- - - - -
ومن باب فيمن قال: لها السكنى والنفقة
قول الشعبي: لم يجعل لها سكنى، يحتمل أن يكون معنى ذلك: أنه لَمَّا لم تطالب (1) الزوجَ بأجرة السكنى -إذ كانت قد انتقلث من البيت الذي (2) طُلِّقت فيه حين خافت عورة منزلها إلى بيت أم شريك، فلم تطالبها أم شريك بأجرة ذلك (3) ، عبَّر الراوي عن ذلك بتلك العبارة. وإنكار الأسود على الشعبي هذا الحديث: إنما كان للذي نبَّه عليه عمرُ رضي الله عنه بقوله: «لا نترك (4) كتاب الله لقول امرأة»؛ ومعنى ذلك: أنه لم يجز تخصيص القرآن بخبر الواحد. وقد اختلف في ذلك الأصوليون. ويجوز أن يكون قد استمر العمل بالسكنى على مقتضى العموم، فلا يقبل حينئذ خبر الواحد في نسخه اتفاقًا.
وقوله: «وسنة نبينا»، قال الدارقطني: «وسنة نبينا» غير محفوظة، لم يذكرها جماعة من الثقات (5) . قال القاضي إسماعيل: الذي في كتاب ربنا النفقة لذوات الأحمال وبحسب الحديث. ولها السكنى؛ لأن السكنى موجود (6) في كتاب الله؛ =(4/274)=@ لقوله تعالى: {أسنكنوهن} (7) الآية. وزاد أهل الكوفة في الحديث عن عمر: «والنفقة».
قلت: ويظهر من كلام هؤلاء الأئمة: أن الثابت عن عمر رضي الله عنه قوله (8) : «لها &(4/218)&$
__________
(1) في (ب) و(ح): «إنه لم يطالب».
(2) في (أ): «التي».
(3) قوله: «ذلك» سقط من (ب) و(ح).
(4) في (ب): «تترك».
(5) قال الحافظ في "الفتح" (9/481) كلام الدارقطني هذا، ثم قال: «وكأنَّ الحامل له على ذلك: أن أكثر الروايات ليست فيها هذه الزيادة، لكن ذلك لا يرد رواية النفقة، ولعل عمر أراد يسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ما دلت عليه أحكامه من أتباع كتاب الله، لا أنه أراد سنة مخصوصة في هذا؛ ولقد كان الحق ينطق على لسان عمر».
(6) في (ب): «موجودة».
(7) الآية (5) من سورة الطلاق.
(8) قوله: «قوله» سقط من (أ).(4/218)
السكنى» لا غير. ولم يثبتوا قوله: «والنفقة». وليس بمعروف عند أهل المدينة (1) . ولذلك قال (2) مالك (3) : إنه سمع ابن شهاب يقول: المبتوتة لا تخرج من بيتها حتى تحل، وليس لها نفقة إلا أن تكون حاملاً. قال مالك: وهذا الأمر عندنا. وإلى هذا أشار مروان بقوله: سنأخذ بالعصمة (4) التي وجدنا الناس عليها؛ أي: بالأمر الذي اعتصم (5) الناس به، وعملوا عليه؛ يعني بذلك: أنها لا تخرج من بيتها، ولا نفقة لها (6) . =(4/275)=@
ومن باب لا تخرج المطلقة من بيتها حتى تنقضي عدتها
وقول (7) فاطمة لما بلغها قول مروان: «فبيني وبينكم القرآن»، وتلت قوله تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن} الآية (8) ، وقالت:» هذا لمن كانت له الرجعة، وأشارت بقولها: «فأي أمر يحدث (9) بعد الثلاث ؟!» إلى قوله تعالى: {لعل =(4/276)=@ الله يحدث بعد ذلك أمرًا}(@). ظاهر كلامها هذا إنما هو ردٌّ على مروان &(4/219)&$
__________
(1) انظر "فتح الباري" (9/481)
(2) في (ب): «قال ولذلك». بالتقديم والتأخير.
(3) قوله: «مالك» سقط من (ب) و(ح).
(4) في (ب) و(ح): «سآخذ بالقصة».
(5) في (ح): «يعتصم».
(6) زاد في (أ) ما نصه: «ومروان هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية القرشي الأموي، كنيته: أبو عبدالملك، لم يصح سماعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . واختلف في رؤيته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان مولده في السنة الثانية من الهجرة». لكن كتب في أوله وآخره «صح»، ويبدو أنه توضيح معنى محله الحاشية.
(7) في (ب): «وقوله».
(8) الآية (1) من سورة الطلاق.
(9) في (ب) و(ح): «تجدَّد».(4/219)
في منعه البائن من الانتقال من بيتها؛ لأنها كانت تجيز الخروج للبائن (1) على نحو ما أباحه لها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكأنها فهمت عن مروان، أو نقل إليها: أنه يمنع البائن من الخروج مطلقًا، فاستدلَّت بأن الآية التي تلتها إنما تضمنت النهي عن خروج المطلقة الرجعية؛ لأنها بصدد أن يحدث لمطلِّقها رأي في ارتجاعها ما دامت في عدَّتها، فكأنها تحت تصرف الزوج في كل وقت، وأما البائن فليس لها (2) شيء من ذلك فيها، فيجوز لها أن تخرج إذا دعتها إلى ذلك حاجة، أو خافت عورة، كما أباح لها ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - . هذا ظاهر صدر كلامها مع مروان، غير أن عجز كلامها هذا يظهر منه: أن منازعتها لمروان إنما كانت في النفقة لها. فكان مروان لا يراها لها، وهي تراها لها. وهو ظاهر قولها: «فكيف (3) تقولون: لا نفقة لها إذا (4) لم تكن حاملاً، وليس كذلك. فإنها قد نصَّت في أول الحديث على أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا نفقة لك»، فكيف تخالف هي هذا النصّ؟ وتقول: إن لها النفقةزالنفقة لها. هذا (5) محال، وكأنَّ هذا وهم من بعض الرواة (6) في قوله: «فكيف يقولون لا نفقة لها إذا لم تكن حاملاً؟».
وقولها: «فعلام خبسوتها؟» معناه: فلأيِّ شيء تمنعونها من الانتقال إذا لم تكن له عليها (7) رجعة ؟! وقد دلَّ على هذا قوله: «فاستأذنته في الانتقال، فأذن لها»؛ فهذا ما ظهر لي، والله أعلم.
وعلى الجملة: فحديثُ فاطمة لكثرةِ اضطرابه =(4/277)=@ قاصمةٌ، فما أولاه لاختلاف معناه ولفظه بقول عمر: الذي جعل الله تعالى الحقَّ على لسانه
وقلبه (8) .
وقول عائشة: «ما لفاطمة خير أن تذكر هذا الحديث»؛ لا يلتفت منه إلى فَهْمِ مَنْ فَهِمَ من قول عائشة هذا نقصًا في حق فاطمة، ولا تكذيبًا من عائشة لها على ما تقدَّم، وإنما أنكرت عليها قولها: لا سكنى لها ولا نفقة؛ كما نصَّ عليه الراوي. ويظهر من إنكار عائشة: أنها ترى: لها السكنى والنفقة، كما رآه (9) عمر، تمسُّكًا منها بما تمسَّك هو به. والله أعلم.
ويحتمل أن تكون (10) أنكرت قولها: &(4/220)&$
__________
(1) في (أ): «الجروج لها».
(2) في (أ): «له».
(3) في (ب) و(ح): «وكيف».
(4) في (أ): «إذ».
(5) قوله: «هذا» سقط من (ب).
(6) الذي يبدو والله أعلم: أن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، لم تعترض على النفقة بل هي ترى أن لا نفقة ولا سكنى لها، ولكن إن لم تكن لها نفقة كيف يستقر لها المقام في مكان لا نفقة عليها فيه، ولهذا قالت: فعلام تحبسونها، فموجب إسكانها: النفقة عليها، فهي تقول لازم مذهبكم في السكنى: أن لها النفقة.
(7) في (ب) و(ح): «تكن عليها».
(8) روى من حديث جماعةٍ من الصحابة:
1 - ابن عمر:
أخرجه أحمد (2/95)، والفسوي في "تاريخه" (1/467)، والترمذي (4/576-577 رقم3682) في المناقب، باب في مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وابن حبان (15/318 رقم689/الإحسان)
جميعهم من طريق خارجة بن عبدالله.
وأخرجه ابن سعد (2/هذا الحديث)، وأحمد (/)، وعبد بن حميد (ص 245 رقم 758). ثلاثتهم من طريق نافع بن أبي نعيم.
كلاهما - خارجة ونافع - عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه».
قال الترمذي: «وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وخارجة بن عبدالله الأنصاري هو بن سليمان بن زيد بن ثابت وهو ثقة».اهـ.
وحسنه الألباني في "المشكاة" (3/1704 رقم6042).
وفي الباب: عن أبي هريرة: أخرجه ابن أبي شيبة (6/357-358 رقم 31977) في المناقب، باب ما ذكر في فضل عمر بن الخطاب، وأحمد (2/401)، وابن أبي حعاصم في "السنة" (2/567 رقم1247 و1250)، والبزار (3/174 رقم2501/كشف)، وابن حبان (15/312-313 رقم6889/الإحسان)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/42).
قال الهيثمي في "المجمع" (9/63): رواه أحمد والبزار والطبراني في "الأوسط"، ورجال البزار رجال الصحيح، غير الجهم بن أبي الجهم وهو ثقة».اهـ.
وعن أبي ذر:
أخرجه أحمد (5/145 و165 و177)، وأبو داود (3/365 رقم2962) في الخراج والإمارة والفيء، باب في تدوين العطاء، وابن ماجه (1/40 رقم108) في المقدمة، فصل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وابن أبي عاصم في "السنة" (2/567 رقم1249)، والحاكم (3/86-87)، وقال: «صحيح على شرط الشيخين»، ووافقه الذهبي.
قال الألباني في "المشكاة" (3/1704 رقم6042): «في سنده عنعنة ابن إسحاق.
وعن بلال: أخرجه ابن سعد (2/335)، وابن أبي عاصم (2/567 رقم1248)، والطبراني في "الكبير" (1/354 رقم1077).
قال الهيثمي في "المجمع" (9/64): «وفيه أبو بكر بن أبي مريم، وقد اختلط».
(9) في (ب) و(ح): «أنكره».
(10) في (أ) و(ب): «يكون».(4/220)
لا سكنى فقط، والظاهر الأول. ويغفر الله تعالى لسعيد بن المسيب ما وقع فيه (1) حيث قال في هذه الصحابية المختارة: «تلك امرأةٌ فتنتِ الناس، إنها كانت امرأة(4) لسنة،
فوضعت على يد ابن أم مكتوم»، وروي عنه (2) أيضًا أنه قال: «تلك امرأة استطالت على أحمائها (3) بلسانها (4) ، فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تنتقل»، فلقد أفحش في القول (5) ، واغتابها، ولا بُدَّ لها معه من موقف بين يدي الله تعالى.
وحديث فاطمة إذًا تُتُبِّعَتْ ألفاظ رواياته اسْتُخرج منها أبواب كثيرة من الفقه لا تخفى على متأمِّل فطن (6) .
ووقع في "الأم" (7) قول فاطمة: «فشرَّفني الله بابن زيد»، و«كرمني بابن زيد»؛ كذا لكافة الرواة، وعند السمرقندي: «بأبي (8) زيد» وكلاهما (9) صحيح؛ لأن زيدًا أبوه (10) ، ويكنى هو: بأبي زيد. وقيل: أبو محمد. وهذا يدلُّ على فضلها، =(4/278)=@ وتواضعها رضي الله عنها. وعلى صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ حيث قال لها: «طاعة الله وطاعة رسوله خير لك» (11) ، فكان كما قال - صلى الله عليه وسلم - . &(4/221)&$
__________
(1) في (ب) و(ح): «منه». ... (4) قوله: «امرأة» سقط من (ب) و(ح).
(2) في (ب) و(ح): «عنها».
(3) في (ب): «أحماها».
(4) قوله: «بلسانها» سقط من (ب) و(ح).
(5) في (ب) و(ح): «في القول عنها».
(6) في (ب) و(ح): «لا تخفى على الفطن».
(7) مسلم (2/1120 رقم1480/49) كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها.
(8) في (أ): «بابني».
(9) في (ب) و(ح): «فهما وكلاهما».
(10) في (أ): «زيد أخوه»، وفي (ب): «زيد أبوه».
(11) تقدم تخريجه عند مسلم.(4/221)
وقوله للمعتدَّة: «فَجُدِّي نَخْلِك»، وإباحته لها الخروج لجدِّ نخلها؛ دليل لمالك، والشافعي، وأحمد، والليث على قولهم: إن المعتدة تخرج بالنهار في حوائجها، وإنما تلزم منزلها بالليل. وسواء عند مالك كانت رجعية أو بائنة. وقال الشافعي في الرجعية: لا تخرج ليلاً ولا نهارًا، وإنما تخرج نهارًا المبتوتة. وقال أبو حنيفة: ذلك في المتوفى عنها زوجها، وأمَّا المطلقة: فلا تخرج ليلاً ولا نهارًا. وقال الجمهور بهذا الحديث: إن (1) الجداد (2) يكون (3) هو بالنهار عرفًا، وشرعًا. أما العرف: فهو عادة الناس في مثل ذلك الشغل (4) . وأما الشرع: فقد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن جداد الليل. ولا يقال: فيلزم من إطلاقه أن تخرج بالليل؛ إذ قد يكون نخلها بعيدًا تحتاج إلى المبيت فيه؛ لأنا نقول: لا يلزم ذلك من هذا الحديث؛ لأن نخلهم لم يكن الغالب عليها (5) البعد من المدينة، بحيث يحتاج إلى
المبيت، وإنما هي بحيث تخرج إليها، وترجع (6) منها في النهار.
وقوله: «فلعلَّكِ أن (7) تصَّدَّقي، أو تفعلي معروفًا»؛ ليس تعليلاً لإباحة الخروج إليها بالاتفاق، وإنما خرج هذا مخرج التنبيه لها، والحضِّ على فعل الخير، والله أعلم. =(4/279)=@ &(4/222)&$
__________
(1) في (ب) و(ح): «فإن».
(2) في (ح): «الجذاد».
(3) قوله: «يكون» سقط من (ب) و(ح).
(4) قوله: «في مثل ذلك الشغل» سقط من (ب) و(ح).
(5) في (ب) و(ح): «عليه».
(6) في (ب) و(ح): «ويرجع».
(7) قوله: «أن» سقط من (أ).(4/222)
- - - - -
ومن باب ما جاء أن الحامل إذا وضعت فقد (1) انقضت عدتها
قول ابن عباس: «عِدَّتها آخر الأجلين»؛ يعني: عدة الوفاة، أو الوضع، فلا تحل بالأول منهما، بل بجميعهما. وهذا الذي ذهب إليه ابن عباس روي عن علي (2) ، واختاره سحنون من أصحابنا.
وقال جمهور العلماء من السلف، وأئمة الفتوى: إنها تحل بوضع الحمل وإن لم تنقض عدَّةُ الوفاة. وقد روي أن ابن عباس رجع إلى هذا (3) .
والكل متفقون على أنها إن (4) انقضت لها عدَّة الوفاة ولم تضع لم تحل حتى تضع. والذي حمل الفريق الأول على ذلك روم الجمع بين قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا} (5) وبين(6) قوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} (6) ، وذلك أنَّها إذا قعدت أقص الأجلين فقد عملت بمقتضى الآيتين، وإن اعتدَّتْ بوضع الحمل فقد تركت العمل بآية عدَّة الوفاة. والجمع أولى من الترجيح &(4/223)&$
__________
(1) قوله: «فقد» سقط من (ب) و(ح).
(2) أخرجه عبدالرزاق (6/47 رقم11714)، وسعيد بن منصور (1/352 رقم1516)، والبيهقي (7/430)، ثلاثتهم من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن مسلم بن صبيح، قال: كان علي يقول: آخر الأجلين.
وصصح الحافظ ابن حجر إسناده في "الفتح" (9/474).
رواية عبدالرزاق مطولة...
(3) قال الحافظ في "ألفتح" (9/474): «ويقال إنه رجع عنه، ويقويه أن المنقول عن أتباعه وفاق الجماعة في ذلك».اهـ.
(4) في (ب) و(ح): «إذا».
(5) الآية (234) من سورة البقرة. ... (6) في (ب): «ومن».
(6) الآية (4) من سورة الطلاق.(4/223)
باتفاق أهل الأصول. وهذا نَظَرٌ حَسَنٌ لولا حديث سُبَيْعة هذا؛ فإنَّه نصَّ بأنها (1) تحلُّ بوضع الحمل، ومبيِّنٌ أنَّ قوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن (2) }؛ محمول على =(4/280)=@ عمومه (3) في المطلَّقات والمتوفَّى عنهنّ أزواجهنّ، وأن عدَّة الوفاة مختصة بالحائل (4) من الصنفين. ويعتضد هذا بقول ابن مسعود (5) : إن آية سورة النساء القصرى (6) نزلت بعد آية عدَّة الوفاة. وظاهر كلامه: أنها ناسخة لها. وليس مراده -والله أعلم - وإنما يعني: أنها مخصِّصة لها؛ فإنها أخرجت منها بعض متناولاتها. وكذلك حديث سبيعة متأخر عن عدَّة الوفاة؛ لأن قصة سبيعة كانت بعد حجة الوداع (7) ، وزوجها هو سعد بن خولة (8) ، توفي بمكة (9) حينئذ. وهو الذي رثى (10) له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات (11) بمكة، والله أعلم.
وقد تقدَّم القول في الطهارة على قوله: «نُفِسَتْ».
وقول ابن شهاب: فلا باس أن تتزوَّج (12) حين وضعت، وإن كانت في دمها، غير أنه لا يقربها زوجها حتى تطهر؛ هذا مذهب الجمهور. وقد شذَّ الحسن، =(3/281)=@ والشعبي، والنخعي، وحماد فقالوا: لا تنكح ما دامت في دم نفاسها. والحديث حجَّة عليهم، ولاحجَّة لهم في قوله في "الأم": فلمَّا تعلّت من نفاسها تجملت للخطَّاب (13) ؛ لأن«تعلَّتْ» وإن كان أصله: طهرت من دم نفاسها، على ما حكاه الخليل، فيحتمل أن يكون المراد به ها هنا: تعلت من آلام نفاسها؛ أي: استقلَّت من أوجاعها وتغييراته. ولو سلِّم أن معناه ما قاله الخليل، فلا حجة فيه، وإنما الحجة في قوله - صلى الله عليه وسلم - لسبيعة: «قد حللت حين وضعت»، فأوقع الحِلَّ في (14) حين الوضع، &(4/224)&$
__________
(1) في (ب) و(ح): «في أنها».
(2) قوله: «أن يضعن حملهن» سقط من (أ).
(3) في (ب): «محمول على أن العمومة».
(4) الحائل هي غير الحامل. انظر "البحر الرائق" (3/229)، و"عون المعبود" (6/271).
(5) أخرجه البخاري (8/193 رقم4532/65) كتاب التفسير، باب {والذين يتوفون منكم...}، و{وأولات الأحمال...}.
(6) قال السيوطي في "الإتقان" (1/154): «الطَّلاق: تسمَّى سورة النساء القصرى. كذا سمَّاها ابن مسعود - أخرجه البخاري وغيره - وقد أنكره الداودي فقال: لا أرى قوله: القصوى محفوظًا، ولا يقال في سورة من القرآن قصرى ولا صغرى.
قال ابن حجر: «وهو ردٌّ للأخبار الثابتة بلا مستند. والقصر والطول أمر نسبي، وقد تقدم في صفة الصَّلاة قول زيد بن ثابت - طولى الطوليين -، وأنه أراد بذلك سورة الأعراف». انظر "الفتح" (8/656).
(7) أخرجه مسلم (2/1122 رقم1484/56) كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل.
لكن قال الحافظ في "الفتح" (9/472): «ونقل ابن عبدالبر الإتفاق على ذلك، وفي ذلك نظر، فقد ذكر محمد بن سعد أنه مات قبل الفتح، وذكر الدارقطني أنه مات سنة سبع».اهـ.
(8) انظر الموضع السابق....
(9) سيأتي في كتاب الوصايا والفرائض، باب الحث على الوصية وأنها بالثلث لا يتجاوز.
(10) في (ب): «رأى».
(11) في (أ): «من أن توفي».
(12) في (ب): «يتزوج».
(13) مسلم (2/1122 رقم1484/56) كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل.
(14) قوله: «في» سقط من (ب) و(ح).(4/224)
وعلَّقه عليه، ولم يقل: إذا انقطع دمُكِ. ولا: إذا طَهُرْتِ: فصحَّ ما قاله الجمهور.
وفي حديث سُبَيْعة هذه دليل: على جواز المنازعة، والمناظرة في المسائل الشرعية، وعلى قبول أخبار الآحاد، وعلى الرجوع في الوقائع إلى من يُظَّنُّ علم ذلك عنده، وإن كان امرأة. إلى غير ذلك.
- - - - -
ومن باب الإحداد على الْمَيِّت
« الخلوق»- بفتح الخاء المنقوطة -: أنواع من الطيب تخلط بالزعفران. =(4/282)=@ وهو: العبير أيضًا. وأصل العوارض: الأسنان. وسُمِّيت الخدود: عوارض لأنها عليها، من باب: تسمية الشيء باسم الشيء إذا جاوره، أو كان منه بسبب. والعارضان هنا (1) هما: الخدَّان. والإحداد: مصدر: أحدَّت المرأة على زوجها في مُحِدٌّ: إذا امتنعت من الزينة. ويقال: حدَّت فهي حادٌّ. وكل ما يصاغ (2) من (ح. د) كيفما تصرَّف فهو راجع إلى معنى المنع. &(4/225)&$
__________
(1) في (ب) و(ح): «هاهنا».
(2) في (ب): «يضاع».(4/225)
وقوله: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحدَّ على ميت فوق ثلاث» فاعل«لا يحل (1) ») المصدر الذي يمكن صياغته من«تحد» مع«أن» المرادة (2) . فكأنَّه قال: الإحداد.
ووصْفُ المرأة بالإيمان يدلُّ على صحة أحد القولين عندنا في الكتابية المتوفَّى عنها زوجها المسلم (3) : أنها لا إحداد (4) عليها. وبه قال أبو حنيفة، والكوفيون، وابن كنانة، وابن نافع، وأشهب من أصحابنا. وقال الشافعي وعامة أصحابنا: عليها الإحداد.
وقوله: «فوق ثلاث»؛ يعني به: الليالي، ولذلك أنَّثَ (5) العدد.
ويستفاد منه: أن المرأة إذا مات حميمُها فلها أن تمتنع من الزينة ثلاث ليال متتابعة، تبدأ =(4/283)=@ بالعدد من الليلة التي تسقبلها إلى آخر ثالثها، فإن مات حميمُها في بقية (6) يوم، أو ليلة ألغتها (7) ، وحسبت من الليلة القابلة (8) المستأنفة.
وقوله: «إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا»؛«أربعة» منصوب على الظرف، والعامل فيه« تُحِدُّ» و«عشرًا» معطوف عليه (9) .
وهذا الحديث بحكم عمومه يتناول الزوجات كلهن، المتوفَّى عنهن أزواجهن. فيدخل (10) فيه الحرائر، والإماء، والكبار، والصغار. وهو مذهب الجمهور.
وذهب أبو حنيفة: إلى أنه لا إحداد على أمة، ولا صغيرة. والعموم(7) حجَّة عليه. ولا خلاف أعلمه: أنهما لا بدَّ لهما من العدَّة.
فبالطريق التي (11) تلزمهما به العدَّة يلزمهما الإحداد.
و«إلا على زوج»؛ إيجاب بعد نفي. فيقتضي حصر الإحداد على المتوفى عنها زوجها، فلا تدخل المطلقة فيه من جهة لفظه بوجه. فلا إحداد على مطلَّقة عندنا، رجعية كانت أو بائنة واحدة، أو أكثر. وهو مذهب &(4/226)&$
__________
(1) في (أ): «لا تحل».
(2) في (ب) و(ح): «المرأة».
(3) قوله: «المسلم» سقط من (أ).
(4) في (ب) و(ح): «حداد».
(5) في (ب) و(ح): «أنهت».
(6) قوله: «بقية» سقط من (ب) و(ح).
(7) في (أ): «ألغته».
(8) قوله: «القابلة» سقط من (ب) و(ح).
(9) قوله: «عليه» سقط من (أ).
(10) في (ب) و(ح): «فيدخلن». ... (7) في (ب) و(ح): «والحديث».
(11) في (أ): «الذي».(4/226)
مالك، والشافعي، وربيعة، وعطاء، وابن المنذر.
وقال قوم: إن المطلقة ثلاثًا عليها الإحداد. واليه ذهب أبو حنيفة، والكوفيون، وأبو ثور، وأبو عبيد. وقال الشافعي، وأحمد، وإسحاق: الاحتياط أن تتقي المطلقة الزينة، وقد شذَّ الحسن فقال: لا إحداد على مطلقة، ولا متوفى عنها زوجها. وهو قول يدلّ على إبطاله نَصُّ الحديث الْمُتقدِّم.
وأمَّا من رأى أن الإحداد (1) على المطلَّقة فمستنده (2) : إلحاقها بالمتوفَّى عنها زوجها. وليس بصحيح؛ للحصر (3) الذي في الحديث، ولوجود (4) الفرق بينهما. =(4/284)=@
وذلك: أن الإحداد إنما هو مبالغة في التحرز من تعرضها لأسباب النكاح في حق المتوفى عنها، لعدم الزوج؛ إذ ليس له (5) من جهته من يقوم مقامه في البحث عنها والتحرز بها، بخلاف المطلِّق؛ فإنه حيٌّ، متمكِّن (6) من البحث عن أحوالها، فافترقا. هذا إن قلنا: إن الإحداد معقول المعنى. فإن قلنا: إنه تعبد؛ انقطع الإلحاق القياسي. ولو سُلِّم صحة الإلحاق القياسي؛ لكان التمسَّك بظاهر اللفظ أولى (7) . وقد بينَّا: أنه يدلُّ على الحصر، والله أعلم.
وإنَّما (8) خصَّ الله تعالى عدَّة الوفاة بأربعة أشهر وعشر؛ لأن غالب الحمل يبين - تحركه في تلك المدَّة؛ لأن النُّطْفَة تبقى في الرَّحم أربعين، ثم تصير علقة أربعين، ثم مضغة أربعين، فتلك أربعة أشهر، ثم ينفخ فيه الروح بعد ذلك، فتظهر حركته في العشر الزائد على الأربعة الأشهر. وهذا على ما جاء من حديث &(4/227)&$
__________
(1) في (ح): «أن الإحداد».
(2) في (ب): «فمسنده».
(3) في (أ): «وللحصر».
(4) في (أ): «لوجود».
(5) قوله: «له» سقط من (ب) و(ح).
(6) في (ب) و(ح): «يتمكن».
(7) في (ب) و(ح): «الأولى».
(8) في (ب) و(ح): «وأما».(4/227)
ابن مسعود رضي الله عنه (1) .
وأنَّثَ عشرًا؛ لأنه أراد به مدَّة العشر. قاله المبرد. وقيل: لأنه أراد الأيام بلياليها. وإلى هذا ذهب كافة العلماء. فقالوا: إنها عشرة أيام بعد الأربعة الأشهر. وقال الأوزاعي: إنما أنَّث العشر؛ لأنه أراد الليالي. فعلى قول (2) الجمهور: تحل باليوم العاشر بآخره. وعلى قول الأوزاعي: تحل بانقضاء (3) الليلة العاشرة. وقد احتج قوم (4) بقوله: أربعة أشهر وعشرا: على أن ما زاد على هذا العدد إذا كانت حاملاً لم يلزم فيه الإحداد. وقال أصحابنا: عليها الإحداد (5) إلى أن تضع؛ نظرًا إلى المعنى؛ إذ كل ذلك عدَّةٍ من وفاة، وإنما خَصَّ ذلك العدد (6) بالذكر (7) ؛ لأن الْحِيَّلَ من النساء أغلب، وهنَّ الأصل، والحمل طارئ. والله تعالى أعلم.
ومنعه - صلى الله عليه وسلم - الكحل للمرأة التي تُخُوِّفَ على (8) عينها يدلُّ: على التشديد في منع فى الْمُحدّ من الاكتحال بما فيه زينة، أو طيبة إذا وجدت منه بًّدا، إثمدًا كان أو غيره. وهو مذهب الجمهور. =(4/285)=@
فأما إذا اضطرت إليه فاختلفوا (9) ؛ فمنهم من قال: تجعله بالليل، وتمسحه بالنهار. وبه قال الكوفيون، والنخعي، وعطاء، والشافعي، أخذًا بما في "الموطأ" (10) من حديث أم سلمة، من قوله: «اجعليه بالليل، وامسحيه بالنهار».
ومنهم من قال: تستعمله ليلاً ونهارًا، بحسب ضرورتها. وبه قال سالم، وسليمان بن يسار، ومالك، حكاه عنه الباجي وغيره. وتأول هؤلاء (11) قوله في هذا الحديث: «تخوفوا عليها» (12) : إن هذا الخوف لم يكن محقَّقًا، ولو كان الضرر (13) محقَّقًا حاصلاً فلا بدَّ لأباحه لها؛ لأن المنع إذ ذاك كان (14) يكون حرجًا في الدِّين، وهو مرفوع بقاعدة الشرع. &(4/228)&$
__________
(1) سيأتي في القدر، باب كيفية خلق ابن آدم.
(2) في (ب): «قولين».
(3) في (أ): «بانفصال».
(4) في (ب): «قومه».
(5) من قوله: «وقال أصحابنا....» إلى هنا سقط من (ب).
(6) في (ب) و(ح): «بالعدد».
(7) قوله: «بالذكر» سقط من (ب) و(ح).
(8) قوله: «على» سقط من (ب).
(9) قوله: «فاختلفوا» سقط من (ب) و(ح).
(10) (2/598 رقم105) كتاب الطلاق، باب ما جاء في الإحداد. بلاغًا.
(11) في (ب): «الجمهور» بدل «هؤلاء».
(12) في(ب) تشبه: «تخوفوا عينها»، ولفظ الرواية في"صحيح مسلم" (2/1125رقم 1488) كتاب الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة...: «فخافوا على عينها».
(13) قوله: «الضرر» سقط من (ب) و(ح).
(14) في (ب): «قد كان».(4/228)
وقوله: «إنما هي أربعة أشهر وعشر (1) »)؛ إنما تفيد التقليل والحصر. يتمسَّك بها من يرى: أن الإحداد لا تزيد فيه الحامل على أربعة أشهر والعشر. وقد تقدَّم.
وقوله: «قد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول»؛ هذا منه في إخبار عن حالة المتوفَّى عنهن أزواجهن قبل ورود الشرع. وحاصله: أنهن كنَّ يقمنَّ في بيوتهن حولاً ملازمات لحالة (2) الشَّعث، والبذاذة، والتَّفل (3) ، ووحشة المسكن، وفي شرار الثياب، والأحلاس، إلى أن ينقضي (4) الحول، وعند ذلك تخرج، فترمي ببعرة مُشْعِرَة بأن أمر (5) العدَّة المذكورة - وإن كان شديدًا - قد هان عليها في حقِّ من مات عنها كرمي البعرة. وقيل: إنَّ معنى ذلك: أنها رمت (6) بالعدَّة وراء ظهرها كما رمت بالبعرة. فلما جاء الإسلام أمرهن الله تعالى بملازمة البيوت =(4/286)=@ حولاً. وقد دلّ عليه قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا وصية لأزواجهم متاعًا إلى الحول غير إخراج} (7) . وأشهر قول (8) المفسرين فيها، وأحسنه: أن المتوفَّى عنها زوجها كانت تجلس في بيت المتوفى حولاً، وينفق عليها من ماله ما لم تخرج من المنزل، فإن خرجت لم يكن على الورثة جناح في قطع النفقة عنها. ثم نسخ الحول بالأربعة الأشهر والعشر. ونسخت النفقة بالربع، أو الثمن (9) ؛ قاله ابن عباس (10) وقتادة، والضحاك، وعطاء، وغيرهم.
وفي هذه الآية مباحث كثيرة لذكرها موضع آخر.
قال القاضي عياض: والإجماع منعقد على أن الحول منسوخ، وأن عدَّتها أربعة أشهر وعشر (11) . يعني: أنها منسوخة بقوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا} (12) ،
و«الحِفْشُ» هنا: الخصّ الصغير. وهو أيضًا الدرج، وجمعه: أحفاش. و«الأحلاس»: الثياب الخشنة، وأصلها للدَّواب، وهي: المسوح التي تجعل على ظهورها. &(4/229)&$
__________
(1) في (ب): «وعشرا».
(2) في (ب): «بحالة».
(3) في (ب): «الثفل».
(4) في (ب): «تنقضي».
(5) في (ب): «بأمر».
(6) في (ح): «أرمت».
(7) الآية (240) من سورة البقرة.
(8) قوله: «قول» سقط من (ب).
(9) في (ب) و(ح): «والثمن».
(10) أخرجه أبو داود (2/721 رقم2298) في الطلاق، باب نسخ متاع المتوفى عنها بما فرض لها من الميراث، وعنه البيهق ي(7/427).
وأخرجه النسائي (6/206-207) في الطلاق، باب نسخ متاع المتوفى عنها بما فرض لها من الميراث. كلاهما من طريق على بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا...} فنسخ ذلك بآية الميراث بما فرض لهن من الربع والثمن، ونسخ أجل الحول بأن جعل أجلها أربعة أشهر وعشرًا.
وفي سنده: علي بن حسين بن واقد: صدوق يهم، كما في "التقريب" (4717).
(11) في (ب): «وعشرا».
(12) الآية (234) من سورة البقرة.(4/229)
وقوله (1) : «ثم تؤتى بدابةٍ: حمار، أو شاة، أو طير»؛ سُمِّيت (2) هذه كلها دواب؛ لأنها تدبُّ؛ أي: تمشي. وهذه تسمية لغوية أصلية. كما قال الله تعالى: {وما من دآبة في الأرض إلا على الله رزقها} (3) .
وقوله: «فتفتضُّ به، فقلَّ ما تفتضُّ »؛ الرواية الصحيحة بالفاء والضاد المعجمة. قال القتبي: سألت الحجازي عن الافتضاض، فذكروا: أن المعتدة =(4/287)=@ كانت (4) لا تغتسل، ولا تمس ماءً، ولا تقلم ظفرًا، وتخرج بعد الحول بأقبح منظر، ثم تفتضُّ؛ أي: تكسر ما هي فيه من العدَّة بطائر تمسح به قبلها، وتنبذه، فلا يكاد يعيش. وقال مالك: تفتضُّ: تمسح به جلدها كالنُّشرة (5) . وقال ابن وفب: تمسح بيدها عليه، أو على ظهره. وقيل: معناه: تمسح به ثم تفتض؛ أي: تغتسل بالماء العذب (6) حتى تصير كالفِضَّة. وقيل: تفتض: تُفارق ما كانت عليه. قال الأزهري: رواه (7) الشافعي (8) : «فتقبص» بالقاف، وبالباء بواحدة، وبالصاد المهملة. والقبص: الأخذ بأطراف الأصابع. قال (9) : وقرأ الحسن: (فقبصتُ (10) قبصة من أثر الرسول)؛ ذكره الهروي (11) .
وقوله: «ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا إلا ثوب عَصْبٍ»، قال ابن المنذر: =(4/288)=@ أجمعوا على أنه لا يجوز لها لباس الْمُصَبَّغَة، والمعصفرة، إلا ما صُبغ بالسواد. ورخَّص فيه مالك، والشافعي، وعروة. وكرهه (12) الزهري، وكره عروة، والشافعي العصْب (13) . وهي: برود اليمن يعصب غزلها، ثم يصبغ معصوبًا، ثم ينسج فيوشَّى. وأجازه الزهري. وأجاز غليظه مالك. قال ابن المنذر: رخَّص كلُّ من يحفظ عنه من أهل العلم في البياض.
قال القاضي: ذهب الشافعي إلى أن كل صبغ كان زينة، فلا تمسّه الحادّ غليظًا كان أو رقيقًا. ونحوه للقاضي عبد الوهاب. قال: كل ما كان &(4/230)&$
__________
(1) في (ب) و(ح): «وقولها».
(2) في (ب): «وسميت».
(3) الآية (2) من سورة هود.
(4) قوله: «كانت» سقط من (ب).
(5) النُّشْرة: هي أن يُكتب شيء من أسماء الله أو من القرآن، ثم يغسله بالماء، ثم يُسح به المريض، أو يُسقاه. وهو ضرب من الرقية والعلاج يعالج به من كان يُظذَن به مس الجن، وقيل: سُميت نُشْرة؛ لأنهم كانوا يرون أنه ينشر بها عنه، أي يحل عنه ما خامره من الداء. انظر "تفسير القرطبي" (10/318)، و"شرح سنن ابن ماجه" (1/252)، و"النهاية" (5/53).
(6) قوله: «العذب» سقط من (أ).
(7) في (ب): «ورواه».
(8) في "الأم" (5/230-231).
(9) قوله: «قال» سقط من (ب) و(ح).
(10) في (ب) و(ح): «وقبصت».
(11) .....
(12) في (ب): «وكره».
(13) في (ب) و(ح): «العصبة».(4/230)
من الألوان يتزتن (1) به (2) النساء لأزواجهنَّ فتمنع (3) منه الحاد (4) . ومنع بعض شيوخنا المتأخرين جَيِّد البياض الذي يتزين به. وكذلك الرفيع من السواد.
وقوله: «ولا تمس طيبًا إلا إذا طهرت نُبْذَةً من قُسْط، أو أظفار». قال القاضي أبو الفضل: النبذة: الشيء اليسير، وأدخل فيه الهاء لأنه بمعنى القطعة. وإنما رُخِّص لها في هذا لقطع (5) الروائح الكريهة، والتنظيف (6) ، لا على (7) معنى التَّطيب (8) مع أن القسط، والأظفار ليس من مؤنث الطيب المستعمل نفسه في ذلك. وظاهره: أنها (9) تتبخر بذلك. وقال الداودي: تسحق القمنعط والأظفار وتلقيه في الماء اخر غعنملها. والأول أظهر؛ لأن القمنعط والأظفار لا يحصل منهما شيء إلا من بخورهما. ويقال: قمنمط - بالقاف والكاف - وأكثر ما يستعمل القسط، والأظفار مع غيرهما فيما يتبخر به، لا بمجردهما.
ووقع في كتاب البخاري (10) : «قُسْطُ أظفار»، وهو خطأ؛ إذ لا يضاف أحدهما =(4/289)=@ للآخر؛ لأنهما لا نسبة بينهما. وعند بعضهم: «قُسْط ظَفَار»، وهذا له وجه؛ فإن ظفار مدينة باليمن نسب إليها القُسْط. وما في مسلم أحسن، والله أعلم (11) .
وعلى هذا: فينبغي (12) أن لا (13) يصرف للتعريف والتأنيث. ويكون
كـ«حَذَامِ» و«قَطَامِ»، أو يكون مبنيًّا على القول الثاني في« حذام» و«قطام»؛ أعني: مبنيًّا (14) على الكسر، في أحد القولين فيهما (15) .
- - - - -
ومن باب اللِّعَان
وهو موضوع لحفظ الأنساب، ودفع المضرَّة عن الأزواج.
قوله: «أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه (16) ، أم كيف يفعل؟» هذا سؤال غيران متحرِّز من الحدِّ، متشوِّف لمعرفة الحكم، ولو صرَّح للزمه (17) الحدُّ، &(4/231)&$
__________
(1) في (ح): «تتزين».
(2) في (ب) و(ح): «بها».
(3) في (ب): «فتمتع».
(4) في (ب) و(ح): «الحاد منه».
(5) في (ب): «القطع».
(6) في (ب): «التنظيف».
(7) قوله: «على» سقط من (ب) و(ح).
(8) في (ب) و(ح): «التطيب».
(9) في (ب) و(ح): «أنه».
(10) انظر "الفتح" (1/414) و(9/491).
(11) قوله: «وما في مسلم أحسن والله أعلم» سقط من (أ).
(12) في (ب) و(ح): «فيتعين».
(13) قوله: «لا» سقط من (ب).
(14) من قوله: «على القول....» إلى هنا سقط من.....
(15) قوله: «في أحد القولين فيهما» سقط من (ب) و(ح).
(16) في (ب): «فيقتلونه».
(17) في (ب) و(ح): «وللزمه».(4/231)
أو يُبَيِّن، أو يلتعن (1) ، كما قد (2) قال (3) في الحديث الآخر لمن صرَّح: «البينة وإلا حدٌّ في ظهرك» (4) . وكونه - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على السَّائل قوله: أيقتله؟ تقرير منه على ذلك. =(4/290)=@
ويلزم منه أنه (5) إن قتله لم يكن فيه قصاص، ولا غَيْرُهُ. وقد عضده قول سعد: «لو رأيته ضربته بالسيف». ولم ينكر عليه. بل (6) صوَّبه بقوله: «تعجبون من غيرة سعد».
ولهذا قال أحمد، وإسحاق: يهدر دمه إذا جاء القاتل بشاهدين (7) .
واختلف أصحابنا بذلك. فقال ابن القاسم: يهدر دمه إن قتله إذا قامت البينة؛ محصنًا كان أو غير مُحْصَن، واستحب الدية في غير المحصن. وقال ابن حبيب: إن كان مُحصنًا فهذا الذي ينجي قاتله البينة.
وقد اختلف عن عمر (8) رضي الله عنه في هدر دم مثل هذا. وروي عن علي (9) رضي الله عنه: يُقَاد منه. فأمَّا لو لم يات ببيَّنة فإنَّه يقتل به، ولا يقبل قوله عند الجمهور. وقال الشافعي، وأبو ثور: وسعه فيما بينه وبين الله تعالى قتله. يعنيان (10) : إذا كان محصنًا، والله أعلم.
وقوله: «كره رسول الله في المسائلَ وعابها»؛ يحتمل أن تكون هذه الكراهة لكثرة المسائل، كما قد جاء النهي عنها نصًّا. ويحتمل أن تكون لقبح هذه المسألة. ويدلّ على هذا قول عاصم: «وقد كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسألة التي سألتُه عنها». =(4/291)=@
وقوله: «قد أُنزل فيك وفي صاحبتك»؛ يدل: على أنه - صلى الله عليه وسلم - عرف أنه صاحب المسألة: إمَّا (11) بقرائن الأحوال، وإمَّا بالوحي. &(4/232)&$
__________
(1) في (ب): «أيلتعن».
(2) قوله: «قد» سقط من (ب).
(3) في (ب) و(ح): «جاء».
(4) رواه البخاري (5/283 رقم2671) كتاب الشهادات، باب إذا ادَّعى أو قذف فله أن يلتمس البينة وينطلق لطلب البينة. و(8/449 رقم4747) كتاب التفسير، باب: {ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربعة شهادات بالله إنه لمن الكاذبين}.
(5) قوله: «أنه» سقط من (ب) و(ح).
(6) قوله: «بل» سقط من (ب).
(7) في (ب) و(ح): «إذا جاء القاتل بشاهدين».
(8) أخرج عبد الرزاق (17921)، وابن أبي شيبة (5/450) عن الثوري، عن مغيرة بن النعمان، عن هانيء بن حزام: أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فقتلهما، فكتب عمر بكتاب في العلانية: أن أقيدوه وكتابًا في السر أن اعطوه الدية».
قال الحافظ في "الفتح" (12/174): «إسناده صحيح. وقال بن المنذر: جاءت الأخبار عن عمر في ذلك مختلفة، وعامة أسانيدها منقطعة».اهـ.
(9) أخرج مالك في "الموطأ" (1416)، ومن طريقه الشافعي في الأم" (6/30)، والبيهقي (8/327)، وأخرج عبدالرزاق في "المصنف" (17951)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (5/449) من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب: أن رجلاً من أهل الشام يقال له: ابن خيبري، وجد مع امرأته رجلاً فقتله، أو قتلهما معًا، فأشكل على معاوية بن أبي سفيان القضاء فيه، فكتب إلى أبي موسى الأشعري يسأل له علي بن أبي طالب عن ذلك، فسأل أبو موسى عن ذلك علي بن أبي طالب، فقال له علي: إن هذا الشيء ما هو بأرضي.... فقال علي: إن لم يأت بأربعة شهداء فليعط برمته». ... وإسناده صحيح.
(10) في (ب) و(ح): «يعني».
(11) في (ب) و(ح): «فإمَّا».(4/232)
وقوله: «فتلاعنا في المسجد»؛ فيه بيان: أن سنَّة اللعان كونه في المسجد (1) ، ولم يختلفوا (2) في ذلك إلا ما روي عن عبد الملك: أنَّه يكون في المسجد أو عند الإمام، وفيه: أنه (3) يكون بحضرة الإمام. والقياس والإجماع على أنه لا يكون إلا بسلطان.
وقوله: «كذبت عليها إن أمسكتُها. فطلَّقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - »؛ هذا حجَّة للشافعي على (4) جواز إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة. ووجه احتجاجه: أنه u أقرَّه على ذلك. وقد انفصل أصحابنا عن ذلك بأن قالوا: إنَّه (5) إنما أقرَّه؛ لأن الطلاق لم يقع؛ إذ لم يصادف محلاً؛ فإنها قد بانتْ منه بفراغهما (6) من اللَّعان؛ بدليل قوله في الحديث الآخر: «لا سبيل لك عليها (7) ») (8) . وقد تقدَّم القول في هذه المسألة.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - للذي سمعه يطلِّق (9) ثلاثًا في كلمة (10) : «أَيُلْعَب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ؟!» (11) ؛ إنكارُ محقَّقٌ. =(4/292)=@
وقول ابن شهاب: «فكانت تلك سنة المتلاعنين»؛ ظاهره (12) إشارة إلى كونه طلَّقها ثلاثًا. وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : «ذاكم التفريق بين كل متلاعنين»؛ وبه تمسَّك من شذَّ (13) من العلماء، فقال: هو ثلاث. والجمهور على أنه ليس بثلاث.
لكن التي اختلفوا؛ فأكثرهم: على أنه بفراغها من اللِّعَان يقع التحريم المؤبَّد، ولا تحل له أبدًا؛ وإن &(4/233)&$
__________
(1) من قوله: «فيه بيان....» إلى هنا سقط من (ب) و(ح).
(2) في (ب) و(ح): «يختلف».
(3) في (ب): «أن».
(4) في (ب) و(ح): «في».
(5) قوله: «إنه» سقط من (ب) و(ح).
(6) في (ب): «فراغها».
(7) في (أ): «إليها».
(8) يأتي قريبًا.
(9) في (ب): «تطلق».
(10) في (ب) و(ح): «كلمة واحدة».
(11) تقدم تخريجه في باب إمضاء الطلاق الثلاث من كلمة.
(12) في (أ): «ظاهرها».
(13) في (ب): «مرشد العلماء».(4/233)
أكذب نفسه، متمسِّكين في ذلك بقوله: «لا سبيل لك إليها (1) »). وبما جاء في حديث ابن شهاب من رواية ابن وهب (2) : «فمضت سنَّة المتلاعنين أن يفرق بينهما، ولا يجتمعا». وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن، وعبيد الله بن الحسن (3) ، هو واحدة بائنة، وإن أكذب نفسه بعد اللعان حدّ، وحلت له. وغيرهم يحدُّونه، ويلحقون به الولد، ولا يحلونها له، وأشذُّ (4) الخلاف في هذه المسألة قول عثمان البَتِّي:إنه لا يفرق بينهما. وحكاه الطبري عن جابر بن زيد. وهذا القول مردود بالنصوص الْمُتقدِّمة.
قلت: وهذه الرواية ظاهرها: أنَّه لاعنها بمجرد القذف، فإنَّه لم ينصّ فيها على (5) رؤية الزنى، ولا على نفي الحمل، فيمكن أن يحتجّ بها من يرى اللعان بمجرد القذف، وهو الشافعي، والأوزاعي، وفقهاء المحدثين، والكوفيون. وهو أحد =(4/293)=@ قولي مالك. ويتمسَّكون أيضًا بمطلق قوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} الآية (6) .
ومشهور مذهب مالك: أنَّه لا لعان في القذف المجرد، ويحدّ حتى ينصَّ على الزنى. وهو قول الليث، وأبي الزناد، والبَتِّي (7) ، ويحيى بن إسماعيل. والصحيح: أنَّه لا متمسَّك في هذا الحديث على أن مطلق الرمي موجبٌ للِّعان (8) ؛ لأنه وإن كان قد سكت في هذه الطريق عن صفة الرَّمي (9) ، فقد ذكره في رواية أخرى مفصَّلاً، وأنَّه نفى (10) حملها. وأمَّا الآية فمتمسكهم منها (11) واضحٌ (12) . ولا خلاف في صحة اللَّعان في ادعاء رؤية الزنى، وفي نفي الحمل على الجملة (13) ، والله أعلم.
- - - - -
ومن باب كيفية اللِّعان
قوله: «إنَّه قائل»: هو اسم فاعل من: قال، يقيل؛ إذا نام (14) في كِنَّةِ (15) وقت القائلة. =(4/294)=@
وقوله: «أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان»؛ هو -والله أعلم: عويمر العجلاني الْمُتقدِّم الذكر. &(4/234)&$
__________
(1) كذا في جميع النسخ ! في المطبوع: «عليها». فلينظر.
(2) عند مسلم (2/1130 رقم1492/2؟) كتاب اللعان.
(3) في (ب) و(ح): «عبدالله بن الحسين». والمثبت هو الصواب، وهو: عبيدالله بن الحسن العنبري القاضي، روى له مسلم، وهو ثقة فقيه، عابوا عليه مسألة تكافؤ الأدلة. انظر "التقريب" (370 رقم4283)، و"ميزان الاعتدال" (3/5 رقم5353).
(4) في (ب): «واشتد».
(5) في (ب) و(ح): «لا على».
(6) الآية (6) من سورة النور.
(7) في (ب): «والليتي».
(8) في (ب) و(ح): «اللعان».
(9) في (ب): «لأن موجب الرمي»، وفي (ح): «موجب الرمي».
(10) قوله: «نفي» سقط من (ب).
(11) في (ب) و(ح): «بها».
(12) قوله: «واضح» سقط من (أ).
(13) قوله: «على الجملة» سقط من (ب).
(14) في (أ): «أقام».
(15) قوله: «كِنَّة» ليس في (ب) و(ح).(4/234)
وقوله: «إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به»؛ ظاهر هذا: أنَّه خطابٌ من السَّائل للنبي - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا لم يجبه، فأخبره بوقوع ذلك (1) ، ليحقق عنده: أنه مضطر إلى المسألة فيجيبه كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقد جاء في "الأم" (2) من حديث ابن عباس قال: ذكر التلاعن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال عاصم بن عدي في ذلك قولاً، ثم انصرف، فأتاه رجل من قومه يشكو إليه: أنه وجد مع امرأته رجلاً. فقال عاصم: ما ابتليت بهذا إلا لقولي. فذهب (3) به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر الحديث. وهذا نصٌّ في أن المبتلى به عاصم من جهة: أنه امتُحن بوقوع ذلك برجل من قومه، فعظم عليه ذلك (4) ، وشق عليه، حتى تكلّف سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تلك المسألة القبيحة، ورأى أن ذلك كالعقوبة له؛ لَمَّا تكلَّم في اللعان قبل وقوعه، والله أعلم.
وأمذَا ابتلاء السَّائل (5) الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فإما هو: وجوده الرجل مع أهله، فهو ابتلاء آخر غير ابتلاء عاصم (6) .
وقوله: «ووعظه، وذكَّره» هذا الوعظ، والتذكير كان منه - صلى الله عليه وسلم - قبل اللَّعان. =(4/295)=@ وينبغي أن يتخذ سُنذَة في وعظ المتلاعنين قبل الشروع في اللعان. ولذلك قال الطبري: إنه يجب على الإمام أن يعظ كل من يحلّفه، وذهب الشافعي إلى أنه الإمام يعظ (7) كل واحد بعد تمام الرابعة وقبل الخامسة؛ تمسُّكًا منه بما في البخاري من حديث ابن عباس في لعان هلال ابن أمية؛ أنَّه - صلى الله عليه وسلم - وعظهما (8) عند الخامسة (9) . &(4/235)&$
__________
(1) في (ب) و(ح): «ذلك له».
(2) سيأتي في باب: ما يتبع اللعان إذا كمل من الأحكام.
(3) في (أ): «فذهبت».
(4) قوله: «ذلك» سقط من (ب).
(5) في (ب) و(ح): «للسائل».
(6) في (أ): «فهي قضية أخرى». بدل: «فهو ابتلاء آخر غير ابتلاء عاصم».
(7) من قوله: «قال الطبري...» إلى هنا سقط من (ب) و(ح).
(8) في (ب) و(ح): «وعظها».
(9) البخاري (8/449 رقم4747) في "التفسير، باب: {ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربعة شهادات بالله إنه لمن الكاذبين}.(4/235)
وقوله: «فبدأ بالرَّجل»؛ إنَّما بدأ به لأنه القاذف، فيدرأ الحدَّ عن نفسه، ولأنه هو الذي بدأ الله تعالى به. فإذا فرغ من أيمانه تعيَّن عليها: أن تُقابل أيْمانَه بأيمانها النافية لِما (1) أثبته عليها، أو الحدُّ. وهذا مما أجمع
عليه العلماء.
وقوله: «فشهد أربع شهادات»؛ أي: حلف أربعة (2) أيمان. وهذا معنى قوله تعالى: {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} (3) ؛ أي: فَحَلْفُ (4) أربعةِ(@) أيمان. والعرب تقول: أشهد بالله؛ أي: أحلف. كما (5) قال شاعرهم:
فَأَشْهدُ عِنْدَ اللهِ أَنِّي أُحبُّها فهَذَا لَها عِنْدِي فَمَا عنْدَهَا لِيَا ؟ (6)
وهذا مذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة: هي شهادات (7) محقَّقة من المتلاعنين على أنفسهما.
وانبنى على هذا الخلاف في لعان (8) الفاسقين والعبدين. فعند الجمهور يصحُّ، وعند أبي حنيفة لا يصحُّ. وبما يُسْتَدَل (9) لأبي حنيفة بما رواه =(4/296)=@ أبو عمرو من حديث عمرو بن شعيب مرفوعًا: «لا لعان بين مملوكين ولا كافرين» (10) . وبما رواه الدارقطني من هذا المعنى، ولا يصح
منها كلها شيء عند ا لمحدِّثين. &(4/236)&$
__________
(1) في (أ): «بما».
(2) في (ب) و(ح): «أربع».
(3) الآية (6) من سورة النور.
(4) في (ب) و(ح): «يحلف».
(5) في (ب) و(ح): «فكما».
(6) القائل: هو مجنون ليلى. انظر "ديوانه" (ص202).
(7) في (ب) و(ح): «شهادة».
(8) قوله: «لعان» سقط من (ب) و(ح).
(9) في (ب) و(ح): «استدل».
(10) اختُلف في رفعه ووقفه:
فأخرجه ابن ماجه (1/760 رقم2071) في الطلاق، باب اللعان، والدارقطني (3/163-164)، وعنه البيهقي (7/396).
كلاهما من طريق ابن عطاء، عن أبيه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أربع من النساء لا ملاعنة بينهم: النصرانية تحت المسلم، واليهودية تحت المسلم، والمملوكة تحت الحر، والحرة تحت المملوك».
قال الدارقطني: «هذا عثمان بن عطاء الخراساني، وهو ضعيف أيضًا. وروى عن الأوزاعي وابن جريج وهما إمامان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .اهـ.
ثم رواه موقوفًا من طريق عمر بن هارون، عن ابن جريج، والأوزاعي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، موقوفًا.
قال البيهقي في "المعرفة" (11/133): «وفي ثبوته عن عبدالله موقوفًا أيضًا نظر، وذلك لأنه إنما رواه عن ابن جريج والأوزاعي: عمر بن هارون، وليس بالقوي.اهـ.
وللحديث طرق أخرى ضعيفة، فانظر في "نصب الراية" (3/248-249).(4/236)
واختلفوا في الألفاظ التي يقولها المتلاعنان. وأولى ذلك كله ما دلَّ عليه كتاب الله تعالى. وهو (1) : أن يقول الرجل: أشهد بالله لقد زنيتِ (2) . أو (3) : لقد رأيتُها تزني، أو: أن (4) هذا الحمل ليس مني، أو: هذا الولد - أربع مرات -. وإلاَّ فلعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ثم تقوم هي فتقول: أشهد بالله لقد كَذَبَ عليَّ فيما رماني به. أو: إن هذا الحمل منه، أو: هذا الولد ولده، ثم تُخَمِّسُ بأن تقول: وإلا غضب الله عليها إن كان من الصادقين. وقد زاد بعض علمائنا في اليمين: بالله الذي لا إله إلا هو. ومشهور مذهبنا: أنه إن لاعنها على رؤية الزنى: نصَّ على ذلك، كما ينصُّه شهود الزنى، فيقول كالْمِرْوَدِ (5) في المكحلة. وكل ذلك منهما وهما قائمان.
وقوله: «ثم فرَّق (6) بينهما»؛ دليل لمالك ولمن قال بقوله: على أن الفرقة تقع بنفس فراغهما من التعانهما. وقد ذكرنا الخلاف في ذلك. =(4/297)=@
وقوله في حديث ابن عمر: «أحدكما كاذب»؛ ظاهره أنه بعد الملاعنة، وحينئذ يحقق الكذب عليهما جميعًا. وقال بعضهم: إنما قاله في - صلى الله عليه وسلم - قبل اللعان تحذيرًا لهما، ووعظًا. ورجح بعضهم الأول (7) .
وقوله: «لا سبيل لك عليها»؛ دليل لمالك ولمن قال بقوله في تأبيد التحريم، فإن ظاهره النفي العام. وقد ذكر الدارقطني (8) زيادة في حديث سهل بعد قوله: «ففرَّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما (9) »)، وقال: «لا يجتمعان أبدًا». وقال أبو داود عن سهل: «مضت سنَّة المتلاعنين: أن يفرَّق بينهما، ثم لا يجتمعان أبدًا (10) »). قال مالك: وهي السُّنَّه التي لا اختلاف فيها عندنا. =(4/298)=@ &(4/237)&$
__________
(1) في (أ): «وهي».
(2) في (ب) و(ح): «زنت».
(3) في (ب) و(ح): «أي».
(4) في (ب) و(ح): «وأن».
(5) المِرْوَد: الميل الذي يُكتحل به، وجمعها: مَرَاود. انظر "المصباح المنير" (1/245)، و"لسان العرب" (3/191)، مادة: رود. و"النهاية" (4/321).
(6) في (ب): «يفرق».
(7) من قوله: «وقوله في حديث ابن عمر....» إلى هنا سقط من (ب) و(ح).
(8) في "سننه" (3/257 رقم115).
(9) في (ح): «عنهما».
(10) من قوله: «وقال أبو داود....» إلى هنا سقط من (ب) و(ح).(4/237)
- - - - -
ومن باب ما يتبع اللِّعان إذا كمل من الأحكام
قد تقدَّم: أنَّه يتبعه الفراق المؤبَّد.
وقوله: «وألحق الولد بأمه»؛ أي: إنما يدعى وينسب لأمه، ولقومها، أو لمواليها - إن كانت مولاة - ويرثها وترث هي منه فرضها في كتاب الله تعالى. ويرثه من إخوته لأمه ميراث الإخوة للأم (1) . وتَوْأَمَا الملاعنة يتوارثان توارث الأشقاء؛ لاستوائهما في النفي (2) باللعان. وما بقي من ميراث ولد الملاعنة بعد أصحاب السِّهام فلموالي أمه؛ إن كانت مولاةً، أو لجماعة (3) المسلمين؛ إن كانت عربيةً، هذا قول مالك، والزهري، والشافعي، وأبي ثور. وقال الحكم، وحماد: يرثه ورثة أمه. وقال آخرون: عصبته (4) عصبة أمه. وبه قال أحمد بن حنبل. وروي عن علي، وابن مسعود (5) ، وعطاء، وابن عمر (6) y. وقالت طائفة: أمه عصبته، =(4/199)=@ فما بقي عن أهل السِّهام فلها. وقال أبو حنيفة: يرد ما فضل على ورثته إن كانوا ذوي أرحام. وهذا على أصله في الردّ.
وقوله في هلال بن أمية: «إنه كان أول من لاعن في الإسلام»؛ هذا يقتضي: أن آية اللعان نزلت بسبب هلال بن أمية، وكذلك ذكره البخاري. وهو مخالف لما &(4/238)&$
__________
(1) قوله: «للأم» سقط من (ب).
(2) في (ب) و(ح): «بالنفي».
(3) في (ب) و(ح): «ولجماعة».
(4) من قوله: «هذا قول مالك....» إلى هنا سقط من (ب) و(ح).
(5) أخرجه سعيد بن منصور (1/80) عن يزيد بن هارون، وابن أبي شيبة (6/276) عن عباد بن العوام، كلاهما عن محمد بن سالم الهمداني، عن الشعبي، عن ابن مسعود وعليّ في ابن الملاعنة: أنذَه عصبتها عصبته. ومحمد بن سالم ضعيف الحديث.
وأخرج عبدالرزاق (12481) عن الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن يحيى الجزار، عن علي رضي الله عنه به.
(6) أخرج عبدالرزاق (12478)، والدارمي (2965) من طريق موسى بن عبيدة، عن نافع، عن ابن عمر. وموسى بن عبيدة ضعيف.(4/238)
تقدَّم: أنها نزلت بسبب عويمر العجلاني. وهذا يحتمل (1) : أن تكون (2) القضيتان متقاربتي الزمان فنزلت بسببهما معًا. ويحتمل: أن تكون الآية أُنزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّتين؛ أي: كرر نزولها عليه (3) ، كما قال بعض العلماء في سورة الفاتحة: إنها نزلت بمكة، وتكرَّر نزولها بالمدينة. وهذه الاحتمالات وإن بَعُدت؛ فهي أولى من أن يُطَرَّق الوهم للرواة الأئمة الحفَّاظ.
وقد أنكر أبو عبدالله أخو (4) المهلب في هذه الأحاديث هلال بن أمية، وقال: هو خطأ، والصحيح: أنه عويمر. ونحوًا منه قاله الطبري. وقال: إنما هو عويمر، وهو الذي قذفها بشريك بن سحماء (5) ، والله
أعلم (6) .
وظاهر هذا الحديث: أن هلالاً لَمَّا صرَّح بذكر شريك: أنَّه قذفه. ومع ذلك (7) فلم يحدّه النبي - صلى الله عليه وسلم - له. وبهذا قال الشافعي: إنه (8) لا حدَّ على الرَّامي لزوجته إذا سَمَّى الذي رماها به (9) ثم التعن، ورأى أنه التعن لهما. وعند مالك: أنَّه يحدّ، =(4/300)=@ ولا يكتفى بالتعانه؛ لأنه إنما التعن للمرأة، ولم تكن (10) له ضرورة إلى ذِكْره، بخلاف (11) المرأة. فهو إذًا قاذف فيحدُّ. واعتذر بعض أصحابنا عن حديث شريك: بأنه (12) كان يهوديًّا. وأيضًا:
فلم يطالب (13) شريك بشيء من ذلك. وهو حقه، فلا متعلق في الحديث.
قال القاضي عياض: لا يصحُّ قول من قال: إن شريكًا كان يهوديًّا. وهو باطل. وهو: شريك بن عبدة بن مغيث، وهو بلوي حليف الأنصار، وهو أخو البراء بن مالك (14) لأمِّه.
والسَّبط الشعر: هو المسترسِلُه (15) ، المنبَسِطُه. يقال: شعرٌ سبطٌ كسر الباء وفتحها، لغتان و: سَبِطَ شعره، يَسْبَط: إذا صار كذلك، وهو ضد الجعودة. &(4/239)&$
__________
(1) في (ح): «يحمل».
(2) قوله: «تكون» سقط من (ب).
(3) قوله: «عليه» سقط من (ب) و(ح).
(4) قوله: «أخو» سقط من (ب)، وفي مكانها طمس في (ح).
(5) في (ب): «سمحاء».
وانظر للردّ على قولي أبي عبدالله - أخي المهلب - والطبري "فتح الباري" (8/450-451) حيث قال الحافظ ابن حجر - عن هذا الإنكار المنسوب للطبري -: «وما نسبه إلى الطبري لم أره في كلامه».
(6) زاد في (أ): «وهو شريك بن عَبْدة بن مُغيث - بضم الميم، وكسر الغين المعجمة، وسكون الياء تحتها نقطتان، ثم ثاء مثلثة -، وقد قيل: بفت ح العين المهملة، وتشديد التاء فوقها نقطتان، وبالباء الواحدة، والأول أصح: ابن الجد بن عجلان البلوي، حليف الأنصار، وهو شريك بن سحماء. وهي أمة عُرِف بها، شهد مع أبيه أُحدًا، وهو أخو البراء بن مالك لأمِّه»، وكتب في أول النص وآخره: «صح»، وكتب بالهامش: «تتميم»؛ دلالة على أنه توضيح معنى مكانه الهامش.
(7) في (ب): «بذكر شريك من ذلك».
(8) في (ب) و(ح): «لأنه».
(9) في (ب) و(ح): «زنا بها».
(10) في (ب): «يكن».
(11) في (ح): «خلاف».
(12) في (ب) و(ح): «حديث شريك بأن يقال إنَّه».
(13) في (أ): «يطلب».
(14) في (ب) و(ح): «عازب».
(15) في (ب): «المرسله».(4/239)
و«قضئ العينين»: فاسدهما. قال ابن دريد في "الجمهرة": قَضِئَتْ عين الرَّجل: إذا احمرَّت، ودمعت. وقضئت القربة، تقضأ قَضْأَ، في قضيئة، على وزن فعيلة: إذا عَفِنَت (1) ، وتهافتت.
و«الجعد» في هذا هو: المتكسر، على ضد السُّبوطة المتقدمة.
وفي رواية أخرى: «إن جاءت به جعدًا قططًا»؛ أي: شديد الجعودة (2) . و«أحمش الساقين»: دقيقهما (3) . ويقال للمرأة: حمشاء السَّاقين. قاله الهروي، وغيره. وضد ذلك: الخدْل. وهو: امتلاء الساقين. يقال: رجل أخدل، =(4/301)=@ وامرأة خدلاء. وهو بالدال المهملة. وهو الخدلَّج أيضًا.
و«الآدم»: من الأدمة، وهي: شدَّة السُّمْرة. يقال: رجل آدم. وامرأة أدماء: كأحمر، وحمراء. ويجمع آدم: أُدُمٌ (4) ، كحُمُر.
وقد جاء في هذا الحديث في كتاب أبي داود ألفاظ فسَّرها الخطابي فقال: «الأُرَيْصِحُ: تصغير (5) الأرصح. وهو: الخفيف الأليتين. قال الأصمعي: وهو أيضًا: الأرصع - بالعين -.
و«الأَثيبج»: تصغير (6) : أثبج. والثَّبج: نتوءٌ في السُّرة. والبثج أيضًا: ما بين الكاهل ووسط الظهر. و«الجمالي»: العظيم الخلْق. شَبَّه خَلْقه بِخَلْق الجمل. ويقال من ذلك: امرأة جمالية (7) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «اللهم بيِّن»؛ ظاهره أنه دعاة في أن يبيّن له مِمَّن الولد؟ فأجيب بأنه للذي رُمي به. وتبيَّن له ذلك: بأن الله تعالى خلقه يشبه الذي رُميت به، وعلى الصِّفة التي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - . ولذلك نسق قوله: «فوضعت» على الكلام المتقدم بـ«الفاء». وقيل معناه: اللهم بين الحكم في هذه الواقعة، كما جاء في =(4/302)=@ الرواية الأخرى: «اللهم افتح»؛ أي: احكم، ومنه قوله تعالى: {ثم يفتح بيننا بالحق (8) } (9) ؛ أي: يحكم.
وقوله: تلك امرأة كانت تظهر في الإسلام (10) السوء»؛ أي: تظهر عليها قرائن تدل (11) على أنها بغي، تتعاطى الفاحشة، لكني لم يثبت (12) عليها سبب شرع يتعلق &(4/240)&$
__________
(1) في (ب) و(ح): «عفيت».
(2) في (ب): «الجعود».
(3) في (ب): «دقتهما».
(4) في (ب) و(ح): «وأدم».
(5) في (ب): «تفسير».
(6) في (ب): «هو تصغير».
(7) في (ب): «جميلة»، وفي (ح): «جملية».
(8) في (أ) و(ح): «قل يفتح بيننا ربنا بالحق».
(9) الآية (26) من سورة سبأ.
(10) في (ب) و(ح): «في أول الإسلام».
(11) في (ب): «يدل».
(12) في (ب): «يتيت».(4/240)
عليها به الرجم، لا إقرار، ولا حمل، ولا بينة. فلم يقم عليها حد لتلك الأسباب ا لمحصورة.
وقوله: «أبصروها، فإن جاءت به - وذكر النعوت المتقدمة - فهو لهلال، وإن جاءت به - على النعوت الأخر (1) - فهو لشريك»؛ يدلُّ على أن هذا كان منه تفرسًا وحدسًا، لا وَحْيًا. ولو كان وَحْيًا لكان معلومًا عنده.
وفيه ما يدلُّ على إلغاء (2) حكم الشبه في الحرائر، كما هو مذهب مالك على ما قدمناه في القافة.
وقوله في كتاب أبي داود لما جاءت على النعت المكروه: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن». وفي "البخاري": «لولا ما مضى من كتاب الله»؛ يُفهم من كل ذلك: أن الحكم إذا وقع على شروطه لا ينقض، وإن تبيَّن خلافه. هذا إن لم يقع خلل، أو تفريط في شيء من أسبابه (3) . فأمَّا لو فرط الحاكم فغلط، وتبيَّن تفريطه، وغلطه بوجهٍ واضح نقض حكمه. وهذا مذهب الجمهور.
وفيه: أن ذكر الأوصاف المذمومة للضرورة، والتحلية (4) بها للتعريف ليس بغيبة (5) .=(4/303)=@ &(4/241)&$
__________
(1) قوله: «الأخر» سقط من (ك).
(2) في (ب): «أن هذا» بدل «إلغاء»، ولم تتضح الكلمة في (ح)
(3) في (ب): «المسابة».
(4) التَّحلية: الوصف، وتحلاَّه: عرف صفته."لسان العرب" (14/196) مادة: حلا.
(5) في (ب): «بعينه»، وفي (ح): «بعيبة».(4/241)
وقوله: «اسمعوا إلى ما يقول سيدكم»؛ قال ابن الأنباري: السيد: الذي يفوق قومه في الفخر.
قلت: وذلك لا يكون حتى يجتمع له من خصال (1) الشرف، والفضائل، والكمال ما يُبرز بها عليهم، ويتقدَّمهم بسببها. كما قال:
فَإِنْ كُنتَ سيَّدَنَا سُدْتَنَا وإِنْ كُنتَ للْخَالِ فَاذْهَب فَخُلْ (2)
وقوله: «لضربته بالسَّيف ضربًا غير مُصْفحٍ»؛ أي: غير ضارب بصفحه (3) . وصفحَا (4) السيف: وجهاه، وغِراراه (5) : حدَّاه.
وقوله: «إنَّه لغيور، وأنا أغير منه، والله أغير منِّي»؛ الغيرة (6) في حقِّنا: هيجان، وانزعاج يجده الإنسان من نفسه يحمل على صيانة الحرم، ومنعهم من الفواحش ومقدماتها. والله تعالى مُنَزَّهٌ عن مثل ذلك (7) الهيجان، فإنه تَغَيُّر يدلُّ على الحدوث. فإذا أطلق (8) لفظ الغيرة على الله تعالى فإنما معناه: أنه تعالى منع من الإقدام على الفواحش، بما توعَّد ورتَّب عليها من العقاب، والزجر، والذَّمِّ، وبما نصب =(4/304)=@ عليها من الحدود.
وقد دلَّ على صحَّة هذا قوله في حديث آخر: «وغيرة الله أن لا يأتي المؤمن ما حرَّمه الله (9) ») (10) .
وقوله: «لا شخص أغير من الله»؛ أصل وضع الشخص لِجُرم الإنسان &(4/242)&$
__________
(1) في (ب) و(ح): «الخصال».
(2) انظر "الحماسة" لأبي تمام (1/133)، و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة (1/127)، وتعليق الشيخ أحمد شاكر على "تفسير الطبري" (8/349). وقوله: «فخل»- بضم الخاء وبفتحها وجهان، والمعنى: فاختل ما شاءت لك الخيلاء.
(3) في (ب): «أي صارت بصفحة».
(4) قوله: «صفحًا» تكرر في (لب).
(5) في (ب): «وعرارة».
(6) قوله: «الغيرة» تكرر في (ب) و(ح).
(7) قوله: «ذلك» سقط من (ب) و(ح).
(8) في (ب) و(ح): «أطلقت».
(9) في (ب) و(ح): «ما حرمه الله عليه».
(10) قال الحافظ في "الفتح" (9/322): «قوله: « وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله »؛ كذا للأكثر، وكذا هو عند مسلم لكن بلفظ: « ما حرم عليه » على البناء للفاعل وزيادة: « عليه ». والضمير للمؤمن. ووقع في رواية أبي ذر: « وغيره الله أن لا يأتي » بزيادة « لا »، وكذا رأيتها ثابتة في رواية النسفي. وأفرط الصغاني فقال: كذا للجميع، والصواب حذف « لا ». كذا قال ! وما أدرى ما أراد بالجميع؟ بل أكثر رواه البخاري على حذفها وفاقًا لمن رواه غير البخاري؛ كمسلم والترمذي وغيرهما، وقد وجهها الكرماني وغيره بما حاصله: أن غيرة الله ليست هي الإتيان ولا عدمه، فلا بد من تقدير مَثْل: لأن لا يأتي؛ أي: غيرة الله على النهي عن الإتيان، أو نحو ذلك. وقال الطيبي: التقدير غيرة الله ثابتة لأجل أن لا يأتي. قال الكرماني: وعلى تقدير أن لا يستقيم المعني بإثبات « لا » فذلك دليل على زيادتها، وقد عهدت زيادتها في الكلام كثيرًا مثل قوله: {ما منعك أن لا تسجد} {لئلا يعلم أهل الكتاب} وغير ذلك».اهـ.
وأما تأويل المصنف - رحمه الله - لصفة الغيرة الثابتة لله تعالى بما ذكر فقد سبق عنه نظير مثل هذا التأويل في غيرها من الصفات، وسبق الجواب الكلّي العام، وفي مثل هذا الباب يُقال للمأوّلة: لافرق بين ما نفيتم وبين ما أثبتم، فالقول في الصفات كالقول في الذات فإذا كنتم تثبتون لله ذاتًا لا تعقلون لها كيفية، فيلزمكم إثبات صفات له سبحانه لا تعقلون لها كيفية. هذا لمن كان يثبت ذاتًا مجردة من الأسماء والصفات، كما أنه يلزم لمن يثبت لله ذاتًا وأسماء وينفي الصفات، أن يثبت صفات الله على النحو الذي به أثبت الذات والأسماء. وهذا الإلزام أيضًا لمن يثبت بعض الصفات وينازع في بعضها الآخر، فإمَّا أن يثبت الجميع أو ينفي الجميع؛ لأن القول في أحدها، كالقول في البعض الآخر.
والمصنِّف ممن يسلك مسلك التأويل في بعض الصفات، كصفة الغَيْرة المتكلم عليها هنا، فيقال فيها وفي غيرها: تُجرى على ظاهرها، وتُثبتُ على حقيقتها، مع قطع الطمع عن إدراك الكُنه والكيفيّة. ولا يلزم شيء من اللوازم التي ذكرها المصنّف، والله أعلم.(4/242)
وجسمه. يقال (1) : شخص الإنسان، وجثمانه، وطلله (2) ، وآله. كلها بمعنى واحد على ما نقل أهل اللغة. وشخص الشيء، يشخص: إذا ظهر شخصه. وهذا المعنى على الله تعالى محالٌ بالعقل والنقل على ما قدَّمناه في غير موضع، فتعيَّن تأويله هنا.
وقد قيل فيه: لا مترفع (3) ؛ لأن الشخص: ما شخص وظهر وارتفع، وفيه (4) بُعْدٌ. وقيل فيه: «لا شيء». وهذا أشبه (5) من الأول، وأوضح منه؛ أي: لا موجود، أو: لا أحد. وهو أحسنها. وقد جاء في روايلى أخرى: «لا أحد» منصوصًا. وأطلق الشخص مبالغة في تثبيت إيمان من يتعذر على فهمه موجود لايشبه شيئًا من الموجودات؛ لئلا يقع في النفي والتعطيل (6) ، كما قال في حديث الجارية، لما قالت: في السماء. فحكم (7) بإيمانها مخافة أن تقع في النفي (8) ؛ لقصور فهمها عمّا ينبغي له تعالى (9) من حقائق الصفات. وعمَّا يُنَزَّه عنه مما يقتضي التشيبيهات (10) . والله تعالى أعلم.
وقوله: «ولا شخص أحبُّ إليه العذر من الله». أحتُّ: مرفوعٌ على أنَّه خبر المبتدأ الذي هو: العذر، على التقديم والتأخير. وخبر التبرئه (11) محذوف؛ أي: لا أحد (12) موجودٌ العذر أحبّ إليه من الله. ويمكن فيه إعراب آخر. وهذا أوضح. =(4/305)=@
وقوله: «من أجل ذلك بعث النبيين (13) مبشرين ومنذرين»؛ ذلك
إشارة إلى العذر. ومعناه: الإعذار للمكلفين. قال بعض أهل المعافي: إنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لا أحد أغير من الله، ولا أحد أحبَّ إليه العذر من الله»، منبِّها لسعدٍ، ورادعًا له عن الإقدام على قتل من وَجَدَه مع امرأته. فكأنه قال: إذا كان الله مع (14) شدّة غيرته يُحبُّ الإعذار، ولم يؤاخذ أحدًا إلا بعد إنهاء الإعذار، فكيف تقدم على قتل من وجدته على تلك الحال ؟! والله أعلم. &(4/243)&$
__________
(1) في (أ): «يقال عليه».
(2) في (ب): «وطلاله».
(3) في (ب) و(ح): «لا يرفع».
(4) في (ب): «فيه».
(5) في (ب): «وعلى هذا أشبه». وفي (ح): «وهذا أشبه».
(6) يلزم المصنّف في المعنى الذي فَرَّ إليه، نفس ما يلزمه في المعنى الذي فَرَّ منه؛ لأنه إن كان يمنع من إطلاق وصف الله تعالى بأنه شخصٌ للمحتزرات الذي زكرها. فلمنازعه أن يَحْذُوَ حَذْوَهُ، فيقول بنفي كونه تعالى شيئًا، أو أحدًا؛ لأن المخلوق يتَّصف بذلك، فيتعيّن تأويل هذه الصفات أيضًا. فإن كان يقول: أثبتُها إثبات وجود لا إثبات كيفية، فمنازعوه من أهل الإثبات يقابلونه بعين جوابه. والقاعدة في هذا: أن الاتفاق في الاسم العام، لا يقتضي التماثل في مسمّى ذلك الاسم عند الإضافة، والتخصيص والتقييد. فمحل الاتفاق ما دلّ عليه الاسم أو الصفة من المعنى الكلي العام، الذي هو القدر المتواطئ، ومحل الافتراق عند الإضافة والتخصيص والتقييد كما سبق. فعُلم بذلك: أن إطلاق وصف الشخص على الله تعالى إطلاق صحيح، لا محظور فيه، والله أعلم.
(7) في (ب): «يحكم».
(8) في (ب): «التقصي».
(9) في (ب) و(ح): «تعالى وتقدس».
(10) المصنّف مننفاة العلو، وقد مضى ردُّ تأويله لحديث الجارية، فانظر ذلك في كتاب الصلاة، باب نسخ الكلام في الصلاة.
(11) في (ح): «التنزيه».
(12) في (ب): «لا أجد».
(13) في (ب) و(ح): «بعث الله النبيين».
(14) في (ب) و(ح): «إذا كان مع».(4/243)
و«المذحة»: المذح. وهو: الثناء بذكر أوصاف الكمال، والإفضال، فإذا أدخلت (1) الهاء كسرت الميم. وإن أسقطتها فتحتها.
وقوله: «من أجل ذلك وعد الله الجنة»؛ أي: من سبب حُبِّه للمدح وَعَدَ عليه بالجنَّة. وذِكْرُه المدح مقرونًا مع ذكر الغَيْرة والإعذار: تنبيهٌ لسعدٍ على ألا يعمل غيرته، ولا يعجل بمقتضاها، بل يتأنى، ويترفق، ويتثتت؛ حتى يحصل على وجه الصواب من ذلك، وعلى كمال الثناء والمدح بالتأني، والرفق، والصبر، وإيثار الحق، وقمع النفس عند هيجانها، وغلبتها عند منازلتها. وهذا نحو من قوله - صلى الله عليه وسلم - : «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (2) ، والله أعلم.
وقول الملاعن: «ما لي»؛ يعني: أنَّه طلب المهر الذي كان (3) أمهرها. =(4/306)=@
وقوله - صلى الله عليه وسلم - له: «إن كنت صادقًا فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كاذبًا كان ذلك (4) أبعد منها»؛ يعني: أنَّه لها، على حالتي: صدقه، أو كذبه؛ لأنه قد مد كان دخل بها. وهو واجبٌ لها عليه بعد الدخول بالإجماع.
وأما لو تلاعنا قبل الدخول بها، فقال فقهاء الأمصار: إنها كغيرها، لها نصف الصداق. وقال الزهري: لا صداق لها (5) جملة واحدة؛ لأنه فسخ. وحكاه البغداديون عن المذهب. والمشهور: أن عليه النصف مع أن اللعان فسخ بغير طلاق. وحينئذ يشكل إلزام نصف الصداق.
واعتذر عنه بعض أصحابنا بأن قال: إنما قسم الصداق بينهما لتعارض أيمانهما كمتداعيين شيئًا تعارضت فيه دعاويهما وبيناتهما ولا مرتجح، فإنه يقسم بينهما. وهذا ليس بشيء؛ لأنهما لم يتنازعا في الدخول، بل قد فرضناهما متصادقين على عدمه. وقال بعضهم: إنما قسم بينهما مراعاة للخلاف في اللعان. هل هو فسخ أو طلاق؟ وقال الحكم، وحماد، وأبو الزناد (6) : لها الصداق كله؛ إذ ليس بطلاق. &(4/244)&$
__________
(1) في (ب): «دخلت».
(2) سيأتي برقم (2519) كتاب البر والصلة، باب ما يقال عند الغضب.
(3) قوله: «كان» سقط من (ب).
(4) في (أ): «لك».
(5) في (ب) و(ح): «لا صداق عليه لها».
(6) في (ب): «وقال حماد وأبو الزناد».(4/244)
- - - - -
ومن باب لا ينفى الولد لمخالفة لون أو شبه
لا خلاف في مقتضى هذه الترجمة. والحديث الذي تحتها شاهدٌ لصحتها. ومن قال: أن (1) الولد يلحق بالشَّبه القافي لم ينفه لمخالفة الشَبه ولا اللون.
وفي هذا الحديث: تنبية على استحالة التسلسل العقلي، وأن الحوادث لا بدّ =(4/307)=@ أن تستند إلى أولٍ ليس بحادثٍ، كما يعرف في الأصول الكلامية (2) .
و«الأورق»: الأسمر الذي يميل إلى الغبرة. ومنه قيل للرَّماد: أورق (3) . وللحما م: وُرْق (4) .
وقوله: «فلعل (5) عرقًا نزعه»؛ أي: أشبهه. والعرق: الأصل من النسب. شبهه بعرق الثمرة. يقال: فلان معرق في الحسب (6) ، وفي الكرم. وأصل النزع: الجذب. كأنَّه جذبه بشبهه له (7) .
وفي هذا الحديث: أن التعريض اللطيف إذا لم يقصد به العيب (8) ، وكان على جهة الشكوى، أو الاستفتاء لم يكن فيه حدٌّ. وقد استدل به من لا يرى الحدَّ في التعريض، وهو الشافعي، ولا حجة له فيه لما ذكرناه، والله تعالى أعلم (9) .=(4/308)=@ &(4/245)&$
__________
(1) في (ب) و(ح): «بأن».
(2) التسلسل الواجب الذي دل عليه الشرع والعقل: هو دوام أفعاله تعالى في الأزل والأبد. فكل فعل من أفعاله سبحانه مسبوق بفعل آخر، فهذا واجب في كلامه، فإنه لم يزل متكلمًا إذا شاء، ولم تحدث له صفة الكلام في وقت، وكذا أفعاله التي هي من لوازم حياته.
والتسلسل الممكن: فالتسلسل في مفعولاته من طرف الزل، كما تسلسل في طرف الأبد، فإنه إذا لم يزل حيًّا قادرًا مريدًا متكلمًا، وذلك من لوازم ذاته، فالفعل ممكن له بموجب هذه الصفات له، ولا يلزم من هذا أنه لم يزل الخلق معه، فإنه سبحانه متقدم على كل فردٍ من مخلوقاته تقدمًا لا أوّل له. فكل مخلوق أوّل، والخالق سبحانه لا أول له، وكل من عداه كائن بعد ألم يكن.
والتسلسل الممتنع المحال هو: التسلسل في المؤثرين، وهو أن يكون مؤَثِّرون كل واحدٍ منهم استفاد تأثيره مما قبله، لا إلى غاية.
انظر "شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز الحنفي (ص83-87) بتحقيق أحمد شاكر، طبع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف.
(3) في (ب): «أزرق».
(4) قال الإمام النووي في "شرح صحيح مسلم" (10/133): «... أما الأورق فهو الذي فيه سوادٌ ليس بصاف. ومنه قبل للرّماد: أَوْرَق، وللحمامة: وَرْقاء، وجمعه وُرْقٌ - بضم الواو، وإسكان الراء -: كأَحْمَر، وحُمْر».
(5) في (ب) و(ح): «فلعل».
(6) في (ب): «الجسم».
(7) في (ب) و(ح): «إليه».
(8) في (ب): «الغيب».
(9) في هامش (أ) ما نصه: «بلغ مقابلة بأصل»، وجاء كذلك- بعد قوله: «والله أعلم» -: «كمل السفر الثالث من المفهم بحمد الله وعونه، صلى الله على نبيه وعبده - بدهروط - على يد كاتبه لنفسه العبد الفقير إلى ربه محمد بن عبدالرحمن بن عوض بن عبدالخاق بن عبدالمنعم البكري الصديقي - غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين بمحمد وآله - وذلك في سادس عشرين شهر رمضان المعظم أحد شهور سنة تسع وثلاثين وسبعمائة، أحسن الله خاتمتها بمحمد وآله».
وقد تضمن دعاء الناسخ توسلاً بدعيًّا ممنوعًا، لا عهد للسلف به، وهو التوسل بذوات المخلوقين وجواههم وحقوقهم، وإنما المعهود عند السلف، بل والذي دلت عليه الأدلة الشرعية، هو التوسل بأسماء الله تعالى وصفاته، أو التوسل بالأعمال الصالحة، أو بدعاء المسلمين بعضهم لبعض. وفي كتاب "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" لشيخ الإسلام ابن تيتمة بيان للتوسل المشروع والممنوع، والله أعلم.(4/245)
كتاب العتق (1)
ومن باب فيمن أعتق شركًا له في عبد
قوله - صلى الله عليه وسلم - : «من أعتق شِرْكًا له في عبدٍ، وكان (2) له مال يبلغ ثمنَ العبد قوَّم عليه قيمة العدل، فَأُعْطِي شركاؤه حِصَصَهم، وعتق عليه العبد (3) ، وإلا فقد عَتَقَ منه ما عَتق».
قلت (4) : هذا الحديث من رواية مالك، عن نافع، عن ابن عمر =(4/309)=@ رضي الله عنه، وهو أتقن ما روي عن نافع من ذلك، وأكمله. فلنبحث عن كلماته. فـ«من» بحكم (5) عمومها تتناول (6) كُلَّ من يلزمه العتق. وهم المكلفون، الأحرار، المسلمون، ذكرهم، وأناثهم (7) . فمن أعتق نصيبه منهم في مملوك مشترك نفذ (8) عِتْقه في نصيبه، وقوَّم عليه نصيب شريكه إن كان موسرًا، ودفعت (9) القيمة للشريك (10) ، وكُمِّل على المبتدئ بالعتق. فلو أعتق من ليس بمكلف من صبي، أو مجنون لم يلزمه العتق، ولم يكمل عليه. وكذلك لو اعتق العبد بغير إذن سيده. فلو أذن له السيد أو أجاز انتقل الحكم إليه، ولزمه العتق، وكمل عليه. &(4/246)&$
__________
(1) جاء قبله في (أ): «بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على محمد».
(2) في (ح): «فكان».
(3) قوله: «وعتق عليه العبد» سقط من (أ).
(4) قوله: «قلت» سقط من (ب).
(5) في (أ): «حكم»، وفي (ب): «فمن بم يجد»، والمثبت من (ح).
(6) في (ب): «يتناول».
(7) في (ب) و(ح): «وأنثاهم».
(8) في (ب) و(ح): «فقد».
(9) في (ب) و(ح): «دفعت».
(10) في (ب): «لشريك».(4/246)
وأما الكفار: فلا يصح العتق الشرعي منهم. إمَّا لأنَّهم غير مخاطبين بالفروع. وإما لأن صحة القرب الشرعية موقوفة على الإسلام. فلو كان العبد مسلمًا وسيداه نصرانيين، فاعتق أحدهما كمل عليه؛ لأنه حكم بين مسلم وذمي. وكذلك لو كان العبد وأحدُ سيديه نصرانيين، فاعتق النصراني (1) كمّل عليه لحقِّ المسلم على قول أشهب، ومطرِّف، وابن الماجشون (2) . وفي "المختصر الكبير": لا يقوَّم عليه. وقال ابن القاسم: إن كان العبد مسلمًا قوَّم عليه، وإلا فلا، بناءً على أن القُرْبَة لا تصحُّ منهم، ولا يجبرون عليها.
و«الشرك»: النصيب. ومنه قوله تعالى: {وما لهم فيهما من شرك} (3) . ويكون بمعنى: الشريك. لقوله تعالى: {جعلا له شركاء فيما آتاهما} (4) ، ويكون بمعنى: الاشتراك، كما جاء في حديث معاذ (5) : أنه أجاز من أهل اليمن الشرك. يعني: الاشتراك في الأرض.
و«الشَّقْصُ» والشُّقَيْصُ: النصيب (6) والجزء. والتشقيص: التجزئة. =(4/310)=@
و«العبد»: اسم للمملوك الذكر بأصل وضعه، ومؤنثه: أمة - من غير لفظه -، وقد حُحي: عبدةٌ. ولهذا قال إسحاق بن راهوية: إنَّ هذا الحديث إنّما يتناول ذكور العبيد دون إناثهم، فلا يكمَّل على من أعتق شِرْكًا في أنثى.
وهو على خلاف الجمهور من السَّلف، ومن بعدهم: فإنهم لم يفرِّقوا بين الذكر والأنثى؛ إمَّا لأن لفظ العبد يُراد بهب الجنس، كما قال تعالى: {إن كل من (7) في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدًا} (8) ، فإنه يتناول(4) الذكر والأنثى من العبيد قطعًا. وإمَّا على طريق (9) الإلحاق بنف يالفارق الذي هو القياس في معنى الأصل، كما بينَّاه. ومن مراتبه عندنا كتابنا في أصول الفقه (10) .
و«المال» هنا: هو ما يُتَموَّلُ (11) ؛ أي: يتملك، فيباع عليه كل ما يُباع على المفلس.
و«الثمن»: أراد به هنا القيمة. والتقويم: اعتبار مقدار ثمن العبد المعتق بعضُه. ولا يكون ذلك إلا من عارفٍ بقيم السِّلع ن موثوقٍ بدينه، وأمانته؛ لأنَّ &(4/247)&$
__________
(1) قوله: «النصراني» مطموس في (ح).
(2) في (ب) و(ح): «ومطرف ابن الماجشون».
(3) الآية (22) من سورة سبأ.
(4) الآية (190) من سورة الأعراف.
(5) حديث معاذ ذكره ابن قتيبة في "غريب الحديث" (2/247)، وقال: «يرويه=
= عبدالله بن المبارك، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه». وذكر ابن الجوزي في "غريب الحديث" (1/534)، وابن الأثير في "النهاية" (2/476).
(6) قوله: «النصيب» سقط من (ب).
(7) في (ح): «ما».
(8) الآية (93) من سورة مريم. ... (4) في (ب) و(ح): «قد تناول».
(9) قوله: «طريق» سقط من (ب) و(ح).
(10) في (ب) و(ح): «ومراتبه عندنا في أصول الفقه».
(11) في (ب) و(ح): «كل ما يتمول».(4/247)
التقويم فَصْل بين الخصوم، وتمييز لمقادير الحقوق.
وظاهر هذا الحديث: أنَّه يقوَّم عليه كاملاً، لا عتق فيه، وهو المعروف من المذهب. وقيل: يقوَّم على أن بعضه حُرٌّ (1) . والأول أصحُّ؛ لأن جناية المعتق هي سبب (2) تفويت مِلك الشَّريك، فيقوَّم عليه على ما كان حال (3) الجناية، كالحكم في سائر الجنايات المفوتة (4) ، وهل يعتبر قيمته يوم العتق، أو يوم الحكم؟ قولان. والثاني هو المشهور.
وقوله: «فأُعْطِيَ شركاؤه حِصَصَهم». الرواية: «أعطي (5) ») مبنيًّا للمفعول.« شركاؤه» مفعول لما (6) لم يُسمِّ فاعله. وهو مُشْعرٌ بِجَبْرِ الْمُعتِق على الإعطاء، وجَبْرِ الشَّرِيك على الأخذ. لكن إنكا يٌجْبَرُ الشَّريك إذا لم يَعْتِق حصَّتَه، فلو أعتق لم يجبر على المشهور، وسيأتي.
ويعني بقوله: «حصصهم»؛ أي: قيمة حصصهم. =(4/311)=@
وقوله: «وعتق عليه العبد»،« عَتَق»- بفتح العين والتاء (7) ، مبنيًّا للفاعل، واسم الفاعل: عتيق. ولا يقال مبنيًّا لما لم يسمِّ فاعله إلا بهمزة التعدية، فيقال: أُعتِق (8) ، فهو: مُعْتَق.
ويستفاد منه: أن من حكم عليه بالعتق نسب إليه، وإن كان كارهًا. وإذا صحت نسبته إليه ثبت الولاء له؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «إنما الولاء لمن أعتق» (9) .
وظاهر هذا الحديث: أن العتق لا يكمل للعبد إلا بعد التقويم ودفع القيمة (10) إلى الشريك. وهو مشهور قول مالك وأصحابه، والشافعي في القديم، وبه قال أهل الظاهر. وعليه فيكون حكم المعتق بعضه قبل التقويم والدفع حكم العبد مطلقًا. ولو مات لم يقوَّم على المعتق. ولو أعتق الشريك نفذ عتقه، وكان الولاء بينهما.
وذهبت طائفة أخرى: إلى أن عتق البعض يسري (11) إلى نصيب الشريك، فيلزم التكميل على الأول إن (12) كان موسرًا، ولا يقف ذلك على تقويم، ولا حكم، ولا دفع. وإليه ذهب الثوري، والأوزاعي،
وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، ومالك، والشافعي في قولهما الآخر.
وعلى هذا فيكون حكم المعتق بعضه حكم الأحرار مطلقًا (13) من يوم العتق. ولو أعتق الشريك لم ينفذ عتقه. ولو مات &(4/248)&$
__________
(1) في (ح): «حرًّا».
(2) قوله: «سبب» سقط من (ب) و(ح).
(3) في (أ): «حالة».
(4) في (ب) و(ح): «المقومة».
(5) قوله: «أعطي» سقط من (أ).
(6) قوله: «لما» سقط من (أ).
(7) في (ب) و(ح): «والفاء».
(8) من قوله: «ولا يقال مبنيًّا....» إلى هنا سقط من (أ).
(9) سيأتي في الباب الذي يعد هذا.
(10) في (ب): «حكم القيمة».
(11) في (ب): «سري».
(12) في (ب): «وإن».
(13) قوله: «مطلقًا» سقط من (ب) و(ح).(4/248)
العبد قبل التقويم ودفع القيمة مات حرًّا. ومتمسَّك هؤلاء حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي قال فيه: «من أعتق شقصًا له في عبد فخلاصُه في ماله إن كان له مال». وأظهر من هذا: ما رواه النسائي من حديث ابن عمر وجابر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أعتق عبدًا وله فيه شركاء، وله وفاء فهو حُرٌّ، ويضمن نصيب شركائه (1) بقيمته لما أساء من (2) مشاركتهم» (3) . =(4/312)=@
قلت: وهذا التمسك ليس بصححيح لما يقتضيه النظر الأصولي. وذلك: أن هذه الأحاديث وإن تعدد رواتها، وكثرت (4) ألفاظها؛ فمقصودها كلها واحد. وهو: بيان حكم من أعتق شركًا في عبدٍ، فهي قضية واحدة. غير أن من ألفاظ الرواة ما هو مقيَّد، ومنها ما هو (5) مطلق، فيحمل مطلقها على مقيدها. وقد اتفق الأصوليون على ذلك، فيما إذا اتحدت القضية. وهذا من ذلك (6) النوع المتفق عليه، ثم إن هذا من باب الجمع بين الأحاديث الواردة في هذا المعنى. والجمع أولى من الترجيح إذا أمكن باتفاق أهل الأصول. ثم ظاهر (7) ذلك اللفظ الأول: أنَّه لو وجد التقويم دون الإعطاء لم يكمل الإعتاق إلا بمجموعهما (8) . وهو ظاهر حكاية الأصحاب عن المذهب، غير أن سحنونًا قال: اجمع أصحابنا: على أن من أعتق شقصًا له في عبد إنَّه بتقويم الإمام عليه حُرٌّ بغير إحداث حكم. فظاهر هذا: أن نفس التقويم على الموسر موجب للحرية، وإن لم يكن إعطاء (9) ، وفيه بُعْدٌ (10) ؛ لأن التقويم لو كان محصِّلاً للعتق للزم الشريك أن يتبع ذمة المعتق إذا أعسر بالقيمة بعد التقويم. وذلك لا يتمشى؛ لا على القول بالشِّراية، ولا على مراعاة التقويم فلا (11) على قوله: «وعتق عليه».
وقوله: «وإلا فقد عتق منه ما عتق (12) »). ذكره مالك عن نافع على أنّه من قول &(4/249)&$
__________
(1) في (ب): «شريكائه».
(2) قوله: «من» سقط من (ب).
(3) أخرجه النسائي في "الكبرى" (3/185 رقم4961)، وابن حبان (10/156 رقم4317/الإحسان)، والطبراني في "مسند الشاميين" (1555)، وابن عدي (3/267 -268)، والبيهقي (10/276). جميعهم من طريق الوليد بن مسلم، عن أبي معيد حفص بن غيلان، عن سليمان بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر، وعن عطاء، عن جابر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أعتق عبدًا وله فيه شركاء، وله رفاق، يضمن نصيب شركائه بقيمة ماله من مشاركتهم، وليس على العبد شيء».
قال النسائي كما في "التحفة" (6/99): «سليمان بن موسى، ليس بذاك القوي في الحديث، ولا نعلم أحدًا روى هذا الحديث عن عطاء غيره».اهـ.
وقال ابن عدي: «قوله: « ليس على العبد شيء »: لا يرويه غير أبي معيد، عن سليمان بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر، وعطاء، عن جابر».اهـ.
والوليد بن مسلم، ثقة، لكنه يدلي ويسوّي، ولم يصرح بالسماع.
(4) في (ب) و(ح): «فكثرت».
(5) قوله: «ماهو» سقط من (أ).
(6) قوله: «ذلك» سقط من (ب).
(7) في (ب): «ثم إن ظاهر».
(8) في (أ): «بمجموعها».
(9) في (أ): «عطاء».
(10) قوله: «بعد» سقط من (ب).
(11) قوله: على قوله فعتق عليه سقط من نسخة (أ) و(ب) و(ح) و(ك)..... فلتراجع. كذا في جميع النسخ، وفي (ك) وضع فوقها علامة «صح»، ونقلها الأُبي في "إكمال إكمال المعلم" (4/154) عن القرطبي بدون قوله: «فلا». وعلى هذا فبعد قوله فلا كلام محذوف يعود على ما سبق، والله أعلم.
(12) في (ب) و(ح): «وإلا فقد عتق عليه».(4/249)
النبي - صلى الله عليه وسلم - وجزم بذلك. وهو الظاهر من مساق الحديث. فروايته أولى من رواية أيوب عن نافع، حيث اضطرب في ذلك. فقال (1) مرة: قال نافع: «وإلا فقد عتق منه ما عتق»، ومرة قال (2) : فلا أدري، أشيء قاله نافع، أم هو من الحديث؛ لأن =(4/313)=@ مالكًا جازم غير شاك! وقد تابعه على ذلك جماعة من الحفاظ عن نافع كجرير (3) بن حازم، وعبيدالله، وغيرهما (4) .
وتضمَّن (5) هذا الحديث: أنَّه لا بدَّ من عتق نصيب المعتق وتنفيذه موسرًا كان أو معسرًا. وهو مذهب كافة العلماء. وشذَّ آخرون، فأبطلوا (6) عتق ذلك الشقص إن كان معسرًا. وهو مصادمة للنص المذكور. وكأنَّه راعى حق الشريك بما يدخل عليه من الضرر بحرية (7) الشقص. وهو قياس فاسد الوضع؛ لأنه مخالف للنص. ويلزمه على هذا: أن يرفع الحكم بالحديث رأسًا، فإنه مخالف للقياس، حيث حكم الشرع بعتق حصة (8) الشريك، وإخراجها عن ملكه جبرًا (9) ، فإن اعتذر عن هذا: بأن الشرع إنما حكم بذلك تعبدًا، أو (10) تشوفًا للعتق، اعتذرنا بذلك عن تنفيذ عتق الشقص على المعتق المعسر (11) .
وحاصله: أن مراعاة حق الله تعالى في العتق مقدَّمة على مراعاة(8) حقِّ الآدمي، ولا سيما والعتق قد وقع على حصة المعتِق. وما وقع فالأصل بقاؤه.
وظاهر حديث ابن عمر رضي الله عنه - وإن اختلفت طرقه، وألفاظه -: أن المعتق إذا كان معسرًا لا يكلف (12) العبد السعي في تخليص (13) ما بقي منه، وهو مذهب كافة (14) العلماء ما عدا أبا حنيفة؛ فإنَّه يجبر الشريك (15) في العتق، واستسعاء العبد، متمسِّكًا في ذلك بما في حديث أبي هريرة من ذكر الاستسعاء الذي قال فيه: «فإن لم يكن له مالٌ اسْتُسعِي العبد غير مشقوقٍ عليه». =(4/314)=@
وقدر علماؤنا ذكر الاستسعاء المذكورفي هذا الباب بوجهين:
أحدهما: التأويل. وهو أن قالوا: معناه: أن يُكلَّف (16) المتمسَّك بالرِّق عَبْدَه الخدمة على قدر ملكه، لا زيادة على ذلك. ولفظ الاستسعاء قابل لذلك؛ لأنه استدعاءٌ السعي (17) ؛ الذي هو العمل. لكن لماذا؟ هل لحق (18) العتق، أو لحق السَّيد؟ &(4/250)&$
__________
(1) قوله: «فقال» سقط من (أ).
(2) جاءت العبارة في (ب) و(ح) هكذا: «وهو الظاهر من مساق الحديث أنه لابدّ من عتق نصيب ومرة قال...».
(3) في (ب): «جرير».
(4) في (ب): «وغيرهم»، وفي (ح) تشبه: «وغيرهما».
(5) في (ب): «ويضمن».
(6) في (أ): «فانطلق ا».
(7) في (ب) و(ح): «بتجزئة»، لكنها في (ب) غير منقوطة. والمثبت هو الصواب على ما نقله الأُبيّ في "إكمال إكمال المعلم" (4/155) عن القاضي عياض. وكذا نقله الزرقاني عن القرطبي كما في "شرح الموطأ" (4/99).
(8) في (ب): «حصته».
(9) في (ب): «خيرًا».
(10) في (أ): «و».
(11) في (أ): «الموسر». ... (8) في (ح): «على كل مراعاة».
(12) في (ب) و(ح): «لم يكلف».
(13) في (ب): «تخيص».
(14) في (ب) و(ح): «الكافة».
(15) في (ب) و(ح): «الشريك به».
(16) في (أ): «تكليف».
(17) في (ب): «لاستدعاء للسعي»، وفي (ح): «استدعاء للسعي»
(18) قوله: «لحق» سقط من (أ).(4/250)
الأمر محتمل، ولا نصَّ، غير أن تأويلنا أولى؛ لأنه موافق للقواعد الشرعية، وتأويلهم مخالف لها على ما نبينه إن شاء الله تعالى.
قلت: هذا معنى ما أشار إليه أصحابنا. وقد جاء في كتاب أبي داود (1) ما يبطل هذا التأويل من حديث أبي هريرة. قال: «فإن لم يكن له مال قوِّم العبد قيمة عدلٍ، ثم يُستسعى لصاحبه في قيمته غيرمشقوق عليه».
والوجه الثاني: الترجيح. وهو من أوجه:
الأول: أن سند حديثنا أقرب سندًا من حديثهم، فتطرُّق احتمال (2) الغلط إليه أبعد.
الثاني: أن حديثهم قد رواه شعبة، وهشام، وهمَّام موقوفًا على قتادة من قوله، وفتياه (3) . وحديثنا متفق على رفعه، فكان أولى.
والثالث: أن حديثنا معمولٌ به عند أهل المدينة، وجمهور العلماء. وحديثهم إنما عمل به أبو حنيفة وأصحابه من أهل ا لعراق، فكيف تخفى سُنَّة على أهل المدينة، وتظهر بالعراق ؟! وهذا في الاستبعاد والهذر (4) ، كمستبضع التمر إلى هجر (5) . =(4/315)=@
الرابع: أن (6) حديثهم مخالف للأصول في حق السَيِّد والعبد، أما في حق السيد: فإنه إخراج لملك (7) عن مالك من غير عوض ولا تنجيز عتق جبرًا (8) . وبيانه: أن مدَّة الاستسعاء تفوِّت على السيد (9) منافع عبده، وقد لا يحصل له شيء يعتق به، فتفوت عليه منافع عبده لغير فائدة. وأما في حق العبد: فإن تكليفه السعي ليحصل له العتق في معنى الكتابة. والكتابة لا يجبر عليها العبد إذا لم يطلبها بالاتفاق بيننا وبينه. فالسعي (10) لا يجبر عليه. وأيضًا فإن منع المالك من التصرف في ملكه، وإدخال العبد فيما لا يريده مؤاخذات لهما (11) بسبب (12) جناية (13) غيرهما الذي هو &(4/251)&$
__________
(1) في "سننه" (4/255 رقم3938 و3939) في العتق، باب من ذكر السعاية في هذا الحديث.
(2) في (ب) و(ح): «الاحتمال».
(3) ناقش ذلك الحافظ في "الفتح" (5/157-160) وقرر رفعه بما لا مزيد عليه، فانظره إن شئت.
(4) في (ح): «والهدر» بالدال المهملة.
(5) قال الميداني في "مجمع الأمثال" (3/39): «قال أبو عبيد: هذا من الأمثال المبتذلة، ومن قديمها؛ وذلك أن هجر معدن التمر، والْمُسْتَبْضع إليه مخطئ...».
(6) قوله: «أن» سقط من (أ).
(7) في (ب) و(ح): «أما حق السيد فإخراج الملك».
(8) قوله: «جبرًا» سقط من (ب) و(ح).
(9) في (ب): «يفوت السيد».
(10) في (ب) و(ح): «والسعي».
(11) في (ب) و(ح): «له».
(12) في (ب): «سبب».
(13) قوله: «جناية» سقط من (ب) و(ح).(4/251)
المعتق. ومن الأنسب الأحرى: أن لا تزر (1) وازرة وزر أخرى. فقد ظهر بهذه (2) الأوجه: أن حديث ابن عمر أولى وأوجه.
تنبيهان: الأول: ذهب بعض المتأخرين: إلى أن الحكم بالتكميل غير معلَّل، وليس بصحيح. بل قد نصَّ الشرع على تعليله في الحديث الذي ذكرناه من حديث ابن عمر، وجابر، حيث قال فيه: «من أعتق عندا وله فيه شركاء، وله وفاء فهو حرٌّ، ويضمن نصيب شركائه بقيمته، لما أساء من مشاركتهم، وليس على العبد شيء». وإذا علل ذلك بسوء المشاركة فذلك موجود فيما إذا دبَّر بعض عبده، فيكمِّل (3) عليه التدبير بعد التقويم. وهذا (4) أحد الأقوال في المذهب. أو لا يلحق به =(4/316)=@ ذلك لمخالفة حكم الفرع حكم الأصل؛ فإن حكم الأصل عتق ناجزٌ (5) لازمٌ، إمَّا في الجزء، وإمَّا في الكلِّ. وفي الفرع تدبير قد لا يحصل منه شيء لإمكان لحوق (6) الذين تركة السيد، فيباع المدبَّر، فلا يَكْمُل التدبير. وهو القول الثاني عندنا. وإذا لم يصحّ ذلك في التدبير فالكتابة أبعد؛ لأنها مع توقع عجز المكاتب معاوضة. وعلى هذا: فتكون (7) علَّه الحديث قاصرة، والله أعلم.
الثاني: إن الشَّرع لَمَّا جبر الشَّريك على أخذ قيمة شقصه، فَهِمَ العلماء من ذلك تشوُّف الشَّارِع إلى العتق. وإذا كان ذلك في ملك الغير كان أحرى وأولى في ملك نفسه. فإذا أعتق جزءًا من عبده كُمِّل عليه عتق جميعه. وهل بالسراية، أو بالحكم؟ قولان. القول بالسراية هنا أولى؛ إذ لا حاجة إلى التقويم، ولا إلى الحكم بخلاف الأصل، فإن التقويم ثَمَّ أحوج إليه حق الشريك. وقد شذَّ بعض العلماء فمنع هذا الإلحاق، وقصر وجوب التكميل على من أعتق شقصًا من مشترك. وكذلك شذَّ (8) عثمان البَتِّيِّ فقال: لا شيء على المعتق إلا أن تكون (9) جارية رائعة تراد للوطء، فيضمن ما أدخل على صاحبه (10) فيها من الضرر. &(4/252)&$
__________
(1) في (ب): «تر».
(2) في (ب): «بهذا».
(3) في (ب): «فتكمل».
(4) في (ب) و(ح): «وهو».
(5) في (ب): «فإن حكم الأصل ناجزٌ»، و في (ح): «فإن حكم الأصل حكم ناجزٌ».
(6) في (ب): «لحق».
(7) في (أ) و(ش): «فيكون»، ولم تنقط في (ح)، والمثبت من (ك).
(8) قوله: «شذّ» سقط من (ب) و(ح).
(9) في (أ): «يكون»، وفي (ب) و(ح) غير منقوطة، والمثبت هو الصواب.
(10) في (ب) و(ح): «صاحبها».(4/252)
وكذلك أيضًا شذَّ ابن سيرين؛ فرأى القيمة في بيت المال. وشذَّ آخرون منهم زفر، والبصريون؛ فقالوا: يقوَّم على الموسر والمعسر، ويُتّبع إذا أيسر. وهذه كلها أقوال شاذَّة مخالفة للنصوص والظواهر، فلا يلتفت إليها. =(4/317)=@
- - - - -
ومن باب إنما الولاء لمن أعتق
حديث بريرة: حديث مشهور، كثرت رواياته، فاختلفت ألفاظه، وكثرث أحكامه. وقد جمع ما فيه من الفوائد في أجزاء كتب فيه (1) الطبري ستة أجزاء، واستخرج غيره منه مائة فائدة. والتطويل ثقيل (2) . فلنقتصر على البحث عن مضمون ألفاظه، ومشكل معانيه على ما شرطناه من الإيجاز.
قول عائشة رضي الله عنها: «دخلت علي بريرة فقالت: إن أهلي كاتبوني على تسع سنين، في (3) كل سنة أوقية»؛ دليلٌ على جواز كتابة المرأة المأمون عليها أن &(4/253)&$
__________
(1) قوله: «فيه» سقط من (أ).
(2) في (ب) و(ح): «تثقيل».
(3) قوله: «في» سقط من (ب) و(ح).(4/253)
تكتسب (1) بفرجها، وعلى أن مشروعية الكتابة أن تكون مُنَجَّمة (2) أو مُؤَجَّلة. وهو مشهور المذهب. ومن الأصحاب من أجاز الكتابة الحالَّة، وسَمَّاها قطاعةً، وهو القياس؛ لأن الأجل فيها إنَّما هو فسحةٌ للعبد في التكسب (3) ، ألا ترى: أنَّه لو جاء بالمنخم عليه قبل محله (4) لوجب على السيد أن يأخذه ويتعجل المكاتب عتقه ؟!
والمكاتبة: مفاعلةٌ مِمَّا يكون بين اثنين؛ لأنها معاقدة بين السيد وعبده. يقال: كاتب يكاتب، كتابًا، وكتابةً (5) ، ومكاتبة. كما يقال: قاتل، قتالاً، ومقاتلة. فقوله تعالى: {والذين يبتغون الكتاب} (6) ؛ يعني به: المكاتبة. وهي عند جمهور العلماء مستحبة؛ لأن الله سبحانه أمر بها، وجعلها طريقًا =(4/318)=@ لتخليص الرقاب من الرِّق، والأمر بها على جهة الندب عند الجمهور خلافًا لعطاء، وعكرمة، وأهل الظاهر، تمسًّكا بأن ظاهر الأمر المطلق: الوجوب (7) ، لكن الجمهور وإن سلموا ذلك الأصل (8) الكلِّي، قالوا: لا يصحُّ حمل هذا الأمر على الوجوب لأمور:
أحدها: أنَّه ظاهرٌ تُخالِفُه الأصول، فيُتْرك لها، وذلك (9) : أن الإجماع منعقدٌ على أن السيد لا يجبر على بيع عبده، وإن ضُوعف له في الثمن. وإذا كان كذلك كان أحرى وأولى ألا يخرج عن ملكه بغير عوض. لا يقال: الكتابة طريقٌ للعتق. والشَّرع قد تشوَّف للعتق، فخالف البيع. فلا يقاس عليه؛ لأنا نمنع أن يكون للشرع (10) تشوُّف للعتق مطلقًا بل في محل مخصوص. وهو: ما إذا ابتدأ عتق الشقص، وألزمه نفسه، فتشوّف الشرع لتكميل (11) الباقي. ولو اعتبرنا مطلق تشوّف الشرع للعتق للزم عتق العبد إذا طلبه مجانًا، ولا قائل به.
الثاني: أن رقبة العبد وكسبه ملك لسيده، فإذا قال العبد لسيده: خُذْ كسبي وأعتقني. كان بمنزلة قوله: أعتقني (12) بلا شيء، وذلك غير لازم. فالكتابة غير لازمة.
« بريرة» بفتح الباء بواحدة من تحتها، وكسر الراء المهملة، على وزن فعيلة، &(4/254)&$
__________
(1) في (ب) و(ح): «تكسب».
(2) قال في كتاب "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" (1/429): «والمكاتبه: لفظة وُضعت لعتق على مال مُنجَّم إلى أوقات معلومه يحل كل نجم لوقته المعلوم، وإنما سُميت نجومًا؛ لأن العرب في باديتها وأوليتها لم يكونوا أهل حساب، وكانوا يحفظون أوقات السنة وفصولها التي يتوزعهم فيها النجع ويرجعون فيها الى محاضرهم، ويرسلون فيها الفحول، وينتظرون فيها النتاج بالأنواء في طلوع نجم، وسقوط رقيبه، وجميع تلك النجوم: ثمانية وعشرون نجمًا كلما طلع منها طالع سقط ساقط. وهي جُعلتْ منازل القمر...، فعنى العربُ بمعرفة مطالعها، ومساقطها ومراعاتها، وتسميتها؛ لأنهم كانوا أُميين لا يحسبون ولا يكتبون، ولم يحفظوا حلول الحقوق في مواقيتها إلا بهذه النجوم، فكانوا يقولون في الدية تلزم الرجل نجموها عليه، ليكون أرفق به، فكان اللازم للحق الضامن له يقول: إذا طلع نجم الثريا أديت من حقك كذا وكذا، وإذا طلع بعده الدبران وفيتك كذا...».
(3) في (ب): «في حق المتكسب».
(4) في (ب) و(ح): «حلوله».
(5) في (ب): «مكاتبة».
(6) الآية (33) من سورة النور.
(7) في (ب): «لمطلق الوجوب»، وفي (ح): «المطلق للوجوب».
(8) في (ب): «وإن سلكوا ذلك الأصلي».
(9) من قوله: «أنه ظاهر....» إلى هنا سقط من (ب) و(ح).
(10) في (ب) و(ح): «الشرع».
(11) في (ب): «التكميل».
(12) قوله: «كان بمنزلة: أعتقني» ليس في (ب).(4/254)
من البِرِّ. ويحتمل أن تكون بمعنى: مفعولة؛ أي: مبرورة، كأكيلة السبع؛ أي: مأكولة. ويحتمل أن تكون بمعنى: فاعلة؛ كرحيمة بمعنى: راحمة.
وظاهر قولها: «إن أهلي كاتبوني على تسع أواق»: أن الكتابة قد كانت (1) انعقدت، وصحَّت. وأن ذلك ليس بمراوضة على الكتابة. وعند هذا يكون مع ما وقع من شراء عائشة لها بإذن النبي - صلى الله عليه وسلم - ظاهرًا في جواز فسخ الكتابة، وبيع المكاتب للعتق، كما قد (2) صار إليه طائفة (3) من أهل العلم. وأما من لم يجز ذلك، وهم الجمهور، فأشكل عليهم الحديث، وتحزّبوا في تأويله؛ فمنهم من قال: إن =(4/319)=@ الكتابة المذكورة لم تكن انعقدت، وأن قولها: «كاتبت أهلي» معناه: أنها (4) راوضتهم عليها. وقذروا مبلغها وأجلها، ولم يعقدوها. وقد بيَّنَّا: أن الظاهر خلافه. بل إذا تُؤمِّل مساقُ الحديث مع قولها: «فأعينيني»، وجواب عائشة رضي الله عنها؛ قطع بأنها قد كانت عقدتها، وأن هذا التأويل فاسد.
ومنهم من قال: إن المبيع الكتابة، لا الرقبة. وهذا فاسدٌ؛ لأن من أجاز بيع الكتابة لم يجعل بيع الولاء لمشتري الكتابة، بل لعاقدها. وأشبه ما قيل في ذلك: أن بريرة عجزت عن الأداء، فاتفقت هي وأهلها على فسخ الكتابة. وحينئذ صحَّ البيع، إلا أن هذا إنما (5) يتمشى على قول من يقول: إن تعجيز المكاتب غير مفتقر إلى حكم حاكم إذا اتفق السيد والعبد عليه؛ لأن الحق لا يعدوهما، وهو المذهب المعروف. وقال سحنون: لا بدَّ من السلطان (6) . وهذا: إنما خاف أن (7) يتواطئا على ترك حق الله تعالى. وهذه التهمة فيها بَعُدَ، فلا يلتفت إليها. ويدلُّ على أنها عجزت: ما وقع في الأصل من رواية ابن شهاب، حيث قال: إن بريرة جاءت عائشة تستعينها في كتابتها، ولم تكن قضت من كتابتها شيئًا، فقالت لها عائشة رضي الله عنها: ارجعي إلى أهلك؛ فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك فعلت (8) . فظاهر هذا: أن جميع كتابتها أو بعضها استحقت (9) عليها؛ لأنه لا يقضى من الحقوق إلا ما وجبت المطالبة به، والله أعلم. &(4/255)&$
__________
(1) في (ب) و(ح): «كانت قد».
(2) قوله: «قد» سقط من (ب) و(ح).
(3) في (ب) و(ح): «جماعة».
(4) في (ب): «أنهاه».
(5) في (ب) و(ح): «إلا أن هذا القول إنما».
(6) في (ب) و(ح): «لابد للسلطان».
(7) في (ب) و(ح): «على أن».
(8) مسلم (2/1141-1142 رقم1504/6) في العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق.
(9) في (ب) تشبه: «أويستحقت».(4/255)
الولاء: نسبةٌ ثابتةٌ بين المعتِق والمعتَق، تشبه النسب، وليس منه. ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : «الولاء لحمة كلحمة النسب» (1) . ووجه ذلك ما قد نبهنا عليه فيما تقدَّم. =(4/320)=@ وبيانه (2) : أن العبد في حكم المفقود لنفسه، والْمُعْتِق يُصَيِّره (3) موجودًا لنفسه، فأشبه (4) حال الولد مع الوالد. ولهذا أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «لا يجزي ولد (5) والده إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه، فيعتقه» (6) . فإذا ثبتت هذه النسبة ترتب عليها من الأحكام الشرعية ما يترتب على النَّسب، لكنه متأخر عنه، فمهما وُجد نسب (7) كان هو المتقدِّم على الولاء.
ثم إن الأحكام لا تثبت بينهما من الطرفين، بل من طرف المعتق؛ لأنه المتعم بالعتق، والْمُعتَق مُنْعَم عليه، فلا جرم: يَرِثُ المعتِق المعتَق، ولا ينعكس اتفاقًا فيما (8) أعلم. وعلى هذا: فيلي (9) المعتق على بنات مُعْتَقِه، ولا ينعكس على (10) المشهور الصحيح. وقيل: ينعكس.
وقولها: «إن أهلي كاتبوني على تسع أواق في تسع سنين»؛ هكذا صحَّ في رواية هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. وقد ذكر البخاري تعليقًا من حديث يونس، عن ابن شهاب، عن عروة: قالت عائشة: «إن بريرة دخلت عليها تستعينها في كتابتها، وعليها خمس أواق نُجِّمت عليها في خمس سنين» (11) . وظاهره تعارض، غير أن حديث هشام أولى؛ لاتصاله وانقطاع حديث يونس (12) ؛ ولأن هشامًا أثبت في حديث أبيه وجدَّته (13) من غيره. ويحتمل أن تكون هذه الخمس الأواقي هي (14) التي استُحِقَّت عليها بحلول نجومها من جملة التسع الأواقي المذكورة في حديث هشام. وقد بيَّنَّا فيما تقدَّم مقدار الأوقية.
وقول عائشة لبريرة في حديث هشام: «إن شاء أهلك أن أَعُدَّها لهم عَدَّةً واحدةَ، وأُعْتِقَك، ويكون ولاؤكِ لِي فَعَلْتُ». وفي حديث يونس عن ابن شهاب: =(4/321)=@ أنها قالت لها: «أرأيت إن عددت لهم عدَّة واحدة، أيبيعك أهلك (15) &(4/256)&$
__________
(1) صحيح بمجموع طرقه. انظر "مختصر المستدرك" (6/3080-3092 رقم 1035) بتحقيقي.
(2) في (ب) و(ح): «البابه».
(3) في (ب): «يصير».
(4) في (أ): «فإنه».
(5) في (ب): «ولده».
(6) سيأتي في باب ما جاء في فضل عتق الرقبة المؤمنة وفي عتق الوالد برقم (1578).
(7) في (أ): «....».
(8) في (ب) و(ح): «فما».
(9) في (ب): «قيل».
(10) في (ب) و(ح): «في».
(11) البخاري (5/185 رقم2560) في المكاتب، باب المكاتب ونجومه في كل سنة نجم.
(12) انظر "الفتح" في الموضع السابق.
(13) في (ب) و(ح): «وجده».
(14) قوله: «هي» سقط من (ب) و(ح).
(15) قوله: «أهلك» سقط من (ب).(4/256)
فأعتِقَكِ، ويكون ولاؤكِ لِي»؛ ليس بتعارض بين الروايتين، وإنما هو نقلٌ بالمعنى على عادتهم الأكثرية في ذلك. وفيه دليل على صحَّة ما قلناه: أنها إنما اشترتها للعتق مع إمكان أن يكون ذلك عند عجزها عن أداء ما تَعَيَّن عليها من الكتابة.
وقول عائشة: «فانتهرتها (1) »)؛ يعني: أنها عظم عليها أن تشتريها
بمالها لتعتقها، ثم يكون ولاؤها لمن باعها، وأخذ ثمنها. فبأي طريق يستحق الولاء، ولا طريق له يستحقه به (2) !
ثم وقع بعد قول عائشة: «فانتهرتها»، فقالت: «لا ها الله إذًا». كذا لأكثر الرواة: «فقالت» وظاهره: أن هذا قول بريرة أجابت به عائشة لما انتهرتها مستلطفة لها، ومُسكّنة. فكأنها قالت: فإذا كان ذلك، يعني: موجدة (3) عائشة. فلا أستعينك على شيء. ويحتمل (4) أن يكون الراوي أخبر به عن عائشة، ويؤيده ما قد وقع في بعض النسخ: «فقلت» مكان« قالت»، وعلى هذا: فيكون من قول عائشة، ويكون معناه: أن أهل بريرة لما أبوا إلا اشتراط (5) الولاء لهم امتنعت من الشراء والعتق؛ لأجل الشرط، وأقسمت على ذلك بقولها: «لا ها الله إذًا». والرواية المشهورة في هذا اللفظ: «هاء» بالمد والهمز، و«إذًا» بالهمز والتنوين، التي هي حرف جواب. وقد قيّده العذري، والهوزني بقصرها، وبإسقاط (6) الألف من«إذًا»، فيكون: «ذا». واستصوب ذلك جماعة من العلماء (7) ، منهم: القاضي إسماعيل، والمازري، وغيرهما. قالوا: وغيره خطأ. قالوا: ومعناه: ذا يميني. وصوَّب أبو زيد وغيره المدّ والقصر. قال: و«ذا» صلة في الكلام. وليس (8) في كلامهم: «لا ها الله إذًا». وفي "البارع": قال أبو حاتم: يقال: «لا (9) ها الله» جاء في القسم، =(4/322)=@ والعرب تقوله بالهمز، والقياس تَرْكُه. والمعنى: لا والله، هذا ما أقسم به. فأدخل اسم الله بين«ها» و«ذا». انتهى كلامهم.
قلت: ويظهر لي: أن الرواية المشهورة صوابٌ، وليست بخطأ. ووجه &(4/257)&$
__________
(1) في (ب): «واشترتها».
(2) قوله: «به» سقط من (ب).
(3) في (ب): «موجودة».
(4) في (ح): «ويحمل».
(5) في (ب): «لما أبوا الاشتراط».
(6) في (ب) و(ح): «واسقاط».
(7) في (ب) و(ح): «من أهل العلم».
(8) في (ب): «ليس».
(9) قوله: «لا» سقط من (ب) و(ح).(4/257)
ذلك: أن هذا الكلام قسم على جواب إحداهما للأخرى (1) على ما قررناه آنفًا. والهاء هنا: هي التي يعوَّض بها عن تاء القسم، فإن العرب تقول: الله لأفعلنَّ - ممدودة الهمزة، ومقصورتها -، ثم إنهم عوَّضوا من الهمزة« هاء» فقالوا: ها الله؛ لتقارب مخرجيهما، كما قد أبدلوها منها في قولهم:
ألا ياسَنَا بَرْقٍ على قُلَلِ الحِمَى لِهَنَّك مِنْ بَرْقٍ عليَّ كريم (2)
وقالوا:
فهيَّاك والأمر (3) الذي إن توسعت موارده ضاقت عليك مصادره (4)
ولَمَّا كانت الهاءُ بدلاً من الهمزة، وفيها المدُّ والقصر، فالهاء تمدُّ وتقصر، كما قد حكاها أبو زيد. وتحقيقه أن الذي مدَّ مع (5) الهاء كأنَّه نطق بهمزتين أبدل من إحداهما (6) ألفًا استثقالاً لاجتماعهما، كما تقول: آلله. والذي قصر كأنَّه نطق بهمزةٍ (7) واحدةٍ، فلم يحتج إلى المدِّ، كما تقول: الله.
وأما« إذ» فهي بلا شك حرف جواب، وتعليل. وهي مثل التي (8) وقعت في قوله - صلى الله عليه وسلم - وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر (9) ، فقال: «أينقص الرطب إذا يبس؟»، فقالوا: نعم. قال: «فلا إذًا» (10) . فلو قال: فلا والله إذًا، لكان (11) مساويًا لهذه من كل وجهٍ، لكنَّه لم يحتج إلى القسم، فلم يذكره. وقد بيَّنَّا تقدير المعنى، ومناسبته، واستقامته =(4/323)=@ معنى ووضعًا من غير حاجة (12) إلى ما تكلُّفه من سبقت حكاية كلامه من النحويين من التقدير البعيد المخرج للكلام عن البلاغة (13) . وأبعدُ من هذا كلِّه وأفسد: أن جعلوا« الهاء» للتنبيه و«ذا» للاشارة، وفصلوا بينهما بالمقسم به. وهذا ليس قياسًا فيطرد، ولا فصيحًا فيحمل عليه كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا مرويًا براوية ثابتة. وما وجد للعذري من ذلك فإصلاح منه، أو من غيره، ممن اغترّ بما حكي عمَّن سبق ذكرهم من اللغويين. والحق أولى مطلوب. والتمسُّك بالقياس المنقول (14) أجل مصحوب. فالصحيح (15) رواية المحدثين والله خير معين (16) . والله أعلم.
وقول أبي زيد: ليس في كلامهم (17) : « لا ها الله إذًا» شهادةٌ على نفي فلا تسمع. وثَمَّ تعارضه بنقل أبي حاتم: أنه يقال: «لا ها الله» وليس كل ما يقتضيه القياس نوعًا يجب وجودُ جميع أشخاصه وضعًا (18) . &(4/258)&$
__________
(1) في (أ): «الأخرى».
(2) البيت....
(3) قوله: «فهياك والأمر» تكرر في (ب) و(ح).
(4) هذا البيت لطفيل الغنوي. انظر "ديوان الطفيل" (ص143).
(5) في (ب): «مع مد».
(6) في (ب): «أحدهما»، وفي (ح): «أحديهما».
(7) في (ب) و(ح): «بهمزتين».
(8) في (أ): «الذي».
(9) قوله: «بالتمر» سقط من (ب) و(ح).
(10) أخرجه مالك (2/624 رقم22) في البيوع، باب ما يكره من بيع التمر، وعبدالله بن يزيد: أن زيدًا أبا عياش، أخبره، أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن البيضاء بالسلت؟ فقال له سعد: أيتهما أفضل؟ قال: البيضاء، فنهاه عن ذلك، وقال سعد: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسأل عن اشتراء التمر بالرطب؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أينقص الرطب إذا يبس؟» فقالوا: نعم، فنهى عن ذلك.
ومن طريق مالك: أخرجه الشافعي في "الرسالة" (ص331-332 رقم907)، والطيالسي (ص29 رقم214)، وأحمد (1/175 و179)، وابن ماجه (2/761 رقم2264) في التجارات، باب بيع الرطب بالتمر، وأبو داود (3/654-657 رقم3359) في البيوع والإجارات، باب في التمر بالتمر، والترمذي (3/528 رقم1225) في البيوع، باب ما جاء في النهي عن المحاقلة والمزابنة، والنسائي (7/268-269 رقم4545) في البيوع، باب اشتراء التمر بالرطب، وابن الجارود (2/230-231 رقم657)، والطحاوي (4/6)، وابن حبان (11/372 رقم4997/ الإحسان)، والدارقطني (3/49)، والحاكم (2/38)، والبيهقي (5/294).
قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح».
وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح لإجماع أئمة النقل على إمامة مالك بن أنس وأنه محكم في كل ما يرويه من الحديث؛ إذ لم يوجد في رواياته إلا الصحيح خصوصًا في حديث أهل المدينة، ثم لمتابعة هؤلاء الأئمة إياه في روايته عن عبدالله بن يزيد، والشيخان لم يخرجاه لما خشياه من جهالة زيد أبي عياش». ووافقه الذهبي.
وقد تابع مالكًا على روايته: إسماعيل بن أمية، وأسامة بن زيد.
أما رواية إسماعيل بن أمية: فأخرجها الحميدي (1/41 رقم75)، وأحمد (1/179)، والنسائي (7/269 رقم4546) في الموضع السابق، والدارقطني (3/50)، والحاكم (2/38) من طريق الحميدي وغيره، والبيهقي (5/294).
وأما رواية أسامة بن زيد: فأخرجها ابن الجارود (2/230-231 رقم657)، والطحاوي (4/6)، والحاكم (2/38-39)، والبيهقي (5/294) من طريق أبي داود وغيره. جميعهم من طريق معاوية يعني بن سلام، عن يحيى بن أبي كثير، قال: أخبرنا عبدالله: أن أبا عياش أخبره، أنه سمع سعد بن أبي وقاص يقول: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الرطب بالتمر نسيئة.
قال الدارقطني: «وخالفه مالك وإسماعيل بن أمية والضحاك بن عثمان وأسامة بن زيد، رووه عن عبدالله بن يزيد، ولم يقولوا فيه: نسيئة، وإجتماع هؤلاء الأربعة على خلاف ما رواه يحيى يدل على ضبطهم للحديث، وفيهم إمام حافظ، وهو مالك بن أنس». اهـ.
قال البيهقي: «وقد رواه عمران بن أبي أنس، عن أبي عياش، نحو رواية الجماعة». اهـ.
أخرجه الحاكم (2/43)، وعنه البيهقي (5/295) من طريق عبدالله بن وهب، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن عمران بن أبي أنس، قال: سمعت أبا عياش يقول: سألت سعد بن أبي وقاص عن اشتراء السلت بالتمر؟ فقال سعد: أبينهما فضل؟ قالوا: نعم. قال: لا يصح. وقال سعد: سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اشتراء الرطب بالتمر؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أبينهما فضل؟» قالوا: نعم الرطب ينقص، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «فلا يصلح».
صححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
لكن اختلف فيه على بُكير: فأخرجه الطحاوي (4/6) من طريق ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بكير، عن عمران بن أبي أنس: أن مولى لبني مخزوم حدثه؛ أنه سأل سعدًا عن الرجل يسلف الرجل الرطب بالتمر إلى أجل؟ فقال سعد: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذا.
لكن في سنده مجهول، فلا يعارض بها الرواية الصحيحة الموافقة لرواية الثقات.
ولذا قال الألباني في "الإرواء" (5/200): «مخرمة بن بكير، وهو ابن عبدالله بن الأشج أعرف بحديث أبيه من غيره من الثقات، مع موافقتها لرواية عبدالله بن يزيد، على ما رواه الجماعة عنه، وقد رجح روايتهم عنه الإمام الدارقطني، وتبعه البيهقي».
بقي النظر في رجال زيد بن عياش، أبي عياش الزرقي:
فقد روى عنه عبدالله بن يزيد، وعمران بن أبي أنس، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وصحح الترمذي وابن خزيمة وابن حبان حديثه المذكور. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي؛ كما تقدم. وصححه ابن المديني؛ كما في "بلوغ المرام" (ص215 رقم866). وقال فيه الدارقطني: «ثقة». "تهذيب التهذيب" (1/670). وفي "التقريب" (2166): «صدوق».
والحديث صححه الألباني في "الإرواء" (5/199-201 رقم1352).
وله شاهد مرسل: أخرجه البيهقي (5/295) من طريق عبدالله بن وهب، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن عبدالله بن أبي سلمة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن رطب بتمر، فقال: «أينقص الرطب إذا يبس؟» قالوا: نعم. فقال: «لا يباع رطب بيابس». قال البيهقي: «وهذا مرسل جيد».
وفي الباب من حديث ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع التمر بالتمر كيلاً،
وسيأتي برقم (1619).
أما الطحاوي فقد حاول في "شرح المعاني" أن يعلِّل الروايات الصحيحة في النهي عن بيع الرطب بالتمر عاجلاً وآجلاً، وذهب إلى الرواية المعلولة في النهي عن البيع آجلاً فقط !
(11) في (ب) و(ح): «كان».
(12) في (ب) و(ح): «وجه».
(13) في (أ): «المبالغة».
(14) قوله: «المنقول» سقط من (ب) و(ح).
(15) في (ب) و(ح): «والصحيح».
(16) قوله: «والله خير معين» سقط من (أ).
(17) في (ب) و(ح): «كلام».
(18) في (ب): «واضعًا».(4/258)
وقولها: قال (1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «واشتريها، وأعتقيها، واشترطي لهم الولاء»؛ هذه اللفظة التي هي: «واشترطي لهم الولاء» لفظة (2) انفرد بها (3) هشام. والرواة كلهم لهم لا يذكرونها. وهي مشكلة. ووجه إشكالها: أن ظاهره: أثه أمرها باشتراط ما لا يجوز، ولا يصحّ، ولا يلزم لمن لا يعلم ذلك ليتتم البيع، وذلك حَمْل (4) على ما لا يجوز، وغشٌّ، وغرر (5) لمن لا يعلم ذلك. وكل ذلك (6) محال على النبي - صلى الله عليه وسلم - . ولَمَّا وقع هذا الإشكال العظيم تحزَّب العلماء في التخلص منه أحزابًا (7) . فمنهم من أنكر هذه الرواية عن (8) هشام من حيث انفرد بها عن الحفاظ. وهو: يحيى بن أكثم. والجمهور على القول بصحَّة الحديث؛ لأن هشامًا ثقة، حافظ، إمام. ثم قد روى هذا الحديث الأئمة عنه (9) ، وقبلوه، كمالك وغيره مع تَحَّرزهم، وتقدهم (10) ، وعلمهم =(4/324)=@ بما يُقْبَلُ وبما يُرَدُّ، وخصوصًا أمير المؤمنين بالحديث مالك بن أنس (11) . فقد أخذه (12) عنه، ررواه عُمُرَه لجماهير الناس، ولا إنكار منه، ولا نكير عليه. فصار الحديث مُجْمَعًا على صحته. ولَمَّا ثبت ذلك رام العلماء القابلون للحديث التخلُّص من ذلك الإشكال بإبداء تأويلاتٍ، أقربها أربعة:
الأول: أن قوله: «واشترطي لهم الولاء (13) »)؛ أي: عليهم. كما قال تعالى: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسك وإن أسأتم فلها}(8)؛ أي: عليها. ومنه قوله: {أولئك لهم اللعنة}(9)؛ أي: عليهم.
الثاني: أن قوله: «اشترطي» لم يكن على جهة الإباحة، لكن على جهة (14) التنبيه على أن ذلك الشرط لا ينفعهم، فوجوده وعدمه سواء. فكأنه يقول: اشترطي أو لا تشترطي فذلك لا يفيدهم. وقد قوَّى هذا الوجه ما جاء من رواية أيمن المكي عن عائشة: «اشتريها ودعيهم يشترطون» (15) .
الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كان أعلم بأن اشتراط البائع الولاء باطل، واشتهر ذلك، بحيث لا يخفى على هؤلاء، فلمَّا أرادوا أن يشترطوا (16) لما علموا بطلانه أطلق صيغة الأمر مريدًا بها التهديد على مآل الحال، كما قال تعالى: {وقل &(4/259)&$
__________
(1) في (ب) و(ح): «فقال».
(2) قوله: «لفظة» سقط من (ب).
(3) من قوله: «التي هي...» إلى هنا مطموس في (ح).
(4) في (ح): «يحمل».
(5) في (أ) و(ب): «عذر».
(6) قوله: «وكل ذلك» سقط من (ب).
(7) قوله: «أحزابًا» سقط من (ب).
(8) في (ب) و(ح): «على».
(9) في (ب) و(ح): «عندهم».
(10) في (ب) و(ح): «ونقدهم».
(11) انظ "الموطأ" (2/780-781 رقم17) في العتق والولاء، باب مصير الولاء لمن اعتق.
(12) في (أ): «أخذ». ... ... (7) قوله: «الولاء» سقط من (ب) و(ح).
(13) 8) الآية (7) من سورة الإسراء. ... (9) الآية (25) من سورة الرعد.
(14) قوله: «الإباحة لكن على جهة» سقط من (ب) و(ح).
(15) رواه البخاري (5/196 رقم2565) في المكاتب، باب إذا قال المكاتب: اشترني وأعتقني فاشتراه لذلك بلفظ: «اشتريها وأعتقيها ودعيهم يشترطوا ما شاءوا».
(16) قوله: «أن يشترطوا» سقط من (أ).(4/259)
اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله} (1) ، فكأنه يقول: اشترطي لهم (2) ، فسيعلمون: أن ذلك لا يفيد. ويؤيِّده قوله في حين خطبهم: «ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله ؟! من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق» (3) . فتوبيخهم بمثل هذا القول يدلُّ على ما كان =(4/325)=@ قد تقدَّم بيانه لحكم الله تعالى بإبطاله، إذ لو لم يتقدَّم بيان ذلك (4) لبدأ الان ببيان الحنهم لا بتوبيخ الفاعل، لأثه باق على البراءة الأصلية. وهذه التأويلات الثلاث لعلمائنا.
الرابع: ما قاله الطحاوي: من (5) أن الشافعي روى هذه اللفظة عن مالك عن هشام بن عروة بإسناده، ولفظه، وقال فيها: «واشرطي (6) لهم الولاء» (7) - بغير تاء -، وقال: معناه: أظهري (8) لهم حكم الولاء (9) ؛ لأن الاشراط هو: الإظهار في كلام العرب. قال أوس بن حُجْر:
فأشرط فيها نفسه وهو معلم وألقى بأسباب له وتوكلاً (10)
يعني: أظهر نفسه لما حاول أن يفعل.
قلت: وهذه الرواية مما (11) انفرد بها الشافعي عن مالك، والجمهور من الأئمة الحفاظ على ما تقدم من ذلك.
وقوله: «من شرط شرطًا ليس في كتاب الله، فهو باطل»؛ أي: ليس مشروعًا في كتاب الله لا تأصيلاً ولا تفصيلاً. ومعنى هذا: أن من الأحكام والشروط ما يوجد تفصيلها في كتاب الله تعالى؛ كالوضوء، وكونه شرطًا في صحة الصلاة. ومنها: ما يوجد فيه أصله، كالصلاة، والزكاة، فإنهما فيه مجملتان. ومنها: ما أصل أصله. وهو كدلالة الكتاب على أصلية السُّنة والإجماع والقياس. فكل ما يقتبس من هذه الأصول تفصيلاً فهو مأخوذ من كتاب الله تأصيلاً، كما قد بيَّناه (12) في أصول الفقه.
وعلى هذا فمعنى الحديث: أن ما كان من الشروط مما لم يدل (13) على صحته =(4/326)=@ دليلٌ شرعيٌ كان باطلاً؛ أي: فاسدا مردّودًا. وهذا كما قاله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث &(4/260)&$
__________
(1) الآية (105) من سورة التوبة.
(2) قوله: «لهم» سقط من (ب) و(ح).
(4) قوله: «بيان ذلك» سقط من (ب) و(ح).
(5) قوله: «من» سقط من (أ).
(6) في (ب) و(ح): «واشترطي».
(7) قال ابن عبدالبر في "التمهيد" (22/180): «ورواه الشافعي، عن مالك، عن هشام بإسناده ولفظه، إلا أنه قال: اشرطي لهم الولاء، وذكر ذلك عنهم الطحاوي فلم يدخل التاء».
(8) في (ح): «واظهر».
(9) من قوله: «بغير تاء....» إلى هنا سقط من (ب).
(10) "ديوان أوس بن حُجر" (ص82).
(11) قوله: «مما» سقط من (ب)، ومكانها مطموس في (ح).
(12) في (ب) و(ح): «قدمناه».
(13) في (أ): «مما يدل».(4/260)
الصحيح: «من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو ردٌّ» (1) . وفي هذا من الفقه ما يدلُّ على أن العقود الشرعية إذا قارنها شرط فاسدٌ بطل ذلك الشرط خاصة، وصحَّ العقد. لكن هذا (2) إنما يكون إذا كان ذلك الشرط خارجًا عن أركان العقد، كاشتراط الولاء في الكتابة، واشتراط السَّلف في البيع. فلو كان ذلك الشرط مخلاًّ بركن من أركان العقد، أو مقصودًا؛ فسخ العقد والشرط. وسيأتي لهذا مزيد بيان في حديث جابر (3) ، إن شاء الله تعالى.
وقوله: «ولو كان مائة شرط»؛ خرج مخرج التكثير؛ يعني: أن الشروط غير المشروعة باطلة ولو كثرت. ويفيد دليل (4) خطابه: أن الشروط المشروعة صحيحة، كما قد نصَّ عليه (5) النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «المؤمنون على شروطهم، إلا شرطًا أحل حرامًا، أو حرَّم حلالاً» (6) خرَّجه (7) الترمذي من حديث عمرو بن عوف، وقال: حديث حسن.
وقوله: «كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق»؛ أي: حكم الله. كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر - لَمَّا قال له الخصم: اقض بيننا بكتاب الله تعالى- فقال: «لأقضين بينكما بكتاب الله» (8) ، ثم قضى على الزاني البكر بالجلد والتغريب، وعلى الزانية الثيب (9) بالرجم. وليس التغريب والرجم موجودين في كتاب الله تعالى. لكن في حكم الله المسمَّى بالسُّنة، وكذلك اختصاص الولاء بالمعتق ليس موجودًا في كتاب الله، لكن في حكم الله به على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - مما يسمَّى سُنَّة. =(4/327)=@
وقوله: «إنما الولاء لمن أعتق»؛ هذا حصر للولاء على من باشر العتق بنفسه من كان من رجل أو امرأة ممن يصح منه العتق، ويستقل بتنفيذه (10) . وقوة هذا &(4/261)&$
__________
(1) سيأتي في باب لا يقضي القاضي وهو على حال تشوش عليه فكره ورد المحدثات، ومن خير الشهداء في الأقضية برقم (1811).
(2) قوله: «هذا» سقط من (ب) و(ح).
(3) سيأتي في باب بيع البعير واستثناء حملانه، من كتاب البيوع.
(4) في (أ): «ذلك».
(5) قوله: «عليه» سقط من (ب) و(ح).
(6) روي من حديث أبي هريرة:
علّقه البخاري في "صحيحه" (4/451) مجزومًا به، وأخرجه أحمد (2/366)، وأبو داود (4/19-20 رقم3594) في الأقضية، باب في الصلح، وابن الجارود (2/205-206و207 رقم637 و638)، وابن حبان (11/488 رقم5091/ الإحسان)، وابن عدي(6/68)، والدارقطني (3/27)، والحاكم (2/49)، و(4/101)، والبيهقي (6/63و79و166)، و(7/249).
جميعهم من طريق
.... كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا أحل حرامًا، أو حرم حلالاً». وعند بعضهم: «المسلمون على شروطهم، والصلح جائز بين المسلمين». وفي لفظ: «الصلح جائز بين المسلمين». وعند بعضهم: «المسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالاً، أو شرطًا أحل حرامًا». وفي آخر: «المسلمون ثم شروطهم ما وافق الحق منها». ورواه بعضهم مختصرًا: «المسلمون على شروطهم».
قال الحاكم: «رواة هذا الحديث مدنيون، ولم يخرجاه، وهذا أصل في الكتاب، وله شاهد». وعلَّق الذهبي قائلاً: «لم يصححه، وكثير ضعفه النسائي ومشاه غيره».اهـ. وقال في الموضع الآخر: «منكر». اهـ.
وفي سنده كثير بن زيد الأسلمي، ضعفه النسائي، وقال أحمد: «ما أرى به بأسًا»، واختلف فيه قول ابن معين، فقال مرة: ليس بشيء، ومرة قال: ليس بذاك، ومرة: ضعيف، ومرة: صالح، ومرة: ثقة.
وقال ابن عمار الموصلي: ثقة، وقال يعقوب بن شيبة: ليس بذاك الساقط، وإلى الضعف ما هو. "تهذيب الكمال" (24/115)، وفي "التقريب" (5646): صدوق يخطئ، وفي "تغليق التعليق" (3/282) قال: فحديثه حسن في الجملة، وقد اعتضد بمجيئه من طرق أخرى».
وقال الألباني في "الإرواء" (5/143): «فمثله حسن الحديث إن شاء الله تعالى ما لم يتبين خطؤه، كيف وهو لم ينفرد به، كما يأتي... وصححَ حديثه هذا عبدالخالق في أحكامه».اهـ.
والذي في "الأحكام الوسطى": «هذا يرويه كثير بن زيد مولى الأسلميين وهو ضعيف عندهم، وإن كان روى عنه جلة، ويرويه عن الوليد بن الرباح ولا أعلم روى عن الوليد إلا كثير بن زيد».اهـ.
وفي "التلخيص الحبير" (3/55): «وضعفه ابن حزم، وعبدالحق».
وله شاهد من حديث عمرو بن عوف:
أخرجه الترمذي (3/634-635 رقم1352) في الأحكام، باب، وابن ماجه (2/788 رقم2353) في الأحكام، باب الصلح، والطبراني في "الكبير" (17/22 رقم30)، وابن عدي (6/61)، والدارقطني (3/27)، والحاكم (4/101)، والبيهقي (6/79). جميعهم من طريق كثير بن عبدالله، عن عبدالله بن عمرو بن عوف، عن عمرو بن عوف: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا حرم حلالاً، أو أحلَّ حرامًا».
قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح».
لكن قال ابن عدي: «وكثير هذا، عامة ما يرويه لا يتابع عليه».
وقال الذهبي في "الميزان" (3/407): «وأما الترمذي فروى من حديثه: « الصلح جائز بين المسلمين »، وصححه، فلهذا لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي». اهـ. لكن قال الحافظ في "بلوغ المرام" (ص222): «وكأنه اعتبره بكثرة طرقه».
وكثير بن عبدالله: قال أحمد: «منكر الحديث، ليس بشيء، وضرب على حديثه، وقال لأبي خيثمة: لا تحدث عنه شيئًا». وقال الشافعي: «ذاك أحد الكذابين، أو أحد أركان الكذب». ووهَّاه أبو زرعة. وقال أبو حاتم: «ليس بالمتين». وقال النسائي والدارقطني: «متروك الحديث». وقال ابن حبان: «له عن أبيه عن جدّه نسخة موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب ولا الرواية عنه إلا على جهة التعجب». "تهذيب الكمال" (24/137-139).
وفي "التقريب (....): ضعيف أفرط من نسبه إلى الكذب. وقال في "الفتح": «وكثير بن عبدالله ضعيف عند الأكثر، لكن البخاري ومن تبعه كالترمذي وابن خزيمة يقوون أمره».اهـ. وضعفه في "التلخيص" (3/56).
وفي الباب من حديث رافع بن خديج:
أخرجه الطبراني في الكبير (4/275 رقم4404)، وابن عدي (6/42).
كلاهما من طريق علي بن سعيد الرازي، عن جبارة بن المفلس، عن قيس بن الربيع، عن حكيم بن جبير، عن عباية بن رفاعة، عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «المسلمون على شروطهم فيما أُحل».
قال الهيثمي في "المجمع" (4/371): «وفيه حكيم بن جبير، وهو متروك. وقال
أبو زرعة: محكه الصدق إن شاء الله».اهـ.
وجبارة بن المفلِّس ضعيف.
وقيس بن الربيع: صدوق تغير لما كبر، وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه فحدث به. كما في "التقريب" (5608).
ومن حديث ابن عمر: أخرجه العقيلي (4/48) من طريق محمد بن الحارث، عن محمد بن عبدالرحمن بن البيلماني، عن عبدالرحمن بن البيلماني، قال ابن معين: «ليس بشيء». وقال الذهبي في "الميزان" (3/504): «ضعفوه».
وقال ابن عدي (6/176 و178): «وقال عمرو بن علي: روى عن ابن البيلماني أحاديث منكرة، متروك الحديث». ثم قال ابن عدي: «وعامة ما يرويه غير محفوظ».
وأيضًا محمد بن عبدالرحمن بن البيلماني: ضعيف، وقد اتهمه ابن عدي، وابن حبان، كما في "التقريب" (6107).
وله شواهد أخرى، لا تخلو من ضعيف، فانظرها في "الإرواء" (5/142-145 رقم1303). وقال الألباني: «وجملة القول: أن الحديث بمجموع هذه الطرق يرتقي إلى درجة الصحيح لغيره، وهي وإن كان في بعضها ضعف شديد، فسائرها مما يصلح الاستشهاد به، لا سيما وله شاهد مرسل جيد، فقال ابن أبي شيبة - (4/453 رقم22016) في البيوع والأقضية، باب من قال: المسلمون عند شروطهم - عن يحيى بن أبي زائدة، عن عبدالملك، عن عطاء، قال: بلغنا أن النبي قال: « المسلمون عند شروطهم ». وإسناده مرسل صحيح، رجاله كلهم ثقات رجال مسلم».اهـ.
وقال الحافظ في "التغليق" (3/282): «وهذا مرسل قوي الإسناد يعضده ما قبله».
(7) في (ب) و(ح): «وخرجه».
(8) سيأتي في باب: لا تغريب على المرأة، من كتاب الحدود.
(9) قوله: «الثيب» سقط من (أ) و(ب).
(10) في (ب): «تنفيذه»، وكذا تشبه في (ح).(4/261)
الكلام قوة النفي والإيجاب. فكأنه قال: لا ولاء إلا لمن أعتق. وإيَّاه عنى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «شرط الله أوثق»، في أصحِّ الأقوال وأحسنها. وقال الداودي: هو قوله تعالى: {فإخوانكم في الدين ومواليكم} (1) ، {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه} (2) ، وقال: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} (3) ، وقال: {وما (4) آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا (5) }(9).
وهو حجة على أبي حنيفة وأصحابه القائلين: بأن من أسلم على يديه رجل فولاؤه له. وبه (6) قال الليث، وربيعة، وعلى إسحاق في حكمه بثبوت الولاء بالالتقاط. وعلى أبي حنيفة في حكمه بثبوت الولاء بالموالاة. ولمن قال: إن من أعتق عبده عن غيره أو عن المسلمين إن ولاءه للمعتق (7) . وإليه ذهب ابن نافع فيمن (8) أعتق عن المسلمين. ويلزمه فيمن أعتق عن غيره مطلقًا. وخالفه في ذلك مالك، والجمهور، متمسكين بأن (9) مقصود الحديث بيان حكم من أعتق عن نفسه بدليل اتفاق المسلمين: على أن الوكيل عن (10) العتق معتق. ومع ذلك فالولاء للمعتق عنه إجماعًا، فكذلك حكم من أعتق عن الغير، وتقدره الشافعية أنه مَلَكَه ثم ناب عنه في العِتْق. وأما أصحابنا فإنهم قالوا: لا يحتاج إلى تقدير ذلك؛ لأنه يصح العتق عن الميت، وهو لا يملك. وفيه نظر، فإنه إن (11) لم يُقَدَّر الملك لزم منه هبة الولاء. وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الولاء، وعن هبته (12) . وإن قُدَّر الملك لم يصح العتق عن =(4/328)=@ الميت؛ لأنه لا يملك. ويُتَخَلَّص عن (13) هذا الإشكال ببحث طويل لا يليق بما نحن بصدده (14) .
ومسائل هذا الباب وفروعه كثيربر، لكن نذكر منها ما لها تعلُّق قريب بالحديث الذي ذكرناه، وهي ثماني مسائل:
الأولى: جواز كتابة من لا مال له ولا صنعة. فإن بريرة كانت كذلك. وإليه ذهب مالك، والشافعي، والثوري، غير أن مالكًا في المشهور كره كتابة الأنثى؛ التي لا صنعة لها. وكرهها أيضًا الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق. وروي مثله عن ابن عمر (15) .
وهذا كلُّه يدل على أن« الخير» في قوله تعالى: {إن علمتم فيهم &(4/262)&$
__________
(1) الآية (5) من سورة الأحزاب.
(2) الآية (37) من سورة الأحزاب.
(3) الآية (188) من سورة البقرة. ... (7) في (ب) و(ح): «ما».
(4) 8) قوله: «وما نهاكم عنه فانتهوا» سقط من (أ)، وقوله: «فانتهوا» ليس في (ح).
(5) 9) الآية (7) من سورة الحشر.
(6) قوله: «به» سقط من (أ).
(7) في (ب) و(ح): «أعني للمعتق».
(8) في (ب) و(ح): «ومن».
(9) في (ب) و(ح): «أن».
(10) في (ب) و(ح): «على».
(11) في (ح): «فإن».
(12) في (ح): «وهبته».
(13) في (ب): «من».
(14) في (أ): «فيه بصدده».
(15) أخرجه عبدالرزاق في "مصنفه" (2/293 رقم 15585)، والبيهقي (10/318)، عن الثوري، عن عبدالكريم الجزري، عن ابن عمر: أنه كان يكره أن يكاتب عبده إذا لم يكن له حرفة. قال: يقول: تطعمني من أوساخ الناس. وإسناده صحيح، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/190)، وعزاه لعبدالرزاق وابن المنذر والبيهقي.(4/262)
خيرًا} (1) لم يرد به المال، بل: الدين، والأمانة، والقوة على الكسب. وقد ذهب قوم إلى أنه المال، فمنعوا ما أجازه المتقدمون، والحديث حجة عليهم.
الثانية (2) : إن المكاتب عبدٌ ما بقي عليه (3) شيء من الكتابة. وهو قول عامَّة العلماء، وفقهاء الأمصار. وحكي عن بعض السلف: إنه بنفس عقد الكتابة حرٌّ، وهو غريم بالكتابة، ولا يرجع إلى الرِّق أبدًا. وحكي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إنه إن عجز عتق منه بقدر ما أدَّى (4) . وحكي عن عمر (5) ، وابن مسعود (6) ، وشريح: أنه إذا أدَّى الثلث من كتابته، فهو حرٌّ وغريم بالباقي. وعن بعض السَّلف: الشَّطْر. وعن عطاء: مثله؛ إذا أدَّى الثلاثة الأرباع. وقد روي عن ابن مسعود، وشريح مثله؛ إذا (7) أدَّى قيمته. وأضعف هذه الأقوال قول من قال: بعقد الكتابة يكون حرًّا، وغريِمًا بالكتابة، فإن حديث بريرة هذا يردُّه، وكذلك كتابة سلمان (8) ، وجويرية (9) ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم لجميعهم بالرِّق حتى ودُّوا الكتابة.
وهذه الأحاديث أيضًا حجة للجمهور على أنَّ المكاتَب على حكم
الرِّق ما بقي عليه =(4/329)=@ شيء منها؛ مع ما رواه النسائي (10) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المكاتب عبدٌ ما بقي عليه من كتابته (11) درهم». وقد روى نحوه النسائي (12) أيضًا من حديث عطاء الخراساني، عن عبد الله بن عمر.
والصحيح موقوف على ابن عمر. وقد رُوي مثله عن عمر (13) ، وزيد
ابن ثابت (14) ، وعائشة (15) ، وأم سلمة (16) . ومثل هذا لا يقوله الصحابي من رأيه، فهو إذًا مرفوع.
وأما أقوال السلف؛ فأشبه ما فيها قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويشهد له ماخرَّجه النسائي (17) أيضًا (18) عن ابن عباس، وعلي رضي الله عنهم، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ أنه قال: «المكاتب يعتق منه بقدر ما أدَّى، ويقام عليه الحد بقدر ما وَدَى (19) ، ويرث بقدر ما عتق منه». وإسناده صحيح. ويعتضد بما رواه الترمذي (20) عن أم سلمة قالت: قال رسول الله &(4/263)&$
__________
(1) الآية (33) من سورة النور.
(2) في (ح): «الثالثة».
(3) قوله: «عليه» سقط من (ح).
(4) أخرجه عبدالرزاق (8/406 رقم15721)، والبيهقي (10/326).
كلاهما من طريق سفيان الثوري، عن طارق بن عبدالرحمن، عن الشعبي: أن عليًّا قال في المكاتب يعجز؟ قال: يعتق منه بالحساب بقدر ما أدَّى.
وسنده ضعيف لانقطاعه بين الشعبي، وعلي.
وطارق بن عبدالرحمن البجلي الحمسي؛ صدوق له أوهام. "التقريب" (3020).
وله طريق أخرى: يرويه عكرمة، عن علي، واختلف عليه:
أخرجه النسائي في "الكبرى" (3/197 رقم 5025) من طريق حميد بن مسعدة، عن سفيان، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن علي، موقوفًا، ولفظه: «إذا أدَّى النصف فهو غريم».
وعلقه الترمذي (3/560) في البيوع، باب ما جاء في المكاتب إذا كان عنده ما يؤدي، ولم يسق لفظه. وتابعه على وقفه إسماعيل بن علية:
أخرجه النسائي في "الكبرى" (3/197 رقم5023) من طريق إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن عكرمة، ولم يسق لفظه. وخالفهما حماد بن سلمة، فرواه مرفوعًا:
أخرجه النسائي (8/46 رقم4811) في القسامة، باب دية المكاتب، من طريق يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن خلاس، عن علي، مرفوعًا، ولفظه: «المكاتب يعتق بقدر ما أدى، ويقام عليه الحدّ بقدر ما عتق منه، ويرث بقدر
ما عتق منه».
ورواه بعضهم من طريق أيوب، عن عكرمة، عن علي، واختلف في وصله وإرساله: فأخرجه أحمد (1/94)، والنسائي في "الكبرى" (3/196 رقم5022)، والبيهقي (10/325-326). ثلاثتهم من طريق وهيب، عن أيوب، به، مرفوعًا، ولفظه: «يودى المكاتب بقدر ما أدى».
وخالف وهيبًا حمادُ بن زيد وإسماعيلُ بن علية، فلم يرفعاه:
فقد أخرجه النسائي في "الكبرى" (3/197 رقم5024) من طريق عبيدالله القواريري. وأخرجه الطحاوي (3/110) من طريق يحيى بن عبدالله بن بكير، كلاهما من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة: أن مكاتبًا قتل على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أدى طائفة، فأمر أن يودى ما أدى منه دية الحر، ومالا دية المملوك. هكذا مرسلاً.
قال أبو داود: «رواه وهيب عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأرسله حماد بن زيد وإسماعيل، عن أيوب، عن عكرمة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وجعله إسماعيل بن علية قول عكرمة».
وقال النسائي - كما في "التحفة (7/434)-: «ابن علية أثبت في أيوب من وهيب، وحديثه أشبه بالصواب».
لكن أخرجه النسائي (8/46 رقم4812) في القسامة، باب دية المكاتب، من طريق سعيد بن عمرو الأشعثي، عن حماد بن زيد، به موصولاً ! وأما إسماعيل بن علية فقد أوقفه على عليّ، وتقدم قريبًا.
وحماد بن زيد أثبت في أيوب من وهيب وابن علية، ورواية القواريري والأشعثي، عن حماد المرسلة الأولى؛ لموافقة اثنين من الثقات.
وقد خالف حماد بن سلمة أصحاب أيوب، فرواه عنه، عن عكرمة، عن ابن عباس.
أخرجه أبو داود (4/706-707 رقم4582) في الديات، باب في دية المكاتب، والترمذي (3/560 رقم1259) في البيوع، باب ما جاء في المكاتب إذا كان عنده ما يؤدي، والنسائي (8/46 رقم4811) في القسامة، باب دية المكاتب، والطحاوي (3/110)، والدارقطني (4/121).
جميعهم من طريق يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، به، مرفوعًا، ولفظه: «المكاتب يعتق بقدر ما أدى، ويقام عليه الحد بقدر ما عتق منه، ويرث بقدر ما عتق منه». وللحديث إسناد آخر: يرويه يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن بن عباس، واختلف في رفعه ووقفه:
فأخرجه النسائي(8/45-46 رقم4809) في الموضع السابق، من طريق معاوية بن سلام، والنسائي (8/45 رقم480) في الموضع السابق، والطحاوي (3/111) كلاهما من طريق وكيع، وابن الجارود (3/243 رقم982)، والبيهقي (10/326) كلاهما من طريق عثمان بن عمر - وكيع وعثمان بن عمر -، عن علي بن المبارك.
وأخرجه أبو داود (4/706 رقم4581) في الموضع السابق، والنسائي (8/46 رقم4810) في الموضع السابق، والطحاوي (3/111)، والدارقطني (4/123).
جميعهم من طريق حجاج الصواف.
وأخرجه النسائي في "الكبرى" (3/196 رقم5019)، والدارقطني (4/122). كلاهما من طريق النضر بن شميل. وأخرجه النسائي في "الكبرى" (3/196 رقم5019) من طريق معاذ بن هشام، وأبو داود (4/706 رقم4581) في الموضع السابق، من طريق إسماعيل، والبيهقي (10/326) من طريق يزيد بن هارون، والطيالسي (ص350 رقم2686)، وعنه البيهقي (10/326)، وأخرجه البيهقي (10/326) من طريق محمد بن جعفر.
- النضر بن شميل ن ومعاذ بن هشام، وإسماعيل، ويزيد بن هارون، والطيالسي، ومحمد بن جعفر -، عن هشام، موقوفة، وزاد: وقال يحيى: وكان علي رضي الله عنه ومروان يقولان ذلك.
قال البيهقي: «حديث عكرمة إذا وقع فيه الاختلاف وجب التوقف فيه، وهذا المذهب إنما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه...، وفي ثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نظر».اهـ.
وقال: «قال أبو علي التغلبي: فسألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث؟ فقال: أنا أذهب إلى حديث بريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بشرائها».
قال البيهقي: «يعني: أنها بقيت على حكم الرق حتى أمر بشرائها».
(5) أخرجه عبد الرزاق (8/410-411 رقم15736)، والطحاوي (3/111)، والبيهقي (10/325).
ثلاثتهم من طريق القاسم بن عبدالرحمن، عن جابر بن سمرة: أن عمر بن الخطاب قال: إذا أدَّى المكاتب إلا الشطر - وفي لفظ: النصف - فلا رقَّ عليه.
قال البيهقي: القاسم بن عبدالرحمن لا يثبت سماعه من جابر بن سمرة.
(6) أخرجه عبدالرزاق (8/406 رقم15721) من طريق الثوري، عن طارق بن عبدالرحمن، عن الشعبي، عن عبدالله بن مسعود: إذا أدَّى الثلث فهو غريم.
وسنده ضعيف لانقطاع بين الشعبي، وابن مسعود.
وأخرج الطحاوي (3/112)، والبيهقي (10/326) من طريق الثوري، عن منصور، عن إبراهيم قال: قال عبدالله: إذا أدَّى المكاتب ثلثًا أو ربعًا فهو غريم.
وروي عن ابن مسعود: إذا أدَّ قيمته.
أخرجه الطحاوي (3/112)، والبيهقي (10/326) من طريق سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم قال: قال عبدالله: إذا أدَّى المكاتب قيمة رقبته فهو غريم.وإسناده صحيح.
(7) في (ح): «وشريح أنه إذا».
(8) صحيح لغيره، وانظر "مختصر المستدرك" لابن الملقن (5/2318-2322 رقم798) بتحقيقي.
(9) أخرجه ابن هشام في "السيرة" (3/294-295)، وأحمد (6/277)، وأبو داود (4/249-250 رقم 3931) في العتق، باب في بيع المكاتب إذا فسخت الكتابة، وأبويعلى (8/373 رقم4963)، والطحاوي (3/21)، والحاكم (4/26)، والبيهقي (9/74-75) من طريق الحاكم، وابن الأثير في "أسد الغابة" (7/56-57).
جميعهم من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عائشة قالت: لما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبايا بني المصطلق، وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن الشماس، أو لابن عمه، فكاتبت على نفسها، وكانت امرأة حلوة ملاحة، لا يكاد يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تستعينه في كتابتها...، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أو خير من ذلك؟ أودي عنك كتابتك وأتزوجك»، فقالت: نعم... الحديث.
وسنده حسن، فقد صرّح ابن إسحاق بالتحديث عند ابن هشام، وأحمد، والبيهقي، وابن الأثير، والطحاوي.
(10) أخرجه أحمد (2/178 و206 و209)، وابن ماجه (2/842 رقم2519) في العتق، باب المكاتب، والنسائي في "الكبرى" (3/197 رقم5025/2)، والبيهقي (10/324). جميعهم من طريق حجاج بن أرطأة.
وأخرجه أحمد (2/184)، وأبو داود (4/244 رقم3927) في العتق، باب في المكاتب يؤدي بعض كتابته، فيعجز أو يموت، والنسائي في "الكبرى" (3/197 رقم5026)، والدارقطني (4/121)، والبيهقي (10/323-324) من طريق أبي داود، والحكام، وغيرهما. جميعهم من طريق همام، عن عباس الجزري.
ووقع عند بعضهم: عباس الجريري. وفي آخر: العلاء الجريري، وفي رواية: العلاء الجزري. انظر تعليق أحمد شاكر على المسند (11/15-17).
وأخرجه أبو داود (4/242 رقم3926) في الموضع السابق، والطحاوي (3/111)، والبيهقي (10/324) من طريق أبي داود. كلاهما من طريق سليمان بن سليم.
وأخرجه الترمذي (3/561 رقم1260) في البيوع، باب ما جاء في المكاتب إذا كان عنده ما يؤدي: من طريق يحيى بن أبي أنيسة.
أربعتهم - حجاج، عباس الجزري، سليمان بن سليم، يحيى بن أبي أنيسة -، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أيما عبد كوتب على مائة وقية، فأداها إلا عشر أوقيات فهو رقيق». وفي لفظ: «المكاتب عبد، ما بقي عليه درهم». قال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب». وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وحسن إسناده الحافظ في "البلوغ" (ص161 رقم 1461). وصححه أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (11/15 رقم6726)، وحسن إسناده الألباني في "المشكاة" (2/1015 رقم3399).
(11) قوله: «من مكاتبته» سقط من (ب).
(12) أخرجه عبدالرزاق (8/410 رقم15735)، وابن حبان (10/161 رقم4321/الإحسان)، والبيهقي (10/324).
ثلاثتهم من طريق ابن جريج، عن عطاء، عن عبدالله بن عمرو بن العاص؛ أنه قال: يا رسول الله ! إنا نسمع منك أحاديث، أفتأذن لنا أن نكتبها... الحديث. وفيه: «ومن كان مكاتبًا على مائة درهم، فقضاها إلا عشرة دراهم، فهو عبد أو على مائة أوقية، فقضاها إلا أوقية، فهو عبد».
وقد اختلف في تحديد عطاء: أما النسائي، وابن حبان، فلم ينسباه.
ونسبه المزي في "التحفة" (6/362): عطاء بن أبي رباح. وسماه عبدالرزاق، والحاكم (2/17)، وابن حزم في "المحلى" (9/231): الخراساني، وأم البيهقي فقد سقط من إسناده: عطاء. ولذلك عقب البيهقي بقوله: «كذا وجدته، ولا أراه محفوظًا». وقد استظهر الشيخ أحمد شاكر في تحيقه للمسند (10/149-150) أنه ابن أبي رباح، فانظره.
والحديث قال عنه النسائي - كا في "التحفة" (6/362)-: «هذا الحديث حديث منكر وهو عندي خطأ».اهـ. وقال أحمد شاكر في الموضع السابق: «وأيَّامًا كان، فإن هذه الروايات يشدّ بعضها بعضًا، ويؤيد بعضها بعضًا».اهـ.
(13) أخرجه الطحاوي (3/111)، والبيهقي (10/325).
كلاهما من طريق يزيد بن هارون، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن معبد الجهني، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «المكاتب عبدٌ ما بقي عليه درهم».
وأعلَّها ابن التركماني بالانقطاع؛ لأن رواية معبد عن عمر مرسلة.
(14) أخرجه عبدالرزاق (8/405 رقم15717)، والطحاوي (3/112)، والبيهقي (10/324). جميعهم من طريق سفيان الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أن زيد بن ثابت قال في المكاتب: «هو عبد ما بقي عليه درهم». وسنده صحيح.
(15) أخرجه الطحاوي (3/112)، والبيهقي (10/324).
كلاهما من طريق عمرو بن ميمون، عن سليمان بن يسار، عن عائشة رضي الله عنها، قال: استأذنت عليها، فقالت: من هذا؟ فقلت: سليمان. قالت: كم بقي عليك من مكاتبتك؟ قال: قلت: عشر أواق، قالت: ادخل، فإنك عبدٌ ما بقي عليك درهم. وصحح إسناده الألباني في "الإرواء" (6/183).
(16) أخرجه عبدالرزاق (8/408-409 رقم15728)، والطحاوي (3/112).
كلاهما من طريق أبي معشر، عن سعيد المقبري: أن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «المكاتب عبدٌ ما بقي عليه من كتابته شيء».
وسنده ضعيف، أبو معشر: نجيح بن عبدالرحمن السندي، ضعيف، اختلط كما في "التقريب" (7150)، وسعيد المقبري لم يسمع من أم سلمة، على ما قاله عبدالحق الإشبيلي، كما في "التقريب" (2/23).
(17) تقدم تخريجه قبل قليل في هذا الباب.
(18) قوله: «أيضًا» سقط من (ح).
(19) في (ب): «أدى».
(20) أخرجه عبدالرزاق (8/409 رقم15729)، وأحمد (6/289 و308 و311)، وأبو داود (4/244-245 رقم3928) في العتق، باب في المكاتب يؤدي بعض كتابته فيعجز أو يموت، وابن ماجه (2/842 رقم2520) في العتق، باب المكاتب، والترمذي (3/562 رقم1261) في البيوع، باب في المكاتب إذا كان عنده ما يؤدي، والنسائي في "الكبرى" (3/197-198 رقم5028 -5033)، وابن حبان (10/163 رقم4322/الإحسان)، والطحاوي في "المشكل" (1/273 و273-274 رقم298 و298و299و300)، وفي "شرح المعاني" (4/331)، والطبراني في "الكبير" (23/301-302 رقم676)، والحاكم (2/219)، والبيهقي (10/327) من طريق أبي داود، والحاكم.
جميعهم من طريق الزهري، عن نبهان مولى أم سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا كان إحداكن مكاتب ما يؤدي فلتحتجب منه».
قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح». وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
وفي سنده نبهان، روى عنه اثنان، وذكره ابن حبان في "الثقات"،وفي "التقريب" (7142): مقبول. وقال ابن حظم في "المحلى": «لا يوثق». ووثقه الذهبي في "الكاشف" (2/316 رقم5795).
والحديث ضعفه الألباني في "الإرواء" (6/182-183 رقم1769) وقال: «ومما يدل على ضعف هذا الحديث عمل أمهات المؤمنين على خلافه، ومنهن اللاتي خُطبن به فيما زعم راويه».اهـ.
وأخرجه البيهقي (10/324) من طريق أبي معاوية، عن عمرو بن ميمون بن مهران، عن سليمان بن يسار، عن عائشة رضي الله عنها، قال: استأذنت عليها، فقالت: من هذا؟ فقلت: سليمان. قالت: كم بقي عليك من مكاتبتك؟ قال: قلت: عشر أواق، قالت: ادخل، فإنك عبدٌ ما بقي عليك درهم. وصحح إسناده الألباني في "الإرواء" (6/183).(4/263)
- صلى الله عليه وسلم - : «إذا كان عند مكاتب إحداكن ما يؤدِّي فلتحتجب منه». قال: حديث حسن صحيح.
قلت: وظاهره أنَّ هذا خطاب مع زوجاته؛ أخذًا بالاحتياط، والورع في حقهنَّ، كما قال لسودة: «احتجبي منه» (1) . مع أنه قد حكم بإخوتها له، وبقوله لعائشة وحفصة: «أفعمياوان أنتما ؟! ألستما تبصرانه ؟» (2) يعني: ابن أم مكتوم، مع أنه قد قال لفاطمة بنت قيس: «اعتدي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك عنده» (3) .
الثالثة: حديث بريرة - على اختلاف طرقه، وألفاظه - يتضمن: أن بريرة وقع =(4/330)=@ فيها بيع بعد كتابة تقدَّمت، فاختلف الناس في بيع المكاتب بسبب ذلك.
فمنهم من أجازه إذا رضي المكاتب بالبيع، ولو لم يكن عاجزًا. وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبدالبرّ. وبه قال ابن شهاب، وأبو الزناد، وربيعة. غير أنهم قالوا: لأن رضاه بالبيع عجزٌ منه (4) .
ومنهم من قال: يجوز بيعه على أن يمضي في كتابته؛ فان أدَّى عتق، وكان ولاؤه للذي ابتاعه. ولو عجز فهو عبدٌ له. وبه قال النخعي، وعطاء، والليث، وأحمد، وأبو ثور.
ومنهم من منع بيع المكاتب إلا أن يعجز. وبه قال مالك، والشافعي (5) ، وأبو حنيفة، وأصحابهم. وأجاز (6) مالك بيع الكتابة، فإن أدَّاها عتق، وإلا كان (7) رقيقًا لمشتري الكتابة. ومنع ذلك أبو حنيفة لأته بيع غرر. واختلف قول الشافعي في ذلك بالمنع والإجازة. وكل هذا الخلاف سببه اختلاف فُهومهم في (8) حديث بريرة وقواعد الشريعة، وقد قدمنا: أن الأظهر من الحديث (9) جواز بيع المكاتب للمعتق، وهو أحسنها؛ لأنه الأظهر من الحديث، والأنسب (10) لقواعد الشرع؛ لأن الكتابة عقد عتق على شرط عمل أو مال، وقد يحصل ذلك أو لا يحصل. وبيعه للعتق إسقاط لذلك الشرط، وتنجيز للعتق. والله أعلم.
والولاء للمشتري؛ لأن عقد الكتابة قد انفسخ. &(4/264)&$
__________
(1) تقدم في باب الولد للفراش، من كتاب النكاح برقم (1521).
(2) تقدم في باب الولد للفراش، من كتاب النكاح، وهو حديث ضعيف.
(3) تقدم في باب: فيمن قال: إن المطلقة البائن لا نفقة لها، من كتاب النكاح.
(4) في (ح): «عنه».
(5) في (ح): «الشافعي وأبو حنيفة».
(6) في (أ): «واختار».
(7) في (ح): «فكان».
(8) في (أ): «اختلافهم في فهم حديث».
(9) في (ح): «حديث».
(10) في (ب): «والأشبه».(4/264)
المسألة الرابعة: اتفق المسلمون على أن المكاتب إذا حلَّ عليه نجم أو أكثر، فلم يطالبه سيده بذلك، وتركه على حاله؛ أن الكتابة لا تنفسخ ما داما على ذلك. واختلفوا فيما إذا كان العبد قويًا على السعي والأداء. فقال مالك: ليس له تعجيز نفسه إذا كان له مال ظاهر، وإن لم يظهر له مال كان له ذلك. وقال الأوزاعي: لا يُمَكَّن من تعجيز نفسه إذا كان قويًّا على الأداء. وقال (1) الشافعي: له أن يعجز نفسه؛ علم له مال أو قوة، أو لم يعلم. وإذا قال: قد عجزت، وأبطلت الكتابة، فذلك إليه. =(4/331)=@
قلت: والصحيح: أن الكتابة لا سبيل إلى إبطال حكمها ما أمكن ذلك؛ لأنها إما أن تكون عقدًا بين (2) السيد وعبده، وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود، وإما وعدًا بالعتق وعهدًا، فقد قال الله تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤلاً} (3) ، وإما عتقًا على شرط يمكن تحصيله؛ فيجب الوفاء به؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «المؤمنون على شروطهم» (4) ، ولأنه لو علَّق عتقه على أجل يأتي، أو على أمرٍ يحصل لزمه العقد، وحصل العتق عند حصول ذلك الشرط، فكذلك (5) عقد الكتابة. ويستثنى من هذا بيعه للعتق (6) ، كما بيَّناه. وإذا كان كذلك، فلا يقبل من السيد، ولا من العبد دعوى العجز حتى يتبين بالطرق المعتبرة في ذلك.
المسألة الخامسة: إذا عجز العبد وكان السيد قبض منه بعض نجوم الكتابة حلَّ ذلك للسيد، سواء كان ذلك من صدقة على المكاتب أو غيرها، ولا رجوع للمكاتب بذلك، ولا لمن أعطاه على وجه فكاك الرقبة. هذا قول الشافعي، وأبي حنيفة، وأصحابهما، وأحمد بن حنبل، ورواية عن شريح، ومالك، غير أنه قال: إن ما أُعينَ به - على جهة فك رقبته -: لا يحل للسيد، ويرد على ربه. أوقال إسحاق: ما أعطي بحال الكتابة ردَّ على أربابه. وقال الثوري: يجعل السيد ما أعطاه في الرقاب. وهو قول مسروق، والنخعي، ورواية عن شريح. &(4/265)&$
__________
(1) في (ح): «قال».
(2) في (أ): «من».
(3) الآية (34) من سورة الإسراء.
(4) تقدم تخريجه في هذا الباب، وهو صحيح لغيره.
(5) في (ب): «وكذلك».
(6) في (ح): «المعتق».(4/265)
قلت: وما قاله مالك ظاهر، لا إشكال فيه.
المسألة السادسة: فيه دليل على أن بيع الأمة ذات الزوج لا يوجب طلاقها. وعليه فقهاء الأمصار. وقد روي عن ابن عباس (1) ، وابن مسعود (2) : أنه طلاق لها. =(4/332)=@ والعجب من ابن عباس أنه أحد رواة حديث
بريرة، ومع ذلك: فلم يقبل بما روى من ذلك.
المسألة السابعة: والولاء (3) - وإن لم يوهب ولم يبع (4) - يصح فيه الجرُّ في صورتين:
أحدهما: هي التي قال فيها مالك: الأمر المجتمع (5) عليه عندنا في ولد العبد من امرأة حُرَّة: أن الحرَّ - أبا العبد - يجرُّ ولاءَ ولد ابنه الأحرار من امرأةٍ حرَّة، ويرثهم ما دام أبوهم عبدًا، فإن أٌعتِقَ أبوهم رجع الولاء إلى مواليه، وإن مات وهو عبد كان الولاء والميراث للجد.
وأما الصورة الثانية: فاختلف أهل العلم في انتقال الولاء الذي قد ثبت لموالي المة المعتقة في بنيها من الزوج العبد إن أعتق. فروي عن جماعة من العلماء: أن ولاءهم لموالي أمهم (6) ، ولا يجره الأب إن أُعتق. وروي (7) ذلك عن ابن عمر (8) ، وعطاء، وعكرمة بن خالد (9) ومجاهد، وابن شهاب وقبيصة بن ذؤيب، وقضى به(3) عبدالملك بن مروان في آخر خلافته، لما بلغه قضاء عمر به، وكان قبلُ يقضي بقضاء مروان: أن اولاء يعود (10) إلى موالي أبيهم (11) ، وبهذا القول قال مالك، والوزاعي، وأبو حنيفة، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.
المسألة الثامنة: ولاء السائبة - وهو: الذي بقول له معتقه: أنت عتيق سائبة، أو أنت (12) مُسيَّب، أو ما أشبهه -: للمسلمين عند مالك، وجُلّ أصحابه. لا للذي أعتقه. وليس للمعتق أن يوالي من شاء. وبه قال عمر بن عبدالعزيز، وروي عن عمر (13) .
وقال ابن شهب، ويحيى بن سعيد، والأوزاعي، والليث: إنه (14) يوالي من &(4/266)&$
__________
(1) أخرجه سعيد بن منصور (2/38 رقم1947) عن هشيم، أخبرنا خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه كان يقول في بيع الأمة: فهو طلاقها.
وصحح إسناده الحافظ (9/405).
(2) أخرجه سعيد بن منصور (2/37 رقم1942) عن هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم: أن ابن مسعود قال: بيع الأمة طلاقها.
وأخرجه عبدالرزاق (7/280 رقم13169) عن معمر، عن حماد، عن إبراهيم، عن ابن مسعود: أنه قال في الأمة تباع ولها زوج؟ قال: بيعها طلاقها.
وأخرجه ابن أبي شيبة (4/105 رقم18249) في الطلاق، باب في الرجل يزوج عبده أمته ثم يبيعها، من قال: بيعها طلاقها، عن أبي معاوية وأبي أسامة، عن الأعمش، قال: قال عبدالله: بيع الأمة طلاقها.
(3) في (ب): «الولاء».
(4) في (ب): «وإن لم يبع ولم يوهب».
(5) في (ب) و(ح): «المجمع».
(6) في (ح): «الأمة لا يجره».
(7) في (ب): «روى».
(8) اختلفت الرواية في ذلك عن عمر، ففي إحدى الروايات: أن الولاء لموالي الأم، وفي الأخرى: لموالي الأب:
فأخرج ابن أبي شيبة (11/391)، وأحمد (183)، وأبو داود (2917)، وابن ماجه (2732)، والنسائي في "الكبرى" (6348).
كلّهم من طريق حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده...، فكر قصة وثاب بن حذيفة وأم وائل، ثم قال: فلما رجع عمرو بن العاص جاء بنو معمر يخاصمونه في ولاء أختهم إلى عمر بن الخطاب، فقال عمر: أقضي بينكم بما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، سمعته يقول: ما أحرز الولد والوالد فهو لعصبته من كان. القصة، وفيه لم يجعل الولاء لأمهم.
وأخرج الدارمي (2/492)، وابن الجعد (187) من طريق البيهقي (10/307) من طريق شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم قال: كان شريح لا يكاد يرجع عن قضاء قضى به حتى حدثه الأسود بن يزيد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ أنه قال في الحرة تكون تحت العبد فتلد له أولادًا ثم يُعتق أبوهم: أنه يصير ولاؤهم إلى موالي أبيهم.
وأخرج عبدالرزاق في "المصنف" (16294) عن ابن جريج، عن الزهري قال: أخبرني رجاء بن حيوة: أنه بينا هو ثم عبد الملك في آخر خلافته اختصم إليه رجلان في موالٍ أمهم حُرَّة وأبوهم مملوك، ثم أعتق أبوهم بعد ذلك، فأراد عبد الملك أن يقضي بولائهم لأهل أبيهم، فقال له قبيصة بن ذؤيب: إن عمر بن الخطاب قد قضى به لأهل أمهم، فقال له عبد الملك: إعلم ما تقول يا قبيص، فقد كان في ذلك ما تعلم يريد قضاء مروان، فقال قبيصة: إن ذلك حق وسأنظر...، وفيه تمام القصة.
(9) في (أ): «مخلد». والصواب ما في المثبت، وهو عكرمة بن خالد المخزومي. انظر "الكاشف" للذهبي (2/32 رقم3863). (3) قوله: «به» سقط من (أ).
(10) في (أ): «لا يعود».
(11) في (ب): «أعتق».
(12) في (ح): «وأنت».
(13) أخرجه عبدالرزاق (16229)، وابن أبي شيبة (21014 و31429)، والدارمي (3119)، والبيهقي (10/301).
كلهم من طرق عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن عمر رضي الله عنه قال: السائبة والصدقة ليومهما.
قال ابن عبدالبر في "التمهيد" (3/76): قال سفيان الثوري في قول: «عمر السائبة ليومها» كان يعيني: يوم القيامة، لا يرجع في شيء منها إلى يوم القيامة.
(14) في (ب) و(ح): «له أن».(4/266)
شاء، =(4/333)=@ وإلا فللمسلمين (1) . وكان الشعبي وإبراهيم يقولان: لا بأس ببيع ولاء السائبة وهبته. وقال أبو حنيفة، والشافعي وأصحابهما، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود: هو لمعتقه لا لغيره، ولا يوالي أحدًا.
- - - - -
ومن باب كان في بريرة ثلاث سنن
قول عانشة رضي الله عنها: «كان في بريرة ثلاث قضيَّات»؛ تعني به: أن هذه الثلاث هي أظهر ما في حديثها من القضايا والسُّنن، وإلا فقد تبيَّن: أن فيه من ذلك العدد الكثير، حتى قد بلغت سننه (2) إلى مائةٍ أو أكثر (3) . ويحتمل أن يكون تخصيصها هذه الثلاث بالذكر؛ لكونها أصولاً لما عداها مِمَّا تضمنه (4) الحديث، أو لكونها أهم، والحاجة إليها أمسّ. والله أعلم.
فأحد القضيَّات الثلاث: عتقها. والثانية: تخييرها. والثالثة: أَكْلُ النبي - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا تُصدِّقَ به عليها.
وقولها: «وعتقت فخيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاختارت نفسها»؛ هذه الرواية فيها إجمال وإطلاق. وقد زال إجمالها، وتقيَّد إطلاقهأ بالروايتين المذكورتين =(4/334)=@ بعدها. فإن فيهما (5) : أن بريرة كان لها زوج حين أعتقت، وأن زوجها كان عبدًا. ومقتضى هذا الحديث بقيوده مجمعٌ عليه؛ وهو: أن الأمة ذات الزوج العبد إذا أُعتِقت &(4/267)&$
__________
(1) في (ح): «فالمسلمين».
(2) في (أ): «نسبته».
(3) في (ح): «وأكثر».
(4) في (أ): «تضمنها».
(5) في (ح): «فإنهما فيهما».(4/267)
مخيرةٌ في الرِّضا بالبقاء مع زوجها أو مفارقته؛ لشرف الحرّيه الذي (1) حصل لها على زوجها، ولدفع مضرَّة المعرَّة اللاحقة لها بملك العبد لها. ولَمَّا كان هذا راجعًا لحقها، لا لحق الله تعالى: خيّرها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أن تأخذ (2) بحقها فتفارقه، أو تسقطه؛ فترضى بالمقام معه. وعلى هذا: فلو كان زوجها حرًّا لم يكن لها خيار (3) للمساواة بينهما، ولنفي الضرر اللاحق بها. وهذا (4) مذهب جمهور العلماء. وقد شذَّ أبو حنيفة، فأثبت لها الخيار، وإن كان زوجها حرًّا؛ متمسِّكًا بما قال الحكم (5) : إن زوج بريرة كان حرًّاء، وكذلك قال الأسود. وكلاهما لا يصح. قال البخاري (6) : إن قول الحكم مرسل، وقول الأسود منقطع، قال: وقول ابن عباس: «كان عبدًا» أصح. وكذلك رواه جماعة عن يزيد بن رومان، عن عروة، عن عائشة: أنه كان عبدًا. وهو الصحيح عنها. وقد تمسَّك (7) أيضًا أبو حنيفة بما تخيَّله من أن علَّة تخيير بريرة كونها كانت مجبورة على النكاح، فلما عتقت ملكت نفسها. وهو مطالب بدليل اعتبار هذه العلَّة. وقد يتمسَّكون في ذلك بزيادة في حديث بريرة غير ثابتة فيه، ولا مشهورة. وهي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبريرة: «ملكت نفسك فاختاري» (8) ، ولو ستمنا صحتها، لكن لانسلم: أن الفاء هنا للتعليل، بل هي لمجرد العطف، سلمنا أنها ظاهرة فيه، لكن عندنا الإجماع على عدم اعتبار تلك العلَّة في ولاية الإجبار على الأصاغر. وذلك: أنهم (9) يلزمهم ما عقد عليهم في حال صغرهم ذكرانًا كانوا أو إناثًا إذا زال حجرهم، واستقلوا لأنفسهم (10) ، ولا خيار يثبت بالإجماع. =(4/335)=@ لا يقال: بينهما فرق. وهو: أن جبر الأمة للرق، وجبر الحرة للصغر؛ لأنا نقول: ذلك الفرق صوري، خلي عن المناسبة؛ إذ الكل ولاية إجبار، وقد ارتفع في الصورتين، فيلزم تساويهما في الخيار فيهما، أو في عدمه. والله أعلم.
قلت: وقد خرَّج البخاري (11) حديث بريرة هذا عن ابن عباس فقال فيه: إن زوج &(4/268)&$
__________
(1) في (أ) و(ح): «التي»، والمثبت من (ب) و(ك).
(2) في (ب) و(ح): «تأخذه».
(3) في (ح): «لخيار».
(4) في (ب) و(ح): «هذا».
(5) هو الحكم بن عُي ... يْنة. انظر "فتح الباري" (12/39-40).
(6) قي "صحيحه" (12/39 و40-41 رقم6751 و6754) في الفرائض، باب الولاء لمن أعتق، وميراث اللقيط، وباب ميراث السائبة.
(7) في (ب): «وتمسك».
(8) أخرجه الدارقطني في "سننه" (170) من طريق ابن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن هشام بن عروة، عن أبيه ن عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبريرة: «اذهبي فقد عتق معك بضعك».
ورواه ابن سعد في "الطبقات" (8/259) عن عبدالوهاب بن عطاء، عن داود بن أبي هند، عن عامر الشعبي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبريرة لما عتقت: «قد عتق معك بضعك معك فاختاري».
(9) في (ح): «أنه».
(10) في (ب): «بأنفسهم».
(11) (9/407 و409 رقم5281 و5282 و5283) في الطلاق، باب خيار المة تحت العبد.(4/268)
بريرة كان عبدًا، يقال له: مغيث، كأني أنظر إليه خلفها يطوف يبكي، ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لو راجعتيه (1) ») قالت: يا رسول الله! تأمرني؟ قال: «إنما أشفع». قالت: فلا حاجة. وزاد عليه (2) أبو داود: أوأمرها أن تعتد. وزاد الدارقطني: عدة الحرَّة. وخرَّجه أبو داود (3) من حديث عائشة فقال: إن بريرة عتقت وهي تحت مغيث - عبد لآل أبي أحمد - فخيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: «إن قَرُبَكِ فلا خيار لك».
وهذه الطرق فيها أبواب من الفقه زيادة على ما ذكره مسلم.
فمنها (4) : جواز إظهار الرجل (5) محبة زوجته. وجواز التذلل والرغبة والبكاء بسبب ذلك؛ إذ لم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على مغيث شيئًا من ذلك، ولا نبَّهَهُ عليه.
وفيه: جواز عرض الاستشفاع، والتلطف فيه، وتنزل الرجل الكبير للمشفوع عنده؛ وإن كان نازل القدر.
وفيه ما يدلُّ على فقه بريرة حيث فزتث بين الأمر والاستشفاع، وأن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - كان محمولاً عندهم على الوجوب، بحيث لا يُرَدُّ، ولا يُخَالَف. =(4/336)=@
وفيه: النصوص: على أن الزوج كان عبدًا.
وفيه: ما يدلُّ على أن تمكين (6) المخيرة من نفسها طائعة يُبْطل (7) خيارها. ويفهم منه: أن كل من له الخيار في شيء فتصرف فيه تصرُّف الْمُلاك (8) مختارًا، إنه قد أسقط خياره.
وفيه: جواز تصريح المرأة بكراهة الزوج.
وفيه: ما يدلُّ على أن نفس اختيارها لنفسها كافٍ في وقوع الطلاق؛ إذا لم تصرّح بلفظ طلاق، ولا غيره. لكن حالها دلَّ على ذلك، فاكتفي به، ووقع (9) الطلاق عليها، وحينئذ أمرها أن تعتدَّ عدَّة الحرَّة. &(4/269)&$
__________
(1) في (ب): «راجعته».
(2) في (أ) و(ح): «عنه».
(3) في "سننه" (2/673 رقم2236) في الطلاق، باب حتى متى يكون لها الخيار.
(4) في (ح): «منها».
(5) في (ح): «الزوج».
(6) في (ح): «تمكن».
(7) في (ح): «تبطل».
(8) في (ب): «المالك».
(9) في (أ): «ووقوع».(4/269)
وقولها: «وكان الناس يتصدَّقون عليها، وتهدي لنا»؛ يعني: أنها كانت معلومة الفقر، فكانت تُقصَد بالصدقات - واجِبها، وتطوُّعها - وفي بعض ألفاظ هذا الحديث: «يهدون لها» (1) ، ولا تناقض فيه، فإنها كانت يُفعل (2) معها الوجهان: الصدقة، والهدية. وقد يجوز أن تُسمِّي الصدقة هدية، كما قد أطلق عليها ذلك (3) بعض الرواة فقال: «أهدي لها لحم»؛ يعني به: تُصدِّق عليها، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - : «هو لها صدقة ولنا هدية».
وقد اضطربت ألفاظ الرواة لهذا الحديث، فقال بعضهم: «أهدي لها لحم». وقال بعضهم: «تُصدِّق (4) عليها بلحم بقر». وقال بعضهم: «قالت عائشة: =(4/337)=@ تُصدِّق على مولاتي بشاة من الصدقة (5) ») (6) . وقال بعضهم: «قالت عائشة: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بريرة بشاة من الصدقة» (7) .
قلت: وهذان اللفظان أنصُّ ما في الباب (8) ، فليعتمد عليهما. وقد استوفينا في كتاب الزكاة ما بقي في هذا الحديث، مِمَّا يحتاج إلى التنبيه عليه. وفيه أبواب من الففه لا تخفى. =(4/338)=@
- - - - -
ومن باب النهي عن بيع الولاء وعن هبته
إنما لم يجز بيع الولاء، ولا هبته اتفاقًا؛ للنهي عن ذلك، ولأنه أمرٌ وجوديٌّ لا يتأتَّى الانفكاك عنه كالنسب. ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : «الولاء لحمة كلحمة النسب» (9) ، فكما لا تنتقل الأبوة والْجُدودة، كذلك لا ينتقل الولاء. وقد بينا وجه ذلك &(4/270)&$
__________
(1) لم أعثر عليه.
(2) في (ح): «تعمل».
(3) في (ب): «ذلك عليها».
(4) في (ح): «تصدقوا».
(5) من قوله: «وقال بعضهم قالت عائشة....» إلى هنا سقط من (أ).
(6) قال الحافظ في "الفتح" (9/406): «واللحم المذكور وقع في بعض الشروح: أنه لحم بقر، وفيه نظر، بل جاء عن عائشة: تصدق على مولاتي بشاة من الصدقة، فهو أولى أن يؤخذ به».اهـ.
(7) لم أجده بهذا اللفظ. ولكن أخرجه البخاري (3/356 رقم1494) في الزكاة، باب إذا تحولت الصدقة من حديث أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: «دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على عائشة رضي الله عنها، فقال: «هل عندكم شيء؟» فقالت: لا، إلا شيء بعثت به إلينا نسبة من الشاة التي بعثت بها من الصدقة، فقال: «إنها قد بلغت محلها».
(8) في (ح): «هذا الباب».
(9) تقدم تخريجه في باب إنما الولاء لمن أعتق.(4/270)
ومناسبته، غير أنه يصحُّ في الولاء جرُّ ما يترتب عليه الميراث. ومثاله: أن يتزوَّج عبدٌ مُعْتَقَةً، فيولد له منها ولد، فيكون حرًّا بحرِّية (1) أُمِّه، ويكون ولاؤه لمواليها ما دام أبوه عبدًا، فلو أعتقه سيده عاد ولاؤه لمعتق أبيه بالاتفاق كما ذكرناه.
وللولاء أحكامٌ خاصة ثبتت بالسُّنَّة:
منها: أنه لا يرث به إلا العصبات الذكور، ولا مدخل للنساء فيه إلا فيما أعتقن أو أعتق من أعتقن.
ومنها: أنه لا يورث إلا بالكبر. فلا يستحق البطن الثاني منه شيئًا ما بقي من البطن الأول شيء. وتفصيل هذا (2) في الفروع. وقد حكي عن بعض السلف: أن الولاء ينتقل. ولعلَّه إنما يعني به: الجرُّ. والله أعلم. =(4/339)=@
وقوله: «كتب على كل بطن عُقُوله»؛ أي: أثبت، وأوجب.
والبطن: دون القبيلة، والفخذ: دون البطن. والعُقُول: يعني بها (3) : الدِّيات. وذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة، واستقرَّ أمره فيها آخى بين المهاجرين والأنصار، وصالح من كان فيها من اليهود، وميز القبائل بعضها من بعض، وضم البطون بعضها إلى بعض فيما ينوبهم من الحقوق والغرامات، وكان بينهم دماء وديَّات بسبب الحروب العظيمة التي كانت بينهم قبل الإسلام، فرفع الله تعالى كل ذلك عنهم، وألَّف بين قلوبهم ببركة الإسلام، وبركة النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى صاروا كما قال تعالى: {وأذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا} (4) الآية.
وقوله: «لا يحل أن يتوالى مولى رجل مسلم بغير إذنه»، هذا (5) يقتضي: تحريم أن يتوالى مولى رجل لنفسه. وحديث أبي هريرة يقتضى: تحريم نسبة المولى لغير معتقه. وكلاهما محرم هنا، كما هو محرمم في النَّسب. وقد (6) سوَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما في الردع والوعيد، فقال: «من ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه، فالجنه عليه حرام» (7) . &(4/271)&$
__________
(1) في (ح): «بحرمة».
(2) في (ح): «ذلك».
(3) في (أ) و(ح): «به».
(4) الآية (103) من سورة آل عمران.
(5) في (أ): «لهذا».
(6) في (ب): «قد».
(7) تقدم شطره الأول في الإيمان، باب إثم من كفّر مسلمًا برقم (52).(4/271)
وقوله: «بغير إذنه»، وفي الحديث الآخر: «بغير إذنهم» (1) ؛ يعني
به (2) : بغير إذن =(4/340)=@ السَّادة. ودليل خطابه يدلُّ على أن السيد إذا أذن في ذلك جاز، كما قد ذهب إليه بعض الناس، وليس بصحيح، والجمهور على منع ذلك؛ وإن أذن السيد؛ لأن السيد إن أذن في ذلك بعوض، فهو المبايعة للولاء المنهي عنها، أو ما في معناه. وإن كان بغير عوض؛ فهي هبة الولاء، وما في معناها، ولا يجوز واحد منهما وإنما جرى ذكر الإذن في هذين الحديثين؛ لأن أكثر ما يقع من (3) ذلك، إنما يكون بغير إذن السَّادة، فلا دليل خطاب لمثل هذا اللفظ.
وقد بيَّنا في أصول الفقه: أن ما يدلّ (4) من (5) جهة النطق مرجح على ما يدل من(@) جهة المفهوم. وقد تقدَّم: أن اللعنة أصلها: الطرد والبعد. فلعنة الله تعالى هي: إبعاده للملعون (6) عن رحمته، وإحلاله في وبيل عقوبته. ولعنة الملائكة والناس هي: دعاؤهم عليه بذلك وذمهم له وطرده عنهم. وقد تقدَّم القول على الصرف والعدل في الإيمان. =(4/341)=@ &(4/272)&$
__________
(1) مسلم (2/1146 رقم1508/19) في العتق، باب تحريم تولي العتيق غير مواليه. يرويه سالم أبي الجعد، واختلف عليه:
أخرجه الترمذي (4/100 رقم1547) في النذور والأيمان، باب ما جاء في فضل من أعتق، عن محمد بن عبدالأعلى، عن عمران بن عيينة، عن حصين، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي أمامة، وغيره من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أيما امرئ مسلم أعتق امرأً مسلمًا كان فكاكه من النار، يجزي كل عضو منه عضوًا منه، وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين ينفذ فكاكه من النار، يجزي كل عضو منهما عضوًا منه، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار، يجزي كل عضو منها عضوًا منها».
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه». ثم قال: «الحديث صحيح من طرقه».
وفي سنده: عمران بن عيينة، قال أبو حاتم: «لا يحتج بحديثه؛ لأنه يأتي بالمناكير، وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث، وقال العقيلي: في حديثه وهم وخطأ، وقال ابن معين: صالح الحديث. "تهذيب الكمال" (22/345-347 رقم4498). وفي "التقريب" (5199): «صدوق له أوهام».
وقد اختلف في سماع سالم بن أبي الجعد، من أبي أمامة، فقال أبو حاتم: سالم بن أبي الجعد أدرك أبا أمامة. "المراسيل" (ص80 رقم290).
وقال الترمذي: «وسألت محمدًا، قلت له: سالم بن أبي الجعد سمع من أبي أمامة؟ فقال: لا أدري. "العلل" (ص386 رقم25).
وله طريق أخرى عن أبي أمامة:
أخرجه أحمد (4/386) عن هاشم بن القاسم، عن الفرج، عن لقمان بن عامر، عن أبي أمامة، عن عمرو بن عبسة، قال: قلت له: حدثنا حديثًا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس فيه انتقاص، ولا وهم. قال سمعته يقول..، فذكر الحديث، وفيه: «ومن أعتق رقبة مؤمنه أعتق الله بكل عضو منها عضوًا منه من النار».
وقد توبع لقمان بن عامر روايته:
فأخرجه عبد بن حميد (ص123 رقم298) عن يزيد بن هارون، عن بشر بن نمير، عن القاسم أبي عبدالرحمن مولى بني امية، به. لكن ليس فيه موطن الشاهد.
وأخرجه أحمد (4/235-236)، وابن ماجه (2/843 رقم2522)، والنسائي (3/170 رقم4883)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (2/196-197 رقم725) من طريق النسائي. جميعهم من طريق أبي معاوية، عن الأعمش.
وأخرجه أحمد (4/235) عن محمد بن جعفر، والطحاوي في "مشكل الآثار" (2/197 رقم726) من طريق وهب بن جرير، والطيالسي (ص166 رقم1198)، وعنه البيهقي (10/272)، وأبو داود (4/257 رقم3967) في العتق، باب: أي الرقاب أفضل، عن حفص بن عمر، وعبد بن حميد (ص145-146 رقم372)، والطبراني في "الكبير" (20/318-319 رقم755).
كلاهما من طلايق أبي الوليد الطيالسي.
والطبراني أيضًا (20/319 رقم756) من طريق بدل بن المحبر.
ستتهم - محمد بن جعفر، ووهيب بن جرير، والطيالسي، وحفص بن عمر، وأبو الوليد الطيالسي، وبدل بن المحبر -، عن شعبة. كلاهما - الأعمش، وشعبة -، عن عمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن شرحبيل بن السمط قال: قلت لكعب: يا كعب بن مرة ! حدثنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحذر. قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من أعتق امرأ مسلمًا كان فكاكه من النار...، ومن أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار...».
في رواية محمد بن جعفر قال: عن شرحبيل قال: قال رجل لكعب. وفي رواية بدل بن المحبر قال: أخبرني عمرو بن مرة، ومنصور بن المعتمر، وقتادة.
وقد توبع عمرو بن مرة على روايته:
فأخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" (2/198 رقم728) من طريق شجاع بن الوليد. وأخرجه النسائي في "الكبرى" (3/169 رقم4880) من طريق حسين بن علي، وعنه الطحاوي في "مشكل الآثار" (2/199 رقم729). كلاهما - شجاع بن الوليد، وحسين بن علي -، عن زائدة.
وأخرجه أحمد (4/235-236)، وابن ماجه (2/843 رقم2522)، والنسائي (3/170 رقم4883)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (2/196-197 رقم725) من طريق النسائي. جميعهم من طريق أبي معاوية، عن الأعمش.
وأخرجه أحمد (4/321) عن عبدالرزاق، وأخرجه النسائي في "الكبرى" (3/170 رقم4882) عن محمد بن منصور، وعنه الطحاوي في "مشكل الآثار" (2/199 رقم731). كلاهما - عبدالرزاق، ومحمد بن منصور -، عن سفيان.
وأخرجه النسائي في "الكبرى" (2/169-170 رقم4881) من طريق يحيى بن آدم، عن فضل بن مهلهل. ثلاثتهم - زائدة، وسفيان، وفضل -، عن منصور، به.
رواية زائدة، عن منصور، عن سالم: حديث عن كعب.
رواية عبدالرزاق، عن سفيان، عن سالم، عن رجل، عن كعب.
رواية مفضل، عن سالم، عن كعب.
ولفظ رواية منصور: «أيما رجل مسلم أعتق رجلاً مسلمًا فهو فكاكه من النار...» عدا رواية النسائي عن المفضل بن المهلهل، ففيها: «ومن أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار...». لكن رواية الطحاوي من طريق النسائي، ليس فيها ذلك.
والحديث قال عنه أبو داود عقب روايته: «سالم لم يسمع من شرحبيل، مات شرحبيل بصِفِّين».اهـ.
وسئل الدارقطني في "العلل" (5/7 ق أ-ب)، فقال: «رواه منصور بن المعتمر، واختلف عليه، فرواه داود بن عيسى النخعي، وفضل بن مهلهل، وغبراهيم بن طهمان، وسفيان، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن مرة بن كعب، أو كعب بن مرة، ورواه الثوري، أبو عوانة، وزائدة، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن رجل، عن كعب بن مرة. وقول الثوري ومن تابعه أصح؛ لأن سالم لم يسمع من كعب بن مرة؛ ولأن الأعمش روى عن عمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن شرحبيل بن السمط، عن كعب بن مرة.
(2) قوله: «به» سقط من (ح).
(3) قوله: «من» سقط من (ح).
(4) في (ح): «تدل».
(5) في (أ): «على».
(6) في (ب): «الملعون».(4/272)
- - - - -
ومن باب فضل عتق الرِّقاب
قوله - صلى الله عليه وسلم - : «من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منه عضوًا من النَّار».
قلت: مقتضى هذا: التسوية بين عتق الذكر والأنثى، والصحيح والمعيب، بحكم عموم«رقبة»، فإنها نكرة في سياق الشرط. وقد صحَّ في ذلك تفصيل. وهو ما خرَّجه الترمذي (1) عن أبي أمامة وغيره، عن (2) النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أيما امرئ مسلم أعتق امرءًا مسلمًا كان فكاكه من النار، يجزي كل عضو منه عضوًا منه، وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار، يجزي كل عضو منهما عضوًا منه، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار، يجزي عضو منها عضوًا منها». قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقد صحَّ من حديث أبي ذر أنَّه سال النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أي الرِّقاب أفضل؟ فقال: «أنفسها عند أهلها، وأغلاها ثمنًا» (3) . وهذا يدلُّ على أن المعيب ليس كالصحيح، ولا الكبير مثل الصغير، ولا القليل الثمن مثل الكثير (4) ، لتفاوت ما بينهم، ولما شهد حديث الترمذي بتفاوت ما بين الذكر والأنثى؛ لزم منه التفاوت بين من ذكرناهم في ذلك. والله أعلم. وإنما فضل عتق الذكر &(4/273)&$
__________
(1) تقدم قبل قليل.
(2) في (ح): «أن».
(3) تقدم في الإيمان بالله أفضل الأعمال برقم (66) في الإمات.
(4) في (أ): «الكبير».(4/273)
على الأنثى لأن جنس الرِّجال أفضل، =(4/342)=@ ولأن قوام الدُّنيا والدين إنما هو بالرجال، والنساء محل لشهواتهم، ومقر للإنسال.
وفيه: ما يدل على أن هذا الفضل العظيم إنما هو في عتق المؤمن. ولا خلاف في جواز عتق الكافر تطوّعًا. فلو كان الكافر أغلى ثمنًا، فروي عن مالك: أنه أفضل من المؤمن القليل الثمن تمسكًا بحديث أبي ذر. وخالفه في ذلك أكثر أهل العلم نظرًا إلى حرمة المسلم، وإلى ما يحصل منه من المنافع الدينية، كالشهادات، والجهاد، والمعونة على إقامة الدين، وهو الأصح. والله تعالى أعلم.
وقوله: «لا يجزي ولد والدًا»؛ من الجزاء الذي بمعنى المجازاة. =(4/343)=@ والمعنى: أنَّه لا يقوم بما له عليه من الحقوق حتى يفعل معه ذلك. وقد بينا فيما سبق وجه مناسبة ذلك.
وقوله: «إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه، فيعتقه»، ظاهره: أنه لا يعتق عليه كرد بنفس (1) الملك، بل: حتى يعتقه هو. وإليه ذهب أهل الظاهر، وقالوا: لا يعتق أحدٌ من القرابة بنفس الملك، ولا يلزم ذلك فيهم. بل إن أراد أن يعتق فحسن. وخالفهم في ذلك جمهور علماء الأمصار، غير أنهم في تفصيل ذلك مختلفون. فذهب مالك فيما حكاه ابن خوازمنداد: إلى أن الذي يعتق بالملك عمودا (2) النسب علوًّا وسفلاً
خاصة (3) . وبه قال الشافعي.
ومشهور مذهب مالك: عمودا (4) النسب، والجناحان: وهما الإخوة. وذكر ابن القصَّار عن مالك: ذووا (5) الأرحام المحرمة. وبه قال أبو حنيفة. ومتعلق الظاهرية (6) من الحديث (7) ليس بصحيح؛ لأن الله تعالى قد أوجب علينا الإحسان للأبوين (8) ، كما قال تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} (9) ، فقد سوَّى بين عبادته وبين الإحسان &(4/274)&$
__________
(1) في (ح): «بمجرد» بدل «بنفس».
(2) في (أ) و(ح): «عمود».
(3) قوله: «خاصة» سقط من (ح).
(4) في (أ): «عمود».
(5) في (ب): «ذوي».
(6) في (ح): «أهل الظاهرية».
(7) قوله: «من الحديث» سقط من (ح).
(8) قوله: «للأبوين» سقط من (ب) و(ح).
(9) الآية (23) من سورة الإسراء.(4/274)
للأبوين في الوجوب. وليس من الإحسان أن يبقى والده في ملكه، فإذا يجب عتقه، إما لأجل الملك عملاً بالحديث، أو لأجل الإحسان عملاً بالآية. والظاهرية لجهلهم بمقاصد الشرع تركوا العمل بكل واحد منهما للتمسك بظاهر لم يحيطوا بمعناه. =(4/344)=@
ومعنى الحديث عند الجمهور: أنَّ الولد لَمَّا تسبب إلى عتق أبيه باشترائه إيَّاه: نسب الشرع العتق إليه نسبة الإيقاع منه. ودل على صحة هذا التأويل فهم معنى الحديث والتنزيل.
وأما اختلاف العلماء فيمن يعتق بالملك. فوجه القول الأول والثاني (1) : إلحاق القرابة القريبة المحرمة بالأب المنصوص عليه في الحديث، ولا أقرب للرجل من أبيه؛ فيحمل على الأب، والأخ يقاربه في ذلك؛ لأنه يُدْلِي بالأبوَّة، فإنه يقول: أنا ابن أبيه.
وأما القول الثالث: فمتعلقه الحديث الثابت في ذلك؛ الذي خرَّجه أبو داود والترمذي من طرق متعددة. وأحسن طرقه: ما خرَّجه النسائي في كتابه من حديث ضمرة، عن سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من ملك ذا رحم محرم فقد عتق» (2) .
قلت: وهذا الحديث ثابت بنقل العدل عن العدل، ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بعلة توجب تركه. غير أن بعضهم قال: تفرد به ضمرة. وهذا لا يلتفت إليه، لأن ضمرة عدل، ثقة. وانفراد الثقة بالحديث لا يضره على ما مهَّدناه في الأصول، فلا ينبني أن يعدل عن هذا الحديث. بل: يجب العمل به لصحته سندًا، ولشهادة الكتاب له معنى. وذلك: أن الله عز وجل قد قال: {وأعبدوا الله ولاتشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانًا} (3) ، وليس من الإحسان إلى الأبوين، ولا للقرابة استرقاقهم، فإن نفس الاسترقاق، وبقاء اليد على المسترق إذلال له وإهانة. ولذلك فسخنا على النصراني شراءه للمسلم على رواية، ولم نبق ملكه عليه في الأخرى. وإذا ثبت أن بقاء الملك إذلال، وإهانة؛ &(4/275)&$
__________
(1) قوله: «الثاني» سقط من (ح).
(2) ...........
(3) الآية (36) من سورة النساء.(4/275)
وجبت إزالته ورفعه عن الآباء والقرابة؛ لأنه نقيض الإحسان؛ الذي أمر الله به.
فإن قيل: فهذا يلزم في القرابات كلّهم وإن بعدوا؛ قلنا: هذا يلزم من مطلق القرآن. لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد =(4/345)=@ خصَّ بعض القرابات بقوله: «من ملك ذا رحم محرم»، فوصفه بالمحرميه، فمن ليس كذلك لا تتضمنه الآية، ولا الحديث. والله أعلم.
وفي المسألة مباحث تذكر في مسائل الخلاف.
ثم (1) حيث قلنا بوجوب العتق، فهل بنفس الملك، أو يقف ذلك (2) على حكم الحاكم؛ قولان عندنا (3) :
والأول أولى لظاهر الحديث، ولأنه قد جاء من حديث الحسن عن سمرة: «من ملك ذا رحم محرم فهو حرٌّ» (4) ، وهذا اللفظ يكاد أن يكون نصًّا في الفرض، ولأن بقاء الأب تحت يد الملك إلى أن ينظر الحاكم؛ فيه (5) إذلال يناقض الإحسان المأمور به. فيجب وقوع العتق مقارنًا للملك، وإنما صار إلى إبقائه (6) على الحكم في القول الثاني للاختلاف الذي في أصل المسألة. قال بعض الأصحاب: فإذا حكم الحاكم بذلك وجب التنفيذ، وارتفع الخلاف. وهذا ليس (7) بشيء؛ لأنه يلزم منه إيقاف مقتضيات الأدلة على نظر الحكَّام وحكمهم، وهذا باطل بالإجماع، ولأنه ترك الدليل لما ليس بدليل، فإن حكم الحاكم ليس بدليل، بل الذي يستند إليه حكمه هو الدليل. فإن اقتضى دليله وجوب العتق بنفس الملك؛ فقد حصل المطلوب، وإن اقتضى دليله إيقاف العتق على الحكم؛ فإما إلى حكمه (8) ، وهو دور (9) ، وإمَّا إلى حكم غيره ويتسلسل. =(4/346)=@ &(4/276)&$
__________
(1) في (أ): «من».
(2) قوله: «ذلك» سقط من (ح).
(3) قوله: «عندنا» سقط من (ح).
(4) ..............
....
(5) قوله: «فيه» سقط من (ح).
(6) في (ب) تشبه: «إيقافه» أو «إيقائه».
(7) في (ح): «وليس»، وسقط قوله «هذا».
(8) قوله: «فإما إلى حكمه» سقط من (ح).
(9) الدَّور: هو تقوف الشيء على ما يتوقف عليه. ويُسمَّى بالدور المصرح؛ كما يتوقف (أ) على (ب) وبالعكس. أو بمراتب، ويُسمَّى الدور المضمر؛كما يتوقف (أ) على (ب) و(ب) على (ج)، و (ج) على (أ). انظر "التعريفات" للجرجاني (ص140).(4/276)
- - - - -
ومن باب تحسين صحبة المماليك
كان ضرب ابن عمر رضي الله عنهما لعبده أدبًا على جناية، غير أنه أفرط في أدبه بحسب الغضب البشري، حتى جاوز مقدار الأدب، ولذلك أثر الضرب في ظهره. وعندما تحقق ذلك رأى: أنه لا يخرجه مما وقع فيه إلا عتقه، فأعتقه بنيّه الكفارة، ثم فهم أن الكفارة غايتها إذا قبلت (1) أن تكفر إثم الجناية، فيخرج الجاني رأسًا برأس، لا أجر، ولا وزر، ولذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما: «مالي فيه من الأجر شيء».
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «من ضرب غلامه (2) حدًّا لم يأته، أو لطمه، فإن كفارته أن يعتقه»؛ ظاهر هذا الحديث والأحاديث (3) المذكورة بعده: أن من لطم عبده، أو تعدَّى في ضربه (4) وجب عليه عتقه لأجل ذلك. ولا أعلم (5) من قال بذلك. غير أن أصول أهل الظاهر تقتضي ذلك.
وإنما اختلف العلماء فيمن مَثَّل بعبده مُثلة ظاهرة، مثل =(4/347)=@ قطع يده، أو فقء عينه. فقال مالك، والليث: يجب عليه عتقه. وهل يعتق بالحكم، أو بنفس وقوع المثلة؛ قولان لمالك. وذهب الجمهور: إلى أن ذلك لا يجب. وسبب الخلاف اختلافهم في تصحيح ما روي من ذلك من قوله:
«من مثل بعبده عتق عليه (6) ») (7) . &(4/277)&$
__________
(1) في (أ) و(ح): «أقبلت».
(2) في (ب): «غلامًا له»، في (ح): «غلامًا».
(3) في (ح): «الأحاديث والأحاديث».
(4) في (ح): «عليه في ضربه».
(5) في (ب): «ولا نعلم».
(6) في (ح): «من مثل بعبده مثلة عتق عتق عليه».
(7) ......(4/277)
قلت: ومحمل الحديث (1) الأول عند العلماء على التغليظ على من لطم عبده، أو تعدذَى في ضربه لينزجر السَّادة عن ذلك. فمن وقع منه ذلك أثم، وأمر بأن (2) يرفع يده عن ملكه عقوبة، كما رفع يده عليه ظلمًا. أومحمله عندهم على الندب (3) ،وهو الصحيح؛ بدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لبني مقرِّن حين أمرهم بعتق الملطومة، فقالوا: ليس لنا خادم غيرها، فقال: «استخدموها، فإذا استغنيتم عنها فخلوا سبيلها». فلو وجب العتق بنفس اللطم لحرم الاستخدام؛ لأنها كانت تكون (4) حرَّة، =(4/348)=@ واستخدام الحر بغير رضاه حرام. فمقصود هذه الأحاديث-والله أعلم-: أن من تعدَّى على عبده أثم، فإن أعتقه يكفر أجر عتقه إثم تعديه، وصارت الجناية كأن لم تكن، ومع ذلك: فلا يمضى عليه بذلك؛ إذ ليس بواجب، على ما تقدَّم.
و«اللطم»: الضرب في الوجه. و«امْتَثِلْ»: معناه (5) : اسْتَقِدْ (6) ؛ أي:
خذ القود. و«سابع سبعة»: أحد سبعة. و«الصورة» هنا: الوجه. وقد تكون: الصفة، كما تقدَّم. &(4/278)&$
__________
(1) في (ب): «ومحمل هذا الحديث».
(2) في (ح): «أن».
(3) في (أ): «الذب».
(4) قوله: «تكون» سقط من (ح).
(5) قوله: «معناه» سقط من (ح).
(6) في (أ): «استقر».(4/278)
وقوله لأبي مسعود: «لو لم تفعل للفحتك النار»؛ تنبية على أن الذي فعله من ضرب عبده حرام، فكأنه تعدَّى في أصل الضرب؛ بأن ضربه على ما لا يستحن، أو في صفة الضرب، فزاد على المستحق. ولا يختلف: في أن تأديب العبد بالضرب، والحبس، وغيره جائز إذا وقع في محله وعلى صفته.
ومساق =(4/349)=@ الرواية الأخرى يدلُّ على تحريم قذف المملوك، وأنَّه ليس فيه في الدنيا حدٌّ للقذف. وهو مذهب مالك، والجمهور. وهو المفهوم من قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم} (1) ، فإن الإحصان هنا يمكن حمله على الإسلام والحرية والعفة، على قول من يرى: أن اللفظ المشترك يحمل على جميع محامله، ولأن العبد ناقص عن درجة الحر نقصانًا عن (2) كفر، فلا يحدُّ قاذفه، كما لا يحدُّ قاذف الكافر، ولأنَّه (3) ناقصٌ عن درجة الحِّر، فلا يحدُّ الحر بقذفه؛ كما لا يقتل به.
وقد ذهب قوم: إلى أن الحرِّ يحدُّ إذا قذف العبد. والحجة عليهم كما ذكرناه(4) من الحديث، والقرآن، والقياس. =(4/350)=@ &(4/279)&$
__________
(1) الآية (4) من سورة النور.
(2) في (ب): «غير».
(3) في (أ): «لأنه». ... ... (4) في (ب) و(ح): «كل ما ذكرناه».(4/279)
ومن باب إطعام المملوك
قد تقدَّم تفسير«الْحُلَّة».
قوله: «كان بيني وبين رجل من إخواني»؛ يعني به: عبده (1) . وأطلق عليه أنه من إخوانه لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «إخوانكم خولكم (2) ») (3) ؛ ولأنه أخ في الدِّين.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذرٍّ: «إنك امرؤ فيك جاهلية»؛ أي: خصلة من خصالهم، يعني بها (4) : تعيير عبده بأمه. فإن الجاهلية كانوا يعيِّرون بالآباء والأمهات، وذلك شيء أذهبه الإسلام بقوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (5) ، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية، وفخرها بالآباء. الناس كلهم بنو آدم، وآدم (6) خلق من تراب» (7) . =(4/351)=@
وقول أبي ذر: «على حال ساعتي من الكبر»؛ استبعاد منه أن يبقى فيه شيء من خصال الجاهلية مع كبر سنِّه، وطول عمره في الإسلام، فلما أخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - ببقاء ذلك عليه زال استبعاده، ووجب تسليمه لذلك القول (8) وانقياده. &(4/280)&$
__________
(1) في (ح): «عنه».
(2) في (ب): «إخوانكم خولكم جعلهم اللخ تحت أيديكم».
(3) مسلم (3/128 رقم1661/40) في الإيمان، باب إطعام المملوك مما يأكل، وإلباسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه.
(4) في (ب): «به».
(5) الآية (13) من سورة الحجرات.
(6) قوله: «وآدم» سقط من (ح).
(7) تقدم تخريجه في باب التشديد في النياحة ن من كتاب الجنائز.
(8) قوله: «القول» سقط من (ب) و(ح).(4/280)
وقوله: «فأطعموهم مِمَّا تأكلون، وألبسوهم مِمَّا تلبسون»؛ أي: من نوع ما تأكلون وما تلبسون. وهذا الأمر على الندب؛ لأن السَّيد لو أطعم عبده أدنى مما يأكله، وألبسه أقل مما يلبسه صفةً ومقدارًا لم يذمَّه أحدٌ من أهل الإسلام؛ إذ قام بواجبه عليه، ولا خلاف في ذلك فيما علمته. وإنما موضع الذمِّ: إذا منعه ما يقوم به أوده (1) ، ويدفع (2) به ضرورته، كما نصَّ (3) عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «كفى بالمرء إثْمًا أن يحبس عمن يملك قوتهم» (4) . وإنما هذا على جهة الحض على مكارم الأخلاق، وإرشادٌ إلى الإحسان، وإلى سلوك طريق التواضع حتى لا يرى لنفسه مزية على عبده؛ إذ الكل عبيد الله، والمال مال الله، ولكن سَخَّر بعضهم لبعض، وملَّك بعضهم بعضًا؛ إتمامًا للنعمة، وتقعيدًا (5) للحكمة.
وقوله: «ولا تكلّفوهم ما يغلبهم»؛ أي: لا تكلفوهم ما لا يطيقونه. وهو نهيٌّ، وظا هره التحريم.
وقوله: «فإن (6) كلفتموهم فأعينوهم»؛ أي: إن أخطأتم فوقع ذلك منكم، فارفعوا عنهم ذلك؛ بأن تعينوهم على ذلك العمل، فإن لم يمكنكم ذلك فبيعوهم؛ كما جاء في الرواية الأخرى: «ممن يرفق بهم» (7) . =(4/352)=@
وقوله: «للمملوك طعامه وكسوته»؛ أي: يجب ذلك له على سيده، كما &(4/281)&$
__________
(1) قوله: «أوده» سقط من (أ).
(2) في (ب): «وتدفع».
(3) في (ب): «كما قد نص».
(4) سيأتي في هذا الباب.
(5) في (ب) و(ح): «وتنفيذًا».
(6) في (ح): «وإن».
(7) لم أعثر عليه.(4/281)
قال في حديث أبي هريرة: «يقول عبدك: أنفق علي، أو بعني» (1) ، وهذا لا يختلف فيه. والقدر الواجب من ذلك ما يدفع به ضرورته، وما زاد على ذلك مندوب إليه.
وقوله: «فليُقْعِدْه معه»؛ أمرٌ بتعليم التواضع، وترك الكبر على العبد. وهذا كان خلقه، فإنه كان يأكل مع العبد، ويطحن مع الخادم، ويشاركه في عمله، ويقول: «إنما أنا عبدٌ آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد» (2) .
و«المشفوه»: الذي تكثر عليه الشِّفاه، أو تغلب عليه الشِّفاه عند أكله لِقِلَّتِه. =(4/353)=@
و«الأُكْلَة»: اللقمة - بالضم في الهمزة-، وهذا أمرٌ بمكارم الأخلاق، واستدراج للأيثار. ونقيض ذلك: أخلاق البخلاء، أهل النَّهم، والجشع. &(4/282)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (9/500 رقم5355) في النفقات، باب وجوب النفقة على الأهل والعيال.
(2) أخرجه ابن سعد (1/381)، وأبو يعلى (8/318 رقم4920).
كلاهما من طريق أبي معشر، عن سعيد، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يا عائشة ! لو شئت لسارت معي جبال الذهب، جاءني ملك إن حجزته لتساوي الكعبة فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام، ويقول لك: إن شئت نبيًا عبدًا، وإن شئت نبيًا ملكًا، قال: فنظرت إلى جبريل، قال: فأشار إلي أن ضع نفسك، قال: فقلت: نبيًا عبدًا». قال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك لا يأكل متكئًا، يقول: «آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد».
ومن طريق أبي يعلى أخرجه أبو الشيخ في "أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - " (ص170)، وأبو نعيم في "دلائل النبوة" (2/595-596 رقم541)، والبغوي في "شرح السنة" (13/247-248 رقم3683). وفي سنده: أبو معشر، نجيح بن عبدالرحمن السندي، ضعيف، أسن واختلط، كما في "التقريب" (7150).
وسعيد المقبري لم يسمع من عائشة، كما في "المراسيل" لابن أبي حاتم (ص75 رقم263). وفي "التقريب" (2334): «تغير قبل موته بأربع سنين، وروايته عن عائشة وأم سلمة مرسلة».
وله شواهد: منها ما أخرجه أبو الشيخ في "أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - " (ص60) من طريق عبيدالله بن الوليد الوصافي، عن عبدالله بن عبيد بن عمير، عن عائشة، مرفوعًا، بمعناه. ومن طريقه أخرجه البغوي في "شرح السنة" (11/286-287 رقم2839).
وفي سنده عبيدالله بن الوليد، ضعيف، كما في "التقريب" (4381)، وعبدالله بن عبيد بن عمير: قال الحافظ في "التهذيب" (2/380): «وقال ابن حزم في "المحلى: لم يسمع من عائشة».اهـ.
ومنها ما أخرجه أبو الشيخ في (ص169) من طريق حماد بن زيد، عن سعيد بن أبي صدقة، عن يعلى بن حكيم، عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ...، فذكره. ويعلى بن حكيم، ليست له رواية عن الصحابة، كما في "تهذيب الكمال" (32/383).
ومنها ما أخرجه أبو الشيخ في (ص169) من طريق يحيى بن أيوب، عن أبي إسماعيل المؤدب، عن مسلم الأعور، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض».
وسنده شعيف، لضعف مسلم الأعور. وله شاهد مرسل:
أخرجه المروزي في "زوائد الزهد" (1/353 رقم995)، وهناد في "الزهد" (2/411 رقم799). كلاهما من إسماعيل بن مسلم، عن الحسن قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يركب الحمار، ويلبس الصوف، ويلعق إصبعه، ويأكل على الأرض، ويقول: «أنا عبد، آكل كما يأكل العبد».
وسنده ضعيف، لإرساله وضعف إسماعيل بن مسلم.
وأخرجه أحمد في "الزهد" (ص11) عن عبدالرحمن بن مهدي، عن جرير بن حازم، قال: سمعت الحسن يقول...، فذكره بمعناه.
قال الألباني في "الصحيحة" (2/83): «وإسناده مرسل صحيح».
والحديث صححه الألباني في "الصحيحة" (2/82-83 رقم544) بمجموع طرقه، دون قوله: «جاءني ملك حجزته لتساوي الكعبة»، فهي زيادة منكرة، كما في "الضعيفة" (5/65 رقم2045)، و"الصحيحة" (5/635).(4/282)
- - - - -
ومن باب مضاعفة أجر العبد الصالح
قد تقدَّم في الإيمان القول على مضاعفة أجر الكتابي. =(4/354)=@
وقول أبي هريرة: «لولا الجهاد، والحج، وبرُّ أمِّي لأحببت أن أموت وأنا مملوك»؛ تصريح: بأن العبد لا يجب عليه جهاد ولاحجّ. وهو المعلوم من الشرع؛ لأن الحجّ، والجهاد لا يخاطب بهما إلا المستطيع لهما. والعبد غير مستطيع؛ إذ لا استقلال له بنفسه، ولا مال؛ إذ لا يملك عند كثير من العلماء. وإن ملك عندنا فليس مستقلاً بالتصرف فيه. ويظهر من تمني أبي هريرة كونه مملوكًا: أنه فضل العبودية على الحرية. وكأنَّه فهم هذا من مضاعفة أجر العبد الصالح. وهذا لا يصحُّ مطلقًا؛ فإن المعلوم من الشرع خلافه؛ إذ الاستقلال بأمور الدين والدُّنيا إنما حصل بالأحرار. والعبد كالمفقود لعدم استقلاله، وكالآلة المصرفة بالقهر، والبهيمة المسخرة بالجبر. ولذلك سلب مناصب الشهادات، ومعظم الولايات، ونقصت حدوده عن حدود الأحرار، إشعارًا بخسَّة المقدار. &(4/283)&$(4/283)
وكونه: له أجره مرتين؛ إنما ذلك لتعدد الجهتين؛ لأنه مطالب من جهة الله تعالى بعبادته، ومن جهة سيده بطاعته، ومع ذلك فالحر وإن طولب من جهة واحدة، فوظائفه فيها أكثر، وعناؤه (1) أعظم، فثوابه أكبر (2) . وقد أشار إلى هذا أبو هريرة بقوله: «لولا الجهاد والحجّ وبرُّ أمِّي لأحببت أن أموت عبدًا»؛ أي: لولا النقص الذي يلحق العبد لفوت هذه الأمور.
و«نعمَّا» هي: نعم التي للمدح وزيدت (3) عليها« ما (4) ») النكرة، وهي في موضع نصب على التمييز، كقوله تعالى:{فنعمَّا هي} (5) . =(4/355)=@
- - - - -
ومن باب من أعتق عبيده عند موته
قوله: «إن رجلا أعتق ستة مملوكين (6) عند موته»؛ ظاهره: أنه نَجَّز عتقهم في مرض موته (7) . وفي الرواية الأخرى: «أنه أوصى بعتقهم». وهذا اضطراب؛ لأن القضية واحدة. ويرتفع ذلك: بأن بعض الرواة تجوَّز في لفظ: «أوصى» لما نفذ عتقهم بعد موت سيدهم في ثلثه؛ لأنه قد تساوى (8) في هذه الصورة (9) حكم تنجيز العتق وحكم الوصية به؛ إذ كلاهما يخرج من الثلث، وإنما كان يظهر الفرق بينهما لو لم يمت، فإنه كان يكون له الرجوع عن الوصية بالعتق دون تنجيز &(4/284)&$
__________
(1) في (ب) و(ح): «وغناؤه».
(2) في (ب) و(ح): «أكثر».
(3) في (ب) و(ح): «زيدت».
(4) قوله: «ما» سقط من (ب) و(ح).
(5) الآية (271) من سورة البقرة.
(6) في (ب): «مملوكين له».
(7) في (ب) و(ح): «في مرضه».
(8) في (ب): «ساوى».
(9) في (ب): «القضية».(4/284)
العتق؛ فإنه إذا صحَّ لزمه إما عتق جميعهم له، وإما عتق ثلثهم؛ إذ ليس له مال غيرهم على الخلاف الذي في ذلك لأهل العلم.
وقوله: «فجزأهم أثلاثًا (1) »)؛ ظاهره: أنه اعتبر عدد أشخاصهم دون قيمتهم. وإنما فعل ذلك لتساويهم في القيمة والعدد، فلو اختلفت قيمتهم لم يكن بدء من تعديلهم بالقيمة، مخافة أن يكون ثلثهم في العدد أكثر من ثلث الميت في القيمة. ولو اختلفوا في القيمة أو في العدد لَجُزِّئوا بالقيمة (2) ، ولعتق (3) منهم ما يخرجه السهم، وإن كان أقلّ من ثلث العدد. وكيفية العمل في ذلك مفصلة في كتب أئمتنا. =(4/356)=@
وقوله: «ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة»؛ هذا نصٌّ في صحَّة (4) اعتبار القرعة شرعًا. وهو حجَّة للجمهور: مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق على أبي حنيفة حيث يقول: إنه يعتق من كل واحد منهم (5) ثلثه، ولا يقرع بينهم، وهذا مخالف لنصّ الحديث، ولا حجَّة له بأن يقول: إن هذا الحديث مخالف للقياس، فلا يعمل به؛ لأنا قد أوضحنا في الأصول: أن القياس في مقابلة النص فاسد الوضع. ولو سلَّمنا: أنذَه ليس بفاسد الوضع لكانا كالدليلين المتعارضين، وحيننذ يكون الأخذ بالحديث أولى؛ لكثرة الاحتمالات في القياس وقلتها في الحديث، كما بيناه في الأصول.
وقوله: «وقال له قولاً شديد»؛ أي: غلا له بالقول، والذم، والوعيد؛ لأنه أخرج كل ماله عن الورثة، ومنعهم حقوقهم (6) منه. ففيه دليل على أن المريض محجور (7) عليه في ماله، وأن المدبر، والوصايا، إنما تخرج من الثلث، وأن الوصيه إذا منع من تنفيذها على وجهها (8) مانعٌ شرعي استحالت إلى الثلث، كما يقوله مالك. =(4/357)=@ &(4/285)&$
__________
(1) في (أ): «ثلاثًا».
(2) في (ب): «في القيمة».
(3) في (ب): «اعتق».
(4) قوله: «صحة» سقط من (ح).
(5) قوله: «منهم» سقط من (ح).
(6) في (ح): «حقهم».
(7) في (أ): «محجوز» بالزاي.
(8) قوله: «على وجهها» سقط من (ح).(4/285)
- - - - -
ومن باب بيع الْمُدَبَّر
وهو الذي يعتقه سيده عن دُبُر منه؛ بأن يقول: أنت مدَبَّرٌ، أو: قد دبَّرتُكَ، أو: أنت حرٌّ عن دبُر منِّي. وما أشبه ذلك فيما يذكر فيه لفظ المدبَّر. ولا خلاف في أنَّه عقد شرعي مآله العتق بعد الموت. وهل هو لازم بحيث لا يحل ببيع ولا غيره (1) ، أو هو (2) عقد جائز، فيجوز (3) حله ببيع المدبَّر، أو هبته، ثم هل يُكره حلُّه أو لا؟ اختُلفَ في ذلك على ثلاثة أقوال:
فذهب مالك، والثوري، والأوزاعي، والحسن بن صالح، وأصحاب الرأي إلى الأول. فلا يخرج عن ملك المدبَّر بوجه من الوجوه إلا بأن يعتقه.
وذهب إلى الثاني عائشة (4) ، ومجاهد، والحسن البصري، وطاووس، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. فيجوز أن يبيعه صاحبه متى شاء.
وكرهت طائفة ذلك (5) ، وهو القول الثالث. وممن ذهب إلى ذلك
ابن عمر (6) ، وسعيد بن المسيب، وابن سيرين، والشعبي، والزهري، والنخعي. وقال الليث: يكره بيعه. فإن جهل إنسان أو غفل فباعه، فاعتقه الذي اشتراه، فإن بيعه جائز، وولاؤه لمن أعتقه.
قلت: وهذا قياس من ذكر في القول الثالث. وقد تقدَّم سبب الخلاف في ذلك في كتاب الزكاة. ونكتته: تعارض الأدلة. وذلك: أن التدبير عقد شرعي، فالوفاء (7) به واجب؛ لقوله تعالى:{أوفوا بالعقود} (8) ، ولقوله: {أوفوا (9) =(4/358)=@ بالعهد} (10) ، وظاهر الأمر الوجوب (11) ، ولأن التدبير عقد عتق (12) موقوف على &(4/286)&$
__________
(1) في (ح): «ولاهبة» بدل «ولا غيره».
(2) في (ح): «أو هل».
(3) في (ب): «يجوز».
(4) أخرجه البيهقي(10/313)من طريق مالك،عن أبي الرجال محمد بن عبدالرحمن عن أمه عمرة: أن عائشة رضي الله عنها دبرت جارية لها فسحرتها، فاعترفت بالسحر، فأمرت بها عائشة رضي الله عنها أن تباع من الأعراب ممن يسيء ملكتها، فبيعت. وسنده صحيح. وانظر "المسند" (6/40)، و"الاستذكار" (23/386 رقم 35038).
(5) قوله: «ذلك» سقط من (أ) و(ب).
(6) أخرجه ابن أبي شيبة (4/331 رقم20661) في البيوع والأقضية، باب في بيع المدبَّر، عن وكيع، عن حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع: أن ابن عمر كره بيع المدبَّر.
(7) في (ب): «والوفاء».
(8) الآية (1) من سورة المائدة.
(9) في (أ): «وأوفوا».
(10) الآية (34) من سورة الإسراء.
(11) في (ب): «للوجوب».
(12) في (ح): «غيبي».(4/286)
وقت، فيلزم كالعتق إلى أجل، ولما حكاه مالك من إجماع أهل المدينة على منع بيع المدبَّر، أو هبته. فهذه أدلة القول الأول. ويعارض ذلك كله حديث جابر المذكور في هذا الباب. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - باع المدبَّر. وهو حجَّة القول (1) الثاني، وقد اعتذر عنه أصحابنا بأنها قضية معينة، فيحتمل أن يكون بيعه في دين سابق على التدبير، ويشعر بذلك قوله: «لم يكن له مال غيره». ومباشرة النبي - صلى الله عليه وسلم - لبيعه بنفسه، فكأنه باعه عليه بالحكم للغُرماء، والله أعلم.
وأوضح المسالك ما صار إليه مالك (2) . =(4/359)=@ &(4/287)&$
__________
(1) في (ح): «للقول».
(2) زاد في نسخة (أ): «تم كتاب العتق»، وفي حاشيتها: «بلغ». وزاد في (ب): «آخر المجلدة الثالثة من كتاب المفهم لشرح تلخيص كتاب مسلم، ويتلوه إن شاء الله من أول المجلدة الرابعة ومن كتاب البيوع، فرغ منه في يوم الأربعاء الخامس والعشرين لشهر شوال سنة إحدى وتسعين وستمائة». وجاء في حاشية (ب): «بلغت المقابلة والحمدلله».
تنبيه: بعد ذلك بداية المجلد الرابع من نسخة (ب)، ولكنه لم يبدأ بكتاب البيوع كما ذكر، وبدأ بكتاب اللباس، وسقط من كتاب البيوع إلى هنا.
ولذا فقد أتممنا المقابلة من نسخة (ك) عوضًا عن نسخة (ب) في هذا السقط.(4/287)
ومن كتاب البيع
البيعُ في اللغة مصدر: باع كذا بكذا؛ أي: دفع معوضًا، وأخذ عوضا منه. وهو يقتضي بائعًا، وهو المالك، أو من يتنزل منزلته، ومبتاعًا، وهو الذي يبذل الثمن، ومبيعًا، وهو المثمون، وهو الذي ينزل في مقابلة الثمن (1) .
وعلى هذا فأركان البيع أربعة: البائع، والمبتاع، والثمن، والمثمَّن (2) ، وكل واحد من هذه يتعلَّق النظر فيها بشروط ومسائل ستراها إن شاء الله تعالى.
والمعاوضة عند العرب تختلف بحسب اختلاف ما يضاف إليه، فإن كان أحد العوضين في مقابلة الرّقبة سُمي: بيعًا. وإن كان في مقابلة منفعة رقبة؛ فإن كانت منفعة بضع سُمِّي: نكاحًا. وإن كانت منفعة غيرها سُمِّي: إجارة.
ومن باب النهي عن الملامسة (3) والمنابذة وبيع الغرر
«الملامسة»: مفاعلة، وأصلها لا يكون إلا بين اثنين. وأصلها من لمس =(4/360)=@ الشيء باليد. و«المنابذة»: مأخوذة من النبذ. وهو الرَّمي. وقد جاء تفسيرهما في الحديث. &(4/288)&$
__________
(1) في (ك): «وهو المثمون يبذل في مقابلة الثمن».
(2) في (ح): «والمثمنون».
(3) في (ك): «بيع الملامسة».(4/288)
وقوله: «ويكون ذلك بيعهما عن (1) غير نظر ولا تراض»؛ يعني: أنه كان يجب البيع بنفس اللمس والنبذ (2) ، ولا يبقى لواحد منهما خيرةٌ في حلّه. وبهذا تحصل المفسدة العظيمة؛ إذ لا يدري أحدهما ما حصل له، فيعم الخطر، ويكثر القمار والضرر. =(4/361)=@
و«بيع الحصاة» اختُلف فيه على أقوال:
أولها: أن يبيعه من أرضه قدر ما انتهت إليه رمية الحصاة.
وثانيها: أيُّ ثوب وقعت عليه الحصاة فهو المبيع.
وثالثها: أن يقبض على الحصى، فيقول (3) : ما خرج كان لي (4) بعدده دراهم أو دنانير.
ورابعها: أيُّ زمان وقعت الحصاة من يده وجب البيع. فهذا إيقاف لزوم على زمن مجهول.
وهذه كلها فاسدة لما تضمنته من الخطر، والجهل، وأكل المال بالباطل.
و«بيع الغرر»: هو البيع المشتمل على غرر مقصود، كبيع الأجنَّة، والسمك في الماء، والطير في الهواء، وما أشبه ذلك. فأمَّا الغرر اليسير الذي ليس بمقصود فلم يتناول هذا النَّهي؛ لإجماع المسلمين على جواز إجارة العبد والدار مشاهرة ومساناةً، مع جواز الموت وهدم الدار (5) قبل ذلك، وعلى جواز إجارة (6) الدَّخول في الحمَّام، مع تفاوت الناس فيما يتناولون من الماء، وفي قدر المقام فيه، وكذلك الشرب من السقاء مع اختلاف أحوال الناس في قدر المشروب. وأيضًا: فإن كل بيع لا بدَّ فيه من نوع من الغرر، لكنَّه لما كان يسيرًا غير مقصود لم يلتفت الشرع إليه. ولما انقسم الغرر على هذين الضربين فما تبين أنه من الضرب الأول منع. &(4/289)&$
__________
(1) في (ك): «من».
(2) قوله: «والنبذ» سقط من (ح).
(3) قوله: «أن يقبض على الحصى فيقول» سقط من (ح) و(ك).
(4) في (ح): «له».
(5) قوله: «وهدم الدار» سقط من (ك).
(6) من قوله: «العبد والدار....» إلى هنا سقط من (ح).(4/289)
وما كان من الضرب الثاني خُيِّر. وما أشكل أمره، اختُلف فيه، من أي القسمين هو، فيلحق به. =(4/362)=@
و«الجزور»: ما يجزر من الإبل. والجزرة: من غيرها.
و«حبل الحبلة» بفتح الباء فيهما، وهو الصحيح في الرواية واللغة. والحبل: مصدر حبلت المرأة - بكسر الباء - تحبل - بفتحها -: إذا حملت (1) . والحبلة: جمع حابلة. وأصل الحبل في بنات آدم، والحمل في غيرهن. قاله أبو عبيد. وقد فسَّره ابن عمر في الحديث. وإلى تفسيره ذهب مالك، والشافعي. قال المبرِّد: حبل الحبلة عندي: حمل الكرمة قبل أن تبلغ. والحبْلَة: الكرمة -بسكون الباء وفتحها-. وقال ابن الأنباري: والهاء في« حبلة» للمبالغة، كقولهم: سُخَرة (2) .
قلت: وهذه البيوع كانت بيوعًا في الجاهلية نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنها، لما فيها من الجهل والغرر، والخطر والقمار (3) ، وكلها تؤدي إلى أكل المال بالباطل، فمتى وقع شيء منها فهو فاسد، لا يصح بوجه، ولا خلاف أعلمه في ذلك.
و«اللِّبستان»- بكسر اللام -: تثنية لبسة، وهي: هيئة اللباس. ويعني بهما: الاحتباء في ثوب واحد، وليس على فرجه شيء، واشتمال الصماء. وسيأتي لهما (4) مزيد بيان إن شاء الله تعالى. =(4/363)=@ &(4/290)&$
__________
(1) في (ح): «حبلت»، وقوله: «إذا حملت» سقط من (ك).
(2) في (أ) و(ح): «سحرة».
(3) في (ك): «والقمار والخطر».
(4) في (ح): «لهذا».(4/290)
- - - - -
ومن باب النهي عن أن يبيع الرجل (1) على بيع أخيه
قد تقدَّم القولُ في كتاب النكاح على قوله: «لا يبع بعضكم على بيع بعض». وقوله: «نهى أن يَسْتَام الرَّجل على سوم أخيه»؛ أي: يشتري. ووزن« استام»: استفعل؛ أي: استدعى من البائع أن يخبره بسوم السلعة؛ أي: بثمنها. وقد يكون مصدرًا، فيقال: سامه بسلعة كذا، يسومه، سومًا. والْمَرَّة منه: سَوْمَةٌ. وقد يكسر ما قبل الواو فتنقلب ياء؛ فيقال: سِيمَة، كما قد جاء هنا. وقد بيَّنَّا: أن =(4/364)=@ محل النهي عن البيع وعن السوم المذكورين في هذه الأحاديث؛ إنما هو بعد التراكن.
وقوله: «لا يتلقى الرُّكبان لبيع»، وفي لفظ آخر: «لا تلقوا الجلب»؛ أي: لا تخرجوا للقاء الرِّفاق القادمة بالسِّلع، فتشتروا (2) منها قبل أن تبلغ =(4/365)=@ الأسواق. وقد &(4/291)&$
__________
(1) في (ح): «النهي عن بيع الرجل».
(2) في (ح) و(ك): «فتشتروها».(4/291)
اختلف أصحابنا في مسافة منع ذلك. فقيل: يومان. وقيل: ستة أميال. وقيل: قرب المصر.
قلت: وهذه التحديدات (1) متعارضة لا معنى لها؛ إذ لا توقيف، وإنما محل المنع أن ينفرد المتلقِّي بالقادم خارج السُّوق بحيث لا يعرفُ ذلك أهل السُّوق غالبًا. وعلى هذا فيكون ذلك في القريب والبعيد حتى يصحَّ قول بعض (2) أصحابنا: لو تلقى الجلب في أطراف البلد، أو أقاصيه لكان تلقيًا (3) منهيًا عنه، وهو الصحيح؛ لنهيه - صلى الله عليه وسلم - في الرواية الأخرى عن تلقي السِّلع حتى تورد الأسواق. فلو لم يكن &(4/292)&$
__________
(1) في (أ): «التحذيرات».
(2) قوله: «بعض» سقط من (أ).
(3) في (ك): «متلقيًا».(4/292)
للسلعة سوق، فلا يخرج إليها، لأنه التلقي المنهي عنه. غير أنه يجوز أن يشتري في أطراف البلد؛ لأن البلد كله سوقها.
واختلف في وجه النهي عن ذلك. فقيل: ذلك (1) لحق الله تعالى. وعلى هذا: فيفسخ البيعُ أبدًا. وقال به بعض أصحابنا. وهذا إنما يليق بأصول أهل الظاهر. والجمهور على أنه لحق (2) الآدمي لما يدخل عليه من الضرر.
ثم اختلفوا فيمن يرجع إليه هذا الضرر. فقال الشافعي: هو البائع، فيدخل (3) عليه ضرر الغبن. وعلى (4) هذا فلو (5) وقع لم يفسخ، ويكون صاحبه بالخيار. وعلى هذا يدل ظاهر الحديث، فإنه قال فيه: «إذا أتى سيده السوق فهو بالخيار». وقال مالك: بل هم أهل السوق بما (6) يدخل عليهم من غلاء السِّلع. ومقصود الشَّرع الرفق بأهل الحاضرة، كما قد قال: «دع الناس يرزق الله بعضهم من بعض». وكأن مالكًا لم تبلغه هذه الزيادة، أو لم تثبث عنده أنها من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - . وعلى قول مالك فلا يفسخ، ولكن (7) يخير أهل السُّوق، فإن لم يكن سوق، فأهل المصر بالخيار. وهل يدخل المتلقي معهم، =(4/366)=@ أو لا؛ قولان. سبب المنع عقوبته بنقيض قصده (8) . وقد أجاز أبوحنيفة، والأوزاعي التلقي إلا أن يضر بالناس فيُكره. وهذه الأحاديث حجَّة عليهما.
وقوله: «ولا تناجشوا»؛ أصل النخش: الاستثارة والاستخراج. ومنه سُمي الصَّائد: ناجشًا لاستخراجه الصيد من مكانه. والمرادُ به في الحديث: النهي عن أن اد يزيد في ثمن السلعة ليغرَّ غيره، وكأنه استخرج منه في ثمن السلعة ما لا يريد أن يخرجه. فإذا وقع؛ فمن رآه لحق الله تعالى فسخ. ومن رآه لحق المشتري خيره، &(4/293)&$
__________
(1) قوله: «ذلك» سقط من (ك).
(2) قوله: «لحق» لم يتضح في (ك).
(3) في (ك): «يدخل».
(4) في (ك): «فعلى».
(5) في (ك): «لو».
(6) في (ك): «لما».
(7) في (ح): «لكن».
(8) في (ح): «مقصوده».(4/293)
فإما رضي، وإمَّا فسخ.
قال (1) أبو عبيد الهروي: قال أبو بكر: أصل النَّجش: مدح الشيء وإطراؤه. فالنَّاجش (2) يغرُّ المشتري بمدحه ليزيد في الثمن.
وقوله: «لا يبع حاضر لبادٍ»؛ مفسَّر بقول ابن عباس: لا يكن له سمسارًا، وظاهر هذا النهي العموم في جميع أهل البوادي، أهل العمود وغيرهم، قريبًا كانوا من الحضر، أو بعيدًا، كان أصل المبيع (3) عندهم بشراء أو كسب. وإليه صار غير =(4/367)=@ واحدٍ. وحمله مالك على أهل العمود من بعد منهم عن الحضر، ولا يعرف الأسعار، إذا كان الذي جلبوه من فوائد البادية بغير شراء. وإنما قيده مالك بهذه القيود نظرًا إلى المعنى المستفاد من قوله - صلى الله عليه وسلم - : «دع الناس يرزق الله بعضهم من بعض». وذلك: أن مقصوده أن يرتفق أهل الحاضرة بأهل البادية، بحيث لا يضر ذلك بأهل البادية ضررًا ظاهرًا. وهذا لا يحصل إلا بمجموع تلك القيود.
وبيانه: أنهم إذا لم يكونوا أهل عمود كانوا أهل بلاد وقرى، وغالبهم يعرف الأسعار. وإذا عرفوها صارت مقاديرها مقصودة لهم. فلهم أن يتوصلوا إلى تحصيلها بأنفسهم أو بغيرهم. وإذا كان الذي جلبوه عليهم بالشراء فهم تجاز يقصدون الأرباح، فلا يحال بينهم وبينها. فلهم التوصل إليها بالسَّماسرة وغيرهم (4) ، وأقا أهل العمود، والموصوفون بالقيود المذكورة: فان باع لهم الشماسرة وغيرهم ضزوا بأهل الحاضرة في استخراج غاية الأثمان، فيما أصله على أهل البادية بغير ثمن، فقصد الشرع أن يباشروا بيع سلعهم بأنفسهم ليرتفق (5) أهل الحاضرة بالرخص فيما لا ضرر على أهل البادية فيه. وأعرض الشرع عما يلحق أهل البادية
في ذلك دفعًا لأشد الضررين، وترجيحًا لأعظم (6) المصلحتين. &(4/294)&$
__________
(1) قوله: «قال» سقط من (أ).
(2) قوله: «فالناجش» سقط من (أ).
(3) في (ح): «البيع».
(4) قوله: «وغيرهم» سقط من (أ).
(5) في (ح): «ليرفق».
(6) في (أ): «لأعم».(4/294)
واختلف في شراء أهل الحاضرة للبادي. فقيل بمنعه قياسًا على البيع لهم. وقيل: يجوز ذلك؛ لأنه لما صار ثمن سلعته بيده عينًا أشبه أهل الحضر. فإذا وقع هذا البيع فهل (1) يفسخ معاقبة لهم، أو لا يفسخ لعدم خلل ركني من أركان البيع؟ قولان.
وقوله: «لا (2) تُصَرُّوا الإبل والغنم»: روايتنا فيه بضم التاء وفتح الصاد، وضم الراء مشددة بعدها واو الجمع.« الإبلَ» بالنصب، نحو: {فلا (3) تزكوا أنفسكم} (4) ، وهو الصحيح تقييدًا ولغة. وقد قيده بعضهم« لا تَصُرُّوا الإبلَ (5) ») بفتح التاء، =(4/368)=@ وضم الصاد، ونصب« الإبل». وبعضهم: بضم التاء وفتح الصاد، ورفع« الإبل» والأول هو الصحيح. ووجهه: أنها مأخوذة من: صريت اللبن في الضَّرع: إذا جمعته. وليست من الصَّر الذي هو الربط، ولو كانت من ذلك لقيل فيها: مُصَرَّرة. وإنما جاء: مصراة. إلى معناه ذهب أبو عبيد وغيره، وعلى هذا: فأصل« تُصَروا الإبل»: تصريوا، استثقلت الضمَّة على الياء، فنقلت إلى ما قبلها؛ لأن واو الجمع لا يكون ما قبلها إلا مضومًا فانقلبت الياء واوًا، واجتمع ساكنان، فحذفت الواو الأولى، وبقيث واو الجمع ساكنة، فحذفت لاجتماع الساكنين (6) . و«الإبل»: نصب (7) على أنه مفعول«تُصَرُّوا ». هذا أحسن ما قيل في هذا، وأجراه على قياس التصريف.
ومعنى: «التصرية» عند الفقهاء: أن يجمع اللَّبن في الضرع اليومين والثلاثة حتى يعظم، فيظن المشتري: أن ذلك لكثرة اللبن، وعظم الضرع. وهي المسمَّاة أيضًا بـ«الْمُحَفَّلَة» في حديث آخر (8) . يقال: ضرع حافل؛ أي: عظيم. و«الْمحْفَل»: الجمع العظيم. وقال الشافعي: التصرية: أن تربط (9) أخلاف النَّاقة، أو الشاة، ويترك حلبها اليومين والثلاثة حتى يجتمع لبنها، فيزيد المشتري في ثمنها لما يرى من ذلك. قال الخطابي: والذي قال الشافعي صحيح. والعرب (10) تصُرُّ الحلوبات، وتسمي ذلك الرباط: صِرارًا. واستشهد لهم (11) بقول العرب: العبد لا &(4/295)&$
__________
(1) في (أ): «فقيل».
(2) في (ح): «ولا».
(3) في جميع النسخ: «ولا».
(4) الآية (32) من سورة النجم.
(5) قوله: «افبل» سقط من (ح).
(6) قوله: «ساكنة محذوفة لاجتماع الساكنين» سقط من (ح) و(ك).
(7) في (ك): «بصب».
(8) أخرجه البخاري (4/361 و373 رقم 2149 و2164) في البيوع، باب النهي للبائع أن لا يحفل الإبل والبقر والغنم وكل محفلة...، وباب النهي عن تلقي الركبان وأن بيعه مردود.
(9) في (ك): «يربط».
(10) في (ح): «لأن العرب».
(11) في (أ): «واستشهدوا».(4/295)
يحسن الكرَّ، وإنما يحسن الحلب والضرَّ. قال: ويحتمل أن تكون المصراة =(4/369)=@ أصلها: مصرورة (1) ، فأبدل من إحدى الراءين ياءً، كما قالوا: تقضَّى البازيُّ.
واختُلف في الأخذ بحديث الْمُصَرَّاة. فأخذ به الشافعي، وأبو ثور، وأبو يوسف، ومالك في المشهور عنه، وابن أبي ليلى في إحدى الروايتين عنه، وفقهاء أصحاب الحديث. ولم يأخذ به أبو حنيفة، ولا الكوفيون (2) ، ولا مالك، ولا ابن أبي ليلى في الرواية الأخرى عنهما. فقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن: التصرية ليست بعيب، ولا تردّ بذلك (3) . وقد حكي عن أبي حنيفة: أنه يرجع (4) بإرش التصرية. ولهذا الخلاف سببان:
أحدهما: أن هذا الحديث (5) يعارضه قوله في: «الخراج بالضمان» (6) . خرَّجه الترمذي من حديث ابن عباس، وقال فيه: حديث حسن صحيح. ووجهها (7) : أن مشتري المصرَّاة ضامن لها لو هلكت عنده، واللَّبن غثة فيكون له.
وثانيهما (8) : أنه معارضٌ لأصول شرعية، وقواعد كليه. وبيانها بأوجه:
أحدها: أن اللبن مما يضمن بالمثل، والتمر ليس بمثل له (9) .
وثانيها: أنه لما عدل عن المثل إلى غيره فقد نحا به نحو المبايعة، فهو: بيع الطعام بالطعام غير يد بيد، وهو الرِّبا.
وثالثها: أن الصَّاع المقابل للَّبن محدودٌ، واللَّبن ليس بمحدود، فإنَّه يختلف بالكثرة والقلَّة. =(4/370)=@
ورابعها: أن اللبن غلَّة، فيكون للمشتري كسائر المنافع، فإنها لا تردُّ في الردّ بالعيب. ولما كان ذلك، فالحديث وإن كان صحيحًا؛ فإما منسوخ بقوله: «الخراج (10) بالضمان»، وإما مرجوح بهذه القواعد المخالفة له، فإنها قواعد كلية &(4/296)&$
__________
(1) في (ح): «مصررة».
(2) في (ك): «ولا الكوفيون».
(3) في (ح): «ولا يرد ذلك»، وفي (ك): «ولا يرد بذلك».
(4) في (ح): «رجع».
(5) في (أ): «الخلاف».
(6) أخرجه أحمد (6/80 و116)، وأبو داود (3510) في البيوع، باب: فيمن اشترى عبدًا، واستعمله ثم وجد فيه عيبًا، وابن ماجه (2/754 رقم2243) في التجارات، باب الخراج والضمان، وابن الجارود (2/199 -200 رقم126/غوث)، والطحاوي (4/21-22و22)، وابن حبان (11/298 رقم4927/الإحسان)، والحاكم (2/14-15و15)، والبغوي (8/162-163 رقم2118).
جميعهم من طريق مسلم بن خالد الزنجي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً ابتاع غلامًا، فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم، ثم وجد به عيبًا، فخاصمه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فردَّه عليه ن فقال الرجل: يا رسول الله ! قد استغل غلامي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «الخراج بالضمان».
قال أبو داود: «هذا إسناد ليس بذاك». وقال الحاكم: «صحيح الإسناد»، ووافقه الذهبي !
قال الألباني في "الإرواء" (5/195): «قلت: وفيه نظر، فإن الزنجي وإن كان فقيهًا صدوقًا، فإنه كثير الأوهام، كما قال الحافظ في "التقريب"، والذهبي نفسه ترجمه في "الميزان"، وساق له أحاديث مما أنكر عليه، ثم ختم ذلك بقوله: «فهذه الأحاديث وأمثالها ترد بها قوة الرجل ويضعف».اهـ.
وقد توبع الزنجي على روايته: فأخرجه الطيالسي (ص206 رقم1464)، وابن الجعد(2/1005-1006و1006رقم2912و2913)، وأحمد (6/49 و208و237)، وأبو داود (3509) في الموضع السابق، وابن ماجه (2/753-754 رقم2242) في الموضع السابق، والترمذي (3/581-582 رقم1285) في البيوع، باب ما جاء فيمن اشترى العبد، ويستغله، ثم يجد فيه عيبًا، والنسائي (7/254-255 رقم4490) في البيوع، باب الخراج بالضمان، وابن الجارود (2/200 رقم 627/غوث)، والطحاوي (4/21)، وابن حبان (11/299 رقم4928/ الإحسان)، والحاكم (2/15)، والبيهقي (5/321 و321و322)، والبغوي (8/163 رقم2119). جميعهم من طريق ابن أ[ي ذئب، عن مخلد بن خفاف، عن عروة، بهذا الإسناد. قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح، وقد رُوي هذا الحديث من غير هذا الوجه ،والعمل على هذا عند أهل العلم».
قال الألباني في "الإرواء" (5/159): «قلت: ورجاله كلهم ثقات رجال الشيخين، غير مخلد هذا، وثقه ابن وضاح، وابن حبان، وقال البخاري: فيه نظر، وقال الحافظ
في "التقريب": مقبول، قلت: يعني عند المتابعة، وقد توبع في هذا الحديث».
قال الحافظ في "التلخيص الحبير" (3/22): «وصححه ابن القطان، وقال ابن حزم: «لا يصح». والحديث حسنه اللباني في "الإرواء" (5/158-160 رقم1315). وأما قول القرطبي من رواية ابن عباس، فسبق قلم.
(7) في (ح) و(ك): «ووجهه».
(8) في (أ): «وثانيها».
(9) قوله: «له» سقط من (ك).
(10) في (ك): «والخراج».(4/296)
قطعية. ولو لم يكن كذلك فالقياس مقدَّم عند أبي حنيفة، وكثير من الكوفيين، وهو قول مالك في "العتبية"، وفي "مختصر ابن عبدالحكم".
والجواب عن السبب الأول: أنه لا معارضة بينهما؛ لأنا لا نسلم أن اللبن خراج سَلَّمناه (1) . لكنه إذا نشأ على ضمان المشتري، ولبن المصراة نشأ على ضمان البائع؛ فإنَّه كان موجودًا في الضرع حالة التبايع سلّمناه (2) . لكن حديث المصرَّاة خاصٌّ، وحديث الخراج بالضمان عام. ولا معارضة بينهما، لأن الجمع بينهما ممكن بأن يُبنى العام على الخاص. وهو الصحيح على ما مهدناه في أصول الفقه. وحينئذ يبطل قول من زعم: أن حديث المصراة منسوخ بحديث: «الخراج بالضمان». سلمنا المعارضة، لكن المتقدم منهما من المتأخر مجهول، فلا يصح الحكم بالنسخ لعدم العلم بالتاريخ.
والجواب عن السبب الثاني: أن حديث المصرَّاة أصل منفرد بنفسه، مستثنى من تلك القواعد، كما قد استثني ضرب الدِّية على العاقلة، ودية الجنين، والعرية، والجعل، والقراض، عن أصول ممنوعة، لدعاء الحاجة إلى هذه المستثنيات، ولحصول مصالح خاصة منها. وبيانه في مسألة المصراة: أن الشرع إنما ضمن لبنها بالصاع دفعًا للخصام، وسدًّا لذريعة المنازعة لتعذُّر ضبط مقدار اللبن، فإنه يختلف بالكثرة والقلَّة، ولتعذر تمييز اللبن الكائن في الضرع من الحادث. وخصَّه بالطعام (3) ؛ لأنه قوت كاللبن، وبالتَّمر؛ لأنه أغلب قوتهم، ووصفه =(4/371)=@ بقوله: «لا سمراء» رفعًا للحرج في تكلُّف (4) السمراء؛ لقلَّتها عندهم. وعلى هذا: فلم تخرج المصراة عن قانون الالتفات للمصالح، لكنَّها مصالح مخصوصة لا يلحق بها غيرها لعدم نظائرها، ولو سلَّمنا أنها معارضة لأقيسة تلك القواعد من كل وجه، لكن لا نسلم: أن القياس مقدَّم على خبر الواحد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدَّم السُّنة على القياس في حديث معاذ رضي الله عنه حيث قال له: «بم تحكم؟» قال: بكتاب الله. قال (5) : «فإن لم تجد؟» قال: بسنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال: «فإن لم تجد؟» قال: &(4/297)&$
__________
(1) في (ح) و(ك): «سلمنا».
(2) في (ح): «سلمنا».
(3) في (ح): «الطعام».
(4) في (ك): «تكليف».
(5) في (ح): «فقال قال».(4/297)
أجتهد رأيي (1) . والسَّنة: تعم المتواتر (2) ، والآحاد. ولكثرة الاحتمالات في القياسات، وقلّتها في خبر الواحد. وقد أوضحنا هذا في الأصول. وهذا هو الصحيح من مذهب مالك وغيره من المحققين.
وفي حديث المصراة أبواب من الفقه نشير إليها:
منها (3) : أن العقد المنهي عنه، المحرّم إذا كان لأجل الآدمي لم يدلّ على الفساد، ولا يفسخ العقد. ألا ترى: أن التصرية غش محرَّم. ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفسخ العقد، لكن جعل للمشتري الخيار (4) .
ومنها: أن الغرور (5) بالفعل معتبر شرعًا؛ لأنه صار كالتصريح باشتراط نفي العيب. ولا يختلف في الغرور الفعلي. وإنما اختلف في الغرور بالقول، هل هو (6) معتبر أو (7) لا؟ فيه (8) قولان:
فرع: لو كان الضرع كثير اللحم، فظنه المشتري لبنًا، لم يجب له الخيار؛ إذ لا غرور، ولا تدليس، لا بالفعل، ولا بالقول.
ومنها: جواز خيار الشرط. وهذا لا يختلف فيه. وإنما اختلف في مقداره. =(4/372)=@ فذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أن أجل الخيار غايته ثلاثة أيام (9) في كل شيء؛ تمسُّكًا بهذا الحديث، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي شكا إليه: أنه يُخدع في البيوع، فقال له: «إذا بايعت فقل: لا خلابة، وأنت في كل ما تبتاعه بالخيار ثلاثًا» (10) .
وذهب مالك إلى أن أجله غير محدد بحدٍّ (11) ، وإنما (12) هو بحسب ما يحتاج إليه المبيع في اختياره. وذلك يختلف بحسب المبيعات (13) . وتفصيله في الفروع. ويعتذر عن تلك الأحاديث بالقول بموجبها؛ فإنها المدة التي تُختبر فيها المصراة، فتعرف عادتها. ولذلك اختلف أصحابنا في الْحَلْبة الثالثة (14) ، هل تعدُّ رضًا أو لا تُعدُّ؟
وقول مالك: إنها لا تُعدُّ رضًا. وهو الصحيح؛ لن الحلبة الأولى بها ظهرت الدُّلْسَة، وبالثانية تحقَّقت، وبالثالثة تُعرف عادتها. &(4/298)&$
__________
(1) هذا الحديث يروى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: يرويه شعبة، عن أبي عون الثقفي، عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة عن ناس من أصحاب معاذ عن معاذ.
رواه ابو داود في الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء (4/19 رقم3593)، والبيهقي في "الكبرى" (10/114) من طريق ابن داسة عن أبي داود به، والخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" (1/472) من طريق اللؤلؤي عن أبي داود به، وابن عبدالبر في "جامع بيان العلم وفضله" (1592) من طريق بكر بن حماد.
كلاهما - أبو داود، وبكر بن حماد -، عن مسدد، عن يحيى القطان.
ورواه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما جاء في القاضي كيف يقضي (3/607 رقم1328) عن محمد بن بشار، وأحمد بن حنبل (5/230) ومن طريقه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/471).
كلاهما - محمد بشار وأحمد بن حنبل-، عن محمد بن جعفر غندر.
والترمذي في نفس الحديث عن محمد بن بشار، عن عبدالرحمن بن مهدي.
ورواه الطيالسي (559)، ومن طريقه البيهقي (10/114)، والخطيب (1/470).
ورواه أحمد بن حنبل (5/242) والخطيب (1/397) من طريق جعفر بن محمد الصائغ. وهما - أحمد والصائغ -، عن عفان بن مسلم.
رواه عبد بن حميد (124)، والعقيلي في "الضعفاء" عن جده لأمه يزيد بن محمد العقيلي، وهما - عبد ويزيد -، عن سليمان بن حرب، ورواه الدارمي (1/60 رقم170) عن يحيى بن حماد.
ورواه العقيلي (1/215) عن إبراهيم بن محمد، عن مسلم بن إبراهيم، والخطيب (1/471) من طريق حبان، عن ابن المبارك، ورواه البيهقي في "المعرفة" (1/100) من طريق يزيد بن هارون، ورواه ابن عبدالبر في "جامع بيان العلم (1594) من طريق عثمان بن عمر، ورواه المزي في "تهذيب الكمال" (5/266) من طريق أبي الوليد الطيالسي.
جميعهم عن شعبة، عن أبي عون محمد بن عبيدالله الثقفي، عن الحارث بن عمران ابن أخي المغيرة بن شعبة، عن ناس من أصحاب معاذ من أهل حمص، عن معاذ به.
الوجه الثاني: الحارث بن عمرو عن معاذ.
رواه الطيالسي (559)، ومن طريقه البيهقي (10/114).
ورواه الطبراني (20/170 رقم362) من طريق سليمان بن حرب.
كلاهما - الطيالسي وسليمان بن حرب -، عن شعبة، عن أبي عون الثقفي، عن الحارث بن عمرو، عن معاذ به.
الوجه الثالث: الحارث بن عمرو، عن رجال من أصحاب معاذ: ان النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن...، فذكره.
رواه ابو داود (4/18 رقم3592) في الباب السابق، عن حفص بن عمرو، ورواه الترمذي (3/607 رقم1327) في الباب السابق عن هناد بن السري، وأحمد بن حنبل (5/236)، وهما - هناد وأحمد -، عن وكيع.
ورواه ابن عبدالبر في "جامع بيان العلم (1593) من طريق علي بن الجعد. ثلاثتهم - حفص بن عمرو، ووكيع، وابن الجعد، عن شعبة، عن أبي عون الثقفي، عن الحارث بن عمرو، عن رجال من أصحاب معاذ. الحديث.
فمدار هذا الحديث على الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة.
قال عنه البخاري في "التاريخ" (2/277): «الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة الثقفي، عن أصحاب معاذ، عن معاذ، روى عنه أبو عون، ولا يصح، ولا يُعرف إلا بهذا، مرسل.
وهذا يعني أن البخاري رجح المرسل على المتصل.
وقال الترمذي: «هذا حديث لا نعرفه إلا من هذاالوجه، وليس إسناده عندي بمتصل.
وقال الحافظ في "التلخيص" (4/182): «قال الدارقطني في "العلل": رواه شعبة عن أبي عون هكذا، وأرسله ابن مهدي وجماعات عنه، والمرسل أصح، قال أبو داود - يعني الطيالسي-: أكثر ما كان يحدثنا شبعة عن أصحاب معاذ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال مرة: عن معاذ. وقال ابن حزم: لا يصح؛ لأن الحارث مجهول وشيوخه لا يعرفون، قال ابن حزم أيضًا: وادعى بعضهم فيه التواتر، وهذا كذب بل هو ضد التواتر؛ لأنه ما رواه أحد غير أبي عون عن الحارث، فكيف يكون متواترًا. وقال عبدالحق: لا يُسْنَد، ولا يوجد من وجه صحيح. وقال بن الجوزي في "العلل المتناهية": لا يصح وإن كان الفقهاء كلهم يذكرونه في كتبهم ويعتمدون عليه، وإن كان معناه صحيحًا. وقال ابن طاهر في تصنيف له مفرد في الكلام على هذا الحديث: اعلم أنني فحصت عن هذا الحديث في المسانيد الكبار والصغار، وسألت عنه من لقيته من أهل العلم بالنقل؛ فلم أجد له غير طريقين: أحدهما طريق شعبة، والأخرى عن محمد بن جابر، عن أشعت بن أبي الشعثاء، عن رجل من ثقيف، عن معاذ، وكلاهما لا يصح». هذا كله كلام الحافظ في التلخيص. ثم قال: «وقد أخرجه الخطيب في كتاب "الفقيه والمتفقه" من رواية عبدالرحمن بن غنم، عن معاذ بن جبل، فلو كان الإسناد إلى عبدالرحمن ثابتًا؛ لكان كافيًا في صحة الحديث».
فالواقع أن الخطيب لم يخرجه، إنما قال (): «وقد قيل إن عبادة بن نسي روى عن عبد الرحمن بن غنم، وهذا إسناد متصل ورجاله معروفون بالثقة». كذا قال الخطيب ولم يسنده.
وهذا الطريق أخرجه ابن ماجه في المقدمة، باب اجتناب الرأي والقياس (1/21 رقم55)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" () من طريق محمد بن سعيد بن حسان المصلوب، عن عبادة نسي، عن عبدالرحمن بن غنم، عن معاذ، قال: لما بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن قال: «لا تقضين ولا تفصلن إلا بما تعلم، وإن أشكل عليك أمر فقف حتى تُبَيَّنَه، أو تكتب إلي فيه. هذا لفظ ابن ماجه وعند ابن عساكر: قال معاذ: يا رسول الله ! أرأيت ما سئلتُ عنه مما لم أجده في كتاب الله ولم أسمعه منك؟ قال: «اجتهد رأيك».
ومحمد بن سعيد المصلوب قال عنه أحمد: «قتله أبو جعفر في الزندقة، حديثه حديث موضوع». وقال أيضًا: «عمدًا كان يضع». وقال ابن معين: «منكر الحديث». وقال البخاري: «تُرك حديثه». وذكره النسائي فيمن عرف بالوضع بالشام. "تهذيب الكمال" (25/265).
(2) في (ح) و(ك): «التواتر».
(3) في (ح) و(ك): «فمنها».
(4) في (أ): «الخيار للمشتري».
(5) في (ح): «التغرير».
(6) قوله: «هو» سقط من (أ).
(7) في (ح): «أم».
(8) قوله: «فيه» سقط من (ح).
(9) قوله: «أيام» سقط من (ح) و(ك).
(10) سيأتي في باب بيع الخيار والصدق في البيع.
(11) قوله: «بحد» سقط من (ح).
(12) في (ح): «إنما».
(13) في (ك): «وذلك يختلف باختلاف المبيعات»، وفي (ح): «وذلك يختلف بحسب اختلاف المبيعات».
(14) في (ح) و(ك): «الثانية».(4/298)
قلت: ولا يتمشَّى هذا إلا إذا حُلبت في كل يوم حلبة. وأما حديث (1) المخدوع: فالقول بموجبه أيضًا؛ فإن ذلك الخيار صار بالشرط لنصّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على اشتراطه، ولا تزاع فيه إذا لم يكن بعيدًا (2) يلزم منه غررٌ، أو يلحق (3) به ضرر، فلو شرط فيما يختبر في عشرة أيام - مثلاً - ثلاثة لصحَّ البيع (4) ، ولزم الشرط، ولا يختلف في هذا إن شاء الله تعالى.
ومنها: أنَّ التصرية عيبٌ يوجب الخيار. وهو حُجَّة على أبي حنيفة ومحمد بن الحسن؛ حيث قالا: إنَّ التصرية ليست بعيب، ولا يوجب خيارًا. وقد روي عن أبي حنيفة أنها عيب توجب الأرش. وقال زُفر-من أصحاب أبي حنيفة-: يردُّ صاعًا من تمرٍ، أو نصف صاع من بُرٍّ. =(4/373)=@
ومنها: أن بيع الخيار موضوع لتمام البيع، واستقراره. لا للفسخ. وهو أحد القولين عندنا. وقيل: هو موضوع (5) للفسخ. والأول أولى؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «إن شاء أمسكها»، والإمساك: إنما (6) هو استدامة التمسك لما قد ثبت وجوده، كما قال - صلى الله عليه وسلم - لغيلان: «أمسك أربعًا، وفارق سائرهن»؛ أي: استدم حكم العقود السابقة. وقد بيَّناه في ا لأصول.
وقوله: «وإن سخطها (7) ردَّها وصاعًا من تمر»، وفي أخرى: «صاعًا من تمير لا سمراء»، وفي أخرى: «صاعًا من طعام لا سمراء». ذهب الشافعي وأكثر العلماء: إلى أنه لا يجوز فيها إلا الصَّاع من التمر. وقال الداودي: الطعام المذكور هنا هو: التمر. وذهب مالك: إلى أن الثمر إنما ذكر في الحديث؛ لأنه أغلب قوتهم، فيخرج الغالب من قوت بلده؛ قمحا، أو شعيرًا، أو تمرًا؛ متمسكًا بعموم قوله: «طعام»؛ فإنَّه يَعُم التمر وغيره. ومستانسًا بأن الشرع قد اعتبر نحو هذا في الدِّيات، ففرض على أهل الإبل إبلاً، وعلى أهل الذهب الذهب (8) ، وعلى أهل الورق الورق (9) . وكذلك فعل في زكاة الفطر. وقد روي عن مالك رواية شاذَّة: أنه يخرج فيها مكيلة ما حلب من اللبن تمرًا، أو قيمته. وقد تقدَّم قول أبي &(4/299)&$
__________
(1) قوله: «حديث» سقط من (ك).
(2) في (ح) و(ك): «إذا كان بعيدًا».
(3) في (ح): «ويلحق».
(4) في (ح): «العقد».
(5) في (ح): «موضع».
(6) قوله: «إنما» سقط من (ك).
(7) في (ح): «سخطتها».
(8) في (ك): «ذهبًا».
(9) في (ك): «ورقًا».(4/299)
حنيفة وزُفر. وقال أبو يوسف وابن أبي ليلى (1) : يخرج القيمة بالغة ما بلغت. وأحسن هذه الأقوال مشهور مذهب مالك؛ لما ذكرناه، والله أعلم.
واختلف أصحابنا فيما إذا رضي البائع بقبولها بلبنها. فأجازها بعضهم، وقال: هي إقالة. وقال غيره: لا يجوز؛ لأن اللبن غير متعين؛ إذ لا يتميز كائنه عن (2) حادثه، فكيف تصح الإقالة فيه ؟! =(4/374)=@
وقوله: «لا سمراء»؛ هو معطوف على«صاعا» وهمزته للتأنيث، فلذلك لم تصرف. و«السَّمراء»: قمحة الشام. والبيضاء: قمحة مصر. وقيل: البيضاء: الشعير. والسمراء: القمح مطلقًا. وإنما نفاها تخفيفًا، ورفعًا للحرج، وهو يشهد لقول مالك.
- - - - -
ومن باب النهي عن بيع الطعام قبل أن يقبض
قوله - صلى الله عليه وسلم - : «من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه» (3) ، وفي أخرى: «حتى يكتاله». وروى أبو داود من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: =(4/375)=@ نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع أحدٌ طعامًا اشتراه بكيل حتى يستوفيه. وبظاهر هذا الحديث قال مالك. غير أنَّه ألحق بالشراء جميع المعاوضات، وحمل الطعام على عمومه - ربويًا كان أو غير &(4/300)&$
__________
(1) في (ح) و(ك): «وقال ابن أبي ليلى».
(2) في (ك): «من».
(3) رواه أبو داود (3/762 رقم3495) في كتاب البيوع والأجارات، باب في بيع الطعام قبل أن يستوفى، والنسائي في البيوع، باب النهي عن بيع ما اشترى من الطعام بكيل حتى يستوفى (7/286 رقم4604)، والمزي في "تهذيب الكمال" (28/507)، والبيهقي (5/314)، والطحاوي (4/38) من طريق ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن المنذر بن عبيد المديني. ورواه أحمد (2/111 رقم5900) عن إسحاق بن عيسى، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود. كلاهما - المنذر بن عبيد وأبو السود -، عن القاسم بن محمد، عن ابن عمر به.
والمنذر بن عبيد المدني ذكره ابن حبان في "الثقات" (7/480)، وقال ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (10/302) قال ابن القطان: «مجهول الحال»، وقال ابن حجر في "التقريب": «مقبول». وأما إسناد أحمد ففيه ابن لهيعة، وهو ضعيف.(4/300)
ربوي - في مشهور الروايتين عنه. وروى ابن وهب عنه تخصيصه بما فيه الرِّبا (1) من الأطعمة. ورأي ابن حبيب وسحنون: أنه يتعدى إلى كل ما فيه حق توفية، فحذفا خصوصية الطعام، وكذلك فعل الشافعي، غير أنَّه لم يخصَّه بما فيه حق توفية، بل عدَّاه لكل مشترى. وكذلك فعل أبوحنيفة غير أنه اسشنى من ذلك العقار، وما لا ينقل. وقال: يجوز بيع كل شيء قبل قبضه عثمان البَتِّي، وانفرد به.
فحجَّة مالك رحمه الله تعالى للمشهور عنه: التمسك بظاهر الحديث، وعضده بما ذكره في "موطئه": من أنه مجمع عليه بالمدينة، وأنه لا خلاف عندهم في منعه وقصره على ما بيع بكيل، أو وزن من الطعام، تمسكًا بدليل خطاب الأحاديث المتقدّمة.
ثم اختلف أصحابه: هل هذا المنع شرعٌ غير معلل بالعينة، وإليه أشار مالك في "موطئه" (2) ، حيث أدخل هذا الحديث في باب العينة، وهو =(4/376)=@ الذي عنى ابن عباس حيث قال: «يتبايعون بالذهب، والطعام مُرْجَأٌ». وأمَّا الشافعي: فإنما حذف خصوصية الطعام لما صَحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - من نهيه (3) عن ربح ما لم يضمن؛ خرَّجه الترمذي (4) من حديث عبد الله بن عمرو (5) رضي الله عنهما، فهذا اللفظ قد عم الطعام وغيره. ولقول ابن عباس: وأحسب كل شيء مثله.
قلت: ويعتضد مذهب الشافعي بما رواه الدارقطني (6) من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه؛ أنه قال (7) : يا رسول الله! إني أشتري فما يحل وما يحرم علي؟ قال: «يا ابن أخي (8) ! إذا ابتعت شيئًا فلا تبعه حتى تقبضه». وروى أبو داود (9) من حديث (10) زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تباع السِّلع حيث تبتاع، حتى &(4/301)&$
__________
(1) في (ح): «بما فيه من الربا».
(2) (2/498) في البيوع، باب العينة وما يشبهها.
(3) قوله: «من نهيه» سقط من (أ)، وفي (ك): «عن نهيه».
(4) أخرجه الطيالسي (ص298 رقم2257)، وأحمد (2/174 -175و178-179و205)، والدارمي (2/253) في البيوع، باب في النهي عن شرطين في بيع، وأبو داود (/ رقم281) في البيوع، باب الرجل يبيع ما ليس عنده، وابن ماجه (2/737 رقم2188) في التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك وعن ربح ما لم يضمن، والترمذي (3/535-536 رقم1234) في البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك، والنسائي (7/295 رقم4629 و4630و4631) في البيوع، باب سلف وبيع، وهو أن يبيع السلعة على أن يسلفه سلفًا، وباب شرطان في بيع، وهو أن يقول: أبيعك هذه السلعة إلى شهر بكذا، وإلى شهرين بكذا، وابن الجارود (2/182 رقم601)، والحاكم (2/17)، والبيهقي (5/339-340 و343).
جميعهم من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك». قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وصححه أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (10/120)، وحسنه الألباني في "الإرواء" (5/146-147 رقم1305).
ورواه عن عمرو بن شعيب جماعة ما، وهم: أيوب، وابن عجلان، وحسين المعلم، وداود بن قيس، والأوزاعي.
في التمر بالتمر، والترمذي (3/528 رقم1225) في البيوع، باب ما جاء في النهي عن المحاقلة والمزابنة، والنسائي (7/268-269 رقم4545) في البيوع، باب اشتراء التمر بالرطب، وابن الجارود (2/230-231 رقم657)، والطحاوي (4/6)، وابن حبان (11/372 رقم4997/الإحسان)، والدارقطني (3/49)، والحاكم (2/38)، والبيهقي (5/294).
(5) في (ك): «عمرو».
(6) الحديث في "سنن الدارقطني" (3/8 و9).
وهذا الحديث جاء عن حكيم بن حزام رضي الله عنه من طرق كثيرة:
الطريق الأولى: يوسف بن ماهك، عن حكيم بن حزام رضي الله عنه:
رواه أبو داود (3/768 رقم3503) في البيوع، باب الرجل يبيع ما ليس عنده، والطبراني في "الكبير" (3/194 رقم3098) من طريق مسدد، عن أبي عوانة.
ورواه ابن ماجه (2/737 رقم2187) في التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك، والطبراني (3/194 رقم3097)، والبيهقي (5/267) من طرق عن شعبة. ورواه الترمذي (3/534 رقم1232) في البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك، والنسائي (7/289 رقم4613)، وفي "الكبرى" (4/39 رقم 6206)، وأحمد (3/402)، وابن أبي شيبة (4/316 رقم20492)، والطبراني في "الكبير" (3/194 رقم3099) من طرق عن هشيم بن بشير.
ثلاثتهم - أبو عوانة، وشعبة، وهشيم -، عن أبي بشر بن جعفر بن أبي إياس.
ورواه الترمذي (1233) في الموضع السابق، والنسائي في "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف" (3436)، والطبراني في "الكبير" (3/195 رقم3100)، والبيهقي (5/267) من طريق حماد بن زيد.
ورواه الترمذي (3/536 رقم1235)، والنسائي في "الكبرى" كما في "تحفة الشراف" (3436)، والطبراني (3/195 رقم3101) من طريق محمد بن سيرين.
ورواه النسائي في "الكبرى" كما في "تحفة الشراف" (3436)، والطبراني (3/195 رقم3105) من طريق عبدالوارث.
ورواه أحمد (3/402) عن ابن علية. ورواه الطبراني (3/195 رقم3102) من طرق عن حماد بن سلمة. ورواه الطبراني (3/195 رقم3104) من طريق وهيب.
ستتهم - حماد بن زيد، وابن سيرين، وعبدالوارث، وابن علية، وحماد بن سلمة، ووهيب -، عن أيوب السختياني.
كلاهما - بشر وأيوب -، عن يوسف بن ماهك، عن حكيم بن حزام به، وهذا إسناد صحيح. يوسف بن ماهك بن بهزاذ الفارسي المكي مولى قريش وثقه ابن معين والنسائي وابن خراش وابن حبان وابن سعد والذهبي وابن حجر، ولم يتكلم فيه أحد بجرح. وقال الترمذي (3/536): «حديث حكيم بن حزام حديث حسن، وقد روي عنه من غير وجه».
الطريق الثانية: عبدالله بن عصمة، عن حكيم بن حزام رضي الله عنه.
رواه النسائي كما في "تحفة الأشراف" (3428)، والطبراني في "الكبير" (3/196 رقم3108)، وابن الجارود (602) من طريق شيبان.
ورواه ابن حبان (11/358 رقم4983)، والدارقطني (3/9) من طريق همام بن يحيى، ورواه الطحاوي (4/41)، والدارقطني (3/8) من طريق أبان بن يزيد العطار، ورواه الطيالسي (1318)، وابن الجارود (602) من طريق هشام الدستوائي، ورواه الدارقطني (3/9) من طريق عبدالصمد.
خمستهم - شيبان، وهمام، وأبان، وهشام، وعبدالصمد -، عن يحيى بن أبي كثير، عن يعلى بن حكيم. ثم رواه النسائي كما في "تحفة الأشراف" (3428)، وأحمد (3/402) من طريق هشام الدستوائي أيضًا، عن يحيى بن أبي كثير، عن رجل. والظاهر أنه يعلى بن حكيم، كما في الطريق السابق عن هشام.
ورواه الطبراني في "الكبير" (3/196 رقم3107) من طريق عامر الأحول.
كلاهما - يعلى بن حكيم، وعامر الأحول -، عن يوسف بن ماهك، عن عبدالله بن عصمة؛ أخبره: أن عبدالله بن عصمة، أخبره أنه سمع حكيم بن حزام.
وتابع عطاءٌ بن أبي رباح يوسف بن ماهك في السماع من عبدالله بن عصمة.
ورواه النسائي(7/286 رقم4602) في البيوع، باب بيع الطعام قبل أن يستوفى، وأحمد (3/403)، والطحاوي (4/38) من طرق عن ابن جريج قال: أخبرني عطاء أنه سمع عبدالله بن عصمة الجشمي، عن حكيم بن حزام.
ورواه عبدالرزاق (8/38 رقم14212) عن معمر، عن أيوب، عن يوسف بن ماهك، عن رجل: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لحكيم...، فذكره. والظاهر أن هذا الرجل هو عبدالله بن عصمة.
وعبدالله بن عصمة الجشمي قال الحافظ في "التقريب": مقبول. وقال في "التلخيص" (3/10): زعم عبدالحق أن عبدالله بن عصمة ضعيف جدًّا. ولم يتعقبه ابن القطان بل نقل عن ابن حزم أنه قال: هو مجهول، قال الحافظ: وهو جرح مردود فقد روى عنه ثلاثة واحتج به النسائي. اهـ.
قال ابن عبدالبر في "الاستذكار" (19/263): «يختلف في حديث حكيم بن حزام وأسانيده على ما ذكرنا إلا أن عبدالله بن عصمة هذا لم يروه عنه غير يوسف بن ماهك فيما علمت، ويوسف ثقة، وما أعلم لعبدالله بن عصمة جرحة إلا أن من لم يرو عنه إلا واحد.
قلت: قد روى عنه في هذا الحديث اثنان من الثقات يوسف بن ماهك وعطاء بن أبي رباح.
وقال ابن عبدالبر أيضًا في "التمهيد" (13/332): «وهذا الإسناد وإن كان فيه مقال ففيه لهذا المذهب استظهار.
الطريق الثالثة: محمد بن سيرين، عن حكيم بن حزام:
رواه النسائي في "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف" (3434)، والطبراني في "الكبير" (3/206 رقم3138) من طريق عوف بن أبي جميلة.
ورواه والطبراني في "الكبير" (3/206 رقم3139) من طريق عبدالله بن عون، وفي (3140) من طريق الربيع بن صبيح، وفي (3141) من طريق أبي هلال، وفي (3143) من طريق خالد بن دينار، وفي (3144) من طريق يونس بن عبيد، وفي (3145) من طريق هشام بن حسان، وفي (3146) من طريق منصور بن زاذان.
جيعهم عن محمد بن سيرين، عن حكيم بن حزام.
وقد سبق في الطريق الأولى رواية محمد بن سيرين، عن أيوب، عن يوسف بن ماهك، عن حكيم بن حزام، وذلك قال الترمذي (3/536): «وروى هذا الحديث عوف وهشام بن حسان عن ابن سيرين، عن حكيم بن حزام، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا حديث مرسل، وإنما رواه ابن سيرين، عن أيوب السختياني عن يوسف بن ماهك، عن حكيم بن حزام.
الطريق الرابعة: عبدالله بن محمد بن صيفي، عن حكيم بن حزام رضي الله عنه.
رواه النسائي (7/286 رقم4601) في البيوع، باب بيع الطعام قبل أن يستوفى، وفي "الكبرى" (4/37 رقم6196) من طريق حجاج بن محمد، ورواه أحمد (3/403) عن روح بن عبادة، ورواه الطحاوي (4/38)، والبيهقي (5/312)، والطبراني في "الكبير" (3/194 رقم3096) من طرق عن أبي عاصم.
ثلاثتهم - حجاج، ورباح ن وأبو عاصم -، عن ابن جريج قال: أخبرني عطاء، عن صفوان بن موهب؛ أنه أخبره عن عبدالله بن محمد بن صفي به. وهذا إسناد يصلح في المتابعات.
صفوان بن موهب وعبدالله بن محمد بن صفي كلاهما قال عنه الحافظ في "التقريب": «مقول».
الطريق الخامسة: حزام بن حكيم بن حزام، عن أبيه.
رواه النسائي في الموضع السابق (7/286 رقم4603)،وابن أبي شيبة (4/391 رقم2131)، وابن حبان (11/361 رقم4985)، والطحاوي (4/38)، والطبراني ف ي"الكبير" (3/197 رقم3110) من طرق عن أبي الأحص، عن عبدالعزيز بن رفيع، عن عطاء.
ورواه الطحاوي (4/41 رقم5646) من طريق الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن يعبى بن حكيم.
كلاهما - عطاء بن أبي رباح، ويعلى بن حكيم 0، عن حزام بن حكيم، عن أبيه به. وهذا إسناد حسن في المتابعات: حزام بن حكيم وثقه العجلي وابن حبان، وقال ابن حجر في "التقريب": «مقبول».
وهذا يعني أن عطاء سمع هذا الحديث من حزام بن حكيم ومن ثفوان بن موهب، عن عبدالله بن محمد بن صفي، ومن عبدالله بن عصمة.
ثم رواه عطاء بن حكيم بن حزام مباشرة كما عند الطبراني في "الكبير" (3/204 رقم3132) عن عبدان بن أحمد، عن وهب بن بقية، عن خالد بن الحذاء، عن عطاء، عن حكيم بن حزام. فمن مجموع هذه الطرق يتبين لنا صحة هذا الحديث إن شاء الله
(7) في (ك): «أنه قال».
(8) في (ك): «أختي».
(9) رواه أبو داود (3/765 رقم3499) في البيوع، باب بيع الطعام قبل أن يستوفى، وأحمد (5/191)، والطبراني في "الكبير" (5/113 رقم4782 و4783)، والطحاوي (4/38)، وابن حبان (11/360 رقم4983)، والدارقطني (3/13)، والحاكم (2/40)، والبيهقي (5/314) من طرق عن محمد بن إسحاق، عن أبي الزناد، عن عبيد بن حنين، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قَدِمَ رجل من الشام بزيت فساومته فيمن ساومه من التجار حتى ابتعته منه، فقام إليّ رجل فأربحني حتى أرضاني، فأخذت بيده لأضرب عليها، فأخذ رجل بذراعي من خلفي، فالتفت إليه فإذا زيد بن ثابت، فقال لي: لا تبعه حتى تحوزه إلى رحلك، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم.
وهذا إسناد حسن. ومحمد بن إسحاق قد صرح بالتحديث عن أحمد وابن حبان وله متابع. رواه الطبراني في "الكبير" (5/113 رقم4781)، والدارقطني (3/12) من طريق جرير بن حازم، عن أبي الزناد، عن عبيد بن حنين، عن ابن عمر به.
وبهذا يرتفع الإسناد إلى درجة الصحيح. والله أعلم.
(10) قوله: «حديث» سقط من (ك).(4/301)
يحوزها التجار إلى رحالهم. ومتمسَّكات مالك والشافعي تبطل قول عثمان البَتِّي.
وقول ابن عمر رضي الله عنهما: «كنا في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفي عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبتاع الطعام، فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله، وفي الأخرى: «جِزَافًا - وأنهم كانوا - يُضْرَبُون في أن يبيعوه حتى يؤووه إلى رحالهم»؛ دليل لمن سوَّى بين الجزاف في المكيل من الطعام في المنع من بيع ذلك حتى يقبض، =(4/377)=@ ورأى: أن قبض الجزاف نقلُه. وبه قال الكوفيون، والشافعي، وأبو ثور، وأحمد، وداود. وهو (1) على أصولهم في منعه في كل شيء إلا ما استثني حسب ما تقدم، وحمل مالك رحمه الله هذه الأحاديث على الأولى والأحبِّ، فلو باع الجزاف قبل نقله جاز؛ لأنه بنفس تمام العقد، والتخلية بينه وبين المشتري صار في ضمانه، ولدليل الخطاب في قوله (2) - صلى الله عليه وسلم - : «من ابتاع طعامًا بكيل» (3) ، وما في معناه. وإلى جواز ذلك صار البتِّيّ، وسعيد بن المسيب، والحسن، والحكم، والأوزاعي، وإسحاق على أصولهم.
فرع: ألحق مالك رحمه الله بيع الطعام قبل قبضه سائر (4) عقود المعاوضات كلّها، فمن حصل له طعام بوجه معاوضة؛ كأخذه في صلح من دم، أو مهر، فلا يجوز له بيعه قبل قبضه. واستثنى من ذلك الشركة والتولية، والإقالة. وقد روي عنه منعه في الشركة. ووافقه الشافعي، وأبو حنيفة في الإقالة خاصة.
قلت: والذي أوجب استثناء هذه الأربعة (5) العقود عند مالك أنها عقود؛ المقصود بها: المعروف، والرِّفق، لا المشاحة، والمكايسة، فأشبهت القرض. وأولى من هذا: مرسلان صحيحان، مشهوران:
أحدهما: قال سعيد بن المسيب في حديث ذكره -كأنَّه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا &(4/302)&$
__________
(1) في (ح) و(ك): «وهم».
(2) في (أ): «ولدليل خطاب قوله».
(3) تقدم في باب النهي عن بيع الطعام قبل أن يقبض.
(4) في (ك): «بسائر».
(5) قوله: «الأربعة» سقط من (ح) و(ك).(4/302)
بأس =(4/378)=@ بالتولية، والإقالة، والشرك في الطعام قبل أن يستوفى. ذكره أبو داود (1) وقال: هذا قول أهل المدينة.
وذكر عبدالرزاق (2) عن ابن جريج، قال: أخبرني ربيعة بن أبي (3) عبدالرحمن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا مستفاضًا بالمدينة قال: «من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه، ويستوفيه إلا أن يشرك فيه، أو يوليه، أو يقيله».
قلت: وينبغي للشافعي، وأبي حنيفة أن يعملا بهذين المرسلين. أما الشافعي: فقد نصَّ على أنه (4) يعمل بمراسيل سعيد. وأما أبو حنيفة: فإنه يعمل بالمراسيل مطلقًا، كمالك.
وقول أبي هريرة لمروان: «أحللت بيع الصكاك !» إنكار منه عليه، وتغليظ. وهو (5) نصٌّ في أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يفتي على الأمراء وغيرهم. من وهو ردٌّ على من جهل حال أبي هريرة، وقال: إنه لم يكن مفتيًا. وهو قول باطل =(4/379)=@ بما يوجد له من الفتاوي، وبالمعلوم من حاله (6) ؛ وذلك: أنَّه كان من أحفظ الناس لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وألزم الناس للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولخدمته حضرًا، وسفرًا. وأغزرهم علمًا.
و«الصكوك»: جمع صَكٌ. وهي: التواقيع السُّلطانية بالأرزاق. وهذا البيع الذي أنكره أبو هريرة للصُّكوك إنما هو بيع من اشتراه من رزقه، لا بيع من رزقه؛ لأن الذي رزقه وصل إليه الطعام على جهة العطاء، لا المعاوضة. ودليل ذلك ما ذكره مالك في "الموطأ" (7) ، قال: إن صكوك الجار خرجت للناس في زمن مروان من طعام الجار، فتبايع الناس تلك الصكوك بينهم قبل أن يستوفوها، وذكر الحديث في "الموطأ" (8) أيضًا: أن حكيم بن حزام ابتاع طعامًا أمر به عمر للناس، فباع (9) حكيم الطعام حتى يستوفيه، فبلغ ذلك عمر، فردَّه، وقال: لا تبع &(4/303)&$
__________
(1) أخرجه عبدالرزاق (8/49 رقم14257) عن معمر، وأبو داود في "المراسيل" (ص178 رقم198) من طريق سليمان بن بلال. كلاهما - معمر، وسليمان، عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن، عن سعيد بن المسيب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «التولية، والإقالة، والشركة سواء». وهو ضعيف لإرساله.
(2) في "المصنف" (14257) عن ابن جريج، أخبرني ربيعة بن أبي عبدالرحمن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا مستفاضًا بالمدينة... فذكره.
(3) قوله: «أبي» سقط من (ك).
(4) في (ح): «فإنه نص على أن».
(5) في (ك): «وهذا».
(6) من قوله: «وهو قول باطل....» إلى هنا سقط من (ح) و(ك).
(7) (2/497 و497-498 رقم43و44) في البيوع، باب العينة وما يشبهها.
والجار موضوع معروف. انظر "معجم البلدان" (2/92-93).
(8) (2/641)، والبيهقي (5/315) من طريق مالك عن نافع: أن حكيم بن حزانم ابتاع طعامًا أمر به عمر بن الخطاب...، فذكره.
ورواه عبدالرزاق (8/29 رقم 14170) عن معم ر، عن أيوب، عن نافع: أن حكيم بن حزام كان يشتري الأرزاق في زمن عمر بن الخطاب من الجار فنهاه عمر أن يبيعها حتى يقبضها.
ورواه البيهقي (5/312) من طريق عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: أن حكيم بن حزام...، فذكر مثل رواية مالك، لكنه زاد في الإسناد: عن ابن عمر.
(9) في (ح) و(ك): «عمر بن عبدالعزيز فباع». (3) في (أ) و(ح): «البيعتين».(4/303)
طعامًا ابتعته قبل أن تستوفيه.
فإن قيل: فما في "الموطأ" يدل على فسخ البيعين (1) : بيع المعطى له، وبيع المشترى منه؛ إذ فيه: أن مروان بعث الحرس لينتزعوا الصكوك من أيدي الناس، ولم يفرق. فالجواب ما(4) قد بينه بتمام الحديث، حيث قال: ويردُّونها إلى من ابتاعها. وكذلك فعل عمر بحكيم، فإنه ردَّ الطعام =(4/380)=@ عليه؛ لأنه هو الذي كان اشتراه من الذي أعطيه، فباعه قبل أن يستوفيه كما قد(5) نصَّ عليه فيه. والجار موضع معروف بالسَّاحل كان يجتمع فيه الطعام فيُرزق الناس منه.
- - - - -
ومن باب بيع الخيار
قد تقدَّم القول على أصل الخيار في الباب (2) قبل هذا. و«البيِّعان» تثنية« بيع (3) »، وهو يقال على البائع والمشتري (4) . كما يقال كل واحد منهما على الآخر. وهو اسم فاعل من: باع. كما يقال: تيِّق، من: تاق، وميِّقٌ من: ماق. &(4/304)&$
__________
(1) 4) في (ح) و(ك): «بما». ... (5) قوله: «قد» سقط من (ك).
(2) قوله: «في الباب» سقط من (ح).
(3) في (ح): «بائع».
(4) في (ح) و(ك): «وعلى المشتري».(4/304)
وقوله: «كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا»، وفي الرواية الأخرى: «وكانا جميعًا»؛ ظاهر ألفاظ (1) هذا الحديث وإن كثرت متواردة على ثبوت خيار المجلس لكل واحد من المتبايعين. وإن التفرُّق المذكور فيه؛ إنما هو بالأبدان. وإليه ذهب كثير من الصحابة والتابعين، كسعيد بن المسيب، والزهري، وابن أبي ذنب، والليث، والثوري، وسفيان بن عيينة، وابن المبارك، والأوزاعي، والشافعي، وأهل الظاهر. وذهبت طائفة من أصحابنا وغيرهم: إلى أنه محمول على ظاهره، لكن على جهة الندب، لا على الوجوب. وترك العمل به مالك، وربيعة، وأبو حنيفة، ومحمد بن الحسن، وأبو يوسف، والثوري، والنخعي =(4/381)=@ في أحد قوليهما. ورأوا: أن التفرُّق إذا حصل بالأقوال وجب البيع، ولا خيار إلا إن اشترط.
والذي لأجله ترك مالك العمل بظاهر الحديث: ما نص عليه في "الموطأ" (2) لما ذكر هذا الحديث، ثم قال: وليس لهذا عندنا حدٌّ معروف، ولا أمر معمول به. وظاهر هذا: أن أهل المدينة اتفقوا على ترك العمل به. وليس ذلك الظاهر بصحيح؛ لأن سعيد بن المسيب والزهري وابن أبي ذئب من أهل المدينة وقد قالوا به، وقد أنكره ابن أبي ذئب على مالك. وقد اعتذر أصحابنا عن مالك بأعذار كثيرة أجمعها: ما ذكره القاضي أبو بكر بن العربي فقال على قول مالك: ليس لهذا عندنا حدٌّ معروف؛ يريد: أن فرقتهما ليس لها وقت معلوم. وهذه جهالة وقف البيع عليها، فيكون كبيع الملامسة، والمنابذة. وكبيع على (3) خيار إلى أجل مجهول. وما كان كذلك فهو فاسد قطعًا، ولا يعارض هذا الأصل بظاهر لم يتحصَّل المراد منه مفهومًا؛ إذ تفسير ابن عمر ليس بحجة، ولهذا عدل عن ظاهره &(4/305)&$
__________
(1) في (ح): «اللفظ».
(2) (2/518) في البيوع، باب بيع الخيار.
(3) قوله: «على» سقط من (ك).(4/305)
الفقهاء السبعة، وغيرهم من السَّلف. وأوَّلوه على أنه قد روي في بعض طرقه: ما لم =(4/382)=@ يتفرَّقا، إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل (1) له أن يفارقه خشية أن يستقيله (2) . رواه الليث عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكره. فظاهر (3) هذه الزيادة مخالف (4) لظاهر أول الحديث، فإن تأول من أخذ بظاهر الحديث لفظ الاستقالة: باختيار الفسخ تأولنا لفظ الخيار باختيار الاستقالة، وإذا (5) تقابل التأويلان وقف الحديث. والقياس في جانبنا.
قلت (6) : وهذا كلام وجيزٌ في لفظه، جامعٌ في معناه لكل ما (7) يَتَمسَّك به متمسِّك من المالكيِّين، وممن هو على مذهبهم. فلنقتصر عليه. والله الموفق.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «إلا بيع الخيار»؛ معناه على مذهب الشافعي: أن خيار المجلس لا أثر له مع وجود خيار الشرط، فلو تفرَّقا مع اشتراط خيار الثلاث لم يجب البيع بنفس التفرُّق، بل بمضي مدة الخيار المشترط، ويكون هذا الاستثناء من قوله: «لا بيع بينهما»، وهو استثناء موجب من منفيّ. فكأنه قال: كلٌّ بيِّعَين (8) فلا حُكم لبيعهما ما داما في مجلسهما إلا بيع الخيار المشترط، فحكمه باق إلى مدته، =(4/383)=@ وإن افترقا بالأبدان. ويمكن تنزيله على مذهب ماللك على هذا النحو، غير أن التفرُّق يحمل على التفرُّق بالأقوال، ويكون البيعان بمعنى المتساومين. غير أن الاستثناء يكون منقطعًا؛ لأن المتبايعين بالخيار الشرطي ليسا متساومين، بل متعاقدين، فيكون تقديره: لكن بيع الخيار يلزم حكمه بانقضاء مدته. والله أعلم. وقد تقدَّم القول (9) في بيع الخيار وفي مدته. &(4/306)&$
__________
(1) في (ح): «ولا تحل».
(2) أخرجه أحمد (2/183)، وأبو داود (... رقم3456) في البيوع، باب في خيار المتبايعين، والترمذي (3/550 رقم1247) في البيوع، باب ما جاء في البيعين بالخيار ما لم يتفرقا، والنسائي (7/251-252 رقم4483) في البيوع، باب وجوب الخيار للمتبايعين قبل افتراقهما بأبدانهما، وابن الجارود (2/196 رقم 620)، والدارقطني (3/50)، وعنه البيهقي (5/294).
جميعهم من عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله». قال الترمذي: «حديث حسن».
وصحح إسناده أحمد شاكر ف يتعليقه على"المسند" (11/10 رم6721). وحسنه الألباني في "الإرواء" (5/155 رقم1311).
(3) في (ح): «وظاهر».
(4) في (ح): «مخالفة».
(5) في (ك): «فإذا».
(6) قوله: «قلت» سقط من (ح).
(7) في (ح): «معناه إذ كلما».
(8) في (أ): «يتعين».
(9) في (ح): «الكلام».(4/306)
وقول نافع: «إن ابن عمر كان إذا بايع رجلاً، وأراد ألا يقيله، قام فمشى (1) هنيهة ثم رجع إليه»؛ دليل: على أن ابن عمر كان يرى التفرُّق بالأبدان، وأن ذلك بيع يجوز. وحينئذ يعارضه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «ولا (2) يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله»، ويعتذر عن ابن عمر بأن هذه الزيادة لم يسمعها، أو لم تصح عنده. وقد حكى أبو عمر الإجماع: على جواز ما فعل ابن عمر. فإن صحَّ هذا، فتلك الزيادة متروكة الظاهر (3) بالإجماع.
و«هنيهة (4) »: تصغير هنةٍ، وهي كلمه يعبَّر بها عن كل شيء (5) قليل.
وقوله: «فإن صدقا وبيَّنا»؛ أي: إن صدقا في الإخبار عن الثمن والمثمون فيما يباع مرابحة، وبيّنا ما فيها من العيوب. =(4/384)=@
و«بورك لهما (6) »؛ أي: بورك في الثمن: بالنماء، وفي المثمون بدوام الانتفاع به.«وإن كذبا، وكتما، محقت تلك البركة»؛ أي: ذهبت، ورفعت. والرَّجل الذي كان يخاغ في البيوع، هو: حَبَّان بن منقذ بن عمرر الأنصاري، والد يحيى وواسع، ابني حبَّان، شهد أحدًا. أتى عليه مائة وثلاثون سنة، وكان شُجَّ في بعض مغازيه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مأمومة خُبل منها عقله، ولسانه (7) .
وذكر الدارقطني (8) : أنه كان ضرير البصر. وقد روي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل له عهدة الثلاث (9) ؛ إذ كان أكثر مبايعته في (10) الرَّقيق.
و«الخلابة»: الخديعة. ومنه قولهم: إذا لم تًغْلِب فاخلُبْ.
وقوله: «لا خيابة» روايتنا فيه: بالياء باثنتين من تحتها مكان اللام. وهو الصحيح؛ لأنه كان ألثغ، يخرج اللام من غير مخرجها. وقد رواه بعضهم: «لا &(4/307)&$
__________
(1) في (ح) و(ك): «فتمشى».
(2) في (ح): «لا».
(3) قوله: «الظاهر» سقط من (ح) و(ك).
(4) في (ح) و(ك): «هنية».
(5) قوله: «شيء» سقط من (أ).
(6) في (أ) و(ح): «فيهما».
(7) أخرجه الحميدي (2/292-293 رقم662)، وأحمد (2/129-130)، وابن الجارود (2/158-159 رقم567)، والدارقطني (3/54-55)، والحاكم (2/22)، والبيهقي (5/273).
جميعهم من طريق محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال: إن حبَّان بن منقذ رجلاً ضعيفًا، وكان قد سفع في رأسه مأمومة، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له الخيار فيما اشترى ثلاثًا، وكان قد ثقل لسانه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «بع، وقل: لا خلابة»، فكنت أسمعه يقول: لا خذابة، لا خذابة، وكان يشتري الشيء فيجيء به أهله، فيقولون: هذا غال، فيقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيرني في بيعي.
وصححه الذهبي في "تلخيص المستدرك".
(8) في "سننه" (3/54)، والطبراني في "الأوسط" (....).
كلاهما من طريق ابن لهيعة، عن حبان بن واسع، عن طلحة بن يزيد بن ركانة: أنه كلَّم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في البيوع، فقال: ما أجد لكم شيئًا أوسع مما جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحبان بن منقذ؛ إنه كان ضرير البصر، فجعل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهدة ثلاثة أيام، إن رضي أخذ، وإن سخط ترك.
قال الطبراني: «لا يروى عن عمر إلا بهذا الإسناد، تفرد به ابن لهيعة».
(9) جاء هذا التحديد في رواية محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وفي رواية ابن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حيان:
أولا: رواه الحميدي (2/292 رقم662)، وابن الجارود (2/158 رقم567)، والدارقطني (3/54 رقم217)، والحاكم (2/22)، والبيهقي (5/273) من طريق سفيان بن عيينة.
ورواه البيهقي (5/273) من طريق يونس بن بكير.
كلاهما - سفيان ويونس -، محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن منقذًا سفع في رأسه في الجاهلية مأمومة، فخبلت لسانه، وكان إذا بايع يخدع في البيع، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «بايع وقل: لا خلابة، ثم أنت بالخيار ثلاثًا، قال ابن عمر: فسمعته يبايع ويقول: لا خذابة.
ثانيًا: رواه البخاري في "التاريخ الصغير" (1/87)، وفي "الكبير" (8/17) عن عياش بن الوليد. ورواه الدارقطني (3/55 رقم220)، والبيهقي (5/274) من طريق محمد بن عمرو بن العباس الباهلي.
كلاهما - عياش، ومحمد بن عمرو -، عن عبدالأعلى.
ورواه البيهقي (5/273) من طريق يونس بن بكير.
كلاهما-عبدالأعلى ويونس-، عن محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن يحيى بن حبان قال: كان جدِّي منقذ بن عمرو أصابته آمة في رأسه، فكسرت لسانه ونازعت عقله، وكان لا يدع التجارة، ولا يزال يغبن، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إذا بايعت فقل: لا خلابة، وأنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال»، وعاش ثلاثين ومائة سنة، وكان في زمن عثمان حين كثر الناس يبتاع في السوق فيغبن، فيصير إلى أهله، فيلومونه، فيرده ويقول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلني بالخيار ثلاثًا، حتى يمر الرجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول: صدق.
وقد ساق البيهقي هذا الأثر بعد سياقه لحديث ابن عمر، وفيه: قال محمد بن إسحاق: فحدثت بهذاالحديث محمد بن يحيى بن حبان فقال: كان جدي... وذكره.
قلت: ومدار هذين الحديثين على محمد بن إسحاق، وهو مدلس، لكنه صرح بالتحديث عند البيهقي في رواية يونس بن بكير، ثم قال ابن إسحاق في آخر حديث ابن عمر: فحدثت بهذا الحديث محمد بن يحيى بن حبان فقال: كان جدي... الخ. وهذا يعني أنه سمع الحديثين كليهما، لكن إسناد محمج بن يحيى بن حبان غير متصل؛ لنه لم يذكر فيه سماعه.
وقد روى الدارقطني (3/57) من طريق ابن لهيعة، عن حبان بن واسع، عن أبيه، عن جده: أن عمر بن الخطاب لما أستخلف قال: أيها الناس ! إني نظرت فلم أجد لكم في بيوعكم شيئًا أمثل من العهدة التي جعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحبان بن منقذ: ثلاثة أيام، وذلك في الرقيق.
وابن لهيعة ضعيف، وانفرد به، واختلف عليه في إسناده؛ فرواه البيهقي (5/274) من طريق أسد بن موسى عنه، عن حبان بن واسع، عن طلحة بن ركانة؛ أنه كلَّم عمر ف يالبيوع.. فذكر مثله. والله أعلم.
(10) قوله: «في» سقط من (أ).(4/307)
خيانة» بالنون، وليس بالمشهور. وفي غير كتاب مسلم: أنه كان يقول: لا خذابة - بالذال المعجمة -. وهذا الحديث قد رواه الترمذي (1) من حديث أنس. وقال: هو =(4/385)=@ الصحيح. وقال فيه: إن رجلاً كان في عقله ضعف، وكان يبايع، وأن أهله أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله! احجز عليه. فدعاه نبي الله - صلى الله عليه وسلم - (2) ، فنهاه، فقال: يا رسول الله! إني لا أصبر عن البيع! فقال: «إذا بايعت فقل: لا خلابة». وخرَّجه أبو داود وقال فيه: «إن كنت غير تارك للبيع فقل: ها وها ولا خلابة (3) »). وذكره البخاري في "التاريخ" (4) وقال (5) فيه: «إذا بايعت فقل: لا خلابة، وأنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال»، وفيه أبواب من الفقه مختلف فيها:
أولها: أن من كان يخدع في البيوع (6) لقلة خبرته، وضعف عقله، فهل يحجر في عليه أم لا؟ فقال بالحجر عليه أحمد، وإسحاق. وقال آخرون: لا يحجر عليه. والقولان في المذهب (7) .
وثانيها: أن الغبن هل يوجب الخيار للمغبون أم لا؟ فذهب الشافعي وأبو حنيفة، ومالك - فى أحد قوليه - إلى نفي الخيار. وذهب آخرون إلى لزوم الخيار. وإليه ذهب البغداديون من أصحابنا.
ثم اختلف هؤلاء في حدِّ الغبن الموجب للخيار. فمنهم من حدَّه بالثلث. ومنهم من حدَّه بالمتفاحش (8) الذي لا يُتغابن بمثله.
وثالثها: مدَّة الخيار. هل هي مقدَّرة بالثلاث في كل مبيع، أو يختلف ذلك بحسب الاحتياج إلى اختيار المبيع على ما قد تقدم. =(4/386)=@ &(4/308)&$
__________
(1) أخرجه أحمد (3/217)، وأبو داود (.... 3501) في البيوع، باب في الرجل يقول في البيع: لا خلابة، وابن ماجه (2/788 رقم2354) في الأحكام، باب ما جاء فيمن يخدع في البيع، والترمذي (3/552 رقم1250) في البيوع، باب ما جاء يخدع في البيع، والنسائي (7/252 رقم4485) في البيوع، باب الخديعة في البيع، وابن الجارود (2/159-160 رقم568)، وابن حبان (11/430 و431 رقم 5049 و5050/الإحسان)، والحاكم (4/101)، والبيهقي (6/62).
جميعهم من سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس: أن رجلاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبايع، وكان في عقدته - يعني عقله - ضعف، فأتى أهله نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا نبي الله ! احجر على فلان، فإنه يبايع وفي عقدته ضعف، فدعاه نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فنهاه عن البيع، فقال: يا نبي الله ! لا أصبر عن البيع، فقال نبي الله: «إن كنت غير تارك للبيع فقل: هو ها ولا خلابة، ولا ها لا خلابة».
قال الترمذي: «حسن صحيح غريب».
وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
ورواه عن سعيد: عبدالوهاب بن عطاء، وعبدالأعلى.
(2) من قوله: «فقالوا....» إلى هنا سقط من (ح).
(3) من قوله: «إذا بايعت فقل....» إلى هنا سقط من (ح).
(4) أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (8/17-18 رقم1990)، وابن ماجه (2/789 رقم2355) في الأحكام، باب الحجر على من يفسد ماله، والدارقطني (3/55-56)، والبيهقي (5/273-274).
جميعهم من طريق محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن يحيى بن حبان قال: كان جدي منقذ بن عمرو وأصابته آمة في رأسه، فكسرت لسانه، ونقصت عقله، وكان يغبن في البيوع، وكان لا يدع التجارة، فشكا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إذا بعت فقل: لا خلابة، وأنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال». الحديث.
قال الزيلعي في "نصب الراية" (4/7): «وهي مرسلة».
(5) في (ح) و(ك): «قال».
(6) في (أ): «من خدع في البيع»، وفي (ح): «كان...» وكتب الناسخ تحت كان «كل»، والمثبت من (ك).
(7) قوله: «والقولان في المذهب» سقط من (ح).
(8) في (ك): «بالتفاحش». (4) في (ك): «أم». ... (5) في (ح): «أو».(4/308)
وسبب الخلاف في هذه الأبواب اختلافهم في هذا الحديث. هل هو خاصٌّ بهذا الرجل، أو هو عام له ولغيره، وإذا تنزلنا على حمله على العموم، فهل دلالة هذا الحديث على هذه الأحكام ظاهرة فيها، أو(4) لا؟ وإذا تنزلنا على الظهور. فهل سلمت مِمَّا يعارضها، أم(5) لا؟ وبسط هذا يستدعي تطويلاً.
- - - - -
ومن باب النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها
قوله: «نهى عن بيع النخل حتى يزهو (1) أو حتى تزهي (2) »، جاء الحديث باللفظتين. يقال: أزهت الثمرة تزهو، وأزهت، تزهي: إذا بدا طيبها وتلونها. =(4/387)=@ حكاه صاحب الأفعال. قال ابن الأعرابي: يقال: زها النخل يزهو: إذا ظهرت ثمرته. وأزهى: إذا احمرَّ أو اصفرَّ، قال غيره: «يزهو» خطأ في النخل (3) . وإنما هي: يزهي لا غير (4) . وحكاهما أبو زيد. وقال الخليل (5) : أزهى الثمر: بدا صلاحه. قال غيره: هو ما احمرَّ منه واصفرَّ. وهو الزَّهو والزُّهو معًا.
قلت: أحاديث هذا الباب؛ وإن اختلفت ألفاظها متواردة على النهي عن بيع &(4/309)&$
__________
(1) في (ح) و(ك): «تزهو».
(2) قوله: «أو حتى تزهي» ليس في النسخ الثلاث.
(3) قوله: «في النخل» سقط من (ح) و(ك).
(4) في (ح): «وقال غيره هو خطأ، وإنما هو يزهي»، وفي (ك): «وإنما يقال يزهى».
(5) قوله: «وحكاه أبو زيد وقال الخليل» ليس في(أ)، وفيها: «الأصمعي لا يقال في النخل».(4/309)
الثمرة (1) - وإن أُبِّرت - حتى تصلح لأن يؤكل منها أكلاً غالبًا. وهل ذلك النهي محمول على ظاهره من التحريم - وهو مذهب الجمهور - أو على الكراهة - وهو مذهب أبي حنيفة -؟ وعليه: فلو وقع بيع الثمرة قبل أن يبدو صلاحها، فسخه الجمهور، وصححه أبو حنيفة إذا ظهرت الثمرة، وبناء على أصله في ردِّ أخبار الآحاد للقياس (2) . والصحيح مذهب الجمهور للتمسُّك بظاهر النهي، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : «أرأيت إن منع الله الثمرة، بم يأخذ (3) أحدكم مال أخيه بغير حق !». وهذا يدل على أن بيعها قبل بدوِّ صلاحها من أكل المال بالباطل، ولأنَّه غررٌ، وبيع الغرر محرَّم.
وعلى مذهب الجمهور؛ فهل يجوز بيعها قبل بدوِّ الصلاح بشرط القطع =(4/388)=@ - وهو مذهب عامتهم (4) -، أو لا يجوز؛ وإن شرطه؟ وهو مروي عن الثوري، وابن أبي ليلى، تمسكًا بعموم تلك الأحاديث. وخصصه العامة بالقياس الجلي؛ لأنه مبيع (5) معلوم، يصح قبضه حالة العقد عليه (6) ، كسائر المبيعات، فإن وقع بيعها قبل بدوِّ الصلاح من غير شرط؛ فهل يصح، ويُحمل على القطع، أو لا ويفسخ (7) قولان، وبالثاني قال الجمهور؛ لأنه إذا لم يشترط القطع تناوله النهي عن بيع الثمار قبل بدوِّ صلاحها. وقد اتفق العلماء: على أنه لا يجوز شراؤها قبل البدوِّ على التبقية، فأمَّا بعد الطيب فيجوز اشتراط البقاء عند كافة العلماء، خلا ما ذكر من مذهب الحنفي (8) ، وكذلك له الإبقاء وإن لم يصرَّح باشتراطه عند مالك، إذ لا يصح اجتناء الثمرة دفعة واحدة؛ لأن تناهي طيبها ليس حاصلاً حالة التعاقد، وإنما يحصل في أوقات مختلفة. وقد شذَّ ابن حبيب، فقال: هي على الْجَدِّ حتى يشترط البقاء. وما صار إليه مالك أوضح المسالك. =(4/389)=@ &(4/310)&$
__________
(1) في (ح): «التمر».
(2) في (ح): «إلى القياس».
(3) في (ح): «يأكل».
(4) في (ح) و(ك): «الجمهور» بدل «عامتهم».
(5) في (ح) و(ك): «بيع».
(6) قوله: «عليه» سقط من (ك).
(7) في (أ): «يفسخ».
(8) قوله: «خلا ما ذكر من مذهب الحنفي» سقط من (ح) و(ك).(4/310)
- - - - -
ومن باب (1) النَّهي عن المزابنة
ووزنها: مفاعلة، ولا تكون إلا بين (2) اثنين. وأصلها في اللغة: الدفع السديد. ومنه وصفت الحرب بـ«الزَّبون» لشدة الدفع فيها. وبه سُمِّي الشُّرطي: زِبنيًا (3) ؛ لأنه يدفع الناس بعنف وشدة. ومنه: زَبْنُ النَّاقة الإناء عند الحلب. ولما كان كل واحد من المتبايعين يدفع الآخر في هذه المبايعة عن حقه سميت بذلك. هذا معنى المزابنة لغة. وأمَّا معناها في الشرع: فقد جاء تفسيرها في هذه الأحاديث بألفاظ مختلفة، كما وقع في الأصل. وحاصلها عند الشافعي: بيع مجهول بمجهول، أو بمعلوم من جنس يحرم الرِّبا في نقده. وخالفه مالك في هذا القيد، فقال: سواء كان مما يحرم الرِّبا في نقده، أو لا، مطعومًا، أو غير مطعوم. &(4/311)&$
__________
(1) في (ح): «قوله ومن باب».
(2) في (أ): «من».
(3) في (ح): «زبينًا».(4/311)
وقوله في المزابنة: هي بيع ثمر النخل بالتمر كيلاً، وبيع الزبيب بالعنب كيلاً؛ يعني: أن يكون (1) أحدهما بالكيل والآخر بالجزاف، للجهل بالمقدار في =(4/390)=@ الجنس، فيدخله الخطر. وإذا كان هذا ممنوعا للجهل من جهة واحدة، فالجهل من جهتين؟ كجزاف بجزاف أذخل في المنع، وأولى. وهذا الحديث يشهد للشافعي على تفسيره للمزابنة، فإنه ما ذكر في الحديث الأول إلا النخل، والعنب. وكلاهما يحرم الرِّبا في نقده، وألحق بهما ما في معناهما. وأما مالك ففهم أن المنع فيها (2) إنما كان من حيث الغرر اللاحق في الجنس الواحد، فعذاه لكل جنس وجد فيه ذلك المعنى. والله أعلم.
و«المحاقلة» مفاعلة من الحقل، وهي: المزارعة (3) ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - =(4/391)=@ للأنصار: «ما تصنعون بمحاقلكم؟»، يعني: مزارعهم (4) . وفي مثل العرب: لا تنبت البقلة إلا الحقلة. وهي التي تسمى في العراق: القراح. وقال الليث: هي بيع الزرع قبل أن يغلظ. وقال أبو عبيد: هي بيع الطعام في سنبله بالبر. وقال قوم: هي المزارعة بالجزء مما تنبته الأرض. وسيأتي القول في (5) كراء الأرض. &(4/312)&$
__________
(1) قوله: «يكون» سقط من (ك) و(ح).
(2) في (أ): «فيهما».
(3) في (ح): «المرزعة».
(4) في (ك): «بمزارعكم».
(5) في (ك): «الكلام على» بدل: «القول في».(4/312)
- - - - -
ومن باب الرُّخصة في بيع العَرِيَّةِ
وهي (1) في اللغة - على ما نقله الجوهري -: النخلة يُعْرِيهَا صاحبها رجلاً محتاجًا، فيجعل ثمرها له عامًا، فيغروها، أي: يأتيها. وهي: فعيلة، بمعنى: مفعولة. وإنما أدخلت فيها الهاء لأنها أفردت، فصارت في عداد (2) الأسماء، كالنطيحة، وأكيلة، ولو جئت بها مع النخلة؛ قلت: نخلة عري. وأنشد لسويد بن الصامت:
لَيْسَتْ بِسَنْهاء ولا رُجَّبِيَّة ولكن عَرَايَا في السِّنِين الْجَوائح
وقال غيره: هي فعيلة، بمعنى: فاعلة؛ أي: عريت من منك مُعْريها. وقال غيرهما: عراه، يعروه: إذا أتاه يطلب منه عرية، فأعراه؛ أي: أعطاه إياها، كما =(4/392)=@ يقال: سألني فأسألته. وطلبني فأطلبته. فالعريَّة: اسم للنخلة المعطى ثمرها. فهي اسم لعطيَّة خاصة. وقد سمت العرب عطايا خاصة بأسماء خاصة، كالمنيحة: لعطية الشاة لِلَّبن (3) . والإفقار: لما ركب فقاره. والإخبال: لما ينتفع به من المال.
قلت: فقد حصل من نقل أهل اللغة: أن العرية عطيه؛ لا بيعٌ. ولما ثبت &(4/313)&$
__________
(1) في (ح) و(ك): «هي».
(2) في (ح): «عدد».
(3) في (أ): «كالمنيحة لشاة اللبن».(4/313)
ذلك فسَّر مالك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، والأوزاعي العرية المذكورة في الحديث: بأنَّها (1) إعطاء الرَّجل من جملة حائطه نخلة أو نخلتين عامًا، على ما تقتضيه اللغة (2) . غير أنهم اختلفوا في شروط كثيرة، وأحكام متعددة. وحاصل مذهب مالك في العرية: أنها عطية ثمرة نخلة أو نخلات من حائط، فيجوز لمن أُعطيها أن يبيعها إذا بدا صلاحها من كل أحد بالعين، والعروض، ومن معطيها خاصة بخرصها تمرًا، وذلك بشروط:
أحدها: أن تكون (3) أقل من خمسة أوسقٍ. وفي الخمسة خلاف.
وثانيها: أن تكون بخرصها من نوعها ويابسها نخلاً، وعنبًا. وفي غيرهما مما يوسق، ويدخر للقوت، خلاف.
وثالثها: أن تقوم بالخرص عند الجداد.
ورابعها: أن يكون المشترى (4) جملتها، لا بعضها.
وخامسها: أن يكون بيعها عند طيبها، فلو باعها من الْمُعْرِي قبل ذلك على شرط القطع لم يجز، لتعدِّي محل الرُّخصة.
وأما الشافعي: فالعريه عنده: بيع الرُّطب في رؤوس النخل بتَمْر مُعَجَّل. فلم يعرج على اللغة المعروفة فيها. وكأنه اعتمد في مذهبه على تفسير يحيى بن سعيد راوي الحديث (5) ، فإنه قال: العرية: أن يشتري الرجل ثمر النخلات لطعام أهله رطبًا بخرصها تمرًا. وهذا لا ينبغى أن يعوَّل عليه؛ لأن يحيى بن سعيد ليس صحابيًّا، فيقال: فهمه (6) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا رفعه للنبي (7) - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يثبت به عرف غالب =(4/393)=@ شرعي حتى يرجِّحه (8) على اللغة. وغايته: أن يكون رأيًا ليحيى، لا رواية له، ثم يعارضه (9) تفسير (10) ابن إسحاق، فإنه قال: العرايا: أن يهب الرجل للرجل (11) النخلات، فيسَّن عليه أن يقوم عليها، فيبيعها بمثل خرصها. ثم هو عين المزابنة &(4/314)&$
__________
(1) في (أ): «فإنها».
(2) في (ح): «اللغة عندهم».
(3) في (ك): «يكون».
(4) في (ك): «للمشتري».
(5) قوله: «الحديث» سقط من (أ)، وكتب في حاشيتها: «لعله راويه».
(6) في (أ): «فهم».
(7) في (ح): «عن النبي».
(8) في (ك): «نرجحه».
(9) في (ك): «نعارضه».
(10) في (ح) و(ك): «بتفسير».
(11) قوله: «للرجل» سقط من (أ).(4/314)
المنهي عنها، ووضع رخصة في موضع لا ترهق إليه حاجة وكيدة، ولا (1) تندفع بها مفسدة، فإن المشتري لها بالتمر متمكن من بيع تمره بعين أو عروض، ويشتري بذلك رطبًا، فإن قيل: قد يتعذَّر هذا. قيل: فأجز (2) بيع الرُّطب بالتمر؛ إذا كان الرطب (3) لا على رؤوس النخل؛ إذ قد يتعذر بيع التمر على من هو عنده ممن يريد أن يشتري الرطب به، ولا بجوز ذلك، فلا يجوز تفسير العرية بما ذكر (4) .
وأمَّا أبو حنيفة: فإنَّه فسَّر العرية بما إذا وهب رجل ثمر نخلة، أو نخلات، ولم يقبضها الموهوب له، فأراد الواهب أن يعطي الموهوب له تمرا، ويتمسك بالثمرة، جاز له ذلك؛ إذ ليس من باب البيع، وإنما هو من باب الرجوع في (5) الهبة؛ التي لم تجب بناء على أصله في (6) أن الهبة لا تجب إلا بالقبض. وهذا المذهمب إبطال لحديث العريه (7) من أصله فيجب إطراحه (8) . وذلك: أن حديث العرية (9) تضمن أنه بيع مُرَخَّص فيه في مقدار مخصوص. وأبو حنيفة يلغي هذه القيود الشرعية.
وقوله: «رخص (10) في بيع العريه بخرصها تمرًا يأكلها أهل البيت رطبًا »، الخِرْصُ -بكسر الخاء - هو: اسم للمخروص، وبفتحها هو: المصدر. والرواية هنا: بالكسر. و«أهل البيت»- على مذهب مالك ومن قال بقوله -: هم الْمُعْرُون، فيضمنون مقدار العرية، فيدفعون ذلك للمعرى له (11) تمرًا عند الجداد رفقًا به حيث كفي المؤن، وأعطي ما يقتات به. ويحصل من ذلك للمعري (12) دفع ضرر =(4/394)=@ تكرار دخول المعرى له إلى عريته لتعاهدها، وسقيها، واجتنانها. فظهر لمالك: أن العرية إنما رخص فيها لأنها (13) من باب المعروف، والرفق، والتسهيل في فعل الخير، والمعونة عليه. وأما على (14) مذهب الشافعي: فأهل البيت عنده هم (15) : المشترون الذين يشترون الرطب بالتمر ليأكلوها (16) رطبًا. فظهر (17) له: أن الموجب لهذه الرخصة هو حاجة من له تمر لأكل الرطب. وقد ذكرنا آنفًا ضغف هذا المعنى.
وقوله: «فيما دون خمسة أوسق»، أو«في خمسة أوسق»؛ دليل على أن في العرية إنما تجري (18) فيما يُوسَّق ويُكال. ثم هل تقتصر (19) على التمر والزبيب، أو يلحق =(4/395)=@ بهما ما في معناهما (20) مما يُدَّخر للقوت؟ قولان؛ وقد تقدَّما. والأولى: التعدية، &(4/315)&$
__________
(1) في (أ): «فلا».
(2) في (ح): «فأجدر».
(3) قوله: «الرطب» سقط من (ح) و(ك).
(4) في (ح): «بما ذكروا».
(5) من قوله: «إنما هو من....» إلى هنا سقط من (ح).
(6) قوله: «أصله في» سقط من (ح).
(7) في (ح): «إبطال للعرية».
(8) قوله: «فيجب إطراحه» سقط من (ح) و(ك).
(9) في (ح): «الحديث العرية».
(10) في (ح) و(ك): «ورخص».
(11) قوله: «له» سقط من (ح).
(12) قوله: «للمعري» سقط من (ك).
(13) في (أ): «أنها».
(14) قوله: «على» سقط من (ح).
(15) في (ح): «البيت عندهم».
(16) في (ح): «ليأكلونها».
(17) في (ح) و(ك): «وظهر».
(18) في (ح): «تجزي».
(19) في (ك): «تقصر».
(20) في (ك): «معناها».(4/315)
والإلحاق؛ لأن المنصوص عليه في الحديث التمر، وقد ألحق بها الزبيب قولاً واحدًا عندنا، وليس منصوصًا عليه، ولا سبب للإلحاق (1) إلا أن الزبيب في معنى التمر، فيلحق (2) بهما كل ما في معناهما من المدخر للقوت.
وقد وسَّع المناط يحيى بن عمرمن أصحابنا فقاس سائر الثمارعلى النخل والعنب، فأجاز بيع الثمار كلها بخرصها إذا طابت (3) إلى الجداد. وشذَّ في ذلك شذوذًا منكرًا لم يقل به أحدٌ من أهل العلم. وقد دلَّ هذا الحديث على قصر الرُّخصة على هذا القدر فلا يزاد عليه. لكن هذا إنما شرط في بيعها من مغريها بخرصها كما تقدَّم، وأمَّا من غيره، أو منه بالعين أو بالعروض، فجائز مطلقًا من غير تقدير. هذا هو المشهور عن المذهب. وقد روي عنه أنه لا يجوز شراؤها للمعري إلا بالخرص خاصة، لا بغيره؛ لأنه من باب: العود في الهبة، ومحل الرُّخصة الخرص فيقتصر (4) عليه. وهذا هو سبب الخلاف في أكثر مسائل هذا الباب؛ أعني: هل يقاس على الرخص، أو لا؟
وقوله: «فيما دون خمسة أوسق، أو في خمسة أوسق»، هو شكٌّ من داود بن الحصين. وموضع الشك: الخمسة. فتطرح (5) ، ويعوَّل على أن الجواز مخصوص بما دونها لأوجه:
أحدها: أن الحكم لا يثبت بالشك.
والثاني: أن الأصل في المزابنة المنع، إلا فيما تحققت فيه الرخصة، ولم تتحقق هنا في الخمسة، بل فيما دونها.
والثالث: أن الخمسة الأوسق هو أول مقادير المال الكثير، الذي تجب فيه =(4/396)=@ الزكاة من هذا النوع. ويكون مالكه من الأغنياء الذين (6) يجب (7) عليهم مواساة الفقير. وهو الذي لا نصاب له، فقصر المرفق على من هو من نوع الفقراء مناسب لتصرف الشرع. وبهذا قال الشافعي، إلا أنه قال: لا أفسخ البيع في مقدار خمسة أوسق، وأفسخه فيما فوقها.
قلت: والأولى فنمخه؛ لأن الأصل متعه؛ لأنه مزابنة، ولم يتحقق الرافع &(4/316)&$
__________
(1) في (أ): «الالحاق».
(2) في (أ): «فيحلق».
(3) قوله: «إذا طابت» سقط من (ح).
(4) في (ح): «فيقصر».
(5) في (ح) و(ك): «فيطرح».
(6) من قوله: «تجب فيه الزكاة....» إلى هنا سقط من (أ).
(7) في (ح): «تجب».(4/316)
للمنع. وقد تقدَّم: أن مالكًا يشترط (1) في جواز بيع العرية من معريها أن تُقَوَّم بالخرص عند الجداد. وهو قول جل أصحابه. ولم يجيزوه بالنقد. وزعم بعضهم: أن ذلك قد (2) جاء في الحديث. ولم أقف عليه في شيء من كتب الحديث مع طول بحثي عنه. ومثل هذا الشرط لا يثبت إلا بالسمع، فكأنَّ عند مالك بذلك (3) سمع ولم يبلغنا، والله أعلم.
تنبية: العرية عندنا مستثناة من أصول ممنوعة: من المزابنة، والغرر، ومن ربا التفاضل، والنَّساء، ومن الرجوع في الهبة. والذي سوَّغها ما فيها من المعروف، والرفق، وإزالة الضرر. كما قدَّمناه، والله أعلم.
- - - - -
ومن باب من ابتاع نخلاً بعد أن تُؤَبَّر
قوله: «من ابتاع نخلاً بعد أن تُؤَبَّر فثمرتها للذي باعها»، أبار النخل، وتأبيره: تلقيحه، وتذكيره. وهو: أن يجعل (4) في النخلة فحالة، وعند ذلك يثبت =(4/397)=@ ثمرها (5) بإذن الله تعالى (6) . يقال: أَبَرْتُ النخلة، أبُرها بكسر الباء وضمها، فهي مأبورة. ومنه قولهم: «خير المال مهرة مأمورة، وسكَّة مأبورة» (7) .
ويقال: أبرت النخلة (8) - مشدَّدًا - تأبيرًا. وهي مؤبَّرة، كقوِّمت الشيء تقويْمًا، وهو (9) مقوَّم. ويقال (10) : تأبَّر الفسيل: إذا قبل الإبار. قال الراجز (11) : &(4/317)&$
__________
(1) في (أ): «شرط».
(2) قوله: «قد» سقط من (ح) و(ك).
(3) قوله: «بذلك» سقط من (أ).
(4) في (ح): «تجعل».
(5) في (ح): «ثمرتها».
(6) قوله: «بإذن الله تعالى» سقط من (ح) و(ك).
(7) أخرجه أحمد (3/468)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (1/439 رقم1407)، وابن سعد (7/79)، والطبراني في "الكبير" (7/91 رقم6471)، والبيهقي (10/64)، والبغوي (10/387 رقم2647).
جميعهم من طريق روح بن عبادة، عن أبي نعامة العدوي، عن مسلم بن بديل، عن إياس بن زهير، عن سويد بن هبيرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «خير مال المرء: مهرة مأمورة، او سكة مأبورة». كذا رفعه روح بن عبادة.
وتابعه على رفعه:
1 - عبدالوارث بن سعيد: أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (1/438-439 رقم1407)، والطبراني في "الكبير" (7/91 رقم6470).
2 - حماد بن أسامة: أخرجه ابن الأعرابي في "معجمه" (1/270 رقم500)، وعنه القضاعي في "مسند الشهاب" (2/231 رقم1251). وخالفهم معاذ بن معاذ، فقال البخاري في "التاريخ الكبير" (1/439): «وقال معاذ، عن أبي نعامة بإسناده، عن سويد: بلغني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ».
قال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (4/233 رقم998): «سويد بن هبيرة العدوي البصري، تابعي ليست له صحبة، كذا رواه عبدالوارث، ومعاذ بن معاذ، عن أبي نعامة، عن إياس بن زهير، عن سويد بن هبيرة قال: بلغني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في السكة المأبورة، وغلط روح بن عبادة، فروى عن أبي نعامة، عن إياس بن زهير، عن سويد بن هبيرة قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - . سمعت أبي يقول ذلك».
وقال ابن حبان في"الثقات" (4/323) في ترجمة سويد بن هبيرة: «يروي المراسيل». وانظلا "الإصابة" (4/304). والحديث ضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" (ص429 رقم2926).
(8) في (ح) و(ك): «النخل».
(9) في (ح): «فهو».
(10) في (أ): «وفقال».
(11) .....(4/317)
تَأَبَّرِي يا خَيْرَةَ الفَسِيل إِذْ ضَنَّ أهلُ النَّخل بالفُحُول
ويقال: ائتبرت؛ إذا سألت غيرك أن يأبُرَ لك نخلك، أو زرعك. قال:
وَلِيَ الأصل الذي في مثله يُصلِح الآبِرُ زَزءعَ المؤتَبر
هذا إبار ثمر النخل، وإبار كل ثمر بحسب ما جرت العادة بإنه إذا
فعل به (1) ثبت ثمره (2) وانعقد. ثم قد يعبَّر به عن ظهور الثمرة وعن انعقادها، وإن لم يفعل فيها (3) شيء. ومن هنا اختلف أصحابنا في إبار الزرع. هل هو ظهوره على الأرض، أو إفراكه، وإذا تقرَّر هذا، فظاهر هذا الحديث يقتضي بلفظه: أن الثمرة المأبورة لا تدخل مع أصولها إذا بيعت الأصول إلا بالشرط (4) . ويقتضي دليل خطابه: أن غير المأبورة داخلة في البيع. وهو مذهب مالك، والشافعي، والليث (5) . وذهب أبو حنيفة: إلى أن الثمرة للبائع قبل الإبار وبعده. وقال ابن أبي ليلى: الثمرة للمشتري قبل الإبار وبعده. وهذا القول مخالف للنص الصحيح، فلا يلتفت إليه. وأما أبوحنيفة فالخلاف معه مبين على القول بدليل الخطاب، فهو ينفيه. وخصمه يثبته. والقول بدليل الخطاب في مثل هذا ظاهر؛ لأنه لو كان حكم غير =(4/398)=@ المؤبر حكم المؤبر لكان تقييده بالشرط لغوًا (6) لا فائدة له. فإن قيل (7) : فائدته التنبيه بالأعلى على الأدنى. قيل له: ليس هذا بصحيح لغة ولا عرفًا. ومن جعل هذا بمنزلة قوله تعالى: {فلا تقل لهما أفّ} (8) ، تعين أن يقال لفهمه: أفّ، وتف.
وقوله: «إلا أن يشترطه (9) المبتاع»؛ يعني: الثمر المؤبر لا يدخل مع الأصول في البيع إلا بالشرط. وصحَّ اشتراطه؛ لأنه عينٌ موجودة، يحاط بها، أمن سقوطها غالبًا (10) ، بخلاف التي لم تؤبَّر، إذ ليس سقوطها مأمونًا، فلم يتحقق لها وجود، فلا يجوز للبائع اشتراطها، ولا استثناؤها، لأنها كالجنين. هذا هو المشهور عندنا. وقيل: يجوز استثناؤها. وهو قول الشافعي. وخرج هذا الخلاف على الخلاف في المسمى. هل هو مبقى على ملك البائع، أو هو مشترى من المشتري؟ &(4/318)&$
__________
(1) في (ح) و(ك): «فيه».
(2) في (ح): «ثمرته».
(3) قوله: «فيها» سقط من (ح).
(4) في (ح): «بالشروط».
(5) قوله: «والليث» سقط من (ح).
(6) في (ك): «لغو».
(7) في (ح) و(ك): «قيل له».
(8) الآية (23) من سورة الإسراء.
(9) في (ح) و(ك): «يشترط».
(10) قوله: «غالبًا» سقط من (ح).(4/318)
فرع: لو اشترى النخل وبقي الثمر للبائع؛ جاز لمشتري الأصل شراء (1) الثمرة. قبل طيبها على مشهور قول (2) مالك. ويرى لها حكم التبعيه؛ وإن أفردت بالعقد لضرورة تخليص الرقاب. وعنه في رواية: أنه لا يجوز. وبذلك قال الشافعي، والثوري، وأهل الظاهر، وفقهاء الحديث. وهذا (3) هو الأظهر من أحاديث النهي عن بيع الثمار (4) قبل بدوِّ صلاحها.
وقوله: «من باع عبدًا، فمال للبائع إلا أن يشترطه المبتاع»؛ دليل على صحة قولنا: إن العبد يملك، خلافًا للشافعي، وأبي حنيفة، حيث قالا: إنه لا يملك. وقد تقدَّم ذلك (5) . ويلتحق بالبيع في هذا الحكم كل عقد معاوضةٍ، كالنكاح، =(4/399)=@ والإجارة. فأما العتق فيتبع العبد فيه مالُهُ؛ لما رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من أعتق عبدًا وله مال، فمال العبد له، إلا أن يشترط السَّيد». وقد رواه مالك في "الموطأ" موقوفًا على ابن عمر رضي الله عنه. ولا يضره التوقيف، فإن المرفوع (6) صحيح السند. وهذا الحديث حجة على أبي حنيفة، والشافعي، حيث قالا: إن المال في العتق للسيد. فأمَّا في الصدقة والهبة، فهل يتبعه ماله فيهما، أو (7) لا؟ قولان، سببهما تردُّدهما بين البيع والعتق؛ إذ فيهما شَبَهٌ (8) من كل واحد منهما. وذلك: أن الهبة، والصدقة خروج من ملك إلى ملك، فاشبهت البيع، وخروج عن ملك بغير عوض، فاشبهت العتق. والأرجح: إلحاقها بالبيع، وقطعها (9) عن العتق؛ لاختصاص العتق بمعنى لا يوجد في غيره، على ما قد (10) أوضحه أصحابنا في كتبهم. وأما الجناية: فالمال فيها تبع للرَّقبة، فينتقل بانتقالها؛ لأن العبد الجاني إذا كان له مال فالجناية فيه، فإن (11) وسع الجناية بقيت الرقبة لسيده، وإن لم يكن له مال؛ تعلَّقت برقبته، فكان (12) الرقبة مرجع عند العدم. =(4/400)=@ &(4/319)&$
__________
(1) في (ك): «شري».
(2) في (أ): «مذهب».
(3) قوله: «وهذا» سقط من (ح) و(ك).
(4) في (أ): «الثمرة».
(5) قوله: «ذلك» سقط من (ك).
(6) في (ح): «الموقوف».
(7) في (ك): «أم».
(8) في (ح): «شبهة».
(9) في (أ): «وقطعهما».
(10) قوله: «قد» سقط من (ك).
(11) في (أ): «وإن».
(12) في (ح): «فكانت».(4/319)
- - - - -
ومن باب النَّهي عن المحاقلة والمخابرة والمعاومة (1)
قد تقدَّم القول في أصل اشتقاق المحاقلة. وقد فسَّرها ها هنا جابر: بأنَّها معنى بيع الزرع القائم بالحب كيلاً. وقال الجوهري في الصحاح: المحاقلة: بيع الزرع في سنبله بالبرِّ. وقد نُهِي عنه.
قلت: وهذا يرجع إلى المزابنة، كما قدمناه. وقد فسرها غيره: بأنها كراء الأرض بما يخرج منها. وهو الذي صار إليه أصحابنا (2) . فأمَّا المخابرة فمأخوذة من الخبر - بضم الخاء - وهو النصيب. هكذا حكاه أهل اللغة، وأنشدوا عليه:
إِذَا مَا جَعلت الشاة للناس خبرة فَشَأنُك أنِّي ذاهبٌ لِشُؤوني
وقال ابن الأعرابي: أصل المخابرة مأخوذ من خيبر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان (3) قد أقرها في أيدي أهلها على النصيب منها، فقيل: خابرهم؛ أي: عاملهم في خيبر.
قلت: وعلى هذا فلا تكون المخابرة منهيًا عنها، وقد ثبت النهي عنها فهي (4) غيرها. والصحيح ما حكاه الجوهري وغيره: أن (5) المخابرة هي المزارعة بجزء مما &(4/320)&$
__________
(1) في (أ): «والمعاوضة».
(2) في (ح): «أصحابنا إليه».
(3) في (ح): «كان قد».
(4) في (ح): «في».
(5) قوله: «أن» سقط من (ك).(4/320)
يخرج من الأرض. وهو: الخِبْر أيضًا -بالكسر- ويشهد له ما ذكرناه آنفًا عن اللغويين. وعلى هذا فيكون الفرق بين المحاقلة والمخابرة: أن المحاقلة كراء الأرض بما يخرج منها مطلقًا. والمخابرة: كراؤها بجزء مما (1) يخرج منها؛ كثلث وربع. وقد قال بعض الناس: إنهما بمعنى واحد. والمشهور ما ذكرناه. وهو الأولى. والله تعالى أعلم. وسيأتي القول في كراء الأرض.
وقوله: نهى (2) عن بيع الثمرة (3) حتى تطعم، ولا تباع إلا بالدراهم أو الدنانير (4) =(4/401)=@ إلا العرايا»؛ هذا المساق فيه تثبيجٌ بالتقديم والتأخير، وذلك لا يجوز بالاتفاق (5) ، لا بهما، ولا بالعروض إلا على شرط القطع. فيجوز بالعين، والعرض، فلا يصح أن يكون ذلك استثناء من بيع الثمرة بوجه، وإنما يصح رجوع الاستثناء للمحاقلة، والمخابرة، فإنها هي التي نهي عن بيعها إلا بالعين، كما يأتي بعد هذا (6) في حديث رافع بن خديج حيث (7) قال: «أمقا بالذهب والورق فلا بأس به (8) ».
وقوله: «إلا العرايا»؛ مستثنى من المزابنة، كما جاء في الحديث المتقدِّم. وترتيب هذا الحديث أن يقال (9) : نهى عن المحاقلة، والمخابرة إلا بالدنانير أو الدراهم (10) ، وعن المزابنة إلا العرايا. وهذا واضح، والله أعلم. =(4/402)=@
وقوله زيد بن أبي أُنَيْسة لعطاء: «أسمعت جابر بن عبدالله يذكر هذا عن &(4/321)&$
__________
(1) في (ك): «ما».
(2) في (ح) و(ك): «ونهى».
(3) في (ح) و(ك): «الثمر».
(4) في (ح): «والدنانير».
(5) في (ح): «وذلك باتفاق لا يجوز».
(6) زاد في (ح): «إن شاء الله تعالى».
(7) قوله: «حيث» سقط من (ح) و(ك).
(8) في (أ): «فيه».
(9) في (ك): «يقول».
(10) في (ح) و(ك): «والدراهم».(4/321)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال نعم»؛ تحتمل هذه الإشارة أن تكون عائدة إلى الحديث، وتفسيره المتقدم. فيكون كل ذلك من قول (1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويحتمل أن تكون عائدة إلى الأمور التي نهى عنها في صدر الحديث (2) لا إلى التفسير. وهو الأولى؛ لقول عطاء: فسَّر لنا جابر، فذكر التفسير (3) .
التشقيح والتشقية - بالحاء والهاء - كما فسَّره الراوي بقوله: أن تحْمَرَّ وتَصْفَرَّ، ويؤكل منها. وكذلك فسَّره (4) أهل اللغة فقالوا: يقال أشقح النخل، وشقَّح - مشدَّدًا -: إذا أزهى. ويقال: أشقه (5) النخل - بالهاء - فيبدلون من الحاء هاءَ لتقارب مخرجيهما (6) .
والمعاومة: بيع الثمر (7) أعوامًا. وهو المعبَّر عنه (8) باللفظ الآخر (9) : بيع (10) السنين. ولا خلاف في تحريم بيعه؛ لكثرة الغرر والجهل.
والثُّنْيَا - بالضم والقصر (11) ، على وزن الكُبرى - هي: الاسم من الاستثناء، =(4/403)=@ وكذلك: الثَّنوى - بفتح الثاء - على وزن: طَرْفَى. ذكر ذلك في الصحاح. قال الهروي: بيع الثُّنيا هو: أن يُستثنى من المبيع شيء مجهول، فيفسد البيع. وقال القتبي (12) : هو أن يبيع شيئًا (13) جزافًا ويستثنى منه شيئًا.
قلت: والحاصل: أن الثنيا اسم جنس لما فيه استثناء، سواء كان ذلك من البائع، أو من المبتاع. فيكون الأصل (14) في كل ذلك المنع لأجل النَّهي، غير أن في ذلك تفصيلاً يظهر بصور:
الأولى: جائزة باتفاق، وهي: أن يسثني البائع نخلات معينات من حائط، قلَّت، أو كثرت؛ لأن البيع لم يقع عليهن، بل على ما عداهن.
الثانية: أن يستثنى نخلات مجهولات، أو كيلاً مجهولاً من الثمرة؛ على أن يعين ذلك بعد البيع. فذلك ممنوع فاسد باتفاق؛ لتناول النهي له وللجهل بالمبيع والغرر (15) .
الثالثة: أن يستثني من الثَّمر كيلاً معلومًا. فذهب الجمهور إلى أن ذلك لا يجوز منه قليل ولا كثير. ورأوا أن ذلك النهي متناول له (16) ؛ لما فيه من الجهالة. &(4/322)&$
__________
(1) في (ح): «ذلك عن».
(2) من قوله: «ويحتمل أن تكون....» إلى هنا سقط من (أ).
(3) قوله: «التفسير» سقط من (ح).
(4) من قوله: «الراوي بقوله....» إلى هنا سقط من (أ).
(5) في (ح) و(ك): «شقه».
(6) في (ح) و(ك): «مخرجها».
(7) في (ح): «الثمرة».
(8) في (ك): «وهي المعبر عنها».
(9) قوله: «باللفظ الآخر» سقط من (ح).
(10) في (ح) و(ك): «ببيع».
(11) في (ح): «بالقصر والضم».
(12) في (ك): «القتيبي».
(13) قوله: «شيئًا» سقط من (ح) و(ك).
(14) قوله: «الأصل» سقط من (ح).
(15) قوله: «وللجهل بالمبيع والغرر» سقط من (ح) و(ك).
(16) قوله: «له» سقط من (ح).(4/322)
وذهب مالك في جماعة أهل المدينة: إلى أن ذلك جائز فيما بينه وبين ثلث الثمرة، ولا يجوز زيادة (1) على ذلك. ورأوا: أن خرص الثمرة وحَزْرها مما يُعرف =(4/404)=@ مغدارها، وأن استثناء (2) القليل منها لا يكثر فيه (3) الغرر. والقليل من الغرر مغتفر في مواضع كثير من الشرع. وما دون الثلث قليل.
قلت: وهذا تخصيص للعموم بالنظر.
الرابعة: أن يستثنى جزءًا من الثَّمرة مشاعًا. فيجوز عند مالك وعامة أصحابه، قلَّ، أو كثر. وذهب عبد الملك: إلى أنَّه لا يجوز استثناء الأكثر. والخلاف في ذلك مبني على جواز استثناء أكثر من الأقل، وعدم جوازه. وقد بيّنا جوازه في الأصول(6).
الخامسة: أن يقول البائع للمشتري: أبيعك هذا الشيء بكذا، على أنك إن جئتني بالثمن إلى أجل كذا رددت عليك ملكك. فهذا فاسد للنهي عنه، ولأنه ذريعة للسَّلف الذي يجر نفعًا. ويفسخ ما لم يَفُتْ، فإن فات ضمن بالقيمة، ويُفيتُه ما يُفيت البيع الفاسد.
السادسة: أن يعقد المشتري على أنه إن لم يأت بالثمن إلى وقت كذا فلا بيع بينهما. فاختلف فيه. فبعضهم أبطل الشرط، وصحح العقد. ومنهم من ألزم قائله الشرط، وجعل للآخر الخيار. والوجهان مرويان عن مالك. =(4/405)=@ &(4/323)&$
__________
(1) في (ح): «زائدًا».
(2) في (ح): «استثنى».
(3) في (ح): «فيها». ... ... (6) في (ح) و(ك): «أصول الفقه».(4/323)
- - - - -
ومن باب كراء الأرض
نَهْيُه - صلى الله عليه وسلم - عن كراء الأرض (1) وقوله: «من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها (2) أخاه، ولا يُكْرِها (3) »)؛ حجَّة لمن منع (4) كراء الأرض مطلقًا، وحرَّمه (5) ؛ وهم: رافع بن خديج، وابن عمر - فيما رجع إليه (6) -، وطاووس اليماني، وأبو بكر بن =(4/406)=@ عبد الرحمن، والحسن البصري. وخالفهم في ذلك الجمهور. ثم هم فريقان:
الأول: أجاز كراءها بكلِّ ما يجوز أن يكون ثمنًا في البياعات من العروض (7) ، والذهب، والفضة، والأطعمة المضمونة. وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، والأوزاعي، والثوري، متمسكين بقول الله تعالى: {وأحل الله البيع} (8) ، والإجارة بيعٌ، وبقول (9) رافع (10) : أما بالذهب والفضة (11) فلا بأس. وفي طريق آخر: أما بشيء معلوم مضمون فلا بأس (12) ، وبقياس إجارة الأرض على العقار، وهو من أقوى أنواع القياس، لأنه في معنى الأصل. واعتذر هؤلاء عن أحاديث النَّهي بوجهين:
أما أبو حنيفة: فعلى أصله في ترجيح القياس على خبر الواحد (13) . وأما الشافعي ومن قال بقوله: فيمكن أن يقال: حملوا مطلق تلك النواهي على &(4/324)&$
__________
(1) في (ح): «كراء الأرض مطلقًا».
(2) في (أ): «يذرعها».
(3) قوله: «ولا يكرها» سقط من (ك).
(4) في (ح): «منع ذلك».
(5) في (ك): «وحزمه».
(6) قوله: «وابن عمر فيما رجع إليه» سقط من (ح) و(ك).
(7) في (ك): «من المبيعات العروض».
(8) الآية (275) من سورة البقرة.
(9) في (ك): «ويقول».
(10) في (ك): «رافع بن خديج».
(11) في (ح): «أو بالفضة».
(12) في (ح): «فلا بأس به».
(13) في (ح): «الآحاد».(4/324)
مقتدها، ورأوا: أن محل النهي إنما هو ما لم يكن مضمونًا، ولا معلومًا. ويمكن أن يقال: إنهم صرفوا ظاهر النهي إلى التنزه عن ترك الأولى والأحسن، كما فهم (1) ابن عباس حيث قال: لم ينه عن ذلك (2) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إنما قال: «يمنح أحدكم أرضه خير من أن يأخذ عليها خرَجًا معلومًا»، وفي اللفظ الآخر: «لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له (3) من أن يأخذ عليها (4) كذا وكذا - لشيء معلوم -». وقوله: «لم ينه (5) »؛ أي: لم ينه عنه (6) نهي تحريم، بل نهي تنزيه، على ما تقرر.
الفريق الثاني: وهو (7) مالك وأصحابه. فالمشهور من مذهبه: أنه لا يجوز كراؤها بشيء من الطعام كان؛ مما تُنبته، أو مما لا تنبته؛ كالعسل واللبن وغيرهما، ولا بشيء مما تنبته ما عدا القصب والخشب. وقال ابن كنانة: لا يكري بشيء إن أعيد فيها نبت، ولا بأس أن يكري بغير ذلك. وبه قال يحيى بن يحيى، =(4/407)=@ وقال: &(4/325)&$
__________
(1) في (ح) و(ك): «فهمه».
(2) قوله: «عن ذلك» سقط من (ح).
(3) قوله: «له» سقط من (ح) و(ك).
(4) في (أ): «عليه».
(5) في (ح): «ينه عنه».
(6) قوله: «أي لم ينه عنه» سقط من (أ) و(ح)، وهو مثبت من (ك).
(7) في (ك): «هو».(4/325)
إنه من قول مالك. وقال ابن نافع: تكرى بجميع الأشياء كلها؛ ما أكل منها وما لم يؤكل؛ خرج منها، أو لم يخرج؛ إذا كان ما تكرى به بخلاف (1) ما يزرع فيها، وكان مالكًا رحمه الله جمع بين الأدلة، فحمل أحاديث النهي على كرائها بالطعام أو بما تنبت (2) . وأدلة الإباحة على ما عدا ذلك، وفهم: أن علة المنع: الرِّبا. وذلك: أن الأرض تكرى ليخرج منها الطعام، فجعل لها حكم الطعام، فلا يجوز أن تكرى بطعام؛ لأنه يضارع طعامًا بطعام إلى أجل. وقد شهد بصحة ما رآه ما جاء في بعض ألفاظ حديث رافع بن خديج؛ فيما خرَّجه أبو داود (3) : أنه زرع أرضًا فمرَّ به النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يسقيها، فسأله: «لمن الزرع؟ ولمن الأرض؟» فقال: زرعي بيدي وعملي (4) ، ولي الشطر، ولبني فلان الشطر. فقال: «أربيتما، فرُدَّ الأرض على أهلها، وخذ نفقتك». وهذا صريح: في أن ذلك من باب الربا وجهته. وهذا في الطعام واضح. وأما فيما ليس بطعام مما تنبته فسدٌ للذريعة على أصله، والله أعلم. وهذا القدر كافي. وقد كتبنا في هذه المسألة جزءًا حسنا.
وقوله: «كنا نأخذ الأرض بالثلث والربع بالماذيانات»؛ الماذيانات معروفة &(4/326)&$
__________
(1) في (ح) و(ك): «خلاف».
(2) في (ك): «وبما تنبت».
(3) أخرجه أبوداود (3402) في البيوع، باب ف يالتشديد في ذلك، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (7/100 رقم 2672)، والطبراني في "الكبير" (4/286 رقم4443)، والحاكم (2/41)، والبيهقي (6/133 و136).
جميعهم من طريق بكير بن عامر، عن ابن أبي نعيم ،عن رافع بن خديج: أنه زرع أرضًا فمرَّ به النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يسقيها، فسأله: «لمن الزرع؟ ولمن الأرض؟» فقال: زرعي ببذري وعملي، ولي الشطر، ولبني فلان الشطر. فقال: «أربيتما، فرُدَّ الأرض على أهلها، وخذ نفقتك».
قال الحاكم: «صحيح الإسناد»، فتعقبه الذهبي بقوله: بكير ضعيف.
وبكير بن عامر البجلي، أبو إسماعيل الكوفي: ضعفه ابن معين، وقال مرة: «ليس بشيء»، وضعفه النسائي، وقال مرة: «ليس بثقة»، وضعفه الساجي، وقال يحيى بن سعيد: «كان حفص بن غياث تركه، وحسبه إذا تركه حفص»، وقال أحمد: «ليس بقوي»، وقال العجلي: «كوفي لا بأس به»، ووثقه ابن سعد. "تهذيب الكمال" مع حاشيته (4/240-241 رقم764). وفي "التقريب" (ص177 رقم767): ضعيف.
وله شاهد يتقوى به:
أخرجه أبو داود (رقم 3399) ف يالبيوع، باب في التشديد في ذلك، والنسائي (7/40 رقم3889) في البيوع، باب النهي عن كراء الأرض بالثلث والربع، والطحاوي في "مشكل الآثار" (7/99-100 رقم2670 و2671).
ثلاثتهم من طريق يحيى القطان، عن أبي جعفر الخطمي، قال أرسلني عمي وغلامًا له إلى سعيد بن المسيب أسأله عن المزارعة، فقال: كان ابن عمر لا يرى بها بأسًا حتى بلغه عن رافع بن خديج حديث، فلقيه، فقال رافع: أتى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بني حارثة فرأى زرعًا، فقال: «ما أحسن زرع ظهير !» فقالوا: ليس لظهير، فقال: «أليس أرض ظهير؟» قالوا: بلى، ولكنه أزرعها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «خذوا زرعكم، وردُّوا إليه نفقته»، قال: فأخذنا زرعنا، ورددنا إليه نفقته.
وسنده صحيح.
(4) في (ك): «زرعي وعملي بيدي»، وفي (ح) لم تتضح العبارة.(4/326)
- بكسر الذال-، وقد فتحت وليست عربية، ولكنها (1) سوادية. قاله الإمام. وهي (2) : مسايل الماء. والمراد بها ها هنا: ما ينبت على شطوط الجداول، ومسايل الماء. وهو (3) من باب تسمية الشيء باسم غيره إذا كان مجاورًا له أو كان منه بسبب.
و«أقبال الجداول»- بفتح الهمزة -: أوائلها. و«الجداول»: السواقي. =(4/408)=@ ويسمى (4) الجدول: الربيع. ويجمع: ربعان. وقال الخليل: الأربعاء: الجداول. جمع ربيع.
ومعنى هذا: أن صاحب الأرض كان يؤاجر أرضه بالثلث، أو بالربع (5) ، وبأن يكون له ما يزرع على جوانب الأنهار والجداول، وعلى أفواهها، وكان منهم من يؤاجر أرضه بالماذيانات خاصة، كما قال في الرواية الأخرى. &(4/327)&$
__________
(1) في (ح) و(ك): «لكنها».
(2) في (ح): «ومن».
(3) في (ح): «وهي».
(4) في (أ): «وتسمى».
(5) في (ح): «والربع»، وفي (ك): «وبالربع».(4/327)
وفي هذا الحديث حجة للجمهور وأئمة الفتوى: مالك، والشافعي، وأبي حنيفة. وهو مذهب ابن عباس، وابن عمر، ورافع بن خديج على منع كراء الأرض بجزء مما يخرج (1) منها على من أجاز ذلك؛ وهم: الليث بن سعد، وابن أبي ليلى، وسفيان الثوري، والحسن بن علي، والأوزاعي. وهو مذهب علي وعمار، وابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص. ووجه الاستدلال بذلك: أن هذه كانت مزارعاتهم، فلما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك نهى عنها، وبين ما يجوز فعله في الأرض، وهو: أن يزرعها بنفسه، أو يزرعها غيره، أو يكريها بشيء معلوم مضمون، كما قد بيناه، ولأن ذلك (2) هي المخابرة المنهي عنها، كما تقدَّم، ولما فيه من الجهالة، والغرر، والخطر، بل قد جاءت نصوص في كتاب أبي داود بتحريم ذلك:
فمنها: ما رواه عن (3) زيد بن ثابت (4) قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المخابرة. فقيل له: وما المخابرة؟ قال: أن (5) تأخذ الأرض بنصف، أو ثلث، أو ربع. وهذا نصٌّ من تفسير (6) الصحابي، وهو أعلم بالحال، وأقعد بالمقال. وقد روي أيضًا من حديث جابر (7) : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من لم يذر المخابرة فليأذن بحرب من الله ورسوله». =(4/409)=@
« القِصْري»- بكسر القاف والراء، وسكون الضاد -: هو الرواية الصحيحة؛ وهي (8) ما يبقى من الحبوب في سنبله بعد الدَّرس. وهي لغة شاميه. قاله ابن دريد. وقد قيده بعضهم بفتح القاف مقصورًا، وبعضهم بضمها مقصورًا. &(4/328)&$
__________
(1) قوله: «مما يخرج» مكرر في (ح).
(2) في (ح): «تلك».
(3) قوله: «عن» سقط من (ح) و(ك).
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (4/384 رقم21248) في البيوع والأقضية، باب من كره أن يعطي الأرض بالثلث والربع، وأحمد (5/187-188)، وعبد بن حميد (ص.. رقم 253)، وأبوداود (... رقم3407) في البيوع، باب في المخابرة، والطبراني في "الكبير" (5/159 رقم4938). جميعهم من طريق جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج، عن زيد بن ثابت، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المخابرة. قلت: وما المخابرة؟ قال: أن تأخذ الأرض بنصف، أو ثلث، أو ربع. وسنده حسن.
(5) في (ح): «بأن».
(6) في (أ): «تقسيم».
(7) أخرجه أبو داود (رقم3406) في البيوع، باب في المخابرة، وعنه البيهقي (6/128).
وأخرجه أبو يعلى (4/27-28 رقم2030)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/107)، وابن حبان (11/611 رقم5200/الإحسان)، والحاكم (2/285-286)، وأبو نعيم في "الحلية" (9/236).
جميعهم من طريق عبدالله بن عثمان بن خيثم، عن أبي الزبير، عن جابر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من لم يذر المخابرة فليأذن بحرب من الله ورسوله».
صححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي !
وقال أبو نعيم: «غريب من حديث أبي الزبير، تفرد به ابن خثيم بهذا اللفظ».
وضعفه الألباني في "الضعيفة" (2/417-418 رقم990) لعنعنة أبي الزبير.
(8) في (ك): «وهو».(4/328)
وقول ابن عمر رضي الله عنه: «كنا نكري الأرض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإمارة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وصدرًا من خلافة معاوية»؛ يدل على (1) أن ذلك كان أمرًا معمولاً به، مشهورًا. وهو محمول على أنهم كانوا يكرونها بشيء معلوم، مضمون. وأمَّا بالجزء مما يخرج منها فلا، لما تقدَّم، ثم إن ابن عمر ترك ذلك لما بلغه حديث رافع (2) ترك ورع وتقية، لا أنه جزم بالتحريم. ويظهر من قوله التوقف (3) =(4/410)=@ في حديث (4) رافع بن خديج، لكنه غتب حكم الورع، فعمل على عادته رضي الله عنه. وأما سكوت ابن عمر عن مدَّة إمارة عليٍّ، فلم يذكرها - والله أعلم -؛ لأن =(4/411)=@ ابن عمر لم يتفرغ فيها لكراء الأرض، ولا للبحث (5) عنها لما كان في تلك المدَّة من الحروب والفتن، ولفراره عنها، والله أعلم.
وعلى الجملة حديث رافع بن خديج مضطرب غاية الاضطراب، كما قد وقع في الأصل وفي غيره من كتب الحديث. فينبغي ألا يعتمد عليه، ويتمسك في جواز (6) كرائها بشيء معلوم بالقياس الذي ذكرناه، غير أنه لا تكرى (7) بطعام مخافة طعام بطعام، فإنها ريبة. وقد أمر عمر رضي الله عنه بتركها (8) . والرِّبا أحق ما حُمِيت مراتعه(9)، وسُدَّت ذرائعه، ويسلك في الامتناع من ذلك طريقة الورع، كما سلكها ابن عمر، وهو (9) الأسلم، والله أعلم. =(4/412)=@
- - - - -
ومن باب المساقاة
وهي مأخوذة من السقي. وأصلها: تعاهد الأشجار بالماء. ثم قد صارت عبارة - بحكم العرف (10) - عن العمل (11) في الأشجار بما (12) يصلحها من سقي، وإبار، وجداد، وغير ذلك من العمل الذي تصلح به الثمرة على جزء مسمى (13) ، يأخذه العامل من الثمرة. وقد (14) اختلف العلماء في حكمها، ومحلها، ووقتها. &(4/329)&$
__________
(1) قوله: «على» سقط من (ح).
(2) في (ح) و(ك): «النهي» بدل «رافع».
(3) في (ح): «التوقيف».
(4) قوله: «حديث» سقط من (ح). ...
(5) في (ح): «البحث».
(6) قوله: «جواز» سقط من (ح).
(7) في (ك): «لا يكرى».
(8) .......... ... ... ... (9) في (ك): «موانعه».
(9) في (ك): «وهي».
(10) في (ح): «الدين».
(11) في (ح): «من العمل».
(12) في (ح): «ما».
(13) في (ح): «من مسمى».
(14) في (ك): «فقد».(4/329)
فأما حكمها: فالجواز عند مالك، والشافعي، وابن أبي ليلى، وكثير من الكوفيين، تمسّكًا بهذه الأحاديث المذكورة في هذا الباب، وبقياسها على القراض. وهو متفق عليه؛ لأنها في معناه. ومنعها أبو حنيفة، وزفر من أصحابه لما فيها من الغرر؛ ولأنها من باب: بيع الثمر قبل طيبه. وهو منهي عنه كما تقدَّم. وحمل أحاديث مساقاة خيبر على أن أهلها كانوا عبيدًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - فما أخذ فهو له، =(4/413)=@ وما أبقى فهو له (1) ، وهذا بناه على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فتحها عنوة. وهذا غير مُسَلّم له، فإن خيبر كانت قرى كثيرة؛ فمنها ما فتح عنوة، ومنها ما فتح صلحًا؛ كذلك (2) رواه مالك ومن تابعه، وهو قول ابن عقبة. ولو سُلِّم: أنه فتحها عتوة فلا نُسلّم (3) أن السيد يجوز له أن يعامل عبده بالرِّبا (4) ، ولا أن يعاقده عقدًا فاسدًا بغرر أو مجهول. وقد نصَّ في هذه (5) : أنَّه عاقدهم عليها، وشرط عليهم، وشرطوا عليه. ولا يجوز أن يحمل ذلك على أنه انتزاع مال من أيديهم، لا لغ ة، ولا عرفًا. فبطل (6) ما قالوه. وأما محلها: فمنعها داود في كل شيء إلا في النخل. والشافعي إلا في النخل، والكرم. وأجازها (7) مالك في سائر الشجر؛ إذا احتاج للمساقاة. والمشهور عندنا: منعها في الزرع إلا إذا عجز عنه أهله. فأمَّا داود: فقصرها على محل ورودها، وأما الشافعي: فبناه (8) على أنها رخصة، ولا تتعدى الرخص. لكنه قد ألحق بالنخيل الكرم (9) ، مع أنه ليس فيه حديث صحيح. فإن كان ثبت عنده به نقل فقد صح له المشي (10) على ذلك الأصل، وإن لم يثبت ذلك فليزمه مذهب داود. والإلحاق كما ذهب إليه مالك، لأن الشجر كله في معنى النخيل (11) ، من حيث أنه يحتاج إلى علاج، وعمل، وسقي إلى انتهاء الثمرة. وهي أصول قائمة ثابتة يدوم أمرها، وتدوم الحاجة إلى القيام عليها. ومن هنا فارقت الزرع القائم. فإن ألغينا هذا القيد؛ جازت فيه المساقاة على ما تقدَّم. والله تعالى أعلم.
وأما وقت انعقادها: فعند الشافعي ما لم تظهر الثمرة؛ لأنها إذا ظهرت فقد &(4/330)&$
__________
(1) قوله: «وما أبقى فهو له» سقط من (ح).
(2) في (أ): «فذلك».
(3) في (ك): «يسلم».
(4) في (ح): «بالزيادة».
(5) في (ح) و(ك): «هذا».
(6) في (ح): «فيبطل».
(7) في (ح): «وأجاز».
(8) في (أ): «فبنى».
(9) في (ح): «النخل الكرم»، وفي (ك): «بالنخل الكرم».
(10) في (ح): «البناء».
(11) في (ح) و(ك): «النخل».(4/330)
ملكها رب النخل، فإذا دفع (1) جزءها في مقابلة العمل؛ فقد باع الثمرة قبل بدوِّ صلاحها. وعند مالك: ما لم تطب، وإن كانت قد ظهرت. وعنه في ذلك بعد الطيب قولان. وأصلها (2) في ذلك: أن القراض، والمساقاة، عقدان مستثنيان من الإجارة المجهولة، للحاجة إلى ذلك، وللرفق (3) الحاصل لرب المال والعامل؛ إذ ليس كل من له مال يحسن القيام عليه ولا العمل (4) فيه، ثم من الناس من يحسن =(4/414)=@ العمل ولا مال له. فاقتضت حكمة الشرع أن يرفق بكل واحد منهما على ما تيسر غالبًا. ولما ظهر له ذلك طرد المعنى، فحيث دعت الحاجة إلى ذلك أعملها. وعلى هذا فتجوز المساقاة في النخل بعد الطيب. وفي الزرع إذا عجز عنه أهله. والله أعلم.
وقوله: «أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر»، وفي لفظ آخر: «عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع»؛ باثبات لفظ: «أو» التي للتنويع. أو بمعنى: «الواو»، كما قال في الرواية الأخرى: «على نصف (5) ما يخرج منها (6) من الثمر والزرع»؛ بغير ألف، وظاهر (7) هذا الحديث: أن أرض خيبر - أعني: بياضها - كان كثيرًا، وأنه كان مقصودًا له - صلى الله عليه وسلم - ولهم، وأنه ضم المساقاة في الأصول وكراء الأرض بما يخرج منها في عقد واحد. وتمسَّك (8) به من قال: يجوز كراء الأرض بجزء مما تنبت، كما تقدم. ويتمسَّك (9) به أيضًا من يجوِّز (10) أن يضم إلى المساقاة عقد غيرها.
قلت: والجمهور على ترك هذا الظاهر لما تقدَّم في منع كراء الأرض بجزء مما يخرج منها. وإذا منع ذلك منفردًا للغرر والرِّبا؛ كان أحرى، وأولى أن يمنع إذا اجتمع مع غيره مما يكثر فيه (11) الغرر، ولما كان ذلك حمل الجمهور هذا على أحد محملين.
فأمَّا مالك فقال: إن بياض خيبر كان قليلاً تابعًا للأصول بين أضعاف السواد، فجاز ذلك فيه لتبعية الأصول، وشرط في الجواز اتفاق البياض والأصول في الجزء. فلو اختلفا في الجزء لم يجز (12) لزوال التبعية.
وقال غيره: يجوز أن يكون الذين ساقى غير الذين (13) زارع. وتكون مزارعته لمن زارعه منهم على الوجه الجائز فيها، ثم إن الراوي نقل ذلك جملة، ولم يفضل كيف وقعت المزارعة، ولا من الذين ساقوا (14) من الذين زورعوا (15) ، والله أعلم. =(4/415)=@
وقوله (16) : «وكان يعطي أزواجه كل سنة مائة وسق»؛ يريد بقسمته بينهن أن لا &(4/331)&$
__________
(1) في (ح): «وقع».
(2) في (ح) و(ك): «وأصله».
(3) في (ح): «والرفق».
(4) في (ح) و(ك): «والعمل».
(5) قوله: «نصف» سقط من (ك).
(6) قوله: «منها» سقط من (ح).
(7) في (ك): «والظاهر».
(8) في (أ): «يتمسك».
(9) من قوله: «به من قال...» إلى هنا سقط من (ح) و(ك).
(10) في (ح) و(ك): «جوَّز».
(11) قوله: «مما يكث فيه» مكرر في (أ).
(12) في (ك): «يزد».
(13) في (أ): «الذي».
(14) في (ح) و(ك): «سوقوا».
(15) في (ك): «زورعوا».
(16) في (ك): «قوله».(4/331)
تطالبه واحدة منهن بنفقة تلك السنة، وهذا - والله أعلم - كان بعد أن كان أزواجه طالبنه بالنفقة، وأكثرن عليه، كما تقدَّم في كتاب النكاح (1) . ويدل هذا على أن ادخار ما يحتاج الإنسان إليه، ويعده للحاجات المتوقعة في الاستقبال، ليس قادحًا في التوكل، ولا منقصًا منه.
وقوله (2) : «فلما ولي عمر قسم خيبر»؛ يعني: قسم سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كان له (3) بخيبر (4) الذي كان وقفه النبي - صلى الله عليه وسلم - لمؤونة عياله وعامله بعد إجلاء (5) عمر اليهود منها. وإنما أجلى عمر بن الخطاب اليهود والنصارى من الحجاز؛ لأنهم لم يكن لهم عهد من النبي - صلى الله عليه وسلم - على بقائهم بالحجاز دائمًا، بل ذلك كان موقوفًا على مشيئته، ولما عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - عند موته بإخراجهم من جزيرة العرب (6) ، وانتهت النوبة إلى عمر، أخرجهم من الحجاز إلى تيماء، وأريحاء، على ما يأتي، إن شاء الله تعالى.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «نقركم بها على ذلك (7) ماشئنا (8) ، تمسَّك به بعض أهل الظاهر =(4/416)=@ على جواز المساقاة إلى أجل مجهول. وجمهور الفقهاء: مالك، والشافعي، والثوري، وأكثر علماء المدينة: على أنها لا تجوز إلا لأمد معلوم. وقالوا: إن هذا الكلام جواب لما طلبوه حين أراد إخراجهم منها. وقولهم له (9) : على أن نكفيكم العمل، إنما كان منهم على سبيل إظهار المصلحة المرغبة في إبقائهم في تلك البلاد، فكأنهم قالوا: إبقاؤنا فيها أنفع لكم من إخراجنا؛ لأنا نكفيكم مؤونة العمل في أرضيكم، وتأخذون نصف ما يخرج منها، فإن أخرجنا بقيت الأرض أو غالبها لا عامر لها. فلما فهمت المصلحة أجابهم (10) إلى الإبقاء، ووقفه على مشيئته. وبعد ذلك عاملهم على عقد المساقاة، والله أعلم.
وقد دلَّ على ذلك قول ابن عمر: «عامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر على شطر ما يخرج منها». فافرد العقد بالذكر دون ذكر الصلح على الإبقاء. فإن قيل: فلم ينصّ ابن عمر على مدَّة معلومة، لا هو ولا غيره ممن روى القصة، فمن أين يشترط الأجل؛ فالجواب: أن الإجماع قد انعقد على منع الإجارة المجهولة فيما من (11) شأنه أن يعرف العمل فيه بالزمان.
والمساقاة من باب الإجارة، &(4/332)&$
__________
(1) تقدم في الطلاق، باب في قوله تعالى {يا أيها النبي قل لأزواجك...}.
(2) في (ك): «قوله».
(3) قوله: «له» سقط من (أ).
(4) زاد في (ح): «الذي كان بخيبر» وهو تكرار.
(5) في (ح): «بعد أن أجلى».
(6) سيأتي في الوصايا والفرائض، باب ما وصى به النبي - صلى الله عليه وسلم - عند موته برقم (1716).
(7) قوله: «على ذلك» سقط من (ح) و (ك).
(8) في (ح): «ما نشاء».
(9) قوله: «له» سقط من (أ).
(10) في (ح): «أجابهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ».
(11) قوله: «من» سقط من (أ).(4/332)
لكن اغتُفِرَت فيها حالة (1) جهالة مقدار ما يحصل من الأجرة. وهذا موضع الرخصة الخاصة بها، فاستثني جواز ذلك، وبقي تعيين الزمان على أصله من وجوب المراعاة. فإن قيل: لا نسلم أنها (2) من باب الإجارة، بل هي أخت القراض، أوهو أصلها، كما قدمتم. والقراض لا يحتاج إلى مدة (3) ، فكذلك المساقاة. فالجواب: أن المساقاة، وإن أشبهت القراض (4) ، فيما ذكرناه (5) ، غير أنها تفارقه من وجه آخر؛ وهو: أن الفائدة الحاصلة منها مقيدة في العادة بالزمان؛ إذ الغالب (6) من =(4/417)=@ الثمرة أنها لا بدّ منها في كل سنة، وهي الفائدة. ولذلك قلنا نحن وأبو ثور: إذا وقعت المساقاة، ولم تتعين (7) فيها مدة (8) ، صحت، وحملت على مدة فائدة تلك السَّنة، وليس كذلك القراض؛ إذ لا يدرى هل يحصل منه فائدة أو لا؟ وإذا حصلت فلا يدرى ما هي؟ فكان القراض بباب الجعل أولى، ولذلك كان (9) في المشهور عقدًا جائزًا، ولا يحتاج إلى أجل. وكانت المساقاة بباب الإجارة أولى(9)، ولذلك كانت عقدًا لازمًا، واحتاج إلى ضرب الأجل، والله أعلم.
وعلى هذا فيحتمل (10) الحديث أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - عيَّن للمساقاة أجلاً لم يسمعه الراوي، فلم ينقله، أو وقع عقد المساقاة، وحمل على سنة واحدة، فلما جاءت السنة الأخرى بقاهم على ذلك. وهكذا في الأعوام المتوالية، والله أعلم.
وقوله: «دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نخل خيبر ليهودها على أن يعملوها من في أموالهم»؛ يعني به: النفقة فيما تحتاج الثمرة إليه من نفقة الأجراء، والدواب، والعلوفة، والآلات، والأجر في العزاق والجداد، وغير ذلك مما يذهب بذهاب المساقاة. وأما ما يبقى بعدها كبناء حائط، أو حفر بئر أو نحوه فلا يلزم العامل.
وقوله: «كان يعطي أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كل سنة مائة وسق: ثمانين وسق من تمر، وعشرين وسق من شعير»؛ دليل لمالك: على قوله: أن بياض خيبر كان تابعًا لسوادها. ألا ترى: أن الشعير خمس، والتمر أربعة أخماس؛ ولذلك صحَّ أن يدخل في المساقاة بالشرط، ولكن بشرط اتفاق الجزء كما تقدَّم. وقد استحب مالك أن يلغيه للعامل رفقًا به، وإحسانًا إليه. وهذا الحديث وغيره &(4/333)&$
__________
(1) قوله: «حالة» سقط من (أ).
(2) في (أ): «أنه».
(3) في (ك): «ضرب مدة».
(4) من قوله: «وهو أصلها....» إلى هنا سقط من (ح).
(5) في (ك): «ذكرنا».
(6) في (ح): «والغالب».
(7) في (ك): «تتعين».
(8) قوله: «مدة» سقط من (أ).
(9) في (ح): «قال كان». ... (9) قوله: «أولى» سقط من (أ).
(10) في (أ): «فيحمل».(4/333)
دليل (1) على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قسم أرض خيبر على خمسة أخماس، على قسم الغنائم. وكذلك قال الشافعي. وهو مقتضى عموم قوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} (2) ، ومالك وأصحابه يرون إيقاف الأرض للمسلمين ممن =(4/418)=@ حضر وغاب (3) ، وممن (4) يأتي بعد، تمسكًا بفعل عمر رضي الله عنه في أرض العراق والشام ومصر، فإنه أقرها، ولم يقسمها، واحتج بقوله تعالى:{والذين جاءوا من بعدهم} (5) ، وتأول عطفه على قوله: {للفقراء المهاجرين} (6) ، وذهب الكوفيون إلى تخيير الإمام في قسمتها، أو إقرارها بأيدي أهلها، وتوظيف الخراج عليها، وتصييرها ملكًا لهم كأرض الصلح.
فإن قيل: فكيف يرفع فعل (7) النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمله بمقتضى عموم الآية بقول عمر وفعله؟ فالجواب: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الذي فعله في قسم خيبر ليس على جهة التحتم (8) الذي لا يجوز غيره، وإنما هو أحد الوجهين الجائزين. غير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ظهر له: أن الأولى قسمتها في ذلك الوقت، لشدَّة حاجة أولئك الغانمين. ولما كان زمن عمر رضي الله عنه اتسعث أموال (9) المسلمين لكثرة الفتوحات عليهم؛ فرأى: أن إيقافها لمصالح المسلمين أولى من قسمتها (10) ، وتابعه على ذلك أهل عصره، ولم يخالفه أحد من الصحابة، فصار كالاجماع على صحة ما فعل وجوازه. وعند هذا يظهر: أن الأولى قول الكوفيين؛ الذي هو التخيير؛ لأنه جمع بين الأمرين. وهو الذي فهمه عمر رضي الله عنه قطعًا. ولذلك قال عمر رضي الله عنه فيما رواه عنه مالك (11) : لولا أن أترك آخر الناس لا شيء لهم ما افتتح المسلمون قرية إلا قسمتها سهمانًا، كما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر سهمانًا. فلم يخبر بنسخ =(4/419)=@ فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا بتخصيصه بهم. فلم يبق إلا ما ذكرناه. غير أن الكوفيين زادوا على فعل (12) عمر. فإن عمر إنما وقفها على مصالح المسلمين، ولم يملكها لأهل الصلح، وهم قالوا للإمام (13) أن يملكها أهل (14) الصلح. وأما من لم يسلك هذه الطريقة فيلزمه: إما نسخ (15) . فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعل عمر رضي الله عنه وهو باطل &(4/334)&$
__________
(1) في (أ): «يدل».
(2) الآية (41) من سورة الأنفال.
(3) في (ح): «ومن غاب».
(4) في (أ): «ممن».
(5) الآية (8) من سورة الحشر.
(6) الآية (8) من سورة الحشر.
(7) في (ح): «عمل».
(8) في (ك): «التحتيم».
(9) في (أ): «أحوال».
(10) قوله: «المسلمين أولى من قسمتها» سقط من (ك).
(11) لم أجده في "الموطأ"، وأخرجه البخاري (5/17 رقم2334) في الحرث والمزارعة، باب أوقاف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأرض الخراج، ومزارعتهم ومعاملتهم، و(6/224 رقم3125) فيفرض الخمس، باب الغنيمة لمن شهد الواقعة، و(7/490 رقم4235 و4236) في المغازي، باب غزوة خيبر.
(12) في (ح): «ما فعل».
(13) في (ح): «وللإمام».
(14) في (ح): «لأهل».
(15) في (ح): «بنسخ»، وفي (ك): «ينسخ».(4/334)
قطعًا. وإما نسبة عمر رضي الله عنه ومن كان معه من الصحابة إلى الخطأ، حيث فعلوا ما لا يجوز. وهو باطل قطعًا (1) . وقد استمر العمل بين الأمة بعد ذلك الصدر على استمرار وقف تلك الأراضي (2) التي وقف عمر رضي الله عنه إلى الآن، ولم يتعرضنَّ أحد إلى نقضها، ولا إلى تغييرها عما وضعها عليه عمر - فيما علمت - حتى اليوم. فتطابق إجماع السابقين واللاحقين، ولم يلتفت إلى من خالفهم من المتأخرين. وإنما خيّر عمر رضي الله عنه أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بين إقطاع الأرض، وبين ضمان الأوساق مبالغة في صيانتهن، وكفايتهن التبذل في تحصيل ذلك، فسلك معهن ما يطيب قلولهن ويصونهن. ولم يكن هذا الإقطاع لمن اختاره منهن إقطاع تمليك؛ لأنه لو كان ذلك منه لكان تغييرًا لما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) . وقد قال عمر لعليّ والعباس: لا أغير من أمره (4) شيئًا، إني أخاف إن غيّرت من أمرها شيئًا أن أزيغ. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما تركت بعد نفقة عيالي، ومؤونة عاملي فهو صدقة» (5) ، ووقف الأرض لذلك. وإنما كان ذلك (6) إقطاع اغتلال. وذلك أنه قسم عدد الأوساق المائة على عدد أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن اختارت الأوساق ضمنها لها. ومن اختارت النخل أقطعها قدر ذلك لتتصرف فيها تصرف المستغل، لا المالك، والله أعلم. =(4/420)=@ &(4/335)&$
__________
(1) من قوله: «وإما نسبة عمر....» إلى هنا سقط من (ح).
(2) في (ح) و(ك): «الأرض»، وأشار في حاشية (ح) إلى وجودها في إحدى النسخ بلفظ «الأراضي».
(3) قوله: «النبي - صلى الله عليه وسلم - » سقط من (أ).
(4) في (ك): «أمرها».
(5) تقدم في الجهاد، باب ما يصرف فيه الفئ والخمس.
(6) قوله: «ذلك» سقط من (ح) و(ك).(4/335)
- - - - -
ومن باب فضل من غرس غرسًا
قوله: «ما من مسلم يغرس غرسًا إلا كان ما أكل منه له صدقة...» الحديث؛ إنما خصَّ المسلم بالذكر لأنه ينوي عند (1) الغرس غالبًا أن يتقوَّى بثمر ذلك (2) الغرس المسلمون على عبادة الله تعالى، ولأن المسلم هو الذي يحصل له ثواب. وأما الكافر فلا يحصل له بما (3) يفعله من الخيرات ثواب، وغايته أن يُخَفَّف العذاب عنه، وقد يطعم في الدنيا، ويعطى بذلك؛ كما تقدَّم في كتاب الإيمان.
ويعني بـ«الصدقة» هنا: ثواب صدقة مضاعفًا، كما قال تعالى: {مثل (4) الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله كمثل حبَّة أنبتت سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبّة} (5) ؛ وفيه دليل: على أن الغراس، واتخاذ الضياع مباح، وغير قادح في الزهد، وقد فعله كثير من الصحابة. وقد ذهب قوم من المتزهدة: إلى أن ذلك مكروه وقادح (6) . ولعلّهم تمسكوا في ذلك بما قد (7) خرَّجه الترمذي (8) من قوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تتخذوا الضيعة، فتركنوا إلى الدنيا»، خرَّجه (9) من حديث ابن مسعود، وقال فيه: حديث حسن.
والجواب: أن هذا النهي محمول على الاستكثار من الضياع والانصراف (10) إليها بالقلب الذي يفضي بصاحبه إلى الركون للدنيا (11) . فأما إذا اتخذها غير &(4/336)&$
__________
(1) في (أ): «بذلك».
(2) في (ح) و(ك): «بذلك».
(3) في (ح) و(ك): «فيما».
(4) في (أ): «ومثل».
(5) الآية (261) من سورة البقرة.
(6) في (أ): «قادح».
(7) قوله: «قد» سقط من (ح).
(8) ............ أي تخريج أكتب ؟!
(9) قوله: «خرجه» سقط من (ح) و(ك).
(10) في (ح): «الاستكثار من الانصراف».
(11) في (ك): «إلى الدنيا».(4/336)
مستكثر، وقلَّل منها، وكانت له كفافًا وعفافًا فهي مباحة، غير قادحة في الزهد (1) ، وسبيلها كسبيل (2) المال الذي استثناه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إلا من أخذه بحقه، ووضعه في =(4/421)=@ حقه» (3) ، فأمَّا لو غرس، أو اتخذ (4) الضيعة ناويًا بذلك معونة المسلمين، وثواب ما يؤكل ويتلف له منها، ويفعل بذلك معروفًا، فذلك من أفضل الأعمال، وأكرم الأحوال، ولا بُعْد في أن يقال: إن أَجْرَ ذلك يعود عليه أبدًا دائمًا، وإن مات وانتقلت إلى غيره. ولولا الإكثار لذكرنا فيمن اتخذ الضياع من الفضلاء، والصحابة جملة من صحيح الأخبار.
وقوله: «ولا يرزؤه أحد»؛ أي: لا ينقصه. يقال: ما رزأته زِبَالاً؛ أي: ما نقصته. والزبال: ما تحمله النملة في فيها.
وقوله: «دخل على أمِّ مبشِّر»؛ هذا أصحّ الروايات الواقعة في كتاب مسلم. وقد روي فيه: أمُّ مِعْبَد. وقد روي: أمُّ معبد، أو أم مُبشر على الشك، وقد روي: =(4/422)=@ عن (5) أم بشر (6) . وقد روي عن(@) امرأة زيد بن حارثة. قال أبو علي الجياني: إن (7) الصواب: أم مبشر. قال: وكذا (8) في ديوان الليث بن سعد. قال: وقال (9) لي أبو عمر: أم مبشر الأنصارية بنت البراء بن معرور، وزوج زيد بن حارثة. ويقال لها: أم مبشر: واسمها (10) فيما قيل: خليدة (11) . ولم يصح (12) . &(4/337)&$
__________
(1) في (ح): «التوكل»، وكتب فوقها «الزهد».
(2) في (ح): «سبيل».
(3) تقدم في الزكاة، باب الغنى غنى النفس، وما يخاف من زهرة الدنيا.
(4) في (ك): «واتخذ».
(5) في (ك): «على».
(6) في (ح): «أم مبشر».
(7) قوله: «إن» سقط من (ك).
(8) في (ح) و(ك): «وكذلك».
(9) قوله: «لي» سقط من (ح).
(10) في (ك): «قال واسمها».
(11) في (ك): «جليدة».
(12) قوله: «لم يصح» سقط من (ح).(4/337)
- - - - -
ومن باب وضع الجوائح
قوله: «لو بعت من أخيك ثمرًا، فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه (1) شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق»؛ دليل واضح على وجوب إسقاط ما أُجيح (2) من الثمرة عن المشترى. ولا يلتفت إلى قول من قال: إن ذلك لم يثبت مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما ثبت من قول أنس؛ لأن ذلك ليس بصحيح؛ بل الصحيح: رَفْعُ ذلك من حديث جابر وأنس. على ما ذكرناه (3) في الأصل، واعتضد ذلك بأمره - صلى الله عليه وسلم - بوضع الجوائح. =(4/423)=@
وقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يوضع منها شيء عن المشتري؛ لأنها كلها في ضمانه بالشراء. وبه قال الشافعي في الجديد.
وثانيها: أنها توضع (4) عنه، قليلها، وكثيرها. وبه قال أحمد بن حنبل، وأبو عبيد القاسم بن سلام. وبه قال الشافعي في القديم.
وثالثها: الفرق بين أن تأتي الجائحة على الثلث فأكثر، فتوضع عن المشتري (5) ، أو على أقل من الثلث، فلا توضع، وتكون منه، وهو قول مالك وأ صحابه.
حجة (6) القول الأول: حديث أبي سعيد الخدري؛ الذي (7) قال فيه: أصيب رجل &(4/338)&$
__________
(1) قوله: «منه» سقط من (أ).
(2) في (ح): «احتيح».
(3) في (أ) و(ك): «ذكره».
(4) في (ح): «أنه يوضع».
(5) قوله: «فوضع عن المشتري» سقط من (ك).
(6) في (أ): «فحجة».
(7) في (أ): «أنه».(4/338)
في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فتصدَّق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغرمائه: «خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك» (2) . وهذا واضح في أنه أُجيحت الثمرة، ولم يوضع منها شيء عن المشتري، ويعتضد هذا: بأنه قد أقبضه؛ إذ قد خلَّى بينه وبينها. وذلك هو قبضها، فإن قبض كل شيء بحسبه. وقد انفصل أصحابنا عن هذا الحديث: بأن الأحاديث المتقدِّمة (3) أولى لوجهين:
أحدهما: أنما (4) ذكرت لبيان القاعدة وحكمها. وهذا الحديث واقعة معينة. فالأول أولى.
وثانيهما: أنه يحتمل أن يكون اشترى تلك الثمرة بعد تناهي طيبها، وإذ ذاك لا تحتاج إلى تبقية، ولا إلى سَقي، فيكون ضمانها من المشتري على كل حال. =(4/424)=@
حجة القول الثاني (5) : ما تقدَّم من الحديث. ويعضد ذلك: بأنها بقي فيها حق توفية. فكانها لم تقبض. وذلك: أنها محتاجة إلى بقائها إلى تكامل طيبها على أصولها؛ إذ بقي على البائع سقيها إلى انتهائها (6) ، فكان ذلك كالتوفية بالكيل والوزن. فما (7) بيع بذلك فهلك قبل كيله ووزنه، فمصيبته من بائعه قولاً واحدًا.
وأما تفريق مالك بين القليل والكثير فوجهه: أن القليل معلوم الوقوع، بحكم العادة؛ إذ لا بدَّ من سقوط شيء منه (8) ، وعفنه، وتتريبه. فكان المشتري دخل عليه، ورضي به (9) ، وليس كذلك الكثير. فإنه لم يدخل عليه. فلما افترق الحال في العادة فينبغي أن يفترق في الحكم. وإذا لم يكن بُدٌّ من فرق بينهما، فالقليل ما (10) دون الثلث. والكثير: الثلث فما زاد؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «الثلث، والثلث كثير، أو كبير» (11) .
ثم هل يعتبر ثلث مكيله الثمرة، أو ثلث الثمن؟ &(4/339)&$
__________
(1) قوله: «في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - » سقط من (ح) و(ك).
(2) سيأتي في الباب الآتي.
(3) قوله: «المتقدمة» سقط من (ح).
(4) في (ك): «أنها».
(5) في (أ): «القول الثاني حجته».
(6) في (ح): «انهائها».
(7) في (ك): «مما».
(8) قوله: «منه» سقط من (ح).
(9) قوله: «به» سقط من (ك).
(10) قوله: «ما» سقط من (أ).
(11) سيأتي في الوصايا والفرائض، باب الحث على الوصية.(4/339)
قولان:
الأول لابن القاسم. والثاني لأشهب. وقد اعتذر لأبي حنيفة عن الأمر بوضع الجوائح: بأن ذلك إنما كان فى حق من باع الثمرة قبل بدوِّ الصلاح، كما كانوا يفعلون قبل النهي عن ذلك. وأجيب بأن ذلك تخصيص لا دليل عليه. فإن الأمر بوضع الجوائح عام. وأيضًا: فقوله - صلى الله عليه وسلم - : «لو بعت من أخيك ثمرًا...»؛ يدل على البيع الشرعي، لا الممنوع. فكيف (1) يذكر البيع الفاسد، ولا ينهى عنه، ولا يبين فساده، ثم يعدل عنه في إبطاله إلى أمر خارج عنه؛ فظاهر هذا الحديث: أن هذا البيع وقع صحيحًا. وذلك لا يعون إلا بعد الزهو، ثم طرأت الجائحة. فعلل منع حِلِّيَةِ المال بها. وحاصل ما ذكرنا: أن الأمر بوضع الجائحة يتضمن صحة بيع (2) ما توضع فيه الجائحة لا إفساده. وهذا واضح لمن تأمَّله. =(4/425)=@
وقوله: «إذا منع الله الثمرة»؛ أي: إذا منع تكاملها، وطيبها. لأن الثمرة قد كانت موجودة مزهية حين البيع، كما قال في الرواية الأخرى: «إن لم يثمرها الله»؛ أي: لم يكمل ثمرتها. وقد تقدَّم القول في أصل الجائحة في كتاب الزكاة.
واختلف أصحابنا في حدِّها. فروي عن ابن القاسم: أنها ما لا يمكن دفعه. وعلى هذا فلا يكون السارق (3) جائحة. وكذا في كتاب محمد. وفي الكتاب: إنه جائحة. =(4/426)=@ وقال مُطرِّف وابن الماجشون: الجائحة: ما أصاب الثمرة من السماء من عَفَنٍ، أو برد، أو عطش، أو حرٍّ، أو كسر الشجر (4) بما ليس بصنع آدميّ. والجيش ليس بجائحة. وفي رواية ابن القاسم: إنه جائحة. &(4/340)&$
__________
(1) في (أ): «وكيف».
(2) في (ح): «البيع».
(3) في (ح): «وعلى هذا الخلاف يكون السارق».
(4) في (ك): «فالجيش».(4/340)
- - - - -
ومن باب قسم مال المفلس
قوله: «أصيب رجل في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها»؛ هذا الرَّجل هو معاذ بن جبل. وكان غرماؤه يهود، فكلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في (1) أن يخففوا عنه، أو ينظروه، فأبوا، فحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بما ذكر. وظاهر (2) هذا الحديث: أن الجائحة أتت على كل الثمرة، حتى لم يبق له منها مايباع عليه، فقد ثبتت عسرته. فحكمه الإنظار إلى الميسرة، كما قال الله تعالى. فمن كان كذلك فلا يحبس مثله (3) خلافًا لشريح؛ فإنه قال: يحبس أبدًا، ولا يلازم (4) . خلافًا لأبي حنيفة؛ فإنه قال: يلازم لإمكان أن يظهر له مال، ولا يكلَّف أن يكتسب، لا هو ولا مستولدته. وهذا كلّه مردود بنص القران، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - لغرماء معاذ: «خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك». ولا يجب أن (5) يتصدق عليه، ومن فعل ذلك، أو حضَّ عليه كان خيرًا له (6) ، وفيه ثواب كثير؛ لأنه سعى في تخليص ذمة المسلم من المطالبة المستقبلة، &(4/341)&$
__________
(1) في (ح): «إلى».
(2) في (ح): «فظاهر».
(3) قوله: «مثله» سقط من (أ).
(4) في (ك): «يلزم».
(5) في (ح): «إلا أن».
(6) قوله: «له» سقط من (أ).(4/341)
أو من الإثم اللاحق بتأخير الأداء عند الإمكان إن كان قد وقع ذلك. وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بمعاذ ليتبين خصومه: أنه ليس عنده شيء، ولتطيب (1) قلوبهم بما أخذوا، فيسهل عليهم ترك ما بقي، وليخفف الدَّين عن معاذ، وليتشارك المتصدقون في أجر المعونة وثوابها. وليكون ذلك سُنَّه حسنة.
وفيه ما يدل على نسخ بيع الجزء في الدَّين، كما كان في أول الإسلام. وعلى نسخه تدل الآية، والإجماع (2) . =(4/427)=@
وقوله: «خذوا (3) ما وجدتم»؛ يدلُّ على أن المفلس يؤخذ منه كل ما يوجد ما له، ويستثنى من ذلك ما كان من ضرورته. وروى (4) ابن نافع عن مالك: أنه لا يترك له إلا ما يواريه. والمشهور: أنه يترك له كسوته المعتادة، ما لم يكن فيها فضل، ولا ينزع منه رداؤه، إن (5) كان ذلك مزريًا به، أي: منقصًا. وفي ترك كسوة زوجته، وبيع كتبه إن كان عالمًا خلافٌ. ولا يترك له مسكن، ولا خاتم، ولا ثوب (6) جمعته، ما لم تقِلَّ قيمتها.
و«الخصوم»: جمع خصم، كفلس وفلوس. وقد يقال: خصم. على الجمع، والاثنين، كما قال تعالى: {وهل أتاك نبؤا الخصم إذ تَسَوَّروا المحراب} (7) . ويقال: خصم أيضًا للمذكر والمؤنث.
وقوله: «وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه»؛ أي (8) : يسأله أن يضع (9) عنه، ويرفق به. و«المتألي»: الحالف. يقال: تألَّى، يتألَّى، وائتلى، يأتلي. وآلى يؤلي. كل ذلك بمعنى الحلف.
وفيه ما يدلُّ على أن سؤال الحطيطة والرفق جائز؛ إذ لم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك إذ سمعه. وقد كره مالك ذلك، لما فيه من المهانة، والمنَّة. =(4/428)=@
قلت: وهذه الكراهية (10) من مالك: إنما هي من طريق تسمية ترك (11) الأولى: مكروهًا.
وقوله: «فله (12) أي ذلك أحبَّ»؛ أي: الوضع أو الرفق. وكان حقه: أي ذينك. فإن المشار إليهما اثنان، لكنه أشار إلى الكلام المتقدِّم المذكور. فكأنه قال: فله أي &(4/342)&$
__________
(1) في (ح): «ولتطييب».
(2) قوله: «الإجماع» سقط من (أ).
(3) في (ح): «وخذوا».
(4) في (ح) و(ك): «روى».
(5) في (أ): «إذا».
(6) في (أ) و(ح): «ثوبًا».
(7) الآية (21) من سورة ص.
(8) قوله: «أي» سقط من (ح).
(9) في (ح): «يوضع».
(10) في (ح) و(ك): «الكراهة».
(11) قوله: «ترك» سقط من (ك).
(12) قوله: «فله» سقط من (ك).(4/342)
ذلك المذكور أحب (1) . كما قال تعالى: {ومن يفعل ذلك يلق أثامًا} (2) ، وإذا تأملت هذا الكلام بَانَ لك لطافة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحُسن سياسته، وكرم خلق (3) الرَّجل، ومسارعته إلى فعل الخير.
وقوله: «إن كعبًا تقاضى ابن أبي حَدْرد دَيْنًا في المسجد»؛ أي: سأل من ابن أبي حدرد أن يقضيه دينه الذي له عليه، فارتفعت أصواتهما بسبب ذلك حتى سمعهما النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيته، ولم ينكر عليهم، فكان ذلك دليلاً على استباحة مثل ذلك في المسجد ما لم يتفاحش. فإن تفاحش كان ذلك ممنوعًا؛ إذ قد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رفع الأصوات في المساجد.
وقوله بالإشارة: «ضع الشطر من دينك»؛ دليل: على أن الإشارة بمنزلة =(4/429)=@ الكلام إذا فُهِمَت؛ لأنها دلالة على الكلام كالحروف والأصوات، فتصح شهادة الأخرس، ويمينه، ولعانه، وعقوده إذا فهم ذلك عنه (4) ، وهذا منه - صلى الله عليه وسلم - أمر على جهة الإرشاد إلى الصلح. وهذا صُلح على الإقرار؛ لأن نزاعهما لم يكن في أصل الدَّين، وإنما كان في التقاضي. وهو متفق عليه. وأما الصُّلح على الإنكار، فهو الذي أجازه مالك، وأبو حنيفة والشعبي (5) ، والحسن البصري. وقال الشافعي: الصلح على الإنكار باطل. وبه قال ابن أبي ليلى.
وقوله: «قم فاقضه»؛ أمرٌ على جهة الوجوب؛ لأن ربَّ الدَّين لَمَّا أطاع (6) ما وضع تعيَّن (7) على الْمِديان أن يقوم بما بقي عليه، لئلا يُجْمع على ربِّ الدَّين وضيعة (8) ومُطل. وهكذا ينبغي أن يبتَّ (9) الأمر بين المتصالحين، فلا يترك (10) بينهما علقة ما أمكن. &(4/343)&$
__________
(1) في (ح): «أحب إليك».
(2) الآية (68) من سورة الفرقان.
(3) في (ح): «خلقه».
(4) في (أ): «عنه ذلك»، في (ح): «منه ذلك»،
(5) قوله: «والشعبي» سقط من (ح) و(ك).
(6) في (أ) و(ك): «طاع».
(7) في (ح): «فعن».
(8) في (ح): «وديعة».
(9) في (ح): «ينبت».
(10) في (ك): «تترك».(4/343)
- - - - -
ومن باب من أدرك مالاً عند مُفلس
قوله: «إذا أفلس الرَّجل فوجد الرَّجل عنده سلعته بعينها فهو أحق بها». وقوله: «أفلس (1) الرجل»: في اللغة: صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دنانير، كما يقال: =(4/430)=@ أخبث الرجل، أي (2) : صار أصحابه خبثاء. وأقطف الرَّجل (3) ؛ إذا صارت دابته قطوفًا. والمفلس في عرف العرب: من لا مال له عينًا، ولا عرضًا، ولا غيره. ولذلك لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه y: «أتدرون (4) من المفلس؟» (5) قالوا: ما هو المعروف عندهم، فأجابوه بقولهم (6) : من لا درهم له، ولا متاع. وهو في عرف الشرع: عبارة عن مِذْيان قصر ما بيده (7) عن وفاء ما عليه من الديون، فطلب الغرماء أخذ ما بيده. وإذا كان ذلك (8) كذلك، فللحاكم أن يحجر عليه، ويمنعه من التصرف فيما بيده، ويُحَصِّله، ويجمع الغرماء، فيقسمه عليهم. وهذا هو مذهب الجمهور من الصحابة وغيرهم، كعمر (9) ، وعثمان (10) ، وعلي (11) ، وابن مسعود (12) ، وعروة بن الزبير، والأوزافي، ومالك، والشافعي، وأحمد. وقال النخعي والحسن البصري وأبو حنيفة: ليس للحاكم أن يحجر عليه، ولا يمنعه من التصرف في ماله (13) ، لكن يحبسه ليوفي ما عليه، وهو يبيع ما عنده. والحجة للجمهور على هؤلاء حديث تفليس معاذ المتقدم. وقد قال فيه الزهري: ادَّانَ معاذٌ فباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماله حتى قضى دينه (14) . وكذلك فعل عمر بن الخطاب بالجهني الذي &(4/344)&$
__________
(1) في (أ): «وقوله أفلس».
(2) في (ك): «إذا».
(3) قوله: «الرجل» سقط من (ك).
(4) قوله: «أتدرون» سقط من (ك).
(5) سيأتي في البر والصلة، باب من اسطال حق من الناس اقتص من حسناته يوم القيامة.
(6) قوله: «فأجابوا بقولهم» سقط من (ح) و(ك).
(7) في (ك): «ما في يده».
(8) قوله: «ذلك» سقط من (ح) و(ك).
(9) ..........
(10) علَّقه البخاري (5/62) في الاستقراض، باب إذا وجد ماله عند مفلس في البيع والقرض والوديعة، فهو أحق به.
ووصله البيهقي (6/46) من طريق ابن خزيمة، عن علي بن حجر، عن إسماعيل بن جعفر، عن محمد بن أبي حرملة: أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: أفلس مولى لأم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فاختصم فيه إلى عثمان رضي الله عنه، فقضى عثمان أن من كان اقتضى من حقه شيئًا قبل أن يتبين إفلاسه فهو له، ومن عرف متاعه فهو له.
وصحح إسناده الحافظ في "الفتح" (5/63).
(11) أخرجه عبدالرزاق (8/266رقم15170) عن أبي سفيان صاحب الدستوائي، عن قتادة، عن خلاس، عن علي قال: هو فيها أسوة الغرماء إذا وجدها بعينها.
(12) .........
(13) في (ح): «ملكه».
(14) تقدم تخريجه في باب قسم مال المفلس.(4/344)
قال فيه: ألا إن أُسَيْفَعَ جُهينة رضي لدينه وأمانته أن يقال: سَبَقَ الْحَاجَّ، ثم =(4/431)=@ ادَّان مُعرضًا. فمن كان له عليه دين فليحضر، فإنا نبيع ماله (1) . ولم يخالفه أحدٌ، ثم يباع عليه كل ماله وعقاره. وقال أبو حنيفة: لا يباع عليه عقاره. وقوله مخالف (2) للأدلة التي ذكرناها، فإنها عامة لجميع الأموال، ولأن الدَّين حق مالي في ذمَّته، فيباع عليه فيه عقاره، كما يباع (3) في نفقة (4) الزوجات، ولأن الفلس معنى طارئ يوجب قسمة المال، فيباع فيه العقار كالموت.
وقد اختلف العلماء في مشتري السِّلعة إذا أفلس أو مات، ولا وفاء عنده بثمنها ووُجِدت. فقال الشافعي: صاحبها أحق لها في الفَلَس والموت. وقال أبو حنيفة: صاحبها أسوة الغرماء فيهما (5) . وقال مالك: هو أحق بها في الفَلَس دون الموت. وسبب الخلاف: معارضة الأصل الكلِّي للأحاديث. وذلك: أن الأصل أن الدَّين في ذمَّة المفلس والْمَيِّت وما بأيديهما محل للوفاء، فيشترك جميع الغرماء فيه بقدر رؤوس أموالهم، ولا فرق في هذا من (6) أن تكون (7) أعيان السلع موجودة، أو لا؛ إذ قد خرجت (8) عن ملك بائعها، ووجبت أثمانها لهم في الذمة بالإجماع (9) ، فلا يكون لهم إلا أثمانها (10) إن وجدت، أو ما وُجِد منها. فتمسَّك أبو حنيفة بهذا، وردَّ الأخبار بناءً على أصله في ردِّ أخبار الآحاد عند معارضة القياس. وأما الشافعي ومالك: =(4/432)=@ فتمسكا بالأخبار الواردة في الباب، وخصَّصَا بها (11) تلك القاعدة. غير أن الشافعي تمسَّك في التسوية بين الموت والفَلَس بما رواه أبو داود من حديث أبي المعتمر (12) ، عن عمر بن خَلْدة قال: أتينا أبا هريرة رضي الله عنه في صاحب لنا أفلس. فقال: لأقضين فيكم بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أفلس أو مات، فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به. وبإلحاق الموت بالفلس؛ لأنه في معناه، ولم ينقدح بينهما فرق مؤثر عنده. وأما مالك (13) : فإنه فرَّق بينهما، لما رواه عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبدالرحمن: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أيُّما &(4/345)&$
__________
(1) أخرجه مالك في"الموطأ" (2/590 رقم8) في الوصية، باب جامع القضاء وكراهيته، عن عمر بن عبدالرحمن بن دلاف المزني، عن أبيه: أن رجلاً من جهينة كان يسبق الحاج فيشتري الرواحل فيغلي بها، ثم يسرع السير فيسبق الحاج، فأفلس، فرفع أمره إلى عمر بن الخطاب، فقال: أما بعد أيها الناس ! فإن الأسيفع أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته بأن يقال سبق الحاج، ألا وإنه قد دان معرضًا، فأصبح قد دين به، فمن كان له عليه دين فليأتنا بالغداة، فقسم ماله بينهم، وإياكم والدين، فإن أوله هم، وآخره حرب.
قال الحافظ في "التلخيص الحبير" (3/40): بسند منقطع.
(2) في (أ): «فاسد».
(3) في (ح): «فباع عليه كما يباع».
(4) في (ح) و(ك): «نفقات».
(5) في (ح) و(ك): «فيها».
(6) في (ك): «بين».
(7) في (ح): «يكون».
(8) في (ح): «أخرجت».
(9) في (ح): «بإجماع».
(10) في (ح): «بأثمانها».
(11) في (ح): «وخصصها بها».
(12) أخرجه الطيالسي (ص313 رقم2375)، وأبو داود (... رقم 3523) في البيوع، باب الرجل يفلس فيجد الرجل متاعه بعينه عنده، وابن ماجه (2/790 رقم2360) في الأحكام، باب من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس، وابن الجارود (2/204 رقم634/غوث)، والدارقطني (3/30)، والحاكم (2/50-51)، والبغوي (8/188-189 رقم2134).
جميعهم من طريق ابن أبي ذئب، عن أبي المعتمر بن عمرو بن رافع، عن عمر بن خَلْدة قال: أتينا أبا هريرة رضي الله عنه في صاحب لنا أفلس، فقال: لأقضين فيكم بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أفلس أو مات، فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به.
قال الحاكم: «هذا حديث عال صحيح الإسناد»، ووافقه الذهبي. وقال الحافظ في "الفتح" (5/62): «وهو حديث حسن يحتج بمثله».
وفي سنده: أبو المعتمر، لم يرو عنه غير ابن أبي ذئب، وذكره ابن حبان في "الثقات" (7/663). وفي "التقريب" (ص1207 رقم8444): «مجهول الحال».
(13) .............(4/345)
رجل باع متاعًا فأفلس الذي ابتاعه، ولم يقبض من ثمنه شيئًا، فوجده بعينه (1) ، فهو أحق به، فإن (2) مات الذي ابتاعه، فصاحب المتاع أسوة الغرماء».
قلت: وهذا مرسل صحيح. وقد أسنده أبو داود (3) من حديث أبي بكر بن عبدالرحمن عن أبي هريرة، وهو طريق صحيح، وفيه زيادة ألفاظ نذكرها بعد إن شاء الله تعالى، ومذهب مالك أولى؛ لأن حديثه أصح من حديث الشافعي؛ لأن أبا المعتمر مجهول على ما ذكره أبو داود، وللفرق بين الفلس والموت، وذلك: أن ذمَّة المفلس باقية، غير أنها انعابت، ويمكن أن يزول ذلك العيب بالإيسار، فيجد الغرماء الذين (4) لم يأخذوا من السلعة شيئًا ما يرجعون عليه، وليس كذلك في (5) الموت، فإن ذمَّة الميت قد (6) انعدمت، فلا يرتجعون (7) شيئًا؛ فافترقا، والله أعلم.
وقد تعسَّف بعض الحنفية في تأويل أحاديث الإفلاس تأويلات لا تقوم على أساس، ولا تتمشى على لغةٍ، ولا قياسٍ. فليُضرب (8) عن ذكرها، لوضوح فسادها. =(4/433)=@
وقوله: «فوجد الرَّجل سلعته بعينها، فهو أحق بها»؛ مقتضى دليل خطابه: أنَّه لو وجدها قد تغيَّرت عن حالها، أو وجد بعضها، لم يكن له أن يأخذها. وهذا يليق بمذهب أهل الظاهر. لكن علماؤنا فضلوا التغيُّر إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: تغير انتقال، كالعبد المتغيِّر بزمانة، أو بعتق، أو عقد من عقوده. وكالثوب المتغير بقطعه قُمُصًا، أو غيرها، وكالحنطة المتغيرة بخلط (9) مُسوِّس بها أو بغير نوعها، أو بطحنها، أو خبزها. وكالخشبة المتغيرة بجعلها بابًا، أو غيره (10) . فهذا النوع مفوِّت، ليس له الرُّجوع معه.
الثاني: تغيُّر غير انتقال، كالمتغير بالمرض اليسير، وكخلط القمح بمثله. فهذا له الرُّجوع فيه؛ إذ لا أثر لذلك التغير. ومن هذا النوع وجدان بعض السلعة. فله أن يأخذه (11) ويضرب معهم بسهمه فيما بقي.
الثالث: تغيُّر بإضافة غير السلعة (12) إليها، كالعرصة تُبنى، والغزل يُنسج. فهذا &(4/346)&$
__________
(1) قوله: «فوجده بعينه» سقط من (ح).
(2) في (ح) و(ك): «وإن».
(3) ......
(4) في (ح): «غرماء الدين».
(5) قوله: «في» سقط من (ح) و(ك).
(6) قوله: «قد» سقط من (ح).
(7) في (ح): «يرجعون»، وفي (ك): «يرجون».
(8) في (ح) و(ك): «فلنضرب».
(9) قوله: «بخلط» سقط من (ح).
(10) قوله: «أو غيره» سقط من (ح).
(11) في (ح) و(ك): «يأخذ».
(12) قوله: «غير السلعة» سقط من (ح).(4/346)
يرجع في سلعته، ويدفع قيمة البناء، والنسج. وله مشاركة الغرماء في تلك القيمة؛ إن بقي له من دينه شيء.
وفي هذا الباب فروع مختلف فيها بسبب تردُّدها بين هذه ا لأنواع.
وقوله في حديث الزهري؛ الذي خرَّجه أبو داود: «فإن كان قضاه من ثمنه شيئًا، فما بقي فهو أسوة الغرماء»؛ بمقتض هذا قال الشافعي، فرأى: أن قبض بعضه (1) مفوِّت. ولم يره مالك مفوِّتًا، مع أنه روي معناه عن الزهري، كما قدَّمناه من حديثه. فقال-أعني مالكًا (2) -: إن شاء ربُّ السِّلعة أن يردَّ ما اقتضى، ويأخذ السِّلعة، كان له ذلك. وهذا مخالف لذلك الظاهر. وفيه إشكال، غير أنّ الذي صح عند مالك هذا (3) اللفظ الذي في "موطئه"؛ أعني مرسل أبي بكر بن عبدالرحمن، =(4/434)=@ ونصَّه ما قد بيَّنَّاه (4) . وهو يدل: على هذا الشرط بدليل المفهوم. وحديث أبي هريرة الذي في الأصل (5) يدلُّ على إلغاء ذلك الشرط (6) بدليل العموم. والتمسك به راجح على التمسك بالمفهوم كما ذكرناه في أصول الفقه. فتأمل هذا، فإنَّه حَسنٌ بالغٌ. والشافعي حيث تمسك بما رراه أبو داود (7) من ذلك كان يلزمه أن يفرِّق بين الموت والفَلَس؛ لأن الحديث واحد، فإنه (8) قال فيه: «وأيُّما امريء هلك وعنده متاع امريء بعينه اقتضى منه شيئًا، أو لم يقتض فهو أسوة الغرماء». فأخذ ببعضه، وترك بعضه لحديث مجهول، كما قد بيَّنَّاه.
وما تقدَّم من الأحاديث في المفلس تدلُّ على أن جميع ما عليه من الدَّين يدخل في المحاضَّة، ما حل منها، وما لم يحل. وهو قول الجمهور، خلا أن الشافعي قال في أحد قوليه: لا يحل ما عليه من دين مؤجل. وهذا ليس بصحيح للأحاديث المتقدِّمة؛ ولأنه إذا خربت ذمَّة المفلس فقد لا تعمر. فلا يحصل لمن تأخر دينه في شيء مع أنه يمكن أن يكون عِوَض دينه موجودًا حال الفلس، أو بدله، فيؤخذ سيئه ولا يحصل له شيء، وإذا كان ذلك في الفلس كان الموت بذلك أولى. وهو متفق عليه، إلا ما يحكى عن الحسن أنه قال: لا يحل ما على الميت من ديني مؤجل. وهو محجوج بما تقدَّم؛ وبأن الدَّين إما أن يبقى متعلقًا &(4/347)&$
__________
(1) في (أ): «بعضها».
(2) قوله: «أعني مالكًا» سقط من (أ).
(3) في (ك): «هو».
(4) في (أ): «ما قدمناه».
(5) قوله: «الذي في الأصل» سقط من (ك).
(6) من قوله: «بدليل المفهوم....» إلى هنا سقط من (ح).
(7) تقدم تخريجه في باب من أدرك ماله عند المفلس.
(8) قوله: «فإنه» سقط من (ح).(4/347)
بذمة الميت، وهو محالٌ لذهابها، أو بذمَّة الورثة (1) ، وهو محال لعدم الموجب. ثم لا يلزم صاحب الدَّين اتباع ذمَّتهم، وتسليم التركة إليهم. أو يبقى هذا الدَّين لا في ذمَّة؛ فلا يطالب به أحدٌ، وهو محال. فلم يبق إلا ما ذكرناه، والله أعلم. =(4/435)=@
- - - - -
ومن باب إنظار الْمُعْسِر والتجاوز عنه
الإنظار: التأخير. والمعسر هنا: هو الذي يتعذَّر عليه الأداء في وقت دون ص وقت. فندب الشرع إلى تأخيره إلى الوتت الذي يمكنُ له ما يؤدي. وأما الْمُعْسِر بإفلاس: فتحرم مطالبته إلى أن يتبين يساره. والمال: ما يتموَّل، أو يُتملَّك من عين، وعَرَض، وحيوان، وغير ذلك. ثم قد يخصُّه أهلُ كل مال بما يكون غالب أموالهم. فيقول أصحاب الإبل: المال: الإبل. وأصحاب النخل: النخل. وهكذا.
وقوله: «ولا يكتمون الله حديثًا»؛ أي: لا يستطيع أحد أن يكتم يوم القيامة شيئًا من أعماله. فإن كتم شهدت عليه جوارحه كما يأتي. &(4/348)&$
__________
(1) في (ح): «الورث».(4/348)
وقوله: «وكان من خلقي الجواز»؛ أى: التجاوز عن حقوقه، فأمَّا من حلول الأجل فيؤخره، وأما من استيفاء الحق (1) فيسقط بعضه، أو يسامح في الزّيف.
وقول الله تعالى: «أنا أحق بذلك»؛ صدقٌ، وحقٌ؛ لأنه تعالى متفضل ببذل ما لا يستحق عليه، ومسقط (2) بعفوه عن عبده ما يجب له من الحقوق عليه. ثم يتلافاه برحمته، فيكرمه، ويقرِّبه منه، وإليه. فله الحمد كِفَاءَ إنعامه، وله الشكر على إحسانه. =(4/436)=@
وقوله: «حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له شيء من
الخير (3) »)؛ هذا العموم مخصَّص قطعًا بأنه (4) كان مؤمنًا، ولولا ذلك لما تجاوز عنه، فـ{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك} (5) ، وهل كان قائمًا بفرائض دينه من الصلاة، والزكاة، وما أشبهها؛ هذا هو الأليق بحاله. فإن هذا الحديث يشهد بأنه كان ممَّن وُقي شح نفسه. وعلى هذا: فيكون معنى هذا العموم: أنه لم يوجد له من النوافل إلا هذا. ويحتمل أن يكون له نوافل أخر، غير أن هذا كان الأغلب عليه، فنودي به، وجوزي عليه، ولم (6) يذكر غيره اكتفاءً بهذا، والله أعلم. ويحتمل أن يكون المراد بالخير: المال، فيكون معناه: أنه لم يوجد له فِعل برّ في المال إلا ما ذكر من إنظار المعسر، والله أعلم.
والتنفيس عن المعسر: تأخيره إلى الإمكان. والوضع: الإسقاط.
وقوله: «كان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر»؛ دليل على جواز إذن السيد لعبده في التجارة. وفي (7) "الأم": «أَقْبَلُ الْمَيْسُورَ، وأَتجاوزُ عن المعسر» (8) ، =(4/437)=@ رواية الجماعة: أقبل - بالهمزة المفتوحة، وبالقاف ساكنة، وبالباء بواحد تحتها مفتوحة - من القبول. والميسور: الْمُتَيسَّر (9) . ووقع لبعضهم: بضم الهمزة، وكسر القاف، وياء &(4/349)&$
__________
(1) في (ح): «الحقوق».
(2) في (ك): «ومقسط».
(3) في (ح): «من الخير شيء».
(4) في (أ): «فأنه»، وفي (ح): بأن».
(5) الآية (48) من سورة النساء.
(6) في (ح): «لم».
(7) في (ح) و(ك): «في».
(8) مسلم (3/1194 رقم1560/27) في المساقاة، باب فضل انظار المعسر، ولفظه: «أقبل الميسور، وأتجاوز عن المعسور».
(9) في (أ): «الميسر».(4/349)
باثنتين تحتها، من الإقالة، وفيه بُعْدٌ؛ لأنه لا يستقيم المعنى حتى يكون الميسور بمعنى الموسر. ولا يعطيه قانون التصريف، ولا يعضده نقل. والكرب: جمع كُرْبَة، وهي: الشدَّة، والفاقة. وكُرَب الآخرة: شدائدها، وأهوالها.
وقوله: «مطل الغني ظلم»؛ المطل: منع قضاء ما استحق أداؤه مع التمكن من ذلك، وطلب المستحق حقه (1) . وهو الذي قال فيه في الحديث الآخر: «لَيّ الواجد يحل عرضه وعقوبته» (2) ؛ أي: مطل الموسر المتمكن إذا طولب بالأداء ظلم للمستحق، يبيح من عرضه أن يقال فيه (3) : فلان يمطل الناس، ويحبس حقوقهم. ويبيح للإمام أدبه وتعزيره حتى يرتدع عن ذلك. حُكي معناه عن سفيان. و«الظلم»: وضع الشيء في غير موضعه في أصل اللغة. وهو في الشرع محرَّم مذموم. ووجهه هنا: أنه وضع (4) المنع موضع ما يجب عليه من البذل، فحاق به =(4/438)=@ الذم والعقاب. والغني الذي أضيف المطل إليه (5) هو الذي عليه الحق؛ بدليل قوله: «لي الواجد»؛ وهو الظاهر من الحديث والمراد منه، ولا يلتفت لقول من قال: إنه صاحب الحق، لبعد المعنى، وعدم ما يدل عليه.
وقوله: «وإذا أُتْبِعَ أحدكم على مليء فليتبع»؛ أُتبع -بضم الهمزة، وتخفيف التاء، وكسر الباء - مبنيًّا لما لم يُسم فاعله عند الجميع. فأما: «فليتبع» فبعضهم قَيَّده بتشديد التاء، وكذلك قيَّدته على من يوثق به. وقد روي فيفها. وهو الأجود؛ لأن العرب تقول: تبعت الرَّجل بحِّقي، أتبعه، تباعة: إذا طلبته به، فأنا له (6) تبيع -كل ذلك بالتخفيف -، ومنه قوله تعالى: {ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعًا} (7) ، ومعناه: إذا أحيل أحدكم فليحتل. وهذا الأمر عند الجمهور محمود على الندب؛ لأنه من باب المعروف والتيسير على المعسر. وقد حمله داود &(4/350)&$
__________
(1) في (ح): «وما استحق حقه».
(2) علقه البخاري ف يالاستقراض، باب لصاحب الحق مقال، بصيغة التمريض.
ووصله أحمد (4/222 و388 و389)، وأبو داود (... رقم 3628) في الأقضية، باب في الحبس في الدين وغيره، وابن ماجه (2/811 رقم2427) في الصدقات، باب في الحبس في الدين والملازمة، والنسائي (7/316 و316-317 رقم4689و4690) في البيوع، باب مطل الغني، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (2/410 و410-411 رقم949و950)، والطبراني في "الكبير" (7/318 رقم7249 و7250)، والحاكم (4/102)، والبيهقي (6/51).
جميعهم من طريق وبر بن أبي دُليلة الطائفي، عن محمد بن ميمون بن مسيكة، عن عمرو بن الشريد، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لَيّ الواجد يحل عرضه وعقوبته». قال الحاكم: «صحيح الإسناد»، ووافقه الذهبي. وحسنه الحافظ في "الفتح" (5/62).
(3) قوله: «فيه» سقط من (ح) و(ك).
(4) في (ح): «ووجهه هنا أن يقال وضع».
(5) في (ح): «الذي إليه المطل».
(6) في (ك): «إذا طلبته وأنا له».
(7) الآية (69) من سورة الإسراء.(4/350)
على الوجوب تمسَّكًا بظاهر الأمر. وهذا ليس بصحيح؛ لأن ملك الذمم كملك الأموال. وقد أجمعت الأمّة على أن الإنسان لا يخبر على المعاوضة بشيء من ملكه بملك غيره، فكذلك الذمم. وأيضًا: فإن نقل الحق من ذمة إلى ذمة تيسير على المعسر، وتنفيسٌ عنه، فلا يجب، وإنما هو من باب المعروف بالاتفاق. وإذا تقرَّر ذلك (1) فالحوالة معناها: تحويل الدَّين من ذمَّة إلى ذمَّة. وهي مستثناة من بيع الدَّين بالدَّين لما فيها من الرِّفق، والمعروف. ولها شروط: =(4/439)=@
فمنها: أن تكون بدين، فإن لم تكن بدين لم تكن حوالة، لاستحالة حقيقتها إذ ذاك، وإنما تكون حمالة.
ومنها: رضا المحيل والمحال دون المحال عليه. وهو قول الجمهور، خلافًا للاصطخري، فإنَّه اعتبره. وإطلاق الحديث حجَّة عليه. وقد اعتبره مالك إن قصد المحيل بذلك الاضرار بالمحال عليه. وهذا من باب دفع الضرر.
ومنها: أن يكون الذين المحال به حالاًّ ،؛لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «مطل الغني ظلم». ولا يصح المطل، ولا يصدق الظلم إلا في حق من وجب عليه الأداء، فيمطل. ثم قال بعده: «فإذا أتبع أحدكم فليبع»؛ فأفاد ذلك: أن الدَّين المحال به لا بُدَّ أن يكون حالاًّ؛ لأنه (2) إن لم يكن حالاًّ كَثُرَ الغَرَرُ بتأجيل الدينين.
ومنها: أن يكون الدين المحال عليه من جنس المحال به؛ لأنه إن خالفه في نوعه خرج من باب المعروف إلى باب المبايعة، والمكايسة، فيكون بيع الدَّين بالدَّين المنهي عنه. فإذا كملت شروطها برئت ذمة المحيل بانتقال الحق الذي كان عليه إلى ذمة المحال عليه. فلا يكون للمحال الرُّجوع على المحيل، وإن أفلس المحال عليه، أو مات. وهذا قول الجمهور.
وقد ذهب أبو حنيفة إلى رجوعه عليه، إن تعذر أخذ (3) الدين من المحال عليه. والأول الصحيح؛ لأن الحوالة عقد معاوضة، فلا يرجع &(4/352)&$
__________
(1) في (ح): «هذا».
(2) في (أ): «ولأنه».
(3) في (ك): «أخذه».(4/351)
بطلب أحد العوضين بعد التسليم، كسائر عقود المعاوضات؛ ولأن ذمة المحيل قد برئت من الحق المحال به بنفس الحوالة، فلا تعود مشتغلةً به إلا بعقدآخر، ولا عقد، فلا شغل (1) . غير أن مالكًا قال: إن غرَّ المحيل المحال بذمَّة المحال عليه كان له الرُّجوع على المحيل. وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه؛ لوضوحه (2) . =(4/440)=@
- - - - -
ومن باب النَّهي عن بيع فضل الماء
قوله: «نهى عن بيع فضل الماء»؛ ظاهر هذا اللفظ النهي عن نفس بيع الماء الذي يشرب، فإنه السَّابق إلى الفهم، وقد حمله بعض العلماء على ماء الفحل. وفيه بُعْدٌ، لا سيما وقد قرنه في الحديث الآخر بالنهي عن ضراب الجمل. فدل على أنه ليس هو، فإنَّه كان يكون تكرارًا بلا فائدة.
وقد اختلف في المسألتين. فأما بيع الماء: فالمسلمون مُجمعون على أن الإنسان إذا أخذ الماء من النيل مثلاً، فقد ملكه، وأن له بيعه (3) . قال بعض مشايخنا: فيه خلاف شاذٌّ، لا يلتفت إليه.
وأما ماء الأنهار، والعيون، وآبار الفيافي، التي ليست بمملوكة: فالاتفاق حاصل على أن ذلك لا يجوز منعه، ولا بيعه، ولا يشك (4) في تناول أحاديث النهي لذلك.
وأما فضل ماء في ملك: فهذا هو محل الخلاف، هل يُجْبر على بذل فضله لمن احتاجه، أو لا يُجبر؟ وإذا أجبر (5) ، فهل بالقيمة أو لا؟ قولان (6) سببهما معارضة عموم النهي عن بيع فضل الماء لأصل الملكية، وقياس الماء على الطعام إذا احتاج إليه. والأرجح - إن شاء الله تعالى- حمل الخبر على عمومه، فيجب بذل الفضل بغير بذل قيمة. ويفرّق بينه وبين الطعام بكثرة الماء غالبًا، وعدم المشاحة فيه، وقلَّة الطعام غالبًا، ووجود المشاحة فيه. =(4/441)=@
وقوله: «لا يمنع فضل (7) الماء ليمنع به الكلأ»، وفي اللفظ الآخر: «لا يبع»؛ فمعناه - والله أعلم -: أن الإنسان السَّابق للماء الذي في الفيافي إذا منعه من الماشية، فقد منع الكلأ، وهو العشب الذي حول ذلك الماء من الرعي؛ لأن البهائم لا ترعى إلا بعد أن تشرب. وهذه اللام سَمَّاها النحويون: لام كي، فهي لبيان العاقبة، والمآل، كما قال تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًّا وحزنًا} (8) . والكلام في حكم الكلأ وتفاصيله كالكلام في الماء، فتأمَّله.
وهذا (9) الحديث يفيد النهي عن بيع الكلأ، وهو حجَّة لمالك في القول بسدِّ الذرائع. وقال أهل اللغة: الكلأ - مهموزًا ومقصورًا (10) ، مفتوح الكاف - هو: العشب والنبات. والأخضر منه يُسمَّى: الرُّطْب - بضم الراء، وسكون الطاء -، واليابس منه يُسَمَّى: الحشيش.
وأمَّا المسألة الثانية - وهي مسألة بيع ماء الفحل -: فلا يختلف في فساده إذا =(4/442)=@ وقع بلفظ البيع، وأريد تحصيل العوض؛ الذي هو حصول ماء الفحل في محل الرَّحم، وعقوق الأنثى. فإنه غرر، ومجهول. وأما على معنى إجارة الفحل &(4/353)&$
__________
(1) في (ك): «فلا تشتغل».
(2) قوله: «لوضوحه» سقط من (ح).
(3) في (ك): «وإن لم يبعه».
(4) في (ح) و(ك): «ولا شك».
(5) في (أ): «جبر».
(6) في (ح): «أم لا فيه قولان».
(7) في (أ): «بيع».
(8) الآية (8) من سورة القصص.
(9) في (أ): «فهذا».
(10) في (ح) و(ك): «مهموزًا مقصورًا».(4/352)
للطَّرق أكوامًا (1) معلومة، أو إلى مدَّة معلومة: فأجازه مالك؛ لكمال شروط الإجارة، مع أن أخذ الأجرة على ذلك ليس من مكارم الأخلاق، ولا يفعله غالبًا إلا أولو (2) . الدناءة. ويكون هذا كالحجامة على ما يأتي بيانه (3) -إن شاء الله تعالى -.
وقد ذهب أبو حنيفة، والشافعي، وأبو ثور: إلى منع ذلك جملة. والأرجح -إن شاء الله تعالى - ما صار إليه مالك، لما ذكرناه. وبأنه قول جماعة من الصحابة (4) والتابعين على ما حكاه القاضي عياض.
- - - - -
ومن باب النهي عن ثمن الكلب
قوله: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب»، وفي الحديث الآخر: «وثمن الكلب خبيث»؛ ظاهرٌ في تحريم بيع الكلاب كلها، ولا شك في تناول هذا العموم لغير المأذون فيه منها (5) ، لأنها إمَّا مضرّة؛ فيحرم اقتناؤها، فيحرم بيعها. وإما غير =(4/443)=@ مضرة، فلا منفعة فيها. وأما المأذون في اتخاذها: فهل تناولها عموم هذا النهي، أم لا؟ فذهب الشافعي، والأوزاعي، وأحمد: إلى تناوله لها (6) . فقالوا: إن بيعها محرّم، ويفسخ إن وقع، ولا قيمة لما يقتل منها، واعتضد الشافعي لذلك: بأنها نجسة عنده. ورأى أبو حنيفة: أنه لا يتناولها؛ لأن (7) فيها منافع مباحة يجوز اتخاذها لأجلها، فتجوز (8) المعاوضة عليها، ويجوز بيعها. وجل مذهب مالك على &(4/354)&$
__________
(1) في (ك): «أعوامًا». ولم تتضح في (ح).
(2) في (ك): «أولى».
(3) في (أ): «بيانها».
(4) .........
(5) قوله: «منها» سقط من (ح) و(ك).
(6) قوله: «لها» سقط من (ح) و(ك).
(7) في (ح): «لا يتناولها عموم هذا لأن».
(8) في (ك): «فيجوز».(4/353)
جواز الاتخاذ، وكراهية (1) البيع، ولا يفسخ إن وقع. وقد قيل عنه مثل قول الشافعي. وقال ابن القاسم: يكره للبائع، وبجوز للمشتري للضرورة. وكان مالكًا رحمه الله في المشهور: لما لم يكن الكلب عنده نجسًا، وكان مأذونًا في اتخاذه لمنافعه الجائزة؛ كان حكمه حكم جميع (2) المبيعات. لكن الشرع نهى عن بيعه تنزها؛ لأنَّه ليس من مكارم الأخلاق. فإن قيل: فقد سوى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين ثمن الكلب، وبين (3) مهر البغي، وحلوان الكاهن في النهي عنها. والمهر والحلوان محرمان بالإجماع، فليكن ثمن الكلب كذلك.
فالجواب: إنَّا كذلك نقول. لكنه محمولٌ على الكلب الغير مأذون (4) فيه. ولئن سلمنا: أنَّه متناول (5) للكل، لكن هذا النهي هنا (6) قصد به القدر المشترك الذي بين التحريم والكراهة؛ إذ كل واحد منهما منهي عنه. ثم تؤخذ خصوصية كل واحد منهما من دليل آخر، كما قد اتفق هنا فإنا إنما علمنا تحريم مهر البغي، وحلوان الكاهن بالإجماع، لا بمجرد النهي سلمنا ذلك، لكنا لا نسلم: أنه يلزم (7) من الاشتراك في مجرد العطف الاشتراك في جميع الوجوه؛ إذ قد (8) يعطف الأمر على النهي، والإيجاب على النفي. وإنما ذلك في محل (9) مخصوص، كما بيناه
في أصول الفقه (10) . =(4/444)=@
وقوله: «شرُّ الكسب مهر البغيّ، وثمن الكلب، وكسب الحجَّام».«الكسب» في الأصل هو: مصدر. تقول: كسبت المال، أكسبه، كسبًا. وقد وقع في بعض هذا (11) الحديث موضع المكسوب، فإنه أخبر عنه بالثمن. وقد قدمنا القول في: «شر» و«خير» في كتاب الصلاة.
ومساق هذا الحديث يدلُّ على صحة ما قلناه، من أنه لا يلزم (12) المساواة في المعطوفات على ما ذكرناه في الأصول (13) ، ألا ترى أنه شرَّك بين مهر البغي، وثمن الكلب، وكسب الحجام (14) في«شر»، ثم إن نسبة الشر لمهر البغي كنسبته إلى كسب الحجَّام، مع أن (15) مهر البغي حرام بالاتفاق، وكسب الحجَّام مكروه. فقد صحَّ: أن النبي احتجم وأعطى الحجَّام أجره (16) . قال ابن عبَّاس: ولو كان حرامًا لم &(4/355)&$
__________
(1) في (ح) و(ك): «وكراهة».
(2) قوله: «جميع» سقط من (أ).
(3) قوله: «وبين» سقط من (ح) و(ك).
(4) في (ح): «المأذون».
(5) في (أ): «مساو».
(6) في (ح) و(ك): «ها هنا».
(7) في (ح): «لكنه لا يلزم».
(8) في (ح): «وقد».
(9) في (ح) و(ك): «عطف».
(10) في (ح): «الأصول الفقه».
(11) في (ح) و(ك): «وقد وقع الكسب في هذا الحديث».
(12) في (ك): «تلزم».
(13) قوله: «على ما ذكرناه في الأصول» سقط من (ح) و(ك).
(14) قوله: «وكسب الحجام» سقط من (ح).
(15) في (أ): «لأن».
(16) سيأتي في باب إباحة أجرة الحجام.(4/354)
يعطه. وقد سأل رجل - صلى الله عليه وسلم - عن كسب الحجَّام، فنهاه، ثم سأله، فنهاه، ثم سأله فقال في الثالثة: «اعلفه أناضحك، وأطعمه رقيقك (1) ») (2) ، فلو كان حرامًا لما أجاز له تملكه، ولا أن يدفع به حقًّا واجبًا عليه، وهو: نفقة الرقيق، فيكون«شرّ» في كسب الحجَّام بمعنى: ترك الأولى، والحضّ على الورع. وهذا مثل ما تقدَّم من قوله: «شر صفوف النساء أولها» (3) . ويكون«شرّ» في مهر البغي =(4/445)=@ على (4) التحريم.
وعلى هذا: فإما أن يحمل لفظ: «شر» في صدر الحديث على قدر مشترك بين المحرَّم والمكروه، أو على أن اللفظ المشترك قد يراد به جميع متناولاته. وقد بيَّنَّا ذلك في أصول الفقه. وهذا كلُّه إذا تنزلنا على أن كسب الحجَّام هو ما يأخذه أجرة على نفس عمل الحجامة، فإن (5) حملناه على ما يكتسبه (6) من بيع الدَّم. فقد كانوا في الجاهلية يأكلونه، فلا يبعُد أن يكونوا يشترونه للأكل، فيكون ثمنه حرامًا. كما قد قال: «إن الله إذا حرَّم على قوم شيئًا حرَّم عليهم ثمنه» (7) . وقد جاء في بعض طرق هذا الحديث: «ثمن الدَّم حرام» (8) .
و«حلوان الكاهن» هو: ما يأخذه على تكهنه. يقال: منه (9) حلوت الرجل، أحلوه: إذا أعطيته شيئًا يستحليه. كما يقال: عسلته، أعسله: إذا أطعمته عسلاً. ومنه: قيل للرِّشوة، ولما يأخذه (10) الرَّجل من مهر ابنته حلوانًا؛ لأنها كلَّها عطايا حلوة مستعذبة.
وفيه ما يدلُّ على تحريم ما يأخذه الحسَّاب، والمنجمون في الرمل، والخط، وغير ذلك؛ لأن ذلك كلُّه تعاطي علم الغيب، فهي (11) في معنى الكهانة. وما يؤخذ على كل ذلك محرَّم بالإجماع على ما حكاه أبو عمر.
وقوله: «ثمن الكلب خبيث، وكسب الحجَّام خبيث»؛ إن حملنا الكلب جام هنا (12) على العموم كان الخبيث بمعنى المكروه تسوية بينه وبين كسب الحجَّام. فقد (13) &(4/356)&$
__________
(1) في (ك): «ناضحك»، وفي الهامش: «رقيقك».
(2) .............
(3) تقدم في الصلاة، باب في صفوف النساء وخروجهن إلى المساجد.
(4) قوله: «على» سقط من (أ).
(5) في (ح): «فإذا».
(6) في (ح): «يكسبه».
(7) سيأتي قريبًا في باب تحريم بيع الخمر والميتة.
(8) أخرجه البخاري (4/314 و426 رقم2086 و2238) في البيوع، باب موكل الربا، وباب ثمن الكلب.
(9) قوله: «منه» سقط من (ك).
(10) في (ح): «يأخذها».
(11) في (ح) و(ك): «فهو».
(12) في (ح) و(ك): «هاهنا».
(13) في (ح) و(ك): «وقد».(4/355)
تبيَّن (1) أنه مكروه، وإن حملناه على غير المأذون في اتخاذه كان الخبيث بمعنى: الحرام. وحينئذ ينشأ البحث الذي قررناه انفًا. =(4/446)=@
وقوله: «زجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب والسِّنَّور»؛ لفظ: «زجر» يشعر بتخفيف النهي عنهما، وأنَّه ليس على التحريم كما قررناه بل على التنزه عن ثمنهما (2) . وقد كره بيع السِّنور أبو هريرة، ومجاهد، وغيرهما أخذًا بظاهر هذا الحديث.
واختلفوا في معنى ذلك؛ فمنهم من علَّه: بأنه لا يثبت، ولا يمكن انضباطه، وهذا ليس بشيء (3) . وهذه (4) مناكرة للحِسِّ، فإنها تنضبط في البيوت آمادًا طويلة، وتسلُّمه ممكن حالة البيع، فقد كملت شروط البيع. ثم (5) إن شاء مشتريه ضبطه، وإن شاء سيَّبَه. وأحسن من هذا أن بيعه، وبيع الكلب ليس من مكارم الأخلاق، ولا من عادة أهل الفضل. والشرع ينهى عما يناقض ذلك، أو يباعده، كما قلنا في طرق الفحل، وكذلك نقول في كسب الحجَّام؛ لأنه عمل خسيس، لا يتعاطاه إلا أهل الخسَّة والدناءة كالعبيد، ومن جرى مجراهم.
و«مهر البغي» هو (6) : ما تأخذه الزانية على الزنى. والبغاء: الزِّنى. والبغيُّ: مهر الزانية. ومنه قوله تعالى: {ولاتكرهوا (7) فتياتكم على البغاء} (8) ؛ أي: على الزِّنى. وأصل البغي: الطلب، غير أنه أكثر ما يُستعمل في طلب الفساد وفي الزِّنى. =(4/447)=@ &(4/357)&$
__________
(1) في (أ): «بيّن».
(2) في (ح): «ثمنيهما»، وفي (ح): «ثمنها».
(3) في (ح): «وليس هذا بشيء».
(4) في (ح) و(ك): «وهي».
(5) قوله: «ثم» سقط من (ك).
(6) قوله: «هو» سقط من (أ).
(7) في (ك): «لا تكرهوا».
(8) الآية (33) من سورة النور.(4/356)
- - - - -
ومن باب ما جاء في قتل الكلاب
حديث ابن عمر روي مطلقًا من غير اسثناء، كما قال (1) في رواية (2) مالك عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الكلاب (3) . وروي مقيَّدًا بالاستثناء المتَّصل، كرواية عمرو بن دينار، عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الكلاب (4) إلا كلب صيد، أو كلب غنم، أو ماشية (5) . فيجب على هذا ردّ مطلق إحدى الروايتين إلى مقيَّدهما، فإن القضية واحدة، والرَّاوي لهما واحد. وما كان كذلك وجب فيه ذلك بالإجماع، كما بيَّنَّاه في أصول الفقه. وهذا واضح في حديث ابن عمر.
وعليه: فكلب الصيد، والماشية، لم يتناولهما قط عموم الأمر بقتل (6) الكلاب، لاقتران استثنائهما (7) من ذلك العموم.
وإلى الأخذ (8) بهذا الحديث ذهب مالك، وأصحابه، وكثير من العلماء. فقالوا: بقتل (9) الكلاب (10) إلا ما استثني منها، ولم يروا الأمر بقتل ما عدا المستثنى منسوخًا، بل محكمًا. وأما حديث عبد الله بن مغفل: فمقتضاه غير هذا. وذلك: أنَّه قال فيه: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب، ثم قال: «ما بالهم وبال الكلاب (11) »). ثم رخص في كلب الصيد، وكلب الغنم، والزرع (12) . ومقتضى هذا: أنَّه أمرهم بقتل =(4/448)=@ جميع الكلاب من غير استثناء شيء منها، فبادروا، وقتلوا كل ما وجدوا منها، ثم بعد ذلك رخص فيما ذكر. فيكون هذا الترخيص من باب النسخ؛ لأن العموم قد استقرَّ، وبردَ، وعمل عليه، فرفع الحكم عن شيء مما تناوله نسخ لا تخصيص. وقد ذهب إلى هذا في هذا الحديث بعض العلماء. &(4/358)&$
__________
(1) قوله: «قال» سقط من (ك).
(2) في (ح): «الرواية».
(3) مسلم (3/1200 رقم1570/43) في المساقة، باب الأمر بقتل الكلاب.
(4) من قوله: «وروي مقيدًا....» إلى هنا سقط من (ح).
(5) مسلم (3/1200 رقم1571) في الموضع السابق.
(6) في (ح): «بالقتل».
(7) في (أ): «استثنائها».
(8) في (ك): «استثنائهما بذلك وإلى الأخذ».
(9) في (ك): «تقتل».
(10) قوله: «الكلاب» سقط من (ح) و(ك).
(11) في (ح): «ما بالهم يقتلون الكلاب».
(12) في (ح): «وكلب الزرع».(4/357)
ونحو من حديث عبدالله بن المغفل حديث جابر بن عبدالله، قال: قد أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب، حتى أن المرأة تقدم من البادية بكلبها، فنقتله (1) ، ثم نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتلها فقال: «عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين (2) ؛ فإنه شيطان». فمقتضاه: أن الأمر كان بقتل الكلاب عامًّا لجميعها، وأنه نسخ عن في جميعها (3) إلا الأسود. وقد ذهب إلى هذا بعض العلماء.
ولَمَّا اضطربت هذه اد الأحاديث المروية وجب عرضها على القواعد الأصولية، فنقول: إن حديث ابن عمر ليس فيه أكثر من تخصيص عموم باستثناء مقترن (4) به، وهو أكثر في تصرفات الشرع من نسخ العموم بكليته. وأيضًا: فإن هذه الكلاب المستثنيات الحاجة إليها شديدة، والمنفعة بها عامَّة وكيدة، فكيف يأمر بقتلها؛ هذا بعيد من مقاصد الشرع، فحديث ابن عمر أولى، والله أعلم.
قلت: والحاصل من هذه الأحاديث: أن قتل الكلاب غير المستثنيات مأمور به (5) إذا أضرَّت بالمسلمين، فإن كثر ضررها وغلب، كان الأمر على الوجوب، وإن قل وندر، فإن كلب أضرَّ (6) وجب قتله، وما عداه جائز قتله؛ لأنه سبع لا منفعة فيه، وأقل درجاته توقع الترويع، وأنه يُنقص من أجر مقتنيه كل يوم قيراطين (7) . فأمَّا (8) المرَوِّع منهن (9) غير المؤذي: فقتله مندوب إليه. وأما الكلب =(4/449)=@ الأسود ذو (10) النقطتين: فلا بُدَّ من قتله للحديث المتقدِّم، وقل ما ينتفع بمثل تلك الصفة؛ لأنه إن كان شيطانًا على الحقيقة فهو ضرر محض، لا نفع فيه، وإن كان على التشبيه به، فإنما شبه به للمفسدة الحاصلة منه. فكيف يكون فيه منفعة؟! ولو قدرنا فيه: أنه ضار، أو للماشية، لقتل؛ لنصّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على قتله (11) .
وقول ابن عمر: «كان لأبي هريرة زرع»؛ لا يفهم منه أحد من العقلاء تهمة في حق أبي هريرة. وإنما أراد ابن عمر: أن أبا هريرة لما كان صاحب زرع وكان محتاجًا لما يحفظ به زرعه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فأجابه بالاستثناء، فحصل له علم لم يكن عند ابن عمر، ولا عند غيره ممن لم يكن له (12) اعتناء بذلك ولا تهمم (13) . &(4/359)&$
__________
(1) في (ح): «فقتله».
(2) في (ح): «الطفيتين».
(3) في (ح): «قتل جميعها».
(4) في (أ): «فيقترن».
(5) في (ح): «بها».
(6) في (ح): «ضر».
(7) .............
(8) في (أ): «وأما».
(9) في (ح): «منهم».
(10) في (ح): «و».
(11) قوله: «على قتله» سقط من (ك).
(12) قوله: «له» سقط من (ح).
(13) في (ح): «تهم»، وفي (ك): «هم».(4/358)
وكلب الماشية المباح اتخاذه عند مالك هو: الذي يسرحُ معها، لا الذي يحفظها في الدَّار من السُّرَّاق. =(4/450)=@
وكلب الزرع هو: الذي يحفظه من الوحوش بالليل والنهار (1) ، لا من السُّراق. وقد أجاز غير مالك اتخاذها لسُّرَّاق الماشية والزرع (2) .
والكلب الضاري هو: المعلَّم للصيد؛ الذي قد (3) ضري به.
وقوله: «من اقتنى كلبًا ليس كلب صيد ولا ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان»، وفي أخرى: «في عمله كل يوم قيراط». اقتنى، واتَّخذ، واكتسب (4) : كلها بمعنى واحد.
واختلف في معنى قوله: «نقص من عمله كل يوم قيراطان»؛ وأقرب ما قيل في ذلك قولان:
أحدهما: أن جميع ما عمله من عمل ينقص؛ لمن اتخذ ما نُهي عنه من الكلاب بإزاء كل يوم يُمسكه فيه جزءان (5) من أجزاء ذلك العمل. وقيل: من عمل =(4/451)=@ ذلك اليوم الذي يمسكه فيه، وذلك لترويع الكلب للمسلمين (6) ، وتشويشه عليهم بنباحه، ومنع الملائكة من دخول البيت،
ولنجاسته (7) على ما يراه الشافعي.
الثاني: أن يَحْبِط من عمله كله عملان، أو من عمل يوم إمساكه -على ما تقدم - عقوبة له على ما اقتحم من النهي، والله أعلم.
والقيراط: مثل لمقدار الله أعلم به، وإن كان قد جرى العرف في بلاد يعرف &(4/360)&$
__________
(1) في (أ): «بالليل أو النهار».
(2) في (ح): «للسراق والماشية والزرع».
(3) قوله: «قد» سقط من (ح).
(4) قوله: «واكتسب» سقط من (أ).
(5) قوله: «جزءان» سقط من (ك).
(6) في (أ): «المسلمين».
(7) في (ح) و(ك): «أو لنجاسته».(4/359)
فيها القيراط، فإنه جزء من أربعة وعشرين جزءًا. ولم يكن هذا اللفظ غالبًا عند العرب، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : «تفتح عليكم أرض يذكر فيها القيراط، فإذا فتختموها فاستوصوا بأهلها خيرًا» (1) ، يعني بذلك مصر، والله أعلم. وجاء في إحدى الروايتين: «قيراطان». وفي أخرى: «قيراط». وذلك يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب. أحدهما أشدُّ أذىً (2) من الآخر، كالأسود المتقدم الذكر. ويحتمل أن يكون ذلك باختلاف المواضع، فيكون ممسكه بالمدينة مثلاً، أو بمكة (3) ينقصه قيراطان، وبغيرهما (4) قيراط، والله أعلم. =(4/452)=@ &(4/361)&$
__________
(1) سيأتي في النبوات، باب نا ذكر في مصر وفي عمان.
(2) قوله: «أذى» سقط من (ح).
(3) قوله: «أو بمكة» سقط من (ك).
(4) في (ح) و(ك): «وبغيرها».(4/360)
- - - - -
ومن باب إباحة أجرة الحجَّام
حديث أنس؛ وحديث ابن عبَّاس يدلاَّن: على جواز الاحتجام: الحاجم والمحجوم (1) . وجواز أخذ الأجرة على ذلك. وقد بيَّنا وَجه كراهيتها. وفيه ما يدل: على توظيف الخراج على العبيد إذا كانت لهم صنائع، لكن على جهة الرِّفق، لا العنف. ويكلَّف من ذلك ما يقدرعليه، ويُستحب التخفيف عنهم، كما قد كلَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - سادات أبي طيبة في التخفيف.
وقوله: «إن أفضل ما تداويتم به الحجامة»؛ هذا الخطاب متوجهٌ لمن غلب عليه الدَّم، بإخراجه بالحجامة أولى وأسلم من إخراجه بقطع العروق والفصاد. ويحتمل أن يكون الذين قال لهم هذا كان الغالب عليهم هيجان الدَّم، فأرشدهم إلى إخراجه على الجملة بالحجامة لما ذكرناه (2) من السَّلامة.
و«القسط البحري» يتداوى به تبخرًا واستعاطًا. وفي بعض الحديث: «يستعط (3) به من العذرة» (4) ؛ وهي: وجع الحلق. =(4/453)=@ &(4/362)&$
__________
(1) في (ك): «للحاجم».
(2) في (ح): «ذكرنا».
(3) في (ح) و(ك): «يسعط».
(4) البخاري (10/150 رقم5696) في الطب، باب الحجامة من الداء.(4/361)
وقوله: «لا تعذِّبوا أولادكم بالغمز»؛، يعني بذلك: من إصابة وجع الحلق؛ وهي: سقوط اللهاة من الصبيان، فلا تعذبوه برفعها بالأصابع. وأحال على السعوط بالقسط (1) البحري، فإنه ينفع من ذلك إن شاء الله، وسيأتي تكميل ذلك في الطب إن شاء الله تعالى. =(4/454)=@
- - - - -
ومن باب تحريم بيع الخمر
قوله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله يعرِّض بالخمر، ولعل الله سينزل فيها أمرًا، هذا التعريض، وهذا التوقع إنما فهمه النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله تعالى: {يسئلونك (2) عن الخمر والميسر قل فيهما أثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} (3) ، ومن قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} (4) ، وذلك: أنه لما سمع أن فيهما إِثْمًا كبيرًا، وأن إثمهما أكبر من نفعهما، وأنه قد منع من الصلاة في حال السُّكر؛ ظهر له: أن هذا مناسب للمنع منها، فتوقع ذلك. &(4/363)&$
__________
(1) قوله: «بالقسط» سقط من (ح).
(2) في (أ): «ويسئلونك».
(3) الآية (219) من سورة البقرة.
(4) الآية (43) من سورة النساء.(4/362)
وقوله: «فمن كان عنده منها شيء فليبعه، ولينتفع به »؛ فيه دليل (1) على أن الخمر وبيعها كانا مباحين إباحة متلقاة من الشرع؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرر أصحابه عليها، وليس ذلك من باب البقاء على البراءة الأصلية؛ لأن إقراره دليلُ الجواز والاباحة، كما قررناه في الأصول. وفيه دليلٌ على اغتنام فرصة المصالح المالية إذا عرضت، وعلى صيانة المال، وعلى بذل النصيحة والإشارة بأرجح ما يعلمه من الوجوه المصلحية.
وقوله: «فما لبثنا إلا يسيرًا حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله حرَّم الخمر، فمن =(4/455)=@ أدركته هذه الآية وعنده منها شي فلا يشرب، ولا يبع»؛ يعني بالآية: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان (2) } (3) ، وسيأتي الكلام عليها.
ويعني بقوله: «من أدركته»؛ أي: من (4) بلغته وهو بصفات المكلفين من العقل والبلوغ. وقد فهمت الصحابة رضي الله عنهم من نهيه عن الشرب والبيع: أنها (5) لا ينتفع بها بوجه من الوجوه، ولذلك بادروا إلى إراقتها، وإتلافها. ولو كان فيها منفعة من المنافع الجائزة لنبَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها، كما نبَّه على ما في جلد الميتة من (6) المنفعة؛ لما قال: «هلاَّ أخذتم إهابها فدبغتموه، فانتفعتم به» (7) ، وعلى هذا: فلا يجوز تخليلها، ولا أن تعالج بالملح والسَّمك فيصنع منها الْمُرْي. وإلى مَنْع ذلك ذهب الجمهور: مالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم. وحكي جواز تخليلها عن أبي حنيفة، والأوزاعي، والليث. وقد دلَّ على فساد هذا ما ذكرناه انفًا، وما يأتي من نهيه عن اتخاذ الخمر خلاًّ. وسيأتي مزيد بيان على هذا.
قال القاضي عياض: وفي هذا (8) أيضًا (9) : منع الانتفاع بها للتداوي، وغير ذلك من العطش عند عدم الماء، ولتجويز لقمة غص بها. وهو قول مالك، والشافعي، وغيرهم. وأجاز ذلك أبو حنيفة، وأحمد. وقاله بعض أصحابنا. وروي عن الشافعي: جوازه أيضًا إذا خاف التلف، وقاله أبو ثور. &(4/364)&$
__________
(1) في (ك): «ذلك».
(2) قوله: «رجس من عمل الشيطان» ليس في (ح).
(3) الآية (90) من سورة النساء.
(4) قوله: «من» سقط من (ك).
(5) في (ح) و(ك): «أنه».
(6) في (ك): «في».
(7) تقدم في الطهارة، باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت.
(8) قوله: «هذا» سقط من (أ).
(9) قوله: «أيضًا» سقط من (ك). ولم تتضح في (ح).(4/363)
قلت: وإذا امتنع الانتفاع بها مطلقًا فلا يصح تملكها لمسلم، ولا تقر في يديه (1) ، بل تتلف عليه. ويجب ذلك عليه. ويتلفها الوصف على اليتيم. وقد ذكر ابن =(4/456)=@ خواز منداد من قدماء أصحابنا العراقيين: أنها تملك، ونزع إلى ذلك: بأنها يمكن أن يزال (2) بها الغُصص، ويُطفأ بها الحريق، فتملك لذلك. وهذا نقل لا يعرف لمالك، ولا يلتفت (3) لشيء (4) مما قيل هنالك؛ لأنا لا نسلم جواز ذلك، على ما ذكرناه آنفًا (5) فيمن غص بلقمة. ولو سلمنا ذلك فلا يلتفت إليه لندوره، وعدم وقوعه. وإنما ذلك تجويز وهمي، وتقدير ذهني، فاعتباره وسواسٌ أعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عنه، ولم يلتفتوا إلى شيء منه (6) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - للمُهْدِي راوية الخمر: «هل علمت أن الله حرَّمها»، وقول الْمُهْدِي: لا؛ يدلُّ على قرب عهد التحريم بزمن الإهداء. ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيَّن له الحكم، ولم يوبخه، ولم يذمَّه؛ لأن الرَّجل كان متمسِّكًا بالإباحة المتقدِّمة، ولم يبلغه الناسخ، فكان ذلك دليلاً: على أن الحكم لا يرتفع بوجود الناسخ، بل ببلوغه، كما قرَّرناه في الأصول.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «بم ساررته؟» دليل: على أن العالم إذا خاف على أحد الوقوع فيما لا يجوز وجب عليه أن يستكشف عن ذلك الشيء حتى يتبين وجهه له، ولايكون هذا من باب التجسس، بل من باب النصيحة والإرشاد.
وقوله: «إن الذي حرَّم شربها حرَّم بيعها»؛ الذي هنا: كناية عن اسم الله تعالى، فكأنه قال: إن الله الذي حرَّم شربها حرَّم بيعها (7) . ويحتمل أن يكون معناه: =(4/457)=@ إن الذي أوجب تحريم شربها أوجب تحريم بيعها (8) ؛ إذ لا تراد إلا للشرب، فإذا حرم الشرب لم يجز البيع؛ لأنه يكون من باب أكل المال بالباطل. وقد دلَّ على صحة هذا &(4/365)&$
__________
(1) في (ك): «يده».
(2) في (ك): «تزال».
(3) في (ك): «نلتفت».
(4) في (ح): «بشيء».
(5) في (ح) و(ك): «آنفًا من الخلاف».
(6) في (أ): «ولا يلتفتوا شيئًا منه».
(7) في (أ): «إن الله حرَّم شربها، وحرَّم بيعها».
(8) في (ح) و(ك): «إن الذي اقتضى تحريم شربها اقتضى تحريم بيعها».(4/364)
قوله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله إذا حرَّم على قوم شيئًا حرَّم عليهم ثمنه» (1) ؛ يعني: شيئًا يؤكل، أو يشرب؛ لأن ذلك هو السبب الذي خرج عليه الحديث، ويلحق به كل محرَّم نجس لا منفعة فيه.
واختلف في جواز بيع ما فيه منفعة منها، كالأزبال، والعذرة. فحرم ذلك الشافعي، ومالك، وجُلّ أصحابنا. وأجاز ذلك الكوفيون، والطبري. وذهب آخرون: إلى إجازة ذلك للمشتري دون البائع. ورأوا: أن المشتري أعذر من البائع؛ لأنه مضطر إلى ذلك. روي ذلك عن بعض أصحابنا (2) . وهي قولة عن الشافعي.
وقد فهم الجمهور من تحريم الخمر وبيعها، والمنع من الانتفاع (3) بها، واستخباث الشرع لها، لإطلاق الرِّجس عليها، والأمر باجتنابها، الحكمَ بنجاستها (4) . وخالفهم في ذلك ربيعة وحده من السلف فرأى: أنها طاهرة، وأن المحرَّم إنما هو شربها. وهو قولٌ شاذ يردُّه ما تقدَّم. وما كان يليق بأصول ربيعة، فإنه قد علم: أن الشرع قد بالغ في ذم الخمر حتى لعنها وعشرة بسببها (5) ، وأمر باجتنابها، وبالغ في الوعيد عليها. فمن المناسب بتصرفات الشرع الحكم بتنجيسها مبالغة في المباعدة عنها (6) ، وحماية لقربها (7) . فان قيل: التنجيس حكم شرعي، ولا نصّ فيه، ولا يلزم من كون الشيء محرَّمًا أن يكون نجسًا؛ فكم من محرّم في الشرع ليس بنجس. =(4/458)=@
فالجواب (8) : أنها وإن لم يكن فيها لفظ (9) نصٌّ بالوضع الْمُتَّحِد، لكن فيها ما يدلُّ &(4/366)&$
__________
(1) يأتي في باب تحريم بيع الخمر والميتة.
(2) في (ح): «السلف».
(3) في (ح) و(ك): «ذلك الانتفاع».
(4) في (ك): «بالنجاسة».
(5) روي الحديث عن جماعة من الصحابة:
1 - ابن عباس: أخرجه أحمد (1/316)، وعبد بن حميد (ص... رقم686)، والفسوي (2/530-531)، وابن حبان (12/178-179 رقم5356/الإحسان)، والطبراني في "الكبير" (12/180 رقم12976)، والحاكم (4/145).
جميعهم من طريق مالك بن حسين الزيادي، عن مالك بن سعد التجيبي، أنه سمع عبدالله بن عباس رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أتاني جبريل فقال: يا محمد ! إن الله عزّ وجلّ لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وشاربها، وبايعها، ومبتاعها، وساقيها، ومسقاها».
قال الحاكم: «صحيح الإسناد»، ووافقه الذهبي. وصحح إسناده المنذري في "الترغيب والترهيب" (3/208 رقم3471).
ومالك بن خير الزبادي: روى عن مالك بن سعد التجيبي، وأبي قبيل المغافري، روى عنه جمع، وقال الذهبي: «محله الصدق»، وذكره ابن حبان في "الثقات"، والفسوي في "ثقات التابعين من أهل مصر"، وقال ابن القطان: «لم تثبت عدالته».
قال الذهبي: «يريد أنه ما نصّ أحد على أنه ثقة، وفي رواة "الصحيحين" عدد كثير ما علمنا أن أحدًا نصَّ على توثيقهم، والجمهور على أن من كان من المشايخ قد روى عنه جماعة ولم يأت بما ينكر عليه أن حديثه صحيح».
ولكن قال ابن حجر في "لسان الميزان": «وهذا الذي نسبه إلى آخره لا ينازع فيه، بل ليس كذلك، بل هذا شيء نادر؛ لأن غالبهم معرفون بالثقة، إلا من خرَّجا له في الاستشهاد».
ومالك بن سعد التجيبي: قال أبو زرعة: «مصري لا بأس به»، وذكره ابن حبان في "الثقات". "تعجيل المنفعة" (2/224 و225 رقم989 و991)، و"الميزان" =
= (3/426)، و"اللسان" (5/3).
2 - ابن عمر: وله عنه طرق:
أ - أبة طعمة وعبدالرحمن الغافقي: أخرجه أحمد (2/25 و71)، وأبو داود (.. رقم 3674) في الأشربة، باب العنب يعصر للخمر، وابن ماجه (2/1121-1122 رقم3380) في الشربة، باب لعنت الخمر على عشرة أوجه، وأبو يعلى (9/441-442 رقم5591).
جميعهم من طريق عبدالعزيز بن عمر بن عبدالعزيز، عن أبي طعمة، وعبدالرحمن بن عبدالله الغافقي، عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن الخمر، وشاربها... الحديث.
أبو طعمة: هو مولى عمر بن عبدالعزيز، اسمه: هلال، روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وهو قارئ مصر، وثقه ابن عمار الموصلي. "تهذيب الكمال" (33/436-438 رقم7451)، وفي "التقريب" (ص165 رقم8247): مقبول ! ولم يثبت أن مكحولاً رماه بالكذب. وفي "الكاشف" (2/437 رقم6695): ثقة.
وعبدالرحمن بن عبدالله الغافقي: روى عن ابن عمر، روى عنه عبدالعزيز بن عمر ابن عبدالعزيز، قال عثمان بن سعد الدارمي: سألت يحيى بن معين عنه؟ فقال: لا أعرفه. قال ابن عدي: إذا قال مثل ابن معين: لا أعرفه، فهو مجهول غير معروف، وإذا عرفه غيره لا يعتمد على معرفته؛ لأن الرجال بابن معين تستبر أحوالهم. "تهذيب الكمال" (17/243-245 رقم3880). وفي "التقريب" (ص587 رقم3952): أمير الأندلس، مقبول من الثالثة، استشهد سنة خمس عشر ومائة.
وقال الذهبي في "الديوان": مجهول ! لكن ذكره ابن خلفون في "الثقات"، وقال: «كان رجلاً صالحًا جميل السيرة». وقال أبو زرعة: «مصري لا بأس به». "الجرح والتعديل" (5/95 رقم440)، "تهذيب الكمال" (....).
ب - أبو طعمة: أخرجه أحمد (2/71)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (8/399 رقم3343)، والبيهقي (8/287). ثلاثتهم من طريق ابن لهيعة.
واخرجه البيهقي (8/287) من طريق عبدالله بن عيسى. كلاهما - ابن لهيعة، وعبدالله بن عيسى -، عن أبي طعمة، عن ابن عمر، فذكره.
جـ - ثابت بن يزيد الخولاني: أخرجه البخاري في "الكبير" (2/172)، والطحاوي في الموضع السابق (3342)، والبيهقي (8/287). ثلاثتهم من طريق خالد بن يزيد، عن ثابت بن يزيد الخولاني، عن ابن عمر...، فذكره.
وخالد بن يزيد: هو مولى ابن أبي صبيغ الإسكندراني المصري، مولى بني جمح، وثقه أبو زرعة، وقال أبو حاتم: «لا بأس به»."الجرح والتعديل" (3/358 رقم1619).
وثابت بن يزيد الخولاني: روى عنه اثنان، وذكره ابن جبان في "الثقات" (4/93)، وسكت عنه البخاري في "تاريخه" (2/172 رقم2096)، ولم يسمع من ابن عمر، بينهما: ابن عمه.
د - أبو توبة المصري: أخرجه الطيالسي (ص264 رقم1957) عن محمد بن أبي حميد، عن أبي توبة المصري، عن ابن عمر...، فذكره.
ومحمد بن أبي حميد: ضعيف، كما في "التقريب" (ص839 رقم5873). وأبو توبة المصري: لم أجد له ترجمة.
هـ - عبدالله بن عبدالله بن عمر: أخرجه سعيد بن منصور (4/1594-1595 رقم816)، وأحمد (2/97)، وأبو يعلى.. رقم 5583)، والحاكم (2/31-32).
جميعهم من طريق فليح بن سليمان، عن سعيد بن عبدالرحمن بن وائل، عن عبدالله بن عبدالله بن عمر، عن أبيه...، فذكره.
وسنده ضعيف. انظر "سنن سعيد بن منصور" بتحقيقي.
وجملة القول: أن الحديث صحيح بمجموع طرقه، فقد صححه ابن السكن، كما في "التلخيص الحبير" (3/73)، والألباني في "افرواء" (5/364-367 رقم 1529).
3 - أنس بن مالك: أخرجه ابن ماجه (2/1122 رقم3381) في الموضع السابق، والترمذي (3/589 رقم 1295) في البيوع، باب النهي أن يتخذ الخمر خلاًّ. كلاهما من طريق أبي عاصم الضحاك بن مخلد، عن شبيب بن بشر، عن أنس بن مالك...، فذكره.
قال الترمذي: «هذا حديث غريب من حديث أنس».
وشبيب بن بشر: صدوق يخطئ، كما في "التقريب" (ص430 رقم2753).
(6) من قوله: «فمن المناسب....» إلى هنا سقط من (ح).
(7) في (ك): «لقربانها».
(8) في (أ): «والجواب».
(9) قوله: «لفظ» سقط من (ح) و(ك).(4/365)
دلالة النصوصية بمجموع قرائن الآية ومساقها. ويَعْرفُ ذلك من تصفَّح الآية وتفهَّمها. ثئم ينضاف الى الآية جملة ما ذكرناه، فيحصل اليقين بالحكم بتنجيسها. ثم لو التزمنا ألا نحكم بحكم إلا (1) حتى نجد فيه نصًّا لتعطلت الشريعة، فإن النصوص فيها قليل. وأيُّ نص يوجد على تنجيس البول، والعذرة، والدَّم، والميتة، وغير ذلك، ولا يوجد نصٌّ على تنجيس شيء مما هنالك. وإنما هي الظواهر، والعمومات (2) ، والأقيسة(7).
وقوله: لا يلزم من الحكم بالتحريم الحكم بالتنجيس. قلنا: لم (3) نستدل بمجرد التحريم، بل بتحريم مستخبث شرعي يحرم شربه، وإن شئت أن تحرر قياسًا؛ قلت: مستخبث شرعًا (4) ، يحرم شربه، فيكون نجسًا كالبول، والدَّم. وهذا هو الأولى بربيعة، فإنه الملقَّب بـ« ربيعة الرأي». والله تعالى أعلم.
وقد استدل بعض من تابع ربيعة على عدم تنجيس الخمر، وهو سعيد ابن الحداد القروي بسفك الخمر على طرق المدينة. قال: ولم كانت نجسة لما فعلوا ذلك، ولنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه، كما نهى عن التخلِّي في الطرق (5) (6) .
والجواب: أن الصحابة رضي الله عنهم فعلت ذلك لضرورة الحال، لأنهم لم يكن (7) لهم سُروبٌ، ولا آبارٌ يريقونها (8) فيها؛ إذ (9) الغالب من (10) حالهم: أثهم لم تكن لهم كُنُف في بيوتهم. وقالت عائشة رضي الله عنها: إنهم كانوا يتقذرون من اتخاذ الكنف في البيوت (11) . ونَقْلها إلى خارج المدينة فيه كلفة، ومشقة، ويلزم منه تأخير ما وجب على الفور، فالتحق صبها في الطرق بالنجاسات التي لا تنكُّ الطرق عنها، كأرواث الدواب، وأبوالها. وأيضًا: فإنها يمكن التحرُّز منها، =(4/459)=@ فإن طرق المدينة كانت واسعة، ولم تكن الخمر من الكثرة، بحيث تصير نهرًا يعم الطريق &(4/367)&$
__________
(1) قوله: «إلا» سقط من (ك).
(2) في (ك): «المعلومات». ... (7) قوله: «والأقيسة» سقط من (ح).
(3) في (ح): «لا».
(4) في (أ) و(ح): «شرعي».
(5) في (ك): «الطريق».
(6) تقدم في الطهارة، باب ما جاء في استقبال القبلة واستدبارها.
(7) في (ح): «تكن».
(8) في (ح): «يريقوا».
(9) في (ك): «إذا».
(10) في (ح): «على».
(11) سيأتي في التفسير، باب ومن سورة النور.(4/366)
كلّها، بل إنما جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرُّز عنها. هذا مع مايحصل في ذلك من فائدة شهرة إراقتها في طرق المدينة ليشيع العمل على مقتضى تحريمها من إتلافها، وأنه لا ينتفع بها. ويتتابع (1) الناس، ويتوافقوا على ذلك، والله أعلم.
وقوله: «ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها»؛ دليل: على أن أواني الخمر إذا لم تكن مضرّاة بالخمر؛ أنه يجوز استعمالها في غير الخمر إذا غسلت، ألا ترى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليه إبقاءها عنده، ولا أمره بشقها، ولو كانت نجسه لا يطهرها الغسل لأمره بشقِّها، وتقطيعها، كما فعل أبو طلحة لَمَّا قال لأنس: قم إلى هذه الجرار فكسرها. قال أنس: فقمت إلى مهراس لنا، فضربتها بأسفله حتى تكسرت (2) .
و«الراوية»: القربة (3) الكبيرة التي يُحْمَل فيها الماء. وقد سُمِّي البعير
الذي يحملها: راوية؛ لأنه يحملها. وسُميت بذلك: لأنها تَرْوِي من كانت عنده، وتُسمَّى أيضًا: مزادة؛ لأنها زيد فيها جلد آخر، ويحتمل أن تُسمَّى بذلك؛ لأنها من كانت عنده في سفره كان عنده معظم الزَّاد. =(4/460)=@
وقول جابر رضي الله عنه: إنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح يقول: «إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام»؛ كذا صحَّت الرواية: «حرَّم» مُسندًا (4) إلى ضمير الواحد. وكان أصله: حَرَّما؛ لأنه (5) تقدَّم اثنان، و لكن تأدَّب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلم يجمع بينه وبين اسم الله تعالى في ضمير الاثنين؛ لأن هذا من نوع ما ردَّه على الخطيب الذى قال: ومن يعصهما فقد غوى. فقال له: «بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله» (6) ، وقد قدَّمنا الكلام عليه في كتاب الصلاة. وصار هذا مثل قوله تعالى: {الله بريء من المشركين ورسوله} (7) ، فيمن قرأه (8) بنصب«رسوله»، غير أن الحديث فيه تقديم، وتأخير؛ لأنه كان حقه أن يقدم: «حرَّم» على«رسوله»، كما جاء في الآية، والله أعلم (9) .
وهذا الحديث يدلُّ: على أن تحريم الخمر كان متقدِّما على فتح مكة، وقد سوَّى &(4/368)&$
__________
(1) في (ك): «ويتسامح».
(2) سيأتي في الأشربة، باب تحريم الخمر.
(3) في (ح): «والرواية والقربة».
(4) في (ح): «مستندًا».
(5) في (ح): «لا».
(6) تقدم في الجمعة، باب ما يقال في الخطبة ورفع الصوت بها.
(7) الآية (3) من سورة التوبة.
(8) في (ح) و(ك): «قرأ».
(9) من قوله: «غير أن الحديث....» إلى هنا سقط من (أ).(4/367)
في هذا الحديث بين الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام، فلا يجوز بيع شيء مِمَّا يقال عليه خمرٌ. وقد قدمنا، ويأتي: أن الخمر: كل شراب يُسكر من أي شيء كان، من عنب أو غيره. فيحرم بيع قليله وكثيره. وقد قلنا: إن تحريم نفعه مُعَلَّل بنجاسته، وأنه ليس فيه منفعة مسوِّغة شرعًا.
وأما الميتة: فيحرم بيع =(4/461)=@ جميع أجزائها، حتى عظمها، وقرنها، ولا يستثنى عندنا منها شيء إلا ما لا تحل الحياة كالشعر، والصوف، والوبر، فإنه طاهر من الميتة، ويتتزع من الحيوان في حال حياته وهو طاهر (1) . وهو قول مالك، وأبي حنيفة. وزاد أبو حنيفة، وابن وهب من أصحابنا إلى ذلك: أن العظم من الفيل وغيره، والسن، والقرن، والظلف، كلها لا تَحُلُّها الحياة، فلا تنجس بالموت.
والجمهور على خلافهما في (2) العظم، وما ذكر (3) معه، فإنها تحله الحياة. وهو الصحيح. فإن العظم والسن يألم، ويُحَسُّ به الحرارة والبرودة، بخلاف الشعر، وهذا معلوم بالضرورة. فأمَّا أطراف القرون، والأظلاف، وأنياب الفيلة (4) : فاختلف فيها. هل حكمها حكم أصولها
فتنجس؟ أو (5) حكمها حكم الشعر؟ على قولين.
وأمَّا الريش: فالشعري منه شعرٌ، وأسفله عظم. ومتوسطه؛ هل يلحق بأصله أو بأطرافه (6) ؟ فيه قولان لأصحابنا. وقد (7) قال بنجاسة الشعر (8) الحسن البصري، والليث بن سعد، والأوزاعي، لكنها تطهر بالغسل عندهم، فكأنها عندهم نجسة بما يتعلق بها من رطوبات الميتة. وإلى نحو من (9) هذا ذهب ابن القاسم في أنياب الفيل فقال (10) : تطهر إن سُلِقَتْ بالماء.
وعن الشافعي في الشعور ثلاث روايات:
أحداها: أن الشعر ينجس بالموت.
والثانية (11) : أنها طاهرة كقولنا.
والثالثة: أن شعر ابن آدم وحده طاهر، وأن ما عداه نجس.
وأمَّا جلود الميتة: فلا تباع قبل الدباغ، ولا يتتفع بها؛ لأنها كلحم الميتة، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب، ولا عصب» (12) ، وأما بعد الدِّباغ؛ &(4/369)&$
__________
(1) قوله: «وهو طاهر» سقط من (ح) و(ك).
(2) في (ك): «من».
(3) في (ح): «وما ذكره».
(4) في (ح) و(ك): «الفيل».
(5) في (ك): «أم».
(6) في (ك): «بأطرافه أو بأصله».
(7) قوله: «قد» سقط من (ك).
(8) في (أ): «الشعور».
(9) قوله: «من» سقط من (ك).
(10) في (ك): «وقال».
(11) في (أ): «والثاني».
(12) ...........(4/368)
فمشهور مذهب مالك: أنها لا تطهر بالدِّباغ، وإنما ينتفع بها. وهو مذهب جماعة =(4/462)=@ من أهل العلم. وعلى هذا فلا يجوز بيعها، ولا الصلاة عليها (1) ، ولا بها، ولا ينتفع بها إلا في اليابسات دون المائعات، إلا في الماء وحده.
وذهب الجمهور من السَّلف، والخلف: إلى أنها تطهر طهارة مطلقة، وأنها يجوز بيعها، والصلاة عليها، وبها. وإليه ذهب الشافعي، ومالك في رواية ابن وهب. وهو الصحيح لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «أيُّما إهاب دبغ فقد &(4/370)&$
__________
(1) في (ك): «فيها».(4/369)
طهر (1) ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : «دباغ الإهاب طهوره» (2) ، وغير ذلك. وكلها صحيح.
ومما لا يجوز بيعه لأنه ميتة جسد الكافر. وقد أُعطي النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق في جسد نوفل بن عبدالله المخزرمي عشرة الآف درهم. فلم يأخذها (3) ، ودفعه (4) إليهم، وقال: «لا حاجة لنا بجسده، ولا ثمنه (5) » (6) .
وأمَّا الخنزير، وهو الحيوان المعروف البريُّ، ولا تعرف العرب في البحر خنزيرًا. وقد سُئل مالك عن خنزير البحر (7) ؛ فقال: أنتم تسمونه خنزيرًا؛ أي: لا تسمِّيه العرب بذلك. وقد اتَّقاه مرة أخرى على جهة الورع، والله أعلم.
فأمَّا البري: فلا خلاف في تحريمه، وتحريم بيعه (8) ، وأنه لا تعمل الذكاة فيه. ومن هنا قال كافة العلماء: إن جلده لا يُطَهِّرهُ الدِّباغ، وإنما يُطَهِّرُ الدباغ جلد ما تعمل الذكاة في فيه. وألحق الشافعي بالخنزير الكلب، فلا يطهر جلده عنده. وقال الأوزاعي، وأبو ثور: إنما يُطَهِّرُ الدِّباغ (9) جلد ما يؤكل لحمه.
وقد أجاز مالك تذكية السِّباع والفيل لأخذ جلودها، وهذا إنما يتم على قوله بكراهة لحومها. وأما =(4/463)=@ على ما قاله في "الموطأ" من (10) أن السِّباع حرام: فلا تعمل الذكاة فيها، فلا تطهر جلودها بالدباغ، كالخنزير. وقد شذَّ دارد، وأبو يوسف فقالا: إنه (11) يطهر بالدِّباغ جلدُ كل حيوان، حتى الخنزير. ومتمسكهما: قوله - صلى الله عليه وسلم - : «أيما إهاب دبغ فقد طهر». ويعتضد أبو يوسف بقياس جلد الخنزير على جلد الميتة. وينفصل للجمهور (12) عنهما: بأن هذا العموم محمولٌ على نوع السبب الذي أخرجه. وهو ميتة ما تعمل الذكاة فيه (13) ، وبأن جلد الخنزير نادرٌ لا يخطر بالبال (14) حالة الاطلاق، فلا يقصد بالعموم، كما قررناه في أصول الفقه، وبأنه: لا يقال: إهاب إلا على جلد ما يؤكل لحمه، كما قاله النَّضْر بن شُمَيْل. وأمَّا القياس: فليس بصحيح؛ لوجود الفرق. وذلك: أن الأصل: ميتة ما تعمل الذَّكاة فيه. والفرع: ميتة ما لا تعمل (15) الذكاة فيه. فكانت أغلظ، وأفحش. والله أعلم.
وأمَّا الأصنام: ش الصور الْمُتَخِذَةُ للعبادة، ولا خلاف في تحريم اتخاذها، وبيعها، وإنما (16) يجب كسرها، وتغييرها. وكذلك كل صورة مجسدة، كانت صورة (17) ما يعقل، أو ما لا يعقل. وأما ما كان رقما في ثوب أو بناء في (18) حائط، ففيه تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقوله - وقد سُئل عن بيع شحوم الميتة -: «لا، هو حرام»؛ نصٌّ في أنه يحرم بيعها؛ لأن كانت فيها منافع، وذلك: لأنها (19) جزء من الميتة كاللحم، أو هي كالشحم مع اللحم، فإنه عنه يكون. ولا يلزم من تحريم بيعها، والحكم بنجاستها، ألا يجوز الانتفاع بها، لما قدمناه (20) . وهذا هو الذي يتمشى على مذهب مالك، =(4/464)=@ فإنه قد أجاز الانتفاع بما ماتت فيه ميتة من المائعات؛ كالزيت (21) ، والسمن، والعسل، وغير ذلك، مع الحكم بنجاسته. فقال: يعمل من الزيت النجس الصابون، ويستصبح به في غير المساجد. ويعلف العسلُ النحلَ. ويطعم النجس الماشية. وإلى نحو ذلك (22) ذهب الشافعي، والثوري، وأبو حنيفة. وروي عن علي وابن عمر (23) . وقد فَرَّق بعض أهل العلم بين شحوم الميتة، وبين ما ينجس بما وقعت فيه نجاسة. فقال (24) : لا ينتفع بالشحوم؛ لأنها نجسة لعينها (25) ، بخلاف (26) ما ينجس بما وقع فيه، فإنه ينتفع به؛ لأن نجاسته ليست لعينه، بل عارضة.
قلت: وهذا الفرق ليس بصحيح. فإن النجاسة حكم شرعي. والأحكام &(4/371)&$
__________
(1) تقدم في الطهارة، باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت.
(2) تقدم في الطهارة، في الباب السابق.
(3) في (ح): «يأخذوها».
(4) في (أ): «ودفعها».
(5) في (ك): «ولا بثمنه».
(6) أخرجه ابن أبي شيبة (6/500 رقم33245) في السير، باب من كره الفداء بالدراهم وغيرها، وأحمد (1/248 و271)، والبيهقي (9/133).
ثلاثتهم من طريق الحجاج بن أرطأة.
وأخرجه ابن أبي شيبة في الموضع السابق (33247)، وأحمد (1/256 و326)، والترمذي (4/186 رقم1715) في الجهاد، باب ما جاء: لا تفادى جيفة الأسير، والبيهقي (9/133).
ثلاثتهم من طريق أبي مسهر والثوري، عن محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى.
كلاهما - حجاج، وابن أبي ليلى -، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس؛ قال: قتل المسلمون يوم الخندق رجلاً من المشركين، فأعطوا بجيفته مالاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ادفعوا إليهم جيفتهم، فإنه خبيث الجيفة، خبيث الدية»، فلم يقبل منهم شيئا.
وأخرجه ابن أبي شيبة (33246) عن وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم: أن رجلاً من المشركين أصيب يوم الخندق... الحديث.
قال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث الحكم، ورواه الحجاج بن أرطاة أيضًا عن الحكم، وقال أحمد بن حنبل: ابن أبي ليلى لا يحتج بحديثه، وقال محمد بن إسماعيل بن أبي ليلى: صدوق، ولكن لا نعرف صحيح حديثه من سقيمه، ولا أروي عنه شيئًا، وابن أبي ليلى صدوق فقيه، وإنما يهم في الإسناد».
وصحح إسناده أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (4/53 رقم2230).
(7) في (ح) و(ك): «الماء».
(8) في (ح): «منفعته».
(9) في (ح): «بالدباغ».
(10) قوله: «من» سقط من (ك).
(11) قوله: «إنه» سقط من (ك).
(12) في (ح) و(ك): «الجمهور».
(13) في (ح): «فيه الذكاة».
(14) في (ك): «ببال».
(15) في (ح): «يعمل».
(16) في (ك): «وأنها».
(17) في (ح): «صور».
(18) في (ح) و(ك): «على».
(19) في (ح): «لأنه».
(20) في (ح): «على ما قدمناه».
(21) قوله: «كالزيت» سقط من (ح).
(22) في (ح): «هذا».
(23) .............
(24) في (ح): «فقالوا».
(25) في (ح): «بعينها».
(26) في (ح): «خلاف».(4/370)
الشرعية ليست صفات للأعيان، بل هي راجعة لقول الشارع: افعلوا، أو لا تفعلوا (1) . كما قد حفقناه (2) فيم أصول الفقه (3) . ولو سلمنا (4) لقلنا: إن النجاسة العينية قد اختلطث مع العارضة (5) ولا مميز (6) ، فحكمهما سواء.
فإن قيل: فكيف يجوز أن (7) يقال بجواز (8) الانتفاع بشيء من ذلك، وفي الحديث الصحيح: «إذا وقعت الفأرة في السَّمن، فإن كان جامدًا فألقوها وما حولها (9) ، وإن كان مائعًا فلا تقربوه» (10) . والانتفاع بها قربان لها (11) فلا يجوز ؟! ثم في الانتفاع بها التلطخ بها عند مباشرتها، ولا يجوز التلطخ بالنجاسات شرعًا (12) .
فالجواب: القول بموجب ما ذكر. فإن القرب (13) المنهي عنه إنما هو الأكل (14) ؛ بدليل قوله في أول الحديث: «إن كان جامدًا فألقوها، وكلوه»، وفي بعض طرقه: «وكلوا سمنكم»، ثم قال بعد هذا: «وإن كان مائعًا فلا تقربوه»؛ أي: بأكل (15) . وأيضًا: فقد قررنا في أصول الفقه: أن الشرع إذا نهى عن شيء، وأوقع نهيه عليه، فإنما يعني بذلك: النهي =(4/465)=@ عما يراد ذلك الشيء له، وإن سكت عنه. كما قال تعالى:{ولا تقربوهن حتى يطهرن} (16) ؛ أي: بالوطء، وكقوله: {حرمت عليكم أمهاتكم} (17) ؛ أي: وطؤهن ومقدماته. وكذلك العرف (18) إذا قال العربي: لا تقرب الماء؛ أي: لا تشربه. والخبز؛ أي: لا تأكله. وهذا معلوم.
وأما النهي عن مباشرة النجاسات: فإنما يحمل على التحريم عند محاولة فعل الطهارة شرط فيه (19) ؛ كالصلاة، ودخول المسجد، ونحو ذلك. وأما فيما لم يكن كذلك فلا يكون حرامًا بالاتفاق.
ثم اختلف القائلون بجواز الانتفاع بها. &(4/372)&$
__________
(1) قوله: «تفعلوا» سقط من (أ)، وفي (ح): «افعلوا ولا تفعلوا».
(2) في (ح): «كما بيناه».
(3) في (ح) و(ك): «في الأصول».
(4) في (ح) و(ك): «سلمناه».
(5) قوله: «مع المعارضة» سقط من (أ).
(6) في (ح): «ولا تمتر».
(7) قوله: «يجوز أن» سقط من (ح).
(8) في (ك): «يجوز».
(9) قوله: «وما حولها» سقط من (أ).
(10) أخرجه مالك في "الموطأ" (2/740 رقم20) في الاستئذان، باب ما جاء في الفأرة تقع في السمن، والبدء بالأكل قبل الصلاة.
ومن طريق مالك: أخرجه البخاري (1/343 رقم235و236) في الوضوء، باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء، و(9/668 رقم5540) في الذبائح والصيد، باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب، وأحمد (6/335)، والدارمي (2/109و110) في الأطعمة، باب الفأرة تقع في السمن والزيت، والنسائي (7/178 رقم4259) في الفرع والعتيرة، باب الفأرة تقع في السمن.
وأخرجه الحميدي (1/149-150 رقم312)، وعنه البخاري (9/667-668 رقم5538) في الموضع السابق.
وأخرجه أحمد (6/329 و330)، والدارمي (2/109) في الموضع السابق، وأبو داود (... رقم3841) في الأطعمة، الفأرة تقع في السمن، والترمذي (4/225-226 رقم1798) في الأطعمة، باب ما جاء في الفأرة تموت في السمن، والنسائي (7/178 رقم4258) في الموضع السابق، وابن الجارود (3/163 رقم872/غوث)، وابن حبان (4/234 رقم1392/ الإحسان)، والطبراني في "الكبير" (23/430 رقم1044)، والبيهقي (9/353).
جميعهم من طريق الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله، عن ابن عباس، عن ميمونة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الفأرة تموت في السمن؟ فقال: «ألقوها وما حولها وكلوه».
ورواه عن الزهري جماعة، وهم: مالك، وابن عيينة، والأوزاعي. وخالفهم معمر، فزاد في روايته: «وإن كان مائعًا فلا تقربوه». أخرجه عبدالرزاق (1/84 رقم279)، وأبو داود (... رقم3843) في الموضع السابق، والنسائي (7/178 رقم4260) في الموضع السابق.
(11) قوله: «لها» سقط من (ك).
(12) قوله: «شرعًا» سقط من (ح).
(13) في (ح): «القربان».
(14) في (ك): «الأول».
(15) في (ح): «لا بأكل».
(16) الآية (222) من سورة البقرة.
(17) الآية (23) من سورة النساء.
(18) في (أ): «العرب».
(19) في (ح): «فيه شرط فيه».(4/371)
هل يجوز بيع ما يتتفع به منها أو لا؟ على قولين (1) ؛ والصحيح: منع الجواز؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «قاتل الله اليهود، نُهوا عن الشحم، فباعوه، وأكلوا (2) ثمنه». وفي بعض طرقه: «إن الله إذا حرَّم على قوم شيئًا حرَّم عليهم ثمنه».
وقوله: «قاتل الله اليهود»؛ أي: قتلهم؛ كقوله تعالى:{قاتلهم الله
أنَّى يؤفكون} (3) ، قاله الهروي. قال: وسبيل« فاعل» أن يكون من اثنين، وربما يكون من واحد؛ كقوله: سافرت، وطارقت النعل. وقال ابن عباس: لعنهم (4) (5) . وقد جاء ذلك مصرَّحا به في الرواية الأخرى. وقال غيره: عاداهم.
وقوله: «اجتملوها»؛ أي: أذابوها. يقال: جملت الشحم، واجتملته: =(4/466)=@ إذا (6) أذبته. والجميل: الشحم (7) المذاب. قال أبو عبيد: يقال: جملت، وأجملت، واجتملت.
وقوله: «أنَّه بلغ عمر: أن سمرة باع خمرًا»، اختلف في كيفية بيع سمرة رضي الله عنه للخمر على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه أخذها من أهل الكتاب عن قيمة الجزية فباعها منهم، ظنًّا منه: أن ذلك جائز.
والثاني:أن يكون باع العصير ممن يتخذه خمرًا، والعصير يُسمَّى خمرًا؛
كما (8) قد سمي العنب به (9) في قوله تعالى: {إني أراني أعصر خمرًا} (10) ، والعصير يُسمي بذلك (11) لأنه يؤول إلى الخمر.
والثالث: أن يكون خلل الخمر وباعها خلاًّ. ولعل عمر كان يعتقد أن ذلك لا يحلِّلها،كما قد (12) ذهب إليه جماعة من أهل العلم على ما يأتي.
قلت: وفي هذين الوجهين بُعْدٌ. والأشبه: الأول. =(4/467)=@ &(4/373)&$
__________
(1) في (ح) و(ك): «على ما تقدم».
(2) في (ح): «فأكلوا».
(3) الآية (30) من سورة التوبة.
(4) في (ح): «لعنهم الله».
(5) أخرجه ابن جرير (10/113) عن المثنى، عن أبي صالح، عن معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: {قاتلهم الله} يقول: لعنهم الله، وكل شيء في القرآن قتل، فهو لعن.
وسنده ضعيف؛ لضعف أبي صالح، والانقطاع بين علي بن أبي طلحة وابن عباس.
(6) قوله: «إذا» سقط من (ح).
(7) في (ح): «الشيء».
(8) قوله: «كما» سقط من (أ).
(9) قوله: «به» سقط من (ح).
(10) الآية (36) من سورة يوسف.
(11) في (ح) و(ك): «وسمي بذلك».
(12) قوله: «قد» سقط من (ح).(4/372)
- - - - -
ومن أبواب الصَّرف والربا
الصَّرف: مصدر صرف، يصرف، صرفًا: إذا دفع ذهبًا، وأخذ فضة، أو عكسه. هذا عُرْفُه الشرعي. وحقيقته: بيع ذهب بفضة. وللشرع فيه منعان (1) :
أحدهما: منع النَّساء فيه، مع اتفاق النوع، واختلافه، فلا يجوز بيع ذهب بذهب، ولا بفضة نَساء. وهذا مجمع عليه.
وثانيهما: منع التفاضل في النوع الواحد منهما، فلا يجوز ذهب بذهب، ولا فضة بفضة متفاضلاً عند جمهور العلماء من الصحابة والتابعين من أهل المدينة، والحجاز، والشام، وغيرهم. وفيه خلاف شاذٌّ عن (2) بعض الصحابة مرجوع عنه، وسيأتي ذكرهم في بابه إن شاء الله تعالى.
وقد دلّ على صحة ما ذكرناه من المنعين، وابطال قول المخالف نصوص هذا الباب؛ كقوله: «لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا =(4/468)=@ تبيعوا منها شيئًا غائبًا بناجز». وفي اللفظ الآخر: «إلا وزنًا بوزن، مثلاً بمثل، سواء بسواء»، وفي رواية: «يدًا بيد»، وفي أخرى: «إلا هاء وهاء»، وغير ذلك مما في هذا الباب. &(4/374)&$
__________
(1) في (أ): «معنيان».
(2) في (أ): «من».(4/373)
فهذه نصوصٌ مؤكدة، وألفاظ متعددة (1) ، تفيد: أن تحريم التفاضل كتحريم النَّساء، ويستوي في ذلك أنواع كل جنس منها، فلا يلتفت للخلاف (2) في ذلك. وسياتي القول إن شاء الله تعالىعلى قوله: «إنما الربا في النسيئة» (3) ، ثم اختلف العلماء: هل هذا الحكم معلل بعلة، أو ليس معللاً؛ فنفاة القياس منعوا ذلك على أصلهم في نفي التعليل مطلقًا. وممن قال بهذا القول: داود وأتباعه. وقد تابعهم (4) على نفي تعليل هذا الحكم بعض من قال بالقياس. بناء على أنه لم يجد دليلاً عليه، أو: على أنه لم يجد لعلَّة ذلك فرعًا يلحقه بها. فتكون العلَّة قاصرة، ولا يعتل بالعلة القاصرة. وهو مذهب أبي حنيفة. وذهب مالك والشافعي وأتباعهما إلى تعليل ذلك الحكم بكونها (5) أثمانًا. وهل هو معلل بمطلق الثمنية، فيلحق بذلك كما يكون ثمنًا كالفلوس، والجلود المطبوعة إذا تُعُومل بها، أو بثمنية تكون رؤوس (6) الأثمان، وقيمًا للمتلفات غالبًا، فتخرج الفلوس، وغيرها منهما؛ قولان لأصحابنا. والذي حمل المعنلين على القول بالتعليل التمسك بالقاعدة الكلية: إن الشرع جاء باعتبار المصالح. والمصلحة لا تعدو أوصاف المحل. وقد سبرنا أوصافه، فلم نجد أولى من هذه (7) ، فتعتين أن يكون هو العلَّة. وقد حققنا هذه الأصول في الأصول، فنتنظر هنالك.
وقوله: «ولا تشقوا بعضها على بعض»؛ أي: لا يكن لأحدهما شفوف على =(4/469)=@ الآخر (8) ؛ أي: زيادة. وقد بالغ مالك رحمه الله في منع الزيادة في هذا، حتى جعل المتوهّم كالمتحقق (9) . فمنع دينارًا ودرهما بدينار ودرهم، سدًا للذريعة، وحَسْمًا للمتوهمات (10) ؛ إذ لولا توهم الزيادة لما تبادلا. وقد علل منع ذلك بتعذر المماثلة عند التوزيع، فإنه يلزم منه: ذهب وفضة بذهب. وأوضح من هذا: منعه التفاضل &(4/375)&$
__________
(1) في (ح): «معددة».
(2) في (ح): «إلى الخلاف».
(3) سيأتي برقم (..) في باب ترك قول من قال: لا ربا إلا ربا النسيئة.
(4) في (أ): «تابعه».
(5) في (ح): «بكونهما».
(6) قوله: «رؤوس» سقط من (أ).
(7) في (ح) و(ك): «هذا».
(8) في (ح): «الأخرى».
(9) في (ك): «كالمحقق».
(10) في (ح) و(ك): «للتوهمات».(4/374)
المعنوي. وذلك: أنه منع دينارًا من الذهب العالي، ودينارًا من الذهب الدُّون بدينارين من الوسط. فكأنه جعل الدينارين (1) الوسط في مقابلة العالي، وألغى الدُّون. وهذا من دقيق نظره رحمه الله.
وقوله: «الورق بالذهب (2) ربا إلا هاء وهاء»، الرواية المشهورة في«هاء»: بالمد، وبهمز مفتوحة، وكذلك رويته. ومعناها: خذ. فكأنها(7)
اسم من أسماء =(4/470)=@ الأفعال. كما تقول: هاؤم. وفيها أربع لغات:
إحداها: ما تقدَّم، وفيها لغتان:
إحداهما: أنها تُقال (3) للمذكر والمؤنث، والواحد والاثنين، والجمع، بلفظ واحد« هاء (4) ») من غير زيادة. قال (5) السيرافي: كأنهم جعلوها صوتًا، كصه، ومه.
وثانيها (6) : أنها (7) تلحق بها العلامات المفرَّقة. فتقول للمذكر (8) : هاءَ، وللمؤنث: هائي. وللاثنين: هاءا. وللجمع: هاؤوا، كالحال في: هاؤم، وفي: هلم.
الثانية: هأ، بالقصر والهمزة الساكنة، فتقول: هأ، كما تقول: خَفْ (9) . وفيها اللغتان المتقدمتان. حكاها (10) ثابت وغيره من أهل اللغة.
الثالثة:هاءِ بالمد وكسر الهمزة (11) . وهي للواحد،والاثنين، والجمع (12) .
بلفظ واحد، غير أنهم زادوا ياءً (13) مع المؤنث. فقالوا: هائي.
الرابعة: ها، بالقصر، وترك الهمز. حكاها بعض اللغويين. وأنكرها أكثرهم، وخُطِّئ (14) من رواها من المحدِّثين كذلك.
وقد حكيت لغة خامسة: هاءَكِ، بمدَّةٍ، وهمزة مفتوحة، وكاف خطاب مكسورة (15) للمؤنث. قلت: ولا بُعْد في أن يقال: إن« هاء» هذه هي اللغة الأولى، وإنما زادوا عليها كاف الخطاب (16) المؤنث خاصة، فلا تكون خامسة.
ومعنى: «هاء وهاء»: خذ وهات في هذه الحال من غير تراخ، كما قال: «يدًا =(4/471)=@ بيد». وقد بالغ مالك رحمه الله في هذا، حتى منع المواعدة على الصرف، &(4/376)&$
__________
(1) في (ك): «الدينار من».
(2) في (أ): «الوزن بالوزن». ... ... (7) في (ك): «فكأنه».
(3) في (ح): «احديهما أن يقال».
(4) قوله: «هاء» سقط من (أ).
(5) في (ح): «قاله».
(6) في (ك): «وثانيهما».
(7) قوله: «أنها» سقط من (ح) و(ك).
(8) في (ك): «للذكر».
(9) في (ح): «خد».
(10) في (ك): «حكاهما».
(11) في (ح): «بالمد والكسر».
(12) في (ك): «والجميع».
(13) في (أ): «الياء».
(14) في (ك): «وحكي».
(15) في (أ): «مكسور».
(16) في (ح) و(ك): «كافًا لخطاب».(4/375)
والحوالة، والوكالة على عقد الصرف دون القبض. ومنع أن يعقد الصرف، ويقوم إلى قعر دكانه، ثم يفتح صندوقه، ويخرج ذهبه. بناء على ما تقدَّم من أصله. وهذا هو الذي فهمه عمر رضي الله عنه عن الشرع حين قال: «وإن أنظرك إلى (1) أن يلج بيته فلا تنظره، إني أخاف
عليكم الربا» (2) . وقال: «دعوا الربا والريبة» (3) .
و«الورق (4) ») - بكسر الراء -: الفضة. وهو اسم جنس معرَّف بالألف واللام الجنسيتين، فيتضمن ذلك الجنس كله، مسكوكه، ومصوغه، وتبره، ونقاره. وكذلك الذهب (5) ، فلا يجوز مصوغ بتبر إلا مثلاً بمثل. وكذلك جميع أنواعها. وليس له أن يستفضل (6) قيمة الصنعة، ولا عمالتها. وسيأتي لهذا (7) مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
- - - - -
ومن باب تحريم الرِّبا في البُرِّ والشعير والتمر والملح (8)
الرِّبا في اللغة: الزيادة مطلقًا. يقال: ربا (9) الشيء، يربو: إذا زاد. ومنه الحديث: «فلا والله ما أخذنا من لقمة إلا ربا من تحتها» (10) ؛ يعني به: الطَّعام الذي دعا فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبركة. ثم إن الشرع قد تصرَّف في هذا الإطلاق، فقصره على &(4/377)&$
__________
(1) قوله: «إلى» سقط من (ك).
(2) أخرجه مالك في "الموطأ" (2/634 برقم (34): مالك، عن نافع، عن عبدالله بن عمر: أن عمر بن الخطاب قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالذهب أحدهما غائب والآخر ناجز، وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره، إنّي أخاف عليكم الرماء، والرماء هو الربا».
وأخرجه في نفس الباب برقم (35): مالك، عن عبدالله بن دينار، عن عبدالله بن عمر: أن عمر بن الخطاب... بلفظ مقارب.
وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (5/284 برقم 10291) بسنده إلى عبدالله بن دينار، عن ابن عمر قال: قال عمر بن الخطاب... بنحوه.
وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (8/116 رقم14542): أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر... بنحوه.
وهي أسانيد صحيحة، والله أعلم.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (6/563)، وأحمد (246 ،350)، وابن ماجه (2276)، والطبري (3/114)، وابن الضريس في "فضائل القرآن" (23)، والمروزي في "السنن" (197)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (2/223)، وهو صحيح.
(4) في (ك): «الورق».
(5) قوله: «الذهب» سقط من (ح).
(6) قوله: «يستفضل» سقط من (ح).
(7) في (ك): «لها».
(8) في (ك): «واللحم».
(9) في (ك): «أربى».
(10) سيأتي في آداب الأطعمة، باب الحض على تشريك الفقير الجائع في طعام الواحد وإن كان دون الكفاية.(4/376)
بعض موارده، فمرَّة أطلقه على اكتساب الحرام كيفما (1) كان، كما قال تعالى في اليهود: {وأخذهم الربا وقد نهوا عنه} (2) ، ولم يرد به الرِّبا الشرعي الذي حكم بتحريمه علينا؛ وإنما أراد المال الحرام، كما قال تعالى:{سماعون للكذب =(4/472)=@ أكالون للسحت} (3) ؛ يعني به: المال الحرام من الرشا، ومما (4) استحلوه من أموال الأميين حيث: قالوا: {ليس علينا فى الأميين سبيل} (5) ، وعلى هذا: فيدخل فيه النهي عن (6) كل مال حرام بأي وجه اكتسب.
والربا الذي غلب عليه عُرْفُ (7) الشرع: تحريم النَّساء، والتفاضل في النقود، وفي المطعومات، على ما يأتي بيانه (8) إن شاء الله تعالى.
وقوله: «غزونا غزاة، وعلى الناس معاوية»؛ يعني: أميرًا، لا خليفة؛ فإن زمان خلافته متأخز عن ذلك الوقت بكثير.
وقوله: «فغنمنا آنية من فضة، فأمر معاوية ببيعها (9) في أُعطيات الناس»؛ هذا البيع لهذه الآنية كان بالدَّراهم، ولذلك أنكره عبادة بن الصامت رضي الله عنه، واستدلّ عليه بقوله: «الفضة بالفضة»، ولو كان بذهب أو عرض لَمَا كان للأنكار، ولا للاستدل وجه.
وقوله: «فتسارع الناس في ذلك»؛ يعني في شراء تلك الآنية بالدَّراهم. وهو (10) يدلُّ على أقليه العلماء، وأن الأكثر الجهال. ألا ترى أن معاوية رضي الله عنه قد جهل ذلك مع صحبته، وكونه من كُتَّاب الوحي، ويحتمل أن يقال: إن معاوية كان لا يرى ربا الفضل كابن عباس وغيره. والأول أظهر من مساق هذا الخبر. فتأمل نصَّه؛ فإنَّه صريح: في أن معاوية لم يكن علم بشيء (11) من ذلك.
وقوله: «نهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر (12) ، والملح بالملح (13) »)؛ قد تقدَّم القول في النقود، =(4/473)=@ والقول هنا في الأطعمة. ولم (14) يختلف في جريان الربا في هذه (15) الأصناف الستة (16) ربا لكن هل تعئق &(4/378)&$
__________
(1) في (ك): «كيف كان».
(2) الآية (61) من سورة النساء.
(3) الآية (42) من سورة المائدة.
(4) في (ح) و(ك): «وما».
(5) الآية (75) من سورة آل عمران.
(6) قوله: «النهي عن» سقط من (ح) و(ك).
(7) في (ح) و(ك): «حكم» بدل «عرف».
(8) في (ح) و(ك): «على ما تقدَّم، وعلى ما يأتي بيانه».
(9) في (ح) و(ك): «أن يبيعها».
(10) في (ح): «هذا»، وفي (ك): «فهذا».
(11) في (أ): «عنده علم شيء».
(12) قوله: «والتمر بالتمر» سقط من (أ).
(13) قوله: «بالملح» سقط من (أ)، وفي (ك): «واللحم باللحم».
(14) في (أ): «لم».
(15) في (أ): «هذا».
(16) في (أ) و(ح): «الأربعة».(4/377)
حكم الرِّبا بأسمائها أم بمعانيها؛ فأهل الظاهر قصروه على أسمائها، فلا يجري الرِّبا عندهم فى غير هذه الأصناف الستة. وفقهاء الأمصار من الحجازيين وغيرهم رأوا: أن ذلك الحكم متعلق بمعانيها. وتمسَّكوا في ذلك بما تقدَّم، وبأن الدقيق يجري فيه حكم الرِّبا بالاتفاق، ولا يصدق عليه اسم شيء من تلك الأصناف المذكورة في الحديث. فإن قيل: دقيق كل صنف (1) منها مردودٌ إلى حَبِّه في حكمه. قلنا: فهذا اعتراف بأن الحكم لم يتعلَّق بأسمائها، بل بمعانيها (2) . والله أعلم.
وقد اختلفوا في تعيين ذلك المعنى. فقال أبو حنيفة: إن علة ذلك كونه مكيلاً أو موزونًا جنسًا. وذهب الشافعي في القديم: إلى أن المعنى: هو أنه مأكول مكيل، أو موزون جنسًا. وفي الجديد: هو أنَّه مطعوم جنس. وحُكي (3) عن ربيعة: أن العلة هي (4) : كونه جنسًا تجب فيه الزكاة. واختلفت (5) عبارات أصحابنا. وأحسن ما في ذلك أنه هو (6) كونه مقتاتًا، مدخرًا للعيش غالبًا جنسًا. ولبيان الأرجح من هذه العلل والفروع المبنية عليها علم الخلاف، وكتب الفروع.
وقوله: «البُرُّ بالبُرِّ، والشعير بالشعير»؛ دليل على أنهما نوعان مختلفان؛ =(4/474)=@ كمخالفة التمر للبُرٍّ؛ وهو قول الشافعي، وأبي حنيفة، والثوري، وابن عُلّيَّة، وفقهاء أهل(7) الحديث. وذهب مالك، والأوزاعي،
والليث، ومعظم علماء المدينة والشام: إلى أنهما صنف واحد. وهو مروي عن عمر (7) ، وسعيد (8) ، وغيرهما من السَّلف متمسكين، بتقاربهما في المنبت، والمحصد، والمقصود؛ لأن كل واحد منهما في معنى الآخر، والاختلاف الذي (9) بينهما إنما هو من باب مخالفة جيِّد الشيء لرديئه.
وقوله: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم»، إشارة إلى ما ذكره في الحديث من الأصناف، ويلحق بها ما (10) في معناها على ما ذكرناه آنفًا، وينضاف (11) إلى كل نوع منها ما في معناه، وما يقاربه، وما بعد عن ذلك كان صنفًا &(4/379)&$
__________
(1) في (ك): «صنف منها».
(2) من قوله: «وتمسكوا....» إلى هنا سقط من (ح).
(3) في (ك): «وذكر».
(4) في (أ): «معنى».
(5) في (ك): «واختلف».
(6) قوله: «أنه هو» سقط من (ح) و(ك). ... (7) قوله: «أهل» سقط من (أ).
(7) أخرجه ابن أبي شيبة ف ي"المصنف" (4/496 رقم22483): حدثنا أبو بكر، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري سمع مالك بن أوس بن الحدثان يقول: سمعت عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «البر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء».
وأخرجه الشافعي في "المسند" (ص 147) بنفس الإسناد.
وإسناده صحيح.
يلاحظ أن خطأ مطبعيًا وقع في "المصنف" و"المسند"، حيث كتب: «الذهب بالورق»، والصواب: «الذهب بالذهب».
(8) في (ك): «وسعد».
(9) قوله: «الذي» سقط من (ح) و(ك).
(10) قوله: «ما» سقط من (ح).
(11) في (ك): «ويضاف».(4/378)
منفردًا بنفسه، ولذلك لم يختلف قول مالك: في أن الدُّخْنَ صنف منفرد، وكذلك الأرز، وهو قول كافة العلماء. والعَلَس عند أكثر المالكية صنف منفرد. وقال الشافعي: هو صنف من أصناف الحنطة. وقاله بعض أصحابنا. واختلف قول مالك في القطاني. هل هي صنف واحذ، أو أصناف (1) ؟ وقد ضم مالك السَّلت إلى البر والشعير. وقال الشافعي: هو صنف منفرد بنفسه. وقال الليث: السَّلت، والدُّخْن، والذرة، صنف واحد. وقاله ابن وهب. وسبب هذا الاختلاف اختلاف الشهادة بالتقارب في المقصود، والمحصد (2) ، والمنبت. فمن شهدت له عادة استعمال صنف في معنى صنف، وشابهه في شيء مما ذكرنا (3) ألحقه به. ومن لم يحصل له ذلك لم يلحق. والأصل: أن ما اختلفت (4) أسماؤه، ومقاصده أن يعدَّ أصنافًا مختلفة بدليل ظاهر الحديث المتقدِّم، والله أعلم.
وقوله: «وزنًا بوزن، مثلاً بمثل، سواءً بسواء»؛ يدل على وجوب تحقيق المماثلة في بيع الرِّبَوِيّ بصنفه. وذلك لا يكون إلا بمعيار معلوم مقداره بالشَّرع، =(4/475)=@ أو بالعادة وزنًا أو كيلاً. والأولى عند مالك: أن تجعل ذهبك في كفة، ويجعل ذهبه في كفة، فإذا استوى أخذ وأعطي، وكذلك يكون الكيل واحدًا، ويجوز بصنجة واحد؛ معلومة المقدار بالعادة أو بالتحقيق. ولا يجوز عند مالك، والشافعي في الصرف ولا غيره من البيوع أن يتعاملا بمعيار مجهول، يتفقان عليه؛ لجهل كل واحد منهما بما يصير إليه.
قلت: وعلى هذا التعليل؛ فلا تجوز المراطلة المذكورة، لوجود الجهل المذكور. &(4/380)&$
__________
(1) في (ح): «هل هي صنف منفرد بنفسه».
(2) قوله: «المحصد» سقط من (ح).
(3) في (ح) و(ك): «مما ذكرناه».
(4) في (ك): «اختلف».(4/379)
وقوله: «فمن زاد أو استزاد فقد أربى»؛ أي: من بذل الزيادة، وطاع بها، ومن سألها، كل واحد منهما قد فعل الرِّبا. وهما سواء في الإثم (1) ؛ كما قال في الرواية الأخرى: «الآخذ والمعطي فيه سواء»؛ أي: في (2) فعل الْمُحَرَّم، وإثمه. وفي كتاب أبي داود (3) : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن آكل الرِّبا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه (4) »). وقال: «هم سواء»؛ أي (5) : في استحقاق اللعنة والإثم. =(4/476)=@
- - - - -
__________
(1) في (ح): «وهما سواء في ذلك».
(2) قوله: «في» سقط من (ح).
(3) أخرجه الطيالسي (ص45 رقم343)، وأحمد (1/393 و394 و402 و453)، وابم ماجه (2/764 رقم2277) في التجارات، باب التغليظ في الربا، وأبو داود (.... رقم3333) في البيوع، باب ما جاء في آكل الربا، والترمذي (3/512 رقم1206) في البيوع، باب ما جاء في آكل الربا، وابن حبان (11/399 رقم5025/الإحسان).
جميعهم من طريق سماك بن حرب، عن عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود، عن أبيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه».
قال الترمذي: «حديث عبدالله حديث حسن صحيح».
وصحح إسناده أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (5/274 رقم3725)، وقد رواه عن سماك جماعة؛ وهم: شعبة، وإسرائيل، وشريك ن وأبو عوانة، وزهير.
وقد صرح عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود بسماعه من أبيه، عن أحمد، وابن ماجه.
وهو عند مسلم (3/1218-1219 رقم1597) في المساقاة، باب لعن آكل لاربا وموكله، من طريق علقمة، ولم يورده القرطبي في "تلخيصه".
(4) في (أ): «وشاهده».
(5) قوله: «أي» سقط من (ك).(4/380)
27 - ومن باب بيع القلادة فيها خرز وذهبٌ بذهب
قوله: «أُتِي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقلادة فيها خرز وذهب تباع من المغانم». كان بيع هذه القلادة بعد قَسْم الغنيمة، وبعد أن صارت إلى فَضَالة في سهمه، كما قال في رواية حَنَش (1) ؛ ولأن الغنيمة لا يتصرف في بيع (2) شيء منها إلا بعد القِسْمة.
وأمره - صلى الله عليه وسلم - بتفصيل القِلادة وبيع الذهب على انفراده: إنما كان لأن المشتري أراد أن يشتريها بذهب؛ لقوله بعد هذا: «الذَّهب بالذَّهب وزنًا بوزن»، أو يكون قد وقع البيع بذهب، كما جاء في الرواية الأخرى التي قال فيها: إنه اشتراها باثني عشر دينار (3) ، ففصَّلها، فوجد فيها أكثر من اثني عشر دينارًا، ففسخ النبي - صلى الله عليه وسلم - البيع بقوله: «لا تباع حتى تُفَصَّل»؛ ووجه هذا المنع في هذه الصورة: وجود المفاضلة بين الذهبين، فإنَّه إن كان مساويًا للآخر، فقد فضله &(4/381)&$
__________
(1) في (ك): «حسن».
(2) قوله: «بيع» سقط من (ك).
(3) في (ك) و(ح): ((دينارًا)).(4/381)
من صار إليه الذهب، والعَرَضُ بالعَرَض (1) ، وإن لم يكن مساويًا فقد حصل التفاضل في عين أحد الذهبين، كما قال في رواية (2) الاثني عشر دينارًا. وهذا قول الجمهور.
وقد شذَّ أبو حنيفة، ومن قال بقوله، وترك مضمون هذا الحديث فقال: إذا كان الذهب المنفرد أكثر من الذهب المضموم إليه السلعة جاز، بناء منه على جعل السِّلعة في مقابل (3) الزائد من الذهب. واعتذر عن الحديث: بأنه (4) إنما فسخ ذلك لأن الذهب المنفرد كان (5) أقل، فلو كان (6) أكثر جاز. وهذا التأويل فاسد بدليل الحديث الأول، فإنَّه - صلى الله عليه وسلم - لما رأى القلادة قد (7) عرضت للبيع بالذهب أمر بتفصيلها، وبيَّن حكم القاعدة الكلية بقوله: «الذهب بالذهب وزنًا بوزن»، ولم يلتفت إلى (8) التوزيع الذي قال به أبو حنيفة. =(4/477)=@
وقد غفل الطَّحاوي في تأويل ذلك الحديث، حيث قال: إنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك لئلا يُغْبَن (9) المسلمون في المغانم عمَّا (10) ذكرناه: من أن هذا (11) البيع إنما كان بعد القسمة، ولو سلَّمنا أنها كانت قبل القِسْمة لكان عدوله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك المعنى إلى قوله: «الذهب بالذهب وزنًا بوزن» ضائعًا، لا معنى له؛ لأنه كان يلزم منه أن يعدل عن علَّة الحكم في (12) وقت الحاجة إلى بيانه، وينطق (13) بما ليس بعلَّة (14) له (15) ولا يُحتاج إليه، بالنسبة إليه في تلك الواقعة.
ومن الناس من زاد على أبي حنيفة في الشذوذ، وهو حمَّاد بن أبي سليمان، فقال: يجوز بيع الذَّهب بالذَّهب الذي معه السِّلعة مطلقًا، ولم يُفرَّق بين (16) المنفردة والمضموم إليها (17) السلعة في الأقل ولا (18) الأكثر. وهذا طرح للحديث (19) بالكلية، ولم يعرِّج على القاعدة الشرعية. فأما لو باع القلادة التي فيها الذهب بفضة، فذلك هو البيع والصَّرف، ولا يجوز عند مالك؛ لاختلاف حكم البيع والصرف، وسدًّا للذريعة. وهذا ما لم يكن أحدهما (20) تابعًا للآخر، فإن كان كذلك (21) جاز إلغاء للتَّبعيَّة (22) . وقال أشهب: إنَّه يجوز البيع والصَّرف مطلقًا، وكل ما ذكرناه إنَّما هو فيما &(4/382)&$
__________
(1) قوله: «بالعرض» سقط من (أ).
(2) في (ح): «الرواية».
(3) في (ح) و(ك): «مقابلة».
(4) في (أ): «وأنه».
(5) في (أ): «المنفردة كانت».
(6) في (أ) و(ح) و(ف): «كانت».
(7) في (ح): «وقد».
(8) قوله: «إلى» سقط من (أ).
(9) في (ك): «يفتن».
(10) في (ك): «كما».
(11) قوله: «هذا» سقط من (أ).
(12) في (أ): «إلى».
(13) في (ك): «فينطق».
(14) في (ف): ((فعله)).
(15) قوله: «له» سقط من (ح) و(ك).
(16) في (ف): ((بين المنفرد المنفردة)).
(17) في (ك): «بين المنفرد والمضموم إليه».
(18) قوله: ((لا)) سقط من (ف).
(19) في (أ) و(ف): «الحديث».
(20) في (أ): «احداهما».
(21) في (أ): «ذلك».
(22) في (ح) و(ك): «التبعية».(4/382)
يمكن تفصيله. فأمَّا (1) ما لا يمكن ذلك فيه، إما لتعذره (2) حِسًّا، أو لأنَّه يؤدي إلى إتلاف مالية: فذلك إمَّا أن يكون ممنوع الاتخاذ، فلا يجوز فيه إلا المصارفة على اعتبار التبعية على ما ذكرناه آنفًا. وأما ما يجوز اتخاذه؛ كالسَّيف، والمصحف، والخاتم، وحلي النساء: فيجوز عندنا بيع ذلك كلِّه، بخلاف ما فيه من العين؛ =(4/478)=@ ناجزًا مطلقًا من غير فصل بين قليل ولا كثير؛ لأن ذلك إما صرف، وإما بيع، والتبع مُلغى. وإما بجنس ما فيه من العين: فيجوز إذا كان فيه من العين الثلث فدون؛ عند مالك، وجمهور أصحابه، وكافة العلماء إلغاءً للتبعية؛ ولأن (3) ذلك قد يضطر إليه. ومنع ذلك الشافعي، وأحمد، وإسحاق، ومحمد بن عبد الحكم. وروي عن (4) جماعة من السلف؛ منهم: عمر، وابن عمر رضي الله عنهما؛ اعتبارًا بوجود (5) المفاضلة بين الذهبين، وأبو حنيفة، وحمَّاد على أصليهما المذكورين.
وقول فضالة: «اشتريت يوم خيبر قلادة فيها اثنا (6) عشر دينارًا»؛ كذا (7) وقع هذا اللفظ عند كافة الشيوخ: «فيها اثنا (8) عشر دينارًا». وقد سقط هذا اللفظ عند ابن (9) عيسى، وابن الحذَّاء، واتصل قوله : «قلادة» بقوله: «فيها خرز وذهب»، وهذا (10) =(4/479)=@ هو الصَّواب. وقد وجد ذلك اللفظ في أصول بعض (11) أصحاب أبي علي الغساني مُصْلَحًا «باثني عشر دينارًا». وله وجه صحيح.
قلت (12) : وقد رويته كذلك من طريق شيخنا أبي ذر بن مسعود الخشني عن أبي محمد عبد الحق، صاحب كتاب (13) الأحكام في ذلك الكتاب. &(4/383)&$
__________
(1) في (أ): ((وأما)) و(ك) و(ح).
(2) في (ف): ((لتعذر)).
(3) في (ف): ((ولكن)) وفي (ح): ((ولئن)).
(4) قوله: ((عن)) سقط من (ف).
(5) في (ف): ((اعتبار الوجود)).
(6) في (ح) و(ف): «اثني».
(7) في (ف): ((وكذا)).
(8) في (ح) و(ف): «اثني».
(9) قوله: «ابن» سقط من (ح).
(10) في (ف): ((هذا)) بلا واو.
(11) في (أ) و(ف): «في نص».
(12) في (ك): ((قال الشيخ)) وكتب فوقها ((قلت)).
(13) قوله: «كتاب» سقط من (ك).(4/383)
- - - - -
28 – ومن ** تراجع في ص 8 لوحة أ ** باب من قال: إن البُرَّ والشعير صنف واحد (1) ، وفسخ صفقه الرِّبا
قد تقدَّم ذكر (2) الخلاف في عدِّ البُرِّ والشعير صنفًا واحدًا بما يغني عن إعادته، لكنا نبيِّن (3) في هذا الحديث: أن حديث معمر لا حجَّة فيه لأصحابنا، وإن كانوا قد =(4/480)=@ أطبقوا على الاحتجاج به. ووجه ذلك: أن غايتهم في التمسك (4) به أن يحتجوا بمذهب معمر. وهو قول (5) صحابي، وهو أعلم بالمقال، وأقعد بالحال ** تراجع في ص 8 لوحة أ **.
قلت: إن قول معمر هذا (6) رأي منه، لا رواية. وما استدل به من قوله - صلى الله عليه وسلم - : «الطَّعام بالطَّعام» لا حجَّة له فيه؛ لأنه إن حمل على عمومه لزم منه: ألا يباع التمر بالبُرِّ (7) ، ولا الشعير بالملح (8) ، إلا مثلاً بمثل. وذلك خلاف الإجماع، فظهر (9) : أن المراد به: الجنس الواحد من الطَّعام. وقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - الأجناس المختلفة في حديث عبادة بن الصامت (10) وغيره، وفصَّلها واحدًا واحدًا، ففصل التمر عن &(4/384)&$
__________
(1) قوله: «واحد» سقط من (ح) و(ك).
(2) قوله: «ذكر» سقط من (ح) و(ك).
(3) في (ح): «ننفل».
(4) قوله: ((به)) سقط من (أ) و(ف).
(5) قوله: «قول» سقط من (أ) و(ك).
(6) في (أ): «قول عمر هو رأي» وفي (ف): ((قول عمار هو رأي لا رواية)).
(7) في (أ): «بالتمر».
(8) في (ك): «باللحم».
(9) في (ح): «وظهر».
(10) تقدم في باب تحريم الربا في البر والشعير.(4/384)
البر، والشعير عنه، ثم قال بعد ذلك: «فإذا اختلفت الأصناف (1) فبيعوا كيف شئتم». ثم الظاهر من فتيا معمر: إنما (2) كانت منه تقيه وخوفا. ألا ترى نصَّه، حيث قال: إني أخاف أن يُضَارع ؟! والحجَّة في قول (3) النبي - صلى الله عليه وسلم - لا في قول غيره.
«البَرْنيُّ»: نوع من أجود أنواع التمر. وكذلك: الجنيب. و «الجمع» خلطٌ من التَّمر. وقيل: هو من أدنى التَّمر.
- - - - -
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لبلال: «من أين هذا؟» دليل: على أن للانسان أن يبحث عمَّا يستريب فيه، حتى ينكشف له حاله.
وقوله: «أوَّهْ» كلمة تحزُّن، وتوجُّع. وهي مقصورة الهمزة، مشدَّدة الواو، =(4/481)=@ ساكنة الهاء. وقد قيلت (4) : بمد الهمزة. وقد قيلت أيضًا: «أؤوه».
وقوله: «عين الربا»؛ أي: هو الربا المحرم نفسه (5) ، لا ما يشبهه.
وقوله: «لا تفعل»، وفي الرواية الأخرى: «فردُّوه»؛ يدل على: وجوب فسخ صفقة الربا، وأنها لا تصح (6) بوجه. وهو حجَّة للجمهور (7) على أبي حنيفة حيث يقول: إن بيع الربا جائز بأصله (8) ، من حيث أنه بيع ممنوع بوصفه (9) من حيث هو ربا، فيسقط الرِّبا، ويصحَّ البيع. ولو كان على ما ذكر لما فسخ النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الصفقة، ولأمره برد الزيادة على الصَّاع، ولصحَّح الصفقة في مقابلة الصَّاع. &(4/385)&$
__________
(1) في (ك): ((الأجناس)).
(2) في (ح) و(ك) و(ف): «أنها إنما».
(3) قوله: ((قول)) سقط من (ف).
(4) في (ك): «وقد قيلت أيضًا».
(5) في (ك): ((بعينه)) وكتب فوقها ((نفسه)).
(6) في (ف): ((لا تصحح)).
(7) في (ك): ((الجمهور)).
(8) في (ح): «أصله».
(9) في (ك): ((لوصفه)).(4/385)
وقوله: «ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر، ثم اشتر به (1) »، وفي الرواية الأخرى: «بيعوا تمرنا، واشتروا لنا من هذا»؛ قد يحتج بإطلاقه من لم يقل بسدِّ الذرائع (2) . وهو الشافعي، وأبو حنيفة، وكافتهم، فأجازوا (3) شراء «البرني» مثلاً ممن باع منه «الجمع». ومنعه مالك رحمه الله تعالى على أصله في سدِّ الذرائع. فإن هذه الصورة تؤدي إلى بيع التمر بالتمر متفاضلاً (4) ، ويكون الثمن لغوًا. ولا حجَّة =(4/482)=@ لهم في هذا الحديث؛ لأنَّه - صلى الله عليه وسلم - لم ينص على جواز شراء التمر الثاني ممن باع منه التمر الأول، ولا تناوله ظاهر اللفظ بعموم، بل بإطلاقه. والمطلق يحتمل التقييد احتمالاً يوجب الاستفسار، فكأنه (5) إلى الإجمال أقرب. وبهذا فُرِّق بين العموم والإطلاق. فإن العموم ظاهر في الاستغراق، والمطلق صالح له، لا ظاهر فيه. وإذا كان كذلك فيتقيد بأدنى دليل. وقد دلَّ على تقييده الدليل الذي دلَّ على سدِّ الذرائع، كما بيَّنَّاه في الأصول. وقد نصَّ ابن عبَّاس رضي الله عنهما على منع مثل هذا، حيث منع فقال: ألا تراهم يتبايعون بالذهب والطعام مرجأ (6) (7) .
وفي هذا الحديث من الفقه جواز اختيار طيبات الأطعمة دون أدانيها (8) . وجواز الوكالة. وفيه مايدلُّ على أن البيوع الفاسدة كلَّها تفسخ (9) ، وتُرَدُّ (10) إذا لم تفت. =(4/483)=@ &(4/386)&$
__________
(1) في (ح): «ثم اشتريه».
(2) في (ف): يشبه ((بستار)).
(3) في (ف): ((وأجازوا)).
(4) قوله: «متفاضلاً» سقط من (أ) و(ف).
(5) في (أ): «وكأنه».
(6) في (أ): ((مُزجيً)).
(7) صحيح البخاري (4/347 رقم2132) كتاب البيوع، باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة، ومسلم (3/160 رقم1525) كتاب البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض.
(8) في (أ) و(ف): «دانيها».
(9) في (ح): «تفسد».
(10) قوله: «ترد» سقط من (أ) ((وترد)) سقط من (ف).(4/386)
- - - - -
30 - ومن باب (1) ترك قول من قال: لا ربا إلا في النسيئة
قول أبي نضرة : «سألت ابن عمر، وابن عباس (2) عن الصرف فلم يريا به بأسًا»؛ يعني به: صرف الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة. سألهما عن التفاضل بينهما، فأفتياه بالجواز أخذًا منهما بظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - : «إنما الربا في النسيئة»، فإن هذا اللفظ ظاهره الحصر، فكأنه قال: لا ربا إلا في النسيئة. وهكذا وقع هذا اللفظ في البخاري (3) ، وهو مقتضى قوله هنا : «لا ربا فيما كان يدًا بيد»، فينتفي ربا (4) الفضل. وقد قدَّمنا: أن هذا الخلاف شاذٌّ، متقدَّم، مرجوع عنه، كما قد نص عليه هنا من رجوع ابن عمر، وابن عبَّاس عنه. وممن قال بقولهما من السَّلف: عبدالله بن الزبير، وزيد بن أرقم، وأسامة بن زيد. ولا شك في معارضة هذا الحديث لحديث عبادة، وأبي سعيد، وغيرهما (5) . فإنَّها نصوصٌ في إثبات ربا الفضل.
ولَمَّا كان كذلك اختلف العلماء في كيفية التخلص من ذلك على أوجهٍ، أشبهها وجهان:
أحدهما: أن حديث ابن عباس منسوخ (6) بحديث عبادة وأبي سعيد، غير أنهم &(4/387)&$
__________
(1) قوله: ((ومن باب)) بياض في (ك).
(2) في (أ): «ابن عباس وابن عمر».
(3) (4/381 رقم2178 و2179) كتاب البيوع، باب بيع الدينار بالدينار نساء.
(4) في (ف): ((زبا)).
(5) في (ح): «وغيرها».
(6) قوله: ((منسوخ)) سقط من (ف).(4/387)
لم ينقلوا التاريخ نقلاً صريحًا، وإنما أخذوه من رجوع ابن عباس عن ذلك، ومن عمل الجمهور من الصحابة وغيرهم من علماء المدينة على خلاف ذلك. =(4/484)=@
قلت: وهذا لا يدل على النسخ، وإنما يدل على الأرجحية.
وثانيهما: إن (1) قوله: «لا ربا إلا في النسيئة». إنما مقصوده نفي الربا الأغلظ الذي حرَّمه الله تعالى بنص القرآن، وتوعَّد عليه بالعقاب الشديد، وجعل فاعله محاربًا لله، وذلك بقوله تعالى: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} إلى آخر الآيات (2) ، وما كانت العرب تعرف ربًا إلا ذلك، فكانت إذا حل دينها قالت للغريم: إما أن تقضي، وإما أن تربي؛ أي تزيد في الدَّين. وهذا هو (3) الذي نسخه (4) النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة لما قال: «ألا إن كل ربًا موضوع، وإن أول ربًا أضعه ربا (5) العباس (6) » (7) . وهذا كما تقول العرب: إنما (8) المال الإبل، وإنما الشجاع عليٌّ، وإنما الكريم يوسف ابن نبي الله. ولا عالم في البلد إلا زيد. ومثله كثير. يعنون بذلك نفي الأكبر (9) والأكمل، لا نفي الأصل. وهذا واضح. ومما يقرب فيه هذا التأويل جدًّا رواية من روى: «لا ربا فيما كان يدًا بيد (10) »؛ أي: لا (11) ربا كبير (12) أو عظيم، كما قال: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» (13) ؛ أي: لا صلاة كاملة.
قلت (14) : ويظهر لي وجه آخر وهو حسن. وذلك (15) : أن دلالة حديث ابن عباس على نفي ربا الفضل دلالة بالمفهوم، ودلالة إثباته دلالة بالمنطوق (16) . ودلالة المنطوق (17) راجحة على دلالة المفهوم باتفاق النظار، والحمد لله.
وقول أبي سعيد رضي الله عنه: «وكان (18) تمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا اللون»؛ يشير به إلى أنه (19) نوع =(4/485)=@ رديء من التمر، وهو الذي سُمِّي في الحديث المتقدم بالجمع (20) . &(4/388)&$
__________
(1) في (أ): «إنه».
(2) (275-281) من سورة البقرة.
(3) قوله: ((هو)) سقط من (ف).
(4) في (ف): ((فسخه)).
(5) في (ح) و(ف): «ربانا ربا».
(6) في (ح) و(ك) و(ف): «عباس».
(7) تقدم في الحج، باب في حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث جابر، برقم (1094).
(8) في (ف): ((ألا إنما)).
(9) في (ك): «الأكثر».
(10) صحيح مسلم برم (1596).
(11) قوله: «لا» سقط من (أ).
(12) في (ك) و(ف): «كثير».
(13) تقدم تخريجه في كتاب النكاح، باب النهي عن خطبة الرجل على خطبة أخيه.
(14) في (ح): «وقلت».
(15) قوله: «وذلك» سقط من (أ) و(ف).
(16) في (ح) و(ك) و(ف): «بالمنظوم».
(17) في (ح) و(ك) و(ف): «المنظوم».
(18) في (ف): ((كان)) بلا واو.
(19) قوله: «أنه» سقط من (أ) و(ح) و(ف).
(20) تقدم في باب فسخ صفقة الربا.(4/388)
وقوله: «فالتمر بالتمر أحق أن يكون ربًا، أم الفضة بالفضة؟» استدلال نظري ألحق فيه الفرع بالأصل بطريق الأولى والأحق. وهي (1) أقوى طرق القياس. ولذلك وافق على القول به (2) أكثر منكري القياس وقد بيَّنَّاه في الأصول، وكان أبا سعيد رضي الله عنه إنما عدل إلى هذه الطريقة لأنه لم يحضره شيء من نصوص حديث عبادة، وفضالة المتقدِّمة. وهي أحق وأولى بالاستدلال بها على ذلك.
وقول أبي سعيد لابن عباس: «أرأيت قولك في الصرف، أشيئًا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو شيئًا وجدته في كتاب الله تعالى؟» سؤال منكر لما سمع، طالبٍ للحقيقة بالدليل، بانٍ على أن لا دليل على الأحكام الشرعية إلا الكتاب والسُّنة.
وقول ابن عباس: «كلا (3) ، لا أقول»؛ أي (4) : لم أسمع فيه من النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، ولا فهمت (5) من كتاب الله، ثم أخذ فأسند الحديث عن أسامة، وأخبر أنه سمعه منه، فثبت الحديث بنقله - وهو الإمام العدل - عن أسامة ذي المآثر والفضل. ولا (6) شك =(4/486)=@ في صحة سند الحديث (7) ، وإنما هو متروك بأحد الأوجه المتقدمة، والله أعلم (8) .
وقول ابن عباس (9) رضي الله عنهما: «أمَّا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنتم أعلم به مني»؛ أي: بأحاديثه، فإنَّهم أسن منه، وهم ملازموه حضرًا وسفرًا، وعندهم (10) من حديثه ما ليس عنده لصغر سنه، وقد بيَّنَّا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي (11) وابن عبَّاس لم يحتلم، والذي سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث يسيرة، وأكثر حديثه (12) عن كبار (13) الصحابة رضي الله عنهم، وفي سِنِّهِ يوم توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أقوال (14) . قيل: عشر (15) . وقيل: خمس عشرة. وقيل: ثلاث عشرة. قال أبو عمر (16) : وهو الذي عليه أهل السِّير والعلم. وهو عندي أصح (17) . =(4/487)=@ &(4/389)&$
__________
(1) في (أ): «وهو».
(2) في (ح) و(ك): «بها».
(3) في (ف): ((بلا)).
(4) في (ف): ((اني)).
(5) في (ح): ((ولا سمعته))، وفي (ك): ((فهمته)).
(6) في (ف): ((فلا)).
(7) في (ح): «سند هذا الحديث».
(8) ألحق ناسخ (ف) في الهامش: ((قال الشافعي يحتمل أن يكون أسامة سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن الربا في صفين مختلفين ذهب بفضة وتمر بحنطة فقال إنما الربا في النسيئة فحفظه فأدى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يؤد مسألة السائل كان ما أدى منه عند من سمعه لا ربا إلا في النسيئة)). وكتب (تتميم).
(9) قوله: ((ابن عباس رضي الله عنهما)) سقط من (ف).
(10) في (ح) و(ك) و(ف): «فعندهم».
(11) قوله: ((توفي)) لم تتضح في (أ).
(12) في (ك): «أحاديثه».
(13) في (ك): «كبر».
(14) سيأتي الكلام عليه في النبوات، باب فضائل عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر.
(15) في (ح): «عشر سنين».
(16) في (ح): ((أبو عمرو)).
(17) من قوله: «وفي سنه يوم توفي....» إلى هنا سقط من (ح) و(ك) و(أ) و(ف).(4/389)
- - - - -
31 = ومن باب اتِّقاء الشبهات
قوله - صلى الله عليه وسلم - : «الحلال بيِّنٌ، والحرام بيِّنٌ، وبينهما أمور متشابهات»؛ يعني: أن كل واحد منهما مبين بأدلته في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - تأصيلاً وتفصيلاً. فمن وقف على ما في الكتاب والسُّنة (1) من ذلك وجد فيهما (2) أمورًا جلية التحليل، وأمورًا جلية التحريم، وأمورًا مترددة بين التحليل والتحريم. وهي التي تتعارض فيها الأدلة. فهي المتشابهات. وقد اختلف في حكمها فقيل: مواقعتها (3) حرام؛ لأنها توقع في الحرام. وقيل: مكروهة والورع تركها. وقيل: لا يقال فيها واحد منهما. والصواب الثاني؛ لأن الشرع قد أخرجها من قسم الحرام، فلا توصف به، وهي مما يُرتاب فيه.وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (4) وهذا هو الورع. وقد قال فيها بعض الناس: إنها حلال ويتورَّع (5) عنها.
قلت: وليست بعبارة صحيحة؛ لأن أقل مراتب الحلال أن يستوي فعله =(4/488)=@ وتركه، فيكون مباحًا. وما كان كذلك لم يتصور فيه الورع من حيث هو متساوي الطرفين. فإنَّه إن ترجَّح أحد طرفيه على الآخر خرج عن كونه مباحًا. وحينئذٍ يكون تركه راجحًا على فعله، وهو المكروه. أو فعله راجحًا على تركه، وهو المندوب.
فإن قيل: فهذا (6) يؤدِّي إلى رفع معلوم من الشرع، وهو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - &(4/390)&$
__________
(1) في (ك) و(ف): «كتاب الله تعالى والسنة».
(2) في (ح): ((فيها)).
(3) في (ك): «موافقتها».
(4) أخرجه الطيالسي (ص163رقم1178)، وعبدالرزاق(3/117-118رقم4984)، وأحمد (1/200)، والترمذي (4/576-577 رقم2518) في صفة القيامة، باب منه، والنسائي (8/327-328 رقم...) في الأشربة، باب الحث على ترك الشبهات، وابن خزيمة (4/59 رقم2348)، وابن حبان (2/498-499 رقم722/الإحسان)، والحاكم (2/13)، و(4/99)، وهو حديث صحيح، انظر "مختصر استدراك الذهبي" (5/2518-2521 رقم859) بتحقيقي.
(5) في (ح) و(ك): «حلال يتورع».
(6) في (ك): ((وهذا)).(4/390)
والخلفاء بعده، وأكثر أصحابه (1) رضي الله عنهم كانوا يزهدون في المباح. فإنَّهم رفضوا التنعم بأكل الطيبات من الأطعمة، وبلباس اللَّين الفاخر من الملابس، وبسكنى المباني الأنيقة من المساكن. ولا شك في إباحة هذه الأمور. ومع هذا فآثروا أكل الخشن، ولباس الخشن (2) ، وسكنى الطين واللَّبِنْ. وكل هذا معلوم من حالهم، منقول من سيرتهم (3) .
فالجواب: إن تركهم التنعم (4) بالمباح لا بدّ له (5) من موجب شرعي أوجب ترجيح الترك على الفعل، وحينئذ يلزم عليه خروج المباح عن كونه مباحًا، فإن حقيقته التساوي من غير رجحان. فلم يزهدوا في مباح، بل في أمرٍ تَرْكُهُ خيرٌ من فعله شرعًا. وهذه حقيقة المكروه. فإذًا إنما زهدوا في مكروه. غير أن المكروه تارة يكرهه الشرع من حيث هو، كما كره (6) لحوم السِّباع. وتارة يكرهه لما يؤدِّي إليه، كما يكره القبلة للصَّائم، فإنها تكره لما يخاف منها من فساد الصوم. وتركهم للتنعم من هذا القبيل، فإنَّه انكشف لهم من (7) عاقبته ما خافوا على نفوسهم (8) منه مفاسد (9) إما في الحال، كالرُّكون إلى الدنيا. وإما في المآل كالحساب (10) عليه، والمطالبة بالشكر، وغير ذلك ممَّا ذكر في كتب الزهد. وعلى هذا فقد ظهر ولاح: أنهم لم يزهدوا ولا تورعوا عن مباح.
وقوله: «لا يعلمهن كثير من الناس»؛ أي: لا يعلم حكمهن من التحليل والتحريم (11) ، وإلا فالذي يعلم الشبهة يعلمها من حيث أنها مشكلة، لترددها بين أمور محتملة، فإذا علم بأي (12) أصل تلحق زال كونها شبهة، وكانت إما من الحلال، أو من الحرام. وفيه دليلٌ: على أن الشبهة لها حكم خاص بها، عليه (13) دليل شرعي، =(4/489)=@ يمكن (14) أن يصل إليه بعض الناس، فمن ظفر به فهو المصيب كما بيناه في الأصول.
وقوله: «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه»؛ أي: من ترك ما يشتبه عليه سلم دينه مما يفسده، أو ينقصه. وعرضه مما يشينه، ويعيبه، فيسلم من عقاب (15) الله وذمِّه (16) . ويدخل في زمرة المتقين الفائزين بثناء الله تعالى وثوابه، لكن (17) لا يصحّ اتقاء الشبهات حتى تعرف، ومعرفتها على التعيين والتفصيل يستدعي فصل تطويل، لكن نعقد (18) فيه عقدً كليًّا يكون إن شاء الله تعالى عن التفصيل مُغنيًا، فنقول: &(4/391)&$
__________
(1) في (ك): «الصحابة».
(2) قوله: «ولباس الخشن» سقط من (أ).
(3) في (أ): ((سيرهم)).
(4) في (ف): ((للتنعم)).
(5) قوله: «له» سقط من (أ).
(6) في (ك): ((كره)).
(7) في (ك): ((عن)).
(8) في (ك): ((أنفسهم)).
(9) في (ح): ((مفاسدًا)).
(10) في (ك) و(ح): ((بالحساب)).
(11) في (ح): «أو التحريم».
(12) في (ف): ((فأي)).
(13) في (أ): «عليها».
(14) في (ف): ((فيمكن)).
(15) في (ك): ((عذاب)).
(16) قوله: ((وذمه)) ليس في (ك).
(17) في (ح): ((ولكن)).
(18) في (ف): ((نعتقد)).(4/391)
المكلف بالنسبة إلى الشرع: إما أن يترجح فعله على تركه، أو تركه على فعله، أو لا يترجح واحد منهما. فالراجح الفعل أو الترك؛ إما أن يجوز نقيضه بوجه ما (1) ، أو لا يجوز نقيضه (2) . فإن لم يجز (3) نقيضه فهو المعلوم الحكم من التحليل، كحِلِّيةِ لحوم الأنعام. أو من التحريم؛ كتحريم الميتة والخنزير على الجملة (4) . فهذان النوعان هما المرادان بقوله: «الحلال بيِّن، والحرام بيِّن». وأما إن (5) جُوِّز نقيض ما ترجَّح عنده: فإمَّا أن يكون ذلك التجويز (6) بعيدًا لا مستند له أكثر من توهّم، وتقدير: فلا يلتفت إلى ذلك، ويُلغى بكل حال. وهذا كترك النكاح (7) من نساء بلدة كبيرة (8) مخافة أن يكون له فيها ذات محرم من النسب أو الرِّضاع. أو كترك استعمال ماء باق على أوصافه في فلاة من الأرض مخافة تقدير نجاسة وقعت فيه، أو كترك (9) الصلاة على موضع لا أثر، ولا علامة للنجاسة فيه، مخافة أن يكون فيها بول قد جف. أو كتكرار غسل الثوب مخافة طروء نجاسة لم يشاهدها. إلى غير ذلك مما في معناه. فهذا النوع يجب ألا يلتفت إليه، والتوقف لأجل ذلك التجويز هَوَسٌ. والورع فيه وسوسة شيطانية؛ إذ ليس فيه من معنى الشبهة شيء، وقد دخل الشيطان على كثير من أهل الخير من هذا الباب، حتى يُعطِّل عليهم واجبات، أو يُنقص ثوابها لهم. وسبب الوقوع في ذلك عدم العلم بالمقاصد الشرعية، وأحكامها.
فإن قيل: كيف =(4/490)=@ يقال هذا، وقد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك لما دخل بيته فوجد فيه تمرة فقال: «لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها» (10) . ودخول الصدقة بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (11) بعيد؛ لأنها كانت محرمة عليه وعلى آله، لكنه راعى الاحتمال البعيد، والاحتمالات في الصور التي ذكرتم ليس بأبعد من هذا الاحتمال (12) ، فما وجه الانفصال ؟!
قلنا: لا نسلّم أن ما توقعه النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بعيدًا؛ لأنهم كانوا يأتون بصدقات التَّمر للمسجد، وحجرته متصلة بالمسجد، فتوقع أن يكون صبي أو من يغفل عن ذلك يدخل التمرة من الصدقة في (13) البيت. فاتقى ذلك لقربه بحسب ما ظهر له مِمَّا &(4/392)&$
__________
(1) قوله: ((بوجه ما)) سقط من (ف).
(2) في (أ): «إما أن يجوز نقيضه أو يجوز نقيضه».
(3) في (أ): «يجوز» وفي (ك): ((نجوّز)).
(4) في (ح): ((والخنزير على وعلى الجملة)).
(5) في (ف): ((من)) بدل ((إن)).
(6) في (أ): «التحريم».
(7) في (ك): «وهذا أكثر كالنكاح».
(8) في (أ): «كره».
(9) في (ح): «وكترك».
(10) تقدم تخريجه (3/279) في باب ما جاء في الصيد، من كتاب الحج.
(11) في (ك): ((بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - )).
(12) من قوله: «والاحتمالات في الصور....» إلى هنا سقط من (أ).
(13) في (ح): «إلى» بدل ((في)).(4/392)
قرب ذلك التقدير، وليس من تلك الصور في شيء؛ لأنها خلية عن الأمارات. وإنما هي محض (1) تجويزات.
وأما إن كان ذلك التجويز له مستند معتبر بوجه ما، فالأصل: العمل بالراجح، والورع الترك إن لم يلزم منه ترك العمل بالراجح (2) وبيانه بالمثال. وهو (3) : أن جلد الميتة لا يطهره الدباغ في مشهور مذهب مالك. فلا يجوز أن يستعمل في (4) شيء من المائعات، لأنها ينجس (5) إلا الماء وحده، فإنه يدفع النجاسة عن نفسه؛ لأنه لا ينجس (6) إلا إذا تغيَّر (7) . هذا الذي ترجَّح عنده. ثم إنه اتقى الماء في خاصة نفسه. ونحو ذلك حكي عن أبي حنيفة أو سفيان الثوري أنه قال: لأن أخرَّ من السَّماء أهون عليَّ من (8) أن أفتي بتحريم قليل النبيذ، وما شربته قط، ولا أشربه. فقد أعملوا (9) الراجح في الفتيا، وتورعوا عنه في أنفسهم. وقد قال بعض المحققين: من حكم الحكيم (10) أن يوسع (11) على المسلمين في الأحكام (12) ، ويضيق على نفسه؛ يعني به ذلك المعنى.
ومنشأ هذا الورع الالتفات إلى إمكان اعتبار الشرع ذلك المرجوح. وهذا =(4/491)=@ الالتفات ينشأ (13) من القول: بأن المصيب واحد. وهو مشهور قول مالك. ومنه مثار (14) القول فهي مذهبه بمراعاة الخلاف. كما بينَّاه في الأصول. غير أن تلك التجويزات المعتبرة -وإن كانت مرجوحة - في على مراتب في القرب والبعد، والقوة والضعف. وذلك بحسب (15) الموجب لذلك الاعتبار. فمنها ما يوجب حزازة في قلب المتقي (16) ، ومنها ما لا يوجب ذلك. فمن لم يجد ذلك، فلا ينبغي له (17) أن يتوقف؛ لأنه يلتحق ذلك بالقسم الأول عنده. ومن وجد ذلك توقف وتورَّع وإن أفتاه المفتون بالرَّاجح؟ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به الباس (18) » (19) . وهنا يصدق قولهم: استفت قلبك وإن أفتوك. لكن هذا إنما يصح ممن نوَّر الله قلبه بالعلم، وزين جوارحه بالورع، بحيث يجد للشبهة أثرًا في قلبه. كما يحكى عن كثير من سلف هذه الأمَّة، كما نقل عنهم في "الحلية" و "صفة الصفوة"، وغيرهما من كتب ذلك الشأن. &(4/393)&$
__________
(1) قوله: «محض» سقط من (ك).
(2) في(ح)و(ك): «العمل بترك الراجح».
(3) في (ف): ((هو)) بلا واو.
(4) في (ك): «فيه».
(5) في (ك): «تنجس» وفي (ح): ((يتنجس)). وفي (أ) و(ف): ((تتنجس)).
(6) في (ح): «يتنجس».
(7) في (ح): ((تخبر)).
(8) قوله: «من» سقط من (أ).
(9) في (ح): «اعلموا»، وفي (ك): «عملوا».
(10) في (ح) و(ك): «الحكم».
(11) قوله: ((في الأحكام)) سقط من (ح).
(12) قوله: ((يوسع)) تكرر في (ح).
(13) في (ك): «نشأ».
(14) في (ح) و(ك) و(ف): «ثار».
(15) في (ك): «بسبب».
(16) في (ك): «المفتي والمفتو».
(17) قوله: ((له)) سقط من (ك).
(18) في (ح): «بأس».
(19) أخرجه عبد بن حميد (ص... رقم484)، وابن ماجه (2/1409 رقم4215) في الزهد، باب الورع والتقوى، والترمذي (4/547 رقم2451) في صفة القيامة، والطبراني في "الكبير" (17/168-169 رقم446)، والحاكم (4/319)، والبيهقي (5/335). جميعهم من طريق هاشم بن القاسم، عن أبي عقيل عبدالله بن عقيل، عن عبدالله بن يزيد، عن ربيعة بن يزيد، وعطية بن قيس، عن عطية السعدي، وكان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا لما به الباس».
قال الترمذي: «حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه». وقال الحاكم: «صحيح الإسناد»، ووافقه الذهبي. وقال الألباني في تعليقه على "المشكاة" (2/845-846 رقم2775): «وإسناده حسن». وفي سنده: عبدالله بن يزيد الدمشقي؛ ضعيف، كما في "التقريب" (ص558 رقم3738).(4/393)
وأما إن لم يترجح الفعل على الترك، ولا الترك على الفعل: فهذا هو الأحق (1) باسم الشبهة، والمتشابه؛ لأنه فد تعارضت فيه الأشباه. فهذا النوع يجب فيه التوقف إلى الترجيح، لأن الإقدام على أحد الأمرين (2) من غير رجحان حكم بغير دليل. فيحرم، إذ لا دليل مع التعارض. ولعل الذي قال: إن الإقدام على الشبهة حرام؛ أراد هذا النوع. والذي قال: إن ذلك مكروه؛ أراد النوع الذي قبل هذا، والله تعالى أعلم. =(4/492)=@
وقوله: "ومن (3) وقع في الشبهات وقع في الحرام»؛ وذلك يكون بوجهين:
أحدهما: أن من لم يتق الله تعالى، وتجرَّأ على الشبهات، أَفْضَتْ به إلى المحرمات بطريق اعتياد (4) الجرأة، والتساهل في أمرها، فيحمله ذلك على الجرأة (5) على الحرام المحض؛ ولهذا قال بعض المتقين (6) : الصغيرة تجر إلى الكبيرة. والكبيرة تجر إلى الكفر. ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : «المعاصي بريد الكفر» (7) . وهو معنى قوله تعالى : {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} (8) .
وثانيهما: أن من أكثر من مواقعة الشبهات أظلم عليه قلبه، لفقدان نور العلم، ونور الورع، فيقع في الحرام، ولا يشعر به (9) . وإلى هذا النور الإشارة بقوله تعالى : {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} (10) . وإلى ذلك الإظلام الإشارة بقوله تعالى: {فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذكر الله}(@).
وقوله: «كالرَّاعي حول الحمى يوشك أن يرتع فيه»؛ هذا مثل ضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - لمحارم الله تعالى. وأصله: أن ملوك العرب كانت تحمي مراعي لمواشيها الخاصة بها، وتُحرِّجُ (11) بالتوعد بالعقوبة على من قربها. فالخائف من عقوبة السلطان يَبْعُد بماشيته من ذلك الحمى؛ لأنه إن قرب (12) منه فالغالب الوقوع فيه، وإن كثر الحذر؛ إذ قد تنفرد الفاذة، وتشذ الشاذة ولا تنضبط، فالحذر أن يجعل بينه وبين ذلك الحمى مسافة بحيث يأمن فيها من وقوع الشاذة والفاذة. وكذلك (13) محارم الله تعالى، لا &(4/394)&$
__________
(1) في (ك): «اللاحق».
(2) في (ح): ((أحد الطرفين)).
(3) في (ك): «فمن».
(4) قوله: «اعتياد» سقط من (أ).
(5) في (ح): «فتحمله على ذلك الجرأة».
(6) في (ح): «السلف».
(7) أورده العجلوني في "كشف الخفاء" (2/296 رقم2317)، وقال: «لم أر من ذكره غير أن ابن حجر المكي في "شرح الأربعين" قال: أظنه من قول السلف، وقيل إنه حديث».
(8) الآية (14) من سورة المطففين.
(9) قوله: «به» سقط من (ك).
(10) الآية (22) من سورة الزمر.
(11) في (ح): «وتحرم».
(12) في (ح): «فرق».
(13) في (ح) و(ف): «وهكذا»، وفي (ك): «فهكذا».(4/394)
ينبغي أن يحوم حولها مخافة الوقوع فيها على الطريقتين المتقدمتين (1) . =(4/493)=@
و «يوشك» بكسر الشين، مضارع «أوشك» بفتحها. وقد قدَّمنا: أنها من أفعال المقاربة، والملابسة، ومعناها هنا: يقع في الحرام بسرعة.
و «يرتع» بفتح التاء (2) مضارع «رتع» بفتحها أيضًا. وفتحت في المضارع مراعاة لحرف الحلق؛ ومعناه (3) : أكل الماشية من المرعى (4) . وأصله: إقامتها فيه، وتبسطها في الأكل. ومنه قوله تعالى : {يرتع ونلعب} (5) .
وقوله: «ألا وإن في الجسد مضغة (6) إذا صلحت صلح الجسد كله...» الحديث، المضغة (7) : القطعة من اللحم. وهي قدر ما يمضغه الماضغ؛ يعني بذلك: صغير (8) جرمها، وعظيم (9) قدرها (10) . و «صلحت» رويناه بفتح العين في الماضي ومضارعه: يصلح بضمها، وكذلك مقابلها. وهي: فسد، يفسد. ومعناه: إذا صارت تلك المضغة ذات صلاح أو ذات فساد. وقد يقال: صلح، وفسد - بضم العين فيهما-: إذا صار الصلاح
أو الفساد هيئة لازمة لها (11) . كما يقال: ظَرُف، وشَرُف.
وقوله: «ألا وهي القلب»؛ هذا اللفظ في الأصل مصدر: قلبت الشيء، أقلبه، قلبًا: إذا رددته على بدأته. وقلبت الإناء: رددته (12) على وجهه. وقلبت الرَّجل عن رأيه (13) : إذا صرفته عنه، وعن طريقه، كذلك. ثم نقل هذا اللفظ، فسُمِّي به هذا العضو الذي هو أشرف أعضاء الحيوان، لسرعة الخواطر فيه، ولترددها عليه. وقد نظم بعض الفضلاء هذا المعنى فقال: =(4/494)=@
ماسُمِّي القلب إلا من تقلبه فاحذر على القَلْبِ من قَلْبٍ وتَحْوِيلِ
ثم لما نقلت العرب هذا المصدر لهذا العضو التزمت فيه تفخيم قافه؛ تفريقًا بينه وبين أصله، وليحذر اللبيب من سرعة انقلاب قلبه؛ إذ ليس بين القلب والقلب إلا التفخيم، وما يعقلها إلا كل ذي فهم مستقيم.
ثم اعلم: أن الله تعالى خص جنس الحيوان بهذا العضو المسمى: بالقلب، وأودع فيه المعنى (14) الذي تنتظم به المصالح المقصودة من ذلك النوع، فتجد البهائم تدرك مصالحها ومنافعها، وتميز بين مفاسدها ومضارها مع اختلاف أشكالها، &(4/395)&$
__________
(1) في (أ) و(ح): «الطريقين المتقدمين».
(2) في (ح): ((الباء)).
(3) في (ك): «ومعناها».
(4) في (لإ): ((الرعي)).
(5) الآية (12) من سورة يوسف. في النسخ الثلاث: ((يرتع وتلعب))، و(ك) و(ف) و(ح).
(6) في (ف): ((بضعة)).
(7) في (ف): ((البضعة)).
(8) في (ك): «صغر».
(9) في (ك): «وعظم».
(10) قوله: «وعظيم قدرها» سقط من (ح).
(11) في (ح): «له».
(12) في (ك): «إذا رددته».
(13) زاد بعدها في (ك): ((وعن طريقه)).
(14) في (أ) و(ف): «المعاني».(4/395)
وصورها، إذ منها من (1) يمشي على بطنه، ومنهم (2) ما (3) يمشي على أربع، ومنها ما يطير بجناحيه. ثم خص الله تعالى من بين سائر الحيوان نوع الإنسان؛ الذي هو المقصود الأول من الكونين، والمعنيُّ في العالمين بهذا القلب المخصوص المشتمل على هذا المعنى المخصوص، الذي به تميز (4) الإنسان. ووقع به بينه وبين سائر الحيوانات (5) الفرقان. وهو المعنى الذي به يفهم (6) القلب المفهومات، ويحصل به على معرفة الكليات والجزئيات، ويعرف به فرق ما بين الواجبات والجائزات والمستحيلات. وقد (7) أضاف الله تعالى العقل إلى القلب، كما أضاف السمع إلى الأذن، والإبصار إلى العين. فقال تعالى : {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (8) ، وهو ردٌّ على من قال من أهل الضلال: إن العقل في الدماغ. وهو قول من زل (9) عن الصواب، وزاغ. كيف لا، وقد أخبرنا عن محلّه خالقه القدير : {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} (10) . وقد روي (11) ذلك عن أبي حنيفة، وما أظنها عنه معروفة. =(4/495)=@
وإذا فهمت: أن الإنسان إنما شرَّفه الله تعالى على سائر الحيوان بهذا القلب، وأن هذا القلب لم يشرف من حيث صورته الشكلية، فإنها موجودة لغيره من الحيوانات البهيمية (12) ، بل من حيث هو مقرّ لتلك الخاصية (13) الإلهية؛ علمت أنه أشرف الأعضاء، وأعزُّ الأجزاء؛ إذ ليس ذلك المعنى موجودًا في شيء منها. ثم إن الجوارح مسخرة له، ومطيعة (14) ، فما استقرَّ فيه ظهر (15) عليها، وعملت على مقتضاه: إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر (16) . وعند هذا انكشف لك معنى قوله: «إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله». ولما ظهر ذلك (17) وجبت العناية بالأمور التي يصلح بها القلب، ليتصف بها، وبالأمور التي تفسد القلب ليتجنبها. ومجموع ذلك علوم، وأعمال، وأحوال (18) . فالعلوم ثلاثة:
الأول: العلم بالله تعالى، وصفاته، وأسمائه، وتصديق (19) رسله فيما جاءوا به.
والثاني: العلم بأحكامه عليهم، ومراده منهم. &(4/396)&$
__________
(1) في (ح) و(ك): «ما».
(2) في (ح) و(ك) و(ف): «ومنها».
(3) في (أ) و(ف): ((من)) بدل ((ما)).
(4) في (ك): «تميز به».
(5) في (أ): ((الحيوان)).
(6) قوله: ((يفهم)) سقط من (أ).
(7) في (أ): «وبه».
(8) الآية (46) من سورة الحج.
(9) في (ح) و(ك): «زال».
(10) الآية (14) من سورة الملك.
(11) في (ك): «ويروى».
(12) في (أ): ((البهيمة)).
(13) في (ك): «الخاصة».
(14) في (ف): ((ومطيعته)).
(15) قوله: ((ظهر)) سقط من (ف).
(16) في (ف): ((إن خيرًا فخيرا وإن شرًا فشرا)).
(17) في (ف): ((لك)).
(18) قوله: «وأحوال» سقط من (ح) و(ك).
(19) في (أ) و(ح) و(ف): «وبصدق».(4/396)
والثالث: العلم بمساعي القلوب من خواطرها، وهمومها، ومحمود أوصافها (1) ، ومذمومها.
وأمَّا (2) أعمال القلوب (3) : فالتحلِّي بالمحمود من الأوصاف، والتخلِّي عن المذموم منها، ومنازلة المقامات، والترقي عن مفضول المنازلات إلى سَنِي الحالات.
وأما الأحوال: فمراقبة الله تعالى في السر والعلن، والتمكن من الاستقامة على السُّنن. وإلى هذا أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال (4) : «أن تعبد الله كانك تراه» (5) . وتفصيل هذه المعاقد الجميلة (6) توجد (7) في تصانيف محققي الصوفية. =(4/496)=@
تنبيه: الجوارح وإن كانت تابعة للقلب (8) فقد يتأثر القلب بأعمالها، للارتباط الذي بين الباطن والظاهر. والقلب مع الجوارح كالملك مع الرَّعية؛ إن صلح صلحت، ثم يعود صلاحها (9) عليه بزيادة مصالح ترجع إليه. ولذلك قيل: الملك سوق، ما نفق عنده جلب إليه (10) . وقد نصَّ على هذا المعنى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إن الرَّجل ليصدق فينكت (11) في قلبة نكتة بيضاء، حتى يكتب عند الله صديقًا. وإن الرَّجل ليكذب الكذبة فيسودّ قلبه حتى يكتب عند الله كذابًا» (12) . وفي "الترمذي" (13) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا (14) : «إن الرَّجل ليصيب الذنب، فيسودّ قلبه، فإن هو تاب صقل قلبه»، قال: وهو الرَّان الذي ذكر (15) الله تعالى في كتابه (16) : {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} (17) . وقال مجاهد (18) : القلب كالكف تقبض منه (19) بكل ذنب أصبع، ثم يطبع. وإلى هذا المعنى (20) الإشارة بقوله - صلى الله عليه وسلم - : «إن في الجسد مضغة إذا &(4/397)&$
__________
(1) في (ف): ((أوصافه)).
(2) في (ك): «فأما».
(3) في (أ): «واما أعمال القلوب من خواطرها».
(4) قوله: «حيث قال» سقط من (ح) وفي (أ) (( - صلى الله عليه وسلم - الا له حيث قال)) وفي (ف): ((رسول الإله)).
(5) تقدم في الإيمان، باب في معاني الإيمان والإسلام والإحسان شرعًا.
(6) في (ك): «الجلية» وفي (ح): ((الجملية)).
(7) في (ح): ((يوجد)).
(8) قوله: «للقلب» سقط من (ح).
(9) في (أ): «مصالحها».
(10) في (ف): ((عليه)).
(11) في (ح): «وينكت»، و(ك): ((فينكتب)) وفي (أ) و(ف): ((وتنكت)).
(12) سيأتي في البر والصلة، باب ما ذكر في ذي الوجهين، وباب الأمر بالصدق والتحذير من الكذب. دون قوله: فينكت في قلبه نكتة بيضاء... فسيور قلبه)).
(13) أخرجه أحمد (2/297)، والترمذي (5/404 رقم3334) في التفسير، باب: ومن سورة {ويل للمطففين}، وابن ماجه (2/1418 رقم4244) في الزهد، باب ذكر الذنوب، والطبري في "تفسيره" (30/98)، وابن حبان (3/210 رقم930/الإحسان)، والحاكم (2/517).
جميعهم من طريق محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، فإن زاد زادت، فذلك الران الذي ذكره الله في كتابه: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}.
قال الترمذي: «حسن صحيح». وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم»، ووافقه الذهبي. وحسّنه الألباني في "صحيح الجامع" (1/342-343 رقم1670).
(14) قوله: «مرفوعًا» سقط من (أ).
(15) في (ك): «ذكره».
(16) في (أ) و(ف): ((قوله)).
(17) الآية (14) من سورة المطففين.
(18) أخرجه الطبري (30/98-99 و99) من طريق الأعمش قال: أرانا مجاهد بيده قال: كانوا يرون القلب في مثل هذا؛ يعني الكف، فإذا أذنب العبد ذنبًا ضمّ منه، وقال بأصبعه الخنصر هكذا، فإذا أذنب ضمَّ أصبعًا أخرى، فإذا أذنب ضمَّ أصبعًا أخرى، حتى ضم أصابعه كلها، ثم يطبع عليه بطابع، قال مجاهد: وكانوا يرون أن ذلك الرين. وسنده صحيح.
(19) قوله: ((منه)) سقط من (أ) وفي (ف): ((يقبض منه)).
(20) في (ح) و(ف): ((وإلى هذا المعنى)).(4/397)
صلحت صلح الجسد» متصلاً بقوله: «الحلال بيِّن، والحرام بيِّن»؛ إشعارًا بأن أكل الحلال ينوِّره، ويُصلحه، وأكل الحرام والشبهة يفسده (1) ، ويقسيه، ويظلمه. وقد وجد ذلك أهل الورع، حتى قال بعضهم: استسقيت جنديًا فسقاني شربة ماء (2) ، فعادت قسوتها على قلبي أربعين (3) صباحًا. وقيل: الأصل المصحِّح للقلوب والأعمال: أكل الحلال. ويخاف على أكل الحرام، والمتشابه (4) ، ألا يقبل له عمل (5) ، ولا تسمع (6) له دعوة. ألا تسمع قوله تعالى: {إنَّما يتقبل الله من المتقين} (7) ، وأكل الحرام، والمسترسل في الشبهات ليس بمتق على الإطلاق. وقد عضد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : «أيها الناس! إن الله طيب ولا (8) يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر =(4/497)=@ المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يا أيها الذين آمنوا (9) كلوا من طيبات ما رزقناكم} (10) ، وقال : {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحًا} (11) . ثم ذكر الرَّجل يطيل السفر أشعث أغبر (12) ، يقول (13) : يارب! يارب! ومطعمه (14) حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك؟! (15) ، ولَمَّا شرب أبو بكر رضي الله عنه جرعة لبن (16) من شبهة استقاءها، فأجهده ذلك حتى تقيأها (17) . فقيل له: أكل ذلك في شربة ؟! فقال: والله! لو لم تخرج إلا بنفسي لأخرجتها، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به» (18) .
وعند هذا يعلم الواحد منا قدر (19) المصيبة التي هو فيها، وعظم (20) المحنة التي ابتلي بها؛ إذ المكاسب في هذه الأوقات قد فسدت، وأنواع الحرام والشبهات قد عمَّت، فلا يكاد أحدٌ منَّا اليوم يتوصل (21) إلى الحلال، ولا ينفك عن الشبهات. فإن الواحد منَّا - وإن اجتهد فيما يعمله - فكيف يعمل فيمن يعامله، مع استرسال الناس في المحرمات والشبهات، وقلَّة من يتقي ذلك من جميع الأصناف، والطبقات، مع ضرورة المخالطة، والاحتياج للمعاملة. وعلى هذا: فالخلاص بعيد، والأمر شديد، ولولا النهي عن القنوط واليأس، لكان ذلك الأولى (22) بأمثالنا من الناس. لكنَّا إذا دفعنا عن أنفسنا أصول المحرمات، واجتهدنا في &(4/398)&$
__________
(1) في (أ): ((يفسد)).
(2) قوله: «ماء» سقط من (ك).
(3) في (ف): ((علي ولي أربعين)).
(4) في (ح) و(ف): «أو المتشابه».
(5) في (ح): ((أن لا يقبل الله له عملا)) وكتب في الهامش: ((يقبل له عملا)) وكتب فوقها صح.
(6) في (ف): ((ولا يسمع)).
(7) الآية (27) من سورة المائدة.
(8) في (ح) و(ف): ((لا)) بلا واو.
(9) في (أ): «يا أيها الرسل».
(10) الآية (72) من سورة البقرة.
(11) الآية (51) من سورة المؤمنون.
(12) في (أ) و(ف): «أشعث أغبر يطيل السفر» وقوله: ((وأشعث أغبر)) سقط من (ح).
(13) قوله: «يقول» سقط من (أ) و(ف).
(14) في (ح): «مطعمه» بلا واو.
(15) تقدم في الزكاة، باب لا يقبل الله الصدقة إلا من الكسب الطيب. في (ف): ((لك)) بدل ((لذلك)).
(16) في (ك) و(ح): ((من لبن)).
(17) في (ف): ((تقيأ)) وفي (ح): ((تقابها)).
(18) هذا السياق مركب من حديثين، أما الحديث الأول، فأخرجه البخاري (7/149 رقم3842) في مناقب الأنصار، باب أيام الجاهلية من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أُحسِنَ الكهانة، إلا أني خدعته، فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه.
وأما طرفه الثاني: «كل لحم نبت من سحت...».
فأخرجه أبو بكر المروزي في "مسند أبي بكر" (ص 191-92 و92 رقم50و51)، وابن عدي (5/298)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (5/56 رقم5759
و5760)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/31).
جميعهم من طريق عبدالواحد بن زيد، عن أسلم الكوفي، عن مُرَّة الطيب، عن زيد بن أرقم، عن أبي بكر الصديق قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به».
وفي سنده عبدالواحد بن زيد، قال البخاري: «تركوه»، وقال ابن معين: «ليس بشيء»، وقال النسائي: «ليس بثقة»، وذكره الساجي والعقيلي وابن شاهين وابن الجارود في الضعفاء. "لسان الميزان" (4/80-81)، لكن الحديث صحيح لغيره؛ لأن له شاهد من حديث جابر، وكعب بن عجرة، انظر تخريجها في "سنن سعيد بن منصور" (4/1580-1586) بتحقيقي.
(19) في (ح): «منا ما قدر».
(20) قوله: «عظم» سقط من (أ).
(21) في (ح): «يخلص».
(22) في (ك): «لكان ذلك أولى»، وفي (ح): «لكان أولى».(4/398)
ترك ما يمكننا من الشبهات، فعفو الله تعالى مأمول، وكرمه مرجوّ، ولا (1) ملجأ إلا هو، ولا مفزع إلا إليه، ولا استعانة إلا به، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله العلي العظيم.
تنبيه: هذا الحديث أصل عظيم من أصول الشريعة. حتى لقد قال أبو داود: كتبت (2) =(4/498)=@ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة ألف حديث، الثابت منها: أربعة آلاف حديث. وهي ترجع إلى أربعة أحاديث: قوله - صلى الله عليه وسلم - : «إنَّما الأعمال بالنيات» (3) ، و «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (4) ، و «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (5) ، و «الحلال بيِّن والحرام بيِّن». وقد جعل غيره مكان «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، قوله: «أزهد في الدنيا يحبك الله» (6) . وقد نظم هذا المعنى أبو الحسن طاهر بن مفوز (7) فقال:
عُمْدَةُ (8) الدِّين عندنا كلمات أربع من كلام خير البرية
... ... اتق المشبهات (9) وازهد ودع ما ليس يعنيك واعملن بنية
قلت: وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة - رضي الله عنهم أجمعين (10) - حسن، غير أنهم لو أمعنوا النظر في هذا الحديث كله، من أوَّله إلى آخره، لوجدوه (11) متضمنًا لعلوم &(4/399)&$
__________
(1) في (ح) و(ك): «فلا».
(2) في (ح): ((كتب)).
(3) تقدم في الجهاد والسير، باب الإخلاص وحسن النية في الجهاد.
(4) مخرج في باب من طلب العلم لغير الله، من كتاب العلم.
(5) تقدم في الإيمان، باب لا يصح الإيمان حتى تكون محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجحة.
(6) أخرجه ابن ماجه (2/1373-1374 رقم4102) في الزهد، باب الزهد في الدنيا، والعقيلي (2/11)، والطبراني في "الكبير" (6/193 رقم5972)، والحاكم (4/313)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (7/344 رقم10522)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/252-253) و(7/136)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1/373 رقم643).
جميعهم من خالد بن عمرو القرشي، عن سفيان الثوري، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل، فقال: يا رسول الله! دلني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك».
قال الحاكم: «صحيح الإسناد»! فتعقبه الذهبي بقوله: «خالد وضَّاع». وقال العقيلي: «وليس له من حديث الثوري أصل، وقد تابعه محمد بن كثير الصنعاني، ولعله أخذ عنه ودلسه؛ لأن المشهور به خالد هذا».
وساق له الألباني شاهدًا مرسلاً: أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (8/41) يرويه الحسن بن الربيع، عن المفضل بن يونس، عن إبراهيم بن أدهم، عن منصور، عن مجاهد، عن أنس مرفوعًا.
هكذا رواه أبو نعيم من طريق أبي أحمد إبراهيم بن محمد بن أحمد الهمداني، عن أبي حفص عمر بن إبراهيم المستملي، عن أبي عبيدة بن أبي السفر، عن الحسن بن الربيع، به. قال أبو نعيم عقبه: «ذكر أنس في هذا الحديث وهم من عمر، أو أبي أحمد، فقد رواه الأثبات عن الحسن بن الربيع، فلم يجاوز فيه مجاهدًا».
ثم رواه من طريق أحمد بن ابراهيم الدورقي، عن الحسن بن الربيع، به، مرسلاً.
وجوَّد الألباني إسناد المرسل، ثم قال: «وجملة القول: أن الحديث صحيح، أو على الأقل حسن بهذا الشاهد المرسل... ويعجبني قول المنذري في "الترغيب"(3/95) عقب اتهامه لخالد بن عمرو : «لكن على هذا الحديث لامعة من أنوار النبوة، ولا يمنع كون روايه ضعيفًا أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله». وقد حسنه النووي والعراقي والهيثمي».اهـ.
وانظر مقدمة المجلد الثاني من "الصحيحة" (13-16).
(7) في (ح): ((كتب)).
(8) في (ك): «عمد».
(9) في (أ): «الشبهات».
(10) قوله: ((أجمعين)) سقط من (أ) و(ك) و(ف).
(11) في (أ) و(ف): ((نظرًا)).(4/399)
الشريعة كلها، ظاهرها وباطنها. وإن أردت الوقوف على ذلك فأعد النظر (1) فيما عقدناه (2) من الجمل في الحلال، والحرام، والمتشابهات، وما يصلح القلوب، =(4/499)=@ وما يفسدها، وتعلُّق أعمال الجوارح بها. وحينئذٍ يستلزم ذلك الحديث معرفة تفاصيل أحكام الشريعة كلَّها، أصولها وفروعها. والله هو المسؤول أن يستعملنا بما علّمنا، ويوفقنا لما يرضى به عنَّا. إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وقوله (3) : «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الرِّبا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه». وقال: «هم سواء». آكل الربا: آخذه. وعبَّر عن الأخذ بالأكل؛ لأن الأخذ إنما يُرَاد للأكل غالبًا؛ ومنه قوله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا} (4) ؛ أي: يأخذونها، فإنه لم يعلّق الوعيد على أموال اليتامى من حيث الأكل فقط، بل من حيث إتلافها عليهم بأخذها منهم. وموكل الربا: معطيه. وهذا كما قال في الحديث الآخر: «الآخذ والمعطي فيه سواء» (5) ، وفي معنى المعطي: المعين عليه، وكاتبه: الذي يكتب وثيقته. وشاهداه: من يتحمَّل الشهادة بعقده، وإن لم يؤدها. وفي معناه: من حضره فأقرَّه. وإنما سوَّى بين هؤلاء في اللعنة؛ لأنه لم يحصل عقد الرِّبا إلا بمجموعهم. ويجب على السلطان إذا وقع له أحد من هؤلاء أن يُغلِّظ العقوبة عليهم في أبدانهم بالضرب، والإهانة، وبإتلاف مال الربا عليهم بالصدقة به (6) ، كما يفعل بالمسلم إذا أجر نفسه في عمل الخمر، فإنه يُتصدَّق بالأجرة، وبثمن الخمر إذا باعها (7) . ويدلّ على صحة ما ذكرناه قوله تعالى : {يمحق الله الربا} (8) ؛ أي: يفسخ عقده، ويرفع بركته، وتمام المحق بإتلاف عينه. =(4/500)=@ &(4/400)&$
__________
(1) في (ف): ((لرجوده)) كذا رسمت.
(2) في (ك): «عقدنا».
(3) في (ح): «قوله» بلا واو.
(4) الآية (10) من سورة النساء.
(5) تقدم في باب تحريم الربا في البر والشعير والتمر والملح.
(6) قوله: «به» سقط من (ك).
(7) في (ح) و(ك) و(ف): «إذا باعها المسلم».
(8) الآية (276) من سورة البقرة.(4/400)
- - - - -
ومن باب بيع البعير واستثناء حملانه (1)
البعير من الإبل بمنزلة الإنسان من الناس. يقال للجمل: بعير. وللناقة: بعير. تقول العرب: صرعني بعيرك (2) . وشربت من لبن بعيري. وإنما يقال له بعير: إذا أجذع، والجمع: أبعرة، وأباعر، وبعران (3) .
حديث جابر هذا: كثرث طرقه، واختلفت روايته، وألفاظه، وخصوصًا ثمن الجمل. فقد اضطرب (4) فيه الرواة اضطرابًا لا يقبل التلفيق. وتكلُّف ذلك بعيدٌ عن التحقيق. ومع ذلك فهو حديث عظيم، فيه أبواب من الفقه، أكثرها واضحة. فلنقصد إلى إيضاح ما يمكن أن يخفى منها؛ فمنها:
قوله: «أفتبيعنيه»؛ دليل على جواز مساومة من لم يعرض سلعته للبيع.
وقوله: «فبعته بأوقية على أن لي فقار (5) ظهره إلى المدينة»، وفي الأخرى: «فقال: لك ظهره إلى المدينة» (6) . وهذا صريحٌ في جواز بيع الدابة واستثناء ركوبها (7) . وقال به ابن شبرمة وغيره من الناس. ومنعه أبو حنيفة، والشافعي أخذًا بنهي =(4/501)=@ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع وشرط. ورأوا: أن هذا النهي (8) أولى من حديث جابر. إما لأنَّه ناسخ له، أو مرجَّح عليه. وقال مالك: يجوز (9) ذلك إذا كانت المسافة قريبة معلومة. وحمل هذا الحديث عليه. &(4/401)&$
__________
(1) قوله: «واستثناء حملانه» سقط من (ح).
(2) في (ح) و(ك): «بعيري».
(3) من قوله: ((بعير وللناقة بعير...)) إلى هنا مكرر في نسخة (ف) بالهامش.
(4) في (ك): ((اضطربت)).
(5) قوله: «فقار» سقط من (أ).
(6) مسلم (3/1223 رقم715/113) في المساقاة، باب بيع البعير واستثناء ركوبه.
(7) قوله: «ركوبها» سقط من (أ) و(ف).
(8) قوله: «النهي» سقط من (أ).
(9) في (ح): ((تجوز)).(4/401)
وقد اختلفوا في جواز البيع والشرط. فصحَّحهما ابن شبرمة، وأبطلهما (1) أبو حنيفة. وصحح ابن أبي ليلى البيع وأبطل (2) الشرط تمسُّكًا بحديث بريرة المتقدم (3) . وأما مالك رحمه الله فيحمل (4) النهي عن بيع وشرط عنده على شرط يناقض مقصود العقد. كقوله: أبيعك هذه الجارية على ألا تطأها. أو: على ألا تبيع. وما شاكل ذلك. فجمع بين الأحاديث. وهي طريقته في القديم والحديث.
و«فقار الظهر»: كناية عن ركوب الظهر. ومنه: أفقرت الرجل: إذا أعرته ذلك. والفقار: جمع فقارة، وهي: خرزات الصلب.
و «الناضح»: البعير (5) الذي يستقى عليه الماء. وقد تقدَّم أيضًا (6) الكلام على ما تضمنه هذا الحديث من ذكر النكاح في كتابه.
و «المماكسة» هي: الكلام في مناقصة الثمن.
وقوله لبلال : «أعطه وزده»؛ دليل: على صحة الوكالة، وعلى (7) جواز الزيادة في القضاء. وهي من باب قوله - صلى الله عليه وسلم - : «إن خيركم أحسنكم قضاءً» (8) ، وهذا =(4/502)=@ لا يختلف فيه إذا كان من بيع. وإنما يختلف فيه إذا كان من قرض. فاتفق على جوازه في الزيادة في الصفة (9) ؛ إذا كان بغير شرط، ولا عادة. وزاد أصحابنا: ولا قصد من المقرض للزيادة، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «كل قرض جرَّ نفعًا فهو ربا» (10) . وأما الزيادة في العدد والوزن، فمنعها مالك في مجلس القضاء حسمًا للذريعة. وأجازها ابن حبيب. ولم يختلف في جواز ذلك؛ إذا كانت الزيادة بعد مجلس القضاء.
وقوله: «أعطه أوقية من ذهب»؛ قال أبو جعفر الداودي: ليس لأوقية &(4/402)&$
__________
(1) في (ح): ((وأبطلها)).
(2) قوله: «أبطل» سقط من (ح).
(3) تقدم في العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق.
(4) في (لإ): ((فحمل)).
(5) قوله: «البعير» سقط من (ح) و(ك).
(6) في (ف): ((وقد تقدم وتقدم أيضًا)).
(7) في (أ): «على».
(8) سيأتي في باب الاستقراض وحسن القضاء.
(9) في (أ) و(ف): «في زيادة الصفة».
(10) أخرجه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" ** ليست في الأصل **(ص141-142 رقم436) كما في "بغية الباحث" عن حفص بن حمزة، عن سوار بن مصعب، عن عمارة الهمداني، عن علي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «كل قرض جرَّ نفعًا فهو ربا».
قال الحافظ في "بلوغ المرام" (ص218 رقم882): «إسناده ساقط».
وله شاهد من حديث فضالة بن عبيد:
أخرجه البيهقي في "الكبرى" ** ليست في الأصل ** (5/350) من طريق إبراهيم بن منقذ، عن إدريس بن يحيى، عن عبدالله بن عياش، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرزوق التجيبي، عن فضالة بن عبيد صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال... فذكره.
قال الألباني في "الإرواء"(5/235): «وإدريس هذا لم أجد له ترجمة، ومَنْ فوقه ثقات».
وفي "البخاري" (7/129 رقم3814) في مناقب الأنصار، باب مناقب عبدالله بن سلام، عن أبي بردة قال: أتيت المدينة فلقيت عبدالله بن سلام رضي الله عنه، فقال: ألا تجيء فأطعمك سويقًا وتمرًا وتدخل في بيت؟ ثم قال: إنك في أرض الربا فيها فاش، إذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن، أو حمل شعير، أو حمل قت، فإنه ربا.
وانظر "الإرواء" (5/234).(4/402)
الذهب وزن يعرف. وأما أوقية (1) الفضة: فأربعون درهمًا.
وفيه دليل على أن وزن الثمن وكَيْله على المشتري، كما أنه (2) على (3) البائع إن (4) كان المبيع مما يكال، أو يوزن (5) . ولأن على كل واحد منهما أن يسلِّم ما لزمه دفعه (6) . ولا يتحقق (7) التسليم إلا بذلك.
وقوله: «وزادني قيراطًا»، وفي أخرى: «درهمًا أو درهمين»؛ هذا (8) اضطراب، وقد تكلًّف القاضي أبوالفضل الجمع بين هذه الروايات المختلفة التي في الثمن، وفي الزيادة، تكلُّفًا مبنيًا على تقدير أمر لم يصح نقله، ولا استقام =(4/503)=@ ضبطه، مع أنه لا يتعلَّق بتحقيق ذلك حكم، ولا يفيد حكمة. والحاصل: أنَّه باعه البعير بثمن معلوم لهما، وزاده عند القضاء زيادة محققة، ولا يضرنا جهلنا (9) بمقدار ذلك.
وقوله: «خذ جملك ودراهمك، فهو لك»؛ هذا يدلُّ على أن هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عطية مبتدأة بعد صحة شرائه، وملكه للبعير (10) . وهذا مبطل لتأويل بعض الشافعية في هذا الحديث؛ إذ قال: إن ذلك لم يكن من النبي - صلى الله عليه وسلم - شراء للبعير، ولا بيعًا من جابر حقيقة. وهذا من قائله تغيير وتحريف، لا تأويل. وكيف يقبل هذا التأويل مع (11) قوله: «أتبيعنيه (12) بأوقية»، فقال: قد بعته (13) منك بأوقية، على أن لي ظهره إلى المدينة. بعد المماكسة (14) . وهذا نصٌّ لا يقبل التأويل. وكذلك قوله: «فهو لك» بعد قوله: «خذ جملك ودراهمك»، وذلك واضح لمن تأمل أفراد تلك الكلمات ومركّباتها.
وقوله: «أتراني ماكستك لكي آخذ (15) جملك»؛ بكسر لام كي، ونصب &(4/403)&$
__________
(1) في (ف): ((وقية)).
(2) قوله: «كما أنه» سقط من (أ) و(ف).
(3) في (أ) و(ف): «وعلى».
(4) في (ك): «إذا».
(5) في (ح): «ويوزن».
(6) في (أ): «ودفعه».
(7) في (ح): يشبه أن تكون ((تحقق)).
(8) في (ح) و(ك): ((هو)) وفي (ف): ((وهو)).
(9) في (أ): ((جهلها)).
(10) في (ف): ((للبعير)).
(11) قوله: «مع» سقط من (ح) و(ك).
(12) في (ح): ((أتبعنيه)).
(13) في (ك): «بعت».
(14) في (ح): ((الملكية)) وكتب في الهامش ((المماكسة)).
(15) في (ح) و(ف): ((لأخذ)). وفي (أ): ((لاخُذ)) بدل ((لكي آخذ)) و(ك).(4/403)
الفعل المضارع بعدها. كذا لجميع الرواة. وقُيِّد (1) على أبي بحر. «لا، خذ جملك» على «لا» النافية، و «خذ» على الأمر. والمعنيان واضحان.
وقوله: «فما زال يزيدني»؛ يدلُّ على أنه زاده بعد القيراط شيئًا آخر. ولعلها: الدرهم، والدرهمان اللذان قال في الرواية الأخرى.
وقوله: «والله يغفر لك»؛ قال أبو نضرة: وكانت كلمة يقولها المسلمون: افعل كذا، والله يغفر لك. =(4/504)=@
قلت: وهو كلام يخرجه فرط المحبة، والشفقة، وإرادة الخير للمسلمين، وهو على معنى الدعاء.
وقوله: «اركب باسم الله»؛ دليل: على استحباب التبرك ببسم ** تراجع** الله (2) عند افتتاح كل فعل، وإن كان من المباحات، فليس مخصوصًا بالقرب، فإنه (3) كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الوضوء: «توضؤوا باسم الله» (4) قال هنا في الركوب: «اركب باسم الله». &(4/404)&$
__________
(1) في (ح): «وقد قيد».
(2) في (ح) و(ف): «بسم الله».
(3) قوله: ((فإنه)) سقط من (ف).
(4) أخرجه عبدالرزاق (11/276 رقم20535) عن معمر، عن ثابت وقتادة، عن أنس قال: طلب بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وضوءً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «هل مع أحد منكم ماء»، فوضع يده في الماء، ويقول: «توضئوا باسم الله»، فرأيت الماء يخرج من بين أصابعه حتى توضؤوا من عند آخرهم. قال ثابت: قلت لأنس: كم تراهم؟ قال: نحوًا من سبعين.
ومن طريق عبدالزاق: أخرجه أحمد (3/165)، والنسائي (1/61-62 رقم78) في الطهارة، باب التسمية عند الوضوء، وأبو يعلى (5/379 رقم3036)، وابن خزيمة (1/74 رقم144)، وابن حبان (14/482-483 رقم6544/الإحسان).
وسنده صحيح.(4/404)
- - - - -
33 - ومن باب جواز الاستقراض وحسن القضاء فيه
قوله: «استسلف بَكْرًا»؛ استسلف: طلب السَّلف، وهو القرض. ويدل: على جواز الأخذ بالدَّين، ولا يختلف العلماء في (1) جواز سؤاله عند الحاجة إليه، =(4/505)=@ ولا نقص على طالبه، ولا تثريب، ولا منة تلحق فيه. ولو كان فيه شيء من ذلك لما استسلف (2) النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه كان أنزه الناس، وأبعدهم عن تلك الأمور.
و «البَكْر»: الفتي من الإبل، وهو فيها كالغلام في الرجال (3) . والقلوص فيها: كالجارية في النساء (4) . وخيار الإبل والشيء: أحسنه، وأفضله. و «الرباعي»: هو الذي دخل في السَّنَة السابعة (5) ؛ لأنَّه يُلقي (6) فيها رباعيته. وهي التي (7) تلي الثنايا. وهي أربع رباعيات - مخفَّفة (8) الياء- والذكر (9) : رباع. والأنثى: رباعية.
وهذا الحديث دليل على جواز قرض الحيوان. وهو مذهب الجمهور. ومنع ذلك الكوفيون. وهذا الحديث الصحيح حجَّة عليهم. واستثنى من الحيوان أكثر العلماء الجواري. فمنعوا قرضهن؛ لأنه يؤدي إلى عارية الفروج. وأجاز ذلك بعض أصحابنا بشرط أن يردَّ غيرها. وأجاز ذلك مطلقًا الطبري، والمزني، وداود الأصبهاني. وقصر بعض الظاهرية جواز القرض على ما لَهُ مثل من المعيَّن (10) ، والمكيل، والموزون. وهذا الحديث حجَّة عليهم.
واختلف أرباب التأويل في استسلاف النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا البَكْر، وقضائه عنه من مال الصدقة. هل كان ذلك السَّلف لنفسه، أو لغيره؛ فمنهم من قال: كان &(4/405)&$
__________
(1) من قوله: «جواز الأخذ بالدين....» إلى هنا سقط من (ح).
(2) في (ح): ((استلف)).
(3) قوله: «في الرجال» سقط من (ح).
(4) قوله: «في النساء» سقط من (ك).
(5) في (ح): «الرابعة».
(6) في (ف): ((ينقى)).
(7) قوله: «التي» سقط من (أ).
(8) في (ح) و(ك): «مخفف».
(9) في (ح): «قال والذكر».
(10) في (ح) و(ك) و(ف): «العين».(4/405)
لنفسه، وكان هذا قبل أن تحرم عليه الصدقة. وهذا فاسد؛ فإنه (1) - صلى الله عليه وسلم - لم تزل الصدقة محرمة عليه (2) منذ قدوم (3) المدينة. وكان ذلك من خصائصه، ومن جملة علاماته المذكورة في الكتب المتقدَّمة؛ بدليل قصة سلمان الفارسي (4) ، فإنه عند قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة جاءه سلمان بتمر، فقدَّمه إليه (5) ، وقال (6) : كُل، فقال (7) : «ما هذا؟» قال (8) : صدقة. =(4/506)=@ فقال لأصحابه: «كلوا» ولم يأكل. وأتاه يومًا آخر بتمر فقال (9) : هدية، فأكل (10) . فقال سلمان: هذه واحدة. ثم رأى خاتم النبوَّة فأسلم. وهذا واضح. وقيل: استسلفه لغيره ممن يستحق أخذ الصدقة، فلما جاءت إبل الصدقة دفع منها (11) . وقد استبعد هذا من حيث: إنه قضى أزيد من القرض من مال الصدقة. وقال: «إن خيركم أحسنكم قضاءً»، فكيف يعطي زيادة من مال ليس له؟ ويجعل ذلك من باب حسن القضاء ؟! وقد أجيب عن هذا: بأن قيل: كان الذي استقرض منه من أهل الصدقة، فدفع الرُّباعي بوجهين: بوجه القرض، وبوجه الاستحقاق.
وقيل وجه ثالت، وهو أحسنها، إن شاء الله تعالى. وهو: أن يكون استقرض البَكْر على ذمته، فدفعه لمستحق، فكان غارمًا، فلما جاءت إبل الصدقة أخذ منها بما هو غارم جملاً رباعيًا، فدفعه فيما كان عليه، فكان أداء عمَّا في ذمته وحسن قضاء بما يملكه. وهذا كما روي: أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر ابن عمرو (12) أن يجهز جيشًا، فنفدت (13) الإبل، فأمره (14) أن يأخذ على قلائص الصدقة (15) . فظاهره: أنَّه أخذ على ذمَّته (16) . فبقي (17) أن يقال: فكيف يجوز له أن يؤدِّي دينه، ويبريء ذمته مِمَّا لا يجوز له أخذه. &(4/406)&$
__________
(1) في (ف): ((لأنه)).
(2) قوله: ((عليه)) سقط من (أ).
(3) في (ح) و(ك) و(ف): «قدم».
(4) ستأتي في كتاب النبوات، باب فضائل سلمان الفارسي وصهيب.
(5) قوله: «إليه» سقط من (ك).
(6) في (ك): «فقال».
(7) في (ح): «قال».
(8) في (ح) و(ك): «فقال» وفي (أ): ((فقال قال: صدقة)).
(9) في(ك): «وقال» و(ح).
(10) قوله: ((وأتاه يومًا آخر بتمر فقال هدية فأكل)) سقط من (ف).
(11) من قوله: «وقيل استسلفه....» إلى هنا سقط من (ح).
(12) في (ح) و(ك): «ابن عمر»، وكتب تحتها في (ك): «عمرو» وعليها «خ» إشارة إلى أن في نسخة: «ابن عمرو».
(13) في (أ): «فتعذر».
(14) من قوله: «أن يجهز جيشًا....» إلى هنا سقط من (ح).
(15) هنا شجرة؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
(16) في (ح) و(ف): ((يبقى)). وفي (ك): ((يبقى)) وكتب فوقها ((فبقي)) ووضع فوقها (في).
(17) في (لإ): ((كيف)).(4/406)
ويجاب عنه: بأنه لَمَّا لم يأخذه لنفسه صار بمنزلة من ضمنه في ذمته إلى وقت مجيء الصدقة. فلو لم يجئ من إبل الصدقة شيء لضمنه لمقرضه من ماله، والله أعلم. وقد (1) تقدَّم الكلام على الزياده في القضاء. =(4/507)=@
فإن قيل: كيف شغل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذمَّته (2) بدين، وقد قال: «إياكم والدَّين، فإنه شين، الدَّين هَمٌّ بالليل، ومذلة بالنهار» (3) ، وقد كان كثيرًا ما (4) يتعوَّذ منه، حتى قيل له: ما أكثر ما تستعيذ (5) من المغرم. فقال: «إن الرَّجل إذا غرم حدَّث فكذب، ووعد فأخلف» (6) . لا يقال: إنما استقرض عند الحاجة والضرورة؛ لأنا نقول: لم يكن في ضرورة إلى ذلك، فإن الله تعالى خيَّره بين أن يجعل له (7) بطحاء مكة ذهبًا، كما رواه الترمذي (8) من حديث أبي أمامة، واستحسنه؛ ومن كانت هذه حاله لم يكن في ضرورة، ولا حاجة. ولذلك قال الله تعالى له (9) : {ووجدك عائلاً فأغنى}(4).
قلت: أما الأخذ بالدَّين عند الحاجة، وقصد الأداء عند الوجدان: فلا يختلف في جوازه. وقد يجب في بعض الأوقات عند الضرورات المتعينة. وأما النهي عن أخذه -إن صحَّ -: فإنما ذلك لمن لم تدعه إليه حاجة، لما يطرأ من تحمله من الأمور التي ذكرناها (10) ، من الإذلال، والمطالبة، وما يخاف من الكذب في الحديث، والإخلاف في الوعد. وقد عصم الله تعالى نبينا - صلى الله عليه وسلم - من ذلك كله، فلم يُحوجه إلى شيء من ذلك، ولا أجراه عليه.
وأما قولهم: إنه لم يكن في ضرورة؛ لأن الله تعالى خيَّره ** كذا في (أ) **. فجوابه: إن الله تعالى لما خيَّره، فاختار أن يجوع ثلاثًا، ويشبع يومًا؟ أجرى الله تعالى عليه ما اختاره لنفسه، وما أشار إليه به صفيَّه، ونصيحه (11) جبريل - صلى الله عليه وسلم - ، فسلك اللة تعالى به أعلى السبيل (12) ، ليصبر على المشقات والشدائد، كما صبر أولو العزم من الرسل، ولينال أعلى المقامات =(4/508)=@ &(4/407)&$
__________
(1) في (ح): «قد».
(2) في (ح): ((بما)) بدل ((مما)).
(3) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (4/404 رقم5554)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (2/96-97 رقم958).
كلاهما من طريق عبدالله بن وهب، عن الحارث بن نبهان، عن يزيد أبي خالد، عن نبهان أيوب، عن أنس بن مالك: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إياكم والدين، فإنه هَمٌّ بالليل، ومذلة بالنهار».
وفي سنده الحارث بن نبهان، متروك، كما في "التقريب" (ص214 رقم1058).
وأورده الألباني في "الضعيفة" (5/290 - 291 رقم2265)، وقال: «ضعيف جدًّا».
(4) في (ك): ((مما)).
(5) في (ح): «تتعوذ» وفي (ك): ((تستعيد)).
(6) أخرجه البخاري في "صحيحه" (2/317 رقم832) كتاب الأذان، باب الدعاء قبل السلام، ومسلم (1/412 رقم589) كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يستعاذ منه في الصلاة.
(7) قوله: «له» سقط من (ح).
(8) أخرجه نعيم بن حماد في "زوائد الزهد" (ص54 رقم196)، وابن سعد (1/381)، وأحمد (5/254)، والترمذي (4/496-497 رقم2347) في الزهد، باب ما جاء في الكفاف والصبر عليه، والطبراني في "الكبير" (8/207 رقم7835)، وأبو نعيم في "الحلية" (8/133)، والبغوي في "شرح السنة" (14/245-246 رقم4044).
جميعهم من طريق عبيد الله بن زحْر، عن علي بن يزيد، عن القاسم أبي عبدالرحمن، عن أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبًا، قلت: لا، يا رب! ولكن أشبع يومًا وأجوع يومًا - وقال ثلاثا، أو نحو هذا -، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك».
قال الترمذي: «هذا حديث حسن»!
وقال أبو نعيم: «وهذا الحديث لا أعلمه روي بهذا اللفظ إلا عن علي بن يزيد، عن القاسم».
وفي سنده: عبيدالله بن زحر، صدوق يخطيء. وعلي بن يزيد الألهاني: ضعيف، والقاسم: صدوق يغرب كثيرًا. "التقريب" (ص638 و706 و792 رقم4319 و4851 و5505).
وقال الألباني في "ضعيف الجامع" (ص542-543 رقم3704): «ضعيف جدًّا».
(9) قوله: «له» سقط من (ك). ... (4) الآية (8) من سورة الضحى.
(10) في (ح): «ذكرها»، وفي (ك) و(ف): «ذكرتها».
(11) قوله: «نصيحه» لم يتضح في (ح).
(12) في (أ) و(ك): «من ذلك أعلى السبيل» وفي (ف): ((السبل)).(4/407)
الفاخرة. ألا تسمع قوله لعمر رضي الله عنه: «أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟» (1) ، ثم لَمَّا (2) أخلص الله تعالى ** كذا في (أ) ** جوهره. وطيَّب خُبْرَهُ وخَبَرَهُ؛ أغناه بعد العيلة، وكثَّره بعد القِلَّة، وأعزه (3) به بعد الذلة. ومن تمام الحكمة في أخذه - صلى الله عليه وسلم - بالدِّيون ليقتدَى به في ذلك (4) المحتاجون.
وقوله: «كان لرجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دين، فأغلظ له»؛ هذا الرجل كان من اليهود، فإنهم كانوا أكثر من يعامل بالدَّين. وحكي: أن القول الذي قاله، إنما هو: إنكم يا بني عبد المطلب مُطل (5) . وكذب اليهودي (6) ؛ لم يكن هذا معروفًا من أجداد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا أعمامه (7) . بل المعروف منهم: الكرم، والوفاء، والسَّخاء. وبعيد أن يكون هذا القائل مسلمًا؛ إذ مقابلة النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك أذىً للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأذاه كفر.
وقوله (8) : «فهمَّ به أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - »، أي: بأخذه لِيُقام عليه الحكم.
وقوله لأصحابه: «دعوه»؛ دليل: على حسن خلقه، وحلمه، وقوة صبره على الجفاء مع القدرة على الانتقام.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «فإن (9) لصاحب الحق مقالا»؛ يعني به: صولة الطلب، وقوَّة الحجَّة، لكن على من يمطل، أو يسيء المعاملة. وأما من أنصف من نفسه: فبذل =(4/509)=@ ما عنده، واعتذر عما ليس عنده، فيقبل عذره، ولا تجوز الاستطالة عليه، ولا كهره.
وقوله: «اشتروا له (10) سنًّا فأعطوه إياه»؛ دليلٌ على أن هذا الحديث قضية أخرى غير قضية حديث أبي رافع. فإن ذلك الحديث يقتضي: أنه أعطاه من إبل الصدقة، وهذا اشتري له.
وفيه دليل: على صحة الوكالة في القضاء.
وفيه: جواز الزيادة فيه. وقد تقدَّم تفصيله، وذكر الخلاف فيه. &(4/408)&$
__________
(1) تقدم في الطلاق، باب إيلاء الرجل من نسائه وتأديبهن باعتزالهن مدة.
(2) قوله: «لما» سقط من (ح).
(3) في (أ) و(ك): ((وأعزبه)). وفي (ف): ((وأعزه بعد الذلة)).
(4) قوله: «في ذلك» سقط من (ح).
(5) أخرجه ابن حبان (288)، وأبو نعيم في "دلائل النبوة" (48)، وأخرجه الحاكم (3/604-605)، والطبراني في "الكبير" (5147)، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - " (ص81)، وفيه أن القائل: زيد بن سعنة لما كان يهوديًّا، وأنه أسلم وحسن إسلامه.
(6) في (أ): ((الهودي)).
(7) في (ح): «ولا من أعمامه».
(8) في (ح): ((قوله)) بلا واو.
(9) في (ح): «إن».
(10) قوله: ((له)) لم تتضح في (ح).(4/408)
وقوله: «خيركم أحسنكم قضاء»، هذا هو اللفظ الفصيح الحسن. وقد روي: «أحاسنكم» (1) ، وهو جمع: أحسن. ذهبوا به مذهب الأسماء، كأحمد، وأحامد. وقد وقع في "الأم" في بعض طرقه: «محاسنكم» (2) بالميم، وكأنَّه جمع: مَحْسِن، كمطلِع ومطالع. وفيه بُعْد. وأحسنُها الأول (3) ، والله تعالى أعلم.
وقوله: «جاء عبدٌ فبايع (4) النبي - صلى الله عليه وسلم - على الهجرة، ولم يشعر: أنَّه عبد»؛ فيه دليل: على أن الأصل في الناس الحرِّية، ولذلك لم يسأله؛ إذ حمله على ذلك =(4/510)=@ الأصل، حيث لم يظهر له ما يخرجه (5) عن ذلك. ولو لم يكن الأمر كذلك لتعيَّن أن يسأله. وهذا أصل مالك في هذا الباب. فكل من ادعى ملك أحد من بني آدم كان مدفوعًا إلى بيان ذلك، لكن إذا ناكره المدعي رقَّه، وادعى الحرية، وسواءٌ (6) كان ذلك المدَّعى رقُّه ممن كثر ملك نوعه، أو لم يكن. فإن كان في (7) حَوْز المدعي لرقِّه كان القول قوله؛ إذا كان حَوْز رِقٍّ، فإن لم يكن فالقول قول المدَّعى عليه مع يمينه (8) .
وقوله: «فجاء سيِّده يريده، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بعنيه»؛ لم يرد في شيء من طرقه: أنه - صلى الله عليه وسلم - طالب سيِّده بإقامة (9) بيغه. فيحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - علم صحة ملكه له حين عرفَ سيِّده. ويحتمل أن يكون (10) اكتفى بدعواه، وتصديق العبد (11) له (12) . فإن العبد بالغٌ عاقلٌ، يُقبل إقراره على نفسه. ولم يكن للسيِّد من ينازعه، ولا يستحلف السيِّد، كما إذا ادعى اللقطة وعرف عفاصها، ووكاءها، أخذها ولم يستحلف لعدم المنازع فيها.
وقوله: «فاشتراه منه بعبدين»؛ هذا إنما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - على مقتضى مكارم أخلاقه، ورغبة (13) في تحصيل ثواب العتق، وكراهية أن يفسخ له عقد الهجرة. فحصل له العتق، وثبت له الولاء. فهذا (14) المعتق مولى (15) للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، غير أنه (16) لا يعرف اسمه.
وفيه دليل على جواز بيع الحيوان بالحيوان متفاضلاً نقدًا (17) . وهذا لا يختلف فيه. وكذلك في سائر الأشياء ما عدا ما يحرم التفاضل في نقده (18) من الرِّبويات على ما قدمناه.
وأما بيع ذلك بالنسيئة (19) ففيه تفصيل وخلاف نذكره. فذهب الكوفيون إلى منع ذلك في الحيوان. فلا يجوز عندهم فرس بفرسين. ولا شاة بشاتين مطلقًا إلى أجل، اختلفت صفاتها أو اتفقت؛ لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع &(4/409)&$
__________
(1) أخرجه أحمد (2/509)، وابن ماجه (2/809 رقم2423) في الصدقات، باب حسن القضاء، والترمذي (3/607 رقم1316) في البيوع، باب منه.
(2) مسلم (3/1225 رقم1601/121) في المساقاة، باب من استسلف شيئًا فقضى خيرًا منه.
(3) في (ف): ((الأُولى)).
(4) في (ف): ((يبايع)).
(5) في (ح): «خرجه».
(6) في (ف): ((سواء)) بلا واو.
(7) في (ك): «من».
(8) قوله: ((مع يمينه)) سقط من (أ) و(ف).
(9) في (أ): «إقامة».
(10) قوله: «يكون» سقط من (ك).
(11) قوله: ((العبد)) لم تتضح في (ح).
(12) قوله: «له» سقط من (أ).
(13) في (ك): «رغبته».
(14) في (ح): «وهذا».
(15) في (ح): «هو مولى».
(16) قوله: «غير أنه» سقط من (أ).
(17) قوله: ((نقدًا)) سقط من (ح).
(18) في (ك): ((في ((فقده)).
(19) في (ف): ((بالنسبة)).(4/409)
الحيوان بالحيوان (1) نسيئة (2) . =(4/511)=@ خرَّجه البزَّار من حديث ابن عباس،
والترمذي (3) من حديث الحسن، عن سَمُرة (4) . وقال: إنه حسن صحيح.
قلت: ويلزمُهم على هذا: ألا يجيزوا بيع الحيوان بمثله، ولا بخلافه. فلا يجيزون بيع شاة بشاة، ولا بفرس (5) إلى أجل. ويلزمهم عليه ألا يجيزوا فيه القرض (6) وكل ذلك معلوم البطلان من الشرع. ويدل على خلاف ما قالوه ما روي من حديث عبدالله بن (7) عمرو بن العاص (8) : أنه - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يجهز جيشًا فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ البعير بالبعيرين إلى الصدقة (9) . ومنع ذلك مالك (10) في الجنس الواحد. والجنسية المعتبرة عنده هي اتفاق الأغراض والمنافع، دون الخلق والألوان، مخافة الوقوع في سلف يجرّ نفعًا. فإذا تباينت المقاصد، واختلفت المنافع؛ جاز ذلك. فيجوز عنده حمار فارهٌ في حمارين من حواشي (11) الحمر إلى أجل، ونقدًا. ولا يجوز في مثله (12) إلى أجل؛ لأنه سلفٌ جرَّ نفعًا. وكذلك في الثياب وسائر العروض. وقد روي نحو ذلك عن عليّ، وابن عمر، والزهري. وأجاز الشافعي ذلك كله مع الاتفاق والاختلاف. وتابعه على ذلك الثوري، وأبو ثور. وروي عن ابن عباس مثله لحديث عبدالله بن عمرو (13) المتقدم. ولم يروا: أنَّه يلزم منه (14) ما حذره مالك. وقد انفصلت المالكية عن حديث عبدالله بن عمرو بأنه محمول على مختلفَي الجنسين (15) بحسب اختلاف الأسنان والمقاصد، بدليل قوله فيه: أمره أن يأخذ في (16) قلائص الصدقة البعير بالبعيرين. فلو كان البعير المأخوذ =(4/512)=@ &(4/410)&$
__________
(1) قوله: «بالحيوان» سقط من (ك).
(2) يرويه معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس، واختلف عليه في وصله وإرساله، فأخرجه عبدالرزاق (8/20 رقم14133)، وابن الجارود (1/185-186 رقم609/غوث)، والطحاوي (4/60)، والطبراني في "الكبير" (11/280 رقم11996).
ثلاثتهم من طريق شهاب بن عباد، عن داود العطار.
وأخرجه الطحاوي (4/60) من طريق أبي أحمد الزبيري، وابن حبان (11/401-402 رقم5028/الإحسان) من طريق أبي داود الحفري. كلاهما - أبو أحمد الزبيري، وأبو داود الحفري-، عن الثوري.
وأخرجه البيهقي (5/288-289) من طريق إبراهيم بن طهمان. أربعتهم- عبدالرزاق، وداود العطّار، والثوري، وإبراهيم بن طهمان -، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة.
لكن أخرجه ابن الجارود (609) من طريق عبدالرزاق، والبيهقي (5/289) من طريق الفريابي، عن الثوري. كلاهما - عبدالرزاق، والثوري -، عن معمر، به مرسلاً. وقد رجح المرسل أبو حاتم، كما في "العلل" لابنه (1/385 رقم1149).
والبيهقي في "سننه" (5/289)، وقال: «وروينا عن البخاري أنه وهَّن رواية من وصله، وحكى عن الشافعي أنه قال: غير ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ورجح الموصول ابن التركماني في "الجوهر النقي" (5/289). وقال البزار: ليس في الباب حديث أجل إسنادًا منه.
(3) (3/538 رقم1237) في البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع الحيوان بالحيوان نسيئة.
وأخرجه أحمد (5/12 رقم19 و21و22)،والدارمي (2/254) في البيوع، باب في النهي عن بيع الحيوان بالحيوان ، وأبو داود (... رقم3356) في البيوع، باب في الحيوان بالحيوان نسيئة، وابن ماجه (2/763 رقم2270) في التجارات، باب الحيوان بالحيوان نسيئة، والنسائي (7/292 رقم4620) في البيوع، باب بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وابن الجارود (2/187 رقم611/غوث)، والطحاوي (4/61)، والطبراني في "الكبير" (7/204-205 الأرقام 6847-6851)، والبيهقي (5/288).
جميعهم من طريق قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة.
قال الترمذي: «حديث سمرة حديث حسن صحيح، وسماع الحسن من سمرة صحيح، هكذا قال علي بن المديني وغيره، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة».
وقال البيهقي: «أكثر الحفاظ لا يثبتون سماع الحسن البصري من سمرة في غير حديث العقيقة».
(4) في (ح): يشبه أن تكون ((بن)) بدل ((عن)).
(5) في (ح): «ولا فرس».
(6) من قوله: «ويلزمهم عليه....» إلى هنا سقط من (ح) و(ك).
(7) قوله: «عبدالله بن» سقط من (أ) و(ف).
(8) في (ح) و(ف): ((العاصي)).
(9) تقدم تخريجه في باب الاستقراض وحسن القضاء فيه.
(10) في (ح) و(ك): «ومنع مالك ذلك».
(11) في (ف): ((حوابِسِي)). وفي (ح): ((وحشي)).
(12) في (ح) و(ك) و(ف): «مثليه».
(13) قوله: «بن عمرو» سقط من (أ).
(14) قوله: «منه» سقط من (ح).
(15) في (ح): ((الجنس)).
(16) في (ح) و(ك): «على».(4/410)
ناجزًا من جنس البعيرين المأخوذين إلى أجل لكان هذا (1) السلف الجارّ نفعًا المتفق على منعه؛ لأنه لم يقترن به صيغة بيع، ولا شيء يدل عليه. فالصورة صورة القرض، ولا مفرق بينها (2) وبين البيع فيمنع، فلا (3) بدّ أن يُقدر فيها اختلاف الجنسين (4) كما تقدَّم.
وبهذا التأويل يصح الجمع بين الأحاديث؛ أعني: بين هذا الحديث، وبين النهي عن سلف جرّ نفعًا. والجمع أولى من الترجيح. فإن لم يقبل (5) هذا التأويل؛ فالقضية محتملة، مترددة بين أن يكون البعير من جنس البعيرين، أو من (6) غير جنسهما على حدٍّ سواء. فتلحق (7) بالمجملات، فلا يبقى (8) فيه حجَّة لهم (9) . ونبقى نحن متمسكين بالقاعدة الكلية؛ التي هي: حماية المحرَّمات، والله تعالى أعلم.
وقوله: «فلم يبايع أحدًا بعد حتى يسأله: أعبد هو؟» يعني: أنه لما وقعت له هذه الواقعة أخذ بالحزم والحذر، فكان يسأل من يرتاب فيه. وفيه من الفقه: الأخذ بالأحوط. =(4/513)=@
- - - - -
ومن باب السلم والرهن
قوله: «قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهم يسلفون في الثمار السَّنه والسنتين»، «يسلفون (10) » معناه: يسلمون. وقد جاء هذا اللفظ في رواية أخرى (11) . فالسَّلم، والسلف هنا (12) : عبارتان عن معبِّر واحد، غير (13) أن الاسم الخاص بهذا الباب السَّلم؛ لأن السَّلف يقال على القرض، كما تقدَّم. والسَّلم في عرف الشرع: بيع من البيوع الجائزة بالاتفاق. غير أنَّه مختص (14) بشروط. منها متفق عليها ومنها مختلف فيها. وقد حدَّه أصحابنا بأن قالوا: هو بيع معلوم في الذمَّة، محصور بالصفة، &(4/411)&$
__________
(1) في (أ): ((هو)).
(2) في (ح): «بينهما».
(3) في (ك): «ولا».
(4) في (أ): ((الجنس)).
(5) في (ح): ((نقل)).
(6) قوله: «من» سقط من (أ).
(7) في (ك): «فالتحق» وفي (ح) ((فليلحق)).
(8) في (ك): «يكون».
(9) في (ح): «فلا يكون لهم فيه حجة».
(10) قوله: «يسلفون» سقط من (ح).
(11) في "سنن الدارقطني" (3/3 رقم3) من حديث ابن عباس، وفي في "سنن البيهقي" (6/25-26) من حديث عبدالله بن أبي أوفى. وحديث ابن أبي أوفى عند البخاري في "صحيحه" (4/430-431 رقم2244 و2245) كتاب السلم، باب السلم إلى من ليس عنده أصل. إلا أنه بلفظ: «يسلفون».
(12) قوله: ((هنا)) سقط من (ك).
(13) في (ك): ((غيز)).
(14) في (ف): ((مخصص)).(4/411)
بعين حاضرة، أو ما هو (1) في حكمها (2) ، إلى أجل معلوم. فتقييده بمعلوم (3) في الذمة يفيد التحرز من المجهول، ومن السَّلم في الأعيان المعينة، مثل الذي كانوا يسلفون (4) في المدينة حين (5) قدم عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنهم كانوا يسلفون في ثمار نخيل بأعيانها. فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، لما فيه من الغرر؛ إذ (6) قد تخلف تلك النخيل فلا تثمر شيئًا.
وقولنا : «محصور بالصفة» تحرز عن المعلوم على الجملة دون التفصيل. كما لو أسلم في ثمر، أو ثياب، ولم يبين نوعها، ولا صفتها (7) المعينة. وقولنا: «بعين حاضرة» تحرز من الدَّين بالدَّين. وقولنا : «أو ما هو (8) في حكمها» تحرز من اليومين والثلاثة (9) التي (10) يجوز تأخير رأس مال &(4/412)&$
__________
(1) قوله: ((وهو)) ليس في (ف).
(2) في (ك): «أو ما في معناها».
(3) في (ح): ((معلوم)).
(4) في (أ): «يتسلفون» وفي (ف): ((يستلفون)).
(5) في (ح): «يسلفون فيه حين».
(6) قوله: «إذ» سقط من (أ).
(7) في (ح): «صفاتها».
(8) قوله: ((هو)) سقط من (ك).
(9) في (ح): «أو الثلاثة».
(10) في (لإ): ((الذي)).(4/412)
السَّلم إليها. فإنه يجوز عندنا تأخيره ذلك القدر بشرط، وبغير شرط؛ لقرب ذلك. ولا يجوز اشتراط (1) زيادة عليها. وقولنا : «إلى أجل معلوم» تحرز من السَّلم الحال. فإنه لا يجوز على المشهور. ووصف الأمد بالمعلوم: تحرز من الأجل (2) المجهول الذي كانوا في الجاهلية يسلمون إليه. وسيأتي تفصيل ذلك كله. =(4/514)=@
وقوله: «من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم»؛ إنما جرى ذكر التمر (3) في هذه الرواية؛ لأنه غالب ما يسلم فيه عندهم. وقد سكت عنه في الرواية الأخرى، فكانت هذه الرواية دليلاً على جواز السَّلم في كل شيء من الحيوان وغيره من العروض مما (4) تجتمع شروط (5) السَّلم فيه، وهو مذهب الجمهور من الصحابة، والتابعين، وأئمة الفتوى (6) . وقد منع السَّلم والقرض في الحيوان الأوزاعي، والثوري. وروي عن ابن (7) عمر (8) ، وابن مسعود (9) . والكتاب والسُّنة حجة عليهم. فمن الكتاب عموم قوله تعالى: {وأحل الله البيع وحرَّم الربا (10) } (11) ، وقوله: {إذا تداينتم بدين إلى أجل (12) } (13) . ومن السُّنة الحديث المتقدم، وقياس الحيوان على العروض، ولا فارق بينهما.
وفيه دليل: على اشتراط (14) كون الْمُسْلَم فيه معلوم المقدار. وكذلك لابُدَّ أن يكون معلوم الصفة المقصودة المعينة، ليرتفع الغرر والجهالة. وهو مجمع عليه، وإنما لم يذكر اشتراطها في هذا الحديث؛ لأنهم كانوا يشترطونها ويعملون عليها، فاستغني عن ذكرها، واعتني بذكر ما كانوا يُخِلُّون به من المقدار والأجل. وأما رأس مال السَّلم: فقد اشترط (15) فيه أبو حنيفة أن يكون معلوم الكيل، أو الوزن. وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز السَّلم بما كان معينًا، ولم يعلم كيله، ولا وزنه. وبه قال الشافعي في أحد قوليه. ولم يرد عن مالك فيه نصٌّ، لكن يتخرج من مسألة (16) جواز بيع الجِزاف فيما يجوز فيه (17) جواز (18) السَّلم بالمعين جزافًا. وهو الصحيح إن شاء الله تعالى؛ لأن التقدير في الجزاف كالتحقيق، فيستوي في جواز ذلك رأس مال السَّلم وغيره.
وفيه دليل: على اشتراط الأجل في السَّلم. وهو قول أبي حنيفة. والمشهور من قول مالك، غير أن أبا حنيفة لم يُفرق بين قريب الأجل وبعيده. وأما أصحابنا فقالوا: لا بدَّ من أجل تتغير فيه الأسواق. وأقله عند ابن القاسم خمسة عشر يومًا. وقال غيره: ثلاثة =(4/515)=@ أيام. ولم يَحُدَّها (19) ابن عبد الحكم في روايته (20) عن مالك. بل قال: أيامًا يسيرة. وهذا في البلد الواحد وأما في البلدين فيغني ما بينهما من المسافة عن اشتراط الأجل إذا كانت معلومة وتعين وقت الخروج.
وقال الشافعي: يجوز السَّلم الحالّ (21) . وهذا الحديث حجة عليه، ولا سيما على رواية من رواه: «من أسلم (22) فلا يسلم إلا في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى (23) أجل معلوم (24) ». وكذلك الحديث الذي قال فيه: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع ما ليس عندك، وأرخص في السَّلم» (25) ؛ لأن السَّلم لما كان بيعٌ معلومٌ في الذمة كان بيعَ غائبٍ، فإن لم يكن فيه أجل كان هو البيع المنهي عنه. وإنما استثنى الشرع السَّلم من بيع ما ليس عندك؛ لأنه بيع تدعو إليه ضرورة كل واحد من المتبايعين، فإن صاحب رأس المال محتاج أن (26) يشتري الثمر، وصاحب الثمرة محتاج إلى ثمنها قبل إبَّانها لينفقه عليها. فظهر: أن صفقة السَّلم من المصالح الحاجيَّة. وقد سَمَّاها (27) الفقهاء بيع المحاويج. فإن جاز حالاًّ بطلت هذه الحكمة، وارتفعت هذه المصلحة، ولم يكن لاستثنائه من بيع ما ليس (28) عندك فائدة. والله تعالى أعلم.
وأما رأس مال السَّلم: فيجوز أن يتأخر عندنا (29) ثلاثة أيام بشرط وبغير شرط، ولا يجوز تأخيره زيادة عليها بالشرط (30) . وإن وقع كذلك بطل؛ لأنه ظهر =(4/516)=@ مع الزيادة عليها مقصود الدَّين بالدَّين، فلا يجوز بخلاف ما قبلها؛ إذ لا يتبيَّن فيه المقصد إلى ذلك؛ إذ يكون تأخير اليومين والثلاثة ليهيِّيء الثمن، ويحتال في تحصيله. ولم يجز الكوفيون، ولا الشافعي تأخيره عن العقد (31) والافتراق (32) ، ورأوا: &(4/413)&$
__________
(1) في (ح): ((اشراط)).
(2) في (أ) كتب الناسخ فوق «من» "صح" وفوق «الأجل» "صح"، وكتب بينهما: «السلم الحال فإنه لا يجوز».
(3) في (ف): ((الثمر)).
(4) في (ف): ((متى)).
(5) في (ح): «عروض».
(6) في (ح) و(ف) و(ك): «الفتيا».
(7) قوله: «ابن» سقط من (ح).
(8) أخرجه الترمذي في "العلل" (1/182 رقم320): حدثنا محمد بن عمر المقدمي البصري، حدثنا محمد بن دينار الطاحي، عن يونس بن عبيد، عن زياد بن جبير بن حية، عن ابن عمر قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة
قال أبو عيسى: «سألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: إنما يروى عن زياد بن جبير، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ».
وأشار الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/105) إلى أن الحديث أخرجه الطبراني في "الكبير" وقال: فيه محمد بن دينار وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه ابن معين.
ولم أعثر عليه في الطبراني. وذكر الشيخ حمدي السلفي إلى أنه بعض حديث العبادلة في "المعجم الكبير" في عداد المفقود.انظر مقدمة القطعة المطبوعة من الجزء (13 ص5).
(9) أخرجه عبدالرزاق في "المصنف"(8/26 رقم14160):** في الأصل أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا ابن عيينة** أخبرنا ابن عيينة، عن عمار الدهني قال: سألت سعيد بن جبير عن السلم في الحيوان، فقال: كرهه ابن مسعود، فقلت: أفلا تنهي هؤلاء عنه، فقال: إنك إذا ذهبت لتنشر سلعتك على من لا يريدها كسرها. وإسناده صحيح إلى سعيد بن جبير، وهو لم يدرك ابن مسعود.
وأخرجه من هذا الطريق أيضًا البيهقي في "الكبرى" (6/22 رقم10888).
(10) قوله: «وحرم الربا» ليس في (ح) و(ف) و(ك).
(11) الآية (275) من سورة البقرة.
(12) قوله: «إلى أجل» سقط من (أ) و(ف).
(13) الآية (282) من سورة البقرة.
(14) في (ح): ((اشراط)).
(15) في (ح): ((اشرط)).
(16) قوله: ((مسألة)) سقط من (ف).
(17) في (ح): «بيعه».
(18) في (ك): ((جوازه)).
(19) في (أ) و(ك): «يجدها».
(20) في (ح) و(ك): «رواية».
(21) في (ك): ((الحال)) وألحق بالهامش ((حالاًّ)).
(22) قوله: «من أسلم» سقط من (أ).
(23) في (ك): «وإلى»، وضبب الناسخ على الواو، وقوله ((إلى)) سقط من (ف).
(24) قوله: «إلى أجل معلوم» سقط من (أ) و(ف).
(25) قال ابن حجر في "الدراية" (2/159): «لم أجده هكذا، نعم هما حديثان؛ أحدهما: لا تبع ماليس عندك، وقد تقدم، ثانيهما: الرخصة في السَّلم، ولم أره بهذا اللفظ إلا أن القرطبي في شرح مسلم ذكره أيضًا.
وقال الزيلعي في "نصب الراية" (4/45) بعد كلام له سابق حول إيراد القرطبي له بهذا اللفظ، قال: «والذي يظهر أن هذا حديث مركب، فحديث النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان أخرجه أصحاب السنن الأربعة: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك». انتهى. قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وأخرجوه أيضًا عن حكيم بن حزام: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : «لا تبع ما ليس عندك»، وحسنه الترمذي وقد تقدما في خيار العيب. وأما الرخصة في السَّلم فأخرج الأئمة الستة في كتبهم عن أبي المنهال، عن ابن عباس قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - والناس يُسلفون في الثمر السنتين والثلاث، فقال: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم»، وأخرج البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى قال: إن كنا لنسلف على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر في الحنطة والشعير والتمر والزبيب وسألت ابن أبي أبزى فقال مثل ذلك، انتهى».
(26) في (أ) و(ف): ((إلى أن)).
(27) في (أ) و(ح): ((سماه)).
(28) قوله: ((ليس)) سقط من (ف).
(29) قوله: «عندنا» سقط من (ح).
(30) في (ك): ((فالشرط)) وكتب فوقها: ((بالشرط)).
(31) في (أ): «النقد».
(32) في (ح): ((والاالافتراق)).(4/413)
أنه كالصَّرف، وهذا القياس غير مسلم لهم؛ لأن البابين مختلفان بأخص أوصافهما، فإن الصَّرف بابه (1) ضيق، كثرت فيه التعبُّدات والشروط بخلاف السَّلم فإن شوائب المعاملات عليه أكثر. وأيضًا: فإنه على نقيضه. ألا ترى: أن مقصود الشرع في (2) الصَّرف المناجزة، والمقصود في السَّلم التوسيع بالتأخير؛ فكيف تحمل فروع أحدهما على الآخر مع وجود هذه الفوارق (3) ؟
والسَّلم عندنا له شروط: أن (4) يكون مضمونًا، ومعلوم المقدار (5) ، والصِّفة، وإلى أجل لا يتعذر (6) ** تراجع في (أ) ** عنده وجود المسَّلم فيه، وأن يكون رأس ماله حاضرًا، أو في حكمه (7) ، معلوم المقدار، أو في حكمه. وليس من شرطه أن يكون المسلم إليه مالكًا للمسلم فيه، خلافًا لبعض السلف، ولا أن يكون مما لا ينقطع من أيدي الناس جملة، خلافًا (8) لمن شرط ذلك، ولا أن يكون موجودًا حين العقد خلافًا لأبي حنيفة، ولا يشترط فيه أن يذكر موضع القبض، خلافًا للكوفيين، فإنهم اشترطوا (9) ذلك فيما له حمل ومؤونة (10) . وعندنا: أنهم لو سكتوا عنه لم يفسد العقد، ويتعيَّن موضع العقد. وليس من شرطه ألا يكون رأس ماله جزافًا، ولا أن لا (11) يتأخر، ولا أن لا(@) يكون المسلم فيه حيوانًا، خلافًا لمن تقدم ذكرهم. ومسائل السلم كثيرة؛ فلتنظر في كتب الفقه، وفيما ذكرناه (12) كفاية.
وقوله: «إنه - صلى الله عليه وسلم - اشترى من يهودي طعامًا إلى أجل، ورهنه درعًا له (13) من حديد»؛ فيه دليل على جواز معاملة أهل الذمة - مع العلم بأنهم يبيعون الخمر، =(4/517)=@ ويأكلون الرِّبا - لأنَّا قد أقررناهم على ما بأيديهم من ذلك، وكذلك: لو أسلموا لطاب لهم ذلك (14) ، وليس كذلك الْمُسْلِم الذي يعمل بشي من ذلك، لا يقرّ على ذلك، ولا يترك بيده على ما تقدَّم، ولا يجوز أن يعامل من كان كسبه من ذلك، وإذا تاب تصدَّق بما بيده منه (15) . وأما أهل الحرب: فيجوز أن يعاملوا (16) ، ويُشترى (17) منهم كل ما يجوز لنا شراؤه وتملكه. ويُباع منهم كل شيء من العروض، والحيوان ما لم يكن ذلك (18) مضرًّا بالمسلمين مما يحتاجون إليه (19) ، وما خلا آلة الحرب، وعدَّته، وما يخاف أن يتقوَّوا به على المسلمين، فلا يباع منهم شيء منه، ولا يباع منهم ولا &(4/414)&$
__________
(1) في (أ): «باب».
(2) في (ك): «من».
(3) في (ح) و(ك): «الفروق».
(4) في (ك): «منها أن».
(5) في (أ) و(ف): «القدر».
(6) في (ف): ((التوسع)).
(7) قوله: ((معلوم المقدار أو في حكمه)) سقط من (ح).
(8) من قوله: «لبعض السلف....» إلى هنا سقط من (أ).
(9) في (ح): ((اشرطوا)).
(10) في (ح): ((ومؤنه)).
(11) قوله: «لا» سقط من (أ).
(12) في (ح) و(ك): «ذكرنا».
(13) قوله: ((ك)) سقط من (أ).
(14) في (ح): «ذلك لهم».
(15) في (أ): «فيه».
(16) في (ك): ((ونشتري)).
(17) في (ف): ((أن يعاملهم)).
(18) قوله: «ذلك» سقط من (ح).
(19) قوله: «إليه» سقط من (ح).(4/414)
من أهل الذمَّة مسلم ولا مصحف. وقال ابن حبيب: لا يباع من أهل الحرب: الحرير، ولا الكتَّان، ولا البسط؛ لأنهم يتجمَّلون بذلك في حروبهم، ولا الطَّعام، لعلهم أن يضعفوا.
وفيه من الفقه: جواز الأخذ بالدَّين عند الحاجة كما تقدَّم، وجواز الاستيثاق بالرهن والكفالة في الدَّين والسَّلم. وقد منع الرَّهن في السَّلم زفر، والأوزاعي. وهذا الحديث؛ أعني: حديث عائشة رضي الله عنها حجَّة عليهم؛ إذ لا فرق بين الدَّين والسَّلم. وكذلك عموم قوله تعالى: {إذا (1) تداينتم بدين إلى أجل (2) } (3) ، الآية.
وفيه دليل: على جواز الرَّهن في الحضر، وهو قول الجمهور. ومنعه مجاهد، وداود، وهذا الحديث حجَّة عليهم. ولا حجَّة لهم في قوله تعالى: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة} (4) ؛ لأنه تمسُّك بالمفهوم في مقابلة المنطوق (5) . وهو فاسد بما قررناه في الأصول. ومعنى الرَّهن =(4/518)=@ عندنا: احتباس العين وثيقة بالحق ليستوفى (6) الحق من ثمنها، أو من ثمن منافعها عند تعذر أخذه من الغريم. ويلزم الرَّهن بالعقد، ويجبر الرَّاهن على دفع الرَّهن ليحوزه المرتهن عندنا خلافًا للشافعي، وأبي حنيفة، فإنهما قالا: لا يجبر عليه، ولا يلزم. والحجَّة عليهما قوله (7) تعالى: {وأوفوا (8) بالعقود} (9) ، وهذا عقد، وقوله:{وأوفوا (10) بالعهد} (11) ، وهذا عهد، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «المؤمنون عند شروطهم» (12) . وهذا شرط، والقبض عندنا شرط في كمال فائدته، واختصاص الراهن (13) به، خلافًا لهما، فإن القبض عندهما شرط في لزومه وصحته. ثم إذا حصل الحوز فمتى رجع إلى الرَّاهن باختيار المرتهن بطل الرَّهن عندنا وعند أبي &(4/415)&$
__________
(1) في (أ): «وإذا».
(2) قوله: «إلى أجل» سقط من (ح) و(ك).
(3) الآية (282) من سورة البقرة.
(4) الآية (283) من سورة البقرة.
(5) في (ح) و(ك) و(ف): «المنظوم».
(6) في (ح): ((استوفى)).
(7) في (ح): «في قوله».
(8) في (أ) و(ك): «أوفوا» بلا واو.
(9) الآية (1) من سورة المائدة.
(10) في (ك): ((أوفوا)) بلا واو.
(11) الآية (34) من سورة الإسراء.
(12) تقدم تخريجه في كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق.
(13) في (ح) و(ك): «المرتهن».(4/415)
حنيفة. غير أن أبا حنيفة قال: إن رجع إلى يده بعارية أو وديعة لم يبطل. وقال الشافعي: إن رجوعه إلى يد الراهن (1) مطلقًا لا يبطل حكم القبض (2) المتقدِّم. ودليلنا قوله تعالى: {فرهان مقبوضة} (3) ، فإذا خرج عن (4) يد القابض إلى يد المقبوض منه لم يصدق عليه ذلك اللفظ لغة، فلا يصدق عليه (5) حكمًا. واستيفاء هذه المباحث في المطوَّلات. =(4/519)=@
- - - - -
35 - ومن باب النَّهي عن الحكرة
قوله: «لا يحتكر إلا خاطيء». الاحتكار في اللغة: الادِّخار و«خاطيء» (6) : اسم فاعل من: خطيء - بكسر العين، وهمز اللام - يخطأ -بفتح العين - خطئًا في المصدر -بكسر الفاء، وسكون العين -؛ إذا أثم في فعله، على وزن: علم، يعلم، علمًا، والاسم منه: الخطأ - بفتح الخاء، والطاء -. وأخطأ (7) : إذا سلك سبيل خطأ عامدًا (8) ، أو غير عامد. قاله أبو عبيد. وقال: سمعت (9) الأزهري يقول: خطيء (10) : إذا تعمَّد، وأخطأ: إذا لم يتعمَّد، إخطاء (11) ، وخطئًا (12) . والخطأ: الاسم.
قلت: وهذا الحديث بحكم إطلاقه، أو عمومه يدل: على منع الاحتكار في كل شيء. غير أن هذا الاطلاق قد تقيّد، أو العموم (13) قد تخصص بما قد فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنَّه قد ادَّخر لأهله قوت سنتهم (14) . ولا خلاف في أن ما يدخره (15) الإنسان &(4/416)&$
__________
(1) في (ك): «المرتهن»، وفي (ح): «إن رجع إلى يد المرتهن».
(2) في (ح) و(ك): «الرهن».
(3) الآية (283) من سورة البقرة.
(4) في (ف): ((إلى)) بدل ((عن)).
(5) قوله: «عليه» سقط من (ك).
(6) في (ك): ((وجاطيء)) بالجيم.
(7) قوله: «وأخطأ» سقط من (ح).
(8) في (ح): يشبه أن تكون ((وعامدًا)).
(9) في (ك): «قال وسمعت».
(10) في (ف): ((خطأ)).
(11) في (ح): «خطا».
(12) في (ف): ((وخطأ)) كذا رسمت وفي (ح): ((وخطا)).
(13) في (ف): ((والعموم)).
(14) تقدم في الجهاد، باب ما يخمس من الغنيمة.
(15) في (أ): ((يدخر)).(4/416)
لنفسه وعياله (1) من قوت، وما يحتاجون إليه جائز لا باس به. فإذًا مقصود هذا منع التجار من الادخار. وإذا ظهر ذلك. فهل يمنعون من ادِّخار كل شيء مطلقًا، أو إنما يمنعون ادّخار (2) كل شيء من الأقوات، والحيوان، والعلوفة، والسَّمن، واللَّبن، والعسل، وغير ذلك – أضر =(4/520)=@ بالناس أو لم يضر - إذا اشتري في أسواقهم، كما قاله ابن حبيب أخذًا بعموم الخبر أو بإطلاقه (3) ؟ أو: إنما يمنعون من ادِّخار ما يضر بالناس ادِّخاره عند الحاجة إليه من الأقوات؟ وهو قول أبي حنيفة والشافعي (4) ، وهو مشهور مذهب مالك. وحملوا النهي على ذلك.
قلت: وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى. لأن ما لا يضر بالناس شراؤه، واحتكاره لا يخطأ مشتريه بالاتفاق. ثم إذا اشتراه وصار ملكه فله أن يحتكره، أو لا يحتكره. ثم قد يكون احتكار ذلك (5) مصلحة ينتفع بها في وقت آخر. فلعل ذلك الشيء ينعدم، أو يقل، فتدعو الحاجة إليه، فيوجد (6) ، فترتفع (7) المضرة، والحاجة بوجوده، فيكون احتكاره مصلحة، وترك احتكاره مفسدة. وأما الذي ينبغي أن يمنع ما يكون احتكاره مضرة بالمسلمين. وأشدُّ ذلك في الأقوات لعموم الحاجة، ودعاء الضرورة إليها؛ إذ لا يتصور الاستغناء عنها، ولا يتنزل غيرها منزلتها. فإن أبيح للمحتكرين شراؤها ارتفعت أسعارها، وعز وجودها، وشحت النفوس بها، وحرصت (8) على تحصيلها، فظهرت الفاقات، والشدائد، وعمت المضار، والمفاسد، فحينئذ يظهر: أن الاحتكار من الذنوب الكبار. وكل هذا فيمن اشترى في الأسواق. فأمَّا من جلب طعامًا؛ فإن شاء باع، وإن شاء احتكر، وهو ضيف عمر، ولا يعرض له إلا إن نزلت حاجة فادحة، وأمر ضروري بالمسلمين، فيجب على من كان عنده ذلك أن يبيعه (9) بسعر وقته، فإن لم يفعل جبر على ذلك، إحياء للمهج، وإبقاء للرَّمق. وأما إن كان اشتراه من الأسواق، واحتكره، وأضر بالناس؛ فيشترك (10) فيه الناس بالسعر الذي اشتراه به.
وقول يحيى بن سعيدٍ لسعيد: «إنك تحتكر»؛ يدل على أنهم كانوا لا يتسامحون في ترك العمل بما يروُونه (11) من الحديث. وجواب سعيد (12) أن معمرًا كان =(4/521)=@ &(4/417)&$
__________
(1) في (ف): ((أوعياله)).
(2) في (ح): «من ادخار».
(3) في (ك): «وبإطلاقه».
(4) في (أ) و(ف): «الشافعي وأبي حنيفة».
(5) في (ك): «احتكاره ذلك»، وكتب تحت «ذلك»: «لذ»؛ أي : «احتكاره كذلك».
(6) قوله: ((فيوجد)) سقط من (ف).
(7) في (ك): «فترفع».
(8) في (ح): ((وخرجت)).
(9) في (أ): ((أن بيعه)).
(10) في (ف): ((فيشرك)).
(11) في (ح): ((يرونه)).
(12) في (أ): «أبي سعيد».(4/417)
يحتكر دليل على أن العموم يخصص بمذهب الرَّاوي. وقد أوضحنا هذه الطريقة، في الأصول. وذلك منهم محمول على أنهم كانوا يحتكرون ما لا يضر بالناس؛ كالزيت، والأدم، والثياب، ونحو ذلك.
وقوله: «الْحَلِفُ (1) مَنْفَقَةٌ للسلعة مَمْحَقَةٌ للربح»؛ الرواية: مَنْفَقَةٌ،
مَمْحَقَةٌ -بفتح الميم، وسكون ما بعدها، وفتح ما بعدها (2) - وهما في الأصل: مصدران مزيدان محدودان بمعنى: النَّفاق. والمحق؛ أي: الحلف الفاجرة، تنفق السِّلعة، وتمحق بسببها البركة، فهي ذات نفاق، وذات مَحْق (3) ؛ أي: الحلف (4) الكاذبة تنفق السلعة ثم (5) تمحق (6) البركة: أي تذهبها. وقد تذهب رأس المال والربح، كما قال الله تعالى (7) : {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} (8) ، وقد يتعدى المحق إلى الحالف، فيعاقب بإهلاكه، وبتوالي المصائب عليه. وقد يتعدَّى ذلك إلى خراب بيته وبلده، كما روي (9) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اليمين الفاجرة تذر (10) الدِّيار بلاقع» (11) ؛ أي: خالية من سكانها إذا توافقوا على التجرى على الأيمان الفاجرة. وأما مَحق الحسنات في الآخرة: فلا بدّ =(4/522)=@ منه لمن (12) لم يتب. وسبب هذا كلِّه: أن اليمين الكاذبة يمين غموس، يؤكل بها (13) مال المسلم (14) بالباطل.
وقوله: «إيَّاكم وكثرة الحلف فإنه ينفق ثم يمحق»، «إياكم» معناه: الزَّجر، والتحذير. و «كثرة» منصوب على الإغراء، كما تقول: إياك والأسد؛ أي: احذره واتقه. وإنما حذر عن كثرة الحلف؛ لأن الغالب ممن كثرت أيمانه وقوعه (15) في الكذب والفجور، وإن سلم من ذلك على بعده لم يسلم من الحنث، أو النَّدم؛ لأن اليمين حنث أو مندمة. وإن (16) سلم من ذلك لم يسلم من مدح السلعة المحلوف عليها، والإفراط في (17) تزيينها ليروجها على المشتري، مع ما في &(4/418)&$
__________
(1) قوله: «الحلف» سقط من (ك) ** وتراجع **.
(2) قوله: «وفتح ما بعدها» سقط من (أ).
(3) في (ح): «ذات نفاق ومحاق».
(4) قوله: ((الحلف)) سقط من (ف).
(5) قوله: «أي الحلف الكاذبة تنفق السلعة ثم» سقط من (ح) و(ك).
(6) في (ح) و(ك): «ومعنى تمحق».
(7) في (ف): ((كما قال تعالى)).
(8) الآية (276) من سورة البقرة.
(9) في (ح): «قال» بدل «روي».
(10) في (ح): «تدع» و(ك).
(11) يرويه يحيى بن أبي كثير، واختلف عليه في وصله وإرساله :
فأخرجه البيهقي في "سننه" (10/35) من طريق عبدالله بن يزيد المقري، عن أبي حنيفة، عن يحيى بن أبي كثير، عن مجاهد وعكرمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ليس شيء أطيع الله فيه أعجل ثوابًا من صلة الرحم، وليس شيء أعجل عقابًا من البغي وقطيعة الرحم واليمين الفاجرة؛ تدع الديار بلاقع».
قال البيهقي: «كذا رواه عبدالله بن يزيد المقري، عن أبي حنيفة، وخالفه إبراهيم بن طهمان وعلي بن ظبيان والقاسم بن الحكم؛ فرووه عن أبي حنيفة، عن ناصح بن عبد الله، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقيل: عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبيه. والحديث مشهور بالإرسال».اهـ.
وهو عند البيهقي في "شعب الإيمان" (4/217 رقم4842) من طريق علي بن ظبيان، عن أبي حنيفة، عن ناصح بن عبدالله، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، مرفوعًا.
وفي سنده علي بن ظبيان، وناصح بن عبدالله وكلاهما ضعيف، كما في "التقريب" (ص699 و994 رقم4790 و7116).
ويحيى بن أبي كثير مدلس ولم يصرح بالسماع.
وأخرجه البيهقي في "سننه" (10/35) من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، قوله.
وأخرجه أيضًا (10/35-36) من طريق يعلى بن عبيد، عن سفيان، عن أبي العلاء، عن مكحول قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكره. وهذا مرسل.
وانظر "الصحيحة" (2/669-672 رقم978).
(12) في (ف): (( إن)) بدل ((لمن)).
(13) في (أ): «به».
(14) في (أ): «مسلم».
(15) في (أ): «وقوى».
(16) في (ك): «ولو».
(17) قوله: «في» سقط من (أ).(4/418)
ذلك من ذكر الله تعالى لا على جهة التعظيم، بل على جهة مدح السِّلعة، فاليمين على ذلك تعظيم للسِّلع، لا تعظيم لله تعالى. وهذه كلها أنواع من المفاسد لا يقدم عليها إلا من عقله ودينه فاسد.
- - - - -
36 - ومن باب الشفعة
قوله: «قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشُّفعة في كل شرك لم يُقْسَم»؛ أي: حكم، وألزم.
والشُّفعة (1) في اللغة: هي الضم، والجمع، كما قدمناه في الإيمان (2) . وهي (3) في عرف الشرع: أخذ الشريك الجزء الذى باعه شريكه من المشتري بما اشتراه به (4) ، وهي حق للشريك على المشترى، فيجب عليه أن يُشْفِعَهُ، ولا يحل له الامتناع من ذلك.
و«الشِّرك»: النصيب المُشترك. وقد يقال على الشريك، كقوله تعالى : {جعلا له شركاء فيما آتاهما} (5) ؛ أى: شريكًا. ويدل على أن الشفعة إنما =(4/523)=@ تستحق بالاشتراك في رقبة الملك، لا باستحقاق منفعة في الملك، كممر طريق، ومسيل ماء، واستحقاق سكنى؛ لأن كل ذلك ليس بشرك.
وقوله : «لم يقسم (6) »؛ يفيد أن الشفعة لا تجب إلا بالجزء المشاع؛ الذي يتأتى (7) إفزازه (8) بالقسمة، فلا تجب فيما لا (9) ينقسم، كالحمَّام، والرَّحا، وفحل النخل، والبئر، وما أشبه ذلك مما لا ينقسم. وأعني (10) بكونه لا ينقسم: أنه لو قسم لبطلت المنفعة المقصودة منه قبل القسم. كالحمَّام إذا قسم بطل كونه حمامًا، وكذلك الرَّحا. وهذا مشهور المذهب. وقيل: تجري الشفعة في ذلك لأنه وإن بطل &(4/419)&$
__________
(1) في (ك): ((والسفعة)) بالسين المهملة.
(2) في (ح): ((الأيمان)).
(3) في (ك): «وهو».
(4) قوله: «به» سقط من (ك).
(5) الآية (190) من سورة الأعراف.
(6) في (ك): «مالم يقسم».
(7) في (ك): «تأتى».
(8) في (أ): ((يحتمل إفزازه)) أو ((إقراره)).
(9) في (ك): «فيما لم».
(10) في (أ): «ونعني».(4/419)
كونه حمامًا فيصح أن ينقسم بيوتًا مثلاً، أو دكاكين. والظاهر الأول، وهو قول ابن القاسم؛ لأنه يلزم من قسمه (1) إفساد مالية عظيمة، وذلك ضرر عظيم فيدفع.
وقوله : «رَبْعَة، أو حائط، أو أرض»، الرواية الصحيحة فيه (2) بخفض ربعة وما بعده (3) على البدل من : «كل شرك»، فهو تفسير له، وتقييد. والرَّبعة: تأنيث الرَّبع. وهو: المنزل. ويجمع ربوعًا، وإنما قيل للمنزل ربع؛ لأن الإنسان يربع فيه؛ أي: يقيم. يقال: هذه ربع، وهذه ربعة. كما يقال: دار، ودارة (4) . والحائط: بستان النخل. والأرض يعني بها: البراح الذي لا سكن فيها (5) ولا شجر، وإنما هي معدَّة للزراعة.
وقد دلَّ هذا الحديث: على أن الشفعة إنما تستحق في العقار المشترك الذي يقبل القسمة. وهذا هو المحل المتفق على وجوب الشفعة فيه. واختلف فيما عدا ذلك. فذهب (6) بعض المكيين (7) إلى وجوبها في كل شيء من العقار، والحيوان، والعروض، والأطعمة. وإليه ذهب عطاء في إحدى (8) الروايتين عنه معتمدًا في ذلك =(4/524)=@ على ما خرَّجه الترمذي (9) من حديث ابن عباس مرفوعًا: «الشريك شفيع، والشفعة في كل شيء». وروى الطحاوي نحوه عن جابر (10) مرفوعًا، ومُتمسِّكًا في ذلك بقياس غير العقار عليه، بعلِّة وجود الاشتراك، ولا حجة في ذلك؛ لأن الحديث ليس بصحيح الإسناد. وإنما صحيحه مرسل، ولو (11) سلمنا صحته، لكنه مقيّد بما ذكرناه من قوله : «ربعة، أو حائط، أو أرض». ومثل هذا التقييد متفق على قبوله عند أهل الأصول؛ لأنه قد اتفق فيه الموجب والموجب، وبدليل (12) قوله - صلى الله عليه وسلم - : «إنما الشفعة فيما لم يقسم: ربعة، أو حائط، أو أرض». فأتى بـ «إنَّما» التي هي للحصر. وهو أيضًا مفهوم من الألف واللام في قوله: «الشفعة فيما لم يقسم»، وبدليل: زيادة البخاري في هذا الحديث: «فإذا (13) ضربت الحدود ** تراجع في (أ) **، ومزقت وحُرِّفت صرفت الطرق فلا شفعة» (14) ، وهذا نصٌّ في أن الشفعة مخصوصة بما ذكر في ذلك الحديث. وأما ذلك (15) القياس: فليس بصحيح لوجود الفرق بين الفرع والأصل، فإن الأصل الذي هو &(4/420)&$
__________
(1) في (ح): «قسمته».
(2) قوله: «فيه» سقط من (ك).
(3) في (ح): «وما بعدها».
(4) من قوله: ((وإنما قيل للمنزل...)) إلى هنا سقط من النسخ الثلاث. ومن (أ) و(ك) و(ح).
(5) في (أ): «فيه».
(6) قوله: ((بغض)) سقط من (ف).
(7) في (أ): «المالكيين».
(8) في (ك): ((أحد)).
(9) يرويه عبد العزيز بن رفيع، واختلف عليه في وصله وإرساله :
فأخرجه الترمذي (3/654 رقم1371) في الأحكام، باب ما جاء أن الشريك شفيع، والنسائي في "الكبرى" (5/44 رقم5795/كما في تحفة الأشراف)، والطحاوي (4/125)، والطبراني في "الكبير" (11/101 رقم11244)، والدارقطني (......)
جميعهم من طريق أبي حمزة السكري، عن عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «الشريك شفيع، والشفعة في كل شيء».
وخالفه جماعة فرووه مرسلاً :
فأخرجه الترمذي (1371) في الموضع السابق، من طريق أبي بكر بن عياش، وأبي الأحوص.
وأخرجه النسائي في "الكبرى" (5795) في الموضع السابق، والبيهقي (6/109)، كلاهما من طريق إسرائيل.- أبو بكر بن عياش، وأبو الأحوص، وإسرائيل -، عن عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة، مرسلاً، ليس فيه: ابن عباس.
وقد رجّح المرسل جماعة، وهم:
1 - الترمذي، فقال في"سننه": «هذا حديث لا نعرفه مثل هذا، إلا من حديث أبي حمزة السكري، وقد روى غير واحد عن عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، وهذا أصح.
وقال الدارقطني: «خالفه شعبة، وإسرائيل، وعمرو بن أبي قيس، وأبو بكر بن عياش؛ فرووه عن عبدالعزيز بن رفيع، عن بن أبي مليكة مرسلاً، وهو الصواب، ووهم أبو حمزة في إسناده».
وقال الحافظ في "الفتح"(4/436): «ورجاله ثقات، إلا أنه أعل بالإرسال، وأخرج الطحاوي له شاهدًا من حديث جابر بإسناد لا بأس براوته».
وقال البيهقي: «هذا هو الصواب مرسل، وقد قيل: عن أبي حمزة، عن محمد بن عبيدالله، عن عطاء، عن ابن عباس مرفوعًا».
ومن هذا الوجه أخرجه ابن عدي (6/99)، والبيهقي (6/109-110) كلاهما من طريق أبي حمزة، عن محمد بن عبيدالله، فذكره. قال ابن عدي: «وهذا لا أعلم رواه عن محمد بن عبيدالله غير أبي حمزة، وقوله: والشفعة في كل شيء منكر.
وقال البيهقي: «ومحمد هذا هو العرزمي، متروك الحديث».
وانظر "الضعيفة" (3/60-65 رقم1009).
(10) قوله: «عن جابر» سقط من (ك).
(11) قوله: «ولو» سقط من (أ) و(ف).
(12) في (ك): «بدليل» بدون ((الواو)).
(13) في (ح): «وإذا».
(14) أخرجه البخاري (4/407 و408 و436 رقم2213 و2214 و2257) في البيوع، باب بيع الشريك من شريكه، وباب بيع الأرض والدور والعروض مشاعًا غير مقسوم. وفي الشفعة، باب الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق ** ليس في الأصل ** فلا شفعة، و(5/133-134 و134 رقم2495 و2496) في الشركة، باب الشركة في الأرضين وغيرها، وباب إذا قسم الشركاء الدور أو غيرها، فليس لهم رجوع ولا شفعة، و(12/345 رقم6976) في الحيل، باب في الهبة والشفعة.
(15) قوله: ((ذلك)) لم يتضح في (ح).(4/420)
العقار يعظم الضرر فيه على الشريك بمشاركة الأجنبي له، ومخالطته، فقد يؤذيه (1) ، ولا يقدر على التخلص منه لصعوبة بيع العقار، وتعذر ذلك في أكثر الأوقات، وليست كذلك العروض، وما ينقل ويحوَّل، فإن الانفصال عن الشركة فيه يسير لسهولة بيعها، والخروج عنها في كل الأوقات، وأكثر الحالات؛ فانفصلا (2) ، فلا يصح القياس. وإذا ثبت: أن الشفعة شرعت لرفع الضرر الكثير اللازم. فهل الوصفان جُزءا علَّة، فلا تجري الشفعة إلا فيما اجتمعا فيه، أو يكون كل واحد منهما علّة مستقلّة؟ فيه احتمال. وعليه ينبني الخلاف الذي عند أصحابنا في الشفعة في الثمرة، والدِّيون، وكتابة المكاتب، والكراء، والمساقاة. فإن الضرر فيها يعظم، وإن لم يلازم. فمن رأى أنه علَّة مستقلة أوجب الشفعة، ومن رأى أن العلَّة مجموع الوصفين منعها في ذلك =(4/525)=@ كله. وذهب الشعبي: إلى أنه لا شفعة في مشاع لا يسكن. وقال ابن شعبان مثله عن مالك. فلا شفعة على هذا في أرض، ولا عقار يتخذ للغلَّة. وهو مخالف للحديث المتقدم. فإنه قد نص فيه على الحائط. وهو المتخذ (3) للغلَّة. وعلى الأرض، وهي تراد للزراعة. والصحيح: الأول.
وذهب الجمهور: إلى أن الشفعة لا تجب بالجوار؛ وهو مذهب عمر، وعلي، وعثمان (4) ، ومن بعدهم، كسعيد بن المسيب، وأبي سلمة بن عبدالرحمن، وربيعة، والأوزاعي، ومالك، والشا فعي، وأحمد، وإسحاق. وذهب أبو حنيفة والكوفيون: إلى أنه تجب به (5) الشفعة، وبه قال ابن مسعود (6) . وسببهما (7) معارضة حديثين صحيحين:
أحدهما: حديت جابر المتقدم. وقد خرَّجه البخاري. ولفظه فيه: «الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق، فلا شفعة».
وثانيهما: خرَّجه البخاري (8) عن أبي رافع قال: سمعت النبي (9) - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الجار أحق بصقبه». &(4/421)&$
__________
(1) في (أ) يشبه أن تكون ((تؤذيه)).
(2) في (أ): «وانفصلا».
(3) في (ح) و(ك) و(ف): «متخذ».
(4) لم اجده عنهم في شيء من الكتب المسندة، وإنما قال الزركشي في "شرح الخرقي" (4/188): «قد روى الأثرم عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم: أنه لا شفعة للجار.اهـ.
(5) في (ح): ((تجب فيه)).
(6) ..........
(7) في (أ): ((وسببها)).
(8) (4/437 رقم2258) في الشفعة، باب عرض الشفعة على صاحبها قبل البيع، و(12/345 و348 و349 رقم6977 - 6981) في الحيل، باب في الهبة والشفعة، وباب احتيال العامل ليهدى له.
(9) في (ح): ((رسول الله)) بدل قوله: ((النبي)).(4/421)
وقد خرَّجه الترمذي (1) من حديث جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «الجار أحق بشفعته، ينتظر (2) إن كان غائبًا إذا كان طريقهما واحدًا». وقد تأوَّل بعض العلماء «الجار» في حديث البخاري بأنَّه الشريك، كما قد (3) تأول بعضهم: أن «الصقب» المذكور فيه حق الجوار (4) ، كما قال في الحديث الآخر: أن رجلا قال: يا رسول الله! إن لي جارين. فإلى أيُّهما أُهدى؟ قال: «إلى أقربهما منك بابا» (5) . وهذان التأويلان فيهما بُعْدٌ. فإن حديث الترمذي ينصّ (6) على خلاف ذلك. وأشبه ما =(4/526)=@ يقال في ذلك - فيما يظهر لي (7) -: إن حديث جابر الأول أرجح (8) ، لما قارنه من عمل الخلفاء، وجمهور العلماء، وأهل المدينة، وغيرهم، والله تعالى أعلم.
وأيضًا فإن أحاديث الجمهور مشهورة متفق على صحتها. وأحاديث الكوفيين ليست بمنزلتها في ذلك، فهي أولى.
تفريع: قال سفيان: الشريك أولى بالشفعة (9) ، ثمَّ الجار الذي حدُّه إلى حده. وقال أبو حنيفة: الشريك في الملك، ثم الشريك في الطريق، ثم الجار الملاصق، ولا حق للجار الذي بينك وبينه الطريق.
وقوله: «لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه»، وفي طريق أخرى: «لا يصلح» (10) ، مكان: «لا يحل». هو محمول على الإرشاد إلى الأولى، بدليل قوله: «فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به». ولو كان ذلك على التحريم لذمَّ البائع، ولفسخ البيع، لكنه أجازه وصحَّحه، ولم يذمّ الفاعل، فدلَّ على ما قلناه. وقد قال بعض شيوخنا: إن ذلك يجب عليه.
وقوله: «فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك»؛ يعني: إن شاء أخذ الشِّقْص بما أعطي به من الثمن؛ لأنه أحق به بعد البيع، فيكون له بما أعطي به من الثمن قبله (11) . وفيه دليل: على أن من نزل عن الشفعة قبل وجوبها لزمه ذلك إذا وقع &(4/422)&$
__________
(1) أخرجه الطيالسي (ص234 رقم1677)، وأحمد (3/303)، والدارمي (2/273) في البيوع، باب في الشفعة، وأبو داود (... رقم 3518)* في الشفعة، باب الشفعة بالجوار، والترمذي (3/651 رقم1369) في الأحكام، باب في الشفعة للغائب، والنسائي في "الكبرى" (2/229 رقم2434/كما في التحفة)، والطحاوي (4/120 و121)،والبيهقي (6/106).
جميعهم من طريق عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* في البيوع، باب في الشفعة، وابن ماجه (2/833 رقم 2494) في الشفعة.
قال الترمذي: «هذا حديث غريب - وفي "تحفة الشراف" (2/229): حسن غريب -، ولا نعلم أحدًا روى هذا الحديث غير عبدالملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن جابر. وقد تكلم شعبة في عبدالملك بن أبي سليمان من أجل هذا الحديث...*، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم: أن الرجل أحق بشفعته وإن كان غائبًا، فإذا قدم فله الشفعة، وإن تطاول ذلك».
وقال البيهقي: «قال الشافعي في هذا الحديث: سمعنا بعض أهل العلم بالحديث يقول: نخاف أن لا يكون هذا الحديث محفوظًا، قيل له: ومن أين قلت؟ قال: إنما رواه عن جابر بن عبدالله، وقد روي أبو سلمة بن عبدالرحمن، عن جابر مفسرًا: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : «الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة»، وأبو سلمة من الحفاظ، وروى أبو الزبير - وهو من الحفاظ -، عن جابر ما يوافق قول أبي سلمة ويخالف ما روى عبد الملك بن أبي سليمان».
ثم ساق البيهقي بسنده عن يحيى بن سعيد القطان قوله: «لو روى عبدالملك بن أبي سليمان حديثًا آخر مثل حديث الشفعة لتركت حديثه».
وبسنده عن عبدالله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول - وحدثنا بحديث الشفعة، حديث عبد الملك، عن عطاء، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: هذا حديث منكر».
وقال الزيلعي في "نصب الراية" (4/174): «وقال صاحب "التنقيح": واعلم أن حديث عبد الملك بن أبي سليمان حديث صحيح، ولا منافاة بينه وبين رواية جابر المشهورة، وهي: الشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة، فإن في حديث عبد الملك: إذا كان طريقها واحدًا، وحديث جابر المشهور لم ينف فيه استحقاق الشفعة إلا بشرط تصرف الطرق، فيقول: إذا اشترك الجاران في المنافع كالبئر أو السطح أو الطريق، فالجار أحق بصقب جاره لحديث عبد الملك، وإذا لم يشتركا في شيء من المنافع فلا شفعة؛ لحديث جابر المشهور، وطعن شعبة في عبد الملك بسبب هذا الحديث لا يقدح فيه، فإنه ثقة، وشعبة لم يكن من الحذاق في الفقه ليجمع بين الأحاديث إذا ظهر تعارضها، إنما كان حافظًا، لكن يعكر عليه، استغراب الشافعي وإنكار أحمد! وغير شعبة إنما طعن فيه تبعًا لشعبة، وقد احتج بعبدالملك مسلم في "صحيحه" واستشهد به البخاري، ويشبه أن يكونا إنما لم يخرجا حديثه هذا لتفرده به وإنكار الأئمة عليه فيه، وجعله بعضهم رأيًا لعطاء أدرجه عبدالملك في الحديث».
وقال الحافظ في "بلوغ المرام" (ص229 رقم927): «رواه احمد والأربعة، ورجاله ثقات». وصححه الألباني في "الإرواء" (5/378-379 رقم1540).
(2) في (أ) و(ف): «ينتظر به».
(3) قوله: «قد» سقط من (ح) و(ك).
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* وعبد الملك هو ثقة مأمون عند أهل الحديث، لا نعلم أحدًا تكلم فيه غير شعبة من أجل هذا الحديث،... والعمل.
(4) في (ح): «الجار».
(5) أخرجه البخاري (4/438 رقم2259) في الشفعة، باب أي الجوار أقرب؟ و(5/219-220 رقم 2595) في الهبة، باب بمن يبدأ بالهدية؟ و(10/447 رقم6020) في الأدب، باب حق الجوار في قرب الأبواب.
(6) في (ح): ((نص)).
(7) في (ح): ((إلى)).
(8) قوله: ((أرجح)) سقط من (ف).
(9) قوله: «بالشفعة» سقط من (أ).
(10) مسلم (3/1229 رقم1608/135) في المساقاة، باب الشفعة.
(11) قوله: «قبله» سقط من (ك).(4/422)
البيع، ولم يكن له أن يرجع فيه. وبه قال الثوري، وأبو عبيد (1) ، والحكم. وهي إحدى الروايتين عن مالك، وأحمدبن حنبل. وذهب مالك في المشهور عنه، وأبو حنيفة، والشافعي (2) ، وعثمان البتي، وابن أبي ليلى: إلى أن له الرُّجوع في ذلك، وهذا الخلاف جار في كل من أسقط (3) شيئًا قبل وجوبه، كإسقاط الميراث قبل موت =(4/527)=@ الموروث (4) ، وإجازة الوارث الوصية قبل الموت، وإسقاط المرأة ما يجب لها من نفقة وكسوة في السَّنة القابلة. ففي كل واحدة من تلك المسائل قولان.
وقوله : «وإن باع فهو أحق به»؛ يعني: أن الشريك أحق به بالثمن الذي اشتراه به المشتري من عين أو عرض، من نقد (5) أو إلى أجل. وهو قول مالك وأصحابه. وذهب أبو حنيفة والشافعي: إلى أنَّه لا يشفع إلى الأجل، وأنه إن شاء شفع بالنقد، وإن (6) شاء صبر إلى الأجل، فيشفع عنده. واختلف أصحابنا إذا لم يقم (7) الشفيع إلا بعد حلول (8) الأجل. هل يضرب له مثل ذلك الأجل، أو يأخذه (9) بالنقد؛ على قولين.
وقوله: «من كان له شرك»؛ عموم في المسلم والذمِّي. وهو قول مالك، والشافعي، وأبي حنيفة. وحكي عن الشعبي، والثوري: أن (10) لا شفعة للذمِّي؛ لأنه صاغر. وهو قول أحمد. والصواب: الأول للعموم، ولأنَّه حق جرى بسببه (11) ، فيترتب عليه حكمه من استحقاق طلبه وأخذه، كالدَّين، وأرش الجناية.
وقوله في حديث البخاري (12) : «فإذا (13) وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة»؛ حجَّة للجمهور على الكوفيين القائلين بوجوب الشفعة لجار الدار. وقد ذهب بعض شيوخنا: إلى أن حديث الترمذي (14) في شفعة الجار محمول على الندب، لا على الوجوب.
قلت: أحاديث الشفعة إنما جاءت في انتقال الملك بالبيع، ويلحق به ما في معناه من المعاوضات، كدفع الشَّقص في صداق، أو أجرة، أو أرش جناية، &(4/423)&$
__________
(1) في (ح): «وأبو عبيد القسم بن سلام».
(2) قوله: «والشافعي» سقط من (ك).
(3) في (ح): «أسقط له».
(4) في (ك): «المورث».
(5) في (ك): «أو عرض نقدًا».
(6) في (ح): يشبه ((فإن)).
(7) في (ك): ((لم يعلم)).
(8) في (أ): «طول».
(9) في (ح) و(ك): «يأخذ» وفي (ف): ((بأخذه)).
(10) في (ح) و(ك): «أنه».
(11) في (أ): «لعموم ولا حق جرى سببه».
(12) تقدم تخريجه في باب الشفعة.
(13) في (أ): «وإذا».
(14) تقدم تخريجه قبل قليل.(4/423)
وما أشبه ذلك. فهذا فيه الشفعة. ولا ينبغي أن يختلف فيه؛ لأنه من أقوى مراتب =(4/528)=@ الإلحاق. وأما انتقال الملك بالميراث فلا شفعة فيه؛ لأنه لا يصح إلحاقه بالمعاوضات؛ لأنه انتقال عن (1) غير عوض؛ ولا اختيار، فلا شفعة فيه بوجه. وقد حكي الاتفاق على ذلك، غير أنه قد انفرد الطابقي (2) فحكى عن مالك: أنه رأى الشفعة في الميراث. وهو قول شاذّ، منكر نقلاً ونظرًا.
واختلف في المنتقل بالهبة، والصدقة. هل فيه شفعة أو لا؟ على قولين مشهورين. سببهما: تردّد الصدقة والهبة بين المعاوضة (3) والميراث. فمن حيث أنه انتقال عن (4) اختيار يشبه البيع، ومن حيث أنه خلي (5) عن العوض أشبه الميراث. والأولى - والله أعلم - إجراء الشفعة فيها (6) ؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : «الشفعة في كل شرك لم يقسم»، ولم يفرق بين جهات الأملاك. وللحوق الضرر الشديد الملازم الداخل على الشريك اختيارًا. ولا يُرَدُّ الميراث؛ لأنَّه ملك جبري (7) ، لا اختيار فيه للمنتقل (8) إليه، والله تعالى أعلم. =(4/529)=@
- - - - -
37 - ومن باب غرز الخشب في جدار الغير، وإذا اختُلِف في الطريق
قوله: «لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره»؛ اختلف العلماء في تمكين رب الحائط من هذا عند السؤال. فصار مالك في المشهور عنه، وأبو حنيفة: إلى أن ذلك من باب الندب، والرفق بالجار، والإحسان إليه، ما لم يضر ذلك بصاحب الحائط. ولا يجبر عليه من أباه، متمسكين في ذلك بقول النبي &(4/424)&$
__________
(1) في (ف): ((في)) بدل ((عن)).
(2) في (أ): يشبه أن تكون: ((الطاشي)) وتراجع. وفي (ف) و(ح): ((الطابثي)).
(3) في (ح) و(ك): «المعاوضات».
(4) في (ك): «على».
(5) في (ك): «خال».
(6) في (ح) و(ك): «فيهما».
(7) في (ح): يشبه ((جرى)).
(8) في (ح): «للمنقول».(4/424)
- صلى الله عليه وسلم - : «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» (1) ، ولأنه لما كان الأصل المعلوم من الشريعة: أن المالك لا يجبر على إخراج ملك عن (2) يده بعوض، كان أحرى وأولى (3) ألا يخرج عن يده بغير (4) عوض. وصار آخرون: إلى أن ذلك على الوجوب، ويجبر من أباه عليه. وممن ذهب إلى ذلك: الشافعي، وأحمد بن حنبل، وداود بن علي، وأبو ثور، وجماعة من أهل الحديث، وهو مذهب عمر. وحكي ذلك عن الْمُطَّلب - قاضٍ كان بالمدينة - يقضي به (5) ، متمسكين بظاهر النهي المذكور (6) ، ولأنه قد روي من طريق آخر عن أبي هريرة (7) في هذا الحديث (8) : «لا يحل لامرئ مسلم أن يمنع جاره أن يغرز خشبات في جداره». وبقضاء عمر (9) =(4/530)=@ رضي الله عنه على محمد بن مسلمة وعلى يحيى المازني بمثل ذلك من المرور بالربيع (10) ، وتحويله في أرضهما، على ما رواه مالك في "الموطأ". ولم يسمع بمخالف له في ذلك من الصحابة غير محمد بن مسلمة. وهو المحكوم عليه.
قلت: وقد دفعت كل طائفة ما احتجت به الأخرى بوجوه (11) من التأويلات لا تبعد على من تأملها، تركناها لطولها. والأولى: القول الأول؛
لأنه الذي تشهد له الأصول.
فرع: على القول بالندب: إذا أذن له في ذلك إذنًا مطلقًا لم يكن له أن يطالبه بقلعها إلا إن دعت إلى ذلك ضرورة، كبناء الجدار، أو شيء لا بدّ منه؛ لأن الإذن المطلق يقتضي التأبيد، فإن أذن له إلى مدَّة معينة فله ذلك عند انقضائها.
وقوله: «أن يغرز خشبة (12) »، روي بتوحيد «خشبة»، وبجمعها، قال الطحاوي عن روح بن الفرج: سألت أبا زيد، والحارث بن مسكين، ويونس بن عبد الأعلى عنه. فقالوا (13) : «خشبة» بالنصب والتنوين واحدة. قال عبد الغني: كل (14) الناس يقولون (15) بالجمع إلا الطحاوي.
قلت: وإنما (16) اعتنى هؤلاء الأئمة بتحقيق الرواية في هذا الحرف؛ لأن أمر &(4/425)&$
__________
(1) روي من حديث جماعة من الصحابة :
1 - عمّ أبي حرَّة الرقاشي: أخرجه أحمد (5/72-73)، وأبو يعلى (3/140 رقم1570)، والبيهقي (6/100)، و(8/182).
ثلاثتهم من طريق حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي حرّة الرقاشي، عن عمِّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا يحل مال امرئ مسلم ** ليس في الأصل ** إلا بطيب نفس منه».
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/266): «رواه أحمد، وأبو حرَّة الرقاشي وثقه أبو داود، وضعفه ابن معين، وفيه: علي بن زيد، وفيه كلام».
وقال الحافظ في"التلخيص الحبير"(3/46): «وفيه علي بن زيد بن جدعان، وفيه ضعف».
2 - أبو حميد الساعدي :
أخرجه أحمد (5/425) عن أبي سعيد مولى بني هاشم، وعبيد بن أبي قرة، والبزار في "مسنده" (9/167 رقم3717) من طريق أبي عامر العقدي ،والبيهقي (9/358) من طريق أبي بكر بن أبي أويس.
أربعتهم - أبو سعيد مولى بني هاشم، وعبيد بن أبي قرة، وأبو عامر العقدي، وأبو بكر بن أبي أويس -، عن سليمان بن بلال، عن سهيل بن أبي صالح، عن عبدالرحمن بن سعيد، عن أبي حميد الساعدي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا يحل لامرئ أن يأخذ مال أخيه بغير حقه، وذلك لما حرم الله مال المسلم على المسلم».
قال البزار: «وهذا الحديث قد روي نحو كلامه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه بغير هذا اللفظ، ولا نعلم لأبي حميد طريقًا غير هذا الطريق، وإسناده حسن».
ورواه بعضهم عن سليمان بن بلال، وجعل الراوي عن أبي حميد الساعدي: عبدالرحمن بن سعد. هكذا أخرجه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (7/251-252رقم2822)،وابن حبان (13/316-317 رقم5978/الإحسان) كلاهما من طريق أبي عامر العقدي، والبيهقي (6/100) من طريق ابن وهب. - أبو عامر العقدي، وابن وهب -، عن سليمان بن بلال، عن سهيل، عن عبدالرحمن بن سعد، عن أبي حميد..، فذكره.
قال البيهقي: «عبدالرحمن هو ابن سعد بن مالك، وسعد بن مالك هو أبو سعيد الخدري، ورواه أبو بكر بن أبي أويس، عن سليمان، فقال: عبدالرحمن بن سعيد، ورواه عبد الملك بن الحسن، عن عبدالرحمن بن أبي سعيد، عن عمارة بن حارثة الضمري، عن عمرو بن يثربي».
ثم ساق بسنده عن علي بن المديني أنه قال: «الحديث عندي حديث سهيل».
وصوَّب الألباني في "الإرواء" (5/280) أن الصواب: عبدالرحمن بن سعيد؛ لأنه اتفق عليه جماعة من الثقات، غير ابن أبي أويس، فهم أبو سعيد مولى بني هاشم، وعبيد بن أبي قرة عند أحمد، وأبو عامر العقدي عند الطحاوي وابن حبان - لكن في المطبوع من "مشكل الآثار" و"الإحسان": عبدالرحمن بن سعد! - فرواية هؤلاء مقدمة قطعًا على رواية ابن وهب، وحينئذ فعبدالرحمن هو ابن سعيد بن يربوع، أبو محمد المدني، وهو ثقة كما قال ابن حبان في "التهذيب" تراجع... وبقية الرجال ثقات على شرط مسلم، فالسند صحيح.
3 - عمرو بن يثربي :
أخرجه أحمد (3/423) و(5/113)، وعبدالله بن أحمد في "زوائد المسند" (5/113)، والطحاوي في"شرح مشكل الآثار"(7/252رقم2823)، والدارقطني (3/24-25 و25)، والطبراني في"الأوسط"(4/61-62رقم2097/مجمع)، والبيهقي (6/97).
جميعهم من طريق عبد الملك بن الحسن، عن عبدالرحمن بن أبي سعيد، عن عمارة بن حارثة، عن عمرو بن يثربي، قال: شهدت خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى... الحديث، وفيه: «ولا يحل لامريء من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه».
قال الطبراني: «لا يروى عن عمرو إلا بهذا الإسناد، تفرد به عبدالملك».
وقال الهيثمي في "المجمع" (4/171-172): «رواه أحمد، وابنه من زياداته أيضًا، والطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، ورجال أحمد ثقات».
قال الألباني في "الإرواء" (5/281): «عمارة بن حارثة أورده ابن أبي حاتم (3/1/365) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، وأما ابن حبان فأورده في "الثقات" (1/169) فهو عندي في زمرة المجهولين الذين ينفرد بتوثيقهم ابن حبان».
4 - ابن عباس:
أخرجه البيهقي (6/96-97) من طريق إسماعيل بن أبي أويس، عن أبيه، عن ثور بن زيد الديلي، عن عكرمة، عن ابن عباس... فذكره.
قال الألباني في "الإرواء" (5/281-282): «وهذا إسناد حسن، أو لا بأس به في الشواهد، رجاله كلهم رجال الصحيح، وفي أبي أويس - واسمه عبدالله بن عبدالله بن أويس - كلام من قبل حفظه، وقال الحافظ في "التقريب" :صدوق يهم».
(2) في (ك): «ملكه من».
(3) في (ك): «أولى وأحرى».
(4) في (ح): يشبه ((يديه)) وتراجع.
(5) في (ح): «يفتي به»، وفي (ك): «يقضي بها».
(6) سيأتي قريبًا.
(7) أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" (6/208 رقم2422) وابن عبدالبر في"التمهيد" (10/229) من طريق قيس بن الربيع، عن منصور بن دينار، عن أبي عكرمة المخزومي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا يحل لامرئ مسلم أن يمنع جاره خشباته يضعها على جداره»، ثم يقول أبو هريرة لأضربن بها بين أعينكم وإن كرهتم.
وهو عند أحمد (2/447) عن وكيع، عن منصور؛ بهذا الإسناد، ولفظه: «لا يمنعن أحدكم جاره...» الحديث.
ومنصور بن دينار التميمي: ضعفه ابن معين، وقال البخاري: «في حديثه نظر»، وقال أبو حاتم : «ليس به بأس»، وقال أبو زرعة : «كوفي صالح»، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن عدي : «له أحاديث قليلة، وهو مع ضعفه يجمع حديثه، وقد روى عنه قوم ثقات». "تعجيل المنفعة" (2/282-283 رقم1067).
وأبو عكرمة المخزومي قال الحافظ في "تعجيل المنفعة" (2/511 رقم1348): «مجهول».
(8) قوله: ((الحديث)) لم يتضح في (ح).
(9) (2/572 رقم33) في الأقضية، باب القضاء في المرفق، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه: أن الضحاك بن خليفة ساق خليجًا له من العريض، فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة، فأبى محمد، فقال له الضحاك: لم تمنعني؟ وهو لك منفعة؛ تشرب به أولاً وآخرًا، ولا يضرك، فأبى محمد، فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب، فدعا عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة، فأمره أن يخلي سبيله، فقال محمد: لا، فقال عمر: لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع، تسقي به أولاً وآخرًا، وهو لا يضرك؟ فقال محمد: لا والله، فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك، فأمره عمر أن يمر به، ففعل الضحاك.
قال الحافظ في "الفتح"(5/111): «وسنده صحيح».
(10) في (أ): «بالريع».
(11) في (ك): «بوجه» وفي (ح): ((بأوجه)).
(12) في (ف): ((بخشبة)).
(13) في (ك): «فقال».
(14) في (أ): «كان».
(15) في (أ) و(ح) و(ف): «يقوله».
(16) في (أ): «إنما» بلا واو وفي (ح) يشبه ((فإنما)).(4/425)
الخشبة الواحدة تخف (1) على الجار المسامحة به. وأما إذا قال: خُشُبَهُ؛ فقد لا يتسامح (2) في الكثير منها، ويثقل ذلك للحوق الضرر بذلك. حكي: أن يونس بن عبد الأعلى الصُّدفي سأل عبد الله بن وهب: كيف تروي الحديث : «خشبة» على الإفراد؛ فقال: الذي سمعناه من جماعة: «خشبة» على لفظ الواحد. وقال عبد الغني بن سعيد الحافظ: كل الناس يقوله على الجمع إلا الطحاوي. ورجَّح بعض الأشياخ ما قاله عبد الغني بن سعيد بالألفاظ الواردة في طرق الحديث منها: =(4/531)=@ قوله - صلى الله عليه وسلم - : «ليس لجار أن يمنع جاره أن يضع أعواده على جداره» (3) . وفي رواية أخرى: «أن يضع جذوعه (4) » (5) ، وفي أخرى: «أن يغرز خشبًا» (6) ، وفي أخرى: «أطراف خشب» (7) . فهذه الالفاظ جميعها توضح: أنه جمع (8) .
وقوله: «ما لي أراكم عنها معرضين»، الضمير في «عنها» يعود على (9) المقالة التي صدرت منه لهم. وأنثها على المعنى. وهذا القول منه إنكارٌ عليهم، لما رأى منهم الإعراض (10) واستثقال ما سمعوه منه، وذلك: أنهم لم يقبلوا عليه، بل طأطؤوا رؤوسهم، كما رواه الترمذي (11) في هذا الحديث.
وقوله : «والله لأرمين بها بين أظهركم»، وفي أخرى: «لأضربن بها بين أعينكم وإن كرهتم» ذكرها أبو عمر (12) ؛ أي: لأحدثنكم بتلك المقالة التي استثقلتم سماعها من غير مبالاة. ولا تقية، وأوقعها بينكم كما يوقع السهم بين الجماعة.
ففيه من الفقه: تبليغ العلم لمن لم يرده، ولا استدعاه؛ إذا كان من الأمور المهمة. ويظهر منه: أن أبا هريرة كان يعتقد وجوب بذل الحائط لغرز الخشب، وأن السامعين له لم يكونوا يعتقدون ذلك. وأما رواية: «لأضربن بها بين أعينكم»: فهي على جهة المثل؛ الذي قصد به الإغياء في الإنكار؛ لأنه فهم عنهم الإعراض عما =(4/532)=@ قال، والكراهة، فقابلهم بذلك. والرواية المشهورة : «أكتافكم»- بالتاء (13) باثنتين من &(4/426)&$
__________
(1) في (ك): «يخف».
(2) في (ح): «لا يسامح».
(3) أخرجه البيهقي (6/69) من طريق مسدد، عن عبد الوارث، عن أيوب، عن عكرمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ليس للجار أن يمنع جاره أن يضع أعواده في حائطه».
قال البيهقي: «هذا إسناد صحيح، وكذلك رواه سفيان بن عيينة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، عن أيوب بمعناه، ومن حديث سفيان: أخرجه البخاري، وأخرجه أيضا من حديث الزبير بن الخريت، عن عكرمة، عن أبي هريرة، وفي رواية الزبير: إن شاء، وإن أبى. وخالفهم سماك بن حرب، وجابر الجعفي، فروياه عن عكرمة، عن ابن عباس».
(4) زاد بعدما في نسخة (ف): ((وفي أخرى جذوعه وخشبه)).
(5) أخرجه الطحاوي في شرح "مشكل الآثار" (6/200-201 رقم2408)، والبيهقي (6/69) كلاهما من طريق سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا سأل أحدكم جاره أن يدعم جذوعه على حائطه فلا يمنعه».
ورواية سماك عن عكرمة مضطربة، كما في "التقريب" (ص415 رقم2639)، وقال البيهقي عقب روايته: «ورواية أيوب، وخالد، والزبير أصح». يشير إلى الرواية السابقة.
(6) أخرجه أحمد (3/480)، وابن ماجه (2/783 رقم2336) في الأحكام، باب الرجل يضع خشبة على جدار جاره، والبيهقي (6/69).
ثلاثتهم من طريق ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن هشام بن يحيى أخبره: أن عكرمة بن سلمة: أن أخوين من بني المغيرة لقيا مجمع بن يزيد الأنصاري قال: إني أشهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أن لا يمنع جار جارًا أن يغرز خشبًا في جداره... الحديث.
قال البوصيري في "مصباح الزجاجة (2/218): «قلت: ليس لمجمع هذا عند ابن ماجة سوى هذا الحديث، وليس له شيء في الخمسة الأصول، وإسناد حديثه فيه مقال، هشام بن يحيى بن العاص المخزومي؛ قال الذهبي: مختلف فيه، وذكره ابن حبان في الثقات، وعكرمة بن سلمة، لم أر من تكلم فيه، والباقي ثقات».
وقد صرح ابن جريج بالتحديث عند أحمد. وهشام بن يحيى لم يرو عنه إلا عمرو بن دينار، وفي "التقريب" (ص1023 رقم7357): مستور. وعكرمة بن سلمة مجهول، كما في "التقريب" (ص687 رقم4704).
(7) لم أجدها.
(8) من قوله: ((حكي أن يونس بن عبد الأعلى الصدرفي... إلى هنا ليس في النسخ. و(أ) و(ك) ولكنه موجود في نسخة (ف).
(9) في (ح) و(ك) و(ف): «إلى».
(10) في (ح) و(ك) و(ف): «لما رأى منهم من الإعراض».
(11) أخرجه الحميدي (2/461 رقم1076)، وأحمد (2/240)، وابن ماجه (2/782-783 رقم2335) في الأحكام، باب الرجل يضع خشبة على جدار جاره، والترمذي (3/635 رقم1353) في الأحكام، باب في الرجل يضع على حائط جاره خشبًا، والبيهقي (6/68).
جميعهم من طريق ابن عيينة، عن الزهري، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا استأذن أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره فلا يمنعه». قال الترمذي: «حسن صحيح».
(12) أخرجها ابن عبدالبر في "التمهيد" (10/229) وتقدم الكلام عنها.
(13) في (ك): «بتاء».(4/426)
فوقها ** كذا في (أ) ** - جمع: كتف. وقد وقع في "الموطأ" (1) من رواية يحيى: «أكنافكم» بالنون، جمع: كنف، وهو: الجانب.
وقوله: «إذا اختلفتم في الطريق جعل عرضه سبع أذرع»؛ هذا محمول على أمهات الطرق؛ التي هي ممر عامة الخلق بأحمالهم، ومواشيهم. فإذا تشاح من له أرض تتصل بها مع من له فيها حق جعل بينهما سبع أذرع، بالذراع المتعارفة (2) في ذلك طريقًا للناس، وخلي بينهما (3) وبين ما زاد على ذلك. وأما بنيات الطرق فبحسب ما تدل عليه العادة، وتدعو إليه الحاجة، وذلك يختلف بحسب اختلاف أحوال المتنازعين. فليست طريق من عادته استعمال الدواب والمواشي وأهل البادية كعادة من لا يكون كذلك من أهل الحاضرة، ولا مسكن الجماعة كمسكن الواحد والاثنين، وإنما ذلك بحسب مصلحتهم. وعلى هذا يحتاج أهل البادية من توسيع الطريق إلى ما لا يحتاج إليه أهل الحاضرة. وتحتاج طرق (4) الفيافي والقفار من التوسيع أكثر من سبع أذرع؛ لأنها مجرُّ الجيوش والرِّفاق الكبار (5) . وكل هذا (6) تفصيل أصحابنا، وصحيح مذهب مالك. ولو جعل الطريق في كل محل (7) سبع أذرع لأضر ذلك بأملاك كثير من الناس. ويلزم أن تجعل بنيَّات الطرق من الأزقة وغيرها كالأمهات المسلوكة للناس، وكطرق الفيافي. وذلك محالٌّ عادي، وفساد ضروري. =(4/533)=@
- - - - -
38 - ومن باب إثم من غصب شيئًا من الأرض
قوله - صلى الله عليه وسلم - : «من أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه إلى سبع أرضين»؛ هذا وعيدٌ شديدٌ، يفيد: أن أخذ شيء من الأرض بغير حقه من أكبر الكبائر على أي وجه كان من غصب، أو سرقة، أو خديعة، قليلاً كان، أو كثيرًا. ألا تسمع قوله &(4/427)&$
__________
(1) لم أجدهافي المطبوع من "الموطأ" رواية يحيى، لكن قال الحافظ في "الفتح" (5/111): «قال ابن عبدالبر: رويناه في "الموطأ" بالمثناة والنون، والأكناف بالنون جمع كنف بفتحها، وهو الجانب».
(2) في (ح): ((المتعارف)).
(3) في (أ): ((بينها)).
(4) في (ك): «طريق».
(5) في (ف): يشبه ((والفقار)) بدل ((الكبار)).
(6) في (ح) و(ك): «وهذا كله».
(7) في (ك): «محلة».(4/427)
- صلى الله عليه وسلم - : «وإن كان قيد شبر».
واختلف في معنى: «طوقه». فقيل: معناه: كلّف أن يطيق حمله، كما قال تعالى: {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} (1) . وقد جاء في غير "مسلم": «جاء يحمله يوم القيامة إلى سبع أرضين» (2) ، وفي أخرى: «كُلِّف أن يحمل ترابها إلى المحشر» (3) . وقيل: جعلت في عنقه كالطَّوق؛ كما قال تعالى : {سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة} (4) ، وهو ظاهر حديث عائشة رضي الله عنها: «طوقه من سبع أرضين». وقيل: =(4/534)=@ خسف به في مثل الطوق منها. وهو ظاهر قوله: «طوقه الله إلى سبع أرضين (5) ». وفي "البخاري" (6) نصًّا: «خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين». وقيل (7) : يجمع ذلك كله عليه. وقد دلّ على ذلك ما رواه الطبري (8) في هذا الحديث، وقال: «كلفه الله حمله حتى يبلغ سبع أرضين، ثم يطوقه يوم القيامة حتى يُقْضَى (9) بين الناس». والله تعالى أعلم.
وفيه ما يدل: على أن الأرضيين سبع، كما قال الله تعالى (10) : {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} (11) ؛ أي: في العدد؛ لأن الكيفية والصفة مختلفة بالمشاهدة والأخبار، فتعيَّن العدد، والله تعالى أعلم. وقد استدل به الداودي: على أن السبع الأرضين لم يفتق بعضها من بعض (12) . قال: لأنه لو فتق بعضها من بعض لم يطوق منها ما ينتفع به غيره. وقد جاء في غلظهن، وما بينهن خبر (13) ، وليس (14) في ذلك شيء صحيح. وقد استدل غيره به: على أن من ملك شيئًا من الأرض (15) ملك ما تحته مما يقابله. فكل ما يجد فيه من معدن، أوكنز فهو &(4/428)&$
__________
(1) الآية (161) من سورة آل عمران.
(2) أخرجه الطبري في "تهذيب الآثار" (ص183 رقم292/مسند علي) عن الحسين بن محمد الذَّراع، والطبراني في "الكبير" (3/215 رقم3172)، وفي "الصغير" (2/297 رقم1197) من طريق محمد بن عقبة السدوسي.
كلاهما - الحسين بن محمد الذَّراع، محمد بن عقبة -، عن محمد بن حمران، عن عطية الدَّعَّاء، عن الحكم بن الحارث السلمي، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من أخذ من طريق المسلمين شبرًا جاء به يحمله من سبع أرضين».
قال الهيثمي في "المجمع" (4/176): «رواه الطبراني في "الكبير والصغير"، وفيه محمد بن عقبة السدوسي وثقه ابن حبان، وضعفه أبو حاتم، وتركه أبو زرعة».
وقد توبع كما ترى.
ومحمد بن حمران بن عبدالعزيز القيسي؛ قال أبو زرعة: محله الصدق، وقال أبو حاتم: صالح، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال ابن عدي: له أفراد وغرائب، ما أرى به بأسًا، وعامة ما يرويه مما يحتمل عن من روى عنه. "تهذيب الكمال"(25/94).
وفي "التقريب" (ص838 رقم5868): صدوق فيه لين وعطية الدعاء: هو عطية بن سعد الدعاء، بيض له البخاري في "التاريخ الكبير"(7/9 رقم36)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (5/383 رقم2116)، وذكره ابن حبان في "الثقات" (5/263). والحديث حسَّن إسناده الحافظ في "الفتح" (5/104).
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (4/452-453 رقم22007) في البيوع والأقضية، باب في الرجل يسرق من الرجل الحذاء والأرض، وأحمد (4/172 و173)، وعبد بن حميد (... رقم 406)، والطبري في "تهذيب الآثار" (ص179و180-181 رقم 284 و285/مسند علي)، والطبراني في "الكبير" (22/269-270 و270 رقم690 و691)،والخطيب في "الموضح" (1/282).
جميعهم من طريق أبي يعفور، عن أبي ثابت أيمن بن ثابت، عن يعلى بن مرّة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أخذ أرضًا بغير حقها كُلِّف أن يحمل ترابها إلى المحشر».
وصحح إسناده الألباني في "الصحيحة" (1/486-488 رقم242).
(4) الآية (180) من سورة آل عمران.
(5) من قوله: «وقيل خسف...» إلى هنا جاء بعد قوله: «خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين» الآتي.
(6) (5/103 رقم2454) في المظالم، باب اثم ** في (ح) ** من ظلم شيئًا من الأرض، و(6/292-293رقم3196) في بدء الخلق، باب ما جاء في سبع أرضين من حديث ابن عمر.
(7) في (أ): «وقد».
(8) أخرجه أحمد (4/173)، وعبد بن حميد (ص... رقم407)، والطبري في "تهذيب الآثار" (ص181 رقم289/مسند علي)، وابن حبان (11/567-568 رقم5164/الإحسان)، والطبراني في"الكبير"(22/270رقم692).
جميعهم من طريق حسين بن علي، عن زائدة، عن الربيع بن عبدالله.
وأخرجه الطبري أيضًا (ص181 رقم286 و287 و288)، والطبراني في الموضع السابق (693). كلاهما من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي.
- الربيع بن عبدالله، والشعبي -، عن أبي ثابت أيمن بن ثابت، عن يعلى بن مرة؛ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أيما رجل ظلم شبرًا من الأرض كلفه الله أن يحضره حتى يبلغ آخر سبع أرضين، ثم يطوقه يوم القيامة حتى يُقضَى بين الناس».
وصحح إسناده الألباني في "الصحيحة" (1/483-481 رقم240).
تنبيه: رواية الشعبي عند الطبري والطبراني: ليس فيها: «حتى يقضى بين الناس».
(9) في (ح) و(ك): «يقضي الله».
(10) في (أ)، (ك) و(ف): ((كما قال تعالى)).
(11) الآية (12) من سورة الطلاق.
(12) قوله: ((من بعض)) سقط من (أ).
(13) يرويه قتادة، واختلف عليه في وصله وإرساله :
فاخرجه أحمد (2/370) من طريق الحكم بن عبدالملك، وعنه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/12-13 رقم8). وأخرجه الترمذي (5/376-377 رقم3298) في التفسير، باب ومن سورة الحديد، وأبو الشيخ في "العظمة" (1/563-564 رقم202)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (1/287-288 رقم849)، والجوزقاني في "الأباطيل والمناكير" (1/70-71 رقم65).
جميعهم من طريق شيبان بن عبدالرحمن.
وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (1/254 رقم578)، والبزار................، وابن أبي حاتم..............، وأبو الشيخ (1/560-562 رقم201).
جميعهم من طريق أبي جعفر الرازي.
- الحكم بن عبدالملك، وشيبان بن عبدالرحمن، وأبو جعفر الرازي -، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة قال: بينما نبي الله - صلى الله عليه وسلم - جالس وأصحابه؛ إذ أتى عليهم سحاب، فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : «هل تدرون ما هذا؟» فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «هذا العنان، هذه زوايا الأرض، يسوقه الله تبارك وتعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه»، قال: «هل تدرون ما فوقكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم...، ثم قال: ** ليس في الأصل ** «هل تدرون ما الذي تحتكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنها الأرض، وبينها وبين الأرض التي تحتها مسيرة خمسمائة عام»، حتى عدَّ سبع أرضين، وغلظ كل أرض مسيرة خمسمائة عام... الحديث.
وخالفهم سعيد بن أبي عروبة، فرواه عن قتادة مرسلاً :
أخرجه الطبري في "تفسيره" (17/216) من طريق يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، قوله.
قال الترمذي بعد أن ساق الرواية الموصولة: «هذا حديث غريب من هذا الوجه، ويروى عن أيوب، ويونس بن عبيد، وعلي بن زيد قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة».
وضعف الحديث ابن الجوزي، والجوزقاني، والبيهقي لعدم صحة سماع الحسن من أبي هريرة.
وضعفه الألباني في تعليقه على "السنة" لابن أبي عاصم.
وقد رجح الرواية المرسلة الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (4/303) فقال: «ولعل هذا هو المحفوظ، وقد روى حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه، رواه البزار في"مسنده"، والبيهقي في "الأسماء والصفات"، ولكن في إسناده نظر، وفي متنه غرابة ونكارة».اهـ.
وهو عند البزار.....، والبيهقي (2/289 رقم850).
(14) في (أ): «فليس».
(15) قوله: ((من الأرض)) سقط من (ك).(4/428)
له. وقد اختلف في ذلك في المذهب. فقيل ذلك، وقيل: هو للمسلمين. وعلى ذلك فله أن ينزل بالحفر ما شاء ما لم يضر بمن يجاوره. وكذلك له: أن يرفع في الهواء المقابل لذلك القدر من الأرض (1) من البناء ما شاء ما لم يضر بأحد، فيُمْنَع.
وقول مروان لما سمع الحديث: «لا (2) أسألك بينة»، قرأناه (3) بفتح الكاف على خطاب سعيد، وهو صحيح (4) ، وفيه إشكال، وذلك: أن الأرض كانت في يد سعيد وادَّعت المرأة: أنَّه غصبها إيَّاها. ألا ترى قول عروة: إن أروى ادعت على سعيد: أنه أخذ لها شيئًا من أرضها، فهو المدَّعى عليه، وكيف يكلف المدَّعى عليه إقامة البينة على إبطال دعوى الْمُدَّعِي ؟! وإنما القضاء كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للحضرمي =(4/535)=@ المدَّعِي: «شاهداك أو يمينه» (5) ، وإنما يصلح أن يخاطب بهذه الكاف المدَّعِية. وعلى هذا: فينبغي أن تكون مكسورة، ويكون مروان قال لها ذلك (6) كفًّا لها عن تماديها على دعواها؛ لعلمه بصدق سعيد من جهة قرائن أحواله، لا أن الخبر الذي ذكره يدلُّ على براءته من دعواها، لكن ما كان معلومًا من دين سعيد، ومن ورعه، وفضله، وأنه مشهود له بالجنة (7) ، وَعِظم هذا الوعيد الشديد الذي سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - مشافهة مع نزارة هذا القدر المدّعى عليه به. فحصل عند مروان العلم بصدقه، فقال للمرأة: لا أسألك بينة؛ أي: لأنك لا تجدينها بوجه. ثم إنه لم يقض بينهما بشيء، ولم يحوجه سعيدٌ إلى قضاء، بل بادر إلى أن سلم لها ما ادَّعته وزادها من أرضه. فقال: دعوها لها.
قلت: فهذا الذي ظهر لي في هذا الخطاب، فإنه إن كان متوجهًا لسعيد لزم &(4/429)&$
__________
(1) قوله: «من الأرض» سقط من (أ) و(ف).
(2) قوله: ((لا)) سقط من (ك).
(3) في (أ): «قرأنا».
(4) قوله: «وهو صحيح» سقط من (أ).
(5) تقدم في الإيمان، باب إثم من اقتتطع حق امرئ بيمينه.
(6) في (ف): ((قال ذلك لها)).
(7) أخرجه الطيالسي (236)، وابن أبي شيبة (12/12-15 و42)، وأحمد (1631 و1637)، والترمذي (3757)، وأبو داود (4649)، وابن ماجه (133)، والنسائي في "الكبرى" (8204 و8210 و8219)، وأبو يعلي (971) وغيرهم من طرق عن عبدالرحمن بن الأخنس، عن سعيد بن زيد، به.
وأخرجه أحمد (1675)، والترمذي (3747)، والنسائي في "الكبرى"(8194)، وأبو يعلي (835)، وابن حبان (7002) من طريق قتيبة بن سعيد، عن الدراوردي، عن عبدالرحمن بن حميد، عن أبيه، عن عبدالرحمن بن عوف، به.(4/429)
أن يكون مروان عدل عن جهة القضاء المنصوص عليها؛ التي لا اختلاف فيها، وأن سعيدًا أقرَّه عليها. وكل ذلك باطل، فتعيَّن ما اخترناه، والله تعالى أعلم (1) .
ويعني بـ «البينة»: من يشهد لسعيد بصحة الحديث الذي رواه، لأنه صدقه في الرواية، ولم يحتج إلى الاستظهار بزيادة شهادة غيره على ذلك، ولم (2) يرد بالبينة هنا: الشهادة التي يستند حكم الحاكم إليها؛ لأنها لا (3) تلزم المدّعى عليه، فكيف يسقط عنه ما لا يلزم (4) ؟
وقول سعيد: «اللهم ! إن كانت كاذبة فاعم بصرها، واقتلها في أرضها»؛ =(4/536)=@ دليلٌ على أن سعيدًا استجاز الدُّعاء على الظالم بأكثر مما ظلم فيه. وفيه إشكال مع قوله تعالى : {وجزاء سيئةِ سيئة مثلها} (5) ، وقوله: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (6) ، ووجه الإشكال: أنه كما لا يجوز أن يأخذ من الظالم، أو الغاصب (7) زيادة على القصاص، أو على مقدار ما أخذ، كذلك لا يجوز أن يدعو عليه بزيادة على ذلك، لإمكان الإجابة، فتحصل الزيادة الممنوعة، ولو لم يستجب له؛ أليس قد أراد وتمنى شرًّا زائدًا على قدر الجناية للمسلم؟! وهو ممنوع منه، وإنما الذي يجوز أن يدعو به على الظالم: أن يقول: اللهم خذ لي حقي منه. اللهم افعل به مثل (8) ما فعل، وما أشبه ذلك {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن (9) عزم الأمور} (10) .
ويجاب عنه بالفرق بين الدَعاء على الظالم بأكثر مما ظلم فيه، وبين أن يفعل به أكثر مما ظلم فيه؛ بأن (11) الدعاء ليس مقطوعًا بإجابته، فإذا صدر عن المظلوم بحكم حرقة مظلمته (12) ، وشدَّة موجدته، لم نقل (13) : إنه صدر عنه محرَّم، وغاية ذلك: أن يكون ترك الأولى؛ لأنه منتصر، ولأنه لم يصبر. ولذلك قال النبي &(4/430)&$
__________
(1) من قوله: «وفيه إشكال....» إلى هنا سقط من (ح) و(ك).
(2) في (ح): ((فلم)).
(3) قوله: «لا» سقط من (ح).
(4) من قوله: ((ويعني)) بالنية... إلى هنا سقط من (أ) و(ف) وفي (ح): ((يلزمه)).
(5) الآية (40) من سورة الشورى.
(6) الآية (194) من سورة البقرة.
(7) في (ك): «والغاصب».
(8) قوله: «مثل» سقط من (ح) و(ك).
(9) في (ح) و(ف): «من».
(10) الآية (43) من سورة الشورى.
(11) في (ح) و(ك): «فإن».
(12) في (أ) «حرقة بمظلمته»، وفي (ح) وحاشية (ك) «حرجه بمظلمته».
(13) في (ح) و(ك): «لم يقل».(4/430)
- صلى الله عليه وسلم - : «إيَّاك ودعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب (1) » (2) ، ويدل (3) على جواز ذلك: ما روي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى (4) رجلاً خَلِق الثياب، فأمره أن يلبس ثوبيه، فلما لبسهما قال: «ما له؟ - ضرب الله عنقه - أليس هذا خيرًا» (5) ، وفي كتاب أبي داود (6) : عن =(4/537)=@ سعيد بن غزوان، عن أبيه: أنه مرَّ بين يدي رسول (7) الله - صلى الله عليه وسلم - بتبوك، وهو يصلي، فقال: «قطع صلاتنا، قطع الله أثره»، قال: فما قمت عليهما (8) إلى يومي هذا - يعني: رجليه (9) -؛ فدلَّ هذا على (10) أن الدَّعاء المذكور ليس محرَّمًا.
وأما قوله: إنه أراد الشرَّ للظالم وتمنَّاه ** تراجع في (ك) **. فنقول بجواز ذلك (11) ، ليرتدع الظالم (12) عن شره، أو غيره ممن يريد الظلم والشر (13) . ولو سلمنا: أن ذلك لا يجوز لأمكن أن يقال: إنه لا يلزم من الدُّعاء بالشر أن يكون ذلك الشر متمنَّى، ولا مرادًا للدَّاعي، فإن الإنسان قد يدعو على ولده وحبيبه بالشر؛ بحكم بادرة الغضب، ولا يريد وقوعه به، ولا يتمناه، والله تعالى أعلم. =(4/538)=@ &(4/431)&$
__________
(1) من قوله: «ولذلك قال....» إلى هنا سقط من (ح) و(ك).
(2) تقدم في الإيمان، باب أول ما يجب على المكلفين.
(3) في (ك): ((وقد دل)).
(4) قوله: «ويدل على جواز ذلك ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى» ليس في (أ) و(ف) وأثبت بدلاً منه: «وقد راى النبي - صلى الله عليه وسلم - ».
(5) يرويه زيد بن أسلم، واختلف عليه :
فأخرجه مالك في "الموطأ" (2/694 رقم1) في اللباس، باب ما جاء في لبس الثياب للجمال بها، عن زيد بن أسلم، عن جابر بن عبدالله؛ أنه قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بني أنمار، قال جابر: فبينا أنا نازل تحت شجرة ، إذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت: يا رسول الله! هلم إلى الظل... وعندنا صاحب لنا نجهزه يذهب يرعى ظهرنا، قال: فجهزته، ثم أدبر يذهب في الظهر وعليه بردان له قد خلقا. قال: فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه فقال: «أما له ثوبان غير هذين؟» فقلت: بلى يا رسول الله! له ثوبان في العيبة كسوته إياهما، قال: «فادعه فمره فليلبسهما»، قال: فدعوته فلبسهما، ثم ولى يذهب، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ماله ضرب الله عنقه، أليس هذا خيرًا له»... الحديث.
ومن طريق مالك: أخرجه ابن حبان (12/236-137 رقم.../ الإحسان)، والبزار (.... رقم2963/كشف)، والحاكم (4/183)، والبيهقي في"الدلائل" (6/244).
قال ابن عبدالبر في "التمهيد"(3/251): «قال قوم: لم يسمع زيد بن أسلم من جابر بن عبد الله، وقال آخرون: سمع منه وسماعه من مدفوع عندي، وقد سمع من ابن عمر، وتوفي ابن عمر قبل جابر بن عبد الله بنحو أربعة أعوام، توفي جابر سنة ثمان وسبعين، وتوفي ابن عمر سنة أربع وسبعين».
وهو قول ابن حبان، كما في "الإحسان" (12/237-238).
وقد خولف مالك في روايته: فأخرجه البزار (... رقم 2962/كشف)، والحاكم (4/183). كلاهما من طريق هشام بن سعد، عن زيدبن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن جابر، فذكره.
قال الحاكم: «حديث صحيح على شرط مسلم، فقد احتج في غير موضع بهشام بن سعد، ولم يخرجاه، إلا أن الحديث عند مالك عن زيد بن أسلم، عن جابر رضي الله عنه».
(6) أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (8/365-366)، وأبو داود (1/؟؟؟ رقم707) في الصلاة، باب ما يقطع الصلاة.
كلاهما من طريق معاوية بن صالح، عن سعيد بن غزوان، عن أبيه: أنه نزل بتبوك وهو حاج، فإذا رجل مقعد، فسأله عن أمره؟ فقال له: سأحدثك حديثًا فلا تحدث به ما سمعت؛ أني حيٌّ: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل بتبوك إلى نخلة، فقال: «هذه قبلتنا»، ثم صلى إليها، فأقبلت وأنا غلام أسعى حتى مررت بينه وبينها، فقال: «قطع صلاتنا، قطع الله أثره»، فما قمت عليها إلى يومي هذا.
قال الذهبي في "ميزان الإعتدال" (2/154): «سعيد بن غزوان، عن أبيه، عن المقعد بتبوك، في مروره بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: «قطع صلاتنا، قطع الله أثره»؛ فهذا شامي مقلّ، ما رأيت لهم فيه ولا في أبيه كلاماً، ولا يُدرى من هما، ولا من المقعد. قال عبد الحق وابن القطان: إسناده ضعيف. قلت أظنه موضوعاً».اهـ.
وله طريق أخرى :
أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (8/365-366)، وأحمد (4/64) و(5/376)، وأبو داود (1/... رقم705 و706) في الموضع السابق.
جميعهم من طريق سعيد بن عبدالعزيز التنوخي، عن مولى ليزيد بن نمران، عن يزيد بن نمران، قال: رأيت بتبوك مقعدًا... فذكره.
وسنده ضعيف لجهالة مولى يزيد بن نمران، واسمه: سعيد مجهول، كما في "التقريب (ص392 رقم2443).
(7) في (ح): ((النبي - صلى الله عليه وسلم - ))
(8) في (ك): «عليها».
(9) من قوله: «وفي كتاب أبي داود....» إلى هنا سقط من (أ) و(ف).
(10) في (ح): «فدل على هذا على».
(11) كتب في أصل (ك): ((يحق له ذلك)) وألحق في الحاشية ((بجواز)).
(12) في (ك): ((الشر والظلم)).
(13) في (ف): ((العالم)).(4/431)
كتاب الوصايا والفرائض
باب الحث على الوصية وأنها بالثلث لا يتجاوز ** ليس في (أ). و (ك). و(ف). و(ح)
الوصايا: جمع وصية؛ كالقضايا: جمع قضية، وهي في الأصل: عبارة عن كل (1) شيء يؤمر بفعله، ويعهد (2) به (3) في الحياة، وبعد الموت. وخصَّصها العرف بما يعهد بفعله وتنفيذه بعد الموت.
قوله (4) - صلى الله عليه وسلم - : «ما حق امرئٍ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده»؛ الحق في اللغة هو: الثابت مطلقًا. فإذا أطلق في الشرع، فالمراد به: ثبوت الحكم فيه. ثم الحكم الثابت في الشريعة يكون: واجبًا، ومندوبًا، ومباحًا؛ إذ كل واحد منها (5) ثابت وموجود فيها، لكن إطلاق الحق على =(4/539)=@ المباح قلَّ ما يقع في الشريعة، وإنما يوجد فيها بمعنى الواجب، والندب. فإن اقترن به «على» أو ما في معناها؛ ظهر فيه قصد الوجوب. وإن (6) لم يقترن به ذلك؛ كان محتملاً للأمرين، كما قد جاء في هذا الحديث. وعلى هذا: فلا حجة لداود في التمسك بحق الذي في هذا (7) الحديث على وجوب الوصية؛ لأنه لم يقترن به قرينة تزيل إجماله، فإن أبى إلا دعوى ظهوره قابلناه بما قاله بعض أصحابنا في هذا الحق: إنه قد اقترن به ما يدلّ على الندب. وهو إضافته للمسلم، وتعليق الوصية &(4/432)&$
__________
(1) قوله: «كل» سقط من (ح).
(2) في (ف): ((ويعقد)).
(3) قوله: «به» سقط من (أ).
(4) في (ح) و(ك): «وقوله».
(5) في (ح): «منهما».
(6) في (ح): يشبه أن تكون ((فإن)).
(7) قوله: «هذا» سقط من (أ).(4/432)
على الإرادة في قوله: «ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه». واقتران مثل هذا يقوِّي إرادة الندب. ثم لو سلمنا: أن ظاهره الوجوب فنقول بموجبه، فيمن كانت عليه حقوق للناس (1) يخاف ضياعها عليهم، أو كانت له حقوق عند أناس يخاف تلفها على الورثة، فهذا تجب عليه الوصية. ولا يختلف فيه إذا خاف ضياعها بسبب الموت.
وإذا تقرر هذا؛ فاعلم: أن الوصية في أول الإسلام كانت واجبة للوالدين والأقربين قبل نزول المواريث، كما قال تعالى : {كتب (2) عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقًّا على المتقين} (3) ، وهي بمجموع قرائنها نصٌّ في وجوب الوصية لمن ذكر فيها، ثم: إنها بعد ذلك نسخت. واختلف في ناسخها. فقيل: آية (4) المواريث. وفيه إشكال؛ إذ لا تعارض بين أن يجمع بينهما، فيكون للقرابة أخذ المال بالوصية عن المورِّث (5) (6) ، وبالميراث إن لم يوص، أو ما بقي بعد الوصية، لكن هذا قد منع الإجماع منه. وهو خلاف نص قوله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، ألا لا وصيه لوارث» (7) . فإذًا آية المواريث لم (8) تستقل بنسخ آية الوصية، بل بضميمةٍ أخرى، وهي السُّنَّة المذكورة، ولذلك قال بعض علمائنا: إن نسخ الوصية للقرابة إنما كان بالسُّنة المذكورة، غير أنه يرد عليه: أن هذا نسخ القرآن بخبر الواحد. =(4/540)=@
والجواب عنه: إنَّ ذلك قد كان معمولاً به في الصحابة رضي الله عنهم، كما قد (9) حكاه الأصوليون في كتبهم. ولو سلمنا: أن ذلك لا يجوز؛ فلم يكن ذلك الخبر آحادًا، بل كان متواترًا. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألقاه على أهل عرفة يوم عرفة، وأخبرهم بنسخ ذلك بسنَّته. وأهل عرفة عدد (10) كثير، وجم غفير، لا يحيط بهم بلد، ولا يحصرهم عدد، فقد كان متواترًا، فنسخ المقطوع بالمقطوع. ونحن وإن (11) كان هذا الخبر قد بلغنا (12) آحادًا؛ لكن قد انضم إليه إجماع المسلمين: أنَّه لا تجوز الوصية لوارث، فقد ظهر: أن وجوب الوصية للأقربين منسوخ بالسُّنة، وأنها مستند المجمعين، غير أنه قد ذهبت طائفة؛ وهم: الحسن، وقتادة، والضحاك، وطاووس: إلى أن وجوب &(4/433)&$
__________
(1) في (أ): ((الناس)).
(2) زاد قبلها في (أ) و(ف): ((يا أيها الذين آمنوا)).
(3) الآية (180) من سورة البقرة.
(4) في (ك): «إنه».
(5) في (أ): ((الموروث)).
(6) في (ح): ((الوارث)).
(7) أخرجه الطيالسي (1223)، وعبدالرزاق (16308)، وسعيد بن منصور (427)، وابن أبي شيبة (10765)، وأحمد (22348)، وأبو داود (2870 و3565)، والترمذي (670 و1265 و2120)، وابن ماجه (2007 و2295 و2398 و2405) وغيرهم من طريق إسماعيل بن عياش، ثنا شرحبيل بن مسلم، سمع أبا أمامة...، فذكره مرفوعًا مطولاً.
وهذا إسناد جيد؛ إسماعيل بن عياش لا بأس به في روايته عن الشاميين، وهو هنا يروي عن أهل بلدة الشاميين.
وأخرجه أبو داود (1955)، وابن أبي الجارود (949) من طريق الوليد بن مسلم، ثنا ابن جابر، وحدثني سليم بن عامر وغيره، عن أبي أمامة به، مرفوعًا، فذكره مختصرًا.
(8) في (ف): ((ثم)) بدل ((لم)).
(9) قوله: «قد» سقط من (ك).
(10) في (ك): «جمع».
(11) في (ح): ((فإن)).
(12) قوله: «قد بلغنا» سقط من (ح).(4/433)
الوصية ليس منسوخًا في حق جميع القرابة، بل في حق الوارثين خاصة. واختاره الطبري.
قلت: وعلى هذا فلا يكون هذا (1) نسخًا عند هؤلاء، بل: تخصيصًا لعموم قوله تعالى : {والأقربين} بقوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا وصية لوارث»، وهذا لا يحتاج فيه أن يكون قوله: «لا وصية لوارث» متواترًا؛ لأنه يجوز تخصيص القرآن بالسنة غير المتواترة اتفاقًا من الأكثر. وهو الصحيح على ما ذكرناه في الأصول.
وقوله: «له شيء يوصي فيه»؛ عامٌّ في الأموال والبنين الصغار، والحقوق التي له وعليه كلها، من ديون، وكفارات، وزكوات فرَّط فيها، فإذا وصَّى بذلك؛ أخرجت الديون من رأس المال. والكفارات، والزكوات من ثلثه، على تفصيل =(4/541)=@ يعرف في الفقه.
وقوله: «يبيت ليلتين»؛ المقصود بذكر الليلتين، أو الثلاث: التقريب، وتقليل المدَّة (2) ترك كتب (3) الوصية. ولذلك لَمَّا سمعه ابن عمر رضي الله عنهما لم يبت ليلة إلا بعد أن كتب وصيته (4) . والحزم المبادرة إلى كتبها أول أوقات الإمكان، لإمكان بغتة الموت التي (5) لا يأمنها العاقل ساعة. ويحتمل أن يكون إنما خصَّ الليلتين بالذكر فسحة لمن يحتاج إلى (6) أن ينظر فيما له وما عليه، فيتحقق (7) بذلك (8) ، ويروي فيها ما يوصي به (9) ، ولمن يوصي، إلى غير ذلك.
وقوله: «إلا ووصيته مكتوبة عنده»؛ ذِكْرُ الكتابة مبالغة في زيادة الاستيثاق بها (10) ؛ لأنه إنما يعني: بكونها مكتوبة، مشهودًا بها. وهي الوصية المتفق على العمل بها، فلو أشهد بها العدول، وقاموا بتلك الشهادة لفظًا لعُمِل بها، وإن لم يكتب (11) خطًا، فلو كتبها بيده، ولم يشهد بها؛ فلم يختلف قول مالك: أنه لا &(4/434)&$
__________
(1) قوله: ((هذا)) سقط من (أ).
(2) في (ك): «التقريب لمدة ترك».
(3) قوله: ((كتب)) سقط من(أ).
(4) في (ف): ((وصية)).
(5) في (ح): ((الذي)).
(6) قوله: ((إلى)) سقط من (أ).
(7) في (ف): ((فيحقق)).
(8) في (أ): ((ذلك)) وقوله: ((بذلك)) سقط من (ف).
(9) قوله: «به» سقط من (أ).
(10) قوله: ((بها)) سقط من (أ) و(ك) و(ف) و(ح).
(11) في (ف): ((تكتب)).(4/434)
يُعمل بها إلا فيما (1) يكون فيها (2) من إقرار بحق لمن لا يتهم عليه، فيلزم تنفيذه (3) . واختلف عن مالك فيما إذا كتبها، وأشهد عليها، فقال فيها: إن مت في سفري هذا، أو في (4) م رضي هذا، فسلم من الموت في ذلك السَّفر والمرض، ولم يخرجها من يده حتى مات بعد ذلك. فهل تنفذ أو لا؟ قولان. فلو وضعها على (5) يد غيره نُفِّذَت. ولو لم يقيدها بذلك المرض ولا بذلك السَّفر، وأمسكها عنده إلى أن مات نُفِّذت قولاً واحدًا. وتفصيل مسائل الوصايا في الأمهات.
وقوله في حديث سعد: «عادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجع أشفيت منه على الموت»؛ عادني: زارني. ولا يقال ذلك إلا لزيارة المريض. فأما الزيارة فأكثرها للصحيح. وقد تقال للمريض. فأمَّا قوله تعالى : {حتى زرتم المقابر} (6) ، =(4/542)=@ فكناية (7) عن الموت.
و «الوجع» اسم لكل مرض. قاله الحربي. و «أشفيت»: أشرفت. يقال: أشفى وأشاف بمعنى واحد. قاله الهروي. وقال القتبي: لا يقال: أشفى إلا على شرّ.
وفيه: عيادة الفضلاء والكبراء (8) للمرضى، وتفقد الرَّجل الفاضل أصحابه وإخوانه.
وقوله: «بلغني (9) من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي»، فيه ما يدلُّ على أن إخبار المريض بحاله لا على جهة التشكّي، والتَّسخُّط جائز، وغير منقص لثوابه. ألا ترى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصدر عنه إنكار، ولا تنبية على تنقيص أجر ولا غيره (10) .
و «ذو مال»: وإن صلح للكثير والقليل الذي ليس بتافه؛ فالمراد به ها هنا: المال (11) الكثير بقرينة الحال.
وقوله: «ولا يرثني (12) إلا ابنة لي واحدة»؛ ظاهر هذا: أنه ليس له وارث إلا ابنة واحدة. وليس كذلك. فإنَّه كان له ورثة وعصبة. وإنما معنى ذلك: لا يرثني بالسَّهم إلا ابنة واحدة. وقيل: لا يرثني من النساء إلا ابنة (13) واحدة. وكلاهما محتمل. ثم أفاق (14) من مرضه، وكان له بعده ثلاثة من الولد ذكور؛ أحدهم: اسمه عامر، وهو راوي هذا الحديث عن أبيه كما ذكرنا (15) . &(4/435)&$
__________
(1) في (ح): «ما».
(2) قوله: «فيها» سقط من (ك).
(3) في (ف): ((تقيده)).
(4) قوله: «في» سقط من (ك).
(5) في (ح): «في».
(6) الآية (2) من سورة التكاثر.
(7) في (ك): «فكنى به».
(8) في (أ): «والكبرياء».
(9) في (ك): ((بلغ بي)).
(10) من قوله: «لثوابه....» إلى هنا سقط من (ح).
(11) قوله: «المال» سقط من (ح) و(ك).
(12) في (ف): ((ترثني)).
(13) قوله: «ابنة» سقط من (ح) و(ك).
(14) في (أ) و(ف): ((فاق)).
(15) في (ح): «ذكرناه».(4/435)
وقوله: «أفاتصدَّق (1) بثلثي مالي؛ قال: لا»؛ ظاهر هذا السؤال: أنه إنما سأل عن الوصية بثلثي ماله لتنفذ (2) بعد الموت. يدل على ذلك: قرائن المرض، وذكر الورثة، وغير ذلك. ويحتمل: أن يكون عن صدقة بتلة (3) ، يخرجها في الحال. وفيه بُعْدٌ. وكيف ما كان فقد أجيب: بأن ذلك لا يجوز إلا في الثلث خاصة.
قال =(4/543)=@ القاضي عياض: أجمع العلماء: على أن من مات وله ورثة فليس له أن يوصي بجميع ماله إلا شيئًا روي عن بعض السَّلف، أجمع الناس بعده على خلافه. والجمهور: على أنه لا يوصي بجميع ماله، وإن لم يكن له وارث. وذهب أبو حنيفة، وأصحابه، وإسحاق، وأحمد، ومالك - في أحد (4) قوليهما - إلى جواز ذلك. وروي (5) عن علي، وابن مسعود (6) . وسبب هذا الخلاف: الخلاف في بيت المال هل هو وارث، أو حافظ لما يجعل فيه.
وفيه دليل: على أن المريض محجور عليه في ماله (7) . وهو مذهب الجمهور. وشذَّ أهل الظاهر، فقالوا: لا يحجر عليه في ماله وهو (8) كالصحيح. وظاهر هذا: الحديث، والنظر، والمعنى: حجة عليهم. ومنع أهل الظاهر الوصية بأكثر من الثلث وإن أجازها الورثة. وأجاز ذلك الكافة (9) إذا أجازها الورثة. وهو الصحيح؛ لأن المريض إنما منع من الوصية بزيادة على الثلث لحق الورثة (10) ، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - : «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة»، فإذا (11) أسقط الورثة حقهم كان ذلك جائزًا وصحيحًا (12) .
وقوله: «الثلث، والثلث كثير»، وروي (13) : «الثلث» الأول بالرفع على الابتداء، وإضمار الخبر (14) ؛ أي: الثلث كافيك. وقيل: يجوز على أن يكون فاعلاً لفعل (15) مضمر.
قلت: وفيه ضعف؛ لأنه لا يكون ذلك إلا بعد أن يكون في صدر الكلام ما يدل على الفعل دلالة واضحة، كقوله تعالى: {وإن أحدٌ من المشركين &(4/436)&$
__________
(1) في (أ): ((أفتصادق)).
(2) في (ح): «لينفذ».
(3) تصدق فلان صدقة بتاتًا وبتة، بتلة: إذا قطعها المتصدق بها من ماله، فهي بائنة من صاحبها قد انقطعت منه. "لسان العرب" (2/6).
(4) في (ك): «احدى».
(5) في (أ): ((وروت)).
(6) ....
(7) قوله: ((في ماله)) سقط من (ح).
(8) قوله: «وهو» سقط من (ح) و(ك).
(9) في (لإ): يشبه أن تكون ((والكافة)).
(10) في (ح) و(ك) و(ف): «الوارث».
(11) في (ح): يشبه ((وإذا)).
(12) في (ح) و(ك): «جائزًا صحيحًا».
(13) في (ف) و(ك): ((روي)) بلا واو.
(14) في (ف): ((الخير)).
(15) في (أ) و(ف) و(ح): ((بفعل)) و(ك).(4/436)
استجارك} (1) ، على خلاف بين الكوفيين والبصريين. فالبصريون يرفعونه بالفعل. والكوفيون بالابتداء. وروي بالنصب على أن يكون =(4/544)=@ مفعولاً بفعل مضمر تقديره: نفذ (2) الثلث. أو: أَمْضِ (3) . وما أشبهه، وقيل: على الإغراء. وفيه بُعْدٌ. وهو حجة للجمهور على جواز الوصية بالثلث على من شذّ، وخالفهم، وقال: لا يجوز إلا بالربع (4) ، لكن لما استكثر النبي - صلى الله عليه وسلم - الثلث؛ قال ابن عباس: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع حَضًّا على ذلك. وكل ذلك رفق بالورثة، وترجيح لجانبهم على الصدقة للأجانب.
قلت: وعلى هذا فمن حسنت نيَّته فيما يبقيه لورثته كان أجره في ذلك (5) أعظم من الصدقة به، لا سيما إذا كانوا ضعافًا، والله تعالى أعلم.
وقوله: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة»، روايتنا في (6) «أن تذر» بفتح الهمزة، و «أن» مع الفعل بتأويل المصدر في موضع رفع بالابتداء، وخبره «خير (7) » المذكور (8) بعده، والمبتدأ وخبره خبر (9) «إنك» تقديره: إنك تركك ورثتك أغنياء خير من تركهم فقراء. وقد وهم (10) من كسر الهمزة من «أن» وجعلها شرطًا؛ إذ لا جواب له ويبقى «خير» لا رافع له. فتأمله.
و «العالة»: الفقراء. و «يتكففون الناس»: يسألون الصدقة من أكف الناس: أو يسألونهم بأكفهم. وهذا يدلُّ على أنَّه كان له ورثة غير الابنة التي ذكرها، ويصحح (11) ذلك التأويل الذي ذكرناه.
وفيه دليل: على صحة ميراث ذي السهم مع العصبة. ولاخلاف فيه.
وقوله: «ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها (12) »؛ هذا يفيد بمنطوقه: أن الأجر في النفقات لا يحصل إلا بقصد القربة إلى الله عز وجل وإن كانت واجبة. وبمفهومه: أن من (13) لم يقصد القربة لم يؤجر على شيء منها. =(4/545)=@ &(4/437)&$
__________
(1) الآية (6) من سورة التوبة.
(2) في (ح): ((نفَّذه)).
(3) في (ك): «أو أمض الثلث».
(4) في (ك): «لا يجوز لا الربع».
(5) قوله: «في ذلك» سقط من (ك).
(6) قوله: «في» سقط من (أ).
(7) في (ح): ((خبر)) بدل ((خير)).
(8) في (أ): ((المذكورة)).
(9) قوله: ((خبر)) سقط من (أ).
(10) في (أ): ((فهم)).
(11) في (ح): «ويصح».
(12) في (ح): «فيها».
(13) قوله: «من» سقط من (ح).(4/437)
والمعنيان صحيحان. يبقى أن يقال: فهل إذا أنفق نفقةً واجبةً على الزوجة، أو الولد الفقير، ولم يقصد التقرب؛ هل تبرأ ذمته، أم لا؟ فالجواب: أنها تبرأ ذمته من المطالبة؛ لأن وجوب النفقة من العبادات المعقولة المعنى، فتجري (1) بغير نيَّة، كالدِّيون، وأداء الأمانات، وغيرها من العبادات (2) المصلحية، لكن إذا لم ينو لم يحصل له أجر. وقد قرَّرنا هذا في أصول الفقه. ويفهم منه بحكم عمومه: أن من أنفق نفقة مباحة، وصحَّت له فيها (3) نيَّةُ التَّقرب (4) أثيب عليها، كمن يطعم ولده لذيذ الأطعمة ولطيفها ليردَّ شهوته، ويمنعه من التشوُّف لما يراه بيد الغير من ذلك النوع، وليرق (5) طبعه، فيحسن فهمه، ويقوى حفظه، إلى غير ذلك مما يقصده الفضلاء.
وقوله: «حتى اللقمة تضعها في فِيِّ امرأتك»؛ يجوز في «اللقمة» النصب على عطفها على «نفقة». وأظهر من ذلك أن تنصبها (6) بإضمار فعل؛ لأن الفعل قد اشتغل عنها بضميره. وهذا كقول العرب: أكلتُ السمكةَ حتى رأسها أكلته. وقد أجاز (7) في «رأسها» الرفع، والنصب، والجر، وأوضح هذه الأوجه: النصب. وأبعدها الخفض. وكل ذلك جائز في «حتى اللقمة» ها هنا (8) فَنَزِّلْهُ عليه. والذي به قرأت هذا الحرف: النصب لا غير. وإنما خصَّ الزوجة بالذِّكر لأن نفقتها دائمة، تعودُ منفعتُها إلى المنفق، فإنها (9) تحسنها في بدنها، ولباسها، وغير ذلك. فالغالب من الناس: أنه ينفق على زوجته لقضاء وطره، وتحصيل شهوته، وليس كذلك النفقة على الأبوين، فإنها تخرج بمحض الكلفة، والمشقة غالبًا، فكانت نية التقرُّب فيها أقرب وأظهر. والنفقة على الولد فيها شبه من نفقة الزوجة، ومن نفقة الأبوين، من حيث المحبة الطبيعية، والكلفة الوجودية. =(4/546)=@
وإنما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد هذا الكلام في هذا الموطن تنبيها على الفوائد التي تحصلُ بسبب المال، فإنه إن مات أُثيب (10) على ترك ورثته أغنياء من حيث؛ أنه وصل رحمهم، وأعاضم بماله على طاعة الله تعالى، كما قال: «إنك (11) أن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة»؛ أي: ذلك أفضل من صدقتك بمالك، وإن لم تمت حصل لك أجر النفقات الواجبة والمندوب إليها. ويخرج من هذا الحديث: أن كسب المال وصرفه على (12) هذه (13) الوجوه أفضل من ترك الكسب، أو &(4/438)&$
__________
(1) في (ف): ((فتجزى)).
(2) في (ح): ((العادات)).
(3) في (ك): «فيه».
(4) في (ح): «القربة».
(5) في (ح): «ويرق».
(6) في (ف): ((ينصبها)).
(7) في (أ) و(ح) و(ف) و(ك): ((أجازوا)).
(8) في (أ): «هذا» بدل: «هاهنا».
(9) في (أ): ((وإنها)).
(10) في (أ): ((إن ما أثيب)).
(11) قوله: «إنك» سقط من (ح).
(12) في (ف): ((في)) بدل: ((على)).
(13) في (أ): ((هذا)).(4/438)
من الخروج عنه جملة واحدة. وكل هذا: إذا كان الكسب (1) من الحلال الخلي عن (2) الشبهات؛ الذي قد تعذر الوصول إليه في هذه الأوقات.
وقوله: «أَأُخلَّفُ بعد أصحابي؟» هذا الاستفهام إنما صدر عن سعد مخافة أن يكون مقامه بمكة بعد أصحابه إلى أن يموت بها قادحًا في هجرته، كما قد نصَّ عليه في الرواية الأخرى؛ إذ قال فيها (3) : «لقد خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها» (4) . فاجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يقتضي: أن ذلك لا يكون، وأنه يطول عمره إلى أن ينتفع به قومٌ، ويستضرُّ به آخرون. وقد كان ذلك. فإنه عاش بعد ذلك نيفًا وأربعين سنة، وولي بالعراق أميرًا، وفتحها الله تعالى على يديه (5) ، وأسلم (6) على يديه بشرٌ كثير، فانتفعوا به، وقتل وأسر من الكفار خلقًا كثيرًا، فاستضروا به، فكان ذلك القول من أعلام نبوَّته، وأدلَّة صدق رسالته.
وقوله: «اللهم ! أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم»؛ يقتضي أن تبقى عليهم حال هجرتهم وأحكامها. ويفيد: أن استصحاب أحكامها كان واجبًا على من هاجر، فيحرم عليه الرجوع إلى وطنه، وترك المدينة إلى أن =(4/547)=@ يموت بها، وان كان قد ارتفع حكم وجوب أصلها عمن لم يهاجر يوم الفتح، حيث قال: «لا هجرة بعد الفتح» (7) ، وقال: «إن الهجرة قد مضت لأهلها» (8) ؛ أى: من كان هاجر قبل الفتح صحَّت له هجرته، ولزمه البقاء عليها إلى الموت. ومن لم يكن هاجر سقط ذلك عنه. ومن نقض الهجرة خاف المهاجرون، حيث تحرَّجوا من مقامهم بمكة في حجة الوداع. وهذا هو الذي خاف منه (9) سعد. فإن &(4/439)&$
__________
(1) من قوله: «أو من الخروج....» إلى هنا سقط من (أ).
(2) في (ح): «من».
(3) في (ح): «إذ فيها قال».
(4) "صحيح مسلم" (1628).
(5) قوله: «وفتحها الله تعالى على يديه» سقط من (أ)، وفي (ك): «وفتح الله تعالى على يديه».
(6) في (ح): «فأسلم».
(7) ...
(8) ...
(9) قوله: ((منه)) سقط من (ح).(4/439)
قضيته هذه كانت في حجَّة الوداع. وهذا هو الذى نقمه الحجَّاجُ على ابن الأكوع (1) لما ترك (2) المدينة ولزم الربذة فقال: تغربت (3) يا ابن الأكوع (4) ؟! فأجابه: بأن قال له (5) : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن لي في البدو. وهذا (6) هو الظاهر من جملة ما ذكرناه من هذه الأحاديث. وبه قال بعض أهل العلم. وهو الذي يدلُّ عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - : «لكن البائسُ سعدُ بن خولة»؛ رثى له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن توفي بمكة، وسيأتي الكلام عليه.
وقال آخرون: إن وجوب الهجرة؛ وجووب استدامة حكمها؛ قد ارتفع يوم الفتح، وإنما لزم المهاجرون المقام بالمدينة بعد الهجرة في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنصرته، ولأخذ (7) (8) شريعته، ومشافهته، وللكون (9) معه اغتنامًا لبركته. ثم لما مات: فمنهم من أقام بالمدينة، وأكثرهم ارتحل عنها. ولما فتحت الأمصار استوطنوها، وتركوا سكنى (10) المدينة. فاستوطن الشام قوم منهم، واستوطن آخرون العراق (11) ، وآخرون مصر. =(4/548)=@
وتأؤل أهل هذا القول ما تقدَّم: بأن ذلك إنما كان منهم مخافة أن تنقص أجورهم في هجرتهم متى زالوا عن شيء من أحكامها، فدعا لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بألا يُنْقِصَهم شيئًا من ذلك. وللأولين أن ينفصلوا عن هذا، بأن يقولوا: إنما استوطنوا تلك الأمصار للجهاد وفتح البلاد، وإظهار الدين، ونشر العلم، حتى أنفذوا في ذلك أعمارهم، ولما يقضوا (12) من ذلك أوطارهم.
وقوله: «لكن (13) البائس سعد بن خولة»؛ البائس: اسم فاعل من بئس، يبأس: إذا أصابه بؤسٌ، وهو الضرر (14) . وسعد بن خولة: هو زوج سبيعة الأسلمية، وهو رجل من بني عامر بن لؤي، من أنفسهم. وقيل: حليفٌ لهم. وقيل: إنه مولى أبي رُهْم بن عبدالعزى العامري (15) .
واختلف في أمره؛ فقال ابن مزين، وعيسى بن دينار: إنه لم يهاجر من مكة حتى مات فيها. والأكثر على أنَّه هاجر ثم رجع إلى مكة مختارًا. وعلى هذين القولين يكون بؤسُه ذمًّا له؛ إما لعدم هجرته، وإما لسقوطها &(4/440)&$
__________
(1) في (ح) و(ف) و(ك): «أبي ذر»، وعلى هامش (ك) تعليق لم يتضح أثبتناه من المفهم (4/548)، ونصه: «بخط ابن فرح على نسخته صوابه في سلمة بن الأكوع، وقد ذكره الشيخ في الصواب فيما تقدم في باب: لا هجرة بعد الفتح وأما أبو ذر فلم يدركه الحجاج فإن أبا ذر مات سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان، والحجاج قد تولى لعبدالملك جيشه في السبعين فتأمله تجده سبق خاطر وقلم».
(2) في (ح) و(ك): «نزل».
(3) في (ك): «تعربت».
(4) في (ح) و(ك): «يا أبا ذر».
(5) قوله: ((له)) سقط من (ح).
(6) في (أ): ((هذا)) بلا واو.
(7) في (ك): ((وأخذ)).
(8) ..
(9) في (أ) و(ف): ((والكون)).
(10) في (ك): «سكن».
(11) في (أ) ((وآخرون العرق وآخرون العراق)).
(12) في (ف): ((نقضوا)).
(13) في (ك) و(ح): ((ولكن)).
(14) في (ح): «الضر».
(15) من قوله: «وهو رجل من بني عامر....» إلى هنا سقط من (أ).(4/440)
** كذا في (أ) ** (1) برجوعه عنها. وقال ابن هشام: إنَّه هاجر الهجرة (2) إلى الحبشة، والهجرة الثانية، وشهد بدرًا، وغيرها، وتوفي بمكة في حجة الوداع. وعلى هذا فلا يكون بؤسه (3) ذمًّا له، بل توجُّعًا له (4) ورحمة؛ إذ كان منه: أنه هاجر الهجرتين، ثم إنَّه مات بعد ذلك بمكة، فيكون إشعارًا بما قدَّمناه من نقص ثواب من اتفق له ذلك. ومن ذلك تحرَّج سعد، والمهاجرون. والله تعالى أعلم.
وظاهر هذا القول: أنه من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولذلك قال المحدِّثون: انتهى كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «لكن البائس سعد بن خولة»، وأما قوله بعد ذلك: قال رثى (5) له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن توفي بمكة؛ =(4/549)=@ فظاهره: أنه من كلام غير (6) النبي - صلى الله عليه وسلم - . فقيل: هو قول سعد بن أبي وقاص. وقد جاء ذلك في بعض طرقه. وأكثر الناس على أنَّه من قول الزهري. والله تعالى أعلم.
وقد وقع في (7) بعض طرق هذا الحديث انقطاع في أصل كتاب مسلم. وهو من المواضع المنقطعة الأربعة عشر، لكن لا يضر ذلك إن صحَّ؛ لأنه قد رواه من طرق أخر متصلة.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «اللهم! اشف سعدًا - ثلاث مرارٍ (8) »؛ يدلُّ على (9) ندبية تطييب قلب المريض بالدعاء (10) ، وعلى إجابة دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنَّه أفاق، وعاش مدة طويلة، وفتح، وملك، كما قدَّمناه (11) .
وقوله: «إن لي مالاً كثيرًا»؛ دليل: على جواز الاستكثار من المال الحلال؛ لحصول الفوائد التي ذكرناها.
وقوله: «إنَّ صدقتك من مالك صدقة»؛ أي: مقبولة عند الله تعالى، حاصل لك ثوابها.
وقوله: «وإنَّ نفقتك على أهلك صدقة»؛ أي: يحصل لك عليها من الثواب مثل ما يحصل من ثواب الصَّدقة، واجبها كواجبها، ونفلها كنفلها. =(4/550)=@
وقوله: «بخير (12) »؛ أو : «بعيش» شك مِن الرَّاوي في هذه الرِّواية. والخير هنا: هو المال. وكذلك هو في أكثر مواضع القرآن. والعيش هنا: هو (13) ما يعاش به، وهو: المال. &(4/441)&$
__________
(1) في (ح) و(ك): «لفسخها» ** راجع الأصل فيه (لفسحها) بالحاء المهملة في (ح)**.
(2) قوله: ((الهجرة)) سقط من (أ) و(ف).
(3) قوله: ((بؤسه)) سقط من (أ).
(4) قوله: «له» سقط من (ك).
(5) في (ك): ((يرثي)).
(6) في (ح): ((غين)).
(7) في (ح): يشبه ((وفي)).
(8) في (أ) و(ب) و(ف) و(ك): «مرتين».
(9) قوله: ((على)) سقط من (ف).
(10) في (أ) و(ف): ((بالدعاء له)).
(11) في (أ) و(ف): ((كما قدمنا)).
(12) في (ك): «يحيا بخير».
(13) قوله: ((هو)) سقط من (ح).(4/441)
وقوله: «لو أن النَّاس غضوا من الثلث إلى الربع»، «لو (1) » هنا: حرف تمن بمعنى: ليت. وقد ذكرنا مواضعها في أول كتاب الإيمان.
و «غضوا» بالغين المعجمة؛ أي: نقصوا. وأصله من غضِّ العين. واختلف في المستحب من الوصية، فالجمهور: على أنَّه الثلث. وذهب بعضهم: إلى أن ذلك إنَّما يستحب لمن لا وارث له، وروي عن بعض السَّلف: النقص منه. فأوصى أبو بكر بالخمس (2) ، وقال: إن الله تعالى رضي من عباده به. ونحوه عن علي (3) . وأوصى عمر بالربع (4) . وهو ظاهر قول ابن عباس (5) . وبه قال إسحاق. وقال الحسن: السدس، أو الخمس، أو الربع. وقال النخعي: كانوا يكرهون الوصية بمثل نصيب أحد الورثة. واختار آخرون: العشر؛ لما قد روي في حديث سعدٍ (6) - إن صحَّ -؛ أنه قال: العشر. وروي عن عليّ (7) ، وابن عباس (8) ، وعائشة (9) ، وغيرهم: لِمَنْ ماله قليل، وله ورثة، ترك الوصية؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة».
وقوله: «الثلث، والثلث كثير - أو كبير -»؛ شكٌّ من الرَّاوي. والمعنى =(4/551)=@ فيهما واحد. والحاصل منهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استكثر الثلث، مع أنه أجازه أولاً بقوله. فينبغي أن ينقص منه شيءٌ له بالٌ، وهو غير محدود.
- - - - -
ومن باب الصدقة عمَّن لم يوص
قوله: «إن أبي مات وترك مالاً، ولم يوص فيه. فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟ قال: نعم»؛ ظاهر قوله : «فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه»: أنه علم أن أباه كان فرَّط في صدقات واجبة، فسأل: هل يجزيء عنه أن يقوم بها عنه؛ فأجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - : بـ«نعم». وعلى هذا فيكون فيه دليل على أن من قام عن آخر &(4/442)&$
__________
(1) في (أ): «أو».
(2) أخرجه عبدالرزاق (16364) عن الثوري، عمن سمع الحسن وأبا قلابة يقولان، فذكراه. وأخرجه الطبري (10/3) من طريق عبدالوارث عن أبان، عن الحسن، به. وأخرجه عبدالرزاق (16363) عن معمر، عن قتادة، عن أبي بكر، به.
وقتادة لم يسمع من أبي بكر، أخرجه البيهقي من طريق شيبان، عن قتادة قال: ذكر لنا أن أبا بكر، فذكره.
وأخرجه ابن سعد في (3/199) عن محمد بن حميد العبدي، عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال قال: أبو بكر.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (6/227)، وابن الجعد (2566) من طريق البيهقي (6/27) عن أبي إسحاق، عن الحارث الأعور، عن علي به.
والحارث الأعور ضعيف.
(4) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (3/357) عن عمرو بن عاصم الكلابي، ثنا همام بن يحيى، عن قتادة.
(5) وهو حديث الباب المتقدم.
(6) لم أقف عليه من حديث سعد، وأخرج الدارمي (3198) من طريق إسحاق بن سويد، عن العلاء بن زياد: أن رجلاً سأل عمر بن الخطاب فقال: إن وارثي كلالة، أفأوصي بالنصف؟ قال: لا، قال: فالثلث؟ قال: لا، قال: فالربع؟ قال: لا، قال: فالخمس؟ قال: لا، حتى صار إلى العشر، فقال: أوص بالعشر.
(7) أخرجه عبدالرزاق (16351)، ومن طريقه الطبري (2/121) عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن علي. وأخرجه (16352) عن الثوري، عن هشام، عن أبيه، به، نحوه.
(8) أخرجه عبدالرزاق (16353) عن ابن جريج، عن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس.
(9) أخرجه عبدالرزاق (16354) عن الثوري، عن منصور بن حنيفه، عن عبدالله بن عبيد بن عمير، عن عائشة، وفيه قصة.
وأخرجه عبدالرزاق (16355) عن ابن جريج، ثنا منصور بن عبدارحمن، عن أمه، عن عائشة به.(4/442)
بواجب مالي في الحياة، أو بعد الموت أجزأ عنه، وهذا مما تجوز النيابة فيه بالإجماع، وإنه مما يستحب، وخصوصًا في الآباء؛ فإنَّها مبالغة في برهم، والقيام بحقوقهم. وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : «من مات وعليه صيام صام عنه وليُّه إن شاء (1) »، وقد تقدم في كتاب الصوم (2) . وإذا كان هذا في الصيام؛ كان الحق المالي بذلك أولى. وقيل: إنَّما سأل: هل يُكفَّر (3) بذلك خطاياه؟ ولا ينبغي أن يُظَنَّ (4) بصحابي تفريط في زكاة واجبة إلى أن مات. فإن هذا بعيد في حقوقهم. فالأولى به أن يحمل على أنَّه سأل: هل لأبيه أجرٌ بذلك فيكفر عنه به، كما قال السائل (5) الآخر في حق أمه: أفلها أجر (6) ؟ ويحتمل أن يكون ذلك في الوقت الذي كانت فيه الوصية واجبة. =(4/552)=@
قلت: وهذا محتمل لا سبيلَ إلى دفعه.
وعلى القول الأول: فإذا علم الوارث أن مورثه (7) فرط في زكوات، أو واجبات (8) مالية، فقال الشافعي: واجب على الوارث إخراج ذلك من رأس المال، كالدِّيون (9) . وقال مالك: إن أوصى بذلك أخرج من الثلث. وإلا فلا. وقال بعض أصحابه: إذا (10) علم أنه لم يخرج الزكاة؛ أخرجت من رأس المال؛ وصى (11) بها، أو لم يوص، قاله أشهب. وهو الصحيح؛ لأن ذلك دَيْنُ الله. وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : «دين الله أحق بالقضاء» (12) ، أو نقول: هو من جملة ديون الآدميين؛ لأنه حق الفقراء، وهم موجودون، وليس للوارث حق إلا بعد إخراج الدين والوصايا.
وقوله: «إن أمّي افتُلِتَتْ نفسُها»؛ أي: ماتت فلتة؛ أي (13) : بغتة.
و «افتُلِتَت» تقييده: بضم التاء، وكسر اللام، مبنيًا لما لم يسم فاعله.
«نفسها» مرفوع؛ لأنه &(4/443)&$
__________
(1) في (ح): ((إن شاء الله)).
(2) باب...
(3) في (ف): ((تكفر)).
(4) في (ك): «ولا يظن».
(5) في (أ): ((في المسائل)).
(6) أخرجه مسلم (1630 و1004)
(7) في (أ) موروثه.
(8) في (أ): «زكوات واجبات».
(9) في (ح) و(ك): «كالدين».
(10) في (ك): «إن».
(11) في (ك): «أوصى».
(12) أخرجه البخاري (6699) كتاب الأيمان والنذور، ومسلم (1148).
(13) قوله: «فلتة أي» سقط من (ح) و(ك).(4/443)
مفعول لم يسم فاعله (1) . وقد روي بنصب «نفسها» على أن يضمر المفعول الذي لم يسم فاعله في «افتلتت» وبنصب (2) «نفسها» على المفعول الثاني.
وقوله: «وأظنُّها لو تكلمت تصدقت»؛ ظن ذلك بما علم من قصدها للخير، =(4/553)=@ وفعلها للمعروف. وقد روي: أن هذا السائل كان سعد ابن عبادة (3) «احتضرت أمه في غيبة سعد»، فقيل لها: أوصي! فقالت: إنما المال لسعد، فتوفيت قبل قدومه. فسأل سعد النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك.
وقوله: «فلها أجر؟»، وفي الرواية الأخرى: «فلي (4) أجر». لا تناقض بين الروايتين؛ لأنه يمكن أن يكون سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصيغتين، فأجابه (5) بمجموعهما، غير أنه حدَّث تارة بإحداهما (6) ، وتارة أخرى (7) بالأخرى، أو يكون من نقل بعض الرواة عنه. ومعنى الجمع بينهما صحيح؛ لأنها (8) يكون لها أجر (9) بما تصدَّق عنها، وله أجرٌ بما برَّها به، وأدخله عليها.
وقوله: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث (10) ...» الحديث، هذه الثلاثُ الخصال إنما جرى عملها بعد الموت على من نسبت (11) إليه؛ لأنه تسبب في ذلك، وحرص عليه، ونواه. ثم إن فوائدها متجددة (12) بعده دائمةٌ (13) ؛ فصار كأنَّه باشرها بالفعل، وكذلك حكم (14) كل ما سفه الإنسان من الخير، فتكرر بعده؛ بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - : «من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها، وأجر من عمل بها إلى =(4/554)=@ يوم القيامة» (15) . وقد تقدَّم الكلام على هذا الحديث في كتاب الزكاة (16) . وإنما خصَّ هذه الثلاثة (17) بالذكر في هذا الحديث، لأنَّها أصول الخير، وأغلب ما يقصد أهل الفضل بقاءه بعدهم. والصدقة الجارية بعد الموت هي: الْحُبُس، فكان حجَّة على من ينكر &(4/444)&$
__________
(1) من قوله: «نفسها مرفوع....» إلى هنا سقط من (ك).
(2) في (ف): ((وينصب)).
(3) في (ح) و(ك) و(ف): «سعد بن أبي وقاص».
والحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" (2761) كتاب الوصايا: أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ...، فذكره.
(4) في (ح): ((أفلي)).
(5) في (أ) و(ف): «يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أجابه».
(6) في (أ) و(ف): «بأحدهما».
(7) قوله: «أخرى» سقط من (ح) و(ك).
(8) في (ح): «لأنهما»، وفي (ك): «لأنه».
(9) في (ف): ((أخر))
(10) في (ح) و(ك): «ثلاثة».
(11) في (ف): ((نسبه)).
(12) في (أ): «متجدد»، وفي (ح) و(ف): «تتجدد».
(13) في (ف): ((دائمًا)).
(14) في (ح): «في حكم».
(15) أخرجه مسلم (1017) وهو في "التلخيص" برقم (884)، (2609).
(16) باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار.
(17) في (أ): ((الثلاث)).(4/444)
الْحُبُس (1) .
وفيه ما يدل على الحضِّ على تخليد العلوم الدينية بالتعليم والتصنيف، وعلى الاجتهاد في (2) حمل الأولاد على طرق الخير والصلاح، ووصيتهم بالدعاء (3) عند موته (4) .
- - - - -
3 - ومن باب ما أوصى به النبي - صلى الله عليه وسلم -
قول طلحة لابن أبي أوفى: «هل أوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - »؛ ظاهره: أنه سأله (5) : هل كانت من النبي - صلى الله عليه وسلم - وصيَّةٌ بشيء من الأشياء؛ لأنه لو أراد شيئًا واحدًا لعيَّنه، =(4/555)=@ فلمَّا لم يقيِّده بقي على إطلاقه. فأجابه بنفي ذلك. فلمَّا سمع طلحة هذا النفي العام قال مستبعدًا: كيف كتب على المسلمين الوصية؟ ومعناه: كيف ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الوصية، والله تعالى قد كتبها على الناس؟! وهذا يدل: على أن طلحة، وابن أبي أوفى كانا يعتقدان أن (6) الوصية واجبة على النَّاس (7) ، وأن ذلك الحكم لم ينسخ. وفيه بُعد.
ثم: إن ابن أبي أوفى غفل عمَّا أوصى به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهي وصايا كثيرة؛ فمنها: أنه قال: «لا يقتسم (8) ورثتي دينارًا ولا درهمًا» (9) ، و «لا (10) نورث ما تركنا صدقة» (11) ، وقال عند موته: «لا يبقين دينان بجزيرة العرب (12) . وأخرجوا المشركين (13) منها. وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت &(4/445)&$
__________
(1) في (ك): ((هي الحبس)).
(2) في (ح): «على».
(3) في (ح) و(ك) و(ف): «بالدعاء له».
(4) في (ك): «بعد الموت»، وكتب فوقها: «عند موته»، وبجوارها "خ" إشارة إلى نسخة أخرى.
(5) قوله: ((سأله)) سقط من (ك).
(6) قوله: «أن» سقط من (أ).
(7) في (ح): «كل الناس».
(8) في (أ) و(ف): «يقسم».
(9) سيأتي في باب من ترك مالاً فلورثته.
(10) في (ك) و(ف): «ولا».
(11) سيأتي في باب من ترك مالاً فلورثته، وأخرجه البخاري (6730).
(12) أخرجه أحمد (6/274)، والطبراني في "الأوسط" (1066) من طريق محمد بن إسحاق، ثنا صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، عن عائشة. قال الهيثمي (5/325) رجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع.اهـ.
وأخرجه مالك (1584) عن الزهري مرسلاً. وهو في "صحيح مسلم (1637) من حديث ابن عباس، بلفظ: «أوصيكم بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم»، ونسي الراوي الثالثة. وهو اللفظ الأخير الذي ذكره المصنِّف رحمه الله.
(13) في (ح): «المساكين».(4/445)
أجيزهم». وكان من آخر (1) ما وصَّى به - وهو ما يفيض (2) - أن قال (3) : «الصلاة وما ملكت أيمانكم» (4) ، وهذه كلها وصايا منه؛ ذهل ابن أبي أوفى عنها (5) . وذكر ابن إسحاق: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى عند موته لجماعة من قبائل العرب بجِدَاد أوساقٍ من تمر سهمه (6) بخيبر. ذكره في "السيرة" (7) . ولم يذكر ابن أبي أوفى من جملة ما وصَّى (8) به النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا كتابَ الله، إمَّا ذهولاً، وإما اقتصارًا =(4/556)=@ عليه؛ لأنه أعظمُ وأهمُّ من كل ما وصَّى به. وأيضًا: فإذا استوصى النَّاس بكتاب الله، فعملوا به قاموا بكل ما أوصى به. والله تعالى أعلم.
وأما قول عائشة رضي الله عنها: «ما أوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء»؛ فإنَّها أرادت في شيء من أمر الخلافة، بدليل الحديث المذكور.
ثانيا: إنهم لما ذكروا: أن عليًّا كان وصيًّا قالت: ومتى أوصى إليه؟ وذكرت الحديث. وقد أكثرَ الشِّيعةُ والرَّوافض من الأحاديث الباطلة الكاذبة، واخترعوا نصوصًا على استخلاف النبي - صلى الله عليه وسلم - عليًّا، وادعوا أنَّها تواترت عندهم. وهذا كلُّه كذبٌ مركبٌ. ولو كان شيء من ذلك صحيحًا، أو معروفًا عند الصحابة رضي الله عنهم يوم السَّقيفة لذكروه، ولرجعوا إليه. ولذكره عليٌّ رضي الله عنه مُحتجًّا لنفسه، ولما حل أن يسكت عن مثل ذلك بوجه، فإنَّه حق الله تعالى، وحق نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - ، وحق (9) المسلمين. ثم ما يعلم من عظيم علم عليّ رضي الله عنه، وصلابته في الدين، وشجاعته يقتضي: ألا يتَّقي أحدًا في دين الله عز وجل، كما لم يتِّق معاويةَ، وأهل الشام حين خالفوه، ثم: إنه لما قُتِل عثمان رضي الله عنه ولَّى المسلمون باجتهادهم عليًّا رضي الله عنه. ولم يذكر هو، ولا أحدٌ منهم نصًّا في ذلك. فعُلم قطعًا كذب من ادعاه. وما التوفيق إلا من عند الله.
وقولها: «ولقد انخنث في حجري»؛ انخنث: مال؛ تعني: حين مات. &(4/446)&$
__________
(1) في (ح) و(ك): «أجيزهم وآخر».
(2) كتب فوقها في (ف): ((يبن)).
(3) قوله: ((أن قال)) سقط من (أ).
(4) أخرجه أحمد (585)، والبخاري في"الأدب المفرد" (158)، وأبو داود (5156)، وابن ماجه (2698)، وأبو يعلى (596) كلُّهم من طريق محمد بن فضيل، ثنا المغيرة، عن أم موسى، عن علي رضي الله عنه. ورجاله ثقات، وأم موسى هذه سُرِّية عليّ واسمها فاختة، وقيل: حبيبة، وثقها العجلي. وقال الدارقطني: «حديثها مستقيم».
وأخرجه ابن ماجه (1625) من طريق قتادة عن صالح أبي الخليل، عن سفينة، عن أم سلمة به مرفوعًا. وأخرجه أيضًا (2697) من طريق قتادة، عن أنس قال: كانت عامة وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - حين حضرته الوفاة، وهو يغرغر بنفسه: «الصلاة وما ملكت أيمانكم».
(5) في (ك): «ذهل عنها ابن أبي أوفى».
(6) في (أ): يشبه أن تكون ((بسهمه)).
(7) "السيرة النبوية" (4/325) قال ابن إسحاق: حدثني صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود قال: لم يوص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند موته إلا بثلاث؛ أوصى للرهاويين بحاد مئة وسق من خيبر، وللداريين بحاد مئة وسق من خيبر، وللسبائيين وللأشعريين بحاد مئة وسق من خيبر، وأوصى بتنفيذ بعث أسامة بن زيد بن حارثة، وألا يترك بجزيرة العرب دينان.
(8) في (ح): «أوصى».
(9) في (أ) و(ح) و(ف) و(ك): ((وحقه وحق المسلمين)).(4/446)
والمخنَّث من الرجال: هو الذي يميل ويتثنى تشبُّهًا (1) بالنساء. واختناث (2) السقاء: هو =(4/557)=@ إمالةُ فمه بعضه على بعض وتليينه ليُشربَ منه. والْحَجْر هنا: هو (3) حَجْر الثوب. وفصيحه بفتح الحاء، ويقال بكسرها. فأمَّا الْحَجْر على السَّفيه: فهو بالفتح لا غير، وهو بمعنى: المنع. فأما (4) الْحِجْر -بالكسر - فهو: العقل (5) . ومنه قوله تعالى: {لِذِي حِجْرٍ} (6) ، والحرام، ومنه قوله تعالى (7) : {حِجْرًا محجُورًا} (8) .
وقوله: «يوم الخميس ! وما يوم الخميس ؟!» تعظيم، وتفخيم لذلك اليوم على جهة التفجع على ما فاتهم في ذلك من كتب كتاب لا يكون معه ضلالٌ. وهو حقيقٌ بأكثر من ذلك التفجُّع. وهذا نحو قوله تعالى : {الحآقَّة - ما الحآقَّة} (9) ، و {القارعة - ما القارعة} (10) . وهذا المعنى الذى همَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكتابته يحتمل أن يكون تفصيل أمور مهمَّةٍ، وقعت في الشريعة جملية، فأراد تعيينها. ويحتمل أن يريد به بيان ما يرجعون إليه عند وقوع الفتن، ومن أولى بالاتباع والمبايعة (11) . ويحتمل أن يريد به بيان أمر الخلافة، وتعيين الخليفة بعده، وهذا أقربها. والله تعالى أعلم (12) .
وقوله: «ائتوني أكتب لكم كتابًا لا تضلون بعده»؛ لا شك في أن «ائتوني» أمرٌ وطلبٌ توجَّه لكل من حضر، فكان حق كل من حضر (13) المبادرةُ للامتثال، لا سيما وقد قرنه بقوله: «لا تضلُّون بعده»، لكن ظهر لعمر رضي الله عنه ولطائفة معه: أن هذا الأمر =(4/588)=@ ليس على الوجوب، وأنَّه من باب الإرشاد إلى الأصلح (14) مع أن ما في كتاب الله تعالى يرشد إلى كل شيء، كما قال تعالى : {تبيانًا لكل شيء} (15) ، ومع ما كان فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوجع، فكره أن يتكلَّف من ذلك ما يشق ويثقل عليه، فظهر لهم: أن الأوَّلى ألا يكتب، وأرادت الطائفة الأخرى: أن يكتب، متمسِّكة بظاهر الأمر، واغتنامًا لزيادة الإيضاح، ورفع الإشكال. فيا ليتَ ذلك لو وقع وحصلَ ! ولكن قدَّر الله، وما شاءَ فعل. ومع ذلك: فلا عتب، ولا لوم &(4/447)&$
__________
(1) في (أ): «شبيهًا».
(2) في (أ): ((واختنات)).
(3) في (أ): ((هي)).
(4) في (أ): ((القفل)).
(5) في (ف): ((وأما)).
(6) الآية (5) من سورة الفجر.
(7) قوله: «لذي حجر والحرام ومنه قوله تعالى» سقط من (ح).
(8) الآية (22) من سورة الفرقان.
(9) الآية (1-2) من سورة الحاقة.
(10) الآية (1-2) من سورة القارعة.
(11) في (أ): ((والمبالغة)). وفي (ف): ((المبايعة)).
(12) قوله: ((والله تعالى أعلم)) ليس في (ك).
(13) قوله: «فكان حق كل من حضر» سقط من (أ).
(14) في (ح): ((إلى الأولى أي الأصلح)).
(15) الآية (89) من سورة النحل.(4/447)
على الطائفة الأولى؛ إذ لم يعنفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا ذمَّهم، بل قال للجميع: «دعوني فالذي (1) أنا فيه خير». وهذا نحو مِمَّا جرى لهم حيث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب: «لا يصلين أحدٌ العصر إلا في بني قريظة» (2) . فتخوَّف ناسٌ فوت الوقت، فصلُّوا دون بني قريظة. وقال آخرون: لا نصلِّي إلا حيث أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإن فاتنا الوقت. قال: فما عنف واحدًا من الفريقين. وسبب ذلك: أن ذلك كله إنَّما حمل عليه الاجتهاد المسوَّغ، والقصد الصالح. وكل مجتهد مصيب، أو أحدهما مصيب، والآخر غير مأثوم، بل مأجور، كما قررناه (3) في الأصول.
وقوله: «وما ينبغي عند نبيٍّ تنازع»؛ أي: اختلاف. هذا إشعار بأن الأولى المبادرة إلى امتثال أمر النبي (4) - صلى الله عليه وسلم - ، وأن لا (5) يتوقف في شيء منه إذا فهم مقصوده، ولم يُشكل منه شيء، كيف لا؟! وهو المبلِّغ عن الله تعالى أحكامه، ومصالح الدنيا والدين.
وقوله: «أهجرَ؟ استفهموه»؛ كذا الرِّواية الصحيحة في هذا الحرف «أهَجَرَ؟» بهمزة الاستفهام. و «هَجَرَ» بالفتح بغير تنوين على أنَّه: فعل ماض. وقد رواه بعضهم: «أهُجُرًا (6) » بفتح الهمزة، وبضم (7) الهاء (8) ، وتنوين الراء، على أن يجعله مفعولاً =(4/559)=@ بفعل مضمر؛ أي: أقال (9) هُجْرًا. وقد روي في غير "الأم" (10) : «هَجَرَ» بلا استفهام. والهجر (11) : يراد به هذيان المريض، وهو: الكلام الذي لا ينتظم، ولا يعتد به لعدم فائدته. ووقوع مثل هذا من النبي - صلى الله عليه وسلم - في حال مرضه، أو صحته محال &(4/448)&$
__________
(1) في (أ): «والذي».
(2) أخرجه البخاري في "صحيحه" (946) كتاب الخوف، وفي المغازي (4119)، ومسلم في "صحيحه" (1770).
(3) في (أ): ((كما قد قررناه)).
(4) في (ح): ((رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )).
(5) في (أ): «ولا» بدل «وأن لا».
(6) في (ح): «أهجر».
(7) في (ح): «وضم».
(8) في (أ) و(ف): «أهجرًا بضم الهمزةو الهاء».
(9) في (ح): ((قال)) بدل ((أقال)).
(10) هي رواية البخاري في "صحيحه" (3053) كتاب الجهاد. قال ابن حجر: «أهجر - بهمزة لجميع رواة البخاري، وفي الرواية التي في الجهاد بلفظ: فقالوا: هجر بغير همزة، ووقع للكشمهيني هناك: فقالوا: هجر هجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعادة هجر مرتين.
(11) في (أ) و(ف): ((والهجر: هنا يراد)).(4/448)
لأن الله تعالى حفظه من حين بعثه إلى حين قبضه (1) عمَّا يُخِلّ بالتبليغ. ألا تسمع قوله تعالى: {وماينطق عن الهوى - إن هو إلا وحي يوحى} (2) ، وقوله تعالى : {إنا نحن (3) نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (4) . وقد شهد له بأنه على صراط مستقيم، وأنه على الحق المبين، إلى غير ذلك. ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : «خذوا عني في الغضب والرضا، فإني لا أقول على الله إلا حقًّا» (5) . ولمَّا علم أصحابه هذا: كانوا يأخذون عنه ما يقوله في كل حالاته، حتَّى في هذه الحالة (6) ، فإنهم تلقَّوا عنه، وقبلوا منه (7) جميع ما وصَّى به عند موته، وعملوا على قوله: «لا نورث»، ولقوله (8) : «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب»، و «أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم (9) »، إلى غير ذلك. ولم يتوقفوا، ولا شكُّوا في شيء منه. وعلى هذا: يستحيل (10) أن يكون قولهم (11) : أَهَجَرَ، لشكٍّ عرض لهم في صحة قوله زمن مرضه، وإنَّما كان ذلك من بعضهم على جهة الإنكار على من توقف في إحضار الكتف والدواة، وتلكَّأ عنه، فكأنه يقول لمن توقف: كيف تتوقف (12) ، أتظن: أنه قال هذيانًا (13) ؟ فدع التوقف وقرِّب الكتفَ، فإنه إنما يقول الحق، لا الْهَجَرَ. وهذا (14) أحسنُ ما يحمل ذلك عليه. فلو قدَّرنا: أن أحدًا منهم قال ذلك عن شكٍّ عرض له في صحَّة قوله؛ كان خطأ منه. وبعيدٌ أن يقرَّه على ذلك القول من كان هناك ممن سمعه من خيار الصحابة، وكبرائهم، وفضلائهم. هذا (15) تقديرٌ بعيدٌ، ورأيٌّ غير سديد. ويحتمل: أن يكون هذا صدَرَ (16) عن قائله عن دهشٍ وحيرةٍ أصابه (17) في ذلك المقام العظيم، والمصاب =(4/560)=@ الجسيم، كما قد أصاب (18) عمر وغيره عند موته (19) .
وقوله: «أوصيكم بثلاث»؛ نصٌّ في (20) أنه أوصى عند موته. وهو مخصِّصٌ لقول مَنْ قال: إنه - صلى الله عليه وسلم - لم يوص بشيء. وقدتقدَّم ذلك.
وقوله: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب»؛ يعني بالمشركين: &(4/449)&$
__________
(1) كتب ناسخ (ف) فوق قوله: ((حين – بعثه – حين – قبضه)) كلمة معًا.
(2) الآية (3-4) من سورة النجم.
(3) قوله: (نحن)) ليس في (ف).
(4) الآية (9) من سورة الحجر.
(5) أخرجه أحمد في "المسند" (6510)، وابن أبي شيبة (9/49)، والدارمي (1/125)، وأبو داود (3646)، كلهم من طريق الوليد بن عبدالله العبدري، عن يوسف بن ماهك، عن عبدالله بن عمرو به. وإسناده صحيح.
(6) في (أ) و(ف): ((المال)).
(7) قوله: «منه» سقط من (ك).
(8) في (ح) و(ف): «كقوله»، وفي (ك): «وقوله».
(9) في (ف): ((أجيزه)).
(10) في (ح) و(ك) و(ف): «فيستحيل».
(11) قوله: «قولهم» سقط من (أ).
(12) قوله: «كيف تتوقف» سقط من (ح).
(13) في (أ): ((هذبًا)).
(14) في (أ): «هذا».
(15) في (ف): ((وهذا)).
(16) في (أ): «صدر هذا».
(17) في (ح): «أصابته».
(18) في (ف): ((أصابه)).
(19) إشارة إلى ما أخرجه البخاري (3667) عندما قال عمر رضي الله عنه: والله ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث.
(20) قوله: «في» سقط من (ك).(4/449)
اليهود؛ لأنه ما كان بقي مشرك في أرض العرب في ذلك الوقت غيرهم، فتعيَّنوا، وقد جاء في بعض طرقه: «أخرجوا اليهود من جزيرة العرب» (1) ؛ مفسّرًا.
والجزيرة: فعيلة بمعنى: مفعولة. وهي مأخوذة من الجزر، وهو: القطع. ومنه: الجزار، والجزارة (2) من الغنم، والجزور من الإبل؛ وكل (3) ذلك راجع إلى القطع. وسُميَّت أرض العرب بالجزيرة لانقطاعها بإحاطة البحار بها والحرار (4) . وأضيفت إلى العرب لاختصاصهم بها، ولكونهم فيها ومنها.
واختلف في حدِّها، فقال الأصمعي: هي ما بين أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول، وفي العرض: من جدِّة وما والاها إلى أطراف (5) الشام. وقال أبو عبيد: هي ما بين حفر أبي موسى الأشعري إلى أقصى اليمن، وما بين رمل يَبْرِين (6) إلى منقطع السَّماوة (7) . وقال المخزومي عن مالك: هي مكة، والمدينة، واليمامة، واليمن. وحكى الهروي عنه: المدينة. والأول: المعروف (8) عنه. فقال مالك: يخرج من هذه المواضع التي ذكر المخزومي كل من كان على غير دين (9) الإسلام، ولا يمنعون من التردُّد بها مسافرين، وكذلك قال الشافعي، غير أنه استثنى من ذلك اليمن، ويضرب لهم (10) أجل ثلاثة أيَّام، كما ضربه لهم عمر رضي الله عنه حين أجلاهم (11) . وقال الشافعي: ولا يدفنون فيها (12) موتاهم، ويلجؤون إلى الدَّفن بغيرها. وقد رأى (13) الطبري: أن هذا الحكم ليس خاصًّا بجزيرة العرب؛ فقال: الواجب على كل إمام إخراجهم من كل مصر غلب عليه المسلمون إذا لم يكن من بلادهم التي صولحوا عليها، إلا أن تدعو ضرورة لبقائهم (14) بها لعمارتها. فإذا (15) كان ذلك؛ فلا يدعهم في مصر مع المسلمين أكثر من =(4/561)=@ ثلاث، وليسكنهم خارجًا عنهم، ويمنعهم اتخاذ المساكن في أمصار المسلمين، فإن اتخذوها باعها عليهم، واستدل على ذلك بما رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله: «لا تبقى قبلتان بأرض (16) » (17) ، وبقول ابن عبَّاس: لا يساكنكم (18) أهل الكتاب في أمصاركم (19) . وبإخراج علي رضي الله عنه أهل الذِّمَّة من الكوفة إلى الحيرة. قال: وإنما خصَّ في الحديث جزيرة العرب؛ لأنه لم يكن يومئذ للإسلام ظهور إلا بها. &(4/450)&$
__________
(1) أكثر الروايات بلفظ: «أخرجوا المشركين». قال الحافظ في "الفتح" (6/271): «ووقع في رواية الجرجاني: أخرجوا اليهود، والأول أثبت».
(2) في (ك): «والجزرة».
(3) في (ك): «كل» بلا واو.
(4) قوله: «والحرار» سقط من (أ) و(ف)، وفي (ح): «الجزار».
(5) كتب ناسخ (ف) في الهامش ((أضرار)).
(6) يبرين: اسم قرية كثيرة النخل والعيون العذبة بحذاء الإحساء بالبحرين. "معجم البلدان" (1/71).
(7) في (ف): ((الساوة)).
(8) في أصل (ك): ((أعرف)) وألحق بالهامش ((المعروف)).
(9) قوله: «دين» سقط من (أ) و(ح) و(ف).
(10) في (أ) و(ح): «له» و(ك).
(11) أخرجه عبدالرزاق (9984) من طريق معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، فذكر حديث: «لا يجتمع بأرض العرب دينان»، مرسلاً، ثم قال: قال الزهري: وكان عمر لا يترك أهل الذِّمة أن يقيموا بالمدينة فوق ثلاثة أيام إذا أرادوا أن يبيعوا طعامًا.
(12) في (أ): «بها».
(13) في (ح) و(ك): «روى».
(14) في (ح): «إلى بقائهم»، وفي (ك): «إلى مقامهم».
(15) في (أ): «فإن».
(16) في (ح) و(ك): «بأرض العرب».
(17) أخرجه ابن أبي شيبة (2/416)، وأحمد (1949 و2576 و2577)، وأبو داود (3032 و3053)، والترمذي(633 و634)، وابن الجارود(1107)، والطحاوي في "المشكل" (4/16)، والدارقطني (4/156-157)، والبيهقي (9/199) من طرق عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس به مرفوعًا.
وقابوس: وثقة ابن معين في رواية، ويعقوب بن سفيان، والأكثر على تضعيفه.
وقال ابن أبي حاتم (1/314): قال ابي رواه زهير عن قابوس، عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره. «قال أبي: هذا من قابوس لم يكن قابوس بالقوي، فيحتمل أن يكون مرة قال هكذا ومرة قال هكذا».اهـ.
(18) في (ح): ((مساكنكم)).
(19) أخرجه عبدالرزاق (9995 و19374)، وابن أبي شيبة (6/438) من طريق ليث، عن طاووس، عن ابن عباس، به.(4/450)
قلت: وتخصيص الحكم بجزيرة العرب هو قولُ المتقدمين والسلف الماضين، فلا (1) يُعْدَلُ عنه. ولم يعرِّج أبو حنيفة على هذا الحديث، فأجاز (2) استيطان المشركين بالجزيرة، ومخالفة مثل هذا جريرة.
وقوله: «وأجيزوا الوفد بنحو (3) ما كنت أجيزهم»؛ الوفد: جمع وافد، كصحب، وصاحب. وركب، وراكب. وجمع الوفد: أوفاد، ووفود. والوفادة: الاسم، وهو: القادم (4) على القوم، والرسول إليهم. يقال: أوفدته: أرسلته. والإجازة: العطية. وهذا منه - صلى الله عليه وسلم - عهدٌ ووصيةٌ لولاة المسلمين بإكرام الوفود، والإحسان إليهم، قضاء لحق قصدهم، ورفقًا بهم، واستئلافًا لهم.
قال القاضي أبو الفضل (5) : وسواء في ذلك عند أهل العلم؛ كانوا مسلمين أو كفارًا؛ لأن الكافر إنَّما يفد (6) في مصالح المسلمين. قال (7) : وهذه سنة لازمة للأمة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله: «وسكت عن الثالثة، أو قال: أنسيتها (8) »، يريد: سعيد بن جبير. قال =(4/562)=@ المهلِّبُ: هو (9) تجهيزُ جيش أسامة (10) . قال (11) غيره: ويحتمل أن تكون هي قوله: «لا تتخذوا قبري وثنًا يُعبد (12) » (13) . وقد ذكر مالك في "الموطأ" (14) ما يدل على ذلك من حديث عمر (15) ، فإنه قال فيه :[آخر] (16) ما تكلَّم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «قاتل الله اليهود (17) اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لا يبقين دينان بجزيرة (18) العرب». &(4/451)&$
__________
(1) في (ك): «لا».
(2) في (أ): ((وأجاز)).
(3) في (أ): ((نحو)).
(4) في (ك): «الوافد».
(5) قوله: «أبو الفضل» سقط من (ح) و(ك).
(6) في (ف): ((يعد)).
(7) قوله: «قال» سقط من (ك).
(8) في (ح): «نسيتها».
(9) في (ح) و(ك): «هي».
(10) جاء عند عبدالرزاق (9993 و19372) عن ابن جريج قال: بلغني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى عند موته بأن لا يترك يهودي ولا نصراني بالحجاز، وأن يُمضى جيش أسامة، وأوصى بالقبط خيرًا. وإسناده ضعيف لانقطاعه.
وأخرج الطبراني في "الكبير" (2891) من طريق جابر الجعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصى عند موته بثلاث، أوصى أن ينفذ جيش أسامة، ولا يسكن معه بالمدينة إلا أهل دينه. قال محمد: ونسيت الثالثة. وجابر الجعفي: ضعيف.
(11) في (ف): ((وقال)).
(12) قوله: «يعبد» سقط من (ح) و(ك).
(13) أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (3/47)، والحميدي (1025)، وأبو يعلى (6681)، وأبو نعيم في "الحلية" (7/317) من طريق حمزة بن المغيرة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، به.
وإسناده لا بأس به.
(14) (2/892 رقم1583).
(15) أي: عمر بن عبدالعزيز؛ كما في "الموطأ".
(16) في جميع النسخ : «أول»، والتصويب من "الموطأ" و(أ) و(ك) و(ف) و(ح).
(17) في "الموطأ": «ليهود والنصارى».
(18) في "الموطأ": «بأرض».(4/451)
و «الكتف» هنا: يراد به: عظم الكتف، فإنهم كانوا يكتبون فيها. و «اللوح» من الخشب. وفيه دليل: على جواز كتابة العلم والحديث. وهذا وأشباهه =(4/563)=@ ناسخٌ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تكتبوا عني شيئًا سوى (1) القرآن، ومن كتب شيئًا فليمحه (2) » (3) ، وقد قدَّمنا ذلك (4) .
- - - - -
4 - ومن باب ألحقوا الفرائض بأهلها
الفرائض: جمع فريضة (5) . وأصل الفرض: القطع. والألف واللام في الفرائض للعهد، لأنَّه يعني بها: الفرائض الواقعة في كتاب الله تعالى، وهي ستة: النصف، والرُّبع، والثُّمن، والثلثان، والثلث، والسُّدس.
فالنصف فرض خمسة: ابنة الصُّلب، وابنة الابن، والأخت الشقيقة، والأخت للأب، والزوج. وكل ذلك إذا انفردوا عمَّن يحجبهم (6) عنه.
والربع: فرض الزوج مع الحاجب، وفرض الزوجة، أو الزوجات (7) مع عدمه.
والثُّمن: فرض الزوجة، أو الزوجات مع الحاجب. &(4/452)&$
__________
(1) في (ك): «من».
(2) في (ح): «ومن كتب عني شيئًا فليمحه»، وفي (ك): «ومن كتب فليمحه».
(4) في باب....
(5) ألحق ناسخ (ف) في الهامش ((سميت الفرائض فرائض لكثرة دور هذه اللفظة في الكلام من قولهم فرض الأم كذا وفرض البنت كذا وفرض الزوج كذا والغرض هنا بمعنى التقدير كقولهم فرض الحاكم النفقة أي قدرها وفرض الزوج المهر أي قدره)) وكتب تتميم.
(6) في (أ): ((يحجبهن)).
(7) في (ح): «والزوجات».(4/452)
والثلثان فرض أربع: الاثنتين (1) فصاعدا من بنات الصلب، أو بنات الابن، أو الأخوات الأشقاء، أو للأب. وكل هؤلاء إذا انفردن عمَّن يحجبهن (2) عنه.
والثلث فرض صنفين: الأُمُّ مع عدم الولد؛ وولد الابن؛ وعدم الاثنين (3) فصاعدًا من الإخوة والأخوات. وفرض الاثنين فصاعدًا (4) من ولد الأُمِّ. وهذا هو ثلث كل المال.
فأما ثلث ما يبقى: فذلك للأُم في مسألة: زوج أو زوجة وأبوان (5) ؛ فللأم فيها ثلث ما يبقى. وفي مسائل الجدِّ مع الإخوة إذا كان معهم ذو سهم، وكان ثلث ما يبقى أحظى له. =(4/564)=@
والسُّدس فرض سبعة: فرض كل واحد من الأبوين والجد مع الولد وولد الابن، وفرض الجدة والجدَّات إذا اجتمعن، وفرض بنات الابن مع بنت الصُّلب، وفرض الأخوات للأب مع الأخت الشقيقة، وفرض الواحد من ولد الأم ذكرًا كان أو أنثى.
وهذه الفروض كلّها مأخوذةٌ من كتاب الله تعالى، إلا فرض الجدَّات (6) فإنَّه مأخوذ من السُّنَّة (7) . فهؤلاء أهل الفرائض الذين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقسم المال عليهم لَمَّا قال: «اقسموا المال بين أهل الفرائض»، وهو معنى قوله: «ألحقوا الفرائض باهلها».
وقوله: «فما أبقت الفرائض (8) فلأولى رجل ذكر»، وفي غير مسلم: «لأولى عصبة (9) ذكر» (10) . تقييد «أَوْلى» بفتح الهمزة، وواو ساكنة، بعدها ياءٌ (11) : تأنيث «أوَّل». وهذه (12) الرواية المشهورة. وقد رواها (13) ابن الحذَّاء عن ابن ماهان: «لأدنى» وهو تفسير لـ «أولى»؛ ويعني به: الأقرب للميت (14) .
وقد اختلفوا في وصف الرَّجل بالذُّكوريَّة هنا (15) ؛ هل له فائدة، أو لا؟ فقال بعضهم: لا فائدة له غير التأكيد اللفظيِّ؛ فإن العرب قد تعيد اللفظ الأول بحاله، وقد تأتي في كلامها متبعة على جهة التأكيد، كما قالوا: حسن بَسَنٌ، وقبيح شقيحٌ. وكذلك قالوا هنا: رجل ذكر، وابن لبون ذكر، ويطير بجناحيه، وعشرة كاملةٌ. فهذا كلامُ العرب. وأجيبوا: بأن العرب =(4/565)=@ لا تؤكد إلا حيث تفيدُ به فائدةً؛ إمَّا تمكين المعنى في النفس، أو رفع المجاز المتوهَّم. وكل ذلك معدومٌ فيما نحن فيه. وقيل: أفاد بقوله : «ذكر» &(4/453)&$
__________
(1) في (ك): «الأنثيين».
(2) في (ك): «يحجبهم».
(3) في (ف): ((الاثنتين)).
(4) قوله: ((فصاعدًا)) سقط من (أ).
(5) في (ح) و(ك): «وأبوين».
(6) في (أ) و(ف): ((الجدة والجدات)).
(7) أخرج أبو داود (2895)، والنسائي في "الكبرى" (6338)، وابن الجارود (960)، والدارقطني (4/91)، والبيهقي (6/234 – 235)، من طريق أبي المنيب عبيدالله العتكي، عن عبدالله بن بريدة، عن أبيه قال: أطعم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجدَّة السدس إذا لم تكن أم.
وإسناده جد، وله شواهد من حديث أبي بكر الصديق وابن عباس وعبادة بن الصامت وابن مسعود ومعقل بن يسار، أجيدها حديث أبي بكر الصديق.
(8) قوله: «الفرائض» سقط من (ك).
(9) في (ك): «فلأولى عصبة».
(10) قال ابن حجر في "فتح الباري" (12/12): «هكذا في جميع الروايات، ووقع في كتب الفقهاء كصاحب "النهاية" وتلميذه الغزالي: فلأولى عصبة ذكر». قال ابن الجوزي في التحقيق (2/248)، والمنذري: «هذه اللفظة ليست محفوظة». وقال ابن الصلاح: «فيها بعد عن الصحة من حيث اللغة فضلاً عن الرواية». وانظر "تلخيص الحبير" (3/81)، و"خلاصة البدر المنير" (2/131).
(11) قوله: ((ياء)) سقط من (ف).
(12) في (ح) و(ك) و(ف): «هذه» بلا واو.
(13) في (أ): ((رواه)).
(14) ألحق ناسخ (ف) في الهامش ((الأحق لأنه لو كان أولى بمعنى أحق لبقي الكلام مبهمًا لا يستفاد منه بيان الحكم إذا كان لا يدري من الأحق ممن ليس بأحق فعلم أن معناه قرب النسب)) وكتب تتميم.
(15) قوله: «هنا» سقط من (أ) و(ك).(4/453)
هنا، وفي قوله: «ابن لَبُون ذكر» التحرز من الخناثى، فلا تُؤخذ الخنثى في فريضة الزَّكاة، ولا يحوز المال إذا انفرد، وإنَّما له نصف (1) الميراثين. وقيل في اللَّبُون (2) : إنَّما وصف بالذُّكوريَّة ليتحرز ممن يتوهم (3) إطلاق (4) «ابن» على الأنثى، كما قد أطلق «ولد» على الذكر والأنثى. وقيل: إنَّما نبَّه بالذكورية في المحلين لينبِّه على معنى مُشْعرٍ بتعليل، وذلك: أن ابن اللبون أفضل من بنت المخاض من حيث السِّن، وقد نزَّله الشارعُ بمنزلتها في الأخذ، فقد يخفى على من بعد فهمه، ويقول: كيف يَجْعَلُهُ (5) بدلها وهو أفضل؛ فوصفه بـ «ذكر» ليشعر بنقصه عنها بالذكورية، وإن زاد عليها بالسِّن. وكذلك: وصف الرَّجل بالذُّكوريَّة مشعرٌ (6) بأن الذي استحق به (7) التعصيب هو كمال الذُّكوريَّة؛ التي بها قوام الأمور، ومقاومة الأعداء. والله تعالى أعلم.
و «العصبة» كل رجل بينه وبين الميت نسب يحوز المال إذا انفرد، فيرث (8) ما فضل عن ذوي السِّهام.
والعصبات ثلاثة أصناف: الأبناء وبنوهم، والآباء وبنوهم، والأجداد وبنوهم (9) . وتفصيل هذه الجملة في كتب الفقه.
ويُستفاد من هذا الحديث: أن النساء لا يكنَّ عصبةً. وقد أطلق الفقهاءُ على الأخت مع البنت أنَّها عصبة، وذلك تجوُّز (10) ؛ لأن الأخت لا تحوز المالَ إذا انفردت، لكنَّها لما كانت في هذه المسألة تأخذ ما فضل عن البنت (11) أشبهت العاصب فأطلق عليها (12) اسمه.
وقوله: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم»؛ تضمَّن هذا الحديث أمرين :
أحدهما مجمع على منعه؛ وهو: ميراث الكافر للمسلم (13) .
والثاني =(4/566)=@ مختلف فيه؛ وهو: ميراث المسلم الكافر (14) ؛ فذهب إلى منعه الجمهور من السَّلف ومن بعدهم؛ فمنهم: عمر (15) ، وعلي(2)، وابن مسعود (16) (2)، وزيد بن ثابت(2)، وابن عباس(2). وجمهور أهل الحجاز والعراق: مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وابن حنبل، وعامة العلماء (17) . وذهب إلى توريث المسلم من الكافر معاذ (18) ، ومعاوية (19) ، وابن المسيب، ومسروق، وغيرهم. وروي عن أبي الدرداء، والشعبي، والنخعي، والزهري، وإسحاق. والحديث المتقدِّم (20) حجُّةٌ عليهم (21) . ويَعْضُده حديث أسامة بن &(4/454)&$
__________
(1) في (ح): «نصيف».
(2) في (أ) و(ف): «في ابن لبون».
(3) في (ف): ((توهم)).
(4) في (ح) و(ك): «ليتحرز من إطلاق».
(5) في (ح) و(ك): «يجعل».
(6) في (ح) و(ك): «مشعرًا».
(7) في (ح): «استحق عليه».
(8) في (ح) و(ك): «ويرث».
(9) قوله: ((والأباء وبنوهم)).
(10) في (ف): ((لا يجوز)).
(11) في (ك): «عن الثلث».
(12) في (ح): «عليهما».
(13) في (أ) و(ف): «المسلم».
(14) في (ك): «للكافر».
(15) أخرج هذه الآثار عبدالرزاق (9857 و19305)، وابن أبي شيبة (31429)، و(6/286-287)، والنصوص السابقة والقادمة تدل عليه.
(16) في (ح): «وابن مسعود وعلي».
(17) قوله: «وعامة العلماء» سقط من (ح).
(18) أثر معاذ في توريث المسلم من الكافر أخرجه أحمد بن منيع في "مسنده" كما في "فتح الباري"(12/50). وقال الحافظ: بسند قوي. وسيأتي مزيد بيان عن معاذ.
(19) أخرجه ابن أبي شيبة (31442).
(20) في (ح): «المقدم».
(21) في (أ) و(ف): «نصٌّ في المنع».(4/454)
زيد؛ وهو: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يتوارث أهل ملتين» (1) ، ونحوه في كتاب أبي داود (2) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه. وقد احتجَّ للقول الثاني بما خرَّجه أبو داود من حديث يحيى بن يعمر؛ واختصم إليه أخوان - يهودي ومسلم، فورَّث المسلم منهما. وقال: حدثني أبو الأسود: أن رجلا حدثه: أن معاذًا قال (3) : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الإسلام يزيد ولا ينقص»؛ فورَّث المسلم (4) . وبما يحكى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه قال إن صحَّ (5) : «إن (6) الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» (7) ، وبقياس الميراث على النكاح قالوا (8) : كما يجوز لنا أن ننكح نساءهم، ولا يجوز لهم أن ينكحوا نساءنا؛ كذلك يجوز لنا (9) أن نرثهم ولا يرثونا.
قلت: ولا حجَّة لهم (10) في شيء مما ذكروه. وأمَّا (11) الحديثان: فلا يصحُّ منهما شيء. أمَّا الأول: فلأن فيه مجهولاً. وأمَّا الثاني: فكلام يحكى ولا يُروى، سلَّمنا =(4/567)=@ صحتهما (12) ، لكنَّا نقول بموجبهما (13) ، فإن دين الإسلام لم يزل يزيد إلى أن كمل في الحين الذي أنزل الله تعالى فيه: {اليوم أكملت لكم دينكم} (14) ، ولم ينقص من أحكامه ولا (15) شريعته (16) التي شاء الله تعالى بقاءها شيءٌ. وقد أعلاه الله تعالى، وأظهرَه على الدِّين كلِّه، كما (17) وعدنا تعالى. سلَّمنا ذلك، لكن (18) الأحاديث (19) الأول (20) أرجح (21) ؛ لأنها متفق على صحتها، وهي نصوص في المطلوب، والقياس الذي ذكروه فاسد الوضع؛ لأنَّه في مقابلة النَّصّ، ولخلوه عن الجامع. فإذا ثبت هذا فاعلم: أن المسلم والكافر المذكورين في الحديث للعموم، فلا مسلمًا ما يرث كافرًا ما، ولو كان مرتدًّا، وهو مذهب مالك، وربيعة، والشافعي، وابن أبي ليلى؛ قالوا: لا يرث المرتدَّ أحدٌ من المسلمين. ومالُهُ فَيءٌ لبيت المال.
وخالفهم في ذلك طائفة أخرى فقالوا: إن ورثته من المسلمين يرثونه (22) . وبه قال الأوزاعي، وإسحاق، والحسن البصري، والشعبي، وعمر بن عبد العزيز. وروي ذلك عن عليّ (23) وابن مسعود (24) .
وفرَّقت طائفة ثالثة؛ فقالت: يرث ماله الذي كان له قبل ردَّته &(4/455)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (6764)، ومسلم (1614).
(2) أخرجه أبوداود (2911)،وأحمد (6664)، وابن ماجه (2731)، وابن الجارود (967)، والدارقطني (4/75 - 72)، والحاكم (4/ 345)، والبيهقي (6/218)؛ كلّهم من طريق عمرو بن شعيب به.
(3) قوله: «قال» سقط من (ك).
(4) أخرجه أبوداود (2912)، ومن طريقه البيهقي (6/254) من هذاالطريق، وقال البيهقي: «هذا رجل مجهول - يعني قوله: إن رجل حدّثه - فهو منقطع.
وأخرجه الطيالسي (569)، وابن أبي شيبة (31441)، وأحمد (5/230)، وأبو داود (2913)، والطبراني (20/162)، والحاكم (4/345)، والبيهقي (6/205 و254)؛ كلّهم من طريق شعبة، عن عمرو بن أبي حكيم، عن عبدالله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر، عن أبي الأسود الديلي، عن معاذ بن جبل به.
وهذا إسناد معلول بالذي قبله؛ حيث لم يسمعه أبو الأسود من معاذ؛ بينهما رجل مجهول. والحديث أورده الدارقطني في "العلل" (6/87)، والجورقاني في "الأباطيل" (549)، وابن الجوزي في"الموضوعات" (3/230)، والسيوطي في "اللآلي المصنوعة" (2/442)، ولا أعلم للحديث علَّة في إسناده سوى الإنقطاع بين أبي الأسود ومعاذ، ونص الحافظ في "فتح الباري" (12/50) على أن سماعه منه ممكن، وأما متن الحديث فهو معارضٌ بالنصوص الصحيحة الصريحة في عدم توريث المسلم الكافر ،ولا الكافر المسلم. ومن هذاالاعتبار حكم عليه من حكم بالبطلان، وأوردوه في الموضوعات. نعم! ثبت عن معاذ أنه كان يورث المسلم من الكافر بغير عكس كما تقدم.
(5) قوله: «إن صح» سقط من (ح) و(ك).).
(6) قوله: «إن» سقط من (أ) و(ك) و(ف).
(7) جاء هذا الحديث عن عائذ بن عمرو، وعمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل، وابن عباس.
أما حديث عائذ: فأخرجه الدارقطني (395)، والروياني في "مسنده" (783)، وأبو نعيم في "تاريخ أصبهان" (1/65) والبيهقي (6/ 205) من طريق حشرج بن عبدالله بن حشرج، عن أبيه، عن جدّه به مرفوعًا.
وحشرج وأبوه وجدّه لا يعرفون.
وأما حديث عمر: فأخرجه الطبراني في "الصغير" (196)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (6/36). وفي إسناده محمد بن علي بن الوليد البصري السلمي: قال الإسماعيلي: منكر الحديث. انظر "لسان الميزان" (6/360).
وأما حديث معاذ: فأخرجه نهشل في "تاريخ واسط" (1/155) من طريق عمران بن أبان، ثنا شعبة، عن عمر بن أبي حكيم، عن عبدالله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر، عن أبي الأسود، عن معاذ به مرفوعًا.
وعمران هذا أخطأ فيه وهو ضعيف، فهو إسناد الحديث السابق كما تقدم.
وأما حديث ابن عباس: فأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/257) من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس موقوفًا عليه. قال ابن حجر في "فتح الباري" (9/421): «إسناد صحيح».
(8) قوله: «قالوا» سقط من (أ).
(9) قوله: «لنا» سقط من (أ) و(ف) و(ك).
(10) قوله: «لهم» سقط من (ح) و(ك) و(ف).
(11) في (ح) و(ك) و(ف): «أما» بلا واو.
(12) في (ف): ((صحتها)).
(13) في (ف): ((بموجبها)).
(14) الآية (3) من سورة المائدة.
(15) في (ك): «ولا من».
(16) في (أ) و(ف): «شرائعه».
(17) في (ف): يشبه أن تكون ((ولكن)).
(18) في (ح): ((وكما)).
(19) في (ح): «الحديث».
(20) في (ف): ((الأولى)).
(21) في (ح) زيادة: «لأنها أرجح».
(22) في (ح) و(ك): «ترثه».
(23) أخرجه عبدالرزاق (19296)، وابن أبي شيبة (11/355)، وسعيد بن منصور (1/100) من طريق الأعمش، عن أبي عمرو الشيباني، عن علي به، في قصة ارتداد المستورد العجلي، وجعل ميراثه لورثته من المسلمين.
وأخرجه البيهقي (6/254) من طريق شريك، عن سماك، عن ابن عبيد بن الأبرص، عن علي به. وأخرجه الدارمي (2/384)، والبيهقي (6/254) من طريق الحكم، عن علي. قال البيهقي هذا منقطع.
(24) أخرجه ابن أبي شيبة (11/354)، والدارمي (2/384) من طريق الوليد بن جميع، عن القاسم بن عبدالرحمن قال: كان ابن مسعود يورّث أهل المرتد إذا قتل.
وأخرجه عبدالرزاق (19297) عن معمر وابن جريج قالا: بلغنا أن ابن مسعود قال في ميراث المرتد مثل قول علي.(4/455)
ورثته المسلمون، وما استفاده بعد الرَّدة فيءٌ. وهو قول الثوريِّ، وأبي حنيفة. والعموم المتقدم حجَّة على هؤلاء الطائفتين.
وقوله: «لا يتوارث أهل ملَّتين»، قال بظاهره مالك، فلا يرث اليهودي النصرانيَّ، ولا يرثان المجوسيَّ. وهكذا جميع أهل الملل أخذًا بظاهر هذا الحديث. وقال الشافعي، وأبو حنيفة، وداود: إن (1) الكفار كلهم أهل ملة واحد (2) ، وإنهم يتوارثون. محتجِّين بقوله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النَّصارى حتى تتبع ملتهم} (3) ، فوحَّد الْمِلَّة. وبقوله تعالى : {لكم دينكم ولي دين} (4) ، والخطاب بـ {لكم} للكفار كلهم مع توحيد {دين} (5) . وتأولوا قوله: «لا يتوارث أهل ملتين»: على أن المراد به الإسلام والكفر (6) ، كما قال في الحديث الأول: «لا يرث المسلم الكافر». ولا حجَّة لهم في ذلك.
أمَّا الآية الأولى فلأن ملّتهم وإن كانت موحدة في اللفظ، فهي مكثرة في المعنى؛ لأنه قد =(4/568)=@ أضافها إلى ضمير الكثرة، كما تقول: أخذتُ عن علماء المدينة (7) - مثلاً علمهم (8) -، وسمعتُ عليهم حديثهم؛ يعني: علومهم، وأحاديثهم.
وأمَّا الثانية: فلأن الذين نزلت الآية جوابًا لهم إنَّما هم مشركو قريش، قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : تعال نشترك في أمرنا وأمرك، تدين بديننا، وندين بدينك، فنستوي في الأخذ بالخير (9) . فأنزلها (10) الله تعالى (11) مخاطبةً لهم. وهم صنفٌ واحدٌ من الكفار، وهم الوثنيون. وكيف لا يكون ما قاله مالك. وقد قال الله تعالى : {لكلٍ جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا} (12) ، فالعربُ تزعم أنها على شريعة إبراهيم، واليهود على شريعة موسى، والنَّصارى على شريعة عيسى. في (13) ملل متعددة، وشرائع (14) مختلفة. &(4/456)&$
__________
(1) قوله: «إن» سقط من (ك).
(2) في (أ) و(ف): ((واحدة)).
(3) الآية (120) من سورة البقرة.
(4) الآية (6) من سورة الكافرون.
(5) من قوله: «والخطاب....» إلى هنا سقط من (أ) و(ف).
(6) في (ف): ((الكفر)).
(7) في (ح) و(ك): «أخذت علم علماء».
(8) قوله: «علمهم» سقط من (ح) و(ك).
(9) في (ح): ((بالخبر)).
(10) في (ح): «فأنزل».
(11) في (ح): ((الله سبحانه وتعالى)).
(12) الآية (48) من سورة المائدة.
(13) في (أ): ((فهي)).
(14) في (ك): ((وسرائع)) بالسين المهملة.(4/456)
- - - - -
5 - ومن باب ميراث الكلالة
قول جابر رضي الله عنه: «مرضت فأتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر يعوداني ماشِيَيْنِ»؛ إنَّما أتياه ماشيين مبالغة في التواضع، وفي كثرة أجر المشي؛ لأن المشي للقرب التي لا يحتاج فيها إلى كبير مؤونة، ولا نفقة أفضل من الركوب بدليل ما ذكرناه (1) في الجمعة. وقد ذكر (2) الخلاف في ذلك في الحج.
وقوله: «فاغمي عليّ، فتوضأ، فصبَّ عليَّ من وَضُوئه، فأفقتُ»؛ فيه دليل =(4/569)=@ على جواز المداواة، ومحاولة دفع المرض بما يُرجى (3) فائدته، وخصوصًا بما يرجع إلى التَّبَرُّك بما عظمه الله تعالى ورسوله.
وفيه: ظهور بركة (4) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما باشره أو لمسه. وكم له منها (5) وكم ؟! وقد ذكرنا من ذلك جملة صالحة في كتاب "الإعلام بمعجزات النبي عليه الصلاة والسلام (6) ».
وقوله: «فقلت: يا رسول الله! كيف أقضي في مالي؟ إنَّما يرثني كلالة»؛، هذا السؤال كان قبل نزول آيات المواريث على ما يدل عليه قوله: فنزلت {يوصيكم الله في أولادكم} (7) ، وقد تقدَّم: أن الحكم كان قبل ذلك &(4/457)&$
__________
(1) في (ح): «ذكرنا».
(2) في (ح): «ذكرنا».
(3) في (ك) و(ف): ((ترجى)).
(4) في (ك): ((بركته)).
(5) في (ح): «مثلها».
(6) في (أ): (( - صلى الله عليه وسلم - )) و(ك) و(ف): ((عليه السلام)).
(7) الآية (11) من سورة النساء.(4/457)
وجوب الوصية للأقربين. وعلى هذا فيكون سؤال جابر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: كيف اقضي في مالي؟ كيف أوصي فيه؟ وبماذا (1) أوصي (2) ؟ ولمن أوصي؟ فأنزل الله تعالى : {يوصيكم الله...}، فنسخت وجوب الوصيَّة للأقربين على ما قدَّمناه. وأما إن كان الذي نزل في جوابه: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} (3) ، فيكون هذا السؤال بعد نزول {يوصيكم الله}، وقبل (4) نزول آية الكلالة. وهذا هو الأقرب والأنسب لقوله: «إنما يرثني كلالة». وذلك السؤال هو الذي عنى الله تعالى بقوله : {يستفتونك}، ثم قال : {قل الله يفتيكم في الكلالة} (5) . وقد تقدم ذكر الاختلاف (6) في اشتقاق (7) الكلالة، وفي معناها في كتاب الصلاة، والقول هنا في بيان المختار من الأقوال. ولا شكَّ أن جابرًا قد أطلق على ورثته: كلالة، وما كان له وارث يومئذ سوى أخواته، فإن أباه كان قتل يوم أحد، وترك سبع بنات وجابرًا (8) . =(4/570)=@ فهنَّ اللاتي سَمَّاهنَّ كلالة، وهنَّ اللاتي أجيب فيهنَّ بقوله : {قل الله يفتيكم في الكلالة}، ولم يكن له ولد، ولا والد. فقد ظهرت صحَّة قول من قال: إن الكلالة هي (9) الولدَ والوالد (10) . وإن الإخوة المذكورين فيها ليسوا إخوة لأم قطعًا؛ لأن (11) أخوات جابر لم يكن لأم، ولأن الإخوة للأم لا يقتسمون (12) للذكر مثل حظِّ (13) الأنثيين. ومقصود هذه الآية: بيان حكم الإخوة، والأخوات للأب والأُمّ، أو للأب إذا لم يكن معهنَّ ولدٌ، ولا والدٌ، وإنما قلنا ذلك: لأن الولد مصرَّحٌ بنفيه في الآية بقوله: {ليس له ولدٌ}، والأب أيضًا لا بدَّ من نفيه في هذه الآية؛ لأنه لو كان أبٌ مع الإخوة لحجَبهم كلَّهم جملة بغير تفصيل. وأمَّا الجدَّ مع الإخوة الأشقاء، أو للأب، فيقاسمهم ما لم تنقصه المقاسمة من الثلث، فله أن يأخذه. وعلى هذا فالجدّ تصحُّ (14) معه (15) الكلالة؛ لأنه كالأخ معهم. وأما الآية التي في أول السورة فالمراد &(4/458)&$
__________
(1) في (ك): «وبما».
(2) قوله: ((ولمن أوصي)) سقط من (ك).
(3) الآية (176) من سورة النساء.
(4) في (ف): ((يوصيكم وقبل)).
(5) الآية (176) من سورة النساء.
(6) في (ف): ((الخلاف)).
(7) قوله: «اشتقاق» سقط من (أ).
(8) أخرجه البخاري (4052 و5367 و6387)، ومسلم (2/1087) كتاب الرضاع (56).
(9) في (أ) و(ح): «ما عدا» بدل «هي» وفي (ك) و(ف): ((هي ما عدا الولد)).
(10) في (ح): «الوالد والولد».
(11) في (ك): «فإن».
(12) في (أ): ((لا يقتسمن))وفي (ف): ((لا يقسمن)).
(13) في (ك): ((حض)).
(14) في (ف): ((يصح)).
(15) في (أ): «مع».(4/458)
بالكلالة فيها: الإخوة للأم إذا لم يكن معهم ابن، ولا أب، ولا جدّ؛ لأن هؤلاء كلّهم يحجبون الإخوة للأم. ولقراءة سعد : {وله أخ أو (1) أخت لأم} (2) ؛ ولأن (3) الإخوة الأشقاء أو للأب لا يرث الواحد منهم السدس، ولا الاثنان (4) فصاعدا الثلث. وإنما ذلك فرض الاخوة (5) للأم. فقد ظهر بهذا البحث الدقيق: أن القول ما قاله أبو بكر الصدِّيق. وأمَّا قولا الاشتقاق: فكلاهما معنى صحيح بالاتفاق لأن من فقد الطرفين فقد تَكلَّله نفي المانعين، أو لأنه لما كلَّ منه الرحم الوالد (6) وثب على متروكه الأباعد.
وقوله تعالى: {وإن كان رجل يورث كلالة} (7) ، القراءة المشهورة: {يُورَث} بفتح الراء على أنَّه فعل مضارع مبني لما لم يسم فاعله، وفيه =(4/571)=@ ضمير مفعول لم يُسم فاعله عائدًا (8) على رجل، و{كلالة} حال من ذلك الضمير. فتكون (9) الكلالة: الميِّت. وقرأه (10) الحسن {يورِث} بكسر الراء مبنيًا للفاعل (11) ، وتكون (12) {كلالة} مفعولاً بـ{يورِث}. وقرئ كذلك مضعف الرَّاء (13) (14) ، وعلى هذا فيصحُّ أن تكون الكلالة الوارث. ويصحُّ أن تكون المالَ. وأحد مفعولي {يورَّث} مسكوت (15) عنه (16) ؛ لأنه يجوز الاقتصار على أحدهما. والله تعالى أعلم.
وقوله: «ما راجعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء (17) ما راجعته في الكلالة، ولا أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه»؛ هكذا جاء هذا الضمير مذكَّرًا وقبله الكلالة، وكان حقُّه أن يكون مؤنثًا، لكنه لما كان السؤال عن حكم الكلالة أعاده مذكَّرًا على الحكم المراد.
وقوله: «حتى طعن بإصبعه في صدري»؛ هذا الطَّعن مبالغة في الحث على النظر والبحث، وألا يرجع إلى السؤال مع التمكُّن من (18) البحث والاستدلال ليحصل على رتبة (19) الاجتهاد، ولينال أجر من طلب فأصاب الحكم، ووافق المراد.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «ألا تكفيك (20) آية الصيف»؛ يعني به: آخر سورة النساء، فإنها (21) &(4/459)&$
__________
(1) في (ح): «و» بدل (أو).
(2) أخرجه سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والدارمي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر، والبيهقي؛ كما في "الدر المنثور" (4/448) عن سعد بن أبي وقاص به.
(3) في (أ): «وأن».
(4) في (ح): «للاثنان».
(5) في (ف): ((للأخوة)).
(6) في (أ): «الوالدة» وفي (ف): ((الولد)).
(7) الآية (12) من سورة النساء.
(8) في (ح) و(ك): «عائد».
(9) في (أ): «فيكون».
(10) في (ح): «وقرأ».
(11) وهي قراءة شاذة.
(12) في (ك): «ويكون».
(13) في (ح): ((الزاي)).
(14) وقرأ بها الحسن أيضًا والمطوعي: ((يُوَرِّثُ))، وهي قراءة شاذة.
(15) في (أ): «محذوف».
(16) قوله: «عنه» سقط من (أ) و(ف).
(17) قوله: «في شيء» سقط من (ك).
(18) في (أ) و(ف): «و» بدل ((من)).
(19) في (أ): ((مرتبة)).
(20) في (ف): ((يكفيك)).
(21) في (ح): ((لأنها)).(4/459)
نزلت في الصَّيف، وإنما أحاله على النظر في هذه الآية، لأنه إذا أمعن النظر فيها =(4/572)=@ علم أنها مخالفة للآية الأولى في الورثة، وفي القسمة، فيتبين (1) من كل آية معناها، ويُرتِّب عليها حكمها، فيزول الإشكال، والله تعالى يعصم من الخطأ والضلال. وقد تقدَّم القول (2) في قول عمر رضي الله عنه: وإن أعش أقضِ فيها بقضيَّة.
وقول البراء : «آخرُ آيةٍ أُنزلت آية الكلالة» إلى آخره.اختلف في آخر آية أنزلت. فقيل ما قال البراء. وقال ابن عباس : {اليوم أكملت لكم دينكم} (3) ، وقيل : {قل لا أجد...} (4) . والتلفيق: أن يقال: إن آية الكلالة آخر ما نزل من آيات المواريث، وآخر آية أنزلت في حصر المحرمات : {قل لا أجد...}، والظاهر أن آخر الآيات نزولاً: {اليوم أكملت لكم دينكم}؛ لأن الكمال (5) لما حصل لم يبق بعده ما يزاد، والله أعلم.
وأما قوله: «آخر سورة نزلت براءة»؛ فقد فسَّر مراده بقوله في الرواية الأخرى : أنزلت كاملة، ومع ذلك: فقد قيل: إن آخر سورة نزلت: {إذا جاء نصر الله والفتح} (6) ، وكانت تسمى سورة التوديع.
وقد اختلف في وقت نزولها على أقوال: أشبهها قول ابن عمر: إنها نزلت في حجَّة الوداع، ثم نزلت بعدها : {اليوم أكملت لكم دينكم}، فعاش بعدها ثمانين يومًا، ثم نزلت بعدها (7) آية الكلالة، فعاش بعدها خمسين يومًا، ثم نزل بعدها : {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} (8) ، فعاش بعدها خمسة وثلاثين يومًا، ثم نزلت بعدها (9) : {واتقوا يومًا =(4/573)=@ ترجعون فيه إلى الله} (10) ، فعاش بعدها أحدًا وعشرين يومًا. وقال مقاتل: سبعة أيام. والله تعالى أعلم.
ذكر هذا الترتيب أبو الفضل 460)&$
__________
(1) في (ح): ((فتبين)).
(2) قوله: «القول» سقط من (ح).
(3) الآية (3) من سورة المائدة.
(4) الآية (145) من سورة الأنعام.
(5) في (ح): «الإكمال».
(6) سورة النصر: آية 1.
(7) من قوله: «اليوم أكملت....» إلى هنا سقط من (أ).
(8) الآية (128) من سورة التوبة.
(9) في (ح): ((بعدا)) بدل ((بعدها)).
(10) الآية (281) من سورة البقرة.(4/460)
- - - - -
6 - ومن باب من ترك مالاً فلورثته
سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الميت: «هل عليه دين، أو (1) لا؟» وامتناعه (2) من الصلاة على من مات وعليه دين، ولم يترك وفاءً، إشعار بصعوبة أمر الدِّين، وأنه لا ينبغي أن يتحمله الإنسان إلا من ضرورة، وأنَّه إذا أخذه فلا ينبغي أن يتراخى في أدائه إذا تمكن منه، وذلك لما قدمناه من أن الدَّين شَيْنٌ، الدَّين همٌّ بالليل ومذلةٌ بالنهار، وإخافة للنفوس، بل وإرقاقٌ لها. وكان هذا من النبي - صلى الله عليه وسلم - ليرتدعَ من يتساهلُ في =(4/574)=@ أخذ الدَّين حتى لا تتشوش أوقاتهم عند المطالبة. وكان هذا كله في أول الإسلام. وقد حكي أن الْحُرَّ كان (3) يُباع في الدَّين في ذلك الوقت، كما قد (4) رواه البزار (5) من حديث رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يُقال له: سُرَّق، ثم نسخ &(4/461)&$
__________
(1) في (ك): «أم».
(2) في (أ): ((وامتناغه)).
(3) قوله: «كان» سقط من (أ).
(4) قوله: «قد» سقط من (ح) و(ك).
(5) أخرجه البزار في "كشف الأستار" (1303)، كما أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (7/504)، والطحاوي في "شرح المعاني" (4/153)،والطبراني في "الكبير" (7/6716)،وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2648)، وابن الجوزي في "التحقيق"(1525)، وأبو موسى والحسن بن سفيان، كما في "الإصابة" (3/44).
جميعهم من طريق مسلم بن خالد الزنجي، عن زيد بن أسلم، عن عبدالرحمن بن البيلماني قال: كنت بمصر، فقال لي رجل: ألا أدلك على رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قلت: بلى، فأشار إلى رجل، قلت: من أنت؟ قال: أنا سُرَّق...، فذكر الحديث مطولاً. وهذا إسناد ضعيف مداره على مسلم بن خالد وهو متكلم فيه والأكثر على تضعيفه.
وأخرجه الروياني في "مسنده" (1487)، وابن عدي في "الكامل" (4/1608)، والدارقطني (3/62)، والحاكم (2/54)، وابن منده كما في "الإصابة" (3/44)، والبيهقي (6/50) كلّهم من طريق محمد بن بشار بندار، عن عبدالصمد بن عبد الوارث، ثنا عبدالرحمن بن عبدالله بن دينار، ثنا زيد بن أسلم. قال رأيت شيخًا بالإسكندرية يقال له سرق، فذكر الحديث بطوله.
وأخطأ فيه عبدالملك الرقاشي فرواه عن عبدالصمد، عن عبدالرحمن بن عبد الله دنيار، عن زيد بن أسلم، عن ابن البيلماني، أخرجه الحاكم (4/101) فزاد عبدالملك: ابن البيلماني في حديث عبدالصمد، وهو خطأ، صوبه رواية بندار المتقدمة بإسقاطه.
ومدار الحديث هنا على عبدالرحمن بن عبدالله بن دينار.
وأخرجه الطبراني في "الكبير" (22 رقم745) من طريق ابن لهيعة، ثنا بكر بن سوادة، عن أبي عبدالرحمن الحبلي، عن أبي عبدالرحمن القيني: أن سُرَّق اشترى من رجل بزًّا... الحديث بطوله. وابن لهيعة ضعيف.
ورواه عبدالرحمن وعبدالله ابنا زيد بن أسلم عن أبيهما بمعناه، وأتم منه. ذكره البيهقي (6/50).
قال البيهقي (6/50) بعد ذكره لمجمل الروايات السابقة: ومدار حديث سُرَّق على هؤلاء وكلُّهم ليسوا بأقوياء، عبدالرحمن بن عبدالله وإبنا زيد، وإن كان الحديث عن زيد عن ابن البيلماني، فابن البيلماني ضعيف. وفي إجماع العلماء على خلافه - وهم لا يجمعون على ترك رواية ثابتة - دليلٌ على ضعفه أو نسخه إن كان ثابتًا».(4/461)
ذلك كله بقوله تعالى : {وإن كان ذو عُسرة فنظرة إلى ميسرة} (1) . وقيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنَّما كان يمتنع من الصلاة على من ادَّان دينًا غير جائز أو في سعة (2) . والأول أظهر؛ لقول الرَّاوي في الحديث: فلما فتح الله عليه الفتوح قال: «أنا أولى بالمؤمنين (3) من أنفسهم، مَنْ توفي وعليه دَيْنٌ فعلي قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته» (4) ، فهذا يعمُّ الدُّيون كلَّها. ولو افترق (5) الحال لتعيَّن التنويع، أو السؤال. ويحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - تبرَّع بالتزام ذلك على مقتضى (6) كرم أخلاقه؛ لا أنه (7) أمرٌ واجبٌ عليه. وقال بعض أهل العلم: بل يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال دين الفقراء، اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فإنَّه قد صرَّح بوجوب ذلك عليه، حيث قال: «فعلي قضاؤه»، ولأن الميِّت الذي عليه الدَّين يخاف أن يعذب في قبره على ذلك الدَّين، كما قد (8) صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث دُعِي ليصلي على ميِّت، فأُخبر أن عليه دينًا (9) ، ولم يترك وفاءً، فقال: «صلوا على صاحبكم»، فقال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله ! وعلي دينه. فصلَّى عليه. ثم قال له (10) : «قم فأده (11) عنه»، فلمَّا أدَّى عنه قال - صلى الله عليه وسلم - : «الآن حين بردت عليه جلدته» (12) . وكما كان (13) على الإمام أن يسدَّ رمقه، &(4/462)&$
__________
(1) الآية (280) من سورة البقرة.
(2) قوله: «أوفي سعة» سقط من (ح) و(ك).
(3) في (ك) و(ح): «بالمسلمين» وكتب فوقها ((بالمؤمنين)) في (ك)).
(4) تقدم....
(5) في (ك): «اقترن».
(6) قوله: «مقتضى» سقط من (أ).
(7) في (ح): «لأنه».
(8) قوله: «قد» سقط من (ك).
(9) في (ح) و(ك): «دينارًا».
(10) قوله: «له» سقط من (ح) و(ك).
(11) في (ف): ((فأد)).
(12) أخرجه الطيالسي (1778)، وأحمد (14536)، والبيهقي (6/74-75) من طريق زائدة بن قدامة.
وأخرجه الدارقطني (293)، والحاكم (2/58) من طريق عبيدالله بن عمرو الرقي.
وأخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" (4145) من طريق شريك بن عبد الله ثلاثتهم عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر به وفي رواية شريك: أن الذي تحمل الدين وقضاه أبو اليسر أو غيره، وشريك سيء الحفظ، وعبدالله بن عقيل فيه كلام، ومنهم من يحسن حديثه، ولم ينفرد به كما سيأتي.
أخرجه أحمد (22639)، وعبد بن حميد (190 و191)، والدارمي (2596)، والترمذي (1069)، والنسائي (1959 و4706)، وابن ماجه (2407)، والطحاوي في"المشكل" (4146)، وابن حبان (3058) من طريق ابن أبي قتادة عن أبيه به نحوه.
وأخرجه عبدالرزاق (15257)، وعبد بن حميد (1079)، وأبو داود (2956 و3343)، والنسائي (1961)، وابن حبان (3064)، والبيهقي (6/73) من طريق أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن جابر به.
(13) في (ف): ((قال)).(4/462)
ويراعي مصلحته الدنيوية كان أحرى وأولى أن يسعى فيما يرفع (1) عنه به العذاب الأخروي.
و «المولى (2) »: الذي يتولَّى أمور الرَّجل بالإصلاح والمعونة على الخير، والنصر على الأعداء، وسدّ الفاقات، ورفع الحاجات. =(4/575)=@
وقوله: «فأيُّكم ما ترك ضياعًا فأنا مولاه»، «ما» هنا: زائدة. تقدير الكلام: فأيكم ترك. و «ضياعًا (3) » بفتح الضاد لا غير. وهو ما يحتاج (4) للاصلاح (5) . والضياع في الأصل: مصدر ضاع. ثم جعل اسمًا لكل ما هو بصدد أن يضيع من عيال وبنين لا كافل لهم، ومال لا قيِّم له. وسميت الأرض ضيعة لأنها معرضة للضياع. وتجمع: ضياعًا - بكسر الضاد -. وفي رواية: «من ترك كلاً» مكان «ضياعًا»، والكل بفتح الكاف: ما يتحمله (6) الإنسان مما يشق عليه، ويثقله، فكأنه قد (7) كلَّ تحته لثقله كلالاً.
وقوله: «من (8) ترك مالاً فليؤثر به عصبته (9) من كان»؛ يعني: إذا لم يكن معهم ذو سهم، أو فضل شيء عن ذوي السِّهام. ورواية من رواه: «فهو لورثته»، أتقن. =(4/576)=@
وقد تقدم القول في كتاب الجهاد على قوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا نورث، ما تركنا صدقة» بما فيه كفاية. =(4/577)=@ &(4/463)&$
__________
(1) أشار في (ك) فوقها بأن في نسخة: «يدفع».
(2) في (ح): ((فالمولى)).
(3) في (ح): ((ضياعًا)) بلا واو.
(4) في (أ) و(ف): ((وهو الإحتياج)).
(5) في (ك): «إلى الإصلاح».
(6) في (أ) و(ف): ((يحمله)).
(7) قوله: «قد» سقط من (ك).
(8) في (أ): ((ومن)).
(9) في (ح): «فلورثته ** تراجع ففي المقابلة ((فلوربثه عصبته)) ** عصبته» وفي (ف) كالمثبت في المطبوع.(4/463)
كتاب الصَّدقة والْهِبَة والْحَبْس
1 - ومن باب النهي عن العود في الصدقة
قول عمر رضي الله عنه: «حملت على فرس عتيق في سبيل الله»؛ يعني: أنه تصدَّق به على رجل ليجاهد عليه، ويتملَّكه، لا (1) على وجه (2) الحبس؛ إذ لو كان كذلك (3) لما جاز له (4) أن يبيعه، وقد وجده عمر رضي الله عنه في السوق يباع، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - (5) : «لا تبتعه، ولا تَعُدْ في صدقتك». فدلَّ: على أنه ملكه إيَّاه على جهة الصَّدقة ليجاهد عليه (6) في سبيل الله. والعتيق من الخيل: الكريم الأبوين. و «سبيل الله»: الجهاد هنا. وهو العُرْف فيه.
وقوله: «فأضاعه صاحبه»؛ أي: فرَّط فيه، ولم يحسن القيام عليه. وهذا =(4/578)=@ الذي قلناه أولى من قول من قال: إنه حبسٌ في سبيل الله، قال (7) : وبيعه إنما كان لما (8) أضاعه صاحبه صار بحيث لا يصلح للجهاد. وهذا هو الذي صار إليه مالك تفريعًا على القول بجواز تحبيس (9) الحيوان: أنه يباع إذا هرم، ويُستبدل (10) بثمنه في ذلك الوجه المحبس فيه (11) ، أو يعين بثمنه فيه. والقول الأول أظهر؛ لما ذكرناه، &(4/464)&$
__________
(1) قوله: «لا» سقط من (أ).
(2) في (ف): ((جهة)).
(3) في (أ) و(ف): ((ذلك)).
(4) قوله: «له» سقط من (ك).
(5) في (أ) و(ف): ((قال النبي صلى الله عليه وسلم)).
(6) قوله: «عليه» سقط من (أ).
(7) قوله: «قال» سقط من (ك).
(8) في (ف): ((كان لأنه لما)).
(9) في (ك): «تخميس».
(10) في (ك): ((ويبدل)) وكتب بالهامش ((يستبدل)).
(11) قوله: «فيه» سقط من (ك).(4/464)
ولأنه لو كان ذلك لسأل عن هذا الفرس: هل تغيَّر عن (1) حاله أم لا، ولنظر في أمره.
وقوله: «فظننت أنه بائعُه بِرُخْصٍ (2) »؛ إنَّما ظن ذلك؛ لأنه هو الذي كان أعطاه إيَّاه، فتعلَّق خاطره بأنه يسامحه في ترك جزءٍ من الثمن، وحينئذ يكون ذلك رجوعًا في عين ما تصدَّق به في سبيل الله. ولَمَّا فهم النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا نهاه عن ابتياعه، وسمَّى (3) ذلك عودًا، فقال: «لا تبتعه، ولا تَعُدْ في صدقتك».
واختلف في هذا النَّهي؛ هل يحمل على ظاهره من التحريم؟ ولأنه (4) يفهم من تشبيهه بالكلب التحريم؛ كما قال تعالى : {فمثله كمثل الكلب} (5) ، أو على الكراهة؛ لأن تشبيهه بالقيء إنَّما يدلُّ على الاستقذار والعيافة للنَّفرة الموجودة من ذلك، لا أنه يحرم (6) العود في القيء إلا أن يتغير للنجاسة، فحينئذ يحرم لكونه نجاسة (7) ، لا لكونه قيئًا. والأول في كتاب ابن المواز. وقال به الداودي. والثاني: عليه أكثر النَّاس.
قلت (8) : ويحتاج موضع الخلاف إلى تنقيح. فنقول: أما الصَّدقة في السَّبيل، أو على المسكين، أو على ذي الرَّحم إذا وصلت للمتصدِّق عليه فلا يحل (9) =(4/579)=@ الرُّجوع فيها بغير عوض، قولا واحدًا؛ لأنه قد أخرجها عن ماله على وجه القربة لله تعالى، واستحقها المتصدق عليه، وملكها بالصدقة، والحوز، فالرجوع فيها، أو في (10) بعضها حرام. وأما الرُّجوع فيها بالشراء الذي لا يُحَطُّ عنه (11) فيه من ثمنها شيءٌ فمكروه؛ لأنه قد استرد عينًا أخرجها لله تعالى.
والأولى: حمل النهي الواقع في الحديث المذكور عن الابتياع على التحريم؛ لأن (12) النبي - صلى الله عليه وسلم - فهم عن (13) عمر رضي الله عنه ما كان وقع له، من أنَّه يبيعه (14) منه بحطيطة من الثمن. وهذا رجوع في بعض عين الصَّدقة، إلا أن الكراهية هي المشهورة في المذهب في هذه المسألة، فكأنَّهم (15) رأوا: أن هذه عطية مبتدأة من المتصَدَّق عليه، أو الموهوب له؛ لأنها عن طيب نفس منه، فكان ذلك للمتصدق أو الواهب مِلكًا جديدًا بطريق آخر. وهذا كما قال - صلى الله عليه وسلم - لمن وهب أمةً لأمِّه فماتت أمُّه، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - &(4/465)&$
__________
(1) قوله: «عن» سقط من (ك).
(2) في (أ) و(ف): «بائعه لي برخص».
(3) في (أ): «وسمّاه».
(4) في (ح) و(ك): «لأنه».
(5) الآية (179) من سورة الأعراف.
(6) في (ح): «لأنه يحرم».
(7) في (ح): «نجسًا»، وفي (ك): «نجسًا» وكتب فوقها «نجاسة».
(8) قوله: ((قلت و)) بياض في (ك).
(9) في (ح) و(ك): «يحل له».
(10) قوله: «في» سقط من (ك).
(11) قوله: «عنه» سقط من (ح) و(ك).
(12) في (ف): ((ولأن)).
(13) في (ك): «من».
(14) ...
(15) في (ح) و(ك): «وكانهم» وفي(ف): ((وكأن)).(4/465)
عن ذلك، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : «وجب أجرك، وردَّها عليك الميراث» (1) . غير أنه لا يليق بمكارم الأخلاق أن يعود في شيء أُخرج (2) عنه على وجه المعروف، ولا بأهل الدِّين أن يرجعوا في شيء خرجوا عنه لله تعالى بوجه، فكان مكروها من هذا الوجه. وهذا نحو مما (3) قررناه في قصَّة (4) تحرّج (5) المهاجرين من المقام بمكة.
قلت: والظاهر من ألفاظ الحديث ومساقه التحريم. فأجمع ألفاظه، وتدَّبر معانيها؛ يلح لك ذلك إن شاء الله تعالى. =(4/580)=@
وقوله: «مثل الذي يرجع في هبته كمثل الكلب يقيء ثم يعود في قيئه»؛ إن كان المراد بالهبة الصدقة، كما قد (6) جاء في الرواية الأخرى، فقد (7) تكلّمنا عليها. وإن كان المراد مطلق الهبة، فهي مخصوصة؛ إذ يخرج (8) منها الهبة للثواب، وهبة أحد الأبوين. فأما هبة الثواب: فقد قال بها مالك، وإسحاق، والطبري، والشافعي - في أحد قوليه -: إذا علم أنه قصد الثواب؛ إما بالتصريح به، وإما بالعادة والقرائن، كهبة الفقير للغني، والرَّجل للأمير. وبها قال (9) أبو حنيفة: إذا شرط الثواب، وكذلك قال الشافعي في القول الآخر. وقد روي عنهما، وعن أبي ثور: منعها مطلقًا. ورأوا أنَّها من البيع المجهول الثمن والأجل (10) . والأصل في جواز هبة الثواب: ما خرَّجه الدارقطني (11) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من وهب هبة فهو أحق بها ما لم يُثَبْ عليها (12) منها (13) ». قال: رواته كلهم ثقات (14) . والصواب عن ابن عمر عن عمر قوله، وما خرَّجه مالك (15) عن عمر أنه قال: من وهب هبة لصلة الرَّحم، أو على وجه الصَّدقة أنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنَّه إنما أراد بها الثواب، فهو على هبته يرجع (16) فيها ما لم يرض منها، وما خرَّجه الترمذي من =(4/581)=@ حديث أبي هريرة قال: أهدى رجل من بني فزارة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ناقة، فعوضه منها بعض العوض، فتسخَّطه (17) . وفي (18) رواية: أهدى له بكرة، فعوَّضه ستَّ بكرات، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر: «إن رجالاً من العرب يُهدي أحدُهم الهديَّة، فأعوِّضه منها (19) بقدر ما عندي، فيظل يتسخَّطُ عليِّ. وايم الله ! لا &(4/466)&$
__________
(1) تقدم في باب....
(2) في (ح) و(ك) و(ف): «خرج».
(3) في (ف): ((ما)) بدل ((مما)).
(4) في (ح) و(ك) و(ف): ((قضية)).
(5) في (ح): ((تخرج)).
(6) قوله: «قد» سقط من (ك).
(7) في (ف): ((وقد)).
(8) في (ح) و(ف): «تخرج».
(9) في (أ): «وقال بها».
(10) في (أ): «المجهول الذي في الإجارة».
(11) في "سننه" (179)، ومن طريقه ابن الجوزي في "التحقيق" (2/230) عن أبي علي الصفار، ثنا علي بن سهل بن المغيرة.
وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/60)، وعنه البيهقي (6/180) عن إسحاق بن محمد بن خالد الهاشمي، عن أحمد بن حازم بن أبي غرزة.
كلاهما عن عبيدالله بن موسى، ثنا حنظلة بن أبي سفيان، سمعت سالم بن عبدالله، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به.
قال الدارقطني: «لا يثبت هذا مرفوعًا، والصواب عن ابن عمر موقوفًا».
وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، إلا أن فكل الحمل فيه على شيخنا».اهـ. قال ابن حجر في "لسان الميزان" (1/374): «قلت: الحمل فيه عليه بلا ريب».
قلت: ليس الحمل فيه عليه؛ رضي الله عنك فرواية الدارقطني المتقدمة هي عن أبي علي إسماعيل الصفار، وهو ثقة، ثنا علي بن سهيل بن المغيرة وهو ثقة، عن عبيدالله بن موسى به.
وذكر الدارقطني في "العلل" (2/58): أن الوهم فيه من علي بن سهل بن المغيرة، وكان ثقة.
والصواب ما ذهب إليه البيهقي في "المعرفة"(9/69) حيث قال: «وغلط فيه عبيدالله بن موسى فرواه عن حنظلة بن أبي سفيان، عن سالم، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فذكره. قال: والصحيح: رواية عبدالله بن وهب، عن حنظلة بن أبي سفيان، عن سالم، عن أبيه، عن عمر.
قلت: تابعه عليه أحمد بن حازم بن أبي غرزة. وهو ثقة. وكذلك رواه ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سالم، عن أبيه، عن عمر به. أخرجه سعيد بن منصور، عن ابن عيينة به. ومن طريقه أخرجه البيهقي في "الكبرى" (6/181)، وذكره البخاري في "الكبير" (1/271) وقال: «هذا أصح».اهـ.
وقد جاء الحديث من طرق أخرى عن أبي هريرة وابن عباس كلّها ضعيفة.
فأما حديث أبي هريرة: فأخرجه ابن ماجه (2387)، والدارقطني (3/43)، وذكره البخاري في "الكبير" معلقًا من طريق وكيع، وأخرجه الدارقطني (3/44) من طريق جعفر بن عون، وأخرجه الدارقطني (3/44)، والبيهقي (6/181) من طريق عبيدالله بن موسى.
ثلاثتهم عن إبراهيم بن إسماعيل بن مُجمِّع، عن عمرو بن دينار، عن أبي هريرة به مرفوعًا نحوه.
وإبراهيم بن إسماعيل بن مُجمِّع. مُجْمعٌ على ضعفه. والصحيح من رواية عمرو بن دينار ما تقدّم عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سالم، عن أبيه، عن عمر موقوفًا عليه.
وأما رواية ابن عباس: فأخرجه الطبراني في "الكبير" (11/11317) من طريق عثمان بن أبي شيبة، حدثني أبي قال: وجدت في كتاب أبي عن أبي ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس به.
وعثمان بن أبي شيبة كثير الأوهام، وابن أبي ليلى سيء الحفظ.
وأخرجه الدارقطني (3/44) من طريق إبراهيم بن أبي يحيى، عن محمد بن عبيدالله، عن عطاء، عن ابن عباس به. وإبراهيم بن أبي يحى كذاب، ومحمد بن عبيدالله العرزمي متروك.
(12) قوله: «عليها» سقط من (ح) و(ك).
(13) في (ك) كتب فوقها: «عنها».
(14) في سنن الدارقطني: «لا يثبت هذا مرفوعًا».
(15) في "الموطأ" (2/754)، وعنه الشافعي في "الأم" (4/61)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/81)، والبيهقي في "الكبرى" (6/182) عن داود بن الحصين، عن ابن ** تراجع في الأصل ** غطفان بن طريف المري، عن مروان بن الحكم: أن عمر بن الخطاب قال...، فذكره. وسقط من المطبوع من "الموطأ" ذكر مروان بن الحكم، وقد أثبته كل من رواه عن مالك، وهو مثبت أيضًا في "التمهيد" (7/237).
(16) في (أ): «رجع».
(17) الرواية الأولى التي ذكرها المؤلف: أهدى رجل من بني فزارة... الحديث، وفيه خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر. وأما رواية: عوض ست بكرات، فهي أخصر من الرواية التي أشار إليها المؤلف رحمه الله، ومن طريق آخر.
(18) في (أ) و(ف): «في» بلا واو.
(19) قوله: «منها» سقط من (ح) و(ك).(4/466)
أقبل بعد يومي هذا من رجل من العرب هديَّة إلا من قرشيٍّ، أو أنصاريٍّ، أو ثقفيٍّ، أو دوسيٍّ» (1) . وهذا الحديث وإن لم يكن إسناده بالقوي، فيعضده كل ما تقدم. وما حكاه مالك من أن هبة الثواب مجتمعٌ عليها عندهم، وكيف لا تجوز وهي معاوضةٌ تشبه البيع في جميع وجوهه (2) ، إلا وجهًا واحدًا ؟! وهي (3) : أن العوض فيها غير معلوم حالة العقد. وإنما سامح الشرع في هذا القدر؛ لأنهما دخلا في ذلك على وجه المكارمة، لا المشاحَّة، فعفا عن تعيين العوض فيه، كما فعل في نكاح التفويض.
وأما هبة الأب لولده: فللأب الرجوع فيها. وإلى هذا (4) ذهب مالك، والشافعي، وأبو ثور، والأوزاعي. وقد اتفق هؤلاء على أن ذلك للأب. وهل يلحق بالأب الأم والجد. اختلف في ذلك قول مالك، والشافعي. ففي قول: يُقْصَرُ ذلك على الأب. وفي قول آخر: إلحاقهما (5) به. والمشهور من مذهب مالك: إلحاق الأم. ومن مذهب الشافعي: إلحاق الأم، والأجداد، والجدَّات مطلقًا. والأصل في هذا الباب: ما خرَّجه النسائي (6) من حديث ابن عمر، وابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه (7) قال: «لا يحل لرجل يعطي عطية يرجع (8) فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده، ومثل الذي يعطي عطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب، أكل حتَّى إذا شبع قاء، ثم عاد في قيئه»، وهذا حديث صحيح. وقال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا: =(4/582)=@ أن من أعطى ولده عطيَّة ليس بصدقة أن له أن يعتصرها (9) ؛ ما لم يستحدث الولد دينًا، أو ينكح، فليس للأب الاعتصار (10) . وسبب اختلافهم في إلحاق غير الأب بالأب: هو أنَّه هل يتناول الملحق اسم الأبوة، أو الوالد (11) ، أم لا؟ وهل هم في معنى الأب، أو يُفرَّق بينهم وبينه؟ فإن (12) للأب من الحق في مال الولد ما ليس لغيره، وله من خصوصية (13) القرب ما ليس لهم.
قلت: وأما (14) إلحاق الأم (15) فلا إشكال فيه، وقد أوغل الشافعي في استرجاع &(4/467)&$
__________
(1) أخرجه الترمذي (3946) عن البخاري الذي أخرجه في "الأدب المفرد" (596)، وأخرجه أبو داود (3537)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1517)، وأبو يعلى (6579) كلهم من طريق محمد بن إسحاق، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة. وقد تابعه محمد بن عجلان، ومسعر بن كدام، وأيوب بن أبي مسكين. فأخرجه عبدالرزاق (16522)، وأحمد (7363)، والحميدي (1051) من طريق سفيان بن عيينة.
وأخرجه عبدالرزاق (19921)، ومن طريقه النسائي (6/279)،وفي "الكبرى" (6594) عن معمر. وأخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1518)، ومن طريقه البيهقي (6/180) من طريق الضحاك بن مخلد. ثلاثتهم - سفيان، ومعمر، والضحاك-، عن محمد بن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة به نحوه.
وأخرجه ابن أبي شيبة (12/201) عن يزيد بن هارون، عن مسعر بن كدام، عن سعيد المقبري به. وأخرجه الترمذي (3945) من طريق يزيد بن هارون، عن أيوب بن أبي مسكين أبي العلاء، عن سعيد المقبري به.
وأخرجه أحمد (7918) من طريق يزيد بن هارون، عن أبي معشر - وهو نجيح بن عبدالرحمن السندي، عن سعيد المقبري به.
والحديث بمجموع طرقه صحيح.
(2) في (ح): «وجوهها».
(3) في (ك): «وهو».
(4) في (ك) و(ف): «ذلك».
(5) في (أ): ((الحقاهما به)).
(6) في "سننه" (6/265 رقم3690)، وفي "الكبرى" (4/124 رقم6534).
وأخرجه ابن أبي شيبة (6/476)، وأحمد (2119 و2120 و4810 و5493)، وأبو داود (3539)، وابن ماجه (2377)، والترمذي (1299 و2132)، وابن الجارود (994)، وأبو يعلى (2717)، والطحاوي (4/79)، وابن حبان (5123)، والدارقطني (3/42)، والحاكم (2/46)، والبيهقي (6/179) من طرق عن حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن طاووس، عن ابن عمر وابن عباس مقرونين به مرفوعًا. وإسناده لا بأس به، رجاله ثقات سوى عمرو بن شعيب فهو صدوق.
(7) في (ف): ((أن)) بدل ((أنه)).
(8) في (ف): ((يعود)).
(9) في (ح): «يرجع».
(10) في (ح): ((الاعتظاد)).
(11) قوله: «أو الوالد» سقط من (أ).
(12) في (أ): «بأن».
(13) في (أ): «حقوق».
(14) في (ح) و(ك): «أما».
(15) في (ف): ((للأم)).(4/467)
الأب لما وهب، وتعلَّق (1) بالولد من الدين والتزويج كل طلب، وللأب أن يعتصرها من كل من يقع عليه اسم ولد حقيقة، أو مجازًا، مثل ولده لصُلْبه، وولد ولده من أولاد البنين والبنات.
وحملت طائفة حديث النَّهي عن (2) الارتجاع في الهبة على عمومه، ولم يستثنوا من ذلك ولدًا (3) ولا غيره، وبه قال طاووس، وأحمد. والرجوع عندهم في الهبة محرم (4) (5) مطلقًا. والحجَّة عليهم ما تقدَّم من الحديث، وعمل أهل المدينة الدَّالّين على استثناء الأب. وقالت طائفة أخرى: إن المراد بذلك النهي: من وهب لذي رحم، أو زوج، فلا يجوز له الرُّجوع. وإن وهب لغيرهم جاز الرُّجوع. وهو قول الثوري، والنخعي، وإسحاق. وقصره (6) أبو حنيفة، والكوفيون على كل ذي رحم محرم فلا رجوع له فيما يهبه لهم، ويرجع فيما وهبه لغيرهم؛ وإن كانوا ذوي رحم.
قلت (7) : وهذه تحكُّمات على ذلك العموم. فيا لله من تلك الفهوم!! =(4/583)=@
- - - - -
2 - ومن باب من نحل بعض ولده دون بعض
حديث النعمان بن بشير في هذا الباب كثرت طرقه، فاختلفت (8) ألفاظه، حتَّى لقد قال بعض الناس: إنَّه مضطرب، وليس كذلك؛ لأنه ليس في ألفاظه تناقض، بل يمكن الجمع بينها (9) على ما نبيِّنه إن شاء الله تعالى. &(4/468)&$
__________
(1) في (أ) و(ح) و(ف): ((ولو تعلق)) و(ك).
(2) في (ك): «على».
(3) في (أ) و(ف): ((والدًا)).
(4) في (ك): ((ححرحًا))
(5) في (ك): «محرمًا».
(6) في (ح): ((وفصره)).
(7) من قوله: «فلا رجوع....» إلى هنا سقط من (ح).
(8) في (لإ): ((باختلاف)).
(9) في (أ): «بينها وبينه» وفي (ف): ((بينهما))..(4/468)
وقوله (1) : «إني نَحَلْتُ ابني هذا (2) غلامًا كان لي (3) »؛ كان (4) هذا النُّحل منه بعد أن سألته أمُّه - وهي: عمرة بنت رواحة - بعض الموهبة من ماله، كما قد جاء في الرواية الأخرى (5) .
و«نحلت»: أعطيت. و«النِّحلة»: العطية بغير عوض. و« النحل»: الشيء المنحول. و «الموهبة» رواية ابن عيسى (6) . وهي مصدرٌ مزيدٌ من: وهب، يهب، هبة، وموهبة. وهي (7) هنا بمعنى الشيء الموهوب. وعند كافة الرواة: الموهوبة؛ أي: بعض الأشياء الموهوبة. وجاء في الرواية الأخرى: «وهبت» بدل «نحلت»، وهو بمعناه. وفي رواية: قال النعمان: «تصدق عليَّ أبي ببعض ماله» (8) ؛ فسمَّي ذلك: صدقة - تجوُّزًا -. فأمَّا أبوه بشير فسمَّاها (9) : نحلة، وهبة - حقيقة -، وهو أعلم بنيَّته، وأثبت في قضيَّته؛ لأن النعمان إذ ذاك كان غلامًا (10) .
وقوله: «أكل ولدك نحلته مثل هذا»؛ تنبيهٌ على أن الإنسان إذا أعطى بنيه =(4/584)=@ سوَّى بينهم، ذكرهم وأنثاهم. وأن ذلك الأفضل، وإليه ذهب القاضي أبو الحسن ابن القصار من أصحابنا (11) ، وجماعة من المتقدِّمين. وذهب آخرون؛ منهم: عطاء والثوري، ومحمد بن الحسن، وأحمد، وإسحاق، وابن شعبان من أصحابنا: إلى أن الأفضل (12) : للذكر مثل حظ الأنثيين. على قسمة الله تعالى المواريث.
وقوله في الرِّواية الأخرى: «أفعلت هذا بولدك كلهم؟» هذه الرواية بمعنى اللفظ الأول (13) ، فهو (14) نقل بالمعنى. وكان هذا القول من النبي - صلى الله عليه وسلم - (15) في بعد أن سأله، فقال له (16) : «ألك ولدٌ غيره؟» كما جاء في الرواية الأخرى، فلما أجابه عن قوله: «أفعلت هذا بولدك كلِّهم؟» بقوله: لا. قال: «اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم»، وحينئذ قال: «لا تشهدني، لا يصلح هذا، أشهد غيري، فإني لا أشهد على جَوْر». وفي الأخرى (17) : «إنِّي لا أشهد إلا على حق»، وهو (18) بمعنى: «لا أشهد على جَوْر». وكان هذا منه - صلى الله عليه وسلم - لما سأله بشير أن يشهد على الهبة، كما قال: «إن ابنة رواحة أعجبها أن أشهدك على ما وهبت لابنها». ثم نبهه - صلى الله عليه وسلم - على علَّة أمره بالتسوية بينهم بقوله: «أتحبُّ أن يكونوا لك في البرِّ سواء؟» قال: نعم. قال: «فلا إذًا». وإذا تأملت هذا تبيَّنْتَ: ألا اضطراب في الروايات، وانتظام ما &(4/469)&$
__________
(1) في (ف): ((قوله)) بلا واو.
(2) قوله: «هذا» سقط من (ح) و(ك) ** يراجع**.
(3) قوله: «كان لي» سقط من (ح) و(ك).
(4) قوله: «كان» سقط من (أ).
(5) في (ح) و(ك): «كما قال في الرواية الأخرى».
(6) في (ك): «أبي عيسى».
(7) في (ح): «وهو».
(8) هي في مسلم (1623).
(9) في (ك): ((فسمّى)).
(10) في (أ) و(ف): ((كان إذ ذاك علامًا)).
(11) ألحق ناسخ في (ف) في الهامش: ((وأكثر الناس لقوله عليه السلام أيسر له أن يكونوا لك في البر سواء قال بلى قال فلا إذًا أي فسوِّ بينهم ولم يستثن ذكرًا من أنثى وغير ذلك من السر)) وكتب تتميم.
(12) في (ف): ((أن إلى أن الأفضل)).
(13) في (أ): «هذه الرواية بمعنى الأولى».
(14) في (ك): «وهو».
(15) قوله: ((في)) سقط من (ف) و(ح).
(16) قوله: ((له)) سقط من (ف).
(17) في (ح): «الرواية الأخرى».
(18) في (ك): «وهي».(4/469)
يظهر في بادئ الأمر (1) من الشَّتات. ولما تبيَّن هذا: تعيَّن أن نبحث عمَّا (2) فيه من الأحكام. والله المستعان.
فأول ذلك: أنَّه لا يجوز أن يخصَّ بعض ولده بعطاء ابتداء. وهل ذلك على جهة التحريم، أو الكراهة؟ قولان لأهل العلم. وإلى التحريم ذهب طاووس، =(4/585)=@ ومجاهد، والثوري، وأحمد، وإسحاق. وأن ذلك يُفْسَخُ إن وقع. وذهب الجمهور: مالك في المشهور عنه، والشافعي، وأبو حنيفة، وغيرهم: إلى أن ذلك لا يُفْسَخ إذا وقع. وقد حكى ابن المنذر عن مالك وغيره جواز ذلك؛ ولو أعطاه ماله كله. وحكى غيره عن مالك: أنَّه إن أعطاه ماله كله ارتجعه. قال (3) سحنون: من أعطى ماله كله (4) ولدًا (5) أو غيره، ولم يبق له ما يقوم به؛ لم يجز فِعْله. فمن قال بالتحريم تمسَّك بظاهر النهي. وأيد (6) بقوله: (لا يصلح هذا، ولا أشهد على جؤر"، وبقوله: «اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم»، وبأمره بردّ ذلك. ومن قال بالكراهة؛ انصرف عن ذلك الظاهر بقوله: «أشهد &(4/470)&$
__________
(1) في (ف): ((الأمرين)).
(2) في (أ): «على ما» وفي (ف): ((أن يبحث على ما))..
(3) في (ف): ((وقال)).
(4) قوله: «كله» سقط من (ك).
(5) في (ح): ((ولده)).
(6) في (أ) و(ف): ((وأيده)) و(ك) و(ح).(4/470)
على هذا غيري». قال (1) : ولو كان حرامًا لما قال هذا. وأنه إنما كان (2) يذمُّ من فَعَلَ ذلك (3) ، ومن يشهد (4) فيه، ويغلِّظ عليه، كعادته في العقود المحرَّمة. وبقوله: «أيسرُّك أن يكونوا لك في البرِّ سواء؟» فإنه نبَّه (5) على مراعاة الأحسن. وبأن أبا بكر الصديق (6) رضي الله عنه نحل عائشة رضي الله عنها جادَّ عشرين وسقًا من ماله بالغابة، ولم ينحل غيرها من ولده شيئًا من ذلك (7) ، ولأن الأصل جواز تصرُّف الإنسان (8) في ماله مطلقًا. وتأول هؤلاء ما احتجَّ به المتقدِّمون من قوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا يصلح هذا (9) »، وأن ذلك «جَوْر (10) » على أن ذلك على الكراهة؛ لأن من عدل عن الأولى والأصلح يصدق عليه مثل ذلك (11) الإطلاق؛ لأنه مما لا ينبغي أن يُقْدِم عليه. ولذلك لم يشهد فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وأما أمره بالارتجاع بذلك (12) ؛ لأنه يجوز للأب أن يرجع فيما وهب لولده (13) ، كما تقدَّم، وهو (14) يدل على صحَّة الهبة المتقدمة، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : «مُره فليراجعها» (15) ، وكان ذلك دليلاً (16) على صحة الطلاق الواقع في الحيض. وللطائفة الأولى أن تنفصل عن ذلك بمنع (17) : أن قوله: =(4/586)=@ «أشهد على هذا غيري» ليس إذنًا في الشهادة، وإنَّما هو زجرٌ عنها؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد سمَّاه جورًا، وامتنع من الشهادة فيه، فلا يمكن أن يشهد أحد من المسلمين في ذلك بوجه.
وعن قوله في قوله (18) : «أيسرك أن يكونوا في البر سواء؟»: أن ذلك تنبيه على الأحسن، بإن (19) ذلك ممنوع، بل ذلك (20) تنبيه على مدخل المفسدة الناشئة عنه، وهو العقوق؛ الذي هو أكبر الكبائر. وعن نُحْلِ أبي بكر رضي الله عنه: أن ذلك يحتمل أنَّه كان (21) قد نحل أولاده نحلاً يعادل ذلك، ولم ينقل. ثم إن ذلك الفعل منه لا يعارض به قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعن التمسك بالأصل: أن ذلك غير قادح (22) ؛ لأن الأصل الكلِّيّ والواقعة المعينة المخالفة لذلك الأصل في حكمه لا تعارض بينهما، كالعموم والخصوص. وقد تقرر في الأصول: أن الصحيح (23) بناء العام على الخاص (24) . وعن التأويل (25) : أن ذلك مجاز، وهو على خلاف الأصل. وعن الارتجاع: يمنع (26) أن يحمل ذلك على الاعتصار؛ فإن لفظ الردِّ ظاهر في الفسخ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ» (27) ؛ أي: مفسوخ. ويؤيد (28) ذلك قوله: فردَّ أبي تلك الصدقة. والصَّدقة لا يعتصرها الأب بالاتفاق.
وعند هذا الانفصال يتبيَّن للناظر: أن القائل بالتحريم هو الذي صال. وأمَّا القول بالجواز فلم يظهر له وجه فيه (29) يجاز. =(4/587)=@
تنبيه: مِن أبعد تأويلات ذلك الحديث قول من قال: إن النهي فيه إنَّما يتناول من وهب ماله كلَّه لبعض ولده، وكأنه لم يسمع في الحديث نفسه: إن الموهوب كان غلامًا فقط، وإنما (30) وهبه له لمَّا سألته أمُّه بعض الموهبة من ماله. وهذا يعلم منه على القطع: أنه كان له مالٌ غيره. &(4/471)&$
__________
(1) في (ح): «قالوا».
(2) في (ح) و(ك): «وإنما كان».
(3) في (ح) و(ك): «من فعله»، بدل ((من فعل ذلك)).
(4) في (ك): «شهد».
(5) قوله: «نبه» سقط من (ح).
(6) قوله: «الصديق» سقط من (ح) و(ك).
(7) أخرجه مالك في "الموطأ" (1438) عن الزهري، عن عروة، عن عائشة.
وأخرجه البيهقي (6/169) من طريق مالك ويونس بن يزيد وغيرهما من أهل العلم عن الزهري به مثله. وأخرجه اللالكائي في "كرامات الأولياء" (63)، وابن حزم في "المحلى" (9/121) من طريق مالك به، وأخرجه عبدالرزاق (16507) عن معمر، عن الزهري به، وأخرجه عبدالرزاق (16508) عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة: أن القاسم بن محمد أخبره أن أبا بكر قال لعائشة...، فذكره.
(8) في (ح): ((الامساس)).
(9) قوله: ((هذا)) سقط من (ح).
(10) في (أ): «جورًا». ...
(11) قوله: ((ذلك)) لم يتضح في (ح).
(12) في (أ) و(ف): ((فذلك)).
(13) في (ح) و(ك): «ولده».
(14) في (ف): ((وهذا)).
(15) تقدم في كتاب الطلاق، باب....
(16) قوله: ((ذلك)) لم يتضح في (ح).
(17) في (ك): «المنع».
(18) قوله: «في قوله» سقط من (أ).
(19) في (ك): «فإن».
(20) قوله: «ذلك» سقط من (ك).
(21) في (ح): «أن كان».
(22) في (أ) و(ف): «صحيح».
(23) قوله: «أن الصحيح» سقط من (ح).
(24) في (ح): «حمل العام على الخاص».
(25) في (أ): «الثاني».
(26) في (ح) و(ف): ((بمنع)).
(27) تقدم في كتاب...، باب...
(28) في (أ): «منسوخ ونؤيد.
(29) في (ح) و(ك) و(ف): «به».
(30) في (ف): ((وأنه إنما)).(4/471)
وفي هذا الحديث ما يدل على الاحتياط في العقود بشهادات (1) الأفضل والأكبر (2) ، وعلى حضِّ الأب على سلوك الطرق المفضية بابنه إلى برِّه، وتجنب (3) ما يفضي إلى نقيض ذلك.
وفيه دليل: على أن (4) حَوْز الأب لابنه الصغير ما وهبه له جائز، ولا يحتاج إلى أن يحوزه (5) غيره؛ فإن النُّعمان كان صغيرًا، وقد جاء به أبوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يحمله.
قال عياض: ولا خلاف في هذا بين العلماء فيما يعرف بعينه. واختلف المذهب فيما لا يعرف بعينه، كالمكيل، والموزون، وكالدراهم (6) . هل يجزئ تعيينه، والإشهاد عليه، والختم عليه في (7) الحوز، أم لا يجزىء (8) ذلك حق (9) يخرجها من يده إلى يد غيره؟ وأجاز ذلك أبو حنيفة وإن لم يخرجه من يده. وكذلك اختلف في هبته له جزءًا من ماله مشاعًا.
قلت: وهذا الحكم إنما ينتزعه من هذا الحديث من حمل قوله: «فارجعه» على الاعتصار.
واختلف العلماء فيما لم يقبض من الهبات. هل تلزم (10) بالقول، أم (11) لا حتى تقبض (12) ؛ فذهب الحسن البصري، وحمَّاد بن أبي سليمان، وأبو ثور، وأحمد بن حنبل: إلى أنَّها تلزم بالقول، ولا تحتاج (13) إلى حوزٍ، كالبيع. وقال أبو حنيفة =(4/588)=@ والشافعي: لا تلزم بالقول، بل بالحوز. وذهب مالك: إلى أنها تلزم بالقول، وتتم بالحوز. وقد تقدَم ذلك. والعلماء مُجْمِعُون على لزومها بالقبض. وهبة المشاع (14) جائزة عند الجمهور. ومنعها أبو حنيفة. &(4/472)&$
__________
(1) في (ح) و(ك): «بشهادة».
(2) في (ح): ((الأكرم))، بدل: ((الأكبر)).
(3) في (ك): «ويجتنب».
(4) قوله: «أن» سقط من (أ).
(5) في (ح) و(ك): «يحوز».
(6) في (ك): «الدراهم».
(7) في (أ): «عن».
(8) في (ك): ((يجوز)).
(9) في (أ) و(ح) و(ف) و(ك): ((حتى)).
(10) في (ح) و(ف): «يلزم».
(11) في (أ) و(ف): «أو».
(12) في (ف): ((يقبض)).
(13) في (ف): ((يحتاج)).
(14) في (ك): «المتاع».(4/472)
- - - - -
3 - ومن باب المنحة مردودة
ظاهر قول أنس: فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم أنصاف أموالهم كل عام، ويكفونهم المؤونة (1) يقتضي: أن الأنصار ساقَوْا المهاجرين. فيكون فيه حجَّة =(4/589)=@ على من أنكر المساقاة (2) . وهو أبو حنيفة. غير أن هذا لم يكن من جميع الأنصار، بل كان منهم من فعل هذا، ومنهم من أعطى الثَّمرة من غير عمل، كما فعلت أم سليم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكما قال أنس في الرواية الأخرى: إن الرَّجل كان يعطي النبي (3) - صلى الله عليه وسلم - النخلات من أرضه، وكان هذا من المهاجرين تنزها عن الأخذ العَرِيِّ عن المعاوضة على مقتضى كرم أخلاقهم، ولم تفعل (4) الأنصار ذلك إلا (5) عند امتناع المهاجرين من القبول. وذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما (6) آخى بين المهاجرين والأنصار؛ كان الأنصاري يقول للمهاجري: إن عندي من المال كذا، فتعال أشاطرك عليه، وكان منهم من يقول: إن عندي زوجتين؛ أنزل لك عن أحسنهما، فيقول المهاجري: بارك الله لك في أهلك ومالك (7) ، دُلَّني على السوق (8) . وإنَّما أعطى =(4/590)=@ النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمِّ أيمن ما كان يملكه من ثمر ذلك العَذْق، وظنت أمُّ أيمن: أنَّه إنما أعطاها الأصل، فلذلك امتنعت من ردِّه بناء منها على أنه كان يملكه، فكان منها (9) ما يأتي بعد. &(4/473)&$
__________
(1) في (ح): «المؤنة».
(2) في (ك): ((المساة)) بدل ((المساقاة)).
(3) في (ك): ((يعطي رسول الله)) وكتب فوقها ((النبي)).
(4) في (ك): «يفعل».
(5) قوله: «إلا» سقط من (ح).
(6) قوله: «لما» سقط من (أ).
(7) في (ف): ((مالك وأهلك)).
(8) أخرجه البخاري (2049 و2293 و3781 و5153 و6082)، ومسلم (1427/81).
(9) في (ف): ((منها على ما)).(4/473)
وهذا الحديث كله يدلُّ (1) على جواز هبة المجهول؛ فإن الثمرة مجهولة. ولا وجه لمنع ذلك؛ إذ لا يؤدي إلى فساد في عوض، ولا إلى غرر في عقد؛ لأن (2) هذه الهبة إن قصد بها الأجر؛ فهو حاصل بحسب نيَّة الواهب، وصل الموهوب لتلك الهبة أو لا. وإن أراد المحبَّة والتودد؛ فإن حصلت الهبة للموهوب حصل ذلك المقصود، وإلا فقد علم الموهوبُ له اعتناءَ الواهب به، وإرادة إيصال الخير له.
وفعل أم أيمن بأنس ما فعلت بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وامتناعها من ردِّ ما أمرها بردِّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . إنما صدر عنها كل ذلك، لما كان لها على النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) من =(4/591)=@ الدلال (4) والانبساط بحكم أنها كأمه من جهة الحضانة، والتربية، والكفالة. ومسامحة النبي - صلى الله عليه وسلم - لها (5) في ذلك على جهة الإكرام لها(2)، والقيام بحقها. ومع ذلك: فلم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يسوسها، ويتلطف بها إلى أن أخذ منها ما ليس لها، وأعطاها ما كان لها (6) ، مُسْتَرْضِيًا لها، ومطيِّبًا قلبها، على كرم خلقه، وحُسن محاولته - صلى الله عليه وسلم - . &(4/474)&$
__________
(1) في (أ): «دلَّ».
(2) في (ف): ((ولأن)).
(3) من قولة: ((انما صدر)) إلى هنا سقط من (أ).
(4) في (ك): «الإدلال».
(5) قوله: «لها» سقط من (ك).
(6) في (أ) و(ف): «له».(4/474)
وفيه دليلٌ على أن ما وُهِبَت منفعته، فإذا انقضت وَجَب ردُّ الأصل. ولا خلاف (1) فيه.
******
4 - ومن باب العمرى
قوله: «أيُّما رجل أعمر عُمْرى له ولعقبه»؛ العمرى في اللغة: هي أن يقول الرَّجل للرَّجل: هذه الدار لك عمري أو عمرك. وأصلها من العمر؛ قاله أبو عبيد (2) . وقال غيره: أعمرته الدَّار جعلتها له عمره. وقال الحربي: سمعت ابن الأعرابي يقول: لم يختلف (3) العرب أن (4) هذه الأشياء على ملك أربابها: العمرى، والرُّقبى، والسُّكنى، والإطراق، والمنحة، وا لعريه، والعارية، والأفقار. ومنافعها لمن جعلت له.
قلت: وعلى هذا: فالعُمْرى الواردة في الحديث حقها أن تحمل على هذا. فتكون: تمليك منافع الرَّقبة مدة عمر من قُيِّدت بعمره، فإن لم يذكر عقبًا؛ فمات الْمُعْمَرُ (5) رجعت إلى الذي أعطاها (6) ولورثته. فإن قال: هي لك ولعقبك؛ لم ترجع إلى الذي أعطاها (7) إلا أن ينقرض العَقِبُ. =(4/592)=@ &(4/475)&$
__________
(1) في (ح): ((خلاف)) وألحق في الهامش قوله: ((اختلاف)) وكتب صح.
(2) كتب ناسخ (ف) في الهامش: ((أيمن بن عبيد أحد من ثبت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين وفيها استشهد رضي الله عنه وأسامة بن زيد أخو أيمن لأمه)) وكتب تتميم.
(3) في (ف): ((لم تختلف)).
(4) في (ك): ((بأن)).
(5) في (ك): «المعمور».
(6) في (أ): «أعطيت».
(7) من قوله: ((ولورثتهفان قال)) إلى هنا سقط من (أ).(4/475)
وعلى هذا: فيكون الإعمار بمعنى الإسكان؛ إذا قيّد بالعمر، غير أن الأحاديث التي جاءت في هذا الباب تقتضي بحكم ظاهرها أنَّها تمليك الرَّقبة على ما هي مسرودة في الأصل، فاختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:
أحدها: ما تقدَّم، وهي أنها تمليك منافع الرَّقبة. وهو قول القاسم بن محمد، ويزيد بن قُسَيط، واللَّيث بن سعد، وهو مشهور مذهب مالك، وأحد أقوال (1) الشافعي. وقال مالك: وللمُعْمِر أن يُكريها ولا يُبْعِد، وله أن يبيعها من الذي أعطاها، لا من غيره.
وثانيها: أنها تمليك الرَّقبة ومنافعها، وهي هبة مبتولة. وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وأصحابهما، والثوري، والحسن بن حيّ، وأحمد بن حنبل، وابن شبرمة، وأبي عبيد؛ قالوا: من أعمر رجلاً شيئًا (2) حياته فهو له حياته، وبعد وفاته لورثته؛ لأنه قد ملك رقبتها. وشرط المعطي الحياة أو العمر باطل؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أبطل شرطه، وجعلها بتلةً. وسواء قال: هي لك حياتك، أو: هي لك ولعقبك بعدك.
وثالثها: إن (3) قال: عمرك؛ ولم يذكر العقب كان كالقول (4) الأول. وإن قال: لك (5) ولعقبك؛ كان كالقول الثاني. وبه قال الزهري، وأبو ثور، وأبو سلمة بن عبدالرحمن، وابن أبي ذئب، وقد روي عن مالك. وهو ظاهر قوله في "موطأ" بحي بن يحيى.
فأهل القول الأول تمسَّكوا بأصل اللغة، وعضدوا ذلك بما رواه ابن القاسم عن مالك قال: رأيت محمدًا وعبدالله ابني أبي بكر بن محمد بن عمرو =(4/593)=@ بن حزم، وعبدالله يعاتب (6) محمدًا - وهو يومئذ قاض - فيقول (7) له: ما لك لا تقضي &(4/476)&$
__________
(1) في (ك): «قولي».
(2) قوله: ((شيئًا)) سقط من (ك).
(3) في (ح): «إنه إن».
(4) في (ح): ((القول)).
(5) في (ح): «هي لك».
(6) في (ك): «يعاقب».
(7) في (ح) و(ك) و(ف): «ويقول».(4/476)
بحديث ابن شهاب في العُمْرى؟ فقال: يا أخي ! لم أجد النَّاس عليه، وأباه الناس. قال مالك: ليس عليه العمل، ولوددت: أنه مُحِي. وعضدوه أيضًا بأن قالوا: الأصل بقاء ملك المعطي للرَّقبة بإجماع (1) ، ولم يرد قاطع بإخراجه عن يده قبل الإعمار (2) ، وتأولوا جميع تلك الظواهر الواردة في الباب.
وأما أهل (3) القول الثاني: فظواهر الأحاديث معهم، غير أنَّهم لا يُسلَّم لهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبطل شرط العمر؛ لأنَّه لو أبطله لبطلت العمرى بالكليَّة، ولامتنع (4) إطلاق ذلك الاسم عليها، ولم تبطل؛ لأن الأصل في شروط المسلمين صحتها وبقاؤها بدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (5) : «المسلمون (6) على شروطهم»؛ ذكره أبو داود (7) وغيره (8) عن أبي هريرة. فإن قيل: هذا من الشروط التي قد (9) أبطلها الشرع بقوله: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» (10) ؛ قلنا (11) : لا نسلّم: أنَّه ليس في كتاب الله تعالى ** كذا في (أ) **؛ لأن كتاب الله هنا يراد به: حكم الله؛ بدليل السبب الذي خرج عليه الحديث المتقدَّم (12) . وقد تقدَّم في العتق. ثم يلزم على هذا إبطال المنحة، والإفقار، والعارية، فإنَّها كلها عطايا بشروط، وليست كذلك باتفاق. فإن قيل: فقد قال رسول الله (13) - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن أبي ذئب في "موطئه" (14) من حديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه قضى فيمن أعمر عُمْرى له ولعقبه: فهي بتلةٌ لا يجوز للمعطي فيها شرط، ولا مثوبة (15) (16) . وهذا صريح في إبطال الشرط. فالجواب (17) : إنا لا نسلم: أن هذا الشرط المنهي عنه هو نفس الإعمار في قوله: هي لك عمرك؛ لأنه لو كان كذلك لبطلت حقيقة &(4/477)&$
__________
(1) في (ح): «بالإجماع».
(2) قوله: «قبل الإعمار» سقط من (ح) و(ك).
(3) قوله: ((أهل)) سقط من (ك).
(4) في (أ): «ولا تسع».
(5) في (ح): ((رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )).
(6) في (أ): «قد قال المسلمون».
(7) في "سننه" (3594)، وأخرجه أحمد (8784)، وابن الجارود (637 و638 و1001)، وابن عدي في "الكامل" (6/2088)، وابن حبان (5091)، والدارقطني (3/27)، والحاكم (2/49)، و(4/101)، والبيهقي (6/79) كلهم من طريق كثير بن زيد الأسلمي، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة به.
وليس عند أحمد وابن حبان قوله: «المسلمون على شروطهم».
وكثير: الأكثر على تضعيفه، وقال أحمد: ما ارى بحديثه بأسًا، والوليد بن رباح: صدوق حسن الحديث.
(8) قوله: «وغيره» سقط من (ح) و(ك).
(9) قوله: «قد» سقط من (ك).
(10) .....
(11) في (ك): ((قلت)) وكتب فوقها: ((قلنا)).
(12) قوله: «المتقدم» سقط من (أ).
(13) قوله: ((رسول الله)) ليس في (أ) و(ف).
(14) قال الدارقطني: «كان ابن ابي ذئب صنَّف موطأً فلم يخرج». "سير النبلاء" (7/147).
(15) في (أ) ((مثنوبة)) وي (ف): ((مثنوية)).
(16) أخرجه مسلم في "صحيحه" (3/1246) كتاب الهبات (1625 و1124) من طريق ابن أبي ذئب.
(17) في (أ): «والجواب».(4/477)
العمرى، كما قلناه، ولأنه لو بطل ذلك لبطل قول المعطي: هي لك سنة من عمرك، ولم يبطل (1) بالاتفاق، فلا تبطل. والجامع بين الصورتين: أن كل واحد منهما إعطاء ذكر فيه (2) العمر. وقد قال =(4/594)=@ القاسم بن محمد: ما أدركت الناس إلا وهم على شروطهم في أموالهم. ومما يتمسكون به قوله - صلى الله عليه وسلم - : «لأنه أعطى عطاء (3) وقعت فيه المواريث» (4) ، فقد صيَّرها ملكًا؛ لأنه لا يورث عن الإنسان إلا ما كان يملك (5) . ويجابون (6) عن ذلك: بأن اللفظ ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما هو من قول أبى سلمة بن عبدالرحمن؛ كما قد رواه ابن أبي ذئب عن ابن شهاب، عن أبى سلمة، وذكر الحديث المتقدِّم، فلما فرغ قال: قال أبو سلمة : «لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث» (7) . ولئن سلم ذلك؛ فإنما جاء (8) ذلك من حيث ذكر العقب، فيكون فيه حُجَّة لأهل القول الثالث، لا للثاني. وأما أهل القول الثالث، فكأنهم (9) أعملوا الاسم فيما لم يذكر فيه (10) العقب، وتركوا مقتضاه، حيث منع منه الشرع. وكأنهم (11) جمعوا بين الاسم والأحاديث التي (12) في الباب. وقد شهد لصحة هذا رواية من قال عن جابر: إنَّما العُمْرى التي أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: هي لك ولعقبك. فأمَّا إذا قال: هي لك ما عشت: فإنها ترجع إلى صاحبها (13) . قال: وبه كان الزهري يُفتي. ثم ما ورد من الروايات مطلقًا فإنه (14) مقيد بهذا الحديث. غير أن كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى عند قوله: «هي لك ولعقبك»، وما بعده من كلام الزهري، على ما قاله محمد بن يحيى الذهلي. وهو مما انفرد به معمر عن الزهري. وخالفه في ذلك سائر من رواه عن الزهري من الأئمة الحفاظ، كالليث، ومالك، وابن أخي الزهري، وابن أبي ذئب (15) . ولم يذكروا ذلك (16) . (17) .
قلت: والذي يظهر لي، وأستخير الله تعالى في ذكره: أنَّ حديث جابر في العُمْرى رواه عنه جماعة، واختلفت (18) ألفاظهم اختلافًا كثيرًا، ثم رواه عن كل واحد من تلك الجماعة قوم آخرون. واختلفوا كذلك. ثم كذلك القول في &(4/478)&$
__________
(1) في (ف): ((ولم تبطل)).
(2) في (ف): ((في)) بدل ((فيه)).
(3) في (أ): «إعطاء».
(4) أخرجه مسلم (3/1246/24).
(5) في (ك): «يملكه».
(6) في (أ): «ويجاوبون».
(7) أخرجه مسلم (3/1246/24).
(8) في (ح): «جاز».
(9) في (ح): ((كأنهم)).
(10) قوله: «فيه» سقط من (أ).
(11) في (ف): «فكأنهم».
(12) في (ف): ((الذي)).
(13) "صحيح مسلم" (3/1246/23).
(14) في (أ): ((فإنها)).
(15) رواية الليث ومالك وابن أبي ذئب في "صحيح مسلم" (3/1245-1246).
(16) قوله: «ذلك» سقط من (أ).
(17) وقد نبّه ابن عبدالبر في "التمهيد" (7/113) إلى رواية ابن أبي ذئب فيها بيان المرفوع وباقي الكلام من قول أبي سلمة بن عبدالرحمن. وهذا بين في رواية ابن أبي ذئب المشار إليها في "صحيح مسلم" (3/1246).
(18) في (ف): ((واختلف)).(4/478)
الطبقة الثالثة. وخلط فيه (1) بعضهم بكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ليس منه، فاضطرب، فضعفت الثقة به، مع ما ينضاف إلى ذلك من مخالفته (2) للأصل المعلوم المعمول به: من أن الناس على شروطهم =(4/595)=@ في أموالهم، كما قال القاسم بن محمد، وكما دلَّ عليه الحديث المتقدم في الشروط. وينضاف إلى ذلك: أن الناس تركوا العمل به؛ كما قال محمد بن أبي بكر. فتعيَّن تركه، كما قاله (3) مالك: ليته مُحِي. ووجب التمسك بأصل وضع العُمْرى، كما تقدَّم، وبالأصل المعلوم من الشريعة: من أن الناس على ما شرطوه في أعطياتهم. وهُو (4) القول الأول، وليس على غيره معوَّل. وإذا تقرر ذلك فلنبيِّن (5) وجه ردِّ تلك الروايات إلى ما قررناه.
فأمَّا قوله: «وإنها (6) لا ترجع إلى صاحبها، من أجل: أنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث». فيعني به (7) : أنه لما جعلها للعقب؛ فالغالب أن العقب لا (8) ينقطع، فلا تعود لصاحبها لذلك.
وأمَّا قوله : «وقعت فيه المواريث»، فإن سلَّمنا (9) أنه من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فمعناه - والله أعلم -: أنَّها لما (10) كانت تنتقل للعقب (11) بحكم تلقيهم عن مورِّثهم (12) ، ويشتركون في الانتفاع بها أشبهت المواريث، فأطلق عليها ذلك. =(4/596)=@
وأمَّا قوله: «أمسكوا عليكم (13) أموالكم، ولا تفسدوها»؛ فإنه من باب الإرشاد إلى الأصلح؛ لأن الإعمار يمنع المالكَ من التصرف فيما يملكُ رقبته آمادًا طويلة، لا سيما إذا قال: هي لك ولعقبك؛ فإن الغالب: أنها لا (14) ترجع إليه، كما قررناه. ولا يصح حمل هذا النهي على التحريم؛ لأنَّه قد قال في الرِّواية الأخرى: «العمرى جائزة لمن وهبت له»؛ أي: عطيَّة جائزة، ولأنها من أبواب البر، والمعروف، والرفق. فلا يمنع منه. وقول ابن عباس (15) : لا تحِلُّ العُمْرى ولا الرُّقْبى؛ &(4/479)&$
__________
(1) قوله: «فيه» سقط من (أ).
(2) في (ح): «مخالفة».
(3) في (ح) و(ك): «قال».
(4) في (ك) و(ف): «وهذا».
(5) في (ح): ((فلنتبين)).
(6) في (ف): ((فإنها)).
(7) قوله: ((به)) سقط من (ح).
(8) قوله: «لا» سقط من (أ).
(9) قوله: ((سلمنا)) لم يتضح في (ح).
(10) قوله: «لما» سقط من (أ).
(11) في (ف): ((إلى العقب)).
(12) في (أ) و(ح): ((موروثهم)).
(13) قوله: ((عليكم)) سقط من (أ).
(14) قوله: ((لا)) سقط من (ح).
(15) أخرجه النسائي في "الكبرى" (6543)، وفي "المجتبى" (3712) من طريق يعلى بن عبيد، ثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن طاووس، عن ابن عباس به.
أخرجه النسائي (6544)، وفي "المجتبى"(3713) من طريق حجاج بن حجاج الباهلي، عن أبي الزبير، عن طاووس، عن ابن عباس قال: لا تصلح العمرى ولا الرقبى... الحديث.
قال ابن حجر في "الفتح" (5/240): «إسناد صحيح عن ابن عباس موقوفًا».(4/479)
محمول على ذلك، فإنه قال إثر (1) ذلك: فمن أعمر شيئًا فهو له، ومن أرقب شيئًا فهو له. فقد جعلهما (2) طريقين (3) للتملك (4) . فلو كان عقدهما حرامًا كسائر العقود المحرَّمة لأمر بفسخها (5) .
وأمَّا قوله : «فهي للذى أعمرها حيًّا وميتًا»؛ فيعني بذلك: إذا قال: هي لك ولعقبك؛ فإنَّه ينتفع بها في حياته، ثم ينتقل نفعها (6) إلى عقبه بعد موته. وهذه الرواية وإن وقعت هنا مطلقة (7) ؛ فهي مقيدة بالروايات الأخر التي ذكر فيها (8) العقب، لا سيما والرَّاوي واحد، والقضية واحدة. فيحمل المطلق فيها (9) على المقيَّد قولاً واحدًا، كما قررناه في الأصول.
وقوله: إنما العمرى التي أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن يقول: هي لك ولعقبك؛ أي: أمضى جوازها وألزمه دائمًا على ما ذكرناه. =(4/597)=@
وقوله : «وأمَّا إذا قال: فهي لك ما عشت»؛ فإنها ترجع إلى صاحبها، فإن كان من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو نصٌّ، فيما اخترناه. وإن كان من قول الرَّاوي؛ فهو أقعد بالحال، وأعلم بالمقال.
تنبيه: القائلون: بأن العمرى تمليك الرقبة؛ فرَّقوا بينها وبين السُّكنى. فلو قال: أسكنتك حياتك. فإذا مات رجعت إلى صاحبها. إلا الشَّعبي: فإنه (10) سوَّى بينهما، وقال في السَّكن (11) : لا ترجع إلى صاحبها (12) بوجه. وهو شاذٌّ لا يعضده نظر (13) ، ولا خبر. فإن العمرى عند القائلين: بأنها تمليك الرَّقبة، خارجة في (14) القياس. وإنما صاروا إليه من جهة ظواهر الأخبار، فلا تقاس (15) السُّكنى عليها؛ لأن الخارج عن القياس لا يُقَاس عليه كما قررناه في الأصول. ولا خبر فيه، فلا يصار إليه. والله أعلم. =(4/598)=@ &(4/480)&$
__________
(1) في (ح): ((بعد)).
(2) في (أ): «جعلها».
(3) في (ح) و(ك): «طريقًا».
(4) في (ك): «للتمليك».
(5) في (ح): «بفسخهما».
(6) في (أ): ((نتعها)).
(7) قوله: «مطلقة» سقط من (أ).
(8) في (ح) و(ك): «فيها ذكر».
(9) في (ح): «فيهما».
(10) في (أ): ((فإنها)).
(11) في (أ): ((السكنى)) و(ك) و(ف) و(ح).
(12) في (ح): ((صاحبه)).
(13) في (ح): ((النظر)).
(14) في (أ): ((عن)) و(ك) و(ف) و(ح).
(15) في (ف): ((فلا يقاس)).(4/480)
- - - - -
5 - ومن باب الْحُبْس
قول عمر رضي الله عنه: «يا رسول الله ! إنِّي أصبت أرضًا بخيبر لم أُصِب مالاً قطُّ هو أنفسُ منه»؛ يعني: أنَّه صارت له هذه الأرض بالقسمة. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم أرض خيبر التي افتتحت (1) عُنوة كما قررناه في الجهاد. والمال النفيس: المغتبط به لجودته. ويُسَمَّى (2) هذا المال: ثَمْغ (3) . ولما كان هذا المال أطيب أموال عمر، وأحبَّها إليه أراد أن يتصدَّق به (4) لينالَ البرَّ الذي ذكر الله تعالى في قوله تعالى: {لن تنالوا البرَّ حتى تنفقوا مما تُحِبُّون} (5) ، وهذا كما قال الأنصاري صاحبُ بيرحاء، فأرشده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الأصلح في الصَّدقة وهو التحبيس؛ من حيث أن صدقته جارية، وأجره دائم في الحياة، وبعد الموت. كما قال - صلى الله عليه وسلم - : «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية (6) ، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (7) .
وقوله: «فما تأمر (8) به؟» استشارة من عمر مع حُسن أدب، ولذلك أجابه النبي (9) - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إن شئت حبست أصلها، وتصدَّقت بها»؛ أي: بثمرها (10) ، كما قد قال في الرِّواية الأخرى (11) ، وليس هذا أمرًا من النبي - صلى الله عليه وسلم - له (12) ، ولا حُكمًا عليه بالتحبيس. وإنما هي إشارة إلى الأصلح (13) ، والأولى. ففيه دليلٌ على جواز الاستشارة (14) في الأمور؛ وإن =(4/599)=@ كانت من نوع القرب. وعلى أن المستشار يجب عليه أن يشير بأحسن &(4/481)&$
__________
(1) في (ح): ((افتحت)).
(2) في (ف): ((وسمى)).
(3) في (ف): ((ثَمَغ)) وكتب في الهامش ((ثَمْغ)) وفوقهما (معًا).
(4) قوله: «به» سقط من (ح).
(5) الآية (92) من سورة آل عمران.
(6) في (ك): ((جارية عليه)).
(7) "صحيح مسلم" (1631) من حديث أبي هريرة.
(8) في (ح): ((تأمرنا به)).
(9) قوله: ((النبي)) سقط من (ح).
(10) في (ك): «بثمرتها».
(11) في (أ): «رواية أخرى». وهي عند النسائي في "الكبرى" (6340 و6432)، و"المجتبى" (3603 و3605)، ابن ماجه (2397)، وابن خزيمة (2486)، وابن حبان (4899) من طرق عن عبيدالله بن عمر عن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، به.
(12) قوله: ((له)) سقط من (ك).
(13) في (أ) و(ف): «إشارة بالأصلح».
(14) في (أ): «الإشارة».(4/481)
ما يظهر له، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : «من أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره؛ فقد خانه» (1) ، وقال: «المستشار مؤتمن» (2) . ولما فهم عمر رضي الله عنه أنَّه أشار عليه (3) بالأصلح بادر (4) إلى ذلك، فتصدَّق به على جهة تقتضي تحبيس الأصل، والتصدُّق بالثمرة، فكان ذلك دليلاً لجمهور العلماء على جواز الْحُبْس (5) ، وصحته (6) على من شذَّ ومنعه. وهذا خلاف لا يُلتفت إليه. فإن قائله خرق إجماع المسلمين في المساجد، والسقايات؛ إذ لا خلاف في ذلك. وهو أيضًا حجة للجمهور على قولهم: إن الْحُبْس لازم، وإن لم يقترن به حكم حاكم (7) . وخالف في ذلك أبو حنيفة، وزفر (8) ، فقالا (9) : لا يلزم، وهو عطيَّة، يرجع فيها صاحبها، وتورث عنه إلا أن يحكم به حاكم، أو يكون مسجدًا، أو سقاية، أو يوصي به، فيكون (10) في (11) ثلثه.
ووجه الحجَّة عليه من هذا الحديث: أن عمر رضي الله عنه لما فهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إشارته بالتحبيس بادر إلى ذلك بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: إنه لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث. ثم إنه أمضى ذلك من غير أن يحكم به النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ إذ (12) لم يصدر من النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من الإشارة (13) .
وأيضًا: فإن الصحابة رضي الله عنهم قد أجمعت على ذلك من غير خلاف بينهم فيه. فقد حبس الأئمة الأربعة رضي الله عنهم، وطلحة، وزيد بن ثابت، والزبير، وابن عمر، وخالد بن الوليد، وأبو رافع، وعائشة، وغيرهم. واستمرت أحباسهم معمولاً بها على وجه الدَّهر، من غير أن يقف شيء من ذلك على حكم حاكم. ولم يُحْكَ أن شيئًا من تلك الأحباس رجعت إل المحبِّس، ولا =(4/600)=@ إلى ورثته (14) .
ومن جهة المعنى: فإنَّها (15) عطية على جهة القربة، فتلزم؛ كالهبة للمساكين، ولذي الرَّحم، وكالصَّدقة (16) . ولأنه قد أُجمع على تحبيس المساجد من غير حكم. ولا فرق بين تحبيسها وتحبيس العقار لا سيما على الفقراء والمساكين. فإذا (17) ثبت هذا: فالْحُبْس لازم في كل شيء تمكن (18) العطية فيه.
واختلف عن مالك في تحبيس الحيوان؛ كالإبل، والخيل، على قولين: المنع؛ وبه قال أبوحنيفة، وأبو يوسف. &(4/482)&$
__________
(1) ............
(2) .....
(3) قوله: ((عليه)) سقط من (ك).
(4) في (ف): ((بادو)).
(5) في (ف): ((التحبيس)).
(6) في (ف): ((وحجة)).
(7) قوله: «حاكم» سقط من (ك).
(8) قوله: «زفر» سقط من (أ).
(9) في (أ): «فقال».
(10) في (ك): «فتكون».
(11) في (ح): «فيه».
(12) في (أ): ((إذا)).
(13) في (ك): «غير الإشارة».
(14) من قوله: «ولم يحك أن شيئًا....» إلى هنا سقط من (ح) و(ك) و(ف).
(15) في (ح): «فإنه».
(16) في (ك): «والصدقة».
(17) في (أ) و(ح) و(ف): «وإذا».
(18) في (ف): ((يمكن)).(4/482)
والصحة: وبه قال الشافعي، وهو الصحيح؛ لأنه عطية على وجه القربة، يتكرر أجرها (1) ، كالعقار، وغيره، ولأن المسلمين على شروطهم، وقد شرط صاحب الفرس في صدقته: أنه لا يباع (2) ، ولا يوهب، ولا يورث. فَيْنْفُذُ (3) شرطه. وقد تقدم القول على هذا المعنى في باب العُمْرى. فإذا فهمت هذا؛ فاعلم: أن الألفاظ الواقعة في هذا الباب إما أن يقترن معها ما يدل على التأبيد أو لا.
فالأوَّل: نحو قوله: لا يباع، ولا يوهب، ولا يورَّث، أو: أبدًا، أو: دائمًا (4) ، أو: على مجهولين، أو: على العقب. فهذا النَّوع لا يبالي بأيِّ لفظ نُسِق معه؛ لأنه يفيد ذلك المعنى؛ كقوله: وقف، أو: حبس، أو: صدقة (5) ، أو: عطية.
فأما الثاني: وهو إذا تجرد عنا يدل على ذلك، فلفظ الوقف صريح الباب، فيقتضي التأبيد، والتحريم. ولم (6) يختلف المذهب في ذلك. وفي الْحُبْس روايتان: إحداهما (7) : أنه كالوقف. والثانية: أنه يرجع إلى المحبِّس بعد موت المحبَّس عليه. والظاهر الأول؛ لأنه يستعمل في ذلك شرعًا =(4/601)=@ وعرفًا. وأما الصدقةُ: فالظاهر منها أنها تمليك الرَّقبة. وفي رواية (8) : أنها كالوقف. وفيها بُعْدٌ إلا عند القرينة. واختلف فيما لو جمع بينهما فقال: حُبْسُ صدقةٍ. والظاهر: أن حكمه حكم الْحُبْس (9) . وصدقة: تأكيد.
وقوله: «فتصدَّق بها عمر في الفقراء، وفي القربى، وفي الرِّقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف»؛ قد تقدَّم القول في الفقير (10) في كتاب الزكاة، وكذلك: في الرِّقاب، وفي سبيل الله، وفي ابن السبيل (11) . وأما القربى: فظاهره أنه أراد به قرابته. ويحتمل أن يريد به: قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم - المذكورين في الخمس والفىء. وفيه بُعْد؛ لأنه قد أطلق على ذلك الحبس صدقة، وهم قد حرموا الصدقة، إلا إن تنزَّلنا: على أن الذي حرموه هي الصدقة الواجبة فقط. والرَّافع لهذا الاحتمال الوقوف على ما صنع في صدقة (12) عمر. فينبغي أن يبحث عن ذلك. والأولى حمله على قرابة عمر الخاصة به. والله أعلم. &(4/483)&$
__________
(1) في (ح) و(ك): «أخذها».
(2) في (ح): «أنها».
(3) في (ف): ((فنفذ)).
(4) في (أ) و(ف): «ودائمًا»، وفي (ح): «أو أبدًا دائمًا».
(5) قوله: ((صدقة)) لم يتضح.
(6) في (أ) و(ح) و(ف) و(ك): ((لم)) بلا واو.
(7) في (ح): «أحدها».
(8) في (ح): «وفي رواية أخرى».
(9) في (أ) و(ف): «والظاهر أن الحكم للحبس».
(10) في (أ): «الفقر».
(11) قوله: «وفي ابن السبيل» سقط من (ح).
(12) في (ف): ((بصدقة)).(4/483)
وقوله: «لا جناح على من وليها أن ياكل منها بالمعروف»؛ هذا (1) رفع ** كذا في (أ) ** للحرج عن الوالي عليها، والعامل في تلك الصَّدقة في الأكل منها، على ما جرت عادة (2) العمَّال في الحيطان من (3) أكلهم من ثمرها (4) حالة عملهم فيها. فإن المنع من ذلك نادر، وامتناع العامل من ذلك أندر، حتى أنه لو اشترط رب الحائط على العامل فيه ألا يأكل لاستُقْبِح (5) ذلك (6) عادة وشرعًا. وعلى ذلك: فيكون المراد بالمعروف: القدر =(4/602)=@ الذي يدفع الحاجة، ويردُّ الشَّهوة، غير أكل بسرفٍ، ولا نَهْمةٍ، ولا متخذًا خيانة ولا خُبْنَة (7) . وقيل: مراد عمر بذلك (8) : أن يأكل العامل منها بقدر عمله. وفيه بُعْدٌ؛ لأنه لا يصح ذلك حتى يُتأوَّل (9) «يأكل (10) » بمعنى : «يأخذ»؛ لأن العامل إنَّما يأخذ أجرته، فيتصرَّف فيها بما شاء من بيع، أو أكل، أو غير ذلك. و «أكل» بمعنى : «أخذ» على خلاف الأصل، ولأن مساق اللفظ (11) لا يشعر بقصد إلى أن (12) تلك الإباحة إنما هي بحسب العمل وبقدره (13) . فتأمله، لا سيما وقد أردف عليه: ويطعم (14) صديقًا غير متأثلٍ مالاً (15) ؛ يعني به: صديقًا للوالي عليها، وللعامل فيها. ويحتمل: صديقًا للمُحبس. وفيه بُعْدٌ. والمتأثل للشيء هو (16) : المتَّخِذُ لأصله، حتى كأنَّه قديم عنده (17) . ومنه قول الشاعر (18) :
ولكنَّما أَسْعى لِمَجْدٍ مُؤثَّلٍوقد يُدْرِكُ الْمَجْد المؤَثَّلَ أَمْثَالي (19)
أي: المجد القديم المؤصَّل. وأثلةُ الشيء: أصله. وفيه ما يدلُّ على أنه يجوز الحبس على الأغنياء. =(4/603)=@ &(4/484)&$
__________
(1) في (ح): «وهذا».
(2) في (ح) و(ف): «جرت به عادة».
(3) في (ك): «في».
(4) في (أ): «ثمرتها».
(5) في (ف): ((لا يستقبح)).
(6) قوله: «ذلك» سقط من (ك).
(7) في (أ): «جبنة».
(8) في (ح) يشبه ((بذاك)).
(9) في (ح): «يتناول».
(10) قوله: «يأكل» سقط من (ك).
(11) في (أ) و(ف): ((ذلك اللفظ)).
(12) قوله: «أن» سقط من (ك).
(13) في (ح): ((وبقدر)).
(14) في (ف): ((ويعطم)).
(15) قوله: «مالاً» سقط من (ح).
(16) في (أ): ((هي)).
(17) في (أ): ((عنه)).
(18) امرئ القيس، صبح الأعشى (2/230).
(19) في (ف): (أمثال)).(4/484)
كتاب النذور والأيمان
النُّذور: جمع نَذْر، كفَلْسٍ، وفلوس. وهو عبارة عن التزام فعل الطَّاعة (1) بصيغ مخصوصة؛ كقوله: للهِ عليَّ صومٌ، أو صلاةٌ، أو صدقة.
والأيمان: جمع يمين، وهو في أصل اللغة: الْحَلْفُ بمعظَّم - في نفسه، أو عند الحالف - على أمر من الأمور؛ من فعل، أو ترك، بصيغ مخصوصة؛ كقوله: والله لأفعلن، وبحياتك (2) لأتركن. وأمَّا تسمية (3) التزام (4) العتق، والطلاق، والصَّدقة (5) المعلقات على أمر مستقبل أيمانًا؛ فليست كذلك لغة، ولا ورد في كلام الشارع تسميتها أيمانًا، لكن (6) الفقهاء سَمُّوا ذلك أيمانًا، فيقولون: كتاب الأيمان بالطلاق. ومن حلف بطلاق زوجته، أو بعتق أمته فقال: إن شاء الله؛ لم ينفعه الاستثناء. وهم يريدون: إن دخلتِ الدَّار فأنتِ طالق إن شاء الله. وتسمية هذه أيمانًا وَضْعٌ من جهتهم. والأحق بهذا النَّوع أن يُسمَّى التزامًا؛ لأنه شرط ومشروط، وليس من نوع ما تسمِّيه العرب يمينًا (7) .
- - - - -
1 - ومن باب الوفاء بالنَّذر
قوله: استفتى سعدٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نذرٍ كان على أمِّه (8) توفيت قبل أن =(4/604)=@ &(4/485)&$
__________
(1) في (ح): «الطاعات».
(2) في (ك): «وحياتك».
(3) في (أ): ((تسميته)).
(4) قوله: «التزام» سقط من (ح) و(ك).
(5) في (ح): «الصدقات».
(6) في (لإ): ((ولكن)).
(7) قوله: ((يمينًا)) سقط من (ف).
(8) ألحق ناسخ (ف): بالهامش: ((اسم أمه عمرة بنت مسعود الأنصارية لها صحبة)).(4/485)
تقضيه (1) »؛ فيه من الفقه: استفتاء الأعلم ما أمكن. وقد اختلف أهل الأصول في ذلك. هل يجب على العامِّيِّ أن يبحث عن الأعلم، أو يكتفي بسؤال عالم - أي عالم كان - على قولين. وقد أوضحناهما (2) في الأصول، وبيَّنا (3) : أنه يجب عليه أن يبحث عن الأعلم؛ لأن الأعلم أرجح، والعمل بالرَّاجح واجب.
وقد اختلف في هذا النذر الذي كان على أم سعد؛ فقيل: إنه كان نذرًا مطلقًا. وقيل: صومًا. وقيل: عتقًا. وقيل: صدقةً. والكل محتمل، ولا مُعيِّن، فهو (4) مُجْمَل. ولا خلاف: أن حقوق الأموال من العتق، والصَّدقة تصحّ فيها النيابة، ويصحّ توفيتها عن (5) الْمَيِّت والحيِّ. وإنَّما اختلف في الحجِّ والصوم كما تقدم (6) ذلك فى كتابيهما (7) .
وقوله: «فاقضه عنها أمرٌ بالقضاء على جهة (8) الفتوى فيما سئل عنه، فلا (9) مالم يحمل على الوجوب، بل على جهة بيان: أنه إن فعل ذلك صحَّ، بل نقول: لو ورد =(4/605)=@ ذلك ابتداءً وافتتاحًا (10) لما حمل على (11) الوجوب، إلا أن يكون ذلك النذر ماليًّا، وتركت مالاً، فيجب على الوارث إخراج ذلك من رأس المال، أو من الثلث (12) ، كما قد (13) ذكرنا (14) في الوصايا. وإن كان حقًّا بدنيًا: فمن يقول بأن الوليَّ يقضيه عن الميت؛ لم يقل: إن (15) ذلك يجب على الوليِّ، بل ذلك على النَّدب إن طاعت بذلك نفسُه. ومن تخيَّل شيئًا من ذلك فهو محجوج بقوله - صلى الله عليه وسلم - : «من مات وعليه صيام صام عنه وليُّه لمن شاء» (16) ؛ وهو نصٌّ في الغرض. &(4/486)&$
__________
(1) في (أ): «تقبضه».
(2) في (أ): «أوضحناها».
(3) في (أ): ((وبيننا)).
(4) في (ح): «وهو».
(5) في (ك): «من».
(6) في (أ): ((قد تقدم))
(7) في (ح): ((كتابهما)).
(8) في (ك): «وجه».
(9) في (أ): «ولا».
(10) في (ح): ((وافتاحا)).
(11) في (ح): «عليه».
(12) قوله: ((أو من الثلث)) سقط من (أ) و(ف).
(13) قوله: «قد» سقط من (ح).
(14) في (ح) و(ك): «ذكرناه».
(15) في (ح): «بأن».
(16) تقدم في كتاب... باب...(4/486)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تنذروا ! فإن النَّذر لا يردّ من قدر الله شيئًا هذا النذر (1) محله أن يقول: إن شفى الله مريضي، أو قدم (2) غائبي فعليَّ عتق رقبة، أو صدقة كذا، أو صوم كذا. ووجه هذا النهي هو: أنه لما وقف فعل هذه القربة على حصول غرض عاجل ظهر: أنه لم يتمحض (3) له نيَّة التقرب إلى الله تعالى بما صدر منه، بل سلك فيها مسلك المعاوضة. ألا ترى: أنَّه لو لم يحصل غرضه لم يفعل ؟! وهذه حال البخيل؛ فإنَّه لا يخرج من ماله شيئًا إلا بعوض عاجل يربي على ما أخرج. وهذا المعنى هو الذي أشار إليه بقوله - صلى الله عليه وسلم - : «وإنما يستخرج به من البخيل (4) ما لم يكن البخيل يخرجه»، ثم ينضاف إلى هذا اعتقاد جاهل يظن: أن =(4/606)=@ النذر يوجب حصول ذلك الغرض، أو: أن الله تعالى يفعل معه ذلك الغرض (5) لأجل ذلك النذر (6) . وإليهما الإشارة بقوله - صلى الله عليه وسلم - : «فإن النَّذر لا يردُّ من قدر الله شيئًا». وهاتان (7) جهالتان. فالأولى (8) تُقارب الكفر. والثانية خطأ صراح. وإذا تقرر هذا، فهل هذا النهي محمول على التحريم، أو على الكراهة؟ المعروف من مذاهب العلماء الكراهة.
قلت: والذي يظهر لي: حمله على التحريم في حق من يخاف عليه ذلك (9) الاعتقاد الفاسد. فيكون إقدامه على ذلك محرما. والكراهة في حق من لم يعتقد ذلك. والله تعالى أعلم.
وإذا وقع هذا النذر على هذه الصفة لزمه (10) الوفاء به قطعًا من غير خلاف. ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : «من نذر أن يطيع الله فليطعه» (11) ولم يفرق بين النذر المعلَّق ولا غيره. ومما يلحق بهذا النَّهي في الكراهة: النذر على وجه التبرُّم والتَّحرُّج. فالأول: كمن يستثقل عبدًا لقلَّة منفعته، وكثرة مؤنته (12) ، فينذر عتقه تخلُّصًا منه، &(4/487)&$
__________
(1) في (ف): ((النهي)).
(2) في (أ) و(ف): «يقدم» و(ف).
(3) في (ف): ((تتمحض)).
(4) في (ح): «مال البخيل».
(5) قوله: «الغرض» سقط من (ح).
(6) قوله: ((النذر)) لم يتضح في (ف).
(7) قوله: «وهاتان» سقط من (أ).
(8) في (ح): «والأولى».
(9) قوله: ((ذلك)) سقط من (ك).
(10) في (أ) و(ف) و(ك): ((لزم)) و(ك) و(ح).
(11) أخرجه البخاري في "صحيحه" (6696 و6700) كتاب الأيمان والنذور.
(12) في (أ) و(ف): «مؤونته».(4/487)
وإبعادًا له. وإنما يكره ذلك لعدم تمحُّض نية القربة. والثاني: أن يقصد التضييق على نفسه، والحمل عليها؛ بأن ينذر كثيرًا من الصوم، أو من الصلاة، أو غيرهما مما يؤدي إلى الحرج والمشقة مع القدرة عليه. فأمَّا لو التزم بالنذر ما لا يطيقه لكان ذلك محرَّمًا. فأمَّا النذر (1) الخارج عمَّا تقدَّم: فما كان منه غير معلَّق على شيء، وكان طاعة؛ جاز الإقدام عليه، ولزم الوفاء به. وأمَّا ما كان منه على وجه (2) الشكر: فهو مندوب إليه؛ كمن شُفي مريضه فقال: للهِ عليَّ أن أصوم كذا (3) ، أو أتصدق (4) بكذا شكرًا لله تعالى. =(4/607)=@
وقد روي عن مالك كراهة النذر مطلقًا. فيمكن (5) حمله على الأنواع التي بينَّا كراهتها. ويمكن حمله على جميع أنواعه؛ لكن من حيث: إنَّه أوجب على نفسه ما يخاف عليه التفريط فيه، فيتعرض للوم الشَّرع وعقوبته. كما قد كره الدُّخول في الاعتكاف. وعلى هذا فتكون هذه الكراهة من باب تسمية ترك الأولى مكروها. ووجه هذا واضح. وهو: أن فعل القرب من غير التزامها خير محض، عَرِيّ عن خوف العقاب، بخلاف الملتزم لها؛ فإنَّه يخاف ذلك (6) فيها (7) . وقد شهد لهذا ذمُّ من قصَّر فيما التزم بقوله تعالى : {فما رعوها حق رعايتها"} (8) . ولا إشكال في أن النذر من جملة العقود والعهود المأمور بالوفاء بها، وأن الوفاء بذلك من أعظم القرب المثنى عليها. وكفى بذلك مدْحًا وتعزيزًا (9) قوله تعالى: {يوفون بالنذر ويخافون يومًا كان شرُهُ مستطيرًا} (10) . =(4/608)=@ &(4/488)&$
__________
(1) قوله: «النذر» سقط من (ك).
(2) في (ك): «جهة».
(3) في (ح): «هكذا».
(4) في (ك): «أو أن أتصدق».
(5) في (ف): ((فيكون)).
(6) في (ح): «عليه ذلك».
(7) في أصل (ك): ((منها)) وألحق في الهامش: ((فيها)).
(8) الآية (27) من سورة الحديد.
(9) في (ك): «وتقريرًا».
(10) الآية (7) من سورة الإنسان.(4/488)
- - - - -
2 - ومن باب لا وفاء لنذرٍ في معصية الله (1) ، ولا فيما لا يملك العبد
الحلفاء: جمع حليف، كظرفاء: جمع ظريف. والحليف: اسم فاعل من حلف، عدل عن حالف للمبالغة. وقد كثر حتى صار كالأسماء. والمحالفة، والتحالف: التعاهد والتعاقد على (2) التناصر (3) والتعاضد (4) . والأسر: الأخذ. وأصله: الشَّدُّ والرَّبط؛ قاله القتبي. والعضباء: اسم للناقة. وهي التي صارت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ إما بحكم سهمه الخاص به (5) من المغنم المسمَّى بـ «الصفيِّ»، وإمَّا بالمعاوضة الصحيحة. وهي المسمَّاة بالجدعاء (6) ، والقصواء، والخرماء في روايات أخر. وقد ذكرنا الخلاف فيها فيما تقدَّم. والعضب، والقصو، والجدع، والخرم، كلها بمعنى القطع. وسميت هذه الناقة بتلك الأسماء؛ لأنها كان في أذنها قطع، وسميت به، فصدقت عليها تلك الأسماء كلها. وعلى هذا: فأصول هذه الأسماء تكون صفات لها، ثم كثرت فاستعملت استعمال الأسماء. &(4/489)&$
__________
(1) لفظ الجلالة ليس في (ك).
(2) في (ف): ((من)) بدل ((على)).
(3) في (ك): «المناصرة».
(4) في (ف): ((والتغاضد)).
(5) قوله: «به» سقط من (ك).
(6) في (ح): ((بالجذعاء)).(4/489)
وقول الرجل المأسور: «يا محمد! بم أخذتني، وأخذتَ سابقةَ الحاجِّ؟ » هو استفهام عن السبب الذي أوجب أخذه وأخذ ناقته. وكأنَّه (1) كان يعتقد: أن له =(4/609)=@ ولقبيلته (2) عهدًا (3) من النبي - صلى الله عليه وسلم - . فأجابَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بذكر السبب إعظامًا لحق الوفاء، وإبعادًا لنسبة الغدر إليه. فقال: «أخذتُك بجريرة حلفائِك ثقيفٍ»؛ أي: بما فعلته (4) ثقيفٌ من الجناية التي نقضوا بها ما كانَ بينَهم وبينَ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - من العهد (5) . وكانت بنو عقيل دخلوا معهم في ذلك. فإمَّا بحكم الشرط، وفيه بُعْد، والظاهر أنَّهم دخلوا معهم بحكم الحِلْف الذي كان بينَهم. ولذلك ذكر حلفهم في الحديث. ولما سمع الرَّجلُ ذلك لم يجدْ جواباً، فسكتَ (6) . وعنى بسابقة الحاجِّ: ناقته العضباء. فإنها كانت لا تُسبق. وقد كانت معروفة بذلك، حتى جاء أعرابيٌّ بقَعودٍ له فسبقَها؛ فعظمَ ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقالوا: سُبقت العضباء. فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن حقًّا على اللهِ ألا يُرفعَ شيء (7) من الدُّنيا إلا وضعه» (8) .
وقوله: «ثم انصرف، فنادَاه: يا محمَّدُ ! يا محمَّدُ !» هذا النِّداء من الرَّجل على جهة الاستلطاف، والاستعطاف (9) ، ولذلك رقَّ له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فرجعَ له وقال له: «ما شأنك؟»- رحمةً ورفقًا - على مقتضى خلقه الكريم، ولذلك قال الرَّاوي: «وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحيمًا رفيقًا» (10) .
وقوله: «إني مسلمٌ»؛ ظاهر هذا اللفظ: أنَّه قد (11) صار مسلمًا (12) بدخوله في دين =(4/610)=@ الإسلام.
وظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يقبل (13) ذلك منه؛ لما أجابه بقوله: «لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح»، وحينئذ يلزم منه إشكال عظيم؛ فإن ظاهره: أنه لم يقبل إسلامه لأنه أسيرٌ مغلوبٌ عليه، لا يملك نفسه. وعلى هذا: فلا يصح إسلام الأسير في حال (14) كونه أسيرًا، وصحة إسلامه معلوم من الشريعة، ولا يختلف فيه، غير أن إسلامه (15) لا يزيل ملك مالكه بوجه. وهو أيضًا معلوم من &(4/490)&$
__________
(1) في (ف): ((فكأنه)).
(2) في (ح) و(ك) و(ف): «أو لقبيلته».
(3) في (ك): ((عهد)).
(4) في (ف): ((فعلت)).
(5) كتب ناسخ (ف) في الهامش: ((فإن قيل فقد قال تعالى ولا تذر وازرة وزر أخرى قيل لما نقض حلفاؤهم رضوا هم بذلك والراضي كالفاعل)) وكتب تتميم.
(6) كتب ناسخ (ف) في الهامش: ((وجواب ثاني أي أنهم كفار لا عهد لهم والكافر الذي لا عهد له مباح ماله ودمه فيكون معنى قوله بجريرة حلفاءك أي بمثل دينهم من الكفر وجواب ثالث أن يقدر في الكلام حذف معناه أخذناك لنفادي بك من حلفاءك)) وكتب تتميم.
(7) في (ح) و(ك): «شيئًا».
(8) أخرجه البخاري في "صحيحه" (2871 و2872 و6501).
(9) قوله: «والاستعطاف» سقط من (أ).
(10) في (أ): ((رقيقًا)).
(11) قوله: «قد» سقط من (ك).
(12) قوله: «مسلمًا» سقط من (ح).
(13) في (أ): «لا يقبل».
(14) في (أ) و(ح) و(ك): «حالة».
(15) في (ح): «إسلام الأسير».(4/490)
الشرع (1) .
ولما ظهر (2) هذا الاشكال اختلفوا في الانفصال عنه (3) . فقال بعض العلماء: يمكن أن يكون علم النبي - صلى الله عليه وسلم - من حاله: أنه لم يصدق في ذلك بالوحي. ولذلك لما سأله في المرَّة الثانية (4) فقال: «إني (5) جائع فأطعمني، وظمآن فاسقني»؛ فقال (6) : «هذه حاجتك». وقال بعضهم: بل إسلامه صحيح، وليس فيه ما يدل على أنه ردَّ إسلامه. فأمَّا قوله: «لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح»؛ أي: لو قلت كلمة الإسلام قبل أن تؤسر لبقيت حرًّا من أحرار المسلمين، لك ما لهم من الحرية في الدُّنيا (7) ، وثواب الجنة في الآخرة. وأمَّا إذ (8) قلتها وأنت أسير: فإن (9) حكم الرق لا يزول عنك بإسلامك. فإن قيل: فلو كان مسلمًا فكيف يفادى به من الكفار رجلان مسلمان ؟! فالجواب: أنَّه (10) ليس في الحديث نصٌّ على (11) أنه رجع إلى بلاده بلاد (12) الكفر. فيمكن أن يُقال: إنما فدي بالرَّجلين من الرِّق فاعتق منه بسبب ذلك، وبقي مع المسلمين حرًّا من الأحرار. وليس في قوله: «هذه حاجتك» ما يدلُّ على أن إسلامه ليس بصحيح، كما ظنه القائل الأول. فإنما (13) معنى (14) ذلك: هذه حاجتك حاضرة: مُتيسِّرة. =(4/611)=@
قلت: وهذا الوجه الثاني أولى؛ لأنه لا نص في الحديث يردَّه، ولا قاعدة شرعية تبطله. والله تعالى أعلم.
وقوله: «وكان القوم يريحون نعمهم بين أيدي بيوتهم (15) »؛ النعم هنا: الإبل، وإراحتها: إناختها لتستريح من تعب السَّير ومشقة السفر.
و «بين أيدي بيوتهم» بمعنى: عند بيوتهم وبحضرتها.
وقوله: «وناقة مُنوَّقةٌ» (16) ؛ أي: مذللة، مدرَّبة، لا نفرة عندها. وهي المجرَّبة (17) أيضًا. هذا قول العلماء، ويظهر لي: أن كونها مدرَّبة ليس موجبًا لئلا ترغو؛ لأنا قد شاهدنا من (18) الأباعر والنُّوق ما لم يزل مدرَّبًا على العمل ومع ذلك فيرغو عند &(4/491)&$
__________
(1) في (ح): «الشريعة»، وفي (ك): «الشارع».
(2) في (ح): «ولا يختلف ولما ظهر».
(3) قوله: ((عنه)) سقط من (ف).
(4) في (ك): «الثالثة».
(5) في (أ) و(ف): «أنا».
(6) في (ك): «قال».
(7) قوله: ((في الدنيا)) ليس في (ح).
(8) في (ف): ((فأما إذا)).
(9) في (أ): ((في)).
(10) قوله: «أنه» سقط من (أ).
(11) قوله: «على» سقط من (ح).
(12) في (أ): «وبلاد»، وفي (ك): «رجع إلى بلاد الكفر».
(13) في (ح): «وإنما».
(14) في (ف): يشبه ((يعني)).
(15) قوله: «بين أيدي بيوتهم» سقط من (أ).
(16) من قوله: ((وبين أيدي بيوتهم...)) إلى هنا سقط من (ف).
(17) في (ح) و(ف): ((المجرسة)).
(18) في (ك): «في».(4/491)
ركوبه، وعند الحمل عليه، وكأن هذه الناقة إنما كانت كذلك إما لأنها دربت على ترك الرُّغاء من صغرها، وإما لأنها كان لها هوًى (1) في السَّير والجري لنشاطها، فكلما حركت بادرت لما في هواها، وإما لأنها خصَّت في أصل خلقتها بزيادة هدوء، أو كان غير (2) ذلك ببركة ركوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها.
وقوله: «فقعدت (3) في عجزها»؛ أي: ركبتها. والعجز: المؤخر. وقوله: «نذروا (4) بها»؛ أي: علموا بها (5) . وهو بكسر الذال المعجمة في الماضي، وفتحها في المستقبل «نذارة» في المصدر. ونذر، ينذر - بفتحها في الماضي، وكسرها في المستقبل- نذرًا؛ أى: أوجب. يقال: نذرت بالشيء؛ أي: علمته ونذرت الشيء؛ أي (6) : أوجبته. ابن عرفة: النذر: ما كان وعدًا على شرط، فإن لم يكن شرط لم يكن نذرًا (7) . فلو قال: لله عليَّ صدقة؛ لم يكن ناذرًا حتى يقول: إن شفى الله مريضي، أو قدم غائبى. =(4/612)=@
قلت (8) : والمشهور عدم التفرقة، وأن كل ذلك (9) نذر عند اللغويين والفقهاء. والإنذار: الإعلام بما يخاف منه.
وقوله: «أعجزتهم»؛ أى: سبقتهم، ففاتتهم (10) ، فعجزوا عنها. ومنه قوله تعالى : {وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربًا} (11) ؛ أي: لن نفوته، فلا يعجز عنا.
وقوله: «فنذرت لله: إن نجَّاها الله عليها لتنحرنَّها (12) »؛ ظنت هذه المرأة: أن ذلك النَّذر يلزمها بناء منها على أنها لما استنقذتها (13) من أيدي العدو ملكتها، أو جاز لها التصرُّف فيها لذلك. فلمَّا أُعلم بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - أجابها بما يوضح لها: أنَّها لم تملكها، وأن تصرُّفها فيها غير صحيح. &(4/492)&$
__________
(1) في (ح): «هدى».
(2) قوله: ((غير)) ليس في (أ).
(3) في (ف): ((فعدت)).
(4) في (ف): ((فذروا)).
(5) قوله: «بها» سقط من (ك).
(6) قوله: «أي» سقط من (أ).
(7) في (أ): «نذر».
(8) قوله: «قلت» سقط من (أ) و(ف).
(9) قوله: «ذلك» سقط من (أ).
(10) في (أ): «ففاتهم».
(11) الآية (12) من سورة الجن.
(12) في (أ): «لتنحرها».
(13) في (ح): «استنقذها».(4/492)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «بئس ما جَزَتْها»؛ ذمٌّ لذلك النذر، من حيث أنه لم يصادف محلاً مملوكًا لها، ولو كانت ملكًا لها للزمها الوفاء بذلك النذر؛ إذ كان يكون نذر طاعةٍ، فيلزم الوفاء به اتفاقًا. هذا إن كان ذلك الذمُّ شرعيًّا. ويمكن أن يقال: إنَّما صدر هذا الذمُّ منه لأن ذلك النذر مستقبحٌ عادة؛ لأنه مقابلة الإحسان بالإساءة. وذلك: أن النَّاقة نجتها من الهلكة، فقابلتها على ذلك بأن تُهلكها. وهذا هو الظاهر من قوله - صلى الله عليه وسلم - : «سبحان الله ! بئس ماجزتها ! نذرت لله: إن نجاها الله عليها لتنحرنَّها».
وفي هذا الحديث حجُّة: على أن ما وجد من أموال المسلمين بأيدي الكفار، وغلبوا عليه، وعرف مالكه؛ أنَّه له دون آخذه (1) . وفيه مستروحٌ لقول من يقول: إن الكفار لا يملكون. وقد تقدَّم الكلام في ذلك. =(4/613)=@
وقوله: «لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك العبد»؛ ظاهرهذه الكلمة يدل على أن ما صدر من المرأة نذر معصية؛ لأنَّها التزمت أن تتلف (2) ملك الغير، فتكون عاصية بهذا القصد. وهذا ليس بصحيح؛ لأن المرأة لم يتقدَّم لها من النبي - صلى الله عليه وسلم - بيان تحريم ذلك، ولم تقصد ذلك، وإنَّما معنى ذلك - والله أعلم -: أن من أقدم على ذلك بعد التقدمة فيه (3) ، وبيان: أن ذلك محرَّم: كان (4) عاصيًا بذلك القصد. ولا يدخل في ذلك المعلَّق على الملك، كقوله: إن ملكت هذا البعير فهو هدي، أو صدقة؛ لأن ذلك الحكم معلَّق على ملكه، لا ملك غيره. وليس مالكًا في الحال، فلا نذر (5) . وقد تقدَّم الكلام على هذا في الطلاق والعتق المعلَّقين على الملك. وأن الصحيح لزوم المشروط عند وقوع الشرط. وفيه دليل: على أن من نذر معصية حرم عليه الوفاء بها (6) ، وأنَّه لا يلزمه على ذلك حكم بكفارة يمين، ولا غيره. إذ لو كان هنالك حكم لبيَّنه للمرأة؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. وعليه جمهور العلماء. وذهب الكوفيون: إلى أنه يحرم عليه الوفاء بالمعصية، لكن تلزمه (7) كفارة يمين؛ متمسكين في ذلك بحديث معتل عند أهل الحديث. وهو ما يروى من حديث عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا نذر في معصية (8) ، وكفارته كفارة يمين» (9) ، ذكره أبو داود، والطحاوي، &(4/493)&$
__________
(1) في (ح): «الآخذة».
(2) في (ح) و(ك): «تهلك».
(3) قوله: «فيه» سقط من (ح) و(ف).
(4) قوله: ((كان)) سقط من (أ).
(5) في (أ): «فلا نذر في الحال».
(6) قوله: «بها» سقط من (ك).
(7) في (ف): ((يلزمه)).
(8) في (ح) و(ك): «معصية الله».
(9) أخرجه أبو داود (3290)، والترمذي (1524)، وابن ماجه (2125)، والنسائي في "المجتبى" (3834 و3835)، جميعهم من طريق يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة، به.
وهذا إسناد ظاهره الصحة، لكنه معلول، حيث أخرجه أبو داود (3292)، والترمذي (1525)، والنسائي (3839)، والطحاوي (3/130). جميعهم من طريق أبي بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن ابن أبي عتيق، وموسى بن عقبة، عن ابن شهاب، عن سليمان بن أرقم: أن يحيى بن أبي كثير أخبره، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن عائشة...، فذكره.
وقد نص غير واحد من أهل العلم وعلى رأسهم البخاري: أن الزهري انما سمعه من سليمان بن أرقم، عن يحيى بن أبي كثير به. وسليمان بن أرقم: متروك الحديث.
وللحديث طرق أخرى وشواهد انظر في ذلك "حاشية ابن القيم على أبي داود" (9/83)، و"فتح الباري" (11/587)، و"تلخيص الحبير" (4/175).(4/493)
والصحيح من حديث عائشة ما خرَّجه البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» (1) ، وليس فيه شيء من ذلك. والله تعالى أعلم.
ثم: النذر إمَّا طاعة، فيجب الوفاء به بالاتفاق، أو: معصية، فيحرم الوفاء به =(4/614)=@ بالاتفاق. أو: لا طاعة، ولا معصية، وهو المكروه والمباح، فلا يلزم الوفاء بشيء منهما. وهو مكروه؛ لأنه من تعظيم ما لا يعظم. وهو مذهب الجمهور. وشذَّ أحمد بن حنبل، فقال: إذا نذر مباحًا لزمه: إمَّا (2) الوفاء به، أو: كفارة يمين. أو (3) حيث قلنا: بلزوم (4) الوفاء فلا اعتبار بالوجه الذى يخرج عليه النذر من تبرر، أو لجاج، أو غضبٍ، أو غير ذلك. وهو مذهب الجمهور. وقال الشافعي في نذر الحرج المعيَّن: مخرجه: هو بين الوفاء به، وبين كفارة يمين (5) . وعموم قوله: «من نذر أن يطيع الله فليطعه»؛ حجَّة عليه (6) . وكل ما روي في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله: «لا نذر في غضب، أو غيظ، وكفارته كفارة يمين» (7) ، لا يصح من طرقه شيء عند أئمة المحدثين. ومن أوضح الحجج في عدم وجوب الكفارة على أن (8) من نذر معصية، أو ما لا طاعة فيه أنه لا يلزمه (9) كفارة حديث أبي إسرائيل الذي خرَّجه مالك مرسلاً، والبخاري، وأبو داود مسندًا عن ابن عبَّاس، وهذا لفظه. قال: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس فسأل عنه، فقالوا: هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم، ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم. فقال: «مروه فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه» (10) . قال مالك: ولم أسمع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره بكفارة. =(4/615)=@ &(4/494)&$
__________
(1) تقدم على أنه في "صحيح البخاري" (6699-6700).
(2) قوله: «إما» سقط من (ك).
(3) في (أ) و(ف) و(ك): ((وحيث)).
(4) في (ك): ((يلزمه)).
(5) من قوله: «أو حيث قلنا....» إلى هنا سقط من (ح).
(6) في (ح): «عليهم» وقوله ((عليه)) سقط من (ف)..
(7) أخرجه أحمد (4/433 و440)، والنسائي (3855)، والبزار (3561)، والطحاوي في "شرح المعاني" (3/135)، وفي "شرح المشكل" (2163 و2164)، والحاكم (4/305) من طرق عن محمد بن الزبير، عن أبيه، عن رجل، عن عمران بن حصين.
وأخرجه الطيالسي (878)، والنسائي (3851 و3853)، والطحاوي في "شرح المعاني" (3/129)، وفي "شرح المشكل" (2160 و2162)، والطبراني (18 رقم485 و488)، والبيهقي (10/70) من طرق عن محمد بن الزبير، عن أبيه، عن عمران به، ليس فيه ذكر: رجل عن عمران.
وأخرجه أحمد (4/439)، والنسائي (3856)، والطبراني (18 رقم363)، والبيهقي (10/70) من طريق محمد بن الزبير، عن الحسن، عن عمران.
ومنشأ هذا الاضطراب في الحديث من محمد بن الزبير،وهو التميمي الحنظلي ضعيف جدًّا.
قال البخاري : «منكر الحديث وفيه نظر». وقال ابن معين : «ضعيف لا شيء». وقال ابن حبان في "المجروحين" (2/259): «منكر الحديث جدًّا يروي عن الحسن ما لا يتابع عليه». وقال ابن حجر في "التقريب": «متروك».
قلت: فلا يلتفت إلى روايته.
(8) قوله: «أن» سقط من (ك). ... ... (2) في (ح): «تلزمه».
(10) "صحيح البخاري" (6704)، "سنن أبي داود" (3300)، وغيرهما.
ورواية مالك في "الموطأ" (1012) عن حميد بن قيس، وثور بن زيد الديلي؛ أنهما أخبراه: أن رسول الله...، فذكره.(4/494)
3 - ومن باب نذر المشي إلى بيت الله عز وجل (1)
قوله: «إنه رأى شيخًا يهادى بين رجلين»؛ أي: يمشي بينهما متوكئًا عليهما، كما فسَّره في الرواية الثانية. وكان يفعل ذلك لضعفه عن المشي. وفي هذا الحديث وحديث أخت عقبة المذكور بعد هذا - وهو أنصُّ مما قبله (2) -؛ دليل على أن نذر المشي إلى البيت الحرام يجب الوفاء به لمن قدر عليه، فإن (3) لم يقدر وجب عليه المضي راكبًا. وظاهرهما: لزوم المشي، وإن لم يذكر حجًّا ولا عمرة، كما هو مذهب مالك؛ لأنه لما سأله (4) عقبة (5) عمَّن نذر المشي إلى البيت مطلقًا، فأجاب عنه (6) ، ولم يستفصل، تعيَّن حملُ الجواب على إطلاق ذلك السؤال؛ إذ لو اختلف الحال بقيدٍ لسأل عنه، أو لبيَّنه؛ إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. وإلى هذا ذهب الشافعي. وهو مروي عن عليّ (7) ، وابن عباس (8) . وقال أبو حنيفة: إن لم يسم حجًّا ولا عمرة لم يلزمه مشيٌ، ولا شيء جملة واحدة. وقال الحسن البصري: إن نذر حجًّا أو عمرة فلا مشي عليه، ويركب وعليه دم. وقاله أبو حنيفة أيضًا. والحجَّة عليهما ما تقدَّم.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني»؛ أي: لم يكلفه بذلك (9) ، ولم =(4/616)=@ يحوجه إليه؛ لأنه غير مستطيع. وفي اللفظ الآخر: «إن الله لغني عنك وعن نذرك»؛ أي: عن مشيك الذي لا تستطيعه، لا أنَّ (10) أصل النذر يسقط عنه؛ فإنَّه قد أمره بالرُّكوب. وخرجت هذه العبارة على ما تعارفناه بيننا: من أنَّ من استغنى عن شيء لم يلتفت إليه، ولم يعبأ به. وكيف لا، والله تعالى هو الغني الحميد، &(4/495)&$
__________
(1) قوله: ((عزوجل)) ليس في (ك) و(ح).
(2) قوله: «وهو أنصّ مما قبله» سقط من (أ) و(ف).
(3) في (ف): ((وإن)).
(4) في (أ) و(ف): «سأل».
(5) قوله: «عقبة» سقط من (أ) و(ف).
(6) في (أ) و(ف): «عليه».
(7) أخرجه ابن ابي شيبة (12416) من طريق قتادة، عن الحسن، عن علي. وأخرجه أيضًا (12417): حجاج، عن الحكم، عن علي.
(8) أخرجه عبدالرزاق (15865)، وابن ابي شيبة (12415) من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن ابن عباس، به.
(9) في (ك): «ذلك».
(10) في(ح): ((لأن)) بدل ((لا أن)).(4/495)
وكل الموجودات مفتقرة (1) إليه افتقار ضعفاء العبيد.
وظاهر حديث هذا الشيخ: أنَّه كان قد عجز عن المشي في الحال، وفيما يأتي بعد، ولذلك لم يقل له النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قال لأخت عقبة: «مُرْها فلتمش ولتركب»؛ فإنَّها كانت ممن تقدر (2) على بعض المشي، فأمرها أن تركب ما عجزت عنه، وتمشي ما قدرت عليه. وهذا هو المناسب لقواعد الشريعة. ولم يذكر لواحد منهما وجوب (3) دم عليه، ولا ذكر لأخت عقبة وجوب الرُّجوع لتمشي ما ركبته.
فأمَّا من يئس (4) عن المشي فلا رجوع عليه قولاً واحدًا، ولا يلزمه دم؛ إذ لم يخاطب بالمشي، فيكون الدَّم بدله، وإنما هو استحباب عند مالك.
وأمَّا من خوطب بالمشي فركب لموجب من (5) مرض، أو عجز: فيجب عليه الهدي عند الجمهور. وقال الشافعي: لا يجب عليه الهدي، ويختار له الهدي. وروى عن ابن الزبير (6) : أنه لم يجعل عليه دمًا (7) ؛ متمسِّكًا بما قررناه من الظاهر. وقد تمسَّك الجمهور بزيادةٍ زادها أبو داود والطحاوي (8) في (9) حديث عقبة، وهذا لفظه: قال عقبة بن عامر: أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره: أن أخته نذرت أن تمشي إلى الكعبة حافية ناشرة شعرها. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : «مرها فلتركب، ولتختمر، ولتهد هديًا». وعند أبي داود: بدنة، وليس فيه: ناشرة شعرها. وزيادة الهدي قد رواها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عقبة (10) ابنُ عبَّاس. ورواها عنهما الثقات، فلا سبيل =(4/617)=@ إلى ردَّها. وليس سكوت من سكت عنها حجَّة على من نطق (11) بها. وقد عمل بها الجماهير من السلف وغيرهم. ثم هل يجب عليه مع الهدي الرجوع فيمشي ما ركبه أم لا يجب؟ اختلف فيه: فقيل: لا يجب عليه مطلقًا. وإليه ذهب الشافعي، وأهل الكوفة، وهذا أحد قولي ابن عمر. وقيل: يرجع، وإليه ذهب سلف أهل المدينة، وابن الزبير، وهو (12) &(4/496)&$
__________
(1) في (أ) و(ف): «مفتقر»، وفي (ك): «تفتقر».
(2) في (ك) و(ف): «يقدر». ولم تنقط في (ح).
(3) في (ح): «وجود».
(4) في (ك): ((نس)) وكتب بالهامش كلمة لم تتضح.
(5) قوله: «من» سقط من (ح) و(ك).
(6) أخرجه ابن أبي شيبة (13582) عن يعلى بن عبيد، عن الأجلح، عن عمرو بن سعيد البجلي، قال: كنت تحت منبر ابن الزبير..، فذكره.
(7) في (ح): «هديًا».
(8) "سنن أبي داود" (3296)، و"شرح المعاني" للطحاوي (3/131). وأخرجه أيضًا أحمد (2134 و2139 و2278 و2834)، والدارمي (2335)، وابن خزيمة (3045)، وابن الجارود (936)، والطبراني في "الكبير" (11 رقم 11828)، و(17 رقم745)، والبيهقي (10/79). كلهم من طريق قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن عقبة بن عامر به.
(9) في (ف): ((من)) بدل ((في)).
(10) في (ح) و(ك): ((عقبة بن عامر))..
(11) في (ك): ((قطع)) وكتب بالهامش ((نطق)) ووضع فوقها ((خـ))
(12) في (ف): ((وهذا)).(4/496)
القول الآخر عن ابن عمر. وفرَّق مالك فقال: إن كان المشي يسيرًا لم يرجع، ويرجع في الكثير، ما لم يرجع لبلده البعيدة، فيكفيه الدَّم.
قلت: والتمسَّك (1) بحديث عقبة في ترك إيجاب الرُّجوع ظاهر، وعمل سلف أهل المدينة باهر.
وقوله : «إن الشيخ نذر أن يمشي»؛ يعني به (2) : إلى بيت الله تعالى؛ لأنَّه عرَّف نذر (3) المشي، كما قال عقبة: إن أخته نذرت أن تمشي إلى بيت الله تعالى. وقال الطحاوي: إلى الكعبة. ولم (4) يرد فيما صحَّ من الحديث أكثر من هذين اللفظين: بيت الله، والكعبة. وألحق العلماء بهما ما في معناهما، مثل أن يقول: إلى مكة، أو ذكر جزءًا من البيت. وهذا قول مالك وأصحابه. واختلف أصحابه فيما إذا قال: إلى الحرم، أو مكانًا فيه (5) ، أو مكانًا من مدينة مكة، أو المسجد. هل يرجع إلى البيت أم لا؟ على قولين. وقال الشافعي: متى (6) قال: عليَّ المشي إلى شيء مما يشتمل عليه الحرم؛ لزمه. وإن ذكر ما خرج عنه، لم يلزمه (7) . وبه قال أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وابن حبيب من أصحابنا، إلا إذا ذكر عرفات؛ فيلزمه وإن كانت (8) خارج الحرم. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه في هذا مشي (9) ولا مسير في القياس، لكن الاستحسان في =(4/618)=@ قوله: إلى بيت الله، أو الكعبة، أو مكة فقط. وكل هذا إذا ذكر المشي، فلو قال: علي المسير إلى مكة، أو الانطلاق، أو الذهاب؛ فلا شيء عليه؛ إلا أن يقول: في حجٍّ، أو عمرةٍ، أو ينويهما. وتردد (10) قول مالك في الرُّكوب، وأوجب أشهب الحج والعمرة فيهما، كالمشي. وكل هذا (11) : إذا ذكر مكة، أو موضعًا منها على ما فصلناه. فلو قال: عليَّ المشي إلى مسجد من المساجد الثلاثة لم يلزمه المشي عند ابن القاسم، بل المضي إليها. وقال ابن وهب: يلزمه المشي. وهو القياس. ولو قال: إلى مسجد غير هذه الثلاثة، قال ابن الموَّاز: إن كان قريبًا كالأميال، لزمه المشي إليه، وإن كان بعيدًا لم يلزمه. =(4/619)=@ &(4/497)&$
__________
(1) في (ك): «التمسك» بلا واو.
(2) قوله: «به» سقط من (ح) و(ك).
(3) قوله: «نذر» سقط من (ك).
(4) في (أ): «لم» بلا واو.
(5) قوله: «أو مكانًا فيه» سقط من (ح).
(6) في (ح) و(ك): «من».
(7) في (أ) و(ف): «يلزم».
(8) في (أ): ((كان)) بدل ((كانت)).
(9) في (ك): «شيء».
(10) في (أ): «وترد».
(11) في (أ): «ذلك».(4/497)
- - - - -
4 - ومن باب كفارة النذر غير المسمى
قوله: «كفارة النَّذر كفارة اليمين»؛ يعني به: النذر الذي لم يسمَّ مخرجه بدليلين:
أحدهما: أن هذا الحديث قد رراه أبو داود (1) من حديث ابن عبَّاس مرفوعًا: «من نذر نذرًا لم يسمه فكفارته (2) كفارة يمين»، فقيَّد (3) في هذا الحديث ما أطلقه في حديث عقبة.
وثانيهما: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا إسرائيل بإتمام الصوم الذي نذره، وقال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعص الله فلا يعصه» (4) . ولا يتميَّزُ آحاد النوعين إلا بالتعيين والتسمية. والمفهوم (5) من الأمر بالوفاء بالنذر: أن يفعل عين ما التزمه. وأما ما لم يعيّن =(4/620)=@ لفظًا ولا نية: فالأصل عدم لزومه. وما ذكرناه هو مذهب مالك، وأصحابه، وكثير من أهل العلم. وقد ذهبت طائفة من فقهاء المحدثين وأبو ثور (6) : إلى أن كفارة اليمين تجري في جميع أبواب النذر تمسُّكًا بإطلاق الحديث الأول. والحجَّة علهيم ما ذكرناه.
وقوله: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم»؛ إنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحلف بالآباء لما فيه من تعظيمهم بصيغ الأيمان؛ لأن العادة (7) جارية بأن الحالف منَّا إنما &(4/498)&$
__________
(1) (3322)، ومن طريقه البيهقي (10/45) من طريق طلحة بن يحيى الأنصاري، عن عبدالله بن سعيد بن أبي هند، عن بكير بن الأشج، عن كريب، عن ابن عباس به مرفوعًا. واختلف على طلحة فرواه الدارقطني (4/160) من طريق محمد بن عبدالله بن عمران البياضي، ثنا طلحة بن يحيى، عن الضحاك بن عثمان، عن عبدالله بن سعيد بن أبي هند، عن بكير بن الأشج به.
وأخرجه ابن ماجه (2128) من طريق خارجة بن مصعب، والدارقطني (4/158) من طريق أبي أويس، عن داود بن الحصين، عن ثور بن خالد، أو خاله موسى بن ميسرة. وفي "الكبير" للطبراني (11 رقم12169) عن أبي أويس، عن داود بن الحصين، وعن ثور بن زيد، وعن موسى بن ميسرة. كلهم عن بكير بن الأشج به مرفوعًا.
ورواه ابن أبي شيبة (3/96) عن وكيع، عن عبدالله بن سعيد بن أبي هند، عن بكير بن الأشج، عن كريب، عن ابن عباس موقوفًا عليه.
وكذلك أخرجه عبدالرزاق (15832) عن إبراهيم بن أبي يحيى، عن إسماعيل بن أبي عويمر، عن كريب، عن ابن عباس به موقوفًا عليه.
ورجح أبو حاتم وأبو زرعة كما في "العلل" (1/441) رواية وكيع فقالا: رواه وكيع عن مغيرة عن مغيرة فأوقفه، والموقوف الصحيح. وكذلك الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (11/587) قال: رواته ثقات، لكن أخرجه ابن أبي شيبة موقوفًا وهو أشبه.
(2) في (أ): ((وكفارته)).
(3) في (ح): «فقيل».
(4) تقدم قريبًا.
(5) في (ك): ((المهموم)).
(6) قوله: «وأبو ثور» سقط من (ح).
(7) في (ف): ((العادية)).(4/498)
يحلفُ بأعظم ما يعتقده؛ كما بينَّاه. وإذا كان ذلك: فلا أعظم عند المؤمن من الله تعالى، فينبغي له (1) ألا يحلف بغيره، فإذا حلف بغير الله فقد عظَّم ذلك الغير بمثل ما عظَّم به الله تعالى، وذلك ممنوع منه. وهذا الذي ذكرناه في الآباء جار في كل محلوف به غير الله تعالى، وإنما جرى ذكر الآباء هنا لأنه هو (2) السبب الذي أثار الحديث حين سمع (3) النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر يحلف بأبيه. وقد شهد لهذا المعنى قوله: «من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله (4) » (5) ، وهذا حصرٌ، وعلى ما قررناه فظاهر النهي التحريم. ثم هذا النهي وإن كان ظاهره التحريم فيتحقق فيما إذا حلف بملة غير الاسلام، أو بشيء من المعبودات دون الله تعالى، أو ما كانت الجاهلية تحلف به كالدُّمى (6) ، والدِّماء، والأنصاب. فهذا لا يُشكُّ في تحريمه. وأما الحلف بالآباء، والأشراف، ورؤوس السلاطين (7) ، وحياتهم ونعمهم (8) ، وما شاكل ذلك فظاهر هذا (9) الحديث يتناولهم بحكم عمومه، ولا ينبغي أن يختلف في تحريمه. وأما ما كان معظمًا في الشرع (10) مثل: والنبي (11) - صلى الله عليه وسلم - ، والكعبة، والعرش، والكرسي، وحرمة الصالحين: فأصحابنا يطلقون على الحلف بها الكراهة (12) . وظاهر الحديث وما قدَّمناه من النظر =(4/621)=@ في المعنى يقتضي التحريم. والله تعالى أعلم.
فإن قيل: كيف (13) يحكم بتحريم (14) الحلف بالآباء والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد حلف بذلك لما قال: «أفلح وأبيه إن صدق» (15) ؟ وكيف يحْكَمُ (16) بتحريم الحلف بغير الله تعالى وقد أقسم الله تعالى بغيره فقال : {والضحى}، {والشمس}، {والعاديات}، {والنازعات}، وغير ذلك مما في كتاب الله تعالى من ذلك (17) ؟
فالجواب: أما عن قوله - صلى الله عليه وسلم - : «أفلح وأبيه»: فقد تقدَّم في الإيمان. وحاصله: أن ذلك يُحْتَمَل أن يكون صدر منه قبل أن يوحى إليه بهذا النهي. ويحتمل أن يكون جرى &(4/499)&$
__________
(1) قوله: «له» سقط من (ك).
(2) قوله: «هو» سقط من (ح) و(ك).
(3) في (ح) و(ك): «سماع».
(4) في (ك): «فليحلف بالله».
(5) هو حديث ابن عمر الآتي.
(6) في (ف): ((كالذمي)).
(7) في (ك): «الشياطين».
(8) قوله: «ونعمهم» سقط من (ح).
(9) قوله: «هذا» سقط من (أ).
(10) قوله: «الشرع» سقط من (ك).
(11) في (ك) و(ح): ((النبي)) بلا واو.
(12) المتقدمون يطلقون الكراهة على المحرم، والحلف بغير الله يعتبر نوعًا من أنواع الشرك بالله عز وجل، كما قد صح عنه أنه قال: من حلف بغير الله فقد أشرك؛ أخرجه الطيالسي (1896)، وأحمد (2/34 و67 و69 و86 و125)، والترمذي (1535)، وأبو داود (3251)، وغيرهم من حديث ابن عمر.
وإنْ صاحب الحالف بغير الله إجلالٌ وتعظيمٌ لمحلوفه بحيث يساويه برب العزة والجلال فهو شرك أكبر مخرج من الملَّة، نسأل الله العافية ولجميع المسلمين.
(13) في (ح) و(ك): ((فكيف)).
(14) في (ف): ((بحريم)).
(15) أخرجه مسلم (11)، وتقدم في الإيمان.
(16) في (ك): «نحكم».
(17) قوله: ((من ذلك)) ليس في (أ) و(ك) و(ح).(4/499)
هذا على لسانه من غير قصد للحلف به (1) ، كما يجرى لغو (2) اليمين (3) ؛ الذي هو: لا والله، وبلى والله.
وأما عن قسم الله تعالى بتلك الأمور فمن وجهين:
أحدهما: أن المقسم به محذوف. تقديره: ورب الضحى. ورب الشمس، ونحو ذلك. قاله أكثر أئمة المعاني.
وثانيهما: أن الله تعالى يقسم بما يريد كما يفعل ما يريد (4) ؛ إذ لا حكم عليه، ولا حاكم فوقه، ونحن المحكوم (5) عليهم، وقد أبْلَغَنا حكمه على لسان نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: «من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت»، و (6) «من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله». فيجب الانقياد، والامتثال لحكم ذي العزة والجلال. =(4/622)=@
وقوله: «من كان حالفًا فليحلف بالله»، لا يفهم منه قَصْرُ اليمين الجائزة على الحلف بهذا الاسم فقط، بل حكم جميع أسماء الله تعالى حكم هذا الاسم. فلو قال: والعزيز، والعليم، والقادر، والسميع، والبصير؛ لكانت يمينًا جائزة. وهذا متفق عليه. وكذلك الحكم في الحلف بصفات الله تعالى؛ كقوله: وعزة الله، وعلمه (7) ، وقدرته (8) ، وما أشبه ذلك مما يَتَمَحَّضُ (9) فيه الصفة لله تعالى، ولا ينبغي (10) أن يختلف في هذا النوع أنها أيمان كالقسم الأول (11) .
وأما ما يضاف إلى الله تعالى مما ليس بصفة له (12) كقوله: وخلق الله (13) ، ونعمته، ورزقه، وبيته؛ فهذه ليست بأيمان جائزة؛ لأنها حلف بغير الله عز وجل؛ على ما تقدم (14) .
وبين هذين القسمين قسم آخر متردد بينهما، فاختلف فيه لتردده، كقوله: وعهد الله، وأمانته، وكفالته، وحقه. فعندنا: أنَّها أيمان ملحقة بالملحق بالقسم الأول؛ لأنها صفات. وعند الشافعي: ليست بأيمان. ورأى: أنها من القسم الثاني.
وقول عمر رضي الله عنه: «فما حلفت بها ذاكرًا ولا آثرًا»؛ أي: لم يقع مني الحلف بها. ولا تحدثت بالحلف بها عن غيري. وأثرت الحديث: نقلتَهُ عن غيرك. =(4/623)=@ &(4/500)&$
__________
(1) قوله: «به» سقط من (ح).
(2) في (ف): ((يجري في لغو)).
(3) في (ك): ((اليمن)).
(4) قوله: «كما يفعل ما يريد» سقط من (ح).
(5) في (ح): «المحكومون».
(6) قوله: «من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت» سقط من (أ)و(ف).
(7) قوله: «وعلمه» سقط من (ح).
(8) قوله: ((وقدرته)) سقط من (ف).
(9) في (ف): ((ما تتمحض)) وفي (ح): ((مما تمحض)).
(10) في (ح) و(ك): ((ما تمحض)).
(11) في (ف): ((للأول)).
(12) قوله: ((له)) سقط من (ح).
(13) لفظ الجلالة ليس في (ك).
(14) في (ك): «كما تقدم».(4/500)
- - - - -
5 - ومن باب النهي عن الحلف بالطواغي
الطواغي: جمع طاغية، كالروابي: جمع رابية (1) . والدوالي: جمع دالية. وهي مأخوذة من الطغيان، وهو: الزيادة على الحد. ومنه قوله تعالى: {إنا لَمَّا طغا الماء حملناكم في الجارية} (2) ؛ أي: زاد. وقد تقدَّم أن الطواغي، والطواغيت: كل معبود سوى الله تعالى في كتاب الإيمان. وقد تقرر أن اليمين بذلك محرم، ومع ذلك فلا كفارة فيه عند الجمهور لأجل الحلف بها (3) ، ولا لأجل الحنث (4) فيها.
أمَّا الأول؛ فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال: «من قال: واللات والعزى (5) فليقل: لا إله إلا الله» (6) ، ولم يذكر كفَّارة. ولو كانت لوجب تبيينها لتعيُّن (7) الحاجة لذلك.
وأمَّا الثاني: فليسث ** كذا في (أ) ** بيمين منعقدة، ولا مشروعة فيلزم بالحنث (8) فيها الكفارة (9) . وقد شذَّ أبو حنيفة (10) تناقَضَ، فيما (11) إذا قال: أشرك بالله، أو كفر (12) بالله، أو هو يهودي، أو =(4/624)=@ نصراني، أو بريء من الإسلام، أو من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو القرآن (13) ، وما أشبه ذلك. فقال: هي أيمانٌ يلزم بها كفارةٌ إذا حنث فيها (14) .
أما شذوذه: فلأنَّه (15) لا سلفَ له فيه من الصحابة، ولا موافق له من أئمة الفتوى فيما أعلم. وأما تناقضه: فلأنَّه قال: لو قال: واليهودية، والنصرانية، والنبي، والكعبة؛ لم يجب (16) عليه كفارة عنده مع أنها على صيغ الأيمان اللغوية، فأوجب الكفارة فيما لا يقال عليه يمين لا (17) لغة ولا شرعًا، وليس من ألفاظها، وأسقط الكفارة فيما يقال عليه يمين لغة (18) وهو من ألفاظها. ولو (19) عكس لكان أولى، وأمسَّ. ولا حُجَّة له في آية (20) كفارة اليمين؛ إذ تلك الكلمات ليست أيمانًا، كما بيَّناه. ولو سلَّمنا: أنها أيمان؛ فليست بمنعقدةٍ، فلا (21) يتناولها (22) العموم. ثم &(4/501)&$
__________
(1) في (ك): «كالزواني جمع زانية».
(2) الآية (11) من سورة الحاقة.
(3) قوله: «بها» سقط من (ح) و(ك).
(4) في (ف): ((الحيث)).
(5) قوله: «والعزى» سقط من (ح) و(ك) و(ف).
(6) سيأتي بعد هذا.
(7) في (ح): «لعدم».
(8) في (ح) و(ك): «فتلزم بالحنث» وفي (أ) ((فيلزم الحنث فيها)).
(9) في (أ) و(ف): «حكم الكفارة».
(10) في (ح) و(ك): «وقد شذ بعض الأئمة».
(11) في (أ): ((وتناقض فيها)) وفي (ح) و(ف) و(ك): ((وتناقض فيما)).
(12) في (ك): «أكفر».
(13) في (ك): «أو من القرآن».
(14) قوله: «فيها» سقط من (ك).
(15) في (ك) و(ح): ((فإنه)).
(16) في (ف): ((لم تجب)).
(17) قوله: «لا» سقط من (ح) و(ك).
(18) من قوله: «شرعًا وليس....» إلى هنا سقط من (ح) و(ك).
(19) في (أ) و(ف): «فلو».
(20) في (أ): «أن».
(21) في (ك): «ولا».
(22) في (ف): ((يتناوله)).(4/501)
يلزم بحكم العموم أن يوجب الكفارة في كل ما يقال عليه يمين لغة، وعرفًا، ولم يقل بذلك (1) . والله أعلم.
وقوله: «من قال: واللات؛ فليقل: لا إله إلا الله»؛ اللات، والعزى، ومناة: أصنام ثلاثة كانت في جوف الكعبة. وقيل: كانت اللات بالطائف. والعزى بغطفان، وهي التي هدمها خالد بن الوليد. ومناة بقديد. وقيل بالمشلل. فأمَّا اللات فقيل: إنَّهم أرادوا به تأنيث اسم الله تعالى. وقيل: أرادوا أن يسموا بعض آلهتهم باسم الله تعالى، فصرف الله ألسنتهم عن ذلك؛ فقالوا: اللات؛ صيانة لذلك الاسم العظيم أن يُسمَّى به غيره، كما صرف ألسنتهم عن سب (2) محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى: مُذَمَّم، فكانوا إذا تكلموا باسمه في غير السَّبِّ قالوا: محمَّد، فإذا (3) أرادوا أن يسبُّوه قالوا: مُذَمَّم. حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «ألا تعجبون ! مِمَّا صرف الله عني من أذى قريش، يسبون مذمَّمًا، وأنا مُحمَّد» (4) . ولَمَّا نشأ القوم على تعظيم تلك الأصنام، وعلى الحلف بها، وأنعم الله تعالى عليهم بالإسلام بقيت تلك الأسماء تجري على =(4/625)=@ ألسنتهم من غير قصد للحلف بها، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من نطق بذلك أن يقول بعده: لا إله إلا الله؛ تكفيرًا لتلك اللفظة، وتذكيرًا من الغفلة وإتمامًا للنعمة.
وخص اللات بالذكر في هذا الحديث لأنها كانت (5) أكثر ما كانت تجري على ألسنتهم (6) . وحكم غيرها من أسماء (7) آلهتهم حكمها؛ إذ لا فرق بينها (8) . والعزى: تأنيث الأعز، كالْجُلَّى: تأنيث الأجل.
وقوله: «من قال: تعال أقامرُك فليتصدق»؛ القول فيه كالقول في اللات؛ لأنهم كانوا اعتادوا المقامرة. وهي (9) من أكل المال بالباطل. ولما ذمَّها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغ في الزجر عنها، وعن ذكرها، حتَّى إذا ذكرها الإنسان طالبًا للمقامرة بها؛ أمره &(4/502)&$
__________
(1) في (ح): «بذاك».
(2) في (أ): «نسب».
(3) في (ح): ((وإذا)).
(4) أخرجه البخاري في "صحيحه" (3533).
(5) قوله: «كانت» سقط من (ح) و(ك).
(6) في (ك): ((ألسنهم)).
(7) قوله: ((أسماء)) سقط من (ك).
(8) في (أ) و(ف): ((بينهما)) و(ك).
(9) في (ح) و(ك): «وهو».(4/502)
بصدقة. والظاهر: وجوبها عليه؛ لأنها كفارةٌ مأمور بها، وكذلك قول: لا إله إلا الله؛ على من قال: واللات. ثم هذه الصَّدقة غير محدودة، ولا مقدَّرة، فيتصدق بما تيسَّر له مِمَّا يصدق عليه الاسم (1) . كالحال في صدقة مناجاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى : {إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} (2) ، فإنها غير مقدَّرة (3) . وقال الخطابي: يتصدَّق بقدر ما أراد أن يقامر به، وليس في اللفظ ما يدل عليه، ولا في قواعد الشرع، ولا للعقل مجال في تقدير الكفارات. فهو تحكم (4) . وأبعد من هذا قول من قال من الحنفية: إن المراد بها: كفارة اليمين. وهذا فاسد قطعًا؛ لأن كفارة اليمين ما هي صدقة فقط، بل عتق، أو كسوة، أو إطعام، فإن لم يجد فصيام. فكيف (5) يصح أن يقال: أطلق الصدقة، وهو يريد به (6) إطعام عشرة مساكين، وأنه مخيَّر بينه وبين غيره من الخصال المذكورة معه في الآية؛ وأيضًا: =(4/626)=@ فإنه لا يتمشى على أصل الحنفية المتقدم الذكر، فإنهم قالوا: لا تجب الكفارة إلا بالحنث في قوله: هو يهودي، أو نصراني، إلى غير ذلك مما ذكروه (7) . وهذا حكم معلَّق على نطق بقول ليس فيه يمين، ولا التزام، وإنما هو استدعاء للمقامرة. فأين الأرض من السماء، والعرش من الثَّرى.
- - - - -
6 - ومن باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليكفر
قوله: «إن أبا موسى دعا بمائدته (8) وعليها لحم دجاج»؛ يدل على أن أكل الطيِّبات على الموائد جائز معمولٌ به عندهم (9) . وأن ذلك لا يناقض الزهد، ولا يُنقصه خلافًا لبعض متقشِّفة المتزهدة. &(4/503)&$
__________
(1) في (أ): «يصدق الاسم عليه».
(2) الآية (12) من سورة المجادلة.
(3) في (ح): ((مقدورة)).
(4) في (أ): ((تحلم)) وتراجع.
(5) في (أ): «وكيف».
(6) قوله: «به» سقط من (ح) و(ك).
(7) في (أ): «إلى غير ما ذكروه» وفي (ك) سقط قوله: ((مما ذكروه)) وفي (ف): ((إلى غير ما ذكره)).
(8) في (ك): «بمائدة».
(9) في (ف): ((عنده)).(4/503)
وقول الرَّجل: «رأيته يأكل شيئًا فقذرته»؛ يعني به: أنه رأى الدَّجاج يأكل نجاسة فاستقذره، فحلف ألا يأكله (1) لذلك. وظاهر قول هذا الرجل؛ أنه كان يكره أكل ما يأكل النجاسات من الحيوانات. وقد اختلف في ذلك. فكرهه قوم، فكان (2) ابن عمر لا يأكل الدَّجاجة حتَّى يقصرها أيامًا. ومثل ذلك روي عن ابن القاسم في الجدي الذي ارتضع (3) خنزيرة: إنَّه لا يذبح حتَّى يذهب ما في بطنه. وكره الكوفيون أكل لحوم (4) الجلاَّلة، والشافعي: إن كان أكلُها (5) أو غالبُه النجاسة، فإن كان غالبه الطَّهارة لم يكرهه. وأجاز مالك أكل لحوم الإبل الجلاَّلة، وأكل ما يأكل الجيف من الطَّير وغيره لبعد الاستحالة. =(4/627)=@
قلت: وهذا محمول على ما إذا ذهب ما في بطونها (6) من ذلك، كما حكيناه عن ابن القاسم، لأن مالكًا قد قال في روث ما يأكل النجاسة وبوله (7) : أنَّه نجس، بخلاف أصله في أن (8) الأبوال تابعة للُّحوم. وكره ابن حبيب من أصحابنا أكل ما يأكل النجاسات مطلقًا.
قلت: وقد روى أبو داود من حديث ابن عباس (9) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل الجلاَّلة وألبانها. وهو حجَّة لابن حبيب؛ لولا أنَّه من رواية محمد بن إسحاق.
وقوله: «فتَلَكَّأ»؛ أي: تثاقل، وتأخر. و «نستحمله»: نسأله (10) أن يحملنا؛ أى: يعطينا ما نتحمَّل عليه وبه، و «نَهْبُ إبل»؛ أي: غنيمتها. والنهب: الغنيمة. وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا أوتر من أول (11) الليل قال: أحرزت نهبي؛ أي: غنيمتي. وقد تقدَّم الكلام في الذَّوْد في كتاب الزكاة.
وقوله: «غُرِّ الذُّرى»؛ غرُّ: جمع أغرُّ. وأصله: الذي في جبهته بياض من &(4/504)&$
__________
(1) في(ك): ((لا يأكله)).
(2) في (أ): ((وكان)).
(3) في (ح): «ارتضع على».
(4) في (ح): «لحم».
(5) في (أ): «أكله».
(6) في (ح): «بطنها».
(7) قوله: «بوله» مطموس في (أ).
(8) في (ح): «أصله فإن».
(9) أخرجه أبو داود (3785)، والترمذي (1824)، والحاكم (2/40)، والبيهقي (9/332)، وابن عبدالبر في "التمهيد"(15/182)،وابن حزم في "المحلى" (7/411)، وابن الجوزي في "التحقيق" (2/370) من طريق محمد بن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عمر به.
وخالفه الثوري فرواه عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مرسلاً: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لحوم الجلالة.
وله شاهد من حديث ابن عباس: أخرجه أحمد (1989)، وابن أبي شيبة (5/397)، و(8/207)، والدارمي (1975 و2117)، وأبو داود (3719)، وابن خزيمة (2552)، وغيرهم من طرق عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس به نحوه.
(10) في (ك): «أي نسأله».
(11) قوله: «أول» سقط من (ك).(4/504)
الخيل. و «الذُّرى»: جمع ذروة، وهي: من كل شيء أعلاه. والمراد بـ «غُرّ الذُّرى»: أن تلك الإبل كانت بيض الأسنمة. وقد روي: «بُقْعُ الذُّرى» (1) ؛ أي: فيها لمعٌ بيضٌ وسودٌ. ومنه قيل (2) : الغراب الأبقع، والشَّاة البقعاء: إذا كانا كذلك.
وقوله: «أغفَلْنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمينه»؛ أي: وجدناه غافلاً. كما تقول العرب: أحمدت الرَّجل: وجدته محمودًا. وأذممته: وجدته مذمومًا. فكأنه قال: =(4/628)=@ وجدناه غافلاً عنها، فاغتنمنا (3) غفلته، فأخذنا منه في حال غفلته.
وقوله: «لا يبارك لنا»؛ أي: فيما أعطانا إن سكتنا عن ذلك ولم نعرّفه. وفيه من الفقه ما يدل على جواز اليمين عند التبرُّم، وجواز ردّ السَّائل المثقل عند تعذر الإسعاف، وتأديبه بنوع من الإغلاظ بالقول. وذلك: أنَّهم سألوه في حال تحقق فيها: أنَّه لم يكن عنده شيء فأدَّبهم بذلك القول، ثم: إنَّه - صلى الله عليه وسلم - بقي مترقِّبًا لما يُسعِفُ به طِلْبتَهُم، ويجبرُ به انكسارهم، فلمَّا يسَّر الله تعالى ذلك (4) عليه (5) ذلك أعطاهم (6) ، وجبرهم (7) على مقتضى كرم خلقه.
وقوله: «إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحلَّلتها»، وفي الرواية الأخرى: «إلا كفَّرتُ عن يميني، وأتيت الذي هو خير»؛ اختلاف هاتين الروايتين أوجب اختلاف العلماء في الكفارة قبل الحنث هل تجزئ أم لا؟ على (8) ثلاثة أقوال: جوازها مطلقًا. وهو مذهب أربعة عشر من الصحابة، وجمهور الفقهاء. وهو مشهور مذهب مالك. وقال أبو حنيفة، وأصحابه: لا تجزئ بوجه. وهي (9) رواية أشهب عن مالك. وقال الشافعي: تجزئ بالإطعام، والعتق، والكسوة. ولا تجزئ بالصَّوم. وقد ذكر أصحابنا للخلاف في هذه المسألة سببًا آخر. وهو اختلافهم في اليمين (10) . هل هو (11) جزء السبب، والحنث الجزء الآخر؟ أم ليس كذلك؟ بل وجود اليمين &(4/505)&$
__________
(1) أخرجها مسلم في "صحيحه" (1649).
(2) قوله: «قيل» سقط من (أ) و(ف).
(3) في (أ): «واغتنمنا».
(4) قوله: ((ذلك)) سقط من (أ) و(ف) و(ح).
(5) قوله: «عليه» سقط من (ح).
(6) في (ك): «ذلك عليه أعطاهم».
(7) في (ف): ((وخيرهم)).
(8) في (ف): ((يجزئ أم على)).
(9) في (ك) و(ف): «وهو».
(10) في (أ) و(ف): «الحنث».
(11) في (ح): «هي».(4/505)
هو السبب فقط، والحنث شرط وجوب الكفارة (1) . وبسط هذا في مسائل الخلاف.
وذكر (2) مسلم في بعض طرق حديث (3) أبي موسى الأشعري المردفة. حدثنا شيبان (4) بن فرُّوخ، ثنا الصَّعِقُ =(4/629)=@ بن حَزْن - بكسر العين - من الصعق، قال (5) : حدثنا مطر الوَّراق، قال (6) : حدثنا زَهْدَم الْجَرْمِي (7) . وهذا سندٌ فيه نظر. وذلك: أن الدارقطني استدركه على مسلم (8) ؛ فقال: ابن الصَّعِق، ومطر ليسا بالقويين، ولم يسمع مطر من زُهدم.
قلت: وهذا لا عتب على مسلم فيه، ولا نقص يلحق كتابه بسبب ذلك؛ لأنَّه قد أخرج الحديث من طرق كثيرة صحيحة، ثم أردف هذا السَّند بعد تلك الطرق الصحيحة المتصلة، ولذلك قال فيه: عن زهدم قال: دخلت على أبي موسى، وهو يأكل لحم دجاج، وساق الحديث بنحو حديثهم، وزاد فيه: قال: إني والله ما نسيت. فذكره مردفًا لأجل هذه اللفظة الزائدة، ثم هذا على ما شرطه (9) في أول كتابه؛ حيث (10) قَسَم الأسانيد (11) إلى ثلاثة أقسام، وثلاث طبقات. فهذا السَّند من الطبقة الأخيرة؛ التي هي دون من قبلها، وفيها مغمزٌ (12) بوجه ما. وهذا يدل على أنه أدخل الثلاث الطبقات (13) في كتابه خلافًا لمن زعم: أنه لم يدخل فيه من الطبقة (14) الثالثة أحدًا. وذكر مسلم بعد هذا السند:ضُرَيْب بن نُقَيْر (15) عن زهدم.
قال القاضي عياض (16) : ضُرَيْب بن نُقَيْر (17) : مصغران (18) ، ونُقَيْر (19) (20) هذا بالقاف أشهر. وهي رواية الصَّدفي، والأسدي، والتميمي من أشياخنا. وكذا قيَّدناه (21) عنهم. وكان (22) الخشني قيَّده بالفاء. وقال الحافظ أبو علي: يقال بهما، والقاف أشهر. وأمَّا جُبَيْر بن نُفَيْر: فلم يختلف أنه بالفاء.
وقول أبي موسى: «وافقته (23) وهو غضبان»؛ وحلفه في تلك الحال يدلُّ =(4/630)=@ لمالك: على صحة قوله بلزوم حكم اليمين الواقعة في حال الغضب. وهو له &(4/506)&$
__________
(1) في (ح): «شرط في الكفارة».
(2) في (أ): ((ذكر)) بلا واو.
(3) قوله: «حديث» سقط من (ح).
(4) في (ف): ((شيتان)).
(5) قوله: ((قال)) سقط من (ك) و(ح).
(6) قوله: ((قال)) سقط من (ك) و(ح).
(7) مسلم (3/127).
(8) "الإلزامات والتتبع" حديث (41).
(9) في (ك): «على شرطه».
(10) في (ح): «وحيث».
(11) في (ف): ((الاسناد)).
(12) في (ك): «معتمد».
(13) في (ك): «الطبقات الثلاث».
(14) في (ف): ((البطقة)).
(15) في (ح) و(ف): ((نفير)).
(16) "الإكمال" (5/410)
(17) في (ح) و(ف): ((نفير)).
(18) في (أ) و(ف): «مصغر».
(19) في (ح) و(ف): ((نفير)).
(20) قوله: «مصغران ونقير» سقط من (ح).
(21) في (أ): «قيدنا».
(22) في (ح): ((وقال)).
(23) في (أ): «وأكلته». وفي (ف): ((وأكلته وأكلته)).(4/506)
حجَّة على الشافعي حيث قال: إنَّها لا تلزم، كما تقدَّم. ويدلُّ أيضًا على قول مالك حديث عدي بن حاتم المذكور (1) .
وقوله: «أَعْتَم رجل عند النبي - صلى الله عليه وسلم - »؛ أي: تأخر عنده إلى عتمة الليل. وهي شدَّة ظلمته. ولعله يريد بذلك: أنه صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) العتمة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخرها منتظرًا للناس، فإنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رآهم قد اجتمعوا عجَّل، وإذا راهم قد أبطؤوا أخر؛ يعني: في العشاء الآخرة (3) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليكفِّر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير»؛ هذا أمرٌ من النبي - صلى الله عليه وسلم - بتقديم (4) الكفَّارة على الحنث. وهو نصٌّ في الردِّ على أبي حنيفة، فإن أقل مراتب هذا الأمر أن يكون من باب الإرشاد إلى المصلحة. وأقلّ مراتب المصلحة أن تكون مباحة. فالكفارة قبل الحنث جائزة مجزية. وقد تضافر على هذا المعنى فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - المتقدِّم في حديث أبي موسى، وأمره هذا، وكذلك حديث عدي الآتي بعد هذا.
وقوله: «فليفعل الذي هو خير»؛ أي: الذي هو أكثر خيرًا؛ أي: الذي هو أصلح (5) ؛ يعني: من الاستمرار على موجب اليمين، أو ما يخالف ذلك مما يحنث =(4/631)=@ به. والأصلح تارة يكون من جهة الثواب وكثرته. وهو الذي (6) أشار إليه في حديث عدي، حيث قال: «فليأت التقوى». وقد يكون من حيث المصلحة الراجحة الدنيويَّه التي تطرأ عليه (7) بسبب تركها حرجٌ ومشقَّةٌ. وهي التي أشار إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «لأن يلج أحدكم (8) بيمينه في أهله آثم (9) له عند الله من أن يكفر»؛ يعني بذلك: أن (10) &(4/507)&$
__________
(1) يأتي بعد هذا.
(2) في (ف): ((مع النبي - صلى الله عليه وسلم - )).
(3) أخرجه البخاري (560- 565)، ومسلم (646) من حديث جابر بن عبدالله.
(4) في (ح): ((بتقدم)).
(5) في (ح): «هو الذي أصلح».
(6) في (ح): «وتارة وهو الذي».
(7) في (ح): «عليها» وفي (ك) و(ف): ((يطرأ عليه)).
(8) في (أ): «بأحدكم».
(9) في (أ): ((أنم)).
(10) قوله: «أن» سقط من (ح).(4/507)
استمراره على مقتضى يمينه إذا أفضى به إلى الحرج - وهو المشقة - قد يفضي به إلى أن يأثم، فالأولى به أن يفعل ما شرع الله له من تحنيثه نفسه وفعل الكفارة.
وغضب عدي في الحديث الأول ويمينه سببهما: أن الرَّجل السائل لم يرض بالدِّرع والمغفر مع أنه لم يكن عنده غيرهما. ويمينه في الحديث الثاني وما يفهم من غضبه فيه سببه فيما يظهر من مساق الحديث: أن عديًّا استقلَّ ما سُئِل منه. ألا ترى قوله: تسألني مئة درهم، وأنا ابن حاتم ؟! فكأنه قال: تسألني هذا الشيء اليسير وأنا من قد عرفت؛ أي: نحن معروفون ببذل الكثير. فهذا سبب غير السبب =(4/632)=@ الأول. هذا ظاهر الحديث، غير أن القاضي عياضًا قال: معنى قوله عندي: وأنا ابن حاتم؛ أي: قد (1) عُرِفت بالجود، وورثتُهُ، ولا يمكنني ردَّ سائلٍ إلا لعذر، وقد سأله ويعلم: أنه ليس عنده ما يعطيه، فكأنه (2) أراد أن يبخله (3) . فلذلك قال: والله لا أعطيك؛ إذ لم يعذره.
قلت: وهذا المعنى إنما يليق بالحديث الأول، لا بالثاني. فتأمَّلهما.
وفيه من الفقه: أن اليمين في الغضب لازمة كما تقدم. &(4/508)&$
__________
(1) قوله: «قد» سقط من (ح) و(ك) و(ف).
(2) في (أ): ((وكأنه)).
(3) في (أ): ((يتحلله)).(4/508)
- - - - -
7 - ومن باب اليمين على نية المستحلف
قوله: «يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك»؛ يعني: أن يمينك التي يجوز لك أن تحلفها؛ هي التي تكون صادقة في نفسها، بحيث لو اطَّلع عليها صاحبك =(4/633)=@ لعلم: أنها حقٌّ وصدقٌ، وأن ظاهر الأمر فيها كباطنه، وسرَّه كعَلَنِه، فيصدقك فيما حلفت عليه. فهذا خطاب لمن أراد أن يُقْدِم على يمين، فحقُّه أن يعرض اليمين على نفسه، فإن رآها كما ذكرناه حلف إن شاء، وإلا أمسك؛ فإنَّها لا تحل له. هذا فائدة هذا اللفظ.
فأمَّا قوله: «اليمين على نيِّة المستحلف»؛ فمقصوده: أن من توجَّهت عليه يمين في حق ادُّعي عليه به؛ فحلف على ذلك لفظًا، وهو ينوي غيره، لم تنفعه (1) نيَّته، ولا يخرج (2) بها عن إثم تلك اليمين. ويظهر من كلام الأئمة على هذين الحديثين: أن معنى الأول مردودٌ إلى الثاني، وما ذكرته أولى إن شاء الله تعالى. ويتبيَّن لك ذلك من سياق اللفظين. فتأملهما تجد ما ذكرته.
وإذا تقرر هذا؛ فاعلم: أن اليمين إما أن يتعلَّق بها حق لآدمي أو لا (3) . فإن لم يتعلَّق بها حق لآدمي، وجاء صاحبها مستفتيًا، ولم يضبط (4) بشهادة؛ فله نيته. قال القاضي: ولا خلاف في ذلك نعلمه. وأما إن حلف لغيره في حق عليه؛ فلا خلاف أنه يُحكم عليه بظاهر يمينه إذا قامت عليه بيّنَة، سواء حلف متبرعًا، أو مُسْتَحْلفًا. وأمَّا فيما بينه وبين الله تعالى: فاختلف فيه قول مالك وأصحابه اختلافًا كثيرًا (5) . فقيل: على نية المحلوف له. وقيل: على نية الحالف. وقيل: إن &(4/509)&$
__________
(1) في (ح): «ينفعه».
(2) في (ح): ((ولا تخرج)).
(3) قوله: «أو لا» سقط من (ح).
(4) في (ك): «تضبط».
(5) قوله: «كثيرًا» سقط من (ح).(4/509)
كان مستحلفًا؛ فاليمين على نيِّة المحلوف له. وإن كان متبرعًا (1) ؛ فعلى نيِّة الحالف. وهو ظاهر قول مالك، وابن القاسم. وقيل: عكسه. وقيل: تنفعه نيَّته فيما لا يقضى عليه فقط. =(4/634)=@
وروي عن مالك: إن كان على وجه المكر والخديعة؛ فهو آثم. وإن كان على وجه العُذر (2) فلا. وعكسه ابن حبيب. ذكر هذه الأقوال كلها القاضي عياض، وقال: ولا خلاف في أن الحالف بما (3) يقتطع بها (4) حق غيره ظالم، آثم، حانث.
وقول سليمان - صلى الله عليه وسلم - : لأطيفن الليلة على سبعين امرأة»؛ هذا الكلام قَسَمٌ، وإن لم يذكر فيه مُقْسَم به؛ لأن لام «لأطيفن (5) » هي التي تدخل على جواب القسم (6) . فكثيرًا (7) ما تحذف (8) معها العرب المقسم به اكتفاءً بدلالتها على الْمُقْسَم به، لكنها لا تدلُّ على مُقْسَم به مُعَيَّن. وعلى هذا: ففيه من الفقه ما يدل على أن من قال (9) : أحلف، أو أشهد، أو ما أشبه ذلك مما يفيد القسم، ونوى بذلك الحلف بالله تعالى؛ كانت يمينًا جائزة، منعقدة. وهو مذهب مالك. وقد قال الشافعي: لا تكون (10) يمينًا بالله تعالى حتى يتلفظ بالْمُقْسَم (11) به. وقال أبو حنيفة: هي (12) يمين أراد بها اليمين بالله تعالى أم لا. وكان الأولى ما صار إليه مالك؛ لأن ذلك اللفظ صالح (13) وضعًا للقَسَم بالله تعالى، فإذا أراده الحالف؛ لزمه كسائر الألفاظ المقيدة (14) بالمقاصد من العمومات، والمطلقات، وغير ذلك. وأمَّا (15) إذا لم يرد باللفظ القَسَم أو القَسَم بغير الله تعالى؛ فلا يلزمه به شيء؛ لأن الأوَّل لا يكون يمينًا، والثاني غير جائز، ولا مُنْعَقد، فلا يلزم به (16) حكم على ما تقدَّم.
وقوله: «كُلُّهُنَّ يأتي بغلام يقاتل في سبيل الله»، وفي اللفظ الآخر: «بفارس» (17) . قد تقدَّم القول في الغلام، وأنه الصغير. وأراد به ها هنا: الشاب المطيق للقتال. وهذا الكلام من سليمان - صلى الله عليه وسلم - ظاهره الجزم على أن الله تعالى يفعل ذلك =(4/635)=@ الذي أراد، لكن الذي حمله على ذلك صدق نيته في حصول الخير، وظهور الدِّين، وفعل الجهاد، وغلبة رجاء فضل الله تعالى في إسعافه بذلك. ولا يظن به: أنه قطع بذلك على الله تعالى إلا من جهل حالة الأنبياء عليهم السلام في معرفتهم بالله تعالى وبحدوده، وتأدبهم معه. &(4/510)&$
__________
(1) في (أ): ((متبرعًا فاليمين)) وكأن الناسخ ضرب على قوله: ((فاليمين)).
(2) في (ك): «الغدر» وفي (ح): ((وجه بالعذر)).
(3) في (أ): ((بها)) بدل ((بما)).,
(4) في (ح) و(ف) و(ك): «به».
(5) في (أ): «لأطيفن الليلة».
(6) في (ك): ((وجوب)) وألحق بالهامش ((جواب)) ووضع فوقها (خـ).
(7) في (أ): «وكثيرًا».
(8) في (أ): «ما يحذف».
(9) قوله: ((قال)) لم يتضح في (ح).
(10) في (أ): ((لا يكون)).
(11) في (ف): ((بالقسم به)).
(12) في (ح): «وهي».
(13) في (ف): ((صالحًا)).
(14) في (ح): ((المفيدة)).
(15) في (ف): ((فأما)).
(16) من قوله: «شيء لأن الأول....» إلى هنا سقط من (أ).
(17) مسلم (1654).(4/510)
ورواية العذري: «لأطوفن». ورواية الجماعة كما تقدم. وكلاهما صحيح في اللغة. يقال: أطفت بالشيء، أطيف به، وأنا مطيف. وطفت على الشيء، وبه، أطوف، وأنا طائف، كما قال تعالى: {فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون} (1) . وأصله: الدَّوران حول الشيء. ومنه: الطواف بالبيت. وهو في هذا الحديث كناية عن الجماع، كما جاء عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه كان يطوف على نسائه، وهن تسع، في ساعة واحدة من ليل أو نهار (2) . وهذا يدل على ما كان الله تعالى خصَّ به الأنبياء عليهم السلام من صحة البنية، وقوة الفحولية (3) ، وكمال الرُّجولية، مع ما كانوا فيه من الجهد، والمجاهدات، والمكابدات على ما هو المعلوم من حال نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، وأنَّه توفي ولم يشبع من خبز البرِّ ثلاث ليال تباعًا (4) . وقد روي عن سليمان - صلى الله عليه وسلم - : أنه كان يفترش الرَّماد، ويأكل خبز الرَّماد. وهذا هو المعلوم من حال الأنبياء صلوات الله عليهم السلام (5) أجمعين، ومن كان هذه (6) حاله فالعادة جارية بأنه يضعف عن الجماع، لكن خرق الله تعالى لهم العادة في أبدانهم، كما خرقها لهم في معجزاتهم، وأكثر أحوالهم. =(4/636)=@
وقد اختلفت الرِّوايات في عدد النساء اللواتي طاف عليهن سليمان - صلى الله عليه وسلم - . ففي الأصل: ستون، وسبعون، وتسعون (7) . وفي غير كتاب مسلم: مائة (8) . والله أعلم أيُّ ذلك كان.
وقوله: «فقال له صاحبه أو الملك»؛ هذا (9) شكٌّ من أحد الرواة في الذي قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - منهما (10) . فإن كان صاحبه، فيعني به (11) : وزيره من الإنس، أو الجن (12) . وإن كان الملك؛ فهو الذي كان يأتيه بالوحي. وقد أبعد من قال: هو خاطره.
وقوله: «قل: إن شاء الله»؛ هذا تذكير له بان يقول بلسانه، لا أنه غفل عن التفويض إلى الله تعالى بقلبه؛ فإن ذلك بعيدٌ على الأنبياء عليهم السلام، وغير لائق بمناصبهم الرفيعة، ومعارفهم المتوالية. وإنَّما هذا كما قد اتفق (13) لنبينا - صلى الله عليه وسلم - ** كذا في (أ) **؛ لما سئل عن الرُّوح، والخضر، وذى القرنين؛ فوعدهم بأن (14) يأتي بالجواب غدًا (15) ، جازمًا بما عنده من معرفته بالله تعالى، وصدق وعده في تصديقه، وإظهار كلمته، لكنه ذهل عن النطق بكلمة: «إن شاء الله»، لا عن التفويض إلى الله تعالى بقلبه، فأُدِّب بأن تأخر الوحي عنه؛ حتى رموه بالتكذيب لأجلها. ثم إن الله تعالى علَّمه وأدَّبه بقوله: &(4/511)&$
__________
(1) الآية (19) من سورة القلم.
(2) أخرجه البخاري في "صحيحه" (268 و284 و5068 و5215)، ومسلم (309) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3) في (ح): «الفحولة».
(4) أخرجه البخاري في "صحيحه" (5374 و5414)، ومسلم (2976) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) في (أ): ((الأنبياء عليهم السلام)) وفي (ك): ((صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)) وفي (ح): ((صلوات الله عليهم أجمعين)).
(6) في (أ) و(ف): ((هذا)).
(7) "صحيح مسلم" (1654).
(8) هي في "صحيح البخاري" (5242) من طريق طاووس، عن أبي هريرة به. وكذا عند ابن أبي شيبة (1563) من طريق يزيد بن هارون، عن هشام بن حسان، عن محمد بن واسع، عن أبي هريرة به، وأخرجه كذلك أيضًا النسائي في "الكبرى" (11302)، وأبو عوانة (5993)، وابن حبان (...)، والاسماعيلي كما في "فتح الباري" (6/460). جميعهم من طريق هشام بن عروة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة بلفظ: «مائة امرأة».
وأخرجه البخاري في "صحيحه" (2819) معلقًا عن الليث بن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، عن أبي هريرة به، فقال: «مائة امرأة، أو تسع وتسعين».
ورجح البخاري رواية: تسعين، فقال: «هي أصح» رقم (3424)، وقال الترمذي (1532): «وقد روي هذا الحديث من غير وجه، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :" قال سليمان بن داود لأطوفن الليلة على مائة امرأة "».
(9) في (ك): «فهذا».
(10) في (أ) و(ف): «منها».
(11) في (ح): «هو» بدل «به».
(12) في (ف): ((أو من الجن)).
(13) قوله: ((قد)) سقط من (أ).
(14) في (ك): «أن».
(15) أخرجه ابن إسحاق كما في "السيرة" لابن هشام (1/321)، ومن طريقه الطبري (15/191)، وابن المنذر وأبو نعيم، والبيهقي في "دلائل النبوة" (2/269)، وفي إسناده رجل مجهول.(4/511)
{ولا تقولن لشيء إني فاعلٌ ذلك غدًا - إلا أن يشاء الله} (1) ، فكان بعد ذلك يستعمل هذه الكلمة حتى في الواجب (2) . وهذا لعلوِّ مناصب الأنبياء، وكمال معرفتهم بالله تعالى، يناقشون، ويعاتبون على ما لا يعاتب عليه غيرهم، كما قد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حق لوط: «ويرحم الله لوطًا لقد كان يأوي إلى ركن شديد» (3) ؛ فعتب عليه نطقه بكلمة يسوغ (4) لغيره أن ينطق بها، وقد استوفينا هذا المعنى فيما تقدَّم. =(4/637)=@
وقوله: «فلم يقل، ونسي»؛ أي: لم ينطق بتلك الكلمة ذهولاً ونسيانًا، أنساه الله تعالى إيَّاها لينفذ قدر الله تعالى الذي سبق به علمه، من جعل ذلك النسيان سببًا لعدم وقوع ما تمنَّاه وقصده سلبمان - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله: «فلو قال: إن شاء الله لم يحنث»؛ دليل على جواز قول: «لو» و (5) «لولا» بعد وقوع المقدور. وقد وقع من ذلك مواضع كثيرة في الكتاب، والسُّنه، وكلام السَّلف، كقوله تعالى : {لو أن لي بكم (6) قوة أو أوى إلى ركن شديد} (7) ، ولقوله (8) : {ولولا رجال مؤمنون ونساءٌ مؤمنات} (9) ، ولقوله (10) - صلى الله عليه وسلم - : «لولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدَّهر، ولولا بنو إسرائيل لم يخبث (11) الطعام، ولم يخنز اللحم» (12) .
فأمَّا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في "الصحيح": «لا يقولن أحدكم: لو؛ فإن لو تفتح (13) عمل الشيطان»؛ فمحمول (14) على من يقول ذلك معتمدًا على الأسباب، مُعرضًا عن " المقدور، أو متضجرًا منه، كما حكاه الله تعالى من قول المنافقين حيث قالوا : {لو أطاعونا ما قتلوا} (15) ، ثم ردَّ الله تعالى قولهم، وبيَّن لهم (16) عجزهم، &(4/512)&$
__________
(1) الآية (23-24) من سورة الكهف.
(2) في (ك): ((الوجوب)).
(3) أخرجه البخاري (3372 و4537 و4694)، ومسلم (151 و238).
(4) في (ف): نقط الناسخ الحرف الأول باثنتين من فوق ومن تحت.
(5) قوله: «لو و» سقط من (أ)، وفي (ح): «لو ولا».
(6) قوله: «بكم» سقط من (أ).
(7) سورة هود: آية 80.
(8) في (ح): «وكقوله»، وقوله ((ولقوله)) سقط من (ك).
(9) الآية (25) من سورة الفتح.
(10) في (ح) و(ف) و(ك): «وكقوله».
(11) في (ف): ((يخنث)).
(12) تقدم...
(13) في (ف): ((يفتح)).
(14) في (ك): ((محمول)).
(15) الآية (168) من سورة آل عمران.
(16) قوله: «لهم» سقط من (ك).(4/512)
فقال : {قل (1) فادرءُوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين} (2) ، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الحديث: «المؤمن القوي خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، ولا تقل: لو كان كذا (3) لكان كذا؟ فإن لو تفتح (4) عمل الشيطان. قل: ما شاء الله كان، وما شاء فعل (5) » (6) ؛ فالواجب عند وقوع المقدور التسليم لأمر الله تعالى، وترك الاعتراض على =(4/638)=@ الله، والاعراض عن الالتفات إلى ما فات. فيجوز النطق بـ «لو» عند السلامة من تلك الآفات. والله تعالى أعلم (7) .
وفيه دليل على أن اليمين بالله تعالى إذا قرن بها «إن شاء الله» لفظًا منويًّا؛ لم يلزم الوفاء بها، ولا يقع الحنث فيها. ولا خلاف في ذلك. واختلفوا فيما إذا وقع الاستثناء منفصلاً عن اليمين. فالجمهور: على أنه لا يقع (8) الاستثناء حتى يكون متصلاً به (9) ، منويًا معه، أو مع اخر حرف من حروفه. وإليه ذهب مالك، والشافعي، والأوزاعي، والجمهور. وقد اتفق مالك والشافعي (10) : على أن السُّعال، والعِطَاس، وما أشبه ذلك لا يكون قاطعًا إذا كان ناويًا له. وقال بعض أصحابنا: لا ينفع الاستثناء إلا أن ينويه قبل نطقه بجميع حروف اليمين. وعند هؤلاء: أن السكوت المختار الذي يقطع به كلامه، أو يأخذ في غيره لا ينفع معه الاستثناء. وكان الحسن، وطاووس، وجماعة من التابعين يرون للحالف الاستثناء ما لم يقم من مجلسه. وقال قتادة: ما لم يقم أو يتكلم (11) . وعن عطاء: قَدْر حلبة ناقة. وعن سعيد بن جبير: بعد أربعة أشهر. وروي عن ابن عباس: بعد سنة (12) . وقد أنكرت هذه الرواية عنه، وضُعفت، وتأولها بعضهم: بأن (13) له أن يستثني إمتثالاً لأمر الله تعالى: {ولا (14) تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدًا - إلا أن يشاء الله} (15) ، لا لحل اليمين. والصحيح الأول إن شاء الله؛ لأنه لو لم يشترط (16) الاتصال لما انعقدت يمين، ولا تصوَّر عليها ندم (17) ، ولا حنث، ولا احتيج للكفَّارة فيها. وكل ذلك حاصل بالاتفاق. فاشتراط (18) الاتصال صحيح. ولتفصيل هذه الجملة علم الخلاف.
وقد احتجَّ من (19) قال بفصل الاستثناء بما قال في هذا الحديث: إن سليمان &(4/513)&$
__________
(1) قوله: ((قل)) سقط من (ك).
(2) سورة هود: آية 168.
(3) في (ك): «كان لي كذا».
(4) في (ف): يشبه ((يفتح)).
(5) في (أ) و(ف): ((وما شاء الله فعل)).
(6) أخرجه مسلم (2664).
(7) قوله: «والله أعلم» سقط من (أ).
(8) في (ك): «لا ينفع».
(9) قوله: «به» سقط من (ك).
(10) من قوله: «والأوزاعي....» إلى هنا سقط من (ك).
(11) في (ك): «نتكلم».
(12) أخرجه الطبراني (15/229) من طريق نعيم بن حماد، عن هشيم، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس، وذكره السيوطي في "الدر" (5/377) معزوًّا لسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم، وابن مردويه، عن ابن عباس به.
(13) في (أ) و(ف): ((بأنه)).
(14) في (أ) و(ف): «لا» بلا واو.
(15) الآية (23-24) من سورة الكهف.
(16) في (ح): ((لم يشرط)).
(17) قوله: «ولا تصور عليها ندم» سقط من (ك).
(18) في (ح): ((فاشراط)).
(19) في (ف): ((بمن)).(4/513)
عليه السلام لما حلف قال له صاحبه - أو الملك -: قل: إن شاء الله. ووجهه: =(4/639)=@ أنَّه إنَّما عرض عليه الاسثناء بعد فراغه من اليمين. فلو قالها (1) بعد فراغ قول الصَّاحب لكان (2) قولها غير متصل باليمين، ومع ذلك (3) ، فلو قالها لكانت تنفع، ولم يحنث، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لو قال: إن شاء الله لم يحنث».
والجواب: منع أنه قاله بعد فراغه من اليمين. بل لعلَّه قال ذلك في أضعاف يمينه؛ لأن يمينه تلك كثرت كلماتها فطالت. وليس ذلك الاحتمال بأولى من هذا، فلا حجَّة فيه (4) ، لا له، ولا عليه. وقد احتجَّ المخالف أيضًا بما رواه أبو داود (5) عن عكرمة - مولى ابن عباس -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «والله لأغزون (6) قريشًا (7) ! والله لأغزون (8) قريشًا (9) ! والله لأغزون (10) قريشًا (11) !»، ثم قال: «إن شاء الله»، وفي رواية: ثم سكت، ثم قال: «إن شاء الله». وهذا مرسل. وقد أُسند من حديث عبد الواحد بن صفوان. وليس حديثه بشيء على ما قاله أهل الحديث. والمرسل هو الصحيح (12) .
قلت: وهذا الحديث حجة ظاهرة على جواز الفصل بالسُّكوت اليسير (13) ، وأن ذلك القدر ليس بقاطع؛ لأن الحال شاهدة على الاتصال، لكن عند من يقبل المرسل. ويحتمل (14) أن يكون ذلك السكوت عن غلبة نفس خارج أو أمر طارئ. وفيه بُعد.
ثم اختلف العلماء في الاستثناء بمشيئة الله تعالى؛ هل يرفع حكم الطلاق، والعتاق، والمشي لمكة، وغيرها من الأيمان بغير الله تعالى، أم لا؟ فذهب مالك (15) والاوزاعي: إلى أن ذلك لا يرفع شيئًا من ذلك. وذهب الكوفيون، والشافعي، وأبو ثور، وبعض السَّلف: إلى أنه يرفع ذلك كله. وقصر الحسن الرفع على العتق، والطلاق خاصة (16) . =(4/640)=@
قلت: وسببُ الخلاف اختلافهم في معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه النسائي من حديث ابن عمر من طرق متعددة، وهو صحيح، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من &(4/514)&$
__________
(1) في (ح): «قال».
(2) في (ح): ((امان)) بدل ((لكان)).
(3) قوله: «ومع ذلك» سقط من (ح) و(ك).
(4) قوله: ((فيه)) سقط من (ح).
(5) ...... تخريج
(6) في (ك): «لأغزوت». تراجع.
(7) في (ك): «لأغزوت». تراجع.
(8) في (ك): «لأغزوت». تراجع.
(9) في (ك): «لأغزوت». تراجع.
(10) في (ك): «لأغزوت». تراجع.
(11) في (ك): «لأغزوت». تراجع.
(12) في (ح): ((الصحاح)).
(13) قوله: «اليسير» سقط من (ح).
(14) في (ح): ((وتحمل)).
(15) قوله: ((مالك و)) ليس في (ك).
(16) قوله: «خاصة» سقط من (ح).(4/514)
حلف على يمين؛ فقال: إن شاء الله؛ فهو بالخيار، إن شاء مضى، وإن شاء ترك»، وفي رواية: «إن شاء ترك (1) غير حنث» (2) . فحمل مالك ومن قال بقوله هذا الحديث على اليمين الجائزة (3) ، وهي اليمين (4) بأسماء الله تعالى وصفاته بناء على أنه هو المقصود الأصلي، واليمين العرفي. وحمله المخالف على العموم في كل ما يمكن أن يقال عليه يمين.
قلت: والصحيح الأول؛ لما قدَّمناه: من أن هذا النوع الذي قد أطلق عليه الفقهاء يمينًا لا يُسمَّى يمينًا لا لغةً، ولا شرعًا؛ إذ ليس من ألفاظها اللغوية، ولا من معانيها الشرعية، كما بيَّناه.
وقوله: «قل (5) : إن شاء الله»؛ دليل على صحة قول من يقول: إن (6) الاستثناء لا يصحُّ إلا بالقول، ولا يصح بالنيَّة المجردة. وهو قول كافة العلماء، وأئمة أهل الفتيا (7) (8) . وقال بعض متأخري شيوخنا: إنه يصحُّ بالنيَّة كالمحاشاة؛ فإنَّهم اتفقوا على (9) أنها تصحُّ بالنيَّة (10) . وفرَّق المتقدمون بين الاستثناء والمحاشاة (11) ؛ بأن (12) الاستثناء رفعٌ لأصل (13) اليمين. والمحاشاة رفعٌ لبعض ما تناولته (14) اليمين، فافترقا.
وقوله: «وايم الذي نفس محمدٍ بيده !»؛ قد (15) قدمنا (16) ذكر خلاف النحويين في: =(4/641)=@ «ايم الله» واللغات المذكورات فيه فيما تقدَّم (17) . والكلام هنا في بيان حكمها. فحكى ابن خواز منداد (18) ، والطحاوي عن مالك: أنَّها (19) يمين (20) . وبه قال الشافعي، وأصحاب أبي حنيفة، وابن حبيب من أصحابنا. وفي كتاب محمَّد عن مالك: أخشى أن تكون يمينًا.
قلت: وعلى كونها يمينًا جائزة يدلُّ قَسَم النبي - صلى الله عليه وسلم - بها، ويتمشى ذلك (21) على &(4/515)&$
__________
(1) قوله: «وفي رواية إن شاء ترك» سقط من (أ).
(2) ..... تخريج.
(3) كتب ناسخ (ف) بالهامش: ((التي تدخلها الكفارة)) ووضع على كلمة ((الجائرة)) صح.
(4) قوله: «اليمين» سقط من (أ).
(5) في (أ) و(ف): «فقال».
(6) قوله: «إن» سقط من (أ).
(7) كتب ناسخ (ف) بالهامش: ((وقوله فقال إن شاء الله يبين قوله عليه السلام في حديث ابن عمر من حلف فاستثنى فإن شاء رجح وإن شاء ترك غير حنث رواه أبو داود)) ووضع صح على كلمة ((الفتيا)).
(8) في (ح): «الفتوى».
(9) قوله: ((على)) سقط من (أ).
(10) من قوله: «كالمحاشاة....» إلى هنا سقط من (ك).
(11) في (ح): «وبين الاستثناء وبين المحاشاه».
(12) في (أ): «أن».
(13) في (ف): ((رفع أصل))
(14) في (ح): «تناوله».
(15) في (ف): ((وقد)).
(16) في باب...
(17) قوله: «فيما تقدم» سقط من (أ).
(18) في (ك): «منداذ» وفي (أ): ((خواز منذاد)) وفي (ف): ((خوازر منذاذ))..
(19) في (ح): «أنه».
(20) في (أ): يشبه أن تكون ((لمين)).
(21) قوله: «ذلك» سقط من (ك).(4/515)
قول الفراء: إنها جمعُ يمين. وهو الذي اختاره أبوعبيد. واستدل (1) عليه بقول زهير (2) :
فَتُجْمَع أَيْمُنٌ مِنَّا وَمِنْكُم
قال: وكثر استعمالهم فيه، فحذفوا النون، كما حذفوا نون «لم يك (3) ».
قلت: ويلزم على هذا: أن الحالف به (4) يلزمه ثلاثة أيمان؛ لأن الثلاثة أقل مراتب الجمع (5) . وأمَّا على ما فسَّره (6) سيبويه: من أنه مأخوذ من اليُمْن والبركة فلا يلزم (7) بها كفارة؛ لأن الحالف بها كأنَّه قال: وبركة الله، ويُمْن الله. وذلك راجع إلى الحلف بفعل من أفعال الله تعالى؛ كما لو قال: ورزق الله، وفضل الله. وحينئذ تكون يمينًا غير جائزة، ولو كان ذلك لما حلف بها النبي - صلى الله عليه وسلم - . فإذًا قول الفراء أولى، إن شاء الله تعالى. =(4/642)=@
- - - - -
8 - ومن باب ما يخاف من اللجاج في اليمين
قوله: «والله لأن يلج أحدكم (8) في يمينه (9) »؛ اللجاج في اليمين: هو المضي على مقتضاها (10) ؛ وإن لزم من ذلك حرج، ومشقَّة، أو ترك ما فيه منفعة عاجلة، أو آجلة. فإن كان فيه شيء من ذلك فالأولى له: تحنيث نفسه، وفعل الكفارة على ما &(4/516)&$
__________
(1) في (أ): «والشده».
(2) في "ديوانه" (85)، وعجز البيت: بمقسمة تمدر بها الدِّماء.
(3) في (ح): «تك».
(4) في (ف): ((المخالف له)).
(5) في (أ) و(ف): «الجموع».
(6) في (أ) و(ف): ((فسره به)).
(7) في (ف): ((تلزم)).
(8) في (ح): ((أحدهم)).
(9) في (ح): «في أهله في يمينه».
(10) في (أ) و(ف): «مقتضاه».(4/516)
تقدَّم.
وقوله: «آثم له عند الله من أن يعطي ما فرض الله من (1) الكفارة»؛ أي: أكثر إثما. وذلك إنما يكون إذا لزم من المضي في اليمين ترك واجب، هذا ظاهره. ويحتمل ما قدمناه في معنى هذا الحديث. وفيه ما يدل: على أن الكفارة واجبة على من حنث. وهو ظاهر قوله تعالى: {فكفارته إطعام عشرة مساكين} (2) ، ولا خلاف في ذلك. =(4/643)=@
وقول عمر: «إني (3) نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة»، وفي الرواية الأخرى : «يومًا في المسجد الحرام». فقال: «أوف بنذرك»، ظاهره: لزوم نذر الكافر إذا أوجبه على نفسه في حال كفره؛ إذا كان من نوع القرب؛ التي يوجبها المسلمون، غير أنه لا يصح منه إيقاعه في حال (4) كفره لعدم شرط الأداء؛ الذي هو الإسلام. فأمَّا إذا (5) أسلم وجب عليه الوفاء. وبذلك قال الشافعي (6) ، وأبو ثور، والمغيرة المخزومي (7) ، والبخاري، والطبري. ورأوا أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : «أوف بنذرك» على الوجوب. وذهب (8) مالك، والكوفيون: إلى أنَّه لا يلزمه (9) شيء من ذلك؛ لا عتق، ولا صوم، ولا اعتكاف؛ لعدم تصوُّر نيَّة القربة منهم حالة كفرهم. واعتذروا عن ظاهر الحديث: بأن قول عمر رضي الله تعالى عنه: نذرت في الجاهلية. إنما يريد: في أيام الجاهلية، لا أنه كان هو في الجاهلية. ومنهم من قال: إن هذا الأمر على جهة النَّدب.
قلت: والاعتذاران ضعيفان؛ لأنهما خلاف الظاهر من مساق الحديث، ومن ظاهر الأمر. وأما قولهم: لا يلزمهم (10) شيء من نذر تلك القرب؛ لأنه لا تصح نيَّة التقرُّب (11) منهم؛ فقول لا يصبر على السبر؛ لأنا نقول: لا يلزم من كون العبادة لا تصحُّ (12) من المكلَّف إلا أن (13) يكون مخاطبًا بها؛ لأنَّا نجوّز التكليف بالمشروط حالة عدم شرطه (14) الممكن التحصيل. كما يؤمر الكافر بالايمان بالرُّسول حالة عدم معرفته بالرسل (15) ، والمحدث بالصلاة (16) حالة الحدث، والبعيد عن (17) مكة بالحج. وسر هذا: أنه لما كانت هذه الشروط ممكنة التحصيل للمكلَّف؛ أُمِر بفعل المشروط. =(4/644)=@
ويتضمن &(4/517)&$
__________
(1) في (ك): «له من».
(2) الآية (89) من سورة المائدة.
(3) في (ح) و(ك): «وقوله إني» بدل: ((وقول عمر: إني)).
(4) في (ح) و(ك): «حالة».
(5) في (أ) و(ف): «فإذا» بدل «فأما إذا».
(6) في (ح): ((الوفاء بذاك قاله الشافعي)).
(7) في (أ): «والمخزومي».
(8) في (أ): ((فذهب)).
(9) في (ك): ((يلزم)).
(10) في (ف): ((لا يلزمه)).
(11) في (أ): «التصرف».
(12) في (ح): ((لا يصح)).
(13) قوله: «أن» سقط من (أ) وفي (ف): ((ألا يكون)).
(14) في (ح) و(ك): «الشرط».
(15) في (ح) و(ف): «معرفته بالمرسل»، وفي (ك): «معرفة المرسل».
(16) في (ح): «في الصلاة».
(17) في (ف): ((من)) بدل ((عن)).(4/517)
ذلك الأمر (1) الأمر بتحصيل ما لا يصح ذلك المشروط (2) إلا به. وهذه مسألة خطاب الكفار بفروع الشريعة. وقد ذكرنا في أصول الفقه: أن الصحيح أنهم مخاطبون بها، وأنه الصحيح من مذهب مالك وغيره من العلماء. وعلى هذا: فيلزم الكافر ما نذره في حال كفره، كما هو الظاهر من حديث عمر رضي الله عنه هذا (3) . وكذلك يلزمه عتق ما أعتق، وصدقة ما تصدَّق به. فإن أسلم صحَّت له تلك الأعمال كلّها، وأُثيب عليها، كما هو الظاهر من قوله - صلى الله عليه وسلم - لحكيم بن حزام: «أسلمتَ على ما أسلفتَ عليه (4) من خير» (5) . ومالك - حيث لم يلزمه (6) بشيء من ذلك - إنما بناه على القول الآخر عنه: في أن الكفار ليسوا مخاطبين بالفروع. والصحيح المشهور من مذهبه، ومذهب أصحابه: أنهم مخاطبون بها. وعلى هذا: يخرج من مذهبه قول آخر في إلزام الكفار ما التزموه من النَّذر والعتق في حالة الكفر. والله تعالى أعلم.
وقوله: «أنه نذر أن يعتكف ليلة»؛ يحتجُّ به من يجيز الاعتكاف بالليل وبغير صوم. ولا حجَّة له فيه؛ لأنه قد قال في الرواية الأولى (7) : «أنَّه نذر أن يعتكف =(4/645)=@ يومًا»، والقصة واحدة. فدلَّ مجموع الروايتين: على أنَّه نذر يومًا وليلة، غير أنه أفرد أحدهما بالذكر لدلالته على الآخر، من حيث: أنهما تلازما في الفعل، ولهذا قال مالك: إن أقلَّ الاعتكاف يومٌ وليلةٌ، فلو نذر أحدهما لزمه تكميله بالآخر. ولو سلمنا: أنَّه لم يجئ لليوم ذكر لما كان في تخصيص الليلة بالذكر حجَّة؛ لإمكان حمل ذلك الاعتكاف على المجاورة؛ فإنَّها تُسمَّى اعتكافًا لغةً. وهي تصحُّ بالليل والنهار، وبصوم وبغير صوم. والله تعالى أعلم. =(4/646)=@ &(4/518)&$
__________
(1) في (ك): «الأصل».
(2) في (أ): ((الشرط)).
(3) قوله: «هذا» سقط من (ك).
(4) قوله: «عليه» سقط من (ح) و(ك) و(ف).
(5) أخرجه البخاري (1436 و2220 و5992)، ومسلم (123 و195) من حديث حكيم بن حزام.
(6) في (ف): ((لا)) بدل ((لم)).
(7) في (ك): «الأخرى» وفي (ح): ((الأولى)) وألحق في الهامش ((الأخرى)) ووضع (خـ).(4/518)
المفهم
لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم
الجزء الخامس
كتاب القسامة والقصاص (1)
ومن باب كيفية (2) القسامة وأحكامها
في الصِّحاح: يقال: أقسمت: حلفت (3) . وأصله من القسامة، وهي (4) : الأيمانُ تُقْسَمُ على الأولياء في الدَّم. والقَسَمُ - بالتحريك -: اليمين. وكذلك: الْمَقْسَم. وهو المصدر. مثل: الْمَخْرَج. والْمَقْسَم أيضًا: موضع القسم. قال زهير (5) :
بِمَقْسَمةٍ تَمُورُ بها الدِّماءُ (6)
يعني: بمكة (7).
قوله (8): ((فإنِّي (9) مُحَيِّصةُ يهود، فقال: أنتم والله قتلتموه))؛ ظاهره: أنَّه لم يكن هنالك (10) =(5/5)=@ لوثٌ يستند إليه في دعواه على اليهود إلا كون القتيل وجد في محلَّتِهم وقريتهم. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، والثوري، ومعظم الكوفيين. فرأوا: أن ذلك لوثٌ يوجب القسامة، ولم يروا لوثًا غيره تمسُّكًا بهذا الحديث. ولم ير &(5/3)&$
__________
(1) قوله: ((والقصاص)) سقط من (أ) و(ف).
(2) في (ك): ((كيف)).
(3) قوله: ((حلفت)) سقط من (أ) و(ف).
(4) في (أ): ((وهو)).
(5) "ديوان زهير بن أبي سلمى" (ص85)، وصدر البيت: فتجمع أَيْمنٌ منا ومنكم.
(6) قوله: ((الدماء)) سقط من (ح).
(7) قوله: ((يعني بمكة)) سقط من (أ) ولم يتضح في (ف).
(8) في (ك): ((وقوله)).
(9) في (ك) و(ح) و(ف): ((فأتى)).
(10) في (ح) و(ك): ((هناك)).(5/3)
الجمهور: مالك، والشافعي، والليث، وأحمد، وداود (1) ، وغيرهم، ذلك لوثًا موجبًا للقسامة، والقتيل هَدْر؛ لأنه قد يقتل الرَّجلُ الرَّجل ويلقيه في محلَّة القوم لِيُلَطِّخَهُم (2) به، غير أن الشافعي قال: إلا أن يكون مثل القصة (3) التي حكم فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - في خيبر فتجبُ بها (4) القسامة؛ لما بين اليهود (5) والأنصار من العداوة، ولأنه لم يكن هنالك سواهم؛ ولأن عبدالله خرج بعد العصر، فوُجد قتيلاً قبل الليل. ونحوه قال أحمد. وقد تأول النسائي هذا على مالك (6) .
قلت: وحاصل ما قال هؤلاء: إن هذه القضية (7) اجتمعت فيها قرائن غير كون القتيل وجد في محلتهم، وإنَّ المحلَّة لم تنفرد باللوث، بل مجموع ما أبدوه من القرائن. وما قالوه صحيح؛ إذ لا مُعيّن، ولا مخصص، ولا ما (8) يدل على إلغاء ما أبدوه.
وقد اختلف العلماء في الأمور التي تكون لوثًا. ومجموع ما اختلف فيه من ذلك سبعة أمور:
أحدها: ا لمحلَّة، وقد ذكرناها.
وثانيها: قول القتيل: دمي عند فلان. أو فلان قتلني عمدًا. أو ضربني؛ وجد به أثر، أو لم يوجد. فقال مالك، والليث: إنه لوث يوجب القسامة. قال =(5/6)=@ مالك: إنه مِمَّا اجتمع عليه في الحديث والقديم (9) ، وروي عن عبد الملك بن مروان. وشَرَط بعض أصحاب مالك وجود الأثر والجرح، وتمسَّك مالك في ذلك بقصّة قتيل بقرة بني إسرائيل، فإنَّه لَمَّا حيي القتيل (10) قال: فلان قتلني. فاعتمد على ذلك، وبأن (11) المسلم الْمُشْرِف على الموت لا(يُتَّهم بكذبٍ يُسْفَكُ به (12) دمُ مسلم عند آخر عهده بالدنيا، فظاهر حاله الصدق. وقد خالفه في ذلك سائر العلماء، ولم يروا شيئًا من ذلك لوثا.
وثالثها: شهادة غير البيِّنة القاطعة. ولم يختلف قول مالك، والشافعي، &(5/4)&$
__________
(1) في (ح): ((وأبو داود)).
(2) في (ح): ((ليسحتهم)).
(3) في (ك): ((القضية)).
(4) في (ح) و(ك): ((فيها))، وفي (ف): ((فيجب فيها)).
(5) في (ك): ((يهود)).
(6) أشار النسائي في "السنن" (8/11): أن مالك أرسل الحديث عن بشير بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وداه مِن عنده.
(7) في (ف): ((القصة)).
(8) قوله: ((ما)) سقط من (ف).
(9) في (ك): ((في القديم والحديث))، وكتب في حاشيتها: ((الأئمة)).
(10) قوله: ((القتيل)) سقط من (أ) و(ف).
(11) في (ف): ((ولأن)).
(12) في (أ): ((سفك دم)) وفي (ف): ((يسفك دم)).(5/4)
والليث: في أن الشاهد الواحد العدل (1) ولفيف الناس لوث؛ واختلف قول مالك في الواحد غير العدل، وفي المرأة. هل ذلك لوث، أم لا؟ وجعل الليث، وربيعة ويحيى بن سعيد شهادة النِّساء، والعبيد، والذميين لوثًا. وقال بعض أصحابنا: شهادة النِّساء (2) والصبيان لوث. وأباه أكثرهم.
ورابعها: أن يشهد شاهدان على الجرح، ثمَّ يحيا المجروح حياة بيِّنة، ثم يموت. فذلك لوث يوجب القسامة عند مالك، وأصحابه، واللَّيث. واختلف عندنا فيما إذا شهد بالجرح شاهد واحد؛ هل يوجب ذلك قسامة، أم (3) لا؟ على قولين، والأصح: أنها لا تجب إلا بشاهدين. ولم ير الشافعي، ولا أبو حنيفة (4) في هذا قسامة، بل القصاص من غير قسامة.
وخامسها: وجود المتهم عند المقتول، أو قربه، أو آتيًا من جهته وعليه آثار القتل من التلطُّخ (5) بالدَّم وشبهه. فهو لوث عند مالك. وقال الشافعي نحوه. قال: =(5/7)=@ وذلك: إذا لم يوجد هنالك (6) أحد به أثر، ولا سَبع. قال: ولو (7) وجد في بيت، أو دار، أو صحراء قتيل (8) ليس فيها أحدٌ سواهم فيتفرقون عن قتيل. فهذا كلُّه شبهة توجب القسامة.
وسادسها: فئتان يقتتلان (9) ، فيوجد بينهما قتيل؟ ففيه روايتان:
إحداهما: أن أولياءه يقسمون على من يدَّعون عليه، أو من يدَّعي عليه المقتول؛ كان من الفئتين، أو غيرهم.
والأخرى: لا قسامة فيه في هذه الوجوه، وفيه الدِّية على الطائفة التي نازعت طائفته؛ إن كان منها، وعلى (10) الطائفتين إن كان من غيرهما، وبالقسامة في هذا قال الشافعي. وقال أحمد وإسحاق: عقله على الفئة المنازعة؛ فإن عيّنوا رجلاً؛ ففيه القسامة.
وسابعها: الميِّت في مزاحمة الناس. قال الشافعي: تجب بذلك القسامة، &(5/5)&$
__________
(1) قوله: ((العدل)) سقط من (أ) و(ف).
(2) من قوله: ((والعبيد والذميين... إلى هنا)) سقط من (ف).
(3) في (ح) و(ك): ((أو)).
(4) في (ك): ((أبو ثور))، وكتب فوقها: ((حنيفة)).
(5) في (ف) و(ح): ((التلطيخ)).
(6) في (ح) و(ك) و(ف): ((هناك)).
(7) في (أ): ((لو)).
(8) كتب في هامش (ك): ((ومثله)) بدون إشارة لحق.
(9) لم تنقط في (أ) و(ح).
(10) في (ك): ((أو على)).(5/5)
وتكون (1) فيه الدِّية. وعند مالك: هو هدر. وقال إسحاق، والثوري: ديته على بيت المال. وروي مثله عن عمر، وعلي رضي الله عنهما، وقال الحسن، والزهري: ديته على من حضر.
وقوله: ((ثم أقبل هو وأخوه حُوَيِّصَة))؛ يعني به: مُحَيِّصَة. وهما ابنا مسعود ابن زيد. والمشهور في ((حُوَيْصَة ومُحَيصَة)) تخفيف الياء. وقد رويا بكسر الياء وتشديدها. وعلى الوجهين فهما مصغران، والمقتول: عبدالله بن سهل بن زيد، وأخوه عبد الرحمن بن سهل، فالأربعة بنو عم، بعضهم لبعض. وإنَّما (2) تقدم مُحَيِّصَة بالكلام (3) لكونه كان بخيبر حين قُتل عبدالله، غير أنه كان أصغر سنًّا من حُوَيِّصَة؛ ولذلك قال له (4) النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((كَبِّر، كَبِّر))؛ أي: قدِّم للكلام (5) قبلك من هو أكبر سنًّا منك. فتقدم حويصةُ، وكأنه كان أكبر منه ومن عبدالرحمن أخي المقتول. =(5/8)=@
ففيه من الفقه: أن المشتركين في طلب حقّ ينبغي لهم أن يقدِّموا للكلام واحدًا منهم، وأحقهم بذلك (6) أسنُّهم؛ إذا كانت له أهلية القيام بذلك. وهذا كما قال في "الإمام": فإن كانوا في السُّنَّة (7) سواءً فأقدمهم سنًّا. وقد قدَّمنا أنَّ كبر السنِّ لم يستحق التقديمَ إلا من حيث القدم في الإسلام، والسبق إليه، والعلم به، وممارسة أعماله وأحواله، والفقه فيه، ولو كان الشيخُ عَرِيًّا عن ذلك لاستحق التأخير، ولكان المتصفُ بذلك هو المستحق للتقديم (8) - وإن كان شابًا -، وقد قدِم وفدٌ على عمر بن عبدالعزيز - رضي الله عنه -، فتقدَّم شابٌّ للكلام، فقال له عمرُ (9) : كبِّر، كبِّر. فقال: يا أمير المؤمنين! لو كان الأمرُ بالسنِّ لكان هنا من هو أولى بالخلافة منك! فقال: تكلَّم. فتكلم فأبلغ، وأوجز.
وقوله - بعد سماع كلام المدَّعين -: ((إمَّا أن يَدُوا (10) صاحبكم، وإمَّا أن يُؤْذِنُوا (11) بحربٍ (12) ))؛ هذا الكلامُ من النبي - صلى الله عليه وسلم - على جهة التأنيس، والتسلية لأولياء المقتول، وعلى جهة الإخبار بالحكم على تقدير ثبوت القتل عليهم. لا أن (13) ذلك كان حكمًا من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على اليهود في حال غيبتهم، فإنَّه بَعْدُ لم يسمع منهم (14) ، ولا حضروا حتى يسألهم. ولذلك كتبَ إليهم بعد أن صدر منه (15) ذلك القول. ثم إن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - &(5/6)&$
__________
(1) في (ف): ((ويكون)).
(2) في (ح): ((وأما)).
(3) في (ك): ((للكلام)).
(4) قوله: ((له)) سقط من (ح) و(ك).
(5) في (ك): ((للكلام)). أشير لها وكتب: كذا في (أ).
(6) أشير لها وكتب: كذا في (أ).
(7) في (ح): ((الفقه)).
(8) في (ح): ((التقديم)).
(9) في (ح) و(ك): ((عمر له)).
(10) في (أ) و(ف): ((تدوا)).
(11) في (أ) و(ف): ((تؤذنوا)).
(12) في (ح) و(ك): ((بحرب من الله)).
(13) أشير لها وكتب: كذا في (أ).
(14) في (أ): ((منه)).
(15) في (أ): ((منهم)).(5/6)
بعد أن سمعَ الدعوى لم يستحضر المدَّعى عليهم إليه (1) .
وفيه من الفقه: أنَّ مجرَّدَ الدَّعوى لا يُوجب (2) إحضارَ المدَّعى عليه؛ لأنَّ في إحضاره منعًا له من أشغاله، وتضييعًا لمالِه (3) من غير مُوجبٍ ثابتٍ. فلو ظهرَ هنالك =(5/9)=@ ما يقوِّي دعوى المدَّعي من لطخ، أو شبهة لتعيَّن أن يستحضر ويسمع جوابه عمَّا (4) ادعي عليه. ثم قد يختلف هذا بالقرب (5) ، والبعد، وشدة الضرر، وقلَّته.
وقوله: ((فكتبوا: إنَّا والله ما قتلناه!)) فيه من الفقه: الاكتفاء بالكتْبِ، وبإخبار (6) الآحاد مع إمكان المشافهة، وأن اليمين قبل استدعائها، وتوجهها لا اعتبار بها.
وقوله للمدَّعين: ((أتحلفون خمسين يمينًا؟))؛ دليل: على أن القسامة يبدأ فيها المدَّعون بالأيمان. وهو قول معظم القائلين: بأن القسامة (7) يُستوجب بها الدَّم. قال (8) مالك: الذي أجمعت عليه الأمة (9) في القديم والحديث: أن المدَّعين يبدؤون في القسامة، وخالف في ذلك الكوفيون، وكثير من البصريين، والمدنيين، والأوزاعي. وروي عن الزهري، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وقالوا: يُبْدَأ (10) بالمدَّعى (11) عليه (12) ؛ متمسكين في ذلك بالأصل (13) الذي دلَّ (14) عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - للمدَّعي: ((شاهداك، أو يمينه)) (15) ، وبأنه قد روي هذا الحديث من طرق ذكرها أبو داود، والنسائي. ذكر فيها: أنه - صلى الله عليه وسلم - طالب المدَّعين بالبينة. فقالوا: ما لنا بيِّنة، قال (16) : ((فتحلف لكم يهود خمسين يمينًا)) (17) . وهذا هو الأصل المقطوع به في باب الدَّعاوى؛ الذي نبَّه الشرع على حكمته بقوله: ((لو أعطي الناس بدعاويهم لاستحل رجال دماء رجال وأموالهم، ولكن البيِّنة على المدَّعي، واليمين على من أنكر)) (18) . وقد أجاب &(5/7)&$
__________
(1) في (ح): ((البينة)).
(2) في (ح): ((توجب)).
(3) أشير لها وكتب: كذا في (أ).
(4) في (ك): ((كما)).
(5) في (ح): ((في القرب)).
(6) أشير لها وكتب: كذا في (أ).
(7) قوله: ((القسامة)) سقط من (أ).
(8) في (ح): ((وقال)).
(9) في (أ) و(ف): ((اأئمة)) بدل ((الأمة)).
(10) في (أ): ((نبدأ)).
(11) في (ح): ((المدعى)).
(12) في (أ): ((عليهم)).
(13) في (ح): ((الأصل)).
(14) في (فغ): (حمل)).
(15) تقدم في باب إثم من اقطع حق امرئ بيمينه من كتاب الإيمان.
(16) في (ك): ((فقال)).
(17) الحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" (6898)، وأبو داود (4523)، والنسائي (4719)، وأبو عوانة (4/63)، والطحاوي (3/198)، والدارقطني (3/110)، والبيهقي (8/120) من طريق سعيد بن عبيد الطائي، عن بشير بن يسار به.
وسعيد بن عبيد الطائي وإن كان ثقة إلا أنه رواه مخالفًا سياق الآخرين له، ولذا تأول العلماء رواية سعيد هذه، فقال البيهقي (8/120): ((وإن صحت رواية سعيد فهي لا تخالف رواية يحيى بن سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار؛ لأنه قد يريد بالبينة الأيمان مع اللوث كما فسره يحيى بن سعيد، وقد يطالبهم بالبينة، كما في هذه الرواية، ثم يعرض عليهم الأيمان مع وجود اللوث، كما في رواية يحيى بن سعيد...)).
ومن العلماء من ردّ رواية سعيد بن عبيد جملة، كما قال مسلم في "التمييز" (1/194): وغير مشكل على من عقل التميز بين الحفاظ أن يحيى بن سعيد أحفظ من سعيد بن عبيد، وأرفع منه شأنًا في طريق العلم وأسبابه، فهو أولى بالحفظ منه.
وقد جاءت روايات أخرى تمسك بها القائلون بالبداءة بالمدعى عليهم منها ما أخرجه أبو داود في "سننه" (4526)، وأبو عوانة (4/61)، والبيهقي (8/121) عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن وسليمان بن يسار، عن رجال من الأنصار: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ليهود - وبدأ بهم -: ((يحلف منكم خمسون رجلاً))، فأبوا، فقال للأنصار: ((استحقوا)) فقالوا: نحلف على الغيب يا رسول الله! فجعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ديَّة على يهود؛ لأنه وجد بين أظهرهم.
ومنها أيضًا ما أخرجه أبو داود (4525)، والبيهقي (8/121) من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن عبدالرحمن بن بجيد قال: إن سهلاً - والله! أوهم الحديث...، وفيه: فكتبوا - أي اليهود - يحلفون بالله خمسين يمينًا ما قتلناه....
وهذه الأحاديث أقلُّ رتبة من الأحادبث الصحيحة المشهورة في تقديم أيمان الأنصار على اليهود، ولذا قال الشافعي: فإن قال لي قائل: ما منعك أن تأخذ بحديث ابن بجيد؟ قلت: لا أعلم ابن بجيد سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإن لم يكن سمع منه فهو مرسل ولسنا وإياك نثبت المرسل...
وأما حديث محمد بن إسحاق السابق فهو من روايته ولم يصرِّح بالتحديث، وقد اتهم بالتدليس، ولذا قال المنذري في "التهذيب" (4360): ((في إسناده محمد بن إسحاق)). وقال الخطابي في "معالم السنن" (4/662): ((في هذا حجة لمن رأى أن اليمين على المدعى عليهم إلا أن أسانيد الأحاديث المتقدمة أحسن اتصالاً وأوضح متونًا، وقد روى ثلاثة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ أنه بدأ في اليمين بالمدعين: سهل بن أبي حثمة، ورافع بن خديج، وسويد بن النعمان.
قلت: جاء في رواية سهل بن أبي خثمة من طريق سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد: فبدأ بقوله: تبرأكم يهود بخمسين يمينًا. وهذا وهم من ابن عيينة كما نبه عليه أبو داود في "سننه": (4/658) .
(18) سيأتي في باب اليمين على المدَّعى عليه والقضاء باليمين والشاهد، من كتاب الأقضية.(5/7)
الجمهور عن ذلك: بأن الصحيح المشهور المعروف (1) من حديث حُويصة (2) تبدئة المدَّعين بالأيمان (3) . وهي رواية الأئمة الحفَّاظ =(5/10)=@ بالطرق المسندة المستفيضة، وما ذكروه مما رواه أبو داود والنسائي: مراسيل، وغير معروفة عند المحدِّثين، وليست مِمَّا تعارض بها الطُّرُق الصِّحاح؛ فيجب ردَّها بذلك. وأجابوا عن التمسك بالأصل: بأن هذا الحكم أصل بنفسه لحرمة الدِّماء، ولتعذر إقامة البيِّنة على القتل غالبًا. فإن القاصد للقتل إنَّما يطلب الخلوة، والغيْلة، بخلاف سائر الحقوق، وبشهادات (4) الروايات الصحيحة لهذا الأصل الخاص بهذا الحكم الخاص، وبقي ما عداه على ذلك الأصل الآخر. ثم ليس ذلك خروجًا عن ذلك الأصل بالكلية. وذلك أن المدَّعي إنَّما كان القول قوله لقوَّة جنبته بشهادة الأصل له بالبراءة مما (5) ادُّعي به (6) عليه، وذلك المعنى موجود هنا، فإنَّه (7) إنما كان القول (8) قول المدَّعين لقوة جنبتهم (9) باللوث الذي يشهد لهم بصدقهم. فقد أعملنا ذلك الأصل، ولم نطرحه بالكليَّه.
وقوله: ((أتحلفون خمسين يمينًا؟))، وفي الرواية (10) الأخرى: ((أيُقسم خمسون منكم؟)) دليل: على استحقاق هذا العدد من الأيمان، فلا يجزىء فيها أقل من ذلك. فإن كان المستحقون خمسين؛ حلف كل (11) واحد منهم يمينًا واحدة. فإن (12) كانوا أقل من ذلك، أو نكل منهم (13) من لا يجوز عفوه رُدَّت الأيمان عليهم بحسب عددهم. ولا يحلف في العمد أقل من اثنين من الرجال، لا يحلف فيه الواحد من الرِّجال ولا النساء، يحلف الأولياء ومن يستعين بهم (14) الأولياء من العصبة خمسين يمينًا. هذا مذهب مالك، والليث، وربيعة، والثوري، والأوزاعي، وأحمد وداود، وأهل الظاهر. واختلف عن مالك فيما إذا زاد الأولياء على الخمسين. هل يحلف كلهم يمينًا، يمينًا، أو يقتصر منهم على خمسين، وهذا هو الأولى لقوله: ((يحلف خمسون منكم))، و((من)) للتبعيض (15) . والخطاب لجميع الأولياء. فأفادَ =(5/11)=@ ذلك: أنه (16) إذا حلف منهم خمسون أجزأ.
وأمَّا القسامة في الخطأ عند القائلين بها: فيحلف فيها الواحد من الرجال، &(5/8)&$
__________
(1) قوله: ((المعروف)) سقط من (أ).
(2) في (ح) و(ك): ((حويصة ومحيصة)).
(3) في (ك): ((باليمين)).
(4) في (ح): ((وشهادات)). وكذا (ك) وكتب فوقها: ((بشها)).
(5) في (أ): ((ومما))، وفي (ح): ((وعما)).
(6) قوله: ((به)) سقط من (ح) و(ك).
(7) في (ف): ((بأنه)).
(8) في (ف): ((للقول)).
(9) في (ك): ((ضبتهم)).
(10) قوله: ((الرواية)) سقط من (ح) و(ك).
(11) أشير لها وكتب: كذا في (أ).
(12) في (ف): ((وإن)).
(13) قوله: ((منهم)) سقط من (ح).
(14) في (ك): ((به)).
(15) في (ح) و(ك): ((للتبيين))، وكتب في حاشيتهما :(( للتبعيض))، وفوقها ((خ)).
(16) في (ح) و(ك): ((أنهم)).(5/8)
والنساء، فمهما كملت خمسون يمينًا من واحد أو أكثر استحق الحالف ميراثه، ومن نكل لم يستحق شيئًا. فإن جاء من غاب حلف من الأيمان ما كان يجب عليه لو حضر بحسب ميراثه. هذا قول مالك المشهور عنه. وقد روي عنه: أنه لا يرى في الخطأ قسامة. وقال الليث: لا ينقص من ثلاثة أنفس. وقال الشافعي: لا يحلف (1) في العمد، ولا في الخطأ إلا أهل الميراث على قدر مواريثهم. ولا يحلف على مال مَنْ لا يستحقه (2) . وهو قول أبي ثور، وابن المنذر.
وقوله: ((وتستحقون دم صاحبكم))، وفي الرواية الأخرى: ((فيُدْفَع إليكم برمَّتِه))؛ نصٌّ في أن القسامة يُستحقُّ بها الدَّم. وهو مذهب معظم الحجازيين، وهو قول الزهري، وربيعة، والليث، ومالك، وأصحابه، والأوزاعي، وأبي ثور، وأحمد، وإسحاق، وداود، وأحد قولي الشافعي. وروي ذلك عن ابن الزبير، وعمر بن عبدالعزيز (3) رضي الله عنهم. قال أبو الزناد: قتلنا (4) بالقسامة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون؛ إني لأراهم ألف رجل، فما اختلف منهم في ذلك (5) اثنان (6) . وقال الكوفيُّون، وإسحاق، والشافعي - في قولهما (7) الآخر -: إنَّما تجب (8) بها الدِّية. وهو قول الحسن البصري، والحسن بن حيٍّ، والبتِّي، والنخعي، والشعبي. وروي عن أبي بكر، وعمر (9) ، وابن عبَّاس – رضي الله عنهم -، ومعاوية. والحديث المتقدِّم نصٌّ في موضع الخلاف، فلا ينبغي أن يُعْدَل (10) عنه.
وقوله: ((على رجل منهم))، وفي اللفظ الآخر: ((وتستحِقُّون دم صاحبكم))؛ دليلٌ على أن القسامة إنما تكون على واحد. وهو قول أحمد، ومشهور قول =(5/12)=@ مالك. وقال أشهب: لهم أن يقسموا على جماعة، ويختارون واحدا للقتل، ويسجن الباقون عامًا، ويضربون مائة (11) . وقال المغيرة: يقتل بها (12) الجماعة. وهو قول الشافعي في القديم. وذهب ابن سريج من أصحابه: إلى أنه يقسم على الجماعة، ويقتل منهم واحد. وقد فهم الشافعي من قوله: ((وتستحقون دم صاحبكم)): أنَّه لا يحلف إلا الورثة الذين يستحقون المال. وهو فهم عجيب ينبني &(5/9)&$
__________
(1) أشير لها وكتب: كذا في (أ).
(2) أشير لها وكتب: كذا في (أ).
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (5/443 رقم 27830) عن وكيع، عن حماد بن سلمة، عن ابن أبي مليكة: أن عمر بن عبدالعزيز وابن الزبير أقادا بالقسامة.
وذكره البيهقي (8/127) فقال: ((ويذكر عن ابن أبي مليكة...))، فذكره.
(4) في (ح): ((قلنا)).
(5) قوله: ((في ذلك)) سقط من (ك) و(ح).
(6) نقل الحافظ في "الفتح" (12/235) كلام القرطبي هذا، ثم قال: ((قلت: إنما نقل ذلك أبو الزناد، عن خارجة بن زيد بن ثابت، كما أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي من رواية عبدالرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، وإلا فأبو الزناد لا يثبت أنه رأى عشرين من الصحابة فضلاً عن ألف)).اهـ.
ورواية البيهقي في "السنن الكبرى" (8/127) من طريق إسماعيل بن أبي أويس وعيسى ابن مينا قالا: ثنا عبدالرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت: أن رجلاً من الأنصار قتل وهو سكران رجلاً ضربه بشوبق، ولم يكن على ذلك بينة قاطعة، إلا لطخ أو شبيه ذلك، وفي الناس يومئذ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن فقهاء الناس ما لا يحصى، وما اختلف اثنان منهم: أن يحلف ولاة المقتول ويقتلوا أو يستحيوا، فحلفوا خمسين يمينًا، وقتلوا... الحديث.
قال البيهقي: ((ورواه ابن وهب عن بن أبي الزناد)).اهـ.
قلت: ذكره الذهبي في "أعلام النبلاء"(4/441) من رواية ابن وهب عن أبي الزناد به نحوه.
(7) في (ح) و(ك): ((قوله)). وأشير لها وكتب: كذا في (أ). تراجع.
(8) في (ف): ((يجب)).
(9) أخرجه ابن أبي شيبة (5/444 رقم27832) عن عبد السلام بن حرب، عن عمرو، عن الحسن: أن أبا بكر وعمر والجماعة الأولى لم يكونوا يقتلون بالقسامة.
ووهذا مرسل وعبدالسلام له مناكير.
وأخرجه ابن أبي شيبة (5/444 رقم27831)، والبيهقي في "الكبرى"(8/129) من طريق عبدالرحمن المسعودي، عن القاسم بن عبدالرحمن قال: قال عمر بن الخطاب: إن القسامة توجب العقل، ولا تشيط الدم. قال البيهقي: ((هذا منقطع))؛ يعني: أن القاسم لم يدرك عمرًا، وفيه أيضًا المسعودي مختلط.
(10) في (ح): ((تعدل)).
(11) في (ح) و(ك) و(ف): ((مائة مائة)).
(12) في (ك): ((أبها)).(5/9)
على أن المستحق بالقتل العمد تخيير الولي بين القصاص وبين الدِّية. وسيأتي ذلك إن شاء الله. وقد بناه بعضهم على قولته الأخرى: في أن المستَحَقَّ بالقسامةِ الدِّيةَ لا القصاص. وهو (1) خلاف نص الحديث.
وقوله: ((ما حضرنا، ولا شهدنا))، وفي اللفظ الآخر: ((أمرٌ لم نحضرْه (2) ، فكيف نشهد (3) ؟!))؛ فيه (4) دليلٌ: على أن الأيمان في القسامة على القطع. وهو الأصل في الأيمان، إلا أن يتعذر ذلك فيها، كما سيأتي تفصيل ذلك. وسبب ذلك: أن الحالف جازم في دعواه، فلا يحلف إلا على ما تحققه، كالشاهد، غير أنَّه لا يشرط (5) في تحقيق ذلك الحضور والمشاهدة؛ إذ قد يحصل له التحقيق (6) من الأخبار، والنَّظر في قرائن الأحوال.
وقوله: ((فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم))؛ دليل: على أن من توجهت عليه يمين فنكل عنها: أنَّه لا يُقضى عليه بمجرد النُّكول حتى تردَّ اليمينُ على الآخر، ويحلف (7) . وهو قول مالك، والشافعي. وروي عن عمر (8) ، وعثمان (9) ، وعلي (10) (11) ، وجماعة من السلف. وقال أبو حنيفة، والكوفيون، وأحمد بن حنبل: يُقضى عليه (12) =(5/13)=@ دون رد اليمين. وقال ابن أبي ليلى: يُؤخذ باليمين. ومعنى تبرئكم يهود: أي: يبرؤون إليكم مما طالبتموهم به، فتبرؤون أنتم منهم؛ إذ ينقطع طلبكم (13) عنهم شرعًا.
وفيه دليل على أن الأيمان المردودة لا تكون أقل من خمسين يمينًا من خمسين رجلاً إذا كان المدَّعى عليهم خمسين. فإن كانوا أقل من ذلك؛ حلفوا خمسين يمينًا، ورُدَّت (14) عليهم بحسب عددهم. وهل لهم أن يستعينوا بمن يحلف معهم من أوليائهم أم لا (15) ؟ قولان. فمشهور (16) مذهب مالك: لهم الاستعانة. وعليه فلا يحلف فيها (17) أقل من (18) اثنين. ولا يحلفُ المدَّعى عليه معهم إلا أن لا يجد (19) من يحلفُ معه (20) ، فيحلفُ هو خمسين يمينًا. وروى مطرف عن مالك: أنَّه لا يحلفُ مع المدَّعى عليه (21) أحدٌ، ويحلفُ هم أنفسهم كانوا واحدًا أو أكثر خمسين يمينًا يبرئون بها أنفسهم. وهو قول الشَافعي. وهو الصحيح؛ لأن من لم يُدَّع عليه لم يكن له سبب يتوجَّه عليه به يمين، ثم &(5/10)&$
__________
(1) من قوله: ((على قولته....)) إلى هنا سقط من (أ).
(2) في (ح): ((من لم نحضره)).
(3) في (ك): ((فكيف نحلف عليه)).
(4) قوله: ((فيه)) سقط من (ك).
(5) في (ك): ((لا يشترط)).
(6) في (ف): ((التحقق)).
(7) قوله: ((ويحلف)) سقط من (أ) و(ف).
(8) أخرجه مالك في "الموطأ" (2/851)، وعنه الشافعي في "الأم" (7/37 و234)، وفي "المسند" (1/154)، ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" (8/125)، و(10/183) عن ابن شهاب، عن سليمان بن يسار، وعراك بن مالك: أن رجلاً من بني سعد بن ليث أجرى فرسًا فوطيء على إصبع رجل من جهينة فنزى منها فمات، فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للذين ادعى عليهم أتحلفون خمسين يمينًا ما مات منها، فأبوا وتحرجوا، وقال للآخرين: أتحلفون أنتم، فأبوا، فقضى عمر بن الخطاب بشطر الدِّية على السعديين.
(9) ......
(10) في (أ) و(ف): ((وعلي وعثمان)).
(11) أخرج البيهقي (10/184)، وابن حزم في"المحلى" (9/377) من طريق إسماعيل بن أبي أويس، عن حسين بن عبدالله بن ضميرة بن أبي ضميرة، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: اليمين مع الشاهد، فإن لم يكن له بينة فاليمين على المدعى عليه، إذا كان قد خالطه، فإن نكل حلف المدَّعي.
وحسين بن عبدالله بن أبي ضمرة: متروك الحديث.
(12) قوله: ((عليه)) سقط من (ك).
(13) في (ك): ((أي تنقطع طلبتكم)).
(14) في (أ): ((ورددت)).
(15) في (ح): ((أو لا)).
(16) في (ك): ((مشهور)).
(17) قوله: ((فيها)) سقط من (ح).
(18) قوله: ((من)) سقط من (ك).
(19) في (ف): ((يجدوا)).
(20) في (ف): ((معهم)).
(21) في (ح) و(ك): ((عليهم)).(5/10)
مقصود هذه الأيمان: البراءة من الدَّعوى. ومن لم يُدَّع عليه بريء، ولأن أيمانهم على أن وليَّهم لم يُقتل شهادةٌ على نفي، وهي باطل. وأيضًا فقد قال الله (1) تعالى: {وَلا تَزِرُوَا وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (2) .
وقوله: ((فيُدفع بِرُمَّتِه))؛ هو بضم الراء، وهو (3) : الحبل البالي. وأصله: أنَّ رجلاً سلَّم رجلاً لآخر بحبلٍ في عنقه ليقتلَه، فقيل: ذلك لكل من سلم شيئًا بكلِّيته، ولم يبق له به تعلُّق. والرِّمَّةُ - بكسر الراء -: العظم البالي. يقال: رمَّ العظم، وأرم: إذا بلي. والرميم: الشيء البالي، المتفتت كالورق، المتهشم. ومنه قوله تعالى: {مَا تَذَرُ مِن شَيءٍ أَتَت عَلْيه إلا جَعَلَتهُ كالرَّمِيم} (4) ، وقول المدَّعين (5) : ((كيف نقبل (6) أيمانَ قومٍ كُفَّار))؛ هذا استبعاد لصدقهم وتقريبٌ (7) =(5/14)=@ لإقدامهم على الكذب، وجرأتهم على الأيمان الفاجرة. وعلى هذا يدل قولهم: ((ليسوا بمسلمين (8) ))؛ أي: ما هم عليه من الكفر والعداوة للمسلمين يجرؤهم (9) على الأيمان الكاذبة، لكنهم مع هذا كله لو رضوا بأيمانهم لحلفوا (10) ، ولا خلاف أعلمه في أن الكافر إذا توجَّهت عليه يمين (11) : أنه يحلفها أو يُعَدُّ ناكلاً.
وبماذا يحلف؛ فالمشهور عن مالك: أنَّه إنما يحلف بالله؛ الذي لا إله إلا هو (12) . سواء كان يهوديًّا، أو نصرانيًّا، أو غيرهما (13) من الأديان، كما يحلف المسلم. وفيه نظر. وروى الواقدي عن مالك: أن اليهودي يحلف بالله الذي أنزل التوراة على موسى. والنصراني: بالله الذي أنزل الانجيل على عيسى. وهذا القول أمشى على الأصل (14) من الأول (15) . وذلك: أنَّا إذا أجبرنا النصراني على أن يحلف بالتوحيد (16) مع قطعنا: بأنَّه خلاف (17) معتقده، ودينه؛ فقد أجبرناه (18) على الخروج عن دينه، مع أنا قد عاهدناه على إبقائه على اعتقاده، ودينه. وأيضًا: فلا مانع له من أن يُقدم (19) على الحلف بذلك؛ إذ هو في اعتقاده ليس (20) بصحيح. فالأولى القول الثاني. ويحلف في المواضع التي يعتقد تعظيمها.
وقوله (21) : ((فودَاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده))؛ إنَّما فعل ذلك على مقتضى كرم خلقه، وحسن إيالته (22) ، وجلبًا للمصلحة، ودفعًا للمفسدة، وإطفاءً للثائرة (23) ، =(5/15)=@ وتأليفًا &(5/11)&$
__________
(1) في (أ): ((قال تعالى)).
(2) سورة الإسراء؛ الآية: 15.
(3) في (ك): ((أي)).
(4) سورة الذاريات؛ الآية: 42.
(5) في (ف): ((المدَّعي)) .
(6) في (أ): ((تقبل)).
(7) في (ك): ((ويقريب)).
(8) في (ح): ((مسلمين)).
(9) في (ف) و(ح): ((يجريهم)).
(10) في (ح) و(ك) و(ف): ((لحلفوا لهم)).
(11) قوله: ((عليه يمين)) سقط من (ك).
(12) في (ح): ((لله)).
(13) في (ح): يشبه ((غيرها)).
(14) في (ح) و(ك): ((الأصول)).
(15) قوله: ((من الأول)) سقط من (ح).
(16) وألحق في حاشية (ك): ((على التوحيد)) وفوقها ((في)).
(17) في (ك): ((خالف)).
(18) في (أ) و(ف): ((جبرناه)).
(19) في (ف): ((تقدم)).
(20) في (ح): ((وليس)).
(21) في (ك): ((قوله)) بلا واو.
(22) في (ك): ((إثابته))، وفي الهامش: ((إنالته)). وفوقها ((خ)).
ومعنى إيالته: حسن سياسته، الإيالة: السياسة. "لسان العرب" (11/34).
(23) أشير لها وكتب: تراجع.(5/11)
للأغراض (1) المتنافرة عند تعذر الوصول إلى استيفاء الحق لتعذر طرقه. وهذا اللفظ (2) الذي هو: ((من عنده))؛ ظاهر في أن الإبل التي دفع كانت من ماله. وهذا أصحُّ من رواية من روى: أنها كانت من إبل الصَّدقة؛ إذ قد قيل: إنَّها غلط من بعض الرُّواة؛ إذ ليس هذا (3) من مصارف الزكاة.
قلت: والأولى ألا يغلَّظ (4) الراوي العدل الجازم بالرواية ما أمكن. ويحتمل ذلك أوجهًا من التأويلات:
أحدها: أنَّه تسلَّف ذلك من مال الصَّدقة؛ حتَّى يؤديها من الفيء.
وثانيها: أن يكون أولياء القتيل مستحقين للصدقة، فاعطاها إياهم في صورة الدِّية، تسكينًا لنفرتهم وجبرًا لهم؛ مع أنَّهم مستحقون (5) لها.
وثالثها: أنَّه أعطاهم تلك من سهم المؤلفة قلوبهم استئلافًا لهم، واستجلابًا لليهود.
ورابعها: قول من قال: ((من الصدقة (6) ))؛ أنَّه يجوز صرف الصدقة (7) في مثل هذا؛ لأنَّه من المصالح العامَّة. وهذا أبعد الوجوه؛ لقوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} (8) ، تفسير غريب (9) : الفريضة: واحدة الفرائض، وهي: النوق المأخوذة في الزكاة والدِّية. وقد فسَّرها في الرِّواية التي قال فيها: ((فلقد ركضتني منها ناقة حمراء)). وأصل الفرض: التقدير، كما تقدم. ولا معنى لقول من قال: إنَّها هنا (10) المسنة =(5/16)=@ من الإبل. والشَّرَبة - بفتح الشِّين والرَّاء - هي: حوض في أصل النَّخلة تشرب منه النخلة. وجمعه: شَرَب - بفتح الرَّاء -؛ وهي التي عبَّر عنها في الرواية الأخرى بـ ((الفقير)). وقيل: الفقير: هو (11) الحفر العميق الذي (12) يحفر للفسيلة (13) . والجهد -بفتح الجيم -: الشدَّة والمشقَّة. والجهد -( بضمها -: غاية الوسع والطَّاقة. والعقل: الدِّية. وسمِّيت بذلك: لأن الإبل كانت تعقل بفناء المستحقين للدِّية. وقد تقدم القول في ((الرِّمَّة)).
وفيه من الفقه: أن أهل الذِّمَّة يحكم عليهم بحكم الإسلام، لا سيما إذا &(5/12)&$
__________
(1) في (ح) و(ك): ((للأعراض)).
(2) قوله: ((اللفظ)) سقط من (ح).
(3) في (ف): ((هو)).
(4) في (ف) و(ح): ((يغلط)).
(5) في (أ): ((مستحقين)).
(6) قوله: ((من الصدقة)) سقط من (ح) و(ك).
(7) في (أ) و(ف): ((الزكاة)).
(8) سورة التوبة؛ الآية: 60. وفي (أ) و(ك) و(ف) و(ح): ((والمساكين)) الآية.
(9) في (ك): ((غريبه)).
(10) في (ف): ((ها هنا)).
(11) قوله: ((هو)) سقط من (ك).
(12) قوله: ((الذي)) سقط من (أ).
(13) في (أ): ((للنسيلة)).(5/12)
كان الحكم بين ذمِّي ومسلم، فإنَّه لا يختلف في ذلك. وكذلك لو كان المقتول من أهل الذمة فادُّعي به على مسلم؛ فإن ولاة الدَّم يحلفون خمسين يمينًا، ويستحقون دية (1) ذمِّي. هذا قول مالك. وقال بعض أصحابه (2) : يحلف المسلم المدَّعى عليه خمسين يمينًا، ويبرأ، ولا تحمل (3) العاقلة ديته. فلو قام للذميِّ شاهدٌ واحدٌ بالقتل؛ فقال مالك: يحلف ولاته يمينًا واحدة ويستحقون (4) الدِّية من ماله في العمد، ومن عاقلته في الخطأ. وقال غيره: يحلف المدَّعى عليه خمسين يمينًا ويجلد مائة، ويحبس عامًا.
وفيه ما يدلُّ على جواز سماع حجَّة أحد الخصمين في غيبة الآخر. وأن أهل الذمِّة إن امتنعوا من فعل ما وجب عليهم انتقض عهدهم.
والحديث كلُّه (5) حجَّة واضحة للجمهور من السَّلف والخلف على من أنكر العمل بالقسامة؛ وهم: سالم بن عبدالله، وأبو قلابة، ومسلم بن خالد، وقتادة، =(5/17)=@ وابن عُلَيَّة، وبعض المكيين. فنفَوْا (6) الحكم بها شرعًا في العمد والخطأ. وقد روي ذلك عن عمر بن عبدالعزيز، والحكم بن عتَيْبة (7) . وقد روي (8) عنهما العمل بها. وقد روي نفي العمل بها (9) عن سليمان بن يسار. والصحيح عنه روايته المذكورة عنه هنا. حيث قال عن رجال من الأنصار: أن رسول(الله - صلى الله عليه وسلم - أقرَّ القسامة على ما كانت عليه (10) في الجاهلية. وظاهر هذا: أنَّه يقول بها. وهذا الحديث أيضًا حجة للجمهور على من أنكر العمل بها. فإن ظاهره: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - وجدَ الناس على عمل، فلمَّا أسلموا، واستقل بتبليغ الأحكام أقرَّها (11) على ما كانت عليه، فصار ذلك حكما شرعيًّا يُعمل عليه، ويحكم به، لكن يجب أن يبحث عن كيفية عملهم الذي كانوا يعملونه فيها، وشروطهم التي (12) اشترطوها، فيعمل بها من جهة إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها (13) ، لا من جهة الاقتداء بالجاهلية فيها. &(5/13)&$
__________
(1) في (ح): ((به دية)).
(2) في (ح): ((أصحابنا)).
(3) في (ح): ((يحمل)).
(4) في (ح): ((ويستحق ويستحقون)).
(5) في (ح): ((كلهم)).
(6) في (أ): ((فنفود))، وفي (ف): ((فنفد)).
(7) في (ح) و(ف): ((عيينة))، وفي (ك): ((عتبة)).
(8) في (ك): ((وروي)).
(9) قوله: ((وقد روي نفي العمل بها)) سقط من (أ).
(10) قوله: ((عليه)) سقط من (أ) و(ك).
(11) في (ح): ((أقره))، وفي (ف): ((أقرهما)).
(12) في (أ): ((الذي)).
(13) قوله: ((عليها)) سقط من (ح) و(ك).(5/13)
ومن
باب القصاص في العين وحكم المرتد
قوله: ((إن ناسًا من عُرَيْنَة قدموا المدينة فاجتَوَوْها))؛ أي: لم توافقهم في صحتهم. يقال: اجتوى البلد، واستوبله، واستوخمه: إذا سقم فيه عند دخوله. و((استاقوا الذود))؛ أي: حملوا الإبل معهم، وهو من السَّوق، وهو: السير (1) السَّريع العنيف. وفي الرِّواية الأخرى: مكان: ((الذود)): ((لقاح (2) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ))، وهي: جمع: لِقْحَة. وهي: الناقة ذات اللبن. و((سَمَلَ أعينهم))؛ أي: غرز فيها الشوك حتَّى فقأها. قال أبو ذُؤَيْب (3) :
والعَيْنُ بَعْدَهُمُ كأنَّ حِدَاقِهَا (4) ... سُمِلَتْ بشوْكٍ فهي عُورٌ تدْمَعُ =(5/18)=@
و((سَمَرَ))؛ أي: فقأها بمسامير محميَّةٍ؛ قاله أبو عبيد. وقال غيره: ((سَمَلَ)) و((سَمَّرَ)) بمعنى واحد. أبدلت الرَّاء من اللام. وفيه بُعْدٌ.
و((يستسقون (5) )): يسألون أن يُسقوا (6) . وفي الأصل: ((وقد وقع بالمدينة ألْمُوم، وهو البرسام)) (7) . والبرسام (8) : لفظة يونانية تستعملها الأطبَّاء في(كتبهم، يعنون به: وجعَ الرأسِ أو الصَّدر. &(5/14)&$
__________
(1) قوله: ((وهو السير)) سقط من (ك).
(2) كتب ناسخ (ف) في الهامش: ((لَقاح)) بفتح اللام والمشهور كسرها، وكتب ((صح)).
(3) .....
(4) في (أ): ((حذاقها)).
(5) في (ح): ((يستسقون)) بلا واو.
(6) في (ح): ((يسقون)).
(7) مسلم (3/1298 رقم1671/13) في القسامة، باب حكم المحاربين والمرتدين.
(8) في (أ) و(ف) و(ك) و(ح): ((البرسام)) بلا واو.(5/14)
وفي الحديث أبواب من الفقه؛ منها: جواز التطبب (1) ، وأن يطب كل جسم بما اعتاد. فإن هؤلاء القوم أعراب البادية، عادتهم شرب أبوال الإبل وألبانها، وملازمتهم الصحارى. فلمَّا دخلوا القرى، وفارقوا أغذيتهم، وعادتهم؛ مرضوا. فأرشدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك، فلمَّا رجعوا إلى عادتهم من ذلك، صحُّوا، وسمنوا.
وفيه دليل لمالك على طهارة بول ما يؤكل لحمه. وقد تقدَّم (2) .
وفي (3) جواز (4) قتل المرتدين (5) من غير استتابةٍ.
وفيه: القصاص من العين بمثل ما فقئت به (6) ، كما قال أنس: إنما سَمَل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعينهم؛ لأنهم سَمَلوا أعين الرِّعاء، وإنَّما قطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيديهم وأرجلهم (7) لأنهم فعلوا كذلك بالرَّاعي؛ كما حكاه (8) أهل التاريخ (9) والسِّير. قالوا: كان هذا الفعل من هؤلاء المرتدِّين سنة ست من الهجرة. واسم الرَّاعي: يسار، وكان نوبيًّا (10) . فقطعوا يديه، ورجليه، وغرزوا الشوك في عينيه (11) حتَّى مات، وأدخل المدينة ميتًا. ففعل بهم رسول الله مثل مافعلوا به.
قلت: وعلى هذا: فلا يكون فيه إشكال (12) . ويكون فيه دليل على القصاص من الجماعة بالواحد في النفس والأطراف. وهو قول مالك، وجماعة. وخالف في =(5/19)=@ ذلك أبو حنيفة فقال: لا تقتل (13) الجماعة بالواحد. والحديث حجَّة عليه.
وقول عمر - رضي الله عنه -: ((لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم (14) به)) (15) . غير أن ذلك الحديث يُشْكِل بما زاده (16) أبو داود فيه من حديث أنس أيضًا قال: فبعث (17) رسول الله ? (18) في طلبهم قافة، فأُتي بهم، فأنزل الله تعالى في ذلك: {إنَّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا (19) } (20) ، الآية (21) .
وعلى هذا فإنما قطعهم وقتلهم لأنهم محاربون، فلا يكون فيه حجَّة على شيء مما ذكر قبل (22) هذا من الأوجه المستنبطة؛ لأنَّهم إذا (23) كانوا محاربين فهو مخيَّر فيهم (24) . ثم يشكل هذا بما زاده أبو داود فيه من حديث أنس (25) ، فإنَّه قال فيه بعد ذلك: ثم نهى عن المثلة. &(5/15)&$
__________
(1) في (ف): يشبه ((التطيب)). وأشير لها وكتب: كذا في (أ) و(ح).
(2) أصل الحديث في "صحيح مسلم" (3/1298) كتاب القسامة (14). وممن ذكر قصة العُرَنِيِّين من أهل التاريخ والسّير: ابن سعد في "الطبقات" (20/93)، وابن حبان في "الثقات" (1/287)، وابن الجوزي في "المنتظم" (3/263-264).
(3) في (ح): ((وفيه)) بدل ((وفي)).
(4) قوله: ((جواز)) سقط من (أ) و(ح) و(ف).
(5) في (أ): ((المرتد)). وفي (ف): ((وفيه قتل المرتد)).
(6) قوله: ((به)) سقط من (ك).
(7) في (ك): ((وأرحلهم)).
(8) في (ح) و(ك) و(ف): ((على ما حكاه)).
(9) في (أ) و(ف): ((التواريخ)).
(10) في (أ): ((نونيًّا)).
(11) في (أ) و(ف): ((عينه)).
(12) في (ك): ((إسكال)).
(13) في (ك) و(ف): ((يقتل)).
(14) في (ك): ((لقتلهم)).
(15) أخرجه مالك في "الموطأ" (2/871) عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: أنَّ عمر بن الخطاب قتل نفرًا خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه قتل غيلة. وقال عمر: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعًا.
وعن مالك أخرجه الشافعي في "الأم" (6/22)، وفي "المسند" (1/200)،والبيهقي في "الكبرى" (8/40) به.
وأخرجه ابن أبي شيبة (5/429)، ومن طريقه الدارقطني (3/202) عن يحيى بن سعيد، وابن نمير عن يحيى بن سعيد به نحوه.
وأخرجه ابن الجعد في "مسنده" (2270) عن شريك، عن عاصم بن عبيدالله، عن عبدالله بن عامر قال: كتب عامل اليمن إلى عمر: أن سبعة أو ثمانية أو ستة نفر قتلوا امرأة من حمير، فأتي بهم فوجدت أكفهم مخضبة بدمها فاعترفوا، فكتب إليه عمر: أن لو اشترك فيها أهل صنعاء لقتلتهم، فاقتلهم.(
وذكره البخاري معلَّقًا في "صحيحه" (12/228) فقال: ((وقال لي ابن بشار: حدثنا يحيى، عن عبيدالله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن غلامًا قُتل غيلة، فقال عمر: لو اشترك فيها أهل صنعاء لقتلتهم به، وقال مغيرة بن حكيم، عن أبيه: أن أربعة قتلوا صبيًا، فقال عمر مِثْلَه.
(16) في (ف): ((بما رواه)).
(17) في (ك)ك ((بعث)).
(18) أشير لها وكتب: كذا في (أ).
(19) زاد في (ح): ((أن يقتلوا)).
(20) سورة المائدة؛ الآية: 33.
(21) أخرجه أبو داود (رقم4366) كتاب الملاحم، والنسائي في "الكبرى" (2/294 رقم3488)، و(6/434 رقم11143)، وفي "المجتبى" (7/94 رقم4025)، والطبري في "تفسيره" (6/208) من طريق الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أنس به، فذكرها. ورواه الوليد بن مسلم أيضًا، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أنس به.
وخالف الوليد في روايته عن الأوزاعي كلٌّ من: علي بن عبدالله عند البخاري رقم (6417)، ومحمد بن الصلت عند البخاري أيضًا (6418)، ومسكين بن بكير عند مسلم (3/1298 رقم12)، ومحمد بن يوسف عند مسلم أيضًا رقم (12)، والنسائي (2/294 رقم4389)، وفي "المجتبى" (7/95 رقم4026)؛ فرووه عن الأوزاعي، دون ذكر سبب النزول.
وأما رواية الوليد عن سعيد بن بشير فأخرجها ابن جرير الطبري (6/208)، وأبو عوانة في "المسند" (4/80 رقم6098)، وسعيد بن بشير: ضعيف. وقد جاءت هذه الزيادة من قول قتادة قال: وبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم.
أخرجه كذلك عبدالرزاق (10/106 رقم18538)، ومن طريقه أحمد في "المسند" (12668)، وابن الجارود في "المنتقى" (846)،وأبو يعلى (3044) عن معمر، عن قتادة، عن أنس، فذكر الحديث ثم قال قتادة: فبلغنا...، فذكره.
وكذلك رواها سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، فذكر الحديث، ثم قال: قال قتادة: وذكر لنا: أن هذه الآية أنزلت فيهم. أخرجه أحمد (13443).
وكذلك جاء عند أبي داود (4369)، والنسائي (4041)، وفي "الكبرى" (3504) من طريق أبي الزناد، عن عبدالله بن عبيدالله بن عمر بن الخطاب، عن عمَّه عبدالله بن عمر، وفيه: ونزلت فيهم آيةُ المحاربة.
ورواه أبو داود (4370)، والنسائي (4042)، وفي "الكبرى" (3505) من طريق ابن وهب، عن الليث بن سعد، عن محمد بن عجلان، عن أبي الزناد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار عاتبة الله في ذلك فأنزل الله تعالى : {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله...} الآية.
فالذي يظهر - والله أعلم - أنه من اجتهاد أبي الزناد في سبب النزول.
(22) في (ح): ((قل)).
(23) قوله: ((إذا)) سقط من (ح).
(24) في (ح): ((فهم)).
(25) أخرجه أبو داود (4/535 رقم4368)، ومن طريقه البيهقي (9/69) من طريق محمد بن بشار، ثنا ابن أبي عدي، عن هشام، عن قتادة، عن أنس به.
وذكرها البخاري في "صحيحه"(4192) بعدر وايته للحديث عن عبد الأعلى بن حماد، عن يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، فذكر الحديث، ثم قال: ((قال قتادة: بلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك كان يحث على الصدقة، وينهى عن المثلة.اهـ.
وقد جاء هذاالمتن موصولاً من حديث قتادة، عن الحسن البصري، عن هياج بن عمران ابن حصين وسمرة بن جندب مرفوعًا: أخرجه عبدالرزاق (15819)، وابن أبي شيبة(9/423)، وأحمد(19844 و19846 و19847 )، وابن الجارود (1056)، وفيه قصة.
وأخرجه الدارمي (1656)، والبزار (3605)، وأبو داود (2667) من طريق هشام الدستوائي، عن قتادة، عن هياج بن عمران به. وليس فيه ذكر سمرة.(5/15)
وفيه من حديث أبي الزناد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قطع أيدي الذين سرقوا لقاحه، وسمل أعينهم بالنار عاتبه الله في ذلك، فأنزل الله تعالى (1) في ذلك: {إنَّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله...} (2) ، الآية (3) . فإن كان فعل ذلك قصاصًا منهم، أو حدًّا؛ لأنهم محاربون؛ فذلك ليس بمثلة منهيًّا عنها، ولا يعاتب عليه.
قلت: والذى يرتفع به (4) الإشكال -إن شاء الله تعالى -: أن طرق حديث أنس الواقعة في كتاب مسلم والبخاري أشهر وأصح من طرق (5) أبي داود. وتلك الطرق متوافقة: على أن ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قصاصًا منهم بما فعلوا غير تركهم حتى ماتوا عطاشًا، وتكحيلهم بمسامير محمَّاة، كما ذكره أبو داود، وكما دل عليه قوله: ((سمر (6) أعينهم)). فيمكن أن يقال: إن الله تعالى عاتبه على ذلك القدر الذي زاده فقط، دون القصاص والقتل، فإن ذلك كان حكمهم. ولم يَسْتَتِبْهُم من الرِّدة، إما لأن الاستتابة لم تكن إذ ذاك مشروعة، وإمَّا لأنهم كانوا قد وجب قتلهم إمَّا =(5/20)=@ بالقصاص، وإمَّا بالحرابة؛ فلا بدَّ من قتلهم (7) ، فلا يظهر للاستتابة فائدة، فاستغنى عنها، والله تعالى أعلم.
غير أنه يبقى على هذا إشكال آخر، وهو: أن من قطع يد رجل أو رجله، أو فقأ عينه، ثم قتله، قتل به، ولم (8) يُفعل به شيء مما فعل بالمقتول من قطع، أو جرح (9) . بل يُقتل خاصة إلا أن يكون قد (10) مَثَّل به فيُفعل به كما فعل، ثمَّ يقتل. هذا مذهب مالك. وقال أبو حنيفة، والشافعي: يجرح، أو يقطع، ثم يُقتل. فعلى قولهما لا إشكال فيه. ويزول الاشكال على قول مالك بأنهم (11) مثَّلوا بالرَّاعي فمُثِّل بهم، ثم قُتِلوا.
وقد اختلف العلماء فيماذا نزلت: {إنَّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله...} (12) ؟ فقيل: نزلت في هؤلاء العُرَنيَّين كما ذكرناه (13) في حديث أبي داود (14) . وذهب الحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح: إلى أنها نزلت في المشركين. وذهب ابن جرير: إلى أنها نزلت في اليهود. قال: ويدخل تحتها كلُّ ذِمِّي وملِّيٍّ (15) . وذهب مالك، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي: إلى أنها &(5/16)&$
__________
(1) .
(2) سورة المائدة؛ الآية: 33.
(3) تقدم قبل قليل.
(4) في (أ): ((به يرتفع)).
(5) في (ح): ((طريق)).
(6) في (ح) و(ك): ((وسمر)).
(7) من قوله: ((إما بالقصاص...)) إلى هنا سقط من (ف).
(8) في (ح): ((ولا)).
(9) في (ح): يشبه ((جراح)).
(10) قوله: ((قد)) سقط من (أ) و(ف) و(ك).
(11) في (ح): ((فإنهم)).
(12) سورة المائدة؛ الآية: 33.
(13) في (ف): ((ذكرنا)).
(14) تقدم تخريجه.
(15) في (ف): ((ومكي)).(5/16)
نزلت في المسلمين المحاربين. وهذا القول أصحها إن شاء الله تعالى؛ لوجهين:
أحدهما: أن الكفار لا تخيير فيهم بين القتل والصَّلب، وقطع الأيدي والأرجل. وإنَّما حكم الكافر الأصلي: إمَّا القتل، وإمَّا السباء، أو الجزية. وأمَّا المرتد: فالقتل. وهل يستتاب أو لا؟ هذا محل الخلاف كما تقدم.
وثانيهما: أن الكافر لو تاب فأسلم بعد القدرة عليه لصحت توبته، وحرم قتله بالإجماع. وآية المحاربة بنصِّها مخالفة لهذين الوجهين. فدلَّ اختلاف حكم الكافر لحكم المحارب: أن المحارب إنَّما هو مسلمٌ بحكم اعتقاده، محارب بفعله. فحكمه ما ذكره الله سبحانه وتعالى في آية المحاربة. ثم المحاربة عندنا هي: إخافة السبيل، وإشهار السلاح، قصدًا لأخذ الأموال بالفساد (1) في الأرض، وتكون خارج =(5/21)=@ المصر وداخله عندنا، وعند الشافعي. وقال أبو حنيفة، وعطاء: لا تكون في المصر. وقد فسَّر مجاهد المحاربة بالزنى والسرقة. وليس بصحيح؛ لأن الله تعالى قد بيَّن في كتابه، وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - : ((أن السارق تقطع يده فقط، وأن الزاني يجلد ويغرَّب إن كان بكرًا، أو يرجم (2) إن كان ثيِّبًا محصنًا)) (3) . وأحكام المحارب في هذه الآية خلاف ذلك؛ اللهم إلا (4) أن يريد مجاهد: إخافة الطُّرق (5) بإظهار السِّلاح قصدًا للغلبة على الفروج؛ فهذا أفحش المحاربة، وأقبح من أخذ الأموال. ولا ينبغي أن يختلف في ذلك. وقد دخل (6) ذلك في قوله تعالى: {ويسعون في الأرض فسادًا} (7) ، وأيُّ فسادٍ أعظم من الهجم على حرم المسلمين وأولادهم، وإشهار ذلك، وإظهار السلاح لأجله. وقد كثر ذلك في بلاد الأندلس في هذه الْمُدَد (8) القريبة، وظهر فيهم ظهورًا فاحشًا، بحيث اشترك فيه الشُّبَّان بالفعل، وأشياخهم بالإقرار عليه، وترك الإنكار. فسلط الله عليهم عدوَّهم فأهلكهم، واستولى على بلادهم. فإنا لله، وإنَّا إليه راجعون (9) .
فأمَّا حكم المحارب: فأولى الأقوال فيه ما شهد له ظاهر الآية (10) . وهو: تخيير الإمام بين القتل مع الصَّلب، والقطع، والنفي. فأيُّ ذلك رأى الإمام أنكى، أو أحق (11) ، &(5/17)&$
__________
(1) في (أ) و(ف) و(ك) و(ح): ((وسعيا بالفساد)).
(2) في (ك): ((بكرا ويرجم)).
(3) سيأتي حد السرقة في كتاب الحدود، باب حد السرقة وما يقطع فيه. وسيأتي حد الجلد والتغريب للبكر، والرجم للثيب والمحصن في كتاب الحدود، باب حد البكر والثيب المحصن إذا زنيا رقم (1780).
(4) قوله: ((إلا)) سقط من (أ).
(5) في (ح): ((الطريق)).
(6) قوله: ((دخل)) مكرر في (ف).
(7) سورة المائدة؛ الآية: 33.
(8) في (ح) و(ك): ((المدة)).
(9) من قوله: ((وترك الإنكار....)) إلى هنا سقط من (ح).
(10) في (ف): ((للآية)).
(11) في (ح): ((وأحق)).(5/17)
فعل. وهو مروي عن ابن عباس (1) . وإليه ذهب عطاء، والحسن البصري، والنخعي، ومجاهد، والضحاك، ومالك، وأبو ثور. واختلف عن مالك في =(5/22)=@ الصَّلب. هل يكون قبل القتل، أو بعده؟ وروي أيضًا عن ابن عباس (2) : ((أنه إن أخاف السبيل وأخذ المال؛ قُطعت يده ورجله من خلاف. وإن أخذ المال (3) وقَتَل؛ قُطعت يده ورجله، ثم قُتل. وإن قتل، ولم يأخذ مالاً؛ قُتل. وإن لم يأخذ مالاً (4) ولم يقتل: نُفي (5) )). وبه قال قتادة وأبو مجلز. وقال الأوزاعي: إن أخاف السبيل، وشهر السلاح؛ قتل، ولم يصلب. وإن أخذ، وقتل؛ قتل مصلوبًا. وإن أخاف السبيل ولم يقتل؛ قطع: أخذ المال، أو لم يأخذ. وقال الشافعي: إن قتل، وأخذ (6) ؛ قتل، وصلب. وإن قتل ولم يأخذ (7) ؛ قُتل ولم يصلب، ودُفع إلى أوليائه، وإن أخذ ولم يقتل؛ قطعت يده اليمنى، ثم حسمت بالنار، ثم رجله اليسرى، ثم حسمت. وقال أحمد: من قَتَل قُتِل، ومن أخذ المال قُطِع. والأولى: القولُ بالتخيير. والله العليم الخبير (8) . =(5/23)=@
ومن باب القصاص في النفس
قوله: ((إن (9) جارية وجد رأسها قد رضَّ بين حجرين فجيء بها النبي (10) - صلى الله عليه وسلم - وبها رمق))؛ الرَّضُّ: الكسر غير الْمُبَان. و((الرَّمَق)): بقية الحياة؛ يعني: أنها قد أشرفت على الموت. ولذلك لما سُئلت عمَّن أصابها أومأت برأسها لما ذُكِر لها القاتل، ولم تقدر على الكلام بلسانها. ومن قال من الرواة: إنَّها قالت: نعم. فإنما عبَّر عمَّا فهم عنها من الإشارة بالقول، فإنَّها تنزلت منزلة القول. &(5/18)&$
__________
(1) أخرجه ابن جريرالطبري في "تفسيره" (10/243)، والطبراني في "الكبير" (12/ 256 رقم13032) من طريق عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس، فذكر الحديث، وفيه: فخير الله رسولَه: إن شاء أن يقتل، وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
وهذا إسناد ضعيف، علي بن أبي طلحة لم يدرك ابن عباس، ومعاوية بن صالح له أوهام، وعبدالله بن صالح كاتب الليث له أغلاط.
والحديث ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/15) وأعلَّه يعلى بن أبي طلحة. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/68)، وعزاه لابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في "الناسخ".
وللحديث شاهد من حديث عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال: زان محصن يرجم، أو رجل قتل رجلاً متعمدًا فيقتل، أو رجل يخرج من الإسلام يحارب الله عز وجل ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض.
أخرجه أبو داود (4353)، والنسائي (4048 و4743)، وفي "الكبرى" (2/299 رقم 3511)، و(4/219 رقم6845)، والدارقطني (3/81)، وفي "العلل" (5/255)، والخطيب في "الموضح" (2/260)، وابن حزم في "المحلى" (11/303).
كلهم من طريق إبراهيم بن طهمان، عن عبدالعزيز بن رفيع، عن عبيدالله بن عمير، عن عائشة به. قال الزيلعي في "نصب الراية" (335): ((قال في "التنقيح": هو على شرط الصحيح. وقال ابن حزم: إبراهيم بن طهمان ليس بالقوي، قلت: هو ثقة ولكنه يُغْرِب، فحديثه لا يقل عن الحسن، لا سيما وللحديث شواهد في كلِّ جملة منه.
(2) أخرجه الشافعي في "الأم" (6/152) عن إبراهيم، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس به، ومن طريقه الشافعي أخرجه البيهقي في "الكبرى" (8/283).
وأخرجه عبدالرزاق (18544) عن إبراهيم، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس.
وأخرجه ابن ابي شيبة (6/4 و445)، وابن جرير (6/213) من طريق حجاج عن عطية العوفي، عن ابن عباس.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/68)، وعزاه للشافعي في "الأم"، وعبدالرزاق، والفريتبي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي، عن ابن عباس به.
(3) من قوله: ((قطعت يده....)) إلى هنا سقط من (ك).
(4) قوله: ((مالاً)) سقط من (أ) و(ح).
(5) في (ف): ((ينفي)).
(6) في (ح): ((وأخذ المال)).
(7) في (ح): ((ولم يأخذ مالاً)).
(8) في (ح): ((والله تعالى أعلم وهو العليم الخبير)).
(9) في (ك): ((وإن)).
(10) في (ح): ((إلى النبي)).(5/18)
ففيه من الفقه: قتل الرَّجل بالمرأة. وهو قول الجمهور خلافًا لمن شذَّ فقال: لا يقتل بها. وهو عطاء، والحسن. وقد روي عن علي - رضي الله عنه -.
وأمَّا القصاص بينهما في الأطراف: فهو أيضًا مذهب الجمهور. وقد ذهب إلى نفيه فيها من نفاه في النفس، وأبو حنيفة، وحمَّاد، وإن قالا به في النفس. والصحيح قول الجمهور في المسألتين؛ لقوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} (1) . إلى آخر الآية (2) .
وفيه: جواز ذكر من اتُّهم، وعرضهم على المقتول واحدًا، واحدًا بعينه واسمه، وإن لم تقم دلالة على لطخه أكثر من أنَّه يحتمل ذلك احتمالاً قريبًا. ولا يكون ذلك عرضًا يستباح.
وفيه: ما يدلُّ على اعتبار التَّدمية على الجملة. وقد تقدَّم الكلام فيها (3) ، لكن =(5/24)=@ الصحيح في هذا الحديث: أن اليهودي (4) إنَّما قتل بالمرأة باقراره (5) ، لا بمجرد التَّدمية. والرواية التي يظهر منها: أنَّه قتل بمجرد التَّدمية مردودة إلى الرواية التي ذكر فيها: أنه قتل بإقراره لوجهين:
أحدهما (6) : أن القصِّة (7) واحدة وإن اختلفت الرِّوايات، فيحمل مطلقها على مقيَّدِها.
والثاني: أن ظاهر تلك الرِّواية المطلقة مجمع على تركه؛ إذ لم يقل أحد من المسلمين: أن التَّدمية بمجردها يقتل بها، وإنَّما هي عند من قال بها لوثٌ يقسم معها. ولم يسمع قطّ في شيء من (8) طرق هذا الحديث، ولا رواياته أن أولياء هذه الجارية أقسموا على اليهودي.
وفيه: قتل الكبير بالصَّغير؛ لأن الجارية اسم لمن لم يبلغ من النساء، كالغلام من (9) الرجال. وهذا لا يختلف فيه.
وفيه: أن من قَتَل بشيء قُتل به. وقد اختلف فيه، فذهب الجمهور: إلى أنَّه من (10) يُقتل بمثل ما قَتَل من حجر، أو عصا، أو تغريق، أو خنق، أو غير ذلك ما لم يقتله بفسق كاللوطية، وإسقاء الخمر؛ فيقتل بالسيف. وحجَّتهم هذا الحديث، وقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم (11) } (12) ، وقوله &(5/19)&$
__________
(1) سورة المائدة؛ الآية: 45.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (5/410) عن جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال: رفع إلى علي رجل قتل امرأة، فقال علي لأوليائها: إن شئتم أدو نصف الديَّة واقتلوه. وأخرج ابن جرير (2/105) عن بندار، عن هشام بن عبدالملك، عن الحسن، عن علي به نحوه.
(3) في باب...
(4) في (أ): ((الهودي)).
(5) في (ك): ((لا قراره)).
(6) في (ح): ((أحدها)).
(7) في (ك): ((القضية)).
(8) قوله: ((شيء)) سقط من (ك).
(9) في (ح) و(ك): ((في)).
(10) قوله: ((من)) ليس في (ك) و(ف).
(11) قوله: ((عليكم)) سقط من (ك).
(12) سورة البقرة؛ الآية: 194.(5/19)
تعالى: {والجروح قصاص} (1) . والقصاص أصله: المساواة في الفعل. ومن هؤلاء من خالف في التحريق بالنار، وفي قتله بالعصا. فجمهورهم: على أنَّه يقتل بذلك. وقال ابن الماجشون وغيره: لا يحرَّق بالنار لقول النبي (2) - صلى الله عليه وسلم - : ((لا يعذب بالنَّار إلا الله)) (3) . وقال مالك في إحدى الروايتين عنه (4) : =(5/25)=@ إنَّه إن كان في قتله بالعصا تطويل، وتعذيب قتل بالسَّيف. وفي الأخرى: يقتل بها وإن كان فيه ذلك، وهو قول الشافعي. وقال الشافعي فيمن حبس رجلاً أيَّامًا في بيت حتَّى مات جوعًا، أو عطشًا (5) ، أو قطع يديه ورجليه، ورمى به من جبل أنَّه يُفعل به مثل ذلك، فإن مات، وإلا قتل. وذهبت طائفة إلى خلاف ذلك كلِّه فقالوا: لا قود إلا بالسيف، وهو مذهب (6) أبي حنيفة، والشعبي، والنخعي. واحتجوا على ذلك بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا قود إلا بحديدة)) (7) ، وبالنهي (8) عن المثلة. والصحيح مذهب الجمهور لما تقدم، ولأن الحديث الذي هو: ((لا قود إلا بحديدة)) ضعيف عند المحدثين، لا يروى من طريق صحيح (9) ، ولأن النهي عن المثلة نقول بموجبه إذا لم يمثل بالمقتول، فإذا مَثَّل به مثَّلنا به (10) ؛ لقوله تعالى: {فاعتدوا (11) عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (12) ، ولحديث العُرَنِيِّين على ما تقدم.
وقد شذَّ بعضهم (13) فقال فيمن قتل بخنق، أو بسم، أو تردية من جبل أو في (14) بئر، أو بخشبة: أنه (15) لا يقتل، ولا يقتص منه إلا إذا قتل بمحدد: حديد، أو حجر، أو خشب، أو كان معروفًا بالخنق والتردية. وهذا منه ردٌّ للكتاب، والسُّنة، وإحداث ما لم يكن عليه أمر الأمَّة، وذريعةٌ إلى رفع القصاص الذي شرعه الله تعالى حياة للنفوس، فليس عنه مناصٌ.
ثم اختلف العلماء فيما إذا قَتَل بما لا يَقْتُل مِثْلُه (16) غالبًا، كالعضَّة واللَّطمة، =(5/26)=@ وضربة السَّوط، والقضيب (17) ، وشبه ذلك. فقال مالك، والليث: هو عمدٌ، وفيه القود. قال أبو عمر: وقال بقولهما جماعة من السلف من الصحابة والتابعين. وذهب جمهور فقهاء الأمصار: إلى أن هذا كلُّه شبه عمد (18) ، إنما فيه الدِّية مغلظة. &(5/20)&$
__________
(1) سورة المائدة؛ الآية: 45.
(2) في (ح): ((رسول الله)).
(3) جاء هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث عدَّة من الصحابة منهم أبو هريرة وعبدالله بن عباس، وحمزة بن عمرو الأسلمي، وابن مسعود، وأبي الدرداء.
الأول: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
رواه أحمد (2/307 رقم8054)، و(2/338 رقم...)، و(2/453)،والبخاري (6/149 رقم3026) كتاب الجهاد، باب لا يعذب بعذاب الله، وأبو داود (3/125 رقم2674) كتاب الجهاد، باب في كراهية حرق العدو بالنار، والترمذي (4/117 رقم1571 ) كتاب السير، باب (20)، من حديث بكير بن بن عبدالله الأشج، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة قال: بعثنا رسول الله - رضي الله عنه - في بعث فقال: ((إن وجدتم فلانًا وفلانًا لرجلين من قريش فأحرقوهما بالنار، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أردنا الخروج: ((إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانًا وفلانًا، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما)).
الثاني: حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
رواه الحميدي (1/244 رقم533)، وأحمد (1/217 رقم1871)، و(1/219 رقم1901)، و(1/282 رقم2551 و2552)، والبخاري (6/149 رقم3017) في الموضع السابق، وأبو داود (4/520 رقم4351) كتاب الحدود والديات، باب الحكم فيمن ارتد، والترمذي (4/48 رقم1458) كتاب الحدود، باب ما جاء في المرتد، والنسائي (7/104 رقم4060) كتاب تحريم الدم، باب الحكم في المرتد من حديث عكرمة: أن عليًّا - رضي الله عنه - حرق قومًا ارتدوا عن الإسلام، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تعذبوا بعذاب الله)). ولقتلتهم كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((من بدل دينه فاقتلوه)).
الثالث: حديث حمزة بن عمرو الأسلمي.
رواه أحمد (3/494)، وأبو داود (3/124 رقم2673) في الجهاد، باب كراهية حرق العدو بالنار من حديث أبي الزناد قال: حدثني محمد بن عمرو الأسلمي، عن أبيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمَّرَه على سرية، قال: فخرجت فيها، وقال: ((إن وجدتم فلانًا فأحرقوه بالنار، فوليت، فناداني فرجعت إليه، فقال: ((إن وجدتم فلانًا فاقتلوه، ولا تحرقوه فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار)).
الرابع: حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -.
أخرجه الطيالسي (343)، وعبدالرزاق (9414)، وابن أبي شيبة (6/458)، وأوب داود (2675 و5268)، والنسائي في "الكبرى" (8614)، والبزار (5/378 و2009)، والشاشي (283)، والطبراني في "الكبير" (10373 و10374).
كلهم من طريق أبي إسحاق الشيباني، عن الحسن بن سعد، عن عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((لا يعذب بالنار إلا رب النار)). ولبعضهم فيه قصة، وقد اختلف في سماع عبدالرحمن من أبيه، والأقرب سماعه من أبيه أحاديث يسيرة.(
الخامس: حديث أبي الدرداء.
أخرجه ابن ابي شيبة (6/485) عن وكيع، عن هشام الدستوائي، عن سعيد الثوري، عن حبان بن عثمان، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء به، وفيه قصة.
وأخرج عبدالرزاق (9412) عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: حرق خالد بن الوليد ناسًا من أهل الردة، فقال عمر لأبي بكر: أتدع هذا الذي يعذب بعذاب الله، فقال أبو بكر: لا أشيم سيفًا سلَّه الله على المشركين.
(4) قوله: ((عنه)) سقط من (أ) و(ف).
(5) قوله: ((أو عطشًا)) سقط من (أ) و(ف).
(6) في (ح): ((قول)).
(7) هذا الحديث روي عن عدة من الصحابة (؛ منهم :
1 - النعمان بن بشير - رضي الله عنه -: رواه ابن ماجه (2/889 رقم2667) كتاب الديات، باب لا قود إلا بالسيف، والطحاوي (3/184 رقم5026) من طريق أبي عاصم، عن سفيان الثوري. ورواه البيهقي (8/62) من طريق الطيالسي، عن قيس بن الربيع. كلاهما - الثوري، وقيس - عن جابر الجعفي، عن أبي عازب، عن النعمان بن بشير: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا قود إلا بالسيف)).
وهذا إسناد ضعيف جدًّا، جابر بن يزيد الجعفي ضعيف رافضي متهم بالكذب، وأبو عازب اسمه: مسلم بن عمرو، أو ابن أراك: مستور.
ثم إنه قد اختلف على جابر الجعفي، فرواه الدارقطني (3/107) من طريق أبي شيبة إبراهيم بن عثمان، عن جابر، عن أبي عازب، عن أبي سعيد الخدري. وهذا إسناد مشكل.
2 - أبو بكرة نضيع بن الحارث الثقفي - رضي الله عنه -، وروي عنه متصلاً ومرسلاً.
أولاً: المتصل: رواه ابن ماجه (2/889 رقم2668) في الموضع السابق من طريق الحر بن مالك العنبري، ورواه ابن عدي في "الكامل" (7/82)، والدارقطني (3/105) من طريق أبي أمية الطرسوسي، عن الوليد بن محمد بن صالح الأيلي، ورواه البيهقي (8/63) من طريق الطرسوسي، عن الوليد بن محمد. ثلاثتهم - الحر بن مالك، والوليد بن محمد بن صالح، والوليد بن مسلم -، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أبي بكرة مرفوعًا بلفظ: ((لا قود إلا بالسيف)).
ووقع عند الدراقطني والبيهقي زيادة: ((قال يونس: قلت للحسن عن من أخذت هذا؟ قال: سمعت النعمان بن بشير يذكر ذلك)). لكن هذه المقولة ليس لها إسناد ظاهر إلى يونس.
ثانيًا: المرسل: رواه الدارقطني (3/106) ومن طريقه البيهقي (8/62) من طريق موسى بن داود، عن مبارك بن فضالة، ورواه عبدالرزاق (9/273 رقم17179)، وابن أبي شيبة (5/431 رقم27713) من طريق عمرو بن دينار، ورواه ابن أبي شيبة (5/431 رقم27713)، والخطيب في "تاريخ بغداد" من طريق أشعث بن عبدالملك. ثلاثتهم - مبارك وعمرو وأشعث -، عن الحسن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ...، فذكره مرسلاً.
فقد اختلف على مبارك بن فضالة في الوصل والإرسال، وقد قال عنه أحمد بن حنبل: كان مبارك بن فضالة يرفع حديثًا كثيرًا ويقوا في غير حديثٍ: عن الحسن قال: حدثنا عمران، قال: حدثنا ابن مغفل، وأصحاب الحسن لا يقولون ذلك)). انظر "تهذيب الكمال" (27/182).
وتابعه على الإرسال عمرو بن دينار وأشعث بن الملك. فالمرسل أرجح. وقد قال ابن أبي حاتم في "العلل" (...) أنه سأل أباه عن حديث مبارك بن فضالة المرفوع فقال: هذا حديث منكر.
3 - أبو هريرة - رضي الله عنه -: رواه الدارقطني (3/88)، والبيهقي (8/63) من طريق ابن مصفى، عن بقية، عن سليمان بن أرقم، عن الزهري، عن أبي سلمة.
كلاهما - سعيد بن المسيب، وأبو سلمة -، عن أبي هريرة، به.
وهذا إسناد ضعيف جدًّا. سليمان بن أرقم: متروك ومداره الحديث عليه ،وأما طريق ورقاء فخطأ من المسيب بن واضح كما نبه على ذلك ابن عدي (6/388)، وأيضًا ورقاء لم يلق الزهري فصار منقطعًا. ثم إنه قد اختلف على سليمان بن أرقم فيه، كما في الحديث التالي.
4 - عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: رواه الطبراني في "الكبير" (10/89 رقم10044)، وابن عدي (5/340)، والدارقطني (3/88) من طريق بقية، عن سليمان بن أرقم، عن عبدالكريم بن أبي المخارق، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود به، وهذا إسناد واه فيه ثلاثة من الضعفاء والمتروكين.
5 - علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: رواه الدارقطني (3/88)، والبيهقي (8/63) من طريق معلى بن هلال، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي به، وقال الدارقطني: ((معلى بن هلال متروك)).
قال البيهقي (8/63) بعد ما روى هذه الأحاديث: ((وهذا الحديث لم يثبت له إسناد، معلى بن هلال الطحان متروك الحديث، وسليمان بن أرقم ضعيف، ومبارك بن فضالة لا يحتج به، وجابر بن يزيد الجعفي مطعون فيه)).
ونقل الحافظ في "التلخيص" (4/38) عن عبدالحق أنه قال: ((طرق كلها ضعيفة، وكذا قال ابن الجوزي)).اهـ.
(8) في (ك): ((والنهي)).
(9) في (أ): ((يصح)) و(ك) و(ف).
(10) قوله: ((به)) سقط من (ح) و(ك).
(11) في (ح): ((فمن اعتدى فاعتدوا)).
(12) سورة البقرة؛ الآية: 194.
(13) في (أ) و(ف): ((أبو حنيفة)).
(14) قوله: ((في)) سقط من (أ).
(15) قوله: ((أنه)) سقط من (ك).
(16) في (ح): ((به)).
(17) في (ف): ((والقصب)).
(18) في (ح) و(ك) و(ف): ((شبه العمد)).(5/20)
وهو قول الثوري، والأوزاعي، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وقد ذكر عن مالك، وقاله ابن وهب، وجماعة من الصحابة والتابعين.
قلت: وهو الصحيح إن شاء الله تعالى؛ إذ العمد: القصدُ إلى القتل (1) ، وهو أمر خفيّ لا يُطَّلعُ عليه، فلا بُدَّ من دليل عليه، ولا بدَّ أن تكون تلك الدَّلالة واضحة رافعة للشَّك. ودلالة ما يقتل مثله (2) غالبًا (3) دلالة محقَّقة، صحيحة، وليس كذلك اللطمة، وضربة السوط، فلا دلالة فيها (4) . والدِّماء أحق ما احتيط لها؛ إذ الأصل صيانتها في أهبها، فلا نستبيحها إلا بأمر بيِّن، لا إشكال فيه، وهذا فيه إشكال، فلا نستبيح به دمًا، ولما كان مترددًا بين العمد والخطأ؛ حكم له بشبه العمد، وهو حُكْمٌ بين حُكمين، فلا هو عمد محضّ، ولا خطأ محضّ، فلا قود فيه؛ إذ لم يتحقق العمد. ومع ذلك فيمكن أن يكون قصد القتل، فتكون فيه الدِّيه المغلظة، هذا مع ما قد رواه أبو داود من حديث عبدالله بن عمرو: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب يوم الفتح بمكة، فذكر الحديث، وقال فيه: ((ألا إن (5) دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسَّوط، أو العصا مائة من الإبل، أربعون في بطونها أولادها)) (6) . وهذا نصٌّ في الباب، فلا ينبغي أن يعدل عنه.
ثمَّ اختلف القائلون بشبه العمد في الدِّية المغلظة ما هي؟ فقال عطاء، والشافعي: هي ثلاثون حِقَّة، وثلاثون جَذَعة، وأربعون خَلِفَة. وقد روي ذلك عن عمر (7) ، وزيد بن ثابت (8) ، والمغيرة، وأبي موسى (9) . وهو مذهب مالك حيث يقول: بشبه العمد. =(5/27)=@ ومشهور مذهبه: أنه لم يقل به إلا في مثل فعل المدلجيّ بابنه حيث ضربه بالسَّيف (10) . وقيل: إن دية شبه العمد أربعون جَذَعة إلى بازلٍ (11) عامها، وثلاثون حِقَّة، وثلاثون بنت لبون. وروى هذا عن عثمان – رضي الله عنه - (12) . وبه قال الحسنُ، وطاووس، والزُّهري. وأمَّا ديةُ العمد: فهي عند الشافعي ثلاثون حِقَّةً، وثلاثون جَذَعةً، وأربعون خلفة، كما قال في شبه العمد. وقال مالك: هي أرباع: ربع بنات مخاض، وربع بنات &(5/21)&$
__________
(1) في (ف): ((الفعل)).
(2) قوله: ((مثله)) سقط من (ح).
(3) قوله: ((غالبًا)) سقط من (أ)، وفي (ك): ((غاليًا)).
(4) في (ح): ((فيهما)).
(5) في (ح) و(ك) : ((ألا وإن)).
(6) حديث صحيح أخرجه أبو داود (4549)، والنسائي (8/41)، وابن ماجه (2627)، وابن الجارود (773)، والبيهقي (8/45) من طريق حماد بن زيد، عن خالد الحذاء، عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عن عبدالله بن عمر به.
وأخرجه أبو داود (4548)، وابن حبان (6011)، والبخاري في "الكبير" (3/2 رقم434) [أشير لها وكتب تعدل]، والدارقطني (3/104-105) من طريق وهيب بن خالد الحذاء به.
وخالفه - أعني خالد بن مهران - أيوبُ السختياني فرواه عن القاسم بن ربيعة، عن عبدالله بن عمر به. ولم يذكر عقبة بن أوس: أخرجه النسائي (8/40)، وابن ماجه (2627)، وأحمد (2/164-166)، والدارمي (2/118)، والدارقطني (3/1041)، والبيهقي (8/44) من طرق عن شعبة، عن أيوب به.
ورواه حماد بن زيد، عن أيوب، عن القاسم بن ربيعة، مرسلاً. أخرجه النسائي (4792)، وقال: مرسل.
ورواه علي بن زيد بن جدعان - وهو ضعيف-، عن القاسم بن ربيعة، عن عبدالله بن عمر بن الخطاب.
أخرجه أبو داود (4549)، والنسائي (8/42)، وابن ماجه (2628)، والشافعي (2/108)، وأحمد (2/11)، وعبدالرزاق (17212)، وابن أبي شيبة (9/129)، والحميدي (702)، والدارقطني (3/105)، والبيهقي (8/44)، والبغوي (2536). كلهم من طرق علي بن زيد بن جدعان، عن القاسم، عن عبدالله بن (عمر بن الخطاب به نحوه).
ورواه حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يعقوب السدوسي، عن عبدالله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ذكره أبو داود بإثر حديث (4549) مما يدل على اضطراب علي بن زيد فيه فلا يلتفت إلى مخالفته.
وأخرجه النسائي (8/41)، والشافعي (2/108)، وأحمد (5/411)، وعبدالرزاق (17213)، والطحاوي (3/185-186)، والدارقطني (3/103)، والبيهقي (8/45) من طرق عن خالد الحذاء، عن القاسم بن ربيعة، عن يعقوب بن أوس، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - . فلم يذكر اسم الصحابي وهذا مما لايضر.
ويعقوب بن اوس: هو عقبة بن أوس؛ كما في كتب الرجال. انظر "تهذيب الكمال" (32/377)، و(20/188).
(7) أخرجه أحمد (348)، وعبدالرزاق (17217)، وابن أبي شيبة (6808)، والبيهقي (8/69)، وابن عبدالبر في "الاستذكار" (36664) من طرق عن عبدالله بن أبي نجيح وعمرو بن شعيب. كلاهما عن مجاهد بن جبر، عن عمر به.
(8) أخرجه عبدالرزاق (17220)، وابن أبي شيبة (6810)، والبيهقي (8/69)، وابن عبدالبر في "الاستذكار" (36666).
(9) أخرجه عبدالرزاق (17219) عن الثوري، عن مغيرة الشيباني عن الشعبي، عن أبي موسى والمغيرة جميعًا. وأخرجه ابن أبي شيبة (6811)، والبيهقي (8/69)، وابن عبدالبر في "الاستذكار" (36665) جميعهم من طريق الشعبي به.
(10) أخرجه الإمام مالك (2/876)، والشافعي (1437)، والبيهقي... =
أخرجه ابن أبي شيبة (27884)، وقال في الإسناد: حدثنا عباد وأبو خالد. ومن طريقه عبد بن حميد في المنتخب (41)، وابن ماجه (2/888 رقم 2662) كتاب الديات، باب لا يقتل الوالد بولده، والدارقطني (3/141) إلا أن كلا من عبد بن حميد وابن ماجه لم يذكرا عبادًا في الإسناد.
وأخرجه أحمد (1/49)، والترمذي (4/12 رقم1400) كتاب الديات، باب ما جاء في الرجل يقتل ابنه يقاد منه أو لا؟ والدارقطني (1/140)، والبيهقي (8/38-39) كلهم من طرق عن حجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يقتل الوالد بالولد)). وزاد أحمد في أوله: أن عمر - رضي الله عنه - جعل على الرجل الدية، وذكر أن القاتل لا يرث.
ورجال الإسناد ثقات غير حجاج بن أرطاة فإنه مدلس، وقد عنعنه، لكنه تابعه ابن لهيعة: ثنا عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبدالله بن عمرو.
أخرجه أحمد (1/29) من طريقين عنه، وزاد في الأول: ((يرث المال من يرث الولاء)).
وابن لهيعة سيء الحفظ لكن تابعه محمد بن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: كانت لرجل من بني مدلج جارية فأصاب منها ابنًا، فكان يستخدمها، فلما شبَّ الغلام دعي بها يومًا، فقال: اصنعي كذا وكذا، فقال الغلام: لا تأتيك حتى متى تستأمر أمي؟ قال: فغضب أبوه فحذفه بسيفه فأصاب رجله أو غيرها فقطعها، فنزف الغلام فمات، فانطلق في رهط من قومه إلى عمر - رضي الله عنه - فقال: يا عدو نفسه! أنت الذي قتلت ابنك؟ لولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يقاد الأب بابنه)) لقتلتك؛ هلم ديته. قال: فأتاه بعشرين أو ثلاثين ومائة بعير، قال: فتخير منها مائة فدفعها إلى ورثته وترك أباه.
أخرجه ابم الجارود (788)، والبيهقي (8/38) بهذا التمام، والدارقطني (3/140-141) مختصرًا. وقال البيهقي في "معرفة السنن"(12/40): ((وهذا إسناد صحيح)). وقال الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (4/33) بعد أن ذكر هذاالطريق: ((وصحح البيهقي سنده لأن رواته ثقات)).
وقال الشيخ الألباني في "الإرواء" (7/269): ((وهذا إسناد جيد، رجاله كلهم ثقات ،وفي عمرو بن أبي قيس كلام يسير لا ينزل حديثه عن رتبة الحسن)).
وأخرجه أحمد (1/16): حدثنا أسود بن عامر، قال: أخبرنا جعفر - يعني الأحمر -، عن مطرف، عن الحكم، عن مجاهد قال: حذف رجل ابنًا له بسيف فقتله، فرفع إلى عمر، فقال: لولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يقاد الوالد من ولده لقتلتك قبل أن تبرح)).
قال الألباني في "الإرواء" (7/270): ((وهذا إسناد رجاله ثقات رجال مسلم، غير جعفر وهو ابن زياد الأحمر، وهو ثقة، لكنه منقطع؛ لأن مجاهدًا لم يسمع من عمر.
(11) البازل من الإبل الذي تم ثماني سنين ودخل في التاسعة، وحينئذ يطلع نابه، وتكمل قوته، ثم يقال له بعد ذلك بازل عام وبازل عامين. "النهاية" (1/125).
(12) أخرجه عبدالرزاق (17225)، وأبوداود (4554)، وعنه والبيهقي (8/69)، وابن أبي شيبة (5/347 رقم6753) من طريق قتادة، عن ابن المسيب، وعن عبدربه، عن أبي عياض، عن عثمان وزيد بن ثابت. ورواية أبي داود: قتادة، عن عبدربه، عن عياض. ليس فيه ذكر ابن المسيب.(5/21)
لبون، وربع جِذاعٌ، وربعٌ حقاقٌ. وبه قال الزهري، وربيعةُ، وأحمدُ. وقال أبو ثور: أخماس، ويزيد على الأربعة الأسنان المتقدِّمة بني لبون. وهي عنده ديةُ شبه العمد.
وأمَّا دية الخطأ (1) : فهي عنده أخماسٌ كما ذكرناه آنفًا. وبه قال عمر بن عبدا لعزيز، وسليمان بن يسار، والزهريُ، وربيعةُ، والشا فعي. ونحوه قال أبو حنيفة، غير أنه جعل بدل بني لبون بني مخاضٍ. وبه قال النَّخعي، وأحمدُ، ويعقوبُ، ومحمد. ورُوِي عن ابن مسعودٍ (2) . وقيل: إنها أرباعٌ كما تقدَّم في دية العمد. وبه قال الشعبي، والحسن البصريُ، والنخعي، وإسحاق بن راهويه.
قلتُ: وهذا في أهل (3) الإبل مجمعٌ عليه: أن في النَّفس مائة من الإبل. واختلف في غيرهم. فقالت طائفة: يجب على أهل الذهبِ الذهبُ، وعلى أهل الورِقِ الورِقُ. وروي ذلك عن عمر (4) ، وعروة، وقتادة، ومالك، وأحمد، وإسحاق (5) ، وأبي ثور، وأصحاب الرأي، ولم يختلف هؤلاء: أن دية الذهب ألفُ دينار. واختلفوا في الفضة. فقال الثوري، والنعمان، وصاحباه، وأبو ثورٍ: هي عشرةُ آلاف درهم. وقال الحسن البصري، وعروةُ، ومالكٌ، وأحمدُ، وإسحاقُ: اثنا (6) عشر ألف درهم (7) . وقال مالك، وأبو حنيفة: الدِّيةُ من الإبل، والذهب (8) ، =(5/28)=@ والفضة، ولم يعرفا الْحُلَل ولا الشَّاء، ولا البقر. وقال آخرون: هي على أهل البقر مائتا بقرة. وعلى أهل الشاء ألفا شاة. وعلى أهل الْحُلَل مائتا حُلَّة. وروي هذا عن عمر (9) ، والحسن البصرى. وبه قال عطاء، والزهري، وقتادة، غير أن هؤلاء الثلاثة لم يقولوا بالحلل.
قلت: وسبب هذا الخلاف اختلاف الأحاديث الواردة في الباب، والاختلاف في تصحيحها، وذلك: أنه ليس شيء منها متفقًا على صحته، وهي ما بين مرسلٍ، وضعيفٍ. فلنذكرها؛ فمنها ما خرَّجه الترمذي (10) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جدِّه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قَتَل متعمدًا دفع إلى أولياء المقتول؛ فإن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا أخذوا الدِّية، وهي: ثلاثون حِقَّة، وثلاثون جَذَعة، وأربعون خَلِفة، وما صالحوا عليه فهو لهم، وذلك لتشديد العقل)).
قال الترمذي: هذا (11) حديث حسن غريب. وروى أبو داود (12) عن حسين المعلم، عن عمرو &(5/22)&$
__________
(1) في (ف): ((العمد)).
(2) أخرجه عبدالرزاق (17238)، وابن أبي شيبة (26740)، والبيهقي (8/74-75)، وفي "المعرفة" (10629-10631)، وابن عبدالبر في "الاستذكار" (25/39) من طرق عن عبدالله بن مسعود، وفيه الخلاف في جعل بدل: بني اللبون: بني مخاض. انظر "السنن الكبرى" (8/75)، و"تلخيص الحبير" (4/43).
(3) قوله: ((أهل)) سقط من (ح).
(4) أخرجه مالك في "الموطا (1548)، وعبدالرزاق (17270)، والبيهقي (8/80).
واختلف عن عمر - رضي الله عنه - في تقويم الدية: قال ابن عبدالبر رحمه الله في "الاستذكار" (25/11): ((اختلف عن عمر - رضي الله عنه - في تقويم الدية، فروى أهل الحجاز عنه أنه قومها كما ذكر مالك عنه، اثني عشر ألف درهم من الورق، وروى أهل العراق عنه أنه قومها، وبعضهم يقول جعلها: عشرة آلاف درهم.
1 - أما التقويم باثني عشر ألف درهم :
فأخرجه مالك في "الموطأ" (2/850 رقم2) بلاغًا: أن عمر بن الخطاب قوَّم الدية على أهل القرى، فجعلها على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم.
والشافعي في "الأم" (6/114-115)، وفي "المسند" (458)، ومن طريقه البيهقي (8/76 و95) من طريق مسلم بن خالد، عن عبيدالله بن عمر، عن أيوب بن موسى، عن ابن شهاب ومكحول وعطاء؛ قالوا: أدركنا الناس على أن دية الرجل المسلم الحر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة من الإبل، فقوَّم عمر - رضي الله عنه - على أهل القرى ألف دينار، أو اثني عشر ألف درهم... الحديث.
قال الشيخ الألباني في "الإرواء" (7/306): ((ورجاله ثقات غير مسلم، وهو ابن خالد الزنجي، وفيه ضعف)).
وأخرجه ابن أبي شيبة (26717)، وأبو داود في "المراسيل" (255)، وابن جرير الطبري في "تفسيره" (9/50). ثلاثتهم من طريق سفيان الثوري، عن أيوب بن موسى، عن مكحول قال: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والدية ثمانمائة دينار، فخشي عمر من بعده، فجعلها اثني عشر ألفًا، أو ألف دينار. وزاد ابن جرير في أوله: كانت الدية ترتفع وتنخفض...، إسناده صحيح إلى مكحول.
وعبدالرزاق (1755)، ومن طريقه البيهقي (8/77-78)، وابن عبدالبر في "التمهيد" (17/342) من طريق معمر، عن الزهري قوله: وزاد في أوله: كانت الدية على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة بعير، لكل بعير أوقية، إلى أن قال: حتى جعلها عمر اثني عشر ألفا، أو ألف دينار...، الحديث. ولكن عند البيهقي في الموضع الثاني: يونس عن ابن شهاب، بدل: معمر.
وأخرجه البيهقي (8/80) من طريق أيوب بن موسى، عن ابن شهاب وابن أبي رباح: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قوَّم الدية ألف دينار، أو اثني عشر ألف درهم. هكذا مختصرًا. وهذا إسناد صحيح إلى الزهري.
وأخرج ابن نصر المروزي في "السنة" (239) من طريق محمد بن عمرو بن علقمة قال: كتب عمر بن عبدالعزيز في الديات...، فذكر في الكتاب: فقومها عمر بن الخطاب على أهل القرى اثني عشر ألف درهم.
وأخرج عبد الرزاق (17270)، ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (10/400)، وذكره أيضًا من طريقه ابن عبدالبر في "التمهيد" (17/ 343-344) من طريق ابن جريج - مطولاً -، والبيهقي (8/79-80) مختصرًا من طريق يحيى بن سعيد، كلاهما عن عمرو بن شعيب. المعنى. قال عبدالرزاق: وقضى عمر في الدية على أهل القرى اثني عشر ألفًا. وقال البيهقي: ((وعلى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر درهم. بسقط كلمة ألف.
وهذا مرسل. قال العلائي في "جامع التحصيل" (244): ((وقد أرسل عمرو، عن عمر - رضي الله عنه -)). وقال ابن حجر في "الفتح" (9/486) بعد ان ذكر حديثًا من رواية عمرو: ((مرسل أو معضل؛ لأن جل رواية عمرو بن شعيب عن التابعين، ولم يرو عن أحد من الصحابة إلا الشيء اليسير عن بعض صغار الصحابة)).اهـ.
وأخرجه ابن أبي شيبة (26725) و (27599) من طريق عبدالله بن المبارك، عن عمرو بن عبدالله، عن عكرمة: أن عمر بن الخطاب قضى بالدية على أهل القرى أثني عشر ألفًا... مختصرًا عما عند عبدالرزاق. وهذا مرسل.
وقال ابن عبدالبر في "التمهيد" (17/348): ((وروى هشيم، عن يونس، عن الحسن: أن عمر قوَّم الإبل في الدية كل بعير بعير بمائة وعشرين درهمًا اثني عشر ألفًا)).
وهذا مرسل. قال العلائي في "التحصيل" (ص162): ((فروايته - يعني الحسن، عن أبي بكر وعمر وعثمان ( مرسلة بلا شك)).
وأخرج رواية الاثنى عشر أيضًا أبوداود في "سننه" (4/679 رقم4542) كتاب الديات، باب الدية كم هي؟ ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (10/398-399)، والبيهقي (8/77 و101)، وابن عبدالبر في "التمهيد" (17/347). وأخرجه ابن حزم (6/71).
كلاهما - أبو داود، وابن حزم - من طريق حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلمين، قال: فكان ذلك كذلك حتى استخلف عمر، فقام خطيبًا فقال: إن الإبل قد غلت، ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفًا، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، قال: وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية.
قال الشيخ الألباني في "الإرواء" (7/305): حسن.
2 - وأما التقدير بعشرة آلاف: فأخرجه محمد بن الحسين في "الآثار" كما في "نصب الراية" للزيلعي (4/362)، وابن أبي شيبة (26718)، ومن طريقه ذكره ابن عبدالبر في "التمهيد" (17/348) كلاهما من طريق الشعبي، عن عبيدة السلماني عن عمر – رضي الله عنه - قال: وضع عمر الديات، على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم، وعلى أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة مسنة، وعلى أهل الشاء الفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة.اهـ.
وإسناد ابن ابي شيبة صحيح. ومحمد بن الحسن الشيباني ضعفه النسائي من قبل حفظه. وقال ابن حجر في "لسان الميزان" (6/192): ((لينه النسائي وغيره من قبل حفظه)).
وأخرجه الشافعي في "الأم" (7/306)، ومن طريقه البيهقي (8/80)، وفي "معرفة السنن والآثار" (12/108) قال: قال محمد بن الحسن: بلغنا عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ....
وهذا منقطع مع ما تقدم في محمد بن الحسن من كلام.
وأخرجه الشافعي في "الأم" (7/306)، وعبدالرزاق (17263)، والبيهقي في "معرفة السنن والآثار" (12/108) من طريق الثوري قال: أخبرني محمد بن عبدالرحمن، عن الشعبي مثل ما ذكره محمد بن الحسن، من قول الشعبي، ولم ينسبه إلى عمر.
قال ابن عبدالبر في "التمهيد" (17/347) بعد ذكر التقويم باثني عشر ألف: ((ليس لمن خالف هذا وقال: بعشرة آلاف درهم من الورق في الدية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث، لا مرسل ولا مسند)).اهـ.
(5) في (أ): ((وإسحاق وأحمد)).
(6) في (ف): ((اثني)).
(7) من قوله: ((وقال الحسن البصري...)) إلى هنا سقط من (أ).
(8) في (ح): ((من الذهب والإبل)).
(9) أخرجه أبو داود في "سننه" (4542)، والبيهقي في "الكبرى" (8/77-101).
(10) أخرجه أحمد (2/217): حدثنا يعقوب، ثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، فذكر حديثا، قال ابن إسحاق: وذكر عمرو بن شعيب بن محمد بن عبدالله بن عمرو بن العاص، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من قتل مؤمنًا متعمدًا فإنه يدفع إلى أولياء القتيل، فإن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا أخذوا الدية، وهى ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفه، فذلك عقل العمد، وما صالحوا عليه من شيء فهو لهم، وذلك شديد العقل... صمن حديث طويل.
في إسناده تدليس محمد بن إسحاق، ولكنه تابعه سليمان بن موسى.
أخرجه أحمد (2/183)، ومن طريقه ابن الجوزي في "التحقيق" (2/315)، ولكنه لم يذكر مقدار الدية. وأخرجه ابن ماجه (2/877 رقم2626) كتاب الديات، باب من قتل عمدًا فرضوا بالدية، وأبو داود (4/646 رقم4506) كتاب الديات، باب ولي العمد يرضى بالدية. وزاد في أوله: ((لا يقتل مؤمن بكافر)). ولم يذكر في آخره مقدار الدية، والترمذي (4/6 رقم1387) كتاب الديات، باب ما جاء في الدية كم هي من الإبل، والدارقطني (3/177)، والبيهقي (8/53)، ولم يذكر هنا مقدار الدية، وفي (8/70) مثل لفظ أحمد تمامًا، وزاد في آخره زيادة. كلهم من طريق محمد بن راشد، عن سليمان بن موسى الأشدق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده به مثله.
وأخرجه عبدالرزاق (17218) عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وهذا معضل.
قال الترمذي: ((هذا حديث حسن غريب)).
وقال الشيخ الألباني في"الإرواء"(7/259): حسن. وإنما لم يصححه -يعني الترمذي-، والله أعلم للخلاف المعروف في عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.
(11) قوله: ((هذا)) ليس في (ك).
(12) إسناده صحيح، رجاله ثقات رجالى الشيخين، غير القاسم بن ربيعة، وهو ابنُ جوشن الغطفاني، فقد روى له أبو داود والنسائي وابن ماجه، وهو ثقة. أيوب: هو السختياني. وأخرجه ابن ماجه (2627) من طريق محمد بن جعفر، بهذا الاسناد. وأخرجه النسائي (8/40)، وابن ماجه (2627)، والطحاري في "مشكل الآثار" (4946)، والدارقطني (3/104) من طريق عبدالرحمن بن مهدي، والبيهقي (8/44) من طريق أبي عمر، كلاهما عن شعبة، به. وأشار إلى هذه الرواية أبو داود بإثر الحديث رقم (4549). وأخرجه النسائي (8/40-41) من طريق حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن القاسم بن ربيعة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ...، مرسل. ومن طريقين عن القاسم بن ربيعة مرسلاً. وأخرجه أبو داود (4547 و4588 و4589)، وابن ماجه (2627)، وابن حبان (6011)، والدارقطني (3/104-105)، والبيهقي (8/45) من طرق، عن خالد الحذاء، عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، ويقال: يعقوب-، عن عبدالله بن عمرو، فزادوا في الإسناد عقبة بن القاسم وابن عمرو، وهذا من المزيد في متصل الأسانيد.
وعلّقه أبودواد بإثر الحديث (4549)، والدارقطني (3/104) عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد - يعني ابن جُدعان - وهو ضعيف، عن يعقوب السدوسي- يعني عقبة بن أوس-، عن عبدالله بن عمرو.
وهذا الإسناد الذي أشار إليه هو عند أحمد في مسند عبدالله بن عمر بن الخطاب برقم (5805)، قد جعله أبو داود والدارقطني من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص.
ورواه النسائي (8/41) من طريق حماد بن زيد، عن خالد الحذاء، عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عن عبدالله، هكذا رواه دون أن يبين من هو عبدالله، أهو ابن عمرو بن العاص، أم ابن عمر بن الخطاب؟ ثم ذكر النسائي بقية الاختلاف عن خالد الحذاء، فذكره من رواية هشيم، عن خالد، عن القاسم، عن عقبة، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومن طريقين، عن خالد، به، ومن رواية ابن أبي عدي، عن خالد، عن القاسم، عن عقبة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مرسلاً. ومن رواية يزيد بن زريع وبشر بن المفضل، عن خالد، عن القاسم، عن يعقوب بن أوس، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - . ورواه النسائي أيضًا من طريق سفيان بن عيينة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن القاسم بن ربيعة، عن ابن عمر بن الخطاب، فجعله من مسند ابن عمر بن الخطاب.
ونقل الزيلعي في "نصب الراية" (4/331) عن ابن القطان قوله في الحديث: هو حديث صحيح من رواية عبدالله بن عمروبن العاص، ولا يضره الاختلاف الذي وقع فيه، وعقبة بن أوس بصري تابعي ثقة. ونقل البيهقي (8/69) عن يحيى بن معين قوله: يعقوب بن أوس وعقبة بن أوس واحد، ونقل أيضًا عنه أنه سُئل عن حديث عبدالله بن عمرو هذا، فقال له الرجل: إن سفيان يقول: عن عبدالله بن عمر؟ فقال يحيى بن معين: علي بن زيد ليس بشيء، والحديث حديث خالد، وإنما هو عبدالله بن عمروبن العاص، رضي اللُه عنهما. وقال البخاري في "تاربخه" ( 8/392-393) في ترجمة يعقوب بن أوس السدوسي: قال حماد: عن خالد الحذاء، عن القاسم بن عبدالله بن ربيعة، عن عقبة أو يعقوب السدوسي، عن عبدالله بن عمرو، عن النبي ? في الدية، وقال يزيد بن زريع، عن خالد،عن القاسم بن ربيعة، عن يعقوب بن أوس، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - . وفي الباب عن ابن مسعود. وعن ابن عباس عند أبي داود (4540 و4591)، والنسائي (8/39-40)، وابن ماجه (2635)، والدارقطني (3/93 و94 و95). وعن علي موقوفاً عند ابن أبي شيبة (9/134 و136 و138)، وعبدالرزاق (17222)، والبيهقي (8/74)، والدارقطني (3/ 177). وعن عمرموقوفًا عند ابن أبي شيبة (9/136). وعن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت موقوفًا عند عبدالرزاق (17220)، و(17225)، وابن أبي شيبة(9/135)، والبيهقي(8/74)، والدارقطني (3/177). وعن عبادة بن الصامت عند الدارقطني (3/176)، وفيه انقطاع.(5/22)
بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى: أن من قتل خطأ فديته مائة من الإبل: ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حِقَّة، وعشر ابن (1) لبونٍ ذكر. وروى أبو داود (2) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانمائة دينار، أو ثمانية آلاف (3) درهم، ودية أهل الكتاب على النصف من دية المسلمين (4) . قال: فكان ذلك حتى استخلف عمر – رضي الله عنه - (5) ، فقام خطيبًا فقال: ألا إن الإبل قد غلت، ففرضها على أهل الثمن ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة. قال: وترك دية أهل =(5/29)=@ الذمَّة لم يرفعها فيما رفع من الدِّية (6) . وفي رواية أخرى عنه قال: عقل شبه العمد مغلَّظة مثل العمد، ولا يقتل صاحبه (7) . وعن عطاء، عن جابر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلَّة (8) . وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دية الخطأ عشرون حِقَّة، وعشرون جَذَعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون بني مخاض ذكر (9) . وعن عكرمة، عن ابن عبَّاس: أن رجلاً من بني عدي قتل، فجعل رسول الله ? ديته اثني عشر ألفًا (10) .
فهذه الأحاديث التي دارت بين العلماء الذين &(5/23)&$
__________
(1) في (ح): ((ابني))، وفي (ك): ((بني)).
(2) تقدم تخريجه.
(3) في (ك): ((ألف)).
(4) في (ك): (( المسلم)).
(5) أشير لها وكتب: كذا في (أ).
(6) تقدم.
(7) تقدم
(8) تقدم.
(9) تقدم.
(10) تقدم.(5/23)
تقدم ذكر مذاهبهم، فصار كل فريق منهم إلى ما صحَّ عنده منها، وعمل به، ومن بلغه جميعها فلا بد له من البحث عنها حتى يتبيَّن له الأرجح منها.
وقوله في الرواية الأخرى: ((أن رجلاً من اليهود قتل جارية من الأنصار على حليّ لها))، وفي رواية: ((على أوضاح، فألقاها في القليب)).
((الأوضاح (1) )): جمع: وضح، وهو الْحُلِي من الفضة؛ قاله أبو عبيد. وقال (2) غيره: هو من حجارة (3) ، وفي "الصّحاح": الوضح: الدرهم الصَّحيح، والأوضاح: الحليُّ من الدَّراهم الصَّحاح (4) .
و((القليب)): البئر غير ا لمطوية. و((رضخ رأسها)): شدخه. =(5/30)=@
وقوله: ((فأمر به (5) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرجم حتى يموت، فرجم حتى مات))؛ هذا مخالف لمساق الرِّواية الأولى، فلذلك (6) قيل في هذا (7) : إنَّها قضية أخرى غير تلك. والأولى: أن القضية واحدة، غير أن الرَّاوي عبَّر عن رضخ رأس اليهودي (8) بالحجارة بالرَّجم. ولا بُعد في ذلك (9) ؛ فإنَّه من (10) تسمية الشيء بما يشبهه.
ومن باب من عَضَّ يد رَجُلٍ
قوله: ((قاتل يعلى بن أمية - أو: ابن مُنْيَة - رجلاً))؛ كذا صواب هذا اللفظ. وصحيح مُنْيَة: بميم مضمومة، ونون ساكنة، وياء باثنتين من تحتها. وهي امرأة، وبها كان يُعرف. واختلف فيها؛ هل كانت أمُّه، أو جدَّته؟ قال أبو الحسن الدارقطني (11) : مُنْيَة بنت الحارث هي جدة يعلى (12) ، وبها كان يعرف. قاله الزبير بن بكَّار. &(5/24)&$
__________
(1) في (ح) و(ك): ((والأوضاح)).
(2) في (أ) و(ف): ((قال)) بلا واو.
(3) قوله: ((وقال غيره هو من حجارة)) سقط من (ح) و(ك).
(4) من قوله: ((وفي الصحاح...)) إلى هنا من (أ) و(ف).
(5) قوله: ((به)) سقط من (ك).
(6) قوله: ((به)) سقط من (ك).
(7) قوله: ((في هذا)) لم تتضح فيه (ح).
(8) في (أ): ((الهودي)).
(9) في (ف): ((هذا)) بدل ((ذلك)).
(10) في (ح): ((من باب تسمية)).
(11) في "المؤتلف والمختلف" (4/2119).
(12) في (ف): ((يعلى وهي امرأة وبها)).(5/24)
وقال أهل الحديث: يقولون: هي أمَّه، وأنها مُنْيَة بنت غزوان (1) . وقال الطبري: يعلى بن أمية، أمُّه: مُنْيَة بنت جابر. ومن قال (2) : ((مُنَبِّه)) بنون (3) مفتوحة، وباء مكسورة بواحدة تحتها (4) فقد صحَّف؛ قاله القاضي عياض. =(5/31)=@
قلت: ويُعرف أيضًا بأبيه، وقد صحَّت نسبته إليهما في كتب الحديث (5) . فمرة نُسب إلى أبيه، وهو: أميَّة، ومرة نسب إلى هذه المرأة. وهذه الرِّواية يظهر منها: أن يعلى هو الذي قاتل الرَّجل. وفي الرواية الأخرى: أن أجيرًا ليعلى بن أميَّة عضَّ يد رجل (6) . وهذا هو الأولى، والأليق ؛(إذ لا يليق ذلك الفعل بيعلى بن أميَّه مع جلالته وفضله (7) .
وقوله: ((أيدع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل))؛ أي: يعضها (8) كما يعض الفحل، كما جاء مبينًا في الرواية الأخرى. يقال: قضمت الدَّابة شعيرها - بكسر الضاد - تقضمه - بفتحها - على اللغة الفصيحة: إذا أكلته (9) بأطراف أسنانها. وخضمته -بالخاء المنقوطة بواحدة من فوقها -: إذا أكلته (10) بفيها كلِّه. ويقال: الخضم: أكل الرُّطب واللَّيِّن (11) . والقضم: أكل اليابس. ومنه قول الحسن: تخضمون (12) ونقضم، والموعد: الحساب.
وقوله: ((ادفع يدك حتى يقضمها ثم انتزعها (13) ))؛ هو أمرٌ على جهة الإنكار، كما قال قبل هذا: ((بم تأمرني؟ تأمرني (14) أن آمره أن يدع يده في فيك (15) تقضمها؟!))؛ فمعناه: أنك لا تدع أنت (16) يدك في فمه (17) يقضمها، ولا يمكن أن يؤمر بذلك. =(5/32)=@
وقوله: ((لا دية له (18) ))، وفي الأخرى: فأبطله (19) ))؛ نصٌّ صريحٌ في إسقاط القصاص والدِّية في ذلك. ولم يقل أحدٌ بالقصاص فيما علمت، وإنما الخلاف في الضمان. فأسقطه أبو حنيفة وبعض أصحابنا، وضمنه الشافعي. وهو مشهور مذهب مالك (20) . ونزَّل بعض أصحابنا القول بالضَّمان على ما إذا أمكنه نزع يده برفق، فانتزعها بعنف. وحمل بعض أصحابنا الحديث على أنه كان متحرك الثنايا. وهذا يحتاج إلى خُطُم، وأزمَّة، ولا ينبغي أن يُعْدل عن صريح الحديث. وقد روي عن مالك والشافعي في الجمل الصائل إذا دفعه الرَّجل عن نفسه، فأدَّى &(5/25)&$
__________
(1) كتب في هامش (ف): ((أخت عتبة بن غزوان)) وكتب ((صح)).
(2) في (أ): ((قاله)).
(3) في (ف): ((بميم)) بدل ((بنون)).
(4) قوله: ((تحتها)) سقط من (ك).
(5) انظر "رجال مسلم" (2/377)، و"تهذيب التهذيب" (11/350).
(6) مسلم (3/1301 رقم1674/20و23) كتاب القسامة، باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه، إذا دفعه المصول عليه فأتلف نفسه أو عضوه لا ضمان عليه.
(7) كتب في هامش (ف): ((وكانت القصة في غزوة تبوك)) وكتب ((صح)).
(8) في (ك): ((تعضها)).
(9) في (ح) و(ك): ((إذا أكلت)).
(10) في (ك): ((بالخاء المعجمة إذا أكلته)).
(11) في (ح): ((والين)).
(12) في (ك): ((نخضمون)).
(13) في (ك): ((انزعها)).
(14) قوله: ((تأمرني)) سقط من (أ).
(15) في (أ) و(ف): ((في فمك)).
(16) قوله: ((أنت)) سقط من (ح) و(ك).
(17) في (ح): ((فيه)).
(18) في (ك): ((لك)).
(19) في (ح) و(ك): ((فأبطله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )).
(20) قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (12/223): نقل القرطبي عن بعض أصحابهم إسقاط الضمان، وقال: وضمَّنه الشافعي وهو مشهور مذهب مالك، وتُعقب: بأن المعروف عن الشافعي: أنه لا ضمان. وكأنَّه التباس على القرطبي.(5/25)
إلى تلف الصائل، لم يكن فيه ضمان؛ لأنَّه مأمور بالدَّفع عن نفسه. ومن فعل ما أمر به لم يلزمه ضمان.
قلت: وعلى هذا: يتخرج (1) من هذه المسألة قول بإسقاط الضمان في مسألة العضّ المتقدمة عن مالك، والشافعي؛ لأنَّه مأمور بنزع يده من فيه، وأبو حنيفة في يلزم الضمان في مسألة الصائل، لكنه يجيب عن هذا المعنى بأنه وإن (2) سلَّم أنه مأمور بالدَّفع عن نفسه، فلم يؤذن له في إتلاف (3) مال فيضمن.
قلت: ويخرج من هذا قول عن أبي حنيفة في إثبات الضمان في مسألة العضّ. ويقرب من هذا مسألة من اطَّلع من باب بيتٍ ففقئت عينه لذلك، فاختلف (4) أصحابنا في ذلك. فالأكثر منهم على الضمان. وبه قال أبو حنيفة، وبعضهم قال بنفيه. وبه قال الشافعي. =(5/33)=@
قلت: وهو الظاهر من قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((لو أن امرأً اطَّلع عليك بغير إذن فخذفته (5) بحصاةٍ، ففقأت عينه لم يكن عليك جناح)) (6) ، وأيضًا: فقد (7) رام النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطعن بالمدراة في عين من أراد أن يطَّلع من حُجْرٍ (8) في باب بيته. وقال: ((لو أعلم أنك تطَّلع لطعنت به في عينك)) (9) ، وما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذي يريد أن يفعل ما لا يجوز، أو ما يؤدي إلى ديةٍ. وأيضًا: فقد جاء عنه أنه قال: ((من اطَّلع في بيت قومٍ بغير إذنهم فقد حلَّ لهم أن يفقؤوا عينه)) (10) . وأمَّا من زعم: أنه يضمن فمن &(5/26)&$
__________
(1) في (ح) و(ك) و(ف): ((فيخرج)).
(2) في (ح): ((بأنه وانه)).
(3) في (ف): ((بإتلاف)).
(4) في (ح): ((واختلف)).
(5) في (ف): ((فحذفته)).
(6) سيأتي في باب كراهية أن يقول عند الاستئذان، والنهي عن الاطلاع في البيت، وحكم المطلع إن فقئت عينه من كتاب الآداب.
(7) في (ف): ((فقدم)).
(8) في (ح): ((في حجر)).
(9) سيأتي في نفس الموضع السابق.
(10) سيأتي في نفس الموضع السابق.(5/26)
حُجَّته: أنَّه لو نظر إنسان إلى عورة آخر لما أباح ذلك منه فقء عينه، ولما سقط عنه الضمان (1) بالاتفاق. فكذلك هذا (2) . وحملوا قوله: ((لا جناح عليك (3) ))؛ أي: لا إثم. ومنهم (4) من قال: يحمل (5) الحديث على أنَّه رماه بحصاةٍ. ولم يرد فقء (6) عينه، فانتفى عنه الإثم لذلك.
قلت: وهذا تحريف وتبديل، لا تأويل، ولا قياس مع النصوص.
ومن باب القصاص في الجراح
قوله: ((إن أخت الرُّبيِّع أم حارثة جرحت إنسانًا))؛ كذا وقع هذا اللفظ في كتاب =(5/34)=@ مسلم. قال القاضي عياض: المعروف: أن الرَّبيع هي (7) صاحبة القصَّة. وكذا جاء الحديث في البخاري من (8) الروايات الصحيحة: أنها الرَّبيع بنت النضر (9) ، وأخت أنس بن النَّضر، وعمَّة أنس بن مالك. وأن الذى أقسم هو (10) أخوها أنس بن النَّضر، وكذا في المصنفات، وجاء مفسَّرًا عند البخاري (11) وغيره: أنها لطمت جارية، فكسرت ثنيَّتها. ورواية البخاري هذه تدل: على أن الإنسان المجروح المذكور في رواية مسلم هو جارية. فلا يكون فيه حجَّة لمن ظن أنَّه رجل، فاستدلَّ به: على أن القصاص جار بين الذكر والأنثى فيما دون النفس. والصحيح: أن الإنسان ينطلق على الذكر والأنثى وهو من أسماء الأجناس. وهي تعمُّ الذكر والأنثى، كالفرس يعمُّ الذكر والأنثى. والجمهور من السلف، والخلف على جريان القصاص بين الذكر والأنثى، فيقتل الذكر بالأنثى إلا خلافًا شاذًّا (12) عن الحسن وعطاء، وروي ذلك عن علي (13) . وهم محجوجون بقوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} (14) ، فعمَّ، وبأنه قد تقدم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل اليهودي &(5/27)&$
__________
(1) قوله: ((الضمان)) سقط من (أ).
(2) في (ك): ((فهذا أولى بنفي الضمان)) بدل: ((فكذلك هذا)).
(3) في (ك): ((عليه)).
(4) في (ح): ((منه)).
(5) في (أ): ((محمل))، وفي (ح): ((تحمل)).
(6) في (ف): (فقيء)) كذا رسمت.
(7) قوله: ((هي)) سقط من (ك).
(8) في (ك): ((من)) وفوقها: (( في)) ويجوارها ((خ))، وفي (ح): ((في)).
(9) في (أ): ((ابنة)) و(ك) و(ف) (ح).
(10) قوله: ((هو)) سقط من (أ) و(ف).
(11) في "صحيحه" (6894).
(12) في (ح): ((شاذًّا روي)).
(13) في (ح) و(ك): ((علي بن أبي طالب)). تقدم تخريج الأثر في باب القصاص في النفس بالحجر.
(14) ؛ الآية: 45. سورة المائدة.(5/27)
بالجارية (1) . فأمَّا قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} (2) ، إلى آخر (3) الآية (4) ؛ فإنما اقتضت بيان حكم النوع إذا قتل نوعه، فبيَّنت حكم الحرِّ إذا قتل حرًّا، والعبد إذا قتل عبدًا، والأنثى إذا قتلت أنثى. ولم تتعرض لأحد النَّوعين إذا قتل الآخر، لكن بين ذلك بقوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} (5) ، وبيَّنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بسنَّته لما قتل اليهوديَّ بالمرأة. وأمَّا القِصاص بين (6) الرَّجل والمرأة فيما دون النفس: فهو قول الجمهور أيضًا، وخالفهم في ذلك ممن (7) يرى القصاص بينهما في النفس أبو حنيفة، وحمَّاد، فقالا: لا قصاص بينهما فيما دون النفس. وهما محجوجان بإلحاق ما دون النَّفس بالنفس (8) على طريق الأحرى والأولى. وذلك: أنهما قد وافقا الجمهور: على أن الرَّجل يقتل بالمرأة مع عظم حرمة =(5/35)=@ النَّفس. ولا شكَّ: أن حرمة ما دون النفس أهونُ من حرمة النَّفس. فكان القِصاص فيها أحرى وأولى. وفي المسألتين مباحث مستوفاة في علم الخلاف.
وقوله: ((القصاصَ، القصاصَ!)) الرِّواية بنصب القصاص في اللفظين. ولا يجوز غيره. وهو منصوب بفعل مضمر لا يجوز إظهاره. تقديره: ألزمكم القصاص. أو: أقيموا القصاص (9) . غير أن هذا الفعل لا تظهره العرب قطّ؛ لأنهم (10) استغنوا عنه بتكرار اللفظ. كما قالوا: الجدارَ الجدارَ (11) . والصبيَّ، الصبيَّ. ولما فهم أنس بن النضر - على (12) ما ذكر (13) البخاري، أو أمّ (14) الرَّبيع على ما ذكره (15) مسلم - لزوم القصاص؛ عظم عليه أن تكسر ثنية الجانية، فبذلوا الأرش (16) ؛ فلم يرضَ (17) أولياء (18) المجنيِّ عليها به، فكلَّم أهلها في ذلك، فأبَوا، فلما رأى امتناعهم من ذلك، وأن القصاص قد تعيَّن قال: أيُقْتَصُّ من فلانة، والله لا يُقتصُّ منها؟! ثقة منه بفضل الله تعالى، وتعويلاً عليه في كشف تلك الكُرْبة، لا أنه ردَّ حكم الله وعانده، بل هو مُنزَّهٌ عن ذلك لما علم من فضله (19) ، وعظيم قدره، وبشهادة (20) النبي - صلى الله عليه وسلم - له بما له عند الله تعالى من المنزلة. وهذا التأويل أولى من تأويل من قال: إن ذلك القسم كان &(5/28)&$
__________
(1) تقدم تخريج الأثر في باب القصاص في النفس بالحجر.
(2) سورة البقرة؛ الآية: 178.
(3) قوله: ((إلى آخر)) سقط من (ح).
(4) قوله: ((إلى آخر الآية)) سقط من (ح).
(5) سورة المائدة؛ الآية: 45.
(6) في (ح): ((من)).
(7) في (ح): ((من)).
(8) قوله: ((بالنفس)) سقط من (ح) و(ك).
(9) قوله: ((أو أقيموا القصاص)) سقط من (ح).
(10) في (ح): ((إلا أنهم)).
(11) في (ح): ((الحذار الحذار)).
(12) قوله: ((على)) سقط من (أ).
(13) في (ك): ((ذكره)).
(14) في (ح) و(ك): ((أخت)).
(15) في (ح): ((ذكر)).
(16) في (ف): ((الأرض)).
(17) في (ف): ((ترض)).
(18) قوله: ((أولياء)) سقط من (أ) و(ف).
(19) في (ح) و(ك): ((فعله)).
(20) في (ك) و(ف): ((وشهادة)).(5/28)
منه (1) على جهة الرَّغبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو للأولياء؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أنكر ذلك عليه بقوله: ((سبحان الله! كتاب الله القصاص)). ولو كان رَغِبَهُ (2) لما أنكره. وأيضًا: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد سمَّاه قسمًا، وأخبر: أنه قسم (3) على الله، وأن الله تعالى قد أبرَّه فيه لمَّا قال: ((إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرَّه)).
ففيه: العمل بشرع من قبلنا إذا صحَّ عندنا، ولم يثبث في شرعنا ناسخ له. ولا مانع منه (4) . وقد اختلف فى ذلك الفقهاء، والأصوليون. وفي المذهب فيه =(5/36)=@ قولان، ووجه هذا الفقه قوله: ((كتاب الله القصاص))، وليس في كتاب الله القصاص في السِّن إلا في قوله تعالى حكاية عمَّا حكم به في التوراة في قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها} الآية، إلى قوله: {والسِّنَّ بالسِّنِّ} (5) .
وفيه: القصاص في السِّن إذا قُلِعَت أو طُرِحَت (6) . وفي كسرها وكسر عظام الجسد خلاف؛ هل (7) يُقْتَصُّ منها، أو لا؟ فذهب مالك إلى القصاص في ذلك كلِّه إذا أمكنت المماثلة وما (8) لم يكن مخوفًا، كعظم الفخذ، والصُّلب أخذًا بقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما أعتدى عليكم (9) } (10) ، وبقوله: {والسِّنَّ بالسِّنِّ والجروحَ قِصَاص} (11) . وذهب الكوفيون، والليث، والشافعي: إلى أنَّه لا قود في كسر عظم ما خلا السِّن لعدم الثقة بالمماثلة. وفيه ما يدلّ على كرامات الأولياء. =(5/37)=@
ومن باب لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنَّفس بالنَّفس، والتَّارك لدينه المفارق للجماعة))؛ الثيب هنا: هو (12) المحصن. وهو اسم جنس يدخل فيه الذكر والأنثى. وهو حجَّة على ما اتفق المسلمون عليه (13) من أن حكم الزاني المحصن الرَّجم. وسيأتي شروط الإحصان، وبيان أحكام الرَّجم. &(5/29)&$
__________
(1) من قوله: ((من المنزلة....)) إلى هنا سقط من (أ).
(2) في (ك): ((رغبة)).
(3) في (ك): ((أقسم)).
(4) في (أ): ((فيه)).
(5) سورة المائدة؛ الآية: 45.
(6) في (أ): ((طرفت)).
(7) في (ح): ((وهل)).
(8) في (ف): ((ما)) بلا واو.
(9) قوله تعالى : {فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} سقط من (ك).
(10) سورة البقرة؛ الآية: 194.
(11) سورة المائدة؛ الآية: 45.
(12) قوله: ((هو)) سقط من (ح) و(ك).
(13) في (أ) و(ف): ((عليه المسلمون)).(5/29)
وقوله: ((النفس بالنَّفس))؛ موافق لقوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} (1) ، ويعني به: النفوس المتكافئة في الإسلام، والحرِّيَّه؛ بدليل قوله: ((لا يقتل مسلم بكافر))؛ خرَّجه البخاري (2) عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وهو حجَّة للجمهور من الصَّحابة، والتابعين على من خالفهم، وقال: يقتل المسلم بالذمي. وهم أصحاب الرأي، والشَّعبي، والنَّخعي، ولا يصحُّ لهم ما رووه (3) من حديث ربيعة: أن النبي ? قتل يوم خيبر مسلمًا بكافر (4) ؛ لأنَّه =(5/38)=@ منقطع، ومن حديث ابن البيلماني، وهو ضعيف، ولا يصحُّ في الباب إلا حديث البخاري المتقدم.
وأما الحرية فشرط في التكافؤ، فلا يقتل حر بعبد عند مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور (5) . وهو قول الحسن، وعطاء، وعمرو بن دينار، وعمر بن عبد العزيز؛ محتجِّين في ذلك: بأن العبد لما كان مالاً متقوَّمًا كان كسائر الأموال إذا تلفت؛ فإنما يكون فيها قيمة المتلف بالغة ما بلغت، والحرُّ ليس بمال بالاتفاق، فلا يكون كفؤًا للعبد، فلا يقتل به، ويغرم قيمته ولو فاقت (6) على دية الحرِّ، ويجلد القاتل مائة، ويحبس عامًا عند مالك.
وذهبت طائفة أخرى: إلى أنَّه يُقتل به. وإليه ذهب سعيد بن المسيب، والنخعي، والشعبي، وقتادة، والثوري، وأصحاب الرأي؛ محتجين بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم)) (7) ، وذهب النخعي، والثوري في أحد قوليه: إلى أنه يقتل به، وإن كان عبده، محتجين في ذلك بما رواه النسائي (8) من حديث الحسن عن سمرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قتل عبده قتلناه، ومن جدعه جدعناه، ومن أخصاه أخصيناه (9) )). قال البخاري عن علي بن المديني: سماع الحسن من سمرة صحيح. وأخذ بهذا الحديث. وقال &(5/30)&$
__________
(1) سورة المائدة؛ الآية: 45.
(2) أخرجه الطيالسي (92)، والشافعي (2/104)، وعبدالرزاق (18508)، والحميدي (40)، وابن أبي شيبة (5/409)، وأحمد (599)، والدارمي (2356)، والبخاري (111 و3047 و6903 و6915)، وابن ماجه (2658)، والترمذي (1412)، والنسائي (4758)، وابن الجارود (794)، وأبو يعلى (451)، والطحاوي: "شرح المعاني" (2/192. جميعهم من حديث مُطَرِّف، عن الشعبي، عن أبي جحيفة، عن علي - رضي الله عنه -.
وهذاالحديث ضمن حديث الصحيفة المشهور عن علي - رضي الله عنه -، وقد رواه عن عليّ جماعة من التابعين، فكلّ منهم يروي ما تحمله دون الآخر. انظر "فتح الباري" (1/205).
(3) في (ف): ((ما رووا)).
(4) رواه الشافعي في "الأم" (7/320) قال: قال محمد - يعني ابن الحسن-.
ورواه البيهقي (8/30) من طريق يحيى بن آدم. كلاهما محمد بن الحسن، ويحيى بن آدم، عن إبراهيم بن أبي يحيى، عن محمد بن المنكدر، عن عبدالرحمن بن البيلماني: أن رجلاً من المسلمين قتل رجلاً من أهل الكتاب، فرفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((أنا أحق من وفي بذمته))، ثم أمر به فقتل. وهذا مرسل.
ورواه الدارقطني (3/134)، والبيهقي (8/30) من طريق عمار بن مطر الرهاوي، عن إبراهيم بن محمد الأسلمي، عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن، عن ابن البيلماني، عن ابن عمر، فذكره مرفوعًا موصولاً.
قال الدارقطني (3/135): ((لم يسنده غير إبراهيم بن أبي يحيى، وهو متروك الحديث)).
وقال البيهقي (8/30): ((هذا خطأ من وجهين: أحدهما: وصله بذكر ابن عمر فيه؛ وإنما هو عن ابن البيلماني، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، والآخر: روايته عن إبراهيم عن ربيعة؛ وإنما يرويه إبراهيم، عن ابن المنكدر، والحمل فيه على عمار بن مطر الرهاوي، فقد كان يقلب الأسانيد ويسرق الأحاديث، حتى كثر ذلك في رواياته، وسقط عن حد الاحتجاج به)).
ثم ساق البيهقي رواية إبراهيم، عن ابن المنكدر السابقة.
وأما رواية ربيعة، عن ابن البيلماني مرسلاً، فقد رواه عبدالرزاق (10/101 رقم18514)، ومن طريقه الدارقطني (3/135)، والبيهقي (8/31) من طريق الثوري.
ورواه أبو ادود في "المراسيل" (250) من طريق سليمان بن بلال، ورواه الدارقطني (3/135) من طريق حجاج، والبيهقي (8/30) من طريق الدراوردي. أربعتهم - الثوري، وسليمان بن بلال، وحجاج، والدراوردي -، عن ربيعة، عن ابن البيلمان به.
قال الدارقطني (3/135): ((وابن البيلماني ضعيف لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث، فكيف بما يرسله، والله أعلم)).
ثم روى البيهقي (8/31) عن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال: سمعت ابن أبي يحيى يحدثه عن ابن المنكدر، وسمعت أبا يوسف يحدثه عن ربيعة الرأي، كلاهما عن ابن البيلماني، ثم بلغني عن ابن أبي يحيى أنه قال: أنا حدثت ربيعة بهذا الحديث، فإنما دار الحديث على ابن أبي يحيى عن عبدالرحمن بن البيلماني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقاد مسلمًا بمعاهد، وقال: ((أنا أحق من وفي بذمته)). وهذا حديث ليس بمسند، ولا يجعل مثله أمامًا يسفك به دماء المسلمين. انتهىكلام أبو عبيد.
ثم نقل البيهقي عن علي بن المديني أنه قال: حديث ابن البيلماني إنما يدور على ابن أبي يحيى، وليس له وجه حجاج؛ إنما أخذه عنه.
ثم نقل عن صالح بن محمد الحافظ جزرة قال: ((عبدالرحمن بن البيلماني حديثه منكر، وروى عنه ربيعة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل مسلمًا بمعاهد. وهو مرسل منكر.
والحديث بجملته ضعيف، ضعفه الإمام أحمد وأبو عبيد وإبراهيم الحربي والجوزجاني وابن المنذر والدارقطني.
(5) في (ك): ((وأبو ثور)).
(6) في (أ): ((نافت)).
(7) تقدم تخريجه في كتاب الجهاد، باب....
(8) رواه ابن الجعد (984)، وأحمد (5/10 و11 و12)، والدارمي (2358)، وأبو دواد (4/652 رقم4515) كتاب الديات، باب من قتل عبده أو مثل به أيقاد منه. والنسائي (8/26 رقم4753)، وفي "الكبرى" (4/222 رقم6955)، والطبراني في "الكبير" (7/197 رقم6808 و6809) من طريق شعبة. ووراه أحمد (5/11)، والترمذي (4/18 رقم1414) كتاب الديات، باب ما جاء في الرجل يقتل عبده، وفي "العلل" (401)، والنسائي (8/21 رقم4738)، وفي "الكبرى" (4/228 رقم6940)، والطبراني في "الكبير" (7/198 رقم6810) من طريق أبي عوانة.
ورواه أحمد (5/12 و19)، والدارمي (2/191) كتاب الديات، باب القود بين العبد وبين سيده، وأبو دواد (4/654 رقم4517)، وابن ماجه (2/888 رقم2663) كتاب الديات، باب هل يقتل الحر بالعبد؟
والنسائي في "الكبرى" (4/218 رقم6939)، والطبراني في "الكبير" (7/198 رقم6812 و6813 و6814)، والبيهقي (8/35) من طريق سعيد بن أبي عروبة.
ورواه وأبو دواد (4/652 رقم4515)، وابن أبي عاصم في "الديات" (1/30)، والطبراني في "الكبير" (7/198 رقم6810 ) من طريق حماد بن سلمة.
ورواه الطيالسي (905)، وأبو دواد (4/654 رقم4516)، والنسائي (8/20 رقم4736)، و(8/26 رقم4754)، وفي "الكبرى" (4/222 رقم6956)، والروياني (807)، والطبراني في "الكبير" (7/198 رقم6815 و6816)، والبيهقي (8/35)، والبغوي (10/177) من طريق هشام الدستوائي.
ورواه ابن أبي شيبة (5/412 رقم27498) من طريق عبدالرحيم بن سليمان.
ستتهم - شعبة وأبو عوانة، وسعيد، وحماد، وهشام، وعبدالرحيم -، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة به.
ورواه عبدارزاق (9/488 رقم18130) عن معمر وابن أبي شيبة (7/290 رقم36169) عن عبدالرحيم بن سليمان، عن ابن أبي عروبة، كلاهما عن قتادة، عن ابحسن مرسلاً.
وقد اختلف في سماع الحسن من سمرة ،والحسن مدلس، فإذا صرح بالسماع قُبل منه، ولكنه هنا لم يصرح بالسماع، فالحديث ضعيف لأجل ذلك.
(9) في (ك): ((خصيناه)).(5/30)
البخاري: وأنا أذهب إليه. وقال غيره: لم يسمع الحسن من سمرة إلا حديث العقيقة.
وقوله: ((التارك (1) لدينه))؛ يعني (2) به (3) : المرتد؛ الذي قال فيه النبي (4) - صلى الله عليه وسلم - : ((من بدَّل دينه فاقتلوه)) (5) . وهذا الحديث يدل على أن المرتد الذي يقتل هو الذي يبدل دين الإسلام بدين الكفر؛ لأنَّه - صلى الله عليه وسلم - استثناه من قوله: ((لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث))، ثم ذكرهم، وذكر منهم: التارك لدينه. وقد تقدم الكلام في الرِّدَّة، و أحكامها. =(5/39)=@
وقوله: ((المفارق للجماعة))؛ ظاهره: أنَّه أتى به نعتًا جاريًا على التارك لدينه؛ لأنَّه إذا ارتد عن دين الإسلام، فقد خرج عن جماعتهم، غير أنه يلحق بهم في (6) هذا الوصف كل من خرج عن (7) جماعة المسلمين، وإن لم يكن مرتدًّا، كالخوارج، وأهل البدع إذا منعوا (8) أنفسهم من إقامة الحدِّ (9) عليهم، وقاتلوا عليه، وأهل البغي، والمحاربون، ومن أشبههم؛ فيتناولهم لفظ ((المفارق للجماعة)) بحكم العموم، وإن لم يكن كذلك (10) لم يصحّ الحصر المذكور في أول الحديث الذي قال: ((لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث))، فلو كان قوله (11) :(( المفارق للجماعة)) إنما يعني به: المفارقة بالرِّدَّة فقط لبقي من (12) ذكرناه من المفارقين للجماعة بغير الردة لم يدخلوا في الحديث، ودماؤهم حلال بالاتفاق، وحينئذ لا يصحُّ الحصر، ولا يصدق، وكلام الشارع مُنَزَّهٌ عن ذلك؛ فدلَّ على أن ذلك الوصف يعم جميع (13) ذلك النوع، والله تعالى أعلم. وتحقيقه: أنَّ كلَّ من فارق الجماعة يصدق عليه: أنه بدَّل دينه، غير أن المرتدَّ بدَّل كلَّ الدِّين، وغيره من المفارقين (14) بدَّل بعضه.
وقوله: ((لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها))؛ يدخل فيه بحكم عمومه نفس الذمِّي، والمعاهد إذا قتلا ظلمًا؛ لأنَّ ((نفسًا)) نكرة في سياق النفي، فهي للعموم.
و((الكفل)): الجزء والنصيب، كما قال تعالى: {ومن =(5/40)=@ &(5/31)&$
__________
(1) في (ف): ((والتارك)).
(2) أشير لها وكتب: كذا في (أ).
(3) قوله: (به)) سقط من (ف).
(4) قوله: ((النبي)) ليس في (أ).
(5) تقدم تخريجه في أول باب القصاص من حديث ابن عباس.
(6) في(ح): ((ظاهره أنه يقتل في))، وفي (ك): ((يدخل في)) بدل: ((غير أنه يلحق بهم في)).
(7) في (ف): ((على)) بدل ((عن)).
(8) في (ح): ((امتنعوا)).
(9) في (ح) و(ك): ((الحق)).
(10) في (أ) و(ح): ((ذلك)).
(11) قوله: ((قوله)) سقط من (ح).
(12) في (أ): ((ما)).
(13) أشير لها بسهم وكتب: كذا في (أ).
(14) في (أ) و(ف): ((والمفارق)) بدل ((وغيره من المفارقين)).(5/31)
يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها} (1) ؛ أي: نصيب. وقال الخليل: الكفل من الأجر والإثم: الضعف.
وقوله: ((لأنَّه أول من سنَّ القتل))؛ نصٌّ على تعليل ذلك الأمر؛ لأنَّه لما كان أول من قتل كان قتله ذلك تنبيهًا لمن أتى بعده، وتعليمًا له. فمن قتل كأنَّه (2) اقتدى به في ذلك، فكان (3) عليه من وزره. وهذا جار (4) في الخير والشَّرِّ؛ كما قد (5) نصَّ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم بقوله: ((من سنَّ في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة. ومن سن في الإسلام سنه سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)) (6) . وبهذا الاعتبار يكون على إبليس كفل من معصية كل من عصى بالسجود؛ لأنَّه أول من عصى به. وهذا - والله أعلم - ما لم يتب ذلك الفاعل (7) الأول من تلك المعصية؛ لأنَّ آدم عليه السلام أول (8) من خالف في أكل ما نهي عنه، ولا يكون عليه شيء من أوزار من عصى بأكل ما نهي عنه، ولا شربه ممن (9) بعده بالإجماع؛ لأنَّ آدم عليه السلام تاب من ذلك، وتاب الله عليه، فصار كمن (10) لم يجن؛ فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له (11) . والله أعلم.
وابن ادم المذكور هنا هو: قابيل، قتل أخاه هابيل لما تنازعا تزويج أفليمياء (12) ، فأمرهما آدم أن يقربا قربانًا، فمن تقبل منه (13) قربانه؛ كانت له. فتُقُبِّل (14) قربان هابيل، فحسده قابيل، فقتله بغيًا وعدوانًا. هكذا حكاه أهل التفسير (15) . =(5/41)=@
وقوله: ((إن أول ما يقضى بين الناس (16) يوم القيامة في الدِّماء))؛ هذا يدل: على أنه ليس في حقوق الآدميين (17) أعظم من الدماء. ولا تعارض بين هذا وبين قوله ?: ((أول ما يحاسب به العبد من عمله الصلاة)) (18) ؛ لأنَّ كل واحد منهما أول في بابه. فأول ما ينظر فيه من حقوق الله تعالى الصلاة. فإنَّها أعظم قواعد الإسلام العملية. وأول ما ينظر فيه من حقوق (19) الآدميين الدِّماء؛ لأنَّها (20) أعظم الجرائم. وقد تقدم هذا (21) في كتاب الصلاة. &(5/32)&$
__________
(1) سورة النساء؛ الآية: 85.
(2) قوله: ((قتل كأنه)) سقط من (أ).
(3) في (أ): ((كان)).
(4) في (ف): ((جاز)).
(5) قوله: ((قد)) سقط من (ك).
(6) تقدم في باب حث الإمام الناس على الصدقة إذا عنت فاقة، من كتاب الزكاة. وسيأتي في باب ثواب من دعا إلى الهدى أو سنَّ سنَّة حسنة، من كتاب العلم.
(7) في (ك): ((القاتل)).
(8) في (ح) و(ك): ((كان أول)).
(9) في (ف): ((من)) بدل ((ممن)).
(10) في (ح): ((كأن)).
(11) قوله: ((له)) سقط من (ف).
(12) في (ح): ((أفلهيما)).
(13) قوله: ((منه)) سقط من (أ).
(14) في (ح): ((فقبل)).
(15) رواه ابن جرير (10/205 رقم 11714) عن محمد بن حميد قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول.
ورواه أيضًا (10/206 رقم11715) عن موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي فيما ذكر عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(16) قوله: ((الناس)) سقط من (ك).
(17) في (ك): ((الآدمي)).
(18) تقدم تخريجه في اب إثم من بم يخلص في الجهاد وأعمال البر، من كتاب الجهاد.
(19) من قوله: ((الله الصلاة....)) إلى هنا سقط من (أ).
(20) في (أ) و(ف): ((لأنه)).
(21) قوله: ((هذا)) سقط من (ك).(5/32)
ومن باب تحريم الدماء والأموال والأعراض
قوله: ((إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض))؛ اختلف في معنى هذا اللفظ (1) على أقوال كثيرة. وأشبه ما فيها ثلاثة أقوال: =(5/42)=@
أحدها: قاله إياس بن معاوية (2) ، وذلك: أن المشركين كانوا يحسبون السنة (3) اثني عشر شهرًا وخمسة عشر يومًا، فكان الحجُّ يكون (4) في رمضان، وفي ذي القعدة، وفي كل شهر من السَّنة بحكم استدارة الشهر بزيادة الخمسة عشر يومًا، فحجَّ أبو بكر - رضي الله عنه - سنة تسع في ذى القعدة (5) ،(بحكم الاستدارة، ولم يحج النبي - صلى الله عليه وسلم - . فلما كان في (6) العام المقبل وافق الحجّ ذا الحجَّة في العشر، ووافق ذلك الأهلة. وقد روي أن أبا بكر إنما حجَّ في ذي الحجة.
الثاني: روى (7) عن ابن عباس (8) : أنَّه قال: كانوا إذا كانت السنه التي ينسأ فيها، قام خطيبهم وقد اجتمع إليه الناس يوم الصَّدر فقال: أيها الناس! إني قد نسأت العام صفرًا الأول. يعني: الْمُحَرَّم. فيطرحونه من الشهور (9) ، ولا يعتدُّون به (10) . ويبدؤون العدَّة، فيقولون لصفر وشهر ربيع الأول: صفران، ولربيع (11) الآخر وجمادى الأولى (12) : شهر ربيع، ولجمادى الآخرة ورجب: جماديان، ولشعبان: رجب، ولرمضان: شعبان، وهكذا (13) إلى محرَّم (14) . %(2/393)% ويبطلون من هذه السَّنة شهرًا، فيحجون في كل سنة (15) حجتين. ثم ينسأ في السَّنة الثالثة صفرًا الأوّل في عدَّتهم (16) ، وهو الأخير (17) &(5/33)&$
__________
(1) في (ح): ((في هذا المعنى)).
(2) لم أجده من رواية إياس بن معاوية، ولكن وجدته من رواية أبي مالك وهو غزوان الغفاري قال: كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرًا فيجعلون المحرم صفرًا فيستحلون فيه المحرمات، فأنزل الله : {إنما النسيء زيادة في الكفر}.
رواه ابن جرير (14/249 رقم16715) عن سفيان بن وكيع، عن عمران بن عيينة، عن حصين - وهو ابن عبدالرحمن السلمي -، عن أبي مالك به. وهذا إسناد ضعيف: سفيان بن وكيع قال عنه الحافظ في "التقريب" (2469): ((كان صدوقًا إلا أنه ابتلي بوراقه فأدخل عليه ما ليس من حديثه فنصح فلم يقبل فسقط حديثه. وعمران بن عيينة صدوق له أوهام)).
(3) في (ح): ((وفي كل سنة من الشهر)).
(4) في (ك): ((يقع)).
(5) من قوله: ((بحكم الاستدارة....)) إلى هنا سقط من (ح).
(6) قوله: ((في)) سقط من (ح) و(ك).
(7) في (ح): يشبه ((يروى)).
(8) روى الطبري (14/245 رقم 16706): حدثنا المثنى، حدثنا عبدالله بن صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس...، هو: أن جنادة بن عوف بن أمية الكناني كان يوافي الموسم في كل عام، وكان يكنى أبا ثمامة، فينادي: ألا إن أبا ثمامة لا يجاب ولا يعاب، ألا وإن صفر العام الأول حلال، فيحله الناس، فيحرم صفر عامًا ويحرم المحرم عامًا. وعزاهالسيوطي في "الدر المنثور" (4/188) إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
ولكن روى عبدالرزاق في "تفسيره" (2/275)، ومن طريقه ابن جرير (14/248 رقم16713)، ونسبه السيوطي في "الدر" (4/189) إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ من طريق معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بمعنى ما ذكره المؤلف.
(9) في (ف): ((الشهر)).
(10) قوله: ((به)) سقط من (ك).
(11) في (ح): ((وربيع)).
(12) في (ح): ((الأول)).
(13) في (ك) و(ح) و(ف): ((هكذا)) بلا واو.
(14) في (ف): ((المحرم)).
(15) في (ح) و(ف): ((شهر))، وأشار في حاشية (ك) قوله: ((في شهر)).
(16) قوله: ((في عدتهم)) سقط من (ك).
(17) في (ك) و(ح): ((الآخر)).(5/33)
في العدَّة المستقيمة، حتى يكون حجهم (1) في صفر حجتين. وكذلك الشهور كلها حتى يستدير (2) الحجَّ في كل أربع وعشرين سنة إلى المحرم الشهر الذي ابتدؤوا (3) فيه النَّساء. ونحوه قال ابن (4) الزبير، إلا أنه قال: يفعلون ذلك في كل ثلاث سنين، يزيدون شهرًا. قيل (5) : وكانوا يقصدون بذلك موافقة شهور العجم لشهور الأهلة حتى تأتي الأزمان واحدة.
الثالث: قيل (6) : كانت العرب تحجُّ عامين في ذي القعدة، وعامين في ذي الحجة (7) ، فصادفت حجَّة أبي بكر - رضي الله عنه - ذا القعدة من السَّنة الثانية. وصادفت حجَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - ذا الحجة بالاستدارة (8) . =(5/43)=@
والأشبه القول الأول؛ لأنَّه هو الذي استفيد نفيه من قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((إن الزمان قد استدار))؛ أي: زمان الحجِّ عاد إلى وقته الأصلي؛ الذي عينه الله تعالى له يوم خلق السموات والأرض بأصل المشروعية التي سبق بها علمه، ونفذ بها حكمه. ثم قال: ((السَّنة اثنا (9) عشر شهرًا))؛ ينفي بذلك الزيادة التي زادوها في السنَّة؛ وهي الخمسة عشر يومًا بتحكمهم (10) . ثمَّ هذا موافق لقوله تعالى: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا فى كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم} (11) ، فتعيَّن الوقت الأصلي، وبطل التحكُّم الجهليّ. والحمد لله (12) .
قلت: وهذه أقوال سلف هذه الأمَّة، وعلماء أهل السُّنة، وقد تكلَّم على هذا الحديث بعض من يدَّعي علم التعديل بقولٍ صدر عنه من غير تحقيق ولا تحصيل، فقال: إن الله سبحانه أول ما خلق الشمس (13) أجراها في %(2/394)% برج الحمل، وكان الزمان الذي أشار إليه (14) النبي - صلى الله عليه وسلم - صادف حلول الشمس في برج الحمل (15) .
قلت: وهذا تقوُّل بما لم يصحّ نقله؛ إذ مقتضى قوله: إن الله تعالى خلق البروج قبل الشمس، وأنه أجراها في أول برج الحمل. وهذا لا (16) يتوصل (17) إليه إلا بالنقل (18) عن الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم (19) - ولا نقل (20) صحيحًا (21) عنهم بشيء &(5/34)&$
__________
(1) في (ح) و(ك): ((حتى تكون حجتهم)).
(2) في (أ): ((يستديم)).
(3) في (ف): ((ابتدأ)).
(4) في (أ): ((الزبير)).
(5) في (ف): ((قبل)).
(6) في (ف): ((قبل)).
(7) في (ح): ((في الحجة)).
(8) رواه ابن جرير الطبري (14/248 رقم 16714) عن محمد بن عبدالأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد به. وهذا إسناد صحيح.
(9) في (ف): ((اثني)).
(10) في (ف): ((بتحكيمهم)).
(11) سورة التوبة؛ الآية: 36.
(12) في (ك): ((ولله الحمد))، وفي (ح): ((والحمد لله الولي)).
(13) في (ح): ((خلق الله الشمس)).
(14) في (أ) و(ح) و(ف): 0(به)) بدل ((إليه)).
(15) قال المازري كما في "إكمال المعلم" (5/480) وقد وقفت للخوارزمي على تأويل لهذا الحديث، غرَّه فيه ما قد سُبق إليه من علم التخيم، فقال: فذكره.
(16) في (ح): يشبه ((وهو الا)) بدل ((وهذا لا)).
(17) في (ح): ((يوصل)).
(18) في (ف): ((بالنفل)).
(19) في (أ): ((الأنبياء عليهم السلام)).
(20) في (ف): ((نقلاً)).
(21) في (ح): ((صحيح)).(5/34)
من ذلك. ومن ادَّعاه فليُسْنده. ثمَّ: إن العقل يجوز خلاف ما قال. وهو: أن يخلق (1) الله تعالى الشمس قبل البروج. ويجوز أن يخلق كل (2) ذلك دفعة واحدة. ثم إن علماء التعديل قد اختبروا كلام ذلك الرجل فوجدوه خطأ صراحًا؛ لأنَّهم اعتبروا بحساب التعديل اليوم الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) ذلك القول، فوجدوا الشمس فيه في برج الحوت بينها (4) وبين الحمل عشرون درجة. ومنهم من قال: عشر درجات، والله تعالى أعلم (5) .
وقوله: ((منها أربعة حرم))؛ أي: من الاثني (6) عشر شهرًا، وأولها (7) المحرم. =(5/44)=@ سُمي بذلك: لتحريم القتال فيه. ثمَّ صفر. سُمي بذلك: لخلوِّ مكة من أهلها فيه. وقيل: وقع فيه وباءٌ فاصفرَّت وجوههم. أبو عبيد (8) : لصفر (9) الأواني من اللَّبن. ثم الربيعان: لارتباع (10) الناس فيهما؛ أي: لإقامتهم في الربيع. ثم جماديان، وسُميا (11) بذلك: لأن الماء جمد فيهما. ثم رجب، وسُمي (12) بذلك: لترجيب العرب إياه؛ أي: لتعظيمهم له، أو لأنَّه (13) لا قتال فيه. والأرجب: الأقطع. ثم شعبان. وسُمي بذلك: لتشعب القبائل فيه. ثم رمضان. وسمي بذلك: لشدَّة الرمضاء فيه. ثم شوَّال. وسُمي بذلك: لأن اللقاح تشول فيه أذنابها. ثم ذو القعدة، سُمي (14) بذلك لقعودهم فيه عن الحرب. ثم ذو الحجَّة، وسمي بذلك: لأن الحجَّ فيه. ويجوز في ((فاء)): ذي القعدة وذي الحجَّة الفتح والكسر، غير أن %(2/395)% الفتح في ((القعدة (15) )) أفصح.
وسميت الْحُرُم (16) حرمًا: لاحترامها وتعظيمها بما خصَّت به (17) من أفعال البر، وتحريم (18) القتال، وتشديد أمر البغي والظلم فيها (19) . وذلك: أن العرب كانت في غالب أحوالها، ومعظم أوقاتها قبل مجيء الإسلام أهل غارة، ونهب، وقتال، وحرب، يأكل القوي الضعيف، ويصول على المشروف الشريف، لا يرجعون لسلطان قاهر، ولا لأمر (20) جامع، وكانوا فوضى فضا (21) ، من غلب سلب، ومن عز بزَّ، لا يأمن لهم سِرب، ولا يستقر لهم (22) حال. فلطف الله تعالى بهم أن جعل (23) في نفوسهم احترام أمور يمتنعون فيها من الغارة، والقتال، والبغي، والظلم، فيأمن بها (24) بعضهم من بعض، ويتصرَّفون فيها في &(5/35)&$
__________
(1) في (ف): يشبه ((لخلق)).
(2) قوله: ((كل)) سقط من (ح) و(ك).
(3) في (أ) و(ف): ((قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه)).
(4) في (ف): ((بينهما)).
(5) ألحق ناسخ (ف) في الهامش: ((قال شيخنا المنذري لو كان الأمر كما قال من حلول الشمس الحمل يوم النحر سنة عشر لم يكن فيه فائدة وليس بمهم أن يذكر فيه فائدة وليس بمهم أن يذكر في خطبته أن الشمس قد حلت الحمل؛ لن ذلك لا يفيد حكمًا ولا يليق به أن يترك ما هو المهم من تعليم الأحكام إلى مثل هذا. وأما مطابقة ذي الحجة في النسيء لذي الحجة الذي وصفه الله يوم خلق السموات والأرض ففيه فائدة التعليق بالحكم وهو أن ذي الحجة الذي وضعه الله تعالى متعين لإفاضة الحج فيه وقد قيل إنهم كانوا ينسئون سنتين بسنتين ولما حج أبو بكر سنة تسع وقع في ذي الحجة أيضًا. وكتب صح.
(6) في (أ): ((اثنى)).
(7) في (ك): ((أولها)) بلا واو.
(8) في (أ) و(ف): ((أبو عبيدة)).
(9) في (ح): ((بصفر)).
(10) في (أ): ((لاتباع)).
(11) في (ح): ((فسميا)).
(12) في (ح): ((سمي)).
(13) في (ك): ((ولأنه)).
(14) في (أ): ((وسمّي)) و(ك).
(15) في (ح) و(ك): ((ذي القعدة)).
(16) في (ف): ((المحرم)).
(17) في (أ): ((فيه)).
(18) في (ح): ((تحرم)).
(19) قوله: ((فيها)) سقط من (أ) و(ف).
(20) في (ح) و(ك): ((أمر)).
(21) في (ك): ((فضي)) وفي (ح): ((فضاض غلب)) وتراجع.
(22) في (ح): ((بهم))، وفي (ف): ((ولا نستقر بهم)).
(23) في (ح) و(ك): ((بأن جعل)).
(24) قوله: ((بها)) سقط من (ح).(5/35)
حوائجهم، ومصالحهم، فلا يهيج فيها أحدٌ أحدًا (1) ، ولا يتعرَّض له، حتى إن الرَّجل يلتقي فيها بقاتل (2) أبيه وأخيه فلا يتعرض له بشيء، ولا بغدر (3) ؛ بما جعل الله تعالى في قلوبهم من تعظيم تلك الأمور. ولا يبعد أن يكون أصل ذلك مشروعًا لهم من دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام (4) ؛ كالحجِّ، والعمرة، وغيرهما مما كان عندهم من شرائعهما. =(5/45)=@
وهذه الأمور من الزمان: الأشهر الحرم. ومن المكان: حرم مكة. ومن الأموال: الهدى والقلائد. ويشهد لما ذكرناه قوله تعالى: {يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه كبير} (5) ، وقوله تعالى: {منها أربعة حُرُم} (6) ، ثم قال: {ذلك الدِّين القيّم} (7) ، وقوله تعالى في الحرم: {ومن %(2/396)% دخله كان آمنًا} (8) ، وقوله: {أولم يروا أنَّا جعلنا حرمًا آمنًا ويتخطف الناس من حولهم} (9) ، وقوله: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنًا} (10) ، وقوله تعالى: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد} (11) ، ومعنى كون هذه الأمور قيامًا للناس؛ أي: تقوم بها أحوالهم، وتنتظم بها مصالحهم من أمر أديانهم ومعايشهم (12) . هذا معنى ما قاله المفسرون. فلما جاء الإسلام لم يزد (13) تلك الأمور إلا تعظيمًا وتشريفًا، غير أنه لما حدَّ الحدود، وشرع الشرائع، ونصب العقوبات والزواجر؛ اتفقت كلمة المسلمين، والتزمت شرائع الدين، فأمن الناس على دمائهم ونفوسهم، وأموالهم، فامتنع أهل الظلم من ظلمهم، وكف أهل البغي عن بغيهم، واستوى في الحق القويّ والضعيف، والمشروف والشريف. فمن صدر عنه بغي، أو عدوان قمعته (14) كلمة الإسلام، وأقيمت عليه الأحكام، فحينئذ لا يعيده (15) شيء من تلك المحرَّمات، ولا يحول بينه وبين حكم الله تعالى أحدٌ من المخلوقات. فالحمد لله الذي هدانا لهذا الدِّين القويم، والمنهج المستقيم. وهو المسؤول بأن ينعم علينا بالدَّوام، والتَّمام، ويحشرنا (16) في زمرة واسطة النظام محمد (17) عليه الصلاة والسلام.
والْهَدْي: ما يُهدى من الأنعام إلى البيت الحرام (18) والقلائد؛ يعني به (19) : ما &(5/36)&$
__________
(1) في (ف): ((أحد على أحد)).
(2) في (ح): ((قاتل)).
(3) في (أ): ((يقدر))، وفي (ح): ((بقدر)). تراجع النسخ، وفي (ك) و(ف): ((ولا يقدر)).
(4) أشير لها بسهم وكتب: كذا في (ح): ((الصلاة والسلام)).
(5) سورة البقرة؛ الآية: 217.
(6) سورة التوبة؛ الآية: 36.
(7) سورة التوبة؛ الآية: 36.
(8) سورة آل عمران؛ الآية: 97.
(9) سورة العنكبوت؛ الآية: 67.
(10) سورة البقرة؛ الآية: 125.
(11) سورة المائدة؛ الآية: 97.
(12) في (أ) و(ف) و(ح): ((ومعاشهم)).
(13) في (ف): ((تزد)).
(14) في (ك): ((فمنعته)).
(15) في (أ): ((يعيده)).
(16) في (ح): ((وأن يحشرنا)).
(17) في (أ): ((بمحمد)) وقوله: ((محمد عليه الصلاة والسلام)) سقط من (ح).
(18) في (أ): ((ما يهدى إلى مكة من الأنعام)).
(19) قوله: ((يعني به)) سقط من (ح).(5/36)
تُقلَّدُ به الهدايا، وذلك بأن (1) يجعل في عنق البعير حبل يُعلَّق فيه (2) نعل، كما تقدَّم في %(2/397)% كتاب الحج. ويعني بذلك: أن الهدي مهما أُشعر وقُلِّد لم يجز لأحد أن يتملَّكه، ولا أن يأخذه إن وجده. بل يجب عليه (3) أن يحمله إلى مكة إن أمكنه ذلك حتى يُنْحَر هناك على ما تقدَّم. =(5/46)=@
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((ثلاثة (4) متواليات))؛ أي: يتلو بعضها بعضًا، كما قد قال في الرواية ا لأخرى: ((ثلاثة (5) سردٌ، وواحدٌ فرد)).
وقوله: ((رجب مُضَر الذي بين جمادى وشعبان))؛ هذه مبالغةٌ في تعيين هذا الشهر ليتميَّز (6) عمَّا كانوا يتحكَّمون به من النَّساء، ومن تغيير (7) أسماء الشهور. وقد تقدَّم: أنهم كانوا يسقطون من السَّنة شهرًا وينقلون اسم الشهر للَّذي (8) بعده، حتى سَمُّوا شعبان رجبًا. ونسبة هذا الشهر لِمُضَر: إما لأنهم أول من عظمه، أو: لأنهم (9) كانوا أكثر العرب له تعظيمًا، واشتهر (10) ذلك حتى عرف بهم (11) .
وقوله: ((أيُّ شهر هذا؟)) و: ((أيُّ بلد هذا؟)) و: ((أيُّ يوم هذا؟)) وسكوته بعد كل واحد منها؛ كان ذلك منه (12) استحضارًا لفهومهم (13) ، وتنبيهًا لغفلتهم، وتنويهًا بما يذكره لهم؛ حتى يُقبلوا عليه بكليتهم، ويستشعروا عظمة حرمة ما عنه يخبرهم. ولذلك قال بعد هذا: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، %(2/398)% في شهركم هذا)). وهذا منه - صلى الله عليه وسلم - مبالغة في بيان تحريم هذه الأشياء، وإغياءٌ (14) في التنفير عن الوقوع فيها؛ لأنَّهم كانوا قد اعتادوا فعلها، واعتقدوا حليتها، كما تقدَّم من (15) بيان أحوالهم، وقبح أفعالهم (16) . =(5/47)=@
وقوله: ((وسَتَلْقُون (17) ربكم فيسألكم (18) عن أعمالكم))؛ أي: ستوقفون (19) في موقف (20) العرض موقف من لقي (21) فحبس حتَّى تعرض عليه أعماله، فيسأل عنها، وهذا إخبارٌ بمقام عظيم، وأمر هائل، لا يُقْدَرُ قدرُه (22) ، ولا يتصور هوله، أصبح الناس عن التذكر فيه معرضين، وعن الاستعداد له متشاغلين. فالأمر كما قال (23) في كتابه &(5/37)&$
__________
(1) في (ف): ((أنه)).
(2) في (ح): ((به)).
(3) قوله: ((عليه)) سقط من (ح).
(4) في (ك) و(ح): ((ثلاث)).
(5) في (أ) و(ف): ((ثلاث)).
(6) في (ك): ((أسماء الشهور لتتميز)).
(7) في (ح): ((تغير)).
(8) في (ف): ((الذي)) بدل ((للذي)).
(9) في (أ): ((أنهم)).
(10) في (أ): ((واستمر)).
(11) ألحق ناسخ (ف) في الهامش: ((وقيل لأن ربيعة كانت تجعل رجبًا رمضان وتبقيه مضر على حاله فهذا إضافته إليهم)) وكتب صح و؟؟؟.
(12) قوله: ((منه)) سقط من (ف).
(13) في (ف): ((لفهومهم)) كذا رسمت.
(14) في (أ): ((وإعياء)).
(15) في (ح) و(ك): ((في)).
(16) في (ك): ((فعالهم)).
(17) في (أ): ((ستلقون)) بلا واو.
(18) في (أ): ((فيسلكم)).
(19) في (ك): ((ستقفون)).
(20) قوله: ((موقف)) سقط من (ح) و(ك).
(21) في (ف): ((ألقي)).
(22) في (ك): ((لا يقدر على رده)).
(23) في (ح): ((قاله)).(5/37)
المكنون: {قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون} (1) . فنسأل الله تعالى من فضله أن يوقظنا من رقدتنا، وينبهنا من غفلتنا، وبجعلنا ممن استعدَّ للقائه، وكُفِي فواجِىءَ نِقْمَه وبلائه.
وقوله: ((فلا ترجعوا بعدي ضُلالاً - وفي أخرى (2) : كفارًا - يضرب بعضكم رقاب بعض))؛ بهذا وأشباهه كفر الخوارج عليًّا، ومعاوية، وأصحابهما (3) . وهذا إنما صدر عنهم؛ لأنَّهم سمعوا الأحاديث ولم يُحط بها فهمهم (4) ، كما قرؤوا القرآن ولم يجاوز (5) تراقيهم (6) ، فكأنهم (7) ما قرؤوا قول الله تعالى (8) : {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} إلى قوله تعالى (9) : {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} (10) ، فأبقى (11) عليهم (12) اسم الإيمان وأخوّته، مع أنهم قد تقاتلوا، وبغت إحداهما على الأخرى، وقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفرُ ما دون ذلك لمن يشاء} (13) ، والقتل ليس بشرك %(2/399)% بالاتفاق والضرورة. وكأنهم لم يسمعوا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إلا بالحق. فمن وفيّ منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئًا من ذلك فعوقب به فهو كفارةٌ له))، وقد تقدم هذا المعنى في كتاب الايمان (14) . =(5/48)=@
وإنَّما يُحمل الحديث على التشبيه تغليظًا؛ وذلك: أن المسلمين إذا تحاجزوا، وتقاتلوا (15) ؛ فقد ضلَّت الطائفة الباغية منهما، أو (16) كلاهما إن كانتا باغيتين عن الحق، وكفرت حق الأخرى وحرَّمتها. وقد تشبَّهوا بالكفار. وكأنه - صلى الله عليه وسلم - اطَّلع على ما يكون في (17) أمَّته من الْمِحَن والفتن، فحذَّر من ذلك، وغلَّظه بذلاً للنصيحة (18) ، ومبالغة في الشفقة ?.
وقوله: ((ألا ليبلِّغ الشاهد الغائب))؛ أمرٌ بتبليغ العلم، ونشره. وهو فرض من فروض الكفايات.
وقوله: ((فلعل بعض من يبلغه يكون أوعى له ممن سمعه))؛ حجة على &(5/38)&$
__________
(1) سورة ص؛ الآية: 67-68.
(2) قوله: ((ضلالاً وفي أخرى)) سقط من (ح).
(3) في (ف): ((وأصحابه)).
(4) في (أ) و(ف): ((فهومهم)).
(5) أشير لها بسهم وكتب: كذا في (أ).
(6) في (ح): ((تراقهم)).
(7) في (ف): ((كأنهم)).
(8) في (ح): ((عز وجل)).
(9) أشير لها بسهم وكتب: كذا في (أ).
(10) سورة الحجرات؛ الآيتان: 9-10.
(11) في (ف): ((وأبقى)).
(12) في (ح): ((عليه)).
(13) سورة النساء؛ الآيتان: 48، 116.
(14) وسيأتي في باب من أقيم عليه الحد فهو كفارة له من كتاب الحدود.
(15) في (أ): ((تقابلوا)).
(16) في (أ) و(ف): ((و)) بدل ((أو)).
(17) في (ف): ((من)) بدل ((في)).
(18) في (ك): ((منه للنصيحة)).(5/38)
جواز أخذ العلم والحديث عمَّن لا يفقه ما ينقل (1) ؛ إذا أدَّاه كما سمعه. وهذا كما قال - صلى الله عليه وسلم - فيما خرَّجه الترمذي (2) : ((نضَّر الله امرأً سمع منَّا حديثًا فبلَّغه غيره كما سمعه، فربَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه، وربَّ حامل فقه ليس بفقيه)) (3) .
فأمَّا نقل الحديث بالمعنى: فمن جوَّزه إنَّما جوَّزه من الفقيه العالم بمواقع الألفاظ. ومن أهل العلم من منع ذلك (4) مطلقًا. وقد تقدَّم ذلك. %(2/400)%
وفيه حجَّة: على أن المتأخر قد يفهم من الكتاب والسُّنة ما لم يخطر للمتقدم؛ فإن الفهم فضل الله يؤتيه من يشاء. لكن هذا يندر ويقل، فأين البحر من الوَشَل (5) (6) . والعَلُّ من العَلَلِ. ليس التكحُّل في العينين كالكَحَل.
وقوله: ((ألا هل بلَّغت))؛ استفهام على جهة التقرير؛ أي: قد بلغتكم ما =(5/49)=@ أمرت بتبليغه لكم، فلا عُذر لكم (7) ؛ إذ لم يقع مني تقصير في التبليغ. ويحتمل: أن يكون على جهة استعلام ما عندهم، واستنطاقهم بذلك، كما تقدَّم في حديث جابر (8) ، حيث ذكر خطبته - صلى الله عليه وسلم - بعرفة فقال: ((وأنتم تسألون عنِّي، فما أنتم قائلون؟)) قالوا: نشهد: أنك قد بلَّغت، وأدَّيت(، ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء، ويَنْكُبُها (9) إلى الناس (10) : ((اللهم! اشهد - ثلاث مرات -)).
وقوله: ((ثم انكفأ إلى كبشين أملحين فذبحهما))؛ وإلى جُزَيْعَةٍ (11) من الغنم فقسمها بيننا. ((انكفأ)): انقلب ومال. و((الملحة)): أن يكون في الشاة لمعٌ سودٌ، ويكون الغالب البياض. و((الجزيعة)): القطيعة. والجزع: منقطع الوادي. ورواية الكافة: ((جزيعة)) بالزاي. وقد قيَّدها بعضهم: ((جذيعة)) بالذَّال، وهو (12) وَهْمٌ.
قال الدارقطني (13) : قوله: ((ثم انكفأ إلى كبشين...)) الخ، وهم من ابن عون فيما قيل (14) ؛ وإنما رواه ابن سيرين عن أنس. &(5/39)&$
__________
(1) في (ح): يشبه ((ينقل)).
(2) ؟؟؟.
(3) تقدم تخريجه في اب مباني الإسلام من كتاب الإيمان.
(4) في (ح): ((من ذلك)).
(5) ألحق ناسخ (ف) في الهامش: ((الماء القليل أسفل الجبل)).
(6) الوشل: الماء القليل. "النهاية" (5/188).
(7) قوله: ((لكم)) سقط من (ح).
(8) في باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الحج.
(9) في (ك): ((وينكسها)).
(10) في (ح) و(ك): ((إلى الأرض)).
(11) في (أ): ((خزيعة)). والجزيعة القطعة من الغنم. "القاموس :(( جزع)).
(12) في (أ): ((وهي)).
(13) "الإلزانات والتتبع" (ص220-221).
(14) في (ك): ((قيَّد)) وألحق بالهامش ((قيل)).(5/39)
قلت: إنما نسب هذا الوهم لابن عون؛ لأنَّ هذا الحديث قد رواه عن ابن سيرين أيوب السّختياني، وقرَّة بن خالد، وانتهى %(2/401)% حديثهما في خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجَّته (1) يوم النَّحر عند قوله: ((ألا هل بلغت)) في رواية أيوب. وزاد قرَّة إلى هذا: قالوا: نعم. قال: ((اللهم اشهد)). وبعد قوله: ((ألا هل بلغت)) زاد ابن عون عن محمد (2) بن سيرين، عن أبي بكرة: ثم انكفأ إلى كبشين أملحين فذبحهما... الخ. وهذا الكلام إنما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبة عيد الأضحى؛ على ما رواه أيوب وهشام، =(5/50)=@ عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك؛ على ما ذكره مسلم في الضحايا، عنه، قال أنس: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى ثمَّ خطب، فأمر مَنْ كان ذبح قبل الصلاة أن يعيد ذبحًا. قال: وانكفأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى كبشين (3) ، فذبحهما، فقام الناس إلى غنيمة، فتوزعوها. أو قال: فتجزعوها (4) . فكان ابن عون اختلط عليه الحديثان فساقهما مساقًا واحدًا. وأن ذلك كان في خطبة عرفة. وهو وَهْمٌ لا شكَّ فيه.
وقد فهم بعض علمائنا: أن يوم الحج الأكبر يوم النحر من تعظيمه - صلى الله عليه وسلم - ليوم النَّحر بما ذكره في هذا الحديث. وفيه نظر، غير أنَّه قد ورد في بعض روايات البخاري (5) : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أيُّ يوم تعلمونه أعظم؟))، قالوا: يومنا هذا. وهذا حجَّة واضحة على ذلك. وقد ذكرنا الخلاف في ذلك في كتاب الحج. =(5/51)=@ &(5/40)&$
__________
(1) في (ك): ((حجة))، وفي (ح): ((حجة الوداع)).
(2) قوله: ((محمد)) سقط من (ح) و(ك).
(3) في (ك): ((كبشين املحين)).
(4) "صحيح مسلم" (3/1554) كتاب الأضاحي (1962).
(5) البخاري (15/85 رقم6785) الحدود، باب ظهر المؤمن حمى إلا في حد أو حق.(5/40)
%(2/402)%
ومن باب الحث على العفو عن القصاص بعد (1) وجوبه
قوله: ((جاء رجل يقود آخر بنِسعَةٍ))؛ النِّسعة: ما ضفر من الأدم كالحبال. وجمعها (2) : أنساع. فإذا فُتل ولم يُضْفر؛ فهو الجديل. والجدْل: الفَتْل. وفيه من الفقه: العنف على الجاني، وتثقيفه (3) ، وأخذ الناس له حتى يحضروه إلى الإمام، ولو لم يجعل ذلك للناس لفرَّ الجناة، وفاتوا، ولتعذر نصر المظلوم، وتغيير المنكر.
وقوله: ((هذا قتل أخي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أقتلته))؛ فيه من الفقه سماع، دعوى المدَّعي في الدَّم قبل إثبات الموت (4) والولاية. ثم لا يثبت الحكم حتى يثبت كل ذلك. فإن قيل: فقد حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - على القاتل في هذا الحديث من غير إثبات ولاية المدَّعي. فالجواب: إن ذلك كان معلومًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وعند غيره، فاستغنى عن إثباته لشهرة ذلك.
وفيه: استقرار المدَّعى عليه (5) بعد سماع الدعوى لإمكان إقراره، فتسقط وظيفة إقامة البينة عن المدَّعي. كما جرى في هذا الحديث.
وقوله: ((لو لم يعترف أقمت عليه البينة))؛ بيان: أن الأصل في ثبوت الدِّماء الإقرار، أو البيِّنة. وإمَّا القسامة: فعلى خلاف الأصل، كما تقدم؛ وفيه: استقرار المحبوس، والمتهدَّد، وأخذه بإقراره. وقد اختلف في ذلك العلماء، %(2/403)% واضطرب =(5/52)=@ المذهب عندنا في إقراره بعد الحبس والتهديد. هل يُقبل جملة، أو لا يقبل جملة؟ والفرق &(5/41)&$
__________
(1) في (ح): ((من بعد)).
(2) في (أ): ((وجمعه)).
(3) في (أ): ((وتثقيقه))، وفي (ف): ((وتتقيفه)).
(4) في (ح): ((المون)) بدل ((الموت)).
(5) قوله: ((علبه)) سقط من (ف).(5/41)
فيقبل إذا عيَّن ما اعترف به من قتل، أو سرقة، ولا يُقبل إذا لم يعين ثلاثة أقوال (1) .
وقوله: ((كيف قتلته؟)) سؤال استكشاف عن حال القتل (2) ، لامكان أن يكون خطأ، أو عمدًا. ففيه من الفقه: وجوب البحث عن تحقيق الأسباب التي تنبني (3) عليها الأحكام، ولا يكتفى بالإطلاق. وهذا كما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ماعز حين اعترف على نفسه بالزنى (4) على ما يأتي.
وقوله: ((كنت أنا وهو نختبط من شجر (5) ، فسبَّني، فأغضبني، فضربته بالفأس على قرنه فقتلته)). نختبط، نفتعل من الخبط، وهو ضرب الشجرة (6) بالعصا ليقع يابسُ ورقها، فتأكله الماشية. وقرن الرأس: جانبه الأعلى. قال (7) :
وضَرَبْتُ قَرْنِي كَبْشِها فَتَجَدَّلا (8)
وقوله: ((هل لك من شيء تؤدِّيه عن نفسك))؛ يدلّ على أنه ? قد ألزمَه (9) حكم إقراره، وأن قتله كان عمدًا؛ إذ لو كان خطأ لما طالبه بالدِّية، ولطولب بها العاقلة، ويدلُّ على هذا أيضًا قوله: ((أترى قومك يشترونك؟)) لأنه لما استحق أولياء المقتول نفسه بالقتل العمد صاروا كالمالكين له، فلو دفع أولياء القاتل عنه عوضًا فقبله أولياء المقتول لكان %(2/404)% ذلك كالبيع. وهذا كله إنما عرضه =(5/53)=@ النبي - صلى الله عليه وسلم - على القاتل بناء منه: على أنه إذا تيسَّر له ما يؤدي إلى أولياء المقتول سألهم في العفو عنه.
ففيه من الفقه: السعي في الإصلاح بين الناس، وجواز الاستشفاع، وإن رفعت حقوقهم للإمام؛ بخلاف حقوق الله تعالى، فإنَّه لا تجوز الشفاعة فيها (10) إذا بلغت الإمام.
وقوله: ((مالي (11) إلا كسائي وفاسي))؛ فيه ما يدل على (12) أنَّ المال يُقال على كل ما يتموَّل من العروض وغيرها. وأن ذلك ليس مخصوصًا بالإبل ولا بالعين. وقد تقدَّم ذلك.
وقوله: ((فرمى إليه بنِسْعَة (13) وقال: دونك صاحبك))؛ أي: خذه (14) &(5/42)&$
__________
(1) وهي : ... 1 - يقبل جملة. ... ... 2 - لا يقبل جملة.
3 - التفريق بين ما اعترف به وما لم يعترف به.
(2) في (ك): ((القتيل)).
(3) في (أ): ((تُبْنى)) و(ك) و(ف).
(4) سيأتي في باب إقامة الحد على من اعترف على نفسه بالزنى، من كتاب الحدود.
(5) في (ك) و(ح) و(ف): ((شجرة)).
(6) في (ح) و(ف): ((الشجر)).
(7) في (ك): ((قال الشاعر)). والقائل: عنترة بن شداد في "ديوانه" (ص207)، وعجز البيت: وحملتُ مهري وسطها فمضاها
(8) في (ك): ((فتجندلا)).
(9) في (ف): ((لزم))، وفي (ح): ((لزمه)).
(10) في (ح): يشبه ((فها)).
(11) في (أ) و(ح): ((مالي مال)) و(ك).
(12) في (ك): ((فيه من الفقه)).
(13) في (أ): ((إليه النبي ? بنسعته))، و(ك) و(ف) و(ح).
(14) قوله: ((أي خذه)) سقط من (ح).(5/42)
فاصنع (1) به ما شئت. هذا: إنَّما حكم به النبي - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا تحقق السبب، وتعذَّر عليه الإصلاح، وبعد أن عرض على الولي العفو فأبى، كما قاله ابن أشوع، وبعد أن علم: أنه لا مستحِقَّ للدَّم إلا ذلك الطالب خاصة. ولو كان هناك (2) مستحقٌّ آخر لتعيَّن (3) استعلام ما عنده من القصاص أو العفو.
وفيه ما يدلُّ على أن القاتل إذا تحقق عليه السبب، وارتفعت الموانع لا يقتلُه الإمام، بل يدفعه للولي يفعل فيه (4) ما يشاء من قتل، أو عفو، أو حبس، إلى أن يرى رأيه فيه (5) . ولا يسترقَّه بوجه؛ لأنَّ الحرَّ لا يملك. ولا خلاف فيه فيما أعلمه.
وقوله (6) : ((فانطلق به فلمَّا ولى: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن قتله فهو مثله))؛ ظاهره: أنه إن قتله كان عليه من الإثم مثل (7) ما على القاتل الأول. وقد صرَّح بهذا في الرواية الأخرى التي قال فيها: ((القاتل والمقتول في النَّار))، وهذا فيه إشكال عظيم. =(5/54)=@ فإن القاتل الأوَّل قَتَل عمدًا. والثاني يَقْتُلُ قِصَاصًا، %(2/405)% ولذلك: لما سمع الولي ذلك قال: ((يا رسول الله! قلت ذلك؟! وقد أخذته بأمرك)).
فاختلف العلماء في تأويل هذا على أقوال :
الأول: قال الإمام أبو عبدالله المازري: أمثلُ ما قيل فيه: أنَّهما استويا بانتفاء التِّباعةِ عن القاتل بالقِصاص.
قلت: وهذا كلامٌ غير واضح. ويعني به – والله تعالى أعلم -: أن القاتل إذا قَتَل قِصَاصًا لم تَبق (8) عليه تبعة من القتل. والمقتصّ: لا تبعة عليه؛ لأنَّه استوفى حقه، فاستوى الجاني والولي المقتصُّ (9) في أن كل واحد منهما لا تبعة عليه.
الثاني: قال القاضي عياض: معنى قوله: ((فهو مثله))؛ أي: قاتل مثله، وإن اختلفا بالجواز والمنع، لكنهما اشتركا (10) في طاعة الغضب، وشِفَاء النفس، لاسيما مع رغبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في العفو، على ما جاء في الحديث.
قلت: والعجيبُ (11) من هذين الإمامين: كيف قنعا بهذين الخيالين (12) ولم يتأمَّلا &(5/43)&$
__________
(1) في (ف): ((واصنع)).
(2) في (ف) و(ح): ((هنالك)).
(3) في (ف): ((لتعيين)).
(4) في (ح): ((به)).
(5) قوله: ((فيه)) سقط من (ح).
(6) في (أ): ((قوله)) بلا واو.
(7) قوله: ((مثل)) سقط من (ح). وفي موضعه إشارة لحق، ولم يظهر شيء في التصوير.
(8) في (ك) و(ف): ((يبق)).
(9) قوله: ((المقتص)) سقط من (ك).
(10) في (ح): يشبه ((اشركا)).
(11) في (ك) و(ح) و(ف): ((والعجب)).
(12) في (ح): ((الحالين)).(5/43)
مساق الحديث، وكأنهما لم يسمعا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - حين انطلق به (1) يجرُّه ليقتله: ((القاتل والمقتول في النار)). وهذه الرواية مفسِّرة لقوله في الرواية المتقدمة: ((إن قَتَلَه فهو مِثْلُه))؛ لأنها ذُكِرت بدلاً منها، فعلى مقتضى قوله: ((فهو مثله))؛ أي: هو في النار مثله (2) ، ومن هنا عظم الإشكال. ولا يلتفت لقول من قال: إن ذلك إنما قاله (3) - صلى الله عليه وسلم - للولي لِمَا عَلِمَه منه من معصية يستحق بها دخول النار؛ لأنَّ تلك المعصية المقدرة (4) ، إما أن يكون لها مدخل في هذه القصَّة، أو لا مدخل لها فيها. فإن كان =(5/55)=@ الأول فينبغي لنا أن نبحث عنها حتى نتبيَّنها (5) ونعرف وجه مناسبتها لهذا الوعيد الشديد. وإن لم يكن لها مدخل في تلك القِصَّة لم يلق بحكمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا ببلاغته، ولا ببيانه أن يذكر وعيدًا شديدًا في قضية ذات أحوال وأوصاف متعددة، ويقرن ذلك الوعيد بتلك القصَّة، وهو يريد أن ذلك الوعيد إنَّما هو لأجل شيء لم %(2/406)% يذكره هو، ولا جرى له ذكر من غيره. ثمَّ إن المقول له ذلك قد فهم: أن ذلك إنما كان لأمر جرى في تلك القصة، ولذلك قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : تقول ذلك، وقد أخذته بأمرك؟! ولو كان كما قاله هذا القائل؛ لقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : إنَّما قلت ذلك للمعصية التي فعلت، أو: للحالة (6) التي أنت عليها، لا لهذا، ولما كان يسكت عن ذلك، ولبادر لبيانه في تلك الحال؛ لأنَّ الحاجة له داعية، والنصيحة والبيان واجبان عليه - صلى الله عليه وسلم - . والله تعالى أعلم.
الثالث: أن أبا داود (7) روى هذا الحديث من طريق أبي هريرة وقال فيه: قتل رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفع ذلك (8) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فدفعه إلى ولي المقتول. فقال القاتلُ: يا رسول الله! والله (9) ما أردت قتله! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للولي (10) : ((أما إنَّه إن كان صادقًا ثمَّ قتلته دخلت النار))؛ فحاصله: أن هذا المعترف بالقتل زعم أنه لم يرد قتله، وحلف عليه، فكان القتل خطأ، فكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خاف أن يكون القاتل صدق فيما حلف عليه، وأن القاتل يعلم ذلك؛ لكن سلمه له (11) بحكم إقراره &(5/44)&$
__________
(1) قوله: ((به)) سقط من (أ).
(2) من قوله: ((لأنها ذكرت...)) إلى هنا سقط من (ح).
(3) في (ف) و(ح): ((قاله النبي ?)).
(4) قوله: ((المقدرة)) سقط من (ح).
(5) في (ك): ((نثبتها))، وفي (ف): ((نبينها)).
(6) في (ح): ((الحالة)).
(7) رواه أبو داود (4/637 رقم4498) كتاب الديات، باب الإمام يأمر بالعفو في الدم، وابن ماجه (2/897 رقم2690) في الديات، باب العفو عن القاتل، والترمذي (4/15 رقم1407) في الديات، باب ما جاء في حكم القتيل في القصاص والعفو، والنسائي (8/13 رقم4722) كتاب القسامة، باب القود، وابن أبي شيبة في "المصنف" (5/463 رقم27998)، وابن أبي عاصم في "الديات" (1/49)،وأبو عوانة في "مسنده" (4/107 رقم1193).
كلهممن طريق أبي عوانة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة به.
وهذا إسناد صحيح.
(8) قوله: ((ذلك)) سقط من (ح) و(ك).
(9) قوله: ((الله)) ليس في (أ).
(10) قوله: ((للولي)) سقط من (ف).
(11) في (ك): ((إليه)).(5/44)
بالعمد ولا شاهد يشهد له بالخطأ. ومع (1) ذلك فتوقَّع صدقَهُ، فقال: إن قتلته دخلت النَّار. فكأنه قال: إن كان صادقًا وعلمت أنت صدقه، ثمَّ قتلته فأنت في النار. وهذا - على ما فيه من التكلُّف - يبطله قوله: ((القاتل والمقتول في النار))، فسوَّى بينهما في الوعيد. فلو كان القاتلُ مُخطِئًا لما استحق بذلك النَّار، ولَمَا باء (2) بإثْمِه وإثم صاحبه؛ فإن المخطئ لا يكون آثِمًا، ولا يتحمَّل إثمَ من أخطأ عليه. =(5/56)=@
الرابع: أن أبا داود (3) روى هذا الحديث عن وائل بن حجر، وذكر فيه ما يدلّ: على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد تخليصه فعرض (4) الدِّية، أو العفو على الولي ثلاث مرَّات، والولي في كل ذلك يأبى إلا القتل معرضًا عن شفاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - %(2/407)% وعن حرصه على تخليص الجاني من القتل، وكأن (5) الولي صدر منه جفاء في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث ردَّ متأكد شفاعته، وخالفه في مقصوده. ويظهر هذا من مساق الحديث. وذلك: أن وائل بن حجر قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ جيء برجل قاتل في عنقه (6) نسعة. قال: فدعا ولي (7) المقتول، فقال: ((أتعفو؟))، قال: لا. فقال: ((أتأخذ الدِّية؟)) قال: لا. قال: ((أتقتل؟)) قال: نعم. قال: ((اذهب به))، فلمَّا ولى، قال: ((أتعفو؟)) قال: لا. قال: ((أفتأخذ (8) الدِّية؟)) قال: لا. قال: ((أفتقتل؟)) قال: نعم. قال: ((اذهب به))، فلمَّا كان في الرابعة قال: ((أما إنَّك إن عفوت عنه يبوء بإثمه وإثم صاحبه))، قال: فعفا عنه. فهذا المساق (9) يفهم منه: صحَّة قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - لتخليص ذلك القاتل، وتأكيد (10) شفاعته له في العفو، أو قبول الدِّية. فلمَّا لم يلتفت الولي (11) إلى ذلك كله صدرت منه تلك الأقوال الوعيدية مشروطة باستمراره على لَجَاجه، ومضيه على جفائه. فلما سمع الولي ذلك القول عفا &(5/45)&$
__________
(1) في (ح): ((مع)) بلا واو.
(2) قوله: ((باء)) سقط من (ف).
(3) رواه الدارمي (2/191) كتاب الديات، باب لمن يعفو عن قاتله، وأبو داود (4/638 رقم4499) كتاب الديات، باب الإمام يأمر بالعفو عن الدم ،والنسائي (8/14 رقم4724) كتاب القسامة، باب القود، وفي (8/244 رقم5415) باب إشارة الحاكم على الخصم بالعفو، من طريق عوف الأعرابي، عن حمزة أبي عمرو العائذي، عن علقمة بن وائل، عن أبيه، فذكره بنصه.
ورواه النسائي (8/13 رقم4723) في نفس الباب من طريق إسحاق بن يوسف الأزرق، عن عوف، عن علقمة، لم يذكر حمزة. وعوف ثقة، والرواة عنه ثقات، ويحتمل أن يكون سمعه من حمزة ثم من علقمة.
ورواه النسائي (8/15 رقم4725 و4726) من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن جامع بن مطر، عن علقمة بن وائل، عن أبيه.
وجامع بن مطر: صدوق، فهذا الإسناد حسن إن شاء الله.
وأصل الحديث في مسلم (3/1308 رقم1679-1680) في الحدود، من رواية سماك، وإسماعيل بن سالم، عن علقمة به، ولم يذكر فيه طلب العفو من ولي المقتول.
(4) في (ك): ((يعرض)).
(5) في (ح) و(ك): ((فكأن)).
(6) في (أ): يشبه أن تكون ((عتقه)) وتراجع.
(7) أشير لها بسهم وكتب: كذا في (أ).
(8) في (ف): ((أتأخذ)).
(9) في (ح): ((مساق)).
(10) في (أ) و(ح) و(ف): ((وتأكد)) و(ك).
(11) في (ف): ((النبي)).(5/45)
وأحسن، فقُبِلَ، وأُكرِمَ. وهذا أقرب من تلك التأويلات والله أعلم بالمشكلات. وهذا (1) الذي أشار إليه ابن أشوع حيث قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله أن يعفو فأبى.
تنبيه: إنَّما عظم الإشكال من جهة قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((القاتل والمقتول في النار))، ولما كان ذلك قال بعض العلماء: إن هذا اللفظ أعني (2) : قوله ?: ((القاتل والمقتول في النار))؛ إنما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر، وهو قوله: ((إذا التقى المسلمان =(5/57)=@ بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)) (3) . فوهم بعض الرواة، فضمه إلى هذا الحديث الآخر (4) .
قلت: وهذا فيه بُعد. والله تعالى أعلم.
وقوله: ((أما تريد أن يبوء (5) بإثمك وإثم صاحبك؟)) أي: ينقلب، ويرجع. وأكثر ما يُستعمل: ((باء بكذا (6) )) في الشر. ومنه قوله تعالى: {فباءوا %(2/408)% بغضب على غضب} (7) ، ويعني بذلك - والله تعالى أعلم -: أن المقتول ظلمًا تُغفر له ذنوبه عند قتل القاتل له. والولي يغفر له عند عفوه عن القاتل. فصار ذهاب ذنوبهما بسبب القاتل، فلذلك قيل عنه: إنَّه باء بذنوب كل واحد منهما. هذا أحسن ما قيل فيه. والله تعالى أعلم.
وقوله: ((ألك شيء تؤدِّيه عن نفسك))؛ يفيد: أنَّه لو حضرت الدِّية لدفعت للولي، ولسقط (8) القصاص لكن برضى (9) الولي، ولا يُجبر على أخذها؛ لأنَّ الذي للولي القصاص أو التخيير. وهو حقه، ولا يختلف في هذا. و (10) إنَّما اختلف في إجبار القاتل على إعطاء الدية إذا رضي بها الولي. فذهبت (11) جماعة: إلى إجباره عليها؛ منهم: الشافعي وغيره على ما تقدَّم في كتاب الحجِّ. وقالت طائفة أخرى: لا يجبر (12) عليها، ولا يكون ذلك إلا برضا القاتل والولي، وإليه ذهب الكوفيون. وهو مشهور مذهب مالك. وسبب هذا (13) الخلاف معارضة السُّنة (14) للقرآن. وذلك: أن ظاهر القرآن وجوب القصاص. وذلك (15) قوله تعالى: {كتب عليكم &(5/46)&$
__________
(1) في (ك) و(ف): ((وهو)).
(2) في (ح) و(ك): ((يعني)).
(3) سيأتي في باب الفرار من الفتن، وكسر السلاح فيها وما جاء أن القاتل والمقتول في النار، من كتاب الفتن وأشراط الساعة. برقم (2783).
(4) قوله: ((الآخر)) سقط من (ح).
(5) في (أ): ((تبوء)).
(6) في (أ) و(ف): ((هكذا)).
(7) سورة البقرة؛ الآية: 90.
(8) في (ف): ((ويسقط)).
(9) أشير لها بسهم وكتب: كذا في (أ).
(10) أشير لها بسهم وكتب: كذا في (أ).
(11) في (ك): ((فذهب)).
(12) قوله: ((لا يجبر)) سقط من (ك).
(13) قوله: ((هذا)) سقط من (ح) و(ك).
(14) في (ف): ((للسنة)).
(15) في (ك): ((وهو)).(5/46)
القصاص في القتلى} (1) ، وفي قوله (2) : {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} (3) ، وقد ثبت: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين، =(5/58)=@ بين أن يأخذوا العقل، وبين أن يقتلوا)) (4) ، وهذا نصَّ في التخيير. وبيان الأرجح يستدعي تطويلاً. وبسطه في كتب الخلاف. %(2/409)%
ومن باب دية الخطأ على عاقلة القاتل، وما جاء في دية الجنين
قوله: ((اقتتلت امرأتان من هذيل - وفي أخرى: من بني لحيان (5) -، فرمت (6) إحداهما الأخرى بحجر)). وفي حديث المغيرة: ضربتها بعمود فسطاط (7) . =(5/59)=@ لا تباعد بينهما؛ إذ يحتمل أن تكون (8) جمعت ذلك عليها، فأخبر أحدهما بإحدى ا لآلتين، والثاني بالأخرى. &(5/47)&$
__________
(1) سورة البقرة؛ الآية: 178.
(2) في (ك): ((وقوله)).
(3) سورة المائدة؛ الآية: 45.
(4) تقدم في باب تحريم مكة وصيدها، من كتاب الحج.
(5) من قوله: ((اقتتلت....)) إلى هنا سقط من (أ).
(6) في (ف): ((وقوله فرمت)).
(7) رواه مسلم (3/1310 رقم1682) في نفس هذا الباب من حديث المغيرة، بنفس قصة حديث أبي هريرة.
(8) في (أ): ((يكون)).(5/47)
وقوله: ((فقتلتها وما في بطنها))؛ ظاهر العطف بالفاء: أن القتل وقع عقيب (1) الضرب، وليس كذلك لما رواه سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال (2) : إن رسول الله ? قضى(في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتًا بغرة عبد أو وليدة (3) ، ثمَّ: إن المرأة توفيت (4) ، وهذا نصٌّ في تأخر موتها عن وقت الضرب. وفي هذه الرواية أيضًا: بيان أن الجنين خرج ميتًا. والأولى محتملة لأن (5) يكون خرج، ولأن يكون لم يخرج، لكنه مات، وبينهما فرقان، فإنَّه إذا مات في بطنها ولم يخرج فلا شيء فيه عند كافة العلماء؛ لأنَّه لم تتحقق (6) حياته، ولأنَّه كالعضو منها، ولم ينفصل عنها، فلا شيء فيه. وأجمع أهل العلم: على (7) أن في الجنين الذي يسقط من ضرب أمه حيًّا، ثم يموت؛ الدِّية كاملة في الخطأ وفي (8) العمد بعد القسامة. وقيل: بغير قسامة، لكن اختلفوا فيما به تُعلم (9) حياته. وقد اتفقوا: على أنه إذا استهل صارخًا، أو ارتضع، أو تنفس نفسًا محققًا حيّ، فيه الدِّية كاملة. واختلفوا فيما إذا تحرَّك. فقال %(2/410)% الشافعي، وأبو حنيفة: حركته تدل على حياته. وقال مالك: لا؛ إلا أن يقارنها طول إقامة. وسببه اختلاف شهادة الحركة في الوجود (10) للحياة.
وقوله: ((فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن دية جنينها غرة (11) عبد، أو وليدة)). قضى: حكم وألزم. و((غزة عبد أو وليدة)) روي (12) : ((غرة)) بالتنوين ورفع ((عبدٌ)) على البدل. وروي بغير تنوين وخفض عبد بالإضافة. ومعناهما متقارب (13) وإن اختلف توجيههما النحوي. =(5/60)=@
وقوله: ((أو وليدة)) معطوف على ((عبد)) رفعًا وخفضًا (14) . وأو فيه للتنويع، أو للتخيير، لا للشكِّ. وكذلك فهمه مالك وغيره. ويعني بالوليدة: الأمَة. وقد جاء في بعض ألفاظه: ((أو أمة)) مكان: ((وليدة)). وغرَّة المال: خياره. قال ابن فارس: غرة كل شيء: أكرمه وأنفسه. وقال أبو عمرو (15) : معناه: الأبيض. ولذلك سميت: غرة. فلا يؤخذ فيها أسود. ولذلك: اختار مالك أن تكون من الْحُمر. &(5/48)&$
__________
(1) في (ك): ((عقب)).
(2) قوله: ((قال)) سقط من (ح).
(3) .
(4) أخرجه البخاري(12/252) في الديات رقم (6909)، ومسلم (3/1309) في القسامة رقم (1681)، ولم يذكره في التلخيص، وهو في نفس الباب هنا.
(5) في (ح): ((أن)).
(6) في (ف): ((تعلم به)).
(7) قوله: ((على)) سقط من (ك).
(8) قوله: ((في)) سقط من (ح).
(9) في (ح): ((يحقق)).
(10) كتب فوقها في (ك): ((خ، ب)).
(11) قوله: ((غرة)) سقط من (ح).
(12) في (ف): ((وروي)).
(13) في (ح): ((متفاوت)).
(14) في (ف): ((رفعًا ونصبًا)).
(15) رواه عنه الخطابي في "غريب الحديث" (1/236)، وهو أبو عمرو بن العلاء التميمي المقرئ الأديب ت154هـ، ونقل ابن حجر في "الفتح" (12/249) أن ابن المنذر والخطابي نقلاه أيضًا عن عروة بن الزبير.(5/48)
ومقتضى مذهب مالك: أنَّه مخيَّر بين إعطاء غرة، أو عُشْر دية الأمِّ، من نوع ما يجري بينهم؛ إن كانوا أهل ذهب فخمسون دينارًا، أو أهل ورق فستمائة درهم، أو خمس فرائض من الإبل. وقيل: لا يعطى من الإبل. وعلى هذا في قيمة الغرة الجمهور. وخالف الثوري، وأبو حنيفة، فقالا: الغرة خمسمائة درهم؛ لأنَّ دية أمِّه عندهم (1) خمسة الآف درهم. وعمدة الجمهور في تقويم الغرَّة بما ذكر قضاء الصحابة – رضي الله عنهم - بذلك. وذهب بعض السَّلف؛ منهم: عطاء، ومجاهد، وطاووس (2) : إلى غرة عبد، أو وليدة (3) ، أو فرس. وقال بعضهم: أو بغل. وقال ابن سيرين: عبد (4) ، أو وليدة، أو مائة شاة. ومتمسك هؤلاء ما رواه أبوداود (5) من حديث %(2/411)% أبي هريرة قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجنين بغرة عبد، أو أمة، أو فرس، أو حمار، أو بغل (6) . وفي بعض طرقه: خمسمائة شاة (7) . وهو وهْمٌ. وصوابه: مائة شاة. وفي "مسند الحارث بن أبي أسامة" (8) : في الجنين (9) غرَّة عبد، أو أمة، أو عشر من الإبل، أو مائة شاة. خرَّجه من حديث حمل بن مالك. والصحيح: ما خرَّجه مسلم. وقال داود =(5/61)=@ وأصحابه: كل ما وقع عليه اسم ((غرة)) يجزىء. وأقل سن الغرَّة عند الشافعي سبع سنين في أحد قوليه. وقد شذَّت شرذمة فقالوا: لا شيء في الجنين. وهي محجوجةٌ بكل ما تقدم في الباب، وبإجماع الصحابة على أن فيه حكمًا، وبحديث المغيرة الآتي بعده (10) .
وقوله: ((فطرحت جنينها))، وفي اللفظ الآخر:(( سقط ميتًا)). الجنين (11) : &(5/49)&$
__________
(1) في (ح): ((دية الأم عنده)).
(2) في (أ) و(ف): ((طاووس ومجاهد)).
(3) في (أ): ((أو وليد)).
(4) في (ح): ((عبدًا)).
(5) أخرجه أبو داود (4/4578)، ومن طريقه البيهقي (8/115)، وأخرجه ابن أبي عاصم في "الديات" (1/38)، والنسائي (8/46 رقم4813)، وفي "الكبرى" (4/236 رقم7016)، والروياني (67) من طرق عن عبيدالله بن موسى، عن يوسف بن صهيب الكندي، عن عبدالله بن بريدة، عن أبيه به مرفوعًا.
وأخرجه النسائي (8/47 رقم4814)، وفي "الكبرى" (4/237 رقم7017)، من طريق أبي نعيم الفضل بن دكين، عن يوسف بن صهيب، عن عبدالله بن بريدة به مرسلاً.
قال ابن أبي حاتم في "العلل" (2/291): ((سألت أبي، وذكر هذين الطريقين، فقال أبوه: حديث أبي نعيم أصح مرسل.اهـ.
(6) قوله: ((بغل)) سقط من (ح).
(7) أخرجه أبو داود (4579)، وابن حبان في "صحيحه" (6022)، والدارقطني في "سننه" (3/114)، والطبراني في "الأوسط" (3/212)، و(8/102)، وابن أبي عاصم في "الديات" (1/38)، والبيهقي في "سننه" (8/115) من طرق عن عيسى ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة به.
وخالفه في ذلك جمع من الحفاظ: فأخرجه الترمذي -1410) من طريق أبي زائدة، وابن ماجه (2639) من طريق محمد بن بشر، وأحمد في "المسند" (9655)، وأبو ليلى في "المسند" (5197) من طريق يحيى بن سعيد. وأخرجه أحمد (10467)، والطحاوي في "شرح المعاني" (3/205) من طريق يزيد بن هارون. وأخرجه ابن أبي شيبة (27259) عن عبدالرحمن بن سليمان الكناني، وذكره أبو داود (4/705) عن حماد بن سلمة وخالد بن عبدالله الواسطي.
سبعتهم عن محمد بن عمرو به، ولم يذكروا فيه ((فرس أو بغل))، مما يدل على وهم عيس بن يونس فيه. ولذلك قال الدارقطني في "العلل" (9/294): ((لم يقل أحد من الرواة عن محمد بن عمرو: أو فرس أو بغل؛ إلا عيسى بن يونس)). وكذا قال الطبراني في "الأوسط" (8/103). وقال ابن قدامة في "المغني" (8/216): ((هذا لا يثبت رواه عيسى بن يونس ووهم فيه)). وقال النووي في "شرح مسلم" (11/176): ((رواية باطلة)). وقال الخطابي في "معالم السنن" (4/705): ((يقال: إن عيسى بن يونس قد وهم فيه، وهو قد يغلط أحيانًا فيما يرويه...)).
(8) رواه الحارث بن أبي أسامة كما في "بقية الحارث" (584)، و"زوائد الهيثمي" (2/569رقم523)، وأخرجه الطبراني في "الكبير" (3485)، وابن بشكوال في "غوامض الأسماء" (1/222) من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي المليح: أن حمل بن النابغة كانت له امرأتان، فذكر الحديث، وفيه قصة.
وأخرجه الطبراني في "الكبير" (513) من طريق أسد بن موسى، عن سفيان بن عيينة، عن أيوب قال: سمعت أبا المليح، عن أبيه، وكان صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره بنحوه. قال ابن حجر في "الإصابة" (4/708): ((سنده صحيح)).
وأخرجه ابن مندة كما في "الإصابة" (7/384) من طريق الحسن بن عمارة، عن الحكم ابن عتيبة، عن أبي المليح، عن المغيرة به. قال الحافظ: ((وأبو المليح هذا ممن حضر القصة ،وليس هو أبو المليح بن أسامة التابعي المشهور)).
(9) أشير لها بسهم وكتب: كذا في (أ).
(10) في (أ): ((بعدُ)) و(ك) و(ف) و(ح).
(11) في (ح) و(ك): ((والجنين)).(5/49)
اسم لما يجتنُّ في بطن المرأة من الولد (1) . والمتفق على اعتباره من أحواله أن يزايل أُمَّه وهو تامُّ التصوير والتخطيط.
واختلف فيما قبل ذلك من كونه: علقة، أو مضغة؛ هل يعتبر (2) أم لا؟ فعندنا وعند أبي حنيفة: يعتبر. وعند الشافعي: لا، حتى يتبيَّن شيء من خلقه وتصويره، ولا فرق بين أن يكون ذكرًا، أو أنثى؛ إذ كل واحد منهما يسمَّى جنينًا، وكأن الشرع قصد بمشروعية الغرَّة في الجنين دفع الخصومة والتنازع. كما قد فعل (3) في باب المصرَّاة، حيث قدر فيها الصاع من الطعام رفعًا للتنازع (4) ، وجبرًا للمتلف بما تيسَّر. وقد بالغت الصحابة ( في هذا المعنى، حيث قدَّروا الغرَّة بخمسين دينارًا، أو ستمائة درهم. والله تعالى أعلم. فإن زايل الجنين أمَّه بعد موتها، فهل فيه غرَّة أم لا؟ قولان:
الأول: لربيعة، وا لليث، وا لزهري، وأشهب، وداود. %(2/412)%
والثاني: لمالك، والشافعي، وعامة العلماء. =(5/62)=@
وقوله: ((فقضى فيه بغرَّة، وجعله على أولياء المرأة))؛ يعني: الضاربة. وهذا نصٌّ: في أن الغرة تقوم بها العاقلة. وبه قال الكوفيون، والشافعي. وهو أحد قولي مالك. وقيل: على الجاني. وهو المشهور من قول مالك. وقاله أهل البصرة. واختلفوا: هل تلزمه الكفارة مع الغرَّة أم لا؟ قولان. الأول لمالك.
قلت: وهذه الأحاديثُ كلُّها إنَّما جاءت في جنين واحد كامل، انفصل من حرَّة مسلمة ميتًا. فلو خالف شيئًا من هذه القيود ففيه تفصيل. وذلك (5) يعرف بمسائل :
الأولى: لو ألقت أجنه لكان في كل جنين غرَّة. هذا قول الكافة، ولا يعرف فيه خلاف.
الثانية: لو ألقت بعضه فلا غرَّة فيه. وقال الشافعي: فيه الغرَّة.
الثالثة (6) : لو كان جنين أمة ففيه (7) عشر قيمة أمَّه. هذا قول عامة أهل العلم. وذهب الثوري، والنعمان، وابن الحسن: إلى أن فيه عشر قيمته لو كان حيًّا ذكرًا كان أو أنثى. وذهب الحسن: إلى أن فيه نصف عشر ثمن أمَّه. وذهب سعيد بن المسيب: إلى أن فيه عشرة دنانير. وقال حمَّاد بن أبي سليمان: فيه حُكم. &(5/50)&$
__________
(1) قوله: ((من الولد)) سقط من (ا) و(ح).
(2) في (أ): ((تعتبر)).
(3) في (ك): ((فعل ذلك)).
(4) من قوله: ((كما قد فعل...)) إلى هنا سقط من (ح).
(5) قوله: ((وذلك)) سقط من (ك).
(6) في (أ): ((الثالث)).
(7) قوله: ((ففيه)) سقط من (ف).(5/50)
الرابعة: جنين الكتابية. فيه (1) عشر دية أمَّه، ولا يحفظ فيه خلاف.
الخامسة: من أعتق ما في بطن جارية (2) ، فضربها ضارب، فطرحته، فديته دية المملوك (3) . وهو قول الزهري، والثوري، وأحمد، وإسحاق. %(2/413)%
السادسة: إذا اختلف الجاني والمجني عليه، فقال الجاني: طرحته ميتًا. وقال المجني عليه: بل (4) حيًّا. فالقول قول الجاني. وبه قال الشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي.
السابعة: دية الجنين موروثة على كتاب الله تعالى. وقال الزهري والشافعي (5) : =(5/63)=@ إن كان الضارب هو الأب لم يرث من الغرَّة شيئًا. وقال الليث، وربيعة: هي للأم خاصَّة (6) .
وقول حمل (7) بن النابغة: ((أنغرم من لا شربَ، ولا أكلَ، ولا نطقَ، ولا استهلَ))؛ يدل على أن عاقلة الجاني تحمل الغرَّة كما هو أحد القولين.
وقوله: ((فمثل ذلك يُطَلُّ))؛ رويناه بالياء باثنتين من تحتها، بمعنى: يُهدر ولا يطلب به (8) . ورويناه بالباء بواحدة من تحتها، من البطلان؛ أي: هو ممن ينبغي أن يبطل (9) . والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد؛ أي: هذا لا ينبغي أن يكون فيه شيء.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((إنَّما هذا من إخوان الكهَّان))؛ فسَّره الراوي: بقوله (10) : من أجل (11) سجعه؛ يعني بذلك: أنه تشبَّه بالكهَّان، فسجع كما يسجعون (12) حين يخبرون عن المغيِّبات، كما قد ذكر ابن إسحاق من سجع شقّ وسطيح وغيرهما. وهي عادةٌ مستمرَّة في الكهَّان. وقيل: إنما أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك السَّجع لأنه جاء به في مقابلة حكم الله تعالى مستبعدًا له، ولا يذمُّه من حيث السَّجع؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تكلم بكلام يشبه السجع (13) (14) في غير ما موضع. %(2/414)% وقيل: إنما أنكر عليه تكلّف الإسجاع (15) على طرق الكهَّان وحوشية الأعراب. وليس بسجع فصحاء العرب، ولا على مقاطعها.
قلت: وهذا القول الأخير إنَّما يصحُّ أن يقال على قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((أسجع =(5/64)=@ كسجع الأعراب)) (16) ، لا على قوله: ((إنَّما هذا من إخوان الكهَّان))، فتامله. &(5/51)&$
__________
(1) في (ح): ((وفيه)).
(2) في (ك): ((جاريته)).
(3) في (ف): ((ففيه دية المملوك)).
(4) قوله: ((بل)) سقط من (ح).
(5) في (ح): ((الشافعي والزهري)).
(6) قوله: ((خاصة)) سقط من (أ).
(7) في (أ): ((حميل)).
(8) قوله: ((ولا يطلب به)) سقط من (ح).
(9) كتب في هامش (ف): ((حكمه)) ووضع فوقها (خ).
(10) قوله: ((بقوله)) سقط من (ك).
(11) قوله: ((أجل)) سقط من (أ).
(12) في (أ): ((يشجعون)).
(13) في (أ): ((الشجع)).
(14) من قوله: ((لأن النبي....)) إلى هنا سقط من (أ).
(15) في (ح): ((الإشجاع)).
(16) رواه مسلم (3/1311 رقم1682/38) في نفس هذه القصة من حديث المغيرة ولم يذكره المصنف في "التلخيص".(5/51)
وحَمَل بن النابغة - بفتح الحاء المهملة والميم -. وقال فيه في الرواية الأخرى: حمل بن مالك. وهو هذلي من قبيل القاتلة. ولحيان: فخذ من هذيل، ولذلك صدق أن يقال على القاتلة: أنها هذلية لحيانية (1) . ولحيان يقال بفتح اللام وكسرها.
قلت: وقد ذكر الحديث الحارث بن أبي أسامة عن أبي المليح مرسلاً (2) قال: إن حمل بن مالك (3) كانت له امرأتان: مليكة، وأم عفيف، فحذفت (4) إحداهما الأخرى بحجر فأصابت (5) قبلها، فماتت، وألقت جنينها (6) ميِّتًا، وذكر الحديث كنحو ما تقدم. وعلى هذا فكأن حَمَلٌ زوجَ المقتولة والقاتلة، وعاصبَ القاتلة، ووالدَ الجنين. وحينئذ يكون قوله: أنغرم من لا شربَ ولا أكلَ؛ دليل: على أنه غارم وليس بوارث. فلهذا (7) قال الليث بن سعد، وربيعة: إن الغرَّة للأمّ خاصة. ويحتمل: أن يكون معبِّرا عن العصبة دون نفسه، مستبعدًا للحكم، كما تقدم. والله تعالى أعلم.
وقوله: ((وقضى بدية المرأة على عاقلتها))؛ فيه تلفيف في الضمائر أزالته (8) الرِّواية الأخرى؛ التي قال فيها: ((فجعل دية المقتولة على عصبة القاتلة)).
وقد احتج =(5/65)=@ بظاهر الحديث من رأى: أنه لا يستقاد ممن قتل بمثقل، وإنَّما عليه الدِّية. وهم الحنفية. ولا حجَّة لهم في ذلك لما تقدم: من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - %(2/415)% قد أقاد ممن قتل بحجر، كما تقدم في حديث (9) اليهودي، ولقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم (10) } (11) ، والمماثلة بالمثقَّل ممكنة، ولإمكان كون هذا القتل خطأ أو شبه عمد (12) فاندفع القصاص لذلك (13) ، ولو سلّم: أنه كان عمدًا لكان ذلك برضا العصبة، وأولياء الدَّم (14) لا بالحكم، وكل ذلك محتمل، فلا حجَّة (15) لهم فيه.
وفيه ما يدل: على أن العاقلة تحمل الدِّية. وقد أجمع المسلمون: على أنَّها تحمل دية الخطأ، وما زاد على الثلث. واختلفوا في الثلث. فقال الزهري: الثلث فدونه هو في مال الجاني، ولا تحمله العاقلة. وقال سعيد بن المسيب: الثلث فما زاد على العاقلة، وما دون (16) الثلث في مال الجاني (17) ، وبه قال مالك، وعطاء، وعبدالعزيز بن أبي سلمة. وأمَّا ما دون الثلث فلا تحمله العاقلة عند من ذكر، ولا عند أحمد. وقالت طائفة: عقل الخطأ على عاقلة الجاني؛ قَلَّتْ الجنايةُ أو كثرت. وهو &(5/52)&$
__________
(1) من قوله: ((ولحيان....)) إلى هنا سقط من (أ) و(ف).
(2) تقدم تخريجه قبل قليل.
(3) في (ح): ((النابغة))، وفي (أ): ((حميل بن مالك)).
(4) في (أ) و(ف): ((فقذفت)).
(5) في (أ): ((فأصاب)).
(6) في (ح) و(ك) و(ف): ((جنينًا)).
(7) في (ح) و(ك) و(ف): ((ولهذا)).
(8) في (أ) و(ح) و(ف): ((أزاله)).
(9) قوله: ((في حديث)) ليس في (ك).
(10) قوله: ((بمثل ما اعتدى عليكم)) سقط من (أ) و(ف).
(11) سورة البقرة؛ الآية: 194.
(12) في (ح) و(ك): ((العمد)).
(13) قوله: ((فاندفع القصاص لذلك)) سقط من (ح) و(ك).
(14) في (ف): ((الأم)).
(15) قوله: ((لهم)) سقط من (ح).
(16) في (ك) و(ح): ((وأما دون)).
(17) من قوله: ((ولا تحمله....)) إلى هنا سقط من (ح).(5/52)
قول الشافعي. وقد تقدم القول (1) في الدِّيات وانقسامها. فإن قيل: كيف ألزم العاقلة الدية والقتل عمدٌ؟ والعاقلة لا تعقل (2) عمدًا، ولا صلحًا، ولا اعترافًا.
فالجواب: أن هذا الحديث قد (3) خرَّجه النَّسائي (4) من حديث حَمَل بن مالك. وقال فيه: فقضى (5) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنينها بغرَّة، وأن تقتل بها. وهو طريق صحيح. =(5/66)=@ وهذا نصٌّ: في أنه قضى بالقصاص من القاتلة؛ بخلاف الأحاديث المتقدمة؛ فإن فيها: أنه قضى على العاقلة بالدِّية.
ووجه التلفيق (6) ؛ وبه يحصل الجواب على (7) التحقيق: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى (8) بقتل القاتلة أولاً، ثم إن العصبة، والأولياء اصطلحوا: على أن التزم (9) العصبة الدِّية ويعفو الأولياء. فقضى النبي (10) - صلى الله عليه وسلم - بالدِّية على العصبة لما التزموها (11) . والله تعالى أعلم. %(2/416)%
وقوله: ((وورثها عصبتها ومن معهم))؛ أعاد الضمير الأول على الدِّية، والثاني على المقتولة. وعنى (12) بالعصبة: بنيها (13) ، وبمن (14) معهم من (15) الزوج. ولم يختلف: في أن الزوج يرث هنا من دية زوجته فرضه، وإن كانوا قد اختلفوا فيه: هل يرث من دية الجنين؛ على ما تقدم. والدِّية موروثة (16) على الفرائض سواء كانت عن خطأ، أو عن (17) عمدٍ تعذَّر فيه القود. والذي يبين الحق في هذا الباب حديثان خرَّجهما الترمذي.
أحدهما: عن سعيد بن المسيب. قال: قال عمر (18) : الدِّية على العاقلة، ولا ترث المرأة من زوجها شيئًا (19) . فأخبره الضحَّاك بن (20) سفيان الكلابي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إليه: أن ورث امرأة أشيم الضَّبابي من دية زوجها. وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وثانيهما: عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة (21) : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - =(5/67)=@ قضى في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتًا بغرَّة عبد أو أمة، ثم إن المرأة التي قضى عليها بغرة توفيت، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بأن ميراثها (22) لبنيها وزوجها، وإن عقلها على عصبتها (23) .
ثمَّ حيث وجبت الدِّية على العاقلة؛ فلا تؤخذ منهم حالَّة، بل مُنجَّمة في ثلاث سنين. وهو قول عامَّة أهل العلم من السَّلف والخلف. وتوزع على &(5/54)&$
__________
(1) قوله: ((القول)) سقط من (ح) و(ك).
(2) في (ك) و(ح): ((لا تحمل)).
(3) قوله: ((قد)) سقط من (ح).
(4) إسناده صحيح على شرط الشيخين. لكن قوله: ((وأن تُقتل)) شاذ لم يَرِد في غير هذه الرواية، والمحفوظ أنه قضى بديتها على عاقلة القاتلة، والدارقطني (3/117) من طريق محمد بن بكر وحده، بهذا الإسناد. وسقط من المطبوع: ((عن عمر)). وأخرجه الدارمي (2381)، وأبو داو (4572)، وابن ماجه (2641)، وابن حبان (6021)، والدارقطني (3/115-117)، والبيهقي 8/114) من طريق أبي عاصم، والنسائي (8/21-22) من طريق حجاج بن محمد، كلاهما عن ابن جريج، به. ولم يذكروا فيه شكّ عمرو بن دينار غير البيهقي، فقد قال بعد إيراد الحديث: ((ثم شك فيه عمرو بن دينار، والمحفوظ أنه قضى بديتها على عاقلة القاتلة)). وقال المنذري في "مختصر سنن أبي داود" (6/367): ((وقوله: "وأن تُقتل" لم يذكر في غير هذه الرواية، وقد روي عن عمرو بن دينار أنه شك في قتل المرأة بالمرأة)).
قال الشيخ أحمد شاكر: ((ويظهر أن هذا التشكيك كان له عند عمرو أثره، فروى الحديثَ مرةً أخرى دون هذا الحرف الذي شك فيه)).
قلنا: أخرجه - دون ذكر الأمر بقتل المرأة - عبدالرزاق (18343)، ومن طريقه الطبراني (3482)، والدارقطني (3/117)، والحاكم (3/575) عن سفيان بن عيينة، عن عمروبن دينار، به. وزاد في آخره عند عبد الرزاق والدارقطني قولَ عمر: ((الله أكبر، لو لم نسمع بمثل هذا قضينا بغيره))، وعند الطبراني والحاكم: ((الله أكبر، لو لم نسمع بهذا ما قضينا بغيره))، ورجَّح الحافظ ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" (1/448-449): أن عمرقال: ((لو لم نسمع هذا قضينا بغيره)).
وأخرج أبو داود (4574)، والنسائي (8/51-52)، وابن حبان (6019)، والطبراني (11767)، والبيهقي (8/115)، والخطيب في "الأسماء المبهمة" (ص512-513 و513) من طريق أسباط بن نصر الْهَمْداني، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قصة حَمَل بن مالك، قال: فأسقطت غلامًا قد نَبَتَ شعرُه ميتًا، وماتت المرأة، فقضى على العاقلة الديةَ، فقال عمها: إنها قد أسقطت يا نبيَّ اللهِ غلامًا قد نَبَت شعرُه، فقال أبو القاتلة: إنه كاذب، إنه والله ما استَهَل، ولا شرب، ولا أكل، فمثله يُطَل. فقال النبي ?: ((أسَجْعَ الجاهلية وكهانتَها! أدِّ في الصبي غُرَّة))، قال ابن عباس: كان اسم إحداهما مُلَيكة، والأخرى أم غُطَيْف. واللفظ لأبي داود، وأسباط بن نصر الهمداني ضعيف، ورواية سماك عن عكرمة فيها اضطراب.
وقد روي الحديث مرسلاً من طريق طاووس، فأخرجه الشافعي في "مسنده"، (2/103)، وأبو داود (4573) من طريق سفيان بن عيينة، والنسائي (8/47)، والبيهقي (8/115) من طريق حماد بن زيد، كلاهما عن عمروبن دينار، عن طاووس، عن عمر مرسلاً، لم يذكر فيه ابن عباس، ولم يذكر فيه الأمر بقتل القاتلة. وزاد سفيان في آخر كل روايته: قال عمر: الله أكبر، لو لم نسمع بهذا لقضينا بغير هذا. وأخرجه كذلك الشافعي في "مسنده" (2/103-104)، وفي "الرسالة" (1174)، ومن طريقه البيهقي (8/114) عن سفيان، عن عمرو بن دينار وابن طاووس، عن طاووس، عن عمر بن الخطاب، بنحوه.
وأخرجه عبدالرزاق (18342) عن ابن جريج، عن ابن طاووس، عن طاووس، قال: ذكر لعمر بن الخطاب قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فأرسل إلى زوج المرأتين، فأخبره أنما ضَربت إحدى امرأتيه الأخرى بعمود البيت، فقتلتها وذا بطنِها، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بديتها وغرة في جنينها، فكبر عمر، وقال: إن كِدنا أن نقضي في مثل هذا برأينا. وأخرجه عبد الرزاق (18339)، ومن طريقه الدارقطني (3/117) عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، قال: استشار عمر...، فذكر نحو حديث ابن جريج، عن ابن طاووس. وزاد عليه: فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالدية في المرأة، وفي الجنين بغرة: عبدٍ أو أمة، أو فرس، وزاد في آخر الحديث عند عبدالرزاق: فقال الرجل: يا رسول الله! كيف أعقل من لا أكل ولا شرب، ولا نطق ولا استهل، ومثل هذا يُطَل! وأخرج عبدالرزاق (18344) عن سفيان بن عيينة، عن ابن طاووس، عن أبيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى فيه بغرة: عبدٍ أو أمةٍ أو فرس. قال الحافظ في "الفتح" (12/249): ((ووقع في حديث أبي هريرة من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عنه: قضى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الجنين بغرة: عبدٍ أو أمةٍ أو فرس أو بغل، وكذا وقع عند عبدالرزاق في رواية ابن طاووس، عن أبيه، عن عمر مرسلاً. فقال حمل بن النابغة: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالدية في المرأة وفي الجنين غرة: عبد، أو أمة، أو فرس، وأشار البيهقي إلى أن ذكر الفرس في المرفوع وَهم، وأن ذلك أُدرِجَ من بعض رواته على سبيل التفسير للغرة، وذكر أنه في رواية حماد بن زيد، عن عمروبن دينار، عن طاووس بلفظ: فقضى أن في الجنين غرة، قال طاووس: الفرس غرة.
وكذا أخرج الإسماعيلي من طريق حماد بن زيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: ((الفرس غرة))، وكأنهما رأيا أن الفرسَ أحق بإطلاق لفظ الغرة من الآدمي.....
وفي الباب عن عبدالله بن عمرو، وأبي هريرة، والمغيرة بن شعبة، وعبادة بن الصامت.
(5) في (ح): ((قضى)).
(6) التلفيق: الجمع.
(7) قوله: ((الجواب على)) سقط من (أ).
(8) في (ف) و(ح): ((أنه عليه السلام قضى)).
(9) في (ف): ((الزم)).
(10) في (ح): ((رسول الله)).
(11) في (أ): ((ألزموها)).
(12) في (ح): ((يعني)).
(13) في (ح): ((بالعصبة منها بنيها)).
(14) في (ح): ((ممن)).
(15) قوله: ((من)) سقط من (ح) و(ك) و(ف).
(16) في (ح): ((لموروثة)).
(17) قوله: ((عن)) سقط من (ك).
(18) ؟؟؟.
(19) قوله: ((شيئًا)) سقط من (ك).
(20) في (ف): ((عن)) بدل ((بن)).
(21) أخرجه الشافعي في "مسنده" (409-410)، ومن طريقه البيهقي (8/134)، وأخرجه سعيد بن منصور (295)، وابن أبي شيبة (27541)، ومن طريقه ابن ماجه (2/883 رقم642) كتاب الديات، باب الميراث من الدية، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1496)، والطبراني في "الكبير" (8 رقم8142).
وأخرجه أبو داود (3/339-340 رقم2927) كتاب الفرائض، باب في المرأة ترث من دية زوجها. ومن طريقه البيهقي (8/57).
وأخرجه الترمذي (4/19 رقم1415) كتاب الديات، باب ما جاء في المرأة هل ترث من دية زوجها، والنسائي في "الكبرى" (4/78-79 رقم6363 و6364) كتاب الفرائض، باب توريث المرأة من دية زوجها، والبيهقي (8/134) كلهم من طريق سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عمرو - رضي الله عنه - مثله. وسقط اسم عمر من إسناد سعيد بن منصور.
وأخرجه عبدالرزاق (17764)، ومن طريقه أبو داود في الموضع السابق، والطبراني في "الكبير" (8/8139)، وأخرجه سعيد بن منصور (297)، كلاهما عبدالرزاق وسعيد، من طريق معمر، عن الزهري، به نحوه.
وأخرجه عبدالرزاق (17765)، وسعيد بن منصور (296)، وابن أبي شيبة (27542)، ومن طريقه ابن أبي عاصم في الموضع السابق (1497)، والطبراني في "الكبير" (8 رقم8140).
وأخرجه النسائي في "الكبرى" في الموضع المتقدم رقم (6365)، والطبراني في "الكبير" (8 رقم8141) من طرق الزهري، عن سعيد به نحوه.
وأخرجه مالك في "الموطأ" (2/866 رقم9) كتاب العقول، باب ما جاء في ميراث العقل والتغليظ فيه، وعنه الشافعي في "مسنده" (ص410) مختصرًا، والنسائي في "الكبرى" في الموضع السابق رقم (6366) من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، كلاهما عن الزهري، عن الضحاك بن سفيان به. ولم يذكر سعيد بن المسيب في "المسند". وزاج مالك: قال ابن شهاب: وكان قتل أشيم خطأ.
وذكر الحافظ ابن حجر في "الإصابة" (1/81) أن هذه الزيادة أخرجه أبو يعلى من طريق مالك، عن الزهري، عن أنس...، وقال: وهو في "الموطأ" عن الزهري بغير ذكر أنس، قال الدارقطني في "الغرائب": وهو محفوظ.
قال الترمذي: ((هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم)).اهـ.
(22) في (ف): يشبه ((متراثها)).
(23) هذا لفظ إحدى روايات مسلم للحديث المتقدم (1772)، انظر "مسلم" (3/1309 رقم1681/35)، ولم يذكره المصنف في "التلخيص".(5/53)
الأحرار، البالغين، الأغنياء، الذكور. فلا تؤخذ من عبدٍ، ولا من صبي (1) ، ولا من امرأة، ولا من فقير بالإجماع على ما حكاه ابن المنذر. واختلفوا في قدْر ما توزع (2) على من يُطالَب بها. %(2/417)% فقال الشافعي: من كثر ماله أخذ منه نصف دينار، ومن كان دونه ربع دينار، لا (3) ينقص منه، ولا يزاد عليه. وحكى أبو ثور عن مالك: أنه قال: على كل رجل ربع دينار. وبه قال أبو ثور. وقال أحمد: يحملون بقدر (4) ما يطيقون. وقال أصحاب الرأي: ثلاثة دراهم، أو أربعة دراهم (5) .
قلت: والقول ما قاله أحمد. فإن التحديد يحتاج إلى شرع جديد.
وقوله: ((استشار عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - الناس في ملاص المرأة))؛ كذا صحيح الرواية: ((ملاص)) بغير ألف. وقد وقع في بعض نسخ الأئمة: ((إملاص))، وكذا قيَّده الحميدي. وكلاهما صحيح في اللغة. فإنَّه قد جاء: أملص، وملص: إذا أفلت. قال الهروي: وسُئل عمر (6) عن إملاص المرأة الجنين قال: يعني: أن تزلقه قبل =(5/68)=@ وقت الولادة. وكل ما زلق من اليد فقد ملَص يملَص. ومنه حديث الدَّجال (7) : وأملصت (8) به أمُّه. قال أبو العبَّاس: يقال: أملصت (9) به. وأزلقت به. وأسهلت به، وخطأت (10) به.
قلت: وإملاص فيما حكاه الهروي (11) عن عمر هو المصدر؛ لأنَّه ذكر بعده (12) الجنين، وهو مفعوله. وفيما ذكره مسلم: ((ملاص))؛ ويعني به: الجنين نفسه، فلا يتعدَّى هنا لأنه نقل من (13) المصدر المؤكد، فسمِّي به. فإن أصله: ملص يملص ملاصًا؛ كـ ((لزم، يلزم، لزامًا (14) )).
وفيه من الفقه: الاستشارة في الوقائع الشرعية، وقبول أخبار الآحاد، والاستظهار بالعدد (15) في أخبار العدول. وليس ذلك عن (16) شك في العدالة، وإنَّما هو استزادة يقين، وطمأنينة نفس. ولا حجَّة فيه لمن يشترط العدد في قبول أخبار الآحاد؛ لأنَّ عمر - رضي الله عنه - قد قبل خبر الضَّحَّاك وغيره من غير استظهار. والله تعالى أعلم. =(5/69)=@ &(5/54)&$
__________
(1) قوله: ((ولا من صبي)) سقط من (ك).
(2) في (ك): ((يوزع)).
(3) في (ح): ((ولا)).
(4) قوله: ((بقدر)) سقط من (ح).
(5) قوله: ((أو أربعة دراهم)) سقط من (أ).
(6) قوله: ((عمر)) سقط من (ح)، وهو ملحق بهامش (ك).
(7) يأتي...
(8) في (أ): ((وأمصلت)).
(9) في (أ): ((أمصلت)).
(10) في (ك): ((وحطأت)).
(11) في (أ): ((الجوهري)).
(12) في (ف): ((بعد)).
(13) في (ح): ((عن)).
(14) كتب ناسخ (ف) في الهامش: ((وقيل ملاص اسم للولادة كالخداج اسم للنقصان)).
(15) قوله: ((بالعدد)) سقط من (ح).
(16) في (ح): ((من)).(5/54)
%(2/418)%(5/55)
(1) كتاب الحدود (2)
وهي (3) : جمع حدّ (4) . وأصل الحدّ: المنع حيث وقع وإن اختلفت أبنيته وصيغه. وسميت العقوبات (5) المترتبة (6) على الجنايات: حدودًا؛ لأنَّها تمنع من عود الجاني ومن فعل المعتبر بها (7) .
ومن باب حدّ السَّرِقة وما يقطع فيه
السَّرِقةُ والسَّرِقُ - بكسر الراء فيهما -: هو اسم الشيء (8) المسروق، والمصدر من ((سَرَق، يَسْرِقُ)): سَرَقًا - بفتح الرَّاء - كذا قاله (9) الجوهري. وأصل هذا اللفظ إنما هو: أخذ الشيء في خفية. ومنه: اسْتَرَق السَّمع. وسَارَقَه النظر. قال ابن عرفة: =(5/70)=@ السارق عند العرب هو: من جاء مستترًا إلى حرزٍ فأخذ منه ما ليس له. فإن أخذ من ظاهرٍ فهو مختلس، ومستلبٌ، ومنتهبٌ، ومحترسٌ. فإن منع مما في يده فهو غاصبٌ له. &(5/55)&$
__________
(1) كتب قبلها في (ك): ((بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيد محمد واله وصحبه وسلم)). وكتب قبلها في (ق): ((بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا)). وكتب قبلها في (ن): ((بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر)).
(2) كتاب الحدود في (ح) جاء بعد كتاب الضحايا.
(3) قوله: ((وهي جمع حد)) سقط من (ن).
(4) قوله: ((وهي جمع حد)) سقط من (ن).
(5) في (ك): ((العوبات)).
(6) في (ح) و(ك): ((المرتبة)).
(7) قوله: ((ومن فعل المعتبر بها)) سقط من (ن).
(8) قوله: ((الشيء)) سقط من (ن).
(9) في (ق): ((قال)).(5/56)
%(2/419)%
قال الشيخ: وهذا الذي قاله ابن عرفة هو السارق في عُرْفِ الشرع. ويستدعي النَّظر في هذا الباب النَّظر في: السَّارق، والمسروق منه (1) ، والشيء المسروق، وحكم السَّارق. ولا خلاف في (2) أن السَّارق إذا كملت شروطه يقطع دون الغاصب، والْمُخْتَلِس، والْخَائِن. وفيمن يستعير المتاع فيَجْحَدُهُ (3) خلاف شاذٌّ. وحكي (4) عن أحمد، وإسحاق، فقالا: يقطع. والسَّلف (5) والخلف على خلافهما. وسيأتي القول في حديث (6) المخزوميَّة.
وإنَّما خصَّ الشرع القطع بالسَّارق لأن أخذ الشيء مُجاهَرَة يمكن أن يُسْتَرجع منه غالبًا. والخائن مكَّنَهُ (7) ربُّ الشيء منه، وكان متمكنًا من الاستيثاق بالبينة (8) . وكذلك الْمُعير. ولا يُمَكَّن شيء من ذلك في السَّرِقة، فبالغ الشرع في الزجر عنها؛ لما انفردت به عن غيرها بقطع (9) اليد.
وقد أجمع المسلمون: على أن (10) اليمنى (11) تقطع إذا وجدت؛ لأنَّها الأصل في محاولة كل الأعمال.
وقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (12) يَقْطع في ربع دينار =(5/71)=@ فصاعدًا)). وفي الطريق الأخر (13) : ((لا تُقطع (14) يد السَّارق إلا في ربع دينار فصاعدًا)). هذا تقرير (15) لقاعدة ما تقطع فيه (16) يد السَّارق من النبي - صلى الله عليه وسلم - وبلفظه (17) . لكنَّه ظاهر فيما إذا كان المسروق ذهبًا، فلو (18) كان غير ذهب، وكان فضة، فهل يعتبر (19) قيمتها بالذهب؛ فإن سوّيت ربع دينار فصاعدًا قطع فيها، أو إنما تعتبر بنفسها؛ فاذا بلغت ثلاثة دراهم وزنًا قطع فيها (20) ، فيكون كل واحد من الذهب والفضة أصلاً معتبرًا بنفسه؛ قولان:
الأول: للشافعي (21) ، والأوزاعي، والليث بن سعد، وأبي ثور، وهو مروي عن عمر، وعلي، وعثمان (22) ، وبه قالت عائشة، وعمر بن عبدالعزيز – رضي الله عنهم - .
والثاني: لمالك وأصحابه. %(2/420)%
وقال أحمد وإسحاق: إن سرق ذهبًا فربع دينار، وإن سرق غير الذهب والفضة فكانت قيمته ربع دينار، أو ثلاثة دراهم من الورق. وهذا نحو مما &(5/56)&$
__________
(1) قوله: ((منه)) سقط من (ن).
(2) قوله: ((في)) سقط من (ن).
(3) قوله: ((فيجحده)) سقط من (أ) و(ك) و(ف). وفي (ق): ((فيجحد)).
(4) في (أ) و(ف) و(ك) و(ق) و(ن): ((حكي)) بلا واو.
(5) في (ح): يشبه ((فالسلف)).
(6) قوله: ((حديث)) سقط من (ك).
(7) في (ق): ((يمكنه)).
(8) قوله: ((بالبينة)) مكرر في (ح).
(9) ألحق ناسخ في الهامش قوله: ((معموله بالغ)).
(10) قوله: ((المسلمون على أن)) بياض في (ق).
(11) في (ح): ((اليمين)).
(12) من قوله: ((إذا وجدت...)) إلى هنا سقط من (ح).
(13) في (ك): ((الأخرى)).
(14) تراجع النسخ. في (ك) و(ف): ((لا يقطع)).
(15) في (ح): ((تقدير)).
(16) في (ف): ((يقطع فيها)) وفي (ق): ((يقطع فيه)) والحق في الهامش قوله: ((به)) وكتب فوقها (خ).
(17) في (ن): ((بلفظه)) بلا واو.
(18) في (ن): ((فلولا)).
(19) في (ف) و(ق): ((تعتبر)).
(20) قوله: ((فيها)) سقط من (ك).
(21) في (ن): ((للشافعي)) وكأنه أصلحها ((للشافعية)).
(22) في (ق): ((وعثمان وعلي)).(5/57)
صار إليه مالك في أحد القولين. وفي المشهور: أنه إنما تقوَّم (1) العروض بالدراهم، كما (2) قال في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. وقال بعض أصحابنا: يقوَّم (3) بالغالب في موضع السَّرِقة من الذهب والفضة كما تقوَّم المتلفات. وهو القياس. وهذان القولان ناشئان من حديثي (4) عائشة، وابن عمر المذكورين في هذا الباب.
وقد نقلت أقوال عن كثير من السلف والعلماء في تحديد نصاب السَّرِقة لم يثبث فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث (5) معتمد، ولا لها (6) في الأصول ظاهر مستند؛ فمنها ما روي عن عمر – رضي الله عنه -، وقال به سليمان بن يسار، وابن شبرمة (7) . وهو (8) : أنَّ الْخَمْسَ لا تقطع إلا في خَمْسٍ (9) .
ومنها: =(5/72)=@ أنَّها لا تقطع إلا (10) في عشرة دراهم. وبه قال عطاء، والنُّعمان، وصاحباه.
ومنها: أنها تقطع (11) في أربعة دراهم فصاعدًا. وهو مروي عن أبي هريرة، وأبي سعيد رضي الله عنهما.
ومنها: أنها تقطع في درهم فما فوقه، وهو مروي (12) عن عثمان رضي الله عنه (13) .
ومنها: أنها تقطع في كل ماله قيمة، وروي عن الحسن في أحد(أقواله، وهو قول الخوارج، وأهل الظاهر. واختاره ابن بنت الشافعي (14) .
ومنها: أنها لا تقطع في أقل من درهمين، وروي عن الحسن (15) .
ومنها: أنها لا تقطع في أقل من أربعين درهما، أو أربعة دنانير. وروي عن النخعي.
قال الشيخ: وهذه كلها أقوال (16) متكافئة، خلية (17) عن الأدلة (18) الواضحة الشافية، ولا يصحُّ ما رواه الحجَّاج (19) بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه مرفوعًا: ((لا تقطع (20) يد السَّارق في أقل من عشرة دراهم)) (21) ؛ لضعف إسناده، ولما (22) يعارضه (23) من قوله في "الصحيح": ((لا تقطع (24) يد السَّارق إلا %(2/421)% في ربع دينار فصاعدًا)). ولا حجَّة لمن احتجَّ بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((لعن الله السَّارق يسرق (25) البيضة فتقطع (26) يده ويسرق الحبل فتقطع (27) يده))؛ لأنَّه وإن احتمل أن يراد بالبيضة بيضة (28) الحديد، وبالحبل حبل السُّفن، كما قد قيل فيه: فالأظهر من مساقه: أنَّه (29) يراد به التقليل (30) ، لكن أقل (31) ذلك (32) القليل مقيَّد بقوله: ((لا تقطع (33) يد السَّارق إلا في ربع دينار)) (34) ، وهذا نصٌّ، وبقول عائشة رضي الله عنها: لم تكن (35) يد السَّارق تقطع (36) في الشيء التَّافه، خرَّجه البخاري (37) وغيره. وهذا منها خبر عن &(5/57)&$
__________
(1) في (ح): ((نقوم)).
(2) في (ن): ((مما)) بدل ((كما)).
(3) في (ن): ((فهو)) بدل ((وهو)).
(4) في (ك): ((حديث)).
(5) قوله: ((حديث)) سقط من (ح).
(6) في (ك): ((له)) وألحق بالهامش ((لها)) ووضع فوقها ((خ)).
(7) كتب مقابلها في هامش (ك): ((وابن أبي ليلى والحسن لا تقطع إلا في خمس دراهم)) ووضع فوقها ((ع ص)).
(8) في (ن): ((فهو)) بدل ((وهو)).
(9) أخرجه ابن أبي شيبة (28090)، ومن طريقه البيهقي (8/261-262): حدثنا ابن إدريس، عن ابن أبي عروبة وإسماعيل، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن عمر قال: لا تقطع الخمس إلا في خمس، إلا أن البيهقي لم يذكر إسماعيل في "المسند". وسعيد لم يسمع من عمر. قاله أبو حاتم كما في "المراسيل" لابنه (ص71)، وقال: ((سعيد بن المسيب عن عمر مرسل)). وقال الإمام أحمد كما في "العلل" لابن أبي حاتم (4/61): ((هو عندنا حجة قد رأى عمر وسمع منه، وإذا لم يقبل سعيد عمر فمن يقبل؟)).
وأخرجه أحمد في "العلل ومعرفة الرجال" (1/468-469)، وابن المنذر كما في "الفتح" (12/107)، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" (2/188)، وذكره الذهبي في "ميزان الاعتدال" (4/500)، وفي "سير أعلام النبلاء" (8/505) في ترجمة أبي بكر بن عياش. جميعهم من طرق عن منصور، عن مجاهد، عن سعيد بن المسيب، عن عمر به مثله. وعد كل من العقيلي والذهبي الحديث من مناكير أبي بكر بن أبي عياش ونقلا في ذلك قولاً عن ابن مهدي.
وأخرجه أحمد في المصدر السابق (1/468)، والدارقطني (3/186) كلاهما من طريق هشيم بن بشر، عن منصور، عن قتادة، عن سليمان بن يسار، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
وأشار إليه البيهقي فيما تقدم وقال: وهو منقطع.
قال العلائي في "جامع التحصيل" (ص191): ((وأرسل - يعني سليمان - عن جماعة منهم عمر - رضي الله عنه -)).
(10) قوله: ((في)) سقط من (ن)
(11) في (ح): ((ومنها لا تقطع)).
(12) في (ن): ((روي)) بدل ((وهو مروي)).
(13) في (ك) و(ح) و(ف) و(ق): ((وروي عن عثمان)).
(14) قوله: (( واختاره ابن بنت الشافعي)) سقط من (ح) و(ك).
(15) كتب في هامش (ق): ((وهو قول الحسن)) ووضع فوقها (خ) وفي (ن): ((وهو قول الحسن)).
(16) في (ح) و(ك) و(ف): ((وهذه الأقوال)).
(17) في (ن): ((خليا)).
(18) في (ق): ((لأدلة)) كذا رسمت.
(19) في (أ) و(ق) و(ف) و(ن) و(ك): ((حجّاج)).
(20) في (ق): ((لا يقطع)).
(21) أخرجه أحمد في "المسند" (16900) عن نصر بت باب، والدارقطني في "سننه" (3/192-193) من طريق أبي مالك الجنبي وزفر بن الهذيل، جميعًا عن حجاج بن أرطاة به. وحجاج ضعيف كثير الخطأ والتدليس، وبه أعلَّه الحافظ في "الفتح" (12/103).
(22) في (ن): ((وأما ما)).
(23) في (ق): ((تعراضه)) نقط الحرف الأول باثنتين من فوق واثنتين من تحت.
(24) في (ق): ((لا يقطع)).
(25) في (ن): ((فيسرق)).
(26) في (ق): ((فيقطع)).
(27) في (ق): ((فيقطع)).
(28) في (أ) و(ف): ((بيض)).
(29) قوله: ((أنه)) سقط من (ح).
(30) ألحق ناسخ (ف) في الهامش: ((كبيضة الحيوان يعني أنه بذل يده النفيسة العظيمة المنفعة في خسيس لا قدر له وقيل المراد به جنس البيض وجنس الحبال)) وكتب ؟؟؟ وصح.
(31) قوله: ((أقل)) لم يتضح في (ن).
(32) في (ح) و(ف): ((أقل من ذلك)).
(33) في (ق): (( لا يقطع)).
(34) تقدم في أول الباب.
(35) في (ق): ((لم يكن)).
(36) قوله: ((تقطع)) سقط من (ن).
(37) أخرجه إسحاق بن راهوية في "المسند" (738)، والإسماعيلي في "فتح الباري" (12/103)، والبيهقي في "الكبرى" (8/256) من طريق عبدة لن سليمان، عن هشام بن عروة: أن رجلاً سرق قدحًا فأتى به عمر بن عبدالعزيز، فقال هشام: فقال أبي: إن اليد لا تقطع في الشيء النافه، ثم قال: حدثتني عائشة: أنه لم تكن اليد تقطع في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أدنى من ثمن مجنّ: حجفةٍ أو تُرْس. وحديث عائشة المرفوع في البخاري، وغيره، وأما قوله: ((إن اليد لا تقطع في الشيء التافه))، فهو من كلام عروة بن الزبير، وليس في البخاري، فلعل المصنف أراد الحديث الذي قبله.(5/58)
عادة الشرع الجارية عندهم. ومعلوم: أن الواحدة من بيض الدَّجاج، والحبل الذي يشدّ =(5/73)=@ به المتاع والرَّحل تافهٌ. وإنَّما سلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث مسلك العرب فيما إذا أغْيَت (1) في تكثير شيء أو تحقيره (2) ، فإنَّها تذكر في ذلك ما لا يصحّ وجوده، أو ما (3) يندر وجوده إبلاغًا في ذلك، فتقول: لأصْعَدنَّ (4) بفلان إلى السماء، ولأهبطنَّ به إلى تخوم الثَّرى. وفلانٌ مناطُ الثُّريَّا (5) . وهو مِنِّي مقعد القابلة (6) . و: ((من بنى لله مسجدًا ولو مثل (7) مفحص (8) قطاة بُني له بيتٌ في الجنة)) (9) . ولا يُتصوَّر مسجد مثل ذلك. و: ((تصدَّقن ولو بظلفٍ مُحرَّقٍ)) (10) . وهو مِمَّا لا يُتصدقُ به. ومثل هذا كثير في كلامهم، وعادة لا تستنكر (11) في خطابهم. وقيل في الحديث: أنَّه إذا سرق البيضة أو الحبل (12) ربما حمله ذلك (13) على أن يسرق ما يقطع (14) فيه، لأنه ربما يجتريء (15) على سرقة غيرهما (16) ، فيعتاد ذلك فتقطع (17) يده.
وقوله: ((لعن الله السَّارق))؛ أي: أبعده الله. وقد تقدَّم: أن أصل اللعن: الطرد، والبعد.
وفيه ما يدلّ على جواز لعن جنس العصاة؛ لأنَّه لا بدَّ أن يكون في ذلك الجنس من يستحق ذلك اللعن، أو الذم، أو الدُّعاء (18) عليه. وليس (19) كذلك العاصي المعيَّن؛ لأنَّه قد لا يستحق ذلك (20) ، فيعلم الله أنَّه يتوب من ذلك، فلا (21) يستحق ذلك اللعن بذلك.
وقد ذهب بعض النَّاس: إلى أنَّه (22) يجوز لعن المعيَّن من أهل المعاصي ما لم (23) يُحَدّ. فإذا حدّ لم يجز (24) ؛ لأن الحدود (25) كفارة. وهذا فاسد؛ لأنَّ العاصي المؤمن لم يخرج بمعصيته عن اسم المؤمن. وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ((لعن المؤمن %(2/422)% كقتله)) (26) . وقد نهى عن اللَّعن. وهو كثير. وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن لعن الملقب بـ ((حمار (27) ))؛ الذي كان يشرب الخمر كثيرًا، وحُدَّ مرَّات فلعنه بعضهم، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن لعنه (28) . وهو صحيح =(5/74)=@ نصٌّ في الباب. وفرق بين لعن الجنس والشخص (29) ؛ لأنَّ (30) لعن الجنس تحقيق وتحذير، ولعن الشخص حسبان وتعيير (31) . وأمَّا الكافر فلا حُرْمةَ له (32) . &(5/58)&$
__________
(1) في (ن): ((أعيت)).
(2) في (ق): ((تقليله)) وكتب في الهامش ((تحقيره)).
(3) قوله: ((ما)) سقط من (ق).
(4) في (ن): ((لأمعدن)).
(5) في (ن): ((الثري)).
(6) في (ح): ((المقابلة)).
(7) قوله: ((مثل)) سقط من (ن).
(8) في (ك): ((ولو كمفحص))، وهو لفظ رواية أخرى.
(9) تقدم تخريجه في كتاب الإيمان، باب يقاتل الناس إلى أن يوحدوا الله....
(10) .......تقدم تخريجه
(11) في (أ): ((تسكثر)) وتراجع؛ وفي (ح): ((تستكثر)).
(12) في (ك): ((والحبل)).
(13) قوله: ((ذلك)) سقط من (ن).
(14) في (ن): ((تقطع)).
(15) في (ق): ((يجترئ)).
(16) في (أ) و(ح) و(ف) و(ق) و(ن): ((غيرها)).
(17) في (ق): ((فتقطع)) باثنتين من فوق ومن تحت، وفي (ن): ((فيقطع)).
(18) في (ح): ((للدعاء)).
(19) في (ف): ((ولبس)).
(20) قوله: ((لأنه قد لا يستحق ذلك)) سقط من (ح).
(21) في (ح): ((قد لا يستحق)) بدل ((فلا يستحق)).
(22) من قوله: ((يتوب من ذلك...)) إلى هنا سقط من (ن).
(23) في (ن): ((لا)) بدل ((لم)).
(24) قوله: ((يجز)) لم يتضح في (ق).
(25) في (ن): ((الحد)) بدل: ((الحدود)).
(26) هذا لفظ إحدى روايات مسلم للحديث المتقدم في باب من قتل نفسه بشيء عذب به، من كتاب الإيمان برقم (86).
(27) في (أ): (بخمّار)).
(28) أخرجه البخاري (12/75) كتاب الحدود رقم (678) باب ما يكره من لعن شار بالخمر، وأنه ليس بخارج من الملة.
(29) كتب ناسخ (ق) فوقها: ((بين لعن)) ووضع فوقها (خ). وفي (ن): ((ولعن الشخص)).
(30) في (ح) و(ك) و(ن) و(ق): ((أن)) بدل: ((لأن)).
(31) في (ف): ((وتعبير)).
(32) في (أ): ((لهم)).(5/59)
ويجب الكفُّ عن أذى (1) مَنْ له ذمَّة (2) .
ولا حجَّة لمن رأى: أنَّه لا يُقطع (3) الْخَمْس (4) إلا في (5) خَمْسٍ بما رواه أنس عن أبي بكر رضي الله عنهما: أنَّه قَطَع في خمسة دراهم (6) ؛ لأنَّه ليس فيه دلالة على أن هذا أقلّ ما تُقطع (7) فيه، ولو كان نصًّا لكان (8) معارضًا لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((لا تقطع يد السَّارق في أقل من ربع دينار)). فإن هذا نصٌّ من النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا (9) يعارض بغيره. واختلف العلماء في الحدّ الذى تقطع منه (10) اليد. وفيمن قطعت يده ثمَّ سرق؛ ما الذي يقطع (11) له، وفيمن كانت له يمين (12) شَلاَّء. فهذه ثلاث مسائل:
الأولى: لا خلاف: أن اليمين (13) هي التي تقطع أولاً. ثمَّ اختلفوا إن سرق ثانية. فقال مالك، وأهل المدينة، والشافعي، وأبو ثور، وغيرهم: تقطع (14) رجله اليسرى، ثمَّ في الثالثة يده اليسرى، ثمَّ في الرابعة رجله اليمنى، ثم بعد هذا (15) يعزر ويحبس. قال (16) أبو مصعب من أصحابنا: يقتل بعد الرابعة. وقد ثبت عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما (17) : أنهما قطعا اليد بعد اليد، والرِّجل بعد الرِّجل. وقيل: تقطع (18) في الثانية رجله اليسرى، ثمَّ لا قطع في غيرها، فإن عاد حبس، وعزر. روي (19) ذلك عن علي – رضي الله عنه -، وبه قال الزهري، وحمَّاد، %(2/423)% وأحمد.
فلو كانت اليمنى شلاَّء، أو مقطوعة أكثر الأصابع، أو لا يمين له - وهي المسألة الثانية (20) -؛ ففيه (21) عن (22) مالك روايتان :
إحداهما: تُقطع يده (23) اليسرى. والأخرى: رِجله اليسرى. وقال الزُّهري: تُقطع الشَّلاَّء؛ لأنَّها جمال. وبه قال إسحاق، وأبو ثور. وقال أحمد: إذا كان يُحَرِّكُها قُطِعت. وعند الحنفية (24) تفصيلٌ بعيدُ التحصيل (25) . =(5/75)=@
ثم إلى أين تُقطع (26) ؟- وهي المسألة الثالثة (27) -؛ فعند الكافة (28) : تقطع اليد من الرُّسغ، والرِّجل من المفصل. وهو مروي عن عمر وعثمان (29) رضي الله عنهما. وقال علي (30) - رضي الله عنه -: تُقطع الرجل من شطر القدم، ويُترك له العقب، وبه قال أحمد، وأبو ثور. وقيل: تُقطع اليد (31) إلى المرفق. وقيل: إلى المنكب. وهما شاذان.
تنبيه: آيةُ السَّرقة وردت عامة مطلقة، لكنها مخصَّصة مقيَّدة عند كافة العلماء؛ إذ قد خرج من عموم السَّارق من سرق ملكه، ومن سرق أقل من نصاب، وغير ذلك. وتقيَّدت باشتراط الحِرز، فلا قطع على من سرق شيئًا من &(5/59)&$
__________
(1) قوله: ((أذى)) سقط من (ك).
(2) في (أ) و(ن) و(ق) و(ح): ((ذمة منهم)).
(3) في (ن): ((لا تقطع)).
(4) في (ق): ((للخمس)).
(5) قوله: ((في)) سقط من (ك).
(6) روي هذا الأثر مرفوعًا وموقوفًا عن أبي بكر - رضي الله عنه - :
فالمرفوع: أخرجه ابن عدي في "الكامل" (6/214)، والبيهقي (8/260) من طريق شيبان. والطبراني في "الأوسط" (2552)، والدارقطني (3/186)، والبيهقي في الموضع المتقدم من طريق سليمان بن حرب. والبيهقي في الموضع السابق، من طريق موسى بن إسماعيل. ثلاثتهم - شيبان، وسليمان، وموسى بن إسماعيل- عن أبي هلال الراسبي، عن قتادة، عن أنس قال: قطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر في مجن، فقلت: كم كان يساوي؟ قال: خمسة دراهم.
وهذا لفظ ابن عدي، والبقيّة نحوه بمعناه مع اختلاف في الألفاظ، إلا أن عند البيهقي من حديث شيبان زيادة: عمر، فقال: قطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر. وعند الطبراني والدارقطني والبيهقي من حديث سليمانبنحرب الإشارة إلى الخلاف في رفعه أو وقفه.
وأخرجه البيهقي في الموضع السابق من طريق سعيد بن عامر، عن قتادة، عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجن ثمن خمسة دراهم، وأن أبا بكر - رضي الله عنه - قطع في مجن ثمنه خمسة دراهم. قال البيهقي: كذا قال، والمحفوظ من حديث سعيد بن أبي عروبة.
وأخرجه النسائي (8/77 رقم4911) في كتاب قطع السارق، باب القدر الذي إذا سرقه السارق قطعت يده، من طريق هشام، عن قتادة، عن أنس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجن. هكذا مختصرًا، ثم قال النسائي: ((هذا خطأ)).
وأخرجه البيهقي (8/259-260) من طريق يحيى بن أبي كثير، ثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس: أن رجلاً سرق مجنًّا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو أبي بكر، أو عمر، فقوّم خمسة دراهم فقطعه.
والموقوف: أخرجه النسائي (8/77 رقم4912) في الموضع السابق، والبيهقي (8/259-260) كلاهما من طريق شعبة من طريق سعيد بن أبي عروبة. كلاهما شعبة وسعيد بن أبي عروبة، عن طريق قتادة، عن أنس قال: قطع أبو بكر - رضي الله عنه - في مجن فيمته خمسة دراهم. ثم قال النسائي: ((هذا هو الصواب)). وزاد البيهقي في الموضع الثاني: ((أو أربعة دراهم)).
قال الدار قطني في "العلل" (1/228-229)- وسُئل عن حديث أنس، عن أبي بكر؛ أنه قطع في مجن قيمته خمسة دراهم فقال-: ((يرويه شعبة، وأبو عوانة، وسعيد بن أبي عروبة، وحجاج بن أرطاة، عن قتادة، عن أنس: أن أبا بكر قطع في مجن. وكذلك رواه حميد الطويل قال: سمعت قتادة سأل أنسًا، فذكر عن أبي بكر نحوه. واختلف عن شعبة، وعن سعيد؛ فرواه يحيى بن أبي بكير، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجن. وكذلك رواة عبيدة بن الأسود وسعيد بن عامر، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجن. وكذلك قال أبو هلال الراسبي، عن قتادة، عن أنس: قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر. والصحيح قول من قال: عن أنس، عن أبي بكر فعله، غير مرفوع.
(7) في (ح) و(ك) و(ن) و(ق): ((يقطع)).
(8) في (أ) و(ح) و(ف): ((لما كان))، وفي (ن): ((لحان)).
(9) في (ف): ((لا)) بدل ((فلا)).
(10) في (ق): ((يقطع فيه)) وكتب في الهامش ((منه)) ووضع فوقها (خ).
(11) في (ن): ((تقطع له)).
(12) في (ن): ((يمنى)).
(13) في (ف): ((اليمنى)).
(14) في (ق): ((يقطع)).
(15) في (أ): ((ذلك)).
(16) في (ف): (وقال)).
(17) ... تخريج.
(18) في (ح) و(ق): ((يقطع)).
(19) في (ف) و(ق) و(ن): ((وروي)).
(20) قوله: ((وهي المسألة الثانية)) سقط من (أ) و(ف).
(21) في (أ) و(ف): ((فيه)).
(22) في (ح): ((فعن)) بدل: ((ففيه عن)).
(23) قوله: ((يده)) لم يتضح في (ن).
(24) في (ح) و(ن): ((وعند أبي حنيفة)).
(25) في (ح) و(ك) و(ن) و(ق): ((تفصيل طويل)) بدل: ((بعيد التحصيل)).
(26) في (ك): ((يقطع)).
(27) في (ف): ((الثانية)).
(28) في (ن): ((الحافة)).
(29) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (18759) عن ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار، عن عكرمة: أن عمر كان يقطع القدم من مفصلها، وأن عليًّا - عن غير عكرمة - كان يقطع القدم - أشار لي عمرو - إلى شطرها. وعنه ابن حزم في "المحلى" (11/161)، وسيأتي في أثر علي الآتي مثل هذا عند ابن أبي شيبة (28589)، وفيه قطع اليد من المفصل، بدل القدم.
وأما عن عثمان - رضي الله عنه -: فأخرج ابن حجر في "التلخيص" (4/132-133) وعزاه لأبي الشيخ في كتاب الحدود من طريق نافع، عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يقطعون السارق من المفصل.
(30) أخرجه الشافعي في "الأم" (7/182)، وسعيد بن منصور كما في "فتح الباري" (12/99)، ومن طريق سعيد بن منصور أخرجه البيهقي (8/271) كلاهما من طريق حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار: أن عليًّا - رضي الله عنه - عنه قطع من شطر القدم. وعند سعيد بن منصور زيادة: كان عمر بن الخطاب - صلى الله عليه وسلم - يقطع السارق من المفصل...، فذكره. إلا أن في "الفتح": مشط القدم. بدل: شطر القدم.
وأخرجه الشافعي فيما تقدم، والدارقطني (3/217)، وابن حجر في "تغليق التعليق" (5/230) ثلاثتهم من طريق هشيم، عن مغيرة، عن الشعبي: أن عليًّا...، وذكروا مثله، وزادوا: ويدع العقب يعتمد عليها، وعند الشافعي وابن حجر يقول: ادع له ما يعتمد عليه.
وأخرجه البيهقي فيما تقدم: وحدثنا وكيع، ثنا قيس، عن مغيرة، عن الشعبي: أن عليًّا...، وذكر مثل ما عند الشافعي.
وأخرجه ابن أبي شيبة (28589): حدثنا محمد بن ميسر، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة: أن عمر بن الخطاب قطع اليد من المفصل وقطع عليٌّ القدم. وأشار عمرو إلى شطرها.
(31) قوله: ((اليد)) سقط من (أ) و(ف).(5/60)
غير حرز بالإجماع إلا ما شذَّ فيه الحسن، وأهل الظاهر، فلم (1) يشترطوا الحِرز. وقد روى النسائي (2) من حديث رافع بن خديج – رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا قطع في كَثَرٍ ولا ثَمَرٍ))، والكَثَر: الْجُمَّار (3) .
وروي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده (4) : أنَّه سُئل عن الثمر الْمُعَلَّق؟ فقال: ((من أصاب منه من (5) ذي حاجة غير مُتَّخِذٍ (6) خُبْنَة فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه (7) والعقوبة، ومن سرق شيئًا منه بعد أن %(2/424)% يؤويه (8) الجرين فبلغ ثمن الْمِجَنِّ فعليه القطع، ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة)). وفي رواية: ((وليس في الماشية قطعٌ إلا فيما آواه المراح فبلغ ثمن الْمِجَنِّ ففيه ففيه قطع اليد، ومالم يبلغ ثمن الْمِجَنِّ غرامة مثليه وجلدات)).
قال أبو عمر: قوله: وغرامة مثليه: هو منسوخ. لا (9) أعلم أحدًا من الفقهاء (10) قال به إلا رواية عن أحمد. ومحمل هذا على التشديد، والعقوبة. وأبو عمر يصحح حديث عمرو بن شعيب إذا كان الرَّاوي عنه ثقةٌ، والراوي عنه =(5/76)=@ لهذا الحديث (11) ابن عجلان، وهو ثقة.
وإذا تقرَّر اشتراط (12) الحِرز في السرقة: فالحِرز عبارة عن المحلّ الذي يحفظ فيه (13) ذلك الشيء عادة. ثم هو مختلف بحسب اختلاف الشيء الْمُحْرز (14) . وتفصيل ذلك وبقية ما يتعلَّق (15) بالسَّرِقة في الفروع. &(5/60)&$
__________
(1) في (ن): ((فلا)) بدل ((فلم)).
(2) حديث صحيح، وهذا إسناد فيه انقطاع بين محمد بن يحيى بن حبَّان ورافع بن خديج. ويزيد: هو ابن هارون، ويحيى: هو ابن سعيد الأنصاري. وأخرجه الدارمي (2/ 174)، والطبراني في "الكبير" (4339) من طريق يزيد ابن هارون، بهذا الإسناد. وقد رواه عن يحيى بن سعيد الأنصاري هكذا منقطعًا عدد من الرواة: منهم يحيى القطان عند النسائي في "المجتبى" (8/87)، وفي "الكبرى"(7449 و7451).
وحماد بن زيد عند أيي داود (4389)، والنسائي في "المجتبى" (8/87)، وفي "الكبرى، (7450)، والطبراني في "الكبير" (4342)، والبيهقي في "السنن" (8/ 262-263)، وابنُ عبدالبر في "التمهيد" (23/ 306). وذكر بعضهم قصة من سرق ورُفع أمره إلى مروان بن الحكم، وأراد أن يقطعه.(
وسفيان الثوري عند النسائي في "المجتيى" (8/87)، وفي "الكبرى" (7454 و 7455)، والدارمي (2/ 174)، والطبراني في "الكبير" (4340)، وابن عبدالبر في "التمهيد" (23/306). وأبو معاوية الضرير عند النسائي في "المجتبى" (8/87)، وفي "الكبرى" (7453).
وأبو خالد الأحمر عند ابن أبي شيبة (10/26)، والطبراني في "الكبير" (4350).
وجرير بن عبدالحميد وعبدالوهاب الثقفي عند الدارمي (2/174). وأبو شهاب الحنَّاط عند البيهقي في "السنن" (8/263). وأبو عوانة عند ابن عبدالبر في "التمهيد" (23/307-308). وعبدالوارث بن سعيد، وزهير بن معاوية، وعبيد الله بن عمرو، ويونس بن راشد، وزائدة بن قدامة، وعبدالعزيز الدراوردي، وأنس بن عياض، ورواياتهم على الترتيب عند الطبراني في "الكبير" (4343) (4344) (4345) (4346) (4347) (4348) (4349). ومالك في "الموطأ" (2/ 839)، ومن طريقه الشافعي في "المسند" (2/83-84 بترتيب السندي)، وفي "السنن" (563)، وفي "الأم" (6/118)، وأبو داود (4388)، والطحاوي في "شرح المعاني" (3/172)، والطبراني في "الكبير" (4341)، والبيهقي في "بيان خطأ من أخطأ على الشافعي" (ص 274 و 274- 275)، والبغوي في "شرح السنة" (2600)، وابن بشكوال في "غوامض الأسماء المبهمة" (104)، مع ذكر القصة. قال الطحاوي: ((هذا الحديث تلقت العلماءُ متنه بالقبول)). قال ابنُ عبدالبر في "التمهيد" (23/303): هذا حديث منقطع، لأن محمد ابن يحرص لم يسمعه من رافع بن خديج. وكذلك نقل الزيلعي في "نصب الراية" (3/361) عن عبدالحق. وقد وقع في إسناد مطبوع مسند الشافعي زيادة: ((عن عمه واسع))، ولم ترد من طريق مالك، ولم ترد من طريقه في "السنن، ولا في "الأم". وأخرجه البيهقي في "بيان خطأ من أخطأ على الشافعي" (ص 273) من طريق الربيع، عن الشافعي، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبَّان، أن رافع بن خديج أخبره أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... وقال: هكذا وقع هذا الحديث القطع في السرقة: أن رافع بن خديج أخبره. وهو خطأ من الربيع أو من دونه أو الكاتب. وقد رواه الشافعي في كتاب الحدود، فقال: عن رافع بن خديج أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لم يقل فيه أخبره، ثم أورد البيهقي رواية مالك المنقطعة من طريق الشافعي، وقال: كذلك رواه الشافعي في القديم، وقال: هذا مرسل، يعني بين محمد بن يحيى بن حبَّان ورافع، فكيف يَحكُمُ بإرساله ثم يرويه موصولاً؟! دلَّ أن هذا الخطأ وقع من غيره، وقد يحتمل أنه رواه حين رراه مختصرًا فقال:(( إن رافع بن خَدِيج أخبر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) بغير هاء، فزاد فيه الكاتب هاءً. فأما الشافعي فإنما رواه على الإرسال، وكذلك أصحاب مالك، وإنما رواه موصولاً من حديث ابن عُيينة، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حَيَّان، عن عمه واسع بن حَبَّان، عن رافع.
قلت: قد أخرجه موصولاً بذكر واسع بن حَبَّان من طريق ابن عُيينة، عن يحيى بن سعيد، به: الشافعي في "المسند" (2/84 بترتيب السندي)، وفي "السنن" (564)، والحميدي (407)، والدارمي (2/ 174)، والنسائي في "المجتى" (8/ 87)، وفي "الكبرى" (7456)، وابن ماجه (2593)، والطحاوي في "شرح المعاني، (3/ 172)، وابن الجارود (826)، وابن حبان (4466)، والبيهقي في "السنن" (8/263)، وابن عبدالبر في "التمهيد" (23/304-305). وذكر بعضهم القصة. ونقل ابنُ عبدالبر عن الحُميدي، قال: فقيل لسفيان: ليس يقولُ أحدٌ في هذا الحديث :(( عن عمه))، فقال: هكذا حفظي. وقال ابنُ عبدالبر أيضًا (23/303): فإن صح هذا، فهو متصل مسند صحيح، ولكن قد خُولف ابنُ عُيينة في ذلك، ولم يُتابع عليه، إلا ما رواه حماد بن دُلَيل المداثني عن شعبة. قلت: بل تابع ابنَ عُيينة غيرُ واحد، فقد وصله أيضًا زهير بن محمد التميمي عند الطيالسي (958)، والليثُ بنُ سعد عند الترمذي (1449)، والنسائي في "المجتبى" (8/ 87-88)، وفي الكبرى" (7457) كلاهما عن يحيى ابن سعيد الأنصاري بمثل إسناد ابنِ عُيينة. قال الترمذي: هكذا روى بعضُهم عن يحيى بن سعيد،عن محمد بن يحيى بن حَبَّان، عن عمه واسع بن حبان، عن رافع بن خديج، عن النيي - صلى الله عليه وسلم - نحو رواية الليث بن سعد، وروى مالك بن أنس وغيرُ واحدٍ هذا الحديث عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حَبَّان، عن رافع بن خَديج، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يذكروا فيه: عن واسع بن حَبَّان. قلت: والذين زادوا الوصل ثقات، وزيادةُ الثقة مقبولة. وأخرجه الدارمي (2/ 174)، والنسائي في "المجتيى" (8/ 88)، وفي " الكبرى "(7459)، وابن عبدالبر في "التمهيد" (23/306-307) من طريق أبي أسامة، وعبدُالرزاق (18916) ومن طريقه الطبراني في "الكبير"، (4351) عن ابن جُريج، كلاهما عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبَّان، عن رجل من قومه، عن رافع، به. ولم يقل ابن جريج: ((من قومه)). وسقط من إسناد الطبراني عبارة: ((عن رجل)). ويظهر أن هذا الرجل هو واسع بن حَبَّان، كما سماه ابن عيينة ومن تابعه، فيما سلف، وهو عم محمد بن يحيى بن حبان. وأخرجه الدارمي (2/ 175)، والنسائي في "المجتيى" (8/88)، وفي "الكبرى" (7458) من طريق عبدالعزيز بن محمد الدراوردي، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حَبَّان، عن أبي ميمون، عن رافع، به. وقال النسائي: هذا خطأ، أبو ميمون لا أعرفه. وقال في "الكبرى": هذا خطأ. رواه أبو أسامة فقال: عن رجل من قومه. قال الدارمي: القول ما قال أبو أسامة. وأبو ميمون وقع عند الدارمي والرازي في "العلل" (1/ 456): أبو ميمونة.
وأخرجه النسائي في "المجتنى" (8/ 88)، وفي "الكبرى" (7460)، وابن عبدالبر في "التمهيد" (23/307) من طريق بشر بن المفضل، عن يحيى بن سعيد، أن رجلاً من قومه حدَّثه عن عمة له - في "التحفة" للمزي (3/160): عن عم له -، أن رافع بن خديج، كذا وقع عند النسائي، ووقع عند ابن عبدالبر: عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، أن رجلاً من قومه حدَّثه عن عمة له. ففيه زيادة: محمد بن يحيى بن حَبَّان. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (4352) من طريق الليث، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حَبَّان، عن عمة له، عن رافع، به. وسبق من طريق الليث من وجه آخر. وهذا اختلاف فيه عن الليث. وأخرجه النسائي في "المجتبى" (8/ 86)، وفي "الكبرى" (7448)، والطبراني في "الكبير" (4277) من طريق الحسن بن صالح، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن رافع بن خديج، به. قال المزي في "التحفة": غريب. المحفوظ حديث يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حَبَّان، عن رافع بن خديج، وقيل: عن عمه واسع بن حَيَّان، عن رافع بن خديج وسيأتي من طريق شعبة برقم (15814)، ومكررًا مسندًا ومستنًا (4/140- 142). وله شاهد من حديث أبي هريرة عند ابن ماجه (2594) أخرجه عن هشام ابن عمار، عن سعد بن سعيد المقبري، عن أخيه، عن أبيه، عنه، وإسناده ضعيف جدًّا، سعد بن سعيد المقبري ضعيف، وأخوه- واسمه عبدالله- متروك. وفي الباب في الثمر المعلَّق: عن عبدالله بن عمرو سلف برقم (6683)، وذكرنا له في تخريجه هناك شاهد آخر. وعن عمرو بن شعيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الشافعي في "المسند" (2/84)، والبيهقي في "السنن" (8/263) بلفظ: ((لا قطع في ثمر معلّق، فإذا آواه الجرين ففيه القطع)). وإسناده معضل.
وانظر مذاهب العلماء في فقه هذا الحديث في "شرح السنة" (10/319- 320).
(3) الْجُمَّار: هو قلبُ النخل وشحمها. "النهاية" (...).
(4) أخرجه أحمد (2/180 و203 و207) بمعناه، وابن ماجه (2/865-866 رقم2596)، كتاب: الحدود، باب: من سرق من الحرز، وأبو داود (2/335-336 رقم1710)، والترمذي (3/584 رقم1289) مختصرًا جدًّا، و(4/550-551 رقم4390)، والنسائي في "المجتبى" (8/85-86 رقم4959)، و(8/85-86 رقم4958) مختصرًا، وفي "الكبرى" (4/344 رقم7447)، وابن الجارود (827)، والطبراني في "الأوسط" (1983) بمعناه، بزيادة في أوله، و(5212) مختصرًا، والدارقطني (3/194-195) بمعناه، و(4/236)، والحاكم (4/38)، والبيهقي (4/152-153 و190) بزيادة في آخره، و(8/278)، والبغوي في "شرح السنة" (2211) مطولاً بزيادة.
جميعهم من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو: أن رجلاً من مزينة أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! كيف ترى في حريسة الجبل؟ فقال: ((هي ومثلها، والنكال ،وليس في شيء من الماشية قطع، إلا فيما آواه المراح فبلغ ثمن المجن؛ ففيه قطع اليد، وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال)). قال يا رسول الله! كيف ترى في الثمر المعلَّق؟ قال: ((هو ومثله معه والنكال، وليس في شيء من الثمر المعلَّق قطع إلا فيما آواه الجرين، فما أخذ من الجرين فبلغ ثمن المجن؛ ففيه القطع وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال)).
قال الترمذي: ((هذا حديث حسن)).
وقال الحاكم في "المستدرك" (4/423): ((هذه سنة تفرد بها عمرو بن شعيب بن محمد، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص، إذا كان الراوي عن عمرو بن شعيب ثقة، فهو كأيوب، عن نافع، عن ابن عمر)).
(5) قوله: ((من)) سقط من (ن).
(6) في (ك): ((متخدٍ)).
(7) في (ق): ((مثليه)) وكتب في الهامش ((مثله)) ووضعم فوقها (خ). وفي (ن): ((مثله)).
(8) في (ف): ((يوتيه)).
(9) في (ح): ((ولا)).
(10) في (خ): ((العلماء)).
(11) في (ق): ((والراوي لهذا الحديث عنه)).
(12) في (ح): ((اشراط)).
(13) قوله: ((فيه)) سقط من (ن).
(14) في (ق): ((المحروز)) وكتب فوقها ((المحرز)) ووضع فوقها (خ).
(15) قوله: ((وبقية ما يتعلق)) مكرر في (ح) وكأنه ضرب عليه.(5/61)
ومن باب النهي عن الشفاعة في الحدود إذا بلغت الإمام
قولها (1) : ((إن قريشًا أهمَّهم شأن المخزومية (2) التي سرقت))؛ هذا هو الصحيح: أن هذه المرأة سرقت، وقطعت (3) يدها لأجل سرقتها (4) ، لا لأجل جحد المتاع. ويدلّ على صحة ذلك أربعة أوجه:
أولها: إن رواية من روى: ((أنها سرقت))؛ أكثر وأشهر من رواية من قال (5) : ((إنَّها كانت تجحد المتاع)). وإنَّما انفرد معمر بذكر الجحد وحده من بين الأئمة الحفاظ، وقد تابعه على ذلك من لا يعتد بحفظه كابن أخي ابن شهاب ونَمَطِه (6) . هذا قول ا لمحدِّثين. %(2/425)%
ثانيها (7) : إن معمرًا (8) وغيره ممن روى هذه القِصَّة (9) متفق: على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال - حيث أنكر على أسامة -: ((لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها))، ثم أمر بتلك (10) المرأة فقطعت. وهذا يدلُّ دلالة قاطعة (11) : على أن المرأة قطعت في السَّرِقة؛ إذ لو كان قطعها لأجل جحد المتاع لكان ذكر السِّرِقة هنا لاغيًا، لا فائدة له (12) ، وإنما كان (13) يقول: لو أن فاطمة جحدت المتاع لقطعت يدها.
وثالثها: إن جاحد المتاع خائن، ولا قطع على خائن عند جمهور العلماء (14) =(5/77)=@ خلافًا لما ذهب إليه أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي (15) من حديث جابر – رضي الله عنه - مرفوعًا: ((ليس على خائن، ولا منتهب، ولا مختلس قطع)). وقال: حديث (16) حسن صحيح. وهذا نصٌّ. ولأنَّه لو كان في جَحْدُ &(5/61)&$
__________
(1) في (ك) و(ن) و(ح): ((قوله))، وفي (ق) لم تتضح.
(2) في (ح) و(ن) و(ق): (( المرأة المخزومية)).
(3) في (ح): يشبه ((وقطعت)).
(4) في (أ) و(ف): ((السرقة)).
(5) في (ق): ((من روى)) وكتب في الهامش ((من قال)) ووضع فوقها (خ).
(6) قوله: ((ونمطه)) سقط من (ن).
(7) في (ك) و(ق) و(ح) و(ف) و(ن): ((وثانيها)).
(8) في (ح): ((هذا)) بدل ((معمر)).
(9) في (ح): ((القضية)).
(10) في (أ) و(ف): ((بيد)).
(11) في (ق): ((قطعية)) وكتب في الهامش ((قاطعة)).
(12) في (ك) و(ن): ((فيه)).
(13) في (ك): ((وكان)).
(14) في (ن): ((للعلماء)).
(16) إسناده على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي الزبير، فمن رجال مسلم، وهو وابن جريج قد عنعنا، لكن ابن جريج قد صرح بسماعه من أبي الزبير عند غير واحد ممن خرجه، وقيل: لم يسمعه منه، ثم هو متابع كما سيأتي. وأخرجه أبو داود (4391 و4392) من طريق محمد بن بكر، بهذا الإسناد. وأخرجه عبدالرزاق (18844 و 18858 و18860)، وابن أبي شيبه (10/45 و47)، والدارمي (2310)، وأبو داود (4393)، وابن ماجه (2591) و(3935)، والترمذي (1448)، والنسائي في "المجتيى" (8/ 88 و 89)، وفي "الكبرى" (7463) و7464 و7465 و 7466)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/171)، وفي "شرح مشكل الآثار" (1314)، وابن حبان (4456 و4457)، والدارقطني (3/187)، وابن حزم في "المحلى" (11/359-360)، والبيهقي (8/279)، والخطيب في "تاريخه " (1/256) و(11/153)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1326) من طرق عن ابن جريج، به. وبعضهم يزيد فيه على بعض، لم يذكره أحد منهم بتمامه، ومعظمهم زاد فيما لا قطع فيه المختلس، وتفرد ابن حبان في إسناده فقرن بأبي الزبير عمرو بن دينار، وقال الترمذي: ((حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم)).
قلت: وقد ذكر بعض أهل العلم أن ابن جريج لم يسمعه من أبي الزبير، وأن بينهما ياسين بن معاذ الزيات، وممن قال ذلك أحمد بن حنبل، وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان كما فيا "العلل" لابن أبي حاتم (1/450) والنسائي، ونقل ذلك أبو داود والخطيب وابن عدي في "الكامل" (7/2642)، والبيهقي، لكن هذا مردود بأن ابن جريج قد صرح بسماعه عند عبدالرزاق (18844)، والدارمي، والنسائي في "الكبرى" (7463)، والخطيب البغدادي (1/ 256)، رابن الجوزي، فلا وجه بعد ذلك لاعتبار عنعنة ابن جريج علة قادحة فيه. وأخرجه النسائي في "المجتبى"، (8/88)، وفي "الكبرى) (7461 و 7462)، وابن حبان (4458)، والخطيب (9/135) من طريق سفيان الثوري، والنسائي في "المجتبى" (8/89)، وفي "الكبرى" (7467 و7468)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/171)، والبيهقي (8/279) من طريق المغيرة بن مسلم، وعبدالرزاق (18845 و18859)، وابن عدي في "الكامل" (7/2641-2642) من طريق ياسين الزيات. ثلاثهم عن أبي الزبير، به.
قلت: سفيان الثوري ثقة إمام، لكن قال النسائي: لم يسمعه من أبي الزبير، والمغيرة ابن مسلم صدوق حسن الحديث، لكن قال النسائي: ليس بالقوي في أبي الزبير. وكذلك استنكر أحاديثه عن أبي الربير يحيى بن معين في رواية عنه. وأما ياسين الزيات فضعيف، لكن هذه الطرق الثلاثة مجتمعة تصلح لتقوية حديث ابن جريج. وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((من انتهب نهبة مشهورة فليس منا))، سلف برقم (14351) روي من طريق زهير بن معاوية، عن أبي الزبير، وهذه متابعة أخرى قوية لابن جريج. وقد وقع في طريق ياسين الزيات عند عبدالرزاق (18859) تصريح أبي الزبير بسماعه من جابر، لكن ياسين ضعيف، فلا يعتمد عليه في تثبيت سماع أبى الزبير من جابر. وأخرجه ابن أبي شيبة (10/47)، والنسائي في "المجتبى" (8/89)، و"الكبرى" (7469) من طريق أشعث بن سوار، عن أبي الزبير، عن جابر موقوفًا. وأشعث بن سوار ضعيف. وأخرجه مرفوعًا الطبراني في "الأوسط" (3864) من طريق أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن جابر. إسناده ضعيف جدًّا، لا يصلح للمتابعة. وللنهي عن الاختلاس انظر.... وله شاهد من حديث أنس بن مالك عند الطبرانى في "الأوسط" (513)، ورجال إسناده ثقات ولقصة المختلس شاهد من حديث عبدالرحمن بن عوف عند ابن ماجه (2592)، وصححه الحافظ في "التلخيص" (4/66).
والنهب: الأخذ على وجه العلانية والقهر. والخائن: هو الآخذ مما في يده على وجه الأمانة. وأما الاختلاس: فهو أخذ الشيء من ظاهر بسرعة."حاشية النسائي" للسندي. وانظر "شرح السنة" (10/323)، و"المغني" (2/416).
( ) في (ك): ((هذا حديث)).(5/62)
المتاع قطعٌ لكان يلزم القطع كلَّ (1) من جَحَد شيئًا من( الأشياء (2) ثمَّ ثبت عليه. وهذا لا قائل به فيما أعلم (3) .
ورابعها: إنَّه لا تعارض بين رواية من روى: ((سرقت)) ولا بين رواية من روى: ((جحدت ما استعارت))؛ إذ يمكن أن يقال: إن المرأة فعلت الأمرين، لكن قطعت في السرقة، لا في الجحد، كما شهد (4) به مساق الحديث، فتأمله
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟!)) إنكارٌ على أسامة، يُفْهَم منه: تحريم الشفاعة في الحدود إذا بلغت الإمام، فيَحْرُم على الشافع وعلى الْمُشَفَّع، وهذا لا يختلف فيه. وقد ذكر الدارقطني (5) عن عروة بن الزبير قال: شفع الزبير (6) – رضي الله عنه - في سارق، فقيل: حتى نُبْلِغَهُ (7) الإمامَ. قال: إذا بلغ الإمام فلعن الله الشافع والْمُشَفَّع، كما (8) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ورواه مالك عن ربيعة بن (9) أبي عبد الرحمن: أن الزبير قال ذلك، ولم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - . والموقوف هو الصحيح. =(5/78)=@ &(5/62)&$
__________
(1) في (ح) و(ك): ((على كل)).
(2) في (ن): ((سائر الأشياء)) بدل ((شيئًا من الأشياء)).
(3) ألحق ناسخ (ف) في الهامش: ((وجه خامس وهو أن قولها كانت تستعير المتاع وتجحده تعريف لها أي أن المرأة التي كانت تستعير المتاع سرقت كما يقال المرأة التي تغزل الحرير مثلاً سرقت فحذف لفظ لفظ سرقت لدلالة الروايات عليه وفي الحديث نفسه ما يدل عليه، وقد جاء صريحًا أنها سرقت قطيفة من بيت رسول الله ? فقطعت لذلك ذكره الخطابي في المعالم)) وكتب فوقها حشـ.
(4) في (ح): يشبه ((نهد)) .
(5) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (2284)، وفي "الصغير" (158)، والدارقطني (3/205) كلاهما من طريق أبو غزية محمد بن موسى المدني، عن عبدالرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه به مثله.
قال الطبراني في "الأوسط" لم يرو هذا الحديث عن هشام بن عروة إلا عبد الرحمن بن أبي الزناد. قال في "الصغير": ((لا يروى عن الزبير إلا بهذا الإسناد تفرد به أبو غزية)).
وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (6/396) وقال: ((رواه الطبراني في "الأوسط" و"الصغير"، وفيه أبو غزية محمد بن موسى الأنصاري ضعفه أبو حاتم وغيره، ووثقه الحاكم. وعبدالرحمن بن أبي الزناد ضعيف)).
وأخرجه الإمام مالك في "الموطأ" (2/835 رقم29) كتاب الحدود، باب ترك الشفاعة للسارق إذا بلغ السلطان، عن مالك، عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن: أن الزبير بن العوام لقي رجلاً قد أخذ سارقًا وهو يريد أن يذهب به إلى السلطان، فشفع له الزبير ليرسله، فقال: لا حتى أبلغ به السلطان، فقال الزبير: إذا بلغت به السلطان فلعن الله الشافع والمشفع. هكذا موقوفًا على الزبير.
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (12/87) بعد أن أشار إلى تخريج الإمام مالك لهذا الأثر: ((وهو منقطع مع وقفه، وهو عند ابن أبي شيبة بسند حسن عن الزبير)).
قال الصنعاني في "سبل السلام" (4/21): ((قيل: وهذا الموقوف هو المعتمد)).
أخرجه ابن أبي شيبة (28066)، والدارقطني في الموضع السابق. كلاهما من طريق وكيع، عن هشام بن عروة، عن عبدالله بن عروة، عن الفرافصة الحنفي قال: مروا على الزبير بسارق فتشفع له، قالوا: أتشفع لسارق؟ فقال: نعم ما لم يؤت به إلى الإمام، فإذا أُتي به إلى الإمام فلا عفا الله عنه إن عفا عنه.
قال ابن حزم في "ألمحلى" (11/153) عقب ذكره لرواية مالك الموقوفة: ((فنظرنا في الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجدناها لا يصلح منها شيء أصلاً)).
(6) في (ن): ((ابن الزبير)).
(7) في (ن): ((يبلغه)).
(8) قوله: ((كما)) سقط من (ن).
(9) في (ف): (عن)) بدل: ((بن)).(5/63)
%(2/426)%
وأمَّا الشفاعة قبل بلوغ (1) الإمام: فقد أجازها أكثر أهل العلم لما جاء في السِّتر على المسلم مطلقًا، لكن قال مالك: ذلك فيمن لم يُعرف منه أذى للنَّاس، فأما من عرف منه (2) شرٌّ، وفسادٌ: فلا أحبُّ أن يُشْفع فيه.
وأمَّا الشفاعة فيما ليس فيه حدٌّ وليس فيه حق لآدمي، وإنَّما فيه التعزير فجائزة (3) عند العلماء بلغ الإمام أم لا (4) .
وقوله: ((إنَّما أهلك (5) الذين قبلكم أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدَّ))؛ تهديد، ووعيد شديد على ترك القيام بالحدود (6) ، وعلى ترك التسوية فيما (7) بين الدَّنيء والشريف، والقوي والضعيف. ولا خلاف في وجوب ذلك.
وفيه حجَّة لمن قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا (8) .
وقوله: ((لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها))؛ إخبارٌ عن مقدَّر يفيد القطع بأمر محقق. وهو وجوب إقامة الحد على البعيد والقريب (9) ، والبغيض والحبيب، لا تنفع (10) في ذريةٍ (11) شفاعة، ولا تحولُ (12) دونه قرابة ولاجماعة (13) . %(2/427)%
وقولها: ((فحسنت توبتها، وتزوَّجت...)) إلى آخره؛ يدلّ على صحة توبة =(5/79)=@ السَّارق، وأنها ماحيةٌ لإثم السَّرِقة، وللمعرَّة (14) اللاحقة، فيحرم (15) تعييره بذلك. أو يعاب (16) عليه شيء مما كان هنالك. وهكذا (17) حكم أهل الكبائر إذا تابوا منها، وحسنت أحوالهم بعدها، تُسمعُ أقوالهم، وتُقبل شهادتهم (18) . وهذا مذهب الجمهور، غير أن أبا حنيفة قال: لا تقبل شهادة القاذف المحدود مطلقًا وإن تاب. وقال مالك: لا تُقبل شهادة المحدود فيما حدّ فيه، وتُقبل في غيره. &(5/63)&$
__________
(1) في (ح): ((قبل البلوغ)) وكتب في الهامش ((بلوع الإمام)).
(2) قوله: ((منه)) سقط من (ن).
(3) في (أ) و(ق) و(ح) و(ف) و(ن): ((فجائز)).
(4) في (ق): ((أم لا)) وكتب في لاهامش ((أو لا))، ووضع فوقها (خ)، وفي (ن): ((أو لا)).
(5) في (ن): ((هلك)).
(6) في (ق): ((بالحقوق))و كتب في الهامش ((بالحدود)) ووضع فوقها (خ).
(7) في (أ) و(ق) و(ح) و(ف): ((فيها)).
(8) من قوله: ((والضعيف ولا خلاف...)) إلى هنا سقط من (ن).
(9) في (ن): ((القريب والبعيد)).
(10) في (ق): ((لا ينفع)).
(11) في (ف): ((درئة)) كذا رسمت.
(12) في (ق) و(ن): ((ولا يحول)).
(13) في (ح): يشبه ((حماية)).
(14) في (ح): ((والمعرة))، وفي (ق): ((أو المعرة)).
(15) في (ن): ((فيحروم)) كذا رسمت.
(16) في (أ) و(ح) و(ف) و(ك) و(ق) و(ن): ((يعاد)).
(17) في (ف) و(ن): ((وهذا)).
(18) في (ح) و(ن) و(ق) و(ف): ((شهاداتهم)).(5/64)
ومن باب حدّ البكر والثيِّب (1) إذا زنيا (2)
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً))؛ أي: افهموا عني تفسير السبيل المذكور (3) في قوله تعالى: {فأمسكوهن فى البيوت حتى يتوفاهنَّ الموت أو يجعل الله لهنَّ سبيلاً} (4) ، واعملوا به. وذلك: أن مُقْتضى (5) هذه الآية: أن من زنى حبس في بيته (6) إلى أن يموت. وكذا (7) قاله ابن عباس في النساء، وحكي عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن ذلك حكم (8) الزانيين؛ يعني: الرَّجل والمرأة. فكان ذلك =(5/80)=@ الحبس هو حدّ الزناة (9) ؛ لأنَّه (10) كان يحصل به إيلام %(2/428)% الجاني وعقوبته؛ بأن يمنع من التصرف والنكاح وغيره طول حياته، وذلك عقوبةٌ وزجرٌ، كما يحصل (11) من (12) الجلد والتغريب. فحقيق (13) أن يُسمّى ذلك الحبس حدًّا، غير أن ذلك الحكم كان محدودًا (14) إلى غاية وهو أن يبين الله لهن سبيلاً آخر غير الحبس، فلما بلغ وقت (15) بيانه المعلوم (16) عند الله أوضحه الله تعالى لنبيَّه (17) - صلى الله عليه وسلم - فبلَّغه لأصحابه – رضي الله عنهم -، فقال لهم: ((خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام، والثيِّب بالثيِّب جلد مائة والرَّجم))، فارتفع حكم الحبس في البيوت لانتهاء غايته. وهذا نحو قوله (18) تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} (19) ، فإذا جاء الليل ارتفع حكم الصيام، لانتهاء غايته، لا لنسخه (20) . ولهذا (21) يعلم بطلان قول من قال: إن الحبس في البيوت في حق البكر منسوخ بالجلد المذكور في النور (22) ، وفي حق الثيِّب بالرَّجم المجمع (23) عليه. وهذا ليس بصحيح لما ذكرناه (24) أولاً، ولأن الجمع بين الحبس، والجلد، والرَّجم ممكن، فلا تعارض، وهو شرط النسخ مع علم المتأخر (25) من &(5/64)&$
__________
(1) في (ق): ((الثيب والبكر))، وفي (ن): ((الثيب والبكر إذا زنت)).
(2) كتب ناسخ (ف) في الهامش: ((الزنى مقصور وهي لغة القرآن ونبه لغة بالمد ونمه قول الفرزدق:
أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه ... ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرًا
الخرطوم الخمر وزنا في الجبل مهموز صعد)) وكتب تتميم.
(3) قوله: ((المذكور)) سقط من (ك).
(4) سورة النساء؛ الآية: 15.
(5) ف (ن): ((تقتضي)).
(6) في (ك) و(ق): ((بيت)).
(7) في (ح) و(ك): ((كذا)).
(8) في (ك): ((في)) بدل ((حكم)).
(9) في (ق): ((الزاني)) وألحق في الهامش ((الزناة)).
(10) في (ن): ((ولأنه)).
(11) في (ن): ((عما كان يحصل)).
(12) في (ك): ((في)).
(13) في (ن): ((فتحقيق)).
(14) في (أ) و(ن): (((ممدودًا))، و(ك) و(ف) وكذا في هامش (ق).
(15) في (ح): ((وقر)).
(16) في (أ): ((لعلوم)).
(17) في (ن): ((أوضحه لنبيه)).
(18) في (ق): ((من قوله)) ووضع فوقها (خ).
(19) سورة البقرة؛ الآية: 187.
(20) في (ح): ((لفسخه)). وكذا في هامش (ق). ووضع فوقها (ب).
(21) في (ح): ((المجتمع)).
(22) في (ح): ((البكور)).
(23) في (ح): ((المجتمع)).
(24) في (ك): ((ذكرنا)).
(25) في (ن): ((المستأخر)).(5/65)
المتقدم (1) ، كما قدَّمناه في باب النسخ في الأصول (2) . وإذا تقرر هذا فاعلم: أن الأمَّة مُجْمِعة: على أن البكر، وتعني (3) به: الذى لم يحصن إذا زنى (4) جلد الحدّ. وجمهور العلماء من الخلفاء، والصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، على وجوب التغريب مع الحدّ (5) إلا أبا حنيفة، وصاحبه محمد بن الحسن، فإنَّهما قالا: لا تغريب عليه. فإن النصّ الذي في الكتاب إنَّما هو على جلد الزاني، والتغريب زيادةٌ عليه، والزيادة على النصّ نسخ فيلزم عليه نسخ القرآن القاطع (6) بخبر الواحد، فإن التغريب إنما ثبت (7) بخبر الواحد.
والجواب: أنا لا نسلِّم: أن الزيادة على النص نسخٌ، بل زيادة حكم آخر مع (8) =(5/81)=@ الأصل، فلا تعارض (9) ، فلا (10) نسخ. وقد بيَّنا ذلك في الأصول، سلمنا %(2/429)% ذلك، لكن هذه الآية ليست بنصٍّ، بل (11) عموم (12) ظاهرٌ، فيخصّص منها بعض الزناة (13) بالتغريب، كما يخصِّص (14) بعضهم بالرَّجم، ثمَّ يلزمهم (15) ردَّ الحكم بالرجم فإنه زيادة على نصّ القران، وهو ثابت بأخبار الآحاد. ولو سلَّمنا: أن الرَّجم ثبت بالتواتر، فشرطه الذي هو الإحصان ثبت باخبار الآحاد، ثم هم (16) قد نقضوا هذه القاعدة التي قعدوها في مواضع كثيرةٍ بيَّناها في الأصول.
ومن أوضح ذلك: أنهم أجازوا الوضوء بالنبيذ معتمدين في ذلك على خبر ضعيف لم يصحّ عند أهل العلم بالحديث (17) ، وهو زيادة على ما نصّ عليه القران من استعمال الماء.
ثم القائلون بالتغريب اختلفوا فيه. فقال مالك: ينفى من مصر إلى الحجاز وشَغْب (18) وأسوان ونحوها. ومن (19) المدينة إلى خيبر وفدك (20) ، وكذلك فَعَل عمر بن عبد العزيز. وقد نفى عليٌّ - رضي الله عنه - من الكوفة إلى البصرة (21) (22) . قال مالك: ويحبس (23) في البلد الذي نُفي إليه. وقيل (24) : يُنفى إلى عمل (25) غير عمل بلده. وقيل: إلى غير بلده (26) . وقال الشافعي: أقلُّ ذلك يوم وليلة.
قال الشيخ رحمه الله: والحاصل: أنَّه ليس في ذلك حدٌّ محدود، وإنَّما هو بحسب ما يراه الإمام، فيختلف بحسب اختلاف أحوال الأشخاص على حسب (27) ما يراه أردع.
ثمَّ القائلون بالتغريب لم يختلفوا في تغريب الذكر الحرّ. واختلفوا في تغريب المرأة والعبد. فمن (28) رأى التغريب فيهما؛ أخذ (29) بعموم حديث (30) التغريب.
وممن رأى التغريب (31) ابن عمر، وقد &(5/65)&$
__________
(1) في (ك): ((مع علم المتأخر والمتقدم))، وصوبت بالحاشية.
(2) في (ق) و(ن): ((في أصول الفقه)).
(3) في (ك) و(ن): ((ويعني)) وفي (ف): ((يعني)) بلا واو.
(4) في (ن): ((راى)) بدل ((زنى)).
(5) في (ح) و(ن): ((الجلد)). وكذا ألحق في هامش (ق).
(6) في (ح): ((المقطوع به)).
(7) في: (أ): يشبه أن يكون ((يثبت))، وفي (ف): ((يثبت)).
(8) في (ف): ((على)) بدل ((مع)).
(9) في (ن): ((فلا يعارض)).
(10) في (ق): ((ولا)).
(11) في (ح): ((على)).
(12) في (ن): ((بعموم)).
(13) في (ق): ((الزيادة)).
(14) في (ق): ((تخصص)).
(15) في (ف): ((يلزم)).
(16) في (ن): ((هو)) وكأنه أصلحها إلى ((هم)).
(17) قال النووي في "شرح مسلم" (2/91): ((وحديث النبيذ ضعيف باتفاق المحدثين)).
وقال الحافظ في "فتح الباري" (1/354): ((وهذا الحديث أطبق على السلف على تضعيفه)).
(18) شغْب - بسكون الغين -: موضع بين المدينة والشام. "لسان العرب" (1/505)، وفي (أ) و(ق) و(ك) و(ف): ((شعب))، ولم تتضح في (ن).
(19) في (ح): ((من)) بلا واو.
(20) فدك: قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان، وقيل: ثلاثة. "معجم البلدان" (4/238).
(21) في (ن): ((من البصرة إلى الكوفة)).
(22) أخرجه الشافعي في "الأم" (7/180)، ومن طريقه البيهقي في "معرفة السنن والآثار" (12/291).
وأخرجه البيهقي (8/223) كلاهما من طريق هشيم، عن الشيباني، عن الشعبي: أن عليًّا نفى إلى البصرة. هكذا مختصرًا عند الشافعي. وعند البيهقي في الموضع الأول، إلا أنه قال في الإسناد: فيما بلغه عن هشيم.
وزاد البيهقي في الموضع الثاني: من البصرة إلى الكوفة، أو من الكوفة إلى البصرة.
وأخرجه الشافعي في أيضًا فيما تقدم عن ابن مهدي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أشياخه: أن عليًّا، فذكره مثل ما تقدم مختصرًا. ومن طريقه البيهقي في "معرفة السنن والآثار" (12/292)، وقال في الإسناد: ((فيما بلغه عن ابن مهدي)).
وأخرجه عبدالرزاق (13323)، وذكره ابن عبدالبر في "التمهيد" (9/89-90) من طريق سفيان، عن أبي إسحاق: أن عليًّا...، فذكر مثله.
وأخرجه ابن أبي شيبة (28790): حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن يحيى: أن عليا نفى إلى البصرة.
(23) في (ن): ((يحبس)) بلا واو.
(24) في (ق): ((وقد)).
(25) في (ن): ((بلد)) بدل ((عمل)).
(26) قوله: ((وقيل إلى غير بلده)) سقط من (أ) و(ف) و(ق) و(ن).
(27) في (ن): ((حيسب)).
(28) في (ف) و(ح): ((فممن)).
(29) في (ف) و(ح): ((أخذا)).
(30) قوله: ((حديث)) سقط من (ك) و(ح) و(ن).
(31) قوله: ((وممن رأى التغريب)) سقط من (أ) و(ح).(5/66)
حدّ مملوكة له في الزنى، ونفاها إلى فدك (1) . وبه قال الشافعي، وأبو ثور، والثوري، وا لطبري، وداود. %(2/430)% وهل يُنْفى العبد والأمة سنة أو نصف سنة؟ قولان عند الشافعي. وذهب معظم القائلين بالنفي إلى (2) أنه لا نفي على مملوك وبه قال الحسن وحماد بن =(5/82)=@ أبي سليمان، ومالك، وأحمد، وإسحاق. ولم ير مالك، والأوزاعي على النساء نفيًا. وروي مثله عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه - (3) بناءً على تخصيص حديث النفي.
أما في الأَمَة: فبقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ثلاثًا)). ثم قال بعد ذلك: ((ثم إن زنت فبيعوها ولو بِظفِير (4) ))، ولم يذكر النفي، وهو موضع بيان، ووقته، ولا (5) يجوز تأخيره عنه، ولأن تغريب المملوك عقوبة لمالكه يمنعه من منافعه في مدة تغريبه، ولا يناسب ذلك تصرُّف الشرع، فلا (6) يعاقب غير الجاني، ألا ترى أن العبد لا يجب (7) عليه الحجَّ، ولا الجمعة، ولا الجهاد لحق السيِّد؟ فِبأنْ (8) لا يغرب أولى.
وأمَّا في حق الحرَّة: فلأنها لا تسافر مسيرة (9) يوم وليلة إلا مع ذي محرم أو زوج، فإن أوجبنا التغريب على هؤلاء معها كنا قد عاقبناهم وهم برءاءُ، وإن لم نوجبه (10) عليهم لم يجز لها أن تسافر وحدها فتعذَّر سفرها. فإن قيل: تسافر مع رفقة (11) مأمونة أو النساء؛ كما يقوله (12) مالك في سفر الحجّ. فالجواب: إن ذلك من مالك سعيٌ في تحصيل وظيفة (13) الحجّ لعظمها (14) وتأكد أمرها، بخلاف تغريب الزانية؛ فإن المقصود منه (15) المبالغة في الزجر والنكال، وذلك حاصل بالجلد، ولأن إخراج المرأة (16) من بيتها الأصل منعه. ألا ترى: أن صلاتها في بيتها أفضل، ولا تخرج منه في العِدَد (17) . وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ((أَعْرُوا (18) النساء يَلْزَمْن الحِجالَ)) (19) .
وحاصل ذلك: أن في إخراجها من بيتها إلى بلد آخر تعريضها (20) لكشف عورتها، وتضييعٌ (21) لحالها، وربما يكون ذلك سببًا لوقوعها فيما (22) أخرجت من سببه، وهو (23) الفاحشة. ومآل (24) هذا البحث تخصيص عموم التغريب بالمصلحة المشهود لها بالاعتبار، وهو مختلف فيه، كما ذكرناه (25) في الأصول. =(5/83)=@ &(5/66)&$
__________
(1) ...تخريج.
(2) قوله: ((إلى)) سقط من (ف).
(3) ...... تخريج.
(4) في (ف): ((نظفير)).
(5) في (ك): ((لا)).
(6) في (ن): ((ولا)).
(7) في (ك): ((لا يحب)).
(8) في (ح): ((فأن)).
(9) في (ق): ((سفر)).
(10) في (ن): ((نوجب)).
(11) في (ن): ((رقيقة)).
(12) في (ح): يشبه ((قوله)).
(13) في (أ): ((وضيفة)) و(ك).
(14) في (ن): ((لفضلها)).
(15) في (ق): ((منها))، وفي (ن): ((هنا)).
(16) في (ق): ((امرأة)).
(17) في (ح) و(ك): ((العدة)).
(18) في (ق): يشبه ((اغروا)).
(19) أخرجه الطبراني في "الكبير" (1063)، وفي "الأوسط" (3073)، والصيداوي في "معجم الشيوخ" (1/150)، والقضاعي في "مسند الشهاب"، والخطيب في "تاريخ بغداد" (9/367)، و(12/319) و(6/117)، وابن عساكر في "تاريخه" (25/214)،و(40/53)، وابن الجوزي في "الموضوعات" (1297). كلّهم من طريق شعيب بن يحيى، عن يحيى بن أيوب، عن عمرو بن الحارث، عن مجمع بن كعب، عن سلمة بن مخلد، به مرفوعًا.
قال ابن الجوزي عقب إخراجه: ((ليس من هذه الأحاديث حديث ما يصح، وأما حديث سلمة - وهو الذي معنا - فقال أبو حاتم: شعيب بن يحيى ليس بمعروف، وقال إبراهيم الحربي: ليس لهذا الحديث أصلٌ)).اهـ.
وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/138): ((فيه مجمع بن كعب، لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات)).
(20) في (ق): ((تعريضها)) وكتب في الهامش ((تعرضها))، وفي (ن): ((تعرضها)).
(21) في (ح) و(ك) و(ن) و(ق): ((تضييعًا)).
(22) في (أ): ((فلما)).
(23) في (ح): ((وهي)).
(24) في (ق): ((وقال)).
(25) في (ح): ((ذكره))، وفي (ك): ((ذكرنا)).(5/67)
%(2/431)%
وقوله: ((والثيِّب بالثيِّب جلد مائة والرَّجم))؛ الثيب هنا: هو المحصن، وهو البالغ، العاقل، الحرّ، المسلم، الواطيء وطئًا مباحًا في عقد صحيح. هذه شروط الإحصان عند مالك، وقد اختلف (1) في بعضها. ولبيان ذلك موضع آخر. فإذا زنى المحصن وجب الرَّجم بإجماع (2) المسلمين، ولا(التفات لانكار الخوارجِ والنّظَّامِ الرَّجْمَ، إمَّا لأنهم ليسوا بمسلمين عند من يكفِّرهم، وإما لأنَّهم لا يعتد بخلافهم؛ لظهور بدعتهم وفسقهم على ما قرَّرنا (3) في الأصول.
وهل يجمع عليه الجلد والرَّجم؟ كما هو ظاهر هذا الحديث؛ وبه قال الحسن البصري، وإسحاق، وداود، وأهل الظاهر. وروي عن علي (4) بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أنَّه جمع ذلك على شراحة (5) ، وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . أو يقتصر على الرَّجم وحده؟ وهو مذهب الجمهور، متمسكين بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزًا والغامدية ولم يجلدهما، وقال: ((أُغْدُ يا أُنَيْس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها)) (6) ، ولم يذكر الجلد، فلو (7) كان مشروعًا لما سكت عنه، وكأنَّهم رأوا: أن هذا أرجح من حديث الجمع بين الجلد والرَّجم، إما لأنَّه منسوخ إن عرف (8) التاريخ، وإمَّا لأن العمل المتكرر من النبي - صلى الله عليه وسلم - في أوقات متعددة أثبت (9) في النفوس، وأوضح، فيكون أرجح. وقد شذَّت طائفة فقالت: يجمع الجلد والرجم على الشيخ، ويُجلد الشابُّ تمسُّكًا (10) بظاهر لفظ (11) ((الشيخ)). وهو خطأ، فإنَّه قد سَمَّاه في الحديث الآخر: ((الثيب)). =(5/84)=@
وقوله في الأصل: ((كرب لذلك وتَرَبَّد وجهه))؛ أي: أصابه كربٌ، وعلت وجهه غَبَرَةٌ. والرَّبدة: تغيير (12) البياض للسواد (13) ، وقد تقدم في الإيمان. %(2/432)%
وقول عمر – رضي الله عنه -: ((كان مما (14) أنزل الله تعالى على نبيه (15) - صلى الله عليه وسلم - آية الرَّجم، فقرأناها، ووعيناها، وعقلناها))؛ هذا نصٌّ من عمر - رضي الله عنه - على أنَّ هذا كان قرآنًا يُتلى. &(5/67)&$
__________
(1) في (ن): ((اختلفوا)).
(2) في (ح): ((بالإجماع)) وكأنه ضرب على ((لا)).
(3) في (ك) و(ن) و(ق) و(ح): ((قررناه)).
(4) حدثنا حسين بن محمد، حدثنا شعبة، عن سلمة والمجالد، عن الشعبي أنهما سمعاه يحدث: أن عليًّا حين رَجَمَ المرآة من أهل الكوفةِ، ضَرَبَها يومَ الخميس، ورَجَمَها يومَ الجمعةِ، وقالت: أجلِدُها بكتابِ اللهِ، وأرجُمُها بسنةِ نبي الله.
حديث صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين من طريق سلمة- وهو ابن كهيل-، وأما مجالد - وهو ابن سعيد - ضعيف، روى له مسلم مقرونًا وأصحاب السنن. وقد طعن بعضهم - كالحازمي في "الاعتبار" (ص 201). في هذا الإسناد بأن الشعبي لم يسمعه من علي. وقال الحاكم في "معرفة علوم الحديث"(ص 111): لم يسمع الشعبي من علي، إنما رآه رؤية. وقد ذكر الدارقطني في "العلل" (4/96 و97) لهذا الحديث طريقين إحداهما فيها بين الشعبي وبين علي والدُ الشعبي، والثانية فيما بينهما عبد الرحمن بن أي ليلى، ووَهَّم الروايتين جميعًا، وصوَّب روايةَ الشعبي عن علي، وقال: سمح الشعبي من علي حرفًا ما سمع غيرَ هذا. وأخرجه النسائي في "الكبرى" (7141) من طريق وهب بن جرير، وأبو القاسم البغوي في "الجعديات" (505)، وأبو نعيم في "الحلية" (4/329) من طريق علي بن الجعد، كلاهما عن شعبة، بهذا الإسشاد. وأخرجه، البخاري (6812) عن آدم بن أبي إياس، وابن نصر المروزي في "السنة" (356) من طريق محمد بن جعفر، والنسائي (7140) من طريق بهز بن أسد، والطحاوي (3/140) من طريق أبي عامر العقدي، أربعتهم عن شعبة، عن سلمة بن كهيل، به. ورواية آدم مختصرة بقصة الرجم دون الجلد. وأخرجه أبو نعيم (4/329) من طريق حماد بن زيد، عن مجالد، به. وأخرجه أبو نعيم (4/329)، والحاكم (4/365) من طريق إسماعيل بن أبي خالد، والدارقطني (3/124) من طريق أبي حَصِين وحُصين بن عبدالرحمن، ثلاثتهم عن الشعي، به. وصحح الحاكم إسناده ووافقه الذهبي. وأخرجه الطحاوي (3/145) من طريق عبدالرحمن بن أبي ليلى والرضراض بن سعد وحبَّة العُرني، ثلاثتهم عن علي بن أبي طالب.
(5) في (ن): ((سراحه)).
(6) أخرجه البخاري (2190 و2549 و2575 و6440 و4446 و4451 و6467 و6770 و6832)، ومسلم (1697) من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني به. وأبو داود (4445)، والنسائي (8/340-241)، وابن ماجه (2549).
(7) في (ف): ((ولو)).
(8) في (أ): ((عرفه)).
(9) في (ن): ((فأثبت)).
(10) في (أ) و(ف): ((وهو تمسك))، وفي (ن): ((تمسكوا)).
(11) في (ح) و(ك): ((تمسكًا بلفظ)).
(12) في (أ) و(ن) و(ق): ((تغير)).
(13) في (ق): ((للسواد)) وكتب في الهامش ((بالسواد)).
(14) في (ن): ((فيما)).
(15) في (ق): ((ببينا)).(5/68)
وفي آخره ما يدلُّ على أنَّه (1) نُسخ كَونُها من القرآن، وبقي حُكْمُها معمولاً به (2) ، وهو الرَّجم. وقال ذلك عمر – رضي الله عنه - بمحضرِ الصحابة. وفي مَعْدن الوحي، وشاعت هذه الخطبة في المسلمين، وتناقلها (3) الرُّكبان، ولم يسمع (4) في الصحابة ولا فيمن بعدهم من أنكر شيئًا مِمَّا قاله عمر – رضي الله عنه -، ولا راجعه في حياته (5) ولا بعد (6) موته، فكان ذلك إجماعًا منهم على صحة هذا النوع من النسخ. وهو نسخ التلاوة مع بقاء الحكم، ولا يلتفت لخلاف من تأخر زمانه، وقل علمه (7) في ذلك. وقد بيَّنا في الأصول: أن النسخ على ثلاثة أضرب: نسخ التلاوة والحكم، ونسخ الحكم مع بقاء التلاوة، ونسخ التلاوة مع بقاء الحكم.
وقوله: ((فرجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده))؛ يعني: نفسه وأبا بكر رضي الله عنهما.
وقوله: ((فأخشى إن طال زمان أن يقول قائل: ما نجدُ الرَّجم في كتاب الله فيضلُّوا بترك فريضةٍ (8) أنزلها الله عز وجل (9) ))؛ هذا الذى توقعه عمر – رضي الله عنه - قد وقع بعده للخوارج، =(5/85)=@ والنّظَّام؛ فإنَّهم أنْكَرُوا الرَّجم، فهم (10) ضالون (11) بشهادة عمر - رضي الله عنه -، وهذا من الحق الذي جعل الله تعالى على لسان %(2/433)% عمر وقلبه - رضي الله عنه -، ومما يدلُّ على أنَّه كان محدِّثًا (12) بكثير مما غاب عنه، كما شهد له بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (13) .
وقوله: ((فإن (14) الرَّجم في كتاب الله))؛ أي: في حكم الله الذي كان نزل في الكتاب، وكان فيه ثابتًا قبل نسخه، كما قدَّمناه. وقد نصَّ على هذا المعنى فيما ذكره عنه مالك في "الموطأ" (15) ؛ فقال: لولا أن يقول (16) الناس: زاد عمر في كتاب الله لكتبته بيدي: ((الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة)). وهذا من قوله يدلّ على أن الكتاب قد أحكمت آياته وانحصرت حروفه وكلماته، فلا يقبل (17) الزيادة ولا النقصان.
وقوله: ((حقٌّ))؛ أي: ثابت يعمل به إلى يوم القيامة.
وقوله: ((على من زنى من الرِّجال أو النساء إذا أحصن))؛ هذا مجمع عليه؛ &(5/68)&$
__________
(1) في (ف): ((أنها)).
(2) قوله: ((معمولاً به)) سقط من (ف).
(3) في (ح): يشبه ((وتنافلها)).
(4) في (ن): ((ولا سمع)).
(5) في (ح) و(ك) و(ن) و(ق) و(ف): ((لا في حياته)).
(6) في (ح): ((ولا في بعد)).
(7) في (ن): ((عمله)) بدل ((علمه)).
(8) في (ن): ((فريضة الله)).
(9) أشير لها وكتب: من (ق).
(10) قوله: ((فهم)) سقط من (ك).
(11) في (ق): ((ضلال)) وألحق في الهامش ((ضالون)).
(12) قوله: ((محدثا)) لم يتضح في (ن).
(13) (1506).
(14) قوله: ((فإن)) مطموس في (ق).
(15) ؟؟؟
(16) في (ن): ((تقول)).
(17) في (ق) و(ن): ((فلا تقبل)).(5/69)
إذ لم يسمع بمن (1) فرَّق فيه (2) بين الرجال والنساء (3) . وقد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماعزًا والغامدية على ما يأتي.
وقوله: ((إذا قامت البينة، أو كان الحبل، أو (4) الاعتراف))؛ فيعني بالبينة الأربعة الشهداء العدول، المؤدين للشهادة (5) في (6) فَوْرٍ واحد؛ الذين يَصفُون رؤية فرجه في فرجها كالْمِرُّود (7) في المكحلة، المقيمين على شهادتهم (8) إلى أن يقام الحدّ على ما يُعرف في كتب الفقه.
و((الْحَبَلُ)): يعني به: أن يظهر بامرأة لا زوج لها، ولا سيِّد، وكانت غير طارِئةٍ - حَبَلٌ، ولم يظهر ما يدلُّ على الإكراه مثل أن تتعلق =(5/86)=@ به، وتفضح نفسها، وهي تُدْمَى (9) ، فأما لو %(2/434)% لم يكن إلا قولها أنها أكرهت، ولم يظهر ما يدلّ على الإكراه (10) ، فإنَّها لا يَدْفَع (11) الحدّ عنها مجرَّدُ (12) قولِها، ولا يكون قولها شبهة عندنا، وهو شبهة عند أبي حنيفة يدْرأ بها الحدّ (13) . وبه (14) قال ابن المنذر، والكوفيون، والشافعي، قالوا: إذا(وجدت المرأة حاملاً فلا حدّ عليها إلا أن تقرَّ بالزنى، أو تقوم (15) عليها بيِّنة. ولم يفرِّقوا بين الطارئة وغيرها. ويرد عليهم قول عمر - رضي الله عنه -: ((أو الْحَبَل)) بحضرة الصحابة ولا منكر. وأيضًا: فمثل هذا لا يقوله (16) عمر - رضي الله عنه - عن اجتهاد إنَّما (17) يقوله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لكنَّه لم يصرَّح بالرفع. ولا يضرُّنا ذلك (18) . ولو سلَّمنا: أنَّه قاله عن اجتهاد فاجتهاده راجحٌ على اجتهاد غيره؛ لشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - ((بأن الله تعالى جعل (19) الحق على لسانه وقلبه)) (20) . وسيأتي الكلام في الاعتراف، إن شاء الله تعالى (21) . =(5/87)=@ &(5/69)&$
__________
(1) في (ن): ((لمن)).
(2) قوله: ((فيه)) سقط من (ح).
(3) في (ك): ((النساء والرجال)).
(4) في (ق): ((و)) بدل ((أو)).
(5) في (ك): ((الشهادة)).
(6) في (ف): ((من)) بدل ((في)).
(7) المرود - بكسر الميم -: الميل الذي يكتحل به. "النهاية" (4/321).
(8) في (أ) و(ن): ((شهاداتهم))، وفي (ح): يشبه ((شهاداتهم)).
(9) في (ن): ((ترمي)).
(10) من قوله: ((مثل أن تتعلق به...)) إلى هنا سقط من (أ).
(11) في (ق): ((لا يدفع)) وكتب في الهامش ((يرفع))، وفي (ن): ((ترفع)).
(12) في (ق) و(ن): ((بمجرد)).
(13) في (ن): ((الحدود)).
(14) قوله: ((وبه)) سقط من (ن).
(15) في (ح): ((وتقوم)).
(16) في (ق): ((لا يفعله))، وألحق في الهامش: ((لا يقوله عمر)).
(17) في (ف): ((بل إنما)).
(18) في (ن): ((ولا يضر ذلك)).
(19) في (ح) و(ك): ((قد جعل)).
(20) حديث صحيح، وهذا إسناد جيد، رجاله ثقات رجال الشيخين غير نافع بن أبي نعيم، فقد روى له ابن ماجه في "التفسير"، وهو صدوق.
وأخرجه ابن سعد (2/335)، وعبد بن حميد (758) عن عبدالملك بن عمرو، بهذا الإسناد. وأخرجه أبو نعيم في "أخبار أصبهان" (2/327) من طريق القعنبي، وابن عبدالبر في "التمهيد" (8/109) من طريق سعيد بن أبي مريم، كلاهما عن نافع بن عبدالرحمن بن أبي نعيم، به. وأخرجه عبدالله بن أحمد في زياداته على "فضائل الصحابة" (395)، والقطيعي في زياداته عليه (525)، والطبراني في "الأوسط" (291) من طريق الضحاك بن عثمان، وأبو محمد البغوي في "شرح السنة"، (3875) من طريق عبدالله بن عمر، كلاهما عن نانع، به.
وفي الباب عن أبي هريرة، وصححه ابن حبان (6889). وعن أبي ذر (5/145). وعن بلال عند ابن أبي عاصم (1248)، والطبراني في "الكبير" (1077)، وابن أبي حاتم في "العلل" (2669)، ونقل عن أبي زرعة أن حديث أبي ذر أشبه. وعن معاوية عند الطبراني في "الكبير، (19/707). وعن عائشة مطولاً عند ابن سعد في "الطبقات" (2/335).
(21) قوله: ((إن شاء الله تعالى)) سقط من (ح) و(ك).(5/70)
********إلى هنا انتهى تنزيل حواشي محمد مصطفى********
ومن باب إقامة الحد على من اعترف على نفسه بالزنى
قول ماعز - رضي الله عنه - في هذه الرِّواية: ((يا رسول الله! طهرني))؛ ولم يذكر فيها مماذا يُطهَّر (1) ؟ وإنما أراد به: من إثم الزنى، بإقامة الحدّ، كما قد (2) جاء في الرِّواية الأخرى، فإنَّه قال: يا رسول الله! إني قد (3) ظلمت نفسي، وزنيت، وإني أريد أن تطهرني. وهذه رواية محكمة ،(وهكذا هذا الحديث روي بألفاظ متعددة (4) بعضها يفسر بعضًا، أو يُقيِّد (5) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((ويحك! ارجع فاستغفر الله وتب إليه))؛ يدل: على أن ما كان من حقوق الله تعالى يكفي في الخروج من إثمه التوبة (6) ، والاستغفار، %(2/435)% وإن كان فيه حدٌّ. وفيه: جواز ستر الإمام على الزاني ما لم يتحقق السبب، فاذا تحقق السبب الذي يترتب عليه الحدّ فلا بدَّ من إقامته، كما ذكره مالك في "الموطأ" من مراسيل ابن شهاب (7) ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من بلي بشيء من هذه القاذورات (8) فليستتر، =(5/88)=@ فإنَّه من يُبْد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله)). فأمَّا حقوق الآدميين: فلا بدَّ مع التوبة من الخروج منها.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((أبك جنون؟)) هذا سؤال أوجبه ما ظهر على السَّائل (9) من الحال &(5/70)&$
__________
(1) في (ك): ((يطهره)).
(2) قوله: ((قد)) سقط من (ح) و(ك).
(3) قوله: ((قد)) سقط من (ح).
(4) قوله: ((متعددة)) سقط من (ك).
(5) في (ح): ((ويقيده)).
(6) في (ح): ((بالتوبة)).
(7) هو في "الموطأ" عن زيد بن أسلم به، وليس من رواية ابن شهاب كما ذكر المصنِّف. وروي هذا الحديث مرفوعًا ومرسلاً :
فالمرفوع: أخرجه العقيلي في "الضعفاء الكبير" (2/248) من طريقين في ترجمة عبدالله ابن دينار، والحاكم (4/244) و(4/383)، والبيهقي (8/330) من طريقين، ثلاثتهم من طريق يحيى بن سعيد، عن عبدالله بن دينار، عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن رجم الأسلمي قال: ((اجتنبوا هذه القاذورة التي نهى الله عنها، فمن ألم فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله، فإنه من يُبد لنا صفحته نقم كتاب الله عليه)). هذا لفظ الحاكم. وعند العقيلي والبيهقي مثله، إلا أن العقيلي لم يذكر قوله: ((وليتب إلى الله)). وقال البيهقي في الطريق الأولى: ((قال الجعفي: أراه عن ابن عمر)).
وأخرجه عبد الرزاق (13336) قال ابن جريج: فأخبرني يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن دينار مولى ابن عمر؛ أنه بلغه: أن رجلاً من أسلم جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال...، فذكر مثله مختصرًا، هكذا بلاغًا.
ومن طريقه العقيلي في "الضعفاء" (2/248-249) بلاغًا أيضًا.
وأخرجه عبدالرزاق (13342) من طريق ابن عيينة، فأخبرني عبدالله بن دينار قال: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فقال: يا أيها الناس! اجتنبوا هذه القاذورة... وذكر نحوه مختصرًا بزيادة عن قصة ماعز ومراجعته عمر، ثم أبي بكر قبل إتيانه النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وأخرجه العقيلي - فيما تقدم -: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا بهذا الحديث يحيى بن سعيد، عن عبدالله بن دينار. ثم سألت ابن دينار عنه؟ فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر: ((اجتنبوا هذه القاذورة))، فذكره.
قال العقيلي: ((وقد روي عن عبدالله بن دينار شعبة، وسفيان...)) إلى أن قال: ((وأما ما رواية المشائخ عنه ففيها اضطراب)).
قال الحاكم في الموضع الول: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
وأما المرسل: فأخرجه مالك في "الموطأ" (2/825 رقم12) كتاب الحدود، باب ما جاء فيمن اعترف على نفسه بالزنا. وعنه الشافهي في "الأم" (6/145)، ومن طريق الشافعي البيهقي في "شعب الإيمان" (9226). جميعهم من طريق مالك، عن زيد بن أسلم: أن رجلاً اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسوط، فأتي بسوط مكسور، فقال: ((فوق هذا))، فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته، فقال: ((دون هذا))، فأتي بسوط قد ركب به ولان، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلد، ثم قال: ((أيها الناس! قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، من أصاب من هذه القاذورات شيئًا فليستتر بستر الله، فإنه من يُبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله)).
وذكره ابن عبد البر في "التمهيد" (5/321). قال الشافعي - فيما تقدم -: ((هذا حديث منقطع ليس مما يثبت به هو نفسه حجة...)) اهـ.
وقال ابن عبدالبر - فيما تقدّم -: ((هكذا روى هذا الحديث مرسلاً جماعة الرواة للموطأ، ولا أعلمه يستند بهذا اللفظ من وجه من الوجوه. وقد روى معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله سواء)).
(8) في (أ): ((القاذورة)).
(9) في (أ) و(ح): ((المسئول)).(5/71)
التي تشبه حال المجنون، وذلك: أنَّه كان دخل (1) إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منتفش الشعر، ليس عليه رداء، يقول: زنيت فطهرني. كما قد صحَّ في الرِّواية، وإلا فليس من المناسب أن ينسب الجنون لمن (2) أتى على هيئة العقلاء، وأتى بكلام منتظم مُفيد (3) ، لا سيما إذا كان فيه طلب الخروج من مأثم.
وقوله: ((أَشرِبَ (4) خمرًا؟)) و((استِنْكَاهُهُم له))؛ يدلُّ على أن مَنْ (5) وجدت منه رائحة الخمر حكم له بحكم من شربها. وهو مذهب مالك، والشافعي. وهو قول عمر بن الخطاب (6) ، وابن مسعود (7) ، وعمر بن عبدالعزيز. وقال آخرون: لا يُحَدُّ بالرِّيح بل بالاعتراف، أو البيِّنة، أو يُوجد سكران. وإليه ذهب عطاء وعمرو بن دينار، والثوري، غير أنه قال: يعزر من وجد منه ريح الخمر.
وفيه من الفقه ما يدلُّ على أن المجنون لا تعتبر أقواله، ولا يتعلَّق بها حكم، وهذا لا يختلف فيه. =(5/89)=@ %(2/436)%
وظاهر هذا الحديث: أن السَّكران مثل المجنون في عدم اعتبار إقراره، وأقواله. وبه قالت طائفة من أهل العلم. وقالت طائفة (8) أخرى (9) ، وهو مالك، وجل أصحابه: يؤخذ بإقراره؛ لأنه لا يعرف المتساكر من السَّكران، ولأنَّه لَمَّا كان مختارًا لإدخال السُّكر على نفسه صار كأنه مختار لما يكون في سكره. وهذا مع أنا نقول: إن من ذهب عقله حتى لا يميز شيئًا فليس بمكلَّف، ولا مخاطب خطاب تكليف في تلك الحال بالإجماع، على ما حكاه ابن العريف. وإنَّما يتعلَّق به خطاب الإلزام المسمَّى بخطاب الوضع والإخبار؛ على ما بيَّناه (10) في الأصول.
واعترافه على نفسه مول أربع مرَّات يَسْتدلُ به من يشترط في قبول إقرار الزاني العدد. وهم (11) : الحكم، وابن أبي ليلى، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي؛ فقالوا: لا يقام عليه الحدّ إلا إذا أقرَّ على نفسه أربع مرَّات تمسُّكًا بهذا الحديث، وبأن الإقرار بالزنى كالشهادة عليه، وقد انعقد الإجماع: على أن شهود الزنى أربعة، فيكون الإقرار أربعة. ومن هؤلاء من شرط أن تكون الأربع الإقرارات (12) في مجلس واحد. &(5/71)&$
__________
(1) في (ح) و(ك): ((وذلك أنه جاء)).
(2) في (ح) و(ك): ((إلى من)).
(3) قوله: ((مفيد)) سقط من (ح)، وفي (ك): ((مُقيد)).
(4) في (ك): ((أشربت)).
(5) قوله: ((من)) سقط من (أ).
(8) قوله: ((طائفة)) سقط من (أ).
(9) قوله: ((أخرى)) سقط من (ح).
(10) في (ح): ((على ما ذكره)).
(11) في (ح): ((وهو)).
(12) في (ك): ((الإقرارات الأربعة)).(5/72)
وإليه ذهب ابن أبي ليلى، وأحمد. وقال أصحاب الرأي: إذا أقرَّ أربع مرَّات في مجلس واحد فهو بمنزلة مرة واحدة.
قلت: والأوَّل (1) مقتضى قياس الإقرار بالزنى على الشهادة به، وعلى القول الثاني يمتنع الإلحاق. والصحيح: أنَّه لا يشترط في الإقرار بالزنى، ولا غيره عدد. وهو مذهب الجمهور: مالك، والشافعي، وأبي ثور. وبه قال الحسن، وحمَّاد. والدَّليل على صحة ذلك: أنه - صلى الله عليه وسلم - رجم الغامدية بإقرارها مرة واحدة، ولم يستعد منها الإقرار، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((وأغْدُ يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها))، (2) ، ولم يأمره بأن (3) =(5/90)=@ يستعيد إقرارها بذلك أربع مرَّات. وأما %(2/437)% تكرار اعتراف ماعز فإنما كان لأجل إعراضه عنه - صلى الله عليه وسلم - في الثلاث المرَّات ليستر نفسه، وليتوب، ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعادة ذلك. وأمَّا قياسهم الإقرار على الشهادة فليس بصحيح، للفرق بينهما من وجوه متعددة. وذلك: أن إقرار الفاسق والعبد على نفسه مقبوذ بخلاف شهادتهما، ويكفي منه في سائر الحقوق مرة واحدة بالإجماع، إلا من شذَّ فقال: إنَّ الإقرار بالقتل لا يكون إلا مرَّتين كالشهادة به، ولو كان الإقرار كالشَّهادة مطلقًا لاشترط فيه العدد مطلقًا، ولو كان كالشهادة لما قُبل إقرار المرأة على نفسها بأنها جُرِحت أو (4) أعتقت؛ لأنَّها لا تقبل شهادتها في ذلك، فظهر بطلان تمسكهم (5) با لخبر والقياس. والله الموفق.
وقوله: ((أزنيتَ؟ فقال (6) : نعم))؛ جاء هذا المعنى في كتاب أبي داود بأوضح من هذا: قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((أنكتها؟)) قال: نعم. قال: ((حتى غاب ذلك منك في ذلك منها؟)) قال: نعم. قال (7) : ((كما يغيب الْمِرْوَد في الْمُكْحُلَة، والرِّشاء في البِئْر؟)) قال: نعم. قال: ((هل تدري ما الزنى؟)) قال: نعم، أتيتُ منها حرامًا ما يأتي الرَّجُل من أهله حلالاً)) (8) . وهذا منه - صلى الله عليه وسلم - أخذ لماعز بغاية النصّ الرافع لجميع &(5/72)&$
__________
(1) في (ك): ((الأول)).
(2) تقدم تخريجه في الباب.
(3) في (ك): ((أن)).
(4) في (ك): ((و)).
(5) في (ح): ((ذلك فبطل تمسكهم)).
(6) في (ك): ((قال)).
(7) قوله: ((قال)) سقط من (أ).
(8) أخرجه أبو داود (4428)، والنسائي (7165)، وابن حبان (4399)، وابن الجارود (813)، والدارقطني (339) جميعًا من طريق عبدالرزاق: أخرجه في "المصنف" (3340) عن ابن جريج قال: أخبرني الزبير، عن عبدالرحمن بن الصامت، عن أبي هرير به.(5/73)
الاحتمالات كلها تحقيقًا للأسباب، وسعيًا في صيانة الدماء. ثمَّ لما فرغ - صلى الله عليه وسلم - من استفصاله (1) عن ذلك سأله عن الإحصان. فقال: ((فهل (2) أحصنت؟)) فقال (3) : نعم؛ يعني: هل تزوجت تزويجًا صحيحًا، ووطئت وطئًا مباحًا؟ فعندما أجابه بنعم، أمر برجمه، وذلك عند تحقق السبب الذي هو الزنى بشرطه؛ الذي هو الإحصان. وقد أخذ علماؤنا من حديث أبي داود: أن شهود الزنى يصفون الزنى كما وصف ماعز، فيقول الشاهد: رأيت فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة. وإليه ذهب معاوية، والزهري، ومالك، والشافعي، وأبوثور، وأصحاب الرأي. =(5/91)=@ %(2/438)%
وقوله: ((فأمر به، فرجم))، وفي الرِّواية الأخرى: ((فأمر به فحفر له))، وفي الرواية الأخرى قال: ((فما أوثقناه، ولا حفرنا له))، وفي حديث الغامدية: ((أنها حُفِر لها إلى صدرها)) (4) ؛ اختلاف هذه الروايات هو الموجب لاختلاف العلماء في هذا الحكم الذي هو: الحفر. فلم يبلغ(مالكًا من أحاديث الحفر شيء، فلم يقل به، لا في حق المرأة، ولا في حق الرَّجل، لا هو، ولا أصحابه. وكذلك قال أحمد، وأصحاب الرأي. وقالوا: إن حفر للمرأة فحسن. وقيل: يحفر لهما. وبه قال قتادة وأبو يوسف. وروي في ذلك (5) عن علي (6) ، ووسَّع الشافعي، وابن وهب للإمام في ذلك، وخيراه.
ثم قال في هذه الرواية الأخيرة: ((فرميناه بالعظم، ثمَّ المدر، والخزف))، قال: ((فاشتد واشتددنا خلفه حتى أتى عُرْض الْحَرَّة، فانتصب لنا، فرميناه بِجَلامِيد الحرَّةِ حتى سكت (7) ))؛ يعني بالعظم: العظام، والمدر: التراب الأحمر المنعقد، والخزف: الشِّقاف، وهي: كِسَر الفخَّار. وعُرْض الْحَرَّة - بضم العين -: جانبها، وسكت: معناه: سكن؛ أي: مات. وقال أبو داود (8) فيه من حديث هَزَّال (9) ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((هلاَّ تركتموه لعلَّه أن يتوب فيتوب الله عليه)). وقال أيضًا من حديث جابر (10) : أن جابرًا قال: لنا خرجنا به فرجمناه، فوجد مس الحجارة صرخ بنا: يا قوم! ردوني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن قومي قتلوني، وغرُّوني من نفسي، وأخبروني: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير قاتلي. فلم ننزع عنه حتى قتلناه، فلمَّا &(5/73)&$
__________
(1) في (ك): ((استقصائه)).
(2) في (ك): ((هل)).
(3) في (ك): ((قال)).
(4) جميع هذه الروايات أخرجها مسلم في "صحيحه" (1693-1695).
(5) في (ح) و(ك): ((وروي في ذلك)).
(6) أخرجه عبدالرزاق في "المصنف" (13351) عن الثوري، عن عبدالرحمن بن عبدالله، عن القاسم بن عبدالرحمن قال: حفر علي لشراحة الهمدانية حين رجمها ،وأمر بها أن تحبس حتى تضع. وتقدم الكلام عليه.
(7) في (ح): ((سكن)).
(8) (4419)، والنسائي في "الكبرى" (7205 و7274)، وأحمد (21940 -21942)، وابن أبي شيبة (28767 و28784)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2393)، وابن سعد في "الطبقات" (323)، والبيهقي (16735-16378) من طرق عن يزيد بن نعيم بن هزال، عن أبيه نعيم، عن هزال به.
قال الحافظ في "تلخيص الحبير" (4/58): ((إسناده حسن)).
قلت: لأجل يزيد بن نعيم، وقد وثقه ابن حبان والعجلي كما في "الثقات" (2/368)، ولم ينفرد به بل تابعه أبو سلمة بن عبدالرحمن فرواه عن نعيم بن هزال به: أخرجه أحمد في "المسند" (21941)، ورجاله ثقات غير أن يحيى بن أبي كثير لم يصرِّح فيه بالسماع، وهو مدلِّس.
(9) ضبطت في (ح): ((هُزال)) بضم الهاء.
(10) أخرجه أبو دواد (442)، والنسائي في "الكبرى" (7206 و7207)، وأحمد في "المسند" (15089)، وابن أبي شيبة (10/77-78) من طريق محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن الحسن بن محمد بن علي، عن جابر به نحوه. وقد صرَّح ابن إسحاق فيه بالتحديث عند أبي داود والنسائي.(5/74)
رجعنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأخبرناه فقال: ((هلا تركتموه وجئتموني به))؛ ليتثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه، فأمَّا لترك حدّ فلا.
هذه الروايات متواردة: على أن ماعزًا لَمَّا وجد ألم الحجارة صدر منه ما =(5/92)=@ يدلّ على أنه أراد أن يردَّ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لا سيما وقد صرح بذلك في %(2/439)% حديث جابر، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فهلا تركتموه، وجئتموني به))، فاستنبط منه كثير من العلماء: أن المعترف بما يجب عليه من الحد إن رجع عن إقراره مطلقًا لم يُحدَّ، وممن ذهب إلى هذا: عطاء، ويحيى بن يعمر، والزهري، وحمَّاد، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، والنعمان، ومالك في رواية القعنبي. وقيل: لا ينفعه رجوعه مطلقًا. وبه قال سعيد بن جبير، والحسن، وابن أبي ليلى (1) ، وأبو ثور. وهي رواية ابن عبدالحكم عن مالك. وقال أشهب: قال مالك: إن جاء بعذر قُبل منه، وإلا لم يقبل ذلك منه.
قلت: وليس في شيء من (2) هذه الروايات ما ينصّ على أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل رجوعه مطلقًا لا سيما (3) مع قول جابر: ليتثبت في أمره، فأمَّا لترك حدّ فلا. ولعلَّه كان يستدعي منه النبي - صلى الله عليه وسلم - الرُّجوع إلى شبهة كما صار إليه مالك في رواية أشهب. وهذا القول أعجب ما في هذه المسألة. أنَّه إن رجع إلى شبهة دريء عنه الحد، وإلا فلا. وقد قال أحمد بن حنبل، وأبو ثور: إذا هرب (4) تُرك اتِّباعًا لهذه الزيادة. وقاله بعض أصحابنا. وقال: إن وُجد بالفور كمل عليه الحد. وإن وجد بعد زمان تُرِكَ. %(2/440)%
وقوله: ((فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة))؛ الإشارة بـ ((ذلك)) إلى ما وقع لهم من الاختلاف في شأن ماعز؛ يعني: أنَّهم بقوا كذلك إلى أن تبيَّن لهم حاله بقوله: =(5/93)=@ ((لقد تاب توبة لو قُسِمَت بين أُمَّةٍ لوسعتهم)). والأمَّة: الجماعة من الناس. وقد يقال على الجماعة مما لا يعقل. فيقال: أمَّة من الحمير، ومن الطير. ومنه قوله تعالى: &(5/74)&$
__________
(1) في (ك): ((الحسن ابن أبي ليلى)).
(2) قوله: ((شيء من)) سقط من (ك).
(3) في (ك): ((ولا سيما)).
(4) في (ح): ((رغب)).(5/75)
{وما من دابة في الأرض ولاطائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} (1) . ويعني بالأمَّة في هذا الحديث السبعين الذين ذكروا في حديث الغامدية. وزاد أبو داود من رواية ابن عباس: أن ماعزًا لما رجم سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه، فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب، فسكت عنهما، ثم سار ساعة حتى مرَّ بجيفة حمار شائلٍ (2) بِرِجْلِه. فقال: ((أين فلان وفلان؟)) فقالا: نحن ذانِ يا رسول الله! فقال: ((انزلا وكلا من جيفة هذا الحمار)) فقالا: يا رسول الله! من يأكل من هذا؟ قال: ((فما نِلْتُما من عِرْضِ أَخِيكُما آنفًا أشد من أكلٍ منه، والذي نفسي بيده! إنَّه الآن في أنهار الجنة ينغمسُ فيها)).
قلت: فهذه الروايات كلها متواردة على أن الحدّ كفارة، كما جاء في حديث عبادة بن الصامت (3) حيث قال: ((فمن أصاب شيئًا من ذلك فعوقب به فهو كفارة. وقد زاد أبو داود (4) في حديث ماعز (5) من حديث خالد بن اللجلاج (6) : أنه لَمَّا رجم جاء رجل يسأل عن المرجوم، فانطلقنا به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: هذا جاء يسأل عن الخبيث. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((لهو أطيب عند الله من ريح المسك))، فاذا هو أبوه، فأعنَّاه على غسله وتكفينه، ودفنه. قال: وما أدري؛ قال: والصلاة عليه، أم لا؟ =(5/94)=@ %(2/441)%
وفيه دليل: على أن المرجوم يُغسَّل، ويكفَّن، ويصلَّى عليه. وفي معناه: كل من قتل في حدّ من المسلمين، غير أن الإمام يجتنب الصلاة على من قتله في حدّ؛ على مذهب مالك، وأحمد بن حنبل؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل على ماعز. (7) &(5/75)&$
__________
(1) ؛ الآية: 38. سورة الأنعام.
(2) شائل: مرتفعةٌ رجلُه من الانتفاخ، وكلُّ شيءٍ مرتفعٌ فهو: شائلٌ. "العين" للفراهدي (6/285).
(3) تقدم.....
(4) أخرجه أبو دواد (4435)، والنسائي في"الكبرى" (7184)، والطبراني في "الكبير" (488)، والبيهقي (16731). كلهم من طريق حرمي بن حفص العتكي قال: عن محمد بن عبدالله بن علاثة، ثنا عبدالعزيز بن عمر بن عبدالعزيز: أن خالد بن اللجلاج حدثه أن اللجلاج أباه أخبره: أنه كان قاعدًا يعتمل في السوق فمرَّت امرأة تحمل صبيًا، فثار الناس معها وثرت فيمن ثار، فانتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: ((من أبو هذا معك؟)) فسكتت، فقال شابٌّ حذوها: أنا أبوه يا رسول الله! فأقبل عليها فقال: ((من أبو هذا معك؟)) قال الفتى: أنا أبوه يا رسول الله! فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بعض من حوله يسألهم عنه؟ فقالوا: ما علمنا إلا خيرًا، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((أحصنت؟)) قال: نعم، فأمر به فرجم. قال فخرجنا به فحفرنا له حتى أمكنا، ثم رميناه بالحجارة حتى هدأ فجاء رجل يسأل عن المرجوم... الحديث. وإسناده لا بأس به.
(5) في (ح): ((عامر)).
(6) في (أ): ((الحلاج))، وفي (ح) و(ك): ((الجلاح))، والتصويب من مصادر التخريج.
(7) أخرجه البخاري في "صحيحه" (6434): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال خيرًا وصلّى عليه.(5/76)
وعند أبي بكر بن أبي شيبة (1) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) أمر بالغامدية فصُلِّي عليها - بضم الصاد -كذا الرواية. وفي كتاب أبي داود (3) : أنَّه أمرهم: أن يصلوا عليها. وظاهر هذين الحديثين: أنَّه لم يصل عليها، غير أنَّه في كتاب مسلم: صَلَّى عليها (4) . وظاهره: أنَّه صلَّى بنفسه، حتى قال له عمر: أتصلي عليها (5) وقد زنت؟! وبهذا استدل من قال: إن الإمام يُصلِّي على من قتله في حدّ، على أنه يحتمل أن قول الراوي: صلَّى عليها؛ أي: دعا لها، واستغفر لها. أو يكون معناه: أنه أمر أن يصلِّى عليها. ولمجتضد هذا بائه لم يُصلِّ على ماعز، كما قد روي من حديث معمر: أنه لم يصلِّ عليه. وفي بعض طرقه: أنَّه ما صلَّى عليه، ولا استغفر له، مع أنَّه قد صحَّ قوله: ((استغفروا لأخيكم)). فقالوا: غفر الله له (6) . ولم يتلفظ هو بالاستغفار، ولكنه أمر به، فيجوز أن يكون جرى في الصلاة عليه كذلك.
وقوله: ((لعلك قبَّلت أو غمزت)) (7) ، وفي بعض طرقه: ((لعلك)) (8) ، واقتصر عليها.
فيه من الفقه: جواز تلقين الإمام للمقرِّ ما يدرأ عنه الحدّ. وقد روي ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأئمة العلماء. وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال لسارقٍ: ((ما أخالُك سَرَقْتَ)) (9) ، وروي عن أبي بكر، وعمر (10) ، وأبي الدرداء (11) قالوا لسارقٍ: ((أسرقتَ؟ قُل: =(5/95)=@ لا)). وعن عمر (12) : ما أَرَى يد سارقِ. وعن ابن مسعود (13) : لعلك وجدته. وعن عليٍّ (14) - رضي الله عنه - وقال لِحُبْلَى: %(2/442)% لعلَّكِ استُكْرِهْتِ، لعلَّك وُطِئْتِ نائمةً. وقال للحُبْلى الباكِيَة: إن المرأة قد تُسْتَكْرَه (15) . وقد أجاز ذلك أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وغير هم. &(5/76)&$
__________
(1) في "المثنف" (28807)، وأوب داود (4442) من طريق بشير المهاجر، حدثني عبدالله بن بُريدة، عن أبيه، به مرفوعًا. وبشير بن المهاجر: صدوق لين الحديث.
(2) من قوله: ((لم يصل على ماعز....)) إلى هنا سقط من (أ).
(3) أخرجه أبو داود (444) عن مسلم بن إبراهيم: أن هشامًا الدستوائي وأبان بن يزيد حدثاهم - المعنى -،عن يحيى بن كثير، عن أبي قلابة، عن أبي الْمُهلَّب المسمعي، عن معاذ بن هشام الدستوائي، عن أبيه، به، وفيه: ((ثم أمر بها فرجمت، ثم صلَّى عليها، فقال عمر: أتصلّي عليها يا نبي الله...)).
(4) في (أ): ((عليه)).
قال القاضي عياض: هي بفتح الصاد واللام عند جماهير رواة صحيح مسلم. "شرح النووي" (11/204).
(5) قوله: ((عليها)) سقط من (أ).
(6) "صحيح مسلم" (1695).
(7) هذه الرواية أخرجها مسلم (1692) من حديث جابر بن سَمُرة.
(8) هذه الرواية أخرجها البخاري في "صحيحه"(6438) من حديث ابن عباس.
(9) أخرجه أبو داود (4/544) كتاب الحدود، باب التلقين في الحد، عقب الحديث رقم (4380)، ولم يسق لفظه. والدولابي في "الكنى والأسماء" (1/13-14)، والبيهقي في "الكبرى" (8/276)، وفي "شعب الإيمان" (6660). ثلاثتهم من طريق همام، عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة، عن بن المنذر مولى أبي ذر، عن أبي أمية المخزومي به مثله، إلا أن أبا دواد لم يسق الحديث في هذاالموضع، ولم يذكر أبا المنذر في السند.
وأخرجه أحمد (5/293)، والدارمي (2/173) كتاب الحدود، باب المعترف بالسرقة (2/866 رقم2579) كتاب الحدود، باب تلقين السارق، وأبو داود (4/542 رقم4380) كتاب الحدود، باب التلقين في الحد، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2/51)، والنسائي في "المجتبى" (8/67 رقم4877) كتاب قطع السارق، باب تلقين السارق، وفي "الكبرى" (4/328 رقم7363) في نفس الكتاب والباب السابقين في "المجتبى"، والدولابي في "الكنى والأسماء" (1/14).
وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/168-169)، والطبراني في "الكبير" (22 رقم905) من طريقين، وومن طريقي الطبراني هاتين أخرجه المزي في "تهذيب الكمال" (33/57). جميعهم من طريق حماد بن سلمة، عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة، عن ابن المنذر مولى أبي ذر، عن أبي أمية المخزومي به مثله.
قال ابن حزم في "المحلى" (11/149): ((وأما حديث حماد بن سلمة ففيه أبو المنذر لا يدري من هو، وأبو أمية المخزومي ولا يدري من هو، وهو أيضا مرسل)).اهـ.
قال الخطابي في "مختصر سنن أبي داود" (6/217): ((على أن في إسناد هذا الحديث مقالاً، والحديث إذا رواه رجل مجهول لم يكن حجة، ولم يجب الحكم به)).
وقال الإمام الذهبي في "ميزان الإعتدال" (4/577): ((أبو المنذر، عن مولاه أبي ذر: لا يعرف)).(
وقال الزيلعي في "نصب الراية" (4/76): ((وفيه ضعيف، فإن أبا المنذر هذا مجهول، لم يرو عنه إلا إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة، قاله المنذري)).(اهـ.
وقال الحافظ في"التقريب" (8392): ((مقبول)).
وقد روي هذاالحديث أيضًا من طريق يزيد بن خصيفة، عن محمد بن عبدالرحمن بن ثوبان: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بسارق... الحديث. أخرجه عبدالرزاق، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي، واختلف في وصله وإرساله. انظر في ذلك "مراسيل أبي داود" (ص205).
(10) أخرجه عبدالرزاق (18919)، وابن أبي شيبة (28571). كلاهما من طريق ابن جريج قال: سمعت عطاء يقول: كان من مضى يؤتى أحدهم بالسارق فيقول: أسرقت؟ قل: لا، أسرقت؟ قل: لا. علمي أنه سَمَّى أبا بكر وعمر. إلا أن عند ابن أبي شيبة قوله :(( أسرقت؟ قل: لا)) مرة واحدة. وأروده ابن حجر في "تلخيص الحبير" (4/126)، والزيلعي في نصب الراية (4/78).
(11) أخرجه عبدالرزاق (18922)، وابن الجعد في "مسنده" (1102)، وابن أبي شيبة (28565)، وأسلم الواسطي في "تاريخ واسط" (ص113)، والبيهقي (8/276). جميعهم من طريق يزيد بن أبي كبشة، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -: أنه أتي بامرأة سرقت يقال لها: سلامة، فقال لها: يا سلامة! أسرقت؟ قولي: لا. قالت: لا، فدرأ عنها الحد. وعند ابن الجعد وأسلم زيادة في آخره.
وذكره ابن حجر في "تلخيص الحبير" في الموضع السابق ،والزيلعي في الموضع السابق أيضًا، وعزاه ابن حجر للبيهقي والزيلعي وعبدالرزاق.
(12) أخرجه عبدالرزاق (18920) من طريق معمر، عن ابن طاووس، عن عكرمة بن خالد قال: أُتي عمر بن الخطاب برجل، فسأله: أسرقت؟ قل لا، فقال: لا، فتركه ولم يقطعه.
وأخرجه ابن أبي شيبة (28570) بمعناه من طريق محمد بن بكير، عن ابن جريج، عن عكرمة بن خالد قال: أُتي عمر بسارق قد اعترف، فقال عمر: إني لأرى يد رجل، ما هي بيد سارق، قال الرجل: والله ما أنا بسارق، فأرسله عمر، ولم يقطعه. وذكر رواية عبدالرزاق ابن حجر في "التلخيص" في الموضع السابق.
وذكر ابن حجر أيضًا في "الدراية" (2/170) قال: ((وأم اتلقين الصحابة فروى عبدالرزاق وابن أبي شيبة من طريق عكرمة بن خالد، ثم ذكر لفظ عبدالرزاق، ثم قال :(( وفي رواية الآخر))، وذكر لفظ ابن أبي شيبة.
(13) لم أجد هذا الأثر عن ابن مسعود، وإنما روي عن أبي مسعود الأنصاري. أخرجه محمد بن الحسن في "الآثار" كما في نصب الراية للزيلعي (4/78)، وفي "الدراية لتخريج أحاديث الهداية" لآبن حجر (2/171). وسفيان في "جامعه" كما في "تلخيص الحبير" (4/126)، وعبدالرزاق (1892)، والبيهقي (8/276). جميعهم من طريق عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي، عن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - قال: أتي أبي مسعود بامرأة سرقت جملاً، فقال: أسرقت؟ قولي: لا، فقالت: لا، فتركها.
وأخرجه ابن أبي شيبة (28566) من طريق شريك، عن جابر، عن مولى لأبي مسعود، عن أبي مسعود قال: أتي برجل سرق، فقال: أسرقت؟ قل: وجدته. قال: وجدته، فخلى سبيله. هكذا بذكر رجل، وليس امرأة كما عند الآخرين. وكذا ذكر رواية ابن أبي شيبة الزيلعي في "نصب الراية" الموضع السابق.
(14) هذا طرف من حديث شراحة الهمدانية المتقدم تخريجه قبل قليل.
(15) لم أجد هذا الأثر عن علي - رضي الله عنه -، وإنما الوارد عن عمر - رضي الله عنه -، فقد أخرجه ابن أبي شيبة (28492) من طريق عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة قال: بينما نحن بمنى مع عمر، إذا امرأة ضخمة على حمارة تبكي، قد كاد الناس أن يقتلوها من الزحام، يقولون: زنيت، فلما انتهت إلى عمر قال: ما يبكيك؟ إن امرأة ربما استكرهت، فقالت: كنت امرأة ثقيلة الرأس، وكان الله يرزقني من صلاة الليل، فصليت ليلة ثم نمت، فوالله! ما أيقظني إلا الرجل قد ركبني، فرأيت إليه مقفيًا، ما أدري من هو من خلق الله، فقال عمر: لو قتلت هذه خشيت على الأخشبين النار، ثم كتب إلى الأمصار ألا تقتل نفس دونه.
وذكره الجصاص في "أحكام القرآن" (5/106)، وابن حجر في "فتح الباري" (12/154).(5/77)
وقوله:(( جاءت امرأة من غامد من الأزد))؛ كذا قال في هذه الرِّواية. وفي الرواية الأخرى: ((من جهينة))، ولا تباعد بين الروايتين؛ فإن غامدًا قبيلة من جهينة، قاله عياض. وأظن أنَّ (1) جهينة من الأزد. وبهذا تتفق الروايات.
وقولها (2) : ((إنَّها (3) لَحُبْلَى من الزنى))؛ اعتراف منها من(غير تكرار يطلب منها. ففيه دليلٌ على عدم اشتراطه على ما مرَّ. وكونه شر لم يستفصلها كما استفصل ماعزًا؛ لأنَّها لم يظهر عليها (4) ما يُوجب ارتيابًا في قولها، ولا شكًّا في حالها، بخلاف حال ماعز، فإنَّه ظهر عليه ما يشبه الجنون، فلذلك استفصله النبي - صلى الله عليه وسلم - لِيَستَثْبِت في أمره، كما تقدَّم.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((حتى تضعي ما في بطنك))؛ يدل على أن الجنين وإن كان من زنى - له حُرْمَة، وأن الحامل لا تُحَدُّ حتى تضع حملها (5) . وهذا =(5/96)=@ لا خلاف فيه إلا شيء روي عن أبي حنيفة على خلاف عنه فيه.
وقال (6) في الرواية الأخرى: ((إمَّا لا، فاذهبي حتى تلدي))؛ إمَّا بكسر الهمزة التي هي همزة ((إن)) الشَّرطية، زيدت عليها ((ما)) المؤكدة؛ بدليل دخول الفاء في جوابها. و((لا)) التي بعدها للنفي. فكأنه قال: إن رأيت أن تستري على نفسك وترجعي عن إقرارك فافعلي، وإن لم تفعلي فاذهبي حتى تلدي. %(2/443)%
ثمَّ اختلف العلماء فيها إذا وضعت. فقال مالك: إذا وضعت رجمت، ولم ينتظر بها أن تكفل (7) ولدها. وقاله أبو حنيفة، والشافعي في أحد قوليه. وهذا قول من لم تبلغه (8) هذه الرواية الي فيها تأخير الغامدية إلى أن فطمت ولدها. وقد روي عن مالك: أنها لا ترجم حتى تجد من يكفل ولدها بعد الرَّضاع. وهو مشهور قول مالك، والشافعي، وقول أحمد، وإسحاق.
وقد اختلفت الروايات في رجمها متى كان؟ هل كان قبل فطام الولد، أو بعد فطامه. والأولى: رواية من روى: أنها لم ترجم حتى فطممت ولدها، ووجدت من يكفله؛ لأنَّها مُثْبِتةٌ حكما زائدًا على الرواية الأخرى التي ليس فيها ذلك، ولمراعاة حق الولد. وإذا روعي حقه وهو جنين، فلا ترجم لأجله بالإجماع (9) ، فمراعاته إذا خرج للوجود (10) &(5/77)&$
__________
(1) قوله: ((أن)) سقط من (ك).
(2) في (ح): ((وقوله)).
(3) قوله: ((إنها)) سقط من (ك).
(4) قوله: ((عليها)) سقط من (ح).
(5) في (ح) و(ك): ((لأجل حملها)).
(6) في (ح): ((فقال)).
(7) في (ح) و(ك): ((إلى أن تكفل)).
(8) في (ك): ((تغله)).
(9) قوله: ((بالإجماع)) سقط من (ح).
(10) في (ح): ((إلىا لوجود)).(5/78)
أولى.
ويستفاد من هذه الرِّواية: أن الحدود لا يبطلها طول الأزمان. وهو مذهب الجمهور. وقد شذَّ بعضهم فقال: إذا طال الزمان على الحدّ بطل. قاله أبو حنيفة في الشهادة بالزِّنى والسَّرِقة القَدِيمين (1) . وهو قول لا أصل له. =(5/97)=@
باب يحفر للمرجوم حفرة إلى صدره ويشد عليه ثيابه
وقوله: ((وأمر الناس فرجموها))؛ ظاهره: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - لم يرجمها معهم، لا في أول الأمر، ولا في آخره (2) . فلا يلزم الإمام أن يبدأ بالرجم. وهو مذهب الجمهور. وقد ذهب أبو حنيفة: إلى أنَّه إن ثبت الزنى بالإقرار حضر الإمام، وبدأ قبل الناس بالرَّجم. وإن كان بالشهادة حضر الشهود (3) ، وبدؤوا بالرَّجم قبل الناس. %(2/444)%
قلت: وأحاديث (4) هذا الباب كلُّها (5) تردُّ ما قال (6) أبو حنيفة، غير أنَّه وقع في كتاب أبي داود (7) من حديث الغامدية:أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ حصاة مثل الحِمَّصَة فرماها =(5/98)=@ بها (8) . وهي رواية شاذةٌ، مخالفة للمشهور من حديث الغامدية.
وقوله: ((فَتَنَضَّخ الدَّم على وجه خالد))؛ أي: تطاير متفرقًا، وهو بالخاء المعجمة. والعين النضاخة هي: الفوارة بالماء الغزير؛ الذي يسيل ويتفرَّق. وقد روي بالحاء المهملة، وهو الرشُّ الخفيف، وهو أخف من النضخ - بالخاء المعجمة -. %(2/445)%
وقوله: ((مهلاً يا خالد!)) أي: كفَّ عن سبِّها. ففيه دليل: على أن من أقيم عليه الحدَّ لا يُسَبُّ، ولا يُؤْذَى بِقَذَعٍ كلامٍ.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((لقد تابت توبةً لو تابها صاحبُ مَكْسٍ لغُفِر له)). صاحب (9) المكس: هو الذي يأخذ (10) من الناس ما لا يلزمهم شرعًا من الوظائف المالية بالقهر والجبر. ولا شك في أنه من أعظم الذنوب، وأكبرها، وأفحشها، فإنَّه غصب، &(5/78)&$
__________
(1) في (ح): ((القديمتين)).
(2) في (أ): ((أجره)).
(3) في (ح): ((حضر والشهود)).
(4) في (ح): ((وأما أحاديث)).
(5) قوله: ((كلها)) سقط من (ك).
(6) في (ح) و(ك): ((ما قاله)).
(7) أخرجه أبو داود (4444)، وأحمد في "المسند" (20436)، والنسائي في "الكبرى" (7209 و7210)، البزار في "مسنده" (3665)، والبيهقي في "الكبرى" (16744). جميعًا من طريق زكريا بن سُليم الْمَنْقَري قال: سمعتُ رجلاً يُحدِّث: أن أبا بكرةَ حدثهم...، فذكر الحديث، وفيه قصَّة.
وهذا إسناد ضعيف، لجهالة الراوي عن عبدالرحمن بن أبي بكرة.
قال البزار (9/117): ((وهذا الحديث بهذا اللفظ لا نحفظه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد، ولا نعلم له هذا الطريق. اهـ.
قلت: وزكريا بن سليم: قال عنه ابن معين :(( صالح)). وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن حجر في "التقريب": ((مقبول)).
(8) في (ك): ((به)).
(9) قوله: ((صاحب)) سقط من (ح).
(10) في (ح): ((يؤخذ)).(5/79)
وظلمٌ، وعَسفٌ على الناس، وإشاعةٌ للمنكر، وعملٌ به، ودوامٌ عليه. ومع ذلك كلِّه: فإن (1) تاب من ذلك، وردَّ المظالم إلى أربابها (2) صحَّت توبته، وقبلت، لكنَّه بعيد أن يتخئص من ذلك؟ لكثرة الحقوق وانتشارها في النَّاس، وعدم تعيين المظلومين، وهؤلاء كضمان ما لا يجوز ضمان أصله من الزكوات، والمواريث، =(5/99)=@ والملاهي، والمرتَّبين في الطرق (3) ، إلى غير ذلك مِمَّا قد كثر في الوجود، وعمل عليه في سائر البلاد. &(5/79)&$
__________
(1) في (ح) و(ك): ((إن)).
(2) في (ح): ((أهلها)).
(3) قوله: ((الطرق)) سقط من (ك).(5/80)
%(2/446)%
وقوله: ((فشدَّت عليها ثيابها))؛ أي: جمع بعضها إلى بعض بشوك أو خُيُوط، ومنه: الْمِشَكُّ، وهي: الإبرة الكبيرة. وشككت الصيد بالرَّمح؛ أي: نفذته به (1) . =(5/100)=@
وقوله: ((فخرجنا به إلى بقيع الغرقد))؛ الغرقد: شجر من شجر البادية كانت في ذلك الموضع (2) ، فنسب إليها، فذهبت تلك الشجر، واتخذ ذلك الموضع مقبرةٌ، وهو الذي عبَّر عنه في الرِّواية الأخرى بـ((المصلى))؛ أي: مصلى الجنائز. &(5/80)&$
__________
(1) قوله: ((به)) سقط من (ح).
(2) قوله: ((الموضع)) سقط من (أ).(5/81)
%(2/447)%
وقوله: ((له نبيب كنبيب التَّيس))؛ وهو صوت التيس (1) عند السفاد.
وقوله: ((يننح أحدهم الكثبة)). ((يمنح)): يعطي. و((الكثبة)): القليل من اللَّبن، والطعام. والجمع: كُثَُب. وقد (2) كَثَبْتُهُ، أكْثِبُهُ؛ أي: جَمَعْتُه.
وقوله: ((على ألا أُوتَى برجل فعل ذلك إلا نَكَّلْتُ به))؛ أي: فعلت به ما ينكِّله؛ أي: ما يسوؤه، ويكدره. وأصله من النَّكَل، وهو: القيد. ومنه قوله تعالى: {إنَّ لدينا أنكالاً} (3) ؛ أي: قيودًا. قاله الأخفش. وقال الكلبي: أغلالاً. ويعني به: الرَّجم لمن كان محصنًا، أو الجلد (4) لمن لم يحصن. =(5/101)=@
وقوله في صفة ماعز: ((أعضل))؛ أي: ذو عضلات. والعضلة: كل ما اشتمل من اللحم على عصب. وماعز هذا: هو ابن مالك الأسلمي. قيل: يكنى: أبا عبدالله بولدٍ كان له. وفي الصَّحابة: ماعز التميمي غير منسوب لأبٍ (5) . ويقال: هو المكنى بأبي عبدالله. وكان ماعز هذا تحت حِجر هزَّال بن رئاب، أبي نُعَيْم الأسلمي، فوقع على جارية هزَّال، فجاء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له (6) : ((هلاَّ سترته بردائك؟!))
وقوله: ((فلمَّا أذلقته الحجارة))؛ أي: أصابته بحدِّها. وذلق كل شيء: حدَّه. ومنه: لسان ذَلِق (7) . وفي حديث ابن عبَّاس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لماعز: &(5/81)&$
__________
(1) قوله: ((وهو صوت التيس)) سقط من (أ).
(2) قوله: ((وقد)) سقط من (ك).
(3) قوله: ((12)) سقط من (ح) و(ك).المزمل.
(4) في (ك): ((والجلد)).
(5) في (أ) قوله: ((وفي الصحابة ماعز التميمي غير منسوب لأب)) جاء بعد قوله:(( هلا سترته بردائك)). الآتي بعد.
(6) قوله: ((له)) سقط من (ح).
(7) في (ك): ((ذليق)).(5/82)
((أحقٌّ ما بلغني عنك؟)) قال: وما بلغك عني؟ قال: ((بلغني أنَّك وقعت (1) بجاربة آل فلان))، قال: نعم.
هذه الرِّواية مخالفة لما تقدَّم؛ لأنَّها تضمنت: أن ماعزًا هو الذي بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسؤال (2) ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مُعْرضٌ عنه؟ حتى أقرَّ أربع مرات، وهذا أحد المواضع الثلاثة (3) المضطربة في حديث ماعز.
والثاني: في الحفر له (4) ، ففي بعضها: أنه حُفِر له، وفي بعضها: أنَّه لم يُحْفَر له، وفي %(2/448)% بعضها: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى عليه بعد ما رُجِمَ. وفي بعضها: لم يصلِّ عليه. وكذلك في الاستغفار له، وكلُّها في الصحيح - والله تعالى أعلم - بالسقيم من الصحيح. =(5/102)=@
وفي حديث ماعز والغامديَّة ما يدلُّ على: أن التوبة وإن صحت لا تسقط حدّ الزنى، وهو (5) متفق عليه. واختلف فيما عداه من الحدود، فالجمهور: على أنَّها لا تسقط شيئًا من الحدود إلا حدّ الحرابة؛ فإنَّه يسقط لقوله تعالى: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فعلموا أن الله غفور رحيم} (6) ، فتسقط عنه الحدود، ويؤخذ بحقوق الآدميين من الدِّماء والأموال. وروي عن عليّ (7) - رضي الله عنه -: أن التوبة تسقط عنه كل شيء. وروي عن ابن عبَّاس وغيره: أن التوبة لا تُسقط عن المحارب حقًّا ولا حدًّا. وروي عن الشافعي: أن التوبة تُسقط حدّ الخمر. =(5/103)=@ &(5/82)&$
__________
(1) في (ك): ((زنيت)).
(2) قوله: ((بالسؤال)) سقط من (ح).
(3) قوله: ((الثلاثة)) سقط من (ك).
(4) قوله: ((له)) سقط من (ح).
(5) في (ك): ((وهذا)).
(6) ؛ الآية: 34. سورة المائدة.
(7) أخرجه ابن أبي شيبة (26054 و32789)، وابن أبي الدنيا في "الأشراف" (440)، وابن جرير (6/221)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" كما في "تفسير ابن كثير" (2/53) من طريق مجالد بن سعيد وأشعث بن سوّار - متفرقين -، عن الشعبي، عن علي بن أبي طالب به في قصة حارثة بن بدر التيمي.(5/83)
%(2/449)%
ومن باب: لا تغريب على امرأة، ويقتصر على رجم الزاني الثيِّب، ولا يجلد قبل الرَّجم
قوله: ((يا رسول الله! أنشدك إلا قضيت لي (1) بكتاب الله))؛ هكذا وقع في صحيح الرواية: ((أنشدك)) من غير ذكر اسم الله. وهو المراد (2) ، لكنَّه حُذِف لفظًا (3) للعلم به. وقد وقع في بعض النُّسخ: ((أنشدك الله!)) ومعناه: أقسم عليك بالله. وكتاب الله هنا: يُراد به: حكم الله إن كانت هذه القضية وقعت بعد فسخ تلاوة آية الرَّجم كما تقدم. وإن كانت قبل ذلك: فكتاب الله محمول على حقيقته.
وقوله: ((فقال الخصم الآخر -وهو أفقه منه -: نعم، فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي))؛ إنما فضل الراوي الثاني على الأول بالفقه؛ لأنَّ الثاني ترفق ولم يستعجل، ثمَّ تلطَّف بالاستئذان في القول، بخلاف الأوَّل، فإنَّه استعجل، وأقسم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في شيء كان يفعله بغير يمين، ولم يستأذن (4) ، وهذا كله من جفاء الأعراب، فكان للثاني عليه مزيَّه، في(الفهم والفقه. ويحتمل: أن يكون ذلك؛ لأنَّ الثاني وصف القضية بكمالها، وأجاد سياقتها. %(2/450)%
وقوله: ((إن ابني كان عَسِيفًا على هذا، فزنى بامرأته))؛ العسيف: الأجير (5) ، =(5/104)=@ على ما قاله مالك. ولم يكن هذا من الأب قذفًا لابنه، ولا للمرأة؛ لاعترافهما بالزنى على أنفسهما.
وفي هذا الحديث أبواب من الفقه. فمنها: أن كل صلح خالف السُّنَّة فهو باطل، ومردودٌ. وأن الحدود التي هي ممحَّصَةٌ لحقِّ (6) الله تعالى لا يصح الصُّلح &(5/84)&$
__________
(1) في (ك): ((قضيت بيننا)).
(2) في (ح) و(ك): ((المراد به)).
(3) في (ح) و(ك): ((لفظه)).
(4) قوله: ((ولم يستأذن)) سقط من (ح).
(5) في (ك): ((الأخير)).
(6) في (ح): ((محضة بحق)).(5/84)
فيها.
واختلف في حدّ(القذف؛ هل يصحُّ الصلح فيه أم لا؟ ولم يختلف في كراهته لأنَّه ثمنُ عِرْضٍ. ولا خلاف في أنَّه يجوز قبل رفعه. وأمَّا حقوق الأبدان من الجراح، وحقوق الأموال: فلا خلاف في جوازه مع الإقرار. واختلف في الصلح على الإنكار. فأجازه مالك، ومنعه الشافعي.
وفيه: جواز استنابة الحاكم في بعض القضايا من يحكم فيها مع تمكُّنه من مباشرته.
وفيه: أن الإقرار بالزنى لا يشترط فيه تكرار أربع مرَّات، ولا أن المرجوم يجلد قبل الرَّجم. وقد تقدم الخلاف فيهما. وفيه: أن ما كان معلومًا من الشروط والأسباب التي تترتب عليها الأحكام لا يحتاج إلى السؤال عنها. فإن إحصان المرأة كان معلومًا عندهم، فإنَّها كانت(ذات زوج معروف الدخول عليها. وعلى هذا: يحمل حديث الغامدية؛ إذ لو لم تكن محصنة؛ لما جاز رجمها بالإجماع.
وفيه: إقامةُ الحاكم (1) الحدّ بمجرَّد إقرار المحدود وسماعه منه من غير شهادة عليه (2) . وهو أحد قولي الشافعي، وأبي ثور. ولا يجوز ذلك عند %(2/451)% مالك إلا بعد ضبط (3) الشهادة عليه. وانفصل عن ذلك بأنه (4) ليس في الحديث ما ينصُّ على أنها (5) لم يسمع إقرارها إلا أُنَيْس خاصَّة، بل العادة قاضية بأن مثل هذه القضيَّة لا تكون في (6) خلوةٍ، =(5/105)=@ ولا ينفرد بها الآحاد، بل لا بدَّ من حضور جمع كثير تلك القضيَّة، وشهرتها، لا سيما قضية منل هذه تُرفع إلى الإمام، ويَبْعَث من يكشفها ويرجم فيها. ولا بدَّ من إحضار طائفة من المؤمنين لإقامة الحدّ كما قال تعالى (7) ، مع صغر المدينة، فمثل هذا لا يخفى، ولا ينفرد به الواحد(ولا الاثنان. وهذا كلُّه مبنيٌّ: على أن أنيسًا كان حاكمًا، ويحتمل أن يكون رسولاً لها (8) ليستفصلها، ويعضد هذا التأويل قوله في آخر الحديث: ((فاعترفت فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمت))؛ فهذا يدلُّ على أن أنيسًا إنَّما سمع إقرارها، وأن تنفيذ الحكم؛ إنما (9) كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - (10) بعد سماع(إقرارها من أُنَيس، حين أبلغه إيَّاه، وحينئذ يتوجَّه إشكال آخر. وهو: أن يقول: فكيف اكتفى في ذلك (11) بشاهد واحد (12) ؟!
وقد اختلف في الشهادة على الإقرار بالزنى. هل يكتفى فيه (13) بشهادة شاهدين كسائر الإقرارات أو (14) لا بدَّ من أربعة كالشهادة على رؤية الزنى؟ على قولين لعلمائنا، ولم يذهب أحدٌ من المسلمين إلى الإكتفاء بشهادة واحد.
والجواب: أن هذا اللفظ؛ الذي قال فيه (15) : فاعترفت، فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمت. هو من رواية الليث عن الزهري (16) . وقد روى هذا الحديث عن الزُّهري مالك (17) ، وقال فيه: فاعترفت، فرجمها. ولم يذكر: ((فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمت)) (18) . وعند التعارض: فحديت مالك أولى لما يعلم من حال مالك، وحفظه، وضبطه، وخصوصًا في حديث الزهري، فإنَّه أعرف الناس به. وعلى رواية مالك فظاهرها: أن أُنيسًا كان حاكمًا، فيزول الإشكال، ولو سلَّمنا: أنَّه كان رسولاً؛ فليس في الحديث ما ينصُّ على %(2/452)% انفراد أُنيس بالشهادة عليها، فيكون غيره شهد عند =(5/106)=@ النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك. ويعتضد هذا بما ذكرناه (19) : من أن القضيَّة انتشرت، واشتهرت. فيَبُعد أن ينفرد بها واحدٌ، سلَّمناه، لكنَّه خبر، وليس بشهادة، فلا يشترط فيه العدد. وحينئذ يستدلُّ به على قبول أخبار الآحاد والعمل بها في الدِّماء وغيرها. والله تعالى أعلم.
وفيه دليل على جواز الاستفتاء والفُتيا (20) في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع (21) إمكان &(5/85)&$
__________
(1) قوله: ((الحاكم)) سقط من (ك).
(2) في (أ): ((على المحدود)).
(3) قوله: ((ضبط)) سقط من (ح) و(ك).
(4) في (ح): ((بأن)).
(5) في (ك): ((أنه)).
(6) في (ك): ((على)).
(7) يعني قوله عز وجل : {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}.[النور: 2].
(8) قوله: ((لها)) سقط من (ح).
(9) قوله: ((إنما)) سقط من (ك).
(10) في (أ): ((صلى الله عليه السلام)).
(11) قوله: ((في ذلك)) سقط من (ك).
(12) في (ك): ((بشهادة واحد))، وفي (ح): ((بشهادة واحدة))، وفي حاشيتها: ((بشاهد)).
(13) قوله: ((يكتفي فيه)) سقط من (ح)، وقوله: ((فيه)) سقط من (ك).
(14) في (ح): ((أم)).
(15) قوله: ((فيه)) سقط من (ح).
(16) أخرجه البخاري في "صحيحه" (2575)، ومسلم (1698).
(17) في "الموطأ" (1760)، وعنه رواه عبدالله بن يوسف التنيسي. أخرجه البخاري (6447-6451). وإسماعيل بن ألب أدريس في البخاري (6450)، وعبدالله بن مسلمة القعنبي عند أبي داود (4445)، ومعن بن عيسى القزَّاز عند الترمذي (1433)، وعبدالرحمن بن القاسم عند النسائي (5410)، وعبدالله بن وهب عند النسائي في "الكبرى" (5971)، وإسحاق بن عيسى عند أبي عوانة (6300). جميعهم بهذااللفظ المذكور.
(18) رواه بهذا اللفظ أيضًا عن الزهري ابن جريج: أخرجه عبدالرزاق (13310)، ومن طريقه أبو عوانة في "المستخرج" (6298)، والطبراني في "الكبير" (5188).
(19) في (ك): ((ذكرنا)).
(20) في (ك): ((والاستفتاء)).
(21) في (ك): ((من)).(5/85)
الوصول إليه. وجواز استفتاء المفضول مع وجود الأفضل. ولو كان ذلك غير جائز لأنكره النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وفيه دليل: على جواز اليمين بالله تعالى، وإن لم يُسْتَحْلَف. وعلى أنَّ ما يفهم منه اسم الله تعالى يمين جائزة وإن لم يكن من أسمائه تعالى، فإنَّ قوله: ((والذي نفسي بيده!)) ليس من أسماء الله تعالى، ولكنه (1) تنزل منزلة الأسماء في الدلالة، فيلحق به كل ما كان في معناه، كقوله: والذي خلق الخلق، وبسط الرزق. وما أشبه ذلك.
وقوله: ((وأغْدُ يا أنيس على امرأة هذا))؛ معناه: امضِ، وسِر. وليس معناه: سر إليها بُكْرةً، كما هو موضوع الغداة. وكذلك قوله: ((فغدا عليها))؛ أي: مشى إليها، وسار نحوها.
وفيه ما يدلُّ على أن زنى المرأة تحت زوجها (2) لا يفسخ نكاحها، ولا يوجب =(5/107)=@ تفرقة بينها وبين زوجها؛ إذ لو كان ذلك لفرَّق بينهما قبل الرَّجم ولَفَسَخَ النِّكاحَ. ولم يُنْقَل شيءٌ من ذلك، ولو كان لَنُقِل كما نُقِلَت القضيَّة (3) ، وكثيرٌ من تفاصيلها.
وفيه دليلٌّ على صحة الإجَارَة. %(2/453)%
ومن باب إقامة الحدّ ملى من ترافع إلينا من زناة أهل الذمة
قوله: ((إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أٌتِيَ بيهوديٍّ ويهوديَّةٍ قد زنيا))، وفي الرواية الأخرى: ((إن اليهود جاؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل وامرأة قد زنيا))، وفي الثالثة: &(5/86)&$
__________
(1) في (ك): ((ولكن)).
(2) في (ح): ((الزوج)).
(3) في (ك): ((القصة)).(5/86)
((مرَّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيهوديٍّ مُحَمَّمٍ مَجْلُودٍ))؛ هذه الروايات كلها متقاربة في المعنى، ولا يعدُّ مثل هذا اضطرابًا؛ لأن ذلك كلُّه حكاية عن حال قضيَّة وقعت، فعبَّر كلٌّ منهم بما (1) تيسَّر له. والكلُّ صحيحٌ إذ هي متواردة: على أنَّه حضر بين يديه - صلى الله عليه وسلم - يهوديّ زنى بيهوديةٍ، وهو في موضعه. وفي كتاب أبي داود (2) : أنَّه كان في المسجد. غير أنَّه قد جاء في كتاب أبي داود (3) أيضًا من حديت ابن عمر ما يظهر منه تناقضٌ، وذلك أنَّه (4) قال: ((أَتَى نفرٌ من يهود فدعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى القُفِّ، فأتاهم في بيت الْمِدْرَاس. فقالوا: يا أبا القاسم! إن رجلاً مِنَّا زنى بامرأة فاحكم بينهم. وظاهر هذا: أنه مشى =(5/108)=@ إليهم، وأن ذلك لم يكن في مسجده، بل في بيت دَرْسِهم. ويرتفع هذا التَّوهُم بحديث أبي هريرة الذي ذكره أبو داود (5) أيضًا. واستوفى هذه (6) القصَّة، وساقها سياقة حسنة فقال: زنى رجل من اليهود وامرأة (7) ، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنَّه نبيٌّ بُعِثَ %(2/454)% بالتخفِيفَات، فإن أفتى بالفتيا دون الرَّجم قبلناها، واحتججنا بها عند الله. وقلنا: فتيا نبي من أنبيائك. قال: فأتَوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو جالسٌ في المسجد في أصحابه. فقالوا: يا أبا القاسم! ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا؟ فلم يُكلِّمْهُمُ النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى بيت مدراسهم، فقام على الباب فقال: ((أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى! ما تجدون في التوراة (8) على من زنى إذا أحصن؟)) قالوا (9) : يُحَمَّم، ويُجَبَّه، ويُجْلَد - والتَّجْبيهُ: أن يحمل الزانيان على حمار، وتقابل أقفيتهما، ويطاف بهما - قال: وسكت شابٌّ منهم. فلمَّا رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - سكت: أَلَظَّ به النُّشْدَةَ، فقال: اللَّهم إِذْ أنشدتنا، فإنا نجد في التوراة الرَّجم. وساق الحديث إلى أن قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((فإني أحكم بما في التوراة))، فأمر بهما فرجما. &(5/87)&$
__________
(1) في (ح): ((ما)).
(2) أخرجه أبو داود (4450) من طريق الزهري، ثنا رجل من مُزينة، عن أبي هريرة به، قصة اليهودي، وهذا إسناد ضعيف لجهالة الراوي عن أبي هريرة.
(3) أخرجه أبو داود (4449) عن أحمد بن سعيد الهمداني، ثنا ابن وهب، حدثني هشام بن سعد: أن زيد بن أسلم حدَّثه عن ابن عمر به، وإسناده لا بأس به، هشام بن سعد فيه كلام، ولكنه من أثبت الناس في زيد بن أسلم كما قاله أبو داود في "تهذيب الكمال" (30/208).
(4) في (أ) و(ب): ((أن)).
(5) أخرجه أبو داود في "سننه"(4450 و3624 و488) مختصرًا ومطولاً، من طريق معمر ويونس بن يزيد الأيلي، مجتمعين ومتفرقين، عن الزُّهريِّ، عن رجل مِن مُزينة، عن أبي هريرة.
و أخرجه عبدالرزاق (13330)، وفي "التفسير" (1/189 -190)، ومن طريقه أخرجه أبو داود هنا (4450)، والطبري في "تفسيره" (6/249) من طريق معمر بن راشد، عن الزهريِّ به - ومعمر اتهم رواية -.
وأخرجه الطبري (6/233) من طريق عبدالله بنِ المبارك وعقيل بنِ خالد، وأخرجه البيهقي في "الدلائل" (6/269-270) من طريق ابنِ المبارك، وأخرجه ابن عبدالبر في "التمهيد" (14/398) من طريق عقيل بن خالد.
وأخرجه ابن إسحاق في "السير" كما في "ابن هشام" (2/213)، ومن طريقه أبو داود (3625 و4451)، والطبري (6/232)، والبيهقي في "الكبرى" (8/246-247)، وفي "الدلائل" (6/271)، وابن عبدالبر في "التمهيد" (4/400) عن الزهري به.
وأخرجه أحمد في "المسند" (7761) عن عبدالرزَاق، عن مَعْمَر، عن الزُّهري، عن رجلٌ من مُزَيْنةَ: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رَجَمَ يَهُوديًّا ويَهُوديةً. هكذا جاء عند أحمد مختصرًا ومرسلاً، وأظن الإرسال خطأ، فجميع الرواة عن عبدالرزاق رووه موصولاً كما تقدَّم.
والحديث بهذا الإسناد ضعيف لجهالة الرجلَ من مُزينة، كما تقدم، وأصل الحديث في الصحيحين من حديث ابن عمر.
(6) في (ك): ((في)). يراجع
(7) قوله: ((وامرأة)) سقط من (ك).
(8) في (ح) و(ك): ((التورية)).
(9) في (أ): ((قال)).(5/87)
فقد بيَّن في هذا الحديت: أن اليهود جاؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في مسجده، ثمَّ بعد ذلك مشى معهم إلى بيت المدراس بعد أن سألوه عن ذلك، على ما رواه ابن عمر. وذكر في هذا الحديث أيضًا السبب الحامل لهم على سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ وعليه يدلُّ مساق قوله تعالى: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم} (1) إلى آخر الآيات. وذكر أبو داود (2) أيضًا من حديث جابر؛ قال (3) : جاءت اليهود برجلٍ وامرأةٍ منهم زنيا (4) ، فقال (5) : ((إِيتُوني بأعلم رجلين منكم))، فأتوا بابني =(5/109)=@ صوريا، فنشدهما: ((كيف تجدا (6) في التوراة؟)) قالا: نجد في التوراة: إذا شهد أربعة: أنَّهم رأوا ذكره في فرجها %(2/455)% مثل الميل في الْمُكْحُلة رجما. وذكر الحديث. قال: فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشهود، فجاؤا (7) أربعة فشهدوا: أنهم رأوا فرجه في فرجها مثل الْمِيل في المكحلة. فأمر برجمهما.
قلت: فالحاصل من هذه الروايات: أن اليهود حَكَّمَت النبي - صلى الله عليه وسلم - فَحَكَم (8) عليهم بمقتضى ما في التوراة (9) ، واستند في ذلك إلى قول ابني صزريا. وأنَّه سمع شهادة اليهود وعمل بها، وأنَّه ليس الإسلام شرطًا في الإحصان. وهذه مسائل يجب البحث عنها فلنشرع (10) في ذلك مستعينين بالله.
المسألة الأولى في التحكيم: فإذا ترافع أهل الذمَّة إلى الإمام؛ فإن كان ما رفعوه ظلمًا، كالقتل العدوان، والنصب؛ حكم بينهم، ومنعهم منه بلا خلاف. وإمَّا إن لم يكن كذلك؛ فالإمام مخيَّر في الحكم بينهم وتركه عند مالك والشافعي، غير أن مالكًا رأى الاعراض (11) عنهم أولى، فإن حكم حكم بحكم الإسلام، غير أن الشافعي قال: لا يحكم بينهم في الحدود. وقال أبو حنيفة: يحكم بينهم على كل حال. وهو قول الزهري، وعمر بن عبدالعزيز، والْحَكَم، وروي عن ابن عبَّاس (12) ، وهو أحد قولي الشافعي. والأولى ما صار إليه مالك لقوله تعالى: {فإن (13) &(5/88)&$
__________
(1) ؛ الآية: 41. سورة المائدة وما بعدها.
(2) في "سننه" (4452) عن يحيى بن موسى البلخي، ثنا أبو أسامة - وهو حماد بن أسامة -، قال مجالد: أخبرنا عن عامر، عن جابر به.
وأخرجه ابن ماجه (2374) من طريق أبي أسامة به مختصرًا.
وأخرجه الحميدي (1294) عن سفيان، ثنا مجالد بن سعيد الهمداني، عن الشعبي به مطولاً. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" (1928) عن طريق عبدالرحيم بن سليمان، عن مجالد به مختصرًا. ومجالد بن سعيد: ضعيف.
وقد خالفه مغيرة بن مقسم وعبدالله بن شبرمة؛ فروياه عن الشعبي مرسلاً. أخرجه أبو داود (4453 و4454). والحديث في "صحيح مسلم" (1701) من طريق ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرًا بن عبدالله يثول: رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من أسلم، ورجلاً من اليهود وامرأة.
(3) في (ك): ((فقال)).
(4) في (ح): ((زنيا فيهم)).
(5) في (أ): ((فقالوا)).
(6) في (ح) و(ك): ((تجدون)). وعند أبي داود :(( كيف تجدان أمر هذاين)).
(7) في (ك): ((فجاء)). وعند أبي داود :(( فجاؤا بأربعة)).
(8) قوله: ((فحكم)) سقط من (ح).
(9) رسمت في (ح): ((التورية))، وفي (ح): ((التورة)).
(10) في (ح) و(ك): ((فنشرع)).
(11) في (ح): ((أن)). تراجع
(12) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (6388)، وأبو جعفر النحاس في "الناسخ" (1/398)، والطبراني في "الأوسط" (8482)، والبيهقي في "الكبرى" (16902)، وابن عبدالبر في "التمهيد"(14/402)، وابن حجر في "المحلى" (9/425). كلهم من طريق سعيد بن سليمان الواسطي، عن عبَّاد بن العوام، عن سفيان بن حسين الواسطي، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس في نسخ قول الله جلَّ وعلا: {فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم}، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُخيًّرا إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم، فنزلت : {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم}، قال: فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحكم بينهم بما في كتابنا.
قال النحاس: ((هذا إسناد مستقيم، وأهل الحديث يدخلون في المسند))، وقال ابن حزم: ((هذا مسند)). وصححه الحاكم.
وأما ابن عبدالبر فقال: هذا خبرٌ، إنما يرويه سفيان بن حسين وثقه يحيى بن معين والعجلي والنسائي، وإنما عيب عليه في رواياته عن الزهري ،وكذا قال الحافظ في "التقريب": ثقة في غير الزهري باتفاقهم.اهـ. ولم ينفرد به رواه أحمد كما في "نواسخ القرآن" لابن الجوزي (1/47) عن حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس به نحوه.
(13) في (ح): ((وإن)).(5/88)
جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} (1) ، وهو (2) نصٌّ في التخيير. ثم إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث حكم عليهم فعل أحد ما خيَّره الله تعالى فيه، غير أنَّه يبقى على مالك أن يقال له: لِمَ قلتَ: إن الإعراض عنهم أولى مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حكم بينهم، ولا يُتلَّخص من ذلك بأن يقال (3) : لأنهم يستهزئون بأحكام المسلمين؛ لأنَّا نقول: إن أظهروا ذلك =(5/110)=@ عاتبناهم، وإن أخفوه فما يخفون من اعتقادهم تكذيب نبينا - صلى الله عليه وسلم - أكبر، مع %(2/456)% قطعنا بأنَّهم يعتقدون ذلك، لكنا عاقدناهم على ذلك، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علم منهم: أنهم يهزؤن بديننا وأحكامنا، ومع ذلك فحكم عليهم، وأقرَّهم. ألا تسمع قوله (4) تعالى: {وإذا ناديت إلى الصلاة(اتخذوها هزوًا} (5) ؟!
وأمَّا قول الشافعي: إنه لا يحكم بينهم في الحدود؛ فمخالف لنصّ الحديث المذكور في الواقعة، فلا يعول عليه. وقد تأوَّل الشافعي حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - على اليهود بالرجم بأن ذلك منه كان إقامة لحكم كتابهم لَمَّا حرفوه، وأخفوه، وتركوا العمل(به. ألا ترى أنَّه قال - صلى الله عليه وسلم - : ((اللهم! إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه)) (6) . وأيضًا: فإنه (7) - صلى الله عليه وسلم - لم يكن بعد نزل عليه حكم الزاني، ولذلك جاء في بعض طرق هذا الحديث: أن ذلك كان حين قدم المدينة (8) ، وأيضًا: فلأنه - صلى الله عليه وسلم - قد استثبت ابني صُوريا عن حكم التوراة (9) ، واستحلفهما على ذلك. وأقوال الكُفَّار في الحدود وفي شهاداتهم (10) عليها غير مقبولة بالإجماع، لكن فعل ذلك على طريق إلزامهم ما التزموه وعملوا به. وقد قال هذا كله بعض أصحابنا. وهذا البحث هو المسألة الثانية.
والجواب عنه أن نقول: إنَّه - صلى الله عليه وسلم - حكم بما علم أنَّه حقٌّ في (11) التوراة (12) ، وأنه حكم الله، ولولا ذلك لما أقدم على قتل من ثبت له (13) عهدًا. ثمَّ لا يلزم أن يكون طريق في حصول العلم بذلك له قول ابني صوريا، بل الوحي (14) ، أو ما ألقى الله تعالى في روعه من تعيين صدقهما فيما قالاه من ذلك. ولا نسلِّم: أن حكم &(5/89)&$
__________
(1) ؛ الآية: 42. سورة المائدة.
(2) في (ح) و(ك): ((وهي)).
(3) في (ك): ((يقول)).
(4) في (ح): ((إلى قوله)).
(5) ؛ الآية: 58. سورة المائدة.
(6) هو حديث البراء بن عازب في الباب نفسه من "صحيح مسلم" (1700).
(7) في (ح): ((فإن النبي)).
(8) أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" (2/213) عن الزهري، عن رجل من مزينة، وقد تقدم الكلام عليه.
(9) في (ح): ((التورية)).
(10) في (ح) و(ك): ((شهاداتهم)).
(11) في (ك): ((من)).
(12) في (ح): ((التورية)).
(13) في (ح): ((أن له)).
(14) في (ح): ((بالوحي)).(5/89)
الرَّجم لم يكن مشروعًا له قبل ذلك، فإنَّها دعوى يُحتاج (1) إلى إثباتها بالنقل. سلمنا ذلك، لكنا نقول: من ذلك الوقت بيان مشروعية الرَّجم ومبدؤه، فيكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أفاد بما فعله إقامة حكم التوراة، وبيان: %(2/457)% أن ذلك حكم شريعته، وأن التوراة يحكم بما صحَّ وثبت فيها: أنَّه حكم الله. وعلى هذا يدلُّ قوله تعالى: {إنَّا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا} (2) ، وهو نبي من الأنبياء. وقد قال عنه =(5/111)=@ أبو هريرة: ((فإني أحكم بما في التوراة)) على ما ذكره (3) أبو داود (4) . وقد استوفينا هذا المعنى في الأصول.
المسألة الثالثة في شهادة أهل الذمَّة: فالجمهور على أن الكافر لا تقبل شهادته على مسلم، ولا على كافر؛ لأنَّ الله عزَّ وجلَّ قد شرط في الشهادة العدالة. والكافر ليس بعدل؛ ولأن الفاسق المسلم مردود الشهادة بالنص، فالكافر أولى؛ ولأن العبد المسلم مسلوب أهلية الشهادة للكفر الأصلي الذي كان سبب رقِّه. فالكفر الحاصل في الحال أولى بأن يكون مانعًا، ولا فرق بين الحدود وغيرها، ولا بين السفر والحضر. وقد قبل شهادتهم جماعة من التابعين، وأهل الظاهر إذا لم يوجد مسلم؛ تمسُّكًا بما ذكرناه من حديث (5) أبي داود المتقدم. وقال أحمد بن حنبل: تجوز شهادة أهل الذمَّة على المسلمين في السفر عند عدم المسلمين تمسُّكًا في ذلك (6) بما جاء في كتاب أبي داود (7) عن الشعبي: أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقاء (8) هذه، ولم يجد أحدًا من المسلمين يشهد على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة، فأتيا الأشعري، فاخبراه، وقدما بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمرٌ لم يكن بعد الذى كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأحلفهما بعد العصر بالله: ما كذبا، ولا خانا، فأمضى شهادتهما. =(5/112)=@ ولا حجة فيه؛ لأنَّه مرسل وموقوف. ولو صحَّ؛ فلم يحكم بمجرد %(2/458)% شهادتهما حتى ضم إليها يمينهما، &(5/90)&$
__________
(1) في (ح): ((تحتاج)).
(2) ؛ الآية: 44. سورة المائدة.
(3) في (ك): ((ما ذكر)).
(4) تقدم تخريجه من حديث أبي هريرة.
(5) في (ح): ((تمسُّكًا في ذلك بما جاء في كتاب أبي داود)).
(6) قوله: ((في ذلك)) ملحق بحاشية (أ).
(7) في "سننه" (3605)، ومن طريقه البيهقي (20413). وأخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (857)، ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (9/407)، وأخرجه ابن جرير في "التفسير" (7/109). كلهم من طريق هشيم بن بشير، ثنا زكريا بن أبي زائدة، قال: ثنا الشعبي: فذكره وقد تابع هشيمًا في روايته ابن عيينة ووكيع وعبدالله بن نمير، ويحيى القطَّان. أما رواية ابن عيينة فأخرجها عبدالرزاق في"المصنف"(15539).
وأما رواية وكيع فأخرجها ابن أبي شيبة (22447)، وأما رواية ابن نمير فأخرجها البيهقي في "ألكبرى" (20413). وأما رواية فأخرجها ابن جرير (7/110) عن عمر بن علي الفلاس عن يحيى به.
وأخرجه ابن جرير (7/105) من طريق أبي داود الطيالسي، عن شعبة، عن مغيرة، عن الشعبي به.
وأخرجه الدارقطني (23)، والحاكم في "المستدرك" (2/314) من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي به.
قال الحاكم: ((صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه)). ووافقه الذهبي، وقال ابن كثير (2/114) بعد إيراده للحديث من طريق ابن جرير :(( وهذان إسنادان صحيحان إلى الشعبي عن أبي موسى)). وقال الحافظ في "الفتح" (5/412): روى أبو داود بإسنادٍ رجاله ثقات عن الشعبي))، فذكره.
والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (13/224)، وعزاه لعبدالرزاق، وأبي عبيد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، والحاكم.
(8) دقوقاء - بفتح أوله ن وضمّ ثانيه -: مدينة بين إربل وبغداد. "معجم البلدان" (2/459).(5/90)
والشاهد لا يستحلف. وإنَّما كان هذا من أبي موسى عملاً بما تُفِيدُه القرائن (1) . والله تعالى أعلم.
وأمَّا (2) إِخْبَار أهل الكفر فيما (3) لا يُعْرَف إلا من جهتهم، كإخبارهم عن ذبائحهم، ونسائهم، وأحكامهم، وأقوال أطِبَّائهم، فتُسْمَع إذا احتيج إلى ذلك لضرورة الحال، وهي أخبار لا شهادات. والله تعالى أعلم.
ويُعْتَذَر للجمهور عن (4) رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - الزانيين عند شهادة اليهود: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، نفَّذ عليهم ما علم أنَّه حكم التوراة، وألزمهم العمل به على نحو ما عملت به بنو إسرائيل إلزامًا للحجَّة عليهم، واظهارًا لتحريفهم وتغييرهم، فكان منفِّذًا لا حاكمًا. وهذا يمشي على تأويل الشافعي المتقدم. وأمَّا على ما قرَّرناه من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان حاكمًا في القضيَّة بحكم الله (5) ، فيكون العذر عن سماع شهادة اليهود: أن ذلك كان خاصًّا بتلك الواقعة؛ إذ لم يُسمع (6) في الصدر الأول شهاداتهم (7) في مثل ذلك. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: وهي أن هذا الحديث يدلُّ على أن الإسلام ليس شرطًا في الإحصان. فإنه رجم اليهودتين، ولو كانا شرطًا لما رجمهما. وبهذا قال الزهري، وابن أبي ليلى، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد. وقالت طائفة أخرى: إنَّه من شروط الإحصان. وله قال مالك، والشافعي - في أحد قوليه - متمسكين بأن الشرع إنَّما حكم برجم الحرِّ، المسلم، الثيب، إذا زنى؛ لعلو منصبه، وشرفيته بالحرية والإسلام؛ بدليل: أن العبد لا يرجم، وينصف عليه الحدّ لخسَّة قدره. والكافر أخس من العبد المسلم، فكان أولى بألا يرجم، ولأن من شرط =(5/113)=@ الإحصان صحة النكاح، وأنكحة الكفار فاسدة، فلا يصح فيهم الإحصان لعدم شرطه، واستيفاء مباحثها في الخلاف. ويُعتذر لمالك، ولمن قال بقوله بما تقدم، وبما رواه &(5/91)&$
__________
(1) في (ك): ((بما يفيده ظاهر القرآن)).
(2) في (ك): ((فأما)).
(3) في (ح): ((فما)).
(4) في (ح): ((من)).
(5) قوله: ((بحكم الله)) سقط من (ح).
(6) في (ك): ((تسمع)).
(7) في (ك): ((شهادتهم)).(5/91)
عيسى عن ابن القاسم: أنَّه قال: إن اليهوديين المرجومين لم يكونا أهل ذِمَّة، وإنَّما كانا (1) أهل حرب، كما رواه الطبرى (2) وغيره: أن الزانيين كانا من أهل فدك وخيبر، وكانوا حربًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - . واسم المرأة الزانية: بُرْة. وكانوا بعثوا إلى يهود المدينة ليسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا لهم (3) : سلوا محمدًا عن هذا، فإن أفتاكم بغير الرَّجم فخذوا به، وإن أفتى بالرَّجم (4) فاحذروا.
قلت: وهذا الاعتذار يحتاج أن (5) يعتذر عنه. وسبب ذلك بعد تسليم صحة الحديث: أن مَجِيئهم سائلين يوجب عهدًا لهم، كما إذا جاؤونا، ودخلوا بلادنا لغرضٍ مقصود: من تجارة، أو رسالة، أو ما أشبه ذلك. فإن ذلك (6) يوجب لهم أمانًا، فإمَّا أن يقضي غرضهم، أو يُرَدُّوا إلى مأمنهم، ولا يحل قتلهم، ولا أخذ مالهم. قاله القاضي أبو بكير بن العربي. %(2/459)%
المسألة الخامسة: قد يحتجُّ بهذا الحديث من يرى على الإمام إقامة الحدّ على زناة أهل الذمِّة وإن لم يتحاكموا إلينا، وهو قول أبي حنيفة، وأحد قول الشافعي. وقد روي عن ابن عباس (7) . وقال مالك: لا يعرض لهم الإمام، ويردُّهم =(5/114)=@ إلى أهل دينهم إلا أن يظهر منهم ذلك بين المسلمين (8) ؛ فيمنعوا من ذلك. ولا حجَّة لمن خالف مالكًا في هذا الحديث، لما قدَّمناه من أنهم حكَّموا النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فحكم بأحد ما خيَّره الله تعالى فيه على ما تقدَّم.
الغريب: الْحُمَم: الفَحْم، واحدته: حُمَمَة. والْمُحمَّمُ: المسوَّد. وروى العذري، والشمرقندي: نُسَوِّد وجوههما ونُحمِّمهُما (9) . ورواها (10) السَّجري: نُجْمِلْهُما - بنون مضومة، وجيم -؛ بمعنى: نحملهما على جمل، ويطاف بهم (11) . ورواها الطبري: نَحْمِلهما - بنون مفتوحة، وحاء مهملة - من الحمل. وكلتا الروايتين أحسن من رواية العذري، لأن فيها تكرارًا. فإن قوله: نسوِّدهما. هو (12) بمعنى: نُحَمِّمهُما. وقد تقدم ذكر ((التَّجبيه))، وقد تقدم: أن هذا الفعل إنما كان مما اخترعته (13) اليهود، وابتدعوه، وجعلوه عوضًا عن حكم الرَّجم، ولذلك لم يقل به &(5/92)&$
__________
(1) في (أ): ((كانوا)).
(2) في "تفسيره"(6/235) عن محمد بن الحسين، ثنا أحمد بن المفضل، ثنا اسباط، عن السُّدي به في تفسير قوله تعالى : {ومن الذين هادوا سَمَّاعون للكذب...} الآية.
(3) قوله: ((لهم)) سقط من (ك).
(4) في (أ): ((بغيره)).
(5) في (ح): ((إلى أن)).
(6) في (ك): ((كان)) بدل ((ذلك)).
(7) ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/82)، وعزاه لابن أبي حاتم، والنحاس في "ناسخه"، والطبراني، والحاكم وصححه. وابن مردويه والبيهفي. اهـ.
قلت: وقد سبق تخريجه والكلام عليه قريبًا.
(8) في (ح): ((بين يدي المسلمين)).
(9) في (أ): ((ويحممهما)).
(10) في (ح): ((رواها)).
(11) في (ح): ((بهما)).
(12) في (ح): ((وهو)).
(13) في (ح) و(ك): ((اخترعه)).(5/92)
أحدٌ من أهل الإسلام في الزنى، وإنَّما عمل به بعض أهل العلم في شاهد الزور، فرأى أن يحمم وجهه، ويجلد، ويحلق رأسه، ويطاف به. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب (1) . وقد روي ذلك عن بعض قضاة البصرة. ولم يره مالك. %(2/460)%
وقوله: ((فأتوا بالتوراة))؛ دليل على جواز المطالبة بإقامة الحجج على الأحكام. =(5/115)=@
وقوله: ((فلقد رأيته يقيها الحجارةَ بنفسه))؛ هذا يدلُّ على أنهما لم يُحفر لهما، ولا رُبِطا. وقد تقدَّم القولُ في ذلك. وقد وقع هذا اللفظُ في "الموطأ" (2) : فرأيتُ الرَّجلَ يحني على المرأة، يقيها الحجارة. رويناه: ((يَحْنِي)) بياء مفتوحةٍ، وبحاء مهملة، من الْحنُوِّ، وهو الصواب (3) . ورويناه: ((( يَجْنِي)) بالجيم من غير همزٍ، وليست بصوابٍ. وحكى بعضُ مشايخنا: أن صوابها: ((يَجْنَأ)) بفتح الياء وبالجيم (4) وهمزة، وحكاها عن أبي عبيد، وأظنه: القاسم بن سلاَّم (5) . والذي رأيته في "الغريبين" لأبي عبيد الهروي: قال: ((فجعل الرَّجل (6) يُجْنِئ عليها))، بياء مضمومة وهمزةٍ. قال: أي: يكبُّ عليها. يقال: أجنأ عليه، يُجنئ، إجناءً (7) : إذا أكبَّ عليه يقيه شيئًا. قال: وفي حديثٍ (8) آخر: فلقد رأيته يُجانىءُ عليها يقيها الحجارة بنفسه (9) . هذا نصُّه. وفي الصِّحاح: جنأ الرَّجل على الشيء (10) ، وجانأ عليه، وتجانأ عليه: إذا أكبَّ عليه. قال الشاعر (11) :
أغَاضِرُ لَوْ شهدتِ غَداةَ بِنْتُم جُنُوءَ العَائِداتِ على وِسَادِي
ورجلٌ أجنأُ: بيِّن الْجَنَأ؛ أي: أحدب الظهر. والْمُجنأُ - با لضم-: الترس. =(5/116)=@ %(2/461)%
قلت: ويحصل من مجموع حكاية أبي عبيد وصاحب الصِّحاح: أنَّه يُقال: جنأَ - مهموزًا (12) ثلاثيًّا ورباعيًّا (13) .
وقوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)) (14) ؛ يحتجُّ &(5/93)&$
__________
(1) أخرجه عبدالرزاق في "المصنف" (15392)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (28643)، والبيهقي في "الكبرى" (20281) من طريق الحجاج بن أرطاة، عن مكحول، عن الوليد بن أبي مالك: أن عمر بن الخطاب كتب إلى عماله بالشام في شاهد الزور: أن يُجلد أربعون جلدة، وأن يُسخم وجهه، وأن يُحلق رأسه، وأن يطال حبسه.
وأخرجه سعيد بن منصور، ومن طريقه البيهقي في "ألكبرى" (20280) عن ابن عياش، عن أبي بكر، عن مكحول وعطية بن يونس: أن عمر بن الخطاب ضرب شاهد الزور أربعين سوطًا، وسخم وجهه، وطاف به في المدينة.
قال البيهقي بعد ذكره لهاتين الروايتين (10/142): ((هاتان الروايتان ضعيفتان ومنقطعتان)).
(2) (1497).
(3) قال ابن عبدالبر في "التمهيد" (14/385):(( هكذا قال يحيى عند أكثر شيوخنا: ((يحني على المرأة))، وكذلك قال القعنبي زابن بكير: بالحاء، وقد قيل عن كلِّ واحد منهما :(( يجني)) بالجيم... الخ.
(4) في (أ): ((والجيم)).
(5) "غريب الحديث" (2/62).
(6) قوله: ((قال فجعل الرجل)) سقط من (ح).
(7) قوله: ((إجناء)) سقط من (ك).
(8) في (ك): ((وقال في حديث))، وفي (ح): ((قال في حديث)).
(9) "الغريبين" لأبي عبيد الهروي (1/371).
(10) في (ح): ((شيء)).
(11) "ديوان كثير عزَّه" (90).
(12) في (ك): ((مهموز)).
(13) قال الحافظ في "فتح الباري" (12/169): ((وجملة ما حصل لنا من الاختلاف في ضبط هذه اللفظة: عشرة أوجه)). ثم ذكرها بالتفصيل.
(14) ؛ الآية: 44. سورة المائدة.(5/93)
بظاهره من يُكفِّرُ (1) بالذنوب، وهم الخوارج، ولا حجَّة لهم فيه؛ لأنَّ هذه الآيات نزلت في اليهود المحرفين كلام الله تعالى، كما جاء في هذا الحديث، وهم كفار، فيشاركهم في حكمها من يشاركهم في سبب نزولها. وبيان هذا: أن المسلم إذا علم حكم الله تعالى في قضيَّة قطعًا، ثم لم يحكم به؛ فإن كان عن جَحْدٍ كان كافرًا، لا يختلف في هذا. وإن كان لا عن جَحْدٍ كان عاصيًا مرتكب كبيرة؛ لأنَّه مصدق بأصل ذلك الحكم، وعالم بوجوب تنفيذه عليه، لكنه عصى بترك العمل به (2) ، =(5/117)=@ وهكذا في كل ما %(2/462)% يعلم من ضرورة الشرع حكمه، كالصلاة، وغيرها من القواعد المعلومة. وهذا مذهب أهل السُّنه (3) . وقد تقدم ذلك في كتاب الإيمان؛ حيث بيَّنَّا: أن الكفر هو الجحد والتكذيب بأمرٍ معلوم ضروري من الشرع، فما لا (4) يكن كذلك فليس بكفر. ومقصود هذا البحث: أن هذه الآيات المراد بها: أهل الكفر، والعناد. وأنها كانت ألفاظها عامة، فقد خرج منها المسلمون؛ لأنَّ ترك العمل بالحكم مع الإيمان بأصله هو دون الشرك. وقد قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (5) . وترك الحكم بذلك ليس بشرك بالاتفاق، فيجوز أن يُغفر، والكفر لا يُغفر، فلا يكون ترك العمل بالحكم كفرًا. ويعتضد هذا بالقاعدة المعلومة من الشرع المتقدمة (6) . &(5/94)&$
__________
(1) في (ح): ((كفر)).
(2) قوله: ((به)) سقط من (ك).
(3) يحتاج إلى تعليق.
(4) في (ح) و(ك): ((لم)).
(5) ؛ الآية: 48 و116. سورة النساء.
(6) في (ك): ((المتقدم)).(5/94)
والظلم والفسق في هاتين الآيتين المراد به: الكفر؛ لأنَّ الكافر وضع الشيء في (1) غير موضعه، وخرج عن الحق، فصدق على الكافر: أنَّه ظالم وفاسق، بل هو أحق بذينك الإسمين ممن ليس بكافر؛ لأنَّ (2) ظلمه أعظم الظلم، وفسقه أعظم الفسق. وقد تقدَّم في الإيمان بيان كفر دون كفر، وظلم دون ظلم. =(5/118)=@ %(2/463)%
ومن باب إقامة السَّادة الحدَّ على الأرقَّاء
قوله: ((إذا زنت أَمَةُ أحدكم فتبيَّن زناها فليجلدها))، الأمة: هي المملوكة. وتجمع الأمة: إماءٌ وأَمَوانٌ. قال (3) :
أمَّا الإماء فلا يدعونني ولدًا إذا ترامى بنو الأُموانِ (4) بالعار
وتبيُّنُ زنى الأمة يكون بالإقرار وبالْحَبَل، وبصحة الشهادة عند الإمام. وهل يكتفي السيِّد بعلم الزنى أو لا؟ عندنا في ذلك روايتان.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((فليجلدها))، أمرٌ للسيِّد بجلد أمنه الزانية وعبده. وبه قال الجمهور من الصحابة، والتابعين، والفقهاء، خلا أهل الرأي أبا حنيفة وأصحابه، فإنَّهم قالوا: لا يقيم الحدّ إلا السلطان. وهذه الأحاديث - النصوص الصحيحة - حجَّة عليهم. وفي معنى حدّ الزنى عند الجمهور سائر الحدود، غير أنهم اختلفوا في حد السَّرِقة، وقصاص الأعضاء. فمنع مالك وغيره إقامة السيِّد ذلك مخافه أن يمثل بعبده، ويدعي أنَّه سرق وأقام (5) الحدّ عليه، فيسقط العتق الواجب بالْمُثْلَة. &(5/95)&$
__________
(1) قوله: ((في)) سقط من (أ) و(ك).
(2) في (ح): ((ولأن)).
(3) القتَّال الكيلابي في قصيدة يهجو بها: عُليَّة بنت شيبة وإخوانها. "الأغاني" (24/150).
(4) في (ح): ((الأمواء)).
(5) في (أ): ((ويدعي أنه أقام)).(5/95)
قلت: وعلى هذا لو قامت بيِّنة توجب حدّ السَّرِقة أقامه. وقاله بعض أصحابنا إذا قامت على السَّرِقة بيِّنة (1) . وقال الشافعي: يقطع السيِّد عبده إذا سرق. %(2/464)%
قلت: وعلى هذا فله أن يَقْتل عبده إذا قتل؛ لكن إذا قامت البيِّنة. =(5/119)=@
وكل من قال بإقامة السيِّد الحدّ على أمته لم يفرِّق بين أن تكون الأمة ذات زوج، أو غير ذات زوج؛ خلا مالكًا فإنَّه قال: إن كانت غير ذات زوج، أو كانت متزوجة بعبد السيِّد أقام عليها الحدّ، فلو كانت متزوجة بأجنبي لم يقم سيِّدها (2) عليها الحدّ لحق الزوج؛ إذ قد يُعِيبُها عليه، وإنَّما يقيمه الإمام.
والجلد المأمور به هنا: هو (3) نصف حدِّ الحرِّ. الذي (4) قال الله تعالى فيه: {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} (5) .
وقوله: ((ولا يُثَرِّب عليها))؛ أي: لا يُوبِّخ، ولا يُعيِّر (6) ، ولا يُكْثِر من اللَّوم، فإنَّ الإكثار من ذلك يزيل الحياء والحشمة، ويُجزئ على ذلك الفعل. وأيضًا: فإن العبد غالب حاله: أنَّه لا ينفعه اللوم والتوبج، ولا يؤثر، فلا يظهر له أثر، وإنما يظهر أثره في حق الحر. ألا ترى قول الشاعر (7) :
واللَّوم للحرِّ مُقيمٌ رادِعٌ والعبدُ لا يَرْدَعُهُ إلا العصا
وأيضًا: فإن التوبيخ واللَّوم (8) عقوبة زائدة على الحد الذي نصّ الله تعالى عليه فلا ينبغي أن يلتزم ذلك. ولا يدخل في ذلك الوعظ والتخويف بعقاب الله تعالى، والتهديد إذا احتيج لذلك (9) ؛ إذ ليس بتعريب ولأن الصحابة ( قد قالوا لشارب الخمر: أما اتَّقيت الله، أما استحيت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (10) . =(5/120)=@ %(2/465)%
وقوله: ((ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير))، الضفير: الحبل المضفور، فعيل بمعنى: مفعول. وفي الرِّواية الأخرى: ((ولو بحبل من شعر))، فوصف الحبل بكونه من شعرًا (11) ؛ لأنَّه (12) أكثر حبالهم. وهذا خرج مخرج التقليل والتزهيد في الجاربة الزانية، فكأنَّه قال: لا تمسكها، بعها بما تيسَّر. ففيه دليل على إبعاد أهل المعاص واحتقارهم. &(5/96)&$
__________
(1) في (ح) و(ك): ((البينة)).
(2) قوله: ((سيدها)) سقط من (ح).
(3) قوله: ((هو)) سقط من (ح).
(4) قوله: ((الذي)) سقط من (ك).
(5) ؛ الآية: 25. سورة النساء.
(6) قوله: ((ولا يعير)) سقط من (أ).
(7) من مقصورة ابن دريد المشهورة "صبح العشى" (1/256).
(8) في (أ): ((والذَّم)).
(9) في (ك): ((إلى ذلك)).
(10) أخرجه أبو داود (4/620-621 رقم4478) كتاب الحدود، باب الحد في الخمر عقب الحديث رقم (4477) من طريق ابن وهب، أخبرني يحيى بن أيوب وحيوة بن شريح وابن لهيعة، عن ابن الهاد بإسناده ومعناه قال فيه بعد الضرب: ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: ((بكتوه))، فأقبلوا عليه يقولون: ما اتقيت الله، ما خشيت الله، وما استحيت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ثم أرسلوه.وقال في آخره: ولكن قولوا: ((اللهم اغفر له، اللهم ارحمه))، وبعضهم يزيد الكلمة ونحوها.
قال المنذري: ((والحديث أخرجه البخاري، يعني به حديث المدعو حمار، ورقمه فيه (6781). وأخرجه الشافعي "الأم" (6/180)، وفي "مسنده" (438)، ومن طريقه أخرجه البيهقي(8/319) من طريق معمر، عن الزهري، عن عبدالرحمن بن أزهر قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - عام حنين، وذكره نحوه بمعناه بزيادة في أوله وآخره، ولم يذكر الدعاء له.
(11) قوله: ((فوصف الحبل بكونه من شعرًا)) سقط من (أ).
(12) في (أ): ((لأنها)).(5/96)
فرع (1) : إذا باعها عرَّف بزناها، لأنَّه (2) عيبٌ، فلا يحلُّ أن يكتم. فإن قيل: إذا كان مقصود هذا الحديث إبعاد الزانية، ووجب على بائعها التعريف بزناها، فلا ينبغي لأحد أن يشتريها، لأنها مِمَّا قد أُمِرَ بإبعادها. فالجواب: أنَّها مالٌ ولا يُضاع (3) للنهي عن إضاعة المال، ولا تُسيَّب، ولا تحبس دائمًا؛ إذ كل ذلك إضاعة مال، ولو سُيِّبت لكان ذلك إغراءً لها بالزنى وتمكينًا منه، فلم يبق إلا بيعها. ولعل السيِّد الثاني يُعِفُّها (4) بالوطء، أو يبالغ في التحرز بها (5) ، فيمنعها من ذلك. وعلى الجملة فعند تَبَدُّل الأملاك تختلف عليها الأحوال. وجمهور العلماء حملوا الأمر ببيع الجارية (6) الزانية على النَّدب، والإرشاد للأصلح ما خلا داود وأهل الظاهر فإنهم حملوه على الوجوب تمسُّكًا بظاهر الأمر، والجمهور صرفوه عن ظاهره تمُّسكًا بالأصل الشرعي، وهو: أنَّه لا يجبر أحدٌ على إخراج ملكه لملك آخر بغير الشفعة. فلو وجب ذلك عليه لجبر عليه، ولم يجبر عليه فلا يجب. وقد استنبط بعض العلماء من هذا الحديث جواز البيع بالغَبْن، قال: لأنه بيع خطير بثمن يسير. وهذا ليس بصحيح؛ لأنَّ الغبن المختلف فيه إنَّما هو مع الجهالة من المغبون. وإمَّا مع علم البائع بقدر ما باع وبقدر ما %(2/466)% قبض فلا يختلف فيه؛ لأنَّه =(5/121)=@ عن علم منه ورضًا، فهو إسقاط لبعض الثَّمن، وإرفاق بالمشتري (7) ، لاسيَّما وقد بيَّنَّا: أن الحديث خرج على جهة التزهيد، وترك الغبطة.
وقوله: ((سُئِل عن الأَمَة إذا زنت ولم تحصن))؛ هذه الزيادة التي هي قوله: ((ولم تحصن)) هي رواية مالك عن ابن شهاب. قال الطحاوي: لم يقله غير مالك. قال غيره: ليس ذلك بصحيح، بل قد رواه سفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد عن ابن شهاب، كما قاله مالك (8) .
واختلف في تأويل قوله: ((ولم تحصن)). فقيل: لم تعتق، وتكون فائدته: أنها لو زنت وهي مملوكة فلم يحدَّها سيِّدها حتى عتقت لم يكن له سبيل لجلدها (9) . والإمام هو الذي يقيم ذلك (10) عليها إذا ثبت عنده. وقيل: ما لم تتزوَّج. وفائدة ذلك: أنَّها إذا تزوَّجت لم يكن للسِّيد أن يجلدها (11) لحق الزوج؛ إذ قد يضره ذلك. وهذا مذهب مالك إذا لم يكن الزوج ملكًا للسيِّد، فلو كان جاز للسيِّد ذلك؛ لأنَّ حقَّهُما (12) حقُّه. وقيل: لم تسلم. &(5/97)&$
__________
(1) في (ح) و(ك): ((فروع)).
(2) في (ك): ((فإنه)).
(3) في (ح) و(ك): ((تضاع)).
(4) في (ح) و(ك): ((يعتقها)).
(5) قوله: ((بها)) سقط من (ح).
(6) في (ح): ((الأمة)).
(7) في (أ): ((للمشتري)). تراجع النسخ.
(8) رواية سفيان بن عيينة أخرجها البخاري في "صحيحه" (2417) عن مالك بن إسماعيل، عن سفيان، عن الزهري به.
ورواية يحيى بن سعيد القطَّان أخرجها النسائي في "الكبرى" (7258) من طريق صالح بن كيسان، عن الزهري به. وأخرجه عبدالرزاق في "المصنف" (13598)، وعنه مسلم في "صحيحه" (1704)، وأبو عوانة (6325)، عن معمر بن راشد، عن الزهري به. فهؤلاء الأربعة: سفيان، ويحيى بن سعيد القطَّان ،وصالح بن كيسان، ومعمر، تابعوا مالكًا في روايته عن الزهري.
(9) في (ح) و(ك): ((إلى جلدها)).
(10) قوله: ((ذلك)) سقط من (ح).
(11) في (ح): ((أن يقيم عليها)) بدل ((أن يجلدها)).
(12) في (ك): ((حقها)).(5/97)
وفائدته: أن الكافرة لا تُحدُّ، وإنما تُعزر وتُعاقب. وعلى هذا فيكون الجلد المأمور به في هذا الحديث على جهة التعزير، لا الحدّ. وهذا كله إنَّما هو تَنَزُّل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علَّق الجلد المأمور به في الجواب على نفي الإحصان المأخوذ قيدًا في السؤال، وعلى القول بدليل الخطاب. وحينئذ يكون هذا الحديث على نقيض قوله تعالى: {فإذا أحصنَّ فإن أتين بفاحشة فعليهن نضف ما على المحصنات من العذاب} (1) ، فإن شرط الجلد في الإحصان، وشرط الحدِّ (2) في الآية ثبوت الإحصان، فلا بدَّ أن يكون أحد الإحصانين غير الآخر. ولو قدَّرناه واحدًا فيهما للزم أن يكون الجلد المترتب على نفي الإحصان في الحديث غير الحد المترتب على الإحصان المثبت في الآية. =(5/122)=@ %(2/467)%
وقد اختلف في إحصان الآية، كما اختلف في الإحصان المنفي في الحديث. فقال قوم: هو الإسلام. قاله ابن مسعود (3) ، والشعبي، والزهري، وغيرهم. وعلى هذا: فلا تُحدُّ كافرةٌ. وقال آخرون: إنَّه التزويج. قاله ابن عباس (4) ، وسعيد بن جبير. وعلى هذا فتُحدُّ المتزوجة وإن كانت كافرة، كما قاله الشافعي. وقال آخرون: أنَّه الحرية. وروي ذلك عن عمر (5) ، وابن عباس (6) ، وعلي (7) (8) . وعلى هذا: فلا تُحدُّ أمةٌ؛ بوجه وإن كانت مسلمة، لكنها يجلدها سيِّدها تعزيرًا. وكل هذا الخلاف أوجبه اشتراك الإحصان، فإنَّه قد جاء في كتاب الله تعالى بمعنى: الإسلام، والحرية، والتزويج، والعفاف. والعفاف غير مراد في هذا الحديث، ولا في هذه الآية بالاتفاق، فبقي لفظ الإحصان محتملاً لأن يراد به واحد من تلك المعاني الثلاثة، فترتب عليه الخلاف المذكور.
والذى يرفع الإشكال عن الحديث إن شاء الله تعالى: أن نفي الإحصان إنما هو من قول السَّائل، ولم يصرَّح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأخذه قيدًا في الجلد. فيحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أعرض عنه، وأجابه (9) بالجلد (10) مطلقًا. ويشهد لهذا التأويل: الأحاديث الواردة في جلد الأمة إذا زنت، ليس فيها (11) ذكر لذلك القيد من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله (12) : ((إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحدّ)) (13) ولو سلمنا: &(5/98)&$
__________
(1) ؛ الآية: 25. سورة النساء.
(2) في (ح): ((الجلد)).
(3) أخرجه عبدالرزاق في "المصنف" (13604)، وابن جرير الطبري في "تفسيره" (5/22)، والطبراني في "الكبير" (6691) من طريق حماد بن زيد، عن إبراهيم النخعي، عن ابن مسعود به. وإسناده صحيح.
وله طرق أخرى ذكرها ابن جرير في "تفسيره".
(4) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (17580)،والطبري في "تفسيره" (5/23)، والبيهقي (16872) من طريق هشيم بن بشير، عن حصين بن عبدالرحمن السُّلمي، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه كان يقرأ : {فإذا أحصن} قال: إذا تزوجن. وإسناده صحيح.
(7) قوله: ((وعلي)) سقط من (ح) و(ك).
(9) في (ح) و(ك): ((وأفتى)).
(10) في (ح): ((بالحد)).
(11) في (أ): ((فيه)).
(12) في (ك): ((كقوله)).
(13) في (أ): ((الحد الحديث)).(5/98)
أن ذلك القيد من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وتنزلنا على القول بدليل الخطاب، فأولى الأقوال به (1) أن يحمل على التزويج.
ويستفاد منه صحة مذهب مالك على ما قدَّمناه للاشتراك، وتنزيلاً (2) للحديث على فائدة مستجدَّة. والذى يحسم مادة الإشكال عن الحديث والآية حديث علي بعد هذا، وهو قوله في حال (3) خطبته: يا أيها النَّاس أقيموا على أرقائكم الحدّ (4) ، من أحصن منهم ومن لم يحصن. وهذا الحديث وإن كان موقوفًا على علي - رضي الله عنه - في كتاب مسلم (5) ، فقد رواه النسائي (6) ، وقال فيه: قال =(5/123)=@ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم؛ من أحصن منهم، ومن لم يحصن))؛ وهذا ينصّ على أمر %(2/468)% السَّادة بإقامة الحد الذي ذكر (7) الله تعالى، وليس بتعزير، فإنَّه قد (8) سمَّاه حدًّا، وصرَّح بإلغاء اعتبار الإحصان مطلقًا؛ إذ سوَّى بين وجوده وعدمه، فتُحدُّ الأَمَة الزانية على(أي حال كانت. ويعتذر عن تخصيص الإحصان في الآية بالذكر: بأنه (9) أغلب حال الإماء، أو (10) الأهم في مقاصد الناس، لا سيما إذا حمل الإحصان على الإسلام. وهو أولى الأقوال على ما قد أوضحه (11) القاضي أبو بكر بن العربي. والله تعالى أعلم.
وقوله: ((فإن أمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - زنت))؛ كذا جاء في كتاب مسلم. وفي كتاب أبي داود (12) : ((فجرت جارية لآل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )). وظاهره: أن هذه الجارية كانت لبعض عشيرته. وهذه الزيادة (13) أحسن من رواية مسلم وأليق بحال من ينتسب (14) لحضرة بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وملكه، استصحابًا لما شهد الله تعالى به من الطهارة لذلك الجناب الكريم، كما قال تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا} (15) ، وكيف يليق بمن كان في مثل ذلك (16) البيت الكريم، وبمن صحَّ له ذلك الملك الشريف أن تقع منه فاحشة الزنى. هذا والله من البعد على (17) الغاية القصوى، فإن العبد من طينة سيِّده. ألا ترى أنَّه لما كثر المنافقون على مارية في ابن عمها؛ الذي كان يزورها، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - عليّ بن أبي طالب &(5/99)&$
__________
(1) قوله: ((به)) سقط من (ح).
(2) في (أ): ((تنزلاً)).
(3) قوله: ((حال)) سقط من (أ).
(4) في (ح): ((أقيموا الحد على أرقائكم)).
(5) "صحيح مسلم" (1705).
(6) أخرجه النسائي في "الكبرى" (7239 و7268) من طريق سفيان الثوري، ليس فيه قوله: ((من أحصن ولم يحصن)). وكذلك أخرجه عبدالرزاق (13601)، وأحمد (736 و1137 و1230)،والبزار (762)، وأبو يعلى (320)،والدارقطني (3/158). جميعًا من طريق سفيان الثوري، عن عبدالأعلى الثعلبي، عن أبي جميلة الطفوي، عن علي - رضي الله عنه - به مرفوعًا: ((أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم))، وليس فيه ذكر: ((من أحصن ولم يحصن)).
قال الدارقطني: ((تابعه أبي سفيان: شعبة وإسرائيل وشريك وإبراهيم بن طهمان وأبو وكيع، عن الأعلى)).
قلت: رواية شعبة أخرجها النسائي في "الكبرى" (7267) مختصرة قال: ((زنت جارية لي فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((لا تضربها حتى تضع)).
ورواية إسرائيل أخرجها أبو داود (4473)، والبيهقي (16883)، ورواية شريك أخرجها علي بن الجعد في "مسنده" (2237)، ومن طريقه البغوي في "شرح السنة" (2589)، والبيهقي (16883).
ورواية ابن طهمان لم أقف عليها.
ورواية أبي وكيع الجرّاح بن مليح أخرجها الطيالسي في "مسنده" (139)، وعبدالله بن أحمد في "زوائد المسند" (1142)، وتابعه أيضًا أبو الأحوص سلاّم بن سليم أخرجه الطيالسي (139) مقرونًا بأبي وكيع، وأخرجه ابن أبي شيبة (36088)، والنسائي في "الكبرى" (7269)، والطحاوي في "شرح المعاني" (3/136)، والبيهقي في "الكبرى" (16882). وليس في رواية الجميع ممن سبق ذكرهم قوله: ((من أحصن ولم يحصن)). وإنما أخرجه البيهقي في "الكبرى" (16867) من طريق علي بن قادم، عن عبدالسلام، عن السدي، عن عبد خير، عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إذا زنت إماؤكم فأقيموا عليهن الحدود؛ أحصنَّ، أو لم يُحصنَّ)). وقد خالف عبدالسلام هذا وهو ابن حرب كلّ من إسرائيل بن يونس وزائدة بن قدامة فروياه عن السُّدي بن إسماعيل، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبدالرحمن السُّلمي قال: خطب علي - رضي الله عنه -...، فذكره من قول علي.
أخرجه مسلم كما تقدم وغيره.
قال الدارقطني في "العلل" (485) قول إسرائيل أصح.
ستتهم عن عبدالأعلى بن عامر الثعلبي، عن أبي جميلة الطفوي ميسرة بن يعقوب، عن علي به. وعبدالأعلى: صدوق يهم، وأوب جميلة: مقبول. وتابع عبدالأعلى؛ عبدُ الله بن أبي جميلة وهو مجهول: أخرجه البيهقي (16883).
(7) في (ح) و(ك): ((ذكره)).
(8) قوله: ((قد)) سقط من (ح).
(9) في (ح): ((فإنه)).
(10) في (ح): ((و)).
(11) في (ح): ((على ما قاله)).
(12) (4473) من طريق إسرائيل، عن عبدالأعلى، عن أبي جميلة، عن علي به. وتقدم الكلام عليها قريبًا.
(13) في (ك): ((الرواية)).
(14) في (ح): ((تنسب)).
(15) ؛ الآية: 33. سورة الأحزاب.
(16) في (ك): ((هذا)).
(17) في (ك): ((إلى)).(5/99)
ليقتله، فدخل عليه، فلما رآه كشف عن فرجه فاذا هو أَجَبُّ، فقرأ عليٌّ - رضي الله عنه -: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا} (1) . =(5/124)=@ هذا كله مع احتمال أن يراد بآل محمد نفسه، كما قدمنا (2) في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((اللَّهم صلِّ على آل أبي أوفى)) (3) ، وفي قوله: ((لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود)) (4) . وتكون هذه الأمة من الأَمَة الْمُتخذات للخدمة والتصرف، ولعلَّها قريبة عهد بالجاهلية. لكن الأوَّل أليق وأسلم. والله تعالى أعلم. %(2/469)%
وقوله: ((فأمرني أن أجلدها))؛ هذا إنَّما كان لما ظهر زناها (5) بالْحَبَل، كما دلَّ عليه قوله: ((فاذا هي حديثة عهد بنفاس)).
وقوله: ((فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها)). هذا فيه أصل من أصول الفقه. وهو ترك العمل بالظاهر لِمَا هو أولى منه، وتسويغ الاجتهاد. ألا ترى أن عليًّا - رضي الله عنه - قد ترك ظاهر الأمر بالجلد مخافة أمر آخر؛ هو أولى بالمراعاة، فحسَّنه النبي - صلى الله عليه وسلم - له وصوَّبه. ولو كان الأمر (6) على ما ارتكبه أهل الظاهر من الأصول الفاسدة لجلدها وإن هلكت.
وفيه من الفقه ما يدلُّ على أن من كان حدُّه دون القتل لم يقم عليه الحدّ في مرضه حتى يفيق، لا مُفَرَّقًا، ولا مجموعًا، ولا مخففًا، ولا مثقلاً. وهو مذهب في الجمهور تمسُّكًا بهذا الحديث، وهو أولى مما خرَّجه أبو داود من حديث سهل بن =(5/125)=@ حنيف: أن رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - اشتكى حتى أَضْنَى، فعاد جِلْدَةً على عَظْمٍ، فوقع على جارية لغيره، ثمَّ ندم، فاستُفْتِيَ له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة؛ لأنَّ &(5/100)&$
__________
(1) ؛ الآية: 33. سورة الأحزاب. وسيأتي في باب....
(2) في (ح) و(ك): ((قدمناه)).
(3) تقدم في باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الصلاة.
(4) أخرجه البخاري (4761)، ومسلم (793) من حديث أبي موسى الأشعري.
(5) في (ك): ((من زناها)).
(6) قوله: ((الأمر)) سقط من (ح).(5/100)
إسناده مختلف فيه. ولحديث سهل هذا؛ قال الشافعي: يضرب المريض ضربة بِعثْكُولِ نخل تصل شماريخه كلها إليه، أو بما يقوم مقامه. وهذا في مريض ليس عليه حدُّ القتل. فلو كان عليه جلدٌ وقتلٌ؛ يجلد الحدّ ثم يقتل بعد ذلك. وحديث عليّ هذا: قد خرَّجه (1) النسائي، والترمذي، وزاد (2) فيه: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((دعها حتى ينقطع دمها ثم أقم عليها الحدّ، وأقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم))، وهذا لفظ أبي داود (3) . وهو (4) نصٌّ على صحة مذهب الجمهور (5) ، وهو أصحُّ من حديث سهل وأعلى، فالعمل به أوجب وأولى، والحدُّ الذي أمر علي بإقامته هو نصف حدّ الحرَّة الذي قال الله تعالى فيه: {فعليهنَّ نصف ما على المحصنات من العذاب} (6) . وهو قول الجمهور. ولا رجم على أمة وإن كانت متزوجة بالإجماع. %(2/470)%
فروع: قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ (7) عنه من أهل العلم: أن الجلد بالسَّوط؛ والسَّوط الذي يجلد به سوط بين سوطين، ولا تُجَرَّد المرأة، وتُسْتَر، ويُنزع عنها ما يقيها. وهو مذهب مالك وغيره، بل لا خلاف فيه (8) فيما أعلم. وأمَّا الرَّجل: فاختلف في تجريده. فقيل: لا يجرد. وبه قال طاووس، والشعبي، وقتادة، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وروي ذلك عن ابن مسعود (9) ، وأبي عبيدة بن الجرَّاح. وقالت طائفة أخرى: يجرَّد وتستر عورته. وبه قال عمر بن عبدالعزيز، ومالك. وقال الأوزاعي: ذلك إلى الإمام، إن شاء جرَّد، وإن شاء لم يجرد. واتفقوا على أن المجلود وعليه قميصه مجلود.
وتُضرب المرأة قاعدة عند =(5/126)=@ &(5/101)&$
__________
(1) في (ك): ((أخرجه)).
(2) في (ك): ((وزادا)).
(3) في "سننه" (4473)، وقد تقدم تخريجه، وتقدم رواية النسائي. أما رواية الترمذي فأخرجها في "سننه" (1441) من طريق أبي داود الطيالسي أخرجها في "المسند" (114)، وعن الطيالسي أخرجه أحمد (1340)، ومسلم (1705)، وأبو يعلى (326) وغيرهم، وتقدم ذكرها في الأصل.
(4) في (أ): ((وهذا)).
(5) في (ح): ((السلف)).
(6) ؛ الآية: 25. سورة النساء.
(7) في (أ): ((يحفظ)).
(8) قوله: ((فيه)) سقط من (ح) و(ك).
(9) يأتي بعد قليل.(5/101)
الجمهور. واختلف في الرِّجال. فالجمهور على أنهم يجلدون قيامًا. قاله الشافعي، وغيره. وقال مالك: قعودًا. واتفقوا: على أن الجلد كيفما وقع أجزأ. ولا يُمدُّ المجلود، ولا يُربط. وتُترك له يداه عند الجمهور. قال ابن مسعود (1) : لا يحل في هذه الأُمَّة تجريدٌ، ولا مَدٌّ. والضرب الذي يجب هو أن يكون مؤلِمًا؛ لا يجرح، ولا يبضع (2) ، ولا يُخرج الضارب يده من تحت إبطه. وبه قال الجمهور، وبه قال (3) علي (4) ، وابن مسعود (5) . وابن عمر ( برجلٍ في حدٍّ، فأُتي بسوط بين سوطين، وقال للضارب: اضرب، ولا يُرى إبطك، وأعط كل عضو حقَّه (6) . واتفقوا: على أنه لا يضرب في الوجه؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، ولا يُضرب في الفرج عند العلماء. والجمهور على اتِّقاء الرأس. وقال أبو يوسف: يُضرب في الرأس. وقد روي: أن عمر ضرب صَبِيغًا (7) في رأسه، وكان تَعْزِيرًا، لا حدًّا (8) .
قلت: وإنَّما (9) منع من الضرب في الفرج مخافة الموت. فيجب أن تُتَّقَي المقاتل كلُّها، كالدماغ، والقلب، وما أشبه ذلك. وهذا لا يُخْتَلف فيه إن شاء الله تعالى. %(2/471)%
ومن باب الحدّ في الخمر
قوله: ((أُتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل قد شرب الخمر فجلده))؛ ظاهره يقتضي: أن شرب الخمر بمجرَّده موجبٌ للحدِّ؛ لأن الفاء للتعليل، كقولهم: سها فسجد، =(5/127)=@ وزنى فرُجِم. وهو مذهب الجمهور من الصحابة وغيرهم. ولم يفرِّقوا بين شرب (10) خمر العنب وغيره، ولا بين شرب (11) قليله وكثيره؛ إذ الكل خمر، كما قدَّمناه (12) ، وللكوفيين تفصيل ينبني على ما تقدَّم ذكره في باب تحريم الخمر. وهو: أن من &(5/102)&$
__________
(1) أخرجه عبدالرزاق في "المصنف" (13522) عن سفيان الثوري، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن مسعود به , ومن طريق عبدالرزاق أخرجه الطبراني في "الكبير" (9690)، وأخرجه البيهقي في "ألكبرى" (17355) من طريق آحر عن الثوري ،عن جويبر به.
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (6/235): ((رواه الطبراني وهو منقطع الإسناد، وفيه جويبر وهو ضعيف)).اهـ.
قلت: وهو كما قال: فإن جويبر بن سعيد الأزدي راوي التفسير، ضعيف جدًّا، والضحاك بن مزاحم كثير الإرسال، وقيل: لم يسمع من أحد من الصحابة، ووفاة ابن مسعود 32 هـ، ووفاة الضحاك 105 هـ فبَعيدٌ أن يكون سمع منه.
(2) قال الأصمعي وغيره: يبضع: يعني يشقُّ الجلد. "غريب الحديث" (لابن سلام 3/242).
(3) قوله: ((وبه قال)) سقط من (ح).
(4) أخرجه عبدالرزاق في "المصنف" (13517) عن الثوري، عن ابن أبي ليلى، عن عدي بن ثابت، عن عكرمة بن خالد قال: أتي عليًّا رجلٌ في حدٍّ، فقال: اضرب واعط كل عضو حقه، واجتنب وجهه ومذاكيره.
وأخرجه ابن أبي شيبة (28675)، وأبو يوسف في "الخراج" (175) من طريق ابن أبي ليلى، عن عدي، عن المهاجر بن عميرة، عن علي به نحوه.
وأخرجه البيهقي (17359) من طريق سعيد بن منصور، عن هشيم، ابن أبي ليلى، عن عدي، عن هنيدة بن خالد، عن علي به.
(5) أخرجه الحميدي (89)، وعبدالرزاق (13519)، وابن أبي شيبة (28674)، والبيهقي (17356) جميعًا من طريق يحيى بن عبدالله التيمي، عن أبي ماجد الحنفي، عن ابن مسعود.
(6) أخرجه عبدالرزاق (13516)، وابن أبي شيبة (28673)، والبيهقي (17353) كلهم من طريق عاصم الأحول ،عن أبي عثمان النهدي، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - به. وإسناده صحيح، وصححه ابن حزم في طالمحلى" (11/172).
(7) في (ح) و(ك): ((ضبيعًا)).
(8) أخرجه أحمد في "فضائل الصحابة" (717)، وابن بطه في "الإبانة" (ل35/أ)، والآجري في "الشريعة (73)، واللالكائي في "اعتقاد أهل السنة" (1136) جميعًا ن طريق مكي بن إبراهيم، عن الجعيد بن عبدالرحمن، عن يزيد بن خصيفة، عن السائب بن يزيد به في قصة تأويل القرآن.
وأخرجه مالك في "الموطأ" (974) عن الزهري، عن القاسم بن محمد، عن ابن عباس به.
وأخرجه عبدالرزاق (20906) عن معمر بن راشد، عن ابن طاووس، عن أبيه به.
وأخرجه الدارمي (144) من طريق حماد بن زيد، عن يزيد بن حازم، عن سليمان بن يسار به. وأخرجه أيضًا (148) من طريق الليث، عن ابن عجلان، عن نافع: أن صبيغًا، فذكره.
وأخرجه البزار (299) من طريق ابن أبي سبرة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، به. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (7/614) معزوًّا للبزار والدارقطني في "الأفراد"، وابن مردويه وابن عساكر، عن سعيد بن المسيب به. وذكره أيضًا معزوًّا للفريابي، عن الحسن البصري قال: سأل صبيغ التميمي، فذكره.
(9) قوله: ((وإنما)) سقط من (ح).
(10) قوله: ((شرب)) سقط من (أ).
(11) في (ك): ((من شرب)).
(12) في (ك): ((كما قدمنا)).(5/102)
شرب شيئًا من خمر العنب النيَّئة وجب عليه الحدّ، قليلاً كان أو كثيرًا، لأن هذا هو المجمع عليه، فإن شرب غيره من الأشربة فسكر: حُدَّ، وهذا أيضًا مجمع عليه (1) ، فإن (2) لم يسكز لم يُحدَّ عندهم. وكذلك قالوا في مطبوخ العنب. وذهب أبو ثور: إلى أن من رأى تحريم القليل من النبيذ جلد ومن لم يره لم يجلد؛ لأنَّه متأوِّل. وقد مال إلى هذا الفرق (3) بعض شيوخنا المتأخرين. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور بما سبق ذكره في باب تحريم الخمر، وبدليل قوله: ((من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه (4) ، ثم إن شرب فاقتلوه)) (5) ، فعلَّق الحكم على نفس شرب (6) ما يقال عليه خمر، ولم يفرق بين قليل، ولا (7) كثير. وقد بيَّنَّا: أن الكل يقال عليه خمر لغة وشرعًا، بالطرق التي لا مدفع لها.
فأما قتل الشارب في الرابعة: فمنسوخ (8) بما روي من حديث جابر الذي خرَّجه النسائي (9) : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتي بنعيمان، فضربه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع مرات. قال: فرأى المسلمون أن الحدّ قد وقع، وأن القتل قد رفع (10) .
فيحصل من هذا الحديث معرفة التاريخ ومعرفة (11) إجماع المسلمين على رفع القتل. ومن حكي عنه =(5/128)=@ خلاف %(2/472)% ذلك فإنما هو خلاف متأخر مسبوق بالإجماع المتقدم (12) .وقد عضد حديث جابر ما خرَّجه البخاري (13) من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أن رجلاً كان اسمه: عبدالله، وكان يلقب حمارًا، وكان يُضْحِك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشراب، فأُتي به يومًا، فأمر به(فجلد. فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يُؤتى به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((لا تلعنوه، فوالله ما علمت: إلا أنه يحب الله ورسوله. وظاهره: أن هذا الشارب شرب أكثر من أربع مرَّات، ثم لم يقتله، بل شهد له: أنَّه يحب الله ورسوله. &(5/103)&$
__________
(1) قوله: ((وهذا أيضًا مجمع عليه)) سقط من (ح) و(ك).
(2) في (ح): ((وإن)).
(3) قوله: ((الفرق)) سقط من (ح).
(4) قوله: ((ثم إن شرب فاجلدوه)) سقط من (ك).
(5) حديث صحيح: جاء عن جمع كبير من الصحابة: أخرجه الطيالسي (2458)، وأحمد (7898 و10554)، والدارمي (2111)، وأبو داود (4484)، والنسائي (5678)،وابن ماجه (2572)، وابن الجارود (831)، والطحاوي (3/159)، وابن حبان (4447)،والحاكم (4/371)، والبيهقي (17280) من طريق ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبدالرحمن، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، به.
وأخرجه أحمد (10740) من طريق عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة به. وأخرجه عبدالرزاق (7081)، وعنه أحمد (7748)، والنسائي في "الكبرى" (5296)، والحاكم (8116) عن معمر بن راشد، عن سهيل بن أبي صالح، عن معاوية بن أبي سفيان، أخرجه عبدالرزاق (13550 و17087)، وأحمد (16859 و16869 و16926)، وأبو داود (4482)، والترمذي (1444)، وابن ماجه (2573)، وأبو يعلى (7363)، والطحاوي في "شرح المعاني" (3/59) وابن حبان (4446)، والطبراني في "الكبير" (19/334). والحاكم (4/372) من طرق عن عاصم بن بهدلة به.
قال الترمذي (4/48): ((سمعت محمدًا - أي البخاري - يقول: حديث أبي صالح عن معاوية، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحّ من حديث أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - )).
قلت: ولا يلزم من ذلك تضعيف حديث أبي هريرة كما فهم بعضهم فردَّ على البخاري قوله، فالحديث سمعه أبو صالح من أبي هريرة ومن معاوية، وأصحها فيما أرى - والله أعلم - رواية أبي صالح، عن أبي هريرة؛ لتتابع ابن جريج ومعمر بن راشد وسعيد الجمحي على روايته كذلك عن أبي صالح، وعاصم بن بهدلة لا يقارن بهم، والله أعلم.
وقد رواه ابن حبان في "صحيحه" (4445) عن أبي يعلى، ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري به، ثم ذكره من رواية عاصم، عن أبي صالح، عن معاوية كما تقدم، وقال: سمع هذا الخبر أبو صالح من معاية وأبي سعيد الخدري جميعًا.
قلت: أخطأ ابن حبان في روايته وإنما هو عندد شيخه أبي يعلى في "المسند" (7363) في مسند معاوية بنفس الإسناد الذي رواه ابن حبان، عن معاوية، فما أدري كيف وقع لابن حبان رحمه الله هذاالخطأ؟!
وحديث معاوية أخرجه أيضًا أحمد (16847 و16888)، والنسائي في "الكبرى" (5298 و5299)، والطحاوي في "شرح المعاني" (3/159)، والطبراني في "الكبير" (19/334)، والحازمي في "الاعتبار" (ص199) من طرق عن مغيرة بن مقسم الضَّبي، عن معبد القاص، عن عبدالرحمن بن عبد، عن معاوية به، وهذا إسناد صحيح.
وجاء الحديث أيضًا من رواية شرحبيل بن أوس: أخرجه ابن سعد (7/431)، وأحمد (18053)، وعبد بن حميد (408)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني"(2434)، وابن قانع في "معجمه" (1/331)، والطبراني في "الكبير" (620 و7212)، وفي "مسند الشاميين" (1082)، والحاكم (4/373) من طرق عن جرير بن عثمان، ثنا نمران بن مِخْمر، عنشرحبيل بن اوي به. وإسناده لا بأس به، رجاله ثقات، ونمران بن مخمر ذكره ابن حبان في "الثقات" (7/545)، وقال أبوداود: ((شيوخ جرير كلهم ثقات)).
وللحديث شواهد أخرى منها: حديث الشريد بن سويد: أخرجه الدارمي (2313)، والنسائي في "الكبرى" (5301)، والطبراني في "الكبير" (7244) من طرق عن محمد بن إسحاق، ثنا عبدالله بن أبي عاصم بن عروة، عن عمرو بن الشريد، عن أبيه، به.
وأخرجه أحمد (19460) عن يعقوب، عن أبيه، عنابن إسحاق به، وذكر فيه: ((ثم إذ شرب فاجلدوه: أربع مرات أو خمس، ثم إذ شرب فاقتلوه)).
ومن شواهد الحديث: حديث عبدالله بن عمرو: أخرجه أحمد (6553 و7003)، والطحاوي في "شرح المعاني" (3/159)، والحاكم في "المستدرك" (8119) جميعًا من طريق قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبدالله بن عمرو به مرفوعًا: ((الخمر إذا شربوها فاجلدوهم... ثلاثًا، ثم قال: ثم إذا شربوها فاقتلوهم عند الرابعة)).
وإسناده ضعيف من أجل شهر بن حوشب، لكن أخرجه أحمد (6791 و6974)، والطحاوي في "شرح المعاني" (3/159) من طريق الحسن البصري، عن عبدلله بن عمرو به نحوه، وفي آخره قال عبدالله بن عمرو: ائتوني برجل قد شرب الخمر في الرابعة فلكم علي أن أقتله.
والحسن البصري لم يسمع من عبدالله بن عمرز إذ قال في الرواية الثاني عند أحمد: والله لقد زعموا أن عبدالله بن عمرو شهد بها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ومن شواهده أيضًا: حديث عبدالله بن عمر: أخرجه أحمد (6197)، وأبو داود (4483)، والبيهقي (8/313) من طريق حماد بن سلمة، عن حميد بن يزيد بن الخطاب، عن نافع، عن ابن عمر به نحوه، وحميد بن يزيد مجهول. لكن جاء الحديث من طريق مغيرة بن مقسم الضبي، عن عبدالرحمن بن أبي نعيم، عن ابن عمر، ونفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - به :أ أخرجه النسائي في "المجتبى" (5661)، والحاكم في "المستدرك" (8114)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
ومن شواهده أيضًا حديث غضيف بن الحارث: أخرجه البزار (1563)، والطبراني في "الكبير" (18/264) من طريق إسماعيل بن عياش، عن سعيد بن سالم الكندي، عن معاوية بن عياض بن غطيف، عن أبيه، عن جده به.
وللحديث شواهد أخرى من حديث قبيصة بن ذؤيب عند أبي داود (4485)، ومن حديث جرير البجلي عند الحاكم (8113)، ومن حديث رجل من الصحابة عند أحمد (5/369)، ومن حديث أبي موسى الأشعري عند عبدالرزاق (13555 و107080)، وأحمد في "الأشربة" (84)، ومن حديث ديلم الحميري عند أحمد (18034)، وفي "الأشربة" (210) من حديث أم حبيبة عند أحمد (6/427)، وأبي يعلى (7147)، وفي إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف.
(6) قوله: ((شرب)) سقط من (ك).
(7) قوله: ((لا)) سقط من (ك).
(8) وإلى هذا ذهب أكثر العلماء، وهو المشهور من مذاهب الأئمة، حتى قال الشافعي في "الأم" (6/144): ((والقتل منسوخ بهذا الحديث وغيره، وهذا مما لا اختلاف فيه بين أحد من أهل العلم علمته)).
(9) في "ألكبرى" (5303) من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن المنكدر، عن جابر به. وكذلك أخرجه البزار (1562)، والطحاوي في "شرح المعاني" (2/161)، والحاكم في "المستدرك" (4/373)، والبيهق ي(8/314). وعلَّقه الترمذي في "السنن" (4/48). كلهم من طريق محمد بن إسحاق به. قال البزار: ((لا نعلم أحدًا حدذَث به إلا ابن إسحاق)).
(10) في (أ): ((وقع)).
(11) في (ح): ((في معرفة)).
(12) ممن حكى الإجماع الترمذي في "السنن"(4/49)، والقاضي عياض في"إكمال المعلم" (5/540)، والنووي في "شرح مسلم" (5/298)، وهو مذهب أكثر العلماء والأئمة. وردّ ابن حزم دعوى الإجماع في كتابه "الأحكام" (4/120)، وفي "المحلى" (11/369). وتوسط ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في ذلك فذهبا إلى أن القتل في الخامسة ليس حكمًا، وإنما هو تعزير ن فإن رأى الإمام ما يوجب القتل قتل، أو ترك، انظر "مجموع الفتاوى" (34/219)، و"تهذيب السنن" لابن القيم (6/238).
(13) في "صحيحه" (6780).(5/103)
وقوله: ((فجلده بجريدتين نحو أربعين))، وفي الرواية الأخرى: ((جلد في الخمر بالجريد والنعال أربعين)). هذه الروايات تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحد في الخمر حدًّا محدودًا، وإنما كان ذلك منه تعزيرًا وأدبًا، لكن انتهى في ذلك إلى به أربعين. ومما يدلّ على ذلك ما رواه أبو داود (1) عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتي برجل قد (2) شرب، فقال: ((اضربوه)). قال: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه. ثم قال لأصحابه: ((بكتوه))، فأقبلوا عليه يقولون (3) : أما اتقيت الله؟! أما استحييت من رسول الله؟! وهذا كله يدلّ: على أن ذلك كله أدب، وتعزيز. ولذلك قال علي (4) - رضي الله عنه -: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يَسُنَّه؛ أي: لم يحدَّ فيه حدًّا، ولذلك اجتهدت الصحابة فيه، فألحقوه بأخف الحدود، وهو حدُّ =(5/129)=@ القذف. هذا قولُ طائفةٍ من علماء أصحابنا (5) وغيرهم، وهو ظاهرٌ من الأحاديث التي ذكرناها. غير أنه يرد عليهم أن يقال: هذا معارضٌ بوجهين: %(2/473)%
أحدهما: أن عليّ بن أبي طالب قد قال: جلد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وأبو بكرٍ أربعين، وجلد علي بحضرة عثمان، والصحابة ( أربعين (6) ، ودوامهم على مراعاة هذا العدد يدل على أنَّه حدٌّ محدود، ولو كان تعزيراً لاختلف بحسب اجتهاد كلّ واحدٍ منهم.
وثانيهما: أن الأمَّة مُجمعون على أنَّ الحدَّ في الخمر أحد العددين؛ إمَّا أربعون، وإمَّا ثمانون. قال القاضي عياض (7) : أجمع المسلمون على وجوب الحدِّ في الخمر. وكيف تُجْمِعُ (8) الأمَّةُ على خلاف ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟!
فالجواب (9) عن الوجهين: أن الصحابة رضوان الله عليهم هم الذين نقلوا عن النبيٌ - صلى الله عليه وسلم - ما يدلُّ على التعزير، وهم الذين نقلوا ما يدل على التحديد. والذين قاسوا واجتهدوا هم الذين عدَّدوا وحدَّدُوا، ولم ينصَّ أحدٌ منهم على نفي &(5/104)&$
__________
(1) أخرجه أبو داود (4478) من طريق يحيى بن أيوب وحيوة بن شريح وعبدالله بن لهيعة، ثلاثتهم عن يزيد بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة به.
وأخرجه الشافعي في "مسنده" (1/285)، ومن طريقه البيهقي (17315) عن معمر، عن الزهري، عن عبدالرحمن بن أزهر قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - عام حنين، سأل عن رحل خالد بن الوليد، فجريت بين يديه أسأل عن رحل خالد بن الوليد، حتى أتاه جريجًا وأُتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بشارب فقال: ((اضربوه))، فضربوه بالأيدي، والنعال، وأطراف الثياب، وحثوا عليه من التراب، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((بكتوه))، فبكتوه، ثم أرسله... الحديث.
(2) قوله: ((قد)) سقط من (ح) و(ك).
(3) في (ح): ((يقولون له)).
(4) .....
(5) في (ح): ((علمائنا)).
(6) في (ح): ((وجلد علي أربعين بحضرة عثمان والصحابة)). وأخرجه مسلم (1707) في قصة الوليد بن عقبة.
(7) في "إكمال المعلم" (5/540)، وممن نقل الإجماع في ذلك ابن دقيق العيد، والنووي ومن تبعهما، وتعقب بأن الطبري وابن المنذر وغيرهما حكموا عن طائفة من أهل العلم: أنَّ الخمر لا حدَّ فيها، وإنما فيها التعزير."فتح الباري" (12/72).
(8) في (ك): ((يجمع)).
(9) في (ح): ((والجواب)).(5/104)
أحد الوجهين وثبوت الآخر، وإنما هو نقل أحوالٍ محتملة (1) ، فلا بدَّ من التلفيق بين أقوالهم؛ لاستحالة التناقض والكذب عليهم.
ووجهُ التلفيق: أن الصحابةَ ( فهمت عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّ جَلده كان تعزيرًا؛ لأنَّه قد اختلف حاله فيه (2) : فمرةً جلد فيه بالأيدي، والنِّعال، والثياب من غير عددٍ. ومرَّةً جلد فيه بالجريد والنعال أربعين. ومرَّةً جلد فيه بجريدتين نحو الأربعين، فهذه نحو الثمانين. فهذا تعزيز بلا شك، لكن لَمَّا كان أكثر جلده أربعين اختاره أبو بكر، وعمر في أول أمره، فلمَّا كثر إقدامُ الناس على شرب الخمر، تفاوضت الصحابة في ذلك ونظروا، فظهر لهم: أن ذلك القدر =(5/130)=@ لا يزجرهم، ولا يبالون به، فظهر لهم أن يلحقوه بأخف حدود الأحرار المذكورة في القرآن، فوجدوه %(2/474)% القذف، مع أنهم (3) قد ظهر لهم جامع بينهما، فقالوا (4) : إذا سَكِرَ هَذَى، وإذا هَذَى افترى. ومع ما تقدَّم لهم: من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قارب فيه الثمانين، فأثبتوها، ومنعوا من الزيادة عليها. ولما ظهر هذا المعنى لعليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال مصرِّحاً به: جلد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وأبو بكرٍ أربعين، وعمر ثمانين، وكل سُنَّة. ثمَّ إنَّه جلد هو أربعين، وأقرَّه على ذلك عثمان، ومَن حضر من الصحابة (. وظهر له: أن الاقتصار على أربعين أولى من الثمانين؛ مخافةَ أن يموتَ فتلزمه الدِّية، كما قد صرَّح به؛ حيث قال: ما كنت أقيمُ على أحدٍ حدًّا فيموت فيه، فأجد في نفسي، إلا صاحب الخمر، لأنه إنْ مات وَدَيْتُهُ. وهذا يدلُّ على أنَّه جلد فيه ثمانين في ولايته، وأنَّه لم يخالف عمر في الثمانين، وإيَّاها عَنَى بقوله: ((فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يَسُنَّه))، ولا يصحُّ أن يريدَ بذلك إلأربعين؛ لأنه هو الذي روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد فيه أربعين. ولو مات في الأربعين لم تجب له ديةٌ بوجهٍ. ولذلك قال الشافعيُّ: لو مات في الأربعين فالحقُّ قَتَلَهُ، كما تقدَّم. فتفهَّم هذا البحث، فإنَّه حسن.
وحاصله: أن الجلدَ على الخمر تعزيزٌ مُنِع من الزيادة على غايته. فرأت طائفه: أن غايته أربعون، فلا يُزاد عليه. وبه قال الشافعيُّ من الفقهاء، &(5/105)&$
__________
(1) في (ح): ((مختلفة)).
(2) قوله: ((فيه)) سقط من (ك).
(3) في (ح): ((أنه)).
(4) قوله: ((فقال)) سقط من (ح) و(ك)، وكتب فوقها في (ك) لوا إشارة إلى قالوا، وأمامها ((خ))، وكتب في الحاشية: ((وقائل هذا علي - رضي الله عنه -)).(5/105)
والإجماع: على أنَّه لا يزاد على الثمانين، فإن (1) قيل: كيف (2) يكون تعزيرًا وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ((لا يُخلَدُ أحدٌ فوق عشرة أسواطٍ إلا في حدٍّ من حدود الله (3) ؟ فمقتضى هذا: ألا يُزاد في التعزير على العشرة. وبه قال من يأتي ذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى (4) . فالجواب: أنَّه سيأتي الكلام على ذلك الحديث. =(5/131)=@ %(2/475)%
وقوله: فلمَّا كان عمر ودنا النَّاس من الرِّيف والقرى))؛ كان هنا تامَّهٌ. وفي الكلام حذفٌ؛ أي: لما وقع، ووجد زمن خلافة عمر. والرِّيف: أرض الزرع والخصب. والجمع: أرياف. يقال: أَرَافَتْ الأرض - رباعيًّا - أخصبت. ورافت الماشية: إذا رعت الريف. وأَرْيَفْنا: أي: صرنا إلى الريف. ((من الصحاح))؛ ويعني بذلك: أنَّه لما فتحت البلاد بالشَّام وغيرها، وكثرت الكروم ظهر في الناس شُرْبُ الخمر، فشاور عمرُ الصحابةَ - رضي الله عنه - في التشديد في العقوبة عليها، فتفاوضوا في ذلك، واتفقوا على إلحاقها بحدِّ القذف؛ لأنَّه أخف الحدود، كما قال عبد الرحمن (5) . وقد جاء في "الموطأ" (6) : أن عمر لَمَّا استشارهم في ذلك قال علي: نرى أن تجلده ثمانين، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سَكِرَ هَذَى، وإذا هَذَى افترى. فصرَّح بكيفية الإلحاق. وحاصلها راجعٌ: إلى أنه أقام السُّكر مقامَ القذف؛ لأنه لا يخلو عنه غالبًا، فأعطاه حكمه، فكان هذا الحديث من أوضح حجج القائلين بالقياس والاجتهاد؛ إذ هذه القضيةُ نصٌّ منهم على ذلك. وهم الملأ الكريم. وقد انتشرت القضيةُ في ذلك الزَّمان، وعمل عليها (7) في كل مكانٍ، ولم يتعرَّض بالإنكار (8) عليها إنسان، مع تكرار الأعصار، وتباعد الأقطار، فكان ذلك إجماعًا على صحة العمل بالقياس الذي لا ينكره إلا (9) الأغبياء من الناس. وقد أورد بعض من &(5/106)&$
__________
(1) في (ح): ((وإن)).
(2) في (ح): ((فكيف)).
(3) أخرجه مسلم (1708).
(4) من قوله: ((وبه قال....)) إلى هنا سقط من (أ).
(5) أي: عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه -، أخرجه مسلم (1706).
(6) أخرجه مالك (1533) عن ثور بن زيد الديلي، عن عمر بن الخطاب به. وعن مالك أخرجه الشافعي في "المسند" (1/286)، وعنه البيهقي في "المعرفة" (17423)، وثور لم يدرك عمر بن الخطاب، بينهما عكرمة وابن عباس كما سيأتي، فهو معضلٌ.
وأخرجه النسائي في "الكبرى" (5288 و5289)، والدارقطني في "السنن" (245)، والحاكم (8132)، والبيهقي (17321) من طريق يحيى بن فليح الخزاعي أبو المغيرة، ثنا ثور بن زيد الديلي، عن عكرمة، عن ابن عباس به نحوه.
وفي سنده يحيى بن فليح: قال ابن حزم بعد روايته في "الأحكام" (7/453): ((يحيى بن فليح بن سليمان مجهول البتة، والحجو لا تقوم بمجهول)).
وذكره الحافظ في "لسان الميزان" (7/342)، وذكر هذا الإسناد في حدِّ الخمر، ثم قال: ((قال ابن حزم: مجهول، وقال مرةً: ليس بالقوي)).اهـ.
وأخرجه عبدالرزاق (13542) عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة: أن عمر بن الخطاب شاور النَّاس فذكره، وليس فيه ذكر ابن عباس.
(7) في (ك): ((بها)).
(8) في (ح): ((للإنكار)).
(9) قوله: ((إلا)) سقط من (ك).(5/106)
يتعاطى العلم الجدلي على هذا النظر الشديد العَلَوِي أن قال: إن حكم للسُّكر بحكم القذف - لأنه مظنَّته - فليحكم له بحكم الزِّنى والقتل لأنه مظنتهما. وأيضاً: فلأنه يلزم عليه ألا يُحَدَّ على مجرد الشرب، بل على السُّكر %(2/476)% خاصةً، لأنَّه هو المظنَّة، لا الشُرب. =(5/132)=@ وقد حدُّوا على شرب الخمر وإن لم يسكر. فدلَّ على أن السُّكر ليس معتبرًا في الحدِّ، فلا يكون علَّة له، ولا مظنَّة.
والجواب عن الأول: منع كون السُّكر مظنة للزنى والقتل؛ لأنَّ المظنَّة اسم لما يظن فيها تحقق (1) المعنى المناسب غالبًا. ومن المعلوم: أن السُّكر لا يخلو عن الهذيان والقذف غالبًا في عموم الأوقات والأشخاص، وليس كذلك الزنى والقتل (2) ؛ فإن ذلك إن وقع فنادرٌ، وغير غالبٍ. والوجود يحققه.
والجواب عن الثاني: أن الحدّ على قليل الخمر لما هو من باب سدِّ الذرائع؛ لأنَّ القليل يدعو إلى الكثير، والكثير يُسكر، والسُّكر المظنَّة، كما قررته الصحابة (؛ فهم الأسوة، وفيهم القدوة (3) .
وقوله في "الأم" (4) : ((عبدالله الدَّاناج)) بالجيم. ويقال: الدَّاناء. بهمزة مكان الجيم. ويقال بهاء (5) . وهو بالفارسية: العالم. عن حُضَيْن (6) بالحاء المهملة، والضاد المعجمة: تصغير ((حُضن)) وهو ما دون الإبط إلى الكتف. وحضن الشيء: جانبه. ونواحي كل شيء: أحضانه (7) . و((الوليد)) هو ابن عقبة بن أبي مُعيط، ظهر عليه: أنَّه شرب الخمر، فَكُثِّرَ (8) على عثمان فيه، فلما شهد عنده بأنَّه شربها أقام عليه الحدّ كما ذكر.
وقوله: ((فشهد حمران: أنَّه شربها، وشهد آخر: أنَّه رآه يتقيَّأ)): فيه من =(5/133)=@ الفقه: تلفيق الشهادتين إذا أدَّتا (9) إلى معنى واحد، فإن أحدهما شهد %(2/477)% برؤية الشرب. والآخر بما يستلزم الشرب، ولذلك قال عثمان: أنَّه لم يتقيَّأ حتى شربها. غير أنَّه &(5/107)&$
__________
(1) في (أ): ((تحقيق)).
(2) في (ك): ((القذف)).
(3) في (ح) و(ك): ((فهم الأسوة، وبهم القدوة)).
(4) أي في الأصل "صحيح مسلم".
(5) في (ح) و(ك): ((مهما)).
(6) في (أ): ((مغبر)).
(7) انظر"لسان العرب" (13/122).
(8) في (أ): ((وكبر)).
(9) في (أ): ((أدت)).(5/107)
قد ذكر الْحُمَيْدِي (1) محمد بن نصبر في حديث عمر حين شهد عنده الجارود: بأن قدامة شرب الخمر ثمَّ دعا بأبي هريرة وقال: علام تشهد؟ قال (2) : لم أره حين شرب! وقد رأيته سكران يقيء. فقال عمر: لقد تنطَّعتَ يا أبا هريرة في الشهادة! فلمَّا استحضر قُدامة أنكر. فقال أبو هريرة: يا أمير المؤمنين! إن كنت تشك في شهادتي (3) فَسَلْ بنت الوليد امرأة ابن مظعون. فأرسل عمر إلى هند ينشدها بالله. فأقامت هند على زوجها الشهادة، فجلده. فظاهر هذا: أن عمر لم يسمع شهادة أبي هريرة لما قال له: أنَّه لم يره يشرب، وإنَّما رآه يتقيَّأ.
والجواب: أن عمر - رضي الله عنه - إنَّما توتف في شهادة أبي هريرة؛ لأنَّ أبا هريرة سلك في أداء الشهادة مسلك من يُخبر بتفصيل قرائن الأحوال التي أفادته العلم بالمشهود فيه، ومهما شرع الشاهد في تفصيل ذلك وحكايته لم يحصل لسامع الشهادة الجزم بصحتها؛ لأنَّ قرائن الأحوال لا تنضبط بالحكاية عنها، وإنما حق الشاهد أن يعرض عنها، ويُقْدِم على الأداء إقدام الجازم المخبر عن علم حاصل، فكان توقف عمر لذلك. ثمَّ إن أبا هريرة لما جزم في الشهادة سمعها عمر وحكم بها، لكنه استظهر بقول هند على عادته في الاستظهار في الشهادات والإخبار، ولا يظن به: أنه ردَّ شهادة أبي هريرة،وقبل شهادة امرأة في الحدود، إلا من هو عن المعارف مصدود.
وقول عثمان لعليّ: ((قم يا علي فاجلده))؛ دليل على أن الحدَّ إنَّما ينبغي أن يقيمه (4) بين أيدي الخلفاء والحكام فضلاء الناس، وخيارهم. وكذلك كانت الصحابة تفعل كلَّما وقع لهم (5) شيء من ذلك. وسبب ذلك: أنَّه قيامٌ بقاعدةٍ شرعية، وقُربة تعبديِّة تجب المحافظة على فعلها، وقدْرها، ومحلِّها، وحالها، بحيث لا يُتَعَدَّى =(5/134)=@ من شروطها، ولا أحكامها. %(2/478)% ولذلك يجب عند جميع العلماء أن يختار لها أهل الفضل، والعدل؛ إذا أمكن ذلك مخافة التعدِّي في الحدود. وقد وقع في زماننا من جلد في الخمر ثمانين، فتعدَّى عليه الضاربُ، فقتله بها، وحُرْمةُ دم المسلم عظيمة، فتجب مراعاتها بكل ممكن.
وقول(عليّ - رضي الله عنه -: ((قم يا حسن فاجلده))؛ دليل على أن من استنابه الإمام في أمر فله أن يستنيب من يتنزل منزلته في ذلك الأمر. &(5/108)&$
__________
(1) أخرجه عبدالرزاق (17076) عن معمر، عن الزهري، عن عبدالله بن عامر بن ربيعة، عن عمر بن الخطاب به. ومن طريق عبدالرزاق أخرجه البيهقي في "الكبرى" (17293).
وأخرجه أبو نعيم في "ألحلية" (9/15) من طريق عبدالرحمن بن مهدي، عن إسماعيل بن مسلم، عن أبي المتوكل الناجي... فذكره.
وأخرجه البيهقي (17294) من طريق مسلم الكجي، عن محمد بن عبدالله الأنصاري، عن ابن عون، عن ابن سيرين.
وأخرجه أبو علي بن السكن كما في "الإصابة" (5/425) من طريق علي بن عاصم، عن أبي إسحاق، عن علقمة الخصي قال: لما قدم الجارود على عمر، فذكره.
(2) في (ح) و(ك): ((فقال)).
(3) في (ح) و(ك): ((شهادتنا)).
(4) في (أ): ((يقيم)).
(5) في (ك): ((لها)).(5/108)
وقول حسن: ((ولِّ حارَّها من تولى قارَّها)). هذا مثل من أمثال العرب. قال الأصمعي: معناه: وَلِّ شدَّتها من تولى هنيئها. والقارُّ: البارد. ويعني الحسن بهذا: ولِّ شدة إقامة الحدّ من تولى إمرة المسلمين، وتناول (1) حلاوة ذلك.
وقوله: ((فكأنه وجد عليه))؛ أي: غضب عليه لأجل توقفه فيما أمره به، وتعريضه بالأمراء.
وقوله: ((فقال: يا عبد الله! قم (2) فاجلده))؛ يحتمل أن يكون الآمر لعبد الله عليًّا، فكأنه أعرض عن الحسن لَمَّا توقف. ويحتمل أن يكون الحسن استناب عبدالله فيما أمره به عليِّ طلبًا لرضا عليّ. والله تعالى أعلم.
وقوله: ((فجلده وعلي يعدُّ (3) حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك))؛ ظاهر هذا: أنَّه لم يزد على الأربعين. وفي البخاري (4) من حديث المسور بن مخرمة، وعبدالرحمن بن الأسود وذكر هذا (5) الحديث طويلاً، وقال في آخره: إن عليًّا جلد الوليد ثمانين. وهذا تعارض، غير أن حديث حضين أولى، لأنَّه %(2/479)% مفضل في مقصوده، =(5/135)=@ حسنٌ في مساقه، ساقه (6) روايه (7) مساق الْمُتثبِّت (8) . والأقرب أن بعض الرواة وَهِمَ في حديث المسور، فوضع ((ثمانين)) مكان ((أربعين)).
وقول علي: ((جلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين. وأبوبكر أربعين. وعمر ثمانين وكل سُنَّه))؛ دليل واضح على اعتقاد علي (9) - رضي الله عنه - صحة إمامة الخليفتين أبي بكر، وعمر، وأن حكمهما يقال عليه: سُنَّه؛ خلافًا للرافضة والشيعة، وهو أعظم حُجَّة عليهم؛ لأنَّه قول متبوعهم؛ الذى يتعصبون له، ويعتقدون فيه ما يتبرأ هو منه. وكيف لا تكون أقوال أبي بكر وعمر، وأفعالهما سنة وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ((اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)) (10) ؟!.
وقوله: ((وهذا أحبُّ إليّ))؛ ظاهره: أنَّه أشار إلى الأربعين التي أمر بالإمساك عليها. وقد روي: أن المعروف من مذهبه الثمانون. فيكون له في ذلك القولان، لكنه دام هو (11) على الثمانين لما كثر الإقدام على شرب الخمر. &(5/109)&$
__________
(1) في (أ): ((وناول)).
(2) في (أ): ((قم يا عبدالله)).
(3) في (ح): ((فجلده علي فعدَّ)).
(4) أخرجه البخاري (3639) عن أحمد بن شبيب بن سعيد، قال: حدثني أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عبيدالله بن عدي بن الخيار، عن المسور بن مخرمة به.
وأخرجه أيضًا (3872) عن عبدالله بن محمد الجعفي، ثنا هشام، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة به.وفيه: ((فجلد اربعين)) على الصواب.
والرواية الأولى وهم فيها أحد الرواة فقال :(( ثمانين))، والوهم فيها إما أن يكون أحمد بن شبيب، أو أباه شبيب، ورجحّ الحافظ أن الوهم فيها من شبيب، والله أعلم.
(5) قوله: ((هذا)) سقط من (ك).
(6) في (ح): ((وساقه)).
(7) في (ك): ((رواية)).
(8) في (أ): ((المثبت)).
(9) قوله: ((اعتقاد علي)) سقط من (ك).
(10) حديث صحيح أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (31942 و37049)، وأحمد في "المسند" (23333 و23467)، وفي "فضائل الصحابة" (478)، والترمذي (3799)،وابن ماجه (97)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (8/209)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/480)، وابن أبي عاصم في "الاسنة” (1148-1149) والبزار في "كشف الأستار" (2828 و2829)، والطبراني في "الأوسط" (5503)، والحاكم في "المستدرك"(4454)، والبيهقي في "الكبرى" (16367 و16368)، والخطيب في "التاريخ" (4/346). كلهم من طريق سفيان الثوري، عن عبدالملك بن عمير، عن مولى لربعي بن خراش، عن ربعي بن خراش، عن حذيفة به. وفي بعض الروايات تسميةُ مولى ربعي: هلالاً.
وأخرجه أحمد في "المسند" (23293)،والحميدي في "المسند" (449)، والبزار في "كشف الأستار" (2827) من طريق سفيان بن عيينة، عن زائدة بن قدامة، عن عبدالملك بن عمير، عن ربعي، عن حذيفة به.
ورواه سفيان بن عيينة، عن عبدالملك بن عمير، عن ربعي، عن حذيفة به. فأسقط زائدة بن قدامة كذا أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (2/334)، والترمذي في "العلل" (689)، وابن أبي حاتم في "العلل" (2648)، والبيهقي (9836).
قال الترمذي:(( كان سفيان بن عيينة يروي هذا ولا يذكر فيه: عن زائدة في كل وقت)).
وذكر ابن أبي حاتم عن أبيه: أن سفيان كان يحدث به أيام الموسم عن عبدالملك بن عمير، لم يذكر زائدة، ثم قال: لم آخذه من عبدالملك إنما حدثناه زائدة، عن عبدالملك.
وقال سفيان: إذا ذكرت لهمزائدة لم تسألوني عنه.اهـ.
وبذلك يتبين أن رواية الثوري أصح، حيث جوَّد إسناده، وأثبت فيه رجلاً وسماه هلالاً، ولذا قال أبو حاتم (2/381) لما سأله ابنه: أيها أصح؟ قال ما قال الثوري، زاد رجلاً وجوَّد الحديث.اهـ.
وللحديث طريق آخر عن حذيفة: فأخرجه ابن سعد في "الطبقات" (2/334)، وأحمد في "المسند" (23334)، وفي "فضائل الصحابة" (479)، والبخاري في "الكنى" (433)، والترمذي (3663)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (2/85)، وابن حبان في "صحيحه" (6902)، والخلال في "السنة" (335)، وأبو القاسم الأصبهاني في "دلائل النبوة" (1/130)، والخطيب في "التاريخ" (7/402)، و(14/366) من طريق سالم المرادي أبي العلاء، عن عمرو بن هرم، عن ربعي بن خراش، عن حذيفة به. وهذا الحديث إسناده لا بأس به، سالم المرادي وثقه ابن حبان والطحاوي والعجلي، وضعفه ابن معين ،وقال أبو حاتم: يكتب حديثه. قلت: واتهم بالتشيع، وهذا مما يدل على عدالته لروايته لهذا الحديث.
وللحديث شاهد من حديث ابن مسعود: أخرجه عبدالله بن أحمد في "فضائل الصحابة" (294)، والحاكم في "المستدرك" (4456)، والطبراني في "الكبير" (8426) من طريق يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن أبي الزعراء، عن ابن مسعود به.
ويحيى بن سلمة هذا متروك الحديث، ولكن أخرجه الطبراني في "الأوسط" (7177) من طريق ابن المبارك عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن أبي الزعراء، عن ابن مسعود به. وهذا إسناد جيد، سلمة بن كهيل ثقة، وأوب الزعراء عبدالله بن هانئ الكندي تابعي صدوق وثقه ابن سعد وابن حبان والعجلي. وله شاهد أيضًا من حديث أبي الدراء: أخرجه الطبراني في "مسند الشاميين" (913). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/53): ((وفيه من لم أعرفهم)).
وله شاهد آخر ضعيف: أخرجه العقيلي في "الضعفاء" (1649) في ترجمة محمد بن عبدالله بن عمر بن القاسم، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر به. قال العقيلي: ((حديث منكر، لا أصل له من حديث مالك، وهذا يروى عن حذيفة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد جيد ثابت)).اهـ. وهو كما قال رحمه الله.
(11) قوله: ((هو)) سقط من (أ).(5/109)
وحاصل هذا الاختلاف في الأحاديث، وبين الصحابة راجع إلى أنه لم يتقدَّر في الخمر حدٌّ محدود. وإنما كان الأدب والتعزير، لكن استقر الأمر: أن أقصى ما بلغ فيه إلى الثمانين، فلا يزاد عليها بوجه. وقد نصَّ على هذا المعنى السائب بن يزيد فيما خرَّجه البخاري (1) قال: كنَّا نُؤتى بالشارب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإِمرة أبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر، فنقوم إليه بأيدينا، ونعالنا، وأرديتنا حتى كان آخر إمرة عمر، فجلد (2) أربعين، حتى إذا عَتَوا وفَسَقُوا جلد ثمانين. وعلى هذا: =(5/136)=@ فلا ينبغي أن يعدل عن الثمانين؛ لأنَّه الذي استقرَّ عليه آخر أمر الصحابة أجمعين. %(2/480)%
وقول علي: ((ما كنت لأقيم على أحد حدًّا فيموت فأجد في نفسي إلا صاحب الخمر؛ لأنَّه إن مات وديته))؛ يدلُّ على أن ما كان فيه حدٌّ محدود فأقامه الإمام على وجهه، فمات المحدود بسببه؛ لم يلزم الإمام شيء، ولا عاقلته، ولا آل بيت المال. وهذا مجتمعٌ (3) عليه؛ لأنَّ الإمام قام بما وجب عليه، والميت قتيل الله. وأمَّا حدّ الخمر فقد ظهر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحدّ فيه حدًّا. فلما قصرته الصحابة ( على عدد محدود، وهو (4) الثمانون، وجد علي - رضي الله عنه - في نفسه من ذلك شيئًا، فصرَّح بالتزام (5) الدِّية إن وقع له موت المجلود (6) احتياطًا، وتوقيًّا، لكن ذلك (7) - والله أعلم - فيما زاد على الأربعين إلى الثمانين. وإمَّا الأربعون: فقد صرَّح (8) هو على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر جلداها (9) ، وسمى ذلك سنة. فكيف يخاف من ذلك؟
وهذا هو الذي فهمه الشافعي من فعل علي هذا، فقال: إن حدّ أربعين بالأيدي، والنعال، والثياب فمات؛ فالله قتله. وإن زِيدَ على الأربعين (10) بذاك (11) ، أو ضرب أربعين بسوط (12) فمات؛ فديته على عاقلة الإمام.
قلت: ويظهر لي من فعل (13) عمر - رضي الله عنه - خلافُ ذلك: إنه لما شُهِدَ على قُدامة بشُرب الخمر استشار (14) من حضره في جَلْدِه، فقال القوم: لا نرى أن تَجْلِدَه ما دام =(5/137)=@ وَجِعًا، &(5/110)&$
__________
(1) في "صحيحه" (6779).
(2) في (ح): ((فحد)).
(3) في (ح): ((مجمع)).
(4) في (ك): ((هو)).
(5) في (أ): ((بالزام)).
(6) في (ك): ((المحدود)).
(7) قوله: ((ذلك)) سقط من (أ).
(8) في (ح) و(ك): ((نص)).
(9) في (ك): ((جلدها)).
(10) في (ك): ((أربعين)).
(11) أي: أن زِيدَ على الأربعين باليدي والنعال والثياب.
(12) في (ك): ((سوط)).
(13) قوله: ((فعل)) سقط من (ح).
(14) في (ح): ((استشاره)).(5/110)
فسكت عمر عن جلده أيامًا، ثم أصبح يومًا قد عزم على جلده، فاستشارهم. فقالوا: لا نرى أن تجلده ما دام وَجِعًا. فقال عمر - رضي الله عنه -: والله لأن يلقى الله تحت السياط أحبُّ إليَّ من أن ألقى الله وهي في عنقي. والله لأجلدنَّه. فجلده بسوط بين سوطين. وهذا يدلُّ: على أنَّه لا يلزم في ذلك دية لا على العاقلة، ولا في بيت المال؛ لأنَّ عمر سلك في %(2/481)% حد الخمر مسلك الحدود المحدودة بالنصّ. وأمَّا جند عمر لقدامة على ما ذكروا له من وَجَعِه، فكأنه فهم أن وجعه لم يكن بحيث يبالى به، ولا يخاف منه. وكأنهم اعتذروا به ليتأخر ضربه شفقة عليه، وحُنُوًّا. وقد ظهر ذلك منهم لما أَتَوه بسوطٍ دقيق صغير. فقال لأسلم: أخذتك دقرارة أهلك (1) ؛ أي: حميتهم الحاملة على المخالفة.
واختلفوا فيمن مات من التعزير. فقال الشافعي: عَقْلُه على الإمام، وعليه الكفارة. وقيل: على بيت المال. وجمهور العلماء: على أنَّه لا شيء عليه.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((لا يجلد أحدٌ فوق عشرة أسواط إلا في حدٍّ من حدود الله))؛ أخذ بظاهر هذا الحديث أحمد بن حنبل، وأشهب من أصحاب مالك في بعض أقواله. وقال ابن أبي ذئب وابن أبي ليلى (2) : لا يضرب في الأدب أكثر من ثلاثة. وقال أشهب في مؤدِّب الصبيان. قال: وإن زاد اقتَّص منه. والجمهور: على أنَّه يُزاد في التعزير على العشرة. فمنهم من قصره على عدد بحيث لا يزاد عليه. فقال (3) =(5/138)=@ أبو حنيفة: أربعين. وقاله الشافعي، وقال أيضًا: عشرين. وروي عن مالك: خمسة وسبعين سوطًا. واليه مال أصبغ بن الفرج (4) ، وقاله ابن أبي ليلى، وأبو يوسف. وقال محمد بن مسلمة: لا أرى أن يبلغ به الحدّ. وقد (5) روي عن عمر: ما يبلغ به ثمانون (6) . وعن ابن أبي ليلى وابن شبرمة: لا يبلغ به مائة. ومنهم من رأى ذلك موكولاً إلى رأي الإمام بحسب ما يراه أردع، وأليق بالجاني، وإن زاد &(5/111)&$
__________
(1) قال ابن الأثير: الدِّقْرارةُ: واحدة الدَّقارِير، وهي: الأباطيل وعاداتُ السوء، أراد أنَّ عادة السّوء التي هي عادةُ قَوْمك، وهي العُدُول عن الحقِّ والعَملُ بالباطل، قد نَزَعَتْك وعَرَضَت لك فَعَملْت بها. اهـ. "النهاية" (2/126).
(2) قوله: ((وابن أبي ليلى)) سقط من (ح).
(3) في (أ): ((قال)).
(4) قوله: ((بن الفرج)) سقط من (أ).
(5) قوله: ((وقد)) سقط من (ح).
(6) في (ح): ((ثمانين)).
أخرجه ابن أبي شيبة (28870) عن سفيان بن عيينة، عن حميد الأعرج، عن يحيى بن عبد الله بن صيفي: أن عمر كتب إلى أبي موسى: ألا تبلغ في تعزير أكثر من ثلاثين. وسنده ضعيف، يحيى بن صيفي لم يدرك عمر - رضي الله عنه -.(5/111)
%(2/482)% على أقصى الحدود. وهو مشهور مذهب مالك، وأبي يوسف، وأبي ثور، والطحاوي، ومحمد بن الحسن. وقال: وان بلغ ألفًا. وقد روي عنه مثل قول أبي حنيفة. والصحيح عن عمر: أنَّه ضرب من نقش على خاتمه مائة (1) . وضرب صَبِيغًا (2) أكثر من الحدّ. وقد روي عن الشافعي: أنَّه يُضرب في الأدب أبدًا، وإن أتى على نفسه حتى يُقرَّ بالانابة. وقال الْمُزني من أصحاب الشافعي: تعزير كل ذنب مستنبط (3) من حدِّه لا يجاوز (4) .
قلت: والصحيح: القول (5) العمري، رالمذهب المالكي؛ لأنَّ المقصود بالتعزير الرَّدع، والزجر. ولا يحصل ذلك إلا باعنبار أحوال الجنايات والجناة. فأمَّا الحديث فخرج على أغلب ما يحتاج إليه في ذلك الزمان. والله تعالى أعلم.
ومن باب من أقيم عليه الحدَّ فهو كفارة له
قوله: ((أَخَذَ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أخذ على النساء))؛ يعني: أنَّه بايعهم على =(5/139)=@ التزام هذه الأمور المذكورة كما بايع النساء عليها. وإنَّما نبَّه بهذا على أن هذه (6) البيعة لما لم يكن فيها ذكر القتال استوى فيها الرِّجال والنساء؛ ولذلك كانت تسمى هذه البيعة ببيعة (7) النساء. وهذه البيعة كانت بالعقبة خارج مكة. وهي أول بيعة بايعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنقباء الأنصار، وذلك قبل الهجرة، وقبل فرض القتال. &(5/112)&$
__________
(1) لم أجده مسندًا، وإنما ذكره النووي في "شرح مسلم" (11/222)، وابن تيمية في "ألفتاوى" (28/345)، والزركشي في "شرح مختصر الخرقي" (6/408). وأشار إليها محقق الكتاب أنه لم يجد هذه القصة. وقد أشار إليها القاضي في كتاب "الروائتين" (2/346) فقال: إن معن بن زائدة زوّر على عمر كتابًا فجلده مائة.
(2) في (ك): ((ضُبيعًا)). وقصة صبيغ مع عمر تقدم تخريجها.
(3) في (ح): ((مستنبطًا)).
(4) في (ح): ((يجاوزه)).
(5) في (أ): ((قول)).
(6) قوله: ((هذه)) سقط من (ح) و(ك).
(7) في (ح) و(ك): ((بيعة)).(5/112)
وقوله: ((ولا يَعْضَهُ بعضنا بعضًا))؛ هكذا رواية الجماعة، وقيل فيه ثلاثة أقوال: %(2/483)%
أحدها: أنه السِّحر؛ أي: لا يسحر بعضنا بعضا. والعَضْهُ، والعَضِيهَة: السِّحر. والعاضِهُ: السَّاحر. والعاضِهَةُ: السَّاحرة.
والثاني: أنَّه النَّمِيمَة والكذب. والثالث: البُّهْتان.
قلت: وهذه الثلاثة متقاربة في المعنى؛ لأنَّ الكل كذبٌ وزور. ويقال لكلِّها عَضْهٌ، وعَضِيهةٌ. ويُصرف فعلها كما سبق. وقد روى العذري هذه اللفظة: ((ولا يَعْضِي بعضنا بعضًا))-بالياء مكان الهاء - على وزن: يقضي. ويكون من التعضية، وهي التفريق والتجزئة. ومنه قوله تعالى: {الذين جعلة القرآن عضين} (1) ، قال ابن عباس: فرَّقوه فآمنوا ببعضه، وكفروا ببعض. وعلى هذا: فيكون عضين: جمع عضه. يكون (2) منقوضًا؛ لأنَّ أصله: عِضَْوةٌ، فحذفوا الواو، ونقلوا حركتها إلى الساكن قبلها، كما فعلوه في عزة، فيكون معناه في الحديث: لا تكذب عليه فتبهته بأنواع من البهتان والكذب، فتفرقها (3) عليه في أوقات، وتنسبها إليه في حالات. ورواية الجماعة أوضح.
و((النُّقَباء)): جمع نقيب، كظريف، وظرفاء. وهو الذي ينقب عن أخبار أصحابه، وأحوالهم، فيرفعها للأمراء. وهم المسمُّون بالعرفاء أيضًا: جمع =(5/140)=@ عريف، لتعرُّفهم بالأحوال، وتعريفهم بها. وقد تقدم الكلام في (4) ((النهبة)).
وقوله: ((ولا نقتل (5) أولادنا))؛ يعني بهم: البنات اللواتي كانوا يدفنونهم أحياء. وهي الموءودة. وكانوا يفعلون ذلك للأنفة الجاهلية وخوف الفقر، %(2/484)% والإملاق. ولا يُعارض هذا قوله في الرواية الأخرى: ((ولا نقتل النَّفس التي حرَّم الله إلا بالحق))؛ لأنَّ هذه البيعة كانت فيها أمورٌ كثيرة منعهم منها، ونهاهم عنها؛ قد تقدم ذكر بعضها في كتاب الإمارة. وقد شمل ذلك كُلَّه بقوله: ((ولا نعصي))، وكذلك قال تعالى في حق النساء: {ولا يعصينك في معروف} (6) . &(5/113)&$
__________
(1) ؛ الآية: 91. سورة الحجر.
(2) في (ح): ((فيكون)).
(3) في (أ): ((فيفرقها)).
(4) في (ح): ((على)).
(5) في (ح): ((ولا تقتلوا)).
(6) ؛ الآية: 12. سورة الممتحنة.(5/113)
وقوله: ((فمَنْ وَفَى منكم))؛ بتخفيف الفاء. وقاله الأصيلي بتشديدها، ومعناهما واحد؛ أي: فعل ما أمر به، وانتهى عمَّا نُهِي عنه.
وقوله: ((فأجره على الله))؛ أي: إن الله تعالى ينجيه من عذابه وإهانته، ويوصله إلى جنته وكرامته.
وقوله: ((ومن أتى منكم حدًّا فأُقِيم عليه فهو كفارته))؛ هذا حجَّة واضحة لجمهور العلماء على أن الحدرد كفارات (1) . فمن قتل فاقتُصَّ منه لم يبق عليه طِلْبَةٌ في الآخرة؛ لأنَّ الكفارات (2) ماحيةٌ للذنوب (3) ، ومصَيِّرةٌ (4) لصاحبها كأن ذنبه لم يكن (5) . وقد ظهر ذلك في كفارة اليمين والظِّهار وغير ذلك. فإن بقي مع الكفارة شيء من آثار الذنب لم يصدق عليها ذلك الاسم. وقد سمعنا من بعض علماء مشايخنا: أن الكفارة إنَّما (6) تكفر حق الله تعالى، ويبقى على القاتل حق المقتول يطلبه به يوم القيامة. وتَطَّرِدُ هذه الطريقة في سائر حقوق الآدميين. =(5/141)=@ %(2/485)%
قلت: وهذا ليس بصحيح؛ لأنَّه تخصيص لعمرم ذلك الحديث بغير دليل، وما ذكره من اختلاف الحقوق صحيحٌ، غير أنَّه لما أباح الله دم القاتل بسبب جريمته، وقتل، فقد فعل به مثل ما فعل من إيلام نفسه واستباحة دمه، فلم يبق عليه شيء. وهذا معنى القصاص.
وقوله: ((ومن ستر الله عليه، فأمره إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له))؛ يعني: إذا مات عليه (7) ولم يَتُب منه. فأمَّا لو تاب منه لكان كمن لم يُذنب؛ بنصوص القرآن والسُّنه كما قد (8) تقدم. وهذا تصريحٌ بأن ارتكاب الكبائر ليس بكفر؛ لأنَّ الكفر لا يغفر لمن مات عليه بالنصّ والإجماع. وهي (9) حجَّة لأهل السُّنة على الْمُكَفِّرة بالذنوب، وهم الخوارج، أهل (10) البدعة.
وقوله (11) : ((فإن غَشينا شيئًا من ذلك كان تضاء ذلك إلى الله تعالى))؛ أي: إن ارتكبنا شيئًا من ذلك، وفعلناه (12) ؛ كان حكمه لله (13) ؛ أي: إن شاء عذب، وإن شاء عفا. كما فسَّره في الرواية الثانية. =(5/142)=@ &(5/114)&$
__________
(1) في (ح): ((كفارة)).
(2) في (ح) و(ك): ((الكفارة)).
(3) في (ح) و(ك): ((للذنب)).
(4) في (ح): ((ومغيرة)).
(5) في (أ): ((يقع)).
(6) قوله: ((إنما)) سقط من (أ).
(7) قوله: ((عليه)) سقط من (ك).
(8) قوله: ((قد)) سقط من (ح) و(ك).
(9) في (ح) و(ك): ((وهو)).
(10) في (ح): ((وأهل)).
(11) في (ك): ((قوله)).
(12) في (ك): ((فعلنا)).
(13) في (ح): ((إلى الله)).(5/114)
%(2/486)%
ومن باب الْجُبَار الذي (1) لا دية فيه
قوله: ((العجماه جرحها جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس))؛ هكذا جاء (2) هذا الحديث بمجموع هذه الأمور. فظاهره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكرها في وقت واحد متصلة مجموعة، ويكون (3) فيه حجَّة لمالك على أبي حنيفة: في أن الركاز ليس هو المعدن؛ إذ قد عدل عن لفظ المعدن إلى اسم آخر في مساقط واحد، وذكره (4) بعده. فلو كان الركاز هو المعدن لقال: والمعدن جُبار وفيه الخمس. وكان يكون أيسر، وأفصح، وأبعد عن الإشكال، بل لو ذكر لفظ المعدن نفسه بدل الرِّكاز فقال: وفي المعدن الخمس، لكان مستقبحًا عند الفصحاء، فإنَّه وضع الظاهر موضع المضمر من غير فائدة، ولا تفخيم، بل مع مايجرُّه من اللَّبس. وهذا النوع من الكلام ركيك، ويُجَلُّ كلام الشارع أن يحمل عليه. ويحتمل =(5/143)=@ أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر هذه الأمور في أوقات مختلفة، فجمعها الرَّاوي، %(2/487)% وساقها سياقة واحدة، وحينئذ لا يكون فيه حجَّة على ما ذكرناه، لكن الظاهر الأول، والله تعالى أعلم.
و((الْجُبار)): الذي لا قود فيه، ولا دية، ولا شيء. وهو بضم الجيم، على &(5/115)&$
__________
(1) قوله: ((الذي)) سقط من (ك).
(2) قوله: ((هكذا جاء)) سقط من (ح).
(3) في (ح) و(ك): ((فيكون)).
(4) في (ح): ((وذكر)).(5/115)
وزن: غُرَاب. و((العجماء))- ممدودة، مهموزة (1) -: اسم جنس لجميع البهائم، سُمِّيث بذلك لأنَّها لا تنطق. فظاهر قوله: ((العَجْمَاء جرحها جُبار))؛ أن ما انفردت البهيمة بإتلافه لم يكن فيه شيء، وهذا (2) مُجمعٌ عليه. فلو كانت (3) معها قائد، أو سائق، أو راكب فحملها أحدهم على شيء فأتلفته لزمه حكم الْمُتْلَف. فإن كانت جناية مضمونة بالقصاص، وكان الحمل عمدًا؛ كان فيه القصاص. ولا يختلف فيه؛ لأنَّ الدَّابة كالآلة. وإن كان عن غير قصد كانت فيه (4) الدية على العاقلة. وفي الأموال الغرامة في مال الحامل (5) قصدًا كان أو غير قصد. وهذا كلُّه لا يختلف فيه إن شاء المه تعالى.
واختلفوا فيما أصابته برجلها أو ذنبها. فلم يُضمِّن مالك، والليث، والأوزاعي صاحبها، وضَمَّنه الشافعي، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة. واختلفوا في الضَّارِيَة (6) . فجمهورهم: على أنَّها كغيرها. ومالك وبعض أصحابه يُضَمِّنُونَه.
واختلفوا فيما رعت المواشي. فضَمَّن مالك ربَّها ما أفسدته ليلاً دون ما أفسدته نهارًا. وبه قال الشافعي، والجمهور. ومعتمد التفرقة: أن على أرباب الحوائط والمراعي حفظها نهارًا؛ إذ غالب المواشي أنَّها تسرح فيه، ولا تنضبط، وعلى أرباب المواشي حفظها بالليل، فكان رعي النهار تمكين من أرباب الزروع للماشية من الرَّعي، ورَعْي الليل تسليط من أرباب المواشي على الرَّعي (7) . وقال أبو حنيفة: =(5/144)=@ لا ضمان فيما رعته المواشي ليلاً ولا نهارًا تمسُّكًا منه بالحديث. وهذا إنما يليق بأهل الظاهر لا بأبي حنيفة. وقال الليث، وسحنون: يضمن ما رعت نهارًا. %(2/488)%
وقوله: ((والبئر جُبار))؛ يعني: إذا حفرها الإنسان في ملكه على الوجه الجائز. فلو حفرها في ملك غيره بغير إذنه، أو في طريق فهلك(فيها شيء؛ ضمنه عند مالك، والشافعي. فإن هلك فيها إنسان كانت ديته على الجاني. وكذلك لو حفرها لسارق فهلك فيها. وقال الليث: لا دية فيه (8) ولا ضمان. وكذلك الحكم في المعدن. فلو انهار المعدن على العملة؛ فإن كان ربُّ المعدن قد غرَّهم؛ كانت دياتهم على عاقلته، وإن لم يَفُرَّهُم فهلكوا فيه؛ لم يلزمه شيء، ولا عاقلته.
والركاز عند مالك هو: مايوجد من دفين الجاهلية. فخمسه لبيت مال المسلمين، وأربعة أخماسه لواجده. وهل هذا حُكم كل ركاز. أو يختلف ذلك بحسب نوعه وأرضه؛ فيه خلاف بين أصحابنا وغيرهم. وكله مذكور في كتبهم. &(5/116)&$
__________
(1) قوله: ((ممدود مهموز)) جاء في (أ) بعد قوله: ((لجميع البهائم)).
(2) في (ح): ((هذا)).
(3) في (ح): ((فإن كانت))، وفي (ك): ((فإن كان)).
(4) في (أ): ((فيها)).
(5) في (ح) و(ك): ((الجاني)).
(6) في (أ): ((العارية)). وفي (ك): ((الضاربة)).
(7) في (أ): ((رعي)).
(8) في (ح): ((فيها)).(5/116)
وقوله في حديث أنس: ((أن رجلاً كان (1) يُتهم بأمِّ ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ))؛ هذه مارية (2) أمّ إبراهيم، ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يزورها رجل قبطي، فتكلم المنافقون في ذلك، وشنَّعوا (3) ، فأظهر الله براءتها بما ظهر من حال الرَّجل، وهذا نحو (4) مِمَّا جرى لعائشة رضي الله عنها حتَّى برَّأها (5) الله تعالى، وأظهر من حال المرمي أنَّه حصور. كل ذلك مبالغةٌ في صيانة حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإظهار تكذيب (6) من تَفَوَّهَ بشيء من ذلك.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لعلي: ((اذهب فاضرب عنقه))؛ في هذا اللفظ إشكال، وهو: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كيف يأمر بضرب عنق هذا الرجل ولم يكن هناك موجبٌ للقتل، وقد ظهر ذلك حين انكشف حال الرَّجل؟ ويزول هذا الإشكال (7) : بأن هذا الحديث رواه =(5/145)=@ أبو بكر البزار (8) ، بمساق أكمل من هذا، وأوضح فقال فيه: عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: كثر على مارية في قبطي ابن عم لها كان يزورها، ويختلف إليها، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((خذ هذا السيف فانطلق، فإن وجدته عندها فاقتله))؛ قال: %(2/489)% قلت: يا رسول الله! أكون(في أمرك كالسِّكة المحماة، لا يثنيني شيء، حتى أمضي لما أمرتني، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؛ فقال: ((بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب))، وذكر الحديث (9) بنحو (10) ما تقدم. فهذا يدلّ على أن أمره بقتله إنَّما كان بشرط أن يجده عندها على حالة تقتضي قتله. ولما فَهِمَ عنه (11) علي - رضي الله عنه - ذلك سأله، فبيَّن له بيانًا شافيًا، فزال ذلك الإشكال، والحمد لله ذي الجلال. ويحتمل أن يقال: إن ذلك خرج من النبي - صلى الله عليه وسلم - مخرج التغليظ والمبالغة في الزجر على موجب الغيرة الْجِبِلِّيَّة. والأول أليق وأسلم. والله بحقائق الأمور أعلم.
وفيه من الفقه: إعمال النظر، والاجتهاد، وترك الجمود على الظواهر، وأنَّه يجوز الاطلاع على العورة عند الضرررة، كتحمُّل شهادة الزنى، كما صار إليه مالك. =(5/146)=@ &(5/117)&$
__________
(1) قوله: ((كان)) سقط من (ح).
(2) قوله: ((مارية)) سقط من (ح).
(3) في (أ) و(ح): ((شعنوا)).
(4) قوله: ((نحو)) سقط من (أ).
(5) في (ك): ((فبرأها)).
(6) في (ك): ((كذب)).
(7) قوله: ((الإشكال)) سقط من (ح).
(8) "كشف الستار" (634)، وسيأتي.
(9) رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (1/177) عن عبيد، ورواه البزار في "البحر الزخار" (2/237)،وأبو نعيم في "الحلية" (7/93)، والضياء في "المختارة" (2/353) من طريق أبي كريب، كلاهما - عبيد، وأبو كريب -، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن إبراهيم بن محمد بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده علي بن أبي طالب...، فذكره. وهذا إسناد حسن، وقد صرَّح ابن إسحاق بالتحديث في رواية البخاري ،وإبراهيم بن محمد بن علي بن أبي طالب وثقه العجلي (1/204 رقم34)، وذكره ابن حبان في الثقات (6/4)، وقال في التقريب: ((صدوق)).
وللحديث إسناد آخر تختلف فيه على سفيان الثوري. رواه البخاري في "التاريخ" (1/177) عن أبي نعيم، عن يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن يحيى، عن محمد بن عمر بن علي، عن علي بن أبي طالب مختصرًا.
ووراه أحمد (1/83 رقم628)، ومن طريقه الضياء في "المختارة" (2/356 رقم739) من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان، عن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب به مختصرًا. ورواه أبو نعيم في "الحلية" (7/92) من طريق عصام بن يزيد، عن سفيان، عن محمد بن عمر بن علي، عمن حدثه، عن علي به.
(10) في (أ): ((نحو)).
(11) قوله: ((عنه)) سقط من (ك).(5/117)
كتاب الأقضية
1 - ومن باب اليمين على المدَّعَى عليه (1)
قوله - صلى الله عليه وسلم - : «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُم، وَلَكنَّ (2) اليَمِينَ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ»، هذا الحديثُ رواه مسلمٌ والبخاريُّ مرفوعًا من حديث ابن جُرَيْج، عن ابن أبي مُلَيْكة، عن ابن عباس، قال: الأصيلي: لا يصحُّ رفعه، وإنَّما هو من (3) قولِ ابنِ عبَّاس، كذلك رواه أيوبُ ونافعٌ الجُمْحِيُّ عن ابن أبي مليكة. %(2/490)%
قال الشيخ: إذا صحَّ رفعه بشهادةِ الإمامَيْن، فلا يضرُّهُ مَنْ وَقَفه، ولا يكونُ ذلك =(5/147)=@ تعارُضًا، ولا اضطرابًا؛ فإنَّ الرَّاوي قد يَعْرِضُ له ما (4) يوجبُ السكوتَ عن الرَّفْع مِنْ نسيانٍ (5) ، أو اكتفاءٍ بعلمِ السَّامع، أو غيرِ (6) ذلك، والرَّافعُ عَدْلٌ، ثَبْتٌ، ولم يكذِّبه الآخِرُ؛ فلا يُلتَفَتُ إلى الوَقْفِ، إلا في الترجيحِ عند التعارُضِ، كما بَيَّنَّاهُ في الأصولِ.
وهذا الحديثُ أصلٌ من أصولِ الأحكامْ، وأعظمُ مَرْجِعٍ عند التنازعِ والخصامْ، يقتضى ألَّا يُحْكَمَ لأحدٍ بدعواه - وإنْ كان فاضلاً شريفًا - في حَقٍّ من الحقوق - وإنْ كان محتقَرًا يسيرًا - حَتَّى يستندَ المدَّعِيَ إلى ما يقوِّي دعواه، وإلا &(5/118)&$
__________
(1) قوله: «اليمين على المدَّعى عليه» سقط من النسخ.يراجع و(أ) و(ك) و(ف) و(ح) و(ق) و(ن).
(2) في (ف): «لكن» بلا واو.
(3) قوله: «من» سقط من (ق) و(ن).
(4) في (ح): «بما».
(5) في (ن): «أسباب».
(6) في (ف): «وغير» بالواو.(5/118)
فالدَّعاوَى متكافئةٌ، والأصلُ: براءةُ الذممِ (1) من الحقوقِ؛ فلا بُدَّ مما يَدُلُّ على تعلُّقِ الحقِّ بالذِّمَّة، وتترجَّحُ (2) به الدعوَى.
وقوله: «لَادَّعَى نَاسٌ (3) دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ»؛ استدلَّ به بعضُ الناسِ على إبطالِ قولِ مالكٍ في التَّدْمِيَةِ (4) .
ووجهُ استدلالِهِ: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قد سوَّى بين الدماءِ والأموالِ في أنَّ المُدَّعِيَ لا يُسْمَعُ قوله فيهما (5) ، فإذا لم يُسْمَعْ (6) قولُ المُدَّعِي في مرضه: «لي عندَ فُلَانٍ دينارٌ أو (7) دِرْهَمٌ؛ كان أحرَى وأولى ألا (8) يُسْمَعَ قولُهُ: «دَمِّي عند فلانٍ»؛ لحرمةِ الدماءِ.
ولا حجَّةَ لهم فيه؛ لأنَّ مالكًا رحمه الله لم يُسْنِدِ القصاصَ (9) أو (10) الدِّيَةَ في التَّدْمِية لقولِ (11) المدَّعِي: «دمِّي عند فلانٍ»؛ بل للقسامةِ على القَتْلِ، والتَّدْمِيةُ لَوْثٌ يقوِّي جَنَبَةَ (12) المُدَّعِينَ حتى يبدؤوا (13) بالأيمانِ كسائرِ أنواعِ اللَّوْثِ التي تقدَّم ذكرها في كتابِ القَسَامة، وقد بيَّنَّا ذلك فيه (أ)؛ وعلى هذا: فنقولُ بموجَبِ الحديث؛ فتأمَّلْهُ. %(2/491)%
وقوله: «وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى المُدَّعَى عليه»؛ المدَّعَى عليه: هو المطلوبُ منه، والمُدَّعِي: هو الطالبُ، وإنَّما كانتِ اليمينُ على المدَّعَى عليه (14) ؛ لأنَّ الأصلَ براءةُ ذمَّته (15) عمَّا طُلِبَ منه (16) ، وهو متمسِّكٌ به، لكنْ يمكنُ أن يقال: قد شَغَلَهَا بما طُلِبَ منه، فَيَدْفَعُ (17) ذلك الاحتمالَ عن نفسه باليمينِ إنْ شاء. وظاهرُ عمومِ هذا اللفظِ =(5/148)=@ يقتضي: أنَّ اليمينَ تتوجَّه على كل من ادُّعِيَ عليه؛ كانت هنالك (18) مخالَطَةٌ (19) أو لم تكنْ؛ وهو قولُ أكثر الفقهاء، وابن نافع، وابن لُبَابَةَ من أصحابنا.
وذهب مالكٌ وجُلُّ أصحابه: إلى أنَّ اليمينَ لا (20) تتوجَّهُ على المُدَّعَى عليه حتى تَثْبُتَ (21) بينهما خُلْطَةٌ. وهو مذهبُ الفقهاءِ السَّبْعة؛ وبه قضَى عليٌّ (22) - رضي الله عنه -؛ وإنما صار (23) هؤلاءِ إلى هذا؛ مراعاةً للمصلحة، ودفعًا للمفسدةِ الناشئةِ من ذلك؛ وذلك: أنَّ السُّفَهَاءَ يتبذَّلون الأفاضلَ والعلماءَ بتكثيرِ الأيمانِ عليهم مهما شاؤوا، حتى يَحْلِفَ الرَّجُلُ الجليلُ القَدْرِ في العلمِ والدِّينِ في اليومِ الواحدِ مرارًا، ويكونُ (24) ذلك الوضيعُ يَقْصِدُ ذلك (25) به؛ ليتخلَّصَ (26) منه بما (27) يَبْذُله له (28) . وَيَهُونُ على أهلِ الدِّينِ والفضلِ بَذْلِ الجزيلِ من المالِْ، في مقابلةِ دَفْعِ هذا الامتهانِ والابتذالْ.
ثم اختلَفَ مشايخنا في معنى الخُلْطة:
فقيل: معرفةُ المعاملةِ والمداينةِ معه بشاهدٍ أو شاهدين.
وقيل: أن يكونَ المُدَّعىَ عليه يشبهُ أن يعامِلَ المدَّعِيَ.
وقيل: يجزئُ من (29) ذلك الشُّبْهةُ. &(5/119)&$
__________
(1) في (ق) و(ن): «الذمة».
(2) في (ن): «أسباب».
(3) في (أ): «الناس».
(4) في (ق): «الندمة».
(5) في (أ) و(ح) و(ف) و(ق) و(ن): «فيها».
(6) في (أ) و(ف): «ينفع».
(7) في (ن): «و» بدل «أو».
(8) في (ق): «لا» بدل «ألا».
(9) في (ح): «بالقصاص».
(10) في (ق): «و» بدل «أو».
(11) في (ن): «بقول».
(12) في (ق): «الدمية» كذا رسمت.
(13) في (ق): «جنية».
(14) في (ن): «تبدوا».
(15) في (ق): «الذمته».
(16) في (ن): «بقول».
(17) في (ح): «فدفع».
(18) في (ح) و(ن) و(ق): «هناك».
(19) في (ن): «مخاطة».
(20) في (ف): «على» بدل «لا».
(21) في (ك): «تثبت»، والتاء الأولى مهملة في (ح) .
(22) ....
(23) في (ح): «صال» وفي (ك): «ال» وألحق بالهامش «صار» ووضع فوقها «خ»..
(24) في (أ): «ويكون» و(ك) و(ف).
(25) في (ح): «بذلك».
(26) في (أ): «ليتلخص».
(27) في (أ): «ما».
(28) قوله: «له» سقط من (ح) و(ق).
(29) في (ف): «في» بدل «من».(5/119)