرة المتعلقة بعنقه. وقيل: هو الوليد وكان له زنمة تحت أذنه، وقيل: هو الملصق بالقوم وليس منهم، وقيل: هو الأخنس بن شريق. وكان حليفا ملحقا. والمتكبر: الموصوف بالكبر المستعمل له، وقد بينا الكبر فيما تقدَّم.
وقوله: "رب أشعث مدفوع بالأبواب" أصل رب للتقليل وقد تأتي للتكثير. وقد جاءت كذلك في شعر امرىء القيس كثيرًا. قال: فيا رب مكروب كررت رراءه وعان فككت الغل عنه ففداني (4) وقال: ويا رب يوم قد لهوت وليلة بآنسة كأنها خط تمثال ومثله كثير قصد به مدح نفسه، ولا يمدح (5) بالقليل النادر، بل: بالكثير المتكرر، وتصلح (6) رب في هذا الحديث أن تحمل على الكثير، فكأنه قال: كثير ممن يكون هذا حاله لو أقسم على الله لأبره.
وقوله: «مدفوع بالأبواب» أي: عن أبواب الملوك والكبراء، فلا يسمع له =(7/170)=@ قول، ولا تقضى له حاجة؛ لكونه لا يعرف، ورث الهيئة، أي: زريها بحيث تحتقره العين. &(7/140)&$
__________
(1) قوله: «حكاه الهروي» سقط من (ح).
(2) قوله: «المختال» سقط من (ح).
(3) قوله: «الظلوم» سقط من (ح).
(4) في (ح): «فقدان».
(5) في (ح): «يتمدح».
(6) في (ح): «ويصلح».(7/139)
%(4/1640)%
وقوله: «لو أقسم على الله لابزه» قيل فيه: لو دعا لأجابه (1) .
قلت: وهذا عدود عن أصل وضع الكلام من غير ضرورة. بل: هو على أصله، وقد دل على هذا ما تقدَّم من (2) حديث أم الربيع حيث قال أنس بن النضر: والله لا تكسر ثنية الربيع (3) ، ثم لما رضي الطالب بالدية. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" (4) .
وقوله: «يدخل الجنة أقوائم أفئدتهم مثل أفئدة الطير» يحتمل أن يقال: إنما شبهها بها لضعفها ورقتها، كما قال في أهل اليمن: «هم أرق قلوبًا، وأضعف أفئدة" (5) ، ويحتمل (6) أنه أراد بها أنها مثلها في الخوف والهيبة، والطير على الجملة أكثر الحيوانات خوفا وحذرا، حتى قيل: أحذر من غراب. وقد غلب الخوف على كثير من السلف حتى انصدعت قلوبهم فماتوا .=(7/171)=@ %(4/1641)%
ومن باب: صفة الجنة وما أعد الله فيها
قوله: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» «ذخرا» الرواية المشهورة بالدال المعجمة المضمومة، أي: &(7/141)&$
__________
(1) في (ح): «بالأجابة».
(2) في (ح): «في» بدل «من».
(3) في (ح): «حيث قالت والله لا تكسر ثنية الربيع».
(6) من قوله: «إنا شبهها بها...» إلى هنا سقط من (ح).(7/140)
مدخرا، وهو مصدر، يقال: ذخرت الشيء أذخره ذخرًا، وادخرته أدخره ادخارا بالإدغام هو (1) افتعلت، ووقع في طريق الفارسي ذكرا بالكاف، ولبعضهم «دخر (2) » بغير تنوين. وليسا بشيء، ومعنى هذا الكلام: أن الله تعالى ادخر في الجنة من النعيم، والخيرات، واللذات ما لم يطلع عليه أحد من الخلق، لا بالإخبار عنه، ولا بالفكرة فيه، وقد تعرض بعض الناس لتعيينه، وهو تكلف ينفيه الخبر نفسه، إذ (3) قد نفى علمه والشعور به عن كل أحد، ويشهد له، ويحققه (4) قوله: (بله ما أطلعكم الله (5) عليه» أي: دع ما أطلعكم عليه. يعني: أن المعد المذكور غير الذي أطلع عليه أحدًا من الخلق. وبله: اسم من أسماء الأفعال بمعنى: دع. هذا هو المشهور فيها، وقيل: هي بمعنى غير، وهذا تفسير معنى. =(7/172)=@
وقوله: «إن في الجنة لشجرة يسير الراكب الجواد المضمر الشريع مئة عام لا يقطعها» الرواية التي لا يعرف غيرها الراكب مرفوع، فاعل يسير (6) ، والجواد منصوب مفعول بيسير، والمضمر: نعته، وكذلك السريع، ومعناه: يجري الراكب فرسه السريع الذي قد ضمر هذه المدة فلا يقطعها، وقيل: هي شجرة طوبى، &(7/142)&$
__________
(1) في (ح): «وهو».
(2) في (ح): «ذخر».
(3) في (ح): «إذ».
(4) في (ح): «ونحققه».
(5) لفظ الجلالة ليس في (ح).
(6) في (ح): «بيسير».(7/141)
والله تعالى أعلم. وقد تقدَّم القول في تضمير الخيل في كتاب الجهاد. ومعنى ظلها: نعيمها وراحتها، من %(4/1642)% قولهم: عيش ظليل، وقيل: معنى ظلها: ذراها، وناحيتها، وكنفها، كما يقال: أنا في ظلك، أي: في كنفك، وحوطتك. =(7/173)=@
قلت: والذي أحوج إلى هذين التأويلين أن الظل المتعارف عندنا إنما هو وقاية عن حر الشمس وأذاها، وليس في الجنة شمس، وإنما هي أنوار متوالية لا حر فيها، ولا قر، بل: لذات متوالية، ونعم متتابعة.
وقوله: "ا أحل عليكم رضواني" أي: أوجب لكم رضائي، فلا يزول عنكم أبدا دائما لا انقطاع له بوجه من الوجوه، وقد أكد (1) ذلك بقوله: «فلا أسخط عليكم بعده أبدًا». =(7/174)=@ %(4/1643)%
ومن باب: غرف الجنة
قوله: «إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري » يعني: أن أهل السفل من الجنة ينظرون إلى من فوقهم على (2) تفاوت &(7/143)&$
__________
(1) في (ح): «أيد».
(2) في (ح): «فهم على».(7/142)
منازلهم، كما ينظر من على الأرض دراري السماء على تفاوت منازلها. فيقال: هذا منزل فلان، كما يقال: هذا المشتري مثلًا، أو الزهرة، أو المريخ، وقد بين ذلك بقوله: لتفاوت ما بينهما. وسمي الكوكب دريا لبياضه وصفائه، وقيل: لأنه شبه بالدر (1) في صفائه.
وقوله: «الغابر من الأفق، من المشرق أو المغرب» الرواية المشهورة: الغابر بواحدة، ومعناه الذاهب والباقي (2) على اختلاف المفسرين، وغبر (3) من الأضداد. يقال: غبر (4) إذا ذهب، وغبر إذا بقي، ويعني به: أن الكوكب حالة طلوعه وغروبه بعيد (5) عن الأبصار فيظهر صغيرا لبعده، وقد بينه بقوله: في الأفق من المشرق أو المغرب، والأفق: ناحية السماء، وهو بضم الهمزة والفاء وبسكونها، =(7/175)=@ كما يقال: عشر وعشر، وجمعه: آفاق، وقد قيدنا تلك اللفظة على من يوثق به: الغائر -بالهمز-: اسم فاعل من غار. وقد روي في غير مسلم الغارب بتقديم الراء، ويروى: العازب بالعين المهملة والزاي، أي: البعيد، ومعانيها كلها متقاربة. ومن الأفق: رويناه بـ(من ) التي لابتداء الغاية، وهي الظرفية، وأما من المشرق، فلم يرو في كتاب مسلم إلا بـ(من ). وقد رواه البخاري في المشرق ب (في ) وهي أوضح، فأمَّا من رواهما ب (من ) في الموضعين فأوجه ما فيهما أن تكون الأولى لابتداء الغاية، والثانية بدل منها مبينة لها. وقيل: إنها في قوله من المشرق لانتهاء الغاية، وهو خروخ عن أصلها، وليس معروفا عند أكثر النحويين. %(4/1644)%
وقولهم: تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال: «بلى! والذي نفسي &(7/144)&$
__________
(1) في (ح): «بالدري».
(2) في (ح): «أو الباقي».
(3) في (ح): «وغيره» بدل «وغبر».
(4) في (ح): «غير».
(5) في (ح): «يبعد».(7/143)
بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين » كذا وقع هنا هذا الحرف. بلى، التي أصلها حرف جواب وتصديق، وليس هذا موضعها؛ لأنَّهم لم يستفهموا، وإنَّما أخبروا أن تلك المنازل للأنبياء لا لغيرهم. فجواب هذا يقتضي: أن تكون (بلى) التي للإضراب عن الأول وإيجاب المعنى للثاني، فكأنه تسومح فيها، فوضعت بلى (1) موضع بل. ورجال مرفوع بالابتداء المحذوف، تقديره: هم رجال. وفيه أيضًا توسع، أي: تلك المنازل منازل رجال آمنوا بالله، أي: حق إيمانه، وصدقوا المرسلين، أي: حق تصديقهم، وإلا فكل من يدخل الجنة آمن بالله، وصدق رسله، ومع ذلك فهم متفاوتون في الدرجات، والمنازل، وهذا واضح. =(7/176)=@
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لابن مياد: «ما تربة (2) المجنة» هذا نص في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو السائل لابن صياد عن تربة الجنة، وفي الرواية الأخرى: أن ابن صياد هو الذي سأل النبي (3) - صلى الله عليه وسلم - عن تربة الجنة (4) ، فهاتان روايتان، والواقع منهما إحداهما، والله أعلم، وكيفما كان فالخبر عن تربة الجنة صدق وصحيح؛ لأنَّه إن كان الجواب من النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو حق، إذا (5) الكذب عليه محال، وإن كان ابن صياد هو الذي قاله فقد علمنا صحة ذلك من جهة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صدقه في ذلك، ويكون ابن صياد علم ذلك من جهة ما ألقاه إليه شيطانه من الكلمات التي استرق سمعها؛ لأنَّ (6) ابن صياد كان من الكهان على ما يأتي في (7) حديثه. والدرمكة (8) : دقيق الحوارى. شبه تربة الجنة به في حسن لونها، ونعيمها، وشبه رائحتها بالمسك، وهذا تشبيه تقريب (9) ، وأين الثريا من الثرى؟!. &(7/145)&$
__________
(1) في (ح): «بل» بدل «بلى».
(2) في مسلم والتلخيص: ما تراب.
(3) في (ح): «رسول الله».
(4) في (ح): «عن ذلك».
(5) في (ح): «إذ» بدل «إذا».
(6) في (ح): «فإن».
(7) قوله: «في» سقط من (ح).
(8) في (ح): «الدومكة».
(9) في (ح): «تقرير».(7/144)
%(4/1645)%
وقوله: «إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة» السوق: يذكر ويؤنث، =(7/177)=@
وسمي سوق (1) لقيام الناس فيها على ساق، وقيل: لسؤق الناس بضائعهم إليها، فيحتمل أن يكون سوق الجنة عبارة عن مجتمع أهل الجنة، ومحل تزاورهم، وسمي سوقا بالمعنى الأول، ويؤيد (2) هذا أن أهل الجنة لا يفقدون شيئا حتى يحتاجوا إلى شرائه من السوق، ويحتمل أن يكون سوقا مشتملا على محاسن مشتهيات مستلذات (3) تجمع هنالك مرتبة محسنة (4) ، كما تجمع في الأسواق، حتى إذا جاء أهل الجنة فرأرها، فمن اشتهى شيئا وصل إليه من غير مبايعة (5) ولا معاوضة، ونعيم الجنة وخيرها أعظم وأوسع من ذلك كله، وخص يوم الجمعة بذلك لفضيلته، ولما خصه الله تعالى به من الأمور التي تقدَّم ذكرها؛ ولأنه يوم المزيد. أي: اليوم الذي يوفى لهم ما وعدوا به من الزيادة. وأيام الجنة تقديرية؟ إذ لا ليل هناك ولا نهار، وإنما هناك أنوار متوالية لا ظلمة معها، على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
وقوله: «فتهب (6) ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم» ريح الشمال في الدنيا: هي التي تأتي من دبر القبلة من ناحية الشام، وهي التي تأتي بلاد &(7/146)&$
__________
(1) في (ح): «وسميت سوقا».
(2) في (ح): «ويؤيده».
(3) في (ح): «ومشتهيات ومستلذات».
(4) في (ح): «حسنة».
(5) في (ح): «ممانعة».
(6) في (ح): «فهبت».(7/145)
العرب (1) بالأمطار، فهي عندهم أحسن الأرياح، فلذلك سمي ريح الجنة بالشمال، وفي الشمال لغات. يقال: شمال، وشمأل، وشأمل، وشمل (2) ، وشمول. حكاها صاحب (العين) ويقابلها: الجنوب، وقد سميت هذه الريح في حديث آخر بالمثيرة؛ لأنَّها تثيرالنعيم والطيب على أهل الجنة. =(7/178)=@ %(4/1646)%
وقوله: «أول زمرة يدخلون الجنة من أمتي على صورة القمر ليلة البدر» الصورة، بمعنى الصفة، يعني: أنهم في إشراق وجوههم على صفة القمر ليلة تمامه، وكماله، وهي ليلة أربعة عشر، وبذلك سمي القمر بدرا في تلك الليلة، ومقتضى هذا أن أبواب الجنة متفاوتة (3) بحسب درجاتهم.
وقوله: «لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يتفلون، ولا يمتخطون» إنما لم تصدر هذه الفضلات عن أهل الجنة؛ لأنَّها أقذاز مستخبثة، والجنة منزهة عن مثل ذلك، ولما كانت أغذية أهل (4) الجنة في غاية (5) اللطافة، والاعتدال، لم يكن لها فضلة تستقذر، بل تستطاب وتستلذ، وهي التي عبر عنها بالمسك كما قال: «ورشحهم المسك» وقد جاء في لفظ آخر: "لا يبولون، ولا يتغوطون، وإنما هو عرق يجري من أعراضهم مثل المسك" (6) يعني: من أبدانهم. =(7/179)=@
وقوله: «أمشاطهم الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة» يقال (7) هنا: أي حاجة في الجنة للأمشاط، ولا تتلبد شعورهم ولا تتسخ، وأي حاجة للبخور وريحهم أطيب من المسك؟! ويجاب عن ذلك: بأن نعيم أهل الجنة وكسوتهم &(7/147)&$
__________
(1) في (ح): «المغرب».
(2) في (ح): «ومشمل».
(3) في (ح): «ومقتضى هذ أن أنوار الجنة متقاربة بحسب»
(4) قوله: «أهل» سقط من (ح).
(5) في (ز): نهاية.
(6) رواه أحمد (4/367)، والبيهقي في البعث والنشور ص (205) حاشية (5)، وذكره ابن القيم في: حادي الأرواح ص (268).
(7) في (ح): «قد يقال».(7/146)
ليس عن دفع ألم (1) اعتراهم، فليس أكلهم عن جوع، ولا شرابهم (2) عن ظمأ، ولا تطيبم عن نتن، وإنما هي %(4/1647)% لذات متوالية، ونعم متتابعة؛ ألا ترى قوله تعالى لآدم: {إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى} [طه: 118 – 119]، وحكمة ذلك أن الله تعالى نعمهم في الجنة بنوع ما كانوا يتنعمون به في الدنيا، وزادهم على ذلك ما لا يعلمه إلا الله كما قدمناه. وقد تقدَّم الكلام في الألوة وفي لغاتها، وأنها: العود الهندي في كتاب الطب.
وقوله: «وأزواجهم الحور العين» الحور: جمع حوراء. والحور في العين: شدة بياضها في شدة سوادها. هذا (3) المعروف. قال أبر عمرو: الحور أن تسود العين كلها مثل أعين الظباء والبقر. [وليس (4) في بني آدم حور، وإنما قيل للنساء: حور العين لأنهن تشبهن بالظباء والبقر] (5) . قال (6) الأصمعي: ما (7) أدري ما الحور في العين. والعين: جمع عيناء، وهي: الواسعة العين. وفي (8) الصحاح: رجل أعين: واسع العين، والجمع: عين، وأصله فعل بالضم، ومنه قيل لبقر الوحش: عين، والثور أعين، والبقرة عيناء.
وقوله: «لكل واحد منهم زوجتان» يعني: أن أدنى من في الجنة درجة له زوجتان، إذ (9) ليس في الجنة أعزب، كما قال. وأما غير هؤلاء فمن ارتفعت منزلته =(7/180)=@ فزوجاتهم على قدر درجاتهم كما يأتي في (10) قوله: «في الجنة درة طولها ستون ميلاً، في كل زاوية منها أهل للمؤمن ما يرون الآخرين» وبهذا يعلم: أن نوع النساء المشتمل على الحور والادميات في الجنة أكثر من نوع رجال بني آدم، ورجال بني &(7/148)&$
__________
(1) قوله: «ألم» بياض في (ح).
(2) في (ح): «شربهم».
(3) في (ح): «وهذا».
(4) في (ح): «وليس».
(5) ما بين حاصرتين مستدرك من (ز).
(6) في (ح): «وقال».
(7) في (ح): «لا» بدل «ما».
(8) في (ح): «في» بلا واو.
(9) قوله: «إذا» سقط من (ح).
(10) في (ح): «من» بدل «في».(7/147)
آدم أكثر من نسائهم، وعن هذا قال عليه السلام: «أقل ساكني الجنة نساء (1) ، وأكثر ساكني جهنم النساء» يعني: نساء بني آدم هن أقل في الجنة وأكثر في النار.
وقوله: «يرى مخ ساقها (2) من وراء اللحم» يعني: من شدة صفاء لحم الساقين، فكانه يرى مخ الساقين من وراء اللحم، كما يرى السلك في جوف الدرة الصافية .%(4/1648)%
وقوله: «قلوبهم قلب واحد» أي: كقلب واحد، يعني: أنها مطهرة عن مذموم الأخلاق، مكملة بمحاسنها، فلا اختلاف بينهم، ولا تباغض.
وقوله: «يسبحون الله بكرة وعشيا» هذا التسبيح ليس عن تكليف والزام؛ لأن الجنة ليست محل تكليف، وإنما هي محل جزاء، وإنما هو عن تيسير وإلهام، كما قال في الرواية الأخرى: «يلهمون التسبيح، والتحميد، والتكبير، كما تلهمون النفس». ووجه التشبيه: أن تنفس الإنسان لا بد له منه، ولا كلفة، ولا مشقة عليه في فعله (3) . وآحاد التنفيسات مكتسبة للإنسان، وجملتها ضرورية في حقه، إذ (4) يتمكن من ضبط قليل الأنفاس، ولا يتمكن من جميعها، فكذلك يكون ذكر الله تعالى على ألسنة أهل الجنة، وسر ذلك: أن قلوبهم قد تنورت بمعرفته (5) ، وأبصارهم قد تمتعت برؤيته، وقد غمرتهم سوابغ نعمته، وامتلأث أفئدتهم بمحبته ومخاللته. فألسنتهم ملازمة ذكره، ورهينة بشكره؛ فإنَّ من أحب شيئا أكثر من ذكره، وقد تقدم: أن أوقات الجنة من الأيام والساعات تقديريات. =(7/181)=@ &(7/149)&$
__________
(1) في (ح): «النساء».
(2) في (ح): يشبه «ساقيها».
(3) في (ح): «ولا كلفه عليه ولا مشقة في فعله».
(4) في (ح): «إذ».
(5) في (ح): «معرفته».(7/148)
وقوله: «أخلاقهم على خلق رجل واحد» قد ذكر مسلم اختلاف الرواة في تقييد خلق، هل هو بفتح الخاء وسكون اللام، أو بضمها، وكذلك اختلف (1) فيه رواة البخاري، والذي يناسب ما قبله الضم، فيكون معناه: أن أخلاقهم متساوية في الحسن والكمال. كلهم كريم الخلق، إذ لا تباغض، ولا تحاسد، ولا نقص، ويشهد له قوله فيما تقدَّم: «قلوبهم قلب واحد».
وقوله: «على طول أبيهم آدم، أو على صورة أبيهم » استئناف خبر آخر عنهم، ويحتمل أن يريد به الخلق، بالفتح والسكون، ويكون قوله (2) «على طول أبيهم» %(4/1649)% وما بعده مفسرا لذلك (3) الخلق، والأول أولى لما ذكرناه، ولأنا إذا حملناه عليه استفدنا منه فائدتين، ومن الوجه الثاني فائدة واحدة، وحفل كلام الشارع والفصحاء على تكثير الفوائد أولى، كما قررناه في الأصول.
وقوله: «ستون ذراعا في السماء» أي: في الارتفاع، وكل ما علاك فهو سماء، ويعني بذلك: أن الله تعالى أعاد أهل الجنة إلى خلقة أصلهم الذي هو آدم، وعلى صفته وطوله الذي خلقه الله عليه في الجنة، وكان طوله فيها ستين ذراعا في الارتفاع من ذراع نفسه، والله أعلم. ويحتمل أن يكون ذلك الذراع مقدرا بأذرعتنا =(7/182)=@ &(7/150)&$
__________
(1) في (ح): «اختلفت».
(2) في (ح): «ويكون بعده قوةله».
(3) في (ح): «لك لك» بدل «لذلك».(7/149)
المتعارفة عندنا. ثم لم يزل خلق ولده وطولهم ينقص، كما جاء في الرواية ا لأخرى. %(4/1650)%
وقوله: «خلق الله آدم على صورته» هذا الضمير عائد على أقرب مذكور، وهو آدم، وهو أعم (1) ، وهذا الأصل في عود الضمائر (2) ، ومعنى ذلك: أن الله تعالى أوجده على الهيئة التي خلقه عليها لم ينتقل في النشأة أحوالا، ولا تردد في الأرحام أطوارا؛ إذ (3) لم يخلقه صغيرًا فكبر، ولا ضعيفا فقوي، بل خلقه رجلا كاملا سويا قويا (4) ، بخلاف سنة الله في ولده، ويصح أن يكون معناه للأخبار عن أن الله تعالى خلقه يوم خلقه على الصورة التي كان عليها بالأرض، وأنه لم يكن في الجنة على صورة أخرى، ولا اختلفت صفاته، ولا صورته، كما تختلف (5) صور الملائكة =(7/183)=@ والجن، والله تعالى أعلم. ولو سلمنا: أن الضمير عائد على الله تعالى لصح أن يقال هنا: إن الصورة بمعنى الصفة، وقد بيناه فيما تقدم. وقد ذكرنا (6) في قوله (7) : «أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر» فإنَّ معناه على صفته من الإضاءة، لا على صورته من الاستدارة. &(7/151)&$
__________
(1) قوله: «وهو أعم» سقط من (ح).
(2) في (ح): «الضمير».
(3) في (ح): «أي» بدل «إذ».
(4) قوله: «قويا» سقط من (ح).
(5) في (ح): «يختلف».
(6) في (ح): «ذكرناه».
(7) قوله: «قوله» سقط من (ح).(7/150)
وقوله: «فلما خلقه الله قال: اذهب فسلم على أولئك النفر، وهم نفز من الملانكة جلوس». الكلابم إلى آخره دليل على تأكد حكم السلام، فإنَّه (1) مما شرع وكئف به آدم، ثم لم (2) ينسخ في شريعة من الشرائع، فإنَّه تعالى أخبره أنها (3) تحيته، وتحية ذريته من بعده، ثم لم (4) يزل ذلك معمولاً به في الأمم على اختلاف شرائعها، إلى أن انتهى ذلك إلى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فامر به وبإفشائه، وجعله سببا للمحبة =(7/184)=@ الدينية، %(4/1651)% ولدخولى الجنة العلية، وهذا كله يشهد لمن قال بوجوبه، وهو أحد القولين للعلماء، وقد تقدَّم القول في ذلك.
وقوله: «سيحان وجيحان والنيل والفرات: كل من أنهار الجنة» هذه الأنهار الأربعة: أكبر أنهار الإسلام (5) . فالنيل ببلاد مصر، والفرات بالعراق ، =(7/185)=@ وسيحان وجيحان ببلاد خراسان، ويقال: سيحون وجيحون، وظاهر هذا الحديث: أن أصل هذه الأنهار ومادتها من الجنة، كما قدمناه في أحاديث الإسراء. وقد تقدَّم: أن النيل والفرات يخرجان من أصل سدرة المنتهى، وقد نص عليه البخاري، ويحتمل أن يكون المراد: أنها تشبه أنهار الجنة في عذوبتها وبركاتها، وأبعد من هذا احتمال أن يكون المراد بذلك: أن الإيمان غمر بلاد هذه الأنهار، وفاض عليها، وأن غالب الأجسام المتغذية بهذه المياه مصيرها إلى الجنة. %(4/1652)%
ومن باب: صفة جهنم أعاذنا الله منها (6)
قوله: «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف &(7/152)&$
__________
(1) في (ح): «وإنه».
(2) في (ح): «ثم إنه لم».
(3) في (ح): «أنه».
(4) في (ح): «فلم» بدل «ثم لم»
(5) في (ح): «الحنة».
(6) قوله: «أعذنا الله منها» سقط من (ح).(7/151)
ملك يجرونها» قد تقدَّم: أن جهنم اسم علم (1) لنار الآخرة، وكذلك: سقر، ولها أسماء كثيرة-أعاذنا الله منها-، ويعني: أنها (2) يجاء بها من المحل الذي خلقها الله فيه، فتدار بأرض المحشر حتى لا يبقى للجنة طريق إلا الصراط، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة. والزمام: ما يزم به الشيء؛ أي: يشد ويربط، وهذه الأزمة =(7/186)=@ (1) شرح المزلف - رحمه الله - تحت هذا العنوان: هذا الباب، والباب الذي يليه بعنوان: تعظيم جسد الكافر، وتعظيم العذاب بحسب أعمال الأعضاء .
التي تساق جهنم بها أيضًا تمنع من خروجها على أهل المحشر، فلا يخرج منها إلا الأعناق التي أمرت بأخذ من شاء الله أخذه. وملائكتها -كما وصفهم الله تعالى -: {غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} [التحريم: 6]. وأما هذا العدد المحصور للملائكة فكأنه عدد رؤسائهم، وأما جملتهم فالعبارة عنها ما قال الله تعالى: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} [المدثر: 31]. %(4/1653)%
وقوله: «ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزة من سبعين جزءا من نار جهنم» يعني: أنه لو جمع كل ما في الوجود من النار التي يوقدها بنو آدم لكانت جزءا من أجزاء جهنم المذكورة، وبيانه: وبيانه: أنه لو جمع حطب الدنيا فوقد كله حتى صار نارا؟ لكان الجزء الواحد من أجزاء نار جهنم؛ الذي هو من سبعين جزءا أشد من حر نار الدنيا كما بينه في آخر الحديث. &(7/153)&$
__________
(1) في (ح): «علم».
(2) في (ح): «أنه».(7/152)
وقولهم: والله إن كانت لكافية)(1)، إن: في مثل هذا الموضع مخففة من الثقيلة عند البصريين، وهذه اللام هي المفرقة بين إن النافية والمخففة من الثقيلة، وهي عند الكوفيين بمعنى ما، واللام بمعنى إلا، تقديره عندهم ما كانت إلا كافية. وعند البصريين: إنها كانت كافية. فأجابهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها كما فضلت عليها في المقدار والعدد بتسعة وستين جزءًا فضلت عليها في شدة الحر بتسعة وتسعين ضعفا.
وقوله: إذ سمع وجبة) أي: هذة، وهي صوت وقع الشيء الثقيل. =(7/187)=@
(ا) هذه الفقرة لم ترد في التلخيص، وهي من الحديث (2843)(0 3) في صحيح مسلم .
وقوله: «أتدرون ما هذا؟» دليل على أنهم حين سمعوا الوجبة خرق الله لهم العادة، فسمعوا ما منعه غيرهم، وإلا فالعادة تقتضي مشاركة غيرهم في سماع هذا الأمر العظيم، ففيه دليل على: أن النار قد خلقت وأعد فيها ما شاء الله مما يعذب به من يشاء، وهو مذهب أهل السنة خلافا للمبتدعة.
وقوله: «ضرس الكافر، أو ناب الكافر مثل أحد. .. الحديث» إنما عظم &(7/154)&$(7/153)
خلقه ليعظم عذابه، وبتضاعف، وهذا إنما هو في بعض الكفار بدليل: أنه قد جاءت أحاديث أخر تدك على: أن المتكبرين يحشرون يوم القيامة أمثال الذر في =(7/188)=@ صور الرجال، يساقون (1) إلى سجن في جهنم يسمى: «بولس»(ا) وقد تقدم قوله: «إن أهون أهل النار %(4/1654)% عذابا من في رجليه نعلان من نار تغلي منها (2) دماغه، وهو أبو طالب». ولا شك في أن الكفار في عذاب جهنم متفاوتون كما قد علم من الكتاب والسنة، ولأنا نعلم على القطع والثبات أنه ليس عذاب من قتل الأنبياء والمسلمين، وفتك فيهم، وأفسد في الأرض وكفر؟ مساويا لعذاب من كفر فقط، وأحسن للأنبياء والمسلمين، وهذا البحث ينبني على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وقد ذكرنا ذلك في الأصول.
وقوله: "فمنهم (3) من تأخذه النار الى كعبيه... الحديث» والحجزة: معقد السراويل، والإزار. والترقوة: بفتح التاء وضم القاف، وهي (4) العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق. وهذا الحديث أيضًا يدلّ على: أن أهل النار يتفاوتون فيها، ويصخ مثل هذا في الكفار، كما قلناه في حديث أبي طالب، ويصح أن يكون ذلك فيمن يعذب من الموحدين إلا أن الله تعالى يميتهم إماتة، كما صح في الحديث. =(7/189)=@ &(7/155)&$
__________
(1) في (ح): «فيساقون».
(2) في (ح): «يغلي منهما».
(3) في (ح): «منهم».
(4) في (ح): «هي» بلا واو.(7/154)
%(4/1655)%
ومن باب: ذبح الموت
قوله: «يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح» قد تقدَّم الكلام على الأملح في الضحايا، وأنه الذي فيه بياض وسواد، والبياض أكثر، كما قاله الكسائي. وقيل: يحتمل أن تكون الحكمة في كون هذا الكبش أملح لأن البياض من جهة الجنة، والسواد من جهة النار.
قلت: ظاهر هذا الحديث مستحيل، وذلك أن العقلاء اتفقوا على: أن الموت: إما عرض مخصوص، وإما نفي الحياة، ولم يذهب أحد إلى أنه من قبيل الجواهر، وأيضًا: فإن المدرك من الموت والحياة إنما هما أمران متضادان (1) متعاقبان على الجواهر، كالحركة وكالسكون (2) ، وقد دل على ذلك من جهة السمع قوله تعالى: {خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا} [تبارك: 2]. فهذا (3) يبطل قول من قال من المعتزلة: إن الموت عدم الحياة؛ لأنَّ العدم لا يخلق، ولا يوجب اختصاصا للجواهر. واستيفاء المباحث العقلي (4) في علم الكلام، واذا تقرر ذلك استحال أن ينقلب الموت كبشا؛ لأنَّ ذلك انقلاب الحقائق وهو محال. وقد تأول الناس ذلك الخبر على وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى خلق صورة كبش خلق فيها الموت، فلما راه أهل =(7/190)=@ الجنة وأهل النار، وعرفوه، فعل الله (5) فيه فعلا يشبه الذبح، أعدمه عند ذلك الفعل &(7/156)&$
__________
(1) في (ح): «متضاددان» كذا رسمت.
(2) في (ح): «والسكون».
(3) في (ح): «وهذا».
(4) في (ح): «العقلية».
(5) لفظ الجلالة ليس في (ح).(7/155)
حتى يأمنه %(4/1656)% أهل الجنة، فيزدادوا سرورا إلى سرورهم، وييأس منه أهل النار فيزدادوا حزنا إلى حزنهم، وعلى هذا يدلّ باقي الحديث، ولا إحالة في شيء من ذلك، ولا بعد.
والوجه الثاني: أن المراد بالحديث تمثيل عدم الموت على جهة التشبيه والاستعارة، ووجهه: أن الموت لما عدم في حق هؤلاء صار بمثابة الكبش الذي يذبح فينعدم، فعبر عنه بذلك، وهذا فيه بعد وتحميل للكلام على ما لا يصلح له، والوجه المعني: الأول. والله أعلم. وبشرئبون: يرفعون رؤوسهم ويتشوفون ليبصروا ما عرض عليهم.
(قوله تعالى: {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر...} (1) الآية [مريم: 39]. ومعنى (2) أنذرهم: أعلمهم وحذزهم، والنذارة: إعلام بالشر، والبشارة: إعلام بالخير، وبوم الحسرة: يعني به زمن ذبح الموت إذا سمعوا: خلود فلا موت. وقضي: بمعنى أحكم وتمم. والأمر: يعني به خلود أهل النار فيها.
وقوله: {وهم في غفلة وهم لا يؤمنون» [مريم: 39]. استئناف خبر عما كانوا عليه في الدنيا، لا تعلق له بما (3) قبله، يدلّ عليه قوله في الحديث، وأشار بيده إلى الدنيا، يعني أنهم كانوا كذلك في الدنيا، والله تعالى أعلم. =(7/191)=@ &(7/157)&$
__________
(1) زاد بعدها قوله: «الآية» في (ح).
(2) في (ح): «معنى» بلا واو.
(3) في (ح): «له بما».(7/156)
%(4/1657)%
ومن باب: محاجة الجنة والنار
قوله: "تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكئرين. .. الحديث » ظاهر هذه المحاجة: أنها لسان مقال، فيكون (1) خزنة كل واحد (2) منهما هم القائلون بذلك (3) ، ويجوز أن يخلق الله ذلك القول فيما شاء من أجزاء الجنة، وقد قلنا فيما تقدَّم: إنه لا يشترط عقلا في الأصوات المقطعة (4) أن يكون محلها حيا، خلافآ لمن اشترط ذلك من المتكلمين. ولو سلمنا ذلك لكان من الممكن أن يخلق الله تعالى في بعض أجزاء الجنة والنار الجمادية حياة، بحيث يصدر ذلك القول عنه، والله تعالى أعلم. لا سيما وقد قال بعض المفسرين في قوله تعالى: {وإن الدار الآخرة لهى الحيوان} [العنكبوت: 64]: إن كل ما في الجنة حي، ويحتمل أن يكون ذلك لسان حال فيكون ذلك عبارة عن حالتيهما، والأول أولى، والله تعالى أعلم.
و(قول الجنة: «ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم (5) » وفي رواية: وغرتهم» الضعفاء: جمع ضيف: يعني به الضعفاء في أمر الدنيا، &(7/158)&$
__________
(1) في (ح): «فتكون».
(2) في (ح): «واحدة».
(3) في (ح): «ذلك».
(4) قوله: «المقطعة» سقط من (ح).
(5) في (ح): «وعجزهم علي».(7/157)
ويحتمل أن يريد به هنا الفقراء. وحمله على الفقراء أولى من حمله على الأول؛ لأنَّه يكون معنى الضعفاء: معنى (1) العجزة المذكورين بعد. وسقطهم - بفتح السين والقاف-: جمع ساقط وهو النازل القدر، وهو الذي عبر عنه بأنه لا يؤبه له، وأصله من سقط المتاع: وهو رديئه. وعجزهم، قال القاضي: هو بفتح العين والجيم جمع عاجز. =(7/192)=@ %(4/1658)%
قلت: ويلزمه على ذلك أن يكون بالتاء ككاتب وكتبة، وحاسب وحسبة، وسقوط التاء في مثل هذا الجمع نادر، وإنما يسقطونها إذا سلكوا بالجمع مسلك اسم الجنس، كما فعلوا ذلك في سقطهم، وصواب هذا اللفظ: أن يكون عجزهم بضم العين وتشديد الجيم، كنحو: شاهد وشهد، وكذلك أذكر أني قرأته: وغرثهم: بفتح الغين المعجمة والثاء المثلثة جمع غرثان، وهو الجيعان، والغرث (2) : الجوع. وقد رواه الطبرى: غرتهم: بكسر الغين وبالتاء باثنتين فوقها، وتشديد الراء (3) : أي غفلتهم، وأهل البله منهم، كما قال في الحديث الآخر: «أكثر أهل الجنة البله)(1) يعني به: عامة أهل الإيمان الذين لم يتفطنوا للشبه، ولم توسوس لهم الشياطين بشيء من ذلك، فهم صحاح العقائد، ثابتو الإيمان، وهم أكثر المؤمنين، وأما العارفون والعلماء والحكماء، فهم الأقل، وهم أصحاب الدرجات العلى والمنازل الرفيعة.
وقوله: «وأما النار (4) فلا تمتلىء فيضع قدمه عليها» وفي اللفظ الاخر: =(7/193)=@ (1) "حتى يضع رب العزة فيها قدمه"، وفي اللفظ الآخر: (حتى يضع الله رجله) ولم يذكر لا فيها ولا عليها، وقد ضل بظاهر هذا اللفظ من أذهب الله عقله، وأعدم فهمه، وهم المجسمة المشبهة، فاعتقدوا: أن لله تعالى رجلا من لحم وعصب تشبه رجلنا، كما اعتقدوا في الله تعالى أنه جسم يشبه أجسامنا ذو وجه وعينين، وجنب ويد ورجل وهكذا... وهذا ارتكاب جهالة خالفوا بها العقول &(7/159)&$
__________
(1) في (ح): «ومعنى».
(2) في (ح): «والمغرث».
(3) في (ح): «الواو».
(4) قوله: «وأما النار» سقط من (ح).(7/158)
وأدلة الشرع المنقول، وما كان سلف هذه الأمة عليه من التنزيه عن المماثلة والتشبيه، وكيف يستقر هذا المذهب %(4/1659)% الفاسد في قلب من له أدنى فكرة، ومن العقل أقل مسكة، فإنَّ الأجسام من حيث هي كذلك متساوية في الأحكام العقلية، وما ثبت للشيء ثبت لمثله، وقد ثبت لهذه الأجسام الحدوث، فيلزم عليه أن يكون الله تعالى حادثا، وهو محال باتفاق العقلاء والشرائع. ثم انظر غفلتهم وجهلهم بكلام الله تعالى وبمعانيه، فكأنهم لم يسمعوا قوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: ا]. ويلزم على قولهم: أن يكون كل واحد منا مثلا له تعالى من جهة الجسمية والحيوانية، والجوارح، وغير ذلك من الأعضاء والأعصاب واللحم والجلود والشعور، وغير هذا، وكل ذلك جهالات وضلالات، ولله سر في إبعاد بعض العباد {ومن يضلل الله فما له من هاد} [الرعد: 33]. وقد تأول علماؤنا ذلك الحديث تأويلات (ا). وأشبه ما فيها تأويلان:
أحدهما: أن النار تتغتظ، وتتهيج (1) حنقا على الكفار والمتكبرين والعصاة، كما قال تعالى: {تكاد تميز من الغيظ} [تبارك: 8]، وكما قال (2) : {يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد} [ق: 30]، وكما قال في هذا الحديث: (لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد؟»، وكما قال: (تخرج عنق من النار فتقول :=(7/194)=@ وكلت بالجبارين والمتكبرين»(ا). فكأنها تعلو وتطغى (3) حتى كأنها تجاوز الحد، وفي بعض الحديث: «أنها تكاد أن تلتقم أهل المحشر فيكسر الله سورتها، وحدتها، وبردها، ويذللها ذل متكبر وطىء بالقدم (4) والرجل» فعبر عن تذليلها بذلك، ويشهد لذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : «فيضع قدمه عليها» وعلى هذا فيكون «فيها» في الرواية الأخرى بمعنى عليها. كما قال: {ولأصلبنكم (5) فى جذوع النخل» [طه: 71]، أي: على جذوع النخل. &(7/160)&$
__________
(1) في (ح): «وتهيج».
(2) من قوله: «في هذا الحديث...» إلى هنا سقط من (ح).
(3) في (ح): «أو يطغى».
(4) في (ح): «بالأقدام».
(5) في (ح): «لأصلبنكم» بلا واو.(7/159)
%(4/1660)%
وثانيهما: أن القدم والرجل (1) عبارة عمن تأخر دخوله في النار من أهلها، وهم جماعات كثيرة؛ لأنَّ أهل النار يلقون فيها فوجا بعد فوج، كما قال تعالى: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها} [تبارك: 8]، ويؤيده (2) قوله في هذا الحديث: «لا يزال يلقى فيها» فالخزنة تنتظر (3) أولئك المتأخرين، إذ قد علموهم (4) بأسمائهم وأوصافهم، كما روي عن ابن مسعود أنه قال: ما في النار بيت، ولا سلسلة، ولا مقمع، ولا تابوت إلا وعليه اسم صاحبه، فكل واحد من الخزنة ينتظر صاحبه الذي قد عرف اسمه وصفته، فاذا استوفى كل واحد! منهم ما أمر به، وما ينتظره، ولم يبق منهم أحد، قالت الخزنة: قط قط، أي: حسبنا، حسبنا. اكتفينا، اكتفينا. فحينئذ تنزوي جهنم على من فيها. أي: تجتمع، وتنطبق إذ لم يبق أحد ينتظر، فعبر عن ذلك الجمع المنتظر بالرجل والقدم، كما عبرت العرب عن جماعة الجراد بالرجل، فتقول :=(7/195)=@
جاء رجل من جراد؟ أي: جماعة منها، ويشهد بصحَّة (5) هذا التأويل قوله في آخر الحديث: «ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشىء الله لها خلقا فيسكنهم (6) فضل الجنة» والله بمراد رسوله أعلم، والتسليم في المشكلات أسلم. وقد تقدَّم القول في قط الزمانية، وأنها مبنية على الضم مشددة ومخففة، وأنها تقال بفتح القاف وهو الأصل فيها، ويقال بالضم إتباعا. وأما قط بمعنى حسب فهي مبنية على السكون، وقد تكسر، وتلحقها نون الوقاية إذا اضيفت (7) ، وتقال: بالدال، ويصح فيهامايصخ في الطاء. &(7/161)&$
__________
(1) في (ح): «أن الرجل والقدم».
(2) في (ح): «ويؤيد».
(3) في (ح): «تنظر».
(4) في (ح): «علمهم».
(5) في (ح): «لصحة».
(6) في (ح): «يسكنهم».
(7) في (ح): «إذا لم تضف».(7/160)
%(4/1661)%
ومن باب: شهادة أركان الكافر عليه بوم القيامة
قد تقدَّم القول على رؤية الله تعالى في كتاب الإيمان، وعلى قوله: تضارون. =(7/196)=@
(أي: إلى ياء المتكلم. قال الراجز: امتلا الحوض وقال تطني سلا رويدا قد ملأت بطني انظر: اللسان مادة (قطط ). (2) شرح المؤلف -رحمه الله - تحت هذا العنوان جميع الأبواب المتبقية من كتاب: ذكر الموت وما بعده(.
قوله (1) : «أي فل» هو منادى مرخم، فكأنه قال: يا فلان، ولا يرخم في غير النداء إلا في ضرورة الشعر. وقوله: «ألم أكرمك؟» أي: بما فضلتك به على سائر الحيوانات، كما قال تعالى (2) : {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} [الإسراء: 70].
وقوله: «وأسودك» أي: جعلتك سيدأ على قومك. والسؤدد: التقدم بالأوصاف الجميلة، والأفعال الحميدة.
وقوله: «وأذرك ترأس وتربع؟» أي: ألم أتركك تترأس على قومك؟ أي: &(7/162)&$
__________
(1) في (ح): «وقوله».
(2) في (ح): «تعالى ذكره».(7/161)
تكون رئيسا عليهم. وتربع – بالموحدة (1) - أي: تأخذ المرباع، أي: الربع فيما يحصل لقومك من الغنائم والكسب. وكانت عادتهم: أن أمراءهم (2) يأخذون من الغنائم الربع، %(4/1662)% ويسمونه المرباع. قال قطرب: المرباع: الربع. والمعشار: العشر، ولم يسمع في غيرهما. ورواية الجمهور: تربع بالباء، وعند ابن ماهان: ترتع بتاء باثنتين من فوقها، ومعناه: تتنغم.
وقوله: «أفظننت أنك ملاقي؟» أي: أعلمت؟ كقوله تعالى: {فظنوا أنهم مواقعوها} [الكهف: 53] أي: علموا.
وقوله: «فإني أنساك كما نسيتني » أي: أتركك في العذاب كما تركت معرفتي وعبادتي. =(7/197)=@
وقوله للثالث: «ها هنا إذًا؟» يعني: أها هنا تكذب وتقول غير الحق؟! وذلك أن هذا المنافق أنجاه كذبه ونفاقه في الدنيا من سفك دمه، واستباحة ماله، فاستصحب الكذب إلى الآخرة، حتى كذب بين يدي الله تعالى (3) .
وقوله: «فيختم على فيه» أي: يمنع من الكلام المكتسب له، وينطق لسانه (4) ، وسائر أركانه بكلام ضرورئ لا كسب له فيه، ولا قدرة على منعه، كما قال تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} [النور: 24]، فإذا شهدت عليه أركانه بعلمه خلي بينه وبين الكلام المقدور له، فيلوم جوارحه الشاهدة عليه بقوله: «ويلكن فعنكن كنت أناضل » أي: أدافع وأحتخ، والرواية المشهورة: «إذا» التي %(4/1663)% للتعليل. وقد رواها ابن الحذاء: «إذن» والأول أصح وأشهر، وقد سقطت هذه اللفظة جملة عند الصدفي. واقتصر على: ها هنا. &(7/163)&$
__________
(1) في (ح): «بالباء بواحدة من تحتها» بدل «بالموحدة».
(2) في (ح): «أمراءهم كانوا».
(3) في (ح): «يدي الله عز وجل».
(4) في (ح): «لسائر» بدل «لسانه».(7/162)
وقيل: معناها: هنا اثبث مكانك، كما تقول لمن تهدده: اثبت مكانك حتى أريك» وما ذكرناه أولى وأشبه (1) ، والله تعالى أعلم.
وقوله: «ليعذر من نفسه» بضم الياء وكسر الذال المعجمة: من أعذر، أي: بالغ في حجَّة نفسه. يعني أن المنافق قال ما قال من ادعاء فعل الخيرات المتقدمة. =(7/198)=@
وقوله: في الرواية الأخرى: «ألم تجرني من الظلم؟»... إلى آخر الكلام...) ليبالغ في عذر نفسه الذي يظن أنه ينجيه، يقال: أعذر الرجل في الأمر، أي: بالغ فيه، وقد تقدم القول في أن أقل ساكني الجنة النساء الآدميات، وأنهن أكثر ساكني النار. =(7/199)=@ %(4/1664)%
و(قوله: «إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهوديا، أو نصرانيا، فيقول: هذا فكاكك من النار» يعني: مسلما مذنبا، بدليل الرواية الأخيرة التي قال =(7/200)=@ فيها: «يجيء يوم القيامة ناس (2) من المسلمين بذنوب أمثال الجبال». ومعنى كونه فكاكا للمسلم من النار، وأن الله يغفر للمسلم ذنوبه، ويضاعف للكافر العذاب بحسب جرائمه؛ لأنَّه تعالى لا يؤاخذ أحدًا بذنب أحد، كما قال: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الإسراء: 15]. %(4/1665)%
وقوله في الرواية الأخرى: «فيغفرها لهم» أي: يسقط المؤاخذة (3) عنهم بها حتى كأنهم لم يذنبوا، ومعنى قوله: «ويضعها على اليهود والنصارى» أي (4) : أنه يضاعف عليهم عذاب ذنوبهم حتى يكون عذابهم بقدر جرمهم، وجزم مذنبي المسلمين لو أخذوا بذلك، ولله تعالى (5) أن يضاعف لمن يشاء العذاب، ويخففه عمن &(7/164)&$
__________
(1) في (ح): «أولاً أشبه».
(2) في (ح): «ناس».
(3) في (ح): «عليهم».
(4) قوله: «أي» سقط من (ح).
(5) في (ح): «وله تعالى».(7/163)
يشاء، بحكم إرادته ومشيئته؟ إذ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ولما كان خلاص المؤمن من ذنوبه عندما يدفع له الكافر سمي بذلك فكاكا كما سمي تخليص الرهن من يد المرتهن (1) : فكاكا. &(7/165)&$
__________
(1) قوله: «من يد المرتهن» سقط من (ح).(7/164)
وأما قوله في الرواية الأخرى: «لا يموت مسلم إلا أدخل الله مكانه النار يهوديا أو نصرانيا»، فيعني (1) بذلك - والله أعلم - أن المسلم المذنب لما كان يستحق =(7/201)=@ (1) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ( 10/ 354) رعزاه للطبراني في الأوسط، وفيه: جابر ابن يزيد الجعفي، وهو ضيف. (2) في مسلم والتلخيص: رجل مسلم.
مكانا من النار بسبب ذنوبه، وعفا الله تعالى عنه، وبقي مكانه خاليا منه أضاف الله ذلك المكان إلى يهودي، أو نصراني ليعذب فيه، زيادة على تعذيب مكانه الذي يستحفه بسبب (2) كفره، ويشهد لذلك (3) قوله عليه السلام في حديث أنس للمؤمن الذي ثبت عند السؤال في (4) القبر: "فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة"(ا)، وقد تقدَّم الكلام عليه، وإنما احتاج علماؤنا لتأويل ألفاظ حديث أبي موسى المذكور (5) في هذا الحديث لما عارضها من قوله تعالى: {ولاتزر وازرة وزر أخرى» [الإسراء: 15]، ولقوله: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 39]، ولقوله: {وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى} [فاطر: 18]، ولقوله تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} [المدثر: 38]، %(4/1666)% ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : «ألا لا يجني جان إلا على نفسه»(2)، ومثله كثير. وعلى الجملة فهي قاعدة معلومة من الشرع لا يختلف فيها. =(7/202)=@
وقوله: «أتسخر مني وأنت الملك؟»، وفي اللفظ الآخر: «أتستهزىء مني وأنت رب العالمين؟» يحتمل أن يكون هذا القول صدر من هذا الرجل عند غلبة الفرح عليه، واستحقاقه إياه، فغلط كما غلط الذي قال: «اللهم أنت عبدي وأنا &(7/166)&$
__________
(1) في (ح): «يعني».
(2) في (ح): «بحسب».
(3) في (ح): «لهذا».
(4) قوله: «في» سقط من (ح).
(5) في (ح): «المذكورة».(7/165)
ربك» ويحتمل أن يكون معناه: أتجازيني على ما كان مني في الدنيا من الاستهزاء والسخرية بأعمالي وقلة احتفالي بها، فيكون هذا على جهة المقابلة، كما قال تعالى: {الله يستهزئ بهم} [البقرة: 15]، و {ومكروا ومكر الله} [آل عمران: 54]. وقد تقدَّم القول في ضحك الله تعالى، وأنه راجع إلى الرضا. &(7/167)&$(7/166)
%(4/1667)%
وقوله: «يكبو مرة وتسفعه النار مرة» أى: يسقط، ويعثر بخطاطيف الصراط وعقباته، وتسفعه: أي: تحرقه، وتغير لونه. =(7/203)=@ &(7/168)&$(7/167)
%(4/1668)%
وقول الله تعالى :» ما يصريني منك؟ أي: ما يقطع طلبتك وما يفصلها؟ =(7/204)=@ يقال: صريت ما بينهم صريًا، أي: فصلت، ويقال: اختصمنا إلى الحاكم فصرى بيننا، أي: قطع وفصل. =(7/205)=@ &(7/169)&$(7/168)
%(4/1669)%(7/169)
كتاب الفتن والأشراط
باب إقبال الفتن ونزولها كمواقع القطر، ومن أين تجيء (1)
قوله عليه السلام: «ويل للعرب من شر قد اقترب» هذا تنبيه على الاختلاف والفتن والهرج الواقع في العرب، وأول ذلك قتل عثمان - رضي الله عنه - ولذلك أخبر عنه بالقرب، ثم لم يزل كذلك (2) إلى أن صارت العرب بين الأمم كالقصعة بين الأكلة، =(7/206)=@ كما قال في الحديث الآخر: «أوشك أن تداعى (3) عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها». قال ذلك مخاطبا للعرب، ولهم خَاطبَ أيضًا بقوله: ((إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر» %(4/1670)%
وقوله: «فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه» الردم: هو السد &(7/170)&$
__________
(1) من قوله: «باب إمال ...» إلى هنا سقط من (ح).
(2) في (ح): «ذلك».
(3) في (ح): «تتداعى».(7/170)
الذي بناه ذو القرنين على يأجوج ومأجوج، ويهمزان ولا يهمزان لغتان. وقرىء بهما، فمن همزهما جعلهما من أجيج النار، وهو ضوءها، وحرارتها، وسموا بذلك لكثرتهم وشدتهم، وقيل: من جاج (1) ، وهو الماء الشديد الملوحة، وقيل: هما اسمان أعجميان غير مشتقين. قال مقاتل: هم من ولد يافث بن نوح؛ الضحاك: من الترك. كعب: احتلم آدم (2) عليه السلام فاختلط ماؤه بالتراب فَاَسِفَ، فخلقوا من ذلك، وفيه نظر؛ لأنَّ (3) الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا يحتلمون (4) . وذكر الغزنوي في كتابه المسمى بـ((عيون المعاني)): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يأجوج أمة لها أربعمئة أمير، وكذلك مأجوج لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف فارس من ولده. صنف منهم كالأرز طولهم مئة وعشرون ذراعا، وصنف يفترش أذنه ويلتحف بالأخرى، لا يمرون بفيل، ولا خنزير إلا أكلوه، ويأكلون من مات منهم. مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان، يشربون أنهار المشرق، وبحيرة طبرية، فيمنعهم الله من مكة والمدينة وبيت المقدس» وقال علي -رضي الله عنه -: وصنف منهم في طول شبر، لهم مخالب وأنياب السباع، وتداعي الحمام، وتسافد البهائم، وعواء الذنب، وشعور تقيهم الحر والبرد، واذان عظام، إحداها وبرة (5) يشتون فيها، والأخرى جلدة يصيفون فيها، يحفرون السد حتى كادوا ينقبونه (6) ، فيعيده الله تعالى كما كان، حتى يقولوا: ننقبه غدا - إن شاء الله - فينقبون ويخرجون =(7/207)=@ ( 1) رواه أحمد (5/ 278)، وأبو داود (4297) عن ثوبان، ولفظه: «يوشك الأمم أن تداس. علمكص. ..»
ويتحصن الناس بالحصون، فيرمون إلى السماء، فيرد إليهم السهم ملطخا بالدم، ثم يهلكهم الله بالننف (7) في رقابهم، يعني: الدود. قلت: وسيأتي من أخبارهم الصحيحة ما يشهد بالصحة لأكثر هذين الحديثين.
وقوله: «مثل (8) هذه - وحلق بأصبعيه (9) : الابهام والتي تليها» هذا إخبار وتفسير &(7/171)&$
__________
(1) في (ح): «من الأجاج».
(2) في (ح): «ذلك» وكأنه أصلحها إلى قوله «آدم» ولم تتضح.
(3) في (ح): «أن» بدل «لأن».
(4) في (ح): «لا يحلمون».
(5) في (ح): «وفره».
(6) في (ح): «حتى ينقبون».
(7) في (ح): «بالنقف».
(8) في (ح): «لمثل».
(9) في (ح): «بأصبعا».(7/171)
من الصحابة التي شاهدث إشارة النبي صلى الله عليه وسلم. ثم إن الرواة بعدهم عبروا عن ذلك باصطلاح الحساب، فقال بعضهم: وعقد سفيان بيده عشرة، وقال بعضهم: وعند وهيب بيده تسعين، وهذا تقريب في العبارة. والحاصل: أن الذي فتحوا من السد %(4/1671)% قليل، وهم مع ذلك لم يلهمهم الله أن يقولوا: غدًا نفتحه -إن شاء الله تعالى - فاذا قالوها خرجوا، والله أعلم. وقوله: ((أنهلك وفينا الصالحون؟)) قال: «نعم إذا كثر الخبث» رويناه بفتح الباء وهو اسم للزنى.
قال القاضي: العرب تسمي الزنى خبثا وخبيثة، ومنه في المخدج: أنه وجد مع أمة يخبت به» أي: يزني بها، وهو أحد التأويلين في قوله تعالى:{الخبيثات للخبيثين} وقيل: هو الفسوق والفجور، ويروى: الخبث، بسكون الباء، وهو مصدر، يقال: خبث الرجل خبثا، فهو =(7/208)=@
( 1) رواه ابن ماجه (2574) .
د؟ء«ه ، س حا-م جماة -ء--.----ت لا ر- أشالكم عن الصغيرة! وأبهبكم للكبيرة! سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول :
خبيث، وأخبثه غيره: علمه الخبث. وقد تقدَّم: أن الله تعالى إذا أهلك قومًا مهلكًا واحدا بعثهم على نياتهم.
وقوله: ((أشرف على أطم من آطام المدينة)) أى: على حصن من حصونها، وتسمى أيضًا: الآجام، وقد تقدَّم ذلك. وأشرف: ارتفع. &(7/172)&$(7/172)
وقوله: «إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم» مواقع: جمع موقع، وهو: موضع سقوط الشيء، ووقوعه. وخلال: بمعنى بين، وهو خبر على أنه رأى مواضع الفتن، وعاينها، وقد نص في الخبر الآتي بعد هذا على أنها تأتي من قبل المشرق، وقد وجد كل ذلك كما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك من أدلة صحة نبوته ورسالته، ظهرت بعد وفاته. وقد تقدَّم القول في قرني الشيطان في كتاب الصلاة. %(4/1672)%
وقول سالم لأهل العراق: ((إنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ... الكلام إلى آخره)) تعظيم لما أقدموا عليه من قتل أخيار المسلمين =(7/209)=@ وصدورهم، وتقبيح عليهم، وتهديد لهم (1) ، ووجه ذلك: أن الله تعالى عظم على موسى وهو صفيه وكليمه، قتل كافر لم ينه عن قتله، مع أن قتله كان خطأ، وكرر عليه، وامتن عليه بمغفرته (2) له ذلك مرارا، فكيف يكون حال من سفك دماء (3) خيار المسلمين من صدور هذه الأمة من الصحابة والتابعين؟! كل ذلك بمحض الهوى، والتجرؤ على استباحة الدماء، فهم الذين قتلوا الحسين» وسبوا نساءه وأولاده من غير توقف، ولا سؤال، وسألوا عن دم البراغيث ليرتفع عنهم الإشكال، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقوله: {فنجيناك من الغم} أي: من غم البحر، وقيل: غم الخوف والقود. و {فتناك فتونا} فتنة بعد فتنة؛ أي: محنة (4) بعد محنة، وفتونا: مصدر فتن، كخرج خروجا، وقعد قعودا. وقال قتادة: بلوناك بلاء بعد بلاء، يعني: أنعمنا عليك بنعم كثيرة. وقد تقدَّم: أن البلاء يكون بمعنى الابتلاء بالخير والشر. وكل ذلك بمعنى الفتنة والمحنة؛ لأنَّها كلها بمعنى واحد =(7/210)=@ &(7/173)&$
__________
(1) في (ح): «تهديدهم».
(2) في (ح): «مغفرته».
(3) في (ح): «الدماء».
(4) في (ح): «محبة».(7/173)
%(4/1673)%
ومن باب: الفرار من الفتن وكسر السلاح فيه (1)
قوله: «من تشرف إليها تستشرفه» أي: من تعاطاها، أو تشوف إليها صرعته وأهلكته، وهو مأخوذ من أشرف المريض على الهلاك إذا أشفى عليه، وقد روى: «من تشوف إليها، على أنه فعل مضارع مجزوم بالشرط. والأول (2) على أنه فعل ماض بموضع (3) جزم بالشرط. وقوله: «إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتن... الحديث إلى آخره» كل (4) تضمن الأخبار عن وقوع فتن هائلة عظيمة بعده، والأمر بالكف عنها والفرار منها. =(7/211)=@
وقوله: «يعمد إلى سيفه فيدق عليه بحجر» هذا محمول على ظاهره، وذلك أنه إذا فعل ذلك لم يكن له شيء يستعين به على الدخول فيها فيفر منها، أو يسلم. %(4/1674)%
وقوله: «ثم لينج إن استطاع النجاة» أي: ليسرع وليفر إن وجد إلى ذلك سبيلا، وقد قال بظاهر هذه الأحاديث جماعة من السلف فاجتنبوا جميع ما &(7/174)&$
__________
(1) قوله: «فيها» سقط من (ح).
(2) في (ح): «والأولى».
(3) في (ح): «في موضع».
(4) في (ح): «كله».(7/174)
وقع بين الصحابة من الخلاف والقتال، منهم: أبو بكرة، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة، وأسامة بن زيد، فأما عبد الله بن عمر فندم على تخلفه عن نصر (1) علي بن أبي طالب وقال عند موته: ما آسى على شيء ما آسى على تركي قتال الفئة الباغية، يعني فئة معاوية.وأما محمد بن مسلمة فاتخذ سيفا من خشب، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بذلك وأقام بالربذة، فمن هؤلاء من تمسك بمثل هذه الأحاديث، فانكف. ومنهم من أشكل عليه الأمر فانكف لذلك، كعبد الله بن عمر إلى أن اتضح له الحق فندم.
قال القاضي: ويتوجه في هذا الحديث الكلام في دماء الصحابة، وقتالهم للناس (2) في ذلك غلو وإسراف واضطراب من المقالات، واختلاف، والذي عليه جماعة أهل السنة والحق: حسن الظن بهم، والإمساك عما شجر بينهم، وطلب أحسن التأويل لفعلهم، وأنهم مجتهدون غير قاصدين للمعصية، والمجاهرة بذلك وطلب حب الدنيا؛ بل: كل عمل على شاكلته، وبحسب ما أداه إليه اجتهاده لكن منهم المخطئ في اجتهاده، ومنهم المصيب، وقد وقع الله تعالى الحرج عن المجتهد في فروع الدنيا، وضعف الأجر للمصيب.
وقد توقف (3) الطبري وغيره عن تعيين المحق منهم، وعند الجمهور: أن عليا وأشياعه مصيبون في ذبهم عن الإمامة، وقتالهم من نازعهم فيها؛ إذ كان أحق الناس بها وأفضل من على الأرض حينئذ. وغيره تأول وجوب القيام بتغيير المنكر =(7/212)=@ في طلب قتلة عثمان الذين في عسكر علي رضي الله عنه، وأنهم لا يعطون بيعة، ولا يعقدون إمامة حتى يقضوا ذلك، ولم يطلبو» (4) سوى ذلك، ولم ير دفعهم (5) إذ الحكم فيهم &(7/175)&$
__________
(1) في (ح): «نصرة».
(2) في (ح): «والناس».
(3) في (ح): «وقف».
(4) في (ح): «ولم يقضوا».
(5) في (ح): «ولم ير هو دفعهم».(7/175)
إلى الإمام، وكانت الأمور لم يستقر (1) استقرارها، ولا اجتمعت الكلمة بعد، وفيهم عدد ولهم شوكة ومنعة. ولو أظهر تسليمهم أولا، أو القصاص لاضطرب الأمر وانبت الحبل. ومنهم جماعة لم يروا الدخول (2) في شيء من ذلك محتجين بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التلبس بالفتن، والنهي عن قتال أهل الدعوة، كما احتج به أبو بكرة في هذا الحديث على الأحنف، وعذروا الطائفتين بتأويلهم، ولم يروا إحداهما باغية فيقاتلوهم. %(4/1675)%
وقوله ((أرأيت إن أكرهت...)) إلى قوله: «تبوء (3) بإثمه وإثمك)) أي: يرجع والمباءة المرجع، وقد تقدم ذلك، ويعني: أنه يبوء بإثمه فيما دخل فيه، وبإثمك بقتله (4) ، أو لإكراهه إياك على ما أكرهك وفيه: رفع الحرج عن المكره على مثل هذا. والمكره هنا: هو الذي لا يملك من نفسه شيئا، لقوله: أرأيت عن أكرهت حتى ينطلق بي، ولم يقل: أنه انطلق من قبل نفسه. ولم يختلفوا: أن الإكراه على القتل لا يعذر به أحد، وإنما يعذر فيما تعلق بالقلب، أو ما لم يملك الإنسان نفسه. واختلف (5) في الإكراه على المعاصي التي بين الله تعالى وبين عبده.
هل يعذر المكره في أحكام الدنيا والآخرة، أم لا؟ وفي المسألة أبحاث تعرف في كتب الأصول. =(7/213)=@
وقوله: «إذا تواجه المسلمان بسيفهما، فالقاتل والمقتول في النار» معناه: أنهما يستحقان لذلك أما القاتل فبالقتل الحرام، وأما المقتول فبالقصد الحرام، والمستحق للشيء قد يعفى عنه، وإن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك &(7/176)&$
__________
(1) في (ح): «ولم يستقض».
(2) في (ح): «للدخول».
(3) في (ح): «يبوء».
(4) في (ح): «لقتله».
(5) في (ح): «واختلفوا».(7/176)
لمن يشاء، فأما من اعتقد استحلال دم المسلم بغير سبب ولا تأويل، فهو كافر، وفي بعض ألفاظ هذا الحديث في «الأم»: «إذا المسلمان حمل أحدهما على أخيه السلاح %(4/1676)% فهما على جرف جهنم، فإذا قتل أحدهما صاحبه دخلاها جميعا».
رواه الطبري والعذري «وهم (1) على جرف جهنم»، كما ذكرناه بالجيم، وعند بعضهم: «حرف». وكلاهما متقارب في المعنى، والصورة ورواه ابن ماهان: «في حر»، بالحاء المهملة والراء وغير فاء مصدر جرت النار تحر حرا (2) . =(7/214)=@
وقوله: «لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يوم لا يدري القائل فيما قتل، ولا المقتول فيما قتل»؛ يعني: بذلك أن الأهواء تغلب، والقتل يكثر ويستسهل (3) ؛ حتى لا يبالي، فيكون قتل المسلم عند قاتله كقتل نملة، كما هو الحال الآن في اقصى (4) المغرب، والهرج: هو كثرة الاختلاف والقتل، وهو ساكن الراء.
وقوله هنا: «القاتل والمقتول في النار» يوضح أن ذلك محمول في هذا وفي (5) حديث أبي بكرة على ما إذا كان القتال في طلب الدنيا، أو على مقتضى الأهواء، وليس في المتأولين المسلمين، ولا فيمن قاتل الباغين. &(7/177)&$
__________
(1) في (ح): «فهما».
(2) في (ح): «تحر حرا وحرارة».
(3) في (ح): «ويستشهد».
(4) في (ح): «في بعض أقصى».
(5) قوله: «في» سقط من (ح).(7/177)
%(4/1677)%
ومن باب: لا تقوم الساعة حتى تقتل فئتان عظيمتان
يعني بهما فئة علي ومعاوية، والله تعالى أعلم.
وقوله: «دعواهما واحدة»؛ أي: دينهما واحد، إذ الكل مسلمون، يدعون =(7/215)=@ بدعوة الإسلام عند الحرب، وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله.
وقوله في تفسير الهرج: «القتل القتل»؛ وجدته في كتاب الشيخ برفع اللام من القتل في اللفظين، معتنى به، مصححا عليه، وهو مرفوع على خبر مبتدأ محذوف؛ أي هو القتل، هو القتل. وأصل الهرج: الاختلاط. يقال: هرج القوم؛ إذا اختلطوا، وسمي القتل بالهرج؛ لأنه لا يكون غالبا إلا عن الاختلاط.
وقوله: «وإن (1) الله زوى الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها» أي جمعها لي حتى أبصرت ما (2) تملكه أمتي من أقصى المشارق والمغارب منها. وظاهر هذا اللفظ يقتضي: أن الله تعالى قوى إدراك بصره، ورفع عنه الموانع المعتادة، فأدرك البعيد من موضعه، كما أدرك بيت المقدس من مكة، وأخذ يخبرهم عن آياته، وهو ينظر إليه، %(4/1678)% وكما قال: «إني لأبصر قصر المدائن الأبيض». ويحتمل أن يكون مثلها الله تعالى له فرآها، والأول أولى .=(7/216)=@
وقوله: «إن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها» هذا الخبر قد وجد مخبره كما قال، وكان (3) ذلك من دلائل نبوته، وذلك أن ملك أمته اتسع إلى أن بلغ &(7/178)&$
__________
(1) في (ح): «إن» بلا واو.
(2) في (ح): «بما».
(3) في (ح): «كما قاله فلان».(7/178)
أقصى بحر طنجة الذي هو منتهى عمارة المغرب إلى أقصى المشرق، مما وراء خراسان والنهر، وكثير من بلاد الهند والسند والصغد (1) . ولم يتسع ذلك الاتساع من جهة الجنوب والشمال، ولذلك لم يذكر عليه السلام أنه أريه، ولا أخبر أن ملك أمته يبلغه .
وقوله: «أعطيت الكنزين» يعني به: كنز كسرى، وهو ملك (2) الفرس، وملك قيصر، وهو ملك الروم، وقصورهما، وبلادهما، وقد دل على ذلك قوله عليه السلام في الحديث الآخر حين أخبر عن هلاكهما: (لتنفقن كنوزهما في سبيل الله»، وعبر بالأحمر عن كنز قيصر؛ لأنَّ الغالب عندهم كان الذهب، وبالأبيض عن كنز كسرى؛ لأنَّ الغالب كان عندهم الفضة والجوهر. وقد ظهر ذلك، ووجد كذلك في زمان الفتوح في خلافة عمر فإنَّه سيق إليه تاج كسرى وحليته، وما كان في بيوت أمواله، وجميع ما حوته مملكته على سعتها وعظمته» (3) ، وكذلك فعل الله بقيصر، لما فتحت بلاده.
وقوله: ((وإني دعوت (2) ربي لأمتي ألأ يهلكها بسنة بعامة» كذا صحت الرواية (4) بالباء في (بعامة) وكأنها زائدة؛ لأنَّ عامة صفة لسنة، فكانه قال: بسنة عامة، ويعني بالسنة: الجدب العام الذي يكون به الهلاك العام. ويسمى الجدب والقحط: سنة، ويجمع سنين، كما قال تعالى: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات} أي: بالجدب المتوالي. وبيضة المسلمين: =(7/217)=@ ( 1) رواه أحمد ( 2/ 0 4 2)» ومسلم (18 29) ( 75)، وا لترمذي ( 6 1 22). (2) في مسلم رالتلخيص: سالت .
معظمهم وجماعتهم، وفي %(4/1679)% الصحاح: بيضة كل شيء: حوزته، وبيضة القوم: ساحتهم، وعلى هذا فيكون معنى الحديث: أن الله تعالى: لا يسلط العدو على كافة المسلمين حتى يستبيح جميع ما حازوه من البلاد والأرض، ولو اجتمع عليهم (5) كل من بيق أقطار الأرض، وهي: جوانبها.
وقوله: «حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا)) ظاهر (حتى): الغاية، فيقتضي ظاهر هذا الكلام: أنه لا يسلط عليهم عدوهم &(7/179)&$
__________
(1) في (ح): «والمغد».
(2) في (ح): «وكنز».
(3) في (ح): «وعظمها».
(4) قوله: «كذا صحت الرواية» مكرر في (ح).
(5) قوله: «عليهم» سقط من (ح).(7/179)
فيستبيحهم، إلا إذا كان منهم إهلاك بعضهم لبعض، وسبي بعضهم لبعض. وحاصل هذا أنه إذا كان من المسلمين ذلك تفرقت جماعتهم، واشتغل بعضهم ببعض عن جهاد العدو، فقويت شوكة العدو، واستولى، كما شاهدناه في أزماننا هذه في المشرق والمغرب، وذلك أنه لما اختلف ملوك الشرق، وتجادلو (1) استولوا كافر الترك على جميع عراق العجم، ولما اختلف (2) ملوك المغرب وتجادلو (3) استولت الإفرنج على جميع بلاد (4) الأندلس، والجزر القريبة منها، وها هم قد طمعوا في جميع بلاد الإسلام، فنسأل الله أن يتدارك المسلمين بالعفو، والنصر، واللطف. ولا يصح أن يكون (حتى) هنا بمعنى كي لفساد المعنى، فتدبره. =(7/218)=@
وقوله: «وسألته ألا يهلك أمتي بالغرق فاعطانيها» يعني: ألا يهلك جميعهم بطوفان كطوفان نوح حتى يغرق جميعهم، وهذا فيه بعد، ولعل هذا اللفظ كان بالعدو، فتصحف على بعض الرواة لقرب ما بينهما في اللفظ، وبدو على صحة ذلك: أن هذا الحديث قد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم خباب بن الأرت، %(4/1680)% وثوبان وغيرهما، وكلهم قال: بدل «الغرق» المذكور في هذا الحديث: «عدوا من غير أنفسهم» والله تعالى أعلم.
وقوله: «وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها (5) » الباس: الحروب والفتن، وأصله من بئس يباس: إذا أصابه البؤس، وهو الضر، ويقال: بأسا وضرًّا .&(7/180)&$
__________
(1) في (ح): «وتخاذلوا».
(2) في (ح): «اختلف».
(3) في (ح): «وتخاذلوا».
(4) في (ح): «البلاد».
(5) في (ح): «فمنعها» وكتب في الهامش «فمنعنيها».(7/180)
وقوله: «يا محمد! إني إذا قضيت قضاء لا يرد» يستفاد منه: أنه لا يستجاب من الدعاء إلا ما وافقه القضاء، وحينئذ يشكل بما قد روى عنه عليه السلام أنه قال: «لا يرد القضاء إلا الدعاء». ويرتفع الاشكال بأن يقال: إن القضاء الذي لا يرده دعاء، ولا غيره، هو الذي سبق علم الله بأنه لا بد من وقوعه. والقضاء الذي يرد (1) . الدعاء، أو صلة الرحم، هو الذي أظهره الله بالكتابة في اللوح المحفوظ؛ الذي قال الله تعالى فيه: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب}، وقد تقدم ذلك في كتاب القدر.=(7/219)=@ %(4/1681)%
( 1) رراه الترمذى (2139) من حديث سلمان - رضي الله عنه -.
ومن باب: إخبار النبي صلى الله عليه وسلم
بما يكون إلى قيام الساعة
عن حذيفة: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامًا ما ترك فيه شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به)) هذا المجرور الذي هو (في مقامه) يجوز &(7/181)&$
__________
(1) في (ح): «يرده».(7/181)
أن يكون متعلقًا بترك، والأليق أن يكون متعلقا بحدث؛ لأنَّ الظاهر من الكلام: أنه أراد أنه ما ترك شيئًا يكون إلى قيام الساعة إلا حدث به في ذلك المقام، وهذا المقام المذكور في هذا الحديث هو اليوم الذي أخبر عنه أبو زيد عمرو بن أخطب (1) المذكور بعد، وبالحري يتسع يوم للإخبار عما ذكره. على أنه قد روى الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر بنهار ثم قام خطيبا، فلم يدع شيئا يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه. فظاهر هذا أن هذا المقام كان من بعد العصر لا قبل ذلك. ويجوز أن يكون: كانت الخطبة من بعد صلاة الصبح إلى غروب =(7/220)=@ (1) شرح المؤلف - رحمه الله - تحت هذا العنوان: هذا الباب والباب الذي في التلخيص، رهو: باب: في النتنة التي تموج موج البحر. ( 2) رواه ا لترمذى ( 2191) .
الشمس، كما في حديث أبي زيد. واقتصر أبو سعيد في الذكر على ما بعد العصر، وفيه بعد، وعلى كل تقدير فعمومات هذه الأحاديث يراد بها الخصوص؛ إذ لا يمكن أن يحدث في يوم واحد، بل (2) : ولا في أيام، ولا في أعوام بجميع ما يحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم تفصيلاً؟ وإنما مقصود هذه العمومات الإخبار عن رؤوس الفتن والمحن ورؤسائها، كما قال حذيفة بعد هذا حين قال: لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يحدث مجلسا أنا فيه عن %(4/1682)% الفتن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعد الفتن: (منهن ثلاث لا يكدن يذرن شيئا، ومنهن كرياح الصيف، منها صغار ومنها كبار» &(7/182)&$
__________
(1) في (ح): «ثعلب» بدل «أخطب».
(2) قوله: «واحد بل» سقط من (ح).(7/182)
قلت: على أني أقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان الله تعالى قد أعلمه بتفاصيل ما يجرى بعده لأهل بيته وأصحابه، وبأعيان المنافقين، وبتفاصيل ما يقع في أمته من كبار الفتن، وصغارها، وأعيان أصحابها، وأسمائهم، وأنه بث الكثير من ذلك عند من يصلح لذلك من أصحابه كحذيفة قال: ما ترك رسول الله مي من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلاثمئة فصاعدا، إلا قد سماه لنا باسمه، واسم أبيه، وقبيلته (1). خزجه (1) أبو داود، وبهذا يعلم: أن أصحابه كان عندهم من علم الكوائن الحادثة إلى يوم القيامة العلم الكثير والحظ الوافر، لكن لم يشيعوها إذ ليست من أحاديث الأحكام، وما كان فيها شيء من ذلك حدثوا به، ونقضوا عن عهدته. ولحذيفة في هذا الباب زيادة مزيه، وخصوصية لم تكن لغيره منهم؛ لأنَّه كان كثير السؤال عن هذا الباب، كما دلت عليه أحاديثه، وكما دل عليه =(7/221)=@ ( 1) رواه أبو داود (4243) .
اختصاص عمر له بالسؤال عن ذلك دون غيره. وأبو زيد المذكور في هذا الباب: هو عمرو بن أخطب - بالخاء المعجمة - الأنصاري، من بني الحارث بن الخزرج. صحب %(4/1683)% النبي صلى الله عليه وسلم وقال: غزوت معه ست غزوات، أو سبعا. وقد تقدم القول في حديث حذيفة في كتاب الايمان.
وقوله: «من بي (2) إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر إليَّ في ذلك شيئا لم يحدث به غيري)) كذا وقع هذا اللفظ، وكذا صح في الرواية، وما بي إلا أن يكون بـ (إلا) =(7/222)=@ الإيجابية (3) ، و (أن) المصدرية. فقيل: الوجه إسقاط إلا؛ لأنَّ مقصود الكلام: أن حذيفة أخبر عن نفسه بأنه يعلم كل فتنة تكون بين يدي الساعة. فيظن سامع هذا القول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (4) أسر إليه من ذلك بشيء لم يسره إلى غيره، فنفى هذا الظن بذلك القول. ثم نبه على سبب علمه بذلك فقال: ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يحدث &(7/183)&$
__________
(1) في (ح): «وخرجه».
(2) في (ح): «وما بي».
(3) في (ح): «الإجابية».
(4) في (ح): «أن النبي صلى الله عليه وسلم».(7/183)
مجلسا أنا فيه عن الفتن، فيعني بذلك أنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المجلس مع الناس، لكنه حفظ ما لم يحفظ غيره، وضبط ما لم يضبط غيره. كما قال في الحديث المتقدم. وقيل: (إلا) ثابتة في الرواية، فلا سبيل إلى تقدير إسقاطها، ومعنى الكلام مع ثبوتها: وما بي عذر في الإعلام بجميعها، والحديث عنها، إلا ما أسر إلي النبي صلى الله عليه وسلم مِمَّا لم يحدث به غيري، فيكون في كلامه إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم عهد إليه، وأسر له (1) ألاَّ يحدث بكل ما يعلمه من الفتن، أو لا يذيعه إن رأى في ذلك مصلحة. وهذا أولى لما ذكرناه من ثبوت الرواية، ولأن المعلوم من حال حذيفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم خصه من العلم بالفتن، وأسر إليه منها بما لم يخص به غيره، وأما ما لم %(4/1684)% يسره إليه، ولا خصه به، فهو الذي يحدث به، كما جاء متصلاً بقوله: لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو يحدث مجلسا أنا فيهم عن الفتن. والله تعالى أعلم. و(قول جندب: جئت يوم الجرعة) كذا هو بفتح الجيم والراء والعين المهملة، وهو موضع بجهة الكوفة. وروي عن بعضهم بسكون الراء. وأصل =(7/223)=@ الجرعة: الرمل الذي فيه سهولة. يقال (2) : جرع وأجرع وجرعاء. وذلك اليوم: هو &(7/184)&$
__________
(1) قوله: «له» سقط من (ح).
(2) في (ح): «يقال له».(7/184)
يوم خرج أهل الكوفة إلى سعيد بن العاص (1) ، وكان عثمان ولاه عليهم فردوه، وولى (2) أبا موسى الأشعرى، وسألوا عثمان توليته فأقره.
وقوله: ((تسمعني أخالفك)) لأكثر الشيوخ بالحاء المهملة، من الحنف الذي هو اليمين، وقد روا. بعضهم بالخاء المعجمة، وهي التي أذكرها، وكلاهما يصح، فتأمل مساقه (3) .=(7/224)=@ %(4/1685)%
ومن باب (4) : ما فتح من ردم يأجوج ومأجوج وبغزو البيت جيش فيخسف بهم (5)
قوله: ((وكان ذلك في أيام ابن الزبير)) ذلك إشارة إلى سؤال أم سلمة عن الجيش الذي يخسف به، وسألها عن ذلك الحارث بن أبي ربيعة، وعبد الله بن &(7/185)&$
__________
(1) في (ح): «العاصي».
(2) في (ح): «وولوا».
(3) من قوله: «بالخاء المعجمة ...» إلى هنا سقط من (ح).
(4) قوله: «ومن باب» سقط من (ح).
(5) في (ح): «به».(7/185)
صفوان. هذا ظاهره، لكن قال أبو الوليد الكناني: هذا لا يصح؛ لأنَّ أم سلمة ماتت في (1) أيام معاوية قبل موته بسنة، ولم تدرك أيام ابن الزبير. قال القاضي: وقد قيل: إنها ماتت أيام يزيد بن معاوبة في أولها، فعلى هذا يستقيم الخبر، فإنَّ عبد الله نازع يزيد لأول ما بلغته البيعة له (2) عند موت معاوية، وداجاه شيئا، فوجه إليه يزيد أخاه عمرو بن الزبير ليجيبه به، أو يقاتله، فظفر به عبد الله بن الزبير، ومات في سجنه، وصلبه. ذكر ذلك الطبري وغيره، وذكر وفاة أم سلمة أيام يزيد: أبو عمر بن عبد البر.
قلت: هذا الحديث رراه عن أم سلمة عبد الله بن صفوان من طريق صحيح =(7/225)=@ ( 1) «داجاه، : ساتره بالعداوة، ولم يبن دها له .
في الأصل، وفيه أيضًا عنه أنه رواه عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قال الدارقطني: والحديث عن أم سلمة ومحفوظ عن حفصة، وعلى هذا فتكون كل واحدة منهما حدثت به عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا اضطراب.
وقوله: «يعوذ بالبيت عائذ فنبعث إليه بعث، فاذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم» الذي أثار هذا الحديث في وقت عبد الله بن الزبير: أن عبد الله بن %(4/1686)% الزبير لجأ إلى البيت عندما طالبه يزيد بن معاوية بأن يبايعه، ففر من المدينة إلى مكة، واستجار (3) بالبيت، ووافقه على رأيه ذلك جماعة على خلاف يزيد، فجهز يزيد جيشا من أهل الشام إلى مكة، فحدث الناس أن ذلك الجيش يخسف به، وذكروا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحينئذ قال لهم عبد الله بن (4) صفوان: أما &(7/186)&$
__________
(1) قوله: «في» سقط من (ح).
(2) قوله: «البيعة له» سقط من (ح).
(3) في (ح): «على ذلك».
(4) قوله: «عبد الله بن» سقط من (ح).(7/186)
والله ما هو بهذا الجيش، كما قد ظهر أن ذلك الجيش لم يخسف به. والبيداء: أرض ملساء لا شيء فيها، وفي الصحاح: البيداء: المفازة. والجمع: بيد. وهل هي ملساء المدينة أم لا؟ قد اختلف في ذلك أبوجعفر وعبد العزيز بن رفيع كما ذكر في الأصل. وليؤمن: ليقصدن. والشريد: الطريد عن أهله، ولمجني به هن» (1) المنفرد عن ذلك الجيش الذي يخسف به. ومنعة: بتحريك النون» جمع مانع، ككاتب وكتبة وبالسكون: مصدر منع. والمستبصر: البصير بالأمور. والمجبور: %(4/1687)% المكره الذي لا حيلة له في دفع ما يحمل عليه، وهو من جبرت الرجل على الشيء يفعله، فا مجبور، ثلاثيا، ويقال: أجبرته، وهو (2) الأصح وأكثر، فهو مجبر. =(7/226)=@ &(7/187)&$
__________
(1) قوله: «هنا» سقط من (ح).
(2) في (ح): «وهي» بدل «وهو».(7/187)
وقوله: ((عبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه)) وجدته مقيدا بفتح الباء أي (1) : أتى بكلمات كأنها مختلطة. يقال: عبث الشيء، يعبثه: إذا خلطه، بفتح الباء في (2) الماضي، وكسرها في المضارع (3) ، فأمَّا عبث بكسر الماضي وفتح المضارع فمعناه: لعب.
وقوله: «إن ناسا من أمتي يؤمون البيت (4) برجل» أشرب يؤمون معنى (5) ينزلون، فعداه بالباء (6) ، وهو مما يتعدى بنفسه كما تقدَّم غير (7) مرة. =(7/227)=@
وقوله: «يهلكون مهلكا واحدا، ويصدرون مصادر شتى» المهلك: الهلاك. ويصدرون: يرجعون، وأصل الصدر: الرجوع عن موضع الماء، وشتى: مختلفين بحسب نياتهم. %(4/1688)%
ومن باب: الأمور التي لا تقوم السامة حتى تكون
قوله: «يحسر الفرات عن جبل من ذهب» أي: يكشف. ومنه حسرت المرأة عن وجهها؛ أي: كشفت. والحاسر: الذي لا سلاح عليه، وكان هذا إنما =(7/228)=@ يكون إذا أخذت الأرض تقيء ما في جوفها، كما تقدم في كتاب الزكاة. &(7/188)&$
__________
(1) قوله: «أي» سقط من (ح).
(2) قوله: «الباء في» سقط من (ح)
(3) في (ح): «وكسر المضارع».
(4) في (ح): «بالبيت».
(5) في (ح): «بمعنى».
(6) في (ح): «بالياء».
(7) في (ح): «غيره».(7/188)
وقوله: «فمن حضره فلا يأخذ منه شيئا» نهي على (1) أصله من التحريم؛ لأنَّه ليس ملكا لأحد، وليس بمعدن ولا ركاز، فحقه أن يكون في بيت المال؛ ولأنه لا يوصل إليه إلا بقتل النفرس، فيحرم الإقدام على أخذه.
وقوله: «منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديها ودينارها ومنعت مصر إردبها» كذا الرواية المشهورة بغير إذا، فيكون ماضيا بمعنى الاستقبال، كما قال تعالى: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه}أي: يأتي. وكقوله: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس} يعني: إذ يقول. ومثله كثير، وقد رواه ابن ماهان: «إذا منعت» (2) وهو أصل الكلام. غير أنه يحتاج إلى جواب إذا، ويحتمل ذلك وجهين: %(4/1689)%
أحدهما: أن يكون الجواب: عدتم من حيث بدأتم، وتكون الواو زائدة.
كما قال امرؤ القيس: =(7/229)=@
فلما أجزنا ساحة الحف وانتحى ... .. .. .. .. .. .. .. .. ..
أي: لما أجزنا انتحى، فزاد الواو. ويحتمل أن يكون جواب إذا محذوفا، تقديره: إذا كانت هذه الأمور جاءت الساعة، أو ذهب الذين. ونحو ذلك، والله أعلم.
وتسمية النبي صلى الله عليه وسلم مكيال كل قوم باسمه المعروف عندهم دليل على أنه كان يعرف كلام الناس؛ وإن بعدت أقطارهم، واختلفت عباراتهم. وقد ثبت أنه (3) كان يخاطب كل قوم بلغتهم في غير موضع، وهذا منه إخبار بأن أمور الدين وقواعده يترك العمل به» (4) لضعف القائم بها، أو لكثرة الفتن واشتغال الناس بها، وتفاقم أمر المسلمين، فلا يكون من يأخذ الزكاة ولا الجزية ممن وجبت عليه، فيمتنع من وجب (5) عليه حق من أدائه. والله تعالى أعلم. &(7/189)&$
__________
(1) في (ح): «عن».
(2) في (ح): «وضعت».
(3) في (ح): «ثبتت عنه أنه».
(4) قوله: «بها» سقط من (ح).
(5) قوله: «وجب» سقط من (ح).(7/189)
وقوله: «وعدتم من حيث بدأتم» أي: رجعتم على الحالة الأولى التي كنتم عليها من فساد الأمر، وافتراق الكلمة، وغلبة الأهواء، وذهاب الدين .
وقوله: ((شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه)) أي: صدق بهذا الحديث وشهد بصدقه كل جزء في أبي هريرة. ومعناه: بأن هذا الحديث حق في نفسه، ولا بد من وقوعه .=(7/230)=@ %(4/1690)%
( 1) هذا صدر بيت، وعجز
بنا بظن خنب ذي حتافي عقنقل
وقوله: «تنزل الروم بالأعماق، أو بدابق)) الأعماق: جمع عمق - بضم العين وفتحها -: وهي ما بعد من أطراف المفاوز. قال رؤبة: وقائم (1) الأعماق خاوي المخترق
ودابق: اسم بلد، والأغلب عليه التذكير والصرف؛ لأنَّه في الأصل: نهر. قال الراجز:
بدابق وأين مني دابق
وقد يؤنث ولا يصرف، وهو بفتح الباء. وكذا وجدته مقيدا مصححا في كتاب الشيخ، ويقال بالكسر فيما أحسب. و(قول الروم: «خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا» الرواية الصحيحة بفتح (2) &(7/190)&$
__________
(1) قوله: «وقائم» مكرر في (ح).
(2) في (ح): «سبوا بفتح».(7/190)
السين والباء؟ أي: الذين أصابوا منا سبيا، وقد قيده بعضهم بضم السين والباء، وليس بشيء؛ لأنَّ قول المسلمين في جوابهم: لا والله ما نخلي بينكم وبين إخواننا. يعنون: أنهم منهم في الأنساب والدين، فلو أن الروم طلبوا من سبي منهم لما قالوا لهم ذلك مطلقا. والله تعالى أعلم. =(7/231)=@ %(4/1691)% وقوله: «فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدا؛ لأنَّهم فروا من الزحف حيث لا يجوز لهم الفرار، فلا يتوب الله عليهم؟ أي: لا يلهمهم إياها، ولا يعينهم عليها» (1) ؛ بل: يصرون على ذنبهم ذلك، ولا يندمون عليه. ويجوز أن يكون معنى ذلك: أنه تعالى لا يقبل (2) توبتهم وان تابوا، ويكونون (3) : هؤلاء ممن (4) شاء الله ألا تقبل توبتهم لعظيم جرمهم.
وقوله: «إن المسيح قد خلفكم في أهليكم» كذا الرواية الجيدة مخففة اللام بغير ألف. أي: بشر. يقال: خلفك الرجل في أهلك بخير أو بشر، وقد تقدم قوله عليه السلام: «من (5) خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا» وقد رواه بعضهم: خالفكم، والأول أجود، لأن خالف يتعدى ب (إلى)، وخلف يتعدى بـ (في) ورد خالف إلى خلف يجوز (6) . وقد تقدَّم القول في اسم المسيح في كتاب الايمان، وسيأتي الكلام في الدجال. =(7/232)=@
( 1) رواه ا لبخاري (2843)، رمسلم ( 1895)، وأبو داود (9 0 25)، وا لترمذي (627 1).
وقوله: ((هاجت ريح حمراء)) أي: شديدة، احمرت بها السحاب، ويبست لها الشجر، وانكشفت الأرض، فظهرت حمرتها. %(4/1692)%
وقوله: ((فجاء رجل ليس له هجيرى (7) إلا يا عبد الله جاءت الساعة) كذا &(7/191)&$
__________
(1) قوله: «لا يلهمهم إياها ولا يعنيهم عليها» سقط من (ح).
(2) قوله: «معنى ذلك أنه تعالى لا يقبل» مكرر في (ح).
(3) في (ح): «ويكونوا».
(4) في (ح): «مهمى» سقط من (ح).
(5) قوله: «من» سقط من (ح).
(6) في (ح): «تجوز».
(7) في (ح): «هجير».(7/191)
رويته هجيرًا على وزن فعيلا، وهو تقييد أبي الفتح الشاشي والتميمي، وقيدها العذري هجير على وزن خبير. قلت: وكلاهما لغة صحيحة.
قال الجوهري: الهجير مثل الفسيق: الدأب والعادة، وكذلك الهجيرى والإهجيرى. يقال: ما زال ذلك هجيراه، له اهجيراه، وإجرياه؟ أي: دأبه وعادته. قال غيره: وهجيرى أفصحها. والشرطة: بضم الشين، وهي هنا: أول طائفة من الجيش تقاتل. ومنه الشرطان (ا) لتقدمهما أول الربيع، وقيل: إنهم سموا بذلك لعلامات تميزوا بها، والأشراط: العلامات. وهذا هو الأعرف. وشجر بينهم الليل؟ أي: يحول بينهم وبين القتال بسبب ظلمته، والحاجز: هو الفاصل بين شيئين. ويفيء هؤلاء؟ أي: يرجع. ونهد إليهم؟ أي: تقدَّم. ومنه سمي النهد؛ لأنَّه متقدم في الصدر. =(7/233)=@ %(4/1693)% ( 1) الشرطان: نجمان. وقوله: «فيجعل الله تعالى الدبرة عليهم » كذا لكافتهم بالباء بواحدة وسكونها، ورواه العذرى: الدائرة ومعناهما متقارب. قال الأزهري: الدائرة: الدولة (1) تدور على الأعداء. والدبرة: النصر والظفر، يقال: لمن الدبرة؟ أي: الدولة. وعلى من الدبره؟ أى: الهزيمة. قاله الهروي.
وقوله: «حتى إن الطائر ليمر بجنباتهم فما (2) يخلفهم» كذا رواية الجماعة، وهي جمع جنتة، وهي الجانب، ووقع لبعضهم: بجثمانهم؛ أي: بأشخاصهم. والجثمان، والآل، والطلل، والشخص، كلها بمعنى، فأمَّا الجنة (3) ، فتقال على الجالس والنائم.
وقوله: {إذا سمعوا بناس هم أكثر} بنون وسين مهملة. كذا للعذرى، وكذا &(7/192)&$
__________
(1) قوله: «أي الدولة» مكرر في (ح).
(2) في (ح): «فيما».
(3) في (ح): «الخشبة».(7/192)
قرأته، وعند غيره: «ببأس» بباء بواحدة، و «أكبر» بباء بواحدة أيضًا، وهو الحرب الشديد، والأمر الهائل. قال بعض المشايخ: وهو الصواب. وتصححه رواية أبي داود: «إذ سمعوا بأمر أكبر من ذلك» ، .. . وبشير بن جابر: يروى =(7/234)=@ (1) لم نجد. في شن أبي داود، وفي تحفة الأشراف (7/ 318) لم يعزه إلا لمسلم. بالياء باثنتين من تحتها ويالهمزة. والصريخ: الصارخ، أي: الصوت (1) عند الأمر الهائل أو الصراخ، ويرفضون: يرمون ويتركون، والطليعة: هو الذي يتطلع الأمر ويستكشفه. %(4/1694)%
وقوله: «إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم» دليل على صحة ما قلناه من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أعلم بتفاصيل ما يجري بعده، وأشخاص من يجري منه شيء له تعلق بالأمة (2) . وقوله: ((تقوم الساعة والروم أكثر الناس» هذا الحديث رواه مسلم من طريقين:
أحدهما: لا تعقب فيه عليه، والآخر: فيه تعقب. وهو الذي قال فيه: حدثني حرملة بن يحيى التجيبي، حدثنا عبد الله بن وهب، حدثني أبو شريح؛ أن =(7/235)=@ عبد الكريم بن الحارث حدثه، أن المستورد القرشي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (3) ذلك. قال الدارقطني: عبد الكريم لم يدرك المستورد، والحديث مرسل. قلت: هذا الإسناد ذكره مسلم مردفا على الإسناد السليم الذي لا تعقب فيه، وكان مسلما تحقق ما قاله الدارقطني، ولذلك أردفه على الإسناد الأول الذي هو عمدته، وعلى شرطه. وهذا وغيره مما تقدَّم مثله يدلّ على أن القسم الثالث الذي ذكره مسلم في أول كتابه أدخله في مسنده، والله تعالى أعلم. وهذا الحديث قد صدقه الوجود، فإنَّهم اليوم أكثر من (4) في العالم غير يأجوج ومأجوج؛ إذ قد عمروا من الشام إلى أقصى منقطع أرض الأندلس، وقد اتسع دين &(7/193)&$
__________
(1) في (ح): «المصوت».
(2) في (ح): «الأمة».
(3) قوله: «يقول» سقط من (ح).
(4) قوله: «من» سقط من (ح).(7/193)
%(4/1695)% النصارى اتساعا عظيما لم تتسعه أمة من الأمم، وكل ذلك بقضاء الله تعالى وقدره. ووصف عبد الله بن عمرو لهم بما وصفهم به من تلك الأوصاف الجميلة إنما كانت غالبة على الروم الذين أدرك هو زمانهم، وأما ما في الوجود منهم اليوم فهم أنجس الخليقة، وأركسهم (1) ، وهم موصوفون بنقيض تلك الأوصاف. وقوله: «وأجبر (2) الناس عند مصيبة» كذا رواية الجمهور، وهو من جبرت العظم والرجل؛ إذا شددت مفاتره (3) ، وقد فسر معنى هذه الرواية في الرواية الأخرى إلي قال فيها :«وأسرعهم إقامة بعد مصيبة» ووقع لبعضهم: «أصبر الناس» بدل: «أجبر (4) الناس» والأول أصح وأحسن. =(7/236)=@
وقوله: أتى النبي صلى الله عليه وسلم قوم من قبل المغرب - يعني: من قبل مغرب المدينة - عليهم ثياب الصوف) هذا لباس أهل البادية، والأكمة: القطعة الغليظة من الرمل. ووافقوه وقفوا أمامه، فوقف لهم، أو استدعوا منه ذلك.
وقوله: قالت لي نفسي: ((اللهم (5) فقنم بينهم)) كذا الرواية المعروفة، وفي بعض الروايات: إذ قالت لي نفسي اللهم -بزيادة إذ- ومعنى ائتهم (6) : جئهم. ويغتالونه: يقتلونه غيلة؟ أي: خديعة. والنجف: المناجي، وهو المتحدث في خلوة. &(7/194)&$
__________
(1) في (ح): «أركهم» كذا رسمت.
(2) في (ح): «وأخبر».
(3) في (ح): «مفاقرة».
(4) قوله: «من قبل المغرب يعني» سقط من (ح).
(5) في (ح): يشبه «ائتهم» بدل «اللهم».
(6) في (ح): «ائتنهم».(7/194)
%(4/1696)%
وقوله: «تغزون (1) فارس فيفتحها الله. .. الحديث إلى آخره» هذا الخطاب أن كان لأولئك القوم الحاضرين فالمراد هم ومن كان على مثل حالهم من الصحابة والتابعين الذين فتحت بهم تلك الأقاليم المذكورة، ومن يكون بعدهم من أهل هذا الدين الذين (2) يقاتلون في سبيل الله إلى قيام الساعة. ويرجع معنى هذا الحديث إلى الحديث الآخر (3) الذي قال فيه: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم إلى قيام الساعة». =(7/237)=@ &(7/195)&$
__________
(1) في (ح): «تعالى» وأصلحها إلى «تغزون» ولم تتضح.
(2) قوله: «الذين» سقط من (ح).
(3) قوله: «الآخر» سقط من (ح).(7/195)
(1) في (ز): راقنوه. ( 2) رواه أحمد ( 5 / 4 3)، را لترمذى ( 92 1 2). وقوله: «ثم تغزون الدجال فيفتحها (1) الله» وقد وقع في بعفى النسخ: فيفتحه بصير المذكر، فيحتمل أنه يعني بذلك قتل الدجال نفسه الذي يكون على يدي عيسى (2) ابن مريم كما تقدَّم ركما يأتي. ويحتمل أن يعود (3) على ملكه. ووجدته في أصل الشيخ: فيفتحها الله، بضمير المؤنث، فيعني بذلك مملكته أو أرضه التي يغلب عليها. وجزيرة العرب: أرضهم التي نشأوا فيها، وسميت جزيرة؛ لأنَّها مجزورة بالبحار والأنهار؛ أي: مقطوعة به» (4) . والجزر: هو القطع. وقيل: لأنها جزرت بالبحار (5) الي أحدقت به» (6) ، وقد تقدَّم القول فيها في الجهاد. %(4/1697)%
ومن باب: الايات العشر التي تكون قبل قيام الساعة
حذيفة (7) بن أسيد: هو بفتح الهمزة وكسر السين يكنى أبا سريحة، بفتح السين، وكسر الراء، وهو غفاري كان ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، يعد =(7/238)=@ (1) شرح المزلف -رحمه الله - تحت هذا العنوان هذا الباب، والبابين التاليين في في الكوفيين وبالكوفة مات، وحديث حذيفة في العشر الآيات رواه سفيان بن &(7/196)&$
__________
(1) في (ح): «فيفتحه».
(2) قوله: «عيسى» سقط من (ح).
(3) في (ح): «أن تعود أن تعود».
(4) قوله: «أي: مقطوعة بها» سقط من (ح).
(5) في (ح): «بالجزا».
(6) قوله: «بها» سقط من (ح).
(7) في (ح): «قول حذيفة».(7/196)
عيينة عن فرات القزاز عن أبي الطفيل، عن حذيفة على نص ما ذكرناه في المختصر، والعشر الآيات فيه مجموعة غير مرتبة، وقد رواه شعبة عن فرات، فجاء بها مرتبة مجموعة، فكانت هذه الرواية بالذكر في المختصر أولى، لكن لم يقدر ذلك، فلنذكر هذه الرواية هنا. قال حذيفة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ونحن أسفل منه، فاطلع إلينا، فقال: «ما تذكرون؟» قلنا: الساعة، قال: إلى الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف في جزيرة العرب، والدخان، والدجال، ودابة الأرض، ويأجوج ومأجوج، وطلوع ا لشمس من مغربها، ونار تخرج من قعر عدن ترحل الناس». قال شعبة: وحدثني عبد العزيز بن رفيع عن أبي الطفيل عن أبي سريحة مثل ذلك، لا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم وقال أحدهما في العاشرة: ونزول عيسى ابن مريم. وقال الآخر: وريح تلقي الناس في البحر. وهذه الرواية مرتبة محسنة، فلنرد إليها الرواية التي لا ترتيب فيها، فأول هذه الآيات: الخسوفات الثلاثة، وقد وقع بعضها. ذكر أبو الفرج الجوزي: أنها وقعت بعراق العجم زلازل وخسوفات هائلة، هلك بسببها خلق كثير، وقد سمعنا ونحن بالأندلس (1) : أن بلدا بشرقها خسف به، وهلك كثير من أهله. وأما الدخان فهو الذي دل عليه قوله تعالى: {فارتقب يوم %(4/1698)% تأتي السماء بدخان مبين (2) }، على ما ذهب إليه غير ابن مسعود، وهم جماعة من السلف، وهو مروي عن علي وابن عمر وأبي هريرة، وابن عباس، والحسن، وابن أبي مليكة. وروى حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من أشراط الساعة دخانا يمكث في الأرض أربعين يوما. =(7/239)=@
- التلخيص، وهما: باب: أمور تكون بين يدئ الع!ئاعة. وباب: الخليفة الكائن اخر الزمان. (1) ، 515مسله (2901/ 40). قلت: ويؤيد هذا قوله تعالى في الآية: {ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون}، وقوله: {إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون} &(7/197)&$
__________
(1) في (ح): «في الأندلس».
(2) زاد بعدها في (ح): ((الآية)).(7/197)
وهذا يبعد قول من قال: إنه الدخان الذي يعذب به الكفار (1) يوم القيامة، وهو مروئ عز دابة زبد بن علي، وسيأتي القول في (2) حديث ابن مسعود في التفسير. وأما الدابة فهي التي قال الله فيها: {وإذا وقع القول عليهم اخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم} ذكر أهل التفسير: أنها خلق عظيم تخرج من صة غ من الضفا لا يفوتها أحد، تسم المؤمن فينير وجهه، ويكتب بين عينيه مؤمن، وتسم الكافر فيسود وجهه ويكتب بين عينيه كافر. وعن عبد الله بن عمرو: أن هذه الدابة هي الجشاسة المذكورة في الحديث بعد هذا، وعن ابن عباس: أنها الثعبان الذي كان ببئر الكعبة، فاختطفه (3) العقاب (ا)، وقد اختلف في صورتها، وفي أي موضع تخرج منه على أقوال كثيرة، وليس في شيء من ذلك خبر صحيح مرفوع. قال بعض المتأخرين من المفسرين: الأقرب أن تكون هذه الدابة إنسانا متكلما يناظر أهل البدع والكفر، ويجادلهم لينقطعوا، فيهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة. %(4/1699)%
قلت: لى انما كان هذا عند هذا القائل الأقرب لقوله تعالى: إمجئمهم» وعلى هذا فلا يكون في هذه الذأبة اية خاصة خارتة للعادة، ولا تكون من جملة العشر الآيات المذكورة في الحديث؛ لأنَّ وجود المناظرين والمحتجين على أهل البدع كثيرة (4) . فلا آية خاصة، فلا ينبغي أن تذكر مع العشر. وترتفع خصوصية وجودها، فاذا وقع القول ثمَّ: فيه (5) العدول عن تسمية هذا الإنسان المناظر الفاضل العالم الذي يحتج على أهل الأرض باسم الانسان، أو بالعالم، أو بالإمام إلى أن يسمى بدابة، وهذا خروج عن عادة الفصحاء، وعن تعظيم العلماء، وليس ذلك =(7/240)=@ (1) انظر قول ابن عباس هذا في سيرة ابن همام في حديث بنيان الكعبة .
دأب العقلاء، فالأولى ما قاله أهل التفسير. وأما كيفية صفتها وخلقتها، وبماذا تكلمهم، فالله تعالى أعلم بذلك.
وقوله: «آخر ذلك نار تخرج من اليمن» وقال فيما تقدَّم: «من قعر عدن». &(7/198)&$
__________
(1) في (ح): «الكافر».
(2) قوله: «القول في» لم يتضح في (ح).
(3) في (ح): «فاختطفته».
(4) في (ح): «كثير».
(5) في (ح): «تسميه» بدل «فيه».(7/198)
وقال في رواية (1) : من أرض الحجاز (2) . قال القاضي: فلعلهما ناران تجتمعان لحشر الناس ، أو يكون ابتداء خروجها من اليمن، وظهورها من الحجاز. %(4/1700)%
باب: أمور تكون بين يدي الساعة (3)
وقوله: «تضيء (4) أعناق الإبل ببصرى» أي: تكشف بضوئها أعناق الإبل =(7/241)=@ (1) هذا العنوان لم يذكره المؤلف - رحمه الله - في المفهم، واستدركناه من التلخيص .
ببصرى، وهي بالشام، فيعني - والله تعالى أعلم - أن هذه النار الخارجة من قعر عدن تمر بأرض الحجاز مقبلة إلى الشام، فإذا قاربت الشام ضاءت ما بينها وبين بصرى (5) ترى بسبب ضوئها أعناق الابل، ويقال: ضاوت النار وأضاءت لغتان. وبصرى -بضم الباء- هي (6) مدينة من مدن الشام. قيل: هي حوران. وقيل: قيسارية.
وقوله: «إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة يوم على الناس ضحى» يعني - والله أعلم – أول (7) الآيات الكامنة في زمان ارتفاع التوبة والطبع على كل قلب بما فيه؛ لأنَّ ما قبل طلوع الشمس من مغربها التوبة فيه مقبولة، وإيمان الكافر يصح فيه، بدليل ما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة &(7/199)&$
__________
(1) قوله: «قال» سقط من (ح).
(2) من قوله: «قال القاضي ...» إلى هنا سقط من (ح).
(3) من قوله: «باب أمور...» إلى هنا سقط من (ح).
(4) في (ح): «لها» بدل «تضيء».
(5) في (ح): يشبه «وحتى».
(6) في (ح): «وهي».
(7) في (ح): «أن أول».(7/199)
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس أمن من عليها، فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا». ومعنى قوله: «إذا طلعت (1) ورأها الناس أمن من عليها» أي: حصل لجميع من على الأرض التصديق الضروري بأمور القيامة الذي لا يكلف به ولا ينفع صاحبه، لكون أمور الآخرة معاينة، وإنما كان طلوع الشمس مخصوصا بذلك؛ لأنَّه أول تغيير هذا العالم العلوي الذي لم يشاهد فيه تغيير منذ خلقه الله تعالى، وإلى ذلك الوقت، وأما ما قبله من الآيات فقد شوهد ما يقرب من نوعه، فإذا كان ذلك %(4/1701)% وطبع على كل قلب بما فيه من كفر أو إيمان أخرج الله تعالى الدابة معرفة لما في بواطن الناس من إيمان أو كفر (2) فتكلمهم بذلك. أي: تعرف المؤمن من الكافر بالكلام، وتسم وجوه الفريقين بالنفح، فينتقش وصفه في جبهته (3) مؤمن أو كافر، حتى يتعارف الناس بذلك، فيقول المؤمن للكافر: بكم سلعتك =(7/242)=@ (ا) بصرى: مدينة أثرية في سهل حوران جنوب دمشق. أما قيسارية: في مدينة على ساحل البحر الأبيغى المتوسط، إلى الجنوب من مدينة حينا بفلسطين .
يا كافر؟ ويقول الكافر: بكذا يا مؤمن، ثم يبقى الناس على ذلك ما شاء الله، ثم يرسل الله ريح» (4) باردة من قبل الشام، فلا يبقى أحد على وجه الأرض في قلبه مثقال ذرة من إيمان المان إلا قبضته على ما جاء في حديث عبد الله ابن عمرو الآتي بعد هذا وغيره. وقد تقدَّم في كتاب الإيمان حديث أبي هريرة الذي قال فيه: ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها، ودابة الأرض، وذكر من جملة الثلاث: الدجال ( 1). ويلزم عليه أن يرتفع التكليف بالإيمان وبالتوبة عند &(7/200)&$
__________
(1) قوله: «إذا طلعت» مكرر في (ح).
(2) في (ح): «وكفر». ...
(3) في (ح): «وجهه».
(4) في (ح): «يرسل ريحا».(7/200)
خروجه. والأحاديث الآتية (1) في صفة الدجال قد على خلات ذلك على ما سنبينه، فدل على أن ذكر الدجال مع الطلوع والدابة، وهم من بعض الرواة، والله تعالى أعلم. وقد اختلفت الآثار والأقوال في أزل الآيات المذكورة، وما ذكرته أشبهها وأولاها - إن شاء الله تعالى . وقوله: «تبلغ المساكن إهاب أو يهاب» فالأول بكسر الهمزة، والثاني بالياء المكسورة عند كثرهم، وعند ابن عيسى: أو نهاب، بالنون المكسوره، وهو موضع بينه وبين المدينة القدر الذي كنى عنه سهيل وبكذا كذا (2) ميلا. وقد تقدَّم: أن من أهل اللسان من حمل هذا على الأعداد المعطوفة التي أولها أحد وعشرون، وآخرها تسعة وتسعون، وهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بأن الناس يكثرون بالمدينة، ويتسعون في مساكنها وبنيانها، حتى يصل بنيانهم (3) ومساكنهم إلى هذا الموضع، وقد كان ذلك - والله تعالى أعلم - في مدة بني أمية، ثم بعد ذلك تناقص أمرها إلى أن أقفرت جهاتها كما تقدَّم. =(7/243)=@ %(4/1702)% ( 1) رراه مسلم (158) «249) .
وقوله: «حتى (4) تضطرب أليات نساء (5) دوس حول ذي الخلصة» المعروف في ذى الخلصة: الفتح في الخاء واللام، وهكذا قرأته ورويته في كتاب مسلم، وفي السيرة لابن إسحاق. قال القاضي: يقال: بفتح الخاء واللام وضمهما، وبسكون اللام وجدته بخطي عن أبي بحر في الأم. وقبالة، بفتح التاء (6) والباء: موضع باليمن، وليس بقبالة الي يضرب بها المثل الذى يقال فيه: هو أهون على الحجاج من قبالة. تلك بالطائف. قال ابن إسحاق: وذر الخلصة: بيت فيه صنم يسمى: ذا الخلصة لدوس، وخثعم، وبجيلة، وكان يسمي: الكعبة اليمانية، بَعثَ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله فحرقه بالنار. &(7/201)&$
__________
(1) في (ح): «الصحيحة» بدل «الآتية»
.
(2) في (ح): «بكذا وكذا».
(3) في (ح): «بناؤهم».
(4) قولة: «حتى» سقط من (ح).
(5) قوله: «نساء » سقط من (ح).
(6) في (ح): «الياء» بدل «التاء».(7/201)
قلت: ومعنى هذا الحديث أن دوسا يظهر فيها الارتداد عن دين الإسلام، ويرجعون إلى ما كانوا عليه من عبادة الأوثان، كما قال في حديث عائشة - رضي الله عنها -: «لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى» وسيأتي في التفسير. وتضطرب: تتحرك عند الطواف بذلك الصنم. والآليات: جمع ألية.
وقوله: «لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه» وفي الأخرى: «فينمرغ (1) عليه ويقول: يا ليتني كنت مكان صاحب هذا =(7/244)=@ القبر» يعني: من شدة المحن وكثرة الفتن، والأنكاد اللاحقة للإنسان في نفسه وماله وولده، ولذلك قال: «ليس به الدين إلا البلاء (2) »، وكان هذا إشارة إلى أن كثرة الفتن والمشقات والأنكاد قد أذهبت الدين من أكثر الناس، أو قللت الإعتناء به من الذي يتمسك بالدين عند هجوم الفتن، ولذلك عظم قدر العبادة في حالة الفتن حتى قد قال صلى الله عليه وسلم: «العبادة في الهرج كهجرة إلي». %(4/1703)%
وقوله: «يخرب (3) الكعبة ذو السويقتين من الحبشة))، وزاد (4) أبو داود في هذا ذو ا الحديث: «ويخرج كنزها» الشويقتان: تصغير الساقين، وإحداهما (5) سويقة، في وصغرهما لدقتهما ورقتهما، وهي صفة سوق الحبشة غالبًا، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر بقوله: ((كأني به أسود أفحج، يقلعها حجرآ حجرأ». والفحج : =(7/245)=@ تباعد ما بين الساقين، ولا يعارض هذا قوله تعالى: {أولم يروا أنا &(7/202)&$
__________
(1) في (ح): «فيتمرغ».
(2) قوله: «ليس» سقط من (ح).
(3) في (ح): «تخرب».
(4) في (ح): «زاد» بلا واو.
(5) في (ح): «واحديهما».(7/202)
جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حوله} (1) ، لأنَّ تخريب الكعبة على يدي هذا الحبشي إنما يكون عند خراب الدنيا، ولعل ذلك في الوقت الذي لا يبقى إلا شرار الخلق، فيكون حرما آمنا مع بقاء الدين وأهله، فإذا ذهبوا ارتفع ذلك المعنى. قلت: وتحقيق الجواب عن ذلك أنه لا يلزم من قوله تعالى: {أنا جعلنا حرما آمنا} أن يكون ذلك دائما في كل الأوقات؛ بل: إذا حصلت له حرمة وأمن في وقت ما، فقد صدق اللفظ (2) وصح المعنى، ولا يعارضه ارتفاع ذلك المعنى في وقت آخر، فإنَّ قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله أحل لي مكة ساعة من نهار، ثم عادت حرمتها إلى يوم القيامة». قلنا: أما الحكم بالحرمة والأمن فلم يرتفع، ولا يرتفع إلى يوم القيامة إذ لم يحج ذلك بالإجماع، وأما وقوع الخوف فيها وترك حرمتها فقد وجد ذلك كثيرًا، ويكفيك بعوث يزيد بن معاوبة، وجيوش عبدالملك، وقتال الحجاج لعبدالله (3) بن الزبير وغير ذلك مما جرى له» (4) ، وما فعل فيها من إحراق الكعبة ورميها بحجارة المنجنيق. %(4/1704)% وقوله: «يخرج رجل من قحطان يسوق الناس (5) بعصاه» أي: يملكهم =(7/246)=@
ويتصرف فيهم كما يتصرف الراعي في الماشية، ولعل هذا الرجل القحطاني، هو الذي يقال له الجهجاه، وأصل الجهجهة: الصياح بالسبع ليكف، يقال: جهجهت بالسبع؟ أي: زجرته بالصياح، وبقال (6) : تجهجة عني، أي: انته.
وقوله: «يقاتلون بين يدي الساعة قوما نعالهم الشعر كان وجوههم المجان المطرقة» المجان بفتح الميم (7) : جمع مجن - بكسر الميم - وهو الترس. والمطرقة: التي &(7/203)&$
__________
(1) في (ح): «من حولهم».
(2) في (ح): «هذا اللفظ».
(3) في (ح): «عبد الله».
(4) في (ح): «بها» بدل «لها».
(5) قوله: «يسوق الناس» مكرر في (ح).
(6) في (ح): «فيقال».
(7) في (ح): «الجيم» بدل «الميم».(7/203)
ألبست العقب طاقة فوق أخرى، ومنه طارقت النعل إذا أطبقت (1) طاقة فوق أخرى، ورجه التشبيه: أن وجوههم غالبًا عراض الأعالي محددة الأذقان صلبة.
وقوله: «نعالهم الشعر»، وفي رواية: «ينتعلون الشعر» أي: يصنعون من الشعر حبالا، ويصنعون منه نعالا، كما يصنعون منه ثيابا. ويشهد لهذا قوله في رواية أخرى: «يلبسون الشعر، ويمشون في الشعر» هذا ظاهره، ويحتمل أن يريد بذلك أن شعورهم كثيفة طويلة، فهي إذا سدلوها كاللباس، وذوائبها لوصولها إلى أرجلهم كالنعال.
وقوله: «دلف الأنوف» ويروى: الأنف، فالأول جمع الكثرة كفلس (2) وفلوس، والثاني جمع قلة كأفلس، ويجمع (3) أيضًا آنافا، وأنف كل شيء أوله، والذلف في الإنسان بالذال (4) المعجمة: صغر الأنف واستواء الأرنبة وقصرها. وقيل: تطامن الأرنبة، %(4/1705)% والأول أعرف وأشهر، تقول: رجل أذلف بين الذلف، وقد ذلف. والمرأة ذنفاء من نساء ذنف، ولا شيء في أن هذه الأوصاف هي أوصاف الترك =(7/247)=@ غالبًا، وقد سماهم النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى، فقال: (يقاتل المسلمون الترك»، وهذا الخبر قد وقع على نحو ما أخبر، فقد قاتلهم المسلمون في عراق العجم مع سلطان خوارزم، وكان الله قد نصره (5) عليهم، ثم رجعت لهم الكرة فغلبوا على عراق العجم وغيره، وخرج (6) منهم في هذا الوقت أمم لا يحصيهم إلا الله، ولا يردهم عن المسلمين إلا الله، حتى كأنهم يأجوج ومأجوج، أو مقدمتهم، فنسأل الله تعالى أن يهلكهم ويبدد جمعهم. ولما علم &(7/204)&$
__________
(1) في (ح): «طبقت».
(2) في (ح): «كالفلس».
(3) في (ح): «وتجمع».
(4) في (ح): «في الذال».
(5) في (ح): «نصرهم».
(6) في (ح): «وخروج».(7/204)
النبي صلى الله عليه وسلم عددهم وكثرتهم وحدة شوكتهم قال عليه السلام: «اتركوا الترك ما تركوكم». لكنا نرجو من فضل الله تعالى النصر عليهم والظفر بهم، وذلك لما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تقاتلكم الترك، قوم صغار الأعين» قال: يعني؟ الترك. قال: «تسوقونهم ثلات مرار حتى تلحقونهم بجزيرة العرب» فأمَّا في السياقة الأولى فينجو من هرب منهم، وأما في الثانية فينجو بعض ويهلك بعض، وأما في الثالثة فيصطلمون (3).
وقوله: «لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفا من بني إسحاق» هكذا =(7/248)=@ ( 1) رواه أبو داود ( 2 0 43)، والنسائي ( 6/ 43 - 4 4). صحت الرواية عند الجميع، وفي الأمهات. قال القاضي أبو الفضل: قال بعضهم: المعروف المحفوظ من بني إسماعيل، وهو الذي يدلّ عليه الحديث وسياقه؛ لأنَّه إنما يعني به: العرب والمسلمين، بدليل الحديث الذي سماها فيه في الأم (1)، وأنها: القسطنطينية، وإن لم يصفها بما وصفها به هنا. %(4/1706)%
قلت: وهذا فيه بعد من جهة اتفاق الرواة والأمهات على بني إسحاق، فإذا المعروف خلاف ما قال هذا القائل، ويمكن أن يقال: إن الذي وقع في الرواية صحيح غير أنه أراد به العرب ونسبهم إلى عمهم، وأطلق (1) عليهم ما يطلق على ولد الأب، كما يقال ذلك في الخال، حتى قد قيل: الخال أحد الأبوين - والله تعالى أعلم -.
وأما قوله: إن هذه القرية هي القسطنطينية، فينبغي أن يبحث عن صفتها؛ هل توافق ما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المدينة أم لا؛ وأما ما ذكره مسلم في الأم من &(7/205)&$
__________
(1) في (ح): «فأطلق».(7/205)
حديث القسطنطينية فهو ما تقدَّم في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الذي قال في أوله: «لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق، أو بدابق» قال فيه: «فيقاتلهم المسلمون فينهزم ثلث، ويقتل ثلث، ويفتح الثلث القسطنطينية (1) ، فبينما هم يقسمون (2) الغنائم، قد علقوا (3) سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم». وظاهر هذا يدلّ على: أن القسطنطينية، إنما تفتح بالقتال، وهذا =(7/249)=@ تفيت الف (ا)رواه مسلم (2897). بالض
الحديث يدلّ على أنها تفتح باللهليل والتكبير، فقول بعضهم فيه بعد، والحاصل: أن القسطنطينية لا بد من فتحها، وأن فتحها من أشراط الساعة على ما شهدت به أخبار كثيرة، منها: ما ذكرناه آنفا، ومنها: ما خرجه الترمذي من حديث معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الملحمة العظمى، وفتح القسطنطينية، وخروج الدجال في سبعة أشهر». قال: هذا حديث حسن صحيح (4) ، وفيه عن أنس بن مالك: أن فتح (5) الفسطنطينية مع قيام الساعة(2). هكذا رواه موقوفا. قال محمد (6) : هذا حديث غريب، والقسطنطينبة: هي مدينة الروم تفتح عند خروج الدجال، والقسطنطينية قد فتحت (4) في زمان بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. %(4/1707)% قلت: وعلى هذا فالفتح الذي يكون مقارنا لخروج الدجال هو الفتح المراد بهذه الاحاديث؛ لأنَّها اليوم بأيدي الروم - دمرهم الله تعالى - والله بتفاصيل هذه الوقائع أعلم .=(7/250)=@
وقوله: «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون»؛ الحديث هذا إنما يكون - والله أعلم - بعد قتل الدجال؟ لأن اليهود (7) هم أكثر أتباعه، وسيأتي منصوصا عليه بعد هذا إن شاء الله تعالى. &(7/206)&$
__________
(1) في (ح): «قسطنطينية».
(2) في (ح): «يقتسمون».
(3) في (ح): يشبه «اعلقوا».
(4) قوله: «صحيح» سقط من (ح).
(5) في (ح): «أنس بن مالك قال فتح».
(6) في (ح): يشبه «محمود».
(7) في (ح): «فإن».(7/206)
وقوله: «لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون (1) قريبون من ثلاثين» وقد (2) تقدم القول في اشتقاق اسم الدجال؛ وأنه المموه بالكذب.
قال القاضي في أبو الفضل: هذا الحديث قد ظهر، فلو عد من تنبأ من (3) زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن ممن اشتهر بذلك وعرف واتبعه جماعة على ضلاله (4) لوجد هذا العدد فيهم، ومن طالع في كتب الأخبار والتواريخ عرف صحة هذا، ولولا التطويل لسردنا منهم هذا العدد (5) . =(7/251)=@ %(4/1708)%
ومن باب: الخليفة الكائن في آخر الزمان (6)
قوله: ((يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثيا، ولا يعده عدا» أي: لا يصبه صبا. يقال: حثى يحثي حثيا، وحثا يحثو حثوًا، وقد وقع الفعلان في الأم، والمصدر حثيا بفتح الحاء، وإسكان الثاء، وضبط عن أبي بحر حثيا: بكسر الثاء، وتشديد الياء، وليس بمعروف، وإنما نفى أبو نضرة (7) أن يكون هذا الخليفة هو عمر بن عبد العزيز لقوله عليه السلام: «في آخر أمتي» وذلك لا يصدق على زمن عمر بن عبد العزيز إلا بالتوسع (8) البعيد؛ ولأنه لم يصب المال كما جاء في هذا الحديث، وقد روى الترمذي وأبو داود أحاديث صحيحة في هذا الخليفة، وسماه (9) بالمهدي، فروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: &(7/207)&$
__________
(1) قوله: «كذابون» سقط من (ح).
(2) في (ح): «قد» بلا واو.
(3) في (ح): «في» بدل «من».
(4) في (ح): «ضلالته».
(5) من قوله: «فيهم ومن طالع ...» إلى هنا سقط من (ح).
(6) من قوله: «ومن باب الخليفة...» إلى هنا سقط من (ح).
(7) في (ح): «أبو نصر».
(8) في (ح): «بالتوسيع».
(9) في (ح): «وسمياه».(7/207)
«لا تذهب (1) الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي » قال: =(7/252)=@ حديث حسن صحيح. وخزجه أبو داود، وزاد فيه: (يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما %(4/1709)% وجورا»ا). ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: «لو لم يبق من الدنيا إلا يونم لطؤل الله ذلك اليوم حتى يلي رجل من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي». قال (2) : حديث حسن صحيح. ومن حديث أبي سعيد قال: خشينا أن يكون بعد نبينا حدث، فسألناه، فقال: «إن في أمتي المهدي، يخرج، يعيش خمسا، أو سبعا، أو تسعا زيد الشاك قال: قلنا: وما ذاك؛ قال: سنين. قال: يجيء (3) إليه الرجل فيقول: يا مهدي أعطني؛ يا مهدي أعطني، قال: فيحثي له في (4) ثوبه ما استطاع أن يحمله». قال: هذا حديث حسن. وروى أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المهدي في أمتي: أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يمه الأرض تمنعطا وعدلا، كما ملئت جورًا وظلمًا، يملك سبع سنين». وروى أيضًا أبو داود عن أم سلمة - رضي الله عنها - عن رسول الله (5) صلى الله عليه وسلم قال: «يكون اختلاف عند موت خليفة، فيخرج رجل من أهل المدينة هاربا إلى مكة، فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره، فيبايعونه (6) بين الركن والمقام، ويبعث إليه بعثا من أهل (7) الشام فيخسف بهم بالبيداء بين مكة والمدينة، فإذا رأى الناس ذلك أتاه أبدال أهل الشام، وعصائب أهل العراق فيبايعونه، ثم ينشأ رجل من قريش أخواله كلب، فيبعث إليهم بعثا فيظهرون عليهم، وذلك بعث كلب، &(7/208)&$
__________
(1) في (ح): «لا يذهب».
(2) في (ح): «قال هذا حديث».
(3) في (ح): «فيجيء».
(4) قوله: «في» سقط من (ح).
(5) في (ح): «النبي صلى الله عليه وسلم».
(6) في (ح): «فيتبايعونه».
(7) قوله: «أهل» سقط من (ح).(7/208)
والخيبة لمن لم يشهد غنيمة كلب، فيقسم المال، ويعمل في الناس بسنة (1) نبيهم، ويلقي الإسلام بجرانه إلى الأرض فيلبث سبع سنين ثم يتوفى، ويصلي عليه =(7/253)=@ المسلمون». وفي رواية: «تسع سنين» فهذه أخبار صحيحة ومشهورة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على خروج هذا الخليفة الصالح في آخر الزمان، وهو ينتظر إذ لم يسمع بمن كملت له جميع تلك الاوصاف التي تضمنتها تلك الأخبار، والله تعالى أعلم .
وقوله: «يهلك أمتي هذا الحي من قريش» وفي البخاري: «هلاك أمتي على يدي اغيلمة من قريش» الحي: القبيل، وأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبيل قريش، وهو يريد بعضهم، وهم الأغيلمة المذكورون في حديث البخاري؛ كما أنه لم يرد بالأمة جميع أمته من أولها إلى آخرها؛ بل: ممن (2) كان موجودا من أمته في ولاية أولئك الأغيلمة، %(4/1710)% وكان الهلاك الحاصل من هؤلاء لأمته (3) في ذلك العصر إنما سببه: أن هؤلاء الأغيلمة لصغر أسنانهم لم يتحنكوا (4) ، ولا جربوا الأمور، ولا لهم محافظة (5) على أمور الدين، وإنما تصرفهم على مقتضى غلبة الأهواء، وحدة الشباب. وقوله: «لو أن الناس اعتزلوهم (6) )) لو: معناها التمني؛ أي: ليت الناس اعتزلوهم، فيه دليل على إقرار أئمة الجور، وترك الخروج (7) عليهم، والإعراض عن هنات ومفاسد تصدر عنهم، وهذا ما أقاموا الصلاة، ولم يصدر منهم كفر بواح عندنا من الله فيه برهان، كما قدمناه في كتاب الإمامة. وهؤلاء الأغيلمة كان أبو هريرة يعرف أسماءهم، وأعيانهم، ولذلك كان يقول: لو شئت قلت لكم: هم بنو فلان، وبنو فلان، لكنه سكت (8) عن تعينهم مخافة ما يطرأ من ذلك من المفاسد، وكأنهم - والله تعالى أعلم - =(7/254)=@ ( 1) رواه أبو داود (4286) .
يزيد بن (9) معاوية، وعبيد الله بن زياد، ومن تنزل منزلتهم من أحداث ملوك بني أمية، فقد &(7/209)&$
__________
(1) في (ح): «سنة».
(2) في (ح): «من».
(3) في (ح): «أمته».
(4) في (ح): «يتحركوا».
(5) في (ح): «مخالطة».
(6) في (ح): «اعترف لهم» بدل «اعتزلوهم».
(7) في (ح): «الخوارج» بدل «الخروج».
(8) في (ح): «يسكت».
(9) في (ح): «يزيد وبن».(7/209)
صدر عنهم من قتل أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبيهم، وقتل خيار المهاجرين والأنصار بالمدينة، وبمكة وغيرها، وغير خاف ما صدر عن الحجاج وسليمان بن عبد الملك، وولده من سفك الدماء، وإتلاف الأموال، وإهلاك خيار الناس بالحجاز، والعراق» وغير ذلك. وأغيلمة (1) : تصغير غلمة، على غير مكبر؟ فكأنهم قالوا: أغلمة ولم يقولوه، كما قالوا: أصيبية بتصغير صبية. وبعضهم يقول: غليمة على القياس، وقد تقدَّم القول في الغلام، وأن أصله فيمن لم يحتلم، ثم قد يتوسع فيه، ويقال على الحديث السن - وأن كان قد احتلم - وعلى هذا جاء في هذا الحديث. %(4/1711)% وقوله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر -رضي الله عنه -: «تقتلك فئة باغية» وفي لفظ آخر: «الفئة الباغية» هذه شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم على فئة معاوية بالبغي، فإنهم هم الذين قتلوه؛ فإنَّه كان بعسكر علي بصفين، وأبلى في القتال بلاء عظيما، وحرص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال معاوية وأصحابه. قال أبو عبد الرحمن السلمي: شهدنا مع علي صفين، فرأيت عمار بن ياسر لا يأخذ في ناحية من أودية صفين إلا رأيت أصحاب محمد يتبعونه كأنه علم لهم، قال: وسمعته يقول يومئذ لهاشم بن عتبة: يا هاشم! تقدم، الجنة تحت الأبارقة، اليوم ألقى الأحبة، محمدا وحزبه، والله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا شغفات هجر لعلمنا أنا على الحق، وأنهم على الباطل، ثم قال: =(7/255)=@
نحن ضربناكم على تنزيله فاليوم نضربكم على تأويله ضربا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله أو يرجع الحق إلى سبيله قال: فلم أر أصحاب محمد قتلوا في موطن ما قتلوا يومئذ، وقال عبد &(7/210)&$
__________
(1) زاد بعدها في (ح): «تصغير أغيلمة».(7/210)
الرحمن بن أبزى: شهدنا صفين مع علي - رضي الله عنه - في ثمانمئة ممن بايع بيعة الرضوان (1) ، قتل منهم ثلاثة وستون، منهم عمار بن ياسر. وروى الشعبي عن الأحنف بن قيس في خبر صفين قال: ثم حمل عمار بن ياسر (2) نحمل عليه ابن جزء السكسكي، وأبو الغادية الفزاري، فأمَّا أبو النادية فطعنه، وأما ابن جزء فاحتز رأسه، وكان سئه وقت (3) قتل نيفا على تسعين سنة، وكانت صفين في ربيع الآخر (4) سنة تسع وثلاثين، ودفنه علي - رضي الله عنه - في ثيابه، ولم يغسله كما فعل بشهداء أحد، ولما ثبت أن أصحاب معاوية قتلوا عمارا صدق عليهم خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم أنهم البغاة. وأن عليا هو الحق (5) ، ووجه ذلك واضح، وهو أن عليا - رضي الله عنه - أحق بالإمامة من كذا من كان على وجه الأرض في ذلك الوقت من غير نزاع من معاوية، ولا من غيره. وقد انعقدت بيعته بأهل الحل والعقد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل دار الهجرة، فوجب على أهل الشام والحجاز والعراق وغيرهم مبايعته، وحرمت عليهم %(4/1712)% مخالفته فامتنعوا عن بيعته، وعملوا على مخالفته، وكانوا له ظالمين، وعن سبيل الحق ناكبين (6) ، فاستحقوا اسم البغي الذي شهد به عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينجيهم من هذا تأويلاتهم الفاسدة فالها تحريفات عن سنن الحق حائدة. نقل الأخباريون: أن معاوية تأول الخبر تأويلين: إحداهما. أفي قال بموجب (7) الخبر فقال: نحن الباغية لدم عثمان (8) . =(7/256)=@
وثانيهما: أنه قال: إنما قتله من أخرجه للقتل، وعرضه له، وهذان التأويلان فاسدان. أما بيان فساد الأول: فالبغي - ومن كان أصله الطلب - فقد غلب عرف استعماله في اللغة والشرع على التعدي والفساد، ولذلك قال اللغويون؛ أبو عبيد وغيره، البغي: التعدى. وبغى الرجل على الرجل: استطال عليه. وبنت السماء: اشتد مطرها. وبغى الجرح: ورم وترامى إلى فساد، وبنى الوالي: ظلم. وكل مجاوزة، وافراط على المقدار الذى هو حد الشيء: بغى. وبرىء جرحه على بنيم: وهو أن &(7/211)&$
__________
(1) من قوله: «قتلوا يومئذ وقال...» إلى هنا سقط من (ح).
(2) قوله: «ابن ياسر» سقط من (ح).
(3) في (ح): «يوم».
(4) في (ح): «ربيع الأول».
(5) في (ح): «المحق».
(6) في (ح): يشبه (ناكثين».
(7) في (ح): «موجب».
(8) زاد بعدها في (ح): «أي المطالبه له».(7/211)
يبرأ وفيه ش ة من نغل (1) ، وعلى هذا فقد صار الحال في البني كالحال في الصلاة، والذابة، وغير ذلك من الاسماء العرفية التي إذا سمعها السامع سبق لفهمه المعنى العرفي المستعمل، لا الأصلي الذي قد صار كالمطرح، كما بئناه في الأصول، وإلى حمل اللفظ على ما قلناه صار عبد الله بن عمرو بن العاص (2) ، وغيره يوم قتل عمار، وأكثر أهل العصر، ورأوا: أن ذلك التأويل تحريف. سلمنا نفي العرف، وأن لفظ الباغية صالح للطلب وللتعذي، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الفئة الباغية في هذا الحديث في معرض إظهار فضيلة عمار وذم قاتليه، ولو كان المقصود البغي الذي هو مجرد الطلب لما أفاد شيئا من ذلك، وقد أفادهما بدليل مساق الحديث فتأمله بجميع طرقه تجده كذلك، وأيضًا فلو كان ذلك هو المقصود لكان تخصيص قتله عمار بالبغي الذي هو الطلب ضائعا، لا فائدة له؛ إذ علي وأصحابه طالبون للحق ولقتلة عثمان، لو تفرغوا لذلك، وتمكنوا منه، وإنما منعهم من ذلك معاوية وأصحابه بما أبدوا من الخلاف، ومن الاستعجال مع قول علي لهم: ادخلوا فيما دخل فيه الناس، ونطلب قتلة عثمان، ونقيم عليهم كتاب الله. فلم يلتفتوا لهذا، ولا عرجوا عليه، ولكن سبقت الأقدار، وعظمت المصيبة بقتيل الدار. %(4/1713)% أما (3) فساد التأويل الثاني فواضح؛ لأنه عدل عمن وجد القتل منه إلى من =(7/257)=@ لا تصح نسبته إليه، إذ لم يجبز عمار على الخروج؛ بل: هو خرج بنفسه وماله مجاهدا في سبيل الله، قاصدًا لقتال (4) من بغى على الإمام الحق، وقد نقلنا ما صدر عنه في ذلك، وحاش معاوية عن مثل هذا التأويل، والعهدة على الناقل، بل قد حكي عن معاوية أنه قال عندما جاءه قاتل عمار برأسه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بشروا قاتل ابن سمية بالنار». فلما سمع القاتل ذلك قال: بئست البشارة، وبئست التحفة، وأنشد في ذلك شعرًا، والله تعالى أعلم بحقيقة ما جرى من ذلك، وقد تقدَّم قول النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج: «تقتلهم أولى الطائفتين بالحق»، والقاتل لهم هو علي - رض الله عنه - وأصحابه. &(7/212)&$
__________
(1) في (ح): «نفل».
(2) في (ح): «العاصي».
(3) في (ح): «وأما».
(4) في (ح): «للقتال».(7/212)
وقوله: «بؤس ابن سمية» هو منادى مضاف محذوف حرف (1) النداء تقديره: يا بؤس ابن سمية، وهي أم عمار، والبأس والبؤس والباساء (2) : المكروه والضرر، وفي الرواية الأخرى: «يا ويل (3) ابن سمية»، وفي البخاري: «يا ويح ابن سمية)، وكلاهما بمعنى التفجع والترحم. والويل: بمعنى الهلكة، هذا هو الصحيح، وقد تقدَّم الخلاف فيهما .=(7/258)=@
وقوله: «لقد مات كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده» كذا جاء هذا الحديث في الأم، قد مات كسرى بلفظ الماضي المحقق بقد، وقد وقع هذا اللفظ في كتاب الترمذى من حديث أبي هريرة وعنه وسعيد بن المسيب، وعنه الزهري، وعنه سفيان، وبهذا السند رواه مسلم، غير أن الترمذي قال: «إذا هلك كسرى»، ولم يقل: «قد مات» وبين اللفظين بون عظيم، فلفظ مسلم يقتضي أن كسرى قد كان وقع موته، فأخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا يدل حديث أبي بكرة الذي خرجه البخاري قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا %(4/1714)% عليهم بنت كسرى، قال: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة»، يعني: أنه لما مات كسرى ولوا عليهم ابنته، وعلى هذا فلا يصح أن يقال: مكان: «قد مات»: «إذا مات » ولا «إذا هلك » لأنَّ إذا للمستقبل، ومات للماضي، وهما متناقضان، فلا يصح الجمع بينهما لاتحاد الراوي، واختلاف المعنى، إلا على تأويل بعيد، وهو أن يقدر أن أبا هريرة سمع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم مرتين، فسمع أو لا (4) إذا هلك كسرى، وبعده: قد هلك كسرى. فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قال الحديث الأول قبل موت كسرى؛ لأنَّه علم أنه يموت ويهلك، ويكون &(7/213)&$
__________
(1) قوله: «حرف» سقط من (ح).
(2) في (ح): «والبوساء».
(3) في (ح): «يا ويس».
(4) في (ح): «فسمع منه أولا».(7/213)
النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا قال الحديث الثاني بعد موته، ويحتمل أن يفرق بين الموت =(7/259)=@ والهلاك، فيقال: إن موت كسرى كان قد وقع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فأخبر عنه بذلك، وأما هلاك ملكه، فلم يقع ذلك إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وموت أبي بكر، وإنَّما هلك ملكه في خلافة عمر -رضي الله عنه - على يدي سعد بن أبي وقاص وغيره من الأمراء الذين ولاهم عمر حرب فارس، فهزموا جموعه، وفتحوا بلاده، وانتقلوا كنوزه إلى المدينة، وذخائره، وحليته، حتى تاجه كما هو المعروف في كتب التواريخ، وكان موت كسرى وتمزيق ملكه بسبب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم كما خرجه البخاري (ا) من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة السهمي، فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه مزقه، فحسبت أن ابن المسيب قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق، فعجل الله تعالى موته، ومزق بعد ذلك ملكه. وقد تقدَّم أن كل ملك للفرس يقال له كسرى، وكل ملك للروم: يقال له قيصر. وكل ملك للحبشة يقال له: النجاشي. ويقال كسرى (1) بفتح الكاف، وهو قول الأصمعي، والكسر لغيره.
وقوله: «فلا كسرى بعده، ولا قيصر بعده». قال القاضي: معناه عند أهل العلم: لا يكون كسرى بالعراق، ولا قيصر بالشام، فاعلم بانقضاء (2) ملكهما، وزواله من هذين القطرين، فكان كما قال، وانقطع أمر كسرى بالكلية، وتمزق ملكه واضمحل، واتخذ قيصر عن الشام، ورجع القهقرى إلى داخل بلاده، واحتوى المسلمون على ملكهما، وكنوزهما، والفقا في سبيل الله، كما أخبر عنه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. %(4/1715)%
وقوله: «لتفتحن عصابة من المسلمين كنز آل كسرى» العصابة: الجماعة =(7/260)=@ ( 1) رواه البخاري ( 64) .
من الناس والطير والوحش، سموا بذلك؛ لأنَّهم يشد بعضهم بعضا، والعضب: هو الشد. والعضبة: ما بين العشرين إلى الأربعين، وإنما أطلق النبي صلى الله عليه وسلم على المفتتحين كنز كسرى: عصابة، وإن كانوا عساكر بالنسبة إلى عدد عدوهم &(7/214)&$
__________
(1) من قوله: «وكل ملك الروم...» إلى هنا سقط من (ح).
(2) في (ح): «بانفصال».(7/214)
وجيوشه، فإنَّهم كانوا بالنسبة إليهم قليلا. ويحتمل أن يريد (1) بالعصابة الجماعة السابقة لفتح القصر الأبيض دون الجيش كله؟ فإنَّ الله لما هزم الفرس وجيوشهم العظيمة على يد (2) محط سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - وعسكره، وكان عدد من معه يوم فتح القادسية ستة آلاف، أو سبعة آلاف على ما ذكره محمد بن جرير الطبري. فز المنهزمة من الفرس إلى المدائن منزل كسرى، فتبعهم المسلمون إلى أن وصلوا إلى دجلة، وهي تقذف بالزبد، فاقتحمها المسلمون فرسانا ورجالة، خائضين يتحدث بعضهم مع بعض، فلما رأى ذلك الفرس هالهم ذلك، فتخففوا بما أمكنهم من المالى والذخائر النفيسة، وفروا، ولم يبق فيها إلا من ثقل عن الفرار، ودخل المسلمون المدائن، وفيها القصر الأبيض الذي فيه إيوان كسرى، وأمواله، وذخائره النفيسة الي لم يسمع بمثلها. قال أهل التاريخ: كان في البيت الأبيض ثلاثة الاف ألف ألف ألف -ثلاث مرات - غير أن رستما لما فر منهزما حمل معه نصف ما كان في بيوت الأموال، وترك النصف الآخر، فملكة(1) الله تعالى المسلمين، فأصاب الفارس في المدائن اثنا عشر ألفا، ولما دخل القصر الأبيض وجدوا فيه ملابس كسرى، وحليته، وبساطه الذي ما سمع في العالمين بمثله، فجاءوا بكل ذلك إلى عمر فكان ذلك كله مظهرا لصدق رسول الله (3) صلى الله عليه وسلم للعيان بحيث يضطر إليه كل إنسان. =(7/261)=@ &(7/215)&$
__________
(1) في (ح): «يراد».
(2) في (ح): «يدي».
(3) في (ح): «رسوله» بدل «رسول الله».(7/215)
%(4/1716)% (1)في (ع)و(م 4):ف!نثله .
ومن باب: ما ذكر في ابن صياد
ويقال: ابن صائد، واسمه صاف، وكل ذلك في الحديث. قال الواقدي: نسبه في بني النجار، وقيل: هو من اليهود، وكانوا حلفاء بني النجار، وكانت حاله في صغره حالة الكهان يصدق مرة، ويكذب مرارا، ثم إنه أسلم لما كبر، وظهرت منه علامة الخير من الحج والجهاد مع المسلمين، ثم ظهرت منه أحوال، وسمعت منه أقوال، تشعر بأنه الدجال، وبأنه كافر، كما يأتي في تفاصيل أحاديثه، فقيل: إنه تاب ومات بالمدينة، ووقف على عينه هناك، وقيل: بل فقد في يوم الحرة، ولم يوقف عليه، وكان جابر وابن عمر يحلفان أنه الدجال، =(7/262)=@ لا يستهان فيه، وعلى الجملة فأمره كله مشكل على الأمة، وهو فتنة ومحنة. وقد تقدم أن الأطم: هو (1) الحصن، ويجمع: اطام. ويروى أطم ابن مغالة، وبني مغالة، وكلاهما صحيح، وبنو مغالة بغين %(4/1717)% معجمة. وفي (2) حديث ابن حميد، وفي حديث الحلواني: بني معاوية، والأول المعروف، وبنو مغالة: كل ما كان عن يمينك إذا وقفت (3) آخر البلاط مستقبل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وبنو جديلة ما كان عن يسارك، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم في بني مغالة، قاله الزبير. وقال بعضهم: بنو مغالة حي من قضاعة، وبنو معاوية: هم بنو جديلة. &(7/216)&$
__________
(1) في (ح): «هي» بدل «هو».
(2) في (ح): «في» بلا واو.
(3) قوله: «إذا وقفت» سقط من (ح).(7/216)
وقوله: «فرفصه» رسول الله صلى الله عليه وسلم - بالفاء والصاد المهملة - رواية الجماعة. قال بعض الشارحين: الرَّفص: الضرب بالرجل، مثل الرفس. قلت: وهذا ليس بمعروف عند أهل اللغة (1) ، وإنما رفس بالسين المهملة. يقال: رفسه يريفسه ويرفسه؟ إذا ضربه برجله. فأمَّا رفص بالصاد: فهو من الرفصة، وهي النوبة من الماء تكون بين القوم، وهم يترافصون الماء، أي: يتناوبونه، وقد (2) وقع عند الصدفي: فرقصه بضاد معجمة. قال القاضي: وهو وهم. قلت: ويحتمل أن يقال: ليس بوهم، ويكون معناه من الرفض، وهو الرمي، وكأنه أعرض عنه، ولم يلتفت إليه لما سمع منه ما سمع، فعل المغضب. وأبعد من هذه ما وقع في البخاري من رواية المروزي: فرقصه (3) بالقاف والصاد =(7/263)=@ المهملة، وفي حديث (4) كتاب الأدب من البخاري، فرضه: بالضاد المعجمة من الرضى، وقال بعضهم فيه: فرضه بالصاد المهملة؛ أي: ضغطه. %(4/1718)%
وقوله: يأتيني صادق وكاذب يعني به: تابعه من الشيطان (5) ، كان تارة يصدق له (6) ، وتارة يكذب، وهذه حالة الكهان.
وقوله: ((اخلط عليك الأمر» أي: ليس عليك تابعك الجش حالك.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «خبئت لك خبيئا (7) » رواية الجماعة خبيئا بكسر الباء، وعند التميمي: خبأ بسكونها، وكلاهما بمعنى. في الصحاح: الخبء: ما خبىء، وكذلك: الخبي» وكلاهما مهموز، واختلف في هذا المخبأ ما هو؛ فالأكثر على أنه: أضمر له في نفسه: اليوم تأتي السماء بدخان مبين، وقال الداودى: وكانت (8) في يده سورة الدخان مكتوبة، وعلى هذا فيكون قوله الدخ &(7/217)&$
__________
(1) في (ح): «العافة» كذا رسمت.
(2) قوله: «قد» سقط من (ح).
(3) في (ح): «فوقصه».
(4) قوله: «حديث» سقط من (ح).
(5) في (ح): «الشياطين».
(6) قوله: «له» سقط من (ح).
(7) في (ح): «إني خبئت لك خباء».
(8) في (ح): «كانت» بلا واو.(7/217)
يعني به الدخان. قالوا: هي لغة (1) معروفة في الدخان، وأنشدوا: عتد رواق البيت يتشى الدخان وحكى هذه اللغة في الصحاح، ووجدته في كتاب الشيخ: الدخ: ساكن =(7/264)=@ الخاء. ومصححا عليه، أعني: الذي جاء في الحديث، وكانه على الوقف، وأما الذي في الشعر فهو مشدد الخاء، وكذلك قرأته في الحديث فيما أعلم، وقيل: إنما أراد ابن %(4/1719)% صياد أن يقول: الاخان فزجره النبي ت فقال: الأخ، وهذا فيه بعد. وقيل: الدخ: نبت موجود بين النخيل والبساتين خباه له. واخسا: زجر للكلب (2) ، ولمن يذم ويهان.
وقوله: «لن تعدو قذرك» أي: لن تجاوز حالة الكهان المتخرصين الكذابين، لا يليق بك إلا ذلك، وإنَّما اختبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لينظر هل طريقته طريقة الكهان، أو لا؟ فظهر أنه كذلك. وأن الشياطين تلعب به، وتلبس عليه. وقوله عليه السلام لعمر: «إن يكنه (3) ، فلن تسلط عليه، وإن لم يكنه (4) فلا خير في (5) قتله» هذا يدلّ على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتضح له شيء من أمر كونه الله هو الدجال أم لا، وليس هذا نقص (6) في حق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه لم يكن يعلم إلا ما أعلمه (7) الله، وهذا مما لم يبلغه (8) الله تعالى به، ولا هو مما ترهق إلى علمه حاجة لا ضرعية، ولا عادتة، ولا مصلحة (9) ، ولعد الله تعالى قد علم في إخفائه مصلحة فأخفاه، والذي يجب الإيمان به: أنه لا بد من خروج الدجال يدعي الإلهية، وأنه كذاب أعور، كما جاء في الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي قد حصلت لمن عاناها العلم القطعي بذلك.
وقوله: «وإن لم يكنه، فلا خير لك في قتله» أي: لأنه صبي حينئذ. وقيل: لأنه كان لقومه عهد من النبي صلى الله عليه وسلم كما عاهد يهود المدينة، أو لأنه من حلفاء بني النجار كما تقدَّم. وهذا الضير المتصل في يكنه هو خبرها، وقد وضع &(7/218)&$
__________
(1) في (ح): «وهي».
(2) في (ح): «زجرا للكلب».
(3) في (ح): «إن يكن هو».
(4) في (ح): «إن يكن هو».
(5) في (ح): «فلا خير لك في».
(6) في (ح): «نقصا».
(7) في (ح): «علمه».
(8) في (ح): «يعلمه».
(9) في (ح): «مصلحية».(7/218)
موضع المنفصل، واسمها مستتر فيها، ونحوه قول أبي الأسود الدؤلي: =(7/265)=@ %(4/1920)% دع الخفر تشربها الغوم فإنني رم يخت أخاها مغنيا مكانها (1) فإنَّ (2) يكنها أو تكنه فإنه أخوها غذته أمه بلبانها أي: فالا يكن هو إياها أر تكن هي إتاه.
وقوله: (طفق يتقي) أي: أخذ وجعل، وقد تقدَّم أنها من أفعال المقاربة. ويتقي: يستتر بجذوع النخل؟ أي: بأصول النخل. وقوله: فثار ابن صياد) أي: وثب وثبة شديدة.
وقوله عليه السلام «لو تركته بين» أي: كان يعبر عن حاله في نومه، هل هو الدجال، أم لا؛ وقد يشكل هذا مع قوله: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ. ..» وبالإجماع على أن النائم غير مؤاخذ بما يقوله في حال نومه، ولا بما يصدر عنه، ولا يعول على هذا الاشكال؛ لأنَّ هذا ليس من (3) باب المؤاخذة، ولا التكليف، صلى الله عليه وسلم انما هو (4) من باب النظر في قرائن الأحوال؟ فإنَّ النائم الغالب عليه =(7/266)=@ أنه يتكلم في نومه بما يكون غالبا عليه في يقظته، ولعل النبف «صغ كان ينتظر أن يظهر له منه في حال نومه ما يدل على حاله دلالة خاصة به، والله تعالى أعلم.
وقوله: «إني لأنذركم الدجال، وما من نبي إلا وقد (5) أنذره قومه، لقد أنذره نوخ قومه» إنما كان هذا (6) من الأنبياء لما علموا من عظيم فتنته، وشدة محبته؛ على &(7/219)&$
__________
(1) قوله: «عن» سقط من (ح).
(2) في (ح): «فإلا».
(3) قوله: «من» لم يتضح في (ح).
(4) في (ح): «هذا» بدل «هو».
(5) في (ح): «قد» بلا واو.
(6) قوله: «هذا» سقط من (ح).(7/219)
ما يأتي تفصيلها في الأحاديث المذكورة بعد؟ ولأنهم لما لم يعثين لواحد منهم زمان خروجه، توفع كل راحد منهم خروجه في زمان أمته، فبالغ في التحذير. وفائدة هذا %(4/1721)% الإنذار الايمان بوجوده، والعزم على معاداته، ومخالفته، واظهار تكذيبه، وصدق الالتجاء إلى الله تعالى في الئعوذ من فتنته. وهذا مذهب أهل السنة، وعامة أهل الفقه والحديث، خلافا أنكر أمره، وأبطله من الخوارج وبعض المعتزلة، وخلافا للجبائي من المعتزلة، ومن وافقنا على إثباته من الجهمية وغيرهم، لكن زعموا أن ما (1) عنده مخارق وحيل، قال: لأنها لو كانت أمورا صحيحة لكان ذلك إلباسا للكاذب بالصادق، وحينئذ لا يكون فرق بين النبي والمتنبىء، وهذا هذيان لا يلتفت إليه؛ فإنَّ هذا إنما كان يلزم لو أن الدجال يدعي النبوة، وليس كذلك؛ فإنه إنما ادعى الألهية، وكذبه في هذه الدعوى واضح للعقول؛ إذ أدلة حدثه ونقصه وفقره (2) مدرك باول الفطرة، بيث لا يجهله من له أدنى فكرة، وقد زاد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى أيضًاحا في هذا الحديث من ثلاثة أوجه:
أحدها: بقوله: «ولكن أتول لكم فيه قولا لم يقله نبي لأمته، إنه أعور، وإن الله ليس بأعور» وهذا تنبيه للعقول القاصرة أو الغافلة على أن من كان ناقصا في ذاته، عاجزا عن إزالة نقصه، لم يصلح لأن يكون إلها لعجزه وضعه، ومن كان عاجزا عن إزالة نقصه كان أعجز عن نفع غيره، وعن مضرته .=(7/267)=@
وثانيها: قوله: «إنه مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن كاتبي وغير كاتب» وهذا أمر مشاهد للحس يشهد بكذبه وكفره. &(7/220)&$
__________
(1) في (ح): «الذي» بدل «ما».
(2) في (ح): «ومقره ونقصه».(7/220)
وثالثها: قوله: «تعلموا أنه لن يرى أحد منكم رئيه حتى يموت» وهذا نص جلت في أن الله تعالى لا يرى في هذه الدار، وهو موافق لقوله تعالى: {لا تدركه الأبصار}، أى: في الدفيا، ولقوله تعالى لموسى - عليه السلام -: {لن تراني} أي (1) في الدنيا. ولقوله: {وما كان لنبي أن يكلمه الله إلا وحيا}الآية. %(4/1722)% وحاصل هذا: أن الصادق قد أخبر أن الله تعالى لا يراه أحد في الدنيا، والدجال يراه الناس، فليس بإله، وهذا منه عليه السلام نزول إلى غاية البيان بحيث لا يبقى معه ريبة الإنسان، وقد تقدَّم الخلاف في رؤية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (2) ربه في كتاب الايمان، وقد قلنا: إنه لم يثبت (3) في الباب قاطغ يعتمد عليه، والأصل (4) : التمسك بما دلت هذه الأدلة عليه، وقد تأول بعض الناس قوله صلى الله عليه وسلم: «مكتوفي بين عينيه كافر» وقال: معن ذلك ما ثبت من سمات حدثه، وشواهد عجزه، وظهور نقصه. قال: ولو كان على ظاهره وحقيقته لاستوى في إدراك ذلك المؤمن والكافر، وهذا عدول وتحريف عن حقيقة الحديث من غير موجب لذلك، وما ذكره من لزوم المساواة بين المؤمن والكافر في قراءة ذلك لا يلزم لوجهين: أحدهما: أن الله تعالى يمنع الكافر من إدراكه، لا سيما وذلك الزمان قد =(7/268)=@ انحرفت فيه عوائد، فليكن هذا منها. وقد نص على هذا في بعض طرقه فقال: ايقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب»، وقراءة غير الكاتب خارقة للعادة.
وثانيهما: أن المؤمن إنما يدركه لبئه، ويقظته (5) ، ولسوء ظنه بالدجال، وتخوفه من فتنته، فهو في كل حال يستعيد النظر في أمره، ويستزيد بصيرة في كذبه، فينظر في تفاصيل أحواله، فيقرأ سطور كفره، وضلاله ويتبين عين محاله. وأما الكافر فمصروف عن ذلك كله بننلته وجهله، وكما انصرف عن إدراك نقص عوره، وشواهد عجزه، كذلك يصرف عن فهم قراءة سطور كفره ورمزه. &(7/221)&$
__________
(1) قوله: «أي» سقط من (ح).
(2) في (ح): «في رؤية النبي عليه الصلاة والسلام»وكتب في الهامش «نبينا».
(3) في (ح): يشبه «يلتفت».
(4) في (ح): «فالأصل».
(5) في (ح): «ويقظة».(7/221)
وأما الفرق بين النت والمتنئىء نالمعجزة لا تظهر على يدئ المتنئىء؛ لأنَّه الض يلزم منه انقلاب دليل الصدق دليل الكذب، وهو محال، وللبحث فيها مجال في واعلم الكلام، وأما من قال: أن ما يأتي به الدجال حيل ومخارق فهو معزول عن الحقائق؛ لأنَّ ما أخبر به النبي من تلك الأمور حقائق لا يحيل العقل شيئا منها، فوجب %(4/1723)% إبقاؤها على حقائقها، وسيأتي تفصيلها. والرواية في تعلموا بتشديد اللام بمعنى: اعلموا وتعلموا. وقوله: «فرفعت لنا غنم» أي: أبصرناها على بعد، وكان الال الذي هو السراب رفعها لهم؛ أي: أظهرها (1) . والصعق (2) : بضم العين: القدح الكبير.
وقول ابن صياد لأبي سعيد: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو كافر» وأنا مسلم الخ...) هذا الحديث من أوله إلى آخره يدلّ على أن هذه القصة اتفقت لأبي سعيد مع ابن صياد بعد أن كبر، وصار رجلا وولد له، وبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ابن صياد أسلم وفي، وأنه حفظ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك ذكره =(7/269)=@ ابن جرير وغيره في الصحابة، غير أنه قد ظهرت منه في هذا الحديث أمور بعضها كفر، وذلك قوله: لو عرض (3) علي ما كرهت، فإنَّ من يرضى لنفسه دعوى الإلهية، وحالة الدجال هو كافر، ولا يتصور في هذا خلاف، وبعضها يشعر بأن الدجال، وهو قوله: والله إني لأعرفه، وأعرف مولده، وأين هو. زاد الترمذي، وأين هو الساعة من الأرض، وأعرف والده. فإنَّ هذا يقارب النص في أنه هو، وما لبَّس به من أنه مسلم فسيكفر، أو هو منافق كافر في الحال، &(7/222)&$
__________
(1) في(ح): «أظهرها لهم».
(2) في (ح): «والعين».
(3) في (ح): «لي» بدل «علي».(7/222)
وحجه وغيره مخبط بكفره، أو لعنه كان ذلك منه نفاقا. وأما كونه لا يولد له، ولا يدخل مكة والمدينة، فيحتمل أن يكون ذلك منه إذا خرج على الناس، والله تعالى أعلم بحقيقة ذلك. و (قول أبي سعيد الخدري له: تتا لك سائر اليوم)؟ أي: خسارا لك دائما؛ لأنَّ اليوم هنا يراد به الزمان، و-لبا: منصوب بفعل مضمر لا يستعمل إظهاره، أي: لقيت تبا، أي: تبابا، أو صادفت، أو لفاه الله تبابا. و(قول ابن عمر: لقيت ابن صائد مرتين، فقلت لبعضهم: هل تحدثون أنه هو) يعني: لبعض من كان معه، والذي قال: لا؛ والله هو ذلك %(4/1724)% البعض الذي خاطبه، وله قال ابن عمر: كذبتني، ألا ترى أنه خاطبه بقوله: لقد أخبرني بعضكم، ولا يتخيل أن الخطاب لابن صياد؛ لأنَّه لم يتكلم معه بهذه اللقيا (1) ، وإنما تكلم معه في الثقة الأخرى. وقوله: لقد أخبرني بعضكم أنه لن يموت حتى يكون أكثركم مالا وولدا، فكذلك هو زعموا اليوم (2) » مثل هذا الخبر لا يتوصل إليه إلا بالنقل، ولم يكن عندهم =(7/270)=@ ( 1) رواه الترمذي (2249) .
شيء يعتمدونه إلا الخبر عن رسول الله في فهو مرفوع بالمعنى لا باللفظ، فكانه قال: أخبرني مجضكم عن النبي صلى الله عليه وسلم (3) . وقوله: فلقيته لقية أخرى، وقد نفرت عينه) كذا وقع لاكثرهم والصواب الفتح في اللام من لقية؛ لأنَّه مصدر، ولم يحكه ثعلب إلا بالرفع (4) ، ونفرت بالنون والفاء المفتوحتين: رواية جماعة الشيوخ؟ أى: ورمت، وفي أصل القاضي التميمي: نقرت (5) وفقئت معا، فقلت (6) : فقنت في الموضعين، وكتب على الأول بخطه: نقرت - بالنون والقاف -. ورواه أبو عبد الله المازرقي: نفرت بالفاء (7) ، وهي كلها متقاربة، وأشبهها الأولى (8) ، فإنَّ عينه في ذلك الوقت لم تكن مفقوءة إذ لو كان ذلك لكان من أعظم الأدلة على أنه الد!ال، ولاستدل (9) بذلك من قال: إنه هو على من خالفه في ذلك، ولم يرد (10) ذلك، غير أنه قد حكى أبو الفرج الجوزي أنه: ولد وهو أعور مختون مسرور، وهذا فيه نظر؛ لأنَّ الظاهر من هذا الحديث &(7/223)&$
__________
(1) في (ح): «في هذه اللقية».
(2) قوله: «اليوم» سقط من (ح).
(3) من قوله: «فهو مرفوع...» إلى هنا سقط من (ح).
(4) في (ح): «بالفتح».
(5) في (ح): «فقرت».
(6) في (ح): يشبه «فقلت هي».
(7) في (ح): «بالباء» بدل «بالفاء».
(8) في (ح): «الأول».
(9) في (ح): «ولا استدل» كذا رسمت.
(10) في (ح): «ولم يرو».(7/223)
أشهر مما ذكر. ويحتمل أن يكون ذلك الورم مبتداء فق ش عينه إن كان هو الدخال، والله تعالى أعلم. وكون ابن عمر لم يشعر بضربه لابن صئاد بالمحصا حتى تكشرت، كان ذلك لشدة موجدته عليه، وكانه تحقق منه أنه الدجال. %(4/1725)% وقوله: «فنخر كأشد نخير حمار سمعت) اشخر ة صوت (1) اللأنف. تقول هة: نخر يتخر يتخر نخيرا. =(7/271)=@ &(7/224)&$
__________
(1) في (ح): «النخير صوت».(7/224)
وقوله: فقال له قولآ أغضبه) يعني: أن ابن عمر قال لابن صتاد قولا غضب ابن صياد لأجله، فانتفخ حتى ملأ السئهة، وهي الطريق، وتجمع سككا، وهذا الانتفاخ محموذ على حقيقته وظاهره، ويكون هذا أمرا خارقا للعادة في حق ابن صياد، ويكون من علامات أنه الدجال؛ لأنَّ هذا (1) موافق لما قاله حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما يخرج من غضبة يتضبها، . وقد اجتمعت في أحاديث ابن عمر هذه (2) قرائن كثيرة تفيد: أن ابن صياد هو الدجال، ولذلك كان ابن عمر -رضي الله عنهما- قد اعتقد ذلك وصمم عليه بحيث كان يحلف على ذلك، وكذلك جابر بن عبد الله - رضي الله عنهم -.=(7/272)=@ %(4/1726)%
ومن باب: صفة الدجال
قوله: «لأنا أعلم بما مع الدجال منه» هذا جواب قسم محذوف؟ أي (3) : والله لا لأنا أعلم. أي: أن الدجال لا يعلم حقيقة ما معه من الجنة والنار، ولا من حة النهرين؟ أي؟ أنه يظنهما كما يراهما غيره، فيظن جنته جنة وماءه ماء» وحقيقة &(7/225)&$
__________
(1) في (ح): «هذه».
(2) في (ح): «هذا».
(3) قوله: «أي» سقط من (ح).(7/225)
الأمر على الخلاف من ذلك، فيكون قد لبس عليه فيهما، والنط قد علم حقيقة كل واحد (1) منهما، ولذلك بثنه، فقال: «ناره ماء بارد» وفي اللفظ الآخر: «جنته (2) نار وناره جنة»، وهذا الكلام رواه مسلم عن حذيفة من قول النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الطريق، وقد رواه من طريق أخرى موقوفا على حذيفة من قوله، وقد رواه أبو داود من حديث ربعي بن خراش قال: اجتمع حذيفة، وأبو مسعود، فقال حذيفة: لأنا أعلم بما مع الدجال منه (2).
وقوله: «رأي العين» منصوب على الظرف؟ أى: حين رأي العين، أو في رأى العين، ويصح أن يقال فيه: إنه مصدر صدره محذوف تقديره: قرأه رأي العين. وكل ما يظهره الله على يدي الدجال من الخوارق للعادة محن امتحن الله بها خو عباده، وابتلاء ابتلاهم به، ليتميز أهل التنزيه (3) والتوحيد بما (4) يدل عليه العقل السديد =(7/273)=@ ت (1) ضرح المزلف - رحمه الله - تحت هذا العنوان هذا الباب والذى يليه، وهو باب: في هوان الدجال على الله تعالى. (2) رواه أبو داود (4315) .
من استحالة الإلهية على ذوي الأجسام، لى ان أتوا على دعواهم بامتثال تلك الطوائف، أو (5) لينتز أهل الجهل باعتقاد التجسيم، حتى يوردهم ذلك نار الجحيم. وفتنة الدجال من نحو فتنة أهل المحشر بالصورة الهائلة التي تأتيهم فتقول لهم (6) : أنا ربكم، فيقول المؤمنون: نعوذ بالله منك، كما تقدَّم في الإيمان. ومقتضى روايتي حذيفة: أن معه نهرين وجنتين، وأنهما مختلفتان في المعنى واللفظ لأن النهر لا يقال عليه جنه، ولا %(4/1727)% الجنه يقال (7) عليها نهر. هذا هو الظاهر، ويحتمل أن يقال: ان ذينك النهرين في جنه ونار، فحسن أن بعثر بأحدهما عن الآخر. وقوله: «فافا أدركن ذلك أحدكم )) كذا الرواية عند جميع الشيوخ، والصواب: إسقاط النون، لأنه فعل ماضي، وإنما تدخل هذه النون على الفعل &(7/226)&$
__________
(1) في (ح): «واحدة».
(2) في (ح): «فجنته».
(3) في (ح): «التوبة» بدل «التنزيه».
(4) في (ح): «ما» بدل «بما».
(5) في (ح): «و» بدل «أو».
(6) قوله: «لهم» سقط من (ح).
(7) في (ح): «لا يقال» بدل «يقال».(7/226)
المستقبل كقوله: {فإما نذهبن بك (1) }، و {فإما (2) يأتينكم مني هدى}، ونحوه كثير. وقوله: «الدجال ممسوح العين عليها ظفرة غليظة)) هي بالظاء المعجمة والفاء، وهما مفتوحان، وهي جلدة تغشى العين، إن لم تقطع غشيت العين. ومعى ممسوح العين أي: مطموس ضوؤها وإدراكها، فلا يبصر بها شيئًا.
وقوله: «الدجال أعور العين اليسرى» الأعور: هو الذي أصابه في عينه عور، وهو العيب الذى يذهب إدراكها، وهكذا صح في حديث حذيفة: ا اليسرى» وقد صح من حديت ابن عمر مرفوعا أنه أعور عينه اليمنى، كأنها عنبة =(7/274)=@ طافية، ورواه الترمذي (1) أيضًا وصححه، وهذا اختلاف يصعب الجمع فيه بينهما، وقد تكلف القاضي أبو الفضل الجمع بينهما، فقال: جمع الروايتين عندي صحيح، وهو أن كل واحدة منهما عوراء من وجه ما؛ إذ العور في كل شيء: العيب، والكلمة العوراء: هي المعيبة. فالواحدة عوراء بالحقيقة، وهي التي وصفت في الحديث بأنها ليست جحراء، ولا ناتئة، وممسوحة رمطموسة. وطافئة - على رواية الهمز -، والأخرى عوراء لغيبها اللازم لها لكونها جاحظة، أو كأنها كوكب، أو كانها عنبة (3) طافية – بغير %(4/1728)% همز- وكل واحدة منهما يصح فيها الوصف بالعوز بحقيقة العرف والاستعمال، أو بمعنى العور الأصلي الذي هو العيب. &(7/227)&$
__________
(1) في (ح): «يذهبن منك».
(2) في(ح): «وإما».
(3) قوله: «عنبة» سقط من (ح).(7/227)
قلت: وحاصل كلامه: أن كل واحدة من عين الدجال عوراء. إحداهما بما أصابها حتى ذهب إدراكها، والثانية عوراء بأصل خلقتها معيبة. لكن يبعد هذا التأويل: أن كل واحدة من عينيه قد جاء وصفها في الروايات، بمثل ما وصفت به الأخرى من العور، فتأمله، فإنَّ تتبع تلك الألفاظ يطول.
وقوله: «جفال الشعر)) أي: كثيره. قال ذو الزفة يصف شعر امرأة: وأنعود كالأساود مسبكرا (1) على المتنين متسدلا جفالا
وشعر الدجال مع كثرته جعد قطط، وهو الشديد الجعودة، الذي (2) لا يمتد إلا باليد، كشعور السودان، وفي القطط لغتان الفتح والكسر في الطاء الأولى (3) .=(7/275)=@
( 1) رواه الترمذي ( 2241). (2) سنبكرأ: منسدلآ مسترسلآ. والأساود: الحين ات .
وقوله: «فخفض فيه ورفع» بتخفيف الفاء، أي: أكثر من الكلام فيه، فتارة يرفع صوته ليسمع من بعد، وتارة يخفض ليستريح من تعب الإعلان، وهذه حالة المكثر من الكلام. وقيل: معناه: نحفره وصغره كما قال: «هو أهون على الله من ذلك» وتارة عظمه، كما قال: «ليس بين يدئ الساعة خلق أكبر من الدجال» والأول أسبق الى الفهم، وقد روى (4) ذلك اللفظ: «فخفض فيه ورفع (5) » مشدد الفاء، وهي للتضيف والتكثير.
وقوله: «غير الدجال أخوفني (6) عليكم» بنون الوقاية عند الجماعة، وهو وجه %(4/1729)% الكلام، وقد روى عن أبي بحر: أخوفني - بغير نون - وهي قليلة حكاها ثابت، وقد وقع في الترمذي: «أخوف لي» قلت: وهو وجه الكلام، وفيه اختصار؛ أى: غير الدجال أخوف لي عليكم من الدجال، فحذف للعلم به. &(7/228)&$
__________
(1) في (ح): «مسطرًا».
(2) في (ح): «التي».
(3) في (ح): «أولى».
(4) في (ح): يشبه «رويت».
(5) في (ح): «فخفض ورفع فيه».
(6) في (ح): «أخوف» بدل «أخوفني».(7/228)
وقوله: «إن يخرج وأنا فيكم، فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم، نامرؤ حجيج نفسه» هذا الكلام يدلّ: على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتبين (1) له وقت خروجه، غير أنه كان يتوقعه، ويقربه، وكذلك كان يقرب أمره حتى يظنوا أنه في النخل القريب منهم. وحجيجه: محاجه؟ ومخاصمه، وقاطعه بالحجَّة بإظهار كذب (2) لافساد قوله.
وقوله: «فامرؤ حجيج نفسه» أي: ليحتج كذ امرىء عن نفسه بما أعلمته =(7/276)=@ من صفته، وبما يدلّ العقل عليه من كذبه في دعوى الإلهية، وهو خبر بمعنى الأمر، وفيه التنبيه على النظر عند المشكلات، والتمسك بالأدلة الواضحات.
وقوله: «والله خليفتي على كل مسلم» هذا منه زو تفويض إلى الله في كفاية كل مسلم من تلك الفنن العظيمة، وتوكل عليه في ذلك، ولا شيء في أن من صح إسلامه في ذلك الوقت، أنه يكفي تلك الفتن لصدق النبي صلى الله عليه وسلم في قوله من وصحته، لضمان الله تعالى كفاية من توش عليه، بقوله: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} أي: كافيه مشقة ما توش عليه فيه، وموصله إلى ما يصلحه منه، ومع هذا فقد أرشد النبي * إلى ما يقرره على الدجال، فيؤمن من فتنته، وذلك عشر آيات من أول سورة الكهف، أو من آخرها، على اختلاف الرواية في ذلك. والاحتياط والحزم يقتضي: أن يقرأ عشرًا من أولها، وعشرا من آخرها، على أنه قد روى أبو داود من حديث النواس: «فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف (3) فإنَّها جوازلكم من فتنته». %(4/1730)%
وقوله: «عنبة طافئة» رويناه بالهمز، وصححناه على من يوثق (4) بعلمه، &(7/229)&$
__________
(1) في (ح) : «يبين».
(2) في (ح): «كذبه».
(3) من قوله: «أو من آخرها...» إلى هنا سقط من (ح).
(4) في (ح): «وصححنا عليه عمن يوثق».(7/229)
وقد سمعناه بغير همز، وبالوجهين ذكره القاضي (1) أبو الفضل، فقال: هو اسم فاعل من طفئت النار، تطفا؟ فهي طافية، وانطفأت في منطفئه، وأطفاتها أنها: فهي مطفأة. فكان عينه كانت تغير كالسراج فانطفأت؛ أي: ذهب نورها، وهذا المعنى في هذه الرواية التي لم يذكر فيها عنبة واضح، ويبعد فيها ترك الهمز، وأما الرواية التي فيها: «كأنها عنبة طافية» فالأولى (2) ترك الهمز، فإنَّه شبهها في استدارتها وبروزها بحبة العنب (3) ، وهو اسم فاعل من طفا يطفو: إذا علا (4) -غير مهموز-في طافية، =(7/277)=@
أي: قائمة جاحظة، كما جاء في بعض ألفاظ الحديث. وقد روى أبو داود من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إني قد حدثتكم عن الدجال حتى خشيت ألا تغفلوا أن المسيح الدجال رجل قصير أفحج جعد أعور (5) مطموس العين، ليست بناتنة، ولا جحراء». وهذا الحديث يقتضي: أن عينه ليست بالفاحشة النتوء، والجحوظ (6) ، ولا غايرة حتى كأنها في جحر؛ بل: متوسطة بحيث يصدق عليها: أنها قائمة وجاحظة، والله أعلم. وقد زاد عبادة في هذا الحديث من أوصافه أنه قصير أفحج، والنحج: تباعد ما بين الساقين. وقوله: انه خارج حلة بين الشام والعراق» رويته وقيدته بفتح الحاء المهملة، وتشديد اللام، وهي رواية السخزي، وقيل معنى (7) ذلك: قبالة وسمت. وفي كتاب العين، والحلة: موضع حزن وضور، وسقطت هذه الكلمة من رواية العتري. وروي عن ابن الحذاء: حله بضم اللام وهاء الضمير، أي: نزوله وحلوله، وكذا في كتاب التميمي، وهكذا ذكره الحميدي، ورواه الهروي في &(7/230)&$
__________
(1) قوله: «القاضي» سقط من (ح).
(2) في (ح): «فالأولى به».
(3) في (ح): «العنبة».
(4) في (ح): «على» كذا رسمت.
(5) زاد بعدها في (ح): «رجل قصير أفحج شعد».
(6) قوله: «والجحوظ» سقط من (ح).
(7) في (ح): «معناه».(7/230)
غريبه: خلة: بالخاء المعجمة مفتوحة، وتشديد اللام، وفسره بأنه ما بين البلدتين (1) ، قال غيره: هو الطريق في الرمل، وبجمع: خل. %(4/1731)% قلت: وقد روى الترمذي من حديث أبي بكر الصديق قال: حدثنا (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الدجال يخرج من أرض بالمشرق يقال لها: خراسان يتبعه أفواج)) كان وجوههم المجان المطرقة». قال: وفي الباب عن =(7/278)=@ أبي هريرة، وعائشة، وهذا حديث حسن غريب، ووجه الجمع بين هذا وبين الذي قبله: أن مبتدأ خروج الدجال من خراسان، ثم يخرج إلى الحجاز فيما بين العراق والشام، والله تعالى أعلم.
وقوله: «عاث يمينا وعاث شمالا» رويناه بالعين المهملة والثاء (3) المثلثة مفتوحة غير منؤلة على أنه فعل ماضي، وبكسرها وتنويها على أنه اسم فاعل. وهو بمعنى الفساد. يقال: عثا في الأرض يعثو: أفسد، وكذلك عثي - بالكسر- يعثي. قال الله تعالى: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين}. وقوله: «يا عباد الله اثبتوا» هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم يأمر من لقي الدجال أن يثبت ويصبر؛ فإنَّ لنثه في الأرض قليل على ما يأتي، وأما من سمع به ولم يلقه، فليبعد عنه، وليفر بنفسه، كما خرجه أبوداود من حديث عمران بن حصين» قال (4) : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمع بالدجال فلينا عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه، وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات، أو لما يبعث به من الشبهات» (5) . &(7/231)&$
__________
(1) في (ح): «البلدين».
(2) قوله: «حدثنا» سقط من (ح).
(3) في (ح): «وبالثاء».
(4) قوله: «قال» سقط من (ح).
(5) قوله: «أو لم يبعث به من الشبهات» سقط من (ح).(7/231)
و((قوله: يا رسول الله اوما لبثه في الأرض؟ قال: «أربعون يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم» ظاهر هذا: أن الله تعالى يخرق العادة في تلك الأيام، فيبطىء بالشمس عن حركتها المعتادة في أول يوم من تلك %(4/1732)% الأيام، حتى يكون أول يوم كمقدار سنة معتادة» ويبطىء بالشمس حتى يكون كمقدار شهر، والثالث حتى يكون كمقدار جمعة، وهذا ممكن، لا سيما وذلك =(7/279)=@ الزمان تنخرق فيه العوائد كثيرا، لا سيما على يدي الدجال. وقد تأوله أبو الحسين ابن المنادي على ما حكاه أبو الفرج الجوزي فقال: المعنى: يهجم عليكم غيم عظيم لشدة البلاء، وأيام البلاء طوال، ثم يتناقص ذلك الغم في اليوم الثاني، ثم يتناقص في الثالث، ثم يعتاد البلاء، كما يقول الرجل: اليوم عندي سنة، كما قال: وليل المحب بلا آخر قال أبو الفرج: وهذا التأويل يرده قولهم: أتكفينا فيه صلاة يوم وليلة؟ قال: «لا، أقدروا له قدره» والمعنى: قدروا الأوقات للصلاة، غير أن أبا الحسين بن المنادي قد طعن في صحة هذه اللفظات. أعني قولهم: أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: «لا، اقدروا له قدره» فقال هذا عندنا من الدسائس التي كادنا بها ذوو الخلاف علينا قديما، ولو كان ذلك صحيحا لاشتهر على ألسنة الرواة، كحديث الدجال؛ فإنَّه قد رواه ابن عباس، وابن عمر، وجابر بن عبد الله، وحذيفة، وعبادة بن الصامت، وأبي بن كعب، وسمرة بن جندب، وأبو هريرة، وأبو الدرداء، وأبو مسعود البدري، وأنس بن مالك، وعمران بن حصين، ومعاذ بن جبل، ومجمع بن جارية في آخرين، ولو كان ذلك لقوي اشتهاره، ولكان أعظم وأقطع من طلوع الشمس من مغربها. &(7/232)&$(7/232)
قلت: هذه الألفاظ التي أنكرها هذا الرجل صحيحة في حديث النواس خرجها الترمذي من حديث النواس، وذكر الحديث بطوله نحوا مِمَّا خرجه مسلم، وقال في الحديث (1) : حديث حسن صحيح غريب. لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وقد خرجه أبو داود، وأيضًا من حديث عبد الرحمن بن يزيد المذكور، وذكر طرفا من الحديث ولم يذكره بطوله، فصح الحديث %(4/1733)% عند هؤلاء الأئمة، وانفراد الثقة بالحديث لا يخرم الثقة به؛ لأنَّه قد يسمع =(7/280)=@ ما لا تسمعه الجماعة في وقت لا يحضر غيره، وكم يوجد من ذلك في الأحاديث، وقد رواه قاسم بن أصبغ من حديث جابر بن عبد الله على ما يأتي. وتطريق إدخال المخالفين الدسائس على أهل العلم والتحرز والثقة، بعيد لا يلتفت إليه؛ لأنَّه يؤدي إلى القدح في أخبار الآحاد، وإلى خرم الثقة بها، مع أن ما تضمنته هذه الألفاظ أمور ممكنة الوقوع في زمان خرق (2) العادات، كسائر ما جاء مما قد صح وثبت (3) من خوارق العادات التي تظهر على يدي الدجال. مما تضمنه هذا الحديث وغيره، فلا معنى لتخصيص هذه الألفاظ بالإنكار، والكل ظنون مستندة إلى أخبار العدول، والله تعالى أعلم بحقائق الأمور. قال القاضي في قوله: «اقدروا له» هذا حكم مخصوص بذلك اليوم شرعه لنا صاحب الشرع، ولو وكلنا فيه لاجتهادنا لكانت الصلاة فيه عند الأوقات المعروفة في غيره من الأيام. وقوله: «فتغدو عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا، وأسبغه ضروعا» تغدو: تبكر. والسارحة: المواشي التي تخرج للسرح، وهو الرعي، كالإبل والبقر والغنم. والذرا: جمع ذروة، وهي الأسنمة، وأسبغه: أطوله ضروعا لكثرة اللبن. وأمده خواصر: لكثرة (4) كلها، وخضب مرعاها. &(7/233)&$
__________
(1) في (ح): «آخر الحديث».
(2) في (ح): «زمن».
(3) قوله: «وثبت» سقط من (ح).
(4) في (ح): «أي لكثرة».(7/233)
وقوله: «فيصبحون ممحلين» وفي بعفر الروايات: «آزلين))، والمحل والأزل، والقحط، والجدب، كلها واحد، والله تعالى أعلم. ويعاسيب النحل :=(7/281)=@ فحولها، واحدها يعسوب، وقيل: أمراؤها، ووجه التشبيه: أن يعاسيب النحل يتبع كل واحد منهم طائفة من النحل، فتراها جماعات تفرقة (1) ، فالكنوز تتبع الدجال كذلك. %(4/1734)%
وقوله: «فيقطعه جزلتين الغرض» هو بفتح الجيم (2) ، وحكاه ابن دريد بكسرها.
قلت: والأولى الفتح؛ لأن جزلتين هنا مصدر ملأف في المعنى ليقطعه، فكأنه قال: قطعه قطعتين أو جزلة جزلتين، وجزلة: مصدر محدود بجزل تجزلا وتجزلة. ويجوز الكسر على أنه اسم؛ يعني قسمه قطعتين (3) وفرقتين، رمية (4) الغرض: منصوب نصب المصدر؛ أي: كرمية الغرض في السرعة والإصابة. وقيل: جعل بين القطعتين مثل رمية الغرض، وفيه بعد، والأول أشبه.
وقوله: «بين مهرودتين»، الرواية الصحيحة بالدال المهملة والتاء باثنتين من فوقها، وبعض المحديثين يقولها بالذال المعجمة، وحكى ابن الأنباري أنها تقال بهما والمعروف الأول في الصحاح: هردت الثوب: شققته، والهردى على وزن فعلى، بكسر الهاء (5) ، نبت يصبغ به، وثوب مهرود (6) أي صبغ أصفر ولما كان هذا هو المعروف في اللغة، اختلف الشارحون لهذا اللفظ في الحديث فقيل إن عيسى ينزل في شقي ثوب، والشقة نصف الملاءة أو في حالتين مأخوذ من الهرد وهو القطع والشق. وقال أكثرهم في =(7/282)=@
(1) تاسم بن أصبغ: هو محدث الأندلس، سكن ترطبة ومات فيها سنة ( 340 د) .
ثوبين مصبوغين بالصفرة، وكأنه الذي صبغ بالهردى. وقد اجترأ القتبي، وخطأ النقلة في هذا اللفظ، وقال: هو عندي خطأ من النقلة، وأراه قهروتين، يقال: هريت &(7/234)&$
__________
(1) في (ح): «في تفرقة».
(2) من قوله: «فالكنوز تتبع...» إلى هنا سقط من (ح).
(3) من قوله: «أو جزله جزلتين...» إلى هنا سقط من (ح).
(4) في (ح): «ورمية».
(5) في (ح): «الفاء».
(6) قوله: «مهرود» سقط من (ح).(7/234)
العمامة؟ إذا لبستها صفراء، وكان فعلت منه: هروت، وأنشدوا عليه: رم نجتك هزنجت العمامة بندما أراك زمانا حاسرا لنم تغصب قال: إنما أراد أئك لبست العمامة صفراء كما يلبسها السادة، وكان الشيد يعمم (1) بعمامة صفراء، ولا يكون (2) ذلك لغيره. %(4/1735)%
قلت: لقد صدق من قال في ابن فتيبة: هجوم ولأخ على ما لا يحسن. وقد خلا ابن قتيبة فيما خطىء فيه الثقات وأهل التقييد والتثبت والعلم من وجهين: أحدهما: حكمه بالخطأ وجرأته على (3) الأئمة الحفاظ الثقات العلماء، فكان حقه أن يتوقف؟ إذ لم يجد محملا لتلك اللفظة على النحو المروي.
وثانيهما: إن ما استدل به لا حجَّة فيه، لوجهين قد أشار إليهما أبو بكر فيما حكاه الإمام أبو عبد الله عنه. فقال: ما قاله خطأ؛ لأنَّ العرب لا تقول: هروت الثوب، لكن هريت، ولا يقال أيضًا هريت إلا في العمامة خاصة، فليس له أن يقيس على العمامة؛ لأنَّ اللغة رواية.
قلت: والأصح: قول أكثر، ويشهد له ما قد وقع في بعض الروايات بدل «مهرودتين»: «ممصرتين» والممصرة من الثياب هي المصبوغة بالصفرة - والله تعالى أعلم -.
وقوله: «إذا طاطأ رأسه تطر» أى: إذا خفض رأسه سال منه ما يعني به العرق.
وهذا نحو مما قال في الحديث الذى تقدم: «يقطر رأسه ماء، كأنما خرج من ديماس، =(7/283)=@ (2) يعني: الحمام. &(7/235)&$
__________
(1) في (ح): «يعتم».
(2) في (ح): «كما يلبسها يكون».
(3) في (ح): «وجزمه به على».(7/235)
(1) في (م 4): وجزمه .
وقوله: «إذا رفعه تحذر منه جمان كاللؤلؤ» الجمان: ما استدار من اللؤلؤ والدر، ويستعار لكل ما استدار من الحلى، قاله أبو الفرج الجوزي. شبه قطرات العرق بمستدير الجوهر، وهو تشبيه واقع. وقوله: «فلا يحل لكافر يجد ريح نمسه إلا مات» الرواية لا يحل بكسر الحاء، معناه: يحق ويجب ، وهو من نحو قوله تعالى: {وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون} أي: واجب ذلك ولازم، وقيل معناه: لا يمكن، وفي بعض الروايات %(4/1736)% عن ابن الحذاء: فلا يحل لكافر يجد نفس ريحه، ووجهه بين، رأما من رواه يحل - بضم الحاء - فليس بشيء» إلا أن يكون بعده: بكافر، بالباء، فيكون له وجه.
وقوله: «ونفسه ينتهي، حيث ينتهي طرفه» نفسه - بفتح الفاء -، وطرفه -بسكون الراء-: وهو عينه، وفي بذلك أن الله تعالى قوى نفس عيسى -عليه السلام - حتى يصل إلى المحل الذي يصل إليه إدراك بصره، فمعناه: أن الكفار لا؛ يقربونه، وإنَّما يهلكون عند رؤيته، ووصول نفسه إليهم، تأييد من الله له (1) وعصمة، وإظهار كرامة ونعمة.
وقوله: «فيمسح عن وجوههم» بعن (2) التي بالنون، لا التي باللام؟ أي: ثريل عن وجوههم بمسحه (3) ما أصابها من غبار سفر الغزو، ووعثائه، مبالغة في إكرامهم، رفي الكطف بهم، والتحفي بهم. وقيل: معناه يكشف ما نزل بهم من الخوف، والمشفات، وا لأزلى: ا لحقيقة، وهذا توسع .=(7/284)=@
وقوله: «إني قد أخرجت عبادأ لي لا يدان لأحد بققالهم» أي: لا &(7/236)&$
__________
(1) في (ح): ((لهم)) بدل ((له)).
(2) في (ح): ((فعن)) بدل ((بعن)).
(3) في (ح): ((بمسحها)).(7/236)
قدرة لاحد على قتال ياجوج وماجوج. يقال: لا يد (1) لفلان بهذا الأمر؟ أي: لا قوة.
وقوله: «فحرز عبادي إلى الطور» هذه الرواية الصحيحة بالزاي (2) : أي ارتحل بهم إلى جبل يحرزون فيه أنفسهم، والطور: الجبل بالسريانية. ويحتمل أن يكون ذلك هو طور سيناء، وقد رواه بعضهم: حور (3) بالواو، ولم تقع لنا هذه الرواية، ومعناها واضح، وهو (4) بمعنى الأولى. وقوله: «ويبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون» قد تقدم القول في يأجوج ومأجوج في أول كتاب الفتن. والحدب: النشر من الأرض، %(4/1737)% وهي الآكام والكداء. وينسلون: من النسلان، وهي مقاربة الخطو مع الإسراع، كمشي الذئب إذا بادر، قاله القتبي. وقال الزجاج: ينسلون: يسرعون. والنغف -جمع نغفة -، وهو بفتح النرن والغين المعجمة، وهي دود يكون في أنوف الابل والغنم، وهي وإن كانت محتقرة، فإتلافها شديد، ويقال للرجل الحقير: ما أنت إلا نغفة. وقوله: «فيصبحون فرسى» أي هلكى قتلى؟ من فرس الذئب الشاة إذا قتلها. والفريسة منه. والزهم - بفتح الهاء -: النتن والرائحة الكريهة. وأصله: ما يعلق (5) باليد من ريح (6) اللحم. والبخت: إبل غلاظ الأعناق، عظام الأسنام (7) .=(7/285)=@
وقوله: «لا يكن منه بيت مدر، ولا وبر» أي: لا يستر من ذلك المطر لكثرته بيت مبن بالطين، ولا بيت شعر ولا وبر.
وقوله: «حتى يتركها كالزلفة» الرواية بفتح الزاي واللام، وقيدته بالفاء والقاف معا، وكذلك روي عن الأسدي، وزاد فتح اللام وسكونها، فبالقاف: هي &(7/237)&$
__________
(1) في (ح): «يدي».
(2) في (ح): «بالزا».
(3) في (ح): «حوز».
(4) في (ح): «وهي».
(5) في (ح): «تعلق».
(6) في (ح): «من ذلك ريح».
(7) في (ح): «الأجسام».(7/237)
%(4/1738)% الأرض (1) الملساء التي لا شيء فيها، ومنه قوله: {فتصبح صعيدا زلقا} وبالفاء: هي المصنعة الممتلئة، والجمع زلف، ومنه قول الراجز: من بعد ما كانت ملاء كالزلف وهي المصانع، والمعروف فيها فتح اللام. غير أن أبا زيد الأنصاري قال: يقال للمرأة: زلفة وزلقة بالقاف: الجماعة. والقحف: أعلى الجمجمة، وهي المحتوية على الدماغ. هذا أصله، واستعارة هنا للرمانة للشبه الذي بينهما. واللقحة -بفتح اللام (2) -: التي تحتلب من النوق. هذا أصلها، وقد قيلت (3) على التي تحتلب من البقر والغنم. والفئام: الجماعة من الناس، وهو بكسر الفاء. والفخذ: دون القبيلة، وفوق البطن. قال الزبيري (4) بن بكار: العرب على ست طبقات: شعب، وقبيلة، وعمارة، وبطن، وفخذ، وفصيلة، وما بينهما من الآباء، فإنَّها يعرفها أهلها، وسميت بالشعوب؛ لأنَّ القبائل تشعبت منها وسميت القبائل بذلك؛ لأنَّ العمائر تقابلت عليها، فالشعب يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطون تجمع الأفخاذ. قال ابن فارس: لا يقال في فخذ النسب إلا بسكون الخاء، بخلاف الجارحة، تلك يقال بكسر (5) الخاء وسكونها، وبكسر الفاء أيضًا. وجبل الخمر، بفتح الميم، وهو جبل بيت المقدس. والخمر: =(7/286)=@ الشجر الملتف (6) ، وأنقاب المدينة: طرقها وفجاجها. وفي كتاب العين: النقب والنقب: الطريق في رأس الجبل، والنقب في الحائط وغيره: ثقب يخلص به إلى ما وراءه. %(4/1739)% وقوله: «يأتي الدجال وهو محرم عليه أن يدخل المدينة (7) ومكة» أي: هو ممنوع من دخول المدينة ومكة بالملائكة التي تحرسها على ما يأتي في حديث أنس المذكور بعد هذا. =(7/287)=@ &(7/238)&$
__________
(1) في (ح): «أرض».
(2) في (ح): «والعصابة الجماعة الذي يكون بينهما واللحقة بكسر اللام» بدل «للرمانة للشبه الذي بينهما واللقحة بفتح اللام».
(3) في (ح): «قيلت هنا».
(4) في (ح): «الزبير» بدل «الزبيري».
(5) قوله: «بكسر» مكرر في (ح).
(6) في (ح): «والشجر«.
(7) قوله: «مكه» سقط من (ح).(7/238)
«و قول الدجال: أرأيتم إن قتلت ثم أخييته أتشكون في الأمر» أي: في دعراه الإلهية والربوبية، كما روى قاسم بن أصبغ عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج الدجال في خفة من الدين وإدبار من العلم أربعون ليلة يسيحها في الأرض، يرم منها كالسنة، واليوم منها كالشهر، واليوم منها كالجمعة، ثم سائر أيامه كأيامكم هذه، وله حمار يركبه، عرض ما بين أذنيه أربعون ذراعا، فيقول للناس أنا ربكم، وهو أعور، وإن ربكم ليس بأعور، ومكتوب (1) بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب، يرد كل ماء ومنهل إلا مكة والمدينة، %(4/1740)% وقامت الملائكة بأبوابها». فهذا نص في أن الدجال إنما يدعي الربوبية لا النبوة، ولو ادعاها لما صدقه الله بابداء (2) خارق للعادة (3) على يديه، لاستحالة تصديق الكاذب على الله؛ لأنَّه يلزم منه تكذيب الباري تعالى، والكذب محال على الله تعالى قطعا، عقلاً ونقلا، فإنَّ قيل: فيلزم مثل هذا في دعوى الربوبية، ووقوع الخارق مقرونا بدعوى المدعي للألهية، فيكون قد صدقه بذلك كما صدق النبي إذا جاء بمثل ذلك. فالجواب: أن اقتران الخارق بدعوة الزبوبيه محال أن يشهد بتصديقه في دعوى الألهية لقيام الأدلة العقلية القطعية على استحالة الألهية عليه، التي هي: حدثه، وافتقاره، ونقصه، فهذه الأدلة العقلية دلت على كذبه في دعوى الإلهية، فلم يبق معها دلالة للأدلة الاقترانية؛ لأنَّ اقتران المعجزة بالتحدى في حق النبي إنما دل على صدقه من حيث تنزلت منزلة التصديق بالقول، =(7/288)=@ ( 1) رراه أحمد (3 لم 367)، را لحاكم ( 4 / 0 53). أو منزلة قرائن الأحوال على اختلاف العلماء في ذلك. وذلك لا &(7/239)&$
__________
(1) في (ح): «مكتوب» بلا واو.
(2) في (ح): به بإبداء».
(3) من قوله: «التي هي...» إلى هنا سقط من (ح).(7/239)
يحصل إلا إذا سلمت عما يشهد بنقيضها، ولم يسلم (1) في حق الذجال إذ المكذب لدعواه ملازم له عقلاً، فلا دلالة لذلك الاقتران على مدته؛ إذ لا يمكن مع وجود ما يدلنا على كذبه قطعا أن نقول: إن تلك الخوارق التي ظهرت على يديه تنزلت منزلة قول الله له: صدقت، كما أمكن ذلك في حق النبي الذي يسلم (2) عئا يكذبه، وحاصل هذا البحث: أن ما يد، بذاته لا يعارضه ما يدل، بغير عينه (3) . ولتفصيل هذا علم الكلام. وبذكرنا. يعلم قطعا: أن إظهار هذا الخوارق (4) على يدي الدجال لم يقصد بها تصديقه، وإنما قصد بها أمر آخر، وهذا ما أخبرنا به الصادق أنها فتن ومحن امتحن الله تعالى بها عباده ليخص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين. وذلك على ما سبق به علمه ونفذ به حكمه، لا يسأل عما يفعل (5) .
وقوله: «فيأمر به الدجال فيشبح» أى: يمد، ومنه قولهم: الحرباء تشبح على الأعواد أي: تمتد. ومشهور الرواية هكذا، وقد روى السمرقندي، وابن ماهان: فشجوه في رأسه بشجاج، وليس هذا بشيء؛ لأنَّه قد جاء بعده ما يبعد، ويبين أن المراد خلاف ذلك. &(7/240)&$
__________
(1) في (ح): «تسلم».
(2) في (ح): «سلم».
(3) في (ح): «بعرضيته».
(4) في (ح): «وهو» بدل «وهذا».
(5) زاد بعدها في (ح): «وهم يسألون».(7/240)
%(4/1741)% وقوله: «فيؤمر به فيوسع ظهره وبطنه ضربا» أي: يعمم جميعه حتى لا يترك منه موضع إلا يضربه (1) ، وهو مأخوذ من السعة والاتساع. وقوله: «فيؤمر به فيؤشر بالمئشار)) والرواية يؤشر بالياء، والمئشار (2) بالهمز، وهو الصحيح المعروف، ويقال بالنون فيهما، وهذا يدلّ على: أن هذا الرجل المكذب للدجال نشره الدجال بالمنشار، وقد تقدَّم في حديث النواس: أنه قطعه بالسيف جزلتين كرمية الغرض، فيحتمل أن يكون كل واحد منهما غير =(7/289)=@ الآخر، ويحتمل أن يكون جمعهما عليه، والأول أمكن وأظهر. والترقوة: بفتح التاء وضم القاف وتخفيف الواو: هي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق، وتجمع تراقي. وبقذفه: يرميه. ووقع في الأم: المسالح؟ وهم القوم الحاملون للسلاح، المستعدون للقتال، سموا بذلك لحملهم إياها، قال القاضي: في آخر هذا الحديث من رواية السمرقندي، قال أبو إسحاق - يعني ابن سفيان -: يقال: إن هذا الرجل هو الخضر - عليه السلام -، وكذلك (3) قال سر في جامعه بأثر هذا الحديث. %(4/1742)% قلت: وقد تقدَّم القول في الخضر، وفي (4) الخلاف في طول حياته في كتاب الأنبياء. =(7/290)=@
وقوله: أما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال» ظاهر هذا كبر الخلقة والجسم، وقد تقدَّم أنَّه يركب حمارًا عزض ما بين أذنيه أربعون ذراعا، وهذا يقتضي: أن يكون هذا الحمار أكبر حمار في الدنيا، فراكبه ينبغي أن يكون أكبر إنسان في الدنيا، وكذا (5) قال تقدم في خبر الجساسة: فإذا أعظم إنسان رأيناه، وسيأتي، غير أنه قد تقدَّم من حديث أبي داود في وصف الدجال: «أنه قصير أفحج» وإنما يكون قصيرا بالنسبة إلى نوع الانسان، فمقتضى &(7/241)&$
__________
(1) في (ح): «يضرب».
(2) في (ح): «الميشار» بلا واو.
(3) في (ح): «وكذا».
(4) قوله: «في» سقط من (ح).
(5) قوله: «كذا» سقط من (ح).(7/241)
ذلك: أن يكون فيهم من هو أطول منه، ولهذا قيل: إن وصفه باسبرية إنما يعني بذلك عظم فتنته، وكبر محنته؛ إذ ليس بين يدى الساعة أعظم ولا أكبر منها، ويحتمل أن يريد به: أنه ينتفخ أحيانا حتى يكون في عين الناظر إليه أكبر من كل نوع الإنسان، كما تقدَّم في شأن ابن صياد أنه انتفخ عند غضبه حتى ملأ الطريق، والله تعالى أعلم بحقيقة ذلك .=(7/291)=@ %(4/1743)%
قوله: «إنهم يقولون إن معه الطعام والأنهار، هو أهون على الله تعالى من ذلك» أي: الدال على الله أهون أن يجعل ما يخلقه على بدنه (1) من الخوارق مضلا للمؤمنين ومشككا لهم، بل: ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم، وليرتاب الذين في قلوبهم مرض والكافرون، كما قال له الذي قتله ثم أحياه، ما كنت فيك قط أشد بصيرة مني الآن، وقد تضمنت تلك الأحاديث المتقدمة أن عيسى -عليه السلام - ينزل ويقتل الدجال، وهو مذهب أهل السنة، والذي دل عليه قوله تعالى: بل رفعه الله إليه»، والأحاديث الكثيرة الصحيحة المنتشرة. وليس في العقل ما يحيل ذلك ولا يرده فيجب الايمان به والتصديق بكل ذلك، ولا يبالى بمن خالف في ذلك (2) من المبتدعة، ولا حجَّة لهم في اعتمادهم في نفي ذلك على التمسك بقوله: {وخاتم (3) النبيين} وبما ورد في السنة من أنه: لا نبي بعده، ولا رسول، ولا باجماع المسلمين على ذلك، ولا على أن شرعنا لا ينسخ. وهذا ثابت إلى يوم القيامة؛ لأنَّا نقول بموجب ذلك كله؛ لأنَّ عيسى إنما ينزل لقتل الدجال، ولإحياء شريعة محمد عليهما الصلاة والسلام وليعمل بأحكامها، وليقيم (4) العدل على مقتضاها، وليقهر الكفار، وليظهر للنصارى ضلالهم، ويتبرأ من إفكهم، فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، ويأتم بإمام هذه الأمة، كما تقدم في كتاب الإيمان .=(7/292)=@ %(4/1744)%
والحاصل: أنه لم يأت برسالة مستأنفة، ولا شريعة مبتدأة، وإنما يأتي عاضدا لهذه الشريعة، وملتزما أحكامها، غير مغير لشيء منها، والمنفي بالأدلة &(7/242)&$
__________
(1) في (ح): يشبه «يديه».
(2) قوله: «في» سقط من (ح).
(3) في (ح): «خاتم» بلا واو.
(4) في (ح): «وليقم».(7/242)
السابقة: إنما هو رسول يزعم أنه قد جاء بشرع مبتدأ، أو برسالة مستأنفة، فمن ادعى ذلك كان كاذبا، كافرا قطعا (1) .
وقوله: «يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفا عليهم الطيالسة» هي جمع طيلسان بفتح اللام، ولا تكسره العرب في المشهور، وحكاه البكري بكسر اللام، وهو الكساء. وهو أعجمي معرب، والهاء في جمعه للعجمة. ويدلّ هذا على أن (2) اليهود أكثر أتباع الدجال، ومن يعتقد التجسيم. والرواية المشهورة سبعون ألفا. وعند ابن ماهان :تسعون ألفا. =(7/293)=@ %(4/1745)%
قالت: نكحت ابن المغيرة، وهو من خيار شباب قريش يومئذ، فاصيب في
ومن باب: حديث الجساسة
حديث فاطمة هذا في هذه الرواية مخالف للمشهور من حديثها في مواضع، &(7/243)&$
__________
(1) في (ح): «قاطعًا».
(2) في (ح): «على هذا أن».(7/243)
فمنها: قولها فنكحت ابن المغير» فأصيب في أول الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما تأيمت خطبني عبد الرحمن بن عوف. وظاهر. أنها تأيمت عنه بقتله في الجهاد، وهو خلاف ما تقدَّم في كتاب الطلاق أنها بانت منه بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها، وكذلك قالت في الرواية الأخرى المذكورة في هذا الباب. قالت: طلقني بعلي ثلاثا، فأذن لي النبي صلى الله عليه وسلم أن أعتد في أهلي، وهذا هو المشهور عند العلماء على ما قاله القاضي أبو الوليد الكناني وغيره، وقد رام القاضي أبو الفضل تأويل هذا، فقال: لعل قولها: أصيب في أول الجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم إنما أرادت به عد فضائله وذكر مناقبه كما ابتدأت بالثناء عليه، وهو قولها: من خير شباب قريش. قال: وإذا كان هذا لم يكن فيه معارضة .=(7/294)=@
ومنها: أن ظاهر قولها: أنه قتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد في أوله. وقد اختلف في وقت وفاته، فقيل: مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - باليمن إثر طلاقها، ذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر. وقيل: بل عاش إلى أيام عمر، وذكرت له معه قصة في شأن خالد بن الوليد، ذكر ذلك البخاري في التاريخ، وقد تقدَّم قول القاضي أبي الفضل، ولعل قولها: أصيب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير القتال، إما بجرح، أو (1) بشيء آخر، والله تعالى أعلم. ومنها: أنها قالت: فلما كلمني رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: أمري بيدك، فانكحني من شئت، فقال: ((انتقلي إلى أم شريك» فظاهر هذا أنَّه أمرها بالانتقال إلى أم %(4/1746)% شريك، ثم إلى ابن أم مكتوم، إنما كان بعد انقضاء عدتها، وبعد أن خُطبت، وفوضت أمرها للنبي صلى الله عليه وسلم وليس الأمر كذلك، وإنما كان ذلك في حال &(7/244)&$
__________
(1) في (ح): «إما» بدل «أو».(7/244)
عدتها لما خافت عورة منزلها، على المشهور، أو لأنها كانت تؤذي أحماءها، على ما قاله سعيد بن المسيب كما تقدَّم.
ومنها: أنها نسبت أم شريك إلى الأنصار، وليس بصحيح، وإنما هي قرشية من بني عامر بن لؤي، واسمها غزية، كذا وجدته مقيدا في أصل يعتمد عليه، وكنيت بابنها شريك، وقيل (1) اسمها: غزيلة، حكى هذا كله أبو عمر. ومنها: قوله: «ولكن انتقلي إلى ابن (2) عبد الله بن عمرو بن أم مكتوم وهو رجل من فهر، فهر قريش، وهو من البطن الذي هي منه، قال القاضي أبو الفضل: والمعروف خلاف هذا، وليس بابن عمها، بل: هي من محارب بن فهر، وهو من بني عامر بن لؤي، وليسا من بطن واحد، واختلف في اسم ابن أثم مكتوم، والصحيح: عبد الله. وقولها: فلما تلات خطبني عبد الرحمن بن عوف في نفر أي: فلما انقضت عدتها، وحلت للأزواج، وقد تقدم أن الأيم: هي التي لا زوج لها. &(7/245)&$
__________
(1) في (ح): «ويقال».
(2) في (ح): يشبه «عمتك».(7/245)
. حيث ومنها: أن ظاهر قولها: أنه قتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد في أوله. وقد اختلف في وقت وفاته، فقيل: مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - باليمن إثر طلاقها، ذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر. وقيل: بل عاش إلى أيام عمر، وذكرت له معه قصة في شأن خالد بن الوليد، ذكر ذلك البخاري في التاريخ، وقد تقدَّم قول القاضي أبي الفضل، ولعل قولها: أصيب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
بغير القتال، إما بجرح، أو بشيء آخر، والله تعالى أعلم.
ومنها: أنها قالت: فلما كلمني رسول الله صلى الله عليه وسلم
قلت: أمري بيدك، فانكحني من شئت، فقال: ((انتقلي إلى أم شريك» فظاهر هذا أنَّه أمرها بالانتقال إلى أم شريك، ثم إلى ابن أم مكتوم، إنما كان بعد انقضاء عدتها، وبعد أن خطبت، وفوضت أمرها للنبي وليس الأمر كذلك، وإنما كان ذلك في حال عدتها لما خافت عورة منزلها، على المشهور، أو لأنها كانت تؤدي أحماءها، على ما قاله سعيد بن المسيب كما تقدَّم. ومنها: أنها نسبت أم شريك إلى الأنصار، وليس بصحيح، إنما هي قرشية من بني عامر بن لؤي، واسمها غزية، كذا وجدته مقيدا في أصل يعتمد عليه، وكنيت بأبنها شريك، وقيل اسمها: غزيلة، حكى هذا كله أبو عمر. ومنها: قوله: «ولكن انتقلي إلى ابن عمك عبد الله بن عمرو بن أم مكتوم وهو رجل من فهر، فهر قريش، وهو من البطن الذي هي منه، قال القاضي أبو الفضل: والمعروف خلاف هذا، وليس بابن عمها، بل: هي من محارب بن فهر، وهو من بني عامر بن لؤي، وليسا من بطن واحد، واختلف في اسم ابن أم مكتوم، والصحيح: عبد الله. وقولها: فلما تأيمت خطبني عبد الرحمن بن عوف في نفر أي: فلما انقضت عدتها، =(7/295)=@
وقوله: ((أمرى بيدك فأنكحني من شئت)) دليل على صحة الوكالة في النكاح. %(4/1747)%
قوله: ((إني أكره أن يسقط عنك خمارك، أو ينكشف الثوب عن ساقك» دليل على؛ أن أطراف شعر الحرة، وساقيها (1) عورة، فيجب عليها سترها في الصلاة، وقد تقدَّم ذلك .=(7/296)=@
--س ة س. ب -. --
وقوله: ((ثم أرفؤوا إلى جزيرة في البحر» أي: لجؤوا إليها، ومرفأ السفينة: حيث ترسي. يقال: أرفات السفينة: إذا قربتها من الشط، وذلك الموضع مرفا. وأرفات إليه: لجأت إليه.
وقوله: «فجلسوا في أقرب السفينة» كذا الرواية المشهورة. قال الإمام: هي القوارب الصغار يتصرف بها ركاب السفينة، والواحد قارب، جاء ها هنا على غير %(4/1748)% قياس. وأنكر غيره هذا، وقال: لا يجمع فاعل على أفعل. قال: وإنما يقال: الأقرب فيها (2) : أقربات السفينة وأدانيها؛ كأنه ما قرب ، منها النزول، أو كأنه من القرب الذي هو الخاصرة، ويؤيده أن ابن ماهان روى هذا الحرف فقال: في أخريات السفينة، وفي بعضها: في آخر السفينة. &(7/246)&$
__________
(1) في (ح): «وساقها».
(2) في (ح): «هنا».(7/246)
قلت: ويشهد لما قاله الامام ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه: «فقعدوا في قوارب السفينة» وهذا الجمع هو قياس قارب، ويقال بفتح الراء وكسرها. =(7/297)=@ (ا) رواه ابن أبي ثيبة في مص!ننه (19366).
وقوله: «فلقيتهم دابة أغلب»أي: غليظة الشعر، والهلب: ما غلظ من الشعر، ومنه المهلبة، وهو شعر الخنزير الذي يخرز به. وذكر أهلب حملا على المعنى، وكأنه (1) قال: حيوان أهلب أو شخص، ولو راعى اللفظ لقال هلباء، لأن قياس أهلب هلباء (2) كأحمر وحمراء.
وقوله: «ما أنت (3) ؟» اعتقدوا فيها أنها مما لا يعقل، فاستفهموا بـ«ما» ثم إنها بعد ذلك كلمتهم كلام من يعقل، وعند ذلك رهبوا أن تكون شيطانة؛ أي: خافوا من ذلك.
وقوله (4) : «أنا الجشاسة» بفتح الجيم وتشديد السين الأولى. قيل: سمت نفسها بذلك لتجشسها أخبار الدجال. من التجشس بالجيم، وهو الفحص عن الأخبار، والبحث عنها، ومنه الجاسوس. وقد روي عن عبد الله بن عمرو &(7/247)&$
__________
(1) في (ح): «فكأنه».
(2) في (ح): «وهلباء».
(3) قوله: «أنت» سقط من (ح).
(4) في (ح): «وقولها».(7/247)
-رضي الله عنهما - أن هذه الدابة: هي دابه الأرض التي تخرج للناس (1) في آخر الزمان فتكلمهم .=(7/298)=@ %(4/1749)%
وقوله: «قد قدر (2) على خبرى» أي: اطلعتم عليه، وقدرتم على الوصول.
وقوله: «صادقنا البحر قد اغتلم» أى: قد هاج، وجاوز حده ومنه الغنمة، وهي شدة شهر النكاح. وبيسان: بنتح الباء، ولا تقال بالكسر. وزغر: بالزاي (3) المضومة، والغين (4) المعجمة على وزن نغر، وهما معروفان بالشام. ونبي الأميين؛ هو محمد صلى الله عليه وسلم والأميون العرب؛ لأنَّ الغالب منهم لا يكتب ولا يحسب، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنا أمة أمية لا نكتب، ولا نحسب». فكأنهم باقون على أصل ولادة الأم لهم، فنسب الأمي إليها. هذا أولى ما قيل فيه. وقد تقدَّم القول في تسمية المدينة طيبة، وطابة، وأن كل ذلك مأخوذ من الطيب. &(7/248)&$
__________
(1) قوله: «للناس» سقط من (ح).
(2) في (ح): «قدرتم».
(3) في (ح): «بالرا».
(4) في (ح): «وبالغين».(7/248)
%(4/1750)%
وقوله: ((استقبلني ملك بيده السيف صلتا» أي: مجردا عن غمده. قال ابن السكيت: فيه لغتان، فتح الصاد وضمها. والمخصرة؟ بكسر الميم: عصا، أو قضيب كانت تكون مع الملك اذا تكلم، وقد تقدَّم ذكرها .=(7/299)=@
وقوله: «ألا أنَّه في بحر الشام، أو بحر اليمن، لا! بل من قبل المشرق، ما هو (1) من قبل المشرق» ما هو هذا كله (2) كلام ابتدىء على الفن، ثم عرض الشك، أو قصد الإبهام، ثم في ذلك كله، وأضرب عنه بالتحقيق، فقال: لا بل من قبل المشرق، ثم قد ذلك بما الزائدة، وبالتكرار (3) اللفظي، فما فيه زائدة، لا نافية، وهذا لا بد فيه؛ لأنَّ (4) النبي صلى الله عليه وسلم بثمر يظن ويشد، كما يسهو وينسى إلا أنه =(7/300)=@ لا يتمادى، ولا يقر على شيء فى من ذلك بل: يُرشَد إلى التحقيق، ويُسلَك به سواء الطريق. والحاصل من هذا: أنه صلى الله عليه وسلم %(4/1751)% ظن أن الدال المذكور في بحر الشام؛ لأنَّ تميما إنما ركب في بحر الشام، ثم عرض له أنَّه في بحر اليمن؛ لأنَّه يتصل ببحر متصل (5) ببحر اليمن، فيجوز (6) ذلك. ثم أطلعه العليم الخبير على تحقيق ذلك فحقق، وقد. وتاهت السفينة: صارت على غير اهتداء. والتيه: الحيرة. والزواق: سقف في مقدم البيت، وبجمع في القلة: أروقة، وفي الكثرة: روقا. &(7/249)&$
__________
(1) في (ح): «وما هو».
(2) قوله: «كله» سقط من (ح).
(3) في (ح): «أو بالتكرار».
(4) في (ح): «فإن».
(5) قوله: «ببحر متصل» سقط من (ح).
(6) في (ح): «فجوز».(7/249)
%(4/1752)%
ومن باب: كيف يكون انقراض هذا الخلق
قوله: لقد هممت ألا أحدث أحدًا شيئا أبدا إنما قال ذلك؛ لأنَّهم نسبوا إليه ما لم يقل، فشق ذلك عليه، ثم أنَّه لما علم أنه لا يجوز له ذلك، ذكر ما عنده من علم ذلك. وقوله: يحرق البيت) قد كان ذلك في عهد ابن الزبير، وذلك أن يزيد بن معاوية وجه من الشام مسلم بن عقبة المدني في جيش عظيم لقتال ابن الزبير، فنزل بالمدينة، وقاتل أهلها، وهزمهم، وأباحها ثلاثة أيام، وهي وقعة الحزة، وقد قدمنا ذكرها ثم سار يريد مكة، فمات بقديد، وولي الجيش الحصين بن نمير، وسار إلى =(7/301)=@ قيافرهم بعبادة الاوتاد، وهم ير دلت داز ررمهم، حسن عيسهم، لم يمعح في الضور فلا يسمعه أحذ إلا أصغى ليتا، ورفع ليتا» قال: «وأول من
مكة فحاصر (1) ابن الزبير، وأحرقت الكعبة حتى انهدم جدارها، وسقط سقفها، وجاء الخبر بموت يزيد فرجعوا.
وقوله: «فيمكث أربعين» لا أدري أربعين يوما، أو شهرا، أو سنة) هذا الشد من عبد الله بن عمرو (2) ، وقد ارتفع بالأخبار السابقة أنه أربعون يوما على التفصيل المتقدم. &(7/250)&$
__________
(1) في (ح): «وحاصر».
(2) في (ح): «عمر» بدل «عمرو».(7/250)
%(4/1753)%
وقوله: «لو أن أحدكم دخل في كبد، جبل» كذا صحيح الرواية، ووقع في معنى النسخ: «كبد رجل» وهو مثل قصد به الإعياء، وكبد الشيء: داخله.
وقوله: «ويبقى شرار الناس (1) ، في خفة الطير، وأحلام السباع» أي: هم في مسارعتهم، وخفتهم إلى الشرور، وقضاء الشهوات، وغلبة الأهواء، كالطير لخفة طيرانه، وهم في الإفساد والعدوان كالسباع العادية. والصور: قرن ينفخ فيه، كما جاء في الحديث. وأصغى: أمال، والليت (2) : صفحة العنق، وهو (3) جانبه .=(7/302)=@
وقوله: «كأنه الطل، أو الظل» هذا شك، والأصح أنه الطل بالطاء المهملة، لقوله في حديث أبي هريرة: «ثم ينزل من السماء ماء، وفي حديث آخر: «كمني الرجال» وهلموا؛ أي: تعالوا وأقبلوا، وقد تقدَّم أن فيها لغتين، وقد روي هنا بالوجهين: هلموا، وهلم. %(4/1754)%
وقوله: «ثم يقال أخرجوا بعث النار» قد (4) تقدَّم في الإيمان: أن الذي يقال له ذلك: آدم، والجمع بينهما بأن المامور أولا: آدم، وهو يأمر الملائكة بالإخراج، ومعنى الإخراج هنا بتمييز (5) بعضهم من بعض، وإلحاق كل طائفة بما اعد لها من الجنة أو النار.
وقوله: «فذلك يوم يجعل الولدان شيبا» الولدان: جمع وليد، وهو الصغير. يقال عليه: من حين الولادة إلى أن يرجع جقرا. وشيبا: جمع أشيب؟ أي: يصير الصغير أشيب لشدة أهوال ذلك اليوم. وقيل: هذا على الهويل والتمثيل، كما قال أبو تمام: &(7/251)&$
__________
(1) في (ح): «الخلق».
(2) في (ح): «والليث».
(3) في (ح): «وهي».
(4) في (ح): «وقد».
(5) في (ح): «تمييز».(7/251)
خطوب شيبت (1) رأس الوليد.
وقوله (1) : «وذلك يوم يكشف عن ساق» معناه ومعنى ما في كتاب الله تعالى =(7/303)=@ (1)في (ع):شيبت .
من ذلك واحد، وهو عبارة عن شدة الحال وصعوبة الأمر. قاله ابن عباس في الآية. يقال: كشفت الحرب عن ساقها. قال الشاعر: قد جئت الحرب بكم فجدوا وكشفت عن ساقها فشدوا وقال آخر: كشفت لكم عن ساقها وبدا من الشر الصراح
وأصله: أن المجد في الأمر يشد إزاره، ويرفعه عن ساقه. قال قتادة: يقال للواقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجد: قد كشف ساقه (2) . قال الشاعر: في سنة قد كشفت عن ساقها حمراء تبدي اللحم عن عراقها %(4/1755)%
قلت: وهذا المعنى بين في هذا الحديث فتأمل مساقه، وعليه تحمل الآية، ولا يلتفت إلى غير ذلك مما قيل فيها.
وقوله: «إن يعش هذا لم يدركه الهرم، قامت عليكم ساعتكم» هذه الرواية: رواية واضحة حسنة، وهي المفسرة لكل ما يرد في هذا المعنى من الألفاظ المشكلة، كقوله في حديث أنس - رضي الله عنه-: «حى تقوم الساعة» وفي لفظ آخر: «القيامة» فإنَّه يعني به: ساعة المخاطبين وقيامتهم، كما تقدم في تفسير الراوى، لقوله: يعني بذلك: أن ينخرم ذلك القرن .=(7/304)=@ &(7/252)&$
__________
(1) قوله: «وقوله» سقط من (ح).
(2) في (ح): «عن ساقه».(7/252)
وقوله: «بعثت أنا والساعة كهاتين» وضم بين السبابة والوسطى)) رؤيته: «أنا والساعة» بالضم والفتح، فالضم على العطف، والفتح على المفعول معه، أو العامل بعثت. وكهاتين: حال، أي: مقترنين، فعلى النصب يقع التشبيه بالضم، وعلى الرفع يحتمل هذا ويحتمل أن يقع بالتفاوت الذي بين السبابة والوسطى فتامله. ويدل عليه قول قتادة في بعض رواياته: «كفضل إحداهما (1) على الأخرى» وحاصله تقريب أمر الساعة التي هي القيامة، وسرعة مجيئها، وهذا كما قال تعالى: {فقد جاء أشراطها} قال الحسن: أول أشراطها: محمد صلى الله عليه وسلم. %(4/1756)%
وقوله: «تقوم الساعة والرجل يخلب اللقحة فما يصل الإناء إلى فيه حتى تقوم. .. الحديث» وقد (2) تقدَّم أن اللقحة: الناتة ذات اللبن. ويلوط حوضه، =(7/305)=@ ويتلوط &(7/253)&$
__________
(1) في (ح): «احديهما».
(2) في (ح): «قد» بلا واو.(7/253)
في حوضه؛ أي: يصلحه ويطينه، ويروى: يلط حوضه بمعناه، ويقال: لاط حوضه يلوطه وهي المعروفة، ويقال (1) ألاط حوضه يليطه: إذا طينه وحاصل هذا الحديث: أن الساعة تقوم بغتة كما قال تعالى: {لا تأتيكم إلا بغتة}.
وقوله: ((ما بين النفختين أربعون))؛ يعني: نفختي الصعق والبعث، يشير إلى قوله تعالى: ونفخ في الصور فصعق من في السموات والأرض (2) إلا ما شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون}.
وقول أبي هريرة: «أبيت أبيت»؛ لما سئل عن الأربعين ما هي؛ يدل على: أنه كان عنده من ذلك علم، وامتنع من بثه؛ لأنه لا ترهق إليه حاجة، ولا يتعلق به عمل،ويحتمل أن لا يكون عنده علم من ذلك.
وقوله: «أبيت، أبيت»؛ يعني (3) أبيت أن أسأل عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه بعد. %(4/1757)%
وقوله: «ثم ينزل الله من السماء ماء»؛ يعني به (4) بعد نفخة الصعق ينزل هذا الماء الذي هو كمني الرجال، فتتكون فيه (5) الأجسام بقدرة الله تعالى، وعن ذلك عبر بقوله: فينبتون كما ينبت البقل، فإذا تهيأت الأجسام، وكملت، نفخ في الصور نفخة البعث، فخرجت الأرواح من المحال التي هي فيها. قال بعضهم: &(7/254)&$
__________
(1) في (ح): «وقيل».
(2) في (ح): «ومن في الأرض».
(3) في (ح): «بمعنى».
(4) قوله: «به» سقط من (ح).
(5) في (ح): «منه» بدل «فيه».(7/254)
فتأتي (1) كل روح إلى جسده فيحييها الله تعالى، كل ذلك في لحظة بدليل (2) قوله تعالى: {فإذا هم قيام ينظرون}. =(7/306)=@
وقوله: «كل ابن آدم تأكله الارض» أي: تبليه، وتصيره إلى أصله الذي هو التراب، هذا عموم مخصص بقوله عليه السلام: «حرم الله تعالى على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء». وبقوله عليه السلام: «المؤذن المحتسب كالمتشحط في دمه، وإن مات لم يدود في قبره». وظاهر هذا: أن الأرض لا تأكل أجساد الشهداء، والمؤذنين المحتسبين، وقد شوهد هذا فيمن اطلع عليه من الشهداء، فوجدوا كما دفنوا بعد آماد طويلة، كما ذكر في السير وغيرها. وعجب الذنب: يقال بالباء والميم، وهو جزة لطيف في أسفل الضلب، وقيل: هو رأس العصعص، كما رواه ابن أبي الدنيا في كتاب البعث من حديث أبي سعيد الخدري، وذكر الحديث: قيل: يا رسول الله وما هو؟ قال: «مثل حبة خردل، ومنه تنتشرون».
وقوله: «منه خلق وفيه يركب» أي: أول ما خلق من الإنسان هو، ثم إن الله تعالى يبقيه إلى (3) أن يركب الخلق منه تارة أخرى. =(7/307)=@ %(4/1758)%
ومن باب: المبادرة بالعمل الصالح الموانع والفتن
قوله: «بادروا» أى: سابقوا بالأعمال الصالحة، واغتنموا التمكن منها قبل &(7/255)&$
__________
(1) في (ح): «فيأتي».
(2) قوله: «بدليل» لم يتضح في (ح).
(3) في (ح): «في» وكأنه أصلحها إلى «إلى».(7/255)
أن يحال بينكم وبينها بداهية من هذه الدواهي المذكورة، فيفوت العمل للمانع، أو تعدم منفعته لعدم القبول، وقد تقدم القول على أكثر هذه الست.
وقوله: «وخاصة أحدكم» يعني به: الموانع التي تخصه مما يمنعه العمل، كالمرض، والكبر، والفقر المنسي، والغنى المطغي، والعيال والأولاد، والهموم، والأنكاد، والفتن، والمحن إلى غير ذلك مما لا يتمكن الانسان مع شيء منه من عمل صالح (1) ، ولا يسلم له، وهذا المعنى هو الذي فصله في حديث آخر حيث قال: «اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سفك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك» .=(7/308)=@
وقوله: «وأمر العامة» يعني: الإشتغال بهم فيما لا يتوجه على الإنسان فرضه؟ فإنَّهم يفسدون من يقصد إصلاحهم، ويهلكون من يريد حياتهم، لا سيما في مثل هذه الأزمان التي قد مَرِجَت فيها (2) عهودهم وخانت أماناتهم (3) ، وغلبت عليهم الجهالات والأهواء، وأعانهم الظلمة والسفهاء، وعلى هذا فعلى العامل بخويصة %(4/1759)% نفسه، والإعراض عن أبناء جنسه إلى حلول رمسه، أعاننا الله على ذلك بفضله، وكرمه. وقد جاءت هذه الستة في إحدى الروايتين، معطوفة بـ (أو) فيجوز أن تكون للتنويع، أي: اتقوا أن يصيبكم (4) أحد هذه الأنواع، ويصح أن تكون بمعنى الواو، كما جاء في الرواية الأخرى.
وقوله: «العبادة في الهرج كهجرة إلي» قد تقدَّم: أن الهرج: الاختلاط نة والارتباك، ويراد به هنا الغتن والقتل، واختلاط الناس بعضهم في بعض، فالمتمسك بالعبادة في ذلك الوقت، والمنقطع إليها المعتزل عن الناس أجره كاجر المهاجر إلى النتء؛ لأنَّه يناسبه (5) من حيث أن المهاجر قد (6) فر بدينه عمن يصده &(7/256)&$
__________
(1) في (ح): «من صالح عمل».
(2) قوله: «فيها» سقط من (ح).
(3) في (ح): «وحانت أموالهم».
(4) في (ح): «تصيبكم».
(5) في (ح): «لا يناسبه».
(6) قوله: «قد» سقط من (ح).(7/256)
عنه إلى الاعتصام بالنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك هو المنقطع للعبادة فر من الناس بدينه إلى الاعتصام بعبادة ربه» فهو على التحقيق قد هاجر إلى ربه، وفر من جميع خلقه. =(7/309)=@ وقوله: ((إن الشيطان قد يئس من (1) أن يعبده المصلون في جزيرة العرب» يعني – والله تعالى أعلم -: أن المسلمين في جزيرة العرب ما أقاموا الصلاة فيها، نجا وأظهروها، لم يظهر فيها طائفة يرتدون عن الإسلام إلى عبادة الطواغيت (2) والأوثان، فاذا تركوا الصلاة وذهب عنهم اسم المصلين، فإن (3) ذلك يكونون شرار الخلق، وهذا إنما يتم إذا قبض الله المؤمنين بالريح الباردة المذكورة في حديث عبد الله بن عمرو: «وحينئذ يتمثل لهم الشيطان فيقول لهم: ألا تستحيون؟ فيقولون: فماذا (4) تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان وحينئذ تضطرب أليات دوس حول ذي الخلصة، وتعبد اللات والعزى» والله تعالى أعلم، وقد تقدَّم القول في جزيرة العرب. %(4/1760)%
وقوله: «ولكن في التحريش بينهم» أى: في الخلاف، والشرور، والعداوة، والبغضاء بينهم حتى تكون من ذلك أمثال تلك الفتن العظيمة والخطوب الجسيمة. &(7/257)&$
__________
(1) قوله: «من» سقط من (ح).
(2) في (ح): «الطواغي».
(3) في (ح): «فإذ».
(4) في (ح): «فما» بدل «فماذا».(7/257)
وقوله: «إن عرش إبليس على البحر» أي سريره، يفعل ذلك تكبرا على جنوده وأحزابه، وهذا هو العرش الذي رآه ابن صياد، كما تقدَّم. وأصل العرش: =(7/310)=@ الرفع. ومنه قوله: {وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات وغيرمعروشات}، أي: منها ما هو مرفوع على ساق وهي الشجر، ومنها ما ليس كذلك، وهو النجم. وقوله: «فيدنيه، ويلتزمه، ويقول: نعم أنت (1) »؛ كذا وجدته مقيدا في أصل الشيخ (2) أبي الصبر؛ أي: يقربه منه، ويعانقه، ويمدحه بـ (نعم) التي للمحمدة، وقد أضمر فاعلها للعلم به من غير شرط، تقديره: نعم الحبيب، أو الولي أنت. وهذا الإضمار شاذ؛ لأنه لا يجوز إلا إذا فسر بنكرة منصوبة على التمييز، كما هو المعروف في النحو، ومن قال: إن (نعم) هنا حرف جواب، فليس على صواب (3) إذ ليس في الكلام سؤال يقتضيه (4) ، ولا معنى يناسبه. %(4/1761)%
عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله في جميز: «لتتبعن سنن الذين من قبلكم شنرا بشبر، وذراعا بذراع؟ حتى لو دخلوا جحر ضب
وقوله: «لتتبعن سنن الذين من قبلكم» يروى سنن بضم السين وبفتحها، =(7/311)=@ فبالضم: جمع سنة، وهي: الطريقة المسلوكة، وبالفتح: هو اسم للطريق والضب: جرذون الصحراء. والمتنطعون: المتعمقون والغالون، وقد تقدم القول في هذا الحديث.
وقوله: «إن الدنيا حلوة خضرة» أي مستطابة في ذوقها، مجبة في منظرها كالثمر المستحلى، المعجب المرأى. %(4/1762)%
وقوله: «إن الله مستخلفكم فيها»؛ أي: جعلكم فيها خلفا (5) ممن كان قبلكم؛ فإنها لم تصل إلى قومك إلا بعد ذهاب آخرين. &(7/258)&$
__________
(1) في (ح): «أثر» بدل «أنت».
(2) قوله: «الشيخ» سقط من (ح).
(3) في (ح): «جواب».
(4) في (ح): «تقتضيه»
(5) قوله: «خلفا» سقط من (ح).(7/258)
وقوله: «فينظر كيف تعملون»؛ أي: يبصر أعمالكم فيجازي كلا بعمله، إن خيرا فخير،وإن شرا فشر (1) . =(7/312)=@
وقوله: «فاتقوا النار، واتقوا النساء» أي: احذروا الأعمال المقربة من النار، واحذروا فتنة النساء، فإنَّهن أول فتنة بني إسرائيل، وفتنتهن على الرجال أشد كل فتنة، والمحنة بهن: أعظم كل محنة؛ لأنَّ النفوس مجبولة على الميل إليهن، وعلى اتباع أهوائهن مع نقص عقولهن، وفساد آرائهن، ومن ملك قياده سفيه ناقص فجده ناكص.=(7/313)=@ &(7/259)&$ %(4/1763)%
__________
(1) في (ح): «فشرا».(7/259)
كتاب التفسير
وهو مصدر فسر يفسر: إذا كشف المراد وبينه، وأصله من الفسر، وهو البيان. يقال: فسرت الشيء أفسره - بالكسر - فسرا. والتأويل: صرف الكلام إلى ما يؤول إليه من المعنى، من آل إلى كذا: إذا رجع إليه. وقد حده الفقهاء فقالوا: هو إبداء احتمال في اللفظ معضود بدليل خارج عنه. فالتفسير بيان اللفظ، كقوله: {لا ريب فيه}، أى: لا شك فيه، والتأويل: بيان المعنى، كقولهم (1) : لا شك فيه عند المؤمنين؛ أو لأنه حن في نفسه، فلا تقبل ذاته الشك، وإنما الشك وصف الشاك، ونحو ذلك».
ومن باب: من فاتحة الكتاب (2)
وقد تقدم القول على قوله: ((قسمت الصلاة»، وفي الملائكة. =(7/314)=@ &(7/260)&$
__________
(1) في (ح): «كقوله».
(2) قوله: «ومن باب: من فاتحة الكتاب» سقط من (ح).(7/260)
%(4/1764)% ( 1) هذا العنوان لم يرذ في نسخ المنهم، واستدركناه من التلخيص .
ومن باب: ومن سورة البقرة (1)
قوله (2) : «خلقت الملانكة من نور» أي: من جواهر مضيئة منيرة (3) ، فكانوا (4) خيرا محضا.
وقوله: «وخلق الجان من مارج من نار» أى: من شواظ ذي لهب، واتقاد، ودخان، فكانوا شرا محضا، والخير فيهم قليل.
وقوله: ((وخلق آدم مما تعلمون (5) )) (1) أى: مما أعلمكم به، أي: من تراب صير طينا، ثم فخارا، كما أخبرنا به تعالى في غير موضع من كتابه. والفخار: الطين اليابس، وفي الخبر: «إن الله تعالى لما خلق (6) آدم أمر من قبض قبضة من جميع أجزاء تراب الأرض (7) ، فأخذ من حزنها وسهلها، وأحمرها وأسودها، فجاء ولد كذلك». &(7/261)&$
__________
(1) قوله: «ومن باب: ومن سورة البقرة» سقط من (ح).
(2) في (ح): «وقوله».
(3) في (ح): «نيرة».
(4) في (ح): يشبه «فقالوا».
(5) في (ح): «ما لا تعلمون».
(6) في (ح): «لما أراد خلق».
(7) في (ح): «تراب أجزاء الأرض».(7/261)
وقوله: «ادخلوا الباب مسجدا، وقولوا حطة» هذا الباب: هو الباب الثامن من بيت المقدس. قاله مجاهد. وقيل: باب القرية، وقال أبو علي: باب قرية فيها موسى - عليه السلام -. وسجدًا: قال ابن عباس: منحنين ركوعا. وقال =(7/315)=@ (ا) في مسلم والتلخيص: مما رصف لكم. ( 2) روا. أحمد ( 4 / 0 0 4)، وأبو داود (693 4)، والترمذي ( 5 5 9 2) .
غيره: خضوعا وشكرًا لتيسير الدخول. وحطة: بمعنى حط، عنا ذنوبنا، قاله الحسن. وقال ابن جبير: معناه الاستغفار. ثعلب: التوبة. قال الشاعر: فاز بالحطة التي جعل الله بها ذنب عبده مغفورا الكلبي: تعبدوا بقولها كفارة. وهو مرفوع على أنه خبر ابتداء محذوف؛ أي: مسألتنا وأمرنا حطة.
وقوله: «فدخلوها يزحفون على أستاههم» أي: ينجزون على ألياتهم فعل المقعد الذي يمشي على أليته.
يقال: زحف الصبي: إذا مشى كذلك، وزحف البعير: %(4/1765)% إذا أعيا. وقالوا -مستهزئين -: «حبة في شعرك (1) » وفي غير كتاب مسلم: «حنطة في شعر»، فعصوا، وتمردوا، واستهزؤوا، فعاقبهم الله تعالى بالرجز، وهو العذاب بالهلاك. قال ابن زيد: كان طاعونا أهلك منهم سبعين ألفا.
وقوله: «نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: {رب أرني كيف تحيي الموتى} اختلف العلماء قديما وحديثا في هذا السؤال، هل صدر عن شك وقع، أم لا؛ فهم فرقتان: المثبتة للشك، والنافية له. فالمثبتون (2) : اختلفوا فيمن وقع له هذا الشك، فمنهم من قال: إنما وقع الشك لأمة إبراهيم، بدليل أول القصة، وهو قوله: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه}، فسأل إبراهيم ربه تعالى أن يريه وأفته كيفية إحياء الموتى ليطمئن قلبه بظهور حجته عليهم، وبإزالة الشك عنهم.
قاله الضحاك، وابن إسحاق. =(7/316)=@ ومنهم من قال: الشك من إبراهيم، لكن فيما اختلفوا فيه، فمنهم من قال: في الإحياء. حكي عن ابن عباس أنه قال: دخل قلبه بعض ما يدخل على القلوب، &(7/262)&$
__________
(1) في (ح): «شعرة».
(2) في (ح): «والمثبتون».(7/262)
وهذا لا يصح نقله، ولا معناه؛ لأنَّ الله تعالى قد أخبر عنه في أول القصة بأنه قال للمحتج عليهم: {ربي الذي يحيي ويميت}، وكيف يجوز على الأنبياء مثل هذا الشك، وهو كفر؟ فإنَّ الأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث. ومنهم من قال: وقع له الشك في كونه خليلا، أو في كونه مجاب الدعوة، فسأل الله تعالى ودعاه بأن يريه إحياء الموتى حتى يطمئن قلبه بذلك. ومنهم من قال: وقع له شك في كيفية الاحياء، لا في أصل الإحياء. قال الحسن: رأى جيفة نصفها في البر توزعها السباع، ونصفها في البحر توزعها دواب الماء، فلما رأى تفرقها أحب أن يرى انضمامها، فسأل ليطمئن قلبه برؤية كيفية الجمع، كما رأى كيفية التفريق. ويتنزل قول نبينا صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» على هذه الأقوال واحدا واحدا، بحسب ما يليق به. وأما النافون للشك فاختلفوا؛ فمنهم من قال: أرى من نفسه الشك، وما شك، ولكن %(4/1766)% ليجاب فيزداد قربه. قال القاضي: وهذا تكلف في اللفظ والمعنى. ومنهم من قال: لم يشك ابراهيم، وقول نبينا محمد (1) عليه السلام: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» للشك عنه، لا إثبات له، فكأنه قال: نحن موقنون بالبعث وإحياء الموتى، فلو شك إبراهيم لكنا نحن أولى بذلك منه، على طريق الأدب، وإكبار حال إبراهيم – صلى الله عليهما -، لا على جهة أنه وقع شك لواحد منهما. ومنهم من قال: إنما جاوب نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله: «نحن أحق بالشك» من سمعه يقول: شك إبراهيم، ولم يشك نبينا، فقال ذلك. قلت: هذه جملة ما سمعناه من شيوخنا، ووقفنا عليه في كتب أئمتنا، وكلها محتمل يرتفع به الإشكال، إلا ما حُكي عن ابن عباس، فإنَّه قول فاسد، وليس في الآية ما يدلّ على أن إبراهيم شك بل: الذي تضمنته أن إبراهيم -عليه السلام - سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها، واتصال =(7/317)=@ الأعصاب والجلود بعد تمزيقها، فأراد أن يترئى من علم اليقين إلى عين اليقين، بقوله (2) : «أرني كيف» طلب مشاهدة الكيفية. وقوله تعالى: {أو لم تؤمن} استفهام تقرير، كقوله تعالى: {أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر} أى: قد عمرناكم. &(7/263)&$
__________
(1) قوله: «محمد» ليس في (ح).
(2) في (ح): «فقوله» بدل «بقوله».(7/263)
وقوله: {ليطمئن قلبي} أى: بحصول الفرق بين المعلوم برهانا، والمعلوم عيانا. فإذا لم يكن في الآية ما يدلّ على شك وقع لإبراهيم، ولا لنبينا صلى الله عليهما إنَّما صدر ذلك من نبينا عليه السلام على الفرض الذهني، والتقدير الشرطي، فكأنه قال: لو شك إبراهيم في إحياء الموتى لكنا نحن أحق بالشك منه، ولم نشك نحن، فهو أولى وأحق بألا يشك، وهذا هو البرهان المسيئ عند أئمتنا النظار: البرهان الشرطي المتصل، وأهل المنطق يسمونه بالقياس الاستثنائي الذي ينتج منه استثناء عين التالي، ونقيض المقدم. على ما هو معروف (1) في موضعه. %(4/1767)%
وقوله: «ولو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي»يعني به: الداعي (2) الذي دعاه (3) إلى الخروج من السجن المذكور في قوله تعالى: {فلما جاء الرسول قال ارجع إلى ربك فسئله}يصف يوسف - عليه السلام - بالتثبت والصبر على المحنة، وأنه أقام في السجن والتضييق عليه مدة طويلة، والنفوس متشوقة إلى الخروج من الضيق، والحبس الطويل، لا سيما إذا بشر بالتخلص، ودعي إليه. فمقتضى الطبع: المبادرة إلى أول دعوة، والانفلات بمرة، لكنه لما جاءه الداعي لم يبادر لإجابته، ولا استخفه (4) الفرح بالتخلص من محنته، لكنه سكن وثبت إلى أن ظهرت براءته وعلمت منزلته. ثم إن نبينا صلى الله عليه وسلم تأدب معه غاية الأدب، واعترف له بأنه من التثبت والصبر في أعلى الرتب، وحمده على ذلك، وقدر أنه: لو امتحن بذلك لبادر إلى التخلص من ذلك =(7/318)=@ (1) انظر. في تفسير القرطبي (1/ 411) .
لأول داع. هذا مع أن النبي صلى الله عليه وسلم (5) قد أعطي من التثبت في الأمور، والصبر على المكاره الحظ الأوفر، والنصيب الاكبر، لكنه تواضع لله، وتأدب مع أخيه نبي الله. وقوله: «يرحم (6) الله لوطا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد» وفي الرواية الأخرى: «يغفر الله للوط» هذا تنبية على قول لوط لضيفه: {لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد}، وهذا من النبى صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أن لوطا لم &(7/264)&$
__________
(1) في (ح): «المعروف».
(2) في (ح): «لأجبت».
(3) قوله: «الذي دعاه» مكرر في (ح).
(4) في (ح): «ولا ستخفه» كذا رسمت.
(5) في(ح): «مع أنه عيه السلام قد».
(6) في (ح): «ورحم».(7/264)
يرض منه بذلك القول في ذلك الموطن؛ فإنَّه قد كان انتهى من كمال المعرفة بالله تعالى إلى حال لا يليق به فيها أن يلتفت إلى غير الله تعالى في كفاية المحن، ودفع الشدائد، فلما ضعف عنا كان ينبغي له عويب على ذلك، ونسب إلى التقصير. والذي أصدر ذلك القول من لوط ضيق صدره بما لقي من قومه من التكذيب والأذى. وحياؤه من أضيافه عند هم قومه بالفاحشة، وأنه لم تكن له عشيرة، ولا أصحاب آمنوا به حتى ينتصر بهم على قومه؛ فإنَّه لم (1) يؤمن به أحد ممن أرسل إليه غير ابنتيه، ولما أهلك قومه لم ينج منهم إلا هو وابنتاه، ومع هذه الأعذار كلها لم يرض منه بأن يصدر منه ذلك (2) في حال %(4/1768)% تمكنه وتمكينه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم أراد من لوط أن يكون على مثل حال إبراهيم في شدائده، فإنَّه قال حين رمي بالمنجنيق (3) ، وهو في الهواء، وقال له (4) جبريل - عليه السلام-: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا. ونحو ذلك صدر عن نبينا عليه الصلاةوالسلام حين كان في الغار، والكفار عند فم الغار (5) ، فقال لأبي بكر وقد رأى جزعه: «لا تحزن إن الله معنا». =(7/319)=@ ( 1) هذه الرواية عند البخارى (3375). ( 2) رراه البخاري ( 2 5 36)، ومسلم (9 0 0 2) .
والحاصل أن لأهل المعرفة بالله تعالى من الأنبياء، والأولياء حالين: حال حضور ومراتبة، فتتوجه عليهم بحسبها المناقشة والمعاتبة، وحال (6) غيبة وبشرية، فيجرون فيها على الأمور العادية، فتارة يناقشون، وأخرى يسامحون، فضلا من الله ونعمة، ورفقا (7) بهم ورحمة، وقد تقدَّم بسط هذا المعنى.
وقوله: «ولو لبثت في السجن لبث (ا) يوسف)) أي: لو مكثت وأقمت. يقال: لبث يلبث بالكسر في الماضي والنتح في المضارع لبثا بضم اللام، وسكون الباء، ولبانا، وكلاهما على غير قياس؛ لأنَّ المصدر من فعل بالكسر قياسه التحريك اذا لم يعد، مثل: تعب تعبا، وقد جاء في الشعر على القياس.
قال جرير: وقد كون على الحاجات ذا لبث وأخوذيا إذا انضمت ذعاليب
فهو لابث، ولبث أيضًا، وقرئ{لابثين فيها أحقابا}.
وقوله: «كانت الأنصار إذا حجوا فرجعوا (8) لم يدخلوا البيوت إلا من &(7/265)&$
__________
(1) في (ح): «لن» بدل «لم».
(2) قوله: «بأن يصدر منه ذلك» سط من (ح).
(3) في (ح): يشبه «رمي من المنجنيق».
(4) في (ح): «وقاله له» كذا رسمت.
(5) قوله: «والكفارعند فم الغار» مكرر في (ح).
(6) في (ح): «وقال» بدل «وحال».
(7) في (ح): «أو رفقًا».
(8) في (ح): «ووجعوا».(7/265)
ظهورها» إنما كانوا يفعلون ذلك؛ لأنَّهم كانوا إذا أحرموا يكرهون أن يحول بينهم وبين السماء سقف إلى أن ينقضي إحرامهم، ويصلوا إلى منازلهم، فاذا دخلوا منازلهم دخلوها (1) من ظهورها. قاله الزهري. يعتقدون أن ذلك من البر والقرب. =(7/320)=@ فنفى الله ذلك بقوله: {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها} ثم بين ما يكون فيه البر بقوله: %(4/1769)% {ولكن البر من اتقى} أي: بر من اتقى (2) الله، وعمل بما أمره الله تعالى به من طاعته. ويستفاد منها: أن الطاعات والقرب في إنما يتوصل إليها بالتوقيف الشرعي، والتعريف، لا بالعقل والتخريف. فالبيوت على هذا محمولة على حقائقها، وقد قال بعض العلماء: إن المراد بها إتيان الأمور من وجوهها، وهو بعيد، وأبعد منه قول من قال: إن المراد بها إتيان النساء في فروجهن، لا في أدبارهن، والصحيح الأول. وأما القولان الآخران فيؤخذان من موضع آخر، لا من الآية.
وقوله: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} التكليف هو الأمر بما يشق عليه، وتكلفت الشيء: تجشمته. حكاه الجوهري، والوسع: الطاقة آن والجدة. وهذا خبر من الله تعالى أنه لا يأمرنا إلا بما نطيقه ويمكننا إيقاعه عادة، وهو الذي لم يقع في الشريعة غيره، ويدلّ على ذلك تصفحها، وقد حكي الإجماع على ذلك. وإنما الخلاف في جواز التكليف بما لا يمكننا إيقاعه عقلا، كالجمع بين الضدين، أو عادة كالطيران في الهواء، والمشي على الماء، فمن مجوز، ومن مانع، وقد بينا ذلك في الأصول، وإستيفاء الكلام عليها في علم الكلام.
تنبيه: الله تعالى بلطفه بنا وإنعامه علينا، وإن كان قد كلفنا بما يشق علينا، =(7/321)=@
(1)ليست في (م 4).
ويثقل، كثبوت الواحد للعشرة، وهجرة الإنسان، وخروجه عن وطنه، ومفارقة أهله وولده وعادته، لكنه لم يكلفنا بالمشقات المثقلة، ولا بالأمور المؤلمة كما كلف من قبلنا؛ إذ كلفهم بقتل أنفسهم، وقرض موضع البول من أبدانهم، بل سهل، ورفق بنا، %(4/1770)% ووضع عنا الإصر والأغلال التي وضعها على من كان قبلنا، فله الحمد والمنة، والفضل والنعمة.
وقوله: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} دليل على صحة إطلاق أئمتنا على أفعال العباد: كسبا، واكتسابا؛ ولذلك لم يطلقوا &(7/266)&$
__________
(1) في (ح): «دخلوا».
(2) قوله: «أي من اتقى» سقط من (ح).(7/266)
على ذلك: لا خلق، ولا خالق، خلافا لمن أطلق ذلك من مجترئة المبتدعة، ومن أطلق من أئمتنا على العبد فاعل: فالمجاز المحض كما يعرف في الكلام.
وقوله: {لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} أي: اعف عن إثم ما يقع منا على هذين الوجهين أو أحدهما، كقوله صلى الله عليه وسلم: «رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» أي: إثم ذلك، وهذا لم يختلف فيه: أن الإثم مرفوع، إنما اختلف فيما يتعلق على ذلك من الأحكام؟ هل ذلك مرفوع لا يلزم =(7/322)=@ منه شيء، أو يلزم أحكام ذلك كله؛ اختلف فيه. والصحيح أن ذلك يختلف بحسب الوقائع؟ فقسم: لا يسقط بالخطأ والنسيان بإتفاق، كالغرامات والديات والصلوات، وقسم: يسقط باتفاق، كالقصاص، والنطق بكلمة الكفر ونحو ذلك. وقسم ثالث: يختلف فيه، وصوره لا تنحصر، ويعرف تفصيل ذلك في الفروع.
والإصر: الثقل والمشقة النادحة. وقول ابن عباس في هذا الحديث حكاية عن الله تعالى: «قد فعلت» وقول أبي هريرة في حديثه الذي تقدم في كتاب الإيمان؛ قال: «نعم» دليل على أنهم كانوا ينقلون الحديث بالمعنى، وقد قررنا في الأصول: «كا أن ذلك جائز من العالم بمواقع الألفاظ، وأن ذلك لا يجوز لمن بعد الصدر الأول لتغير اللغات، وتباين الكلمات. والمولى (1) : الولي. والناصر: المعين على العدو. والكا فر: الجاحد &(7/267)&$
__________
(1) في (ح): «والموالي».(7/267)
%(4/1771)%
ومن سورة أل عمران
قوله: ((تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم)) تخلفوا: تأخروا. والمقعد: القعود. وحديث أبي سعيد هذا يدلّ على: أن قوله تعالى: {لا تحسبن} الاية نزلت في المنافقين، وحديث ابن عباس الذي بعده يدل على أنها نزلت في أهل الكتاب، ولا بعد في ذلك؟ لإمكان نزولها على السببين؛ لاجتماعهما في زمان واحد، فكانت جوابا للفريقين. والله تعالى أعلم. والمفازة: الموضع الذي يفاز فيه من المكروه. =(7/323)=@
وقوله: {ولا تحسبن} أي: لا تظنن. أي: لتعلموا أنهم غير فائزين من عذاب الله؛ لأنَّهم كتموا الحق، وأحبوا أن يحمدوا به (1) أي: يثنى عليهم بأنهم عليه. والذين فاعل لتحسبن (2) ، ومفعولاها محذوفان لدلالة «تحسبنهم» عليه، وهذا نحو قول الشاعر(ا): بأي كتاب أم بأية سنة (3) ترى حبهم عارًا علت وتحسب
اكتفى بذكر مفعولي الفعل الواحد عن ذكر مفعولي (4) الثاني، وهذا أحسن ما قيل فيه. &(7/268)&$
__________
(1) في (ح): «عليه» بدل «به».
(2) في (ح): «تحسبن».
(3) في (ح): «آية» بدل «سنة».
(4) في (ح): «فعلي».(7/268)
وقوله: ((واستحمدوا بذلك عند)) أي: طلبوا أن يحمدوا. %(4/1772)%
و (قول مروان لابن عباس - رضي الله عنهما -: لئن كان كل امرىء (1) منا فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا» لتعذبن أجمعون)) دليل على صحة القول بأن (2) للعموم صيغا مخصوصة، وأن (الذين) منها، وهذا مقطوع به من يفهم (3) ، ذلك من القرآن والسنة .=(7/324)=@ %(4/1773)%
ومن سورة النساء
قوله: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء} خفتم: فزعتم وفرقتم، وهو ضد الأمن، ثم قد يكون الخوف منه معلوم الوقوع =(7/325)=@
وقد يكون مظنونا، فلذلك اختلف العلماء في تفسير هذا &(7/269)&$
__________
(1) في (ح): «أمر» كذا رسمت.
(2) في (ح): «فأن».
(3) في (ح): «تفهم».(7/269)
الخوف. هل هو بمعنى العلم، أو بمعنى الظن، فقال بعضهم: خفتم: علمتم، وقال آخرون: خفتم: ظننتم، وحقيقة الخوف ما ذكرناه أولا. وتقسطوا: تعدلوا. وقد تقدَّم: أن أقسط بمعنى عدل، وقسط: بمعنى جار. وقد تقدم أن اليتم في بني آدم من قبل فقد الأب، غيرهم من قبل فقد الأم، وأن اليتيم (1) إنما أصله أن يقال على من لم يبلغ، وقد أطلق في هذه الآية على المحجور عليها – صغيرة كانت أو كبيرة- استصحابا لإطلاق اسم (2) اليتيم (3) لبقاء الحجر عليها، وإنما قلنا: إن اليتيمة الكبيرة قد دخلت في الآية (4) ؛ لأنَّها قد أبيح العقد عليها في الآية، ولا تنكح اليتيمة الصغيرة إذ لا إذن لها، فاذا بلغت جاز نكاحها لكن بإذنها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما خرج الدارقطي، وغيره في بنت عثمان بن مظعون، وأنها (5) يتيمة، ولا تنكح إلا بإذنه»، وهذا مذهب الجمهور خلافا لأبي حنيفة، فإنَّه قال: إذا بلغت لم تحتج إلى ولي، بناء على أصله في عدم اشتراط الولي في صحة النكاح -كما قدمناه في كتاب النكاح -. وقوله: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} قد تقدَّم أن (ما) أصلها لما لا يعقل، وقد تجيء بمعنى الذي، فتطلق على من يعقل كما جاءت في هذه الآية؛ فإنَّها %(4/1774)% فيها للنساء، وهن ممن يعقل، ولا يلتفت لقول من قال: إن المراد بها - هنا – العقد؛ لقوله تعالى بعد ذلك (من النساء) مبينا لمبهم (ما).
وقوله: {مثنى وثلاث ورباع} قد فهم من هذا من بعد فهمه للكتاب =(7/326)=@
( 1) رواه الدارتطني (3/ 9 2 2 - 0 23). الله فيها: ! {وإن خفتم ألا تقسطوا فواحدة} ، قالت: وقول الله في الآية الأخرى: وترغبون أن تنكحوهن، رغبة أحدكم عن يتيمته التي
والسنة، وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأمة، وقل علمه (6) باللسان واللغة؟ أنه يجوز لنا أن ننكح تسعا، ونجمع بينهن في عصمة واحدة من هذه الآية، وزعم أن &(7/270)&$
__________
(1) في (ح): «اليتم».
(2) في (ح): يشبه «العلم» بدل «اسم».
(3) في (ح): «تفهم».
(4) قوله: «في الآية» سقط من (ح).
(5) في (ح): «أنها» بلا واو.
(6) في (ح): «وقد علمه».(7/270)
الواو جامعة، وعضد ذلك بأن النبي عليه الصلاة والسلام نكح تسعا، وجمع بينهن في عصمة. والذي صار إلى هذه الجهالة: الرافضة، وطائفة من أهل الظاهر. فجعلوا مثنى وثلاث ورباع مثل اثنين، وثلاث، وأربع، وبينهما من الفرقان ما (1) بين الجماد والانسان، فإنَّ أهل اللغة مطبقون على الفرق بينهما، ولا نعلم بينهم خلافا في ذلك، وبيان الفرق: أن العرب إذا قالت: جاءت الخيل مثنى مثنى إنما تعني (2) بذلك: اثنين، اثنين. أي جاءت مزدوجة. قال الجوهري: وكذلك جميع معدول العدد .
قلت: وعلى هذا جاء قوله تعالى في وصف الملائكة: {مثنى (3) وثلاث ورباع}، ويعلم على القطع والبتات: أنه لم يرد هنا توزيع (4) هذه الاعداد على الملائكة حتى يكونوا هم (5) : أولي تسعة أجنحة يشتركون فيها، ولا أنه جمع كل (6) واحد من احاد الملائكة تسعة أجنحة. وتلزم هذه الفضائح من قال بالجمع في آية النكاح، إذ لا فرق بين هاتين الآيتين في هذا اللفظ في العدل. =(7/327)=@
(ا) في (م 4): العدول. وانظر في هذا بحثا تيما للقرطبي في تفسيره. الجامع لأحكام القرآن (5/ 15). والعطف بالواو الجامعة، وإنما المراد: أن الله تعالى خلق الملائكة أصنافا، فمنهم صنف جعل لكل واحد منهم جناحين، ومنهم صنف جعل لكل واحد منهم ثلاثة (7) ، ومنهم صنف جعل لكل واحد منهم أربعة، وكذلك آية النكاح معناها: أن &(7/271)&$
__________
(1) في (ح): «كما».
(2) في (ح): «الخيل مثنى إنما».
(3) في (ح): «أولى أجنحة مثنى».
(4) في (ح): «توزيع جميع هذه».
(5) في (ح): يشبه «كلهم».
(6) في (ح): «على كل».
(7) قوله: «ومنهم صنف جعل لكل واحد منهم ثلاثة» سقط من (ح).(7/271)
الله تعالى أباح لكل واحد منهم (1) من الزوجات ما يقدر على العدل فيه، قس يقدر على العدل في اثنتين أبيح له %(4/1775)% ذلك، ومن يقدر على العدل في أكثر أبيح له ذلك، فإنَّ (2) خاف ألا باحة يعدل فواحدة كما قال تعالى، وغاية الإباحة أربع؛ لأنَّه انتهى إليهن في العدد، أربع ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لغيلان بن أمية: «أمسك أربعا، وفارق سائرهن ، (ا) ولأنه لم يسمع عن أحد من الصحابة، ولا التابعين: أنه جمع في عصمته بين أكثر من أربع، وما أبيح للنب من ذلك، فذلك من خصوصياته، بدليل: أن أصحابه (3) قد علموا أدع ذلك، وتحققوه، فلو علموا أن ذلك مسوغ لهم لاقتدوا به في ذلك، فكانوا يجمعون بين تسع، فإنَّهم كانوا لا يعدلون عن الاقتداء به في جميع أفعاله، وأحواله، ويبادرون إلى ذلك مبادرة من علم: أن التوفيق والفلاح، والحصول على خير الدنيا والآخرة في الاقتداء به، فلولا أنهم علموا خصوصيته بذلك لما امتنعوا منه، وما يروي الرافضة في ذلك عن علي، أو غيره من السلف، فغير معروف عند أهل السنة، ولا مأخوذ عن أحد من علماء الأمة، وكيف لا؟ وقوله لنيلان قد بتيئ القدر المباح غاية البيان، وهو من الأحاديث المعرونة المشهورة عند كل أحد، بحيث لا يحتاج فيه إلى إقامة سند. وقد ذهب بعض أهل الظاهر إلى إباحة الجمع بين ثماني عشرة، تمسُّكًا بأن العدل في تلك الصيغ يفيد التكرار لما لم يمكنه لذلك إنكار، لكنه لما حمل الواو على الجمع جمع بين هذه الأعداد، وقصر كل صيغة =(7/328)=@ ( 1) رواه ابن حبان (4157 ر 4158)، والبيهقي (7/ 181). من العدد المعدود (4) على أقله، فجعل: مثنى بمعنى: اثنين واثنين، وثلاث: بمعنى ثلاث وثلاث، ورباع: بمعنى أربع وأربع. وهذا القائل أعور بأي عينيه شاء، فإنَّ كل ما ذكرناه يبطل دعواه، ونريد هنا نكتة تضمنها الكلام المتقدِّم، وهي أن قصره كل صيغة على أقل ما &(7/272)&$
__________
(1) قوله: «منهم» سقط من (ح).
(2) في (ح): «وإن».
(3) في (ح): «الصحابة».
(4) في (ح): «للمعدود».(7/272)
تقتضيه بزعمه، تحكم بما لا يوافقه أهل اللسان عليه، ولا يرشد معنى الاثنين إليه؛ لأنَّ مقصود الآية إباحة نكاح اثنتين لمن أراد، ونكاح ثلاث لمن أراد، ونكاح أربع لمن أراد، وكل واحد من آحاد كل نوع من هذه الثلاثة لا ينحصر، فكل اثنين، وثلاث، وأربع لا ينحصر، فقصره على بعض أعداد (1) ما تضمنه ذلك مخالف لمقصود الآية، فتفهم ذلك؛ فإنَّه من لطيف الفهم، وللكلام (2) في هذه الآية متسع، وفيما ذكرناه تنبيه ومقنع. %(4/1776)% وبعد أن فهمت أفراد تلك الكلمات، فاعلم أن العلماء اختلفوا في سبب نزول هذه الآية، وفي معناها، فذهبت عائشة إلى ما ذكر في الأصل عنها، وحاصل الروايات المذكورة عنها: أنها نزلت في إلي اليتيمة التي لها مال، فأراد وليها أن يتزوجها، فأمر بأن يوفيها صداق أمثالها، أو يكون لها ما عنده بمشارقي أو غيرها، وهو (3) لا حاجة له لتزويجها (4) لنفسه، ويكره أن يزوجها غيره مخافة أخذ مالها من عنده، فأمر الله تعالى الأولياء بالقسط، وهو العدل، بحيث: إن تزوجها بذل لها مهر مثلها، وإن لم تكن (5) له رغبة فيها زوجها من غيره، وأوصلها إلى مالها على الوجه المشروع، وتكميل معنى الآية: أن الله تعالى قال للأولياء: إن خفتم ألأ تقوموا بالعدل، فتزوجوا غيرهن، ممن طاب لكم من النساء اثنتين اثنتين إن شئتم، وثلاثا ثلاثا لمن شاء، وأربعا أربعا لمن شاء. هذا قول عائشة في =(7/329)=@ الآية. وقال ابن عباس في معنى الآية: إنه قصر الرجال على أربع؟ لأجل أموال اليتامى. فنزلت (6) جوابا لتحوجهم عن القيام بإصلاح أموال اليتامى. وفسر عكرمة قول ابن عباس هذا بألا تكثروا من النساء، فتحتاجوا إلى أخذ أموال اليتامى. وقال السدي وقتادة: معنى الآية: إن خفتم الجور في أموال اليتامى فخافوا مثله في النساء، فإنَّهن كاليتامى في الضف، فلا تنكحوا أكثر مما يمكنكم إمساكهن %(4/1777)% بالمعروف. قلت: وأقرب هذه الأقوال وأصحها: قول عائشة -إن شاء الله تعالى - وقد اتفق كل من يعاني العلوم على: أن قوله تعالى: {وإن خفتم ألا تقسطوا في &(7/273)&$
__________
(1) قوله: «أعداد» لم يتضح في (ح).
(2) في (ح): «والكلام».
(3) في (ح): «فهو».
(4) في (ح): «في تزويجها».
(5) في (ح): «يكن».
(6) في (ح): «قال نزلت» بدل «فنزلت».(7/273)
اليتامى» ليس له مفهوم، إذ قد أجمع المسلمون على: أن من لم يخف القسط في اليتامى له أن ينكح أكثر من واحدة: اثنتين، أو ثلاثا، أو أربعا، كمن خاف. فدل ذلك على: أن الاية نزلت جوابا لمن خاف، وأن حكمها أعم من ذلك، وفي الآية مباحث تسكت الناقث. والمعدولة عن أسماء العدد كلها لا تنصرف للعدل والصفة هذا قول سيبويه؛ لأن أسماء العدد صفات، وقيل: للعدل والتأنيث (1) ؛ لأنَّ أسماء العدد مؤنثة، وقيل: لتكرار العدد في اللفظ، والمعنى: لأنه عدل عن لفظ اثنين إلى لفظ مثنى، وإلى معنى: اثنين اثنين، ومبدأ العدل آحاد، ومنتهاه رباع، ولم يمنع فيما فوق ذلك إلا في عشار في قول الكميت: ولم يستريثوك حتى رميت فوق الرجال خصالا عشارا =(7/330)=@
(1) «الناتث»: نقث حديثه: إذا خلطه كخلط الطعام. رنقث العظم: استخرج مخه. رنقث عن اثيء: إذا حنر عنه. وتختلف صيغ المعدول عن العدد، فيقال: موحد وآحاد وأحد (2) ، ومثنى، وثنا، وثناي (3) ، ومثلث وثلالث وثلث، ومربع ورباغ وربع. وقرأ النخعي: (ثلث) و(ربع). %(4/1778)% وقول عائشة في قوله تعالى: {ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} أنزلت في وإلي اليتيم (4) فعلى هذا: المراد بها أولياء» الأيتام، وهو قول الجمهور. وقال بعضهم: المراد به اليتيم إن كان غنيا وسع عليه! وأعف من (5) ماله، وإن كان فقيرا أنفق عليه بقدره، وهذا في غاية البعد؛ لأنَّ اليتيم لا يخاطب بالتصرف في ماله لصغره، ولسفهه (6) ولأنه إنما يأكل من ماله بالمعروف على الحالين، فيضيع التنويع والتقسيم المذكور في الآية، وعلى قول الجمهور فالولي الذي لا يأخذ من مال يتيمه شيئًا، ولا يستحق على قيامه عليه أجرًا دنيويا؛ بل: ثوابا أخرويا، وأما الفقير، فاختلف فيه، هل يأخذ من مال يتيمه شيئًا؛ أم لا؟ فذهب زيد بن أسلم إلى أنه: لا يأخذ منه شيئًا وإن كان فقيرًا، &(7/274)&$
__________
(1) من قوله: «لأن أسماء العدد صفات...» إلى هنا مكرر في (ح).
(2) في (ح): «وأحد وأحد ومثنى».
(3) في (ح): «وثنا».
(4) في (ح): «ولي لليتيم».
(5) في (ح): يشبه «عن».
(6) في (ح): «وسفهه».(7/274)
وحكي ذلك عن ابن عباس بناة على أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما}، وقيل: بقوله: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}.
قلت: وهذا لا يصح النسخ فيه لعدم شرطه؟ إذ الجمع ممكن؟ إذ الأخذ الذي أباحه الله تعالى ليس ظلما، ولا أكل مال بالباطل، فلم تتناوله الآيتان. وهذا هو القول بالموجب. وذهب جمهور المجوزين إلى إباحة الأخذ، لكنهم اختلفوا =(7/331)=@ في القدر المأخوذ، وفي قضاء المأخوذ، وفي وجه الأخذ، فروي عن عمر -رضي الله عنه - أنه قال: إن أكلت قضيت، وبه قال عبيدة السلماني، وأبو العالية، وهو أحد قولي ابن عباس وعكرمة، وقال من عدا هؤلاء: إن له الأخذ ولا قضاء عليه، لكنهم اختلفوا %(4/1779)% في وجه الأخذ، فذهب عطاء إلى أنه يأخذ بقدر الحاجة (1) ، وقال الضحاك: يضارب بماله، ويأكل من ربحه (2) : يسد الجوعة، ريستر العورة. الشعبي: من التمر واللبن. وقد روي هذا عن ابن عباس فقال (3) : يأكل، ويشرب، ويركب الظهر غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب. قال القاضي أبو بكر بن العربي: وعليه مذهب مالك. قلت: والصحيح من هذه الأقوال - إن شاء الله - أن مال اليتيم إن كان كثيرًا يحتاج إلى كثير قيام عليه، بحيث يشغل الولي عن حاجاته ومهماته، فرض له فيه أجرة عمله، له أن كان قليلا مما لا يشغله عن حاجاته فلا ياكل منه شيئًا، غير أنه يستحب له شرب قليل اللبن، وممل القليل من الطعام والتمر (4) ، غير مضر به، ولا مستكثر له؛ بل: ما جرت به العادة (5) بالمسامحة فيه. وما ذكرته من الأجرة، ونيل القليل من الثمر واللبن كل واحد منهما معروف، فصلح حمل الآية على ذلك، والله تعالى أعلم.
وقوله: {فما لكم في المنافقين فئتين} أي: فريقين =(7/332)=@ مختلفين (6) &(7/275)&$
__________
(1) في (ح): «الخدمة».
(2) في (ح): «ربحه الحسن».
(3) في (ح): «قال» بدل «فقال».
(4) في (ح): «والسمن».
(5) في (ح): «بل على ما جرت العادة».
(6) في (ح): «فرقتين مختلفتين».(7/275)
في قتلهم، ويعني بالمنافقين: عبد الله بن أبي وأصحابه الذين خذلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، ورجعوا بعسكرهم، بعد أن خرجوا معه إلى أحد، فلم يأمر الله بقتلهم؟ لما علم من المفسدة الناشئة عن ذلك، وهي التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه». ثم قال بعد هذا: {والله اركسهم بما كسبوا} أي: بكسبهم، عن الزجاج. ابن عباس: أى: ردهم الى كفرهم. قتادة: أهلكهم. السدي: أضلهم. وكلها قريب بعضه من بعض. وقيس بن عباد: هو بضم العين وفتح الباء الموحدة (1) وتخفيفها. %(4/1780)% و(قول عمار: ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافة) تكذيب من عمار للشيعة فيما يذعونه، ويكذبون به على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى علي -رضي الله عنه - في يوم غدير خم وغيره. وقد تقدَّم هذا المعنى. والذبيلة: الداهية. يقال: دجلتهم الابيلة؟ أى: أصابتهم الداهية. حكاها أبو عبيد، وصيغتها صيغة التصغر (2) ؛ يراد به التكثر (3) ، كما يقال (4) :. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. . دويهية تصفر منها الأنامل =(7/333)=@
والأظهر: أنه اسم سمي به مصرا كما قالوا: كميت. وأراد به هنا الورم المهلك الذي يخرج بين الكتفين، والظاهر: أن المراد بالحديث: أن الله تعالى يهلك هؤلاء الثمانية من المنافقين بهذا الداء في الدنيا، ولذلك قال: «تكفيهم الذبيلة» أي: يميتهم الله بها. &(7/276)&$
__________
(1) في (ح): «بواحدة».
(2) في (ح): «التصغير».
(3) في (ح): «التكثير».
(4) في (ح): «كما قالوا».(7/276)
وقوله: «حتى ينجم (1) من صدورهم» أي: تبلغ إلى قلوبهم، وتنفذ في صدورهم. والله أعلم. رستم الخياط: ثقب الإبرة. والسنم: الثقب في كل شيء، يقال: بفتح السين وضمها، وكذلك السم القاتل، ويجمعان على سموم وسمام. ومسام الجسد: ثقبه. والجمل: واحد الجمال، ودخول الجمل في ثقب الإبرة محال، والمعلق (2) على المحال محال، فدخول المنافقين الجنة محال، وهذا من نحو قول العرب: إذا شاب الغراب رجعت أهلي وصار القار كاللبن الحليب
أي: شيب الغراب وبياض القار لا يكونان، فرجوعه إلى أهله لا يكون. %(4/1781)% وقوله:{وإن امرأة خافت من بعلها نشوذا أو إعراضا} البعل: الزوج. والنشوز: البغض. والإعراض: الميل عنها إلى غيرها. والجناح: الإثم =(7/334)=@ والحرج. ويصالحا - بتشديد الصاد - أي: يتصالحا؟ أي: يعقدان بينهما صلحا على ما يجوز كاسقاط مهر، أو قسم، أو غير ذلك. وعن علي - رضي الله عنه -: يعطيها مالا؟ ليحول قسمها (3) . وقرأه الكوفيون: {أن يصلحا بينهما صلحا} من أصلح، ويكون صلحا مفعولا، لا (4) مصدرًا. ويكون المعنى: أن يعقدا بينهما عقد صلح، أو يفعلا صلحا.
وقوله: {والصلح خير} أي: من النشوز، قاله الزجاج. من الفرقة: ابن عباس. وقول سعيد بن جبير لابن عباس: ألمن قتل مؤمنا متعمدًا من (5) توبة؟ قال: في لا... الحديث. هذا هو المشهور - عن ابن عباس - وقد روي عنه (6) : أن توبته تقبل، وهذا هو قول أهل السنة، والذي دل (7) عليه الكتاب (8) والسنة، كقوله تعالى (9) : {والذين لا يدعون مع الله إله آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه &(7/277)&$
__________
(1) في (ح): «تنجم».
(2) في (ح): «فالمعلق».
(3) في (ح): «قسمتها».
(4) قوله: «لا» سقط من (ح).
(5) قوله: «من» سقط من (ح).
(6) في (ح): «وقول سعيد بن جبير» بدل «وقد روي عنه».
(7) قوله: «دل» سقط من (ح).
(8) في (ح): «أهل الكتاب».
(9) زاد بعدها في (ح): «إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وكقوله».(7/277)
مهانا إلا من تاب وآمن وعمل صالحا %(4/1782)% فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما (1) }، وكقوله: {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما}. وأما السنة فكثيرة، كحديث عبادة بن الصامت الذي قال فيه: (تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن أصاب شيئًا من ذلك فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب شيئًا من ذلك فستره الله عليه، فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه». وكحديث =(7/335)=@
( 1) روا5 1 لبخاري (3 1 72)، ومسلم ( 9 0 7 1)، وا لترمذي ( 39 4 1)، وا لنسائي ( 7/ أبي هريرة في الذي تتل مئة نفس، جابر في الذي قتل نفسه بقطعه براجمه، وقد تقدَّم كل ذلك. و (قول ابن عباس هذه آية مكية نسختها آية مدنية) قول لا يليق بعلم ابن عباس، ولا بفهمه؛ لأنَّه إن أراد به حقيقة النسخ كان غير صحيح؛ خل لأن الآية خبر عن وقوع العذاب بمن فعل تلك الأمور المذكورة في الآية، والنسخ لا يدخل الأخبار، كما قررناه في الأصول، سلمنا (2) أنه يدخلها النسخ، لكن الجمع بين الآيتين ممكن بحيث لا يبقى بينهما تعارض، وذلك بأن (3) يحمل مطلق آية النساء على مقيد آية الفرقان، فيكون معناها (4) : فجزاؤه جهنم إلا من تاب، لا سيما وقد اتحد الموجب، وهو القتل، والموجب؟ وهو المتوعد بالعقاب، وقد قلنا في أصول الفقه: إن مثل هذه الصورة متفق عليها. وقد تأول جمهور العلماء آية سورة النساء تأويلات: &(7/278)&$
__________
(1) من قوله: «وآمن وعمل صالحا...» إلى هنا ليس في (ح).
(2) في (ح): «سلمناه».
(3) في (ح): «أن».
(4) في (ح): «معناه».(7/278)
إحداها (1) : أن المتعمد: المعنى فيها هو المستحل لقتل (2) المسلم، ومن كان كذلك كان كافرا.
وثانيها: أن قوله: {فجزاؤه جهنم}، لا يلزم منه دخوله في جهنم ولا بد؛ لأنَّ معناه: إن جازاه، وقد رد هذا التقييد إلى النبي صلى الله عليه وسلم. %(4/1783)% قلت: وتحرير هذا القول؛ أن قوله: {فجزاؤه جهنم} هو خبر عن استحقاته لذلك، لا عن وقوع ذلك، ويجوز العفو عن المستحق، وحاصله راجع إلى القول بموجب الآية، فلا دلالة فيها. وثالثها: أن الخلود ليس نصا في التأبيد الذي لا انقطاع له، بل مقتضاه: =(7/336)=@ تطويل الآماد، وتكرير الأزمان، ما لم يرد معه من القرائن ما يقتضي التأبيد، كما ورد في وعيد الكفار، فيجوز أن يدخل القاتل في جهنم، ويعذب فيها ما شاء الله تعالى من الأزمان، ثم يلحقه ما يلحق الموحدين من الشفاعة والغفران، والله تعالى أعلم .
وقوله: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا} هذه قراءة ابن عباس وجماعة من القراء، السلام بألف، يعنون به التحية، وقرأه جماعة أخرى: السلم بغير ألف، يعنون بذلك: الصلح، والقرآتان في الشبع، وقرأ ابن وثاب: السلم - بكسر السين وسكون اللام -: وهي لغة في السلم، الذي هو الصلح.
وقوله: {تبتغون عرض الحياة الدنيا} أي: تريدون المال، وما يعرض من الأغراض الدنيوية .=(7/337)=@
وقوله: {فعند الله مغانم كثيرة} أي: إن اتقيتم الله، وكففتم عما ينهاكم عنه سلمكم وغنمكم. &(7/279)&$
__________
(1) في (ح): «أحديها».
(2) في (ح): «القتل».(7/279)
%(4/1784)%
وقوله: {كذلك كنتم من قبل} أي: قبل الهجرة حين كنتم تخفون الشهادة.
وقيل: من قبل أن تعرفوا الشهادة. {فمن الله عليكم} أي: بالاسلام، وبإعزازكم بمحمد عليه الصلاة والسلام. {فتبينوا}: من البيان، وتثبتوا: من التثبت. منذ والقراءتان في السبع، وتفيدان (1) : وجوب التوقف والتبين عند إرادة الأفعال إلى أن يتضح الحق، ويرتفع الإشكال.
وقوله: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة» العائرة: المترددة، وتعير: ترجع وتكر، وإنما ثنى الغنم، وإن كانت اسم جنس؛ لأنَّه أراد قطعتين منها. وهذا الحديث مناسب لقوله تعالى: {مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء} .=(7/338)=@ %(4/1785)%
ومن سورة العقود
قوله تعالى: {اليوم (2) أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} يعني باليوم: يوم عرفة في حجة الوداع التي نزلت فيها هذه الآية، كما جاء في هذا الحديث من قول عمر وهذا أولى من قول &(7/280)&$
__________
(1) في (ح): «ويفيدان».
(2) في (ح): «اليو» كذا رسمت.(7/280)
مجاهد: هو يوم فتح مكة. ودينكم؟ أي: شرائع دينكم؟ فإنَّها نزلت نجومًا، وآخر ما نزل فيها هذه الآية، ولم ينزل بعدها حكم. قاله ابن عباس. وقال القتبي: يعني برفع النسخ. قتادة: يعني أمر حكم؟ إذ لم يحج في تلك السنة مشرك، ولا طاف بالبيت عريان، ووقف الناس كلهم بعرفة.
وقوله: {وأتممت عليكم نعمتي} أى: بإكمال الشرائع والأحكام، وإظهار دين الإسلام. {ورضيت لكم الاسلام دينا} أي: أعلمتكم برضاي به لكم دينا، فإنَّه تعالى لم يرد راضيا بالإسلام لنا دينا، فلا يكون لاختصاص الرضا بذلك اليوم و فائدة إن حملناه على ظاهره، ويحتمل أن يريد: ورضيت الإسلام لكم دينا؛ قائما بكماله لا أنسخ منه شيئًا، والله تعالى أعلم. =(7/339)=@ %(4/1786)% ( 1) ير سورة الماندة.
و قول عمر: ألا وإن الخمر نزل تحريمها يوم نزل، وهي من خمسة أشياء...الحديث) دليل واضح يقارب القطع بأن النبيذ يسمى خمرا، وأن اسم الخمر ليس مقصورا على ما يعتصر من العنب، وأن الخمر كل ما خامر العقل؟ فإنَّ عمر قال (1) بذلك، ونص عليه في معدن الفصاحة، وبين خيار أهل &(7/281)&$
__________
(1) في (ح): «قام» بدل «قال».(7/281)
البلاغة، وهم من هم علما وفضلا، وقوة وعدلا، لا يخافون في الله لومة لائم، ولا يبالون في الحق باقتحام العظائم، فلو لم يكن ما قاله لسانهم، ومعرفة ذلك شأنهم لبادروا بالإنكار، ولما وجد منهم صحيح ذلك الإقرار. وقد تقدَّم القول على هذا الحديث في الأشربة، وفي الصلاة. وتقدم القول أيضًا في البحيرة، والسائبة في الكسوف. =(7/340)=@ %(4/1787)%
وقوله عليه الصلاة والسلام: «لو تابعني من اليهود عشرة لم يبق على ظهرها يهودي إلا أسلم» يعني - والله تعالى أعلم - عشرة معينين، وكأنهم كانوا رؤساء اليهود وزعماءهم (1) ، وذوي رأيهم في ذلك الوقت، فلو أسلموا لتابعهم من دونهم من أتباعهم، ولو كان ذلك لأضففت (ا) يهود المدينة وجهاتها على الدخول في الإسلام، وعليها إعادة (2) الضمير في قوله: لم يبق على ظهرها. =(7/341)=@ &(7/282)&$
__________
(1) في (ح): «وزعماؤهم» كذا رسمت.
(2) في (ح): «أعاد».(7/282)
%(4/1788)%
ومن سورة الأنعام
قول أبي هريرة: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: «خلق الله التربة يوم السبت... الحديث» ذكر هذا الحديث هنا؛ لأنَّه مفصل لما أجمله قوله تعالى: {الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور}، والتربة: التراب؟ أي: الأرض، وكأنه خلق التراب يوم السبت غير متعقد، ولا متجمد، ثم يوم الأحد جنده، وجعل منه الجبال أرسى بها الأرض، وكمل (1) خلق الأرض بجبالها في يومين.
وقوله: «وخلق الأشجار يوم الاثنين (2) ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء» أي: ما يكره مما يهلك، أو يؤلم كالسموم، والخشاش، والحيوانات المضرة، وقد ذكر هذا الحديت ثابت في كتابه، وقال فيه: (وخلق (3) الفقر يوم الثلاثاء) بدل «المكروه» قال: والتفن: ما يقوم به المعاش، ويصلح به التدبير كالحديد وغيره من =(7/342)=@ «الخشاش»: حشرات الأرض وهوامها. الواحدة: خشاشة (4) . جواهر الأرض، وكل شيء فى يحصل به صلاح: فهوتفن، ومنه: إتقان الشيء لاحكامه (5) . &(7/283)&$
__________
(1) في (ح): «فكمل».
(2) قوله: «وخلق الاشجار يوم الاثنين» سقط من (ح).
(3) في (ح): «خلق» بلا واو.
(4) من قوله: «حشرات الأرض وهوامها...» إلى هنا سقط من (ح).
(5) في (ح): «واحكامه».(7/283)
وقوله: «والنور يوم الأربعاء» كذا الرواية الصحيحة المشهورة، وقد وقع في بعض نسخ مسلم: النون - بالنون - يعن به الحوت. وكذا جاء في كتاب ثابت في الأم، وفي رواية أخرى: «البحور» مكان «النور» %(4/1789)% قلت: وهذه الرواية ليست بشيء؛ لأنَّ الأرض خلقت بعد الماء، وعلى الماء، كما قال تعالى: {وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء} أى: قبل خلق السموات والأرض. إلا إن أراد بالبحور الأنهار التي خلق الله تعالى في الأرض، فله وجة، والصحيح رواية النور، ولمجني به الأجسام النيرة كالشمس، والقمر، والكواكب، ويتضمن هذا أنه تعالى خلق السموات يوم الأربعاء؛ لأنَّ هذه الكواكب في السموات، ونورها: ضوؤها الذي بين السماء والأرض، والله تعالى أعلم. وتحقيق هذا أنه لم يذكر في هذا الحديث نصا على خلق السموات، مع أنه ذكر فيه أيام الأسبوع كلها، وذكر ما خلق الله تعالى فيها، فلو خلق السموات في يوم زائد على أيام الأسبوع، لكان خلق السموات والأرض في ثمانية أيام، وذلك خلاف المنصوص عليه في القرآن، ولا صائر إليه. وقد روي هذا الحديث في غير كتاب مسلم بروايات مختلفة مضطربة، وفي (1) بعضها: أنه خلق الأرض يوم الأحد والاثنين، والجبال يوم الثلاثاء، والشجر والأنهار والعمران يوم الأربعاء، والسموات والشمس والقمر والنجوم والملائكة يوم الخميس (2) ، وآدم يوم الجمعة. فهذه أخبار آحاد مضطربة فيما لا يقتضي عملا، فلا يعتمد على ما تضمنته من ترتيب المخلوقات في تلك الأيام، والذي يعتمد عليه في ذلك قوله تعالى: {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في =(7/343)=@ يومين} فلينظر فيها من أراد تحقيق ذلك، وفيها أبحاث طويلة ليس هذا موضع ذكرها. &(7/284)&$
__________
(1) في (ح): «ففي» بدل «وفي».
(2) قوله: «يوم الخميس» سقط من (ح).(7/284)
%(4/1790)%
وقوله: «إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها» قد كثرت أقوال الناس في معنى مستقر الشمس، وأشبه ما يقال فيه: إنه عبارة عن انتهائها إلى أن تسامت جزءًا من العرش معلوما بحيث تخضع عنده وتدل (1) ، وهو المعبر عنه بسجودها، وتستأذن في سيرها المعتاد لها من ذلك المحل متوقعة ألا يؤذن لها في ذلك، وأن تؤمر بالرجوع من حيث جاءت، وبأن تطلع من مغربها، فإنَّ كانت الشمس ممن تعقل نسب ذلك كله إليها؛ لأنَّه صدر عنها، وإن كانت مما لا يعقل فعل ذلك الملائكة الموكلون بها، والله تعالى أعلم. وكل ذلك ممكن، وهذا القول موافق لمعنى هذا الحديث، فتأمله .=(7/344)=@ %(4/1791)%
وقوله يقول الله: «من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، وأزيد» مفتوح الهمزة مكسور الزاي مضموم الدال على أنه فعل مضارع، وكذا (2) رويته، وقد روي هذا الحرف بالواو الجامعة، وباو التي معناها أحد الشيئين، وهو إشارة إلى معنى قوله تعالى: {والله يضاعف لمن يشاء}. والحسنة تعم الحسنات كلها، فأي حسنة عملها (3) المسلم ضوعف ثوابها كذلك، ولا معنى قول (4) من قصرها على بعض الحسنات دون بعض؟ فإنَّه تحكم مخالف للفظ العام، والكرم التام، وقد تقدَّم الكلام على قوله: «من (5) أتاني يمشي أتيته هرولة» وأن ذلك تمثيل. وقوله: «ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لقيته بمثلها مغفرة» قراب الأرض: قدر مثلها، وهو بكسر القاف، وأصله الوعاء، ومنه قراب السيف، وهو في هذا الحديث مثل. =(7/345)=@ &(7/285)&$
__________
(1) في (ح): «وتذلل».
(2) في (ح): «كذا» بلا واو.
(3) في (ح): «عمل».
(4) في (ح): «لقول».
(5) في (ح): «ومن».(7/285)
%(4/1792)%
ومن سورة الأعراف
قوله: ((كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة، فتقول: من يعيرني تطوافا -تجعله على فرجها-» التطواف: بكسر التاء: ثوب تطوف به، وقد تقدَّم أن قريشا، كانت ابتدعت في الحج أمورًا، منها: أنه كان لا يطوف أحد بالبيت إلا عريانا إلا أن يكون أحمسيا، وهم من ولد كنانة، أو من أعاره تطوافا أحمسي؟ فإنَّ طاف من لم يكن كذلك في ثيابه ألقاها، فلا ينتفع بها هو، ولا غيره، وتسمى تلك الثياب باللقا (1) ، حتى قال شاعر العرب: كفى حزنا كري (ا) عليه (2) كه له لقى بين أيخدي الطائفين حريم وكان هذا الحكم منهم عاما في الرجال والنساء، ولذلك طافت هذه المرأة عريانة، وأنشدت الشعر المذكور في الأصل. قال القاضي: وهذه المرأة ير: ضباعة بنت عامر بن قرط، فلما جاء الاسلام ستر الله تعالى هذه العورات، ورفع &(7/286)&$
__________
(1) في (ح): «اللقا».
(2) في (ح): «كذي الرواة».(7/286)
هذه الآثام، فأنزل الله تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} وأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يطوف بالبيت عريان. وفهم من =(7/346)=@ (ا) كذا في (ع) و (م) وتفسير القرطبي (89/7 ا). وفي (ز): كوفي. هذا الأمر وجوب ستر العورة للصلاة على خلاف فيه تقدَّم ذكره، وحاصله (1) : أن الجمهور على أنها فرض، واختلف فيها عن مالك على ثلاثة أقوال: الوجوب مطلقا، والسنة مطلقا (2) ، والفرق، فتجب مع العمد، ولا تجب مع النسيان والعذر. %(4/1793)%
ومن سورة الأنفال وبراءة
قول أبي جهل: ((اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم)) غلب على أبي جهل جهله فساء قوله وفعله. انظر كيف غلبت عليه جهالته وشقوته، فاستجيب (3) منه دعوته، فجدل صريعا، وسحب على وجهه إلى جهنم سحبا فظيعا. حكي أن ابن عباس لقيه رجل من اليهود، فقال اليهودي: ممن أنت؟ قال: من قريش. قال: أنت من القوم الذين قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم؛ فهلا عليهم أن يقولوا: إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له، إن هؤلاء قوم يجهلون. قال ابن عباس: وأنت يا إسرائيلي من القوم الذين لم تجف أرجلهم من بلل البحر الذي أغرق فيه فرعون وقومه، وأنجي موسى وقومه، حتى قالوا: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، فقال لهم موسى: إنكم قوم تجهلون، فاطرق اليهودي مفحما. =(7/347)=@
وقوله:{وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} أي: إكراما &(7/287)&$
__________
(1) في (ح): «حاصله» بلا واو.
(2) قوله: «والسنة مطلقا» سقط من (ح).
(3) في (ح): «واستجيب»(7/287)
لك، واحتراما لوجودك بينهم؛ فإنك رحمة عامة للعالمين، ونعمة خاصة للمؤمنين، فلما نقله الله تعالى عنهم أوقع عذابه بهم. %(4/1794)%
وقوله: {وما كان الله ليعذبهم (1) وهم يستغفرون} أي: وما كان الله مهلك جميعهم، ومنهم من يستغفره. وقد اختلف في هذا الاستغفار، فقال ابن عباس: كانوا يقولون في الطواف: غفرانك. مجاهد: هو الإسلام. قتادة: لو (2) استغفروا. السدى: في أصلابهم من يستغفره (3) . الضحاك: فيهم من يصلي، ولم يهاجر بعد. وأولاها: قول ابن عباس؛ لأنَّ الاستغفار - وإن وقع من الفجار – يدفع (4) به ضروب من الشرور والأضرار.
وقوله: {وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون المسجد الحرام} أى (5) : مستحفون العذاب لما ارتكبوا من القبائح والأسباب، لكن أخره عنهم حلم الحليم، وإن لكل أجل (ا) كتاب.
و(قول عائشة: يا رسول الله! {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله}؛ إن كنت لأظن أن ذلك قائم إلى يوم القيامة» كأن عائشة فهمت من هذا أن الأصنام لا تعبد أبدا، وأن دين الإسلام =(7/348)=@
( 1) ضي (ز): أمة. (2) ما بين حاصرتين ورد في التلخيص رفي صحيح مسلم مقدما على الآية الكريمة. لا يزال &(7/288)&$
__________
(1) في (ح): «وما كان معذبهم وهم يستغفرون».
(2) في (ح): «قتادة أي لو».
(3) في (ح): «يستغفر».
(4) في (ح): «يوقع» بدل «يدفع».
(5) في (ح): «أي إنهم».(7/288)
ظاهرا غالبًا على الأديان كلها إلى أن تقوم الساعة، وهو على ذلك، فأجابها النبي صلى الله عليه وسلم كل بما يقتضي أن ذلك يكون في أغلب البلدان، وفي أكثر الأزمان، لا أن عبادة الأوثان تنقطع من الأرض، ولا أن جميع الأديان تذهب بالكلمة، حتى لا يبقى إلا دين الإسلام، لأنه تعالى لم يقل: يمحو %(4/1795)% به الأديان كلها إنما قال: =(7/349)=@ {ليظهره على الدين كله} وقد أظهره على كل الأديان، وأبقاه مع تجدد الأزمان، كيف لا، وقد امتد الإسلام في (1) معمور الأرض من مشرقها إلى أقص مغربها حتى غلب أهله الأكاسرة، والقياصرة، والهراقلة، والتتابعة، والبلاد اليمنية، وكثيرا من البلاد الهندية، فغلبوا على متعبداتهم ومواضع قرباتهم وصلواتهم. فلقد صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده .%(4/1796)%
ومن سورة إبراهيم
قوله: ((يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء» أي: تضرب إلى الحمرة. والعفرة: بياض ليس ناصعا، بل يضرب إلى الحمرة، وكانها تغيرت من لهب النار .=(7/350)=@ &(7/289)&$
__________
(1) في (ح): «من» بدل «في».(7/289)
( 1) في (ز): اتحاد.
وقوله: «كقرصة النقي» القرصة: الخبزة. النقي (1) : - بفتح النون وكسر القاف -: هو الحواري، وهو الدرمك، سمي بذلك؛ لأنَّه ينقى ويصفى من نخالته، ومما يغتره.
وقوله: «ليس فيها علم لأحد» الرواية المشهورة بفتح العين المهملة واللام؟ أي: ليس فيها علامة لأحد، ولا أثر، أي: لم يكن فيها أحد فيكون له أثر. قال ابن عباس: لم يعمل عليها خطيئة، وقد وجدته في أصل الشيخ أبي الصبر أيوب: ليس بها علم لأحد: بالباء الموحدة (2) وبكسر العين، وسكون اللام؛ أي: لم يتقدم بها لأحد من الخلق علم. وهذا الحديث والذي بعده يدل على: أن المراد بتبديل الأرض المذكورة في قوله تعالى: {يوم تبدل الأرض غير الأرض} إنه تبديل ذات بذات، %(4/1797)% فيذهب بهذه الأرض ويؤتى بأرض أخرى، وهو قول جمهور العلماء، وقال الحسن: تبدل صورتها، ويطهر (3) دنسها. وقال وابن عباس: تبدل آكام الأرض، ونجوم السماء. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «تمد الأرض مد الأديم»، وأما تبديل السموات، فروي عن علي - رضي الله عنه -: تبدل الأرض فضة والسماء ذهبًا. كعب: الأرض نارًا والسماء جنة، أي: يزاد فيها. القاسم بن محمد: تطوى السماء كطي السجل. ابن السجزي (4) : تنشق، فلا تظل. ابن الأنباري: تختلف أحوالها كالمهل، والدهان .=(7/351)=@
وقوله عليه السلام في جواب عائشة: «على الصراط» ظاهره: الصراط الذي هو جسر ممدود على متن جهنم، كما قد (5) قال (6) في الحديث المتقدِّم: «هم في الظلمة دون الجسر» أي: على (7) الجسر. &(7/290)&$
__________
(1) في (ح): «والنقي».
(2) في (ح): «بالباء المعجمة بواحدة».
(3) في (ح): «وتطهر».
(4) في (ح): «ابن شجرة».
(5) قوله: «قد» سقط من (ح).
(6) قوله: «قال» مكرر في (ح).
(7) في (ح): «فوق» بدل «على».(7/290)
قلت: وهذا كله ممكن، والقدرة صالحة، ومن الممكن أن يعدم الله الأرض التي يخرجون منها، ويوجد أرضا أخرى، وهم عليها، ولا يشعرون بذلك .
وقوله: «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة» يعني: الأرض التي يخرجون منها يقلبها الله تعالى بقدرته، كما يقلب أحدنا خبزته، وهو تمثيل لسرعة الانقلاب، وسهولته. ويكفؤها: مهموز، من كفات الإناء: إذا قلبته، ووبع في بعغر النسخ: «يتكفؤها كما يتكفؤ (1) » بزيادة تاء. والمعنى واحد: وظاهره: أن هذه الأرض تقلب، فيعاد (2) ما كان أسفلها (3) أعلاها. كما يفعل بالخبرة، وهو تبديل صحيح؛ لأنَّ الوجه الذى كان أسفل هو أرض أخرى غير الوجه الذي كان أعلى، فهو تبديل محقق، فيجوز أن يكون هذا هو التبديل (4) الذي أراد الله تعالى في الآية المتقدِّمة، والله %(4/1798)% تعالى أعلم. وعلى هذا فيكون قوله: ((نزلا لأهل الجنة» مفعولا بفعل مقدر (5) تقديره: يعد نزلا لأهل الجنة، والنزل: هو (6) ما يعد للضيف من طعام وشراب وكرامة، وهو بضم النون والزاي. وقد يقال: النزل: على المنزل.=(7/352)=@
( 1) رواه مسلم (315). (2) ما بين حاصرتين ساتط من (ز).
أيضًا، وعلى الإنزال. والنواجذ (7) : يراد بها الضواحك، وقد تقدَّم استيعاب الكلام
وقوله: ((ألا أخبرك بإدامهم)) هذا قول اليهودي، لا قول النبي صلى الله عليه وسلم. والنبي صلى الله عليه وسلم هو القائل: «بلى (8) » يستخرج بذلك ما عند اليهودي من ذلك؛ ليظهر للحاضرين موافقة اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم فيما كان يخبرهم عنه من إدام أهل الجنة، فقد جاء في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أخبر أصحابه بذلك، وأن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، كما تقدم في الطهارة من حديث ثوبان (1). &(7/291)&$
__________
(1) في (ح): «يتكفأها كما يتكفأ».
(2) في (ح): «فتعاد».
(3) في (ح): «في أسفلها».
(4) في (ح): «الشك بل».
(5) في (ح): «مضمر».
(6) في (ح): «هنا» بدل «هو».
(7) في (ح): «فالنواجذ».
(8) في (ح): «بل» بدل «بلى».(7/291)
وقوله: ((إدامهم بالام ونون)) هكذا الرواية الصحيحة التي لا يروى غيرها. إدام فإما باللام فيعني به اليهودي: الثور الذي كان ياكل من أطراف الجنة، كما في حديث ثوبان، فكانت هذه كلمة عبرانية تكلم بها اليهودي على لسانه، وقد قال =(7/353)=@
( 1) رواه مسلم (315). بعض أئمتنا: إن هذه الكلمة صحفها بعض الرواة، وإنما هي الأى على وزن اللعا: وهو الثور الوحشي، وهذا لا يلتفت إليه؛ لأنه لا يخرم الثقة (1) بالعدول العلماء؟ ولأنه لو كان كذلك لما أشكلت على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولا سألوه (2) عنها، فإنهم يعرفون: أن الأى: الثور، والله تعالى أعلم. وأما النون: فهو الحوت، وقد قدمنا في الصحاح: أن النون: الحوت، وجمع (3) أنوانا ونينانا. وذو النون: يونس - عليه السلام- وزيادة الكبد: هي القطعة المتعلقة به المنفردة عنه. %(4/1799)%
ومن سورة الحجر
قوله: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين، حذرا أن يصيبكم مثل ما أصابهم» أي: خوفا من أن تعاقبوا كما عوقبوا، لأن أكثر &(7/292)&$
__________
(1) في (ح): «تخرم الثقة به».
(2) في (ح): «سألوا».
(3) في (ح): «ويجمع».(7/292)
المخاطبين والموجودين في ذلك الوقت كانوا ظالمين لأنفسهم؛ إما بالكفر، وإما بالمعاصي، وإذا كان سبب العقوبة موجودًا تعين الخوف من وجود العقوبة. فحق المار بموضع المعاتبين أن يحدد النظر والاعتبار، ويكثر من الاستغفار، ويخاف من نقمة العزيز القهار، وألا يطيل اللبث في تلك الدار. وقوله: ((ثم زجر فأسرع)) أي: زجر ناقته فأسرع بها في المشي. ويستفاد منه كراهة دخول أمثال تلك المواضع والمقابر، فإنَّ كان ولابد من دخولها فعلى الصفة التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم من الاعتبار، والخوف، والإسراع، وقد قال عليه السلام: =(7/354)=@ «لا تدخلوا أرض بابل فإنَّها ملعونة، (ا). وأمره عليه السلام بإراقة ما استقوا من بئر ثمود، وعلف العجين الذي عجن به للدواب حكم على ذلك الماء بالنجاسة؛ إذ ذاك هو حكم ما خالطته نجاسة، أو كان نجسا، ولولا نجاسته لما أتلف الطعام المحترم شرعا من حيث إنه مالية، وأنه غذاء الأبدان وقوامها. وأمره لهم أن يستقوا من بئر الناقة دليل على التبرك بآثار الأنبياء والصالحين، وإن تقادمت أعصارهم، وخفيت اثارهم، كما أن في الأرل دليلآ على بغض أهل الفساد، وذتم ديارهم وآثارهم. هذا؟ وإن كان التحقيق أن الجمادات %(4/1800)% غير مؤاخذات، لكن المقرون بالمحبوب محبوب، والمقرون بالمكروه المبغوض مبغوض، كما قال كثير: أحب بحبها (1) السودان حتى أحب لحبها سود الكلاب
وقال آخر: &(7/293)&$
__________
(1) في (ح): «لحبها».(7/293)
أمر على الديار ديار ليلى(2) أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حب (1) الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا وفي أمره بعلف الإبل العجين دليل على جواز حمل الرجل النجاسة إلى كلابه ليأكلوها، خلافا لمن منع ذلك من أصحابنا، وقال: تطلق الكلاب عليها ولا يحملها لهم. =(7/355)=@ %(4/1801)% (1) رواه أبو داود ( 490) من حديث علي أنه قال: «نهاني ت أن أصلي في أرضى بابل فإنَّها ملعرنة» (2) في (ز): سلمى .
ومن سورة الاسراء
قد تقدم الكلام في الإسراء، وفي أحاديثه في كتاب الإيمان، وتقدم الكلام (2) في الروح في كتاب الصلاة، وقد اختلف الناس في الروح التي سألت اليهود عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقيل: هو عيسى، وقيل: هو جبريل، وقيل: هو روح الإنسان، وهذا الأخير هو الأولى؛ لأنَّ اليهود لا تقر بأن عيسى ولد بغير أب، وجبريل عندها ملك معروف، فتعين الثالث، وهو الذي يناسب الإبهام في قوله حيث أجابهم بقوله: {قل الروح من أمر ربي}، أي: هو أمر عظيم، وشأن كبير من أمر الله تعالى، منهما له، =(7/356)=@ وتاركا تفصيله (3) ليعرف الإنسان على القطع عجزه عن علم حقيقة نفسه مع العلم بوجودها، وإذا كان الإنسان في معرفة نفسه هكذا، كان بعجزه عن إدراك حقيقة الحق أولى. %(4/1802)%
وقوله: فأسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم) بمعنى: سكت. يقال: سكت، وأسكت لغتان، وقيل معنى أسكت: أطرق ساكتا. &(7/294)&$
__________
(1) في (ح): «وما تلك الديار».
(2) في (ح): «القول» بدل «الكلام».
(3) في (ح): «لتفصيله».(7/294)
وقوله: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} هي: نحو مما قال الخضر لموسى: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر. وقد تقدَّم معناه. و(قول ابن عباس: كان نفر من الإنس يعبدون نفرا من الجن، فاستمسك الإنس بعبادتهم فنزل (1) : {الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة} هذا هو المشهور عن ابن عباس، وروي عنه أنها نزلت فيمن كان يعبد العزير، وعيسى وأمه. قلت: والآية بحكم عمومها متناولة للفريقين (2) ؛ لأنَّ (أولئك) إشارة إلى الذين زعمتم من دونه، والمخاطب بـ: ((قل ادعوا» كل من كان كذلك. والنفر من الانس قيل: إنهم كانوا من خزاعة. وزعمتم: ادعيتم، ومعمولها محذوف تقديره: زعمتم أنهم آلهة غير الله، فلا يملكون: أي: لا يستطيعون. والضر: هو قحط سبع سنين، والأحسن حمله على جنس الضر؛ فإنَّهم لا يملكون كشف شيء منه كائنا ما كان، ولا تحويلاً. ولا (3) يملكون تحويل شيء من أحوالهم، ولا تبديله بغيره .=(7/357)=@
ويبتغون: يقصدون &(7/295)&$
__________
(1) في (ح): «فنزلت».
(2) في (ح): «للفريق».
(3) في (ح): «أي ولا».(7/295)
ويطلبون.
وهذه الجملة هي خبر أولئك، والذين يدعون: نعت لأولئك. والوسيلة: القربة إلى الله تعالى. وأنهم أقرب؟ أي: كل واحد منهم يجتهد في التقرب إلى الله تعالى بعبادته، يريد بذلك أن يكون أقرب إليه من كل أحد. وهذا %(4/1803)% المعنى: أمكن في حق العزير وعيسى وأمه. وبهذا يتأيد القول الثاني لابن عباس. وقوله: {يرجون رحمته ويخافون عذابه} هكذا (1) حال العارف بالله تعالى بين الرجاء والخوف، ولا بد منهما للمؤمن، ولذلك قال بعض السلف: لو وزن رجاء المؤمن وخوفه لاعتدلا؛ إلا أن الخوف أولى بالمسيء، لكن بحيث (2) يقنط من رحمة الله تعالى، والرجاء أولى بالمحسن؟ لكن بحيث لا يغتر، فيكسل عن الاجتهاد في عبادة الله تعالى.
وقوله: {إن عذاب ربك كان محذورا} أي: شيئا عظيما يجب أن يحذره المؤمن، فهو محذور للمؤمن العارف، ومتروك للجاهل الآمن.
وقوله: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} قد ذكر في الأصل اختلاف عائشة وابن عباس في سبب نزولها، وأيهما كان فمقصود الآية =(7/358)=@ التوسط في القراءة والدعاء، فلا يفرط في الجهر، ولا يفرط في الإسرار، ولكن بين المخافتة والجهر، وخير الأمور أوساطها .%(4/1804)%
ومن سورة الكهف
قوله: «ليأتي الرجل العظيم السمين (3) يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة» أى: لا قيمة له ولا قدر. إذ لا عمل له يوزن، فإنَّ الأعمال هي التي توزن، أي: صحفها لا أشخاص العاملين، وقد قال صلى الله عليه وسلم في عبد الله بن مسعود: &(7/296)&$
__________
(1) في (ح): «فهذا».
(2) قوله: «لا» سقط من (ح).
(3) في (ح): «السمين العظيم».(7/296)
«أتعجبون من حموشة ساقيه؛ لهي أثقل في الميزان من أحد»، أو كما قال. أي: الأعمال التي عمل بها أثقل في الميزان، لا أن ساقيه توضعان في الميزان (1) ، ولا شخصه، كما قد ذهب إليه بعض المتكلمين على هذه الآية فقال: إن الأشخاص توزن. ويفهم من هذا الحديث أن السمن المكتسب للرجال مذموم، وقد قال عليه السلام: إن أبغض الرجال إلى الله الحبر السمين. وقال في حديث عمران: «ويظهر فيهم السمن». وسبب ذلك: أن السمن المكتسب =(7/359)=@ إنما هو من كثرة الأكل، والشره، والدعة، والراحة، والأمن، والاسترسال مع النفس على شهواتها. وحاصل هذا الحديث يرجع إلى قوله في الحديث الآخر: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم». وقد تقدَّم القول في حديث الخضر في كتاب الأنبياء، وعلى قراءة عشر آيات من أول سورة الكهف في كتاب الصلاة. =(7/360)=@ &(7/297)&$
__________
(1) قوله: «الميزان» سقط من (ح).(7/297)
%(4/1805)%
ومن سورة مريم
قول خباب: «كنت قينا في الجاهلية»، أي: حدادا، وهذا أصل هذا اللفظ، وقد يقال: على كل صانع،وقد تقدم ذلك، وقوله تعالى: {اطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا}، أي: انظر في اللوح المحفوظ فرأى أمنيته، أم أعطاه الله موثقا بذلك، وهذا توبيخ له على جهله وتحكمه، ثم إنه تعالى نفى ذلك، وزجره (1) عنه، وتوعده عليه بقوله: {كلا سنكتب ما يقول}؛ أي نكتب في ديوان أعماله، أو نريه ذلك مكتوبا عليه في القيامة {ونمد له من العذاب مدا}؛ أي: نزيده منه أضعافا من قولهم: مد النهر، ومده نهر آخر، {ونرثه (2) ما يقول}؛ أي: نسلبه ما يقول بالموت. ويقول: بمعنى قال، يعني به، ماله أو ولده، وعبر عن الحال بالماضي لقربه، أو لتماديه على ذلك =(7/361)=@ القول. وفردآ: وحيدا مسلوبا، لا نصير له ولا مجير. &(7/298)&$
__________
(1) في (ح): «وزجر».
(2) في (ح): «ونريه».(7/298)
%(4/1806)%
ومن سورة الأنبياء عليهم السلام
قوله: «يقبض الله تبارك وتعالى» في هذه الرواية، وفي الرواية الأخرى: «يطوي » وفي الثالثة: «يأخذ» . هذا الاختلاف يدلّ على أنَّه نقل بالمعنى، وأن اللفظ الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعين (1) . وحاصل مدلول هذه الألفاظ: أنه تعالى يفعل في السموات والأرض فعلا؛ وهو أنه يقبض مبسوطهما، ويطمس أنوارهما، فعبر عن ذلك بعباراتي مختلفة كالطي والتكوير، وغير ذلك مما في معناه مما جاء في الكتاب. وقد تقدَّم: أن اليد تطلق في اللسان على القدرة والنعمة، والمراد بها هنا: القدرة، وكذلك الإصبع، وسيأتي تكميل هذا المعنى في الزمر. وقوله تعالى: {كطي السجل للكتب (2) } اختلف المفسرون في السجل، فقال يزيد: هو اسم كاتب النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: السجل بلغة الحبش (3) : الرجل. وقد روى ذلك أبو داود من حديث أبي الجوزاء عن ابن عباس &(7/299)&$
__________
(1) في (ح): «يتغير».
(2) في (ح): «للكتاب».
(3) قوله: «الحبش» سقط من (ح).(7/299)
قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم كاتب يسمى السجل. وهو قوله: {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب}. =(7/362)=@
قلت: وفي (1) إسناده مقال، وقال (2) السدي: اسم ملك يكتب أعمال العباد، وقال مجاهد: هو الصحيفة. واللام بمعنى على، أي: على المكتوب (3) ، %(4/1807)% وقيل: هي على أصلها ويكون معناه (4) : ليصير (5) كتابا. والمساجلة: المكاتبة، وأصله: منازعة الدلو.
قال:
من يساجلني مساجل ماجدا يملأ الدلو إلى عقد الكرب
ومن سورة الحج
قوله:{هذا خصمان}؛ إشارة إلى الفريقين اللذين ذكرهما أبو ذر، وهما: علي، وحمزة، وعبيدة، وهم المؤمنون، والفريق الآخر: عتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة، التقيا يوم بدر في أول الحرب، فافتخر المشركون =(7/363)=@ بدينهم، وانتسبوا إلى شركهم، وافتخر المسلمون بالإسلام، وانتسبوا إلى التوحيد. &(7/300)&$
__________
(1) في (ح): «في» بلا واو.
(2) قوله: «وقال» لم يتضح في (ح).
(3) في (ح): «الملكوت».
(4) قوله: «معناه» لم يتضح في (ح).
(5) في (ح): «وليصير».(7/300)
ولما خرج المشركون، ودعوا إلى البراز، خرج إليهم عوف ومعوذ ابنا عفراء، وعبد الله بن رواحة الأنصاري، فلما انتسبوا لهم قالوا (1) : أكفاء كرام، ولكنا نريد قومنا، فخرج إليهم حمزة بن عبد المطلب، وعبيدة بن الحارث، وعلي، فأما حمزة وعلي فلم ينهى صاحبيهما، فقتلاهما، واختلفت بين عبيدة وشيبة ضربتان، كلاهما أثبت (ا) صاحبه، وكر حمزة وعلي على شيبة، فقتلاه، واحتملا صاحبيهما، فمات من جرحه ذلك بالصفراء عند رجوعه. وقال قتادة: هم: أهل الكتاب افتخروا بسبق دينهم وكتابهم، فقال المسلمون: كتابنا (2) مهيمن على الكتب، ونبينا خاتم الأنبياء. وقال مقاتل: أهل الملل في دعوى الحق. %(4/1808)% وقوله: {قطعت لهم ثياب من نار} أي: أعدت كما يقطع من الثوب القميص والسراويل، كما قال تعالى: {سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار} فألبسوا والله ثيابا. العري خير منها. كما أطعموا طعاما، وسقوا شرابًا، الجوع والظمأ خير منهما.
وقوله: {يصهر به في بطونهم والجلود} أي: يقطع به، وينضج، ويذاب .=(7/364)=@
( 1) «أثبت»: أثبت الرمح فيه: أننذه. (2) هذه الاية لم ترد في التلخيص. (16)
ومن سورة النور
قولها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه) دليل على: أن للقرعة مدخلا شرعيا في الحقوق المشتركة، وهو قول الكافة. قال أبو عبيدة وقد عمل بها ثلاثة من الأنبياء: يونس &(7/301)&$
__________
(1) في (ح): «انسبوا قالوالهم».
(2) في (ح): «كتابا».(7/301)
وزكريا ومحمد - صلى الله عليهم أجمعين -. قال ابن المنذر: واستعمالها كالإجماع بين أهل العلم فيما يقسم بين الشركاء، ولا معنى لقول من ردها، وحكي عن أبي حنيفة إجازتها. قال: ولا تقسيم في القياس، ولكنا تركنا القياس للآثار. %(4/1809)% قلت: ومقتضى هذا: أنه قصرها على المواضع التي وردت في الأحاديث دون تعديتها إلى غيرها، وهو قول مالك أيضًا والمغيرة وبعض أصحابنا. وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة ترك القول بها، وأنكرها بعض الكوفيين، وقال: هي كالأزلام. وبإجازتها في المشكلات قال الشافعي. قال القاضي: وهو مشهور مذهب مالك. وأما القرعة بين النساء إذا أراد سفرا، فقد اختلف العلماء في ذلك، فذهب مالك في أحد قوليه، والشافعي، وأبو حنيفة إلى: أنه لا يخرج منهن إلا من خرجت عليها القرعة؛ تمسُّكًا بظاهر هذا الحديث؛ فإنه كالنص في ذلك، وقال مالك أيضًا: إن له أن يسافر بمن شاء منهن بغير قرعة، وإن القسمة هنا سقطت =(7/365)=@ للضرورة؛ إذ قد تكون إحداهن أخف محملا، وأقل مؤونة، وأصلح للسفر، والأخرى أصلح للمقام في بيته لسد ضيعته، وللقيام بولده، وقد تكون أثقل جسما، وأكثر مؤونة.
قلت: والذي يقع لي: أن هذا ليس بخلاف في أصل القرعة في هذا، وإنما هذا لاختلاف أحوال النساء، فإذا كان فيهن من تصلح للسفر ومن لا تصلح تعين من تصلح. ولا يمكن أن يقال: يجب أن يسافر بمن لا تصلح (1) ؛ لأنَّ ذلك ضرر (2) ومشقة عليه، ولا ضرر ولا ضرار (3) ، وإنما تدخل القرعة إذا كن كلهن صالحات للسفر، فحينئذ تتعين القرعة؛ لأنَّه لو أخرج واحدة منهن بغير قرعة لخيف أن يكون ذلك ميلا إليها، ولكان (4) للأخرى مطالبته بحقها؛ فاذا خرج بمن وقعت عليها القرعة انقطعت حجَّة الأخرى، وارتفعت التهمة عنه، وطاب قلب من بقي منهن، والله أعلم. &(7/302)&$
__________
(1) في (ح): «لا تصلح للسفر».
(2) في (ح): «ضررًا».
(3) في (ح): يشبه «ولا إضرار».
(4) في (ح): «وكان».(7/302)
وقوله (1) : «إذن ليلة بالرحيل» هو بالمد، وفتح الذال بمعنى أعلم. والهودج: القبة التي تكون فيها المرأة على ظهر البعير، وهو الخدر (2) ، ويجمع: هوادج. %(4/1810)% وقولها: فإذا عقدي (3) من جزع ظفار قد انقطع قال ابن السكيت: الجزع - بفتح الجيم، وإسكان الزاي -: الخرز اليماني. وظفار - بفتح الظاء -: قرية باليمن .
قلت: هكذا صحيح الرواية. ظفار كما قاله ابن السكيت، وفي الصحاح ظفار (4) : مثل قطام: مدينة في اليمن. يقال: من دخل ظفار حمر، وجزع ظفاري (5) :=(7/366)=@
منسوب إليها، وكذلك عود ظفاري، وهو العود الذي يبخر به، وعلى هذا فمن قيده جزع أظفار بألف، فقد أخطأ، وبالوجه (6) الصحيح رويته. وقولها: وكانت النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن، ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العلق اختلف الرواة في تقييد هذا الحرف، فرواه العذري بضم الياء وفتح الهاء وتشديد الباء على ما لم يسم فاعله: يهبلن، ومن طريق الطبري: بفتح الياء وسكون الهاء وفتح الباء (7) : يهبلن، والصواب: بضمها؛ لأنَّ ماضيه فعل، وفي بعض الروايات عن ابن الحذاء: لم يهبلن: بضم الياء، وفتح الهاء، وكسر الباء مشددة (8) ، وهذه الرواية هي المعروفة في اللغة. قال في الصحاح: هبله اللحم: إذا أكثر عليه، وركب بعضه على بعض. وأهبله أيضًا، يقال: رجل مهبل. قال أبو كبير:. . .. .. ... .. .. ... .. .. .. ... .. .. .. . فشب غيرمهبل (1) قال: وقالت عائشة في حديث الأفك: والنساء يومئذ لم يهبلن اللحم. والعلق: جمع علقة، وهو القليل من الطعام، وكأنه الذي يمسك الرمق، ويعلق النفس للازدياد منه. أي: يشوقها إليه. %(4/1811)%
وقولها: ((فتيممت منزلي الذي كنت فيه)) أي: قصدته. وقد تقدم أن التيمم =(7/367)=@ &(7/303)&$
__________
(1) في (ح): «وقولها».
(2) في (ح): «وهي الخدر أيضا».
(3) في (ح): «عقد».
(4) في (ح): «وظفار».
(5) في (ح): «ظفار».
(6) في (ح): «وبالرجوع».
(7) في (ح): «الياء» بدل «الباء».
(8) في (ح): «وتشديد الباء مكسورة».(7/303)
(ا)هذا جزء من عجز بيت، والبيت بتمامه: مئن حمنن به وهن عواتذ حبك النطاق فشمبئ غير مهئل في الأصل هو القصد. والتعريس: النزول من آخر الليل. وقال أبو زيد: هو النزول في أي وقت كان، وأدلج: سار من أول الليل، وادلج - مشددا - سار من آخره. وقيل: هما لغتان، والأول المعروف. وقولها: فخمرت وجهي بجلبابي) أي: غظيته بثوبي. وقولها: بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة) الرواية الصحيحة بالغين المعجمة، والراء المهملة من الوغرة، بسكون الغين، وهي: شدة الحر، ومنه قيل: في صدره على وغر: بالتسكين، أي: ضغن وعداوة، تقول: وغر صدره علي، يوغر، وغرأ، فهو واغر الصدر عليه (1) ، وقد أوغرت صدره على فلان. وقد رواه مسلم من حديث يعقوب بن إبراهيم: موعزين، بالعين المهملة والزاي، ويمكن أن يقال فيه: هو من وعزت إليه، أي: تقدمت. يقال: وعزت إليه وعزًا، مخففا، ويقال: وعزت إليه توعيزا، بالتشديد، والرواية الأولى أصح وأولى، والظهيرة: شدة الحر، وهي الهاجرة. %(4/1812)% ونحرها: صدرها؟ أي: أولها. وقد صحفه بعضهم فقال: موعرين بالعين المهملة، والراء، ولا يلتفت إليه. وقولها: ((فهلك من هلك في شأني)) أي: بقول البهتان والقذف. وكبر =(7/368)=@ الشيء: معظمه. والناس يفيضون: أي: يخوضون فيه، ويكثرون القول. ويريبني: من الريبة، وهي اسم للتهمة والشك. تقول: رابني فلان: إذا رأيت منه ما يريبك، وهذيل تقول: أرابني فلان. قال الهذلي: يا قوم ما لي وأبا ذؤيب كأني (2) أزبته بريب وأراب الرجل: صار ذا ريبة، فهو مريب، حكاه الجوهري، وقال غيره: يقال: أرابني الأمر: يريبني: إذا توهمته، وشككت فيه، فإذا استيقنته (3) قلت: رابني منه كذا، يريبني، وقال الفراء: هما بمعنى واحد في الشك. &(7/304)&$
__________
(1) في (ح): «على» بدل «عليه».
(2) في (ح): «كأنني».
(3) في (ح): «استقبلته».(7/304)
وقولها: ((بعدما نقهت من مرضي)) هو بفتح القاف؛ أي: أفقت، فأمَّا بكسر القاف فهو بمعن فهمت الحديث. والمناصع: مواضع معروفة. والمتبرز: بفتح الراء: هو موضع التبرز، وهو الخروج إلى البراز، وهو الفضاء من الأرض التي من خرج اليها فقد برز، أى: ظهر، وكني به - هنا - عن الخروج للحدث. والكنف: جمع كنيف، وهو الموضع المتخذ للتخلي، وأصل الكنيف: الساتر، والمرط: الكساء. =(7/369)=@ %(4/1813)%
يحبي، ولها صراتز إلا حتزن عليها. قالمت: قلت: سبحان الله ! وقد
وقولها: ((تعس مسطح)) هو بكسر العين، معناه: انتكس، وسقط على وجهه، دعت عليه لما قال. والمسطح: عود من أعواد الحثاء، وهو - هنا - لقب لهذا الرجل، واسمه: عوف بن أثاثة بن عبد المطلب بن عبد مناف.
وقولها (1) : «يا هنتماه» أي: يا امرأة. ويقال للرجل: يا هناه، ولا يستعملان إلا في النداء، وهما في الأصل عبارة عن كل نكرة، وقد تقدم الكلام عليها، ونونها مخففة، وحكى الهروي (2) عن بعضهم تشديد النون، فأنكره (3) الأزهري.
وقولها: ((فوالله لقلما كانت امرأة وضيئة قط عند رجل يحثها، ولها ضرائر إلا كثرن عليها)) وضيئة: فعيلة من الوضاءة، وهي الحسن والنظافة. أي: جميلة، وكانت عائشة كذلك (4) . والضرائر: الضمرات. وكثرن؛ أي: بالقول والأذى، تهون عليها ما سمعت. =(7/370)=@ &(7/305)&$
__________
(1) في (ح): «وقوله».
(2) في (ح): «الهوزني».
(3) في (ح): «وأنكره».
(4) في (ح): «وكذلك كانت عائشة».(7/305)
%(4/1814)%
في التلخيص ومسلم: أي هنتاه.
وقولها: «لا (1) يرقأ لي دمع» أي: لا ينقطع، وهو مهموز. يقال: رقا الدم يرقأ: إذا انقطع، ومنه قولهم: «لا تسبوا الإبل، فإنَّ فيها (2) رقوء الدم» بفتح (3) الراء، والهمز. واستلبث الوحي؛ أي: استبطاه، فيكون الوحي منصوبًا على المفعول (4) ، ويصح رفعه على (5) أن يكون استلبث بمعنى لبث، كما قال: استجاب بمعنى أجاب، وهو كثير.
وقولها (6) : «أهلك، ولا نعلم إلا خيرا» منصوب على أنه مفعول بفعل مضمر؛ أي: أمسك أهلك، أو الزم. هكذا وقع في نسخة بالنصب، وفي رواية: هم أهلك، على الابتداء والخبر؛ أي: العفائف واللائقات بك. وأغمصه: أعيبه، من الغمص، وهو العيب. والداجن: الشاة المقيمة في البيت. ويقال على الحمام أيضًا. ودجن: إذا أقام .=(7/371)=@
(1) ذكره ابن الأثير في النهاية (2/ 248).
وقولها (7) : «فاستعذر (8) من عبد الله بن أبي) أي: طلب من يقبل عذره، كما قال: «من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهلي» أي: من يقبل عذري في حقه (9) وعقوبته. فقال سعد: أنا أعذرك منه، أي: أقبل عذرك فيه. &(7/306)&$
__________
(1) في (ح): «ولا».
(2) في (ح): «لها».
(3) في (ح): «رقوا لفتح».
(4) في (ح): «الفعل».
(5) في (ح): «ويصح أن رفعه على».
(6) في (ح): «قوله».
(7) ي (ح): (قوله».
(8) في (ح): «فاستعد».
(9) في (ح): «في دمه».(7/306)
%(4/1815)%
وقولها: «ولكن اجتهلته الحمية» كذا رواية الجلودي، وعند ابن ماهان احتملته، أي: حملته، والمعنى واحد. وهو أن الحمية حملته على الغضب حتى صدر (1) عنه خلق الجاهلية. وبين السعدين ما بين الكلمتين، والله يؤتي فضله من يثاء. وثار (2) الحيان: تواثب القبيلان؛ الأوس والخزرج .=(7/372)=@
وقوله: «فإنَّه قد بلغني كذا وكذا» هو كناية عما رميت به من الإفك، وهذا يدلّ على أن: كذا وكذا يكنى بها عن الأحوال، كما يكنى بها (3) عن الأعداد، وقد تقدم .
وقوله (4) : «إن كنت ألممت (5) بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه» من الإلمام، وهو النزول النادر غير المتكرر، كما قال:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا . .. ... .. .. .. .... ... ..
أي: متى يقع منك هذا النادر؛ وهو أصل اللمم. %(4/1816)%
وقوله: ((فإن العبد إذا اعترف بذنبه (2) ثم تاب تاب الله عليه» دليل على: أن مجرد الاعتراف لا يغني عن التوبة، بل إذا اعترف به متنصلا نادما، وقد تقدَّم القول في التوبة في كتابها. =(7/373)=@ &(7/307)&$
__________
(1) في (ح): «صدرت».
(2) قوله: «ثار» سقط من (ح).
(3) في (ح): «به».
(4) قوله: «وقوله» سقط من (ح).
(5) في (ح): «قد ألممت».(7/307)
وقولها: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة؛ أي: انقبض وارتفع، إنَّما (1) كان ذلك؛ لأنَّ الحزن والموجدة، قد انتهت نهايتها، وبلغت غايتها، ومهما انتهى الأمر إلى ذلك جف الدمع لفرط حرارة المصيبة، كما قال الشاعر: عيني سحا ولاتشجا جل مصابي عن الدواء ان الأسى والبكاء جميعا ضدان كالداء والدواء %(4/1817)%
وقولها: ولشأني كان في نفسي أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى دليل على: أن الذي يتعين على أهل الفضل، والعلم، والعبادة، والمنزلة: احتقار =(7/374)=@ أنفسهم، وترك الالتفات إلى أعمالهم، ولا إلى أحوالهم، وتجريد النظر إلى لطف الله، ومنته، وعفوه، ورحمته، وكرمه، ومغفرته. وقد اغتر كثير من الجهال بالأعمال فلاحظوا أنفسهم بعين الاستحقاق (2) الكرامات، وإجابة الدعوات، وزعموا أنهم (3) ممن يتبرك بلقائهم، ويغتنم صالح دعائهم، وأنهم يجب احترامهم وتعظيمهم، فيتمسح بأثوابهم، وتقبل أيديهم، ويرون أن لهم من المكانة عند الله تعالى بحيث ينتقم لهم ممن تنقصهم في الحال، وأن يؤخذ من أساء الأدب عليهم من غير إمهال، وهذه كلها نتائج الجهل العميم، والعقل غير المستقيم؛ فإنَّ ذلك إنما يصدر من جاهل معجب بنفسه، غافل عن جرمه وذنبه، مغتر بإمهال الله له عن أخذه، ولقد غلب أمثال هؤلاء الأنذال في هذه الأزمان فاستتبعوا العوات، وعظمت بسببهم على أهل الدين المصائب والطوام، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وهذه نفثات مصدور، وإلى الله عاقبة الأمور. &(7/308)&$
__________
(1) في (ح): «وإنما».
(2) في (ح): «استحقاق».
(3) قوله: «أنهم» سقط من (ح).(7/308)
%(4/1818)%
وقولها: ((فما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه)) أي: ما برحه، ولا قام عنه. يقال: رامه يريمه ريما؟ أي: برحه ولازمه، ويقال: رمت فلانا، ورمت من عند فلان. قال الأعشى: أبانا فلا رمت من عندنا فإنا بخير إذا لم ترم =(7/375)=@
وأما رام: بمعنى: طلب. فيقال منه: رام يروم روما. والبرحاء على فعلاء: شدة الحمى وغيرها، وهو البرح أيضًا. يقال: لقيت منه برحا بارحا، ولقيت منه البرحين والبرحين - بضم الباء وكسرها - أي: الشدائد، والدواير. وسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: انكشف ما كان به، وزال عنه، وهو بالتشديد مبني لما لم يسم فاعله.
وقوله تعالى: {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة...» الآية أي: لا %(4/1819)% يحلف. يقال: آلى يؤلي، وائتلى يأتلي: بمعنى واحد، والفضل هنا: المال والسعة في العيش والرزق. وقولها: ((تساميني)) أي: تعاندني، وتضاهيني في الجمال والمكانة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، من السمو، وهو الارتفاع .=(7/376)=@ &(7/309)&$(7/309)
وقول زينب: ((أحمي سمعي وبصري)) أي: أمنعهما من عقوبة الله تعالى بالكف عن قول: سمعت، أو رأيت. أي: لم أر ولم أسمع، وما علمت إلا خيرًا، فعصمها الله من الهلاك بما رزقها من التثبت، والدين، والورع، مع أنها كانت تناصبها، وتنافسها في المرتبة، فكان كما قال من لا يجوز عليه الخطا ولا الكذب: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب} .
وقولها: ((وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها، فهلكت فيمن هلك)) أي: حدت حد القذف فيمن حد. %(4/1820)%
وقوله: «أسقطوا (1) لها به» كذا عند الجلودي. أي: كتموها بسقط من القول. يقال: أسقط الرجل: إذا قال كلاما رديئًا سقط فيه. وعلى هذا فيكون الضمير في (به) عائدا على القول. أي: أسقطوا لها بالقول.
وقيل معناه: صرحوا لها بالفحش، ولذلك لما سمعته بريرة (2) أعظمت ذلك، وأنكرته، وقالت: سبحان الله! والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر.
وقد وقعت هذه الكلمة التي هي: سبحان الله، في هذا الحديث على نحو ما جاءت في قوله: {سبحانك هذا بهتان عظيم} والمقصود بذكرها في هذه المواضع إعظام نسبة السوء إلى عائشة وتحقيق براءتها، وكان المتكلم بها يريد أن يقول: التنزيه والبراءة لله من أن يجري ذلك على مثل عائشة، وأن يوقعه في الوجود، والله تعالى أعلم. =(7/377)=@ &(7/310)&$
__________
(1) في (ح): «حتى أسقطوا».
(2) في (ح): «بريدة».(7/310)
وقوله: «أشيروا علي في أناس أبنوا أهلي» أي: اتهموهم، وقذفوهم بالفاحشة، ويقال: رجل مابون: أي: معروف بخلة من السوء؛ أي: منهم. ويقال: أبنه - بالفتح - في الماضي، يأبنه (1) - بالضم والكسر - في المضارع. %(4/1821)% و(قول صفوان: والله (2) ما كشفت عن (3) كلف أنثى قط) هو بفتح النون، وهو الثوب هنا، وأصله الساتر، وهو كناية عن الجماع. أقسم أنه ما جامع امرأة قط. وكأنه لم يكن له أرب في النساء، والله أعلم .=(7/378)=@
وقوله: «وكان الذين تكلموا به: مسطح (4) ، وحمنة، وحسان»، وقد ذكرنا الخلاف في حسان في باب فضائله. هل صرح بالقذف أم لا؟ وهل حذ أم لا؟ والصحيح: أنه حد بما (5) رواه أبو داود عن عائشة قالت: لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك، وتلا القرآن، فلما نزل أمر بالرجلين والمرأة كل (6) فضربوا حدهم وسماهم: حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة (7) ، وحمنة بنت جحش. وفي كتاب الطحاوى: ثمانين ثمانين. وأما حمنة ومسطح، فحدا، ولم يسمع بحد لعبد الله بن أبي، والظاهر من الأخبار والأحاديث: أنه لم يحد. وإنما لم يحد عدو الله؛ لأنَّ الله قد أعد له في الآخرة عذابا عظيما؛ لكان نقصا من عذابه في &(7/311)&$
__________
(1) في (ح): «يابنته».
(2) قوله: «والله» ليس في (ح).
(3) قوله: «عن» سقط من (ح).
(4) في (ح): «مسطحا».
(5) في (ح): «لما» بدل «بما».
(6) قوله: «كل» سقط من (ح).
(7) قوله: «بن أثاثة» سقط من (ح).(7/311)
الأخرى، وتخفيفا عنه، وقد أشار الله تعالى إلى هذا بقوله: {والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم}. مع أن الله تعالى قد شهد ببراءة عائشة وبكذب كل من رماها، فقد %(4/1822)% حصلت فائدة (1) الحد؛ إذ مقصوده أبى إظهار كذب القاذف وبراءة المقذوف، كما قال تعالى: {فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون}، وإنما حد هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم (2) من القذف، حتى لا يبقى (3) عليهم تبعة من ذلك في الآخرة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحدود إنها كفارة لمن أقيمت عليه، كما تقدم في حديث عبادة بن الصامت.
ويحتمل أن يقال: إنما ترك حد ابن أبي استئلافا لقومه، واحتراما لابنه، وإطفاء لثائرة الفتنة المتوقعة من ذلك، وقد كانت ظهرت مباديها من سعد بن عبادة، ومن قومه كما تقدَّم. ومعى يستوشيه: يطلبه، ويبحث عنه، ويشنعه. يقال: فلان يستوشي فرسه: بعقبه؛ أي: يطلب ما عنده من الجري، ويستخرجه.
وحديث الإفك هذا فيه أحكام كثيرة لو تتبعت لطال الأمر، وأفضى إلى الملال ومن تفقدها من أهل الفطنة وجدها .=(7/379)=@ &(7/312)&$
__________
(1) في (ح): «لا الحد».
(2) في(ح): «عنها».
(3) في (ح): «لا تبقى».(7/312)
ووقعت هذه القضية في غزوة المريسيع، وهو ما في ناحية قديد (1) مما يلي الساحل. أغار النبي صلى الله عليه وسلم على (2) بني المصطلق وهم غارون؛ أي: غافلون، وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل المقاتلة (3) ، وأسر وكانت هذه الغزوة في شعبان سنة ست من الهجرة. هذا أشهر الأقوال عند أهل السير، وعلى هذا ينشأ بحثا (4) يلزم منه (5) ومن بعض النقلة؛ فإنَّه قد تقدَّم في هذا الحديث أن سعد بن معاذ هو الذي راجع سعد ابن عبادة حتى سرى أمرهما، ولم يختلف أحد من الرواة في أن سعد بن معاذ مات في منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني قريظة، بعد أن حكم بحكم الله، وذلك سنة أربع، ولم يدرك غزوة المريسيع. هذا قول أهل النقل. قلت: فعلى هذا يكون ذكر سعد بن معاذ في هذا الحديث وهما وغلطا، وكذلك قال أبو عمر بن عبد البر. قال: وإنما تراجع في ذلك سعد بن عبادة وأسيد ابن حضير، وكذلك ذكر ابن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد %(4/1823)% الله (6) ، وهو الصحيح. قال القاضي أبو الفضل: قال ابن عقبة: إن غزوة المريسيع كانت سنة أربع في سنة غزوة الخندق، وقد ذكر البخاري اختلاف ابن إسحاق، وابن عقبة في ذلك. قال: وقد وجدت الطبري ذكر ذلك عن الواقدي: أن المريسيع سنة خمس، قال: وكانت الخندق وتريظة بعدها. قال: ووجدت (7) القاضي إسماعيل قال: اختلفوا في ذلك، والأولى: أن تكون المريسيع قبلها. قلت: فعلى هذا يستقيم ما رواه مسلم والبخاري من ذكر سعد بن معاذ، ولا يكون ذكره وهما، والله تعالى أعلم .=(7/380)=@ &(7/313)&$
__________
(1) في (ح) «قريد».
(2) في (ح): «فيها على».
(3) قوله: «المقاتلة» سقط من (ح).
(4) في (ح): «بحث».
(5) في (ح): «عليه» بدل «منه».
(6) قوله: «بن عبد الله» سقط من (ح).
(7) من قوله: «الطبري ذكر...» إلى هنا سقط من (ح).(7/313)
و(قول جابر: إن عبد الله بن أبي كانت له جاريتان: مسيكة وأميمة)، يريدهما على الزنى. روى غيره: أنهن كن (1) ستا. قال: معاذة، ومسيكة، وأروى، وقتيلة (2) ، وعمرة، ونبيهة، فكان يحملهن على الزنى، ويأخذ منهن أجورهن. والفتيات: جمع فتاة، والفتيان: جمع فتى. وهم المماليك. والبغاء: الزنى. &(7/314)&$
__________
(1) في (ح): «كنا».
(2) في (ح): «وقبيلة».(7/314)
وقوله: {إن أردن تحصنا} أي: عفافا، ولا دليل خطاب لهذا الشرط، ولا يجوز إكراههن عليه بوجه، سواء أردن تحصنا، أو لم (2) يردن، وإنما علق النهي على الإكراه على إرادة التحصن؛ لأنَّ الإكراه لا يتصور إلا مع ذلك. فأمَّا إذا رغبت في الزنى فلا إكراه يتصور.
وقوله: {ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم} أي: لمن تاب من ذلك. وكان الحسن يقول: غفور لهن والله، لا لمكرهن، مستدلا على ذلك بإضافة الإكراه إليهن .=(7/381)=@ %(4/1824)%
(1) ورد في التفسير الكبير للفخر الرازي: أميمة بدلا من نبيهة. (2) في (ز): لا.
ومن سورة الفرقان
قوله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر (1) } هذه الآية معطوفة على ما قبلها من الأوصاف التي وصف بها عباد الرحمن، وهو &(7/315)&$
__________
(1) زاد بعدها في (ح): «الآيتين».(7/315)
من باب عطف الصفات بعضها على بعض، وكذلك ما بعد هذه الآية من الآيات معطوف بعضها على بعض، والكل معطوف على قوله: {الذين يمشون على الأرض هونا} إلى أن قال: {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا...} إلى قوله: {مقاما}، وهذه الجملة هي خبر المبتدأ الذي هو: {وعباد الرحمن}، وما بين المبتدأ والخبر أوصاف لهم، وما تعلق بها، وقد تضمنت هذه الآية مدح من لم تقع منه هذه الفواحش الثلاث؛ التي هي: الشرك بالله، والقتل: العدوان، والزنى، وذم من وقعت منه، ومضاعفة العذاب عليه، وهي محمولة على ظاهرها عند الجمهور، وعليه فيكون معنى قوله: {إلا بالحق} أي: بأمر موجب للقتل شرعا. وذلك الأمر هو المذكور في قوله عليه السلام: «لا يحل دم أمرى مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنى بعد إحصان، أو كفر بعد إيمان، أو قتل نفس بغير نفس». وقد صرف هذه الآية عن ظاهرها بعض =(7/382)=@
( 1) رواه أبو داود ( 2 0 5 4)، والترمذي (9 5 1 2)، والنسائي (7/ 92) .
أهل المعاني فقال: لا يليق بمن أضافهم الرحمن (1) إليه إضافة الاختصاص، ووصفهم بما ذكرهم من صفات المعرفة والتشريف، وقوع هذه الأمور القبيحة منهم حتى يمدحوا بنفيها؛ لأنَّهم أعلى %(4/1825)% وأشرف. فقال: معناها: لا يدعون الهوى إلها، ولا يذلون أنفسهم بالمعاصي فيكون قتلا لها. ومعنى: ((إلا بالحق» أي: إلا بسكين الصبر، وسيف المجاهدة، ولا ينظرون إلى نساء(ا) ليست لهم بمحرم بشهوة، فيكون سفاحا، بل: بالضرورة، فيكون كالنكاح مباحًا. قلت: وهذا كلام رائق، غير أنَّه عند السير مائق (2)، وهي نبعة باطنية، ونزعة باطلة (2) ، له إنما يصح تشريف عباد الرحمن باختصاص الإضافة بعد أن تحلوا &(7/316)&$
__________
(1) قوله: «الرحمن» ليس في (ح).
(2) في (ح): «باطلية».(7/316)
بتلك الصفات الحميدة، وتخلوا عن نقائض ذلك من الأوصاف الذميمة، فبدأ في صدر هذه الآيات بصفات التحلي تشريفا لها، ثم أعقبها بصفات التخلي تقعيدا لها. والله تعالى أعلم. وقد تقدَّم القول على: {إلا من تاب} وعلى قول ابن عباس في سورة النساء. وفي هذه الآية دليل على: أن الكفار مخاطبون بالفروع. وقد استوفينا ذلك في الأصول، وفي الآية مباحث تطول. =(7/383)=@ %(4/1826)%
ومن سورة الشعراء
قوله: «فأني لا أملك لكم من الله شيئا» أي: لا أقدر على دفع عذابه عن أحد، ولا على جلب ثواب لأحد، أي: فلا ينفع القرب في الأنساب مع البعد في الأسباب.
وقوله: «غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها» أي: سأصلها الصلة التي تليق بها، فصلة المؤمن: إكرامه، ومبرته. وصلة الكافر: إرشاده ونصيحته، وقد تقدم القول في تفصيل صلة الأرحام. &(7/317)&$(7/317)
وقوله: {وأنذر عشيرتك الأقربين} «ورهطك منهم المخلصين» ظاهر هذا: أن هذا كان قرآنا يتلى، وأنه نسخ؛ إذ لم يثبت نقله في =(7/384)=@ المصحف، ولا تواتر، ويلزم على ثبوته إشكال، وهو أنه كان يلزم عليه ألا ينذر إلا من آمن من عشيرته؛ فإنَّ المؤمنين هم الذين يوصفون بالإخلاص في دين الإسلام، وفي حب النبي لا المشركون؛ لأنَّهم ليسوا على شيء من ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم دعا عشيرته كلهم - مؤمنهم وكافرهم - وأنذر جميعهم، فلم يثبث ذلك نقلا ولا معنى، فالحمد لله الذي رفع عنا الإشكال والعناء. وسفح الجبال: جانبه، وهو بالسين. %(4/1827)%
وقوله: {تبت يدا أبي لهب وتب (1) } أي: قد خسرت، والتتاب: =(7/385)=@ الخسران، ونسب التباب لليد، والمراد صاحب اليد؛ لأنَّ اليد أصل في الأعمال. ولهب: فيها لغتان؛ السكون في الهاء وفتحها، واسم أبي لهب: عبد العزى، ولقب بأبي لهب لإشراق وجنتيه؛ كأنهما كانتا تلتهبان نارًا. %(4/1828)% قلت: وأولى من ذلك كله أن الله تعالى أجرى عليه هذا اللقب لعلمه بمآل أمره، وأنه من أهل النار، كما أجرى على أبي جهل لقب: الجهل، وسلبه أبا الحكم، وحكي في قول مصيب: لكل أمرىء من اسمه نصيب، ألا يقتضي العجب من قوله: {سيصلى نارا ذات لهب}، وقوله: {وتب} معطوف على الأول، وكلاهما بمعنى (2) الدعاء، وقيل: الأول: دعاء، والثاني: إخبار بإجابة الدعاء فيه، ويؤيده قراءة ابن مسعود، وابن عباس - رضي الله عنهم -: (وقد تب)، وقيل: كلاهما خبر، فالأول: خسرت يداه مراده من الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ كان مراده قتله، وإخفاء كلمته. وتب: هو بما أصابه من العذاب، وقيل: تب في نفسه، وتب في ولده وكسبه؛ إذ لم يغنيا عنه شيئًا، ولا جزا له نفعا. &(7/318)&$
__________
(1) قوله: «وتب» سقط من (ح).
(2) قوله: «بمعنى» سقط من (ح).(7/318)
وقوله: {حمالة الحطب} الجمهور: على رفع حمالة على الصفة أو البدل، أو على أنه خبر ابتداء (1) محذوف، وقرأه عاصم بالنصب على الذم، ويجوز أن يكون حالا، وسميت بذلك؛ لأنَّها كانت تلقي الشوك في طريق النبي صلى الله عليه وسلم لتؤذيه، قاله الضحاك. وقيل؛ لأنَّها كانت نقالة للحديث نمامة، فكانت تشعل نار العداوة، كما تشعل النار في الحطب.
قال الشاعر:
إن بني الأذرم حمالو الحطب
هم الوشاة في الرضا وفي الغضب =(7/386)=@
وقال قتادة: لأن مصيرها إلى النار كالحطب. يقال: فلان يحتطب على ظهره، أي: يجني على نفسه.
وقوله: {في جيدها حبل من مسد} الجيد: العنق، وجمعه: أجياد. والمسد -هنا-: الليف، وسمي الليف مسدا؛ لأنَّه يفسد منه المسد، وهو: الحبل؛ أي: يفتل. قال الشاعر: %(4/1829)% أعوذ بالله من ليل يقربني الى مضاجعه كالدلو بالمسد &(7/319)&$
__________
(1) في (ح): «مبتدأ».(7/319)
أي: الحبل المفتول، وأصل المسد: الفتل. يقال: دابة ممسودة؛ أي: شديدة الأسر. أي: يجعل في عنقها حبل من نار مفتول، ولعله السلسلة (1) التي قال الله تعالى: {في سلسلة ذرعها سبعون ذرعا فاسلكوه (2) }، والله تعالى أعلم .
ومن سورة ألم تنزيل السجدة والأحزاب
قول الله تعالى: {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون} فسرها أى بالأربعة التي ذكر، مصائب الدنيا: رزاياها من الأمراض والآلام، وذهاب الأموال والأهلين، ونحو ذلك. والروم: يعني بها قوله تعالى: {آلم غلبت الروم (3) ...}. والدخان يعني به قوله =(7/387)=@ تعالى: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين}، وقد تقدَّم الخلاف فيه. والبطشة الكبرى: هي ما أوقع الله تعالى بقريش يوم بدر من الأسر والقتل، وقال مجاهد: الأدنى: عذاب القبر، واصبر: عذاب الاخرة. وقال جعفر الصادق: الأدنى غلاء الأسعار، واسبر خروج المهدي بالسيف. وقال أبو سليمان الذاراني: الأدنى: الهوان. واسبر: الخذلان. %(4/1830)% وقوله: {لعلهم يرجعون} أي: لكي يرجعوا عن غيهم. قاله الفراء، وعلى مذهب سيبويه: ليصلوا الى حال يرجى لهم ذلك. &(7/320)&$
__________
(1) في (ح): «ولعله هو».
(2) قوله: «فاسلكوه» ليس في (ح).
(3) زاد بعدها في (ح): «الآية».(7/320)
وقوله: {إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم} كان ذلك في غزوة الخندق الذى حفره المسلمون حول (1) المدينة برأي سلمان، وتسمى غزوة الأحزاب؛ لأنَّ الكفار تحزبوا أحزابا وتجمعوا جموعا حتى اجتمع في عددهم (2) خمسة عشر ألفا من أهل نجد وتهامة، ومن حولهم أو نحوهم، وحاصروا المسلمين في المدينة شهرا، ولم يكن بينهم (3) قتال إلا الرمي بالنبل والحصى، ونقضت قريظة ما كان بينهم، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد، وحينئذ جاء المسلمين عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم. وزاغت الأبصار: يعني مالت عن سنن القصد فعل المرعوب. وقال قتادة: شخصت. وبلغت القلوب الحناجر، أي: قاربت الخروج من الضيق والروع وشدة البلاء والجهد، وكان وقت بلاء وتمحيص، ولذلك نجم في كثير من الناس النفاق، وظهر منهم الشقاق. =(7/388)=@ وقوله: {وتظنون بالله الظنونا} أي: تشكون في الوعد بالنصر، يخبر عن المنافقين. أو يكرن معناه: أنهم خافوا من أن يخذلوا في ذلك الوقت؟ فإنَّ وقت وقوع النصر (4) الموعود غير معين. وهذا أحسن من الأول، ويؤيده قوله تعالى: {هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا} امتحنوا (5) بالصبر على الحصار وشدة الجوع، ويخزلوا بالخوف من أن يخذلهم الله في ذلك الوقت، ويديل عدوهم عليهم، كما فعل يوم أحد. وقد تقدَّم الخلاف في غزوة الخندق متى كانت .&(7/321)&$
__________
(1) في (ح): «يوم» بدل «حول».
(2) من قوله: «برأي سلمان...» إلى هنا سقط من (ح).
(3) في (ح): يشبه «منهم».
(4) قوله: «وقوع» سقطمن (ح).
(5) في (ح): «وامتحنوا».(7/321)
%(4/1831)%
ومن سورة تنزيل
قول اليهودي: إن الله يمسك السموات على أصبع. .. الحديث إلى آخره). هذا كل (1) قول اليهودي. لا قول النبي صلى الله عليه وسلم، والغالب على اليهود أنهم يعتقدون الجسمية، وأن الله تعالى شخص ذو جوارح، كما تعتقده غلاة الحشويه في هذه الملة، وضحك النبي صلى الله عليه وسلم منه إنما هو تعجب من جهله، ألا ترى أنه قرأ عند ذلك: {وما قدروا الله حق قدره} أي: ما عرفوه حق معرفته، ولا عظموه حق تعظيمه. وهذه الرواية هي الرواية الصحيحة المحققة، فأمَّا رواية من زاد في هذا اللفظ تصديق له فليست بشيء؛ لأنَّها من قول الراوي، وهي باطلة؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم» لا يصدق الكاذب، ولا المحال، وهذه الأوصاف في حق الله تعالى محال، بدليل =(7/389)=@
( 1) هي صورة الزمر. ما قدمناه غير مرة، وحاصله أنه لو كان تعالى محال(ا) وأصابع &(7/322)&$
__________
(1) في (ح): «كله».(7/322)
وجوارح على نحو ما هو المعروف عندنا لكان كواحد! منا، ويجب له من الافتقار والحدث (1) والنقص والعجز ما يجب لنا، وحينئذ تستحيل عليه الإلهية، ولو جازت الإلهية لمن كان على هذه الأوصاف لجاز أن يكون كل واحد منا إلها (2) ، ولصحت الإلهية للدجال (3) ، ولصدق في دعواه إياها، وكل ذلك كذب ومحال، والمفضي إليه كذب ومحال، فقول اليهودي كذب ومحال، ولذلك أنزل الله تعالى في الرد عليه: {وما قدروا الله حق قدره} وإنما تعجب النبي من جهله، فوهم الراوي وظن أن ذلك التعجب تصديق، وليس كذلك. فإنَّ قيل: فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن، %(4/1832)% فقد أخبر (4) بأن له أصابع. فالجواب: أنه إذا جاءنا مثل هذا في كلام الصادق تأولناه، أو توقفنا فيه إلى أن يتبين وجهه، مع القطع باستحالة ظاهره، لضرورة صدق من دلت المعجزة على صدقه. فأمَّا إذا جاءنا مثل هذا على لسان من يجوز عليه الكذب، بل: من أخبرنا الصادق عن نوعه بالكذب والتحريف كذبناه، وقبحناه، ثم لو سلمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صدقه، وقال (5) له: صدقت لما كان تصديقا له في المعنى، بل: في النقل، أي في نقل ذلك عن كتابه أو عن نبيه، وحينئذ نقطع بأن ظاهره غير مراد، ثم هل تتوفف في تعيين تأويل ونسلم، أو نبدي تأويلا له وجه في اللسان وصحة في العقل على الرأيين اللذين لآئمتنا وقد تقدما. وقد قلنا: إن الأصبع يصح أن يراد به القدرة على الشيء وشعاره تقليبه، كما يقول من استسهل شيئًا واستخفه مخاطبا لمن استقله: أنا أحمله على أصبعي أو أرفعه بأصبعي وأمسكه بخنصري. وكما يقول من طاع بحمل شيء: أنا =(7/390)=@
(1) الأزلى أن نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه في قرأنه، من غير تشبيه ولا تجسيم ولا تعطيل ولا تأويل البر كمثله ضوء وهو السميع البصير، الثورى: 111. ( 2) رواه أحمد ( 2/ 68 1)، ومسلم ( 4 5 6 2). أحمله &(7/323)&$
__________
(1) في (ح): «والحدوث».
(2) قوله: «منا» سقط من (ح).
(3) في (ح): «الدجال».
(4) في (ح): «أخبرنا».
(5) في (ح): «أو قال».(7/323)
على عيني وأرفعه على رأسي. يعني به: الطواعية، وما أشبه ذلك مما في معناه، وهو كثير، ولما كان ذلك معروفا عند العقلاء متداولا بينهم، خوطبوا بذلك جريا على (1) منها جهم، وتوسعا معلوما عندهم. وعلى هذا فيمكن حمل الحديث وما في معناه على نحو من هذا، وبيان ذلك: أن السموات والأرض، وهذه الموجودات عظيمة أقدارها في إدراكنا، وكبير خلقها في حقنا، فقد يسبق الوهم الغالب على الإنسان، أن خلقها وإمساكها على الله تعالى كبير، وتكلفها عسير، فنفى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوهم بهذا الحديث، وبينه على طريق التمثيل بما تعارفناه، فكأنه قال: خلق بيده المذكورات (2) العظيمة، وإمساكها في قدرة الله تعالى كالشيء الحقير الذي تجعلونه بين أصابعكم، وتهزونه بين أيديكم، وتتصرفون فيه كيف شئتم، ولهذا أشار بقوله: «ثم يقبض أصابعه ويبسطها» وبقوله: «ثم يهزهن» أي: هن (3) في قدرته كالحبة مثلا في حق أحدنا، أي: لا يبالي بإمساكها، ولا بهزها، ولا تحريكها، ولا القبض والبسط عليها، ولا يجد في ذلك صوبة، ولا مشقة، ومن لا يقنعه هذا التفهيم فليس له إلا سلامة التسليم، والله بحقائق الأمور عليم. %(4/1833)%
وقوله تعالى: «أنا الملك» أي: الحقيق بالملك والملك؟ إذ لو اجتمع ملوك الدنيا من أولها إلى آخرها، وجميع المخلوقات لما استطاعوا على إمساك مقدار ذرة من الأرض (4) ، ولا من السموات، وهذا معنى قوله: أنا الملك في حديث اليهودي. فأمَّا قوله: «أنا الملك» في حديث ابن عمر، فمقصوده إظهار انفراده تعالى بالملك عند انقطاع دعاوى المذعين، وانتساب المنتسبين (5) ، إذ قد ذهب كل ملك وملكه، وكل جبار ومتكبر وملكه، وانقطعت نسبهم، ودعاويهم، وهو نحو قوله تعالى: {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار}. والإمساك المذكور في حديث اليهودي &(7/324)&$
__________
(1) قوله: «على» مكرر في (ح).
(2) من قوله : «عظيمة أقدارها ...» إلى هنا سقط من (ح).
(3) قوله: «هن» سقط من (ح).
(4) في (ح): «الأرضين».
(5) في (ح): «واكتساب المكتسبين».(7/324)
خلاف الطي والقبض الذي في حديث ابن عمر؛ فإنَّ =(7/391)=@ ذلك الإمساك هو استدامة وجود السموات والأرض إلى يوم يطويها ويقبضها ويبدلها، كما قال تعالى: {إن الله يمسك السموات والأرض تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا}. وقد بينا القبض والطي في ا لأنعام.
وقوله في حديث ابن عمر: «ثم يطوي الأرض بشماله» كذا جاء في هذه الرواية بإطلاق لفظ الشمال على يد الله تعالى، =(7/392)=@ ولا يكاد يوجد في غير هذه الرواية، وإنما الذي اشتهر في الأحاديث: ((وبيده الأخرى» كما جاء في حديث أبي موسى الأشعري المتقدِّم، وقد تحرر النبي عليه الصلاة والسلام من إطلاق لفظ الشمال على الله تعالى فقال: «وكلتا يديه يمين)) لئلا يتوهم نقص في صفة الله تعالى، فإن الشمال في حقنا %(4/1834)% أضعف من اليمين وأنقص، كما تقدَّم، فنفى النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى ذلك (1) ، لكنه جاء في هذا الحديث كما ترى على المقابلة المتعارفة في حقوقنا، والله تعالى أعلم. وقوله: «ويقبض أصابعه ويبسطها» ظاهره: أنه خبر عن الله تعالى، ووجهه ما ذكرناه، وقال بعض علمائنا: هو خبر عما فعله النبي صلى الله عليه وسلم فإنَّه قبض أصابعه ويبسطها (2) ، فيخف الإشكال، وبكون ذلك إشارة بالحواس إلى المعاني، والله تعالى أعلم.
وقوله في المنبر: ((أنه تحرك من أسفل شيء منه)) أي: أنه تحرك من أسفله إلى أعلاه. أو تحرك الأسفل بتحريك الأعلى. وظاهر حركة المنبر أنها: إنما كانت لحركة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن تكون حركة المنبر مساعدة لحركة النبي صلى الله عليه وسلم كرامة وزيادة في دلالة صدقه، كحنين الجذع، وتسبيح الحصى وما أشبه ذلك. =(7/393)=@ &(7/325)&$
__________
(1) في (ح): «ذلك عن الله تعالى».
(2) في (ح): «وبسطها».(7/325)
%(4/1835)%
ومن سورة حم السجدة
قوله: «قليل فقه قلوبهم» أي: فقههم قليل، أو معدوم، وكثير شحم بطونهم: أي: هم سمان، إذ ليس لهم هم في عبادة، ولا حظ من صوم، ولا مجاهدة. وإنما همهم أن يأكلوا أكل الأنعام من غير مبالاة باكتساب الآثام.
وفيه تنبية على سبب قلة فهمهم، فإنَّ البطنة تذهب بالفطنة.
وقوله: {وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم} أي: ما كنتم تتقون شهادة (1) تلك الجوارح، فتستتروا عنها بالامتناع عن المعاصي، قاله مجاهد. قال قتادة: وما كنتم تظنون ذلك. وقوله: {ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعلمون} أي: شككنم في ذلك لجهلكم.
وقوله: {وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم (2) } أي: وذلك (3) ظنكم الواتع بكم اللازم لكم، فهي جملة ابتدائية، وأرداكم: خبر ثان، قالها (4) =(7/394)=@ الزجاج، وقال %(4/1836)% غيره: حال؟ أي: قد أرداكم؟ أي: أهلككم. مقاتل (5) : أغواكم. وقيل؟ هو خبر المبتدأ الأول، وظنكم بيان ذلك (6) . &(7/326)&$
__________
(1) قوله: «شهادة» سقط من (ح).
(2) قوله: «أرداكم» ليس في (ح).
(3) في (ح): «وذلكم».
(4) في (ح): «قاله».
(5) في (ح): «اهلكهم كمقاتل».
(6) في (ح): «ذلكم».(7/326)
وقوله: ((فاصبحتم من الخاسرين))، أي: صرتم خاسرين في صفقتكم، مغبونين في بيعكم (1) .
ومن سورة الدخان
قد تقدَّم ذكر من خالف ابن مسعود في تفسيره للدخان المذكور في هذه الآية فيما تقدَّم، وما أنكره يروى فيه حديث مرفوع من حديث أبي سعيد الخدري على نحو ما ذكر وزاد: «فيدخل الدخان جوف الكافر والمنافق (2) حتى ينتفخ» واستغضب: بمعنى: غضب بترك إجابة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: ((تصغبت (3) عليه)) أي: أبت الدخول في الإسلام. وسبع (2) يوسف هي المذكورة في قوله تعالى: {ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون}. وقد تقدَّم أن الجدب والقحط يقال عليه: سنة، ويجمع: سنين. =(7/395)=@ &(7/327)&$
__________
(1) في (ح): «بيعتكم».
(2) في (ح): «الكافرين والمنافقين».
(3) في (ح): «وتصعبت».(7/327)
%(4/1837)%
وقوله: «حتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينها وبينه كهيئة الدخان من الجهد» لا شك في أن تسمية هذا دخانا تجوز، وحقيقة الدخان ما ذكر في حديث أبي سعيد، والذي حمل عبد الله بن مسعود على هذا الإنكار قوله (1) : {إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون}، ولذلك قال: أفيكشف عذاب الآخرة؟ وهذا لا دليل فيه على نفي ما قاله ذلك القائل؛ لأنَّ حديث أبي سعيد إنما دل على: أن ذلك الدخان أمة يكون من أشراط الساعة قبل أن تقوم القيامة، فيجوز (2) انكشافه كما تنكشف فتن الدجال ويأجوج ومأجوج، وأما الذي لا ينكشف فعذاب الكافر بعد الموت، فلا معارضة بين الآية والحديث، والشأن في صحة الحديث.
وقوله: «استغفر الله لمضر» كذا صح في كتاب مسلم من الاستغفار، ووقع في كتاب البخاري: استسق الله لمضر، من الاستسقاء، وهو مناسب للحال التي الزجاج، وقال غيره: حال؛ أي: قد أرداكم؛ أي: أهلككم. مقاتل: أغواكم. وقيل: هو خبر المبتدأ الأول، وظنكم بيان ذلك.
وقوله: ((فأصبحتم من الخاسرين))، أي: صرتم خاسرين في صفقتكم، مغبونين في بيعكم .
(23) ومن سورة الدخان قد تغذم ذكر من خالف ابن مسعرد في تفسيره للذخان المذكور في هذه الاية فيما تتذم، وما أنكره يروى فيه حديث مرفوع من حديث أبي سعيد الخدرئ - رض الله عنه - على نحو ما ذكر وزاد: «فيدخل الدخان جوف الكافر والمنافق حف ينتفخ»ا، راستعصت: بمعنى: عصت بترك إجابة النبي تتهحغ. وقوله: تصئبت عليه) أي: أبت الدخول في الإسلام. وسبع (2) يوسف هي المذكورة في قوله تعالى: ا ثم ياق من تجثلى ذبك سنغ شلاذ جمن ماتتمثم ئن إلاتل! قغانخصنرن، ريوسف: 148. وقد تقدَّم أن الجدب والقحط يقال عليه: سنة، ويجمع: سنين .
ءة ط سعز.-. -ج ش -س + - 1 - أصابثهم الرفاهية، قال: عادوا إلى ما كانوا عليه .
قال :
فأنزل اله 9
وقوله: حتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينها وبينه كهيئة الدخان من الجهد لا شك في أن تسمية هذا دخانا تجوز، وحقيقة الدخان ما ذكر في حديث أبي سعيد، والذي حمل عبد الله بن مسعود على هذا الإنكار قوله: {إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون}، ولذلك قال: أفيكشف عذاب الآخرة؛ وهذا لا دليل فيه على نفي ما قاله ذلك القائل؛ لأنَّ حديث أبي سعيد إنما دل على: أن ذلك الدخان يكون من أشراط الساعة قبل أن تقوم القيامة، فيجوز انكشافه كما تنكشف فتن الدجال ويأجوج ومأجوج، وأما الذي لا ينكشف فعذاب الكافر بعد الموت، فلا معارضة بين الآية والحديث، والشأن في صحة الحديث. وقوله: استغفر الله لمضر) كذا صح في كتاب مسلم من الاستغفار، ووقع في كتاب البخاري: استسق الله لمضر، من الاستسقاء، وهو مناسب للحال (3) التي =(7/396)=@ كانوا عليها من القحط، غير أن الذي يبعد (4) إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على القائل بقوله لمضر: فإنَّ طلب السقيا (5) لهم لا ينكر، وإنما الذي ينكر طلب الاستغفار لهم. وقد فسر البطشة بأنها يوم بدر. وأما التزام (6) : فهو المذكور بقوله (7) تعالى: {فسوف يكون لزاما}، وقد اختلف فبه فقيل: هو العذاب الدائم، وأنشدوا: فأمَّا ينجوا من خسف الأرض فقد لقيا حتوفهما لزاما &(7/328)&$
__________
(1) زاد بعدها في (ح): «ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون».
(2) في (ح): «فيكون».
(3) إلى هنا مكرر
(4) في (ح): «يبعده».
(5) في (ح): «السقي».
(6) في (ح): «اللزام».
(7) في (ح): «في قوله».(7/328)
وقال اخر: ولم أجزغ من الموت اللزام %(4/1838)%
وقال أبي: هو القتل بالسيف يوم بدر، وإليه نحا ابن مسعود، وهو قول أكثر الناس، وعلى هذا فتكون البطشة واللزام شيئا واحدا. وقال القرطبي (2) وأبو عبيدة: هو الهلاك والموت، وأما الروم؟ فقد روى الترمذي من حديث نيار (1) بن مكرم الأسلمي قال ج لما نزلت: {آلم غلبت الروم} الآيتين، فكانت =(7/397)=@ في اللسان: حنف. مادة: لزم. (2) المقصرد به هنا: في بن مخلد المتوفى سنة (276هـ)
فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم على فارس؛ لأنَّهم وإتاهم أهل كتاب، وكانت قريش يحبون ظهور فارس على الروم؛ لأنَّهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان، ولما نزلت هذه الآية خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة بالآية، فقال كبراء المشركين: ألا نراهنك على ذلك؛ قال: بلى. وذلك قبل تحريم الرهان، فارتهن أبو بكر رالمشركون، وأقبضوا الرهان، وقالوا لأبي بكر: كم تجعل البضع؟ البضع ثلاث سنين إلى تسع، قسم بيننا وبينك وسطا ننتهي إليه، فسموا بينهم ست سنين، فمضت الست سنين قبل أن يظهروا، فأخذ المشركون رهن أبي بكر، ولما (2) دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس، فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية سنين، لأن الله تعالى قال:{في بضع سنين} قال: وأسلم بعد ذلك ناس كثير. قال: هذا حديث حسن صحيح (1)، وسيأتي القول في انشقاق القمر في سورته. %(4/1839)%
ومن سورة الحجرات
ثابت هذا هو ثابت بن قيس بن شماس بن مالك الخزرجي، يكنى أبا محمد بأبنه، وقيل (3) : أبا عبد الرحمن، قتل له يوم الحرة ثلاثة من الولد: محمد &(7/329)&$
__________
(1) في (ح): «نبار».
(2) في (ح): يشبه «فلما».
(3) في (ح): «ويقال».(7/329)
ويحيى وعبد الله، وكان خطيبا بليغا معروفا بذلك، كان يقال له: خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقال لحسان: شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما قدم وفد بني تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. =(7/398)=@
( 1) رواه الترمذي ( 3194).
وطلبوا المفاخرة، قام خطيبهم فافتخر في خطبته. ثم قام ثابت بن قيس فخطب خطبة بليغة جزلة فغلبهم، وقام شاعرهم وهو الأقرع بن حابس فأنشد:
أثيناك كيما يعرف الناس فضلنا اذا خالفونا عند ذكر المكارم وانا رؤوس الناس من كل منشر وأن ليس في أرض الحجاز كدارم
فقام حسان فقال :
بني دارم لا تفخروا ان فخركم يعود وبالا عند ذكر المكارم
هُبلتم علينا تفخرون وأنتم لنا خول من بين ظئر وخادم
فقالوا: خطيبهم أخطب من خطيبنا، وشاعرهم أشعر من شاعرنا، فارتفعت أصواتهم فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا (1) لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول} ولما نزلت جلس ثابت في بيته (2) ، فكان كما ذكر في الأصل، وقال عطاء الخراساني: حدثتني ابنة ثابت بن قيس، قالت: لما نزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي}، دخل أبوها بيته، وأغلق عليه بابه، ففقده النبي عليه الصلاة والسلام، فأرسل إليه يسأله: ما خبره؛ فقال: أنا رجل شديد الصوت أخاف أن يكون حبط عملي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لست منهم، بل تعيش بخير، وتموت بخير» قال: %(4/1840)% ثم أنزل الله: {إن الله لا يحب كل مختال فخور}، فأغلق بابه وطفق يبكي، ففقده النبي صلى الله عليه سلم فأرسل إليه ما خبر، فقال: يا رسول الله إني أحب الجمال وأحب أن أسود قومي، فقال: =(7/399)=@ «لست منهم بل تعيش &(7/330)&$
__________
(1) قوله: «يا أيها الذين آمنوا» ليس في (ح).
(2) في (ح): «قبه».(7/330)
حميدا، وتقتل شهيدا، وتدخل الجنة» قالت (1) : فلما كان يوم اليمامة خرج مع خالد إلى مسيلمة، فلما التقوا انكشفوا، فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حفر كل واحد منهما له حفرة، فثبتا، وقاتلا حتى قتلا. وعلى ثابت يومئذ درع له نفيسة، فمر به رجل من المسلمين فأخذها، فبينا رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه فقال له: أوصيك بوصية، له إياك أن تقول هذا حلم فتضيعه، إني لما قتلت أمس مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي، ومنزله في أقصى الناس، وعند خبائه فرس يستن في طوله، وقد كفأ على الدرع برمة، وفوق البرمة رحل، فأت خالدا فمره أن يبعث إلي درعي، فيأخذها، وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله نحو يعني أبا بكر - رضي الله عنه - فقل له: إن علي من الذين كذا وكذا، وفلان من رقيقي عتيق وفلان (2) . فأتى الرجل خالدا فأخبره، فبعث إلى الدرع، فأتي بها، وحدث أبا بكر برؤياه فأجاز وصيته. قال: ولا نعلم أحدا أجيزت وصيته بعد موته غير ثابت. وقوله: {ولا تجهروا له بالقول} أي: لا تخاطبوه يا محمد يا أحمد (3) ! ولكن: يا نبي الله، أو يا رسول الله. توقيرا له صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {أن تحبط أعمالكم} أي: من أجل أن تحبط؛ أي: تنطل. فأمَّا أصل الأعمال إن كان ذلك عن كفر، وأما ثوابها إن كان عن (4) معصية. =(7/400)=@ &(7/331)&$
__________
(1) في (ح): «قال».
(2) في (ح): «وفلاي».
(3) في (ح): «ويا أحمد».
(4) قوله: «عن» سقط من (ح).(7/331)
%(4/1841)%
ومن سورة ق
اختلف فيه، فقال ابن عباس: هو اسم لله عز وجل، وقال قتادة: اسم للقرآن (1) ، وقال الضحاك: اسم الجبل المحيط بالأرض، وهو من زبرجدة خضراء، وعروق الجبال منها، وقال عطاء: هو قوة قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى تلك الأوجه: هو قسم، وعطف: {والقرآن المجيد} عليه. والقرين: فعيل بمعنى المقارن الملازم الذي لا يفارق، وأصله من القرن: وهو الحبل الذي يجمع به بين شيئين فيتلازمان بسببه، كما قال الشاعر :
وانجن الثبون اذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس
وقد تقدَّم أن الشيطان وزنه فيعال، من شطن؛ أي: بعد عن الخير، أو من شاط إذا احتد واحترق، بى أنه إنما يقال على المارد من الجن، وهو الكثير الشر الشديد الضر .
وقوله: «إلا أن الله أعاتي عليه فأسلم». جمهور الرواة يقولون فأسلم بفتح الميم، ويريدون (2) أن الشيطان صار مسلما. وكان سفيان بن عيينة يقول: فأسلم =(7/401)=@ بضم الميم (3) ، والمعنى فأسلم أنا من شره، وكان ينكر القول الأول، ويقول: الشيطان لا يسلم. &(7/332)&$
__________
(1) في (ح): «القرآن».
(2) في (ح): «يريدون» بلا واو.
(3) في (ح): «بضمها أعني الميم».(7/332)
قلت: وهذا له موقع، غير أنه يبعده قوله: «فلا يأمرني إلا بخير» فحينئذ يزول عنه اسم الشيطان ويصير مسلما، ويكون هذا مؤيدا لرواية (1) %(4/1842)% الجمهور. فالذي لأجله فر سفيان من إسلام الشيطان، يلزمه في كونه لا يأمره إلا بخير. وقد روي هذا الحديث في مسند أحمد بن حنبل بلفظ آخر (2) ، وقال: «لا يأمرني إلا بخير» وأما لفظ حديث عائشة - رضي الله عنها - فهو في الوجه الأول واضح، فإنَّها قالت فيه: «ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم» والظاهر منه: أن الشيطان هو الذي أسلم مع أنه يحتمل أن يكون حتى: بمعنى كي، ويكون فيه (3) راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي: أعانني كي أسلم منه، والله أعلم .=(7/402)=@ %(4/1843)%
ل!ي ه هبضم الميم، والمعنى فاسلم أنا من شزه، وكان ينكر القول الأول، ويقول: الشيطان لا يسلم. قلت: وهذا له موتع، غير أنه يبعده قوله: «فلا يامرني إلا بخير» فحينئذ يزول عنه اسم الشيطان ويصير مسلما، وبكون هذا مؤئدا لرواية الجمهور. فالذي لأجله فز سفيان من إسلام الشيطان، يلزمه في كونه لا يامره إلا بخير. وقد روي هذا الحديث في مسند أحمد بن حنبل بلفظ اخر، وقال: «لا يامرني إلا بخير» وأما لفظ حديث عانشة - رضي الله عنها - فهو في الوجه الأول واضح، فإنَّها قالت فيه: «ولكن رئي أعانني عليه حتى أسلم» والظاهر منه: أن الشيطان هو الذي أسلم مع أنه يحتمل أن يكون حف: بمعنى كي، ويكون فيه راجع إلى النبي ت أي: أعانني كي أسلم منه، والله تعالى أعلم (4) .
ومن سورة القمر
«قوله: انفلق القمر (5) » أي: انشق نصفين، أي: وقع ذلك الانشقاق على حقيقته، ووجد ذلك بمكة بمنى، بعد أن سألت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم آية، فأراهم انشقاقه، على نحو ما ذكر، ثم إن عبد الله بن مسعود أوضح كيفية هذا الانشقاق &(7/333)&$
__________
(1) في (ح): «برواية».
(2) قوله: «بلفظ آخر» سقط من (ح).
(3) في (ح): «فيه ضمير راجح».
(4) مكرر
(5) في (ح): «القمر فلقتين».(7/333)
حتى لم يترل لقائل مقالا، فقال: وكانت نلقة وراء الجبل، وفلقة دونه. وفي رواية: فستر الجبل فلقة، وكانت فلقة فوق الجبل، ونحو ذلك. قال ابن عمر وقد روى هذا الحديث جماعة كثيرة من الصحابة منهم: عبد الله بن مسعود، وأنس، وابن عباس، وابن عمر، وحذيفة، وعلي، وجبير بن مطعم، وغيرهم. وروى ذلك عن الصحابة أمثالهم من التابعين، ثم كذلك ينقله الجم الغفير، والعدد الكثير إلى أن انتهى ذلك إلينا، وفاضت (1) أنواره علينا، وانضاف إلى ذلك ما جاء من ذلك في القرآن المتواتر عند كل إنسان، فقد حصل بهذه المعجزة العلم اليقين الذي لا يشك فيه أحد من العاقلين. وقد استبعد هذا كثير من الملحد» وبعض أهل الملة من حيث إنه لو كان كذلك للزم مشاركة جميع أهل الأرض في إدراك ذلك. =(7/403)=@ %(4/1844)% والجواب: أن هذا إنما كان يلزم، لو استوى أهل الأرض في إدراك مطالعه في وقت واحد، وليس الأمر كذلك، فإنه يطلع على قوم قبل طلوعه على آخرين، فقد يكون الكسوف عند قوم، ولا يكون عند آخرين، وأيضًا: فإنما كان يلزم ذلك لو طال زمان الانشقاق، وتوفرت الدواعي على الاعتناء بالنظر إليه، ولم يكن شيء من ذلك، وإنما كان ذلك في زمن قصير شاهده من نبه له، وذلك أن أهل مكة طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر فخرج بهم إلى منى، فأراهم انشقاق القمر. فلما أراهم الله ذلك قال: «اشهدوا» فقالت قريش: هذا سحر. فقال بعضهم لبعض: إن كان محمد سحرنا، فما يبلغ سحره إلى (2) الآفاق، فابعثوا إلى أهل الآفاق، فبعثوا إلى آفاق مكة، فأخبروهم أنهم عاينوا ذلك. هكذا نقل النقلة، وكم من نجم ينقض وصاعقة تنزل وهو سمائي يختص بمشاهدته بعض الناس دون بعض، ثم إنها كانت آية ليلية، وعادة الناس في الليل كونهم في بيوتهم نائمين، ومعرضين عن الالتفات إلى السماء إلا الآحاد منهم، وقد يكون منهم من شاهد ذلك، فظنه سحابا حائلا، أو خيالاً حائلا، وعلى الجملة فالموانع من ذلك لا تنحصر، ولا تنضبط، والذى يحسم مادة الخلاف بين أهل ملتنا أن نقول: لا بعد في &(7/334)&$
__________
(1) في (ح): «وقامت وفاضت».
(2) قوله: «إلى» سقط من (ح).(7/334)
أن يكون الله تعالى خرق العادة في ذلك الوقت، فصرف جميع أهل الأرض عن الالتفات إلى القمر في تلك الساعة لتختص مشاهدة تلك الآية بأهل مكة كما اختصوا بأكثر مشاهدة آياته؟ كحنين الجذع، وتسبيح الحصى، وكلام الشجر، إلى غير ذلك من الخوارق التي شاهدوها، ونقلوها إلى غيرهم، كما قد (1) نقلنا ذلك في كتابنا المسمى: بكتاب (2) «الاعلام (3) بما في دين النصارى من الفساد والأوهام» وإثبات نبوة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، =(7/404)=@ وهذا الكلام خاص %(4/1845)% للمنكر للأنشقاق من أهل الإسلام، وأما الملاحدة فالكلام معهم في إبطال أصولهم الفاسدة، وقد تاؤل من أنكر وقوع إنشقاق القمر من الإسلاميين قوله تعالى: {وانشق القمر} بمعنى ينشق في القيامة، وممن حكي عنه هذا التأويل: الحسن البصري. وتأول غيره؛ انشق: تحقق الأمر ووضح، وقال آخر: انشق الظلام عنه بطلوعه. قلت: وهذه تحريفات لا تأويلات. والحسن البصري أعلم وأفضل من أن يذهب إلى شيء من ذلك، لا سيما مع شهرة القضية، وكثرة الرواة لها، واستفاضتها، وعلمه هو بالأخبار، وسلوكه طريق (4) الصحابة والأخيار، وقد أدرك منهم جملة صالحة، وحصلت له بهم صفقة رابحة. و«قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فهل من مدكر}» بالدال وعليها الجماعة، ومذكر: اسم فاعل من دكر (5) ؛ أي: تذكر، أدغمت الذال في الدال. وقوله: {ولقد يسرنا القرآن للذكر} أي: للحفظ (6) ، فليس شي من الكتب يحفظ كحفظ القران. والمدكر: المتعظ. وقيل: المزدجر. وقيل: المتحفظ .=(7/405)=@ &(7/335)&$
__________
(1) قوله: «قد» سقط من (ح).
(2) قوله: «بكتاب» سقط من (ح).
(3) في (ح): يشبه «بالأعلام».
(4) في (ح): «طرق».
(5) في (ح): «اددكر» كذا رسمت.
(6) في (ح): «للتحفظ».(7/335)
%(4/1846)%
ومن سورة الحديد والحشر
قوله: لم يكن بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين). قال الخليل: العتاب مخاطبة الإدلال، ومذاكرة الموجدة، تقول: عاتبته معاتبة. قال الشاعر: أعاتب ذا المودة من صديق اذا ما راشي منه اجتناب إذا ذهب العتاب فليس ود وينقى الود ما بقي العتاب.
وقوله: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} أي: ألم (1) يحن، قال الشاعر: ألم يأن لي يا قلب أن أترك الجهل»، وماضيه: أنى يأني، فأمَّا ا ان» الممدود فمضارعه يئين. وأنشد ابن السكيت: ألم يان لي أن تتجلى (2) عمايتي وأتصم (2)عن ليلي بلى تدأنى ليا فجمع بين اللغتين. وأن تخشع: أي تذل وتلين لذكر الله وتعظيمه. وقيل =(7/406)=@ (1) هذا صدر بيت، وعجزه: رأن يخدث الشيب المنير لنا عقلا (2) في تفسير القرطبي (48/17 2): وأقصر عن ليلى. معناه: تجزع من خشية الله، وقيل: الذكر هنا: القرآن، وفيه بعد، لأن قوله: {وما نزل من الحق} هو القران فيكون تكرارا. %(4/1847)% وقوله: {طال عليهم الأمد} أي: رأوا الموت بعيدا، يعني أنهم لطول أملهم لا يرون الموت يقع بهم، فقست قلوبهم؛ أي: جفيت (3) وغلظت، فلم يفهموا دلالة، ولا صدقوا رسالة. وكثير منهم فاسقون؛ أي: خارجون عن مقتضى العقل من التوحيد، وعن مقتضى الرسالة من التصديق. وفائدة هذه الآية: أنه لما رسخ الإيمان في قلوبهم أرشدهم إلى الازدياد في &(7/336)&$
__________
(1) في (ح): «لم» بدل «ألم».
(2) في (ح): «تجلى».
(3) في (ح): «جفت».(7/336)
أحوالهم، والمراقبة في أعمالهم، وحذرهم عن جفوة أهل الكتاب بأبلغ خطاب وألطف عتاب. الا و(قول عائشة -رضي الله عنها -: أمروا أن يستغفروا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسبوهم) أشارت عائشة (1) إلى قوله: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان}. فسبوهم: تريد عائشة بهذا أن التابعين حثهم الواجب عليهم أن يحبوا أصحاب رسول الله بر وأن يعظموهم، ويستغفروا لهم، وكذلك كل من يجيء بعد التابعين إلى يوم القيامة، ويحرم عليهم أن يسبوهم، أو يسبوا أحدا منهم، كما قد صرح بذلك بعض بني أمية، ط ثاهم عنت بقولها، ولقد أحسن مالك - رحمه الله - في فهم هذه الآية، فقال: من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا حق له في الفيء، واستدل بالآية. ووجهه: أنه رأى هذه الآية معطوفة على قوله: {والذين تبوأو الدار والإيمان من قبلهم} وأن هذه الآية معطوفة على قوله: {للفقراء المهاجرين}، =(7/407)=@ فظهر له: أن المهاجرين (2) والأنصار استحقوا الفيء بأنهم مهاجرين (3) ، وأنصار من غير قيد زائد على ذلك، وأن من جاء بعدهم قيدوا بقيد: {يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} فإنَّ لم يوجد هذا %(4/1848)% القيد لم يجز الإعطاء لعدم تمام الموجب. وقد فهم عمر - رضي الله عنه - أن قوله: {والذين جاءوا من بعدهم} يعم كل من يأتي إلى يوم القيامة، وأنها معطوفة على ما قبلها، فوقف الأرض المغنومة المفتتحة في زمانه على من يأتي بعد إلى يوم القيامة، وخصص (4) بهذه الآية الأرض من جملة الغنيمة التي قال الله (5) فيها: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه} وقد تقدَّم الكلام على هذا في الجهاد .&(7/337)&$
__________
(1) من قوله: «أمروا أن يستغفروا ...» إلى هنا سقط من (ح).
(2) قوله: «فظهر له أن المهاجرين» مكرر في (ح).
(3) في (ح): «بما هم مهاجرون».
(4) في (ح): «وخص».
(5) قوله: «الله» ليس في (ح).(7/337)
ومن سورة المنافقين
قوله: «من يتسور ثنية المرار» يتسور: يعلو. وتسورت الجدار: علوته، وفي الرواية الأخرى: «من يصعد» وهذا واضح، والثنية: الطريق في الجبل. والمرار - بضم الميم -: وهي ثنية معروفة وعرة المرتقى، فحث النبي صلى الله عليه وسلم على صعودها، ولعل ذلك للحراسة. وقوله: «حط عنه ما حط عن بني إسرائيل» أي: غفرت خطاياه كما وعد بنو إسرائيل حين قيل لهم: {ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم}، يعني (1) بذلك: أن من صعد تلك الثنية غفرت خطاياه كما كانت خطايا بني إسرائيل تحط وتغفر لو فعلوا ما أمروا به من الدخول، وقول الحلة، لكنهم لم يفعلوا ما أمروا به بل تمزدوا واستهزؤوا فدخلوا يزحفون على أستاههم، وقالوا =(7/408)=@ وتالوازهيرة وهي قي قراءة عبدالله -، وقال :، لبن رجعنا ط لى اسديخه ليحرج! أنماغز من!ها الآذل» أالمنافقون: 18، قال: فاتيت النب! لمجيته فاخبرته بذلك ،
حطة في شعرة، وقد لا يبعد أن يكون بعضهم دخل على نحو ما أمر به فغفر له، غير أنه لم ينقل ذلك إلينا. %(4/1849)% وقوله عليه السلام: كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل» لما صدوا كما أمروا الهجر لهم ما به وعدوا، فإنَّ الله لا يخلف الميعاد ولا رسوله. وقيل: إن صاحب الجمل هو الجد بن تير المنافق. وينشد ضالته: يطلبها، ونشدت الضالة: طلبتها، وأنشدتها: عرفتها. &(7/338)&$
__________
(1) في (ح): «فيعني».(7/338)
وقوله:{حتى ينفضوا} أى: يتفرقوا. و (من حوله): في قراءة عبد الله، ولم يبعث في شيء من المصاحف المتفق عليها، ويمكن أن تكون زيادة بيان من جهة ابن مسعود. وقوله: {ليخرجن الأعز منها الأذل} يعني المنافق =(7/409)=@ بالأعز: نفسه وعشيرته وبالأذل: النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، جهل فقال، وحيث وجب أن يسكن حال من غَلَب عليه شقوته، فانعكست فكرته، فظن الارض سماء والسراب ماء فنبهه ولد نطفته على %(4/1850)% قبيح غلطته، فقال له: أنت والله الأذل، ورسول الله الأعز، فأنزل الله تعالى تصديقه في كتابه لعلهم يسمعون: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم تلطف بهم على مقتضى خلقه الكريم، وحلمه العظيم (1) ، ودعاهم للاستغفار، فأبت الشقوة إلا التمادي على الجهل والاستكبار فلووا رؤوسهم معرضين، وصدوا مستكبرين فقوبلوا بـ {لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين} حشرنا الله تعالى مع المؤمنين، وجنبنا أحوال المنافقين بفضله وكرمه. &(7/339)&$
__________
(1) في (ح): «الكريم».(7/339)
وقوله: {كأنهم (1) خشب مسندة} يعني أنهم أشباح بلا أرواح، وأجسام بلا أحلام فصورهم معجبة، وبواطنهم قبيحة خربة، ومسندة؛ أي: إلى الجدر، شبههم (2) بالجذوع المسندة (3) الممالة إلى جدار،كما قال الشاعر:
قد مضينا بعدهم نتبعهم فرأيناهم قياما كالخشب =(7/410)=@ وهو جمع خشبة. يقال: خشبة وخشب بضمهما، ويقال: خشب بفتحهما، وقد قرىء بهما. %(4/1851)%
باب: «من أخبار المنافقين» (4)
(قول (5) أبي الطفيل: كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس) ليست هذه العقبة عقبة بيعة الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أزل الإسلام، ومن ظن ذلك فقد جهل، وإنما هي عقبة بطريق تبوك، وقف له فيها قوم من المنافقين ليقتلوه، كما قد رواه أحمد بن حنبل من طريق أبي الطفيل هذا، قال: لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أمر مناديا ينادي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ العقبة، فلا يأخذها أحد، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوده حذيفة، ويسوقه عمار إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل غشوا عمارا، وهو يسوق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عمار يضرب وجوه الرواحل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة: «قد، قد» &(7/340)&$
__________
(1) في (ح): «وكأنهم».
(2) في (ح»: «فشبههم».
(3) في (ح): «المنسد به».
(4) قوله: «باب من أخبار المنافقين» سقط من (ح).
(5) في (ح) «وقول»(7/340)
حتى هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما هبط نزل، ورجع عمار، فقال: «هل عرفت القوم؟» فقال: قد عرفت عامة الرواحل، والقوم متلثمون. قال: «هل تدري ما أرادوا؟» قال: الله ورسوله أعلم. قال: أرادوا (1) أن ينفروا برسول الله فيطرحوه. وذكر أبو الطفيل، في تلك الغزاة: أن رسول الله في قال للناس؟ وذكر له: أن في الماء قلة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي: ألا يرد (2) الماء أحد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فورده (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد رهطا قد وردوا قبله، فلعنهم =(7/411)=@
( 1) هذا العنوان لم يرد في نسخ المفهم، واستدركناه من التلخيص. مالا
رسول الله صلى الله عليه وسلم (ا). وعنى أبو الطفيل بقوله: بعض ما يكون بين الناس: الملاحاة والمعاتبة؛ التي تقع غالبًا بين الناس.
وقوله: «أنشدك الله» أي: أسالك بالله، والقائل: أنشدك بالله (4) ؛ هو الرجل الذي لاحاه حذيفة - رضي الله عنه - والقائل: كنا نخبر أنهم أربعة عشر، فإنَّ كنت فيهم فالقوم خمسة عشر: هو حذيفة، والمخاطب بذلك القول: هو الرجل المعاتب السائل له بأنشدك الله، وظاهر كلام حذيفة: أنه ما شك فيه، لكنه ستر ذلك إبقاء عليه. وهؤلاء الأربعة عشر، أو الخمسة عشر (5) هم الذين سبقوا إلى الماء، فلعنهم النبي %(4/1852)% صلى الله عليه وسلم غير أنه قبل عذر ثلاثة منهم لما اعتذروا له بأنهم ما سمعوا المنادي، وما علموا بما (6) أراد من كان معهم من المنافقين؛ فإنَّهم أرادوا مخالفة رسول الله في وأن يسبقوا إلى الماء، ويحتمل أن يريد بهم الرهط الذين عرضو، لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة ليقتلوه، والله تعالى أعلم .=(7/412)=@
( 1) رواه أحمد ( 5 / 453) .
وقوله: «فما لبث أن تصم الله عنفه» أي: ما طال مقامه حف أهلكه الله. وواروه: غطوه. ونبذته: ألقته، وأخرجته. ومنبوذا: مطروحا على ونجه الأرض. وإنما أظهر الله تلك الآية في هذا المُرتَد ليوضح حجَّة نبيه صلى الله عليه وسلم لليهودي (7) عيانا، وليقيم لهم على ضلالة من خالف دينه برهانا، وليزداد الذين آمنوا يقينا وإيمانا. وقوله: «هاجت ريح تكاد أن تدفن الراكب» أي: هبت ريح شديدة تحمل معها التراب والرمل لشدتها، حتى لو عارضها راكب على بعيره لدفنته بما تلفي(1) =(7/413)=@ &(7/341)&$
__________
(1) في (ح): «أراد».
(2) في (ح): «ألا لا يرد».
(3) قوله: «فورده» لم يتضح في (ح).
(4) في (ح): «بالله».
(5) قوله: «عشر» سقط من (ح).
(6) في (ح): «ما».
(7) في (ح): «لليهود».(7/341)
عليه %(4/1853)% من التراب والرمل. وكان هذه الريح إنما هاجت عند موت ذلك المنافق العظيم ليعذب بها، أو جعلها الله تعالى علامة لنبيه صلى الله عليه وسلم على موت ذلك المنافق، وأنه مات على النفاق - والله تعالى أعلم –
وقوله: ((ألا أخبركم بأشد حرا منه يوم القيامة؟ هذينك الرجلين الراكبين المقفيين» الرواية بخفض هذينك على البدل من أشد، وهو بدل المعرفة من النكرة، وما بعد هذينك نعوت له. ومعنى المقفيين: الموليان أقفيتهما.
و((قوله لرجلين حينئذ من أصحابه)) إنما نسبهما (1) الراوي لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّهما كانا في غمارهم، ودخلا بحكم ظاهرهما في دينهم، والعليم الخبير يعلم ما تجنه الصدور، وما يختلج في الضمير، فأعلم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بخبث بواطنهما، وبسوء عاقبتهما، فارتفع اسم الصحبة، وصدق اسم العداوة والبغضاء .&(7/342)&$
__________
(1) في (ح): «كسبهما».(7/342)
%(4/1854)%
ومن سورة التحريم
حديث ابن عباس هذا قد تقدَّم في الإيلاء، لكن بطريقي غير هذا. وألفاظ تخالف هذا. فلذلك كررناه في المختصر. =(7/414)=@
((قوله: فاذا الناس ينكتون بالحصى)) أي: يخطون بها في الأرض، فعل المهتم بالشيء، المتفكر فيه.
وقولها: ((يا بن الخطاب عليك بعيبتك)) أي: بخاصتك وأهل بيتك، ومنه قوله عليه السلام: «الأنصار كرشي وعيبتي». وقد تقدَّم.
والمشربة: الغرفة، تقال: بفتح الراء وضمها، والأسكفة بضم الهمزة والكاف: عتبة الباب السفلى. والنقير من الخشب، وهو الذي ينقر (1) فيه مثل الدرج ليرقى عليه. &(7/343)&$
__________
(1) في (ح): «نقر».(7/343)
%(4/1855)%
وقوله: ((يا رباح! استأذن لي عندك)) أي (1) : بحضرتك وقربك، أي: لا تؤخره، =(7/415)=@ وسكوت رباح ونظره لعمر احترام لحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه كان يسمعه. والقرط: شجر يدبغ به. والأقيق: الجلد قبل الدباغ. وابتدرت عيناي، يعني: بالدموع. أي: غلبه البكاء فلم يملكه. %(4/1856)%
وقوله: «فإنَّ طلقتهن (2) فإنَّ الله معك» أي: بالمعونة على مرادك من الطلاق، وعلى أن يبدلك خيرا منهن، كما قال الله تعالى في الآية. ومعية الملائكة هي موافقتهم له على مراده، ونصره على أضداده، والله تعالى أعلم. =(7/416)=@
وقوله: ((قل ما تكلمت - وأحمد الله - بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدق الذي أقول)) قد شهد له بهذا النبي عليه السلام حيث قال: ((إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه».
وقوله:((فلم أزل أحدثه حتى تحشر الغضب عن وجهه)) أي: انكشف الغضب. وكشر: كشف عن أسنانه ليضحك، فضحك، وقد سبق القول على ما في هذا الحديث مما يحتاج إلى التنبيه عليه في النكاح والإيلاء. =(7/417)=@ &(7/344)&$
__________
(1) قوله: «أي» سقط من (ح).
(2) في (ح): «فإن كنت طلقتهن».(7/344)
%(4/1857)%
وقوله: ونزلت هذه الآية: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به}. ظاهر هذا أن هذه الآية نزلث بسبب هذه القضية لأجل استنباط عمر- رضي الله عنه - ما استنبط فيما وقع له فيها ووافقه الله تعالى على ما وقع له، فأنزل القرآن على نحو ذلك. والاستنباط: الاستخراج، وقد تقدَّم. وأذاعوا به: أفشوه، يقال: ذاع الحديث يذيع ذيعا وذيوعا، أي: انتشر، وأذاعه غيره إذا أفشاه، ويقال: ذاع به بمعناه. وأولو الأمر: العلماء في قول قتادة وغيره. وفي الآية من الفقه وجوب الرجوع إلى أقوال العلماء على من لا يحسن فهم الأحكام واستنباطها. &(7/345)&$(7/345)
قال الحسن: هي في الضعفاء أمروا أن يستخرجوا العلم من الفقهاء والعلماء. وقال قتادة: نزلت هذه الآية في المنافقين كانوا يشيعون ما (1) يهم به رسول الله ت من أمن من أراد تامينه، وإغزاء من أراد غزوه؟ إرادة الإفساد .%(4/1858)%
ومن سورة الجن
(قول (2) ابن عباس: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم) يعني: لم يقصدهم بالقراءة عليهم، وإنما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة =(7/418)=@ لأصحابه؛ لكن لما تفرقت الشياطين في الأرض يطلبون السبب الحائل بينهم وبين ما كانوا يسترقون من السمع صادف هذا النفر من الجن النبي صلى الله عليه وسلم بسوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه فاستمعوا له فقالوا: ما أخبر الله تعالى به عنهم: {قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا} (3) الآيات، وقيل %(4/1859)% كان عدد هؤلاء النفر اثني عشرة، وقيل: &(7/346)&$
__________
(1) في (ح): «بما» بدل «ما».
(2) قوله: «قول» سقط من (ح).
(3) زاد بعدها في (ح): «يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا».(7/346)
تسعة، وقيل سبعة، وعلى هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم ما علم باستماع الجن له ولا رآهم، ولا كلمهم، وإنما أوحي الله تعالى إليه فعلم ذلك لما أنزل عليه القرآن بذلك، وهذا بخلاف حديث ابن مسعود، فإن مقتضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بعبد الله ابن مسعود؛ فإن مقتضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بعبد الله بن مسعود معه، فجاءه داعي الجن، فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم نحو حراء فقرأ عليهم القرآن، فآمنوا وأسلموا، =(7/419)=@ فهذه قضية أخرى، وجن آخرون. والحاصل من الكتاب والسنة: العلم القطعي بأن، الجن والشياطين موجودون متعبدون بالأحكام الشرعية على النحو الذي يليق بخلقتهم وأحوالهم، وأن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول إلى الإنس والجن أجمعين، فمن دخل في دينه، وآمن به، فهو من المؤمنين، ومعهم في الدنيا والآخرة. والجنة مستقر المؤمنين. ومن كذبه وصد عنه فهو الشيطان المبعد عن المؤمنين في الدنيا والاخرة، والنار مستقر الكافرين أبد الآبدين. وظاهر هذا الحديث يقتضي: أن رجم الشياطين بالنجوم إنما صدر عند بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك روى الترمذي عن ابن عباس -رضي الله عنهما - قال: كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون الوحي، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا، فلما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك (1)، وذكر نحو ما تقدَّم لمسلم (2). وقد تقدَّم في آخر كتاب الطب من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت يرمى بها في الجاهلية، وقد اختلف الناس &(7/347)&$(7/347)
في ذلك لاختلاف هذين الحديثين، فذهبت طائفة منهم الجاحظ: إلى أن الرحم لم يكن قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت طائفة، منهم الغزالي: كان يرمى بها؛ =(7/420)=@ %(4/1860)% ولكنه يزيد عند المبعث، وبهذا القول يرتفع التعارض بين الحديثين. وقول عبد الله بن مسعود أنه لم يشهد ليلة الجن مع رسول الله في أحد، هو ما أصح من الحديث الذي يحتج به الحنفيون، مما روي عن ابن مسعود أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم وأنه خط عليه خطا (1) وقال: ألا تبرح حتى آتيك» فذهب في سواد الليل ثم جاءه فقال: ما في إداوتك، فقال: نبيذ، فقال: «ثمرة طيبة وماء طهور»، ثم أخبره خبر الجن؛ لأنَّ إسناده مجهول على ما قاله أهل الحديث. واستطير: أي استطيل، وأصله من استطال الفجر: إذا انتشر وطال. واغتيل: إذا هجم عليه بالمكروه، أو القتل. وحراء: جبل معروف بمكة، وهو ممدود مهموز. وقوله: وسألوه الزاد) أي: ما يحل لهم من الزاد ولدوابهم، فأجابهم بقوله: «لكم كل عظم، وكل بعرة لعلف دوابكم» أي: هذان محلل لكم، ويحتمل أن يكونوا سألوه أن يدعو لهم بالبركة (2) في أرزاقهم، وفي علف دوابهم، ويدك على هذا قوله: «يقع في أيديكم أوفر ما يكون (3) لحما» وفي كتاب مسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوت الله ألا يمروا بعظم إلا وجدوه أوفر ما كان وأسمنه » أي بالنسبة إلى تغذيهم ونيلهم. وهل نيلهم من ذلك شم، أو لحسن؛ كل ذلك ممكن، وقد قيل بكل واحد منهما.
وقوله: «ذكر اسم الله عليه» أي: على تذكيته، ويحتمل على أكله، =(7/421)=@ والأول أولى، وقد تقدَّم القول في الاستنجاء بالعظام والروث في الطهارة. &(7/348)&$
__________
(1) قوله: «خطا» سقط من (ح).
(2) في (ح): «أزوادهم».
(3) قوله: «ما يكون» سقط من (ح).(7/348)
وقوله: ((آذنت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن بهم شجرة)) أي: أعلمته بهم، وظاهره: أن الله تعالى خلق فيها نطقا فهمه النبي صلى الله عليه وسلم كما خلق في الذراع المسمومة نطقا. %(4/1861)%
ومن سورة المدثر
قد تقدم القول فيما أنزل من القرآن أولا، في حديث عائشة وتبين هناك أن الأخذ بحديثها أولى؛ لأنها زادت على جابر بذكر ما سكت عنه من حديث لقاء جبريل النبي في النار، وإلقائه إليه: {اقرأ باسم ربك} على ما ذكرته عائشة، وقد دل على هذا أن حديث جابر قال فيه: «فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء» قد (1) تقدَّم القول على«حنثت» في الإيمان. والمدثر: المدثر في ثيابه. =(7/422)=@ &(7/349)&$
__________
(1) في (ح): «وقد».(7/349)
وقوله: {وثيابك فطهر}حجة لمن قال بوجوب غسل النجاسة إذ الأصل حمل الثياب والطهارة على الحقيقة اللغوية، ويحتمل أن يكون ذلك كناية عن طهارة القلب عن مذموم الأخلاق، كما قال الشاعر:
ثياب بني عوف طهارى نقية ... .............................. =(7/423)=@ %(4/1862)%
والرجز: الأوثان، سماها بذلك لاستحقاق عابديها الزجر، وهو العذاب. &(7/350)&$(7/350)
كقوله: {ولما وقع عليهم الرجز}. واهجر (1) : اترك. ولربك فاصبر: أي على ما تلقاه من الأذى، والتكذيب عند الإنذار. %(4/1863)%
ومن سورة الأخدود
قول الراهب للغلام: «إذا جئت الساحر فقل: حبسني أهلي» دليل على: إجازة الكذب لمصلحة الدين، ووجه التمسك بهذا أن نبينا صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الحديث =(7/424)=@ كله في معرض الثناء على الراهب والغلام عل جهة الاستحسان لما صدر عنهما، فلو كان شيء مما صدر عنهما من أفعالهما محرما، أو غير جائز في شرعه لبينه لأمته، ولاستثناه من جملة ما صدر عنهما، ولم يفعل ذلك. فكل ما أخبر به عنهما حجَّة ومسوغ الفعل. فإنَّ قيل: كيف يجوز في شرعنا ما فعل الغلام من دلالته على الراهب للقتل، ومن إرشاده إلى كيفية قتل نفسه! فالجواب من وجهين: &(7/351)&$
__________
(1) في (ح): «فاهجر».(7/351)
%(4/1864)%
أحدهما: أن الغلام غير مكلف؛ لأنَّه لم يبلغ الحلم، ولو سلم أنه مكلف لكان العذر عن ذلك أنه لم يعلم أن الراهب يقتل، فلا يلزم من دلالته عليه قتله. وعن معونته على قتل نفسه: أنه لما غلب على ظنه أنه مقتول ولا بد، أو علم بما جعل الله في قلبه، أرشدهم إلى طريق يظهر الله بها كرامته، وصحة الدين الذي كانا عليه، ليسلم الناس، وليدينوا دين الحق عند مشاهدة ذلك كما كان. وقد أسلم عثمان -رضي الله عنه - نفسه عند علمه بأنه يقتل - ولا بد - بما أخبر (1) النبي! كما بس =(7/425)=@ وهذا الحديث كله إنما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ليصبروا على ما يلقون من الأذى، والآلام، والمشقات التي كانوا عليها؛ ليتأسوا بمثل هذا الغلام في صبره، وتصلبه في الحق، وتمسكه به، وبذله نفسه في حق إظهار دعوته، ودخول الناس في الدين مع صغر سنه، وعظيم صبره، وكذلك الراهب صبر على التمسك بالحق حتى نشر بالميشار، وكذلك كثير من الناس لما آمنوا بالله تعالى، ورسخ الإيمان في قلوبهم صبروا على الطرح في النار، ولم يرجعوا عن دينهم، وهذا كله فوق ما كان يفعل بمن آمن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنَّه لم يكن فيهم من فعل به شيء من ذلك؛ لكفاية الله %(4/1865)% تعالى لهم؛ ولأنه تعالى أراد إعزاز دينه، وإظهار كلمته. على أني أقول: إن محمدا عليه الصلاة والسلام أقوى الأنبياء في الله، وأصحابه أقوى أصحاب الأنبياء في الله تعالى، فقد امتحن كثير منهم بالقتل، وبالصلب، وبالتعذيب (2) الشديد، ولم يلتفت إلى شيء من ذلك، وتكفيك قصة عاصم وخبيب وأصحابهما، وما لقي أصحابه من الحروب، والمحن، والأسر (3) ، والحرق، وغير ذلك، فلقد بذلوا في الله نفوسهم، وأموالهم، وفارقوا ديارهم وأولادهم، حتى أظهروا دين الله، ووفوا &(7/352)&$
__________
(1) في (ح): «أخبر به».
(2) في (ح): «والتعذيب».
(3) في (ح): «والمحن والقتل والأسر».(7/352)
بما عاهدوا عليه الله، فجازاهم الله أفضل الجزاء، ووفاهم من أجل من دخل في الإسلام بسببهم أفضل الإجزاء. =(7/426)=@
وقد تقدَّم أن الميشار يقال بالنون وبالياء المهموزة، وهي الأفصح، وقد تسهل همزتها. والدابة العظيمة، كانت أسدًا» كما جاء في حديث آخر. والقرقور - بضم القافين -: هو السنينة الكبيرة. قاله الهروي، وقد لمجر هذا عليه. وقيل: إن المثنن الكبار لا تستعمل في مثله. &(7/353)&$(7/353)
قلت: وهذا إنكار ينبغي أن ينكر، فلعل هذا الملك قصد إلى أعظم السفن حتى يتوسط البحر بهذا الغلام ليلقوه في أبعده عنه، أو لعله جعل معه في السفينة من يملؤها أو ما يملؤها، والمرجع فيه إلى أهل اللغة.
وقد قال ابن دريد في «الجمهرة»؟ القرقور: ضرب من السفن، عربي معروف، والمعروف عند الناس فيه استعماله فيما صغر منها، وخف للتصرف (1) فيه.
وقوله: «فرجف بهم الجبل» أي: تحرك، وتزلزل بهم. وخد الأخدود؛ أي: حفر في الأرض شقًا مستطيلاً عظيمًا، ويجمع: أخاديد. =(7/427)=@ %(4/1866)% وقوله: «فأحموه فيها، أو قيل: اقتحم» هذا شك من بعض الرواة، فاحموه فيها؛ معناه: ألقوه فيها، وأدخلوه إياها. يقال: أحميت الحديد والشيء في النار: إذا أدخلته فيها. قال القاضي أبو الفضل: واقتحم: ادخل على كره ومشقة.
وقوله: «فتقاعست» أي: تأخرت وامتنعت، وقد أظهر الله تعالى لهذا الملك الجبار الظالم من الآيات والبينات ما يدلّ على القطع والثبات أن الراهب والغلام على الدين الحق، والمنهج الصدق، لكن من حرم التوفيق استدبر الطريق. وفي هذا الحديث إثبات كرامات الأولياء، وقد تقدَّم القول فيها. =(7/428)=@ &(7/354)&$
__________
(1) في (ح): «التصرف».(7/354)
%(4/1867)%
ومن سورة الشمس وضحاها
قوله: {إذ أنبعث أشقها}، أي: قام مسرعًا. وضمير المؤنث عائد على ثمود، وهي مؤنثة؛ لأنَّها قصد بها قصد قبيلة، ولذلك مع التعريف لم تصرف. والعزيز: القليل المثل، ويكون بمعنى: الغالب. والعارم: الجبار الصعب على من يرومه، والممتنع بسلطانه وعشيرته. وأبو زمعة هذا يحتمل أن يكون هو الذي قال فيه أبو عمر: أنه بلوى، صحابي، ممن بايع تحت الشجرة، وتوفي بأفريقية في غزاة معاوية بن خديج الأولى، ودفن بالبلوية بالقيروان .
قلت: فإنَّ كان هو هذا؛ فإنَّه إنما شبهه بعاقر الناقة في أنه عزيز في قومه، ومنع (1) على من يريده من أهل الكفر. ويحتمل أن يريد به غيره ممن يسمى بأبي زمعة (2) من الكفار، والله تعالى أعلم قاله ابن إسحاق (3) ، قاله ابن إسحاق وغيره. وقوله: «إلام يخلد أحدكم امرأته جلد العبد؟!» هذا إنكار على من يجلد زوجته، وينكر من ذلك حتى يعاملها معاملة الأمة، ثم إنه بعد ذلك باليسير (4) يرجع إلى مضاجعتها، وإلى قضاء شهوته منها، فلا تطاوعه، ولا تتحسن له، وقد تبغضه، وقد (5) يكون هو يحبها، فيفسد حاله، ويتفاقم أمرهما، وتزول الرحمة &(7/355)&$
__________
(1) في (ح): «ومنيع».
(2) في (ح): «ممن يستحق بابن زمعة».
(3) قوله: «قاله ابن إسحاق وغيره» سقط من (ح».
(4) في (ح): يشبه «باليسر»
(5) قوله: «قد» سقط من (ح).(7/355)
والمودة التي جعلها %(4/1868)% الله تعالى بين الأزواج، ويحصل نقيضها، فنبه صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ الوجيز على ما يطرأمن ذلك (1) من المفاسد. =(7/429)=@
وقوله: «ثم وعظهم في ضحكهم من الضرطة» أي: نهاهم وزجرهم عن ذلك؛ لأنَّه فعل عادي يستوي فيه الناس كلهم؛ لى ان كان مِمَّا يستقبح، فحق الإنسان أن يستتر به؛ فإنَّ غلبه بحيث يسمعه أحد فلا يضحك منه، فإنَّه يتأذى الفاعل بذلك (2) ، ويخجل منه، وأذى المسلم حرام، فالضحك من الضرطة حرام.
ومن سورة والليل إذا يغشى
قراءة عبد الله بن مسعود، وأبي الدرداء (والذكر والأنثى) ليست قرآنا، هكذا بإجماع الصحابة والمسلمين بعدهم واتفاق المصاحف على خلافها، وأن القراءة المتواترة: {وما خلق الذكر والأنثى} وبقي عبدالله وأبو الدرداء على ما سمعاه، وأبيا أن يقرآ على قراءة الجماعة. وعليهما في ذلك إشكال، وعلى قرأتهما يكون الذكر: هو آدم، والأنثى: حواء، وهو المقسم =(7/430)=@ بهما، وعلى قراءة الجماعة: المقسم به: ما خلق، وهو بمعنى الذي، ويعني به الخالق. وقد قيل: يعني بذلك المصدر، فكأنه قال: وخلق الذكر والأنثى، وعلى هذا فيكون الذكر والأنثى يراد به النوع كله، والله تعالى أعلم .&(7/356)&$
__________
(1) قوفله: «من ذلك» سقط من (ح).
(2) في (ح): «لذلك».(7/356)
%(4/1869)%
ومن سورة والضحى
قوله: أبطأ جبريل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المشركون: قد دع محمد) هذا إنما كان بمكة في أول الاسلام، وذلك أن المشركين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخضر، وذي القرنين، والروح، فوعدهم بالجواب إلى غد، ولم يستثن، فأبطا عليه جبريل. قيل: اثنتي عشرة ليلة، وقيل أكثر من ذلك، حتى ضاق صدر النبي صلى الله عليه وسلم، وقال المشركون ذلك القول، فعند ذلك نزل عليه جبريل بهذه السورة، وبجراب ما سألوا عنه، وقال له: {ولا (1) تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله}، قاله ابن إسحاق وغيره. =(7/431)=@ و(قول جندب في الرواية الأخرى: إنها نزلت جوابا لمن قالت: تركه شيطانه). لا يعارض بما قاله ابن إسحاق؟ إذ يجوز أن تكون نزلت جوابا لذينك الشيئين، وجوابا لمن قال ذلك كائنا من كان. وقد تقدَّم أن الضحى: صدر النهار. وسجى: أقبل ظلامه. وما ودعك - مشددا -: هي القراءة المتواترة. أي: ما تركك ترك مودع. وقراءة ابن أبي عبلة: ودعك -مخففا- على الأصل المرفوض كما قدمناه، وذلك أن العرب أماتت ماضيه واسم فاعله، وصيغة مفاضلته، استغناء عنه بـ (ترك)، وقد نطق بذلك قليلا. والقلى: البغض .=(7/432)=@ &(7/357)&$
__________
(1) في (ح): «لا» بلا واو.(7/357)
%(4/1870)%
ومن سورة اقرأ
تعفير الوجه: تتريبه. وينكص على عقبيه: يرجع (1) القهقرى وراءه.
وقوله (2) تعالى: {اقرأ باسم ربك} أي: اذكر اسم ربك بالتوحيد والتعظيم. والباء صلة. قاله أبوعبيدة، وقيل عنه: الاسم صلة. أي: بعونه وتوفيقه، وأشبه منهما (3) أن يقال: إن معناه: انبتدىء القراءة ببركة اسم ربك وعونه، وخلق: أي: آدم - عليه السلام - من تراب. وخلق الإنسان من علق: يعني ولده، والعلق: الدم. جمع علقة، وسميت بذلك لتعلقها بما مرت عليه، وأنشدوا: تركناه يخر على يديه يمج عليهما علق الوتين واقرأ الثاني: توكيد (4) للأول لفظ، ولذلك حسن الوقف عليه. {وربك الأكرم}، وهو مرفوع بالابتداء، وخبره: {علم الإنسان ما لم يعلم} قيل: آدم - عليه السلام – علمه الأسماء كلها.
وقال قتادة: هي للجنس، أي: الخط. %(4/1871)%
قلت: (ما) لابهامها للعموم؟ إذ الله تعالى علم كل واحد من نوع الانسان ما لم يكن يعلم، لكن الامتنان إنما يحصل بالعلوم النافعة لا غير، في المقصودة بهذا العموم، والله أعلم. =(7/433)=@ &(7/358)&$
__________
(1) ي (ح): «رجع».
(2) قوله: «قوله» بلا واو.
(3) في (ح): «منها» بدل «منها».
(4) في (ح): «توكيدا»(7/358)
وقد تقدَّم: أن أول ما نزل من القرآن من أول هذه السورة إلى آخر هذه الآية، ثم بعد آماد نزل قوله: {إن إلى ربك الرجعى} (1) فهذا نمط آخر افتتح الكلام به، ولذلك قال أبو حاتم: إن (كلا) هنا بمعنى ألا التي للاستفتاح. وقال الفراء: إنها تكذيب للمشركين.
وقول أبي حاتم أولى. والإنسان هنا: أبو جهل. و (ليطغى) أي: تكبر وارتفع حتى تجاوز المقداروالحد. و (أن رآه استغنى) أي: من أجل استغنائه بماله، وشدته، وعشيرته، وعلى هذا فالضمير عائد إلى أبي جهل، أعني: الضمير في (رآه). وقيل: هو عائد على محمد صلى الله عليه وسلم؛ أي: أن أبا جهل طغى، وتجاوز الحد في حسده لمحمد صلى الله عليه وسلم، من أن استغنى محمد صلى الله عليه وسلم بربه، وبما منحه من فضله عن كل أحد من جميع خلقه. وقوله: ((إن إلى ربك الرجعى» أي: الرجوع إليه يوم القيامة، فيجازي كلا بفعله.
وقوله: {أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى} يعني به: أبا جهل، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يصلي، وقال ما ذكره في الحديث، و (أرأيت) هذه فيها معنى التعجب، فكأنه قال: أعجب من هذا الجاهل الضعيف العقل، كيف ينهى عن عبادة الله تعالى مثل محمد صلى الله عليه وسلم. %(4/1872)%
وقوله: {أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى} قيل: هو (2) خطاب لأبي جهل، وهو خطاب توبيخ له، واحتجاج عليه، فكأنه قال: أخبرني أيها المناع لمحمد من العبادة إن كان محمد على الهدى، أو أمر بالتقوى، فصددته =(7/434)=@ عن ذلك، ألم تعلم أن الله يراك، وهو قدير على أخذك ومعاقبتك؟! وقيل: جوابه محذوف، تقديره: ألست تستحق من الله النكال والعقاب؛ ثم أخذ بعد هذا في تهديده ووعيده، فقال: (كلا) أي: ويل له وهلاك.
وقوله: {لئن لم ينته لنسفعنا بالناصية} هذا قسم من الله تعالى على تعذيبه، وإهلاكه إن لم يؤمن. ومعنى: {لنسفعا}: لنأخذن، &(7/359)&$
__________
(1) في (ح): «إن الإنسان ليطغى» بدل قوله «إن إلى ربك الرجعى»
(2) في (ح): «هذا».(7/359)
ولنجذبن. والناصية: شعر مقدم الرأس، وهذا الوعيد مثل قوله تعالى: {يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذوا (1) بالنواصي والأقدام}. ثم وصف ناصيته بأنها كاذبة خاطئة، والمقصود: صاحبها.
وقوله: {فليدع ناديه} أي: إذا أخذناه، فلينتصر بأهل مجلسه إن صح له ذلك. والنادى: المجلس، وأراد به أهل ناديه، ويقال عليهم: ا لندي .
وقوله: {سندع الزبانية} أي: لتعذيبه، وهم خزنة النار الموكلون بتعذيب الكفار، وهم الملائكة (2) الذين قال الله فيهم: {عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون} وسموا زبانية من الزبن، وهو الدفع؟ لشدة دفعهم وبطشهم. قال الشاعر: ... .. ... .. . .... .. .. .. . زبانية غنمت عظائم (3) كلومها =(7/435)=@ %(4/1873)%
(1) هذا عجز بيب، وصره: مطاعيم في القضوى مطاعين في الوغى
وقوله: {كلا لا تطعه} تأكيد زجر لأبي جهل، ونهي لمحمد صلى الله عليه وسلم عن طاعته في ترك الصلاة، وفيما يأمر به، وينهى عنه .و(اسجد واقترب) أي: صل لله، وتقرب إليه بعبادته، وأفعال البر، وقد تكلمنا على سجود القران في كتاب الصلاة (4) .
ومن سورة النصر
نصر الله: عونه على إظهار نبيه على قريش وغيرهم. والفتح: فتح &(7/360)&$
__________
(1) في (ح): «فيؤخذ».
(2) من قوله: «وقوله: سندع الزبانية» إلى هنا سقط من(ح).
(3) في (ح): «عظام»
(4) من قوله: «وتغرب إليه بعبادته... » إلى هنا سقط من (ح)(7/360)
مكة، كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم في حديت عائشة - رضي الله عنها - ولا يلتفت لما قيل في ذلك منا يخالفه. والأفواج: الزمر. يعت: زمرة بعد زمرة (1) ، وهذا كان بعد فتح مكة، فإنَّ أهل مكة كانوا عظماء العرب وقادتهم، ومكة بيت الله تعالى، فتوقفت العرب في إسلامها على أهل مكة ينظرون ما يفعلون، فلما فتح الله تعالى مكة على نبيه صلى الله عليه وسلم وأسلم أهلها، أصفقت العرب على الدخول في الإسلام، وهجرت الأوثان، وعللت الأزلام، وحصل التمام، وكمل الإنعام، فوجب الشكر لهذا المنعم الكريم، واستغفار هذا (2) المولى الرحيم، لا سيما وقد أفصح خطابا: {فسبخ بحمد ربك وأستغفره إنه كان توابا} أي: قل يا محمد! سبحان الله وبحمده، وأستغفر الله، وأتوب إليه. فكان %(4/1874)% صلى الله عليه وسلم يكثر من قول ذلك شكرا =(7/436)=@ لله تعالى، وامتثالا لما أمر به هنالك. وقد تقدَّم: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعبد الله بن عباس فهما من هذه السورة: أن الله تعالى نعى لنبينا محمد تكسع نفسه، وكذلك فهمه أبو بكر - رضي الله عنه -.
وقال ابن عمر: نزلت هذه السورة بمنى في حجَّة الوداع، ثم نزلث: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي}، فعاش بعدها النبف صلى الله عليه وسلم ثمانين يوما، ثم نزلث آية الكلالة، فعاش بعدها خمسين يوما، ثم نزل: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم}، فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما، ثم نزلت: {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى لله}، فعاش بعدها (3) أحدا وعشرين يوما.
وقال مقاتل: سبعة أيام. إنه كان توابا على النادمين - وإن كثروا - ومحاء ذنوب الخاطئين (4) إذا استغفروا. &(7/361)&$
__________
(1) في (ح): «بعد زمرة» سقط من (ح).
(2) في (ح): «والاستغفار لهذا».
(3) من قوله: «خمسة وثلاثين يوما...» إلى هنا سقط من (ح).
(4) في (ح): «الخطائين».(7/361)
نسأل (1) الله العظيم الكريم أن يلهمنا الندم الذي هو أعظم أركان التوبة، وأن يمحو ذنوبنا، ويلهمنا الاستغفار الموجب لذلك إن شاء الله تعالى. &(7/362)&$
%(4/1875)%
تم الجزء الرابع من كتاب «المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم» وبتمامه يتم جميع (1) الديوان، والله المستعان، وذلك في شهر شوال سنة أربع وعشرين وسبعمئة على يد الفقير إلى الله تعالى محمد بن عيسى بن محمد بن رزيك الشافعي مذهبا، الغساني نسبا، رحمهم الله تعالى برحمته الواسعة وسائر المسلمين(1). =(7/437)=@ %(4/1876)% (1) هذا خاتمة (ع)
__________
(1) في (ح): «يتم إن شاء الله وجميع».(7/362)
(7/363)