وقولها: «فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي»، تعني (1) : عَضَّنِي بيده؛ وذلك لعدمِ المصابيح، كما قالتْ، ولو كان هناك (2) مِصْباحٌ، لَرَأَتْ سجودَهُ وقيامه، ولَمَا كان يحتاج إلى غمزها (3) .
*************
( 37 ) بَابُ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، و عَلَى الْحَصِيِر
115- عن أَبِي هُرَيْرَةَ (4) ؛ أَنَّ سَائِلاً سَأَلَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ؟ فَقَالَ: «أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ؟!».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الصلاة في الثوب الواحد
قوله: «أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ؟!» لفظُ الاستفهام، ومعناه: التقريرُ والإخبارُ عن معهودِ حالهم، ويتضمَّنُ جوازَ الصلاةِ في الثوبِ الواحد، ولا خلافَ فيه، إلا =(2/111)=@ شيءٌ روي عن ابن مسعود (5) ، كما أنه لا خلافَ أنَّ الصلاةَ في الثوبَيْنِ أو الثيابِ أفضلُ.
116- وَعَنْهُ (6) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ على عَاتِقَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ».
117- وَعَنْ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَة (7) ، قال:رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، مُشْتَمِلاً بِهِ، فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَاضِعًا طَرَفَيْهِ على عَاتِقَيْهِ. وفى روايه: مُلْتَحِفًا، مُخَالِفًا بَيْنَ طَرَفَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله (8) : «لَا يُصَلِّي (9) أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ على عَاتِقَيْهِ (10) مِنْهُ شَيْءٌ»، هذا لئلا يسقط فتنكشفَ عورته، إذا لم يتوشَّحْ به؛ فيضعُ طرفَيْهِ على عاتقيه (11) ، كما &(2/87)&$
__________
(1) في (غ): «يعني».
(2) في (غ): «هنالك».
(3) في هامش (ب): «بلغ مقابلة».
(4) أخرجه البخاري (1/470، 475 رقم358، 365) في الصلاة، باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفًا به، وباب الصلاة في القميص والسراويل والتُّبَّان والقَبَاء، ومسلم (1/367 رقم515) في الصلاة، باب الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه .
(5) لعله يشير إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (1/279 رقم3205) في الصلاة، باب من كره أن يصلِّي في الثوب الواحد، من طريق أبي زيد، عن ابن مسعو، قال: «لا يصلِّيَّن في ثوبٍ واحد، وإن كان أوسَعَ مما بين السماءِ والأرض؛ يصلِّي وهو مضطبع .
وسنده ضعيف ؛ لجهالة أبي زيد القرشي المخزومي .
لكن أخرج البيهقي في "السنن" (2/238) بسند صحيح من طريق داود بن أبي هند، عن أبي نَضْرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: اختلَفَ أبي بن كعب وابن مسعود في الصلاة في ثوب واحد، فقال أُبَيّ: ثوب، وقال ابن مسعود: ثوبَيْن، فجاز عليهم عمر، فلامهما، وقال: إنه ليسوؤني أن يختلف اثنان مِنْ أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - في شيء واحد، فعن أيِّ فُتْيَاكُما يصدر ؟ أما ابن مسعود فلم يَأْلُ، والقولُ ما قال أُبَيٌّ .
قال البيهقي: «ورواه أبو مسعود الْجُرَيري، عن أبي نضرة، دون ذكر عمر، وقال: فقال ابن مسعود: إنما كان ذلك إذا كان في الثياب قِلَّة، فأمَّا إذا وسَّع الله، فالصلاةُ في ثوبَيْن أزكى»، ثم قال البيهقي: «وهذا والذي قبله يدلاّن على أن الذي أمر به عمر وابن مسعود ؛ في الصلاة في ثوبَيْنِ استحبابٌ، لا إيجاب».اهـ.
وأخرجه ابن المنذر في "الأوسط" (5/52 رقم2365) بسند حسن من طريق زِرِّ بن حُبيَشْ، عن ابن مسعود وأُبَيٍّ، ليس فيه ذكر لعمر، ثم ذكر (ص 54) أثرًا في ذلك عن ابن عمر، ثم قال ابن المنذر: «وهذا مِنْ قول ابن عمر يدلُّ على أنه استحَبَّ الصلاةَ في ثوبَيْن، لا أنه رأى ذلك واجبًا لا يجزئُ عنه، ويشبه أن يكونَ مرادُ ابن مسعود هذا المعنى ؛ استحبابًا لأن يصلِّي في ثوبين، ولو أوجَبَ ابنُ مسعود الصلاةَ في ثوبَيْن، لكانتِ السنةُ مستغنًى بها، والله أعلم». اهـ. وانظر "فتح الباري" (1/457).
(6) أخرجه البخاري (1/471 رقم359) في الصلاة، باب إذا صلَّى في الثوب الواحد، فليجعل على عاتقه، ومسلم (1/368 رقم516) في الصلاة، الباب السابق .
(7) أخرجه البخاري (1/468-469 رقم354-356) في الصلاة، باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفًا به، ومسلم (1/368 رقم517/278 ، 280) في الصلاة، باب الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه .
(8) في (ح): «قوله».
(9) في (أ) و(ب) و(غ): «لا يصلِّ» مجزومًا، والمثبت من (ح) ونسخ"صحيح مسلم»،ونقل ابن حجر في "فتح الباري"(1/471) عن ابن الأثير قوله «كذا هو في الصحيحين بإثبات الياء».
(10) في جميع النسخ «عاتقه " بالإفراد، والمثبت من "صحيح مسلم»، وانظر "فتح الباري" (1/471).
(11) في (غ): «عاتقه».(2/87)
كان يفعلُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (1) ، وإن تكلَّف ضَبَطَهُ بيدَيْهِ شغلهما (2) بذلك، واشتغل (3) به عن صلاته.
وأيضًا: فإذا لم يجعلْ على عاتقَيْهِ شيئًا من الثوب، بَقِيَ بعضُ جسده عَرِيًّا، وذلك يباعدُ الزِّينَةَ المأمورَ بها في الصلاة. وكذلك: كُرِهَتِ الصلاةُ في السراويلِ (4) وحدها (5) ، أو في (6) الْمِئْزَرِ (7) (8) مع وجودِ غيرهما، وقد رُوِيَ عن بعضِ السلف أنه قال: لا تُجْزِي صلاةُ من صلَّى في ثوبٍ واحدٍ مُتَّزِرًا به، ليس على عاتقِهِ منه شيءٌ؛ أخذًا بظاهرِ هذا الحديث.
وكذلك: اختلَفُوا في السَّدْلِ في الصلاةِ، وهو إرسالُ (9) ثوبِهِ عليه من كتفيه (10) =(2/112)=@ إذا كان عليه مِئْزر، ولم يكن عليه قميص، وانكشف بطنه. فأجازه عبدالله بن الحسن (11) ، ومالك وأصحابه، وكرهه النخعي وآخرون، إلا أن يكون عليه قميصٌ يستُرُ جسده، وقد نحا إلى هذا أبو الفَرَجِ من أصحابنا، فقال: إنَّ سَتْرَ جميعِ الجسدِ في الصلاة لازمٌ.
وكذلك اختُلِفَ في صلاة الرجلِ محلولَ الأَزْرَارِ (12) وليس عليه إِزارٌ:
فمنعه: أحمد والشافعي؛ لعلَّة النظرِ لعورتهِ.
وأجاز ذلك: مالكٌ وأبو حنيفة والثوري، وكافَّة أصحاب الرأي، ولو تكلّف ذلك ورؤيتَهُ لعورته من أسفل الإزار (13) .
118- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (14) ؛ أَنَّهُ دَخَلَ على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: فَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي على حَصِيرٍ يَسْجُدُ عَلَيْهِ، قَالَ: وَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ، وَفِى رِوَايَةٍ: وَاضِعًا طَرَفَيْهِ على عَاتِقَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و«التَّوَشُّحُ» قال ابن السِّكِّيت: «هو أن يأخُذَ طرف الثوبِ الذي ألقاه على مَنْكِبِهِ الأيمنِ مِنْ تحتِ يدِهِ اليسرى، ويأخُذَ طرفَهُ الذي ألقاه على الأيسرِ مِنْ تحتِ يده اليمنى، ثم يعقدهما على صَدْره» (15) . =(2/113)=@ &(2/88)&$
__________
(1) كما سيأتي في الحديثين الآتيين .
(2) تراجع المخطوطات.
(3) قوله «به» ليس في (أ).
(4) أخرج أبو داود في "سننه" (1/418-419 رقم636) في الصلاة، باب إذا كان الثوب ضيقًا يتزر به، من طريق أبي تُمَيْلة يحيى بن واضح، عن أبي المنيب عبيدالله بن عبدالله العَتَكي، عن عبدالله بن بُرَيْدة، عن أبيه، قال: نهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلِّي في لحافٍ لا يتوشَّح به، والآخر أن تصلِّي في سراويل وليس عليك رداء .
وسنده ضعيف ؛ قال المنذري في "مختصر السنن" (1/324): «في إسناده أبو تُمَيْلة يحيى بن واضح الأنصاري المروزي، وأبو المنيب عبيدالله بن عبدالله العتكي المروزي، وفيهما مقال». اهـ. وانظر التعليق الآتي .
(5) في (ح): «وحده».
(6) قوله: «في " ليس في (ب)، و(ح).
(7) في (ح): «المزر».
(8) قد يفهم ذلك من حديث الباب . وقد أخرج البخاريُّ حديث أبي هريرة المتقدِّم برقم (412)، وزاد فيه: ثم سأل رجلٌ عمر، فقال: إذا وسَّع الله، فأوسعوا: جمع رجلٌ عليه ثيابَهُ، صلى رجل في إزارٍ ورداءٍ، في إزارٍ وقميصٍ، في إزارٍ وقَبَاءٍ، في سراويلَ ورداءٍ، في سراويلَ وقميصٍ، في سراويلَ وقَبَاءٍ، في تُبّانٍ وقَبَاءٍ، في تُبّانٍ وقميصٍ - قال: وأحسبه قال: في تُبَّانٍ ورداء -.
(9) في (ح): «فقال هو إرسال».
(10) هو عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب؛ حكى ابن القاسم في "المدونة الكبرى" (1/180) أن الإمام مالكًا قال: رأيتُ عبدالله بن الحسن يُسْدِلُ.
(11) ورد في النهي عن السَّدْل في الصلاة حديث أبي هريرة قال: «نَهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن السَّدْلِ في الصلاة»؛ أخرجه أبو داود (1/423 رقم643) في الصلاة، باب ما جاء في السَّدْلِ في الصلاة، وابن المنذر في "الأوسط" (5/57 رقم 2382)، كلاهما من طريق الحسن بن ذَكْوان، عن سليمان الأحول، عن عطاء، عن أبي هريرة . وأخرجه الترمذي (2/217 رقم378) في الصلاة، باب ما جاء في كراهية السَّدْلِ في الصلاة، وابن المنذر أيضًا (5/60 رقم2387)، كلاهما من طريق حماد بن سلمة، عن عِسْل بن سفيان، عن عطاء، عن أبي هريرة، به .
وكأن أبا داود مال إلى تضعيف الحديث؛ فأخرج بعده بسندٍ صحيح عن ابن جُرَيْج، قال: «أكثرُ ما رأيتُ عطاءً يصلِّي سادلاً»، ثم قال أبو داود: «وهذا يضعِّف ذلك الحديث»، يعني أنَّ عطاء عمل بخلافِ ما روىَ؛ فلو كان الحديثَ ثابتًا عنه، لَمَا عملَ بخلافه، وقال ابن المنذر عقبه: «أما حديث عِسْل فغير ثابت؛ كان يحيى بن معين يضعِّف حديثه، وقال محمد بن إسماعيل: عِسْل يقال له: أبو قُرَّة، عنده مناكير ، وأما حديث ابن المبارك عن الحسن بن ذكوان: فقد ضعفه بعض أصحابنا، وضعَّف الحسن بن ذكوان». اهـ.
(12) ورد فيه حديث سَلَمة بن الأكوع، قال: قلتُ: يا رسول الله، إنِّي رجلٌ أصيد، أفأصلِّي في القميص الواحد ؟ قال:«نعم، وازْرُرْهُ ولو بِشَوْكة»؛ أخرجه أبو داود (1/416 رقم632) في الصلاة، باب في الرجل يصلِّي في قميص واحد، والنسائي (2/70 رقم765) في القبلة، باب الصلاة في قميص واحد، أما أبو داود: فمِنْ طريق عبدالعزيز بن محمد، وأما النسائي: فَمِنْ طريق عَطَّاف بن خالد، كلاهما عن موسى بن إبراهيم، عن سَلَمة، به .وهو حديث ضعيف ؛ ذكره البخاري تعليقًا في "صحيحه" (1/465) في الصلاة، باب وجوب الصلاة في الثياب، ثم قال: «في إسناده نظر»، وفي "التاريخ الكبير" (1/296-297) ذكر الاختلاف فيه على موسى بن إبراهيم، وأن هناك من رواه عنه، قال: حدَّثنا سَلَمة، ثم قال البخاري: «هذا لا يصحُّ، وفي حديث القميص نظر».
ومال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (1/465-466) إلى تقوية الحديث، ومحاولة التوفيق بين الروايات المختلفة، ولو سُلِّمَ له بذلك، فيبقَى مدارُ الحديث على موسى بن إبراهيم المخزومي هذا الذي عليه مدار الحديث، وقد قال عنه هو في "التقريب" (6941): «مقبول»، يعني: إذا توبع، وإن لم يتابع فليِّن كما صرَّح به هو في المقدِّمة، ولم يُتَابَعْ .
هذا مع أن هناك مَنْ ضعَّف موسى هذا على اعتبار أنه موسى بن محمد بن إبراهيم - كما في بعض أوجه الاختلاف عليه - لكنَّ الراجح أنهما اثنان، فيبقى موسى بن إبراهيم هذا مجهول العدالة، مع الاختلاف الذي جعله البخاري مؤثِّرًا، وضعَّف الحديث لأجله .
(13) في (ب): «الأزرار».
(14) أخرجه مسلم (1/369 رقم519) في الصلاة، باب الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه .
(15) "كتاب الألفاظ" لابن السِّكِّيت (ص496)، وقد نُقِلَ ذلك عن ابن السكيت في "شرح النووي على مسلم" (4/233)، و"الديباج" (2/199)، و"عون المعبود" (2/235)، و"تحفة الأحوذي" (2/262)، وذكره ابن البر عن الأخفش في "الاستذكار" (2/194)، وعنه الشوكاني في "نيل الأوطار" (2/64)، وقد نُسِبَ هذا التعريف للتوشح إلى ابن سيده؛ كما في "عمدة القاري" (4/59)، و"اللسان" (2/633)، وانظر: «المحكم والمحيط الأعظم" لابن سيده (8/207).(2/88)
وفي "الأم" (1) قولُ إبراهيمَ التَّيْمِيِّ: كُنْتُ أَقْرَأُ على أبي القرآنَ في السُّدَّةِ، فإذا قرأتُ السَّجْدَةَ، سَجَدَ، فقلتُ: يا أبي (2) ! أَتَسْجُدُ فِي الطَّرِيقِ؟...، الحديث (3) .
كذا صحَّ (4) : «السُّدَّة». ورواه النسائي (5) : «في السِّكَّة»، و: «في بعض السِّكَك»، وهذا هو المطابق لقوله: «أتسجد على الطريق؟" لكن السُّدَّة هنا إنما عنى بها سُدَّة الجامع، وهي الظلال التي (6) حوله، ومنه (7) سُمِّي إسماعيل السُّدِّي؛ لأنه كان يبيع الْخُمُر في سُدَّة الجامع، وكان التيمي يجلس فيها ويقرأ القرآن، فإذا جاءت السجدة سجد.
*************
(38) بَابُ أَوَّلِ مَسْجِدِ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ،
وَمَا جَاء أَنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا مَسْجِدٌ
119 - عَنْ أَبِي ذَرٍّ (8) ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَوَّلِ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ؟ فَقَالَ:«الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ»، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ:«الْمَسْجِدُ الأَقْصَى»، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ عَامًا، ثُمَّ الأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ، فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ، فَصَلِّ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنْ بَابِ أَوَّلِ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ
قوله (9) - وقد سأَلَهُ أبو ذَرٍّ عن أوَّلِ مسجدٍ وُضِعَ في الأرضِ (10) -: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ»؛ وهو مسجدُ مكَّة، والمسجدُ (11) الأقصَى، وهو مسجدُ البيت الْمُقَدَّسِ، وسمِّي بالأقصى؛ لِبُعْدِهِ عن الحجاز، أو لِبُعْدِهِ عن الأقذارِ والخبائث، فإنه (12) مُقَدَّسٌ، والْمُقَدَّسُ: الْمُطَهَّرُ، ومنه: القَدْسُ: السَّطْلُ الذي يُسْتَقَى به الماءُ.
وقوله: «أَرْبَعُونَ عَامًا»- وقد سُئِلَ عن مُدَّةِ ما بينهما - فيه إشكالٌ؛ وذلك أنَّ مسجدَ مكةَ بناه إبراهيمُ بِنَصِّ القرآن؛ إذْ قال : {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} الآية (13) . والمسجدُ الأقصَى بناه سليمانُ - صلى الله عليه وسلم - كما خرَّجه (14) النَّسَائِيُّ (15) بإسنادٍ صحيحٍ، من حديث عبد الله بن عمرو (16) ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أن سليمان بن داود لمَّا بَنَى بيتَ المَقْدِسِ سأل اللهَ خلالاً (17) ثلاثًا: سأل اللهَ حُكْمًا يصادفُ حُكْمَهُ؛ فأُوتِيَهُ، وسألَ اللهَ مُلْكًا لا ينبغي لأحدٍ مِنْ بعدهِ؛ فَأُوتِيَهُ، وسأل اللهَ حين فَرَغَ مِنْ بناءِ المَسْجِدِ ألاَّ يأتيه أحدٍ لا يَنْهَزُه إلا الصلاةُ فيه أن يُخْرِجَهُ مِنْ خطيئته كيومَ وَلَدتْهُ أُمُّهُ.
وبين إبراهيمَ وسليمانَ آمادٌ طويلةٌ؛ =(2/114)=@ قال أهلُ التاريخ: أكثَرُ من أَلْفِ سنةٍ.
ويرتفعُ الإشكالُ بأن يقال: إنَّ الآية (18) والحديثَ لا يَدُلاَّن على أنَّ (19) بناءَ إبراهيمَ وسليمانَ لما بَنَيَا ابتَدَأَا وَضْعهما لهما (20) ، بل ذلك تجديدٌ لِمَا كان أسَّسه غَيْرُهُمَا وبدأه (21) ، وقد رُويَ أنَّ أوَّل مَنْ بنى البيتَ آدمُ (22) ، و على (23) هذا: فيجوزُ أن يكونَ غيرُهُ مِنْ ولده وضَعَ بيتَ (24) المَقْدِسِ بعده بأربعين عامًا، والله تعالى أعلم (25) . &(2/89)&$
__________
(1) قوله هنا: «وفي الأم ...» إلى قوله الآتي: «فإذا جاءت السجده سجد " متعلق بشرح حديث أبي ذر هذا ؛ إذ هو طريق من طرقه، فكان الأولى جعله بعد قوله: «ومن باب أول مسجد ..." إلى آخره، ويعني بـ"الأم": «صحيح مسلم".
(2) في (ب): «يا أبة».
(3) وتتمته: قال: إني سمعت أبا ذر يقول: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ...، ثم ذكر الحديث بمثل ما هنا .
(4) قوله: «صحَّ» سقط من (غ).
(5) في (2/32 رقم690) في المساجد، باب ذكر أي مسجد وضع أوّلاً لم نجد رواية:«في بعض السكك».
(6) في (ب): «الذي».
(7) في (غ): «ومنها».
(8) أخرجه البخاري (6/ 407 رقم 3366، 3425) في الأنبياء، باب منه، وباب قول الله تعالى : {ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب}، ومسلم (1/370 رقم520) في المساجد ومواضع الصلاة، باب منه .
(9) في (أ): «وقوله».
(10) في (غ): «وضع للناس في الأرض».
(11) في (أ): «أو المسجد».
(12) في (غ): «لأنه».
(13) سورة البقرة ، الآية: 127.
(14) في (ب) و(ح): «كما خرجه».
(15) (2/34 رقم 693) في المساجد، باب فضل المسجد الأقصى والصلاة فيه، من طريق سعيد بن عبدالعزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن عبدالله الديلمي، عن عبدالله بن عمرو، به باللفظ الذي ذكره الشارح وصحَّح إسناده الحافظُ في "الفتح" (6/408).
وأخرجه أحمد (2/176)، والفسوي (2/293)، وابن حبِانَّ كما في "الإحسان" (4/511-512 رقم1633)، والحاكم (1/30-31)، جميعُهُمْ من طريق الأوزاعي، عن ربيعة، به، إلا أنه لم يذكُرْ فيه أبا إدريسَ الخولانيَّ.
وقد رواه الأوزاعيُّ عن يحيى بن أبي عمرو السِّيباني، مقرونًا بربيعة بن يزيد، وذلك في رواية الفسوي والحاكم .
قال الحاكم: «حديث صحيح قد تداوله الأئمة، وقد احتجَّا بجميعِ رواته، ثم لم يخرِّجاه، ولا أعلم له عِلَّة»، ووافقه الذهبي .
وفي رواية الفَسَوِيِّ والحاكم صرَّح ربيعةُ بسماعه للحديثِ من عبدالله الديلمي، فلعلَّه سمعه أولاً بواسطة أبي إدريس، ثم سمعه منه، والله أعلم .
(16) في (ب) و(غ): «عمر».
(17) «خلاما» كذا رسمت في (غ).
(18) في (ح): «بأن يقال: الآية».
(19) قوله: «أن» سقط من (ح). ...
(20) قوله: «لهما» في (أ): «له».
(21) في (غ): «وبذأه».
(22) يشير إلى ما أخرجه البيهقي في "الدلائل" (2/44-45)، من طريق عبدالله بن لهيعة، عن يزيد بن أبي حَبِيبٍ، عن أبي الخير مَرْثَدِ بن عبدالله، عن عبدالله بن عمرو بن العاص، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «بَعَثَ اللهُ جبريلَ - صلى الله عليه وسلم - إلى آدمَ وحَوَّاءَ، فقال لهما: ابنيا لي بناءً، فخَطَّ لهما جبريلُ - صلى الله عليه وسلم - ، فجعَلَ آدَمُ يَحْفِرُ وحَوَّاءُ تَنْقُلُ، حتى أجابه الماءُ؛ نودي مِنْ تحته: حَسْبُكَ يا آدمُ، فلمَّا بنياه، أوحى اللهُ تعالى إليه أن يَطُوفُ به، وقيل له: أنتَ أوَّلُ الناس، وهذا أولُ بيتٍ، ثم تناسخَتِ القرونُ حتى حَجَّهُ نُوحٌ، ثم تناسخَتِ القرونُ حتى رفَعَ إبراهيمُ القواعدَ منه».
قال البيهقي: «تفرَّد به ابنُ لَهِيعةَ هكذا مرفوعًا».
وقال ابن كثير في "تفسيره" (2/64): «فأما الحديث الذي رواه البيهقيُّ...، فإنَّه كما ترى مِنْ مفردات ابن لهيعة، وهو ضعيف . والأشبه - والله أعلم - أن يكونَ هذا موقوفًا على عبدالله بن عمرو، ويكونَ من الزاملتين اللتَينِ أصابهما يوم اليرموك مِنْ كلامِ أهل الكتاب».
(23) في (ب): «فعلى».
(24) قوله: «بيت» في (غ): «البيت».
(25) وقد سبق الشارحَ إلى هذا الجمعِ: الخَطَّابُّي، ثم ابن الجوزي، فانظر "فتح الباري" (6/408-409).(2/89)
120 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِي (1) ، قال:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى كُلِّ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تُحَلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ طَيِّبَةً طَهُورًا وَمَسْجِدًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ صَلَّى حَيْثُ كَانَ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ بَيْنَ يَدَيْ مَسِيرَةِ شَهْرٍ، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله (2) في حديث جابر: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي»، وفي حديثِ أبي هريرة: «سِتًّا»، وفي حديث حذيفةَ: «ثَلَاثًا»، لا يَظُنُّ القاصرُ (3) أن هذا تعارضٌ، وإنما يَظُنُّ هذا (4) مَنْ توهَّم أنَّ ذِكْرَ الأعداد يدلُّ (5) على الحصر، وأنها لها =(2/115)=@
دليلُ خطابٍ، وكلُّ ذلك باطل؛ فإِنَّ القائل: «عندي خمسةُ دنانيرَ» - مثلاً- لا يَدُلُّ هذا اللفظُ على (6) أنه ليس عنده غيرها، ويجوزُ له أن يقولَ تارةً أخرى: «عندي عشرون»، وتارةً أخرى: «عندي ثلاثون»؛ فإنَّ مَنْ عنده ثلاثون (7) ، صدَقَ عليه أنَّ عنده عشرين، وعَشَرةً، فلا تناقُضَ، ولا تعارُضَ.
ويجوزُ: أن يكون - صلى الله عليه وسلم - أُعْلِمَ (8) في وقتٍ بالثلاثِ، وفي (9) وقتٍ بالخمسِ، وفي وقتٍ بالسِّتِّ، والله أعلم.
وقوله: «وَبُعِثْتُ إِلَى كُلِّ الْأَحْمَرَ وَالْأَسْوَدَ»، يعني: كافَّة الخَلْق؛ كما قال تعالى : {وما أرسلناك إلا كافة للناس} (10) ، والْحُمْرَانُ: عَنَى بهم البيض، وهم العجم، والسودان: العرب؛ لغلبة الأَدَمَةِ عليهم، وغيرُهم لسوادهم (11) . &(2/90)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (1/435 رقم 335) في التيمم، باب منه، و(1/533 رقم438 في كتاب الصلاة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «جُعِلَتْ لي الأرضُ مسجدًا وطهورًا»، و(6/220 رقم3122) في كتاب فرض الخمس، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أُحِلَّتْ لي الغنائم»، ومسلم (1/370 رقم521) في المساجد ومواضع الصلاة، باب منه .
(2) في (ح): «قوله " بدون واو.
(3) في (ح): «القاصد»، وفي (غ): «لأنَّه ظن القاصر».
(4) قوله: «هذا) (غ) فقط.
(5) في (أ): «تدل».
(6) قوله:«على " سقط من (ب).
(7) في (أ): «ثلاثين».
(8) في (ح): «علم».
(9) هنا بداية سقط صفحة كاملة من نسخة (ح).
(10) سورة سبأ، الآية: 28.
(11) في (غ): «إسوادهم».(2/90)
وقوله: «وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا (1) طَيِّبَةً طَهُورًا» (2) ، يعني: في التيمُّم، كما قد بيَّنه في الحديث الآخر، وهو حُجَّةٌ لمالكٍ في التيمُّمِ بجميعِ أنواعِ الأرض؛ فإنَّ اسم الأرضِ يشملها. وكما أباحَ الصلاة َ على جميع ِأجزاءِ الأرض، كذلك يجوزُ التيمُّمُ على جميع أجزائها؛ لأنَّ الأرضّ في هذا الحديثِ بالنسبة إلى (3) الصلاةِ والتيمُّمِ واحدةٌ. فكما تجوزُ الصلاةُ على جميع أجزائها، كذلك يجوزُ التيمُّمُ على جميع أجزائها.
ولا يُظَنُّ أن قوله - في حديث حذيفة - (4) : «وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا»؛ أنَّ ذلك مخصِّصٌ له؛ فإنَّ ذلك ذهولٌ من قائله؛ فإنَّ التخصيصَ إخراجُ ما تناولَهُ العمومُ عن الحكم، ولم يُخْرِجْ هذا الخبر (5) شيئًا، وإنما عيَّن هذا الحديثُ واحدًا مما تناولَهُ الاسمُ الأوَّل، مع موافقته في الحكم، وصار بمثابةِ قوله تعالى : {فيهما فاكهة ونخل =(2/116)=@ ورمان} (6) ، وقوله : {من كان عدوًّا لله وملائكته ورسُلِه وجبريل وميكال (7) } (8) ، فعيَّن بعضَ ما تناولَهُ اللفظُ الأوَّل، مع الموافقةِ في المعنى على جهةِ التشريف. وكذلك ذَكَرَ الترابَ في حديثِ حذيفة - رضي الله عنه - ، وإنما عيَّنه لكونه أمكَنَ وأغلَبَ.
فإنْ قيل: «بل (9) عيَّنه ليبيَّنَ أنه لا يجوزُ التيمُّم بغيره».
قلنا: لا نسلِّم ذلك، بل هو أوَّلُ المسألة، ولئن سلَّمنا أنه يَحْتملُ ذلك، فَيَحتمِلُ أيضًا ما ذكرناه، وليس أحدُ الاحتمالَيْنِ بأولى (10) من الآخر، فيلتحقِ (11) اللفظُ بالمُجْملَاَت، فلا يكونُ لكم فيه حجةٌ، ويبقَى مالكٌ متمسِّكًا باسمِ الصعيد، واسم الأرض.
وأيضًا: فإنَّا نقولُ بموجَبِةِ؛ فإنَّ ترابَ كلَّ شيء بِحَسَبه، فيقال: ترابُ الزِّرْنِيخ، وترابُ السِّبَاخ.
وقوله: «طَهُورًا»؛ هذه البنيةُ مِنْ أبنيةِ المبالغة؛ كقَتُولٍ وضَرُوب، وكذلك قال في الماء؛ فقد سوَّى بين الأرضِ والماءِ في ذلك، ويلزمُ منه أنَّ التيمُّم يرفَعُ الحَدَث، وهو أحدُ القولَيْنِ عن مالك، وليس بالمشهور.
و «طَيِّبةً»: طاهرةً، وكذلك قوله : {فتيمَّموا صعيدًا طيبًا} (12) ، أي: طاهرًا؛ وعلى هذا فلا يُفْهَمُ مِنْ قوله: &(2/91)&$
__________
(1) قوله: «مسجد» سقط من (ب).
(2) لفظ الحديث: «طَيِّبَةً طَهُورًا وَمَسْجِدًا»، وفي (غ): «طيبة وطهورًا».
(3) قوله: «هذا الحديث بالنسبة إلي» ليس في (أ).
(4) وهو الحديثُ الآتي.
(5) في(غ): «الحر».
(6) سورة الرحمن، الآية: 68.
(7) في (غ): «ميكايل».
(8) سورة البقرة، الآية: 98.
(9) في (غ): «هل».
(10) في (ب): «أولى».
(11) في (ب): «فيلحق».
(12) سورة النساء ، الآية: 43.(2/91)
«طَهُورًا» (1) غيرُ التطهيرِ لغيرها؛ إذْ قد وصفَهَا بالطهارةِ في نفسها، ثم جعلَهَا مُطَهِّرةً لغيرها؛ وهذا كما قاله - صلى الله عليه وسلم - (2) .
وقد قيل له: أنتوضَّأ بماء البحر؟ فقال: «هو الطَّهُورُ مَاؤُهُ» (3) ، أي: الذي يُطَهِّرُكُمْ من الحَدَث (4) .
وقوله: «مَسْجِدًا» (5) ، أي: للصلاة.وهذا مما خَصَّ اللهُ به نبيه - صلى الله عليه وسلم - وكانتِ الأنبياءُ قبله إنما أُبِيحَ لهم الصلواتُ في مواضعَ مخصوصةٍ؛ كالبِيَعِ والكنائس. =(2/117)=@
وقوله: «وَأُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ»: هذا من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما كانت الغنائمُ قبله تُجْمَعُ، ثم تأتي نارٌ من السماء فتأكُلُهَا.
و «الرُّعْبُ»: الفَزَع.
و «الشَّفَاعَةُ»: الخاصَّةُ بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : هي الشفاعةُ لأهلِ الموقف؛كما تقدَّم.
121 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ (6) ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«فُضِّلْنَا على النَّاسِ بِثَلاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا، وَجُعِلَتْ لَنَا تُرْبَتُهَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ»، وَذَكَرَ خَصْلَةً أُخْرَى.
وقوله: «وَجُعِلَتْ لَنَا (7) الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا»، هذا العمومُ - وإنْ كان مؤكَّدًا، فهو مخصَّص بنهيه (8) - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في مَعَاطِنِ الإبلِ (9) ؛ كما جاء في الصحيحِ، وبما جاء في كتابِ الترمذيِّ (10) - من حديث ابن عمر رضي الله عنهما-: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أن يُصَلَّى في سَبْعَةِ مواطنَ: في المَزْبَلَةِ، والمَجْزَرَةِ، وقارعةِ الطريقِ، والمَقْبَرَةِ، وفي الحَمَّامِ (11) ، وفي مَعَاطِنِ الإبلِ، وفوق ظَهْر بيتِ الله».
وقد كرهُ مالكٌ الصلاةَ في هذه المواضع، وأباحها فيها غيرُهُ، ولم يصحَّ هذا الحديثُ عنده.
واعتضَدَ قائلُ الإباحة: بأنَّ فضائلَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لا يُنْقَصُ منها (12) ؛ وذلك أنَّ مِنْ فضائلِهِ وخصائصِهِ: أنْ جُعِلَ له (13) الأرضُ كلُّها مسجدًا، فلو خُصِّص منها شيء؛ لكان (14) نقصًا في فضيلتِهِ وما خصِّص به، قاله (15) أبو عمر بن عبدالبر (16) .
والصحيحُ: ما صار إليه مالكٌ، &(2/92)&$
__________
(1) في (غ): «طاهرًا».
(2) إلى هنا انتهى السقط من نسخة (ح) المشار إليه سابقًا .
(3) هو حديث صحيح أخرجه الإمام مالك في "الموطأ" (1/22 رقم12) في الطهارة، باب الطهور للوضوء، ومن طريقه أخرجه جمع من الأئمة، منهم الترمذي (1/100-101 رقم69) في الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور، ثم قا ل: «هذا حديث حسن صحيح، وهو قول أكثر الفقهاء من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، منهم: أبو بكر وعمر وابن عباس، لم يروا بأسًا بماء البحر»، ونقل في "العلل الكبير " (ص41) عن البخاري تصحيحَهُ له، والكلام عن الحديث يطول، فانظر تفصيله في "الإمام" لابن دقيق العيد، الحديث الثالث منه.
(4) في (ب) وضع الناسخ فوق كلمة: «الحدث" كلمة: «الخبث».
(5) في (غ): «ومسجدًا».
(6) أخرجه مسلم (1/371 رقم522) في المساجد ومواضع الصلاة، باب منه .
(7) في (ب): «لي».
(8) في (غ): «لنهيه».
(9) تقدم في الطهارة ، باب الوضوء من لحوم الإبل .
(10) أخرجه عبد بن حميد برقم (765)، وابن ماجه (1/246 رقم746) كتاب المساجد والجماعات، باب المواضع التي تكره فيها الصلاة، والترمذي (2/177 رقم346،347) كتاب الصلاة، باب ما جاء في كراهية ما يصلَّى إليه وفيه - وعنه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/398-399 رقم671)- وأخرجه الطحاوي (1/383)، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" (2/271)، وابن عدي (3/202-203)، والبيهقي (2/329، 329-330) جميعُهُم من طريق زيد بن جُبَيْرة، عن داود بن الحُصَيْن، عن نافع، عن ابن عمر: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ يُصَلَّى في سبعةِ مواطنَ: في المَزْبَلَةِ، والمَجْزَرَةِ، والمَقْبَرَةِ، وقارعةِ الطريق، وفي الحَمَّامِ، وفي معاطنِ الإبلِ، وفوق ظَهْر بيت الله».
وأخرجه ابن ماجه (1/246 رقم747) الموضع السابق، من طريق عبدالله بن صالح، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، مثله . لكن سقط من الإسناد: «عبدالله العمري" بين الليث ونافع، كما نبه عليه الحافظ في "التلخيص الحبير" (1/387)؛ فقد قال الترمذي عقب روايته: «وحديث ابن عمر إسناده ليس بذاك القوي، وقد تكلِّم في زيد بن جبيرة من قبل حفظه ... وقد روى الليث بن سعد هذا الحديث عن عبدالله بن عمر العمري، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مثله .
وحديث داود، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشبَهُ وأصحُّ من حديث الليث بن سعد .
وعبدالله بن عمر العمري ضعَّفه بعض أهل الحديث مِنْ قبل حفظه، منهم: يحيى بن سعيد القطان».اهـ.
وقال ابن أبي حاتم في"العلل" (1/148): «سألت أبي عن حديث رواه الليث، عن عبدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... قلت: ورواه زيد بن جبيرة ...، قال: جميعًا واهيين». اهـ.
وضعفه الشيخ الألباني في "الإرواء" (1/318 رقم287).
(11) في (ب): «والحمام».
(12) في (غ): «لا ؟؟؟ فيها».
(13) قوله: «له " سقط من (ح).
(14) في (غ): «كان».
(15) في (ح): «قال».
(16) في "التمهيد" (5/218).(2/92)
مِنْ كراهةِ (1) الصلاةِ في تلك المواضع، لا تمسُّكًا بالحديثِ؛ فإنه ضعيفٌ؛ لكن تمسَّكًا (2) بالمعنى. وقد ذُكِرَتْ علل الكراهة (3) في كُتُبِ أصحابنا (4) ، فلتنظَرْ هناك.
(ويُحْتَجُّ على أبي عمر بالنهيِ عن الصلاة في معاطنِ الإبلِ وفي القبور؛ فإنَّ الحديث في ذلك صحيحٌ (5) . وتمنعُ الصلاة في المواضع النجسة.
فإنْ قال: «ذلك (6) =(2/118)=@ للنجاسة (7) العارضة»:
قلنا (8) : وكذلك كراهة الصلاة في تلك المواضع لعلل عارضة، والله أعلم.
وقوله: «وَذَكَرَ خَصْلَةً أُخْرَى»؛ ظاهره: أنه ذكَرَ ثلاثَ خصال، وإنما هما (9) ثنتان، كما ذكَرَ؛ لأن قضية الأرضِ كلِّها خصلةٌ واحدة، والثالثة التي لم يذكرها بيَّنها النَّسَائُّي (10) من رواية أبي (11) مالكٍ بسنده، فقال: «وَأَوتِيتُ هذه الآياتِ: خَوَاتِمَ سورةِ البقرةِ مِنْ كَنْزٍ تحت العرش، لم يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قبلي، ولا يُعْطَاهنَّ أحدٌ بعدي».
122 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (12) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:«فُضِّلْتُ على الأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النبي ونَ».
123 - وَعَنْهُ (13) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ، فَوُضِعَتْ فِي يَدَيَّ».
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنْتُمْ تَنْتَثِلُونَهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ»، قال الهروي: يعني القرآن؛ جمع الله في الألفاظ اليسيرة منه معانيَ كثيرة، وكذلك كان (14) - صلى الله عليه وسلم - يتكتم بالفاظ يسيرة تحتوي على (15) معانٍ كثيرة (16) .
وقوله: «وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ (17) أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ، فَوُضِعَتْ فِي يَدَيَّ»، هذه الرؤيا أوحى الله فيها لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أنَّ أمتَهُ ستملكُ الأرضَ، =(2/119)=@ ويَتَّسعُ سلطانها، ويظهر دينها، ثم إنَّه وقَعَ ذلك كذلك؛ فملكَتْ أمتُهُ &(2/93)&$
__________
(1) في (ح): «كراهية».
(2) في (ح): «تمسك».
(3) في (أ): «الكراهية».
(4) في (ب) و(ح): «أصحابه».
(5) انظر الأحاديث الآتية قريبًا برقم (424-427)، والحديث رقم (835) في الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبور والصلاة إليها .
(6) في (غ) تشبه: «عبد الله».
(7) في (غ): «النجاسة».
(8) قوله: «قلنا» سقط من (غ).
(9) في (غ): «هي».
(10) في "فضائل القرآن" من "السنن الكبرى" (5/15 رقم8022)، وفي لفظه بعضُ الاختلاف .
(11) في (أ) و(غ): «من رواية مالك»، والصواب ما هو مثبتٌ من الموضع الآتي من "سنن النسائي الكبرى»، وأبو مالك هذا هو الأشجعيُّ، وهو الراوي لهذا الحديث عند مسلم والنسائي، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة .
(12) أخرجه مسلم (1/371 رقم523) في المساجد ومواضع الصلاة، باب منه .
(13) أخرجه البخاري (6/128 رقم2977) في الجهاد، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «نُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر»، و(12/390، 400 رقم6998، 7013) في كتاب التعبير، باب رؤيا الليل، وباب المفاتيح في اليد، و(13/247 رقم7273) في كتاب الاعتصام، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :«بعثت بجوامع الكلم»، ومسلم (1/371-372 رقم523) في المساجد ومواضع الصلاة، باب منه .
(14) في (ح): «قال».
(15) في (ح): «عليها».
(16) من قوله: «وكذلك كان ...» إلى هنا ليس في (ب).
(17) في (أ): «بمفاتح».(2/93)
من الأرض ما لم تملكْهُ أمةٌ من الأمم فيما عَلِمْنَاهُ، فكان هذا الحديثُ من أدلَّة (1) نبوته - صلى الله عليه وسلم - .
ووجهُ مناسبة هذه الرؤيا: أنَّ مَنْ ملك مفتاحَ المغلق (2) فقد تمكَّن من فتحِهِ، ومِنَ الاستيلاءِ على مافيه (3) .
وقوله: «وَأَنْتُمْ تَنْتَثِلُونَهَا»، أي: تَسْتَخِرجون ما فيها مِنَ الكنوز والمنافع؛ مِنْ قولهم: نَثلَ كِنَانَتَهُ (4) : إذا استخرَجَ ما فيها مِنَ السهام، والله أعلم (5) .
*************
(39) باب إبتناء مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -
124 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (6) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَنَزَلَ فِي عُلْوِ الْمَدِينَةِ فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَأَقَامَ فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ إِنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى مَلإِ بَنِي النَّجَّارِ فَجَاءُوا مُتَقَلِّدِينَ بِسُيُوفِهِمْ قَالَ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - على رَاحِلَتِهِ وَأَبُو بَكْرٍ رِدْفُهُ، وَمَلأُ بَنِي النَّجَّارِ حَوْلَهُ حتى أَلْقَى بِفِنَاءِ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ، وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَ بِالْمَسْجِدِ، قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَى مَلإِ بَنِي النَّجَّارِ فَجَاءُوا، فَقَالَ:«يَا بَنِي النَّجَّارِ! ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا»، قَالُوا: لا وَاللَّهِ ! لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلاَّ إِلَى اللَّهِ عَز وجَل. قَالَ أَنَسٌ: فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ، كَانَ فِيهِ نَخْلٌ وَقُبُورُ الْمُشْرِكِينَ وَخِرَبٌ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، وَبِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، وَبِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ. قَالَ: فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةً لَهُ، وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ حِجَارَةً، قَالَ: فَكَانُوا يَرْتَجِزُونَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَهُمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ:
اللَّهُمَّ إِنَّهُ لا خَيْرَ إِلا خَيْرُ الآخِرَهْ ... فَانْصُرِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ابتناء مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -
«الملأ»: أشراف القوم وساداتهم، سُمّوا بذلك؛ لأنهم أَمْلِيَاء بالرأي والغِنَى. وبنو النجار قبيلة من الأنصار، وهم أخوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك: أن هاشِمًا تزوج امرأة من بني النجار تُسَمَّى: سلمى بنت عمرو بن زيد بن عدي ابن النّجار، فولدت له عبد المطلب بن هاشم، فمن هنا (7) كانوا أخوال النبي - صلى الله عليه وسلم - . =(2/120)=@
وقوله: «ثامنوني بحائطكم»، أي: اطلبوا ثمنه، وبايعوني به. والحائط: بستان النخل.
" فقالوا: لا والله ما نطلب ثمنه إلا إلى الله (8) عزّ وجلّ "، وهذا ينص على أنهم لم يأخذوا منه (9) ثمنًا، وإنما وهبوه للنبي - صلى الله عليه وسلم - . وقد ذكر محمد بن سعد في "تاريخه الكبير" (10) عن الواقدي (11) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشتراه من بني عَفْراء (12) بعشرة دنانير دفعها عنه أبوبكر الصديق (13) ، فإن صحّ هذا فلم يقبله النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بالثمن؛ لأنه كان ليتيمين.
وفي هذا دليل على لزوم بناء المساجد في القرى التي يُسْتوطن فيها (14) ؛ لأجل الجمعة، ولإظهارشعائر الإسلام. &(2/94)&$
__________
(1) في (ح): «دلالة».
(2) في (أ): «الغَلِق».
(3) في (ب): «عليه».
(4) في (ح): «كانته».
(5) قوله: «والله أعلم» من (غ) فقط.
(6) أخرجه البخاري (1/341 رقم234) في كتاب الوضوء، باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها، و(1/524، 526 رقم428، 429) في كتاب الصلاة، باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد ؟ وباب الصلاة في مرابض الغنم ...، و(4/81 رقم1868) في كتاب فضائل المدينة، باب حرم المدينة، و(4/326 رقم2106) في كتاب البيوع، باب صاحب السلعة أحق بالسوم، و(5/398 ، 404 رقم2771، 2774) في كتاب الوصايا، باب إذا وقف جماعة أرضًا مشاعًا فهو جائز، وباب وقف الأرض للمسجد، وباب إذا قال الواقف: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله فهو جائز، و(7/265 رقم3932) في كتاب مناقب الأنصار، باب مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه المدينة، ومسلم (1/373 رقم524) في المساجد، باب ابتناء مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(7) في (ب): «هناك».
(8) في (ب) و(ح) و(غ): «إلا لله».
(9) في (ح) و(غ): «فيه».
(10) انظر "الطبقات الكبرى" لابن سعد (1/239).
(11) وهو متروك كما في "التقريب" (6215).
(12) في (غ): «بني عمرو».
(13) وقال الحافظ في "الفتح" (1/526): «وظاهر الحديث أنهم لم يأخذوا منه ثمنًا، وخالف في ذلك أهل السير».
(14) في (ب) و(ح) و(غ): «بها».(2/94)
وقوله: «وكانت فيه نخل وقبور المشركين وخِرَب»، رُوي بفتح الخاء وكسر الراء: جمع خَرِبة؛ مثل: كَلِمَة وكَلِم، وبكسر الخاء وفتح الراء: جمع خِرْبة بسكون الراء، لغتان فيما يخرب (1) من البناء، والثانية لتميم، هذا هوالصحيح في الرواية والمعنى. وقد فسَّره حيث قال: «وبالخِرَب فسُوِّيتْ». وقد استبعد الخطابي (2) ذلك المعنى، وأخذ يقدِّر اللفظ تقديرات، فقال: لعل الصواب: «خُرَب»: جمع «خُرْبة»؛ وهي: الخروق في الأرض، أو لعلَّها: «جُرْف» (3) جمع: «جِرَفَةٍ» (4) ، وهي جمع =(2/121)=@ «جُرُف» (5) . قال: وأبينُ منه إنْ ساعدت الرواية -: «حَدَبٌ» جمع «حَدَبَةٌ» (6) ؛ وهي ما ارتفع من الأرض. وهذا منه تكلّف لا يحتاج إليه مع صحة الرواية والمعنى كما قدّمناه.
وفيه دليل على جواز قطع المثمر من الشجر إذا احتيج إليه؛ من نكاية في عدو، أو إزالة (7) ضرر، أو ما يخاف منه.
وقوله: «وقبور (8) المشركين فنبشت»؛ إنما نبش قبورهم؛ لأنهم لا حرمة لهم. فإن قيل: كيف جاز نبشهم وإخراجهم من قبورهم، والقبر مختص بمن دفن فيه، مُحبَّسٌ عليه، قد حازه الميت، فلا يجوز بيعه، ولا نقله عنه؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن تلك القبور لم تكن أملاكًا لمن دفن فيها، بل لعلها غصب، ولذلك باعها مُلاَّكُها.
الثاني: على تسليم أنها حُبِّسَتْ، فذلك إنما يلزم في تحبيس المسلمين، أما تحبيس الكفار فلا؛ إذ لا يصح منهم التقرب إلى الله تعالى، لا يقال: فهذا العتق يلزمهم إذا رفعوا أيديهم عن المعتق، لأنا نقول في العتق: إنه أمر عظيم يتشوّف (9) الشرع إليه ما لم يتشوّف للحبس ولا لغيره، ولأنه تعلق به حقٌّ لآدمي، فجرى ذلك مجرى هِباتهم وأعطياتهم اللازمة. &(2/95)&$
__________
(1) في (غ): «تخرب».
(2) في "أعلام الحديث" (1/390-391)، بتصرُّف من المصنِّف .
(3) ضبطت في (ب) هكذا: «جُرَف»، والتصويب من "أعلام الحديث».
(4) ضبطت في (ب) هكذا «جِرْفة» بإسكان الراء.
(5) في (ح): «طرق»، وضبطت في (أ) و(ب) هكذا : «جُرْف" بإسكان الراء، والتصويب من "أعلام الحديث».
(6) في (ح): «وهي»، ثم بياض بقدر كلمة، ثم: «وهي جمع حدبة».
(7) في (ح): «وإزالة».
(8) في (غ): «وبقبور».
(9) في (أ) و(غ): «تشوف».(2/95)
ويمكن أن يقال: دعت الضرورة والحاجة إلى النبش فجاز.
وقد اختلف في نبش قبور الكفار لطلب مال (1) ، فكرهه مالك؛ لأنها مواضع سخط وعذاب؛ فلا تدخل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - :«لا تدخلوا بيوت هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم» (2) . فمن دخلها لطلب الدنيا كان بضد ذلك. وأجازه جماعة من أصحاب مالك؛ محتجِّين بأن الصحابة نَبَشَتْ قبر أبى رِغَال، =(2/122)=@ واستخرجت منه قضيب الذهب الذي أعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مدفون معه (3) .
واتخاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - مسجده في تلك البقعة دليل على أن القبور إذا لم يبق (4) منها ولا من الموتى فيها بقية (5) جازت الصلاة فيها.
واختلف العلماء في جواز الصلاة في المقابر جملة؛ فأجازه مالك وأكثر أصحابه - وإن كان القبر بين يديه -، وهو مذهب الحسن البصري والشافعي وآخرين. وروي عن مالك أيضًا (6) الكراهة، وبه (7) قال أحمد، وإسحاق وجماعة من السلف. وحكى العراقيون (8) عن المذهب: كراهية الصلاة في القديمة دون (9) الجديدة. وقد كره العلماء الصلاة في مقابر المشركين بكل حال، وعليه تأوّل أكثرهم النهي عن الصلاة في المقبرة؛ قالوا: لأنها حفرة من حفر النار، وسيأتي لهذا مزيد بيان في الجنائز إن شاء الله.
وفي بنائه - صلى الله عليه وسلم - مسجده بالجذوع والجريد دليل على ترك الزخرفة في المساجد (10) والتأنق فيها، والإسراف. بل قد ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - ما يقتضي النهي عن &(2/96)&$
__________
(1) في (غ): «قبور الكفار لمال».
(2) متفق عليه، وسيأتي برقم (2885) في تفسير سورة الحجر من كتاب التفسير .
(3) أخرجه عبدالرزاق (11/454-455 رقم20989) عن معمر، عن إسماعيل بن أمية قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبر، فقال:«أتدرون ما هذا ؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:«هذا قبر أبي رغال»، قالوا: ومن أبو رغال ؟ قال:«رجل كان من ثمود ؛ كان في حرم الله فمنعه حرم الله عذاب الله، فلما خرج أصابه ما أصاب قومه فدفن هاهنا، ودفن معه غصن من ذهب»، فابتدره القوم فبحثوا عنه حتى استخرجوا الغصن .
هكذا رواه مرسلاً .
وروي من وجه آخر موصولاً :
أخرجه أبو داود (3/464-465 رقم3088) كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب نبش القبور العادية يكون فيها المال، والبيهقي في "سننه" (4/156)، وفي "دلائل النبوة" (6/297) كلاهما من طريق وهب بن جرير، عن أبيه قال: سمعت محمد بن إسحاق، ورواه الطبراني في "الأوسط" (3/158 رقم2788) و(8/245-246 رقم8533)، والبيهقي في "سننه" (4/156)، و"دلائل النبوة" (6/297)، كلاهما من طريق يزيد بن زريع، عن روح بن القاسم. كلاهما - محمد بن إسحاق، وروح بن القاسم، عن إسماعيل بن أمية، عن بُحيرة بن أبي بُحير، عن عبدالله بن عمرو، مرفوعًا . وقد صرح محمد بن إسحاق بالتحديث في روايته، وتابعه روح بن القاسم .
قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (3/440): «قال شيخنا أبو الحجاج المزي: وهو حديث حسن عزيز . قلت: تفرد بوصله: بُحير بن أبي بحير هذا، وهو شيخ لا يعرف إلا بهذا الحديث، قال يحيى بن معين: ولم أسمع أحدًا روى عنه غير إسماعيل بن أمية .
قلت - أي ابن كثير -: و على هذا فيخشى أن يكون وهم في رفع هذا الحديث، وإنما يكون من كلام عبدالله بن عمرو مما أخذه من الزاملتين .
قال شيخنا أبو الحجاج - بعد أن عرضت عليه ذلك -: وهذا محتمل، والله أعلم». اهـ.
وبُحير بن أبي بحير: قال الحافظ في "التقريب" (636): «مجهول». والحديث ضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (6082).
(4) في (غ): «لم يبق».
(5) قوله: «بقية " سقط من (ح).
(6) في (ب) و(ح): «وروي أيضًا عن مالك».
(7) في (غ): «فيه».
(8) هنا بداية سقط صفحة من نسخة (ح).
(9) قوله: «القديم دون» ليس في (أ).
(10) في (ب): «المساجد».(2/96)
زخرفتها وتشييدها، فقال: «ما أُمِرْتُ بتشييد المساجد» ، وقال: «لتزخرفُنَّها كما زخرفت اليهود والنصارى». (1)
وقوله: «فكانوا يرتجزون ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم "؛ اختلف أصحاب العَروض وعلم الشعر في أعاريض (2) الرَّجَز هل هي من الشعر؟ والصحيح (3) أنه من الشعر؛ لأن الشعر هو كلام موزون تُلْتَزَم (4) فيه قوافٍ، والرَّجَزُ (5) كذلك. وأيضًا: فإن قريشًا لما اجتمعوا وتراءَوا فيما يقولون للناس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال قائل: نقول: هو شاعر، فقالوا: والله لتكذبنّكم العربُ؛ قد عرفنا الشعر كلّه، هزجه ورجزه، ومقبوضه ومبسوطه (6) ، فذكروا الرجز من جملة أنواع الشعر، وإنما أخرجه من جنس الشعر من =(2/123)=@ أشكل عليه إنشاد النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه، فقال: لو كان شعرًا لما علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فأنَّ الله تعالى (7) قال : {وما علمناه الشعر} (8) ، وهذا ليس بشيء؛ لأن من أنشد القليل من الشعر، أو قاله، أو تمثل به على الندور (9) ، لم (10) يستحق اسم الشاعر، ولا يقال فيه: إنه يَعْلَم الشعر، ولا ينسب إليه، ولو كان ذلك للزم أن يقال على الناس كلهم: شعراء، و: يعلمون (11) الشعر؛ لأنهم لا يَخْلُوْنَ (12) أن يعرفوا كلامًا موزونًا مرتبطًا على أعاريض (13) الشعر.
ثم قوله: «كانوا يرتجزون ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم (14) »)، ليس فيه دليل واضح على أن (15) النبي - صلى الله عليه وسلم - كان المنشد، بل الظاهر منهم أنهم هم (16) كانوا المرتجزين، وبحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإن الواو للحال، و«رسول» مبتدأ، و«معهم» الخبر، والجملة في موضع (17) الحال، هذا الظاهر، ويحتمل أن تكون (18) معطوفًا على المضمر في: «يرتجزون»، والله أعلم.
وهذا الحديث وشِبْهُهُ يُستدلّ به على جواز إنشاد الشعر والاستعانة (19) بذلك على الأعمال والتنشيط. &(2/97)&$
__________
(1) ورد من حديث ابن عباس، لكن المرفوع منه هو قوله - صلى الله عليه وسلم - : أُمِرتُ ...." الخ .
وأما قوله: «لتزخرفنها ..." الخ، فهو من قول ابن عباس موقوف عليه .
وقد أخرجه عبدالرزاق في "المصنف" (3/152 رقم5127) عن شيخه سفيان الثوري، عن أبي فزارة، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس، به .
وهذا سند صحيح، وأبو فزارة اسمه: راشد بن كيسان .
وأخرجه أبو داود (1/310 رقم 448) في الصلاة، باب في بناء المسجد، وابن حبان كما في "الإحسان" (4/493-494 رقم 1615)، كلاهما من طريق سفيان بن عيينة، عن الثوري، به .
وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (1/274 رقم3147) الجزء الموقوف فقط من طريق وكيع عن سفيان الثوري، ثم أخرجه أيضًا برقم (3152 طريق ليث بن أبي سليم، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس، به .
وهذاالجزء - الموقوف - علّقه البخاري في "صحيحه" (1/539) مجزومًا به، فقال: «وقال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى».
وأشار ابن حجر في "الفتح" (1/540) إلى أن المرفوع منه اختلف على يزيد بن الأصم في وصله وإرساله، ولذلك لم يخرجه البخاري في "صحيحه".
(2) في (غ): «أغاريض».
(3) في (غ): «الصحيح».
(4) في (أ): «يلتزم»، وفي (غ): «يلزم».
(5) في (غ): «فوافي الزَّجر».
(6) أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" (2/199-201) طريق محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير - أو عكرمة -، عن ابن عباس، به .
وسنده ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد الأنصاري شيخ ابن إسحاق . انظر "ميزان الاعتدال" (4/26 رقم8129)، و"تقريب التهذيب" (6276).
(7) في (غ): «قال الله تعالى عز من قائل»
(8) سورة يس، الآية: 69.
(9) في (أ): «النذور».
(10) في (غ): «ولم».
(11) في (غ): «أو يعلمون».
(12) في (غ): «لا يخلوا».
(13) في «غ): «أغاريض».
(14) في (غ): «فيهم».
(15) في (ب): «راجح أن».
(16) قوله: «هم» ليس في (غ).
(17) في (غ): «مواضع».
(18) في (غ): «يكون».
(19) إلى هنا انتهى السقط من نسخة (ح) المشار إليه سابقًا .(2/97)
ومن هنا أخذ (1) الصوفية إباحة السماع، غير أنهم اليوم أفرطوا في ذلك، وتعدَّوا فيه الوجه الجائز، وتذرّعوا بذلك إلى استباحة المحرمات من أصناف الملاهي؛ كالشبابات، والطارات، والرقص، وغير ذلك. وهذه أفعال الْمُجَّان: أهل البطالة والفسوق، الْمُدْخِلين في الشريعة ما ليس منها - أعاذنا الله من ذلك بمنه -.
وقوله: «كان يصلي في مرابض الغنم»؛ حجة لمالك على طهارة بول ما يؤكل لحمه وروثه، وقد قدّمنا ذلك. =(2/124)=@
*************
(40) باب تحويل القبلة من الشام إلى الكعبة، والنهي عن بناء المساجد على القبور وعن التصاوير فيها
125 - عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ (2) قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، حتى نَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ : {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}، فَنَزَلَتْ بَعْدَمَا صَلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَمَرَّ بِنَاسٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَهُمْ يُصَلُّونَ، فَحَدَّثَهُمْ فَوَلَّوْا وُجُوهَهُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب تحويل القبلة
قد تقدّم القول في «الشطر» في الطهارة.
وأحاديث تحويل القبلة من الشام (3) من (4) بيت المقدس فيها مسائل أصولية:
المسألة الأولى: نسخ السنة بالقرآن، أجازه الجمهور، ومنعه الشافعي، وهذه الأحاديث حجّة عليه. وكذلك قوله تعالى (5) : {فلا ترجعوهنّ إلى الكفار} (6) ؛ نسخ لما قرّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العهد والصلح على ردّ كل من أسلم من الرجال والنساء من أهل مكة (7) ، وغير ذلك. &(2/98)&$
__________
(1) في (ب): «أخذت».
(2) أخرجه البخاري (1/95 رقم40) في الإيمان، باب الصلاة من الإيمان، و(1/502 رقم399) في كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان، و(8/171 ، 174 رقم 4486، 4492) في تفسير سورة البقرة من كتاب التفسير، باب : { سيقول السفهاء من الناس ...} الآية، وباب : { ولكلٍ وجهة هو موليها ...} الآية، و(13/232 رقم7252) في كتاب أخبار الآحاد، باب في إجازة خبر الواحد الصدوق ...، ومسلم (1/374 رقم525) في المساجد ومواضع الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة .
(3) قوله: «من الشام» ليس في (ب).
(4) في (أ) و(غ): «إلى» بدلاً عن: «من».
(5) قوله: «قوله تعالى» سقط من (ح).
(6) سورة الممتحنة، الآية: 10.
(7) كما سيأتي في كتاب الجهاد، باب صلح الحديبية وقوله تعالى {إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا}، وفيه الأحاديث من رقم (1303-1306).(2/98)
المسألة الثانية: رفع القاطع بخبر الواحد؛ وذلك أن استقبال بيت (1) المقدس كان مقطوعًا به من الشريعة عندهم، ثم إن أهل قباء لما أتاهم الآتي فأخبرهم أن (2) القبلة قد حُوِّلت إلى المسجد الحرام قبلوا قوله، واستداروا نحو الكعبة، فتركوا المتواتر (3) بخبر الواحد، وهو مظنون. وقد اختلف العلماء في جوازه عقلاً ووقوعه. قال أبو حامد: والمختار: جواز ذلك عقلاً لو تعبَّد الشرع به، ووقوعه في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدليل قصة قباء (4) ، وبدليل أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يُنفِذ آحاد الولاة إلى الأطراف (5) ، وكانوا يبلغون الناسخ والمنسوخ جميعًا، لكن ذلك ممنوع بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - بدليل الإجماع من الصحابة على أن القرآن المتواتر (6) المعلوم لا يرفع (7) بخبر الواحد، فلا ذاهب إلى تجويزه من السلف والخلف، وبسط ذلك في الأصول. =(2/125)=@
المسألة الثالثة: وهي أن النسخ إذا وجد من الشارع، فهل (8) يكون نَسْخًا في حق من لم يبلغه الناسخ؟ أو لا يكون نسخًا (9) في حقه حتى يبلغه؟ اختلف فيه على قولين، وفائدة الخلاف في هذه المسألة في عبادات فُعلت بعد النسخ، وقبل البلاغ: هل تعاد أو لا؟ فإن قلنا بالأول، أعادها؛ إذ (10) لم تكن عبادة في نفسها، وقد نسخت. وإن تنزَّلنا على الثاني لم يُعد؛ إذ هو مخاطب بفعل ما قد تقرر الأمر به، وهو الأولى. وقد رُدَّ (11) إلى هذه المسألة مسألة الوكيل إذا تصرف بعد العزل وقبل العلم به، فهل يمضي تصرفه أو لا (12) ؟ قولان. وقد فرّق القاضي عياض بين مسألة النسخ &(2/99)&$
__________
(1) في (ح): «البيت».
(2) في (ح): «عن».
(3) في (ب) و(ح): «التواتر».
(4) قوله: «قباء " سقط من (ح).
(5) كما في حديث معاذ المتقدم برقم (10) في كتاب الإيمان، باب أول ما يجب على المكلفين .
(6) في (أ) و(غ): «والمتواتر».
(7) في (ح): «لا يرتفع».
(8) في (ب): «هل».
(9) في (أ): «ناسخًا».
(10) في (ب): «إذا».
(11) في (ب) و(ح): «رد».
(12) في (ب): «أم لا».(2/99)
ومسألة الوكيل: بأن مسألة الوكيل تعلق بها حق الغير على الموكِّل، فلهذا توجه الخلاف فيها. ولم يختلف المذهب عندنا في أحكام من أعتق ولم يعلم بعتقه: أنها أحكامُ حرٍّ فيما بينه وبين الناس، فأما (1) ما بينه (2) وبين الله فجائزة. ولم يختلفوا في الْمُعْتَقَةِ أنها لا تعيد ما صلت بعد عِتْقِها وقبل علمها بغير ستر. وإنما اختلفوا فيمن (3) يطرأ عليه موجب يغيِّر (4) حكم عبادة (5) وهو فيها؛ بناء على هذه المسألة.
المسألة (6) الرابعة: قبول خبر الواحد، وهو مجمع عليه من السلف، معلوم بالتواتر من عادة النبي - صلى الله عليه وسلم - في توجيهه ولاته ورسله آحادًا للآفاق (7) ليعلِّموا الناس دينهم، ويبلِّغوهم سنة رسولهم؛ من الأوامر والنواهي، والمخالف في ذلك معاند، أو ناقص الفطرة.
وقول البراء: «صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا - أو سبعة عشر شهرًا (8) -»، الصحيح: سبعة عشر شهرًا (9) من غير شك، وهو قول مالك وابن المسيب وابن إسحاق. وقد رُوي (10) : «ثمانية عشر شهرًا" (11) ، و: «بعد سنتين» (12) ، و: «بعد تسعة أشهر - أو عشرة أشهر» (13) ، والصحيح ما ذكرناه أوّلاً (14) (15) . =(2/126)=@
126 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ (16) ، قَالَ: بَيْنَمَا النَّاسُ فِي صَلاةِ الصُّبْحِ بِقُبَاءٍ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ، فَاسْتَقْبَلُوهَا وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ.
127 - عَنْ عَائِشَةَ (17) : أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«إِنَّ أُولَئِكِ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا على قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكِ الصُّوَرَ، أُولَئِكِ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
128 - وَعَنْهَا (18) قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ».
قَالَتْ: وَلَوْلا ذَلِكَ لأُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خُشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «فَاسْتَقْبَلُوهَا» روي (19) بفتح الباء على الخبر، وبكسرها (20) على الأمر، وكلاهما صحيح.
وقوله: «أولئك (21) إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا، وصوّروا فيه (22) تلك الصور (23) »)، قال (24) الشيخ رحمه الله: إنما فعل ذلك أوائلهم ليتأنّسوا (25) برؤية تلك الصورة (26) ، ويتذكروا (27) أحوالهم الصالحة، فيجتهدون كاجتهادهم، ويعبدون الله =(2/127)=@ عزّ وجلّ عند قبورهم، فمضت لهم بذلك أزمان، ثم إنهم (28) خلف من بعدهم خَلْفٌ (29) &(2/100)&$
__________
(1) في (غ): «فأما».
(2) في (أ): «بينها»، وفي (ح): «بينه».
(3) في (ب): «فمن».
(4) في (غ): «تغيِّر».
(5) في (أ): «عبادته».
(6) قوله: «المسألة» الثانية سقط من (غ).
(7) كما في حديث معاذ الذي تقدمت الإشارة إليه قريبًا .
(8) قوله: «أو سبعة عشر شهرًا» سقط من (غ).
(9) قوله: «شهر " ليس في (ح).
(10) قوله: «وقد روي" في (ح): «يروى».
(11) أخرجها ابن ماجه (1/322-323 رقم1010) في إقامة الصلاة، باب القبلة، من طريق أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب .
قال ابن حجر في "الفتح"(1/97): «وأبو بكر سيء الحفظ، وقد اضطرب فيه؛ فعند ابن جرير من طريقه في رواية: سبعة عشر ،وفي رواية: ستة عشر».
(12) لم نجد هذه الرواية، لكن حكاها الحافظ في الموضع السابق من "الفتح" في جملة الاختلاف، وسيأتي نقل كلامه .
(13) أخرجه البزار كما في "كشف الأستار"(1/212 رقم420)، وابن جرير (3/135 رقم2155)، وابن خزيمة (1/224-225 رقم434)، ثلاثتهم من طريق عثمان بن سعد، عن أنس بن مالك قال: صلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - نحو بيت المقدس تسعة عشر أشهر - أو عشرة أشهر -، فبينما هو قائم يصلي الظهر بالمدينة - وقد صلى ركعتين نحو بيت المقدس -، انصرف بوجهه إلى الكعبة، فقال السفهاء : { ما ولاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها }.
هذا لفظ ابن جرير، وأما البزار وابن خزيمة فاختصراه، ولم يذكرا موضع الشاهد . وقد أعلّه البزار بان حديث أنس في "الصحيح" أن ذلك في صلاة الصبح، لا الظهر، فهذا يخالفه .
أقول: هذا الحديث منكر من هذا الطريق بهذا اللفظ، وحكم عليه ابن حجر بالشذوذ كما سيأتي، وآفته عثمان بن سعد الكاتب، فإنه ضعيف كما في "التقريب" (4503)، وبه أعلّه الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/119-120).
(14) في حاشية (أ): «بلغ مقابلة بأصلة».
(15) وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/96-97) في شرحه لحديث البراء بن عازب هذا: «قوله: «ستة عشر شهرًا - أو سبعة عشر -" كذا وقع الشك في رواية زهير هذه هنا، وفي الصلاة أيضًا عن أبي نعيم عنه، وكذا في رواية الثوري عنده، وفي رواية إسرائيل عند المصنف وعند الترمذي أيضًا . ورواه أبو عوانة في "صحيحه" عن عمار بن رجاء وغيره، عن أبي نعيم، فقال: «ستة عشر " من غير شك، وكذا لمسلم من رواية أبي الأحوص، وللنسائي من رواية زكريا بن أبي زائدة وشريك . ولأبي عوانة أيضًا من رواية عمار بن رُزَيق - بتقديم الراء مصغرًا - كلهم عن أبي إسحاق، وكذا لأحمد بسند صحيح عن ابن عباس . =
= وللبزار والطبراني من حديث عمرو بن عوف: «سبعة عشر»، وكذا للطبراني عن ابن عباس . والجمع بين الروايتين سهل: بأن يكون من جزَم بستة عشر لفّق من شهر القدوم وشهر التحويل شهرًا وألغى الزائد، ومن جَزَم بسبعة عشر عدّهما معًا، ومن شكّ تردد في ذلك ؛ وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور، ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس، وقال ابن حبان: «سبعة عشر شهرًا وثلاثة أيام»، وهو مبني على أن القدوم كان في ثاني عشر شهر ربيع الأول، وشذت أقوال أخرى، ففي ابن ماجة من طريق أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق في هذا الحديث: «ثمانية عشر شهرًا»، وأبو بكر سيء الحفظ وقد اضطرب فيه، فعند بن جرير من طريقه في رواية: «سبعة عشر»، وفي رواية: «ستة عشر»، وخرجه بعضهم على قول محمد بن حبيب: أن التحويل كان في نصف شعبان، وهو الذي ذكره النووي في "الروضة" وأقره مع كونه رجح في شرحه لمسلم رواية: «ستة عشر شهرًا "؛ لكونها مجزومًا بها عند مسلم، ولا يستقيم أن يكون ذلك في شعبان، إلا إن أَلْفَي شهري القدوم والتحويل، وقد جزم موسى بن عقبة بأن التحويل كان في جمادى الآخرة . ومن الشذوذ أيضًا: رواية ثلاثة عشر شهرًا ورواية تسعة أشهر أو عشرة أشهر ورواية شهرين ورواية سنتين، وهذه الأخيرة يمكن حملها على الصواب . وأسانيد الجميع ضعيفة، والاعتماد على القول الأول، فجملة ما حكاه تسع روايات ». اهـ.
(16) أخرجه البخاري (1/506 رقم403) في الصلاة، باب ما جاء في القبلة، و(8/173-175 رقم4488، 4490، 4491، 4493، 4494) في تفسير سورة البقرة من كتاب التفسير، باب : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها ...} الآية، وباب : { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب ...} الآية، وباب : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه ...} الآية، وباب: { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ...} الآية، و(13/232 رقم 7251) في كتاب أخبار الآحاد، باب في إجازة خبر الواحد الصدوق ...، ومسلم (1/375 رقم526) في المساجد ومواضع الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة .
(17) أخرجه البخاري (1/523-524 رقم 427، 434) في كتاب الصلاة، باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد ؟ وباب الصلاة في البيعة، و(3/208 رقم1341) في كتاب الجنائز، باب بناء المسجد على القبر، و(7/187 رقم3873) في كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة الحبشة، ومسلم (1/375-376 رقم528) في المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ المصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد .
(18) أخرجه البخاري (1/532 رقم435) في كتاب الصلاة، باب منه، و(3/200 ، 255 رقم1330، 1390) في الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، وباب ما جاء في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، و(6/494 رقم3453) في كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، و(8/140رقم4441، 4443) في كتاب المغازي، باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، و(10/277 رقم5815) في كتاب اللباس، باب الأكسية والخمائص، ومسلم (1/376 رقم529) في كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور .
(19) قوله: «روي " ليس في (ب).
(20) في (ب): «وبكسر الباء».
(21) قوله: «أولئك» سقط من (غ).
(22) في (أ): «وصوروا فيه».
(23) في (ب): «الصورة»
(24) في (أ): «قلت».
(25) في (ح): «ليتأسوا».
(26) في (ب): «الصورة».
(27) في (ح): «ويتذكروا بها».
(28) في (ب): «إنه».
(29) في (أ): «خلوف».(2/100)
جهلوا أغراضهم، ووسوس لهم (1) الشيطان: إن آباءكم وأجدادكم (2) كانوا يعبدون هذه الصور (3) ويعظمونها (4) ، فعبدوها، فحذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن (5) مثل ذلك، وشدّد النكير والوعيد على من (6) فعل (7) ذلك، وسَدَّ الذرائع المؤدية إلى ذلك، فقال: «اشتدّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (8) ، فلا تتخذوا القبور مساجد، إني (9) أنهاكم عن ذلك» (10) . وقال:«لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم (11) وصالحيهم مساجد» (12) ، وقال:«اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد» (13) ، ولهذا بالغ المسلمون في سدّ الذريعة في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَعلَوْا (14) حيطان تربته، وسَدُّوا المداخلَ إليها، وجعلوها مُحْدِقَةً بقبره - صلى الله عليه وسلم - ، ثم خافوا أن يُتَّخَذَ موضعُ قبرِهِ قِبْلةً -إذْ كان مستقْبَلَ المصلِّين -، فَتُتَصَوَّرُ الصلاةُ إليه بصورةِ العبادة، فَبَنَْوا جدارَيْنِ من ركنيِ القبرِ الشماليَّيْنِ (15) ، وحَرَفُوهما حتى التقيا على زاويةِ مثلَّثٍ من ناحيةِ الشمال، حتى لا يتمكَّنَ أحدٌ مِنْ استقبال قبره، ولهذا الذي ذكرناه كلِّه (16) قالتْ عائشة رضي الله عنها: «وَلَوْلَا (17) ذَلِكَ لَأبْرِزَ (18) قَبْرُهُ». =(2/128)=@
تنبيه: وفي هذه الأحاديثِ ما يَسْتَدِلُّ به مالكٌ - على صحةِ القولِ بسدِّ الذرائع - على الشافعيِّ وغيره مِنَ المانعين لذلك، وهي مستوفاةٌ في الأصول.
129 - وَعَنْهَا وَعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَبَّاسٍ (19) قَالا: لَمَّا نُزِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ على وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ:«لَعْنَةُ اللَّهِ على الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مِثْلَ مَا صَنَعُوا».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «لَمَّا نُزِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - »، يعني: نزَلَ به الموتُ.
و «طَفِقَ»: أخذ وجعل، وهي من أفعال المقَارَبَة، وهي لا بدّ لها من اسم وخبر، إلا أن خبرها يلزم فيه (20) أن يكون فعلاً مجردًا عن «أن»، وقد قدّمنا القول في «عسى»، و«يوشك». &(2/101)&$
__________
(1) في (غ): «على مثل ذلك» بدل: «على من فعل ذلك».
(2) في (ب) و(ح): «آباءهم وأجدادهم».
(3) في (ب): «الصورة».
(4) في (ب): «فعظموها» وفي (غ): «يعظمونها» بلا واو.
(5) في (ح): «من».
(6) قوله: «من " ليس في (ب) و(ح).
(7) في (ب): «إليهم».
(8) هذا المقدار من الحديث جزء من الحديث الآتي بعد قليل بلفظ:«اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد». وهو مستقلّ عن باقي الحديث .
(9) في (ب) تشبه أن تكون: «أي».
(10) شطر الحديث الثاني -: «فلا تتخذوا ..." الخ - جزء من حديث جندب الآتي برقم (427)، وهو مستقل عن شطره الأول: «اشتد ..." الخ .
(11) من قوله: «مساجد، فلا... إلى هنا» في (أ) ليس في (أ).
(12) هو حديث عائشة الآتي برقم (425) لكنه ليس فيه: «وصالحيهم»، وإنما جاءت هذه اللفظة في حديث جندب الآتي برقم (427) هكذا:«ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد».
(13) أخرجه الإمام مالك في"الموطأ"(1/172رقم85) في قصر الصلاة في السفر،باب جامع الصلاة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، هكذا رواه مالك مرسلاً .
وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/152 رقم7543) و(3/32 رقم11818 طريق محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم، مرسلاً، ليس فيه ذكر لعطاء بن يسار، ولم يذكر شطره الأخير: «اشتد ..." الخ .
وأخرجه البزار في "مسنده" كما في "كشف الأستار" (1/220 رقم440 طريق عمر ابن صُهبان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، به مرفوعًا بتمامه، هكذا موصولاً .
ورواية مالك هي الصحيحة، وبناء عليها فالحديث ضعيف لإرساله .
وأما رواية محمد بن عجلان فشاذة ؛ لأن مالكًا أحفظ منه، ومع ذلك فهي مرسلة أيضًا .
وأما الرواية الموصولة، فهي من طريق عمر بن صُهبان، ويقال: عمر بن محمد بن صُهبان الأسلمي، وهو متروك الحديث كما قال النسائي والأزدي والدارقطني، وقال الإمام أحمد: «لم يكن بشيء، أدركته ولم أسمع منه»، وقال ابن معين: «لا يسوي حديثه فلسًا»، وقال البخاري:«منكر الحديث»، وقال أبو زرعة: «ضعيف الحديث، واهي الحديث»، وقال أبو حاتم: «ضعيف الحديث، منكر الحديث، متروك الحديث»، وقال ابن عدي: «عامة أحاديثه مما لا يتابعه الثقات عليه، والغلبة على حديثه المناكير». اهـ. من "تهذيب الكمال" (21/398-401). وقد وهم أبو عمر بن عبدالبر رحمه الله، فذكر حديث مالك هذا في "التمهيد" (5/41-43)، وانتقد البزار في إعلاله لهذا الحديث، وزعم أن عمر هذا هو عمر بن محمد بن عبدالله بن عمر بن الخطاب الثقة .
ومنشأ الوهم: أن روايته للحديث من طريق البزار جاء فيها هكذا: «... عمر بن محمد، عن زيد بن أسلم»، فلم يتنبه إلى أنه عمر بن محمد بن صُهبان كما جاء مصرَّحًا به في "كشف الأستار»، والله أعلم . لكن شطر الحديث الأول ورد في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - .
فقد أخرجه الحميدي في "مسنده" (2/445 رقم1025)، وأحمد في "المسند" (2/246)، كلاهما من طريق سفيان بن عيينة، عن حمزة بن المغيرة الكوفي، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:«اللهم لا تجعل قبري وثنًا، لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».
وصحح إسناده الشيخ الألباني في "أحكام الجنائز" (ص276).
(14) في (غ): «فأعطلوا».
(15) في (غ): «الشمالين».
(16) قوله: «كله» ليس في (أ).
(17) في (غ): «لولا» بلا واو.
(18) في (أ): «أبرز».
(19) أخرجه البخاري (1/532 رقم435،436) في الصلاة، باب منه، و(6/494 رقم3454) في كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، و(8/140 رقم4444) في كتاب المغازي، باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، و(10/277 رقم5816) في كتاب اللباس، باب الأكسية والخمائص، ومسلم (1/377 رقم532) في كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور .
(20) قوله: «فيه» ليس في (أ)، وفي (ح): «فيها».(2/101)
و «الخميصة»: كساءٌ له أعلام.
130 - وَعَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِاللهِ (1) قَالَ: سَمِعْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ، وَهُوَ يَقُولُ:«إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلاً كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلاً لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً، أَلا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلا فَلا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث جندب: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل "، أي: أبعد عن هذا وأنقطع عنه. وإنما كان ذلك؛ لأن قلبه - صلى الله عليه وسلم - قد امتلأ بما تخلله من محبة الله تعالى وتعظيمه، فلا يتسع لمخالّة غيره، أو لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد انقطع بحاجاته كلها إلى الله، ولجأ إليه في سدِّ خلاّته، فكفاه (2) ووقاه، فلا يحتاج إلى أحد من المخلوقين، وقد تقدم القول في الخلّة والخليل. =(2/129)=@
وقوله:«ولو كنت متخذًا من أمتي (3) خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً»؛ هذا يدل على أن أبا بكر أفضل الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه مخصوص من منح الله، ومن (4) كريم مواهبه،ومن محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له (5) ؛ بما ليس لأحد من بعده، وهذا مذهب أهل السنة أجمعين؛ من السلف الماضين والخلف اللاحقين. &(2/102)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/377 رقم532) في كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور .
(2) في (غ): «وكفاه».
(3) قوله: «من أمتي " سقط من (ح).
(4) قوله: «من» سقط من (غ).
(5) قوله: «له " ليس في (ب).(2/102)
*************
(41) بَابُ ثَوَابِ مَنْ بَنَى للهِ مَسْجِدًا
131 - عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ (1) ؛ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَرَادَ بِنَاءَ الْمَسْجِدِ، فَكَرِهَ النَّاسُ ذَلِكَ، فَأَحَبُّوا أَنْ يَدَعَهُ على هَيْئَتِهِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:«مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ مِثْلَهُ».
وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ عُثْمَانُ: إِنَّكُمْ قَدْ أَكْثَرْتُمْ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِله تَعَالَى - قَالَ بُكَيْرٌ (2) : حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ- بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَمن بَابِ ثَوَابِ مَنْ بَنَى لِلهِ مَسْجِدًا
قوله: «مَنْ بَنَى لِله مَسْجِدًا (3) »)، أي: مخلصًا في بنائه لله تعالى، كما قال في الرواية الأخرى: «يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ».
وقوله: «بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ»: هذه المثليِّة ليستْ على ظاهرها، ولا مِنْ كلِّ الوجوه، وإنما يعني: أنه بنى (4) له بثوابِهِ بناءً =(2/130)=@ أشرَفَ وأعظَمَ وأرفع، وكذلك في الرواية الأخرى: «بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ»، ولم يسمِّه مسجدًا.
وهذا البيتُ هو - والله أعلم- مِثْلُ بيتِ خديجةَ الذي قال فيه: «إنه مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَب»؛ (5) ؛ يريد: مِنْ قَصَبِ الزُّمُرُّدِ والياقوت، ويَعتَضِدُ (6) هذا: بأنَّ أجورَ الأعمال مضاعفةٌ، وأنَّ الحسنة بِعَشْرِ أمثالها، وهذا كما قال في التصدُّقِ (7) بالتمرة: «إِنَّهَا تُرَبَّى حَتَّى تَصِيَر مِثْلَ الجَبَلِ (8) ») (9) ، ولكنَّ &(2/103)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (1/544 رقم 450) في الصلاة، باب: مَنْ بنى مسجدًا، ومسلم (1/378 رقم533) في المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل بناء المساجد والحَثِّ عليها .
(2) الرواية الثانية لحديثِ عثمان - رضي الله عنه - هي مِنْ رواية بُكَيْرِ بن عبدالله الأشَجِّ، عن عاصمِ بنِ عمر بن قتادة، عن عبدالله الخولاني، عن عثمان .
(3) قوله: «من بنى لله مسجدًا " سقط من (ح).
(4) في (ب): «يبني».
(5) هو متفق عليه من حديث أبي هريرة وعبدالله بن أبي أوفى، وسيأتي برقم (2344 ، 2345) في كتاب النبوات، باب فضائل خديجة بنت خويلد .
(6) في (ح): «ويعضد».
(7) في (ح): «المتصدق».
(8) في (ح): «الجبال».
(9) هو حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الآتي في كتاب الزكاة، باب لا يقبل الله الصدقةَ إلا مِنَ الكسبِ الطيِّب .(2/103)
هذا التضعيفَ هو بحسَبِ ما يقترنُ بالفعلِ من الإخلاصِ والإتقانِ (1) والإحسانِ، ولَمّا فهم عثمانُ هذا المعنى، تَأنَّقَ في بناءِ المسجدِ، وحسَّنه، وأتقنه (2) ، وأخلَصَ لله فيه النَّيةَ (3) ؛ رجاءَ أن يُبْنَى له في الجنة قَصْرٌ متقَنٌ مُشْرِفٌ مرفَّعٌ، وقد فَعَلَ الله تعالى له ذلك وزيادةً، رضي الله عنه. =(1/131)=@
*************
(42) بَابُ التَّطْبِيقِ فِي الرُّكُوعِ وَمَا ثَبَتَ مِنْ نَسْخِهِ
132 - عَنِ الأَسْوَدِ وَعَلْقَمَةَ (4) ، قَالا: أَتَيْنَا عَبْدَاللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فِي دَارِهِ، فَقَالَ: أَصَلَّى هَؤُلَاءِ خَلْفَكُمْ؟ فَقُلْنَا: لا، قَالَ: فَقُومُوا فَصَلُّوا، فَلَمْ يَأْمُرْنَا بِأَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ، قَالَ: وَذَهَبْنَا لِنَقُومَ خَلْفَهُ، فَأَخَذَ بِأَيْدِينَا؛ فَجَعَلَ أَحَدَنَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالآخَرَ عَنْ شِمَالِهِ، قَالَ: فَلَمَّا رَكَعَ، وَضَعْنَا أَيْدِيَنَا على رُكَبِنَا، قَالَ: فَضَرَبَ أَيْدِيَنَا، وَطَبَّقَ بَيْنَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ أَدْخَلَهُمَا بَيْنَ فَخِذَيْهِ، فَلَمَّا صَلَّى، قَالَ: إِنَّهُ سَتَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ مِيقَاتِهَا،وَيَخْنُقُونَهَا إِلَى شَرَقِ الْمَوْتَى، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ قَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ، فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِمِيقَاتِهَا، وَاجْعَلُوا صَلاتَكُمْ مَعَهُمْ سُبْحَةً، وَإِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً، فَصَلُّوا جَمِيعًا، وَإِذَا كُنْتُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَلْيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ، وَإِذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ، فَلْيُفْرِشْ ذِرَاعَيْهِ فَخِذَيْهِ، وَلْيَحْنِ، وَلْيُطَبِّقْ بَيْنَ كَفَّيْهِ، فَلَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى اخْتِلَافِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَفي رِوَايَةٍ: وَهُوَ رَاكِعٌ، فَأَرَاهُمْ، وَفِي أُخْرى: فَلَمَّا صَلَّى، قَالَ: هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .
133 - وَعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ (5) ، قال:صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي قَالَ: وَجَعَلْتُ يَدَيَّ بَيْنَ رُكْبَتَيَّ فَقَالَ لِي أَبِي: اضْرِبْ بِكَفَّيْكَ على رُكْبَتَيْكَ قَالَ: ثُمَّ فَعَلْتُ ذَلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَضَرَبَ يَدَيَّ وَقَالَ: إِنَّا نُهِينَا عَنْ هَذَا وَأُمِرْنَا أَنْ نَضْرِبَ بِالأَكُفِّ على الرُّكَبِ.
وَفي رِوَايةٍ: فَقُلْتُ بَيَدِيَّ هَكَذَا، يَعْنِي طَبَقَ بَيْنَهُمَا وَوَضَعْهُمَا بَيْنَ فَخْذَيهِ، فَقَالَ أَبِي: قَدْ كُنَّا نَفْعَلُ هَذَا، ثُمَّ أُمِرْنَا بالرُّكَبِ. وَفِي أُخْرَى: ثُمَّ أُمِرْنَا أَنْ نَرْفَعَ إِلَى الرُّكَبِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنْ بَابِ التَّطْبِيقِ
قوله: «أَصَلَّى هَؤُلَاءِ خَلْفَكُمْ؟»، هذه الإشارةُ إلى الأمراءِ؛ عاب عليهم تأخيرَهَا عن وقتها المستَحَبِّ، ويدلُّ عليه آخرُ الحديث. و«خَلْفَكُمْ»: إشارةٌ إلى موضعهم؛ فكأنه قال: الذين خلفكم، ولم يُرِدْ به أنهم أئمَّتهم؛ إذ قد صلى بهم عبد الله - رضي الله عنه - .
وقوله: «فَلَمْ يَأْمُرْنَا بِأَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ»: اختُلِفَ في صلاةِ الرجلِ وحده أو في بيته.
فذهَبَ بعضُ السلفِ - من أصحابِ ابنِ مسعود، وغيرهم-: إلى أنه تجزئه (6) إقامةُ أهلِ المِصْرِ وأذانُهُم (7) .
وذهب عامَّةُ فقهاء الأمصار: إلى أنه لا بدَّ له (8) من إقامةِ الصلاة، ولا تجزئُهُ إقامةُ أهلِ المصر، ولا يؤذِّن.
واستحبَّ ابنُ المنذر: أن يؤذن ويقيم.
وقوله: «وَذَهَبْنَا لِنَقُومَ خَلْفَهُ، فَأَخَذَ بِأَيْدِينَا؛ فَجَعَلَ أَحَدَنَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالآخَرَ عَنْ شِمَالِهِ»، هذه الكيفيةُ هي مذهبُ ابنِ مسعودٍ،، والجمهورُ: على أنهما يقومان خَلْفه، وسيأتي حديثُ ابن عباس؛ حيثُ أقامه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وجابرَ بنَ عبدالله =(2/132)=@ &(2/104)&$
__________
(1) في (غ): «والإتقان».
(2) قوله: تأنَّق فقي بناء المسجد، وحسَّنه، وأتقنه»، لا يفهم منه زخْرفة المساجد؛ فقد قال عمر - رضي الله عنه - حين أمر البَنَّاء أن يبنى المسجد النبوي: «أَكِنَّ الناسَ من الحَرِّ والقَرِّ، وإيَّاكَ أن تُحَمِّرَ أو تُصَفِّرَ؛ فتفتنَ الناسَ». [تراجع المسألة]
(3) قوله: «النية " ليس في (ب) و(ح).
(4) أخرجه مسلم (1/378-380 رقم534) في المساجد ومواضع الصلاة، باب الندب إلى وضع الأيدي على الرُّكَبِ في الركوع ونَسْخِ التطبيق .
(5) هو مصعب بن سعد بن أبي وقاص، والحديث أخرجه البخاري (2/473 رقم790) في الأذان، باب وضع الأكفِّ على الرُّكَبِ في الركوع، ومسلم (1/380 رقم535/29،30،31) في المساجد ومواضع الصلاة، باب الندب إلى وضع الأيدي على الركب في الركوعِ ونَسْخِ التطبيق .
(6) في (ب): «يجزئه».
(7) كما يدل عليه حديث الباب، وانظر لمعرفة من ذهب إلى ذلك: «المصنف" لعبدالرزاق (1/511-513)، و"المصنف" لابن أبي شيبة (1/199-200)، و"الأوسط" لابن المنذر (3/58-60).
(8) قوله: «له» سقط من (ح).(2/104)
خلفه (1) .
ولا خلافَ: أنهم إذا كانوا ثلاثةً، قاموا خلفه، فإنْ كان واحدًا قام عن يمينه على مذهبِ كافَّةِ العلماء، وحُكِيَ عن ابنِ المسيِّب: أنه يقومُ عن شماله؛ لحديثِ صلاةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر في مرضه، كما تقدَّم (2) . وما ذَكَرَ من تشبيكِ اليديَنْ وتطبيقهما بين الفَخِذَيْن: هو مذهبُ ابن مسعود وأصحابِهِ خاصَّةَ، وهو صحيحٌ من فعلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، إلا أنه منسوخٌ كما ذكَرَ في حديث سعد بن أبي وَقَّاص (3) ، ولم يَبْلُغ ابنَ مسعودٍ نسخُهُ - والله أعلم- و على نسخ التطبيقِ كافَّةُ العلماءِ غير من ذكر.
وقوله: «سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ»، هذا وقَعَ في بني أمية، وكذلك أخَّر عمر بن عبد العزيز العَصْرَ، فدخَلَ عليه عروةُ بن الزُّبَيْر، فأنكَرَ عليه (4) .
وهذا الحديثُ: من أدلَّة نبوَّة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ؛ إذ قد أخبَرَ عن شيء من الغَيْب، فوقَعَ على نحو ما أخبَرَ،، وكأنَّ بني أميةَ كانوا قد ذَهَبوا إلى أنَّ تأخيرَ الصلاةِ إلى آخِرِ وقتِ توسعتها أفضلُ، كما هو قياسُ قولِ أبي حنيفة؛ حيثُ قال: إنَّ آخرَ الوقتِ هو وقتُ الوجوب. &(2/105)&$
__________
(1) سيأتي حديث جابر - رضي الله عنه - في النبوات، باب ذكر بعض كرامات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حال هجرته وفي غيرها، وهو حديثٌ طويل، وفيه يقول جابر: ثم جئتُ حتى قمتُ عن يسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأخذ بيدي، فأدارني حتى أقامني عن يمينه، ثم جاء جَبَّار بن صَخْر فتوضَّأ، ثم جاء، فقام عن يسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأخذ بِيَدَيْنَا جميعًا، فَدَفَعَنَا حتى أقامنا خلفه ... الحديث .
وأما حديث ابن عباس، فسيأتي في كتاب: الصلاة، باب: كيفية صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالليل، وتبتُّله ودعائه، وفيه: «فقمتُ عن يساره، فأخَذَ بيدي، فأدارني عن يمينه»، وليس فيه أنَّ معه أحدًا، وأنه - صلى الله عليه وسلم - أقامهما خلفه. وسيأتي حديث أنس في هذا المعنى في كتاب: الصلاة، باب: صلاة النفل في جماعة، والصلاة على البسط وإنْ عَتُقَتْ وامْتُهِنَتْ، وفيه: «وصَفَفْتُ أنا واليتيمُ وراءه، والعجوزُ مِنْ ورائنا ...» الحديث.
(2) في (ح): «على ما تقدَّم». والحديث تقدَّم في كتاب الصلا، باب: استخلاف الإمام إذا مرض، وجواز ائتمام القائم بالقاعد.
(3) وهو الحديث الآتي عن معصب بن سعد، عن أبيه سعد بن أبي وقَّاص - رضي الله عنه - .
(4) أخرجه البخاري (2/3 رقم521) في مواقيت الصلاة، باب مواقيت الصلاة وفضلها، و(6/305 رقم 3221) في بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، و(7/317 رقم4007) في المغازي، باب منه .(2/105)
وقوله: «يَخْنُقُونَهَا إِلَى شَرَقِ الْمَوْتَى»، أي: يضيِّقون وقتها، ويَتْرُكُون أداءها إلى ذلك الحِينِ، يقال: هم في خِنَاقٍ من كذا، أي: في ضِيقٍ منه:
قال =(2/133)=@ أبو عُبَيْد: «سئل الحَسَنُ بنُ محمَّدِ بنِ الحنفيَّة عن هذا الحديث؟ فقال: ألم تر إلى الشَّمْس إذا ارتفَعَتْ عن الحِيطَانِ، وصارَتْ بين القبور وكأنَّها (1) لُجَّة، فذلك شَرَقُ المَوْتَى» (2) .
وقال الهرويُّ في تفسير «شَرَقِ المَوْتَى» (3) : «قال ابن الأعرابي: فيه معنيان:
أحدهما: أنَّ الشمسَ في ذلك الوقتِ (4) إنَّما تثبُتُ ساعةً (5) ، ثم تَغِيب، فشبَّه قِلَّةَ ما بقي من الوَقْت (6) ببقاء تلك الساعة (7) .
والثاني: شَرَقُ الميِّت بِرِيقِهِ (8) ؛ فشبَّه قِلَّةَ ما بقي من الوقت (9) بما بقي من حياةِ مَنْ شَرِقَ بِرِيقِهِ، حتى تخرج رُوحُهُ (10) .
وقيل: شَرَقُ الموتى: إذا ارتفعَتِ الشمسُ.
وقيل: هو (11) اصفرارُ الشمس عند (12) غروبها.
وقوله: «وَاجْعَلُوا صَلاتَكُمْ مَعَهُمْ سُبْحَةً»، أي: نافلةً (13) ؛ وهذا لما يُخْشَى مِنْ أذاهم، ومِنَ المخالفةِ عليهم.
وقوله: «وَلْيَحْنِ»، روايةُ العُذْرِيِّ بضم النون، من: «حَنَوْتُ العُودَ»: إذا عطفتَهُ، ورواية أكثرِ الشيوخ: «وَلْيَحْنِ» بكسر النون، من: «حَنَيْتُ العُودَ»، وهما =(2/134)=@ لغتان، وعند الطبري: «فَلْيَجْنَأْ (14) ») بالجيم، وفتح النون، وبهمزِ آخرِهِ (15) ، وكلُّها صحيحٌ.
والمراد به: الانحناءُ في الركوع، وهو تَعَقُّفُ الصُّلْبِ، يقال: حَنَا على الشيءِ يَحْنُو حُنُوًّا (16) بالحاء، وجَنَأَ يَجْنَأُ جَنَأً وجُنُوءًا بالجيم والهَمْز (17) : إذا فعَلَ ذلك.
وأصلُ الركوعِ ما هو ذلك؟ في لغة العرب: الخضوعُ والذِّلَّةُ (18) ؛ قال شاعرهم:
وَلَا (19) تُعَادِ الْفَقِيرَ عَلَّكَ أَنْ ... تَرْكَعَ يَوْمًا والدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ (20)
ثم هو في الشرع عبارة عن التذلل بالانحناء، وأقلُّه عندنا تمكين وضع اليدين على الركبتَيْنِ منحنيًا، وهو الواجبُ.
وهل الطمأنينةُ واجبةٌ، أو ليستْ بواجبةٍ؟ قولان.
وعند أبي حنيفة: الواجبُ منه: أقلُّ ما ينطلقُ عليه اسمُ (21) المنحني؛ والحديثُ الصحيحُ يُردُّ عليه، على ما يأتِي، إنْ شاء الله. =(2/135)=@ &(2/106)&$
__________
(1) في (غ): «كأنها» بلا واو.
(2) انظر: «غريب الحديث" لأبي عبيد (1/329)، وزاد فيه: «قال أبو عبيد: يعني: أن طلوعها وشروقها إنما هو تلك الساعةَ للموتى دون الأحياء، يقول: إذا ارتفعْتَ عن الحيطان، ظننتَ أنها قد غابت، فإذا خرجْتَ إلى المقابر، رأيتَهَا هناك»، وهذا أحد تفسيرين ذكرهما أبو عبيد، والثاني هو الثاني في كلام ابن الأعرابي الآتي. وانظر أيضًا في: تفسير الحسن بن محمد بن الحنفية منسوبًا إلى: «الغريبين» للهروي (3/993)، قال: «وهذا وجه ثالث»، يعني غير وجهي ابن الأعرابي الآتيتين في كلام الهروي، و"الفائق" (2/231)، و"تهذيب اللغة" (8/251)، و"النهاية" (2/465)، و"اللسان" (10/179)، و"التاج" (25/499)، وانظره بلا نسبة في "المحكم" (6/165)، و"غريب ابن الجوزي" (1/533).
(3) قوله: «شَرَقُ الموتى» ورد في حديثين:
الأول: حديث أنه ذكر الدنيا فقال: «إنما بقي منها كشرق الموتى».
الثاني: حديث الباب، حديث ابن مسعود: ستكون عليكم أمراء يؤخَّرون الصلاة عن ميقاتها، ويخنقونها إلى شَرَقِ الموتى».
وبعض أهل اللغة والغريب يذكر معاني قوله: «شرق الموتى» في الحديثين، وبعضهم يقتصر على أحدهما.
والهروي في "الغريبين" (3/992- 993) ذكر كلام ابن الأعرابي الآتي في سياق شرح حديث الدنيا وأنه إنما بقي منها كشرق الموتى، وذكر أيضًا حديث الباب وذكر فيه ما قاله الحسن بن محمد بن الحنفية.
(4) يعني: وقت آخر النهار؛ كما في "النهاية" (2/465).
(5) قوله: «تثبت» في "الغريبين": «تلبث».
(6) في (أ): و"الغريبين" «من الدنيا».
(7) وانظر هذا التفسير أيضًا في: «تهذيب اللغة" (8/251)، و"النهاية" (2/465)، و"اللسان" (10/179)، و"التاج" (25/499).
(8) زاد في "الغريبين": «حين تخرج نفسه».
(9) قوله: «من الوقت» في "الغريبين": «من الدنيا».
(10) زاد أبو عبيد في "غريبه" (1/330) قال: «فأراد أنهم كانوا يصلُّون الجمعة، ولم يبق من النهار إلا بقدر ما بقي من نَفْسِ هذا الذي قد شرق بريقه)، أراد: فوت وقتها، وعند غير أبي عبيد لم تقيَّد الصلاة بالجمعة أو بغيرها، بل أطلق. انظر "الصحاح" (4/1501)، و"التاج" (25/499)، وانظر أيضًا: هذا التفسير الثاني: «تهذيب اللغة" (8/251)، و"المحكم" (6/165)، و"غريب ابن الجوزي" (1/533)، و"النهاية" (2/465)، و"اللسان" (10/179).
(11) قوله: «هو " سقط من (ح).
(12) في (ح): «قبل».
(13) قال ابن الأثير: «قد يطلق [التسبيح] على صلاة التطوُّع والنالة، ويقال أيضًا: للذكر ولصلاة النافلة، سُبْحَة، يقال: قَضَيْتُ سُبْحَتِي، والسُّبْحَةُ من التسبيح، كالسُّخْرة من التسخير، [والعَرْضَة من التعريض، والمُتْعَة من التمتيع]، وإنما خُصْتِ النافلة بالسُّبْحة – وإن شاركتها الفريضة في معنى التسبيح – لأنَّ التسبيحات في الفرائض نوافلُ؛ فقيل لصلاة النافلة: سُبْحضة؛ لأنها نافلةٌ كالتسبيحات والأذكار في أنها غير واجبة، وقد تكرَّر ذكر السُّبْحة في الحديث كثيرًا».اهـ. من "النهاية" (2/331)، وفي "اللسان" (2/474): أن الصلاة سميت تسبيحًا؛ لأن التسبيح: تعظيم الله وتنزيهه عن كل سوء.اهـ.
وانظر: «غريب أبي عبيد" (1/330)، و"الفائق" (2/147)، و"التاج" (6/448- 449).
(14) في (ح): «فليجن».
(15) في (غ): «وبهمزة آخره».
(16) ضبطت في (ب): «حَنْوًا»، وهذا تصريف الفعل اللازم: «حنا الشيء يحنو حَنْوًا». انظر "لسان العرب" (14/202-203).
(17) في (أ): «والهمزة». ... ...
(18) البيت من المنسرح، وهو للأضبط بن قُرَيْع السَّعْدي في "البيان والتبيان" للأصفهاني (18/134)، و"شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي (ص1151)، و"شرح التصريح" (2/208)، "شرح شواهد الشافعية" (ص160)، و"الشعر والشعراء" (1/390)، و"خزانة الأدب" (11/450- 452)، و"تاج العروس" (ركع)، بلا نسبة في "الكامل" للمبِّرد (1/271)، و"الصحاح" (6/2218)، و"المفصَّل" (ص459)، و"غريب الحديث" للخطابي (2/195)، و"أساس البلاغة" (2/250)، و"العقد الفريد" (2/154)، و"الإنصاف، في مسائل الخلاف" (1/221)، و"مغني اللبيب" (1/206، 842)، و"أوضح المسالك الخلاف" (1/221)، و"مغني اللبيب" (1/206، 842)، و"أوضح المسالك" (4/111)، و"شرح ابن عقيل" (3/318)، و"همع الهوامع" (1/488)، (2/618)، و"اللسان" (6/184)، و(8/133)، (13/438)، و"رصف المباني" (ص249، 373، 374)، و"شرح الأشموني" (2/504)، و"شرح الشافية" (2/32)، و"المقرَّب" (2/18)، و"تاج العروس" (هون).
وهذا البيت آخر أبيات للأضبط أوردها له القالي في «أماليه» وغيره، ومطلعها:
لكلِّ هَمٍّ من الهموم سَعَهْ ... والمُسْيُ والصُّبْحُ لا فَلَاحَ مَعَهْ
ومنها قوله:
قد يَجْمَعُ المالَ غَيْرُ آكِلِهِ ... ويَأْكُلُ المالَ غَيْرُ مَنْ جَمَعَهْ
فاقْبَلْ من الدَّهْرِ ما أتاك بِهِ ... مَنْ قَرَّ عَيْنًا بعيشِهِ نَفَعَهْ
وَصِلْ حِبَالَ البَعيد إنْ وَصَلَ الْ ... ـحَبْلَ وأَقْصِ القريبَ إنْ قَطَعَهْ
ولا تُعَادِ الفقيرَ............... ... .......................... البيتَ
ويُرْوَى: «لَا تَحْقِرنَّ الفقير»، و«وَلا تُهِينَ الفقير)، و«فلا تُهِينَ الكريمَ»، ومعنى: «لا تُهِينَ الفقِيرَ» أي: لا تستحقْرهُ، يقال: استهان به وتهاونَ به، إذا استحقره، وهو مأخوذٌ من الإهانة الإيقاعُ في الهُونِ بالضم، والهَوَانِ بالفتح، وهما بمعنى الذلِّ والحَقَارة،، و«عَلَّ» بفتح اللام وكسرها: لغةٌ في لَعَلَّ، وهي هنا بمعنى عَسَى، وفي «لعل» ثلاث عشرة لغةً ذكرها السيوطي في "همع الهوامع" (1/488).
واستشهد بهذا البيت في كتب التفسير عند قوله تعالى: {واركعوا مع الراكعين} [البقرة: 43] على أن الركوعَ هو الخضوعُ والانقياد، كما في البيت.
وقال العَيْنِيُّ: الركوع: الانحناءُ والمَيْلُ، مِنْ ركَعَتِ النَّخْلَةُ: إذا انحنَتْ ومالت، أراد به: الانحطاطَ من المرتبة، والسُّقوط من المنزلة، ونقل الشيخ خالد الأزهري في "التصريح" أنَّ هذا الشعر قيل قبل الإسلام بخمسمائة عام. انظر: «خزانة الأدب" (11/454).
(19) في (ب) و(ح) و(غ): «لا» بلا واو.
(20) في "الصحاح" (3/1222): «الركوع: الانحناء، ومنه: ركوع الصلاة، وركَعَ الشيخ: انحنى من الكبر»، وفي "اللسان" (8/133): (يقال: ركَعَ الرجلُ: إذا افتقَرَ بعد غِنًى وانحطَّتْ حاله؛ وقال:
ولا تهينَ الفقير عَلَّكَ أن ... تركعَ يومًا الدهر قد رفَعَهُ
(21) في (ح): «الاسم».(2/106)
*************
بَابُ
134 - عَن طَاوُس (1) ، قَالَ: قُلْنَا لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي الإِقْعَاءِ على الْقَدَمَيْنِ؟ فَقَالَ: هِيَ السُّنَّةُ، فَقُلْنَا لَهُ: إِنَّا لَنَرَاهُ جَفَاءً بِالرَّجُلِ؟! فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلْ هِيَ سُنَّةُ نَبِيِّكَ - صلى الله عليه وسلم - .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقولُ ابنِ عباس في الإقعاء: «هِيَ السُّنَّةُ».
قال أبو عبيد (2) : «الإقعاءُ (3) : هو أن يُلْصِقَ الرجلُ أَلْيَتَيْهِ (4) بالأرض، وَيَنْصِبَ ساقيه، ويضعَ يَديْهِ بالأرضِ كما يفعلُ الكَلْب». قال: «وفي تفسيرِ الفقهاء: أن يضع أَلْيَتَيْهِ (5) على عقبَيْهِ بين السَّجْدتين.
وقال ابن شُمَيْل: «الإقعاءُ: أن يَجْلِسَ على وَرِكَيْه، وهو الاحْتِفازُ، والاسْتِيفَازُ (6) .
وحُكِيَ عن الثعالبيِّ أنه قال (7) - في أشكالِ الجلوسِ عن (8) الأئمة-: إنَّ الإنسان إذا ألصَقَ عقبيه بأَلْيَتَيْه، قيل: أَقْعَى، وإذا استوفَزَ في جلوسه كأنه يريد أن يثور للقيام، قيل: احْتَفَزَ، واقْعَنْفَزَ، وقعد القُنْفُزَاء (9) ، فإذا ألصق (10) أَلَيْتَيْه (11) بالأرض، وتوسَّد ساقيه، قيل: قرطش» (12) ؛ كذا وقع (13) ، وصوابه: فَرْشَطَ (14) بالفاء، وتقديم الشين المعجمة، والطاء المهملة، وقد ذكره أبو عبيد في "المصنِّف" (15) .
قال القاضي عياض (16) : والأشبَهُ عندي - في تأويلِ الإقعاءِ الذي قال فيه ابنُ عباس - رضي الله عنه - إِنَّه من السُّنِّةِ -: الذي فسَّره به الفقهاء؛ مِنْ (17) وضعِ الأَلْيَتَيْن على العقبين بين السجدتَيْنِ، وكذا جاء مفسَّرًا عن ابن عباس: من السنة أن تُمِسَّ عَقِبَيْكَ أَلْيَتَيْكَ»، وقد روي عن جماعة من السلف والصحابة: أنهم &(2/107)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/380-381 رقم536) في المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز الإقعاء على العقبين .
(2) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(3) هذا التعريف للإقعاء هو تعريف أبي عبيدة معمر بن المثنى نقله عنه أبو عبيد في "غريب الحديث" (2/108)، قال: «وأما الإقعاء: فهو الذي جاء فيه النهي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُفْعَلَ في الصلاة، فقد اختلف الناس فيه، فقال أبو عبيدة...». وذكره، ثم قال أبو عبيد - بعد ذكر تفسير الفقهاء الآتي في كلام الشارح-. «وقول أبي عبيدة أشبه بكلام العرب، وهو معروف عند العرب، وذلك بيِّن في بعض الحدي، أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يقعي الرجل كما يقعي السبع، ويقال: كما يقعي الكلب، فليس الإقعءا في السباع إلا كما قال أبو عبيدة» وانظر: «الإكمال» ( ).
(4) في (غ): «أليته».
(5) في (غ): «أليته».
(6) انظر كلام النضر بن شميل في "تهذيب اللغة" (3/22)، (4/216)، و"غريب الحديث" لابن الجوزي (1/221)، و"الإكمال" ( )، و"مشارق الأنوار" (2/191)، و"تفسير غريب ما في الصحيحين" للحميدي (ص172، 269)، و"اللسان" (15/192)، و"التاج" (39/325).
(7) في كتابه: «فقه اللغة، وسر العربية" (1/326)، وقد نُقِلَ قول الثعالبي أيضًا أو بعضه عنه في "المعلم" ( )، وعنه القاضي في "الإكمال".
(8) في (ب) و(ح):«على».
(9) في «الإكمال» و"فقه اللغة": «وقَعَدَ القَنْفَزَى».
(10) في (ح): «لصق».
(11) في (غ): «أليته».
(12) في (أ) و"الإكمال" ( ): «قرطس».
(13) وقع في المطبوع من "فقه اللغة" على الصواب: «فَرْشَطَ»، وقال: القاضي في "الإكمال" – بعد نقل كلام الثعالبي عن "المعلم"- قال: «الذي قرأته في كتاب الثعالبي في هذا الحرف: «فَرْشط» بالفاء وتقديم الشين المعجمة على الطاء، وكذا ذكره أبو عبيد في "المصنِّف" في هيئة هذه الجلسة المذكورة، وأرى ما وقع في "المعلم" من ذلك تغييرًا من النقلة أو ممَّن شاء الله.
والعجيب من الشارع رحمه الله أنه لم يتنبه لذلك، أو أنه لم يقف على كلام القاضي، وهذا بيعد!
(14) انظر: «لسان العرب" (7/371).
(15) انظر: «الغريب المصنَّف" لأبي عبيد (3/708 تحقيق د/محمد المختار العبيدي)، وذكر فيه المعنى الذي ذكره الشارح عن الثعالبي، لكنْ حكاه عن الفراء.
(16) في "الإكمال" ( )، ونقله عنه أيضًا: القرطبي في "تفسيره" (1/362).
(17) قوله: «من " سقط من (ب).(2/107)
كانوا يفعلونه، ولم يَقُلْ بذلك عامَّةُ فقهاءِ (1) الأمصار، وسَمَّوْه: إقعاءً (2) .
ووافقَ الشافعيُّ مالكًا في كراهة (3) ذلك بين السجدتّيْن، وخالفه في استعمالِ ذلك عند الرفعِ من السجدةِ الثانيةِ للقيام، فأجازَهُ، وقال: ليس ذلك بإقعاء.
وإلى ذلك ذَهَبَ جماعةٌ من أصحاب الحديث (4) ؛ متمسِّكين بحديث مالك بن الحويرث: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كان في وتْرٍ =(2/136)=@ من صلاته، لم يَنْهَضْ حتى يستوي قاعدًا (5) . ومنع ذلك كافَّةُ الفقهاء، ولعلَّهم رأوه من الإقعاءِ المكروه، وحديثُ مالكِ بن الحويرثِ لعلَّه لعذرٍ أوجَبَ ذلك، أو: ليبيِّن (6) ») أنه ليس بحرامٍ.
و قوله: «إِنَّا لَنَرَاهُ جُفَاءً بِالرَّجُلِ»؛ كذا صحَّت روايتنا (7) فيه: بفتح الراء، وضم الجيم، وقيَّده أبو عمر بن عبد البر بكسر الراءِ، وسكونِ الجيم، وكان يقول: من قال: «بِالرَّجُلِ» فقد صحَّف، ولا معنَى له (8) ، قال القاضي (9) : «والأوجه عندى روايةُ الجماعة؛ ويَدُلُّ عليه: إضافةُ الجَفَاءِ (10) إليه في جِلْستِهِ المكروهةِ عند العلماء، وأما الرِّجْلُ: فلا وَجْهَ له».
*************
(43) باب نسخ الكلام في الصلاة
135 - عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ (11) قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقُلْتُ: وَا ثُكْلَ أُمَّاهْ، مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ على أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ. فَوَاللَّهِ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالإِسْلامِ، وَإِنَّ مِنَّا رِجَالاً يَأْتُونَ الْكُهَّانَ، قَالَ فَلا تَأْتِهِمْ قَالَ: وَمِنَّا كَهَرَنِي وَلا ضَرَبَنِي وَلا شَتَمَنِي، ثُمَّ قَالَ:«إِنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» - أَوْ كَمَا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ، قَالَ:«ذَلِكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ فَلا يَصُدَّنَّهُمْ»- وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاحِ:«فَلا يَصُدَّنَّكُمْ " (12) ، قَالَ: قُلْتُ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ قَالَ:«كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ، فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ»، قَالَ: وَكَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ وَالْجَوَّانِيَّةِ، فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا الذِّيبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلا أُعْتِقُهَا؟ قَالَ:«ائْتِنِي بِهَا»، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ لَهَا :«أَيْنَ اللَّهُ؟» قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ:«مَنْ أَنَا؟» قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب نسخ الكلام في الصلاة
قوله: «واثكل أمياه!»؛ الثكل: الْحُزْن لفقد الولد. والمرأة الثكلى: الفاقدة لولدها، الحزينة عليه. و " أمياه" مضاف إلى ثكل (13) ، وكلاهما منادى (14) مندوب؛ كما =(2/137)=@ قالوا: وأمير المؤمنيناه ! و أمياه أصله: «أمي" زيدت (15) عليها الألف لمدّ الصوت، وأردفت بِهَاءِ السَّكْت الثابتة في الوقف، المحذوفة في الوصل. &(2/108)&$
__________
(1) قوله: «فقهاء» سقط من (غ).
(2) زاد في " الإكمال" : «وأجروا الجلوس فيها [أي فيما بين السجدتين] مجرى الجلوس في التشهد على أختلافهم فيه»، وقال المازري في "المعلم" ( ... ): «لعل ابن عباس لم يعلم ما ورد في الأحاديث الناسخة التي فيها النهي عن الإقعاء»، ونقله عنه القاضي في "الإكمال" ( ... ).
(3) في (ح): «كراهية».
(4) قوله: «فأجازه..» إلى هنا مكانه في "الإكمال": «فرأى الشافعي في جماعة من أصحاب الحديث: أنه يرجع جالسًا على قدميه يسيرًا، ثم ينهض للقيام، قال: وليس ذلك إقعاءً».
(5) أخرجه البخاري (2/163، 288، 300، 303 رقم677، 802، 818، 824) في الأذان، باب من صلَّى بالناس وهو لا يريد إلا أن يعلِّمهم صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته، وباب الطمأنينة حين يرفع رأسه من الركوع، وباب المكث بين السجدتَيْنِ، وباب كيف يعتمدُ على الأرض إذا قام من الركعة.
(6) قوله: «وضع ذلك كافَّة الفقهاء» إلى هنا في «الإكمال»: «وقال مالك في كافَّة الفقهاء – سفيان، وأحمد، وإسحاق وأصحاب الرأي: لا يجلس، ولكن ينهض كما هو، وحملوا حديث ابن الحويرث أنه كان مرةً من نقله؛ ليدل على جواز ذلك، لشكوى به».اهـ.
(7) في (ح): «الرواية»، ثم صوبت بالهامش إلى «روايتنا».
(8) نقل ذلك القاضي عياض عن شيخه أبي علي الغساني، عن شيخه أبي عمر بن عبد البر. انظر: «الإكمال" ( ... ... )، وقد نقل النووي في "شرح مسلم" (5/19) كلام القاضي وأيَّد أن الصواب مع القاضي والجمهور دون ابن عبد البر، وكذلك السيوطي في "التطريف، وفي التصحيف" (ص37) نقل ما ذكره القاضي وسكت عنه مقرًّا له؛ فقد حكى في "الديباج" (2/412)؛ أن الجمهور لم يصوبوا ضبط ابن عبد البر، وكذلك في "عون المعبود" (3/56)، نقل كلام النووي وسكت عنه،، وهكذا يذكر غير واحد من شراح الحديث كلام القاضي أو النووي، ويسكتون عنه.
لكنني وجدت الحافظظ ابن حجر رحمه الله قال في "التلخيص الحبير" (1/258) بعد نقل ضبط ابن عبد البر وكلام النووي – قال: «ويؤيِّد ما ذهب إليه أبو عُمَرَ: ما روىَ أحمد في "مسنده" في هذا الحديث بلفظ: «جَفَاء بِالقَدَمِ»، ويؤيِّد ما ذهب إليه الجمهورُ: ما رواه ابن أبي خَيْثمة بلفظ: «لنراه جَفَاءً بِالمَرْءِ»، فالله أعلم بالصواب».اهـ. وقد ذكر المباركفوري في "تحفة الأحوذي" (2/138)، كلام الحافظ، ولم يتعقَبه بشيءٍ.
قلتُ: تتوقَّف معرفة الصواب في ذلك على درجة الحديث صحة وضعفًّا في رواية أحمد وابن أبي خيثمة، فليحرَّر ذلك. [يراجع الشيخ سعد]
(9) معنى "جفاء الرَّجُلِ": غلظ الطبع، وترك الصلة والبر. انظر: «تحفة الأحوذي" (2/139)، و"اللسان" ( ... )، و"التاج" ( ... )،، ومعنى «جَفَاء الرِّجْل»:
انظر: « " ( ... )
(10) يعني: عياضًا، وانظر كلامه في "الإكمال" ( ... )، وانظر: «التطريف" (ص37).
(11) أخرجه مسلم (1/381 رقم537) في المساجد مواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة .
(12) روى مسلم هذا الحديث عن شيخين من شيوخه، وهما: محمد بن الصَّبّاح وأبو بكر ابن أبي شيبة، وذكر أنهما تقاربا في لفظ الحديث، وبيّن أن ابن الصباح قال في لفظه: «فلا يصدنكم»، وأن ابن أبي شيبة قال: «فلا يصدهم "- أو: «لا يصدنهم " على ما في النسخ من الاختلاف -.
(13) قوله: «ثكل " سقط من (ح).
(14) قوله: «منادى " سقط من (ح).
(15) في (ح): «زيد».(2/108)
وقوله (1) : «فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم "، يعني: يُسَكِّتونه. يحتمل أن يكون هذا الفعل منهم قبل نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التصفيق، والأمر بالتسبيح. قلت (2) : ويحتمل أن يقال: إنهم فهموا أن التصفيق المنهي عنه: إنما هو ضرب الكَفّ على الكَفّ، أو الأصابع على الكف، ويبعد أن يُسَمّى من ضرب على فخذه وعليها ثوب: مُصَفِّقًا - والله أعلم -؛ ولذلك قال: فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم (3) ". ولو كان هذا يسمى (4) ، لكان الأقرب في لفظه أن يقول: يصفِّقون لا غير.
وقوله: «فما كَهَرَني»، أي (5) : فما انتهرني. والكَهْرُ: الانتهار، قاله أبو عبيد. وفي قراءة عبدالله بن مسعود : {فأما اليتيم فلا تكهر} (6) ، وقيل: الكَهْرُ: العبوس في وجه من تلقاه.
وقوله:«إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس»؛ يدل على منع الكلام في الصلاة، و على منع تشميت العاطس فيها، وهو مُتَمَسَّكٌ لمن =(2/138)=@ منع الدعاء في الضلاة بغير ألفاظ القرآن كما قدّمناه، ويعتضد بقوله: «إنما هي التسبيح والتكبير، وقراءة القرآن "؛ لأن (7) إنما للحصر، وينفصل عنه بما يثبت (8) من تخصيص هذا الحديث بدعائه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة على أقوام بأعيانهم كما سيأتي (9) ، وقد كان الكلام مباحًا في الصلاة حتى تقرر نسخه كما جاء في حديث زيد بن أرقم (10) . ولا يختلف: في أن الكلام العمد الذي لا يقصد به إصلاح الصلاة، ولا صَدَرَ من جاهلٍ بمنعه يفسد الصلاة. واختُلف فيه سهوًا، وعمدًا للإصلاح، &(2/109)&$
__________
(1) في (ح): «قوله».
(2) في (ب): «قال المؤلف رحمه الله».
(3) قوله: «يعني يسكتونه ...." قبل أسطر إلى هنا سقط من (ح).
(4) في (ب) و(ح): «سمي هذا».
(5) قوله: «أي " سقط من (ح).
(6) سورة الضحى، الآية: 9.
وأثر ابن مسعود هذا أخرجه ابن جرير في "تفسيره" (24/489 طريق شيخه محمد بن حميد الرازي، عن مهران بن أبي عمر، عن سفيان الثوري، عن منصور، عن مجاهد : { فأما اليتيم فلا تقهر } قال: تغمصه وتحقره، وذكر أن ذلك في مصحف عبدالله : { فلا تكهر }.
وسنده ضعيف جدًّا، فمحمد بن حميد الرازي متهم بالكذب كما يتضح من ترجمته في "تهذيب الكمال" (25/97-108)، ومهران بن أبي عمر الرازي صدوق له أوهام، سيء الحفظ كما في "التقريب" (6982)، ومجاهد لم يسمع من ابن مسعود كما في "المراسيل" (ص205) لابن أبي حاتم .
وقد يكونمحمد بن حميد قد توبع، فيبقى الحديث ضعيفًا للتعلتين الأخريين ؛ فقد ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (8/545) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وابن المنذر .
(7) قوله: «لأن " سقط من (ح).
(8) في (ب): «ثبت».
(9) في باب ما جاء في القنوت والدعاء للمعيَّن وعليه في الصلاة، الأحاديث (564-567).
(10) هو الآتي برقم (434).(2/109)
وجهلاً؛ فقال الكوفيون: تفسد الصلاة بالكلام كيفما وقع، والجمهور على خلافهم. وسبب الخلاف: هل الامتناع من الكلام شرط مطلقًا، أو هو شرط في بعض الأحوال دون بعض؟ والصحيح مذهب الجمهور؛ بدليل ما روي في هذا الحديث: من أن معاوية تكلم في الصلاة جاهلاً بحكم ذلك، ثم لما فرغ أعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحريم الكلام، ولم يأمره بالإعادة. لى اذا كان ذلك في الجاهل، فالناسي أولى بذلك؛ إذ هو غير مقصِّر ولا ملوم. وأما الكلام لإصلاح الصلاة، فقد صحَّت فيه الأحاديث على ما يأتي إن شاء الله (1) . وأما تشميت العاطس، فهو كلام مع مخاطب عمدًا [فيفسد] (2) الصلاة، وأما تحميده [هو] (3) بنفسه، فروي عن ابن عمر (4) والشعبي وأحمد أنه يحمد الله ويجهر به، ومذهب مالك والشافعي: أن (5) يحمد الله، ولكن سرًّا في نفسه.
وقوله: «ومنا رجال يأتون الكُهَّان "، الكُهَّان: جمع كاهن؛ ككاتب وكُتَّاب (6) . والكاهن: الذي يتعاطى علم ما غاب عنه. وكانت الكهانة في الجاهلبة في كثير من الناس [شائعة فاشية] (7) ، وكان أهل الجاهلية يترافعون إلى الكهان في وقائعهم وأحكامهم، ويرجعون إلى أقوالهم، كما فعل عبدالمطلب؛ حيث أراد ذبح ابنه عبد الله في نذر كان نذره، فمنعته (8) عشيرته من ذلك، وَشَرِيَ أَمْرُهُم (9) حتى =(2/139)=@ ترافعوا إلى كاهن معروف عندهم (10) ، فحكم بينهم بأن يفدوه بمائة من الإبل، على ترتيبٍ ذُكِر في السيرة (11) ، وإنما كان الكاهن يتمكن من التكهن بوساطة (12) تَابِعِه من الجن، وذلك أن الجني كان يسترق السمع، فيخطف الكلمة من الحق (13) [من الملائكة] (14) ، فيخبر &(2/110)&$
__________
(1) في باب من سلّم من اثنتين أو ثلاث، الحديثان رقم (465، 466).
(2) في (أ): «يفسد».
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(4) أخرجه ابن المنذر في "الأوسط" (3/272) عن إسماعيل بن قتيبة، عن مليح بن وكيع، عن الوليد بن مسلم، قال: ثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، قال: سمعت أبا طلحة قال: سمعت ابن عمر يقول: العاطس في الصلاة يجهر بالحمد . وفي سنده إسماعيل بن قتيبة ومليح بن وكيع وأبو طلحة حكيم بن دينار، ولم أجد من وثقهم .
(5) في (ح): «أنه».
(6) في (ب): «وكاتب».
(7) في (أ): «وشائعة وفاشية».
(8) في (ب): «فمنعه».
(9) في (أ): «أي ارتفع وشَرِيَ أمرهم»، ولا نجد لقوله: «أي ارتفع " مناسبة هنا، إلا أن يكون تفسيرًا لمعنى: «شَرِيَ أمرهم»، فتصحف على الناسخ فقدمها .
(10) قوله: «عندهم " سقط من (ح).
(11) في (ح): «السير».
(12) في (ح): «بواسطة».
(13) قوله: «من الحق " سقط من (ب) و(ح).
(14) مابين المعكوفين ليس في (أ).(2/110)
بها وليَّه، فيتحدث بها، ويزيد معها مائة كذبة، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) . فلما بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أُرسلت الشهب على الجن، فلم يتمكنوا مما كانوا يتمكنون منه قبل ذلك (2) ، فانقطعت الكهانة؛ لئلا يجرّ ذلك إلى تغيير الشرع ولبس قوله الحق بالباطل، لكنها وإن كانت قد انقطعت فقد بقي في الوجود قوم يتشبهون بأولئك الكهان، فنهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن إتيانهم (3) ؛ لأنهم كَذَبة مُمَخْرِقون مبطلون ضالون مضلون (4) ، فيحرم إتيانهم والسماع منهم، وقد كثر هذا النوع في [كثير من] (5) نساء الأندلس، وكثير من رجال غير الأندلس، فليحذر الإتيان إليهم والسماع منهم.
وقوله: «ومنّا رجال يتطيرون "؛ الطيرة: مصدر طار يطير طِيَرَةً (6) وطيرانًا، وأصلها: أن العرب كانوا إذا خرج الواحد منهم في حاجة (7) نظر إلى (8) أول طائر يراه، فإن طار عن يمينه تشاءم به، فامتنع عن (9) الْمُضِيّ في تلك الحاجة، وإن طار عن يساره تيمّن به ومضى في حاجته. وأصل هذا: أن الرامي للطير، إنما =(2/140)=@ يصيب ما كان عن يساره، ويخيبه ما كان عن يمينه، فسُمِّي التشاؤم: تطيرًا لذلك (10) .
وقوله: «ذلك شيء يجدونه في صدورهم فلا يَصُدّهم - وفي رواية: فلا يضرهم» (11) ؛ ومعنى ذلك: أن الإنسان بحكم العادة يجد من نفسه نفرة وكراهة مما يتطير به، فينبغي له: ألا يلتفت إلى تلك النفرة، ولا لتلك الكراهة، ويمضي لوجهه الذي خرج إليه، فإن تلك الطيرة لا تضر، وإذا لم تضر فلا تصدّ الإنسان عن حاجته. وأَشَاَر بِه إلى أن الأمور كلها بيد الله تعالى، فينبغي أن يُعوِّلَ عليه، &(2/111)&$
__________
(1) أخرجه البخاري في "صحيحه" (8/380، 537-538 رقم4701، 4800) في تفسير سورة الحجر وسورة سبأ من كتاب التفسير، باب : { إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين }، وباب : {حتى إذافزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم ...} الآية، و(12/453 رقم7481) ف يالتوحيد، باب قول الله تعالى : { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ...} الآية .
(2) قوله: «ذلك " سقط من (ح).
(3) في (ح): «اتباعهم».
(4) قوله: «مضلون " ليس في (ح).
(5) مابين المعكوفين من (ب) فقط .
(6) في (ح): «يطيره».
(7) لم تتضح الكلمة في (ح) فأشبه أن تكون: «حادثة».
(8) قوله: «إلى " سقط من (ح).
(9) في (ب) و(ح): «من». ...
(10) في (ب) و(ح): «بذلك».
(11) أخرجها ابن حبان في "صحيحه" كما في "الإحسان" (6/24 رقم2248).(2/111)
وتُفَوَّضَ جميع الحوائج إليه. ويفهم منه: أن هذا الوجدان لتلك النفرة لا يلام واجدها عليها شرعًا؛ لأنه لا يقدر على الانفكاك عنها، وإنما يلام الإنسان أو يمدح على ما كان داخلاً تحت استطاعته.
وقوله: «ومنا رجال يَخُطُّون ": قال ابن عباس في تفسير هذا الحديث: هو الخط الذى يخطّه الْحَازِى (1) ، فيعطيه حُلوانًا، فيقول: اقعد حتى أخط لك، وبين يدي الحازي غلام معه ميل، ثم يأتي إلى أرض رخوة فيخط الأستاذ خطوطًا معجلة (2) لِئَلاَّ يلحقها العدد، ثم يرجع فيمحو على مهل خطين خطين، فإن بقي خطّان فهي علامة النَّجْحِ، وإن بقي خط فهي علامة الخيبة، والعرب تسميه: الأَسْحَم (3) ، وهو مشؤوم عندهم (4) .
وقوله:«كان نبي من الأنبياء يخط»، حكى مَكِّي في "تفسيره" أنه روي أن =(2/141)=@ هذا النبي كان يخظ بإصبعه السبابة والوسطى في الرمل، ثم (5) يزجر.
وقوله:«فمن وافق خطَّه فذاك»؛ قال الخطابي: هذا يحتمل الزجر؛ إِذْ كان ذلك عَلَمًا لنبوّته (6) ، وقد انقطعت، فنهينا عن التعاطي؛ لذلك قال (7) القاضي عياض: الأظهر من اللفظ خلاف هذا، وتصويب خط من يوافق خطه، لكن من أين تُعلم الموافقة؟ والشرع منع (8) من التخرص وادعاء الغيب جملة، فإنما (9) معناه: أن من وافق (10) خطه فذلك الذي تجدون إصابته، لا أنه يريد إباحة ذلك لفاعله على ما تأوّله بعضهم. و "الْجَوَّانِيَة": بفتح الجيم، وشد (11) الواو، وتخفيف الياء، وقُيِّد عن الْخُشَي: بتشديد الياء، وكذا ذكرها أبو عبيد البكري، قال: كأنها نسبت إلى جوّان، والجوانية: أرض من عمل الفُرُع من جهة المدينة. &(2/112)&$
__________
(1) هو الكاهن . انظر "لسان العرب" (14/174-175)، ويقال فيه غير ذلك كما في المرجع السابق، وكما في "فتح الباري" (1/41).
(2) في (ب): «بعجلة»، والمثبت هو الصواب، فإنه هكذا جاء في "الإكمال".
(3) علق بهامش (ب) بما نصه: «الأسحم هو الأسود».
(4) قول ابن عباس هذا نقله المصنِّف عن القاضي عياض في "الإكمال" (....)، وفيه: «هو الخط الذي يخطه الحازي، وهو علم قد تركه الناس، قال: يأتي صاحب الحاجة إلى الحازي فيعطيه حلوانًا ...»، ولم أجده مسندًا، وإنما ذكره الخطابي في "غريب الحديث" (1/648) نقلاً عن ابن الأعرابي الذي نسب بعضه لابن عباس، وعلّقه البغوي في "شرح السنة" (12/183-184) عن ابن عباس .
(5) قوله: «ثم " سقط من (ح).
(6) في (ب): «للنبوة».
(7) في (ب): «وقال».
(8) قوله: «منع " سقط من (ح).
(9) في (ب) و(ح): «وإنما»، وفي "الإكمال" للقاضي عياض (....): «فإن معناه».
(10) في (ح): «فمن وافق».
(11) في (ب): «وتشديد».(2/112)
وقوله: «آسف كما يأسفون "، أي: أغضب كما يغضبون، ومنه قوله تعالى : {فلما آسفونا} (1) ، و "صَكَكْتُها: لَطَمْتُها في وجهها.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - للجارية: «أين الله؟» هذا السؤال من النبي - صلى الله عليه وسلم - تَنَزُّلٌ مع هذه (2) الجارية =(2/142)=@ على قدر فهمها (3) ؛ إذ أراد أن يظهر منها ما يدل على أنها
ليست ممن [يعبد] (4) الأصنام ولا الحجارة التي في الأرض، فأجابت بذلك، وكأنها قالت: إن الله ليس من جنس ما يكون في الأرض. و " أين ": ظرف يُسال به عن المكان، كما أن " متى" ظرف يُسال به عن الزمان، وهو مبني لما تضمّنه من حرف الاستفهام، وحُرِّك لالتقاء الساكنين، وخُصَّ بالفتح تخفيفًا، وهو خبر المبتدأ الواقع بعده، وهو لا يصح (5) إطلاقه على الله بالحقيقة؛ إذ الله تعالى منزّه عن المكان، كما هو منزّه عن الزمان، بل هو خالق الزمان والمكان (6) ، ولم يزل موجودًا، ولا زمانَ ولا مكانَ، وهو الآن على ما عليه كان، ولو كان قابلاً للمكان لكان مختصًّا به، ويحتاج إلى مخصِّص، ولكان فيه إما متحركًا واما ساكنًا (7) ، وهما أمران حادثان، وما يتّصف بالحوادث حادث، على ما يبسط القول فيه في علم الكلام، ولما صَدَق قوله تعالى : {ليس كمثله شيء} (8) ؛ (9) إذ كانت تماثله الكانيات (10) في أحكامها، والممكنات في إمكانها، وإذا ثبت هذا (11) ، ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما (12) أطلقه على الله بالتوسع والمجاز لضرورة إفهام المخاطبة القاصرة الفهم (13) ، الناشئة مع قوم معبوداتهم في بيوتهم، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتعرّف منها: هل هي ممن &(2/113)&$
__________
(1) سورة الزخرف، الآية: 55.
(2) قوله: «هذه " سقط من (ح).
(3) غفر الله للقرطبي، فقد زلّت قدمه في الكلام على هذا الحديث كما زلّت في الكلام على بعض الأحاديث التي سبق ويأتي التنبيه عليها ؛ فيما يتعلق بصفات الله سبحانه، وسبق التنبيه في المقدمة على أن القرطبي نَهَجَ منهج الأشاعرة في باب الصفات، ويوضح ذلك ويؤكده كلامه على هذا الحديث الذي يعتبر عقبة كَأْداء في طريق الأشاعرة، بدليل إطالة المؤلف في الكلام على هذه اللفظة: «أين الله ؟ قالت في السماء " على غير عادته، ومع ذلك فهو يكتب هذا الكلام مع شعور ه بتجاوز الحدّ وتكلّفه في التأويل، بدليل قوله في نهاية كلامه:«أقول هذا، والله ورسوله أعلم، والتسليم أسلم»،وليته سلَّم فَسلِم، ولا نعني بالتسليم: تفويض المعنى، فإن هذا أشدّ من التأويل، وإنما نعني بالتسليم: الإيمان بما جاءت به نصوص الشرع - ومنها نصوص الصفات - وإمرارها كما جاءت، مع العَقْل لمعناها ؛ من غير تكييف ولا تمثيل، ولا تأويل ولا تعطيل، كما هو مذهب أهل الحق، ومن ذلك مسألة العلو التي هي من أشد المسائل التي حصل فيها الخلاف بين أهل السنة ومخالفيهم من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم، وخلاصة مذهب أهل السنة في هذه المسألة : الإيمان بأنه سبحانه في السماء مستو على عرشه بائن - أي: منفصل - عن خلقه، وهذا هو العلو المقصود في هذا الحديث وأمثاله من نصوصو الشرع ؛ كقوله سبحانه : { ءَأَمنتم من في السماء }، ويُسمَّى: عُلُوَّ الذات، وهو الذي حصل فيه النزاع، وأما علوّ الرتبة أو القهر، فهو الذي يحمل عليه نفاة الصفات هذا النص وأمثاله - كما سيأتي عند المصنِّف -، ظنًّا منهم أننا لو أثبتنا له سبحانه علو الذات، للزم منه تشبيه الله سبحانه بالمخلوق، مع أنهم قد يثبتون له سبحانه بعض الصفات كالحياة والقدرة، ويقولون: نثبتها على الوجه اللائق بجلاله، فله حياة لا تشبه حياة المخلوقين، وله قدرة لا تشبه قدرة المخلوقين، فيقال لهم: فأثبتوا له سبحانه علوًّا لا يشبه علو المخلوقين، فالقول في بعض الصفات كالقول في بعض، وانظر تفصيل هذه المسألة في كتب أصول السنة والاعتقاد، وما أكثرها، وقد أفردها الذهبي رحمه الله في مصنف اسمه: «العلو للعلي القدير" وهو مطبوع .
(4) في (أ): «تعبد».
(5) في (ب): «لا يصلح».
(6) في (ب) و(ح): «المكان والزمان».
(7) في (ب) و(ح): «وإما ساكنًا».
(8) سورة الشورى، الآية: 11.
(9) في حاشية (ب): «بلغ مقابلة».
(10) في (ب) و(ح): «الكائنات».
(11) في (ب) و(ح): «ذلك».
(12) في (ح): «عرف أنما».
(13) بل هي أتم فهمًا ممن سرت إليهم علوم المنطق وفلسفة اليونان، فأحدثوا في الأمة أقوالاً وأفهامًا لم يعرفها سلف الأمة .(2/113)
يعتقد أن معبوده في بيت الأصنام، أم لا؟ فقال لها:«أين الله؟» قالت (1) : في السماء، فقنع منها بذلك، وحكم بإيمانها؛ إذ لم تتمكن من فهم غير ذلك. وإذ نزَّهت الذ تعالى عن أن يكون من قبيل معبوداتهم وأصنامهم، ورفعته عن أن يكون في مثل أمكنتهم، وحملها على ذلك: أنها رأت المسلمين يرفعون أبصارهم (2) وأيديهم إلى السماء عند الدعاء، فتُركت على ذلك في تلك الحال (3) (9) لقصور فهمها، إلى أن يتمكن ففهمها وينشرح صدرها؛ إذ لو قيل لها في تلك الحالة: الله تعالى يستحيل عليه المكان =(2/143)=@ والزمان، لخيف عليها أن تعتقد النفي الْمَحْض والتعطيل؛ إذ ليس كل عقل يقبل هذا، ويعقله على وجهه، بل إنما يعقله العالمون (4) الذين (5) شرح الله صدورهم لهدايته، ونوّر قلوبهم بنور معرفته، وأمدّهم بتوفيقه ومعونته، وأكثر الخلق تغلب عليهم الأوهام، وتَكِلّ منهم الأفهام.
وقيل في تأويل هذا الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما سألها [بأين] (6) عن الرتبة المعنوية التي هي راجعة إلى جلاله تعالى وعظمته التي بها بَايَنَ كلّ من نُسبت (7) إليه الإلهية، وهذا كما يقال: أين الثُّريّا من الثَّرَى، والبصرُ من العَمَى، أي: بَعُدَ (8) ما بينهما، واختصت الثريا والبصر بالشرف والرفعة. و على هذا يكون قولها: «في السماء "، أي: في غاية العلوّ والرفعة، وهذا كما يقال: فلان في السماء ومناط الثريا، كما قال (9) :
وإن بني عوف كما قد علمتم مناط الثريا قد تعلّت نجومُها (10)
أقول هذا، والله ورسوله أعلم، والتسليم أسلم.
تنبيه: ثم اعلم أنه لا خلاف بين المسلمين قاطبة، محدثهم، وفقيههم، &(2/114)&$
__________
(1) في (ب) و(ح): «فقالت». ...
(2) في (ح): «أصواتهم».
(3) معاذ الله أن يتركها النبي - صلى الله عليه وسلم - على معتقد فاسد ! بل فساد المعتقد فيمن اعتقد خلاف
معتقدها ؛ ومعتقدها الذي أقرها عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
(4) ......
(5) في (ح): «الذي».
(6) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(7) في (ب): «تنسب».
(8) كذا في (أ)، وفي (ب): «بُعْدَ " بضم الأول وإسكان الثاني .
(9) في (ح): «وهذا كما قال».
(10) البيت لعبدالله بن محمد المعروف بالأحوص الأنصاري في ديوانه (ص 150)، إلا أن فيه: «بني حرب " بدل: «بني عوف».(2/114)
ومتكلمهم، ومقلِّدهم، ونُظَّارهم: أن الظواهر الواردة بذكر الله في السماء؛ كقوله : {ءَأَمنتم من في السماء} (1) ليست على [ظاهرها] (2) ، وأنها متأوَّلة عند جميعهم. أما من قال منهم بالجهة، فتلك الجهة عنده هي جهة الفوق، كما جاء في الأحاديث فلا بدّ أن يُتَأَوَّل كونه في السماء، وقد تأَوّلوه (3) تأويلات، وأشبه ما فيه: أن " في " بمعنى:«على " =(2/144)=@ ، كما قال: {ولأصلبنكم (4) في جذوع النخل} (5) ، أي: على [جذوع النخل ] (6) ، ويكون العلوّ بمعنى الغلبة (7) ، وأما من يعتقد نفي الجهة في حق الله تعالى، فهو
أحق بإزالة ذلك الظاهر، وإجلال الله تعالى عنه، وأَوْلى الفرق بالتأويل. وقد حصل من هذا الأصل المحقق: أن قول الجارية: «في السماء " ليس على ظاهره باتفاق المسلمين، فيتعيّن أن يعتقد (8) فيه أنه مُعَرَّض لتأربل المتأوِّلين، وأن مَنْ حمله على ظاهره فهو ضال من الضالين (9) .
وقوله:«أعتقها فإنها مؤمنة»؛ فيه دليل على أن عتق المؤمن أفضل، ولا العتق في خلاف في جواز عتق الكافر (10) في التطوع، وأنه لا يجزئ في كفارة القتل؛ لنص الله على : {مؤمنة (11) } (12) . واختلف في كفارة اليمين والظهار وتعقد الوطء في رمضان، فمالك والشافعي وعامتهم لا يجيزون في ذلك كله إلا مؤمنة؛ حملاً لمطلق هذه الكفارات (13) على مقيد كفارة القتل. وذهب الكوفيون إلى أن ذلك ليس شرطًا في هذه الكفارات، ومنعوا حمل المطلق على المقيد، وتحقيق ذلك في الأصول.
وفي هذا الحديث أبواب من الفقه لا تخفى على متأمل فَطِن؛ ومن أهمها: أنه لا يشترط في الدخول في الإيمان التلفظ بألفاظ مخصوصة؛ كالشهادتين، بل يكفي كل لفظ يدل على صحة الدخول في الدين، وأنه يُكتفى بالاعتقاد الصحيح، =(2/145)=@ ولا يشترط أن يكون عن برهان نظري، إذ لم يسألها النبي - صلى الله عليه وسلم - عن طريق علم ذلك، ولا كانت أيضًا ممن يصلح لفهم تلك البراهين والاستدلالات، كما بينّا في التأويل الأول. &(2/115)&$
__________
(1) سورة الملك، الآية: 16.
(2) في (أ): «ظواهرها»، والمثبت من (ب) و(ح) و"الإكمال" (....).
(3) في (ح): «تأولوا».
(4) في جميع النسخ: «لأصلبنكم».
(5) سورة طه، الآية: 71 .
(6) مابين المعكوفين ليس في (أ)، وهو ملحق بهامش (ب)، وقوله: «أي على جذوع النخل " ليس في (ح).
(7) فرّ نفات الصفات من إثباتها على حقيقتها خشية التشبيه، فوقعوا فيما هو شرٌّ منه . فانظر إلى المصنِّف - رحمه الله - هنا وهو يؤوِّل العلوّ ويفسِّره بالغلبة، فمن الذي يغالب الله؟ ويظهر ذلك بوضوح في تفسيرهم الاستواء بالاستيلاء، فمن ذا الذي كان مستوليًا على العرش أو أراد الاستيلاء عليه، وغالب الله، فغلبه الله ؟! أو ليس هذا بأشد مما فروا منه: التشبيه ؟
(8) في (ح): «نعتقد».
(9) فيما سبق من التعليق على بعض عبارات المصنِّف ما يكفي لبيان زللَه في هذه المسألة، فلا يلتفت لقوله: «فهو ضال من الضالين».
(10) في (ح): «الكافرين».
(11) في (ب) و(ح): «المؤمنة».
(12) سورة النساء، الآية: 92.
(13) في (ح): «الكفارة».(2/115)
كتاب في المطبوع على حديث 135 يراجع وهناك شطب على نص الحديث
136 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ (1) قَالَ: كُنَّا نُسَلِّمُ على رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي الصَّلاةِ فَيَرُدُّ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَيْكَ فِي الصَّلاةِ فَتَرُدُّ عَلَيْنَا، فَقَالَ: «إِنَّ فِي الصَّلاةِ شُغْلاً».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول عبد الله بن مسعود: «كُنَّا نُسَلِّمُ على رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي الصَّلاةِ فَيَرُدُّ عَلَيْنَا»: هذا كان منه - صلى الله عليه وسلم - إِذْ كان الكلام مباحًا في الصلاة في أول الأمر، كما قال زيد بن أرقم (2) ، ثم لما نُسخ ذلك امتنع رد السلام نطقًا من المصلي، وغير ذلك من أنواع الكلام مع الغير. وهذا الحديث حجة على من أجاز للمصلي أن يرد نطقًا السلام (3) ، وهم: أبو هريرة (4) ، وجابر (5) والحسن وسعيد بن المسيب وقتادة واسحاق. ثم إذا قلنا: لا يرد نطقًا، فهل يرد إشارة، أم لا؟ وبالأول قال مالك وأصحابه، وهو مذهب ابن عمر (6) وجماعة من العلماء. وبالثاني قال أبو حنيفة، فمنع الردّ إشارة ونطقًا، وبه قال الثوري وعطاء والنخعي. ثم اختلف من لم يردّه: هل يرد إذا سلم أم لا؟ وبالأول قال الثوري وعطاء والنخعي، وبالثاني قال أبوحنيفة. وقال بعض أهل العلم: يردّ المصلي في نفسه.
هذا حكمه في الردّ. وأما ابتداء السلام على المصلي، فاختَلف فيه العلماء. فعن مالك فيه الجواز، وقد رويت (7) عنه الكراهة.
وقوله: «إِنَّ فِي الصَّلاةِ شُغْلاً»: اكتفى بذكر الموصوف عن الصفة، [فكأنه ] (8) =(2/146)=@ كما قال: شغلاً كافيًا، أو مانعًا من الكلام وغيره (9) . ويفهم منه التفرغ للصلاة من جميع الأشغال، ومن جميع المشوِّشات، والإقبال على الصلاة بظاهره وباطنه.
وقوله: «حتى نزلت : {وقوموا لله قانتين} (10) ؛ القنوت يتصرّف في الشرع واللغة على أنحاء مختلفة، يأتي بمعنى الطاعة، وبمعنى السكوت، وبمعى طول القيام، وبمعى الخشوع، وبمعنى الدعاء، وبمعنى الإقرار بالعبودية (11) ، وبمعنى الإخلاص. وقيل: أصله: الدوام على الشيء؛ ومنه الحديث: «قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرًا يدعو على قبائل من العرب " (12) ، أي: أدام الدعاء والقيام له. واللائق بالآية من هذه المعاني: السكوت والخشوع. &(2/116)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (3/72، 86 رقم 1199، 1216) في العمل في الصلاة، باب ما ينهى من الكلام في الصلاة، وباب لا يرد السلام في الصلاة، و(7/188 رقم3875) في كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة الحبشة، ومسلم (1/382 رقم538) في المساجد مواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة .
(2) في الحديث الآتي . ...
(3) في (ح): «السلام نطقًا».
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (1/419 رقم4814) في الصلاة، باب من كان يرد ويشير بيده أو برأسه، من طريق قتادة، عن عبد ربه، عن أبي عياض، عن أبي هريرة قال: إذا سلّم عليك وأنت في الصلاة، فرُدّ .
وسنده ضعيف ؛ فيه عبد ربه بن أبي يزيد، وهو مستور، كما في "التقريب" (3815).
(5) أخرجه ابن أبي شيبة في الموضع السابق برقم (4815 طريق حفص بن غياث وأبي معاوية، كليهما عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: ما كنت لأُسَلِّم على رجل وهو يصلي . زاد أبو معاوية: ولو سلّم عليّ لرددت عليه .
وسنده حسن .
(6) أخرجه عبدالرزاق في "المصنف" (2/366 رقم3595، 3596 طريق ابن جريج وأيوب، وابن أبي شيبة في "المصنف" (1/419 رقم4816) في الصلاة، باب من كان يرد ويشير بيده أو برأسه، والبيهقي (2/259 طريق عبيدالله بن عمر، ثلاثتهم - ابن جريج وأيوب وعبيدالله - عن نافع، أن ابن عمر مرّ على رجل يصلي، فسلّم عليه، فرد عليه الرجل، فقال له ابن عمر: إذا كان أحدكم في الصلاة يُسَلَّم عليه، فلا يتكلمن، وليشر إشارة، فإن ذلك ردُّه . وسنده صحيح .
(7) في (ب): «روي».
(8) في (أ): «فقال كأنه».
(9) قوله: «وغيره " سقط من (ح).
(10) سورة البقرة، الآية: 238.
(11) في (ب): «بالمعبود».
(12) هو حديث أنس بن مالك الآتي برقم (567).(2/116)
137 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ (1) قَالَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلاةِ، يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلاةِ حتى نَزَلَتْ : {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}، فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنِ الْكَلامِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «وَنُهِينَا عَنِ الْكَلامِ» هذا هو الناسخ لإباحة الكلام في الصلاة، وقد قدّمنا في حديث معاوية (2) القول على أنواع الكلام الواقع في الصلاة. =(2/147)=@
*************
(44) باب جواز الإشارة بالسلام في الصلاة، ولعن الشيطان
138 - عَنْ جَابِرٍ (3) قَالَ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ يُصَلِّي على بَعِيرِهِ، فَكَلَّمْتُهُ فَقَالَ لِي: بِيَدِهِ هَكَذَا - وَأَوْمَأَ زُهَيْرٌ بِيَدِهِ -، ثُمَّ كَلَّمْتُهُ فَقَالَ لِي: هَكَذَا - فَأَوْمَأَ زُهَيْرٌ أَيْضًا بِيَدِهِ نَحْوَ الأَرْضِ -، وَأَنَا أَسْمَعُهُ يَقْرَأُ يُومِئُ بِرَأْسِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ:«مَا فَعَلْتَ فِي الَّذِي أَرْسَلْتُكَ لَهُ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أُكَلِّمَكَ إِلا أَنِّي كُنْتُ أُصَلِّي».
وَفي روَاية: وَهُوَ يُصَلِّي على رَاحِلَتِهِ وَوَجْهُهُ على غَيْرِ الْقِبْلَةِ.
وَفِي أُخْرَى: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَأَشَارَ إِلَيَّ، فَلَمَّا فَرَغَ دَعَانِي، فَقَالَ:«إِنَّكَ سَلَّمْتَ آنِفًا وَأَنَا أُصَلِّي»، وَهُوَ مُوَجِّهٌ حِينَئِذٍ قِبَلَ الْمَشْرِقِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب جواز الإشارة بالسلام في الصلاة
حديث جابر هذا حجة لمالك، ولمن قال بقوله: على جواز ردّ المصلي السلام بالإشارة، و على جواز ابتداء السلام على المصلي، و على أن العمل القليل في الصلاة لا يفسدها، و على منع الكلام في الصلاة، وفيه دليل: على جواز التنفل على الراحلة، لكن في السفر، و على أنه يصلي النفل عليها حيث توجهت به. وسيأتي كل ذلك إن شاء الله. =(2/148)=@
139 - عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ (4) قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ:«أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ»، ثُمَّ قَالَ:«أَلْعَنُكَ بِلَعْنَة اللَّهِ ثَلاثًا»، وَبَسَطَ يَدَهُ كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلاةِ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَدْ سَمِعْنَاكَ تَقُولُ فِي الصَّلاةِ شَيْئًا لَمْ نَسْمَعْكَ تَقُولُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَرَأَيْنَاكَ بَسَطْتَ يَدَكَ. قَالَ:«إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ جَاءَ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي، فَقُلْتُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ - ثَلاثَ مَرَّاتٍ -، ثُمَّ قُلْتُ: أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ، فَلَمْ يَسْتَأْخِرْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَرَدْتُ أَنْ آخُذَهُ، وَاللَّهِ لَوْلا دَعْوَةُ أَخِينَا سُلَيْمَانَ لأَصْبَحَ مُوثَقًا يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله u:«أعوذ بالله منك»، أي: أَسْتَتِرُ وألتجئ في كفايته إياي منك، ومنه سُمِّي العود الذي يَلْجَاُ إليه الغُثَاء في السيل: عَوْدًا؛ لأن الغثاء يلجأ إليه.
وقوله:«ألعنك بلعنة الله التامة»، أصل اللعن: الطرد والبعد، ومعناه: أسال الله أن يلعنه بلعنته.
و "التامَّة" تحتمل وجهين :
أحدهما: أنها الكاملة التي لا ينقصُ منها شيء.
والثاني: المستحقّة الواجبة، كما قال : {وتَمّت كلمتُ (5) ربك صدقًا وعدلاً} (6) ، أي: حَقَّتْ ووجبتْ، ولم يقصد مخاطبة الشيطان؛ لأنه كان يكون (7) متكلمًا في الصلاة، وإنما كان متعوذًا بالله؛ كما قال:«أعوذ بالله منك». &(2/117)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (3/72-73 رقم1200) في العمل في الصلاة، باب ما ينهى من الكلام في الصلاة، و(8/198 رقم4534) في تفسير سورة البقرة من كتاب التفسير، باب: { وقوموا لله قانتين }، ومسلم (1/383 رقم539) في المساجد مواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة .
(2) يعني معاوية بن الحكم السُّلمي، وحديثه هو المتقدم برقم (432).
(3) أخرجه البخاري بنحوه (3/86 رقم1217) في العمل في الصلاة، باب لا يرد السلام في الصلاة، ومسلم (1/383 رقم540) في المساجد مواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة .
.
(4) أخرجه مسلم (1/385 رقم542) في المساجد مواضع الصلاة، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة والتعوذ منه وجواز العمل القليل في الصلاة .
(5) في (ب): «كلمات».
(6) سورة الأنعام، الآية: 115.
(7) قوله: «يكون " ليس في (ح).(2/117)
قوله:«ولولا دعوة أخينا سليممان لأصبح موثقًا يلعب (1) به ولدان [أهل] (2) المدينة يدل على أن مُلْكَ الجن والتصرُّفَ فيهم بالقهر مما خصّ به سليمان u، وسبب خصوصيته: دعوته التي استجيبتْ له، حيث قال: {وهب (3) لي مُلكًا لا ينبغي لأحدٍ =(2/149)=@ من بعدي إنك أنت الوهاب} (4) . ولما تحقق النبي - صلى الله عليه وسلم - الخصوصية، امتنع من تعاطي ما هَمَّ به من أخذ الجني (5) وربطه. فإن قيل: كيف يتأَتَى ربطه وأخذه واللعب به، مع كون الجن أجسامًا لطيفة روحانية؟ قلنا: كما تَأَتَى ذلك لسليمان u؛ حيث جعل الله له منهم {كل بناء وغواص ( وآخرين مقرنين في الأصفاد} (6) . ولا شك أن الله تعالى أوجدهم على صورٍ تَخُصُّهم، ثم مكّنهم من التشكل في صور مختلفة، فيتمثلون في أي صورة شاؤوا ،[ أو شاء الله] (7) ، وكذلك فعل الله بالملائكة كما قال : {فتمثل لها بشرًا سويًّا} (8) ، وقال u: «. وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني» (9) ، فيجوز أن يُمَكِّن الله نبيه (10) محمدًا - صلى الله عليه وسلم - من هذا الجنِّي، مع بقاء الجنِّي على صورته التي خُلق عليها، فيوثقه كما كان سليمان u يوثقهم، ويرفع (11) الموانع عن أبصار الناس، فيرونه موثقًا حتى يلعب به الغلمان. ويجوز أن يشكِّله [الله] (12) في صورة جسميِّةٍ محسوسة، فيُر بها (13) ويُلعب به، ثم يمنعه من الزوال عن تلك الصورة الي تشكّل فيها حتى يفعل به (14) ما همّ به النبي - صلى الله عليه وسلم - . وفي هذا دليل على رؤية بني آدم الجن.
وقوله : {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} (15) ؛ إخبار عن غالب أحوال بني آدم معهم، والله أعلم.
140 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (16) قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ جَعَلَ يَفْتِكُ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلاةَ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمْكَنَنِي مِنْهُ، فَذَعَتُّهُ فَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى جَنْبِ سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حتى تُصْبِحُوا فَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ أَجْمَعُونَ أَوْ كُلُّكُمْ، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لايَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فَرَدَّهُ اللَّهُ خَاسِئًا». وَفِي رِوَايَةٍ:«فَدَعَتُّهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله:«إن عفريتًا من الجن (17) جعل يفتك عليّ البارحة»؛ العفريت: المارد من الجن الشديد، ومنه: رجل عِفْرِيَة (18) ، أي: شديد الدَّهاء والمكر والحيلة.
هكذا صحّ في كتاب مسلم: «يَفْتِك"؛ ومعناه: يغفله عن الصلاة ويشغله. وأصل الفَتْك: القتل &(2/118)&$
__________
(1) في (ح): «تلعب».
(2) مابين المعكوفين سقط من جميع النسخ، وهو موجود في نسخ "التلخيص" ونسخ مسلم المطبوعة .
(3) في جميع النسخ: «هب».
(4) سورة ص، الآية: 35.
(5) في جميع النسخ المعتمدة: «الجن».
(6) سورة ص، الآيتان: 37-38.
(7) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(8) سورة مريم، الآية: 17.
(9) أخرجه البخاري (1/18 رقم2) في بدء الوحي، باب منه، من حديث عائشة رضي الله عنها .
(10) في (ب): «نبينا».
(11) في (ب): «وترفع».
(12) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(13) في (ب) و(ح): «فيربطه».
(14) في (ب) و(ح): «يفعل الله به».
(15) سورة الأعراف، الآية: 27.
(16) أخرجه البخاري (1/554 رقم461) في الصلاة، باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد، و(3/80 رقم1210) في كتاب العمل في الصلاة، باب ما يجوز من العمل في الصلاة، و(6/337 رقم3284) في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، و(6/457 رقم3423) في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى : { ووهبنا لداود سليمان ...}، و(8/546 رقم4808) في تفسير سورة {ص} من كتاب التفسير، باب : { هب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي }، ومسلم (1/384 رقم541) في المساجد مواضع الصلاة، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة والتعوذ منه وجواز العمل القليل في الصلاة .
(17) قوله: «من الجن " ليس في (ب) و(ح).
(18) في (ح): «عفريت»، والصواب ما هو مثبت من (أ) و(ب)، وانظر "لسان العرب" (4/586).(2/118)
على غفلة وغِرَّة، ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - :«الإيمان قَيَّد الفَتْك» (1) . وهكذا مجيء الشيطان =(2/150)=@ للمصلي على غفلة وغرَّة، وذكره البخاري، وقال: تَفَلَّت عليّ البارحة، وهو أيضًا صحيح، أي: جاءني في غفلة وفلتة وفُجَاءَةٍ (2) ، ومنه قيل : افتُلِتَتْ نفسه (3) ، أي: مات على فُجَاءَةٍ (4) .
والفَلْتَةُ: الأمرُ يُؤْتى (5) على غير رَوِيَّة.
وقوله:«فَذَعَتُّهُ» بالذال المعجمة، أي: خنقته قاله (6) الهروي. وفي رواية ابن أبي شيبة (7) بالدال المهملة، وهما بمعنى واحد، وأنكره الخطابي، وقال: لأن أصله يكون: دَعَدْتُه (8) ، ولا يصح إدغام العين في التاء. قال ابن دريد: ذَعَتَه، يَذْعَتُه، ذعْتًا: غَمَزَهُ غمزًا شديدًا. والدَّعَتُ مهملاً: الدفع الشديد، ويقال بالذال المعجمة.
وقوله:«لقد هممت ان أربطه إلى سارية من سواري المسجد»؛ يحتمل أن يقال: إن هذا الذي همَّ به كان يكون شغلاً يسيرًا، ويحتمل أن يكون يربطه بعد تمام الصلاة. &(2/119)&$
__________
(1) رُوي من حديث أبي هريرة، والزبير، ومعاوية y .
أما حديث أبي هريرة، فأخرجه ابن أبي شيبة (7/486 رقم37424) كتاب الفتن، باب من كره الخروج في الفتن وتعوذ منها، والبخاري في "تاريخه" (1/403)، وأبو داود (3/212-213 رقم2769) كتاب الجهاد، باب في العدو يؤتى على غرّة ويتشبه بهم، وثلاثتهم من طريق أسباط بن نصر الهمداني، عن السُّدِّي، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:«الإيمان قيَّد الفتك، لا يفتك مؤمن».
وأسباط والسُّدِّي متكلم في حفظهما، وعبدالرحمن بن أبي كريمة، والد السُّدي: لم يرو عنه إلا ابنه إسماعيل بن عبدالرحمن السّدي، وذكره ابن حبان في "ألثقات" (5/108)، وقال الذهبي في "الميزان" (2/584): «ما حدَّث عنه سوى ولده»، وف ي"التقريب" (4016): «مجهول الحال».
وأما حديث الزبير بن العوام، فأخرجه عبدالرزاق (5/298-299، 299 رقم 9676، 9677)، وابن أبي شيبة (7/486 رقم37425) كتاب الفتن، باب من كره الخروج في الفتنة وتعوذ عنها، و(7/542-543 رقم37802) كتاب الجمل، باب في مسير عائشة وعلي وطلحة والزبير، وأحمد (1/166، 167)، ثلاثتهم عن الحسن البصري، قال: جاء رجل إلى الزبير بن العوام، فقال: ألا أقتل لك عليًّا ؟ قال: لا، وكيف تقتله ومعه الجنود ؟ قال: ألحق به فأفتك به، قال: لا، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ....، فذكره .
والحسن البصري لم يثبت سماعه من الزبير بن العوام، فهو ضعيف لهذه العلة .
وأما حديث معاوية، فأخرجه أحمد (4/92)، والطبراني في "الكبير" (19/319-320 رقم723)، والحاكم (4/325-353) ثلاثتهم من طريق علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد ابن المسيب، عن مروان بن الحكم، قال: دخلت مع معاوية على عائشة أم المؤمنين، فقالت: قتلت حجرًا وأصحابه، وفعلت الذي فعلت، أما خشيت أن أخبِّيء لك رجلاً فيقتلك بمحمد بن أبي بكر ؟ قال: لا، إني في بيت أمان، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:«الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن ...» الحديث .
فالحديث بمجموع هذه الطرق حسن لغيره، وقد صححه الألباني في "صحيح الجامع" (2802).
(2) في (ب): «وفلتة وغِرَّة وفَجْأَة».
(3) في (أ): «افتلتَ نفسَهُ».
(4) في (ب): «فَجْأَة».
(5) في (ب): «يأتي».
(6) في (أ) و(ح): «قال»، والصواب ما هو مثبت من (ب)، و"الغريبين" للهروي (2/352).
(7) وهو شيخ مسلم في الرواية الأخرى التي أشار إليها المصنِّف في "التلخيص" كما سبق.
(8) في (ب) و(ح): «دعته».(2/119)
وقوله:«فردّه الله خاسئًا»، أي: ذليلاً مدحورًا؛ من خَسَأْت الكلب: إذا زَجَرْته وطَرَدته. =(2/151)=@
*************
(45) باب جواز حمل الصغير في الصلاة، وجواز التقدم والتأخر ،
ومن صلى على موضع أرفع من موضع المأموم
141 - عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ (1) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلأَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ: فَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا، وَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا. رَأَيْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَؤُمُّ النَّاسَ وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ وَهِيَ بِنْتُ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على عَاتِقِهِ، فَإِذَا رَكَعَ، وَضَعَهَا وَإِذَا رَفَعَ مِنَ السُّجُودِ أَعَادَهَا. وَفِي رِوَايَةٍ: بَيْنَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ جُلُوسٌ فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ...، بِنَحْوِ ما تَقَدَّم (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب حمل الصغير في الصلاة
اختلف العلماء في تأويل حمل النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمامة في الصلاة، والذي أحوجهم لتأويله: أنه شغلٌ كثير. فروى ابن القاسم عن مالك: أنه كان في النافلة، وهذا تأويل بعيد فإن ظاهر الحديث الذي ذكره أبو داود (3) يدل : على أنه في الفريضة؛ لقوله: «بينا نحن ننتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظهر أو العصر، خرج علينا (4) حاملاً (5) أمامة على كتفه...»، وذكر الحديث.
ومعلوم: أنه كان - صلى الله عليه وسلم - إنما كان (6) &(2/120)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (1/590 رقم516) في الصلاة، باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة، و(10/426 رقم5996) في كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، ومسلم (1/385 رقم543/42،43) في المساجد مواضع الصلاة، باب جواز حمل الصبيان في الصلاة .
(2) هذا تصرف من المصنف بسبب حذفه الإسناد، والذي في مسلم: «بنحو حديثهم».
(3) في كتاب الصلاة من "سننه" (1/565 رقم920)، باب العمل في الصلاة من حديث أبي قتادة، ولفظه: «بينما نحن ننتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظهر - أو العصر -، وقد دعاه بلال للصلاة ؛ إذ خرج إلينا وأمامة بنت أبي العاص - بنت ابنته - على عاتقه».
(4) في (أ) و(غ): «إلينا».
(5) في (أ): «حامل».
(6) قوله: «كان» ليس في (غ) و(أ) و(ب).(2/120)
يتنفل في بيته، ثم يخرج لصلاة الفريضة، فإذا رآه بلال خارجًا أقام الصلاة (1) . وأيضًا ففي هذا الحديث قال أبو قتادة: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤم الناس، وغالب عادته، أنه إنما كان يؤم الناس في المسجد في الفريضة. وروى عنه (2) أشهب، وابن نافع: أن هذا للضرورة، وإذا لم يجد من يكفيه، وأما لحب الولد فلا.
وظاهر هذا إجازته في الفريضة والنافلة. =(2/152)=@
وروى عنه التِّنِّيسي أن الحديث منسوخ (3) ، قال أبو عمر بن عبدالبر: لعل هذا نُسخ بتحريم العمل والاشتغال في الصلاة بغيرها (4) (5) . وقال الخطابي: يشبه أن هذا كان منه - صلى الله عليه وسلم - عن غير قصد وتعمد (6) (7) ، لكن الصَّبِيَّة تعلّقت به لطول إِلْفِهَا لَهُ،وهذا باطل؛لقوله (8) في الحديث: «خَرَجَ عَلَيْنَا حَامِلاً أُمَامَة عَلَى عُنقه (9) فَإِذَا رَكَعَ، وَضَعَهَا وَإِذَا رَفَعَ مِنَ السُّجُودِ أَعَادَهَا»، والله أعلم (10) والأشبه أنه كان لضرورة لم يقدر أن (11) ينفكّ عنها ، أو هو (12) منسوخ ، والله أعلم.
وفيه من الفقه: جواز إدخال الصغار المساجد ، إذا علم من عادة الصبي أنه لا يبول، وأن ثيابهم (13) محمولة على الطهارة ، وأن لمس النساء ليس بحَدَث ، وأن حكم من لا يُشتهى من النساء بخلاف حكم من يُشتهى (14) منهن.
وفيه: تواضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشفقته ، وجواز حمل ما لا يشغل (15) في الصلاة شغلاً كثيرًا (16) . &(2/121)&$
__________
(1) وهو الحديث الآتي قريبًا برقم (496).
(2) أي: عن مالك .
(3) توثيق فقهي.
(4) توثيق فقهي
(5) كما يفهم من عدة أحاديث ؛ منها الحديث الآتي برقم (441).
(6) توثيق فقهي
(7) قوله: «وتعمد " سقط من (ب).
(8) أي في رواية أبي داود التي سبق تخريجها .
(9) في (ب): «كتفه»، وفي (غ): «عاتقه».
(10) قوله: «والله أعلم» من (ب) فقط.
(11) في (غ): «على أن».
(12) في (غ): «عنها وهو منسوخ».
(13) في (ب): «ثيابه».
(14) في (ح): «تشتهى»، وفي (ب) لم تنقط .
(15) في (ح): «يشتغل».
(16) في حاشية (ب): «بلغ مقابلة».(2/121)
142 - عَن أَبِي حَازِمٍ (1) : أَنَّ نَفَرًا جَاءُوا إِلَى سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَدْ تَمَارَوْا فِي الْمِنْبَرِ مِنْ أَيِّ عُودٍ هُوَ؟ فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْرِفُ مِنْ أَيِّ عُودٍ هُوَ وَمَنْ عَمِلَهُ، وَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوَّلَ يَوْمٍ جَلَسَ عَلَيْهِ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا عَبَّاسٍ! فَحَدِّثْنَا قَالَ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى امْرَأَةٍ - قَالَ أَبُو حَازِمٍ: إِنَّهُ لَيُسَمِّيهَا يَوْمَئِذٍ - انْظُرِي غُلامَكِ النَّجَّارَ يَعْمَلْ لِي أَعْوَادًا أُكَلِّمُ النَّاسَ عَلَيْهَا، فَعَمِلَ هَذِهِ الثَّلاثَ دَرَجَاتٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَوُضِعَتْ هَذَا الْمَوْضِعَ، فَهِيَ مِنْ طَرْفَاءِ الْغَابَةِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ عَلَيْهِ فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ النَّاسُ وَرَاءَهُ وَهُوَ على الْمِنْبَرِ، ثُمَّ رَجَعَ فَنَزَلَ الْقَهْقَرَى حتى سَجَدَ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ عَادَ حتى فَرَغَ مِنْ آخِرِ صَلاتِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ على النَّاسِ فَقَالَ:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنِّي إِنَّمَا صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي، وَلِتَعَلَّمُوا صَلَاتِي».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: «انْظُرِي غُلامَكِ النَّجَّارَ يَعْمَلْ لِي أَعْوَادًا أُكَلِّمُ النَّاسَ عَلَيْهَا» فيه دليل: على أن اتخاذ المنبر مسنون في الجمعة للخطبة، وفائدته: الإبلاغ والإسماع. وقد استدل أحمد بن حنبل بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر على جواز =(2/153)=@ صلاة الإمام على موضع أرفع من موضع المأموم، ومالك يمنع ذلك في الارتفاع الكثير دون اليسير ، وعلَّل (2) المنع: بخوف (3) الكِبْر على الإمام. واعتذر بعض أصحابه عن الحديث : بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم عن الكِبْر ، ومنهم من علله بأن ارتفاع المنبر كان يسيرًا.
وقوله: «فَرَجَعَ الْقَهْقَرَى حتى سَجَدَ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ»، يعني: رجع خلفه؛ من تقهقر الرجل في مشيته: إذا رجع من حيث جاء، وهذا إنما فعله ليُرِيَ الناسَ كيفية صلاته، ففعل على المنبر ما يتمكّن من فعله عليه، وهو القيام والركوع، وفعل في الأرض ما لا يتمكن من فعله عليه، وهو السجود (4) والجلوس، وهذا القدر عمل يسير لا يُخِلّ بمقصود الصلاة ولا بهيئتها.
وقوله: «لِتَأْتَمُّوا بِي»، أي: لتقتدوا بي. «وتَعَلَّمُوا صَلَاتِي»، رويناه بفتح العين وتشديد اللام، أي: لتعلموا (5) ، وهذا الأمر على الوجوب. =(2/154)=@ &(2/122)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (1/486، 543 رقم 377، 448) في الصلاة، باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب، وباب الاستعانة بالنجار والصناع في اعواد المنبر والمسجد، و(2/397 رقم917) في كتاب الجمعة، باب الخطبة على المنبر، و(4/319 رقم2094) في كتاب البيوع، باب النجار، و(5/200 رقم2569) في كتاب الهبة، باب من استوهب من أصحابه شيئًا، ومسلم (1/386 رقم544) في المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة .
(2) في (غ): «وعل».
(3) في (غ): «تخوف».
(4) قوله: «السجود و» سقط من (غ).
(5) في (ح): «لتعلَّموا». وفي (غ): «ليتعلموا».(2/122)
(46) باب النهي عن الاختصار في الصلاة، وما يجوز من مس
الحصى فيها، وما جاء في البصاق في المسجد
143 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُخْتَصِرًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب النهي عن الاختصار في الصلاة
قوله: «نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُخْتَصِرًا»: اختُلف (2) في تأويله على أقوال:
أحدها: أن يأخذ بيده عصًا يتوكأ عليها، قاله الهروي.
وثانيها: أن يقرأ من آخر السورة آية أو آيتين في فرضه، ولا يكملها. قاله أبو هريرة (3) .
وثالثها: هو (4) أن يضع يده على خَصْره (5) في الصلاة؛ لأنه مِن فعل أهل الكِبْر. وقيل: لأنه من فعل اليهود؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم - : «الاختصار (6) راحة أهل النار " (7) ، يعني اليهود والمتكبرين؛ لا أنّ لهم في النار راحة.
ورابعها: هو حذف الصلاة، بحيث لا يتم ركوعها ولا سجودها، ولا حدودها. =(2/155)=@
144 - وَع0َنْ مُعَيْقِيبٍ (8) : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِي الرَّجُلِ يُسَوِّي التُّرَابَ حَيْثُ يَسْجُدُ، قَالَ: «إِنْ كُنْتَ فَاعِلاً فَوَاحِدَةً».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول معيقيب: «إنهم سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المسح في الصلاة» (9) ، يعني: مسح التراب حيث يسجد؛ لئلا يتأذّى به في سجوده. وقد جاء (10) مفسرًا في الرواية الأخرى، وأُبيح له مرة واحدة استخفافًا لأمرها، وليدفع ما يتأذى به بها (11) ، ومُنع مما زاد عليها؛ لئلا يكثر الشغل، ويقع التشويش في الصلاة. هذا مذهب الجمهور، وحكى الخطابي عن مالك جواز مسح الحصى مرة وثانية في الصلاة. &(2/123)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (3/88 رقم 1219،1220) في العمل في الصلاة، باب الخصر في الصلاة،ومسلم(1/387رقم545)في المساجدومواضع الصلاة،باب كراهة الاختصار في الصلاة.
(2) في (ب) و(غ): «واختلف».
(3) لم نجده عن أبي هريرة، والظاهر أن القرطبي وهم بسبب فهمه لكلام القاضي عياض، ثم اختصاره له ؛ وذلك أن عياضًا قال في "الإكمال" (1/103/ب): «وقيل هو أن يقرأ من آخر السورة آية أو آيتين، ولا يقرؤها في فرضه بكمالها، كذا رواه ابن سيرين عن أبي هريرة، ورواه غيره: متخصِّرًا ...»، فقوله: «ورواه غيره متخصرًا " يفسر قوله: «كذا رواه ...»، أي: رواه ابن سيرين عن أبي هريرة بلفظ: «مختصرًا»، ورواه غيره عن أبي هريرة بلفظ: «متخصّرًا " .وهذه العبارة في الأصل للهروي في "الغريبين" (2/213-214) نقلها عنه عياض، وسياق الهروي يوضح ما ذكرت ؛ فإنه قال: «وفي حديث أبي هريرة: نهى أن يصلي الرجل مختصرًا ...»، ثم ذكر الأقوال في معنى "مختصرًا»، ثم قال: «هكذا رواه ابن سيرين عنه، ورواه غيره: متخصِّرًا». ... ... ... ...
وهذا الذي قلت هو الذي فهمه الحافظ ابن حجر من كلام الهروي ؛ فإنه قال في "فتح الباري" (3/89): «وحكى الهروي في الغريبين أن المراد بالاختصار: قراءة آية أو آيتين من آخر السورة»، ولم ينسبه لأبي هريرة .
(4) قوله: «هو» سقط من (غ).
(5) في (ح) يشبه أن تكون «خنصره».
(6) في (ح) يشبه أن تكون: «الاحتضار».
(7) أخرجه ابن خزيمة (2/57 رقم909) طريق عيسى بن يونس، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « الاختصار راحة أهل النار ».
ومن طريقه أخرجه ابن حبان (6/63 رقم2286/الإحسان)، والبيهقي(2/287-288).
وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (7/84-85 رقم6925) فأدخل عبدالله بن الأزور، بين عيسى بن يونس وهشام بن حسان . قال الطبراني: «لم يرو هذا الحديث عن هشام بن حسان إلا عبدالله بن الأزور، تفرد به عيسى بن يونس».
والحديث أورده الذهبي في "الميزان" (2/391-392) وقال: «منكر»، ونقل عن الأزدي قوله في " عبدالله بن الأزور": ضعيف جدًّا .
(8) أخرجه البخاري (3/79 رقم 1207) في العمل في الصلاة، باب مسح الحصى في الصلاة، ومسلم (1/387 رقم546) في المساجد ومواضع الصلاة، باب كراهة مسح الحصى وتسوية التراب في الصلاة .
(9) أخرجه مسلم من عدة طرق بعدة ألفاظ، وهذا لفظ إحدى الروايات، لكنها غير الرواية التي أوردها في "التلخيص".
(10) في (غ): «قد» بلا واو.
(11) المثبت من (أ)، وفي (ب): «ما يتأذى بها منه»، وفي (ح): «ما يتأذى به منها». وفي (غ): «ما يتأذى به، ومنع».(2/123)
والمعروف عنه ما عليه الجمهور، وقيل: بل عنى مسح الغبار عن وجهه، ويشهد له حديث النسائي عن أبي ذر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :«إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى، فإن الرحمة تواجهه»، زاد في مسند سفيان بن عيينة:«فلا يمسح إلا مرة» (1) .
وقد كره السلف مسح الجبهة في الصلاة - وقبل: الانصراف - مما يتعلق بها من الأرض؛ لكثرة الأجر في تَتْرِيب الوجه، والتواضع لله، والإقبال على صلاته بجميعه.
وقوله: «إِنْ كُنْتَ فَاعِلاً فَوَاحِدَةً»، رويناه بنصب واحدة، ورفعه. فنصبه بإضمار فعل تقديره: فامسح واحدة، أو يكون نعتًا لمصدر محذوف. ورفعه (2) على الابتداء وإضمار الخبر، تقديره: فواحدة تكفيه، أو كافيته، ويجوز أن يكون المبتدأ هو المحذوف، ويكون (3) واحدة: الخبر، تقديره: فالمشروع (4) - أو الجائز -: واحدة، وما أشبهه. =(2/156)=@
145 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (5) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَأَقْبَلَ على النَّاسِ فَقَالَ: «مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَقُومُ مُسْتَقْبِلَ رَبِّهِ فَيَتَنَخَّعُ أَمَامَهُ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يُسْتَقْبَلَ فَيُتَنَخَّعَ فِي وَجْهِهِ، فَإِذَا تَنَخَّعَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَنَخَّعْ عَنْ يَسَارِهِ تَحْتَ قَدَمِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَقُلْ هَكَذَا»، وَوَصَفَ الْقَاسِمُ فَتَفَلَ فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ مَسَحَ بَعْضَهُ على بَعْضٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ»، النُّخامَة، والنُّخاعَة: ما يخرج من الصدر؛ يقال: تَنَخَّم وتنخع بمعنى واحد، والبصاق بالصاد والزاي: ما يخرج من الفم. والمخاط: ما يخرج من الأنف. ويقال: بصق الرجل يبصق، وبزق كذلك ". وتَفَل بفتح العين يتفِل بكسرها، وبالتاء باثنتين لا غير. ونَفَثَ ينفث. قال ابن مكي في "تثقيف اللسان": التَّفَل بفتح الفاء (6) : نفخ لا بصاق معه، والنفث لابد أن يكون معه شيء من الريق، قاله أبو عبيد. وقال الثعالبي: الْمَجُّ: الرمي بالريق، والتفل أقل منه، والنفث أقل منه.
وقوله: «مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَقُومُ مُسْتَقْبِلَ رَبِّهِ»؛ هذا محمول على تعظيم حرمة هذه الجهة وتشريفها؛ كما قال: «الحجر الأسود يمين الله في الأرض» (7) ، أي: بمنزلة يمين الله. ولما كان المصلي يتوجه بوجهه وقصده وكليته (8) إلى هذه الجهة، نَزَّلها في حقه منزلة وجود (9) الله تعالى، فيكون هذا من باب الاستعارة، وقد يجوز &(2/124)&$
__________
(1) أخرجه الطيالسي (ص64 رقم476)، والحميدي (1/70 رقم128)، وابن أبي شيبة (2/178 رقم7819) كتاب الصلاة، باب مسح الحصى وتسويته في الصلاة، وأحمد (5/149، 150 ، 163 ، 179)، وأبو داود (1/581 رقم945) في الصلاة، باب في مسح الحصى في الصلاة، وابن ماجه (1/327-328 رقم1027) في إقامة الصلاة، باب مسح الحصى في الصلاة، والترمذي (2/219 رقم379) في الصلاة، باب ما جاء في كراهية مسح الحصى في الصلاة، والنسائي (3/6 رقم1191) في السهو، باب النهي عن مسح الحصى في الصلاة، وابن الجارود في "المنتقى" (1/198 رقم219)، وابن خزيمة (2/59 رقم913)، وابن حبان كما في ترتيبه (6/49-50 رقم2273)، جميعهم من طريق الزهري، عن أبي الأحوص، عن أبي ذر، به.
(2) قوله: «ورفعه» ليس في (أ).
(3) في (غ): «وتكون».
(4) في (أ): «فالشروع»، وفي (ح): «تقديره فواحدة فالمشروع».
(5) أخرجه البخاري (1/509، 510، 512 رقم 408و 410 ، 416) في الصلاة، باب حك المخاط بالحصى من المسجد، وباب لا يبصق عن يمينه في الصلاة، وباب دفن النخامة في المسجد، ومسلم (1/389 رقم550) في المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها.
(6) قوله: «بفتح التاء» من (ب) فقط.
(7) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (4/221 رقم2737)، والطبراني في "الأوسط" (1/177 رقم563)، والحاكم (1/457)، ثلاثتهم من طريق عبدالله بن المؤمل، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :«يأتي الركن يوم القيامة أعظم من أبي قبيس، له لسان وشفتان يشهدان لمن استلمه بحق، وهو يمين الله عز وجل التي يصافح بها خلقه».
قال الطبراني عقبه: «لم يرو هذا الحديث عن عطاء، عن عبدالله بن عمرو إلا عبدالله بن المؤمل». وصححه الحاكم، فتعقبه الذهبي بقوله: «عبدالله بن المؤمل واه».
وأخرجه البيهقي في "الأسماء والصفات" (2/162-163 رقم729 طريق الحاكم وقال: «في إسناد الحديث ضعف».
وهذه أمثل طرق الحديث، وله طرق أخرى في إسنادها متهمون، ذكرها الشيخ الألباني في "الضعيفة" (1/390-392 رقم223)، وحكم على الحديث بالنكارة .
(8) في (غ): «وكلمته».
(9) قوله: «وجود» ليس في (أ).(2/124)
أن يكون من باب حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، فكأنه قال: مستقبل قبلة ربه، =(2/157)=@ أو رحمة ربه؛ كما قال في الحديث الآخر:«فلا يبصق قبل القبلة، فإن الرحمة تواجهه»" (1) .
146 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (2) : أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَحَكَّهَا بِحَصَاةٍ، ثُمَّ نَهَى أَنْ يَبْزُقَ الرَّجُلُ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ أَمَامَهُ، وَلَكِنْ لِيَبْزُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «فَحَكَّهَا بِحَصَاةٍ» زاد أبو داود (3) فيه (4) : «ثم أقبل على الناس مغضبًا»، وهذا يدل على تحريم البصاق في جدار القبلة، و على أنه لا يتكفر بدفنه، ولا بحكّه، كما قال في جملة المسجد (5) : «البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها» (6) ، فلو تكفر البزاق (7) في القبلة بالحك لما غضب؛ إذ قد كان تكفي الكفارة في ذلك - وهي الحك (8) -، كما اكتفى بها في حديث الأعرابي الذي وطئ في نهار (9) رمضان، ولم يذمه ولا غضب عليه. وقد ظهرت خصوصية جهة القبلة حيث نزلها منزلة الرب تعالى (10) ، كما تقرر، وظهر أيضًا التخفيف في ساحة المسجد؛ كما قد ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه خيمة لسعد بن معاذ بعد ما رمى في أكحله، فكان الدم يسيل من خيمته إلى جهة الغفاريين (11) ، هذا مع ما قيل: إن هذا كان لضرورة داعية إلى ذلك.
وقد ذكر مسلم (12) في حديث جابر الطويل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل مكان النُّخَامة (13) عنيرًا (14) .
وروى النسائي (15) الحديث الأول من طريق أنس، فقال (16) : غضب حتى احمرّ وجهه، فقامت امرأة من الأنصار فحكّتها، وجعلت مكانها خلوقًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما أحسن هذا !».
ويصحُّ الجمع بين (17) هذه الأحاديث بأن يقال: كان ذلك في أوقات مختلفة: ففي وقت حكّها - صلى الله عليه وسلم - وطيّبها بيده، ومرة أخرى فعلت هذه المرأة ما ذُكر. ويمكن أن يقال: نسب الحكّ والتطييب (18) للنبي - صلى الله عليه وسلم - من حيثُ الأمرُ به، وللمرأة من حيث المباشرة. =(2/158)=@
وفي هذا الحديث: استحباب أو جواز (19) تطييب المساجد بالطيب، وتنظيفها؛ كما نص عليه أبو داود من حديث عائشة: أمر (20) ببناء المساجد فى الدور، وأن (21) تُطيَّب &(2/125)&$
__________
(1) لم نجده بهذا اللفظ، وأخشى أنه التبس على المصنف بحديث أبي ذر المتقدم قريبًا بلفظ: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى ؛ فإن الرحمة تواجهه».
وانظر التعليق الآتي على الحديث رقم (574) في باب التنفل والوتر على الراحلة في السفر؛ فيما يتعلق بقوله: «مستقبل ربه».
(2) أخرجه البخاري (1/509-511 رقم 409 ، 411 ، 414) في الصلاة، باب حك المخاط بالحصى من المسجد، وباب لا يبصق عن يمينه في الصلاة، وباب ليبزق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى، ومسلم (1/389 رقم548) في المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها .
(3) في كتاب الصلاة من"سننه" (1/323-324رقم480) باب في كراهية البزاق في المسجد.
(4) قوله: «فيه» ليس في (ب).
(5) في (ح): «كما قال في حكة البصاق ...»، والمراد بجملة المسجد: جميعه، لا القبلة فقط.
(6) وهو حديث أنس الآتي برقم (445).
(7) في (ب): «البصاق».
(8) قوله: «وهي الحك» ليس في (أ).
(9) قوله: «نهار» سقط من (ح).
(10) سبق التنبيه على خطأ هذا القول، فانظر (ص97) من الملف (10).
(11) هو حديث عائشة الآتي برقم (1290) في كتاب الجهاد، باب إذا نزل العدو على حكم الإمام فله أن يرد الحكم إلى غيره ممن له أهلية ذلك .
(12) سيأتي الحديث برقم (2204) في كتاب النبوات، باب ذكر بعض كرامات النبي - صلى الله عليه وسلم - في حال هجرته وفي غيرها .
(13) في (أ): «النخاعة».
(14) في (غ): «عنبرًا».
(15) في "سننه" (2/52-53 رقم728) في المساجد، باب تخليق المساجد .
(16) في (ب): «قال».
(17) في (ح): «من».
(18) في (ب): «والطيب».
(19) في (أ): «جواز».
(20) في (أ) و(ح): «وأمر».
(21) في (ح): «أن».(2/125)
وتُنَظَّف (1) . ومن (2) حديث سمرة: وتُصلحُ (3) صَنْعَتُها (4) .
147 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (5) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاةِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلا يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلا عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ عَنْ شِمَالِهِ تَحْتَ قَدَمِهِ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ونهيه عن البصاق عن يمينه دليل: على احترام تلك الجهة، وقد ظهر منه تأثير ذلك، حيث كان يحب التيمن في شأنه كله، وحيث كان يبدأ بالميامن في الوضوء والأعمال الدينية، وحيث كان يعدّ يمينه لحوائجه، وشماله (6) لما كان من أذى (7) . وقد علل ذلك في حديث أبي داود حيث قال: «والْمَلَك عن يمينه» (8) ، بل وفي البخاري: «فإن (9) عن يمينه ملَكًا» (10) . ويقال على هذا: إن صحّ هذا التعليل لزم عليه (11) أن لا يبصق (12) عن يساره؛ فإن (13) عليه أيضًا ملَكًا؛ بدليل قوله تعالى : {عن اليمين وعن الشمال قعيد} (14) . والجواب بعد تسليم أن على شماله ملكًا: أن ملك اليمين أعلى وأفضل، فاحتُرم بما لم (15) يحترم غيره من نوعه، والله أعلم (16) (17) . وهذا النهي مع التمكن من البصاق في غير جهة اليمين، فلو اضطر إلى ذلك جاز.
وقوله (18) : «أو تحت قدمه» بإثبات «أو»، وفي (19) الآخر: «عن شماله، تحت قدمه» =(2/159)=@ بغير «أو»، كذا (20) الرواية. وظاهر: «أو»: الإباحة والتخيير (21) ، ففي أيهما بصق لم يكن به بأس، وإليه يرجع معنى قوله:«عن شماله تحت قدمه»، وقد (22) سمعنا من (23) بعض مشايخنا: أن ذلك إنما يجوز إذا لم يكن في المسجد إلا التراب أو الرمل، كما كانت مساجدهم في الصدر الأول، فأما إذا كان في المسجد بُسُطٌ، وما له بالٌ من الْحُصُر مما يفسده البصاق ويُقَذِّره، فلا يجوز احترامًا للماليَّة، والله أعلم. &(2/126)&$
__________
(1) أخرجه أحمد (6/279)، والترمذي (2/489-490 رقم594) في الصلاة، باب ما ذكر في تطييب المساجد، كلاهما من طريق عامر بن صالح . وأخرجه أبو داود (1/314 رقم 455) في الصلاة، باب اتخاذ المساجد في الدور، وابن حبان كما في ترتيبه "الإحسان" (4/513 رقم1634)،كلاهما من طريق زائدة بن قدامة. وأخرجه ابن ماجه (1/250 رقم758) في المساجد والجماعات، باب تطهير المساجد وتطيبيها، وابن خزيمة (2/270 رقم1294)، كلاهما من طريق مالك بن سعير، ثلاثتهم - عامر بن صالح، وزائدة، ومالك - عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببناء المساجد في الدور، وأن تطيب وتنظّف .
وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/143 رقم7443) في الصلاة، باب في تخليق المساجد، من طريق وكيع، والترمذي (2/490رقم 595، 596) طريق عبدة ووكيع وسفيان بن عيينة، ثلاثتهم عن هشام بن عروة، عن أبيه، به مرسلاً ليس فيه ذكر لعائشة .
ورجح الترمذي الإرسال، فقال: «هذا أصح من الحديث الأول».
وأخرج العقيلي في "الضعفاء"(3/309) الرواية الموصولة، ثم أتبعها بالمرسلة، ثم رجح المرسلة، فقال: «وهذا أولى».
وذكر الدارقطني في "العلل" (5/ل36/أ) الاختلاف فيه على هشام فمن دونه، ثم قال: «والصحيح عن جميع من ذكرنا وعن غيرهم: عن هشام، عن أبيه مرسلاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ».
وأما ابن خزيمة وابن حبان فأخرجا الحديث في صحيحيهما مصححين له، فلست أدري هل اطلعا على علته فصوّبا الوصل، أولاً ؟
وأما الشيخ الألباني فصحح الحديث في تعليقه على "صحيح ابن خزيمة».
(2) في (غ): «من» بلا واو.
(3) في (ب): «ويصلح».
(4) أخرجه أبو داود (1/351 رقم 456)، في الصلاة، باب: اتخاذ المساجد في الدور، من طريق محمد بن داود بن سفيان، عن يحيى بن حسان، عن سليمان بن موسى، عن جعفر بن سعد بن سمرة، عن خبيب بن سليمان بن سمرة بن جندب، عن أبيه سليمان، عن أبيه سمرة، أنه كتب إلى ابنه: أما بعد، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمرنا بالمساجد أن نصتعها في ديارنا ونصلح صنعتها ونطهرها .
وسنده ضعيف ؛ فسليمان بن سمرة وابنه خبيب مجهولان، وجعفر بن سعد ليس بالقوي .
(5) أخرجه البخاري (1/353 رقم241) في كتاب الوضوء، باب البزاق والمخاط ونحوه في الثوب، و(1/507 ، 510 ، 511 ، 513 رقم 405 ، 412 ، 413 ، 417) في كتاب الصلاة، باب حك البزاق باليد من المسجد، وباب لا يبصق عن يمينه في الصلاة، وباب ليبزق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى، وباب إذا بدره البزاق، فليأخذ بطرف ثوبه، و(2/14-15 رقم531 ، 532) في كتاب مواقيت الصلاة، باب المصلي يناجي ربه عز وجل، و(2/301 رقم822) في كتاب الأذان، باب لا يفترش ذراعيه في السجود، و(3/84 رقم1214) في كتاب العمل في الصلاة، باب ما يجوز من البصاق والنفخ في الصلاة، ومسلم (1/390 رقم551) في المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها .
(6) في (ح): «وشمال».
(7) تقدم حديث عائشة رضي الله عنها في الطهارة برقم (196) قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب التيمن في شأنه كله في تنعله، وفي ترجله، وطهوره».
وأخرج الإمام أحمد (6/287)، وأبو داود (1/32 رقم32) في الطهارة، باب كراهية مس الذكر باليمين في الاستبراء، من حديث حفصة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه وثيابه، ويجعل شماله لما سوى ذلك .
هذا لفظ أبي داود، ونحوه لفظ أحمد، إلا أنه قال: «وطهوره وصلاته»، ولم يذكر "شرابه». وسنده حسن .
وأخرج أحمد أيضًا (6/170 ، 265)، وأبو داود برقم (33 ، 34)، كلاهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى .
وسند رجاله ثقات، إلا أنه من رواية إبراهيم النخعي عن عائشة، وهو لم يسمع منها ؛ قال ابن أبي حاتم في "المراسيل" (ص9 رقم19): «حدثنا محمد بن أحمد بن البراء قال: قال علي بن المديني: إبراهيم النخعي لم يلق أحدًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قلت له: فعائشة ؟ قال: هذا شيء لم يروه غير سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم، وهو ضعيف».
(8) أخرجه الحميدي (2/320 رقم729)، وأحمد (3/9 ، 24)، وأبو داود (1/323-324 رقم480) كتاب الصلاة، باب في كراهية البزاق في المسجد، وابن خزيمة (2/46 رقم880)، جميعهم من طريق محمد بن عجلان، عن عياض بن عبدالله بن سعد بن أبي سرح، عن أبي سعيد الخدري ؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحب العراجين، ولا يزال في يده منها، فدخل المسجد فرأى نخامة في قبلة المسجد، فحكها ثم أقبل على الناس مغضبًا فقال: «أيسر أحدكم أن يبصق في وجهه ؟ إن أحدكم إذا استقبل القبلة فإنما يستقبل ربه عز وجل، والملك عن يمينه، فلا يتفل عن يمينه ...». الحديث . وسنده حسن .
وذكر الدارقطني في "العلل" (11/294-296): أن سفيان الثوري رواه عن محمد بن عجلان، عن نافع، عن أبي سعيد، ولكنه حكم على هذه الرواية بالوهم .
(9) في (غ): «قال».
(10) أخرجه البخاري (1/512 رقم416) في الصلاة، باب دفن النخامة في المسجد، من حديث أبي هريرة، وهو أحد ألفاظ البخاري للحديث المتقدم برقم (442).
(11) قوله: «عليه " ليس في (ح).
(12) في (غ): «يبزق».
(13) في (ح): «لأن».
(14) سور ق، الآية: 17.
(15) في (ح): «ما لم».
(16) قوله: «والله أعلم " ليس في (ح).
(17) قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (1/513): «قوله:«فإن عن يمينه ملكًا» تقدم أن ظاهره اختصاصه بحالة الصلاة، فإن قلنا: المراد بالملك الكاتب فقد استشكل اختصاصه بالمنع مع أن عن يساره ملكًا آخر، وأجيب احتمال اختصاص ذلك بملك اليمين تشريفًا له وتكريمًا، هكذا قاله جماعة من القدماء ولا يخفى ما فيه . وأجاب بعض المتأخرين بأن الصلاة أم الحسنات البدنية فلا دخل لكاتب السيئات فيها، ويشهد له ما رواه ابن أبي شيبة من حديث حذيفة موقوفًا في هذا الحديث قال: «ولا عن يمينه، فإن عن يمينه كاتب الحسنات».
وفي الطبراني من حديث أبي أمامة في هذا الحديث: «فإنه يقوم بين يدي الله وملكه عن يمينه وقرينه عن يساره».اهـ. فالتفل حينئذ إنما يقع على القرين وهو الشيطان، ولعل ملك اليسار حينئذ يكون بحيث لا يصيبه شيء من ذلك، أو أنه يتحول في الصلاة إلى اليمين، والله أعلم ».
(18) في (غ): «قوله» بلا واو.
(19) في (ح): «في» بغير واو.
(20) في (ح): «هكذا».
(21) في (ح) و(غ): «أو التخيير».
(22) في (ح): «فقد».
(23) قوله: «من» سقط من (ح).(2/126)
148 - وَعَنْهُ (1) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : «الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا»، قال ابن مكي: إنما تكون خطيئة لمن تفل فيه ولم يدفنه؛ لأنه يقذّر المسجد، ويتأذى به من (2) تعلق به، أو رآه؛ كما جاء في الحديث الآخر: «لئلا يصيب جلد مؤمن أو ثوبه فيؤذيه» (3) . فأمّا من اضطرّ إلى ذلك فدفن، وفعل ما أُمِر به، فلم يأت خطيئة. وأصل التكفير: التغطية، فكأنّ دَفْنَها غطاءُ ما يتصور عليه من الذمّ والإثم لو لم يفعل. وهذا كما سُمِّيت تَحِلَّةُ اليمين: كفارة، وليست اليمين بمأثم (4) فتكفره (5) ، ولكن لما جعلها (6) الله (7) سبحانه فسحة لعباده في حلّ ما عقدوه من أيمانهم، ورفعها لحكمها، سمّاها: كفارة، ولهذا جاز إخراجها قبل الحِنْث، وسقوط حكم اليمين بها على الأصح من القولين. =(2/160)=@
149 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ (8) ، عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:«عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِئ أَعْمَالِهَا النُّخَاعَةَ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ لا تُدْفَنُ».
150 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ (9) قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَاَيْتُهُ تَنَخَّعَ فَدَلَكَهَا بِنَعْلِهِ اليُسْرَى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال (10) الشيخ رحمه الله: وقد دلّ على صحة هذا التأويل: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي ذر: &(2/127)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (1/511 رقم 415) في الصلاة، باب كفارة البزاق في المسجد، ومسلم (1/390 رقم552) في المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها.
(2) في (ب): «ويتأذى من».
(3) أخرجه الإمام أحمد (1/179 طريق محمد بن إسحاق، حدثني عبدالله بن محمد ابن أبي عتيق، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا تنخم أحدكم في المسجد فليغيِّب نخامته ؛ أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه».
وسنده حسن .
(4) في (ب): «بإثم».
(5) في (أ) و(غ): «فيكفره».
(6) في (ب) و(غ): «جعلها الشرع».
(7) هنا بداية سقط لوحة من نسخة (ح)
(8) أخرجه مسلم (1/390 رقم553) في المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها .
(9) أخرجه مسلم (1/390 رقم554) في المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها .
(10) في (أ): قلت.(2/127)
«وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِئ أَعْمَالِهَا النُّخَاعَةَ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ لا تُدْفَنُ»، فلم يثبت لها حكم السِّيِّئة (1) لمجرد (2) إيقاعها في المسجد، بل بذلك وببقائها غير مدفونة. و «الأذى»: هو كل ما يُتَأذّى به من عظم، أو حجر، أو نجاسة، أو قذر، أو غير ذلك. و«يُمَاطُ»: يُزَال، ويُنَحَّى (3) .
************
(47) باب الصلاة في النعلين، والثوب المعلم، وبحضرة الطعام
51 - عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ (4) قَالَ: قُلْتُ لأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فِي النَّعْلَيْنِ؟ قَالَ: نَعَمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الصلاة في النعلين والثوب المعلم
قول أنس: «كَانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فِي النَّعْلَيْنِ»: هذا يدل على جواز الصلاة فيهما، وهو أمر لم يُختلف فيه إذا كانت النعل طاهرة من ذَكِيّ، فإن تحقق فيها =(2/161)=@ نجاسة مجمع على تنجيسها كالدم، والعَذِرة من بول بني آدم، لم يطهرها إلا الغسل بالماء عندنا وعند كافة العلماء، وإن كانت النجاسة مختلفًا فيها: كبول الدواب، وأرواثها الرطبة، فهل يطهرها المسح بالتراب (5) من النعل والخف، أو لا؟ قولان عندنا (6) : وأطلق الإجزاء بمسح ذلك بالتراب من غير تفصيل الأوزاعي (7) وأبو ثور (8) . وقال أبو حنيفة (9) : يزيله - إذا يبس - الحكُّ والفرك، ولا يزيل رطبه إلا الغسل ما عدا البول، فلا يجزىء (10) عنده فيه إلا الغسل. وقال الشافعي: لا يطهر شيئًا من ذلك كله (11) إلا الماء. والصحيح: قول من قال: بأن المسح يطهره من الخف والنعل، بدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد الخدري: «إذا جاء أحدكم المسجد، فان رأى &(2/128)&$
__________
(1) في (ب) يشبه أن تكون: «النسينة».
(2) في (غ): «بمجرد».
(3) في (ب): «ويماط: يزال وتنحى».
(4) أخرجه البخاري (1/494 رقم 386) في الصلاة، باب الصلاة في النعال، و(10/ 308 رقم 5850) في كتاب اللباس، باب النعال السبتية وغيرها، ومسلم (1/391 رقم555)، في المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز الصلاة في النعلين .
(5) في (ب): «والتراب».
(6) توثيق فقهي.
(7) توثيق فقهي.
(8) توثيق فقهي.
(9) توثيق فقهي.
(10) في (غ): «ولا يجزئ».
(11) قوله: «كله" سقط من (ب).(2/128)
في نعليه قذرًا أو أذى فليمسحه، وليصلّ فيهما»، خرّجه أبوداود، وهو صحيح (1) . فأمّا لو كانت النعل أو الخف من جلد ميتة، فإن كان غير مدبوغ، فهو نجس باتفاق، ويختلف فيه إذا دُبغ: هل يطهر طهارة مطلقة، أو إنما ينتفع به في اليابسات؟ روايتان عن مالك.
152 - وعَنْ عَائِشَةَ (2) قَالَت: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فِي خَمِيصَةٍ ذَاتِ أَعْلامٍ، فَنَظَرَ إِلَى عَلَمِهَا، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ قَالَ:«اذْهَبُوا بِهَذِهِ الْخَمِيصَةِ إِلَى أَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ، فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا فِي صَلاتِي».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و«الْخَمِيصَةِ»- بفتح الخاء-: كساء مُرَبَّع من صوف، قال الإمام أبو عبدالله (3) : مصبوغٌ عَلَمُه حريرٌ. والإنْبِجَاني: كساءٌ غليظ لا علم له، وروي بفتح الهمزة وكسرها، وبفتح الباء وكسرها، وبالوجهين ذكرها (4) ثعلب، وروي بتشديد الباء =(2/162)=@ وتخفيفها في غير مسلم. وقال ابن قتيبة: إنما هو مَنْبَجانِي (5) (3) - ولا يقال: أنبجاني -، منسوب إلى مَنْبِج، وفتحت الباء في النسب؛ لأنه خرج مخرج مَخْبَرَانِي.
وفي هذا الحديث: جواز لباس الثياب ذوات الأعلام.
وفيه: التحفظ من كُلِّ ما يُشغل عن الصلاة النظرُ إليه.
ويستفاد منه: كراهية (6) التزاويق والنقوش (7) فى المساجد.
وفيه: أن الذهول اليسير في الصلاة لا يضرها، ألا ترى إلى قوله:«فإنها أَلْهتني عن صلاتي»، أي: شغلتني وصرفتني.
وفيه: سدّ الذرائع (8) ، والانتزاع عما يشغل الإنسان عن واجبات دينه.
وفيه: قبول الهدايا من الأصحاب، واستدعاؤه - صلى الله عليه وسلم - أنبجاني أبي جهم (9) بن حذيفة تطييب لقلبه ومُبَاسَطَةٌ معه، وهذا - مع من يعلم طيب نفسه، وصفاء وُدِّه- جائز.
و«آنفًا»: الساعة. ولم يبعث الخميصة لأبي جهم ليصلي فيها، بل لينتفع بها في غير الصلاة، والله تعالى أعلم. &(2/129)&$
__________
(1) أخرجه الطيالسي (ص286 رقم2154)، وأحمد (3/20 ، 92)، وعبد بن حميد رقم (880)، والدارمي (1/320) في الصلاة، باب الصلاة في النعلين، وأبو داود (1/426-427 رقم650) في الصلاة، باب الصلاة في النعل، وابن خزيمة في "صحيحه" (2/107 رقم1017)، وابن حبان في "صحيحه" (5/560 رقم2185/الإحسان)، والحاكم (1/260)، جميعهم من طريق حماد بن سلمة، عن أبي نعامة السعدي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، به .
وهو صحيح كما قال المصنِّف، فإن حماد بن سلمة قد توبع كما في "العلل" للدارقطني (11/328-329)، و"سنن البيهقي" (2/403 قبل حجاج بن الحجاج وأبي عامر الخزاز وعمران القطان، وقد صححه ابن خزيمة وابن حبان، وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم»، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في "الإرواء" (1/314-315 رقم284)، وله شاهد كما سيأتي .
وقد رواه أيوب السختياني، عن أبي نضرة، لكن اختُلف على أيوب فيه اختلافًا ذكره ابن أبي حاتم في "العلل" عن أبيه (1/121 رقم330) والدارقطني في "العلل" (8/111- 112 رقم 1437)، و(11/328-329 رقم 2316).، ورجحا رواية حماد ومن وافقه، عن أبي نعامة .
وله شاهد من حديث أنس أخرجه الحاكم (1/139-140) وصححه، ووافقه الذهبي، وقال الألباني في الموضع السابق من "الإرواء": «وهو كما قالا».
(2) أخرجه البخاري (1/482 رقم 373) في الصلاة، باب إذا صلى في ثوب له أعلام ونظر إلى علمها، و(2/234 رقم752) في كتاب الأذان، باب الالتفات في الصلاة، و(10/277 رقم5817) في كتاب اللباس، باب الأكسية والخمائص، ومسلم (1/391 رقم556/62)، في المساجد ومواضع الصلاة، باب كراهة الصلاة في ثوب له أعلام .
(3) يعني المازري صاحب كتاب: «المعلم".
(4) في (ب): «ذكره».
(5) ضبطت في (أ) بكسر الميم .
(6) إلى هنا نهاية السقط من نسخة (ح) الذي سبق الإشارة إليه. [راجع الأصل ص23].
(7) بداية سقط جديد في (ح).
(8) قوله: «في المساجد ...." إلى هنا سقط من (ح).
(9) قوله: «أبي هم» ليس في (أ).(2/129)
153 - وَعَن أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ (1) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا قُرِّبَ الْعَشَاءُ وَحَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَابْدَءُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تُصَلُّوا صَلاةَ الْمَغْرِبِ، وَلا تَعْجَلُوا عَنْ عَشَائِكُمْ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «إِذَا قُرِّبَ الْعَشَاءُ وَحَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَابْدَءُوا بِهِ»: هذا الحديث (2) محمول على من كان محتاجًا للطعام (3) من صائم أو نحوه. وقد دلّ على صحة هذا التأويل: ما زاده (4) الدارقطني (5) في هذا الحديث من طريق صَحَّحَه (6) ؛ وذلك قوله: «إذا حضر العشاء وأحدكم صائم فابدؤوا به قبل أن تُصَلّوا». ولو لم تصح هذه =(2/163)=@ الزيادة لكان ذلك معلومًا من قاعدة الأمر بحضور القلب في الصلاة، والإقبال عليها، والنهي عما يشغل المصلي في صلاته. ويشوشها عليه، ولا تشويش أعظم (7) من تشويش الجائع عند (8) حضرة الطعام.
وإلى الابتداء بالطعام على الصلاة ذهب الشافعي، وابن حبيب من أصحابنا، والثوري، وأحمد، وإسحاق (9) ، وأهل الظاهر، وروي ذلك عن عمر (10) ، وابن عمر (11) ، وأبي الدرداء (12) (13) . وحكى ابن المنذر عن مالك: أنه يبدأ بالصلاة، إلا أن يكون الطعام خفيفًا.
وفي هذا الحديث ما يدل على أن وقت المغرب موسع، وهي إحدى الروايتين عن مالك، وسيأتي ذلك إن شاء الله (14) .
154 - وَمنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ (15) : «إِذَا حَضَرَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ وَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ».
155 - وَعَنِ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ (16) قَالَ: تَحَدَّثْتُ أَنَا وَالْقَاسِمُ عِنْدَ عَائِشَةَ حَدِيثًا، وَكَانَ الْقَاسِمُ رَجُلاً لَحَّانَةً، وَكَانَ لأُمِّ وَلَدٍ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: مَا لَكَ لا تَحَدَّثُ كَمَا يَتَحَدَّثُ ابْنُ أَخِي هَذَا؟ أَمَا إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ مِنْ أَيْنَ أُتِيتَ هَذَا أَدَّبَتْهُ أُمُّهُ، وَأَنْتَ أَدَّبَتْكَ أُمُّكَ. قَالَ: فَغَضِبَ الْقَاسِمُ وَأَضَبَّ عَلَيْهَا، فَلَمَّا رَأَى مَائِدَةَ عَائِشَةَ قَدْ أُتِيَ بِهَا قَامَ قَالَتْ: أَيْنَ؟ قَالَ: أُصَلِّي. قَالَتِ: اجْلِسْ قَالَ إِنِّي أُصَلِّي قَالَتِ: اجْلِسْ غُدَرُ! إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لا صَلاةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، وَلا (17) هُوَ يُدَافِعُهُ الأَخْبَثَانِ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث ابن عمر: «إِذَا حَضَرَ العَشَاءُ وَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ»: دليل على أن شهود الصلاة في الجماعة ليس بواجب؛ لأن ظاهر هذا: أنه إذا سمع الإقامة وهو في بيته وقد حضر طعامه أنه يبدأ بالطعام، وإن فاتته الصلاة في الجماعة (18) .
«وابْنِ أَبِي عَتِيقٍ»: هو عبدالله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر، والقاسم هذا: هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق، وكانت أمه أُمَّ ولدٍ.
وقوله: «وَكَانَ الْقَاسِمُ رَجُلاً لَحَّانَةً»، كذا للسمرقندي، وهو للمبالغة؛ كما يقال: علاَّمة، ونسَّابة، ووقع للعذري (19) : «لُحْنة» بسكون الحاء وضم اللام، ومعناه: أنه يلحن في كلامه، ويُلَحِّنُه الناس؛ كَخُدْعَة للذي (20) يُخدع، وهُزْأة: للذي يُهزأ &(2/130)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (2/159 رقم 672) في الأذان، باب إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، و(9/584 رقم5463) في كتاب الأطعمة، باب إذا حضر العشاء فلا يعجل، عن عائشة، ومسلم (1/392 رقم557)، في المساجد ومواضع الصلاة، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال .
(2) قوله: «الحديث» ليس في (أ).
(3) في (ح): «إلى الطعام».
(4) في (غ): «رواه».
(5) لم نجده في"السنن»، فلعله في "الغرائب والأفراد". وقد أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (5/421-422 رقم2068/الإحسان)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (5/240 رقم1992)، والطبراني في "الأوسط" (5/200 رقم5075)، ثلاثتهم من طريق موسى بن أعين، عن عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، عن أنس مرفوعًا بلفظ:«إذا أقيمت الصلاة وأحدكم صائم فليبدأ بالعشاء قبل صلاة المغرب، ولا تعجلوا عن عشائكم».
قال الطبراني: «لم يقل في الحديث: وأحدكم صائم، فليبدأ بالعشاء قبل صلاة المغرب، إلا عمرو بن الحارث، تفرد به موسى بن أعين».
قال ابن حجر في "الفتح" (2/160): «وقد أخرجه مسلم من طريق ابن وهب عن عمرو بدون هذه الزيادة، وذكر الطبراني أن موسى بن أعين تفرد بها ...، وموسى ثقة متفق عليه».
(6) في (ح): «من طرق صحيحة».
(7) في (غ): «عليه أعظم».
(8) في (أ): «في».
(9) في (ب) و(ح): «وإسحاق وأحمد».
(10) أخرجه عبدالرزاق (1/574-575 رقم2186)، والدولابي في "الكنى" (2/21)، كلاهما من طريق أبي عاصم علي بن عبيدالله قال: دعانا يسار بن نمير إلى طعام عند المغرب، فقالوا: الصلاة، فقال: يسار: إن عمر كان يقول: «إذا اجتمع صلاتكم وطعامكم، فابدأوا بطعامكم، ثم افرغوا لصلاتكم».
وفي سنده أبو عاصم عبيدالله بن سعد الغطفاني، ويقال: علي بن عبيدالله الغطفاني، وهو مجهول الحال، وذكره البخاري في "تاريخه" (6/286 رقم2417)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (5/317 رقم1508) ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان في "الثقات" (7/212).
وروي من وجه آخر، فأخرجه عبدالرزاق برقم (2185) طريق معمر، عن جعفر بن برقان، قال: دعانا ميمون بن مهران على طعام، ونودي بالصلاة، فقمنا وتركنا طعامه، فكأنه وجد على نفسه، فقال: أما والله لقد كان نحو هذا على عهد عمر، فبدأ بالطعام .
وسنده ضعيف،فميمون بن مهران لم يسمع من عمر؛كمافي"تهذيب الكمال"(29/211).
(11) أخرجه البخاري (2/159 رقم673) في الأذان، باب إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، ضمن حديث مرفوع قال في آخره: «وكان ابن عمر يوضع له الطعام وتقام الصلاة، فلا يأتيها حتى يفرغ، وإنه ليسمع قراءة الإمام .
وهو جزء من حديث ابن عمر الآتي، لكن لم يخرج مسلم هذه الزيادة .
(12) مثله: «وأبي الدرداء» ليس في (أ).
(13) علّقه البخاري في الموضع السابق ووصله ابن المبارك في "الزهد" (ص401-402 رقم1142) طريق ضمرة بن حبيب: أن أبا الدرداء قال: إن من فقه المرء إقباله على حاجته، حتى يقبل على صلاته وقلبه فارغ . وسنده صحيح .
(14) في (غ): «إن شاء الله سبحانه».
(15) أخرجه البخاري (2/159 رقم 673 ، 674) في الأذان، باب إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، و(9/584 رقم5464) في كتاب الأطعمة، باب إذا حضر العشاء فلا يعجل عن عائشة، ومسلم (1/392 رقم559)، في المساجد ومواضع الصلاة، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال .
(16) أخرجه مسلم (1/393 رقم560) في المساجد ومواضع الصلاة، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام .
(17) يراجع [كتبه أبو حمزة].
(18) يلزم المصنِّف على هذا أن يستدل أيضًا بحديث عائشة الآتي:«لا صلاة بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان»؛ حيث طُلب من المصلي البداءة بإخراج البول والغائط - وإن فاتته الجماعة - ليتفرغ لصلاته، ولكنه لم يستدل به -كما سيأتي - على ترك الجماعة لعلمه بضعف حجته، فيلزمه هنا ما يلزمه هناك .
(19) في (ب): «للعذي»، وكأن الراء ألحقت لكن في غير موضعها .
(20) في (أ) و(غ): «الذي».(2/130)
به، فأما: فُعَلَة بفتح العين (1) : فهو الذي (2) يفعل ذلك بغيره؛ كما يقال: صُرعة للذي =(2/164)=@ يصرع الناس (3) ، وهُزَأة للذي يهزأ بهم، وخُدَعة: للذي يخدعهم.
وقوله: «وأضبّ عليها " يعني: حقد، والضَّبُّ: الحقد؛ من كتاب القزاز. وقولها له: «اجلس غُدَرُ» معناه (4) : يا غادر. وعُدِلَ به عنه لزيادة معنى التكثير، ونسبته للغدر؛ لِما أظهر (5) من أنه إنما ترك طعامها (6) من أجل الصلاة، وما صدر من عائشة للقاسم إنما كان منها لإِنْهاض (7) هِمَّتِه، وليحرص على التعلُّم، و على تثقيف لسانه.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا صلاة بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان»: ظاهر هذا نفي الصحة والإجزاء، وإليه ذهب أهل الظاهر في الطعام، وتأول بعض أصحابنا حديث مدافعة الأخبثين على أنه شغله حتى لا يدري كيف صلّى، فهو الذي يعيد قبل وبعد. وأما إن شغله شغلاً لا يمنعه من إقامة حدودها، وصلّى ضَامًّا وَرْكَيْه (8) فهذا يعيد في الوقت، وهو ظاهر قول مالك في هذا. وذهب الشافعي والحنفي في مثل هذا: إلى أنه لا إعادة عليه. قال القاضي أبو الفضل (9) : وكلهم مجمعون على أَنَّ (10) من بلغ به ما لا يعقل به صلاته، ولا يضبط حدودها : أنها (11) لا تجزئه، ولا يحل له الدخول كذلك في الصلاة، وأنه يقطع الصلاة إن أصابه ذلك فيها. والأخبثان: الغائط والبول، قاله الهروي وغيره (12) . =(2/165)=@ &(2/131)&$
__________
(1) في (أ): «الحاء، يعني لُحَنَة».
(2) في (ح): «للذي» وفي (غ): «الذين».
(3) في (غ): «الناس».
(4) في (غ): «ومعناه».
(5) في (ح): «ظهر».
(6) في (غ): «طعام ها» كذا رسمت في (غ).
(7) في (غ): «لأنها ص» بالمهملة.
(8) في (ب): «ما بين وركيه»، وفي (ح): «بين وركيه».
(9) يعني: عياضًا .
(10) في (أ): «أنَّه».
(11) في (أ): «أنه».
(12) في حاشية (ب): «بلغ مقابلة».(2/131)
*************
(48) باب النهي عن إتيان المساجد لمن أكل الثوم أو البصل وإخراج من وُجد منه ريحها من المسجد
156 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ (1) : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ:«مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ - يَعْنِي الثُّومَ - فَلا يَأْتِيَنَّ الْمَسَاجِدَ».
157 - وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٌ (2) :«فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا».
158 - وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ (3) :«فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، وَلا يُؤْذِيَنَا بِرِيحِ الثُّومِ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب النهي عن إتيان المساجد لمن أكل الثوم
قوله: «فَلا يَأْتِيَنَّ الْمَسَاجِدَ»، حجة على من قال (4) : إن ذلك النهي (5) مخصوص بمسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله: «فلا يقربنّا ولا يصلّ (6) معنا»: يدل على أن مجتمع الناس حيث كان لصلاة أو غيرها؛ كمجالس العلم والولائم وما أشبهها (7) ، لا يقربها من أكل الثوم وما في معناه؛ مما له رائحة كريهة تؤذي الناس، ولذلك (8) جمع بين الثوم والبصل والكراث في حديث جابر. وتسمية الثوم: شجرة، على خلاف الأصل، فإنها من البقول، وقد سمّاها في الرواية الأخرى (9) : بقلة. والشجر في كلام العرب: ما كان على ساق يحمل (10) أغصانه، وما ليس كذلك =(2/166)=@ فهو نجم، وهو قول الهروي وغيره من اللغويين، وهو المروي (11) عن ابن عباس وابن جبير في قوله تعالى : {والنجم والشجر يسجدان} (12) . وهذا كله ما دامت هذه البقول غير مطبوخة، فأما لو طبخت، فكما قال عمر (13) : فمن أكلهما (14) فليمتهما طبخًا. &(2/132)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (2/339 رقم853) في الأذان، باب ماجاء في الثوم النيء والبصل والكراث، و(7/481 رقم4215 ، 4217 ، 4218) في كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، و(9/653 رقم5521 ، 5522) في كتاب الذبائح والصيد، باب لحوم الحمر الأنسية، ومسلم (1/393 رقم561) في المساجد ومواضع الصلاة، باب نهي من أكل ثومًا أو بصلاً أو كراثًا أو نحوها .
(2) أخرجه البخاري (2/339 رقم856) في الأذان، باب ماجاء في الثوم النيء والبصل والكراث، و(9/575 رقم5451) في كتاب الأطعمة، باب ما يكره من الثوم، ومسلم (1/394 رقم562) في الكتاب والباب السابقين .
(3) أخرجه مسلم (1/394 رقم563) في المساجد ومواضع الصلاة، باب نهي من أكل ثومًا أو بصلاً أو كراثًا أو نحوها .
(4) قوله: «من قال» سقط من (غ).
(5) في (ب) و(ح): «ذلك النهي».
(6) في (غ): «يصلي».
(7) في (ح): «أشبههما».
(8) في (ح): «وكذلك».
(9) يعني الرواية الأخرى لحديث جابر .
(10) في (غ): «تحمل».
(11) في (ح): «والمروي».
(12) سورة الرحمن، الآية: 6.
والمروي عن ابن عباس أخرجه الطبري (23/11، 12) طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس - في قوله : { والنجم }- قال: ما يبسط على الأرض، والشجر: كل شيء قام على ساق .
وعلي بن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس، وروايته للتفسير عنه مشهورة، وبعض أهل العلم يقبلها على اعتبار أن الواسطة بينهما مجاهد، وبعضهم يردها، والله أعلم .
وله طريق أخرى أخرجها أبو الشيخ في "العظمة" (5/1733 رقم1206)، والحاكم (2/474)، كلاهما من طريق يحيى بن يمان، عن المنهال بن خليفة، عن حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: النجم: ما أنجمت الأرض، والشجر: ما كان على ساق .
قال الحاكم: «صحيح الإسناد»، فتعقبه الذهبي بقوله: «منهال ضعفه ابن معين».
قلت: ومع ضعف المنهال، فيحيى بن يمان العجلي أيضًا ضعيف، وكذا حجاج بن أرطأة، بالإضافة لوصفه بالتدليس، وقد عنعن .
وأما ما روي عن سعيد بن جبير، فأخرجه الطبري أيضًا في الموضع السابق،وأبو الشيخ أيضًا برقم (1207)، كلاهما من طريق يعقوب بن عبد الله القُمِّي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير -{والنجم والشجر يسجدان}- قال: النجم: كل شيء ذهب مع الأرض فرشًا، قال: العرب تسمّي الثَّيِّل: النجمة، والشجر: كل شيء قام على ساق .
وسنده حسن .
(13) يعني في حديثه الآتي برقم (458).
(14) في (غ): «أكلها».(2/132)
159 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ (1) ، عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:«مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ الثُّومِ -وقَالَ مَرَّةً - مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ».
وَفِي رِوَايَةٍ:«مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ». وَإِنَّهُ أُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا فَسَأَلَ فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ، فَقَالَ:«قَرِّبُوهَا» إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا، قَالَ:«كُلْ، فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لا تُنَاجِي».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «وأنه أُتي بِبَدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ» وقعت هذه اللفظة ببدر، بالباء بواحدة من أسفل، وهو الطبق، سُمِّي بذلك (2) لاستدارته. وقد وقع لبعض الرواة: «بِقِدْرٍ»، بالقاف. واستُدلّ به: على كراهية (3) ما له ريح من البقول وإن طبخ، وهذا ليس بصحيح. قالوا: وهو تصحيف، وصوابه: بِبَدْر. وقد ورد في كتاب أبي داود (4) : «أُتي بِبَدْر». ولو سُلِّم أنه: بقدر، فيكون معناه (5) : أنها لم يُمِتِ الطبخُ تلك الرائحة منها، فبقي المعنى المكروه، فكأنّها نيِّئة.
وقوله: «فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لا تُنَاجِي»: يشعر بأن (6) هذا الحكم خاص به؛ إذ هو =(2/167)=@ المخصوص بمناجاة الْمَلَكِ، لكن (7) قد عَلَّلَ هذا الحكم في أول الحديث بما يقتضي التسوية بينه وبين غيره في هذا الحكم؛ حيث قال: «فإن الملائكة تتأذّى مما يتأذّى منه بنو آدم»، وقوله: «ولا يؤذينّا بريح الثوم» (8) .
160 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ (9) ، قال:لَمْ نَعْدُ أَنْ فُتِحَتْ خَيْبَرُ، فَوَقَعْنَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي تِلْكَ الْبَقْلَةِ الثُّومِ، وَالنَّاسُ جِيَاعٌ، فَأَكَلْنَا مِنْهَا أَكْلاً شَدِيدًا، ثُمَّ رُحْنَا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الرِّيحَ فَقَالَ مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ شَيْئًا فَلا يَقْرَبَنَّا فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ النَّاسُ: حُرِّمَتْ حُرِّمَتْ، فَبَلَغَ ذَاكَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:«أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّهُ لَيْسَ بِي تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لِي، وَلَكِنَّهَا شَجَرَةٌ أَكْرَهُ رِيحَهَا».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ»، أي (10) : الْمُستَكْرَهةُ الْمُنْتِنَة.
ولما سمع الصحابة هذا الذم ظنوا أنها قد حرمت، فصرَّحوا به، وكأنهم فهموا هذا من إطلاق الخبيثة عليها، مع ما قد سمعوا من قول الله تعالى (11) : {ويُحل (12) لهم الطيبات ويحرم عليكم الخبائث} (13) ، فبيَّن لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن إطلاق الخبيث لا يلزم منه التحريم؛ إذ قد يراد به ما لا يوافق عادة واستعمالاً، وعند هذا لا يصح للشافعي الاحتجاج بقوله تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} على تحريم ما يُستخبث عادة كالحشرات وغيرها؛ إذ الخبائث (14) منقسمة إلى مستخبث عادة، وإلى مستخبث شرعًا. ومراده تعالى في الآية: المستخبثات الشرعية؛ إذ قد أباح البصل والثوم مع أنها مستخبثة، وحرّم الخمر والخنزير وإن كانت (15) قد تستطاب، والله أعلم. =(2/168)=@ &(2/133)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (2/339 رقم 854 ، 855) في الأذان، باب ماجاء في الثوم النيء والبصل والكراث، و(9/575 رقم5452) في كتاب الأطعمة، باب ما يكره من الثوم، و(13/330 رقم7359) في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الأحكام التي تعرف بالدلائل، ومسلم (1/394 رقم564/73، 74) في المساجد ومواضع الصلاة، باب نهي من أكل ثومًا أو بصلاً أو كراثًا أو نحوها .
(2) في (أ): (بدرًا» بدلاً عن: «بذلك».
(3) في (ح): «كراهة».
(4) هي رواية أبي داود لحديث جابر هذا (4/170-171 رقم3822) في الأطعمى، باب في أكل الثوم .
(5) قوله: «معناه» ليس في (أ).
(6) في (غ): «أن».
(7) في (ح): «ولكن».
(8) هذا لفظ حديث أبي هريرة المتقدم قريبًا برقم (455).
(9) أخرجه مسلم (1/395 رقم565) في المساجد ومواضع الصلاة، باب نهي من أكل ثومًا أو بصلاً أو كراثًا أو نحوها .
(10) في (غ): «إلى».
(11) في (ب): «قول الله تعالى لهم».
(12) في (ب): «يحل».
(13) سورة الأعراف ، الآية: 157.
(14) في (غ): «الحشرات».
(15) في (ح): «كان».(2/133)
وقوله: «إِنَّهُ لَيْسَ بِي (1) تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لِي (2) »)؛ يرد قول أهل الظاهر بتحريم أكل الثوم؛ لأجل منعه من (3) حضور الجماعة التي يعتقدرن فرضها على الأعيان، وكافة العلماء على خلافهم.
161 - وَعَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ (4) : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَذَكَرَ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَذَكَرَ أَبَا بَكْرٍ - رضي الله عنه - ، قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنَّ دِيكًا نَقَرَنِي ثَلاثَ نَقَرَاتٍ، وَإِنِّي لا أُرَاهُ إِلا حُضُورَ أَجَلِي، وَإِنَّ أَقْوَامًا يَأْمُرُونَنِي أَنْ أَسْتَخْلِفَ، وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيُضَيِّعَ دِينَهُ وَلا خِلافَتَهُ وَلا الَّذِي بَعَثَ بِهِ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِنْ عَجِلَ بِي أَمْرٌ فَالْخِلافَةُ شُورَى بَيْنَ هَؤُلاءِ السِّتَّةِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، وَإِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ أَقْوَامًا يَطْعَنُونَ فِي هَذَا الأَمْرِ، أَنَا ضَرَبْتُهُمْ بِيَدِي هَذِهِ على الإِسْلامِ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَأُولَئِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ الْكَفَرَةُ الضُّلالُ، ثُمَّ إِنِّي لا أَدَعُ بَعْدِي شَيْئًا أَهَمَّ عِنْدِي مِنَ الْكَلالَةِ، مَا رَاجَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي شَيْءٍ مَا رَاجَعْتُهُ فِي الْكَلالَةِ، وَمَا أَغْلَظَ لِي فِي شَيْءٍ مَا أَغْلَظَ لِي فِيهِ، حتى طَعَنَ بِإِصْبَعِهِ فِي صَدْرِي فَقَالَ: «يَا عُمَرُ! أَلا يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ؟»، وَإِنِّي إِنْ أَعِشْ أَقْضِ فِيهَا بِقَضِيَّةٍ يَقْضِي بِهَا مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَمَنْ لا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ على أُمَرَاءِ الأَمْصَارِ، وَإِنِّي إِنَّمَا بَعَثْتُهُمْ عَلَيْهِمْ لِيَعْدِلُوا عَلَيْهِمْ، وَلِيُعَلِّمُوا النَّاسَ دِينَهُمْ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِمْ - صلى الله عليه وسلم - ، وَيَقْسِمُوا فِيهِمْ فَيْئَهُمْ وَيَرْفَعُوا إِلَيَّ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِهِمْ، ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تَأْكُلُونَ شَجَرَتَيْنِ لا أَرَاهُمَا إِلا خَبِيثَتَيْنِ: هَذَا الْبَصَلَ وَالثُّومَ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا وَجَدَ رِيحَهُمَا مِنَ الرَّجُلِ فِي الْمَسْجِدِ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى الْبَقِيعِ، فَمَنْ أَكَلَهُمَا فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول عمر: «إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنَّ (5) دِيكًا نَقَرَنِي ثَلاثَ نَقَرَاتٍ» هذا الديك الذي أُريه عمر مثال للعلج الذي قتله، وهو أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، وكان مجوسيا، وكان نجارًا حدّادًا نقاشًا، وكان من شأنه ما ذكره البخاري (6) وغيره، وهو أنه وثب على عمر وهو في صلاة الصبح - بعد أن دخل عمر فيها-، فطعنه ثلاث طعنات، فصاح عمر: قتلني - أو أكلني- الكلب، ظانًّا أنه كلب (7) عضّه (8) ، فتناول عمر عبد الرحمن بن عوف، فكمّل الصلاة بالناس. ثم إن العلج وثب وفي يده سكين ذات طرفين، لا يمرّ على أحد يمينًا ولا شمالاً (9) إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً، مات منهم تسعة، - وقيل: سبعة -، فطرح عليه رجل خميصة كانت عليه، فلما رأى العلج أنه مأخوذ، نحر نفسه، وحزّ عبد الرحمن بن عوف رأسه، وهو الذي كان طرح (10) عليه الخميصة.
وقوله: «وَإِنَّ أَقْوَامًا يَأْمُرُونَنِي (11) أَنْ أَسْتَخْلِفَ»، معنى الأمر هنا: العرض، والتَّحْضِيض، أو الفتيا بأنه يجب عليه أن يستخلف، وأنه مأمور بذلك من جهة الله تعالى. وظاهر هذا الأمر أنه إنما كان من هؤلاء الأقوام لما سمعوا من عمر تأويله لمنامه بحضور أجله، وهذا قبل وقوع طعنه، ويحتمل أن يكون هذا بعد أن =(2/169)=@ طعن، ويكون بعض الرواة ضمّ أحد الخبرين إلى الآخر، و على هذا يدل سياق (12) هذا الخبر. &(2/134)&$
__________
(1) في (ح): «لي».
(2) في (ب) و(ح): «ما أحل الله لي».
(3) قوله: «من» سقط من (ح).
(4) أخرجه مسلم (1/396 رقم567) في المساجد ومواضع الصلاة، باب نهي من أكل ثومًا أو بصلاً أو كراثًا أو نحوها .
(5) قوله: «كأنَّّ» سقط من (أ) و(ب) و(ح).
(6) في فضائل الصحابة من "صحيحه" (7/59-62 رقم3700)، باب قصة البيعة .
(7) في (ح): «كان».
(8) في (غ): «عصب» كذا رسمت في (غ).
(9) في (ح): «ولا شمالاً».
(10) قوله: «طرح» سقط من (غ).
(11) في (غ): «يأمرني».
(12) في (ح): «مساق».(2/134)
وقوله: «وَإِنَّ (1) اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيُضَيِّعَ دِينَهُ، وَلا خِلافَتَهُ، وَلا الَّذِي بَعَثَ بِهِ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - »؛ إنما قال ذلك عمر؛ لأنه قد علم مما فهمه (2) من كتاب الله، وسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن الله يستخلف المؤمنين في الأرض، ويمكن لهم دينهم، ويظهره (3) على الدين كله، فقال ذلك ثقة بوعد الله، وتوكّلاً عليه.
والخلافة هنا: القيام بأمر أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على نحو ما قام به محمد - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
وقوله : «وَإِنِّي (4) قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ أَقْوَامًا يَطْعَنُونَ فِي هَذَا الأَمْرِ» إشارة (5) إلى جعله الأمر شورى بين الستة الذين هم: عثمان، وعلي (6) ، وعبدالرحمن بن عوف، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص.
وقوله: «فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ»، أي: إن أفشوا (7) الطعن، وعملوا على الخلاف في ذلك والمشاقّة، ولم يرضوا بالذين اخترتهم ، «فأولئك (8) أعداء الله الكفرة الضلاَّل»، وظاهر هذا: أنه حكم بتكفيرهم (9) ، وكأنه علم أنهم منافقون، و على هذا يدل قوله: «أنا ضربتهم بيدي على الإسلام»، يعني: أنهم إنما دخلوا في الإسلام على تلك الحال، لم تنشرح صدورهم للاسلام، وإنما (10) تستّروا بالإسلام، وذلك حال المنافقين. ويحتمل أنهم لما فعلوا فعل الكفار من الخلاف، وموافقة الأهواء (11) ، ومشاقّة المسلمين، أُطلق عليهم ما يطلق على الكفار. و على هذا فيكون هذا الكفر من باب كفران النعم والحقوق. =(2/170)=@
وقوله: «ثُمَّ إِنِّي لا أَدَعُ بَعْدِي شَيْئًا أَهَمَّ عِنْدِي مِنَ الْكَلالَةِ»، تَهَمُّمُ عمر بالكلالة؛ لأنها أشكلت عليه؛ وذلك أنها نزلت (12) فيها (13) آيتان :
إحداهما: قوله تعالى: {وإن كان رجل (14) يورث كلالة (15) أو امرأة} (16) ، وفيها إشكال من جهات، ولذلك اختلف في الكلالة ما هي؟ ففيها أربعة أقوال :
أحدها: أنها ما دون الوالد والولد؛ قاله أبو بكر الصديق، وعمر (17) ،
وعلي، وابن مسعود، وزيد بن &(2/135)&$
__________
(1) في (ح): «فإن».
(2) في (غ): «لأنه علم مما قد فهمه».
(3) في (أ) و(ح) و(غ): «ويظهرهم».
(4) في (أ): «إني».
(5) في (ب) و(غ): «هو إشارة».
(6) في (ب) و(ح) و(غ) بتأخير علي بعد الزبير .
(7) في (ب): «أي أفشوا».
(8) في (ح): «أولئك».
(9) في (ب) و(ح) و(غ): «بكفرهم».
(10) في (ب) و(ح): «إنما».
(11) في (ب): «أهل الأهواء».
(12) في (أ): «نزلت».
(13) في (ح) و(غ): «فيهما».
(14) في (غ): «رجلاً».
(15) في (غ): «يورث كلالة أو امرأة».
(16) سورة النساء، الآية: 12.
(17) سبق أن خرجته في "سنن سعيد بن منصور" (3/1185 رقم591)، وهو من طريق الشعبي قال: قال عمر: «الكلالة ما عدا الوالد»، وقال أبو بكر - رضي الله عنه - : «الكلالة ماعدا الولد والوالد». وبينت هناك أن سنده ضعيف ؛ لأن رواية الشعبي عن أبي بكر وعمر مرسلة، والصحيح أن عمر كان مترددًا في الكلالة حتى قبض .(2/135)
ثابت (1) ، وابن عباس (2) ، في خلق كثير.
والثاني: أنها (3) من لا ولد له، وروي عن عمر أيضًا (4) ، وهو قول طاووس.
والثالث: أنها ما عدا الوالد؛ قاله الحكم بن عُتَيْبَة.
والرابع: أنها بنو العمّ الأباعد؛ قاله ابن الأعرابي.
واختلف أيضًا فيما تقع (5) عليه الكلالة، على ثلاثة أقوال :
أحدها: على الحي الوارث؛ قاله ابن عمر.
والثاني: على الميت؛ قاله السُّدّي.
الثالث: على المال؛ قاله عطاء.
واختُلف أيضًا فيما أُخِذت الكلالة منه على قولين:
أحدهما: أنها مأخوذة من الإكليل المحيط بالرأس، فكأنها تكللت، أي: أحاطتْ بالميت من كلا طرفيه؛ ولذلك قال (6) :
ورثتم قناة الملك لا عن كلالة ... عن ابنيْ (7) مناف: عبد شمسٍ وهاشمِ
=(2/171)=@ وقال آخر (8) : (9)
وإِنَّ أَبَا الْمَرْءِ أحْمَى له ... وموْلَى الكَلالَةِ لا يَغْضَبُ
والثاني: أنها مأخوذة من الكلال، وهو الإعياء، فكأنه يصل الميراث إلى الوارث (10) بها عن بُعْدٍ (11) وإعياء، وقيل (12) : كأن (13) الرحم كلّت عن وارث قريب؛ قال الأعشى :
فآليت (14) لا أرثي لها (15) عن كلالة ... ولا من وَجىً (16) حتى تلاقي محمدًا
ثم مقتضى هذه الآية الأولى: أن كل واحد من الأخوين له السدس، سواء كان أحدهما ذكرًا أو أنثى، فإن كانوا أكثر اشتركوا في الثلث، ومقتضى الآية الثانية: أن للأخت النصف، وللاثنتين (17) الثلثين، ولم يبين في واحدة من الآيتين الأخوة، هل هي لأم، أو لأب، أو لهما، ثم إذا تنزّلْنا على أن الأخوة في الأولى &(2/136)&$
__________
(1) لم أجد من أخرجه عن علي وابن مسعود وزيد .
(2) أخرجه سعيد بن منصور "سننه" (3/1180 رقم588) وغيره بسند صحيح عنه، وهو من طريق الحسن بن محمد قال: سألت ابن عباس عن الكلالة، قال: هو ما عدا الولد والوالد، فقلت له : {إن امرؤ هلك ليس له ولد}؟ فغضب وانتهرني .
(3) في (ح): «أنهما».
(4) أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (3/1182 رقم589) وغيره، من طريق سفيان بن عيينة، عن سليمان الأحول، عن طاوس، عن ابن عباس قال: كنت آخر الناس عهدًا بعمر، فسمعته يقول: القول ما قلت، فقلت: وما قلت ؟ قال: الكلالة من لا ولد له .
وبينت هناك أن سنده صحيح، لكن متنه مشكل، ونقلت قول البيهقي: «كذا في هذه الرواية ! والذي روينا عن عمر وابن عباس في تفسير الكلالة أشبه بدلائل الكتاب والسنة من هذه الرواية، واولى أن يكون صحيحًا ؛ لانفراد هذه الرواية، وتظاهر الروايات عنهما بخلافها، والله أعلم». وقول ابن كثير - بعد أن ذكر عن ابن عباس وغيره أن الكلالة من لا ولد له ولا والد، قال: «قال أبو الحسين بن اللبان: وقد روي عن ابن عباس ما يخالف ذلك، وهو أنه: من لا ولد له، والصحيح عنه الأول، ولعل الراوي ما فهم عنه ما أراد».
(5) في (ح) و(غ): «يقع». وفي (ب) هكذا: «يقع».
(6) القائل هو الفرزدق كما في "لسان العرب" (11/592 ، 593).
(7) في (ح): «ابن».
(8) في (ح): «آخرون».
(9) ذكره في الموضع السابق من "اللسان" ولم ينسبه لأحد . وفي "تهذيب اللغة" 9/448، وفي "تاج العروس" مادة: (كلل) دون أن ينسب لأحد.
(10) في (ح): «بالوارث».
(11) في (ح): «تعب».
(12) قوله: «وقيل» سقط من (ح).
(13) في (ح): «فكأن».
(14) في (ح): «فيا ليت».
(15) في (غ): «لا إذا لمنا».
(16) الوَجا: هو الحفا، وقيل: شدّة الحَفَا . انظر "لسان العرب" (15/378).
(17) في (ح): «والابنتين». وفي (غ): «وللابنتين».(2/136)
للأم، وفي الثانية للأب، أو أشقاء (1) ، فهل ذلك فرضهم إذا انفردوا؟ أو يكون ذلك فرضهم وإن كان معهم بعض الورثة؟ كل ذلك أمور مطلوبة، والوصول إلى تحقيق تلك المطالب عسير، وسنبيّن الصحيح من ذلك كله، في الفرائض إن شاء الله.
فلما أشكلت (2) على عمر - رضي الله عنه - من (3) هذه الوجوه تَشَوَّف إلى معرفتها بطريق يزيح له الإشكال، فألَحّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسؤال عن ذلك، حتى ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - على (4) صدره، وأغلظ عليه في ذلك ردعًا له عن الإلحاح؛ إِذْ كان قد نَهَى عن كثرة السؤال، وتنبيهًا له على الاكتفاء بالبحث عمَّا في الكتاب من ذلك، و على أن الكتاب يبين بعضه بعضًا. وقال الخطابي: يشبه أن يكون لم يُفْتِه (5) ، ووكل الأمر إلى بيان الآية اعتمادًا على علمه وفهمه؛ ليتوصل إلى معرفتها بالاجتهاد. ولو كان السائل ممن (6) لا فهم له (7) ، لبيّن له البيان الشافي. قال (8) : وإن الله أنزل في الكلالة آيتين: إحداهما في الشتاء (9) ، وهي التي في أول سورة النساء، وفيها إجمال وإبهام (10) لا يكاد يَبِينُ (11) المعنى من ظاهرها، ثم أنزل (12) الآية التي في آخر النساء في الصيف، وفيها زيادة بيان. =(2/172)=@ &(2/137)&$
__________
(1) في (أ): «والأشقاء».
(2) في (ب): «استشكلت».
(3) قوله: «من " ليس في (ح).
(4) في (ح): «في».
(5) في (غ): «لم يُفنه».
(6) في (غ): «مما».
(7) في (ب): «لا يفهم».
(8) أي: الخطابي
(9) في (أ) و(غ): «النساء».
(10) في (غ): «إيهام».
(11) في (غ): «يتبين».
(12) في (غ): «أنزلي».(2/137)
وقوله: «إِنْ (1) أَعِشْ أَقْضِ فِيهَا بِقَضِيَّةٍ يَقْضِي بِهَا مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَمَنْ لا يَقْرَؤه (2) »). هذا يدل على أنه قد (3) كان (4) اتضح له وجه الصواب فيها، وأنه كان قد استعمل فكره فيها، حتى فهم ذلك، وأنه أراد أن يوضِّح (5) ذلك على غاية الإيضاح، ولم يتمكن من ذلك في الوقت (6) الحاضر؛ للعوانق والموانع، ثم فَجَأَتْهُ المنيّة - رضي الله عنه - ، ولم يُرْوَ عنه فيها شيءٌ من ذلك، لكنْ قد اهتدى علماء السلف لفهم (7) الآيتين، وأوضحوا ذلك، فتبيّن (8) الصبح لذي (9) عينين، وسيأتي ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقوله: «فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخًا»، أي: ليذهب (10) رائحتهما، ويكسرها (11) بالطبخ. وكسر قوة كل شيءٌ إماتته وقتله، ومنه قولهم: قَتَلْتُ الخمر: إذا مزجتها بالماء وكسرتها. وقد تقدم القول في الخبيث، وفي الشجر. =(2/173)=@
*************
__________
(1) في (ب) و(ح) و(غ): «وإن».
(2) في (غ): «يقرأه».
(3) قوله: «قد» سقط من (ح).
(4) في (غ): «كان قد».
(5) في (غ): «توضح».
(6) في (ب): «في ذلك الوقت».
(7) في (غ): «بفهم».
(8) في (غ): «تبين».
(9) قوله: «لذي» سقط من (ح).
(10) في (غ): «لتذهب».
(11) في (أ) و(غ): «ويكسرهما».(2/138)
من هنا ص1 إلى ص54 لم تثبت التعليقات الموجودة في على جوانب الهامش في الورق المطبوع
(49) باب النهي عن أن تنشد الضالَّة في المسجد
162 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : «مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: لا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب النهي عن أن تنشد ضالّة في المسجد
نشدت الضالة بمعنى: طلبتها. وأنشدتها: عرّفتها، قاله يعقوب وغيره، ومنه قول الشاعر: &(2/138)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/397 رقم568) في المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن نشد الضالة في المسجد وما يقوله من سمع الناشد.(2/139)
... ... إِصَاخَةَ الناشدِ للمُنْشِدِ (1)
والإصاخة: ا لاستماع.
وقوله: «فَلْيَقُلْ: لا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ»: دعاء على الناشد في المسجد بعدم الوجدان،فهو معاقبة له في ماله على نقيض مقصوده (2) ، فيلحق (3) به ما في معناه؛ فمن رفع صوته فيه بما يقتضي مصلحة ترجع إلى الرافع صوته، دُعِيَ عليه على نقيض (4) مقصوده ذلك؛ بسبب جريمة رفع صوته (5) في المسجد، وإليه ذهب مالك في جماعة، حتى كرهوا رفع الصوت في المسجد في العلم (6) وغيره. وأجاز أبو حنيفة وأصحابه ومحمد بن مسلمة من أصحابنا رفع الصوت فيه في الخصومة والعلم. قالوا: لأنهم لا بُدَّ لهم (7) من ذلك، وهذا مخالف لظاهر الحديث. وقولهم: لا بدّ لهم من ذلك ممنوعٌ، بل لهم بُدٌّ من ذلك لوجهين (8) : =(2/174)=@
أحدهما: بملازمة (9) الوقار والحرمة، وبإخطار (10) ذلك بالبال والتحرز من نقيضه، ومن خاف ما يقع فيه تحرّز منه.
والثاني: أنه إذا لم يتمكن من ذلك فليتخذ لذلك موضعًا يخصه، كما فعل عمر، وقال: من أراد أن يلغط أو ينشد شعرًا فليخرج من المسجد (11) .
163 - وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ (12) : أَنَّ رَجُلاً نَشَدَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: مَنْ دَعَا إِلَى الْجَمَلِ الأَحْمَرِ؟ فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لا وَجَدْتَ! إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ».
وَفِي رِوَايَة: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ بَعْدَ مَا صَلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - صَلاةَ الْفَجْرِ فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ ...، وَذَكَرَ مِثْلَهُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ»: يدل على أن الأصل ألا يُعمل المسجد (13) غير الصلوات، والأذكار، وقراءة القرآن؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : «إذا رأيتم من يبيع في المسجد أو يبتاع (14) فقولوا: لا أربح الله تجارتك» (15) .
وقد كره بعض أصحابنا تعليم الصبيان في المساجد، ورأى (16) أنه من باب البيع، وهذا إذا كان بأجرة فلو كان بغير أجرة لمنع (17) أيضًا، من وجه آخر، وهو أن الصبيان لا يتحرّزون عن القذر والوسخ، فيؤدي ذلك إلى عدم تنظيف المساجد، وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتنظيفها وتطييبها (18) ، وقال: «جنبوا مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم، وسل سيوفكم، وإقامة حدودكم» (19) . &(2/139)&$
__________
(1) هذا عجز بيت للمثقب العبدي وصدره: يصيخ للنبأة أسماعه.
انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس تحقيق عبد السلام هارون. (2/325)، "البيان والتبيين" (2/288).
(2) في (أ): «قصده».
(3) في (ح): «فليلحق».
(4) في (ح): «بنقيض».
(5) في (ب) و(ح): «الصوت».
(6) في (غ): «بالعلم».
(7) قوله: «لهم» سقط من (ح).
(8) في (غ): «أبو جهين».
(9) في (ح): «ملازمة».
(10) في (غ): «وبإخصار».
(11) أخرجه مالك في "الموطأ"، لكن اختلف عليه.
ففي "الموطأ" برواية يحيى الليثي (1/175 رقم 93) كتاب الصلاة، باب جامع الصلاة، جاء الحديث بلاغًا.
وفي رواية أبي مصعب الزهري (1/226 رقم581) جاء عن مالك، عن أبي النضر، عن سالم بن عبدالله، أن عمر بن الخطاب بنى إلى جانب المسجد رحبة سماها البطيحاء، فكان يقول: من أراد أن يلغط، أو ينشد شعرًا، أو يرفع صوتًا، فليخرج إلى هذه الرحبة.
وكذا أخرجه البيهقي في "السنن" (10/103) من طريق يحيى بن بكير، عن مالك.
ولم يدرك سالم جدّه عمر، فهو مرسل بهذا السياق. لكن قال ابن عبدالبر في "الاستذكار" (6/355): «هذا الخبر عند القعنبي ومطرف وأبي مصعب، عن مالك، عن أبي النضر، عن سالم بن عبدالله، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب بنى رحبة في المسجد... ، الحديث. ورواه طائفة كما رواه يحيى» يعني بلاغًا.
وفي ظني أن كلمة «عَنْ» زائدة، وصوابه: «عن سالم بن عبدالله بن عمر»، والله أعلم.
(12) أخرجه مسلم (1/397 رقم569/80-81) في المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن نشد الضالة في المسجد وما يقوله من سمع الناشد.
(13) في (غ): «في المسجد».
(14) قوله: «أو يبتاع» ليس في (ب).
(15) أخرجه الدارمي (1/326) في الصلاة، باب النهي عن استنشاد الضالة في المسجد والشرى والبيع، والترمذي (3/610-611 رقم1321) في البيوع، باب النهي عن البيع في المسجد، وابن الجارود (2/156 رقم562)، وابن خزيمة (2/274 رقم1305)، وعنه ابن حبان (4/528 رقم1650/الإحسان). وأخرجه الحاكم (2/56)، والبيهقي (2/447).
جميعهم من طريق عبدالعزيز بن محمد الدراوردي، عن يزيد بن خصيفة،عن عبدالرحمن بن ثوبان، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد فيه الضالة، فقولوا: لا أدى الله عليك».
قال الترمذي: «حسن غريب».
وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم»، ووافقه الذهبي.
وقال الألباني في "الإرواء" (5/134-135 رقم1295): «وهو كما قالا».
(16) في (ب): «ورأوا».
(17) في (ح): «يمنع».
(18) سبق تخريجه في شرح الحديث رقم (443).
(19) أخرجه ابن ماجه (1/247 رقم750) من طريق الحارث بن نبهان، عن عتبة بن يقظان، عن أبي سعيد، عن مكحول، عن واثلة بن الأسقع، به.
وسنده ضعيف جدًّا؛ فالحارث بن نبهان متروك، وعتبة بن يقظان ضعيف، وأبو سعيد الشامي مجهول. انظر "تقريب التهذيب" (1058، 4476، 8192).
وله طرق أخرى تالفة انظرها في "نصب الراية" (2/492).(2/140)
وقوله: «فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ مِنْ (1) بَابِ الْمَسْجِدِ»؛ دليل على أن حكم هذا حكم الداخل =(2/175)=@ في المسجد، ولو لم يكن كذلك لما منع، ألا ترى أنه لو رفع صوته خارج المسجد لم يعاقب بذلك؟ وبدليل (2) قوله: «إِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا ». ويقتبس من هذا: أن الحالف (3) ألا يدخل (4) (8) دارًا، فأدخل رأسه فيها، أنه يحنث، وبذلك (5) قال بعض علمائنا. وكذلك لو أدخل رجله؛ لأن الاعتماد (6) في الدخول على الرجل، ولهذا فرق بعض أصحابنا بين أن يكون اعتماده عليها أم لا .
*************
(50) باب الأمر بسجود السهو، وما جاء فيمن سهى عن
الجلسة الوسطى
164 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (7) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي جَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَلَبَسَ عَلَيْهِ حَتَّى لا يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى، فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «جَاءَ الشَّيْطَانُ فَهَنَّاهُ وَمَنَّاهُ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب السهو في الصلاة
قال الإمام أبو عبد الله (8) : أحاديث السهو كثيرة (9) ، والثابت منها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة أحاديث: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الذي ذكر فيه أنه (10) سجد سجدتين، ولم يذكر موضعهما. وحديث أبي سعيد الخدري (11) - رضي الله عنه - ، وهما جميعًا فيمن شكّ كم صلّى. وحديث ابن مسعود (12) - رضي الله عنه - ، وفيه القيام إلى خامسة، والسجود بعد السلام. &(2/140)&$
__________
(1) في (ب) و(ح) و(غ): «في». وكتب فوقها في (غ): «من».
(2) في (أ) و(غ) و(ح): «وبدليل».
(3) في (ب): «أن الحالف إذا حلف». ...
(4) في (ح): «لا يدخل».
(5) قوله: «وبذلك» سقط من (ب)، وفي (ح): «بذلك».
(6) في (غ): «على» بدل «في».
(7) أخرجه البخاري (2/84 رقم608) في كتاب الأذان، باب فضل التأذين، و(3/89 رقم1222) في كتاب العمل في الصلاة، باب يفكر الرجل الشيء في الصلاة، و(3/ 104 رقم1232) في السهو، باب السهو في الفرض والتطوع، و(6/337 رقم3285) في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، ومسلم (1/398 رقم389) في المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له. وانظر الحديث المتقدم.
(8) أي: المازري.
(9) في (ب): «كثيرة مشهورة».
(10) قوله: «أنه» سقط من (غ).
(11) وهو الآتي برقم (463).
(12) وهو الآتي برقم (464).(2/141)
وحديث ابن بحينة (1) - رضي الله عنه - وفيه: القيام من اثنتين، والسجود قبل السلام. وحديث ذي اليدين (2) - رضي الله عنه - ، وفيه السلام من اثنتين والسجود بعد السلام . =(2/176)=@
قال (3) الشيخ رحمه الله: وقد أغفلَ الإمامُ حديث عمران بن حصين (4) ، وهو أنّه سلم في ثلاث، ثم صلى ركعة، ثم سلّم، ثم سجد سجدتين، لكن لم يذكره؛ لأنه رأى أنه في معنى حديث ذي اليدين. ويلزمه على هذا ألا يُعَدِّدْ (5) حديث أبي هريرة؛ لأنه عنده في معنى حديث أبي سعيد، والصحيح من عدد الأحاديث الصحيحة في السهو أنها ستة حسب ما نبّهنا عليه.
قال الإمام: وقد اختلف الناس في طريق الأخذ بهذه الأحاديث، فأما داود فلم يقس عليها، وقال: إنما يستعمل ذلك فيما ورد فيه من الصلوات، على حسب الترتيب في مواضع السجود المذكورة، وقال ابن حنبل كقول داود في هذه الصلوات خاصة، وخالفه في غيرها، وقال: ما فيها من سهو فإن السجود كله قبل السلام. وقد (6) اخْتَلَف مَنْ (7) قاس عليها من الفقهاء، فبعضهم قال: إنما (8) تُفيد هذه الأحاديث التخيير،، وللمكلف أن يفعل أي ذلك شاء شاء من السجود؛ قبل أو بعد (9) في نقص أو زيادة، وهو قول مالك
في المجموعة. وقال أبو حنيفة: الأصل ما فيه السجود بعد السلام، وردَّ بقيّة الأحاديث إليه. وقال الشافعي: الأصل ما فيه السجود قبل، وردّ بقيّة الأحاديث إليه. ورأى مالك: أن ما فيه النقص السجود فيه قبل السلام، وأن ما فيه الزيادة يكون فيه السجود بعد. وهل هذا الترتيب هو الواجب أو (10) هو الأولى؟ قولان للأصحاب. وسيأتي بيان متمسك كل فريق إن شاء الله.
وقوله (11) : «جَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَلَبَسَ عَلَيْهِ»، يُروَى مخفف الباء ومشدّدها، وهي مفتوحة في الماضي، مكسورة في المستقبل على كل حال، ومعناه: خَلَطَ، يقال: =(2/177)=@ لَبَسْتُ عليه الأمر، ألبِسُهُ؛ أي: خلطته، ومنه قوله تعالى: {وللبسنا (12) عليهم ما يلبسون} (13) . فأما لَبِسَ (14) بكسر الباء في الماضي، وفتحها في المستقبل، فهو من &(2/141)&$
__________
(1) وهو الآتي برقم (462).
(2) وهو الآتي برقم (465).
(3) في (ح): «قلت».
(4) وهو الآتي برقم (466).
(5) في (غ): «يعد».
(6) قوله: «قد» من (أ) فقط، وفي (ب) و(ح): «واختلف».
(7) في (ب): «واختلف فيمن مَنْ».
(8) في (غ): «أما».
(9) في (غ): «أن يقعد».
(10) في (ح): «أم هو».
(11) في (ب) و(ح): «قوله».
(12) في (أ): «للبسنا».
(13) سورة الأنعام، الآية: 9.
(14) قوله: «ليس» من (ب) فقط.(2/142)
اللباس للثوب، ومنه قوله تعالى: {ويلبسون (1) ثيابًا خضرًا من سندسٍ وإستبرق} (2) .
وقوله: «فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ»، هذا الحديث مقصوده الأمر بالسجود عند السهو، وهل ذلك بعد السلام، أو قبل؟ لم يتعرض له فيه، وقد رُوي (3) عن مالك والليث: أنهما حملا هذا الحديث على الْمُسْتَنْكِح (4) ، وليس في الحديث ما يدل عليه، وما قالاه ادعاء تخصيص، ولا بد من دليله، على أنه قد اختلف قول مالك في المستنكح، هل عليه سجود أم لا؟ بل نقول: إن في الحديث ما يدل على نقيض ما قالاه، وهو قوله: «فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ»، وهذا خطاب لعموم المخاطبين، وعمومهم السلامة عن (5) الاستنكاح، فإنه نادر الوقوع. وقد ذهب الحسن في طائفة من السلف، إلى الأخذ بظاهر هذا الحديث، فقالوا: ليس على من لم يَدْرِ كَمْ صلى، ولا يدري هل (6) زاد أو نقص؟ غير سجدتين وهو جالس. وذُكر عن الشعبي والأوزاعي وجماعة كثيرة من السلف: أن من لم يدر كم صلى أعاد أبدًا حتى يتيقن، والذي ذهب إليه الأكثر: أن يحمل حديث أبي هريرة على مفصَّل حديث أبي سعيد الآتي بعد هذا، ويُرَدّ إليه، لا سيما وقد زاد أبو داود (7) في حديث =(2/178)=@ أبي هريرة من طريق صحيحة: «وهو جالس قبل أن يسلم»، فيكون مساويًا لحديث أبي سعيد، فهو هو، والله أعلم .
ثم هذا الأمر بالسجود لمن سها؛ على جهة الوجوب، أو فيه تفصيل؟ فيه خلاف (8) ، فمن أصحابنا من قال: هو محمول على الندب، أما في الزيادة فواضح؛ لأنه ترغيم للشيطان، وأما في النقصان فهو جبر للنقص، وأرفع درجات الجبر أن يتنزل منزلة الأصل، والأصل مندوب إليه، فيكون الجبر مندوبًا إليه؛ لأن &(2/142)&$
__________
(1) في (أ) و(ح): «يلبسون».
(2) الآية ( 31 ) من سورة الكهف.
(3) في (ب): «وقد نقل».
(4) المستنكح: هو الذي يلازمه الشك، واختلفوا في تحديد الملازمة، فمنهم من يرى إتيانه كل يوم ولو مرة، وعلى هذا درج الناظم منهم إذ يقول:
وأدنى الاستنكاح أن يشكا ... في كل يوم في صلاة شكّا
ومنهم من يرى أن الاستنكاح هو إتيانه الشك في يومين متتالين مع مظنة إتيانه فيما بعد ذلك، وأن من أتاه يومًا وظن المجيء بعد ذلك لا يكون مستنكحًا، وعلى هذا درج الناظم منهم إذ يقول:
ومن عراه الشك في يومين ... وظن أن يأتي بعد ذين
فعده مستنكحًا وإن يجئ ... يومًا وتالييه قد ظن المجيء
فلم يكن مستنكحًا بذائي ... وذاك في الخِرْشي الكبير جائي
والخرشي أحد شارحي مختصر خليل.
والعلاقة بين المعنى الاصطلاحي واللغوي: أن النكاح في اللغة معناه: الإدخال والضم، فلما كان الموسوس تداخله الوسوسة ويضمها صدره اشتق له اسم من النكاح.
(5) في (ب): «من».
(6) في (ح): «كم صلى وهل».
(7) في "سننه" (1/625 رقم1031، 1032) في الصلاة، باب من قال: يتم على أكبر ظنه.
(8) في (غ): «الخلاف».(2/143)
سجود السهو إنما يكون في إسقاط السنن - على ما يأتي -، وعلى هذا لا يعيد من ترك السجود، وقال بعض أصحابنا: السجود للنقص واجب، وللزيادة فضيلة، ثم اختلفوا: هل ذلك في كل نقص، أو يختص بالوجوب إذا كان المسقط فعلاً ولم يكن قولاً؟ روايتان . =(2/179)=@
165 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُحَيْنَةَ (1) قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَتَيْنِ مِنْ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ، ثُمَّ قَامَ فَلَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ وَنَظَرْنَا تَسْلِيمَهُ، كَبَّرَ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، ثُمَّ سَلَّمَ .
وَفِي رِوَايَةٍ: سَجَدَهُمَا النَّاسُ مَعَهُ، مَكَانَ مَا نَسِيَ مِنَ الْجُلُوسِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث ابن بحينة (2) : «فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ وَنَظَرْنَا تَسْلِيمَهُ، كَبَّرَ فَسَجَدَ»؛ أي: فرغ من أركانها عدا (3) السلام. «وَنَظَرْنَا»: انتظرنا، ومنه: {انظرونا نقتبس من نوركم} (4) ؛ أي: انتظرونا. وهذا التكبير المعقب بالسجود لسجود السهو قولاً واحدًا، لا للإحرام؛ لأنه لم ينفصل عن حكم الإحرام الأول. واختلف في التكبير للَّتَيْن (5) بعد السلام، هل هو (6) للإحرام أو للسجود؟ روايتان عن مالك، والأولى أنه للإحرام، ولابد من
نيةٍ (7) ؛ لأنه قد انفصل عن حكم الصلاة؛ &(2/146)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (2/309-310 رقم829، 830) في كتاب الأذان، باب من لم التشهد الأول واجبًا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام من الركعتين ولم يرجع، وباب التشهد في الأولى، و(3/92، 99 رقم1224، 1230) في كتاب السهو، باب ما جاء في السهو إذا قام من ركعتي الفريضة، وباب من يكبر في سجدتي السهو، و(11/548 رقم6670) في الأيمان والنذور، باب إذا حنث ناسيًا، ومسلم (1/399 رقم570) في المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له.
(2) شرح حديث عبدالله بن بحينة هذا أخّره المصنِّف بعد حديث أبي سعيد الخدري الآتي، مع أنه قدّمه في التلخيص تمشيًا مع أصله "صحيح مسلم"، فقدمناه لهذا السبب. وكذلك في (غ).
(3) في (أ) و(غ): «عند».
(4) سورة الحديد، الآية: 13.
(5) في (ح) يشبه أن تكون: «للتبيين».
(6) قوله: «هو» سقط من (ب).
(7) في (ب) و(ح) و(غ): «نيته».(2/144)
ولأنه =(2/182)=@ لا بدّ لهما من (1) سلام ينفصل به عمَّا تُحْرِمُ (2) به قياسًا على سائر الصلوات، وإلى هذا أشار في حديث ذي اليدَيْن (3) ، حيث قال: «فصلى ركعتين، ثم كبر، ثم سجد، ثم كبر»؛ فإنه عطف السجود على التكبير بـ«ثم» التي تقتضي التراخي، ولو كان التكبير للسجود لكان معه، ومصاحبًا له، ألا تراه كيف قال في بقية الحديث (4) : «ثم كبر ورفع، ثم كبر وسجد، ثم كبر فرفع (5) »)، فعدل عن «ثم» في مواضع المقارنة، وهذا ظاهر.
وقوله: «فسجد سجدتين قبل السلام، ثم سلم» حجة لمالك في قوله: إن السجود للنقص قبلُ، وعلى أبي حنيفة في قوله: إن السجود في السهو (6) كله بَعْدُ، وحَمْلُ أبي حنيفة هذا السلام على سلام التشهد فاسد قطعًا بمساق الحديث، فتأملْه .
وقوله: «مَكَانَ مَا نَسِيَ مِنَ الْجُلُوسِ»: دليل على أن الذي يجبر بسجود السهو إنما هو ما يكون (7) من قبيل سنن الصلاة، أما أركانها وواجباتها فلا بد من الإتيان بها؛ إذ لا تصح (8) بدون ذلك، وأما فضائلها فغايتها تكميل (9) الثواب، فلو أسقطها المصلي ابتداء لصحّت (10) صلاته اتفاقًا، وليست (11) كذلك السنن، فقد (12) قيل: إن من تركها متعمدًا أعاد الصلاة.
(51) باب فيمن لم يّدْرِ كم صلى
166 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (13) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلاثًا أَمْ أَرْبَعًا، فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ، وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعْنَ لَهُ صَلاتَهُ، وَإِنْ كَانَ صَلَّى إِتْمَامًا لأَرْبَعٍ كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب من لم يَدْرِ كم صلى (14)
وقوله في حديث أبي سعيد: «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاتِهِ...، فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ، وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ»: تمسك بظاهره جمهور أهل العلم في إلغاء المشكوك فيه، والعمل على المتيقن (15) ، وألحقوا المظنون بالمشكوك في الإلغاء، وردّوا قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - : «فليتحرّ الصواب من ذلك» (16) إلى حديث أبي سعيد هذا، ورأوْا أن هذا التحري هو القصد إلى طرح الشك، والعمل على المتيقن. وقال أهل الرأي من أهل الكوفة وغيرهم: إن التحري هنا هو البناء على غلبة الظن. وأما أبو حنيفة فقال: ذلك لمن اعتراه ذلك مرة بعد مرة، فأما لأَوَّل (17) ما ينوبه، فليبن على اليقين، وكأن أبا حنيفة جمع بين الحديثين باعتبار حالين للشاكّ. &(2/143)&$
__________
(1) في (ح): «عن».
(2) في (غ): «يحرم».
(3) وهو الآتي برقم(465).
(4) يعني حديث ذي اليدين.
(5) قوله: «فرفع» سقط من (غ).
(6) في (ح): «السجود للسهو».
(7) في (ب): «ما كان».
(8) في (غ): «لا يصح».
(9) في (غ): «تكمل».
(10) في (غ): «لصحة».
(11) في (ح): «وليس».
(12) في (أ): «وقد».
(13) أخرجه مسلم (1/400 رقم571) في المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له.
(14) جاء التبويب في "المفهم" قبل حديث ابن مسعود الآتي: وليس في هذا الموضع فقدمناه تماشيًا مع «التلخيص».
وشرح حديث أبي سعيد هذا جاء على "المفهم" متقدمًا على شرح حديث عبد الله ابن بحينة المتقدم، وترتب عليه الإخلال بالتبويب وبتعريب الأحاديث، فأخرناه لهذا السبب.
(15) في (ب): «المستيقن».
(16) قوله: «من ذلك» ليس في (ح).
(17) في (ح): «فأما أول»، وفي (غ) «فأما الأول».(2/145)
وقوله: «ثُمَّ يَسْجُدُ (1) سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ» احتج بظاهره الشافعي لأصل مذهبه على أن سجود السهو كله قبل السلام. وقال الداودي: اختلف قول مالك في الذي لا يدري ثلاثًا (2) صلى أم أربعًا؟ فقال: يسجد قبل السلام، وقال: بعد السلام، والصحيح من مذهبه في هذه الصورة: السجود بعد السلام. وقد اعتلَّ أصحابنا لهذا الحديث بأوجه:
أحدها: أنه يعارضه حديث ذي اليدين؛ حيث زاد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم سجد بعد =(2/180)=@ السلام، وهو حديث لا علّة له، وحديث أبي سعيد أرسله مالك عن عطاء (3) ، وأسنده غيره، فكان (4) هذا اضطرابًا فيه، والسَّلِيم عن (5) ذلك أرجح.
وثانيها: أن قوله: «قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ»؛ يحتمل أن يريد به السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي في التشهد، وهو قوله: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله. فكأنه سجد ولم يستوف التشهد.
وثالثها: أنه يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - سها عن إيقاعه بعد السلام، فأوقعه قبله واكتفي به؛ إذ قد فعله، ولا يتكرر سجود السهو، ولا يعاد .
ورابعها: يحتمل أن يكون شك (6) في قراءة السورة (7) في إحدى الأوليين (8) ، إذا كان في رابعة (9) ، فيكون (10) معه زيادة الركعة ونقصان قراءة السورة، فَغُلِّبَ النقصان.
وخامسها: أن السجود في هذه الصورة قبل السلام؛ لأن الزيادة متوهمة مقدرة، بخلاف الزيادة المحققة؛ كما في حديث ذي اليدين؛ فإنه لما تحققتْ فيه (11) الزيادة سجد بعد السلام، وهذا إنما يتمشَّى على ما رواه الداوُدي عن مالك على ما تقدم، وعليه حمله ابن لبابة.
وسادسها: أن حديث أبي سعيد محمول على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد بذلك بيان (12) جواز سجود ما بعدُ قبلُ (13) ، وهذا إنما يتمشى على رواية من روى أن الترتيب في سجود السهو إنما هو من باب الأولى على ما تقدم، وهذا أشبهها (14) ، فإنه جمعٌ بين الأحاديث على وجه حسن، وعلى مذهب الطبري وغيره - ممن قال بالتخيير – &(2/144)&$
__________
(1) في (ح) و(غ): «ثم ليسجد»، ويشبه أن تكون هكذا في (ب).
(2) في (غ): «أثلاثًا».
(3) أخرجه مالك (1/95 رقم62) كتاب الصلاة، باب إتمام المصلي ما ذكر إذا شك في صلاته، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، مرسلاً، قال ابن عبد البر في "التمهيد" (5/18-19): «هكذا روى هذا الحديث عن مالك جميع رواة الموطأ عنه، ولا أعلم أحدًا أسنده عن مالك إلا الوليد بن مسلم، فإنه وصله وأسنده عن مالك؛ وتابعه على ذلك يحيى بن راشد - إن صح -، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقد تابع مالكًا على إرساله: الثوري، وحفص بن ميسرة الصنعاني، ومحمد بن جعفر بن أبي كثير، وداود بن قيس الفراء - فيما روى عنه القطان -. ووصل هذا الحديث وأسنده من الثقات - على حسب رواية الوليد بن مسلم له عن مالك -: عبدالعزيز بن أبي سلمة الماجشون، ومحمد بن عجلان، وسليمان بن بلال، ومحمد بن مطرف أبو غسان، وهشام بن سعد، وداود بن قيس - في غير رواية القطان -.
والحديث متصل مسند صحيح، لا يضره تقصير من قصر به في اتصاله؛ لأن الذين وصلوه حفاظ مقبولة زيادتهم، وبالله التوفيق». وهذا الذي رجحه ابن عبدالبر هو الذي رجحه الدارقطني في"العلل"(11/260-263رقم2274) بعد أن أطال في ذكر الاختلاف فيه.
(4) في (ب): «وكان».
(5) في (ح): «والتسليم من».
(6) في (أ) و(غ): «شكه».
(7) قوله: «في قراءة السعدة» ليس في (أ).
(8) في (غ): «الأوليتين».
(9) قوله: «إذا كان في رابعة» ليس في (ب) و(ح) و(غ).
(10) في (غ): «فتكون».
(11) قوله: «فيه» ليس في (ح).
(12) في (ح): «تبيين». ...
(13) في (ح): «وقبل».
(14) في (غ): «أشبهها».(2/146)
فيسجد (1) للنقص والزيادة قبل أو بعد، أيَّ ذلك شاء فعل، وفي المجموعة عن مالك نحوه، والله أعلم.
وقوله: «فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعْنَ لَهُ صَلاتَهُ»؛ يعني: أنه لما شك هل =(2/181)=@ صلى ثلاثًا أو أربعًا، وبنى على الثلاث، فقد اطّرح الرابعة، مع إمكان أن يكون فعلها، فإن كان قد فعلها فهي خمس، وموضوع تلك الصلاة شفع، فلو لم يسجد لكانت الخامسة لا تناسب أصل المشروعية، فلما سجد سجدتي السهو ارتفعت الوتريَّة، وجاءت الشفعيَّة المناسبة للأصل، والله أعلم.
والنون في: «شَفَعْنَ» هي نون جماعة المؤثث، وعادت على معنى فعلات السجدتين، مشيرًا إلى ما فيها من الأحكام المتعددة.
وقوله: «وَإِنْ كَانَ صَلَّى (2) إِتْمَامًا لأَرْبَعٍ كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ»؛ معناه: غيظًا للشيطان، ومذلّة له؛ لأنه لما فعل أربع ركعات أتى بما طلب منه، ثم لما انفصل زاد سجودًا (3) لله تعالى؛ لأجل ما أوقع الشيطان في قلبه من التردد، فحصل للشيطان نقيض مقصوده؛ إذ كان إبطال (4) الصلاة، فقد صحتْ، وعادت وسوسته (5) بزيادة (6) خير وأجر (7) . والترغيم مأخوذ من الرَّغَام؛ وهو التراب كما تقدم.
167 - وَعَنْ عَلْقَمَةَ (8) قَالَ: قَالَ عَبْدُاللَّهِ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُوَيْدٍ: زَادَ أَوْ نَقَصَ، الْوَهْمُ مِنْهُ - فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَحَدَثَ فِي الصَّلاةِ شَيْءٌ؟ قَالَ: «وَمَا ذَاكَ؟» قَالُوا: صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: «إِنَّهُ لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلاةِ شَيْءٌ أَنْبَأْتُكُمْ بِهِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي، وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ».
وَفي رِوَايَةٍ: «فَلْيَنْظُرْ أَحْرَى ذَلِكَ لِلصَّوَابِ». وَفي أُخْرَى: «فَلْيَتَحَرَّ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ الصَّوَابُ». وَفي أُخْرَى: «فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَ ذَلِكَ إِلَى الصَّوَابِ».
وَفي أُخْرَى: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «إِذَا زَادَ الرَّجُلُ أَوْ نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ»، قَالَ: ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ .
وَفي أُخْرَى: أَنَّه - صلى الله عليه وسلم - خَمْسًا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولهم (9) في حديث ابن مسعود: «أَحَدَثَ فِي الصَّلاةِ شَيْءٌ؟» سؤال (10) من =(2/183)=@ جوز النسخ على ما ثبت من العبادة، ويدل هذا على أنهم كانوا يتوقعونه.
وقوله: «وَمَا ذَاكَ (11) ؟» سؤال من لم يشعر بما وقع منه، ولا يقين عنده، ولا غلبة ظن .
وقولهم: «صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا»: إخبار من حقق ما وقع. وقبول النبي - صلى الله عليه وسلم - قبول الإمام قول المخبِر عما وقع له؛ دليل على قول من خلفه في إصلاح الصلاة، إذا كان الإمام على شك، بلا خلاف. وهل يشترط في المخبر عدد لأنه من باب الشهادة، أو لا يشترط ذلك (12) ، لأنه من باب قبول الخبر؟ قولان: الأول: لأشهب وابن حبيب.
وأما إن (13) كان الإمام جازمًا في اعتقاده بحيث يصمم عليه، فلا يرجع إليهم، إلا أن يفيد خبرهم العلم فيرجع إليهم، وإن لم يفد خبرهم العلم؛ فذكر ابن القصّار في ذلك عن مالك قولين: الرجوع إلى قولهم، وعدمه. وبالأول قال ابن حبيب، ونصه: إذا صلى الإمام برجلين فصاعدًا فإنه يعمل على يقين من وراءه، ويدع (14) يقين نفسه، قال المشايخ: يريد الاعتقاد.
وبالثاني قال ابن مسلمة، ونصّ ما حكي عنه: يرجع إلى قولهم إن (15) كثروا، ولا يرجع إذا قلّوا، وينصرف، ويُتِمّون لأنفسهم .
وقوله: «لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلاةِ شَيْءٌ أَنْبَأْتُكُمْ بِهِ»: يفهم منه أن الأصل في الأحكام بقاؤها (16) على ما قُرِّرَتْ وإن جوز غير (17) ذلك، وأن تأخير البيان لا يجوز عن وقت الحاجة .
وقوله: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ»: دليل على جواز النسيان على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما طريقه البلاغ من الأفعال وأحكام الشرع. قال عياض (18) : وهو =(2/184)=@ مذهب عامة العلماء والأئمة، والنظار (19) ، وظاهر القرآن والأحاديث، لكن شرط الأئمة أن الله تعالى ينبهه على ذلك، ولا يقرّه عليه، ثم اختلفوا: هل من شرط التنبيه اتصاله (20) بالحادثة على الفور؟ وهذا مذهب القاضي أبي بكر والأكثر من العلماء، أو يجوز في ذلك التراخي ما لم ينخرم عمره، وينقطع تبليغه؟ واليه نَحَا أبو المعالي. ومنعت طائفة من العلماء السهو عليه في الأفعال البلاغية، والعبادات الشرعية، كما منعوه اتفاقًا في الأقوال البلاغية، واعتذروا عن الظواهر الواردة في ذلك، وإليه مال الأستاذ أبو إسحاق،
وشذّت الباطنية وطائفة من أرباب علم القلوب، فقالوا: لا يجوز الثسيان عليه، وإنما يَنْسَى قصدًا، ويتعمد صورة النسيان ليسنّ، ونحا إلى قولهم عظيم من أئمة التحقيق؛ وهو أبو المظفر الإسفراييني (21) في كتابه "الأوسط"، وهذا مَنْحىً غير سديد، وجمع الضد مع الضد مستحيل بعيد.
قال (22) الشيخ رحمه الله: والصحيح أن السهو عليه جائز مطلقًا؛ إِذْ هو واحد من نوع البشر، فيجوز عليه ما يجوز عليهم إذا لم يقدح في حاله، وعليه نبّه حيث قال: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ»، غير أن ما كان منه فيما طريقه بلاغ الأحكام قولاً أو فعلاً (23) ، لا يقرّ على نسيانه، بل ينبَّه عليه إذا تعينت الحاجة إلى ذلك المبلغ، فإن أقر على نسيانه (24) [ذلك، فإنما ذلك] (25) من باب النسخ؛ كما قال تعالى: {سنقرئك فلا تنسى ( إلا ما شاء الله} (26) . &(2/147)&$
__________
(1) في (ب): «يسجد».
(2) في (غ): «قد صلى».
(3) في (ح) في (غ): «سجوده».
(4) في (أ): «أبطل»، والصواب ما هو مثبت، والمعنى: «إذ كان مقصوده إبطال الصلاة».
(5) في (غ): «وسوسة».
(6) في (أ): «بزياد».
(7) في (غ): «وزيادة أجر».
(8) أخرجه البخاري (1/503، 505 رقم401، 404) في الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان، وباب ما جاء في القبلة، و(3/93-94 رقم1226) في السهو، باب إذا صلى خمسًا، و(11/550 رقم6671) في الأيمان والنذور، باب إذا حنث ناسيًا في الأيمان ) و(13/231 رقم7249) في أخبار الآحاد، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق، ومسلم (1/400-401 رقم572/89، 90، 92، 93، 96) في المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له.
(9) كان هاهنا في "المفهم" باب: من لم يدر كم صلى، فقدمناه قبل الحديث السابق تمشيًا مع ترتيب "التلخيص" كذا في (غ).
(10) في (غ): «سؤالي».
(11) في (أ): «وما ذلك».
(12) قوله: «ذلك» ليس في (ح).
(13) في (أ): «إذا».
(14) في (ح): «فيدع».
(15) في (غ): «إذا».
(16) في (أ): «بقاؤه».
(17) في (غ): «عر».
(18) في (ب): «القاضي عياض».
(19) في (ب) و(ح) و(غ): «الأئمة النظار»، والصواب ما هو مثبت من (أ) كما في "الإكمال" للقاضي عياض (2/513).
(20) في (ب): «إيصاله».
(21) في (غ): «الإسفرايني».
(22) في (أ): «قلت».
(23) في (ب): «قولاً وفعلاً».
(24) من قوله: «بل ينبه عليه.... » إلى هنا سقط من (ب).
(25) في (ب) و(ح): «لذلك، فذلك».
(26) سورة الأعلى، الآيتان: 6، 7.(2/147)
وقوله: «فَلْيَتَحَرَّ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ الصَّوَابُ»، و «فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَ ذَلِكَ إِلَى الصَّوَابِ» ظاهره ما صار إليه الكوفيون: من عمله على غلبة ظنه، وقد ذكرنا أن =(2/185)=@ الجمهور ردّوه (1) إلى حديث أبي هريرة (2) ، وهذا لم تضم إليه ضرورة .
تعارض، إذ يمكن أن يحمل كل واحد من الحديثين على حالة غير الأخرى، فَمَحْمِلُ (3) حديث أبي هريرة فيمن شك، ومحمل (4) هذا الحديث: فيمن ظنّ، ولا تعارض بينهما، والتحرّي وإن كان هو القصد، كما قال تعالى: {فأولئك تحروا رشدًا} (5) ، فكما يُقْصَدُ المتيقَّن يُقْصَدُ المظنون، والله أعلم .
فإن قيل: الموجب لتأويل هذا الحديث وردّه إلى حديث أبي هريرة: أن الصلاة في ذمته بيقين، ولا تبرأ ذمته إلا بيقين، قلنا: لا نسلِّم، بل تبرأ ذمته بغلبة الظن؛ بدليل: أن صحة الصلاة تتوقف على شروط مظنونة باتفاق؛ كطهارة النجاسة، وطهارة الحدث باختلاف، والموقوف على المظنون مظنون، فلا يلزم اليقين، وإن كان الأولى هو اليقين، والله أعلم .
وقوله: «إِذَا زَادَ الرَّجُلُ أَوْ نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ»: يقتضي التسوية بين ما كان للنقص (6) ، وبين ما كان للزيادة، فإما أن يكون هذا الأمر بهما على الوجوب، أو على الندب. والتفرقة التي حكيناها عن أصحابنا مخالفة لهذا الظاهر فتلغى.
وقوله في الرواية الأخرى: التي لا شك فيها: «أَنَّه - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى خَمْسًا ثُمَّ سَجَد»؛ حجة على أبي حنيفة حيث قال: بطول الصلاة بزيادة الخامسة، وهو حجة =(2/186)=@ لمالك على صحة ذلك في غير الثنائية، فلو زاد في الثنائية ركعة فقد زاد مثل نصفها، وقد اختلف فيما إذا زاد مثل نصف الصلاة فأكثر، فقيل: النصف كثير تعاد الصلاة منه في الصبح وغيرها. وهذا (7) قول مطرِّف وابن القاسم. وقيل: إنما (8) تفسد بزيادة ركعتين، وليست زيادة ركعة تبطل في الصبح ولا غيرها، وهو قول عبد الملك، فأما (9) لو زاد مثل الصلاة؛ ففي بطلانها بذلك روايتان: مشهورتهما (10) : البطلان. والثانية: رواية عبد الملك ومطرف؛ وهي الصحة (11) ، ويجزيه سجود السهو، وسبب هذا الخلاف: اعتبار (12) الزيادة؛ هل هي كثيرة بالنسبة (13) أم لا؟ &(2/148)&$
__________
(1) في (غ): «يردده».
(2) وهو الآتي في قصة ذي اليدين.
(3) في (ح): «فيحمل».
(4) في (ح): «ويحمل».
(5) سورة الجن، الآية: 14.
(6) في (ب): «لنقص».
(7) في (ب): «وهو قول».
(8) في (ح): «إنها».
(9) في (غ): «وأما».
(10) في (غ): «مشهورهما».
(11) في (غ): «الصحيحة».
(12) في (غ): «اعتبان».
(13) في (غ): «النسبة».(2/148)
*************
باب ما جاء فيمن سلَّم من اثنتين أو ثلاث
168 - عَن أَبي هُرَيْرَةَ (1) قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِحْدَى صَلاتَيِ الْعَشِيِّ، إِمَّا الظُّهْرَ وَإِمَّا الْعَصْرَ. فَسَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَتَى جِذْعًا فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَاسْتَنَدَ إِلَيْهَا مُغْضَبًا، وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَا أَنْ يَتَكَلَّمَا، وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ قَالُوا: قَصُرَتِ الصَّلاةُ، فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَقَصُرَتِ الصَّلاةُ أَمْ نَسِيتَ؟ فَنَظَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَمِينًا وَشِمَالاً فَقَالَ: «مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟» قَالُوا: صَدَقَ لَمْ تُصَلِّ إِلا رَكْعَتَيْنِ. فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَفَعَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَرَفَعَ .
وَفِي رِوَايَة: أَنَّهَا صَلاةَ الْعَصْرِ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِي جَوَابِ ذِي الْيَدَيْنِ إِذْ قَالَ: أَقَصُرَتِ الصَّلاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ نَسِيتَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : «كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ»، فَقَالَ: قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى النَّاسِ فَقَالَ أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟. فَقَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: فَأَتَمَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا بَقِيَ مِنَ الصَّلاةِ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ بَعْدَ التَّسْلِيمِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب مَنْ سلم من اثنتين أو ثلاث
قوله: «إِحْدَى صَلاتَيِ الْعَشِيِّ، - إِمَّا الظُّهْرَ وَإِمَّا الْعَصْرَ-» أول العشي إذا فاء الفيء وتمكّن (2) ، ومنه قول القاسم بن محمد: ما أدركت الناس (3) إلا وهم يصلون الظهر بعشي، وآخره: غروب الشمس، وأصله: الظلمة، ومنه: عَشَا البصر، وعشوت إلى (4) النار: نظرت إليها عن ظلمة.
وقوله: «ثُمَّ (5) أَتَى جِذْعًا» فاستند إليها؛ الجذع: أحد الجذوع، وهو خشبة النخلة، وهو مذكر، لكنه أُعاد (6) عليه ضمير المؤنث؛ لأنه خشبة، كما قالوا: بلغني كتابه فمزقتها؛ لأن الكتاب صحيفة . =(2/187)=@
وقوله في أبي بكر وعمر (7) : «فَهَابَا أَنْ يَتَكَلَّمَا»؛ يعني: أنهما بما (8) غلب عليهما (9) من احترام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتعظيمه، وإكبار مقامه الشريف، امتنعَا من تكليمه، مع علمهما &(2/149)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (1/565 رقم482) في الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، و(2/205 رقم714، 715) في الأذان، باب هل يأخذ الإمام إذا شك بقول الناس، و(3/96، 98، 99 رقم1227-1229) في السهو، باب إذا سلم في ركعتين أو في ثلاث فسجد سجدتين، وباب من لم يتشهد في سجدتي السهو، وباب من يكبر في سجدتي السهو، و(10/468 رقم6051) في كتاب الأدب، باب ما يجوز من ذكر الناس، و(13/131 رقم 7250) في أخبار الآحاد، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق، ومسلم (1/403 رقم573/97، 99) في المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له.
(2) قوله: «وتمكن» ليس في (ح).
(3) قوله: «الناس» ليس في (ح).
(4) قوله: «إلى» ليس في (ح) و(غ).
(5) قوله: «ثم» ليس في (ب).
(6) في (أ): «أُعِيد».
(7) في (غ): «في قول أبي بكر وعمر».
(8) في (غ): «مما».
(9) في (ب): «بما غلبهما».(2/149)
بأنه (1) سيبين (2) أمر ما وقع، ولعله بعد النهي عن السؤال كما قررنا (3) في كتاب الإيمان.
وإقدام ذي اليدين على السؤال؛ دليل على حرصه على تعلم العلم، وعلى اعتنائه بأمر الصلاة.
وقوله: «وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ»؛ رويته (4) بفتح السين والراء، وهو المحفوظ عن متقني الشيوخ، وهو قول الكسائي، أو غيرهم يسكّن الراء (5) ، وهم: أَخِفّاؤهم والمسرعون منهم. ورواه الأَصِيلي (6) في البخاري: «سَرْعان» (7) : بضم السين وإسكان الراء، وكأنه جمع سريع؛ كقفيز وقفزان، وقضيب وقضبان، وكسر السين خطأ، قاله الخطابي.
وقوله: «قَصُرَتِ الصَّلاةُ» معناه: يقولون: قصرت الصلاة، على اعتقاد وقوع (8) ما يجوز من النسخ. وذو اليدين: رجل من بني سُليم، كان طويل اليدين. ووقع في رواية: «بسيط (9) اليدين» (10) ، وظاهره: طويل خلق اليدين، ويحتمل أنه (11) كان طويل اليديْن بالعمل (12) وبالبذل. وقد سماه في حديث عمران بن حصين: الخِرْباق، قال: وكان في يديه طول، ويحتمل أن يكون رجلاً آخر، والله أعلم (13) . وقد سمّاه الزهري: ذا الشمالين، قال: رجل من بني زُهرة، وقد خطّأه أهل السِّيَر في ذلك، وقالوا: إن ذا الشمالين الزهريَّ (14) قتل يوم بدر.
قال (15) الشيخ رحمه الله: ويحتمل أن يكون =(2/188)=@ الخرباق في حديث عمران بن حصين غير ذي اليدين في حديث أبي هريرة، والله أعلم (16) .
وقوله: «مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟» يحتج به من يقول: لابد من اشتراط العدد في المخبِر عن السهو، ولا حجة فيه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما استكشف لِمَا وقع له من التوقف في خبره؛ حيث انفرد بالخبر عن ذلك (17) ، مع أن الجمع كثير (18) ، ودواعيهم متوفرة (19) ، وحاجتهم داعية إلى الاستكشاف عما وقع، فوقعت الريبة في خبر المخبِر لهذا، وجُوِّزَ عليه أن يكون الغلط والسهو منه، لا لأنها (20) شهادة، والله أعلم .
وهذا كما وقع في قبول أخبار الآحاد (21) في غير موضع. &(2/150)&$
__________
(1) في (ح): «أنه».
(2) في (غ): «سيتبين».
(3) في (ب): «قررناه».
(4) في (ح): «ورويته».
(5) وفي (غ): «ورواية غيرهم بسكون الراء».
(6) في (ح): «الأصيل»، وفي (غ): «ورواية الأصيلي».
(7) قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (3/100): «وحكى عياض أن الأصيلي ضبطه بضم ثم إسكان... ، والمراد بهم: أوائل الناس خروجًا من المسجد، وهم أصحاب الحاجات غالبًا».
(8) في (ح): «وقع».
(9) في (غ): «سبط».
(10) هي إحدى روايات حديث عمران بن حصين الآتي في "صحيح مسلم".
(11) في (أ) و(ح): «أن».
(12) في (ب): «بالفضل».
(13) قوله: «ويحتمل أن يكون رجلاً آخر، والله أعلم» ليس في (أ).
(14) قوله: «الزهري» ليس في (ح).
(15) في (أ)، و(ح): «قلت».
(16) قوله: «والله أعلم» ليس في (ب) و(غ).
(17) في (غ): «بخبر ذلك».
(18) في (غ): «الكثير».
(19) في (ب): «متوافرة».
(20) في (ح): «لا أنها».
(21) (؟؟؟): «في قبول خبر الآحاد».(2/150)
وقوله: «فَقَالُوا: صَدَقَ»؛ حصل من مجموع هذا الحديث أن الكلّ تكلموا في الصلاة بما يصلحها، ثم بعد (1) كلامهم كمّل الصلاة، وسجد، ولَغَا كلامهم، ولم يضرّ، فصار هذا حجة لمالك على أن من تكلم في الصلاة لإصلاحها لم تبطل صلاته، وخالفه (2) بعض أصحابه وأكثر الناس. قال الحارث بن مسكين: أصحاب مالك كلهم على خلاف ما قال ابن القاسم عن مالك، وقالوا: كان هذا أول الإسلام، وأما الآن فمن تكلم فيها أعادها، ومنع ما أجازه مالك من الكلام: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وأهل الظاهر، وجعلوه مفسدًا للصلاة، إلا أن أحمد أباح ذلك للإمام وحده، واستثنى سحنون - من أصحاب مالك - إن سَلّم من اثنتين من الرباعية، فوقع الكلام هناك لم تبطل الصلاة، وإن وقع في غير ذلك بطلت الصلاة. والصحيح ما ذهب إليه مالك تمسكًا بالحديث، وحملاً له على الأصل الكلي؛ من تعدّي الأحكام، وعموم الشريعة، ودفعًا لما يُتوهم من الخصوصية؛ إذ لا دليل عليها، ولو كان شيء مما ادعى؛ لكان فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولا يجوز إجماعًا، ولكان يبيّنه؛ كما فعل في حديث أبي بردة =(2/189)=@ بن نيار؛ حيث قال (3) : «ضحّ بها، ولن تجزئ عن أحد بعدك»، والله أعلم.
وقوله: «فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَفَعَ، ثُمَّ كَبَّرَ (4) وَسَجَدَ، ثُمَّ كَبَّرَ (5) وَرَفَعَ»: هذا حجة لمالك رحمه الله على أن السجود للزيادة بعد السلام، وحجة على الشافعي؛ حيث قال: السجود كلُّه قبل السلام. وتأويل من تأوّله على أن المراد به (6) : سلام التشهد ليس بصحيح بما تقدم، ولم تدع إليه حاجة، وقد بنى النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما تقدم له من صلاته، مع ما وقع في أضعافها، ومن استدباره &(2/151)&$
__________
(1) في (ح): «من بعد».
(2) في (ب): «وخالف».
(3) قوله: «قال» ليس في (غ).
(4) قوله: «فرفع، ثم كبر» ليس في (أ) و(ح)، و(غ).
(5) قوله: «وسجد ثم كبَّر» ليس في (ح).
(6) قوله: «به» سقط من (ح).(2/151)
القبلة، واستناده إلى الخشبة والمحاورة في ذلك. وقد حمل ذلك أصحابنا على أن ذلك عمل قليل، وبحضرة ذلك، ولذلك ألغاه. فأما لو كثر ذلك وطال جدًّا لبطلت الصلاة. وقيل: لا تبطل وإن طال. وسبب الخلاف: هل ما وقع في قصة ذي اليدين كثير أو قليل؟ ثم اختلف في الطول ما هو؟ فقيل: يرجع في ذلك إلى العرف، وقيل: ما لم ينتقض وضوءه، وروي هذا الأخير عن ربيعة ومالك. ولم يبين في هذا الحديث هل رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة (1) بتكبير أو بغيره، ولا هل رجع إلى حال الجلوس أو لا؟ وقد اختلف أصحابنا في ذلك، فهاتان مسألتان:
المسألة الأولى: المشهور أنه يرجع بتكبير. وهل ذلك التكبير للإحرام، أو لا؟ المشهور أنه للإحرام، فإن كان لا للإحرام (2) ، فهل هو للإشعار برجوعه، أو هو تكبير (3) القيام في الثالثة بعد الجلوس؟ قولان. وسبب هذا الخلاف: هل إيقاع السلام ساهيًا عن التكميل مخرج عن الصلاة، أم لا يكون مخرجًا؛ كالكلام ساهيًا؟ فيه ثلاثة أقوال: يفرّق في الثالث بين أن يكون سهوه عن العدد، فيسلم قصدًا، ثم يذكر، فهذا يحتاج إلى إحرام، أو سهوه عن السلام، فلا يحتاج إليه، فإن هذا السلام كالكلام المسهو عنه . =(2/190)=@
المسألة الثانية: إذا قلنا: إنه يكبر للإحرام، فهل يكبر قائمًا كالإحرام الأول، أو جالسًا (4) ؛ لأنها الحالة التي فارق الصلاة عليها؟ قولان. ثم إذا قلنا: يُحرم قائمًا، فهل يجلس بعد ذلك القيام ليأتي بالنهضة في صلاته (5) - قاله ابن القاسم - أو لا يجلس (6) ؟ لأن النهضة غير مقصودة لنفسها، وقد فات محلها فلا يعود إليها، رواه ابن نافع وقال به.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ»: هذا (7) مشكل بما ثبت من حاله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه يستحيل عليه الخلف والكذب، والاعتذار عنه من وجهين (8) :
أحدهما: أنه إنما نفي الكلية، وهو صادق فيها؛ إذ لم يجتمع وقوع الأمرين، وإنما وقع أحدهما، ولا يلزم من نفي الكلية نفي كل جزء من
أجزائها، فإذا قال: لم ألق كل العلماء، لا يفهم أنه لم يلق واحدًا منهم، ولا يلزم ذلك منه، إلا أن هذا =(2/191)=@ الاعتذار يبطله قوله في الرواية الأخرى (9) : «لم أنس ولم تقصر»، بدل قوله: «كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ»، فقد نفي (10) الأمرين نصًّا. &(2/152)&$
__________
(1) قوله: «للصلاة» سقط من (ح).
(2) في (ح): «فإن كان للإحرام». وفي (أ): «فإن كان لا لإحرام».
(3) في (ح): «بتكبير».
(4) في (ح): «أم جالسًا».
(5) في (أ) و(ح) و(غ): «صلاةٍ».
(6) في (ح) يشبه أن تكون: «أو لانا يجلس».
(7) في (ب) يشبه أن تكون: «وهذا».
(8) في (ح): «جهتين».
(9) قوله: «في الرواية الأخرى» سقط من (ح).
(10) في (أ): «بقي».(2/152)
والثاني: أنه إنما أخبر عن الذي كان في اعتقاده وظنه، وهو أنه لم يفعل شيئًا من ذلك، فأخبر بحق؛ إذ خبره موافق لما في نفسه، فليس فيه خلف ولا كذب، وعن هذا ما قد صار إليه (1) أكثر (2) الفقهاء: إلى أن الحالف بالله على شيء يعتقده، فيظهر أنه بخلاف ما حلف عليه، أن تلك اليمين لاغية، لا حنث فيها، وهي التي لم يُضِفْها الله إلى كسب القلب، حيث قال: {لا يؤاخذكم الله باللغو (3) في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} (4) (5) . وقد روى أبو داود (6) حديث أبي هريرة هذا، وقال مكان: «كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ»: «لم (7) أنس، ولم تقصر»، ومَحْمِلُهُ (8) على ما ذكرناه من إخباره عن اعتقاده. وللأصحاب فيه (9) تأويلات أُخَر:
منها: أن قوله: «لم أنس» راجع إلى السلام؛ أي: لم أنس السلام، وإنما سلّمت قصدًا، وهذا فاسد؛ لأنه حينئذ لا يكون جوابًا عما سئل عنه.
ومنها: الفرق بين النسيان والسهو، فقالوا: كان يسهو ولا ينسى؛ لأن النسيان غفلة، وهذا أيضًا ليس بشيء؛ إذ لا يُسَلّم (10) الفرق، ولو سلم فقد أضاف - صلى الله عليه وسلم - النسيان إلى نفسه في غير ما موضع، فقال: «إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني»، وقوله: «إني لأَنْسَى- أو أُنَسَّى- لأَسُنَّ» (11) ، وغير ذلك (12) . =(2/192)=@
ومنها: ما اختاره القاضي عياض: أنه إنما أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - نسبة النسيان إليه؛ إذ ليس من فعله؛ كما قال في الحديث الآخر: «بئس ما لأحدكم أن يقول نسيت آية كَيْتَ وكيت، بل هو نُسِّي» (13) ؛ أي: خلق فيه النسيان، وهذا يبطله قوله أيضًا (14) : «أنسى (15) كما تنسون، فإذا نسيت (16) »). وأيضًا فلم يصدر ذلك عنه على جهة الزجر والإنكار، بل على جهة النفي لما قاله السائل عنه. وأيضًا فلا يكون جوابًا لما سئل عنه.
والصواب حمله على ما ذكرناه، والله أعلم. ولا يلزم عليه &(2/153)&$
__________
(1) قوله: «إليه» من (ب) فقط.
(2) في (ب): «أكبر».
(3) في (ح): «في اللغو».
(4) سورة البقرة، الآية: 225.
(5) في حاشية (ب): «بلغ مقابلة».
(6) في "سننه" (1/612-613 رقم1008) في الصلاة، باب السهو في السجدتين.
(7) في (ح): «ولم».
(8) في (ح): «محمله»، وفي (غ): «فحمله».
(9) في (أ): «منه».
(10) في (ح): «لا نسلم».
(11) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/100 رقم2) في السهو، باب العمل في السهو، بلاغًا.
قال ابن عبدالبر في "التمهيد" (24/375): «أما هذا الحديث بهذا اللفظ، فلا أعلمه يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بوجه من الوجوه مسندًا ولا مقطوعًا من غير هذا الوجه ،والله أعلم. وهو أحد الأحاديث الأربعة في "الموطأ" التي لا توجد في غيره مسنده ولا مرسلة، والله أعلم. ومعناه صحيح في الأصول، وقد مضت آثار في باب نومه عن الصلاة تدل على هذا المعنى؛ نحو قوله - صلى الله عليه وسلم - : «إن قبض أرواحنا لتكون سنة لمن بعدكم... » الخ. وانظر "الاستذكار" (4/402) و(8/57-58).
(12) قوله: «وغير ذلك» ليس في (غ).
(13) سيأتي في أبواب فضائل القرآن وما يتعلق بها برقم (668)، باب الأمر بتعاهد القرآن.
(14) قوله: «أيضًا» ليس في (أ).
(15) في (ب): «إني أنسى».
(16) في (ح): «فإذا نسيت فذكروني».(2/153)
شيء من الاستبعادات.
وفي "الأم": «تَوَشْوَشَ (1) القوم» (2) رواه أبو بحرٍ معجمةً، وغيرُه (3) مهملة، وكلاهما بمعنى الحركة. قال ابن دُريد: وسْوَسْتُ الشيء - مهملاً -: حَرَّكْتُه (4) ، وتوشوش القوم: تحرّكوا وهمسوا .
169 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ (5) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الْعَصْرَ فَسَلَّمَ فِي ثَلاثِ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْخِرْبَاقُ، وَكَانَ فِي يَدَيْهِ طُولٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَذَكَرَ لَهُ صَنِيعَهُ، وَخَرَجَ غَضْبَانَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ: «أَصَدَقَ هَذَا؟» قَالُوا: نَعَمْ، فَصَلَّى رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث عمران: «فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ... فَذَكَرَ لَهُ صَنِيعَهُ»، يعني: سلامه في ثالثة. وغضبه - صلى الله عليه وسلم - يحتمل أن يكون إنكارًا على المتكلّم؛ إذ قد نَسَبَه إلى ما كان يعتقد خلافه، ولذلك أقبل على الناس متكشِّفًا عن ذلك. وعلى هذا يدل ما في الرواية الأخرى (6) : إذ قال فيها: «فقام رجل بسيط اليدين، فقال: قصرت الصلاة يا رسول الله؟ فخرج مغضبًا». ويحتمل أن يكون غضبه لأمر آخر لم يذكره الراوي، =(1/193)=@ وكأن الأول أظهر.
وحديث عمران بن حصين هذا واقعة أخرى غير واقعة حديث أبي هريرة، وقد توارد (7) الحديثان على أن السجود للزيادة بعد السلام، كما هو مشهور مذهب مالك، فانتهضت حجتهُ والحمد لله.
وفي حديث ذي اليدين حجة لمالك على قوله: إن الحاكم إذا نسي حكمه فشهد عنده عدلان بحكمٍ؛ أمضاه، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما: إنه لا يمضيه حتى يذكره، وأنه لا يَقبل الشهادة على نفسه، بل على غيره، وهذا إنما يتم لمالك إذا سلم له أن رجوعه للصلاة (8) إنما كان لأجل الشهادة، لا لأجل تيقنه (9) ما كان قد نسيه. &(2/154)&$
__________
(1) في (أ): «توشوس»، وفي (ب) يشبه أن تكون: «توسْوش»، وفي (ح): «توسوس» بالمهملتين، والمثبت من (غ).
(2) هي إحدى روايات مسلم لحديث ابن مسعود المتقدم برقم (464)، وهي في "صحيح مسلم" برقم (572/92).
(3) في (ح): «وغير».
(4) في (ب): «حركة».
(5) أخرجه مسلم (1/404 رقم574) في المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له.
(6) وهي إحدى روايات مسلم لحديث عمران هذا.
(7) في (ح): «اتوارد».
(8) في (ح): «إلى الصلاة».
(9) في (غ): «يشبه أن تكون تبينه».(2/154)
************
(53) باب ما جاء في سجود القرآن
170 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ (1) ، قال:رُبَّمَا قَرَأَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْقُرْآنَ، فَيَمُرُّ بِالسَّجْدَةِ فَيَسْجُدُ بِنَا ازْدَحَمْنَا عِنْدَهُ،حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَكَانًا يَسْجُدَ فِيْهِ فِي غَيرِ صَلاةٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب سجود القرآن
قوله (2) : «رُبَّمَا قَرَأَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْقُرْآنَ، فَيَمُرُّ بِالسَّجْدَةِ فَيَسْجُدُ بِنَا ازْدَحَمْنَا عِنْدَهُ»: هذا يدل على أن سجود القرآن أمر مشهور، معمول به في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد استمر العمل عليه، ولذلك (3) قال مالك: «الأمر عندنا: إن عزائم [سجود] (4) القرآن...» (5) ، وبدليل فعل عمر (6) وغيره.
وقد اختلف العلماء في حكمه، وعدده، ومحله، ووقته، وشرطه، فلنرسم في ذلك مسائل:
المسألة (7) الأولى: ذهب أبو حنيفة إلى وجوبه عند (8) قراءة موضع السجدة، =(2/194)=@ محتجًّا في ذلك بما في كتاب الله تعالى من الأمر بالسجود؛ كقوله: {فاسجدوا لله واعبدوا} (9) ، وقوله: {واسجد (10) واقترب} (11) ، وغير ذلك. وبقوله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا قرأ ابن آدم السجدة، فسجد (12) اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله! أُمِرَ ابن ادم بالسجود فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت، فلي النار» (13) . وجمهور العلماء (14) على أن سجود التلاوة ليس بواجب، فالأولى أن يكون سنَّة (15) ، وصرفوا ما ذكر من الأمر بالسجود (16) إلى الصلاة الواجبة. واختلف أصحابنا هل هو سنة أو فضيلة؟
على قولين، فإذا (17) قلنا: إنه ليس بواجب، فالأولى أن يكون سنة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد داوم عليه وفعله في جماعة، وفعله الناس (18) بعده، فتأكد أمره، فيكون سنة، والله أعلم. &(2/155)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (1/556، 557، 560 رقم 1075، 1076، 1079) في سجود القرآن، باب من سجد لسجود القارئ، وباب ازدحام الناس إذا قرأ الإمام السجدة، وباب من لم يجد موضعًا للسجود من الزحام، ومسلم (1/405 رقم575/104) في المساجد ومواضع الصلاة، باب سجود التلاوة.
(2) في (غ): «وقوله».
(3) قوله: «ولذلك» ليس في (أ).
(4) مابين المعقوفين من الموضع الآتي من " الموطأ "، وليس في (أ)، و(ب)، و(غ)، و(ح).
(5) عبارة مالك هذه في "الموطأ" (1/207) كتاب القرآن، باب ما جاء في سجود القرآن، وقد ساق المصنِّف منها موضع الشاهد، وكان الأولى إيرادها بتمامها وتتمتها: «إحدى سجدة سجدة، ليس في المفصل منها شيء».
(6) يعني ما أخرجه البخاري في "صحيحه" (2/557 رقم1077) في سجود القرآن، باب من رأى أن الله عز وجل لم يوجب السجود، وفيه أن عمر قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل، حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها، حتى إذا جاء السجدة قال: يا أيها الناس! إنا نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر - رضي الله عنه - .
(7) قوله: «المسألة» ليس في (ح).
(8) في (ح): «عنده».
(9) سورة النجم، الآية: 62.
(10) في (أ): «فاسجد».
(11) سورة العلق، الآية: 19.
(12) قوله: «فسجد» ليس في (أ).
(13) تقدم برقم (60) في كتاب الإيمان.
(14) في (ب) و(ح) و(غ): «الفقهاء».
(15) قوله: «فالأولى أن يكون سنة» سقط من (ب) و(ح) و(غ).
(16) قوله: «من الأمر بالسجود» ليس في (أ)، وفي (ح): «في السجود» بدل: «بالسجود».
(17) في (ب) و(غ): «وإذا».
(18) في (غ): «جماعات الناس».(2/155)
المسألة الثانية: واختلف في عدد سجدات القرآن، فأقصى ما قيل في عددها: خمس عشرة؛ أوّلها: خاتمة الأعراف، وآخرها: خاتمة العلق، قاله ابن حبيب من أصحابنا، وابن وهب في رواية وإسحاق (1) . وقيل: [أربع عشرة] (2) ، قاله ابن وهب، وأسقط ثانية الحج، وهو قول أبي حنيفة وأهل الرأي (3) ، وقول الشافعي، إلا أنه أسقط سجدة (4) «ص» (5) ، وأثبت آخرة الحج، وقيل: إحدى عشرة، وأسقط آخرة الحج وثلاث المفصل، وهو مشهور مذهب مالك وأصحابه، وروي عن ابن عمر وابن عباس (6) . وقيل: عشرة، وأسقط آخرة الحج، و ص، وثلاث المفصل؛
ذُكر عن ابن عباس (7) . وقيل: إنها أربع: سجدة الم تنزيل (8) ، وحم تنزيل، والنجم، والعلق. وسبب الخلاف: اختلاف النقل في الأحاديث والعمل، واختلافهم في الأمر الْمجَرَّد (9) بالسجود في القرآن: هل المراد به سجود التلاوة، أو سجود الفرض، والله أعلم . =(2/195)=@
المسألة الثالثة: وأما محله: فمهما قرأ القرآن، ومرّ بموضع (10) سجدة سجد (11) إذا كان في وقتها على ما يأتي، وإن كان في صلاة ففي النافلة إن كان منفردًا، وفي جماعة يأمن التخليط فيها. فإن كان في جماعة لا يأمن ذلك فيها (12) ، فالمنصوص جوازه، وقيل: لا يسجد فيها. وأما في الفريضة: فالمشهور عن مالك النهي عنه فيها (13) ، سواء كانت صلاة سرٍّ أو جهرٍ، جماعة (14) أو فرادى، وهو معلل بكونها زيادة في أعداد سجود (15) (6) الفريضة. وقيل: هو معلل بخوف التخليط على الجماعة، وعلى هذا لا يمنع منه الفرادى، ولا الجماعة التي يأمن فيها التخليط.
المسألة الرابعة: وأما وقته، فقيل: يسجد في سائر الأوقات مطلقًا؛ لأنها صلاة لسبب، وهو قول الشافعي وجماعة. وقيل: ما لم يسفر الصبح، أو: ما لم تصفر الشمس بعد العصر. وقيل: لا يسجد بعد العصر، ولا بعد الصبح. وقيل: يسجد بعد الصبح ما لم يسفر، ولا يسجد بعد العصر. وهذه الثلاثة الأقوال في &(2/156)&$
__________
(1) في (غ): «إسحاق» بلا واو.
(2) في (أ): «أربعة عشر».
(3) قوله: «وأهل الرأي» سقط من (ح).
(4) في (غ): «سجود».
(5) في (أ) و(ب) و(غ): «النجم»، والمثبت من (ح)، وهو الصواب كما في "إكمال المعلم" (2/274).
(6) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (3/335 رقم5860) عن ابن جريج، قال: أخبرنا عكرمة بن خالد، أن سعيد بن جبير أخبره أنه سمع ابن عباس وابن عمر يعدّان كم في القرآن من سجدة، فقالا: الأعراف، والرعد، والنحل، وبني إسرائيل، ومريم، والحج - أوّلها -، والفرقان، وطس، والم تنزيل، و ص، وحم السجدة، إحدى عشر. وسنده صحيح.
(7) أخرجه عبدالرزاق أيضًا برقم (5859) عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، به. قال ابن جريج: فقلت: ولم يكن ابن عباس يقول: في ص سجدة؟ قال: لا. وسنده صحيح أيضًا، ولا معارضة بينه وبين سابقه؛ لأن هذا يحمل على أنه قصد أنها ليست من عزائم السجود، وربما قيل: لا يسجد بها في الصلاة.وانظر "فتح الباري"(2/552-553).
(8) قوله: «تنزيل» سقط من (ب).
(9) قوله: «المجرد» سقط من (ح).
(10) في (غ): «موضع».
(11) في (غ): «سجدها».
(12) في (ب) و(غ): «فيها ذلك».
(13) في (ح): «النهي عنها».
(14) في (غ): «أو جماعة».
(15) في (ح): «السجود».(2/156)
مذهبنا، وسبب الخلاف: معارضة ما يقتضيه سبب قراءة السجدة من السجود المرتب (1) عليها، لعموم النهي عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح (2) ، واختلافهم في المعنى الذي لأجله نهي عن الصلاة في هذين الوقتين، والله أعلم .
المسالة الخامسة: في شرطه. قال القاضي أبو الفضل عياض: لا خلاف أن سجود القرآن يحتاج إلى ما تحتاج إليه الصلاة؛ من طهارة حدث ونجس، ونية، واستقبال قبلة، ووقت على ما تقدم. وهل يحتاج (3) إلى تحريم ورفع يدين عنده، وتكبير وتسليم؟ فذهب الشافعي وأحمد وإسحاق إلى أنه يكبر ويرفع يديه للتكبير لها، ومشهور مذهب مالك أنه يكبر لها في الخفض والرفع في الصلاة، واختلف عنه في التكبير لها في غير الصلاة، وبالتكبير لذلك قال عامة الفقهاء، ولا سلام لها عند الجمهور. وذهب جماعة من السلف وإسحاق بن =(2/196)=@ راهويه: إلى أنه يسلم منها. وعلى هذا المذهب يتحقق أن التكبير
في أولها للإحرام، وعلى قول من لا يسلم يكون للسجود فحسب (4) .
وقوله: «حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَكَانًا يَسْجُدَ فِيْهِ»، وفي لفظ آخر (5) : «مكانًا لجبهته». اختلف فيمن اعتراه ذلك، فقال (6) الداودي: مالك يرى لمن نزل به مثل ذلك أن يسجد إذا رفع غيره، وكان عمر يرى أن يسجد على ظهر أخيه (7) . واختلف في الخطيب يوم الجمعة يقرأ السجدة في خطبته، فقال مالك يمرّ في خطبته ولا يسجد، وقال الشافعي: ينزل ويسجد، وإن لم يفعل أجزأه. وقد روي عن عمر في "الموطأ" (8) ، وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنهما نزلا وسجدا، رواه أبو داود، وهو صحيح (9) .
171 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ (10) ، عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَرَأَ: {وَالنَّجْمِ} فَسَجَدَ فِيهَا، وَسَجَدَ مَنْ كَانَ مَعَهُ، غَيْرَ أَنَّ شَيْخًا أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ، وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «أَنَّهُ قَرَأَ: {وَالنَّجْمِ} فَسَجَدَ فِيهَا»: كان هذا منه متقدمًا، وكذلك قيل في سجود الانشقاق، و{اقرأ}. والذي استقر عليه العمل: السجود في العزائم الإحدى عشرة؛ التي ليس في المفصل منها شيء.
وقوله: «غير أن شيخًا أخذ كفًّا من حَصىً»: هذا الشيخ (11) هو أمية
ابن &(2/157)&$
__________
(1) في (ح): «المركب»، ويشبه أن تكون هكذا في (ب).
(2) فيه عدة أحاديث ستأتي برقم (697-703) في باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها.
(3) في (غ): «تحتاج».
(4) قوله: «فحسب» سقط من (ح).
(5) وهو أحد ألفاظ مسلم لحديث ابن عمر هذا.
(6) في (ح): «قال».
(7) أخرجه ابن المنذر في "الأوسط" (4/104 رقم 1856)، وابن حزم في "المحلى" (4/84)، والبيهقي (3/183)، ثلاثتهم من طريق سفيان، عن الأعمش، عن المسيب بن رافع، عن زيد بن وهب، عن عمر بن الخطاب قال: إذا اشتد الحر فليسجد أحدكم على ثوبه، وإذا اشتد الزحام فليسجد على ظهر أخيه. وسنده صحيح.
وأخرجه الطيالسي (ص 13 رقم70) من طريق سماك بن حرب، عن سيار بن المعرور، قال: سمعت عمر... ، فذكره. وسيار بن المعرور هذا قال عنه ابن المديني: «مجهول» كما في "تعجيل المنفعة" (1/633)، وذكره ابن حبان في "الثقات" (4/334).
(8) (1/206 رقم16) كتاب القرآن، باب في سجود القرآن، وهو عند البخاري في "صحيحه"، وتقدم تخريجه في بداية هذا الباب.
(9) أخرجه أبو داود (2/124 رقم1410) في الصلاة، باب السجود في { ص }، =
وابن حبان (6/470-471 رقم2765)، و(7/38 رقم2799/الإحسان)، والحاكم (2/431-432)، وعنه البيهقي (2/318)، ثلاثتهم من طريق سعيد بن أبي هلال، عن عياض بن عبدالله بن سعد، عن أبي سعيد الخدري، قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { ص } وهو على المنبر، فلما بلغ السجدة، نزل، فسجد، وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر، قرأها، فلما بلغ السجدة تشزّن الناس للسجود، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إنما هي توبة نبي، ولكني رأيتكم تشزّنتم للسجود»، فنزل وسجد وسجدوا.
قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين»، ووافقه الذهبي. وقال البيهقي: «هذا حديث حسن الإسناد صحيح». وقال ابن كثير في "تفسيره" (7/53): «وإسناده على شرط الصحيح».
(10) أخرجه البخاري (1/551، 553 رقم1076، 1070) في سجود القرآن، باب ما جاء في سجود القرآن وسنتها، وباب سجدة النجم، و(7/165 رقم3853) في مناقب الأنصار، باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من المشركين بمكة، و(7/299 رقم3972) في المغازي، باب قتل أبي جهل، و(8/614 رقم4863) في تفسير سورة النجم من كتاب التفسير، باب {فاسجدوا لله واعبدوا }، ومسلم (1/405 رقم576) في المساجد ومواضع الصلاة، باب سجود التلاوة.
(11) قوله: «هذا الشيخ» ليس في (غ).(2/157)
خلف (1) ، =(2/197)=@ قتل يوم بدر كافرًا (2) ، وإنما سجد؛ لأنه روي أنه سجد حينئذ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمون، والمشركون، والجن، والإنس، قاله ابن عباس (3) . ورواه البزار (4) : حتى شاع أن أهل مكة قد أسلموا، وقدم من كان هاجر إلى أرض الحبشة لذلك، وكان سبب سجودهم - فيما قال ابن مسعود -: إنها كانت أول سورة نزلت فيها سجدة (5) . وروى أصحاب الأخبار والمفسرون (6) : أن سبب ذلك: ما جرى على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذكر الثناء على آلهة المشركين في سورة النجم، ولا يصحّ هذا من طريق النقل ولا العقل، وأشهر (7) طريق النقل فيه عن الكلبي، وهو كذاب، وأما العقل فلا يصدق بذلك لأمور مستحيلة، قد عددها (8) القاضي عياض في الشفاء (9) .
172 - وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ (10) ؛ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ عَنِ الْقِرَاءَةِ مَعَ الإِمَامِ؟ فَقَالَ: لا قِرَاءَةَ مَعَ الإِمَامِ فِي شَيْءٍ. وَزَعَمَ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} فَلَمْ يَسْجُدْ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول زيد: «لا قِرَاءَةَ مَعَ الإِمَامِ فِي شَيْءٍ»؛ يعني: لازمة. وقد تقدم الكلام (11) في ذلك .
وقول عطاء عن زيد: «أنه زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ: {والنجم (12) } فلم يسجد» يشكل بما قدمنا (13) في الزعم: أنه القول غير المحقق، ويزول الإشكال بأن =(2/198)=@ ما قدمناه (14) هو الأصل في وضعه (15) ، وقد يقال على الخبر المحقق؛ كما قال الشاعر (16) :
على الله أرزاق العباد كما زَعَمْ
قال (17) الهروي: زعم هنا بمعنى: أخبر، ويجوز أن يقال: إن زعم؛ بمعنى: ضمن، ومنه الحديث: «الزعيم غارم» (18) . قال (19) الشيخ:: وهذا (20) يصح في معنى البيت (21) ، ويبعد أن &(2/158)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (8/614 رقم4863) في التفسير، باب: { فاسجدوا لله واعبدوا}.
(2) أخرجه البخاري أيضًا (6/629 رقم 3632) في المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، و(7/282 رقم3950) في المغازي، باب ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - من يقتل ببدر.
(3) أخرجه البخاري (2/553 رقم1071) في سجود القرآن، باب سجود المسلمين مع المشركين، والمشرك نجس ليس له وضوء، و(8/614 رقم4862) في تفسير سورة النجم من كتاب التفسير، باب: { فاسجدوا لله واعبدوا }.
(4) بسند ضعيف في "مسنده" (3/72 رقم2263/كشف الأستار)، لكن ليس في هذه الرواية: أنه شاع أن أهل مكة أسلموا، وأنه قدم من كان هاجر إلى أرض الحبشة لذلك، فلعله في رواية أخرى لم نقف عليها، لكن رواه بهذا المعنى ابن أبي حاتم في "تفسيره"- كما في "تفسير ابن كثير" (5/439)- عن الزهري مرسلاً، والطبراني في "المعجم الكبير" (9/34-37 رقم8316) عن عروة بن الزبير مرسلاً أيضًا، وهو الحديث المشهور بقصة الغرانيق، وهو حديث باطل ليس له طريق يثبت بها، وسيأتي تنبيه القرطبي على هذا، وللشيخ الألباني رسالة لإبطاله بعنوان: «نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق»، وهي مطبوعة.
هذا وقد نحا الحافظ ابن حجر في "الفتح" (8/439) منحىً آخر، فذكر أن للحديث طرقًا وإن كانت ضعيفة، إلا أن بعضها يشد بعضًا ويدل على أن للحديث أصلاً، وذهب إلى تأويل ما فيه من معانٍ باطلة.
ولكن ردّ الحديث هو الصواب كما بين ذلك الشيخ الألباني.
(5) جاء هذا اللفظ في إحدى روايات البخاري لحديث ابن مسعود - حديث الباب -.
(6) يعني قصة الغرانيق التي سبق التنبيه عليها في التعليق قبل السابق.
(7) في (ب): «واشتهر».
(8) في (غ): «عدها».
(9) انظر: «الشفا في التعريف بحقوق المصطفي - صلى الله عليه وسلم - » (...) (2/198- 199 بشرح الملاَّ علي القاري).
(10) أخرجه البخاري (2/554 رقم1072) في سجود القرآن، باب من قرأ السجدة ولم يسجد، ومسلم (1/406 رقم577) في المساجد ومواضع الصلاة، باب سجود التلاوة.
(11) في (غ): «القول».
(12) في (أ) و(ح) و(غ): «النجم»، والمثبت من (ب).
(13) في (ب): «قدمناه».
(14) في (ح): «ما قدمنا».
(15) في (أ): «موضعه».
(16) هو عمرو بن شَأْس،كما في"لسان العرب"(12/265)، وهذا عجز البيت الثاني،وقبله:
وعاذِلة تخشى الرّدَى أن يصيبني ... تروح وتغدو بالملامة والقَسَمْ
تقول: هلكنا إن هلكت وإنما ... على الله أرزاق العباد كما زعم
(17) في (غ): «وقال».
(18) أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (1/125-126 رقم427)، فقال: حدثنا إسماعيل بن عياش، قال: حدثني شرحبيل بن مسلم الخولاني، فقال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته عام حجة الوداع: «ألا إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث... » الحديث بطوله، وفي آخره قال: «إن العارية مؤدّاة، والمنحة مردودة، والدين مقضيّ، والزعيم غارم».
وهو حديث حسن كما بينته في تعليقي على "سنن سعيد بن منصور" (2/668-669)، وله شواهد، انظرها في "نصب الراية" (4/57-58).
(19) في (أ) و(ح): «قلت».
(20) يعني قول عطاء: وزعم - يعني زيد بن ثابت -.
(21) في (ح): «في معنى الحديث».(2/158)
يحمل عليه ما في الحديث. ويقال: زعُمَ، و: زعَمَ، و: زَعِمَ (1) ، بالضم، والفتح، والكسر في العين (2) .
وهذا الحديث يدل على أن قوله تعالى في سورة {والنجم (3) }: {فاسجدوا (4) لله واعبدوا} (5) ، أَنَّه لا يراد منه (6) سجود التلاوة، إذ لو كان ذلك، لما تركه (7) النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولذلك قال مالك: إنها ليست من العزائم (8) .
173 - وَعَن أبِي هُرَيْرَةَ (9) قَالَ: سَجَدْنَا مَعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فِي{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وحديث أبي هريرة في سجود النبي - صلى الله عليه وسلم - في: الانشقاق و: {اقرأ} حجة لابن وهب ومن قال بقوله، وقد قدمنا أن ذلك كان من فعله متقدمًا، وأن العمل استقر على ترك ذلك. ويصح الجمع بين الأحاديث المختلفة في سجدات المفصل بما قد روي عن مالك: أنه خَيَّر فيها، والله أعلم . =(2/199)=@
*************
(54) باب كيفية الجلوس للتشهد
174 - عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ (10) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَعَدَ فِي الصَّلاةِ جَعَلَ قَدَمَهُ الْيُسْرَى بَيْنَ فَخِذِهِ وَسَاقِهِ، وَفَرَشَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ.
زَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَوَضَعَ إِبْهَامَهُ عَلَى إِصْبَعِهِ الْوُسْطَى، وَيُلْقِمُ كَفَّهُ الْيُسْرَى رُكْبَتَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب كيفية الجلوس للتشهد
قوله: «وَفَرَشَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى»؛ هكذا الرواية، ولا يصح غيرها نقلاً، وقد أشكلت هذه اللفظة على جماعة، حتى قال أبو محمد الخُشَنِي: صوابه: وفرش قدمه اليسرى، ورأى أنه غلط (11) ؛ لأن المعروف في اليمنى أنها منصوبة، كما جاء في حديث ابن عمر من رواية أبي داود (12) : أنه - صلى الله عليه وسلم - كان ينصب اليمنى ويثني اليسرى، وكذا (13) جاء في البخاري (14) من حديث أبي حميد قال: وإذا جلس في الركعة الآخرة جلس على رجله اليسرى، ونصب اليمنى، وقعد على مقعدته (15) . &(2/159)&$
__________
(1) في (أ) قدّم الفتح على الضم: «زعَم، وزعُم»، وفي (ب): «زعُم زعَم زعِم» بلا واو.
(2) قوله: في «العين» من (أ) فقط.
(3) في (ب) و(غ): «النجم».
(4) في (غ): «واسجدوا».
(5) سورة النجم، الآية: 62.
(6) في (ب): «لا يراد به»، وفي (غ): «أنه يراد غير».
(7) في (غ): «كذلك ما تركه».
(8) في (ح): «العزائم السجود»، وكأنه شطب على قوله: «السجود».
(9) أخرجه البخاري (2/250رقم 766، 768) في الأذان، باب الجهر في العشاء، وباب القراءة في العشاء بالسجدة، و(2/556، 559 رقم 1074، 1708) في سجود القرآن، باب: سجدة {إذا السماء انشقت} وباب من قرأ السجدة في الصلاة فسجد بها، ومسلم (1/406رقم578) في المساجد، باب سجود التلاوة.
(10) أخرجه مسلم (2/408 رقم 579) في المساجد ومواضع الصلاة، باب صفة الجلوس في الصلاة وكيفية وضع اليدين على الفخذين.
(11) في (ح): «تخلط».
(12) هو في "سنن أبي داود" (1/587 رقم958) في الصلاة، باب كيف الجلوس في التشهد، وهو في البخاري أيضًا (2/305 رقم827) في الأذان، باب سنة الجلوس في التشهد، فعزوه لأبي داود قصور من المصنف، ولم يصرح في الحديث بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك، وإنما قال ابن عمر: إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى، وتثني اليسرى، فلعلّ المصنف عبّر بما يقتضيه لفظ «سنة الصلاة».
(13) في (غ): «وكذلك».
(14) عقب حديث ابن عمر السابق برقم (828).
(15) في (ح): «وقعد على [وينصب قدمه اليمنى مستقبلاً بأطراف أصابعه القبلة تمسكًا بحديث ابن عمر، وهو أنه علم الجلوس في] مقعدته»، وما بين المعقوفين عبارة مقحمة ستأتي في شرح حديث ابن عمر الآتي.(2/159)
والصواب حمل الرواية على الصحة وعلى ظاهرها، وأنه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الكَرَّة لم ينصب قدمه اليمنى، ولا فتح أصابعه، وإنما باشر الأرض بجانب رجله اليسرى، وبسطها عليها، إما لعذر، كما (1) كان يفعل ابن عمر (2) حيث قال: إن رجليّ لا تحملاني (3) ، وإما ليبين (4) أن نصبها وفتح أصابعها (5) ليس بواجب، وهذا هو الأظهر، والله أعلم.
وقوله: «وَوَضَعَ يَدَهُ (6) الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى»؛ يعني: بسطها عليها كما جاء في حديث ابن عمر (7) ، وهو معنى قوله في الرواية الأخرى: «وَيُلْقِمُ كَفَّهُ الْيُسْرَى =(2/200)=@ رُكْبَتَهُ» مع تبديد أصابعه وتفريقها (8) .
وقوله: «وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى»؛ يعني: مقبوضة. وعليه يدل قوله: «وَوَضَعَ إِبْهَامَهُ عَلَى إِصْبَعِهِ الْوُسْطَى».
175 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ (9) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا جَلَسَ فِي الصَّلاةِ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَرَفَعَ إِصْبَعَهُ الْيُمْنَى الَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ فَدَعَا بِهَا، وَيَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى بَاسِطَهَا عَلَيْهَا.
وَفِي رِوَايَةٍ: وَعَقَدَ ثَلاثًا وَخَمْسِينَ، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث ابن عمر: «وَعَقَدَ ثَلاثًا وَخَمْسِينَ»، وقد بين هذا بيانًا شافيًا وائل بن حُجْر فيما رواه أبو داود (10) قال: «وجعل حدّ مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم قبض اثنتين من أصابعه، وحلّق حلقة». وإلى ظاهر حديث وائل هذا ذهب بعض أهل العلم، فقالوا بالتحليق، وكرهه بعض علماء المدينة، أخذًا بظاهر حديث ابن عمر؛ حيث حكى أنه - صلى الله عليه وسلم - عقد ثلاثًا وخمسين. ومن قال بالتحليق؛ منهم من ذهب إلى أن التحليق برؤوس الأنامل، وهو الخطابي. ومنهم من ذهب إلى أنه: هو أن يضع أنملة الوسطى بين عقدتي الإبهام، والأمر قريب، ويفيد مجموع (11) الأحاديث التخيير.
وقوله: «وَأَشَارَ بإصبعه» (12) ؛ يعني بها المسبحة، وهي التي تلي الإبهام، كما &(2/160)&$
__________
(1) قوله: «كما» ليس في (غ).
(2) في حديثه السابق.
(3) في (ح) و(غ): «لا يحملاني».
(4) في (ح): «وليبين» بدل: «وإما ليبين».
(5) في (ب): «أصابعهما» وفي (غ): «نصبهما وفتح أصابعهما».
(6) قوله: «يده» سقط من (ح).
(7) أي الآتي.
(8) قوله: «مع تبديد أصابعه وتفريقها» ليس ضمن الرواية الأخرى لحديث ابن الزبير، وإنما بيان من المصنف لكيفية وضع الكف على الركبة.
(9) أخرجه مسلم (1/408 رقم 580) في المساجد، باب صفة الجلوس في الصلاة.
(10) في "سننه" (1/465-466، 587 رقم726، 957) في الصلاة، باب رفع اليدين في الصلاة، وباب كيف الجلوس في التشهد، وسنده حسن، وصححه ابن خزيمة (1/353، 354 رقم713، 714).
(11) في (أ): «بمجموع».
(12) يعني في حديث ابن الزبير المتقدم.(2/160)
=(2/201)=@ قال ابن عمر (1) (2) : و«أشار بها»؛ معناه مدّها (3) في القبلة. وهل حركها أم لا؟ اختلفت الرواية في ذلك، فزاد أبو داود في حديث ابن الزبير: «أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يشير بإصبعه إذا دعا ولا يحركها» (4) ، وإلى هذا ذهب بعض العراقيين (5) ، فمنع من تحريكها، وبعضُ أصحابنا، ورأوا (6) أن مدها إشارة إلى دوام التوحيد.
ومن حديث وائل بن حجر - رضي الله عنه - بعد قوله: «وحلَّق حلقة»: «ثم رفع إصبعه رأيته يحركها (7) يدعو (8) بها» (9) . وإلى هذا ذهب أكثر العلماء وأكثر أصحابنا. ثم من قال بالتحريك، فهل يواليه (10) أو لا يواليه؟ اختلف فيه على قولين وسببه (11) : اختلافهم في ماذا يعلل (12) به ذلك التحريك؟ فأما من وَالَى التحريك، فتأوّل ذلك بأنها مُذكِّرة بموالاة الحضور في الصلاة، وبأنها مَقْمَعَة ومدفعة للشيطان (13) . ومن لم يوالِ رأى تحريكها عند التلفُّظ بكلمتي الشهادة فقط. وتأوّل في الحركة: كأنها نطق تلك (14) الجارحة بالتوحيد، والله أعلم .
وقد اختلف العلماء في المختار من كيفية الجلوس في الصلاة، فقال مالك: كل جلوس في الصلاة هو على هيئة واحدة؛ وهو أن يفضي إلى الأرض بأيسر (15) وركيه، ويقعد على مقعدته، ويضع قدمه اليسرى تحت ساقه اليمنى، وينصب قدمه اليمنى مستقبلاً بأطراف أصابعه القبلة، تمسُّكًا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما (16) ، وهو أنه علّم الجلوس في الصلاة كذلك، وقال: هو سنة الصلاة، وبمثله قال أبو حنيفة، غير أنه يفرش قدمه اليسرى تحت مقعدته، ويقعد عليها، وبهذا قال الشافعي في الجلسة الوسطى، وبمذهب مالك قال في الآخرة، وفرق بينهما تمسُّكًا بحديث أبي حميد =(2/202)=@ الساعدي الذي خرّجه البخاري (17) ، فإن فيه قال (18) : «وإذا جلس في الركعتين &(2/161)&$
__________
(1) في (ح): «كما قال عمر».
(2) يعني في روايته هذه حيث قال: «وأشار بالسبابة».
(3) في (غ): «إلى».
(4) وهي زيادة شاذة، وكذلك رواية التحريك شاذة أيضًا كما سيأتي، والصواب في الحديث ذكر الإشارة فقط، دون إثبات التحريك أو نفيه.
فمدار حديث ابن الزبير هذا على ابنه عامر، ورواه عنه خمسة من الرواة: عثمان بن حكيم، ومخرمة بن بكير، ومحمد بن عجلان، وزياد بن سعد، وعمرو بن دينار.
أما رواية عثمان بن حكيم فأخرجها مسلم كما تقدم، وغيره.
وأما رواية مخرمة فأخرجها النسائي(2/237رقم1161) في التطبيق، باب الإشارة بالإصبع في التشهد الأول. وليس في هاتين الروايتين نفي التحريك، وإنما ذكر الإشارة فقط.
وأما رواية زياد بن سعد، فأخرجها الحميدي (2/387 رقم879)، وأحمد (4/3)، كلاهما عن سفيان بن عيينة، عن زياد بن سعد ومحمد بن عجلان - قرنهما -، عن عامر، به مثل سابقه ليس فيه نفي التحريك.
وأما رواية عمرو بن دينار - فأخرجها أبو داود والنسائي عقب الرواية التي فيها نفي التحريك، وسيأتي ذكرها، وهي رواية مبهمة.
وأما رواية ابن عجلان فهي التي حصل فيها الاختلاف.
فجميع من روى الحديث عن ابن عجلان لم يذكر نفي التحريك، وهم: الليث بن سعد وأبو خالد الأحمر عند مسلم في الموضع السابق، ويحيى بن سعيد القطان عند أحمد(4/3) وغيره، وسفيان بن عيينة عند الدارمي (1/308)، وكذا عند الحميدي وأحمد كما سبق مقرونًا برواية زياد بن سعد.
وإنما جاء نفي التحريك في الرواية التي أخرجها أبو داود (1/603 رقم989) في الصلاة، باب الإشارة في التشهد، والنسائي (3/37-38 رقم1270) في السهو، باب بسط اليسرى على الركبة، كلاهما من طريق حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن محمد بن عجلان، عن عامر بن عبدالله، عن عبدالله بن الزبير أنه ذكر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يشير بإصبعه إذا دعا، ولا يحركها.
قال ابن جريج: وزاد عمرو بن دينار قال: أخبرني عامر، عن أبيه أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو كذلك، ويتحامل النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده اليسرى على فخذه اليسرى.
ففي هذا الحديث مخالفة من جهتين:
1- في السند؛ حيث رواه ابن جريج عن زياد، عن ابن عجلان، عن عامر، بينما رواه سفيان بن عيينة - كما سبق - عن زياد، عن عامر، وفيه التصريح بسماع زياد للحديث من عامر.
وسفيان وابن جريج كلاهما ثقة حافظ، وإنما عيب على ابن جريج التدليس، وقد صرح بالسماع في رواية النسائي، فلعل زياد بن سعد كان يرويه بواسطة ابن عجلان، ثم سمعه من عامر.
2- المخالفة في المتن بنفي التحريك، وقد روى سفيان بن عيينة الحديث عن زياد بن سعد ولم يذكر: «لا يحركها»، فلست أدري، هل الخطأ من ابن جريج، أو من زياد، أو من ابن عجلان؟ وكيفما كان فهي زيادة شاذة، وإلى هذا ذهب الشيخ الألباني في عدة مواضع من كتبه؛ منها "صفة الصلاة " (ص 159)، وانظر التعليق الآتي قريبًا على حديث وائل بن حجر.
(5) في (غ): «البغداديين».
(6) في (غ): «رأوا) بلا واو.
(7) في (غ): «محركها».
(8) في (غ): «بدعواها».
(9) وهذه الزيادة –«يحركها»- شاذة أيضًا، وبيان ذلك: أن حديث وائل هذا مداره على عاصم بن كليب بن شهاب، يرويه عن أبيه، عن وائل. وقد رواه عن عاصم عدد من الرواة، منهم سفيان بن عيينة عند الحميدي (2/392-393 رقم885)، وسفيان الثوري عند عبدالرزاق (2/68-69 رقم2522)، وشعبة وعبدالواحد بن زياد وزهير بن معاوية عند الإمام أحمد (4/316-319)، وعبدالله بن إدريس عند ابن ماجه (1/295 رقم912) في إقامة الصلاة، باب الإشارة في التشهد، وبشر بن المفضل عند أبي داود (1/465، 587 رقم726، 957) في الصلاة، باب كيف الجلوس في التشهد، وباب رفع اليدين في الصلاة، ومحمد بن فُضَيْل عند ابن خزيمة (1/242، 353-354 رقم478، 713)، وقيس بن الربيع وأبو الأحوص سلاّم بن سليم وموسى بن أبي كثير وأبو عوانة وضّاح بن عبد الله عند الطبراني في"المعجم الكبير" (22/33-38 رقم79، 80، 89، 90)، وخالد بن عبدالله الواسطي عند البيهقي (2/131)، فلم يذكر أحد منهم لفظ التحريك.
وخالفهم زائدة بن قدامة، فزاد هذه اللفظة: «يحركها» أخرجه الإمام أحمد (4/318) وغيره في طريقه.
وجمع البيهقي بين هذه الزيادة والزيادة المنافية لها في حديث ابن الزبير السابق بقوله: «فيحتمل أن يكون المراد بالتحريك: الإشارة بها، ولا تكرير تحريكها، فيكون موافقًا لرواية ابن الزبير».
ونقل الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/470-471) عبارة البيهقي هذه وأقرّه.
(10) في (غ): «يواريه».
(11) في (غ): «وسبب».
(12) في (غ): (ما يعلل».
(13) لعله يشير إلى ما أخرجه الإمام أحمد (2/119) من طريق كثير بن زيد، عن نافع: أن ابن عمر كان إذا صلى أشار بإصبعه وأتبعها بصره، وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لهي أشدّ على الشيطان من الحديد»؛ يعني السبّابة.
وسنده ضعيف؛ تفرّد به كثير بن زيد ،وهو متكلم في حفظه، وفي "التقريب" (5611) قال عنه الحافظ: «صدوق يخطئ».
(14) في (أ): «بتلك».
(15) في (غ): «بالأيسر».
(16) سبق تخريجه في بداية هذا الباب، في شرح حديث ابن الزبير المتقدم برقم (471).
(17) في "صحيحه" (2/305 رقم828) في الأذان، باب سنة الجلوس في التشهد.
(18) في (ح): «فإنه قال».(2/161)
جلس على رجله اليسرى، ونصب الأخرى، وإذا جلس في الركعة الآخرة (1) قدّم رجله اليسرى، ونصب اليمنى، وقعد على مقعدته». وقال أبو داود (2) : «وإذا (3) جلس (4) في الركعة الرابعة أفضى بوركه إلى الأرض، وأخرج قدميه من ناحية واحدة "، والتمسك بهذا الحديث أولى؛ فإنه نصٌّ في موضع الخلاف .
**************
(55) باب كم يسلم من الصلاة، وبأي شيء كان يعرف
انقضاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
176 - عَنْ أَبِي (5) مَعْمَرٍ (6) ، أَنَّ أَمِيرًا كَانَ بِمَكَّةَ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ: أَنَّى عَلِقَهَا؟! إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَفْعَلُهُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب كم يسلم من الصلاة
قوله: «أَنَّ أَمِيرًا كَانَ بِمَكَّةَ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ»؛ هذا الأمير هو فيما أحسب: الحارث بن حاطب الجمحي، وهو - والله أعلم - الذي ذَكر أبو داود (7) : أن أمير مكة خطب فقال: عهد إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننسك لرؤيته، فإن لم نره، وشهد شاهدا عدلٍ، نسكنا بشهادتهما، والله أعلم .
وقول (8) عبد الله بن مسعود: «أَنَّى عَلِقَهَا؟!...»؛ أي: كيف حفظها، وأصله من علاقة الحب. وهذا الاستبعاد من ابن مسعود يدل على أن عمل الناس كان على =(2/203)=@ تسليمة واحدة. وقد اختلف العلماء في ذلك في حق الإمام، والمأموم، والمنفرد. فذهب الجمهور إلى أن الفرض في حق جميعهم (9) تسليمة واحدة، وذهب أحمد بن حنبل وبعض أهل الظاهر إلى أن فرضهم اثنتان. قال الداودي: وأجمع العلماء على أن من سلّم واحدة فقد تَمّت صلاته. وعلى هذا فالذي ذُكر عن أحمد وأهل الظاهر محمول على أن التسليمة الثانية فرض ليست بشرط، فَيَعْصي (10) من &(2/162)&$
__________
(1) في (ح): «الأخيرة».
(2) في روايته لحديث أبي حميد هذا في "سننه" (1/590 رقم965) في الصلاة، باب من ذكر التورُّك في الرابعة.
(3) في (غ): «لأنه».
(4) في (ب): «إذا».
(5) في (غ): «وقولي».
(6) أخرجه مسلم (1/409 رقم581) في المساجد، باب السلام للتحليل من الصلاة عند فراغها.
(7) في "سننه" (2/752-754 رقم2338) في الصوم، باب شهادة رجلين على رؤية هلال شوال.
ورواه الدارقطني في "سننه" (2/167 رقم 1)، ثم قال: «هذا إسناد متصل صحيح».
(8) في (هـ): «ابن».
(9) في (ح): «في حقهم».
(10) في (غ): «فيقتضي».(2/162)
تركها، ويقع التحلل بدونها. فإذا تنزَّلنا على قول من قال: إن الفرض واحدة، فهل يختار زيادة عليها لجميعهم، أو فيه تفصيل؟ اختلف فيه، فذهب الشافعي ومالك في غير المشهور عنه: أنه يستحب للجمع (1) تسليمتان، وذهب مالك في المشهور عنه: إلى أن الإمام والمنفرد يقتصران على تسليمة واحدة، ولا يزيدان عليها. وأما المأموم فيسلم ثانية، يردّ بها على الإمام، فإن كان عن يساره من سلّم (2) عليه، فهل ينوي بالثانية الرد على الإمام وعليه، أو يسلم (3) ثالثة ينوي بها الردّ على من سلم عليه ممن على يساره؟ قولان. ثم إذا قلنا بالثالثة فهل يبدأ بعد الأولى بالإمام، أو بمن على يساره، أو هو مخير؟ ثلاثة أقوال. وسبب الخلاف: اختلاف الأحاديث؛ وذلك أن في حديث ابن مسعود (4) وسعد بن أبي وقاص (5) : أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يسلّم تسليمتيْن. قال النسائي (6) في حديث ابن مسعود: «حتى يرى بياض خده الأيمن، وبياض خده الأيسر». وفي حديث عائشة (7) وسمرة بن جندب (8) : «كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه، يميل إلى الشق الأيمن شيئًا». وأحاديث التسليمتين أصح، وأحاديث التسليمة الواحدة عمل عليها أبو بكر وعمر (9) .
ولم ير مالك في السلام من الصلاة زيادة: «ورحمة الله وبركاته» تمسكًا بلفظ التسليم، ورأى ذلك الشافعي تمسكًا بحديث وائل بن حجر، قال:صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فكان يسلم عن =(2/204)=@ يمينه: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (10) ») (11) ، وفي حديث ابن مسعود (12) : «السلام عليكم &(2/163)&$
__________
(1) في (غ): «للجميع».
(2) في (غ): «يسلم».
(3) في (غ): «وعليه أو عليه أن يسلم».
(4) يعني حديث الباب.
(5) وهو الحديث الآتي.
(6) في "سننه" (3/62-64 رقم1319، 1322-1325) في السهو، باب كيف السلام على اليمين، وباب كيف السلام على الشمال، من طريق أبي إسحاق السبيعي عن عبدالرحمن بن الأسود، عن أبيه الأسود وعلقمة عن ابن مسعود، ومن طريق أبي إسحاق عن أبي الأحوص، ثلاثتهم عن ابن مسعود: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله - حتى يُرى بياض خدِّه الأيمن، وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله - حتى يُرى بياض خدِّه الأيسر - زاد في رواية: ورأيت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما يفعلان ذلك.
وسنده صحيح، وفيه اختلاف انظره في "العلل" للدارقطني (5/7-11)، وفي "السنن" له (1/357) قال: «اختُلف على أبي إسحاق في إسناده، ورواه زهير، عن أبي إسحاق، عن عبدالرحمن بن الأسود، عن أبيه وعلقمة، عن عبدالله، وهو أحسنها إسنادًا».
وأخرجه الترمذي (2/33-34، 89 رقم253، 295) في الصلاة، باب ما جاء في التكبير عند الركوع والسجود، وباب ما جاء في التسليم في الصلاة، ثم قال: «حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح».
وصححه ابن خزيمة (1/359-360 رقم728)، وابن حبان (5/329، 333-334 رقم1990، 1993، 1994).
وقال الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (1/485): «قال العقيلي: والأسانيد صحاح ثابتة في حديث ابن مسعود في تسليمتين، ولا يصح في تسليمة واحدة شيء»، ولحديث ابن مسعود هذا طرق أخرى، فانظر "إرواء الغليل" (2/29-32 رقم326).
(7) وهو حديث ضعيف مرفوعًا، والصحيح أنه موقوف عليها.
فقد أخرجه الترمذي (2/90-91 رقم296) في الصلاة، باب منه، من طريق عمرو بن أبي سلمة، عن زهير بن محمد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة تلقاء وجهه، يميل إلى الشق الأيمن شيئًا.
قال الترمذي: «حديث عائشة لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه. قال محمد بن إسماعيل: زهير بن محمد أهل الشام يروون عنه مناكير، ورواية أهل العراق عنه أشبه وأصح. =
= قال محمد: وقال أحمد بن حنبل: كأن زهير بن محمد الذي كان وقع عندهم ليس هو هذا الذي يُروى عنه بالعراق، كأنه رجل آخر قلبوا اسمه».
وقد أعل هذا الحديث جمع من أهل العلم، وصوبوا وقفه، منهم: يحيى بن معين، وأبو حاتم [الرازي حيث حكم عليه بأنه منكر، والترمذي كما سبق، والبزار، والطحاوي، والعقيلي.] وابن عدي، والدارقطني، والبيهقي، وابن عبدالبر، وعبدالحق الإشبيلي، والنووي، وابن عبدالهادي في "التنقيح"، والزيلعي، وابن حجر، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد والبخاري. انظر "شرح معاني الآثار" للطحاوي (1/270)، و"الضعفاء" للعقيلي (3/272-273)، و"العلل" لابن أبي حاتم (1/148 رقم414)، و"الكامل" لابن عدي (3/219-223)، و"العلل" للدارقطني (5/ل41)، و"سنن البيهقي" (2/179)، و"الاستذكار" (4/291)، و"نصب الراية" (1/433)، و"فتح الباري" (2/323)، و"التلخيص الحبير" (1/486)، و"الأحكام الوسطى" لعبدالحق (1/414).
(8) أخرجه الطبراني في الكبير (7/225 رقم6938)، وابن عدي في "الكامل" (3/141-142)، والدارقطني في "سننه" (1/358-359)، ثلاثتهم من طريق روح بن عطاء بن أبي ميمونة، عن أبيه، وحفص المنقري، كلاهما عن الحسن البصري، عن سمرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلم في الصلاة تسليمة قبالة وجهه، فإذا سلم عن يمينه سلَّم عن يساره.
قال عبدالحق في "الأحكام الوسطى" (1/414): «عطاء هذا ضعيف معروف بالقدر، مع كلامهم في سماع الحسن عن سمرة»، وانظر "نصب الراية" (1/434).
(9) أخرجه عبدالرزاق (2/223 رقم3145)، وابن أبي شيبة (1/267 رقم3064)، من طريق الحسن البصري عنهما، وروايته عنهما مرسلة، فالسند ضعيف، والصحيح عنهما خلافه كما سبق في التعليق على حديث ابن مسعود الذي ذكر المصنف أنه عند النسائي.
(10) قوله: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» الثانية ليس في (غ).
(11) أخرجه أبو داود(1/607 رقم997) في الصلاة، باب في السلام، من طريق علقمة بن وائل، عن أبيه، وسنده ضعيف؛ فإن علقمة بن وائل لم يسمع من أبيه على الراجح.
(12) تقدم تخريجه قريبًا، وهو صحيح.(2/163)
ورحمة الله» فقط. ومعنى قول مالك - والله أعلم -: «إن التحلل يقع بالاقتصار على لفظ التسليم "، ولا يَشترِط في ذلك زيادة. ثم هل يشترط في السلام لفظ معين، فلا يجزئ غيره، أو يجوز (1) كل ما كان مأخوذًا من لفظ السلام؟ وبالأول قال مالك تمسكًا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : «تحريم الصلاة التكبير، وتحليلها التسليم» (2) ، - صلى الله عليه وسلم - والألف واللام حوالة على معهودِ سلامِه - صلى الله عليه وسلم - . وكل من روى سلامه عيَّن لفظه، فقال: «السلام عليكم»، وبالثاني قال الشافعي تمسكًا بلفظ التسليم، وحملاً له على عموم ما يشتق منه، وبإطلاق قول الراوي: إنه - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم. وكل ما ذكرنا من أصول السلام وفروعه إنما هو على مذهب من يرى أنه لا يتحلل من الصلاة إلا بالسلام وهم الجمهور. وقد (3) ذهب أبو حنيفة والثوري والأوزاعي إلى أنه ليس من فروضها (4) ، وأنه سنة، وأنه يتحلل منها بكل فعل أو قول ينافيها. وذهب الطبري إلى التخيير في ذلك، والأحاديث المتقدمة كلها ترد عليهم، والله أعلم.
177 - وَعَن عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ (5) ، عَنْ أَبِيه قَالَ: كُنْتُ أَرَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى أَرَى بَيَاضَ خَدِّهِ .
178 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (6) قَالَ: مَا كُنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلا بِالتَّكْبِيرِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول سعد: «كُنْتُ أَرَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى أَرَى بَيَاضَ خَدِّهِ»: هذا حكم الإمام والمنفرد على قول من يقول: إنهما يسلمان اثنتين (7) . وأما من قال: يسلم واحدة، فحقه أن يبدأ قبالة وجهه ويتيامن، كما روي =(2/205)=@ في حديث عائشة وسمرة(5)، وقد ذكرناهما، وذكرنا الاختلاف في المأموم.
وقول ابن عباس: «كُنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالتَّكْبِيرِ»؛ قال الطبري: فيه الإبانة عن صحة فعل من كان يفعل ذلك من الأمراء، يكبر بعد صلاته ويكبر من وراءه. قال غيره: ولم أر أحدًا من الفقهاء قال بهذا، إلا ما &(2/164)&$
__________
(1) في (ب) و(غ): «أو يجزئ».
(2) تقدم تخريجه والكلام عليه في شرح الحديث رقم (305)، باب التكبير في الصلاة، وهو ضعيف بهذا اللفظ، ويغني عنه حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم برقم (390) وفيه: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح الصلاة بالتكبير... ، وكان يختم الصلاة بالتسليم».
(3) في (غ): «وهو مذهب الجمهور وذهب».
(4) في (ح): «فرضها».
(5) أخرجه مسلم (1/409 رقم582) في المساجد ومواضع الصلاة، باب السلام للتحليل من الصلاة عند فراغها.
(6) أخرجه البخاري (2/324، 325 رقم841، 842) في الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، ومسلم (1/ 410 رقم583) في المساجد، باب الذكر بعد الصلاة.
(7) في (ب) و(غ): «ثنتين». ...
(5) تقدم تخريجهما قريبًا، وكلاهما ضعيف.(2/164)
ذكره ابن حبيب في "الواضحة": كانوا (1) يستحبون التكبير في العساكر والبعوث إثر صلاة الصبح والعشاء، تكبيرًا عاليًا ثلاث مرات، وهو قديم من شأن الناس. وعن مالك: أنه مُحْدَث (2) (3) .
179 - وَعَنْهُ (4) : إِنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ، كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْتُهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْتُهُ (5) »): هذا يدل على أن ابن عباس لم يكن يحضر معهم، وهذا كان لصغره يومئذ، أو لعذر آخر، والله أعلم . =(2/206)=@
*************
(56) باب الإستعاذة في الصلاة من عذاب القبر وغيره
180 - عَنْ عَائِشَةَ (6) قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعِنْدِي امْرَأَةٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ شَعَرْتِ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ؟ قَالَتْ: فَارْتَاعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ: إِنَّمَا تُفْتَنُ يَهُودُ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَبِثْنَا لَيَالِيَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : «هَلْ شَعَرْتِ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ؟» قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدُ يَسْتَعِيذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ .
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ: فَمَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ (7) يَسْتَعِيذُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الاستعاذة في الصلاة من عذاب القبر وغيره
وقول اليهودية: «أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ؟»؛ أي: تعذبون كما قال تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} (8) ؛ أي: عذبوهم. وقد قدمنا أن الفتنة تتصرف على وجوه، وأن أصلها الاختبار (9) .
وهذا الحديث (10) وما في معناه يدل على صحة اعتقاد أهل السنة في عذاب القبر، وأنه (11) حق، ويرد على المبتدعة المخالفين في ذلك، وسيأتي إن شاء الله. &(2/165)&$
__________
(1) في (ح): «أنهم كانوا».
(2) في "إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام" (1/214): «وقد يؤخذ منه تأخير الصبيان في الموقف لقول ابن عباس: ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بالتكبير، فلو كان متقدمًا في الصف الأول لعلم انقضاء الصلاة بسماع التسليم، وقد يؤخذ منه أنه لم يكن ثمة مُسْمِعٌ جهيرُ الصوت يلاحظ أن ابن دقيق العيد قد استفاد من عبارة القرطبي أو أنه والقرطبي استفادا من مصدرٍ واحدٍ فليحرر.
(3) ينظر ما قاله ابن رجب في "فتح الباري" (5/233)، ينظر ما قاله الإمام النووي (5/83)، (استعلم بكلمة انقضاء الصلاة)
(4) أخرجه البخاري (2/324 رقم841) في الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، ومسلم (1/ 410 رقم583/122) في المساجد ومواضع الصلاة، باب الذكر بعد الصلاة. ، وانظر أرقام (424،425 ،667 ،686 ،840 ،1186، 4009
(5) في (ح): «سمعت».
(6) أخرجه مسلم (1/410 رقم584) في المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التعوذ من عذاب القبر.
(7) تعليق في "صحيح مسلم" (1349) فما رأيته بَعْدُ في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر [فما رأيته بعد صَلّى صلاة إلا تعوذ بالله من عذاب القبر "الجمع بين الصحيحين"].
(8) سورة البروج، الآية: 10.
(9) متفرقات الإحالة على ما تقدم، متفرقات الإحالة على ما يأتي.
(10) قوله: «وهذا الحديث» ليس في (غ).
(11) في (ب): «أنه».(2/165)
وارتياع النبي - صلى الله عليه وسلم - عند إخبار اليهودية بعذاب القبر إنما هو على جهة استبعاد ذلك للمؤمن (1) ، إذْ لم يكن أوحي إليه في ذلك شيء، ولذلك حققه على اليهود، فقال: «إِنَّمَا تُفْتَنُ يَهُودُ»، على ما كان عنده من علم ذلك. ثم أخبر أنه أوحي إليه بوقوع ذلك، وحينئذ تعوذ منه، ولما استعظم الأمر واستهوله أكثر الاستعاذة منه (2) ، =(2/207)=@ وعلّمها، وأمر بها، وبإيقاعها في الصلاة؛ ليكون أنجح في الإجابة، وأسعف في الطِّلبة؛ إذ الصلاة من أفضل القرب، وأرجى للإجابة، وخصوصًا بعد فراغها، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء» (3) . وفي هذا الحديث حجة على أبي حنيفة؛ حيث منع الدعاء في الصلاة إلا بألفاظ القرآن (4) .
181 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (5) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : «إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ الآخِرِ فَلْيَتَعَوَّذْ ....» الحديث.
182 - عَنْ طَاوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (6) : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ يَقُولُ قُولُوا: «اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ». قَالَ مُسْلِم: بَلَغَنِي أَنَّ طَاوُسًا قَالَ لابْنِهِ: أَدَعَوْتَ بِهَا فِي صَلاتِكَ؟ فَقَالَ: لا، قَالَ: أَعِدْ صَلاتَكَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «وَمِنْ (7) فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ»؛ أي: الحياة والموت، ويحتمل زمانَ ذلك؛ لأن ما كان معتل العين من الثلاثي فقد يأتي منه (8) المصدر، والزمان والمكان، بلفظ واحد، ويريد بذلك: محنة الدنيا وما بعدها.
ويحتمل أن يريد بذلك: حالة الاحتضار وحالة المساءلة في القبر، فكأنه لما استعاذ من فتنة هذين المقامين، سأل التثبت فيهما، كما قال تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} (9) ، والله أعلم.
وقد تقدم القول في المسيح الدجال في الإيمان. وأَمْرُ طاووس ابنَه بإعادة الصلاة لَمّا لم (10) يتعوذ من تلك الأمور - دليلٌ على =(2/208)=@ أنه كان يعتقد وجوب التعوذ منها في الصلاة، وكأنه تمسك بظاهر الأمر بالتعوذ منها (11) ، &(2/166)&$
__________
(1) «خصائص المصطفي» بشر يوحى إليه، ولا يَعْلَم قبل الوحي ما لم يُعْلَم.
(2) قوله: «منه» ليس في (ح).
(3) أخرجه مسلم، وقد تقدم برقم (379).
(4) توثيق – تعليق وهل يمنع الإمام أبي حنيفة من الدعاء بألفاظ الحديث الواردة.
(5) أخرجه البخاري (3/241 رقم1377) في الجنائز، باب التعوذ من عذاب القبر، ومسلم (1/412 رقم588) في كتاب المساجد، باب ما يستعاذ منه في الصلاة.
(6) أخرجه مسلم (1/413 رقم590) في المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يستعاذ منه في الصلاة.
(7) في (أ) و(ح): «من».
(8) قوله: «منه» ليس في (أ).
(9) الآية ( 27 ) من سورة إبراهيم.
(10) في (ح): «ما لم».
(11) متفرقات مذهب بعض السلف وجوب التعوذ من فقه المسيح الدجال ومن فتنة المحيا والممات.(2/166)
وتأكد ذلك بتعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - إياها الناس (1) ، كما يعلمهم السورة من القرآن، وبدوام النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، ويحتمل أن يكون ذلك إنما أمره بالإعادة تغليظًا عليه؛ لئلا يتهاون بتلك الدعوات، فيتركها، فيُحْرَم فائدتها وثوابها، والله أعلم .
183 - عَن عَائِشَةَ (2) : أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاةِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ». قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ يَا رَسُولَ اللَّهِ !؟ فَقَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و «الْمَأْثَمِ»: ما يجر إلى الذَّمّ والعقوبة. «وَالْمَغْرَمِ»: الغُرْمُ. وقد نبه في الحديث على الضرر اللاحق من الغرم (3) ، والله أعلم . =(2/209)=@ &(2/167)&$
__________
(1) في (أ) و(غ): «للناس».
(2) أخرجه البخاري (2/317 رقم832، 833) في الأذان، باب الدعاء قبل السلام، و(5/60 رقم2397) في الاستقراض، باب من استعاذ من الدين، و(11/176، 181-182 رقم6368، 6375-6377) في الدعوات، باب التعوذ من المأثم والمغرم، وباب الاستعاذة من أرذل العمر...، وباب الاستعاذة من فتنة الغنى، وباب التعوذ من فتنة القبر، ومسلم (1/412 رقم589) في المساجد، باب ما يستعاذ منه في الصلاة.
(3) في (غ): «المغرم».(2/167)
**************
(57) باب قدر ما يقعد الإمام بعد السلام وما يقال بعده
184 - عَنْ عَائِشَةَ (1) قَالَتْ: كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إِذَا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إِلا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ وَمِنْكَ السَّلامُ تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب قدر ما يقعد الإمام بعد السلام
قول عائشة: «كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إِذَا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إِلا مِقْدَارَ (2) مَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ...» الحديث؛ دليل لمالك على كراهيته (3) (4) للإمام المقام في موضعه الذي صلى فيه بعد سلامه، خلافًا لمن أجاز ذلك، والصحيح: الكراهة لهذا الحديث (5) ، ولما رواه البخاري (6) من حديث أم سلمة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سلم يمكث في مكانه يسيرًا. قال ابن شهاب (7) : فَنرَى (8) -والله أعلم- لكي ينفذ من ينصرف من النساء. ووجه التمسك بذلك أنهم اعتذروا عن المقام اليسير الذي صدر عنه - صلى الله عليه وسلم - (9) ، وبينوا وجهه، فدل ذلك على أن الإسراع بالقيام (10) هو الأصل والمشروع، وأما القعود فإنما كان منه ليستوفي من الذكر ما يليق بالسلام الذي انفصل به من الصلاة، ولينصرف النساء. وقد روى البخاري (11) أيضًا عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - : أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى أقبل بوجهه، وهذا يدل على أن إقباله على الناس كان متصلاً بفراغه، ولم يكن يقعد. وقد روى أبو أحمد ابن عدي (12) ما هو أنَصّ (13) من هذا كله عن أنس قال: «صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكان ساعة (14) يسلم يقوم، ثم صليت مع أبي بكر، فكان إذا سلم وثب كأنه يقوم عن رَضْفَة». وهذا الحديث =(2/210)=@ وإن لم يكن في الصحة مثل ما تقدم، فهو عاضد للصحيح، ومبيِّن لمضمونه. وإذا كره له القعود في موضع صلاته، فأحرى وأولى &(2/168)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/414 رقم592) في كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته.
(2) في (ب): «قدر»، وفي (ح): «بمقدار».
(3) توثيق فقهي.
(4) في (ح): «كراهية».
(5) متفرقات ترجيحات الطبري.
(6) في "صحيحه" (2/322، 334 رقم837، 849، 850) في الأذان، باب التسليم، وباب مكث الإمام في مصلاه بعد السلام.
(7) وهو الراوي للحديث عن هند بنت الحارث، عن أم سلمة.
(8) في (غ): «نرى».
(9) متفرقات إسراع الإمام بالقيام من مقامه بعد الصلاة – هو الأصل.
(10) في (ب): «والقيام».
(11) في"صحيحه" أيضًا (2/333رقم845) في الأذان، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلّم.
(12) في "الكامل" (4/199) من طريق عبدالله بن فروخ، عن ابن جريج، عن عطاء، عن أنس، به.
وسنده ضعيف لأجل عبدالله بن فروخ هذا؛ فقد ذكره العقيلي في "الضعفاء" (2/289) ونقل عن شيخه البخاري أنه قال: «يعرف وينكر»، وقال ابن عدي في الموضع السابق: «ومقدار ما ذكرت من الحديث لعبدالله بن فروخ غير محفوظة، وله غير هذا الحديث»، وقال الذهبي في "الميزان" (2/472): «أحاديثه مناكير».
(13) يوضح معنى كلمة أَنَصُّ.
(14) ضبطت في (أ) و(ح): «ساعةً».(2/168)
أن تكره له الصلاة فيه (1) (2) . وقد روى أبو داود عن المغيرة بن شعبة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا يصلِّ الإمام في الموضع الذي صلّى فيه حتى يتحول» (3) . ويعتضد هذا من جهة المعنى: بأن ذلك الموضع إنما استحقه الإمام للصلاة التي يقتدى به فيها، فإذا فرغت ساوى الناس، وزال حكم الاختصاص، والله تعالى أعلم (4) .
185 - وعَنْ ثَوْبَانَ (5) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلاثًا، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ وَمِنْكَ السَّلامُ تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ». قَالَ الأَوْزَاعِيُّ: تَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ وَمِنْكَ السَّلامُ»؛ السلام الأول: من أسماء (6) الله تعالى، كما قال تعالى: {السلام المؤمن المهيمن} (7) . والسلام الثاني: السلامة، كما قال تعالى: {فسلام لك من أصحاب اليمين} (8) ، ومعنى ذلك: أن السلامة من المعاطب والمهالك إنما تحصل لمن سلّمه الله تعالى، كما قال تعالى: {وإن (9) يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله} (10) .
وقوله: «تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ»؛ تباركت: تفاعلت؛ من البركة، وهي الكثرة والنماء، ومعناه (11) : تعاظمت؛ إِذْ (12) كثرث صفات جلالك وكمالك. و «ذَا الْجَلالِ»: ذا العَظَمة والسلطان، وهو على حذف حرف النداء، تقديره: يا ذا الجلال. «وَالإِكْرَامِ»: الإحسان وإفاضة النعم . =(2/211)=@
186 - وَعَنِ الْمُغِيرَة بْنِ شُعْبَةَ (13) قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلاةِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ».
187 - وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ (14) قَالَ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ حِينَ يُسَلِّمُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلابِاللَّهِ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَلا نَعْبُدُ إِلا إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. وَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُهَلِّلُ بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ. إِذَا سَلَّم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث المغيرة: «وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ»؛ الجد (15) : الحظ والغنى، ومعناه: أن ذا الغنى لا ينتفع بغناه، ولا يحول بينه وبين ما يريده الله تعالى به؛ إذ لا حول ولا قوة إلا به. والجد يتصرف في اللغة على أوجه متعددة . =(2/212)=@
188 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (16) : أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ! فَقَالَ وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلا نُعْتِقُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : «أَفَلا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ»، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ مَرَّةً». قَالَ أَبُو صَالِحٍ: تُمَّ رَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا، فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : «ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِهِ مَنْ يَشَاءُ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول المهاجرين: «ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بالأجور» واحد الدثور: دَثْرٌ، وهو المال الكثير، ومنه الحديث الآخر: «وابعث راعيها في الدَّثْرِ» (17) .
وكذلك (18) الدِّبْرُ &(2/169)&$
__________
(1) الاستشهاد ببيان مضمون الحديث الصحيح بالحديث أقل منه في الصحة.
(2) توثيق – تعليق للإمام في نفس موضع أداء الفريضة بعد أدائها.
(3) أخرجه أبو داود (1/409-410 رقم616) في الصلاة، باب الإمام يتطوع في مكانه، وابن ماجه (1/459رقم1428) في إقامة الصلاة، باب ما جاء في صلاة النافلة حيث تصلى المكتوبة، كلاهما من طريق عطاء الخرساني، عن المغيرة بن شعبة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يصلِّ الإمام في مقامه الذي صلى فيه المكتوبة حتى يتنحى عنه».
قال أبو داود: «عطاء الخراساني لم يدرك المغيرة بن شعبة».اهـ. وقال الحافظ في "الفتح" (2/335): «وإسناده منقطع».اهـ..
وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه أبو داود (1/611 رقم1006) في الصلاة، باب في الرجل يتطوع في مكانه الذي صلى فيه المكتوبة، وابن ماجه في الموضع السابق برقم (1427)، ثلاثتهم من طريق ليث، عن حجاج بن عبيد، عن إبراهيم بن إسماعيل، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أيعجز أحدكم إذا صلى أن يتقدم أو يتأخر، أو عن يمينه أو عن شماله»، يعني: السُّبْحة. وهذا الأثر علقه البخاري في "صحيحه" (2/334) في الأذان، باب مكث الإمام في مصلاه بعد السلام، فقال: «ويذكر عن أبي هريرة رفعه: لا يتطوع الإمام في مكانه. ولم يصح». اهـ..
قال الحافظ: «وذلك لضعف إسناده واضطرابه؛ تفرد به ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، واختلف عليه فيه، وقد ذكر البخاري الاختلاف فيه في تاريخه، وقال: لم يثبت هذا الحديث».اهـ. وانظر "التاريخ الكبير" (1/340-341 رقم1073).
وله شاهد آخر عن علي أخرجه ابن أبي شيبة (2/24 رقم6020، 6026) في الصلاة، باب من كره للإمام أن يتطوع في مكانه، والبيهقي (2/191) كلاهما من طريق المنهال ابن عمرو، عن عباد بن عبد الله، عن علي - رضي الله عنه - قال: إن من السنة إذا سلم الإمام أن لا يقوم من موضعه الذي صلى فيه يصلي تطوعًا، حتى ينحرف أو يتحول أو يفصل بكلام.
وحسن إسناده الحافظ في "الفتح" (2/335)، ثم قال: «وكأن المعنى في كراهة ذلك خشية التباس النافلة بالفريضة، وفي مسلم عن السائب بن يزيد أنه صلى مع معاوية الجمعة، فتنفل بعدها، فقال له معاوية: إذا صليت الجمعة فلا تَصِلْها بصلاة حتى تتكلم أو تخرج؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بذلك.
ففي هذا إرشاد إلى طريق الأمن من الالتباس، وعليه تحمل الأحاديث المذكورة».
ويغني عن هذا كله حديث معاوية الذي ذكره الحافظ، وسيأتي برقم (746) في الجمعة.
(4) نهاية متفرقات.
(5) أخرجه مسلم (1/414 رقم591) في المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته.
(6) في (ح): «اسم من أسماء الله تعالى».
(7) الآية ( 23 ) من سورة الحشر.
(8) الآية ( 91 ) من سورة الواقعة.
(9) في جميع النسخ و(غ): «إن».
(10) سورة يونس، الآية: 107.
(11) في (غ): «ومنه» بدل «ومعناه».
(12) في (غ): «أي».
(13) أخرجه البخاري (2/325 رقم844) في الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، و(3/340 رقم 1477) في الزكاة، باب قول الله تعالى: {لا يسألون الناس إلحافًا }، و(5/68 رقم 2408) في الاستقراض،باب ما ينهى عن إضاعة المال،و(10/105رقم5975) في الأدب، باب عقوق الوالدين من الكبائر، و(11/133 رقم6330) في الدعوات، باب الدعاء بعد الصلاة، و(11/306 رقم6473) في الرقاق، باب ما يكره من قيل وقال، و(11/512 رقم6615) في القدر، باب لا مانع لما أعطى الله، و(13/264 رقم7292) في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، ومسلم (1/414-415 رقم593) في المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته.
(14) أخرجه مسلم (1/415 رقم594) في كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته.
(15) قوله: «الجد» سقط من (غ).
(16) أخرجه البخاري (2/325 رقم843) في الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، و(11/132 رقم6329) في الدعوات، باب الدعاء بعد الصلاة، ومسلم (1/416 رقم595/142) في المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته.
(17) أخرجه أبو نعيم في "معرفة الصحابة" (1/ل 338/ب) من طريق محفوظ بن بحر، عن الوليد بن عبدالواحد التيمي، عن زهير بن معاوية، عن الليث بن أبي سليم، عن حبة العرني، عن حذيفة بن اليمان قال: لما اجتمعت وفود العرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قام لهم طهفة بن أبي زهير النهدي، فقال: أتيناك يا رسول الله... ، فذكر خطبة طويلة فيها غريب كثير، وفيها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم! بارك له مخضها ومذقها، وابعث راعيها بالدثر ويانع الثمر... » الحديث. ... ... ... وسنده ضعيف جدًّا؛ فمحفوظ بن بحر كذبه أبو عروبة الحرّاني كما في "الميزان" (3/444 رقم7092)، وليث بن أبي سليم ضعيف، وحبّة العرني فيه ضعف.
وأخرجه أبو نعيم أيضًا (1/ل/337/ب) من طريق عبدالرحمن بن يحيى بن سعيد العذري، عن شريك بن عبدالله النخعي، عن العوام بن حوشب، عن الحسن البصري، عن عمران بن حصين، به، إلا أنه سمّاه: «طهية بن أبي زهير».
وسنده ضعيف جدًّا أيضًا، فيه عبدالرحمن بن محمد بن يحيى بن سعيد العذري، وربما نسب إلى جده، قال عنه العقيلي: «مجهول لا يقيم الحديث من جهته»، وأورد له بعض الأحاديث التي يرويها عن مالك، وقال عقب كل حديث: «لا أصل له من حديث مالك»، وأخرج له الدارقطني في "غرائب مالك " بعض الأحاديث واستنكرها، وقال: «تفرد بها عن مالك وليس هو بقوي»، وقال في موضع آخر: «ضعيف»، وقال الأزدي: «متروك لا يحتج بحديثه»، وقال أبو أحمد الحاكم: «لا يعتمد على روايته»، وقال الذهبي: «عن شريك بخبر طويل باطل في وفد بني نهد». انظر " الميزان" (2/597 رقم5003)، و"لسان الميزان" (4/435-436 رقم5160).
وله طرق أخرى ضعيفة جدًّا، فانظر "الإصابة" (5/247).
(18) في (ب) و(ح): «وكذا».(2/169)
بكسر الدال، وبالباء بواحدة (1) . قال ابن السكيت: الدَّثْرُ: المال الكثير. ووقع في السيرة في خبر النجاشي: «دَبْرٌ من ذهب» (2) ، بفتح الدال. قال ابن هشام: ويقال دِبْرٌ، قال: وهو الجبل بلغة الحبشة. قال الهروي: يقال: مال دثر، ومالان دثر، وأموال دثر. وحكى أبو عمر، المُطَرِّز: أن الدَّثر بالثاء يُنثَّى ويجمع.
189 - وَعَنْهُ (3) ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : «مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَحَمِدَ اللَّهَ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَكَبَّرَ اللَّهَ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، فَتْلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَقَالَ تَمَامَ الْمِائَةِ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ».
190 - عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ (4) ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : «مُعَقِّبَاتٌ لا يَخِيبُ قَائِلُهُنَّ أَوْ فَاعِلُهُنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ: ثَلاثٌ وَثَلاثُونَ تَسْبِيحَةً، وَثَلاثٌ وَثَلاثُونَ تَحْمِيدَةً، وَأَرْبَعٌ وَثَلاثُونَ تَكْبِيرَةً».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِهِ مَنْ يَشَاءُ» استدل به من يفضل الغنى على الفقر، وهي مسألة (5) اختلف الناس فيها على خمسة أقوال: فمن قائل بتفضيل الغنى (6) ، ومن قائل بتفضيل الفقر، ومن قائل بتفضيل الكفاف، ومن قائل رابع يَرُدُّ هذا التفضيل إلى اعتبار أحوال الناس في ذلك، ومن قائل خامس: توقف (7) ، ولم =(2/213)=@ يفضل واحدًا منهما (8) على الآخر. والمسألة لها غور، وفيها أحاديث متعارضة، ولعلنا نتكلم عليها تفصيلاً إن شاء الله تعالى (9) . وقد كتب الناس فيها كتبًا كثيرة، وأجزاء عديدة، والذي يظهر لي في الحال: أن الأفضل من ذلك ما اختاره الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ، ولجمهور صحابته رضوان الله عليهم، وهو الفقر غير المدقع (10) . ويكفيك من هذا: «أن فقراء المسلمين - كذا رُوي (11) : المسلمين (12) - يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام» (13) ، و «أصحاب الأموال محبوسون على قَنْطَرة بين الجنة والنار يُسألون عن فضول أموالهم» (14) . وعلى هذا فيتعين (15) تأويل (16) قوله - صلى الله عليه وسلم - : «ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِهِ مَنْ يَشَاءُ»، وقد تأوله بعضهم بأن قال: إن الإشارة في قوله: «ذَلِكَ» راجعة إلى الثواب المترتب على الأعمال التي بها (17) يحصل التفضيل عند الله (18) ، فكأنه قال: ذلك الثواب الذي أخبرتكم به، لا &(2/170)&$
__________
(1) في (ب): «وبالموحدة».
(2) هو في "السيرة" لابن هشام (1/334-338)، وأخرجه أحمد (1/201) و(5/290)، وابن خزيمة (4/13-14 رقم2260)، ثلاثتهم من طريق محمد بن إسحاق قال: حدثني الزهري، عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث، عن أم سلمة قالت: لما نزلنا أرض الحبشة... ، الحديث بطوله، وفيه أن النجاشي قال: «فما أحب أن لي دَبْرًا من ذهب، وأني آذيت رجلاً منكم».
وسنده حسن، وفي متنه إشكال ناقشه ابن حجر في "الفتح"، وأجاب عنه.
(3) أخرجه مسلم (1/418 رقم597) في المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته.
(4) أخرجه مسلم (1/418 رقم596) في المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة.
(5) في (ب): «في مسألة».
(6) توثيق فقهي.
(7) في (غ): «بوقفه».
(8) في (غ): «مفهم».
(9) متفرقات.
(10) قوله: «المدقع» ليس في (أ).
(11) لم يبين الشارح لم اعتمد هذه الرواية.
(12) قوله: «المسلمين " سقط من (ح).
(13) أخرجه أحمد (2/296، 343، 451)، والترمذي (4/499 رقم2353، 2354) في الزهد، باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم، وابن ماجه (2/1380 رقم4122) في الزهد، باب منزلة الفقراء، وابن ماجه (2/451 رقم676/الإحسان)، جميعهم من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، به مرفوعًا.
قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح».
وأخرجه أحمد (3/63، 96)، وأبو داود (4/72-73 رقم3666) في العلم، باب في القصص، كلاهما من طريق العلاء بن بشير عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري به، وسنده ضعيف لجهالة العلاء بن بشير، كما في "التقريب" (5264).
وأخرجه الترمذي برقم (2351) من حديث عطية العوفي عن ابن عباس، وحسّنه. وعطية ضعيف.
(14) سيأتي حديث أسامة بن زيد برقم (2766) في ذكر الموت وما بعده، باب أكثر أهل الجنة، وأكثر أهل النار بهذا المعنى، وليس فيه ذكر القنطرة، ولا أنهم يسألون عن فضول أموالهم، ولم نجد حديثًا بهذا السياق الذي أورده لمصنِّف، فلعله تعبير منه عما فهمه من الحديث السابق وغيره.
(15) في (غ): «فتعين».
(16) متفرقات بين وجه تعين التأويل.
(17) في (ح): «الذي به».
(18) توثيق.(2/170)
يستحقه الإنسان بحسب الأذكار، ولا بحسب إعطاء الأموال، وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء، والله أعلم (1) . ولم يذكر في هذه الرواية (2) تمام المائة، وذكره في الرواية الأخرى (3) ، وعيّن أنه التهليل. وفي رواية كعب (4) (5) : أن زيادةَ تكبيرةِ كمّلت المائة. وهذا يدل على عدم تعيّن ما تُكُمِّلَ (6) به المائة، بل أي شيء (7) قال (8) من ذلك حصل له ذلك الثواب، والله =(2/214)=@ أعلم.
وقد اتفق مساق هذه الأحاديث والتي قبلها على أن أدبار الصلوات أوقات (9) فاضلة للدعاء والأذكار، يرتجى (10) فيها القبول، ويُبْلَغُ &(2/171)&$
__________
(1) مراجعة استدلال المصنف، استدلال المصنف على عدم تعين ما يكمل المائة بل يجزئ التهليل والتكبير والتسبيح والتحميد.
(2) في (ب) و(ح) و(غ): «هذا الحديث»، وكتب في (ح) فوق قوله: «الحديث»: «الرواية».
(3) يعني الرواية رقم (478).
(4) قوله: «كعب» سقط من (ب) و(ح) و(غ).
(5) يعني الرواية رقم (479).
(6) ضبطت في (أ) هكذا: «تُكُمِّلَ».
(7) في (غ): «شاء».
(8) في (ب): «كان».
(9) متفرقات.
(10) في (ب): «فيرتجى».(2/171)
ببركة التفرغ لذلك إلى كل مأمول، وتسمى هذه الأذكار: معقِّبات؛ لأنها تقال عُقَيْب (1) (2) الصلوات، كما قال في حديث أبي هريرة (3) : «دبر كل صلاة»؛ أي: آخرها. ويقال: دُبر بضم الدال، وحكى أبو عمر المطرِّز (4) في "اليواقيت": دَبْر كل شيء بفتح الدال: آخر أوقات الشيء (5) : الصلاة وغيرها. قال: وهذا هو المعروف في اللغة، قال (6) : وأما الجارحة فبالضم. وقال الداودي عن ابن الأعرابي: دُبُر الشيء ودَبْرُهُ بالوجهين: آخر أوقات الشيء، والدِّبار جمعه، ودابر كل شيء (7) : آخره أيضًا. وأما اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاستعاذة مما (8) (9) استعاذ، وفي (10) الدعاء بما دعا - وإن كان قد أُمِّنَ قبل الاستعاذة، وأُعطي قبل السؤال - فوفاء بحق العبودية، وقيام بوظيفة الشكر وبحق العبادة، كما قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا» (11) . =(2/215)=@
************
(58) باب السكوت بين التكبير والقراءة في الركعة الأولى وما يقال فيه
191 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (12) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا كَبَّرَ فِي الصَّلاةَ سَكَتَ هُنَيَّةً قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: «أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْمَاءِ وَالْبَرَدِ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب السكوت بين التكبير والقراءة
قوله: «سَكَتَ هُنَيْئَةً (13) قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ»؛ «هُنَيْئَةً» بضم الهاء، وياء التصغير (14) ، وهمزة مفتوحة –كحُطَيْئَة (15) - رواية الجمهور (16) ، وعند الطبري (17) : هنيهة، يبدل من الهمزة (18) ، &(2/172)&$
__________
(1) في (ب): «عقب».
(2) يراجع الضبط فما كان أولا صواب، وفي "تاج العروس" والعَقِيب كأمِير كلُّ شيءٍ أعقب شيئا.
(3) يعني رقم (478).
(4) قوله: «المطرز» من (ب) فقط.
(5) قوله: «الشيء» ليس في (أ).
(6) في (ب): «وقال».
(7) في (ح): «ودابر الشيء».
(8) في (ح) يشبه أن تكون: «مما».
(9) متفرقات (خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - ).
(10) في (أ): «بما»، وهي محتملة في (ب): (مما).
(11) متفق عليه، وسيأتي برقم (2708) في الزهد، باب الاجتهاد في العبادة والدوام على ذلك.
(12) أخرجه البخاري (2/227 رقم744) في الأذان، باب ما يقول بعد التكبير، ومسلم (1/419 رقم598) في المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة.
(13) في (أ) و(غ): «هُنَيَّةَ» بتشديد الياء وحذف الهمزة.
(14) في (غ): «وبالتصغير».
(15) في (غ): «كخطيئة».
(16) قال الحافظ في "فتح الباري" (2/229): «و«هُنَيَّة»- بالنون بلفظ التصغير، وهو عند الأكثر بتشديد الياء. وذكر عياض والقرطبي أن أكثر رواة مسلم قالوه بالهمزة. وأما النووي فقال: الههمز خطأ. قال: وأصله: هنوة، فلما صُغِّر صار هنيوة، فاجتمعت واو وياء، وسُبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياءً، ثم أدغمت. قال غيره: لا يمنع ذلك إجازة الهمز، فقد تقلب الياء همزة. وقد وقع في رواية الكشميهني «هنيهة»، بقلبها هاءً، وهي رواية إسحاق والحميدي في مسنديهما». اهـ.
(17) متفرقات جمعا الروايات.
(18) في (غ): «من الهمزة هاء».(2/172)
تصغير هَنَّه، وَهَنٌ، وَهَنَةٌ؛ كناية عن أسماء الأجناس، هذا هو
192 - وَعَنْهُ (1) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا نَهَضَ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ اسْتَفْتَحَ الْقِرَاءَةَ بِـ{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَلَمْ يَسْكُتْ .
قال الشيخ الفقيه أبو العباس: ذكره مسلم منقطعًا، فقال: وحُدِّثت عن يحيى بن حسان، قلت: وهو أحد الأربعة عشر حديثًا المنقطعة الواقعة في كتابه، وقد وصله أبو بكر البزار (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المعروف. وقد رأيت لأبي الحسن بن خروف: وهَنٌ (3) ؛ كناية عن كل اسم نكرة عاقل؛ كفلان في الأعلام. وفيه لغتان: هَنُوك، وهَنُك.
وسكوته - صلى الله عليه وسلم - هنا إنما كان للدعاء، كما بينه - صلى الله عليه وسلم - ، فلا حجة فيه لمن يرى أنه سكوت الإمام، حتى يقرأ من خلفه الفاتحة، وبدليل أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يسكت إذا =(2/216)=@ نهض في الركعة الثانية. وهذا الدعاء منه - صلى الله عليه وسلم - على جهة المبالغة في طلب غفران الذنوب، وتبرئته منها، [وقد تقدم القول في باقي الحديث ] (4) (5) .
************
(59) باب فضل التحميد في الصلاة
193 - عَنْ أَنَسٍ (6) : أَنَّ رَجُلاً جَاءَ فَدَخَلَ فِي الصَّفِّ، وَقَدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلاتَهُ قَالَ: «أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلِمَاتِ؟» فَأَرَمَّ الْقَوْمُ. فَقَالَ: «أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بَأْسًا»، فَقَالَ رَجُلٌ: جِئْتُ وَقَدْ حَفَزَنِي النَّفَسُ فَقُلْتُهَا. فَقَالَ: «لَقَدْ رَأَيْتُ اثْنَيْ عَشَرَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب فضل التحميد في الصلاة (7)
قوله: «حَفَزَهُ النَّفَسُ»؛ أي: كدّه لسرعة سيره ليدرك الصلاة مع النبي &(2/173)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/419 رقم599) في المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة.
(2) انظر الكلام عن هذا الحديث والانقطاع الذي فيه مفصلاً في "غرر الفوائد المجموعة" للعطار، وتعليقي عليه (ص 128- 135).
(3) في (ب) و(ح) و(غ): «هن» بدون واو.
(4) قوله: «وقد تقدم القول في باقي الحديث» ليس في (أ).
(5) متفرقات طلب الاختصار بترك التكرار.
(6) أخرجه مسلم (1/419-420 رقم 600) كتاب المساجد، باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة.
(7) في (ب): «والصلاة».(2/173)
- صلى الله عليه وسلم - . وفيه دليل على أن من أسرع عند إقامة الصلاة ليدركها لم يفعل محرَّمًا، لكن الأولى به الرفق والسكينة؛ كما يأتي بعد هذا إن شاء الله .
وقوله: «فَأَرَمَّ القَوْمُ» الرواية المشهورة فيه (1) بالراء والميم المشددة (2) ، ومعناه: سكتوا، مأخوذ من المرمّة، وهي (3) الشَّفَة؛ أي: أطبقوا شفاههم (4) . ورواه (5) =(2/217)=@ بعضهم في غير " الأم ": فَأَزَمَ (6) ، بزاي مفتوحة، وميم مخففة، مأخوذ من الأَزْمِ، وهو شد الأسنان بعضها على بعض، ومعناه: سكتوا .
وقوله: «رَأَيْتُ اثْنَيْ عَشَرَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا»، يبتدرونها: يستبقونها، ورفعها إلى المحل الذي ترفع إليه الأعمال (7) ، وقد روى البخاري (8) من حديث رفاعة بن رافع قال: كنا نصلي يومًا وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما رفع رأسه من الركعة قال: «سمع الله لمن حمده»، قال رجل من ورائه: ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فلما انصرف قال: «من المتكلم؟» قال: أنا، قال: «رأيت بضعًا وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها أَوّلُ (9) »). ومساق هذا الحديث يدل &(2/174)&$
__________
(1) قوله: «فيه» ليس في (ب).
(2) في (غ): «مشددة».
(3) في (أ): «وهو»، وفي (ب): «هي».
(4) متفرقات جميع الروايات.
(5) في (غ): «وروى».
(6) في (ب): «فأزم القوم».
(7) في (ب): «فيه الأعمال».
(8) في "صحيحه" (2/284 رقم799) في الأذان، باب منه.
(9) في (ب): «أولاً».(2/174)
على أنه حديث آخر غير حديث أنس المتقدم (1) ؛ فإن ذلك حمد الله على إدراكه الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا حمد الله عند الرفع من الركوع، وعند قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «سمع الله لمن حمده»، وحينئذ لا يكون بينهما تعارض، وهذا أولى من أن نقدِّرهما قضية واحدة (2) ، ونتعسَّف إما في التأويل، أو في الحمل على الرواة، والله أعلم (3) .
194 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ (4) قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : «مَنِ الْقَائِلُ كَلِمَةَ كَذَا وَكَذَا؟» قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: «عَجِبْتُ لَهَا! فُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ». قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ ذَلِكَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث ابن عمر: «اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا» قيل: هو منصوب على إضمار الفعل؛ أي: كبّرت كبيرًا. وقيل: على القطع. وقيل: على التمييز. =(2/218)=@
*************
(60) باب إتيان الصلاة بالسكينة، ومتى تقام؟ ومتى يقام لها؟
وإتمام المسبوق
195 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (5) ، قال:سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَلا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا تَمْشُونَ وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلَّوْا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا».
زاد في أخرى: «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلاةِ فَهُوَ فِي صَلاةٍ».
196 - وَعَنْهُ (6) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : «إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلاةِ فَلا يَسْعَ إِلَيْهَا أَحَدُكُمْ، وَلَكِنْ لِيَمْشِ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، صَلِّ مَا أَدْرَكْتَ، وَاقْضِ مَا سَبَقَكَ».
197 - وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ (7) قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَمِعَ جَلَبَةً فَقَالَ: «مَا شَأْنُكُمْ؟» قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلاةِ، قَالَ: «فَلا تَفْعَلُوا، إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلاةَ فَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلَّوْا، وَمَا سَبَقَكُمْ فَأَتِمُّوا».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب إتيان الصلاة بالسكينة
قوله: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَلا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ»، أصل السعي: الجري، ومنه قوله تعالى: {يأتينك سعيًا} (8) . وقد يكون السعي: العمل؛ كقوله تعالى: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها} (9) ، وعلى هذا الثاني حمل مالك قوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله} (10) . وقد اختلف العلماء (11) فيمن سمع الإقامة: هل يسرع أو (12) ؟ فذهب الأكثر إلى أنه لا يسرع، وإن خاف فوت (13) الركعة؛ تمسُّكًا بهذا الحديث، ونظرًا إلى المعنى؛ وذلك أنه إذا &(2/175)&$
__________
(1) متفرقات محمل على تعدد الحادثة أو اختلافها أولى من أن تقدرهما قضية واحدة ولتعسف في التأويل (جمع النصوص).
(2) في (غ): «واجدة».
(3) نهاية متفرقات.
(4) أخرجه مسلم (1/420 رقم601) كتاب المساجد، باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة.
(5) أخرجه البخاري (2/117 رقم636) كتاب الأذان، باب لا يسعى إلى الصلاة وليأت بالسكينة والوقار، و(2/390 رقم908) كتاب الجمعة، باب المشي إلى الجمعة، ومسلم(1/420-421رقم602) كتاب المساجد، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة.
(6) هو طريق أخرى للحديث السابق.
(7) أخرجه البخاري (2/116 رقم635) كتاب الأذان، باب قول الرجل: فاتتنا الصلاة، ومسلم (1/421-422 رقم603) كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة....
(8) سورة البقرة، الآية: 260.
(9) سورة البقرة، الآية: 205.
(10) سورة الجمعة، الآية: 9.
(11) بداية توثيق فقهي.
(12) في (أ) و(ح): «أم».
(13) في (ح): «فوات».(2/175)
أسرع انبهر فتشوّش (1) (2) عليه دخوله في الصلاة وقراءتها وخشوعها. وذهب جماعة من السلف؛ =(2/219)=@ منهم: ابن عمر (3) وابن مسعود (4) في أحد قوليه: إلى أنه إذا خاف فواتها أسرع. وقال إسحاق: يسرع إذا خاف فوت الركعة. وروي عن مالك نحوه، وقال: لا بأس لمن كان على فرس أن يحرك الفرس. وتأوله بعضهم على الفرق بين الراكب والماشي؛ لأن الراكب لا ينبهر (5) كما ينبهر (6) الماشي، والقول الأول أظهر (7) .
وقوله: «وَأْتُوهَا تَمْشُونَ (8) وَعَلَيْكُمُ (9) السَّكِينَةُ»: بنصب «السَّكِينَةُ» على الإغراء، كأنه قال: الزموا السكينة (10) . والسكينة والوقار (11) اسمان لِمُسمّىً واحد؛ لأن السكينة من السكون، والوقار من الاستقرار والتثاقل، وهما بمعنى واحد. وقد علل ملازمة الوقار بأن الماشي إلى الصلاة هو في صلاة (12) . ومعناه (13) : أنه لما خرج من بيته إلى المسجد يريد الصلاة كان له حكم الداخل في الصلاة من الوقار حتى يتم له التشبه به، فيتحصل (14) له ثوابه (15) . وفي كتاب أبي داود (16) من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «من توضأ فأحسن الوضوء ثم جاء إلى المسجد فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله من الأجر مثل أجر (17) من حضرها وصلاها، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا».
وقوله: «فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلَّوْا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا»، وفي الرواية الأخرى: «صَلِّ مَا أَدْرَكْتَ، وَاقْضِ مَا سَبَقَكَ» (18) ، اختلف (19) العلماء في الإتمام والقضاء المذكورين في هذا الحديث: هل هما بمعنى واحد، أو بمعنيين؟ وترتب (20) على =(2/220)=@ هذا الخلاف خلاف فيما يدركه الداخل: هل هو أول صلاته، أو آخرها؟ على ثلاثة أقوال: &(2/176)&$
__________
(1) في (أ): «فشوش».
(2) تراجع هذه اللفظة.
(3) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/72 رقم9) في الصلاة، باب ما جاء في النداء للصلاة عن نافع: أن عبدالله بن عمر سمع الإقامة وهو بالبقيع، فأسرع المشي إلى الصلاة.
وسنده صحيح.
(4) أخرجه عبدالرزاق في "المصنف" (2/290 رقم3410)، وابن أبي شيبة (2/140 رقم7397)، أما عبد الرزاق فعن سفيان الثوري مباشرة، وأما ابن أبي شيبة فمن طريق وكيع، عن سفيان الثوري، عن عمرو بن قيس، عن سلمة بن كهيل: أن ابن مسعود سعى إلى الصلاة، فقيل له، فقال: أوليس أحق ما سعيت إليه الصلاة؟!
هذا سياق عبدالرزاق، وأما ابن أبي شيبة فجاء الحديث عنده من رواية سلمة بن كهيل، عن عمارة بن عمير، عن ابن مسعود.
وعلى أي الحالين فالحديث ضعيف؛ لأن سلمة وعمارة لم يدرك أحد منهما ابن مسعود.
(5) في (غ): «ينتهر».
(6) في (غ): «ينتهر».
(7) نهاية توثيق فقهي.
(8) قوله: «تمشون» ليس في (غ).
(9) في (ب): «وعليكم».
(10) قوله: «الإغراء» كأنه قال: الزموا السكينة» سقط من (غ).
(11) متفرقات تعليق ملازمة السكينة والوقار وقت الخروج إلى الصلاة.
(12) في (ب) و(ح) و(غ): «الصلاة».
(13) في حاشية (أ): «بلغ مقابلة بأصله».
(14) في (ب) يشبه أن تكون: «فيحصل».
(15) إعطاء مثل الأجر لمن سعى إلى الصلاة ولم يدركها مع الجماعة.
(16) أخرجه أحمد (2/380)، وعبد بن حميد (ص424 رقم1455)، وأبو داود (1/381 رقم564) في الصلاة، باب فيمن خرج يريد الصلاة فيسبق بها، والنسائي (2/111 رقم855) في الإمامة، باب حد إدراك الجماعة، والحاكم (1/208-209). جميعهم من طريق محصن بن علي، عن عوف بن الحارث، عن أبي هريرة، به.
وفي سنده محصن بن علي الفهري وهو مستور؛ كما في "التقريب" (6548).
وله طريق آخر أخرجه أبو داود برقم (563) من طريق معبد بن هرمز، عن سعيد بن المسيب، قال: حضر رجلاً من الأنصار الموتُ، فقال: إني محدثكم حديثًا ما أحدثكموه إلا احتسابا... ، فذكره بمعناه.
وفي سنده معبد بن هرمز وهو مجهول؛ كما في "التقريب" (6830).
(17) قوله: «أجر» ليس في (ب)، وفي موضعه إشارة لحق ولم يظهر شيء في الهامش.
(18) معنى القضاء معنى التمام.
(19) في (غ): «واختلف».
(20) في (ب): «ويترتب».(2/176)
أحدها: أنه أول صلاته، وأنه يكون بانيًا عليه في الأفعال والأقوال (1) ، وإليه صار جمهور السلف والعلماء: الشافعي وغيره (2) .
وثانيها: أنه آخر صلاته، وأنه يكون قاضيًا في الأقوال والأفعال (3) ، وهو مذهب أبي حنيفة. قال أبو محمد عبد الوهاب (4) : وهو مشهور مذهب مالك.
وثالثها: أنه (5) أول صلاته (6) بالنسبة إلى الأفعال، فيبني عليها، وآخرها بالنسبة إلى الأقوال، فيقضيها، وكأن هذا جمعٌ بين [الخبرين] (7) . وهذه الأقوال الثلاثة مروية عن مالك وأصحابه. وسبب الخلاف ما أشرنا إليه. فتفهم .
198 - وَعَنْهُ (8) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَلا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي».
199 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (9) : أَنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ تُقَامُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَيَأْخُذُ النَّاسُ مَصَافَّهُمْ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مَقَامَهُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله (10) : «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَلا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي»: ظاهره أن الصلاة =(2/221)=@ كانت تقام قبل أن يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيته، ويعارضه حديث بلال (11) : أنه كان لا يقيم حتى يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - (12) . ووجه الجمع: أن بلالاً كان يراقب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيرى (13) أوّل خروجه قبل أن يراه مَنْ هناك (14) ، فيشرع في الإقامة إذ ذاك، ثم لا يقوم الناس حتى يروا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم لا يقوم النبي - صلى الله عليه وسلم - مقامه حتى يُعدِّلوا صفوفهم. وبهذا الترتيب يصح الجمع بين الأحاديث المتعارضة في هذا المعنى. وقد اختلف السلف والعلماء في متى يقوم الناس إلى الصلاة؟ ومتى يكبر الإمام؟ فذهب مالك، وجمهور العلماء إلى أنه ليس لقيام الناس حد، لكن (15) استحب عامتهم القيام إذا أخذ المؤذن في الإقامة، وكان أنس يقوم إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة (16) . وذهب الكوفيون إلى أنهم يقومون إذا قال: حي على الفلاح (17) ، فاذا قال: قد قامت الصلاة كبر الإمام. وحكي عن سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز: إذا &(2/177)&$
__________
(1) في (غ): «الأقوال والأفعال».
(2) توثيق فقهي.
(3) في (ب) و(ح): «الأقوال والأفعال».
(4) موارد المصنف.
(5) قوله: «أنه» ليس في (ب)، إلا أن يكون جاء في الهامش ولم يظهر في التصوير.
(6) في (غ): «صلاة».
(7) في (أ): «خبرين».
(8) أخرجه البخاري (2/119 رقم637) كتاب الأذان، باب متى يقوم الناس إذا رأوا الإمام عند الإقامة؟ و(2/120 رقم638) كتاب الأذان، باب لا يسعى إلى الصلاة مستعجلاً، وليقم بالسكينة والوقار، و(2/390 رقم 909) كتاب الجمعة، باب المشي إلى الجمعة، ومسلم (1/422 رقم604) كتاب المساجد، باب متى يقوم الناس للصلاة.
(9) أخرجه البخاري (1/383 رقم275) كتاب الغسل، باب إذا ذكر في المسجد أنه حيث خرج كما هو ويتيمم، و(2/121 رقم639) كتاب الأذان، باب هل يخرج من المسجد لعلة، و(2/122 رقم640) كتاب الأذان، باب إذا قال الإمام: مكانكم حتى رجع؛ انتظروه، ومسلم (1/423 رقم605) كتاب المساجد، باب متى يقوم الناس للصلاة.
(10) في (ب) و(ح) و(غ): «قوله».
(11) هو حديث جابر بن سمرة الآتي قريبًا برقم (488).
(12) نهاية توثيق فقهي.
(13) في (غ): «فيراه».
(14) في (ب): «هو هناك».
(15) في (ب): «ولكن».
(16) أخرجه ابن المنذر في "الأوسط" (4/166 رقم1958) فقال: حدثونا عن الحسن بن عيسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا أبو يعلى، قال: رأيت أنس بن مالك إذا قيل: قد قامت الصلاة، وثب فقام. وسنده ضعيف لجهالة شيخ ابن المنذر.
(17) في (أ): «الصلاة».(2/177)
قال المؤذن: الله أكبر وجب القيام، وإذا قال: حي على الصلاة اعتدلت الصفوف، فإذا قال: لا إله إلا الله كبّر الإمام. وذهب عامة الأئمة إلى أنه لا يكبر حتى يفرغ المؤذن من الإقامة.
200 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ (1) قَالَ: كَانَ بِلالٌ يُؤَذِّنُ إِذَا دَحَضَتِ الشَّمْسِ، فَلا يُقِيمُ حَتَّى يَخْرُجَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِذَا خَرَجَ أَقَامَ الصَّلاةَ حِينَ يَرَاهُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «كَانَ بِلالٌ يُؤَذِّنُ إِذَا دَحَضَتِ (2) »)؛ أي: زالت عن كبد السماء. وأصل الدَّحَض: الزلق، وهذا (3) كما قال في الحديث الآخر: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر =(2/222)=@ إذا دَحَضَتِ الشَّمْسِ (4) ») (5) ؛ أي: زالت (6) (7) . وقال الهروي في الحديث الأول: إذا انحطت للغروب (8) ؛ لأن الشمس حينئذ يتبيَّنُ (9) زَلَقُها بالكليّة، والأول أولى، والله أعلم .
************
(61) باب من أدرك ركعة من فعل الصلاة أو وقتها فقد أدركها
201 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (10) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاةِ مَعَ الإِمَامِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاةَ».
وَفِي روَايَةٍ: «فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاةَ كُلَّهَا».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب من أدرك ركعة من فعل الصلاة أو وقتها
قوله: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاةَ كُلَّهَا»: ظاهر هذا &(2/178)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (423 رقم606) كتاب المساجد، باب متى يقوم الناس للصلاة.
(2) في (ح): «دحضت الشمس»، وكذا في (ب)، ولكن كُتِبَ فوق قوله: «الشمس» حرف «لا» إشارة إلى أنها محذوفة.
(3) في (ب): «وهو».
(4) قوله: «الشمس» من (ح) فقط ومصادر التخريج.
(5) هو من حديث جابر بن سمرة أيضًا، وسيأتي قريبًا برقم (499).
(6) قوله: «أي زالت» ليس في (ح).
(7) متفرقات منهج المصنف جمع المصنف بين الحديثين الظاهر والحديث الذي فيه معارضة.
(8) في (ح): «للغرب».
(9) في (أ): «يبين».
(10) أخرجه البخاري (2/38 رقم556) كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب، و(2/56 رقم579) كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك من الفجر ركعة، و(2/57 رقم580) كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك من الصلاة ركعة، ومسلم (1/423-424رقم607) كتاب المساجد، باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة.(2/178)
الحديث لا يصح، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - (1) : «مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلَّوْا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا»، =(2/223)=@ وبفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) حيث فاتته ركعة من صلاته خلف عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - ، فلما سلم عبد الرحمن قام النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى الركعة التي سبقه بها (3) . وقد روى هذا الحديث أبو بكر البزار، وقال: «فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاةَ كُلَّهَا، إلا أنه يقضي ما فاته» (4) ، ولا خلاف في ذلك، فتعيّن تأويل الحديث الأول. وقد تأوله بعض أصحابنا على تأويلين:
أحدهما: أنه أدرك فضل الصلاة كلها. وقد ذكر أبو عمر في "التمهيد" (5) هذا الحديث، ولفظه: «من أدرك ركعة من الصلاة؛ فقد أدرك الفضل». وقد رواه أبو أحمد بن عدي (6) ، وقال: «فقد أدرك فضل الجماعة»، والصحيح (7) اللفظ ا لأول .
والتأويل الثاني: أن معناه أنه أدرك حكم الصلاة؛ أي: يلزمه (8) من أحكام الصلاة ما لزم الإمام من الفساد والسهو وغير ذلك.
ويؤيد هذا التأويل: قوله: «مع الإمام». وهذا اللفظ يبطل على داود وغيره قوله: إن هذا الحديث مردود إلى إدراك الوقت الذي يدل عليه قوله:
«من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس (9) فقد أدرك العصر» (10) ، وهذا ليس بصحيح من قولهم، بل الحديثان مختلفان، يفيدان فائدتين كما قررناه. ثم إذا تنزلنا على التأويل الأول - وهو إدراك فضل الجماعة-، فهل يكون ذلك الفضل مضاعفًا كما يكون لمن حضرها من أولها،أو يكون غير مضاعف؟ اختلف فيه على قولين. وإلى التضعيف ذهب أبو هريرة (11) وغيره من السلف، وكذلك إن وجدهم قد سلموا عند هؤلاء كما قدمنا (12) من ظاهر حديث أبي داود عن أبي هريرة، حيث قال: «أعطاه الله عز وجل من الأجر مثل &(2/179)&$
__________
(1) تقدم برقم (484).
(2) تقدم برقم (206) في الطهارة، باب المسح على الناصية والعمامة والخمار.
(3) في (غ): «فيها».
(4) لم نجده في "كشف الأستار"، ولم يصل المطبوع من "المسند" له إلى مسند أبي هريرة. لكن معناه أخرجه ابن حبان في "صحيحه" كما في ترتيبه "الإحسان" (4/352 رقم1486) بلفظ: «من أدرك من صلاة ركعة فقد أدركها؛ وليتمّ ما بقي». وسنده ضعيف؛ فيه عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان وهو: «صدوق يخطئ، رمي بالقدر، تغير بأخرة»؛ كما في "التقريب" (3844).
(5) (7/64-65)، وأعلّ هذه الزيادة بقوله: «لم يقله غير الحنفي عن مالك - والله أعلم-، ولم يتابع عليه، وهو أبو علي عبيدالله بن عبدالمجيد الحنفي».اهـ.
(6) في "الكامل" (6/70) من طريق أبان بن طارق، عن كثير بن شنظير، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك فضل الجماعة قبل أن يتفرقوا، ومن أدرك الإمام قبل أن يسلم فقد أدرك فضل الجماعة... ».
وفي سنده أبان بن طارق وهو مجهول الحال؛ كما في "التقريب"(140)، وقد خالفه إسماعيل بن علية وحماد بن زيد، فرويا الحديث عن كثير، عن عطاء، عن أبي هريرة موقوفًا عليه كما سيأتي في التعليق بعد الآتي.
(7) في (غ): «فالصحيح».
(8) في (ب): «إذ يلزمه».
(9) في (ح): «قبل المغرب الشمس».
(10) يعني الرواية الآتية برقم (490).
(11) أخرجه ابن أبي شيبة (1/362 رقم4164) من طريق إسماعيل بن عُلَيَّة، وابن المنذر في "الأوسط" (4/244 رقم2100) من طريق حماد بن زيد، كلاهما عن كثير بن شنظير، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة قال: إذا انتهى الرجل إلى القوم وهم قعود في آخر صلاتهم فقد دخل في التضعيف، وإذا انتهى إليهم وقد سلم الإمام ولم يتفرقوا؛ فقد دخل في التضعيف. وفي سنده كثير بن شنظير وهو صدوق يخطئ؛ كما في "التقريب" (5649).
(12) (ص... ) في شرح الحديث رقم (484)، وتقدم تخريجه هناك [باب: إتيان الصلاة بالسكينة].(2/179)
أجر من =(2/224)=@ حضرها وصلاها». وإلى عدم التضعيف ذهبت طائفة أخرى، وإلى هذا يشير قول أبي هريرة: «ومن فاته (1) قراءة أم القرآن فقد فاته خير كثير» (2) .
ثم اختلفوا أيضًا: هل يكون مدركًا للحكم، أو للفضل، أو للوقت بأقل من ركعة؟ فذهب مالك وجمهور الأئمة - وهو أحد قولي الشافعي - إلى أنه لا يدرك شيئًا من ذلك بأقل من ركعة، متمسِّكين بلفظ الركعة. وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي في القول الآخر إلى أنه بالإحرام يكون مدركًا لحكم الصلاة. واتفق هؤلاء على إدراكهم العصر بتكبيرةٍ قبل غروب الشمس. واختلفوا في الظهر، فعند الشافعي في أحد قوليه: هو مدرك بالتكبيرة لهما؛ لاشتراكهما في الوقت، وعنه: أنه بتمام القامة للظهر يكون قاضيًا لها بَعْدُ .
202 - وَعَنْهُ (3) : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ»: هذا محمول عند مالك وأصحابه على أصحاب الأعذار؛ كالحائض تطهر، والمغلوب يفيق، والصبي يبلغ، والكافر يسلم، والمسافر يقدم، أو الحاضر يسافر وقد نسي صلاة. والذي حملهم على ذلك: رَوْمُ الجمع بين
الأحاديث المتعارضة في هذا الباب؛ وذلك أنه قد تقرر في حديث جبريل (4) - صلى الله عليه وسلم - ، وفي حديث أبي موسى الأشعري (5) ، وعمرو بن العاص (6) وغيرهم: أن آخر وقت العصر =(2/225)=@ إنما هو المثلان (7) ، أو إذا (8) اصفرت الشمس (9) - على اختلاف الألفاظ -، وقوله: «الوقت فيما بين هذين» (10) . ثم قد جاء من حديث أنس (11) التهديد والذم (12) لمن يؤخر العصر إلى أن تكون (13) الشمس بين قرني الشيطان (14) . وظاهر هذه الأحاديث يدل على أن ما بعد هذه الحدود ليس وقتًا للصلاة، ولا يكون مُوقِعُها (15) فيها مدركًا لها، وظاهر الحديث الأول: أنه يكونُ (16) مدركًا. فرأى أصحابنا أن الوقت الأول المحدود، هو (17) &(2/180)&$
__________
(1) في (ب): «فاتته».
(2) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/11رقم18) في وقوت الصلاة، باب من أدرك ركعة من الصلاة بلاغًا، ولم يصله ابن عبدالبر. انظر"التمهيد"(7/74)، و"الاستذكار"(1/267 رقم16).
(3) أخرجه البخاري (2/37-38، 56، 57 رقم556،579،580) في مواقيت الصلاة، باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب، وباب من أدرك من الفجر ركعة، وباب من أدرك من الصلاة ركعة، ومسلم (1/424 رقم608) كتاب المساجد، باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة.
(4) وهو الآتي برقم (493)، وهو من رواية أبي مسعود الأنصاري - صلى الله عليه وسلم - .
(5) وهو الآتي برقم (496).
(6) الظاهر أنه يعني حديث عبدالله بن عمرو بن العاص الآتي برقم (495).
(7) أي إذا صار ظل الشيء مثليه، وهذا يفهم من حديث عائشة الآتي برقم (494).
(8) في (غ): «إتمامه المثيلان إذا».
(9) وهذا نص حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
(10) وهذا نص حديث أبي موسى.
(11) وهو الآتي برقم (504).
(12) في (ح): «الذم والتهديد».
(13) كذا في (أ)، ولم تنقط في (ب) و(ح»).
(14) في (ح): «شيطان».
(15) في (ح): «موقعًا».
(16) في (ح): «أن يكون».
(17) في (أ): «وهو».(2/180)
الوقت الأصلي لعامة المكلفين، وهم السالمون عن الأعذار، وأن الوقت الثاني لأصحاب الأعذار المذكورين. وهذه طريقة في الجمع حسنة، والجمع أولى من الترجيح، غير أن أصحابنا خرموا هذا الأصل؛ حيث جعلوا من ترك الصلاة متعمدًا حتى بلغ بها إلى وقت الضرورة فصلاّها مؤدِّيًا (1) ، مع أنه قد عصى، وذُمَّ بإخراج الصلاة عن آخر وقت توسعتها. وإذا كان هذا، فلا معنى لتخصيصه بأصحاب الأعذار .
ثم هذه الركعة التي يدركون بها الوقت، هي قدر ما يكبر فيه (2) للإحرام، ويقرأ أم القرآن قراءة معتدلة، ويركع، ويرفع، ويسجد سجدتين يفصل بينهما، ويطمئن في كل (3) ذلك - على قول من أوجب الطمأنينة -، وعلى قول من لا يوجب قراءة أم القرآن في كل ركعة، يكفيه قدر تكبيرة الإحرام والوقوف لها. وأشهب (4) لا يراعي إدراك السجود بعد الركعة. وسبب الخلاف: هل المفهوم من اسم الركعة الشرعية، أو (5) اللغوية؟ =(2/226)=@ وأما الركعة التي يدرك بها فضيلة الجماعة وحكمها، بأن يكبر لإحرامه قائمًا، ثم يركع ويمكن يديه من ركبتيه (6) قبل رفع الإمام رأسه، وهذا مذهب الجمهور: مالك وغيره. وروي عن أبي هريرة (7) : أنه لا يعتد بالركعة مالم يدرك الإمام قائمًا قبل أن يركعها فيركعها (8) معه، وروي معناه عن أشهب. وروي عن جماعة من السلف: أنه متى أحرم والإمام راكع أجزأه، وإن (9) لم يدرك الركوع، وركع بعد الإمام (10) - كالناعس - اعتدّ بالركعة. وقيل: تجزئه (11) وإن رفع الإمام، ما لم يرفع الناس. وقيل: تجزئه (12) إن أحرم قبل سجود الإمام. حكى هذه الأقوال القاضي عياض.
وقوله: «من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح»، ظاهر هذا: أن لها وقت ضرورة كالعصر، وهو أحد القولين عندنا، وقيل: ليس للصبح وقت ضرورة، بخلاف العصر، والأول أظهر . &(2/181)&$
__________
(1) في (ب): «مؤديًا لها».
(2) في (ح): «فيها للإحرام».
(3) قوله: «كل» ليس في (ح).
(4) في (غ): «ولأشهب».
(5) في (غ): «أو» بدل «أم».
(6) في (أ): «وركبتيه».
(7) لم نجده
(8) قوله «فيركعها» من (ب) فقط.
(9) في (غ): «فإن».
(10) في (ب): «وإن لم يدرك الركوع إلا بعد الإمام».
(11) في (غ): «يجزئه».
(12) في (غ): «يجزئه».(2/181)
203 - وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ (1) : «مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْعَصْرِ سَجْدَةً ....»، وذَكرَ نحوه، وفِيهِ: «وَلسَّجْدَةُ إِنَّمَا هِيَ الرَّكْعَةُ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْعَصْرِ سَجْدَةً»، وفسرها في "الأم" (2) : أنها الركعة. ووجهه: أن أهل الحجاز يسمون الركعة سجدة، فهما عند الجمهور عبارتان عن مُعَبَّرٍ واحد. وقال الشافعي - في أحد قوليه - وأبو حنيفة: إن السجدة هنا ليست بالركعة (3) ، وإنما هي على بابها من وضع الوجه بالأرض، واحتجّا بذلك على قولهما: إنه يكون مدركًا بتكبيرة الإحرام. ووجه احتجاجهم: أنه لما ذكر مرة ركعة، ومرة سجدة، سبرنا أوصافهما، فوجدناهما يجتمعان في الركنية والفرضية (4) ، وأول الفروض تكبيرة الإحرام، فَقَدَّرَاه بذلك، والله تعالى أعلم (5) . =(2/227)=@
***************
(62) باب إذا ذكر الإمام أنه مُحْدِث خرج فأمرهم بانتظاره
204 - عَن أَبِي هُرَيْرَةَ (6) قَالَ: أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَقُمْنَا فَعَدَّلْنَا الصُّفُوفَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى إِذَا قَامَ فِي مُصَلاَّهُ قَبْلَ أَنْ يُكَبِّرَ، ذَكَرَ فَانْصَرَفَ، وَقَالَ لَنَا: «مَكَانَكُمْ». فَلَمْ نَزَلْ قِيَامًا نَنْتَظِرُهُ حَتَّى خَرَجَ إِلَيْنَا، وَقَدِ اغْتَسَلَ يَنْطُفُ رَأْسُهُ مَاءً، فَكَبَّرَ وَصَلَّى بِنَا .
وفي روايةٍ: فَأَوْمَأَ إِلَيْهِمْ بِيَدِهِ أَنْ مَكَانَكُمْ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب إذا ذكر الإمام أنه محدث خرج
قوله: «حَتَّى إِذَا قَامَ فِي مُصَلاَّهُ قَبْلَ أَنْ يُكَبِّرَ، ذَكَرَ فَانْصَرَفَ»: هذا هو الصحيح من حديث أبي هريرة في كتاب مسلم والبخاري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر قبل أن يكبر، وقبل أن يدخل في الصلاة. وعلى هذا فلا يكون في الحديث إشكال ولا &(2/182)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/424 رقم609) في المساجد، باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة.
(2) يعني "صحيح مسلم".
(3) في (ح): «الركعة».
(4) في (أ): «والفريضية».
(5) زاد بعد هذا في (غ): «وبالله التوفيق».
(6) أخرجه البخاري (1/383 رقم275) في الغسل، باب إذا ذكر في المسجد أنه جنب، خرج كما هو لا يتيمم، ومسلم (1/425 رقم605) في المساجد، باب متى يقوم الناس للصلاة.(2/182)
مخالفة أصل، وأقصى ما فيه أن يقال: لِمَ أشار إليهم ولَمْ يتكلم؟ ولِمَ انتظروه قيامًا؟ والجواب: أنا لا نسلِّم أنه لم يتكلم، بل قد جاء في هذه الرواية أنه قال لهم: «مَكَانَكُمْ». وفي الرواية الأخرى: «أَنَّه أَوْمَأَ إِلَيْهِمْ»، وعلى الجمع بين الروايتين: أنه جمع بين القول والإشارة؛ تأكيدًا لملازمة القيام. ولو سلمنا أنه لم يتكلم، وأنه اقتصر على الإشارة؛ لم يكن فيه دليل على أنه دخل في الصلاة؛ إذ يحتمل أن يكون ذلك استصحابًا لما شرع فيه من الوقار؛ لأنه بمنزلة من هو في صلاة؛ إذ قَصْده أن يخرج للتطهر ثم يعود لها؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم - : «إذا أتيتم الصلاة فعليكم السكينة والوقار» (1) . وأما ملازمتهم للقيام، فامتثالٌ لأمره - صلى الله عليه وسلم - لهم بذلك، وإنما أمرهم بذلك ليُشعر بسرعة رجوعه حتى لا يتفرقوا، ولئلا يزايلوا ما كانوا شرعوا فيه من القيام للقربة حتى يفرغوا منها، والله أعلم. ثم لما رجع هل بنى على الإقامة الأولى، أو استأنف (2) إقامة أخرى؟ (3) لم يصح في ذلك نقل، وظاهر الأمر أنه لو استجد إقامة أخرى لنقل ذلك؛ إذ قد روي هذا (4) الحديث من طرق (5) ، وليس فيها =(2/228)=@ شيء من ذلك، وحينئذ يحتج به من يرى أن التفريق بين الإقامة والصلاة لا يقطع الإقامة - وإن طال- إذا كان لعذر؛ كما قد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ناجى رجلاً بعد أن أقيمت الصلاة حتى نام من في المسجد (6) ، وبنى على تلك الإقامة. وليس (7) هذا مذهب مالك، بل مذهبه أن التفريق إن كان لغير عذرٍ قطع (8) الإقامة، وابتدأها، طويلاً كان التفريق أو سريعًا، كما قال في "المدونة" في المصلي (9) بثوب نجس: يقطع الصلاة، ويستأنف الإقامة، وكذلك (10) قال في القهقهة .
وإن كان لعذرٍ، فإن طال قطع واستأنف، وإن لم يطل (11) لم يقطع، وبنى عليها.
*************
فصل
وقد روى أبو داود هذا الحديث من رواية أبي بكرة: أنه دخل في صلاة الفجر، فأومأ بيده: أن مكانكم، ثم خرج ورأسه يقطر، فصلى بهم. وفي رواية أخرى قال في أوله: فكبر، وقال في آخره: فلما قضى الصلاة قال: «إنما &(2/183)&$
__________
(1) تقدم قريبًا برقم (485).
(2) في (أ): «واستأنف».
(3) في (غ): «ولم».
(4) في (غ): «في هذا».
(5) في (غ): «طريق«
(6) تقدم الحديث برقم (210) كتاب الطهارة، باب فعل الصلوات بوضوء واحد....
(7) في (أ): «ليس».
(8) قوله: «قطع» ليس في (أ). ... ...
(9) في (غ): «المصلاة».
(10) في (ب): «وكذا».
(11) في (أ): «يُطَوِّل».(2/183)
أنا بشر، وإني كنت جنبًا» (1) . ورواه مالك في "الموطأ" (2) مرسلاً (3)
عن عطاء بن يسار، وقال: «إنه كبر». وقد أشكل هذا الحديث على هذه الرواية على كثير من العلماء، ولذلك سلكوا فيه مسالك: فمنهم من ذهب إلى ترجيح الرواية الأولى، رأى أنها أصح وأشهر، ولم يعرِّج على هذه الرواية. ومنهم من رأى أن كليهما صحيح، وأنه لا تعارض بينهما؛ إذ يحتمل أنهما نازلتان في وقتين، فيقتبس من كل واحدة منهما ما تضمنته من الأحكام. فمما يقتبس من رواية أبي داود ومالك: أن الإمام إذا طرأ له ما يمنعه من التمادي، استخلف بالإشارة لا بالكلام، وهو أحد =(2/229)=@ القولين لأصحابنا. جواز (4) البناء في الحدث، وهو مذهب أبي حنيفة، لكن إنما يتم له ذلك إذا ثبت (5) نقلاً أنه لم يكبر حين رجوعه. بل الذي صح في البخاري ومسلم: أنه كبر بعدما اغتسل عند رجوعه. والمشكل على هذه الرواية إنما هو وقوع هذا (6) العمل الكثير، وانتظارهم له هذا الزمان الطويل بعد (7) أن كبروا. وإنما قلنا: إنهم كبروا؛ لأن العادة جارية بأن (8) تكبير المأمومين يقع عقيب تكبير إمامهم، ولا يؤخر ذلك إلا القليل من أهل الغلوّ والوسوسة. ولما رأى مالك هذا الحديث مخالفًا لأصل الصلاة قال: إنه خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - على ما روي عنه. وروي عن بعض أصحابنا: أن هذا العمل من قبيل اليسير، فيجوز مثله. وهذا مناكرة (9) للمشاهدة. وقال ابن نافع: إن المأمومين إذا كانوا في الصلاة، فأشار إليهم إمامهم (10) بالمكث (11) فإنه يجب عليهم انتظاره حتى يأتي فيتم بهم؛ أخذًا بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث. وكان الأولى في هذه الرواية ما قاله مالك، والله أعلم.
وقوله: «يَنْطُفُ رَأْسُهُ»؛ أي: يقطر. والنطفة: القطرة من الماء (12) (13) والله أعلم (14) . =(2/230)=@ &(2/184)&$
__________
(1) أخرجه الشافعي في "الأم" (1/167)، وأحمد في "المسند" (5/41، 45)، وأبو داود (1/159 رقم233) في الطهارة، باب في الجنب يصلي بالقوم وهو ناسٍ، وابن خزيمة في "صحيحه"(3/62 رقم1629)، وابن حبان في "صحيحه" كما في ترتيبه "الإحسان" (6/5 رقم 2235)، جميعهم من طريق حماد بن سلمة، عن زياد الأعلم، عن الحسن، عن أبي بكرة، به.
وأخرجه البيهقي في "السنن" (2/397)، و(3/94)، وفي المعرفة (3/347)، وقال في "المعرفة": «هذا إسناد صحيح».
وانظر "التلخيص الحبير" (2/71)، وتعليق الشيخ الألباني على الموضع السابق من "صحيح ابن خزيمة".
(2) انظر "الموطأ" (1/48 رقم 79)، وقال ابن عبد البر في "التمهيد" (1/174): «وهذا حديث منقطع، وقد روي متصلاً مسندًا من حديث أبي هريرة وحديث أبي بكرة».
(3) قوله: «مرسلاً» ليس في (أ).
(4) في (غ): «وجواز».
(5) في (أ) و(غ): «أثبت».
(6) قوله: «هذا» ليس في (ب).
(7) في (أ): «وبعد».
(8) في (ح): «أن».
(9) في (ب): «وهذه مكابرة».
(10) في (ح): «يشبه أن تكون: «مامنهم».
(11) في (غ): «باللبث».
(12) في (غ): «والقطرة النطفة من الماء» وفي (ح): «القطرة من ماء».
(13) في نسخة (ب): «بلغت المقابلة»، ثم: «آخر المجلدة الأولة من كتاب المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم. يتلوه في أول الثانية إن شاء الله: ومن باب أوقات الصلوات».
(14) قوله: «والله أعلم» في (غ) فقط.(2/184)
**************
(63) باب أَوْقَات الصَّلَوَاتِ
205 - عَنِ ابْنِ شِهَابٍ (1) : أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَّرَ الْعَصْرَ شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ: أَمَا إِنَّ جِبْرِيلَ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ نَزَلَ فَصَلَّى إِمَامَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اعْلَمْ مَا تَقُولُ يَا عُرْوَةُ! فَقَالَ: سَمِعْتُ بَشِيرَ بْنَ أَبِي مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «نَزَلَ جِبْرِيلُ فَأَمَّنِي فَصَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ» وَيَحْسُبُ بِأَصَابِعِهِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و (2) من (3) باب أوقات الصلوات (4)
قوله: «إِنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَّرَ الْعَصْرَ (5) شَيْئًا»: يدل على أن تأخيره (6) إنما كان عن أول وقت الاختيار. وإنما أُنكر عليه لعدوله عن الأفضل - وهو ممن يقتدى به -، فيؤدي تأخيره لها إلى أن يُعتقد أن تأخير العصر سنة. ويحتمل أنه أخرها إلى آخر وقت أدائها، وهو وقت الضرورة عندنا، معتقدًا أن الوقت كله وقت اختيار كما هو مذهب إسحاق وداود. والأول أشبه بفضله وعلمه، وأظهر من اللفظ .
وقول عروة لعمر: «أَمَا إِنَّ جِبْرِيلَ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ (7) نَزَلَ فَصَلَّى إِمَامَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - »، وفي الرواية الأخرى: «أما علمت أن جبريل نزل فصلى، فصلى (8) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟» ليس فيه حجة واضحة على عمر (9) ؛ إذ لم يعين (10) له الأوقات التي صلى به (11) فيها. وغاية ما يتوهم عليه: أنه نبّهه وذكّره بما كان يعرف من تفاصيل الأوقات المعروفة من حديث جبريل - صلى الله عليه وسلم - كما قد روى ذلك النسائي وأبو داود كما سنذكره (12) (13) . ويظهر لي أن =(2/231)=@ هذا التأويل فيه بعد؛ لإنكار عمر بن عبد العزيز على عروة؛ حيث قال له: «اعلم ما تحدث (14) يا عروة !» أو أن (15) جبريل هو الذي أقام لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت الصلاة. وظاهر (16) هذا الإنكار: أنه لم يكن عنده خبر من حديث إمامة جبريل؛ إما لأنه (17) لم يبلغه، أو بلغه فنسيه، وكل ذلك جائز عليه. والأولى عندي: أن حجة عروة عليه إنما هي فيما رواه عن عائشة رضي الله عنها (18) : من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العصر والشمس طالعة في حجرتها قبل أن تظهر،وذكر له حديث جبريل موطِّئًا له ومعلمًا بأن (19) الأوقات إنما ثبت أصلها بإيقاف (20) جبريل للنبي صلى الله عليهما (21) وسلم عليها (22) ، وتعيينها له، والله أعلم. &(2/185)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (2/3 رقم521) في مواقيت الصلاة، باب مواقيت الصلاة وفضلها، ومسلم (1/425 رقم610) في المساجد، باب أوقات الصلوات الخمس.
(2) زاد قبله في (ز): «بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم»، وفي (ب): «بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على المهلة والإسلام والعافية اللهم اختم بخير».
(3) قوله: «بفضله» تشبه أن تكون في (ب): «بفصله».
(4) في (ح) و(ز) و(غ): «الصلاة».
(5) في (ح) و(ز): «الصلاة».
(6) في (ح): «تأخيرها».
(7) قوله: «قد» ليس في (ب).
(8) في (غ): «وصلى».
(9) قوله: «على عمر» ليس في (ح).
(10) في (غ): «تعين».
(11) قوله: «به» ليس في (ح).
(12) في (ب) و(غ): «كما سنذكره أول حديث الموطأ».
(13) في شرح الحديث الآتي (ص27) لكن إنما عزاه هناك للنسائي، ولم يذكر أبا داود، وهو الصواب؛ فإن أبا داود لم يخرجه.
(14) في (ب) و(ح) و(ز): «ما تحدث به».
(15) في (غ): «ظاهر» بلا واو.
(16) في (ب): «أو إن» كذا ضبطها.
(17) قوله: «لأنه» غير واضح في (ز).
(18) وهي الرواية الآتية.
(19) في (ح): «ومعلمًا أن».
(20) في (غ): «باتفاق».
(21) المثبت من (ب)فقط، وفي (أ) و(غ) و(ز): «عليه».
(22) قوله: «عليها» ليس في (ح).(2/185)
206 - فِي روَايةٍ قَالَ عُرْوَةُ (1) : وَلَقَدْ حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ زَوْجُ النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ الْفَيْءُ .
وَفِي روَايةٍ: لَمْ يَظْهَرِ الْفَيْءُ فِي حُجْرَتِهَا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ»؛ أي: تعلو وترتفع. والظهور: العلو، ومنه قول النابغة الجعدي:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا (2) ... وإنا لنبغي (3) فوق ذلك مظهرًا (4)
=(2/232)=@ أى: مصعدًا عاليًا. وهذا المعنى قد روي بألفاظ مختلفة، روي كما ذكرناه، وروي: «لم ترتفع من حجرتها»، وروي: «لم يَظْهَر الْفَيْءُ بعد». وفي البخاري: «لم تخرج الشمس من حجرتها» (5) . وكلها مُحَوِّمة على معنى واحد، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعجل العصر، وينصرف منها والشمس في وسط الحجرة، لم يصعد (6) فيئها (7) في جدرها (8) ، وذلك لسعة ساحتها، وقصر جدرانها. وقد رأيت أن أذكر حديث النسائي (9) الذي رواه من طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في تفصيل الأوقات التي صلى جبريل فيها بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو أصح ما في (10) إمامة جبريل - صلى الله عليه وسلم - على ما ذكره الترمذي عن البخاري - وأَبْيَن (11) ؛ قال فيه: عن جابر بن عبد الله: أن جبريل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعلمه مواقيت الصلاة، فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليهما وسلم (12) خلفه، والناس خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فصلى الظهر حين زالت الشمس. وأتاه حين كان (13) الظل مثل شخصه، فصنع كما صنع &(2/186)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (2/6 رقم522) في مواقيت الصلاة، باب مواقيت الصلاة وفضلها، ومسلم (1/426 رقم611) في المساجد، باب أوقات الصلوات الخمس.
(2) في (ح): «وجودنا».
(3) في (ب): «وإنا لنرجو»، ثم كتب فوقها: «لنبغي».
(4) البيت في الديوان بتحقيق د.واضح الصمد (ص71)، و"لسان العرب"(4/529)، وفيه: «وسناؤنا» بدل: «وجدودنا». و: "لنرجو" بدل: «لنبغي»، وللبيت رواية أخرى هي:
بلغنا السماء مجددًا وسؤددًا ... وإنا لنرجوا فوق ذلك مظهرًا
(5) وفي إحدى روايات البخاري لهذا الحديث. وانظر "صحيح البخاري" (2/25 رقم544) في مواقيت الصلاة، باب وقت العصر.
(6) قوله: «يصعد» في (ز) رسمت هكذا: «تصعد».
(7) قوله: «فيئها» ليس في (ح)، وفي (ب): «منها».
(8) في (غ): «جدها».
(9) وكان قد عزاه في شرح الحديث السابق لأبي داود مع النسائي، ولم يخرجه أبو داود، وإنما أخرجه النسائي (1/255-256 رقم513) في المواقيت، باب آخر وقت العصر، من طريق قدامة بن شهاب، عن بُرد، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر. وسنده حسن.
وأخرجه أحمد (3/330-331)، والترمذي (1/281 رقم150) في الصلاة، باب ما جاء في مواقيت الصلاة، وابن حبان كما في ترتيبه "الإحسان" (4/335-336 رقم1473)، والنسائي (1/263 رقم526) في المواقيت، باب أول وقت العشاء، جميعهم من طريق ابن المبارك، عن حسين بن علي بن حسين، عن وهب بن كيسان، عن جابر. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب... ، وقال محمد - يعني البخاري -: أصح شيء في المواقيت حديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال: وحديث جابر في المواقيت قد رواه عطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، وأبو الزبير، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو حديث وهب بن كيسان، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(10) في (ح): «أما في».
(11) في (غ) يشبه أن تكون: «وأعن».
(12) المثبت من (ب) وفي (أ) و(ز) و(غ) و(ح): «عليه».
(13) قوله «كان» ليس في (غ).(2/186)
- يعني فصلى العصر-. ثم أتاه حين وجبت الشمس، فصنع كما صنع، فصلى المغرب (1) ثم أتاه حين غاب الشفق، فصنع كما صنع، فصلى (2) العشاء. ثم أتاه حين انشق الفجر، فصنع كما صنع، فصلى الغداة. ثم أتاه اليوم الثاني حين كان ظل (3) الرجل مثل شخصه، فصنع كما (4) صنع بالأمس فصلى الظهر. ثم أتاه حين كان ظل الرجل مثل شخصيه (5) ، فصنع كما صنع بالأمس، فصلى العصر. ثم أتاه حين وجبت الشمس، فصنع كما صنع بالأمس، فصلى المغرب. وفي رواية: وقتًا (6) واحدًا لم يزل عنه، فنمنا، ثم قمنا (7) ، ثم نمنا، ثم قمنا (8) ، فأتاه فصنع مثل ما صنع بالأمس، فصلى العشاء. وفي رواية: ثم جاء الصبح (9) حين أسفر جدًّا - يعني: في اليوم الثاني -، ثم قال: «ما بين هاتين (10) الصلاتين =(2/233)=@ وقت». وسيأتي الكلام على ما تضمنه من النكت إن شاء الله تعالى.
وقد أخذ بعض الناس من هذا الحديث صحة إمامة المفترض بالمتنفل، وذلك لا يتم حتى يتبين أن جبريل كان متنفلاً، ولا يقدر عليه. وفيه أبواب من الفقه لا تخفي على متأمل، وسيأتي التنبيه (11) على أكثرها (12) إن شاء الله تعالى (13) .
207 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ (14) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «وَقْتُ الظُّهْرِ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَكَانَ ظِلُّ الرَّجُلِ كَطُولِهِ مَا لَمْ تَحْضُرِ الْعَصْرُ، وَوَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ، وَوَقْتُ صَلاةِ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَغِبِ الشَّفَقُ، وَوَقْتُ صَلاةِ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ الأَوْسَطِ - وَلَمْ يذكُر "الأوسط" إلا في هذه الرواية -، وَوَقْتُ صَلاةِ الصُّبْحِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَأَمْسِكْ عَنِ الصَّلاةِ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَيْطَانِ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: «وَقْتُ (15) الظُّهْرِ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ»، زوال الشمس: عبارة عن بداية انحطاطها مغرِّبة بعد (16) نهاية ارتفاعها، وهو أول وقت الظهر بالإجماع. ولا خلاف أن الوقت من فروض الصلاة ومن شروط صحتها إلا شيئًا روي (17) عن أبي موسى (18) وبعض السلف، ولم يصح عنهم، وانعقد الإجماع على خلافه (19) . ولا خلاف في أوائل أوقات
الصلوات (20) ، إلا في (21) وقت العصر والعشاء الآخرة. فأبو حنيفة يقول: إن أَول (22) وقت العصر آخر القامتين (23) ، وخالفه (24) الناس كلهم في ذلك (25) حتى أصحابه. وأما العشاء فاتفق على أن وقتها بعد مغيب الشفق، لكن ذهب أبو حنيفة والمزني إلى أنه البياض، والجمهور على أنه الحمرة، واختلفوا في تحديد أواخر الأوقات كما سيأتي .
وقوله: «وَكَانَ ظِلُّ الرَّجُلِ كَطُولِهِ» يعني بعد طرح اعتبار القدر الذي زالت عليه الشمس، إن كان له قدر. فلو قدرنا أن (26) الشمس وقفت (27) على رأس ذي &(2/187)&$
__________
(1) من قوله: «المغرب... » إلى هنا ليس في (ح).
(2) في (أ): «فصلى صلاة».
(3) في (ح): «الظل».
(4) في (ح) و(ب) و(ز): «ما». بدل «كما».
(5) في (ح): «شخصه»، وفي (غ): «مثلي شخصه».
(6) في (ز) فوقها ما يشبه: «حين».
(7) في (غ): «نمنا».
(8) في (غ): «نمنا».
(9) في (ب) و(ح): «جاء للصبح». وفي (ز): «جاءهُ الصبح»، وفي (غ): «جاءه للصبح».
(10) في (ز): «هذين».
(11) في (غ): «الكلام» بدل «التنبيه».
(12) «أكثرها» لم تتضح في (ح).
(13) في (ح) و(ز) زاد: «إن شاء الله تعالى».
(14) أخرجه مسلم(1/426-427رقم612) في المساجد، باب أوقات الصلوات الخمس.
(15) في (غ): «وقت».
(16) في (غ): «عند».
(17) في (ز) تشبه: «فروى».
(18) في (ح): «عن أبي موسى الأشعري».
(19) قال ابن عبدالبر في "الاستذكار" (1/188)- في كلامه على حديث عائشة المتقدم برقم (494) هنا -: «وفي هذا الحديث دليل على أن وقت الصلاة من فرائضها، وأنها لا تجزئ قبل وقتها، وهذا الاختلاف فيه بين العلماء، إلا شيئًا -[ في الأصل: «شيء»]- روي عن أبي موسى الأشعري وعن بعض التابعين، وقد انعقد الإجماع على خلافه، فلم نر لذكره وجهًا؛ لأنه لا يصح عندي عنهم، وقد صح عن أبي موسى خلافه بما يوافق الجماعة، فصار اتفاقًا صحيحًا».
(20) في (ح) و(ز) و(غ): «الصلاة».
(21) قوله: «في» ليس في (ب).
(22) قوله: «أول» ليس في (أ).
(23) في (ح): «العصر إلى القامتين».
(24) في (غ): «وخالف».
(25) قوله: «في ذلك» ليس في (ح).
(26) قوله: «أن» ليس في (ح).
(27) في (غ): «رفعت».(2/187)
الظل؛ لم يكن للظل قدر، واعتبر من أصل القائم، ثم أفاد بقوله: «مَا لَمْ تَحْضُرِ (1) الْعَصْرُ» أن الوقت ممتد متسع، وأن آخره أول وقت العصر، وهو انتهاء آخر ظل المثل، وهذا مثل ما في (2) حديث إمامة جبريل (3) بالنبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه صلَّى به العصر في =(2/234)=@ اليوم الأول حين كان ظل كل شيء مثله، وكلاهما حجة على أبي حنيفة في قوله: إن أول وقت العصر إذا كان ظل كل شيء مثليه.
وهو قول شاذ منكر (4) خالف فيه هذه النصوص وجميع الناس، خلا أنه قد حُكي عن الشافعي، وقد تبرّأ من هذا القول أصحاب أبي حنيفة والشافعي لظهور فساده.
ثم تمام القامة بلا (5) فصلٍ بينهما هو أول وقت العصر، وهو مشترك بينهما عند مالك وابن المبارك وإسحاق في آخرين؛ تمسكًا بحديث جبريل، وذلك أنه صلى به العصر في اليوم الأول حين كان ظل كل شيء مثله، وصلى به الظهر في اليوم الثاني حين كان ظل كل شيء مثله (6) . غير أنهم حملوا قوله: «صلى في الظهر» على أنه فرغ منها في آخر القامة، وصلى في العصر على أنه بدأ بها في أول القامة الثانية. وقال الشافعي وأبو ثور وداود وأحمد والطبري ومحمد بن الحسن وأبو يوسف وابن حبيب وابن المواز من أصحابنا: لا مشاركة بين الوقتين، ولا بد من فاصلةٍ بينهما، وهي: زيادة أدنى شيء على القامة، غير أن أصحابنا لا يشترطون هذه الزيادة، ويقولون: بانتهاء القامة الأولى يخرج (7) وقت الظهر، فيعقبها أول وقت العصر من غير زيادة. وقال أشهب: بل الاشتراك في القامة الأولى، فيكون ما قبلها بقدر ما تُوقَعُ (8) فيه إحدى الصلاتين (9) مشتركًا بينهما، واختار هذا القول أبو إسحاق التونسي، وحكاه القاضي أبو بكر بن العربي رواية عن مالك. وحجة من لم ير الاشتراك قوله: «وقت (10) الظهر ما لم تحضر العصر»، وما جاء في حديث أبي &(2/188)&$
__________
(1) في (ب) هكذا: «يحصر» مهملة.
(2) في (ب) و(ح) و(غ): «ما جاء في».
(3) تقدم تخريجه قريبًا.
(4) قوله: «منكر» ليس في (ب) و(ح).
(5) في (ز): «فلا فصل».
(6) في (غ): «مثليه».
(7) في (ب): «خرج».
(8) في (ز): «يوقع».
(9) في (ح): «أحد الصلاتين».
(10) في (غ): «خرج».(2/188)
موسى (1) ، وذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالسائل الظهر في اليوم الثاني حين كان قريبًا من وقت العصر بالأمس. وظاهر هذين الحديثين أن بينهما فصلاً قريبًا. والقول بالاشتراك أبين، وهو الذي يجمع شتات الأحاديث، وأشهب لم يتأول: «فصلى في الظهر (2) والعصر»، بل (3) حملهما على ظاهرهما في (4) الظهر والعصر، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - فرغ من الظهر والعصر في اليومين عند انتهاء القامة، والله أعلم .
وقوله: «وَوَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ»: يعني بقوله: «مَا لَمْ تَصْفَرَّ (5) »): =(2/235)=@ ما لم يدخلها (6) صفرة. وظاهره أن آخر وقت العصر قبل مخالطة الصفرة. وهذا كما قال في حديث بريدة (7) بن حصيب - رضي الله عنه - (8) : «ثم أمره بالعصر والشمس بيضاء نقيّة لم تخالطها (9) صفرة يعني في اليوم الثاني»، وهذا الظاهر مخالف لحديث أبي موسى؛ إذ قال فيه: «ثم أخر العصر حتى انصرف منها والقائل يقول: قد احمرت الشمس»، وظاهر هذا أنه بعد الصفرة بكثير. ووجه الجمع أن هذا كله تقريب، وإنما التحقيق يحصل بما في حديث جبريل - صلى الله عليه وسلم - من تقديره بما إذا كان ظل كل شيء مثلي شخصه. قال القاضي أبو بكر بن العربي: وهما متساويان في المعنى؛ لأن الشمس لا يزال بياضها ناصعًا حتى ينتهي ثَنْيُ الظل، فإذا أخذ في التثليث نقص البياض، حتى تأخذ الشمس في التطفيل، فتتمكن الصفرة.
وقوله (10) : «ويسقط قرنها الأول»: فيه إشكال؛وذلك أن قرن الشمس أعلاها، وهو أول (11) ما يبدو منها في الطلوع، وأول ما يسقط منها في الغروب، كما قال في هذه الرواية في وقت الفجر: «ما لم يطلع قرن الشمس الأول»، وهو (12) إما أن يراد به أعلى شعاعها الدائر بها، وإما أعلى جرمها وعينها، وعلى التقديرين فآخر وقت توسعة العصر قبله - كما قررنا (13) -، وحينئذ يتضح الإشكال.
قال الشيخ رحمه الله: ويظهر &(2/189)&$
__________
(1) وهو الآتي.
(2) في (ب): «فصلى بنى الظهر»، وفي (ز): «فصلى إلى الظهر».
(3) في (ز): «بأن...».
(4) قوله في ليس في (أ).
(5) قوله: «يعني بقوله: مالم تصفر» ليس في (ب). وفي (غ): «ما لم تصفر الشمس».
(6) في (ب) و(ح) و(ع): «تدخلها». وفي (ز): «تأخذها».
(7) في (غ): «يزيد».
(8) أي الآتي قريبًا برقم (497).
(9) في (ز): «لم يخلطها».
(10) في (ب): «فقوله».
(11) في (ز) سقط الواو في قوله: «أول».
(12) في (غ): «وهذا».
(13) في (ز): «قررناه».(2/189)
لي أن المقصود من (1) قوله: «ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ويسقط قرنها الأول»: أن يُبيِّن به امتداد وقت الأداء كله إلى غايته، ويدخل فيه الوقت الذي سميناه نحن: وقت الضرورة. وعلى هذا يمكن أن يقال: إن الصفرة هنا هي ابتداء تغير الشمس إلى السواد عند الغروب، وهذا على لغة العرب المعروفة (2) تسميتهم الأسود أصفر؛ كما قال:
............................. ... هُنَّ صُفْرٌ أولادُها كالزّبيب (3)
=(2/236)=@ وكما قال تعالى: {كأنه جِمالاتٌ صفر} (4) ،وفي قوله: {بقرة صفراء} (5) ؛ أي: سوداء. ويكون قرنها: جرمها، والله أعلم.
وقوله: «ووقت (6) صلاة المغرب ما لم يغب الشفق»: هذا يؤذن بأن (7) وقت المغرب موسع كسائر أوقات الصلوات (8) ، وهو موافق لحديث أبي موسى؛ حيث صلى المغرب في اليوم الأول عند وقوع الشمس، وفي الثاني حين غاب الشفق، وهو قول مالك في "الموطأ"، وأحد قولي الشافعي - رضي الله عنه - ، وقول الثوري وأصحاب الرأي على اختلافهم في الشفق ما هو على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
وقد عارض هذا الحديث في المغرب حديث جبريل - صلى الله عليه وسلم - ؛ فإن فيه: إنه صلاها في اليومين في وقت واحد حين غابت الشمس، وصار أيضًا إليه جمهور من (9) العلماء، وهو مشهور (10) قول (11) مالك والشافعي والأوزاعي وغيرهم، وقالوا: هو محدود الأول بمغيب قرص (12) الشمس، وغير محدود الآخر، بل مقدر (13) آخره بالفراغ منها في حق كل مكلف. ولما تعارض الحديثان اختلف العلماء في الأرجح (14) منهما، فرجح كل منهما (15) بحسب ما ظهر له.
قال الشيخ رحمه الله: ويمكن الجمع (16) والبناء بينهما بأن يقال: إن إيقاع المغرب &(2/190)&$
__________
(1) في (ز): «في» بدل «من».
(2) قوله: «المعروفة» ليس في (ح).
(3) هذا عجز بيت للأعشى، وصدره:
تلك خَيْلي منه، وتلك ركابي ... ..................................
انظر "ديوان الأعشى الكبير" (ص29)، وانظر: "لسان العرب" (4/460).
(4) سورة المرسلات، الآية: 33.
(5) سورة البقرة، الآية: 69.
(6) قوله: «ووقت» ليس في (ب) و(غ).
(7) في (غ): «أَنْ».
(8) في (ح): «الصلاة».
(9) قوله: «من» سقط من (غ).
(10) قوله: «مشهور» سقط من (غ).
(11) في (أ): «مذهب».
(12) في (ح): «قرن».
(13) في (ب): «مقدار»، وفي (ح): «بل مقدرًا».
(14) في (ب): «في الأصح».
(15) في (ب): «منهم».
(16) في (غ): «فيهم الجمع».(2/190)
في حديث جبريل في وقت
واحد لعلّه: إنما كان ليبين أن إيقاعها في ذلك الوقت أفضل، ولذلك اتفقت الأمة على ذلك. وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : «لا تزال أمتي بخير - أو قال: على الفطرة - ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم» (1) . وليس فيه ما يدل على منع تأخيرها عن ذلك الوقت. وتكون أحاديث التوسعة تبيِّن وقت الجواز، فيرتفع التعارض، ويصح الجمع، وهو أولى من الترجيح باتفاق =(2/237)=@ الأصوليين (2) ؛ لأن فيه إعمال كل واحد من الدليلين، والترجيح إسقاط أحدهما، والله أعلم .
وقد اختلف العلماء في الشفق (3) : فذهب الجمهور إلى أنه الحمرة التي تكون في المغرب وذهب أبو حنيفة والمزني إلى أنه البياض الذي يكون بعد (4) الحمرة. وسبب الخلاف: انطلاق اسم الشفق عليهما (5) بالاشتراك، وهما متصلان؛ أي: أحدهما بعد الآخر. فمن أخذ بأول الاسم قال: هو الحمرة، ومن أخذ بآخره قال: هو البياض. ومذهب الجمهور أولى؛ لوجهين:
أحدهما: أن أهل الاعتناء (6) بذلك قد رصدوا ذلك وراقبوه، فتحقق لهم أن البياض لا يغيب إلا عند طلوع الفجر، قال ذلك الخليل بن أحمد وابن أبي أويس وغيرهما .
والثاني: أنه قد روى أبو داود من طريق صحيح (7) عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أنه قال: «أنا أعلم الناس بوقت هذه الصلاة: صلاة العشاء الآخرة؛ كان (8) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليها لسقوط القمر لثالثة» (9) . وهذا ينص على أنه كان يصليها قبل مغيب البياض، &(2/191)&$
__________
(1) أخرجه أحمد (4/147)، و(5/417، 421)، وأبو داود (1/291 رقم418) في الصلاة، باب في وقت المغرب، وابن خزيمة (1/174 رقم339)، والحاكم (1/190-191)، جميعهم من طريق محمد بن إسحاق، حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبدالله اليزني، عن أبي أيوب، به.
وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، مع أن مسلمًا لم يحتج بمحمد بن إسحاق، وإنما أخرج له في المتابعات، ولكن سند الحديث حسن، وقد حسّن إسناده الشيخ الألباني في "المشكاة" (1/193)، وذكر في "الإرواء" (4/33) أن سنده جيد.
(2) في (غ): «الأمرين».
(3) في (ح): «في الأرجح منهما في الشفق».
(4) في (أ): «بعده».
(5) في (ز): «عليها».
(6) في (ح) و(ز): «الاعتبار».
(7) في (غ): «صحيحة».
(8) في (غ): «فإن».
(9) أخرجه أحمد (4/272)، وأبو داود (1/291-292 رقم419) في الصلاة، باب في وقت العشاء الآخرة، والترمذي (1/306 رقم165) في الصلاة، باب ما جاء في وقت صلاة العشاء الآخرة، والنسائي (1/264-265 رقم529) في المواقيت، باب الشفق، أما أحمد فمن طريق شعبة، وأما الباقون فمن طريق أبي عوانة، كلاهما عن أبي بشر جعفر بن إياس، عن بشير بن ثابت، عن حبيب بن سالم، عن النعمان، به.
وسنده صحيح، وقد أخرجه أحمد (4/270) من طريق هشيم، والنسائي برقم (528) من طريق رقبة بن مصقلة، كلاهما عن أبي بشر، عن حبيب، عن النعمان، به، ولم يذكرا «بشر بن ثابت»، والأول أرجح. قال الترمذي: «روى هذا الحديث هشيم عن أبي بشر، عن حبيب بن سالم، عن النعمان بن بشير، ولم يذكر فيه هشيم: «عن بشير بن ثابت»، وحديث أبي عوانة أصح عندنا؛ لأن يزيد بن هارون روى عن شعبة، عن أبي بشر نحو رواية أبي عوانة». ومما يؤكد صحة هذا الترجيح: أن شعبة قال: «لم يسمع أبو بشر من حبيب بن سالم»؛ كما في "المعرفة والتاريخ" (3/10-11)، فدل على صحة إثبات الواسطة بينهما، وهو: بشير بن ثابت. وقد صحح الحديث الحاكم في "المستدرك" (1/194)، وأبو بكر بن العربي في "عارضة الأحوذي" (1/277).
وله طريق أخرى عن حبيب. فقد أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (4/392 رقم1526/الإحسان) من طريق إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن حبيب، به.(2/191)
بل (1) على أنه كان يصليها عند تمكن البياض؛ لأنه إذ ذاك يسقط القمر في الثالثة من الشهر، وهذا يرفع الخلاف.
وقوله: «ووقت العشاء إلى نصف الليل الأوسط»: أكثر رواة هذا الحديث لم يذكروا فيه (2) الأوسط (3) ، وإنما يقولون: «إلى نصف الليل» فقط، وتلك الزيادة هي من حديث همام عن قتادة. وكل من روى هذا الحديث عن قتادة لم يذكرها غيره. وكأن هذه الرواية وهم؛ لأن الأوسط في المقدَّرات والمعدودات إنما يقال على ما =(2/238)=@ يتوسط (4) بين اثنين فأكثر. اللهم إلا (5) إن أُريد (6) بالأوسط: الأعدل، فحينئذ يصح أن يقال: هو أوسط الشيئين؛ أي: أعدلهما (7) . وهذا الشيء أوسط من هذا؛ أي: أعدل منه. ويمكن أن تحمل رواية تلك الزيادة (8) على الصحة، ويكون معناه: أن النصف الأول أعدل بالنسبة إلى إيقاع الصلاة فيه من النصف الآخر؛ لتأدية (9) .
الصلاة في الأول وكثرة الثواب فيه. ثم اختلف العلماء في آخر وقت العشاء الآخرة: فذهب (10) طائفة من العلماء إلى أن ذلك آخر النصف الأول، وإليه ذهب ابن حبيب من أصحابنا؛ متمسكًا (11) بهذا الحديث، ويقول عمر - رضي الله عنه - : «فإن أخّرت فإلى شطر الليل» (12) . ومشهور مذهب مالك: أنه آخر الثلث الأول؛ متمسكًا بحديث أبي موسى - رضي الله عنه - (13) ؛ إذ فيه: «أنه - صلى الله عليه وسلم - أخّر العشاء (14) الآخرة حتى كان (15) ثلث الليل»، وهو قول جمهور العلماء. وروي عن النخعي (16) أنه الربع الأول، ولا متمسك له واضح في الأحاديث. وسبب الخلاف: الترجيح بين (17) هذه الأحاديث.
وقوله: «ووقت الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس»، الفجر: هو انصداع البياض من المشرق، وسُمِّي بذلك لانفجاره؛ أي: لظهوره وخروجه؛ &(2/192)&$
__________
(1) في (غ): «فدل».
(2) في (ب): «فيها»، وفي (ز) و(غ) و(ح): «لم يذكر فيها».
(3) في (أ): «إلا وسقط».
(4) في (ب): «إنما يقال فيما يتوسط».
(5) قوله: «إلا» ليس في (أ).
(6) في (ب) و(ح): «يريد».
(7) في (ز): «أعلاهما».
(8) في (غ): «زيادة تلك الرواية».
(9) في (أ): «فتأدية».
(10) في (ح) و(ز): «فذهبت».
(11) في (ب): «تمسكًا».
(12) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/7-8 رقم8) في وقت الصلاة، باب وقت الصلاة، من طريق عروة بن الزبير، عن عمر، وهو لم يسمع منه؛ لأنه إنما ولد في آخر خلافة عمر؛ كما في "تهذيب الكمال" (20/11)، فالحديث ضعيف لهذا السبب.
(13) وهو الآتي.
(14) قوله: «الآخرة» ليس في (ب).
(15) في (غ): «حتى إذا كان».
(16) في (ح): «وروى النخعي».
(17) في (ز): «من» بدل: «بين».(2/192)
كما ينفجر النهر. وهو اثنان (1) : الكاذب: وهو المسمى بذنب السرحان، وهو الصاعد المستطيل. والصادق: وهو (2) الممتد المنتشر في الأفق. قال الشاعر (3) :
فإذا رأى الصبح (4) الْمُصَدَّق يَخْفِقُ (5) ... ..................................
وهذا هو الذي يُحرّم الأكل على الصائم (6) وتجزئه الصلاة فيه دون الأول بلا خلاف. واختلف في آخر وقت الصبح: فذهب الجمهور وأئمة الفتيا (7) إلى أن آخر =(2/239)=@ وقتها طلوع أول جرم الشمس، وهو مشهور مذهب مالك، وعلى هذا لا يكون لها عنده وقت ضرورة، ولا يُؤثّم تارك الصلاة إلى ذلك الوقت متعمدًا. وروى عنه ابن القاسم وابن عبد الحكم: أن آخر وقتها الإسفار الأعلى، وعلى هذا فما بعد الإسفار وقت لأصحاب الأعذار، ويؤثّم من أخّر الصلاة إلى ذلك الوقت. وسبب هذا الخلاف: اختلاف الأحاديث الواردة في هذا المعنى. وذلك أن ظاهر هذا الحديث ونص الرواية الأخرى (8) التي قال فيها: «فإذا صليتم الفجر فإنه وقت إلى أن يطلع قرن الشمس الأول»، وفي حديث أبي موسى (9) : «أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بالسائل الفجر في اليوم الثاني حتى انصرف منها والقائل يقول: قد طلعت الشمس أو كادت». وظاهر هذا: أن آخر وقتها يخرج قبل طلوع الشمس بيسير،وهو الذي يُقدّر بإدراك ركعة؛كما قال: «من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح» (10) .
تنبيه: قال مالك والشافعي: التغليس بالصبح أفضل. وقال أبو حنيفة: الأفضل الجمع بين التغليس والإسفار، فإن فاته ذلك فالإسفار أولى من التغليس (11) ، وهذا مخالف لما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله من المداومة على التغليس (12) ، حتى قد قال ابن عباس رضي الله عنهما (13) لما وصف صلاة جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - : «ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس، لم يَعُدْ إلى أن يسفر بها».
وقوله: «فإذا طلعت الشمس فأمسك (14) عن الصلاة»: هذا حجة لأبي حنيفة وأهل الرأي (15) على منع إيقاع شيء من الصلوات فرضها ونفلها عند الطلوع، وقد غلوا في هذا حتى قالوا: إنه لو طلعت عليه الشمس وقد صلى ركعة من &(2/193)&$
__________
(1) في (غ): «اثنتان».
(2) في (غ): «هو» بلا واو.
(3) وهو أبو ذؤيب الهذلي كما في "المفضليات" بشرح الأنباري (ص871)، وفي "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/175)، و"لسان العرب" (9/178)، وفيها: «يفزع» بدل: «يخفق»، وهو عجز بيت، وصدره :
.................................. ... شَعَفَ الكلابُ الضَّارياتُ فؤادَه
وهذا الحال الثور مع الكلاب، يريد أنه يأمن بالليل؛ لأن القُنّاص إنما يجيئون نهارًا، فإذا رأى الصبح فزع.
(4) في (غ): «الفجر».
(5) في (غ): «يخبر». وفي (ز): «مخفف».
(6) في (أ): «على الصائم الأكل».
(7) في (ب) و(غ): «الفتوى».
(8) أي لحديث عبدالله بن عمرو هذا الذي أطال المصنِّف في شرحه، وهي عند مسلم برقم (712/171).
(9) أي الآتي.
(10) تقدم برقم (490).
(11) قوله: «من التغليس» ليس في (ح).
(12) في (ز): «المداومة والتغليس».
(13) كذا قال! وإنما هو أبو مسعود الأنصاري، لا ابن عباس، وكرر الوهم أيضًا (ص...) الآتية. وقد تقدم حديث أبي مسعود برقم (493) الذي فيه إنكار عروة بن الزبير على عمر بن عبدالعزيز تأخيره صلاة العصر، واستشهاده بحديث أبي مسعود الأنصاري في إمامة جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويرويه عن عروة: ابن شهاب الزهري.
وقد رواه الثقات - كالإمام مالك والليث بن سعد - عن الزهري هكذا، ولم يذكر أحد منهم هذه الزيادة: «ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس... »، وإنما زادها: أسامه بن زيد الليثي عن الزهري، وأسامة في حفظه ضعيف، مع مخالفته للأئمة في ذلك.
وقد أخرج الحديث من طريق أسامة بهذه الزيادة: أبو داود في "سننه" (1/278-279 رقم394) في الصلاة، باب ما جاء في المواقيت، وابن خزيمة (1/181 رقم352)، وابن حبان كما في "الإحسان" (4/298، 362-363 رقم1449، 1494) من طريق ابن خزيمة، والحاكم (1/192-193). قال ابن خزيمة: «هذه الزيادة لم يقلها أحد غير أسامة بن زيد».
(14) في (ز) تشبه: «فأسكن».
(15) في (ح): «وأصحاب الرأي».(2/193)
الصبح =(2/240)=@ لفسدت عليه، وهذا بخلاف ما عليه كافة العلماء، فإنهم رأوا أن الفرض لا يتناوله هذا العموم بنصّ قوله - صلى الله عليه وسلم - (1) : «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلِّها إذا ذكرها»، وفي بعض رواياته: «فذلك وقتها (2) »). فجمعوا بين الحديثين على هذا الوجه، والجمع أولى من الترجيح.
وقد تقدم الكلام على قوله: «بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ». وقوله في بعض روايات (3) حديث (4) عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما (5) : «ووقت (6) المغرب ما لم يسقط ثور الشفق». قال الخطابي: هو ثَوَران حمرته واندفاعها. ويُروى: فور (7) بالفاء في غير "الأم" (8) ، وهو بمعنى «ثور»؛ أي: سطوعه وظهوره، من: «فار الماء»؛ إذا اندفع وظهر .
208/أ - عَنْ أَبِي مُوسَى (9) ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ أَتَاهُ سَائِلٌ يَسْأَلُهُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلاةِ؟ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا - وَفِي رِوَايَةٍ: صَلِّ مَعَنَا هَذَيْنِ - يَعْنِي: الْيَوْمَيْنِ، قَالَ: فَأَقَامَ الْفَجْرَ حِينَ انْشَقَّ الْفَجْرُ وَالنَّاسُ لا يَكَادُ يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا - وفِي رِوَايَةٍ: فَأَمَرَ بِلالاً فَأَذَّنَ بِغَلَسٍ، مَكَان: فَقَامَ -، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ بِالظُّهْرِ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، وَالْقَائِلُ يَقُولُ: قَدِ انْتَصَفَ النَّهَارُ، وَهُوَ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُمْ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ بِالْعَصْرِ(1) وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ حِينَ وَقَعَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، ثُمَّ أَخَّرَ الْفَجْرَ مِنَ الْغَدِ حَتَّى انْصَرَفَ مِنْهَا، وَالْقَائِلُ يَقُولُ: قَدْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ أَوْ كَادَتْ، ثُمَّ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى كَانَ قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ بِالأَمْسِ، ثُمَّ أَخَّرَ الْعَصْرَ حَتَّى انْصَرَفَ مِنْهَا، وَالْقَائِلُ يَقُولُ: قَدِ احْمَرَّتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى كَانَ عِنْدَ سُقُوطِ الشَّفَقِ، ثُمَّ أَخَّرَ الْعِشَاءَ حَتَّى كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الأَوَّلِ، ثُمَّ أَصْبَحَ فَدَعَا السَّائِلَ فَقَالَ: «الْوَقْتُ بَيْنَ هَذَيْنِ». وَفِي رِوَايَةٍ: «وَقْتُ صَلاتِكُمْ بَيْنَ مَا رَأَيْتُمْ».
280/ب - وخرّجه مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ (10) ، قال:ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْعَصْرِ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ لَمْ تُخَالِطْهَا صُفْرَةٌ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث أبي موسى - رضي الله عنه - : «فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا»؛ يعني على السائل؛ أي: لم يرد عليه ما يحصل له به بيان (11) ما سأل عنه، وإلا فقد قال له (12) : «صَلِّ مَعَنَا هَذَيْنِ اليومين» (13) ؛ كما جاء في الرواية الأخرى. وفي هذا: جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة. وجاز للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يؤخر بيان ما سأله عنه - وإن جاز على السائل أن يُخْتَرَمَ (14) قبل ذلك -؛ لأن الأصل: استصحاب السلامة، والبقاء إلى مثل هذه المدة، أو أوحي إليه أَنْ (15) يبقى إلى هذه المدة . =(2/241)=@
وقوله: «فَأَقَامَ الْفَجْرَ (16) »)؛ أي: أمر بها فأقيمت؛ كما قال في الرواية الأخرى: «فَأَمَرَ بِلالاً فَأَذَّنَ بِغَلَسٍ»؛ أي: أقام، فسمّى الإقامة أذانًا؛ إذ (17) يحصل بها الإعلام بحضور الصلاة والشروع فيها.
وقوله: «الْوَقْتُ بَيْنَ هَذَيْنِ»، وقوله: «وَقْتُ صَلاتِكُمْ بَيْنَ مَا رَأَيْتُمْ»، وكذلك في حديث جبريل (18) : «الْوَقْتُ بَيْنَ هَذَيْنِ»، هي كلها حجة لمالك وأصحابه على قولهم: إن الوقت الموسع كله للوجوب من أوله إلى آخره، وإن المكلف مخير بين تقديم الصلاة وتأخيرها إلى آخر الوقت، فأي وقت صلى فيه (19) المكلف فقد أدَّى ما &(2/194)&$
__________
(1) كما في حديث أبي هريرة الآتي برقم (561).
(2) هذه الرواية أخرجها الدارقطني (1/423)، والبيهقي(2/219)، من طريق حفص بن أبي العطاف، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة مرفوعًا: «من نسي صلاة، فوقتها إذا ذكرها». وسنده ضعيف، فحفص بن أبي العطاف هذا قال عنه البخاري: «منكر الحديث» كما في "ميزان الاعتدال" (1/560)، وبه أعل البيهقي الحديث.
(3) في (ح): «رواياته».
(4) في (ز) و(غ): «وقت».
(5) في (ب): «عبدالله بن عمر»، وحديثه هو هذا الذي أطال المصنِّف الكلام عليه، ولكن هذه الرواية لم يوردها في "التلخيص"، وهي في الموضع المتقدم برقم (172).
(6) قوله: «حديث» ليس في (ب).
(7) قوله: «فور» ليس في (ح) و(ز).
(8) يعني في غير مسلم، وهو كذلك، فقد أخرجه أبو داود في "سننه" (1/280-281 رقم396) في الصلاة، باب ما جاء في المواقيت.
(9) أخرجه مسلم (1/429رقم614) في المساجد، باب أوقات الصلوات الخمس.
(10) أخرجه مسلم (1/428-429 رقم613) في المساجد، باب أوقات الصلوات الخمس.
(11) قوله: «بيان» سقط من «ز».
(12) قوله: «له» سقط في «ز».
(13) هذه الرواية ليست من طريق أبي موسى، وإنما من طريق بريدة، وسيشير المصنِّف إلى روايته في آخر الحديث.
(14) في (ز): «يحترم»، وفي (غ): «يخرم».
(15) في (ب): «أَنَّه».
(16) في (أ) و(ب) و(ز): «بالفجر»، وفي (غ): «فأقيم الفجر».
(17) قوله: «إذ» في (ز)، بدلها «لا».
(18) أي الذي تقدم تخريجه في شرح الحديث رقم (494)، وهو من رواية جابر في إمامة جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
(19) قوله فيه ليس في (أ).(2/194)
عليه. وقد تخبّط (1) كثير من الناس في هذا المعنى، وطال فيه نزاعهم، وما ذكرناه واضح موافق لظاهر الحديث. وقد ذهب بعض أصحابنا وأصحاب الشافعي إلى =(2/242)=@ أن وقت الوجوب وقت واحد غير معين، وإنما يعينه (2) المكلف بفعله. وذهب الشافعي إلى أن أول الوقت هو الواجب، وإنما ضرب آخره فصلاً بين القضاء والأداء، وهذا باطل بما أنه لو تعين ذلك الوقت للوجوب لأثم من أخر الصلاة عنه إلى غيره، وبالإجماع لا يؤثم. وذهب (3) الحنفية إلى أن وقت (4) الوجوب آخر الوقت. وهذا أيضًا باطل؛ إذ لو كان كذلك (5) لما جاز لأحد أن يوقع الصلاة قبل آخر (6) الوقت، وقد جاز ذلك بالإجماع (7) . ثم الحديث الذي ذكرناه يرد على هذه (8) الفرق كلها .
**************
(64) باب الإبراد بالظهر في شدة الحر
209 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (9) أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ». وَذَكَرَ: «أَنَّ النَّارَ اشْتَكَتْ إِلَى رَبِّهَا، فَأَذِنَ لَهَا فِي كُلِّ عَامٍ بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ».
وَفِي رِوايَةٍ: «فَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ حَرٍّ أَوْ حَرُورٍ فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ، وَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ بَرْدٍ أَوْ زَمْهَرِيرٍ فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الإبراد في شدة الحر
قوله - صلى الله عليه وسلم - : «إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنْ الصلاة». أبردوا؛ أي: أخروها عن ذلك الوقت، وادخلوا بها في وقت البرد، وهو الزمن (10) الذي يتبين فيه انكسار شدة الحر وتوجد (11) فيه برودة ما. يقال: أبرد الرجل؛ أي: صار في برد النهار.
و«عن» (12) في =(2/243)=@ &(2/195)&$
__________
(1) في (ز) رسمت هكذا: «يتحبط»، وفي (غ): «يخبط».
(2) في (غ): «يعين».
(3) في (ب): «وذهبت».
(4) في (ب): «أن آخر وقت»، وفي (ب) ضرب على «آخر».
(5) في (أ): «ذلك بالإجماع».
(6) في (غ): «ضرب الناسخ عليها».
(7) في (ح): «وقد جاز بالإجماع ذلك».
(8) في (ح): «هذا».
(9) أخرجه البخاري(2/15رقم 533) في مواقيت الصلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر،ومسلم(1/431-432رقم617) في المساجد،باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر.
(10) في (ب) و(غ): «الزمان».
(11) في (غ): «ويوجد».
(12) في (أ): «من».(2/195)
قوله: «عن الصلاة»: بمعنى الباء، كما قد روي في بعض طرقه: «أَبْرِدُوا بِالصَّلاةِ» (1) . و«عن» تأتي بمعنى الباء، كما يقال (2) : رميت عن القوس؛ أي: به؛ كما تأتي الباء بمعنى «عن» كما قال (3) :
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصير بأدواء النساء طبيب (4)
أي: عن النساء. وكما قيل في قوله تعالى: {فسئل به خبيرًا} (5) : أى: عنه، وقيل: إن (6) «عن» هنا زائدة؛ أي: أبردوا الصلاة، يقال: أبرد الرجل كذا إذا فعله في برد النهار.
و«فَيْحِ جَهَنَّمَ»: شدة حرها، وشدة غليانها. يقال: فاحت القدر، تفيح: إذا (7) هاجت وغلت. و«النفس»: التنفس (8) . فإذا تنفست في الصيف قوَّى لهبُها حرَّ الشمس، فزاد حرها وتضاعف (9) ، وإذا (10) تنفست في البرد دفع حرها شدة البرد إلى الأرض، وهو الزمهرير الذي ذكر. واختُلف في معنى هذا الحديث؛ فمن العلماء من حمله على ظاهره، وقال (11) : هو لسان مقال محقق، وشكوى محققة، وتنفس محقق؛ إذ هو إخبار من الصادق بأمر جائز، فلا يُحتاج إلى تأويله. وقيل: إن هذا الحديث خرج مخرج التشبيه والتقريب؛ أي: كأنه نار جهنم في الحر، وتكون (12) هذه الشكوى وهذه المقالة لسان حال؛ كما قال:
شكا إليَّ جملي طول السُّرى ... صبر جميل فكلانا مُبْتَلى (13)
والأول أولى؛ لأنه حمل اللفظ (14) على حقيقته، ولا إحالة في شيء من ذلك. =(2/244)=@
وفيه دليل على أن النار قد خلقت، وأنها موجودة، خلافًا لما قالته المعتزلة وغيرهم من أهل البدع: أنها ستخلق في القيامة.
وقوله: «فَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ حَرٍّ أَوْ حَرُورٍ فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ». «أَوْ» هذه تحتمل (15) أن تكون شكًّا من الراوي، فيكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أحدهما، فشك فيه الراوي، فجمعهما بـ«أَوْ». ويحتمل: أن يكون ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - اللفظين، فتكون (16) «أَوْ» للتقسيم والتنويع. و«الحرور»: اشتداد الحر ووَهَجُه (17) بالليل والنهار. فأما (18) السموم فلا يكون إلا بالليل. و«الزمهرير»: شدة البرد .
وبتأخير الظهر في شدة الحر قال &(2/196)&$
__________
(1) لم يورد المصنف هذه الرواية في "التلخيص"، وهي في "صحيح مسلم"(1/430-431 رقم615) في الكتاب والباب السابقين.
(2) في (أ): «يقال».
(3) في (ز) و(غ): «كما قال الشاعر».
(4) البيت لعَلْقَمةَ بن عَبَدَةَ. انظر: «أدب الكاتب» لابن قتيبة بتحقيق الدالي (ص508)، وانظر: "الأغاني" بتحقيق عي النجدي ناصف (20/312).
(5) سورة الفرقان، الآية: 59.
(6) في (غ): «بأن».
(7) في (غ): «أي».
(8) في (أ): «التنفيس».
(9) من قوله: «فإذا تنفست في الصيف... » إلى هنا ليس في (ح).
(10) في (غ): «فإذا».
(11) في (غ): «فقال».
(12) في (ح): «وقد تكون».
(13) ذكره في "لسان العرب" (14/440)، ولم ينسبه لأحد، ووقع فيه «صبرًا جُمَيْلي».
(14) في (ح): «حملٌ للفظ».
(15) في (ح) و(غ): «يحتمل».
(16) في (ز): «فيكون».
(17) في (ح): «وفيحه».
(18) في (غ): «وأما».(2/196)
مالك وأهل الرأي، ورأوا أنها في ذلك الوقت أفضل. وقَدَّرَ أصحابنا هذا الوقت بزيادة على ربع القامة إلى وسط الوقت، وهذا في الجماعة عند أصحابنا. واختلفوا (1) في المنفرد: هل يُبرد أم لا؟ وقال الشافعي: تقديم الصلوات كلها للفذ والجماعة أفضل في الشتاء والصيف (2) إلا للإمام الذي ينتاب (3) إليه الناس من بعد (4) ، فيبرد بالظهر في الصيف دون غيره. ولم يقل أحد بالإبراد في غير الظهر إلا أشهب (5) ، فقال به في العصر، وقال: يؤخر (6) ربع القامة. ورأى (7) أحمد بن حنبل تأخير (8) العشاء الآخرة في الصيف بالليل كما يؤخر (9) الظهر، وعكسه ابن حبيب، فرأى تأخيرها في الشتاء؛ لطول الليل، وتعجيلها في الصيف؛ لقصره . =(2/245)=@
210 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ (10) قَالَ: أَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالظُّهْرِ، فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أَبْرِدْ أَبْرِدْ»، أَوْ قَالَ: «انْتَظِرِ انْتَظِرْ»، وَقَالَ: «إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلاةِ». قَالَ أَبُو ذَرٍّ: حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث أبي ذر - رضي الله عنه - : «حَتَّى (11) رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ»؛ هي جمع تلّ، وهي: الروابي، وظلها لا يظهر إلا بعد تمكن الفيء واستطالته جدًّا، بخلاف الأشياء المنتصبة التي يظهر فيئها (12) سريعًا في أسفلها؛ لاعتدال أعلاها وأسفلها.
**************
(65) باب تعجيل الظهر بعد الإبراد وفي زمن البرد
211 - عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ (13) قَالَ: كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الظُّهْرَ إِذَا دَحَضَتِ الشَّمْسُ.
212 - عَنْ خَبَّابِ (14) قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصَّلاةَ فِي الرَّمْضَاءِ فَلَمْ يُشْكِنَا. قَالَ زُهَيْرٌ: قُلْتُ لأَبِي إِسْحَاقَ: أَفِي الظُّهْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: أَفِي تَعْجِيلِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب تعجيل الظهر بعد الإبراد وفي زمن البرد
قوله: «كَانَ (15) يُصَلِّي الظُّهْرَ إِذَا دَحَضَتِ الشَّمْسُ»؛ أي: زلقت وزالت عن &(2/197)&$
__________
(1) في (ح): «وقد اختلفوا».
(2) في (غ): «في الصيف والشتاء».
(3) في (ز): تشبه «يلتاب»، وفي (غ): تشبه «تأتي».
(4) في (ح) و(ز): «بعيد».
(5) في (ز): «إلاشهب».
(6) في (ب) و(غ): «تؤخر».
(7) في (غ): «وقال».
(8) في (غ): «بتأخير».
(9) في (ب) و(غ): «تؤخر».
(10) أخرجه البخاري (2/18 رقم 535) في مواقيت الصلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر،ومسلم (1/431رقم616) في المساجد، باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر.
(11) قوله: «حتى» ليس في (ب).
(12) من قوله: «إلا بعد تمكن الفيء... » إلى هنا مكرر في (ح) وفي (ز): «فيها» بدل «فينها».
(13) أخرجه مسلم (1/432رقم618) في المساجد، باب استحباب تقديم الظهر في أول الوقت في غير شدة الحر.
(14) أخرجه مسلم (1/433رقم619) في المساجد، باب استحباب تقديم الظهر في أول الوقت في غير شدة الحر.
(15) في (ز) و(غ): «وكان» وفي (ب»: «فكان».(2/197)
كبد السماء. والدَّحَض: الزلق. كان هذا منه - صلى الله عليه وسلم - في زمن البرد؛ كما قد (1) رواه أنس - رضي الله عنه - : «أنه إذا كان الحر أبرد (2) بالصلاة، وإذا كان البرد عجل» (3) . =(2/246)=@
وقوله: «شَكَوْنَا (4) إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصَّلاةَ فِي الرَّمْضَاءِ»؛ أي: شدة ما يلقون (5) من حرّ الأرض المحماة بالشمس في أقدامهم إذا صَلَّوا .
وقوله: «فَلَمْ (6) يُشْكِنَا»؛ أي: لم يسعف طِلْبَتَنا (7) ، ولم يجبنا إلى مطلوبنا، يقال: شكوت إلى فلان: إذا رفعت إليه حاجتك، وأشكيته (8) : إذا ألجأته إلى الشكوى، وأشكيته (9) : إذا نزعت عنه الشكوى (10) . كما قال:
تُشكي المحبَّ وتشكو وهي ظالمة ... كالقوس تصمي (11) الرمايا وهي مرنان (12)
ويحتمل أن يكون هذا منه - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يؤمر بالإبراد، ويحتمل أن يحمل على أنهم طلبوا زيادة تأخير الظهر على وقت الإبراد فلم يجبهم إلى ذلك. وقد قال ثعلب في قوله: «فَلَمْ (13) يُشْكِنَا»: أي: لم (14) يحوجنا إلى الشكوى، ورخص لنا في الإبراد، حكاه عنه القاضي أبو الفرج، وعلى هذا تكون الأحاديث كلها متواردة على معنى واحد . =(2/247)=@
213 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (15) قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنَ الأَرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول أنس - رضي الله عنه - : «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي شِدَّةِ الْحَرِّ»؛ ليس فيه دليل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يبرد، بل قد توجد سَوْرةُ الحر وشدته بعد الإبراد، إلا أنها أخف مما قبله، والله أعلم. &(2/198)&$
__________
(1) قوله: «قد» ليس في (ب) و(غ).
(2) في (غ): «أبردوا» وكتب فوقها «صح».
(3) أخرجه البخاري في "صحيحه" (2/388 رقم906) في الجمعة، باب إذا اشتد الحر يوم الجمعة.
(4) في (ب): «فشكونا».
(5) في (ب): «في شدة ما يكون».
(6) في (غ): «ولم».
(7) في (غ): «لم يسعفنا في طِلْبتَنا».
(8) في (ز): «واشتكيته».
(9) في (ح): «أشكيته».
(10) في (ح): «وأشكيته إذا نزعت عنه الشكوى، شكيته: إذا ألجاته إلى الشكوى».
(11) في (غ): «يصمي».
(12) انظر: الديوان: (6/3422) بتحقيق حسين نصار، وانظر: "لسان العرب" (14/440) البيت لابن الرومي.
(13) قوله: «فلم» سقط من (غ) و(ب).
(14) في (ح): «فلم».
(15) أخرجه البخاري (1/492 رقم385) في الصلاة، باب السجود على الثوب في شدة الحر، ومسلم (1/433رقم620) في المساجد، باب استحباب تقديم الظهر في أول الوقت في غير شدة الحر.(2/198)
وقوله: «فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنَ الأَرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ»: فيه ما يدل على الصلاة على البُسُط والثياب؛ لا سيما عند الضرورة والمشقة، وعلى أن العمل القليل في الصلاة لا يفسدها .
**************
(66) باب تعجيل صلاة العصر
214 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (1) : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ، فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْعَوَالِي، فَيَأْتِي الْعَوَالِيَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ. وفِي روايةٍ: إِلَى قُبَاءٍ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب تعجيل العصر
قوله: «كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ»، قال الخطابي: حياتها صفاء لونها قبل أن تصفر أو تتغير، وهذا مثل قوله: بيضاء نقيّة. وقال غيره: حياتها: بقاء حرِّها (2) . =(2/248)=@
وقوله: «فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْعَوَالِي، فَيَأْتِي الْعَوَالِيَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ»، فسر مالك العوالي بثلاثة (3) أميال من المدينه (4) ، وقال غيره: هي مفترقة (5) ، فأدناها ميلان، وأبعدها ثمانية أميال (6) .
قال الشيخ رحمه الله: وهذا إنما يتبين (7) في الأيام الطويلة إذا عجلت العصر في أول وقتها. وفي الرواية الأخرى: «إلى قباء» مكان «الْعَوَالِي»، وكلاهما صحيح الرواية والمعنى، فإن قباء من أدنى العوالي، وبينها وبين المدينة ميلان أو نحوها (8) ، قاله الباجي رحمه الله. &(2/199)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (2/26 رقم548) في الصلاة، باب وقت العصر، ومسلم (1/433 رقم621) في المساجد، باب استحباب التبكير بالعصر.
(2) قوله: «وقال غيره: حياتها: بقاء حرها» ليس في (ح).
(3) في (ح): «ثلاثة».
(4) قوله: «من المدينة» ليس في (ب).
(5) في (غ): «مفسرة».
(6) من قوله: «من المدينة...» إلى هنا سقط من (ب).
(7) في (ب) و(ح) و(ز) و(غ): «إنما يتفق».
(8) في (ح): «أو نحوهما».(2/199)
215 - وَعَنِ الْعَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (1) ؛ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي دَارِهِ بِالْبَصْرَةِ حِينَ انْصَرَفَ مِنَ الظُّهْرِ، وَدَارُهُ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا دَخَلْنَا عَلَيْهِ قَالَ: أَصَلَّيْتُمُ الْعَصْرَ؟ فَقُلْنَا لَهُ: إِنَّمَا انْصَرَفْنَا السَّاعَةَ مِنَ الظُّهْرِ. قَالَ: فَصَلَّوُا الْعَصْرَ. فَقُمْنَا فَصَلَّيْنَا، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «تِلْكَ صَلاةُ الْمُنَافِقِ، يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا لا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلا قَلِيلاً».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «تِلْكَ صَلاةُ الْمُنَافِقِ (2) ») إشارة إلى صلاة العصر المخرجة (3) عن وقتها. ومعناه: أن الذي يخرجها عن وقتها يشبه فعله ذلك فعل المنافق الذي يتهاون بأمرها، ويضيعها حتى يخرجها عن وقتها؛ ولذلك وصفه بقوله: «يَجْلِسُ =(2/249)=@ يَرْقُبُ الشَّمْسَ»، وهذا (4) عبارة عن عدم مبالاته بها وتضييعه لها، حتى إذا رأى الشمس (5) قد حان غروبها، قام يصليها على ما ذكر، رياءً وتلبيسًا. وقد تقدّم الكلام (6) على «قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ».
وهذا الحديث (7) يدل على أن آخر وقت إباحة العصر: ما لم تصفر الشمس، وما لم يصر ظل كل شيء مثليه على ما قدمناه .
216 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ (8) قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الظُّهْرَ، ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَوَجَدْنَاهُ يُصَلِّي الْعَصْرَ، فَقُلْتُ: يَا عَمِّ! مَا هَذِهِ الصَّلاةُ الَّتِي صَلَّيْتَ؟ قَالَ: الْعَصْرُ، وَهَذِهِ صَلاةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الَّتِي كُنَّا نُصَلِّي مَعَهُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله (9) : «قام (10) فنقرها أربعًا»؛ هذا النقر عبارة عن سرعة حركاته في أركان الصلاة في ركوعها وسجودها، وخفة ذلك بحيث لا يُتم ركوعها ولا سجودها، فشّبهه بنقر الطائر، وهو ذم لمن فعل (11) ذلك. وفيه ردٌّ على من قال: إن الواجب من =(2/250)=@ أركان الصلاة ومن الفصل بين أركانها أقل ما ينطلق (12) عليه الاسم؛ لأن من اقتصر على ذلك صدق عليه أنه نقر الصلاة، فدخل في الذم المترتب على ذلك.
وقوله: «لا يذكر الله فيها إلا قليلا»؛ أي: لسرعة حركاته فيها، أو ليرائي (13) بالقليل الذي يذكره عند تخيله (14) من يلاحظه من الناس.
217 - وَعَن رَافِعَ بْنِ خَدِيجٍ (15) قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ نَنْحَرُ الْجَزُورَ، فَتُقْسَمُ عَشَرَ قِسَمٍ، ثُمَّ تُطْبَخُ، فَنَأْكُلُ لَحْمًا نَضِيجًا قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ، ثُمَّ نَنْحَرُ الْجَزُورَ...» الحديث. هذا وما قبله يدل على فساد مذهب أبي حنيفة رحمه الله؛ إذ قال: إن (16) أول وقت العصر: إذا صار ظل كل شيء مثليه؛ إذ لا يتسع الوقت على رأيه لمثل هذا الفعل، ولا لأن يأتوا العوالي والشمس مرتفعة، بل يتمكن من هذا (17) كله إذا صُلِّيِتْ في أول المثل (18) الثاني، وكان النهار طويلاً، والله أعلم (19) (20) .
والجزور من الإبل، والجزرة من غيرها: وهو ما يعد من ذلك لِلْجَزْرِ، وهو الشق والقطع. وتأخير عمر بن عبد العزيز الظهر كان على عادة بني أمية في تأخيرهم الصلوات؛ كما قد أخر عمر (21) العصر حين (22) أنكر عليه عروة (23) ، ويحتمل &(2/200)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/434 رقم622) في المساجد، باب استحباب التبكير بالعصر.
(2) في (ح) و(ز): «المنافقين».
(3) في (ح): «المتخلفة».
(4) في (ب) و(ح): «وهذه». ... ...
(5) في (ب): «رأى أن الشمس».
(6) في (ح): «القول».
(7) في (غ): «الخبر».
(8) أخرجه البخاري (2/26 رقم549) في مواقيت الصلاة، باب وقت العصر، ومسلم (1/434 رقم623) في المساجد، باب استحباب التبكير بالعصر.
(9) في جميع نسخ المفهم قبل هذا الموضع جاء المقطع الآتي بعد قليل؛ وهوقوله: [ وقوله: «كنا نصلي العصر ثم ننحر الجزور»...] إلى قوله: [ وكان النهار طويلاً، والله أعلم ]، فأخرته تحت الحديث رقم (506) لكونه شرحًا له.
(10) في (غ): «فقام».
(11) في (ز): «يفعل».
(12) في (ز): «ينطق».
(13) في (ح): «أي». وفي (ب): «وَ» بدلاً من: «أو».
(14) في (ح): «تخليه».
(15) أخرجه البخاري (5/128 رقم2485) في الشركة، باب الشركة في الطعام والنهد والعرض، ومسلم (1/435 رقم625) في المساجد، باب استحباب التبكير بالعصر.
(16) قوله: «إن» ليس في (ح).
(17) في (ح): «من مثل هذا».
(18) في (غ): «الميل».
(19) قوله: «والله أعلم» ليس في (ب).
(20) من قوله: [ وقوله: «كنا نصلي العصر ثم ننحر الجزور... »] إلى هنا جاء في ثنايا شرح الحديث رقم (504) فأخرته هنا لكونه شرحًا للحديث رقم (506).
(21) قوله: «عمر» في (ز) و(غ) و(ب).
(22) في (ح): «حتى».
(23) كما في الحديث الذي تقدم برقم (493).(2/200)
أن يكون ذلك التأخير منه نادرًا (1) لشغل شغله من أمور المسلمين، والله تعالى أعلم.
218 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ (2) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ الَّذِي تَفُوتُهُ صَلاةُ الْعَصْرِ كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ»؛ رويناه (3) برفع أهله وماله، ونصبهما. فالرفع على أن (4) وتِرَ بمعنى: نُزِعَ وأُخِذَ (5) ، ومحمول عليه، فيكون «أَهْلَهُ» هو المفعول الذي لم يسم فاعله، «وَمَالَهُ» معطوف عليه، والنصب حملٌ لِوُتِرَ (6) على سُلِبَ، وهو يتعدى إلى مفعولين بنفسه؛ تقول: سُلِبَ (7) زيدٌ ثوبَه، فتقيم الأول مقام الفاعل، وتترك الثاني منصوبًا على حاله. وقد اختلفوا في تأويل هذا الحديث: فذهب ابن وهب إلى أن هذا إنما هو (8) لمن لم يصلها في الوقت المختار، وقاله =(2/251)=@ الداودي، فيكون معناه على هذا: إن ما فاته من الثواب يلحقه عليه من الأسف والحزن مثل ما يلحق من أُخذ ماله وأهله منه (9) . وذهب الأصيلي إلى أن هذا الفوات إنما هو بغروب الشمس، ويكون (10) معناه على هذا ما قاله أبو عمر رحمه الله: إنه يكون بمنزلة الذي يصاب بأهله وماله إصابة يطلب بها وترًا، فلا يلحقه، فيجتمع عليه غمُّ (11) المصائب، وغمُّ (12) مقاساة طلب الوتر. وقال الداودي: معناه: أنه يجب عليه من الأسف والاسترجاع
مثل الذي يجب على من وتر (13) أهله وماله؛ لأنه أتى بكبيرة يجب عليه الندم والأسف لأجلها.
وقيل: هذا الفوات هو أن يؤخرها إلى أن تصفر الشمس، وقد روي مفسرًا من رواية الأوزاعي في الحديث؛ قال فيه: وفواتها أن تدخل (14) الشمس (15) صفرة (16) . وأما تخصيص هذا بالعصر، فقال أبو عمر (17) : يحتمل أن جوابه فيه (18) على سؤال سائل عن العصر، وعلى هذا يكون حكم من فاتته صلاة من الصلوات كذلك. وقيل: خصت بذلك لكونها مشهودة للملائكة عند تعاقبهم، وعلى هذا يشاركها في ذلك الصبح؛ إذ (19) الملائكة يتعاقبون فيها (20) . وقيل: خصت بذلك تأكيدًا وحضًّا (21) على المثابرة عليها؛ لأنها
صلاة تأتي في وقت اشتغال الناس. وعلى هذا فالصبح أولى بذلك (22) ؛ لأنها تأتي وقت (23) النوم. ويحتمل أن يقال: إنما (24) خصت &(2/201)&$
__________
(1) في (غ): «نادرة».
(2) أخرجه البخاري (2/30 رقم552) في مواقيت الصلاة، باب إثم من فاتته العصر، ومسلم (1/435 رقم626) في المساجد، باب التغليظ في تفويت صلاة العصر.
(3) في (ز): «ورويناه».
(4) قوله: «أن» ليس في (ب).
(5) قوله: «وأَخَذَ» ضبطها في (ب) بفتح الأحرف الثلاثة.
(6) في (ح): «الوتر». وفي (غ): «وتر».
(7) في (غ): «سلبت».
(8) قوله: «إنما هو» ليس في (غ).
(9) قوله: «منه» ليس في (أ).
(10) في (ح): «فيكون».
(11) في (ح): «هم المصاب وهم».
(12) في (ح): «هم المصاب وهم».
(13) في (ح): «مثل الذي يمسه عذاب من وتر».
(14) في (غ): «يدخل».
(15) من قوله: «وقد ورد مفسرًا.... » إلى هنا ليس في (ح).
(16) وبهذا اللفظ ذكره ابن حجر في "الفتح" (2/31) وعزاه لأبي داود. وقد أخرجه أبو داود (1/290 رقم415) في الصلاة، باب وقت صلاة العصر من طريق الوليد بن مسلم قال: قال أبو عمرو - يعني الأوزاعي -: وذلك أن ترى ما على الأرض من الشمس صفراء.
هذا هو لفظ أبي داود، وكذا ذكره المزي عنه في "تحفة الأشراف" (13/273 رقم 18965). والوليد بن مسلم مشهور بالتدليس، ولم يصَّرح بالسماع.
(17) يعني: ابن عبدالبر.
(18) قوله: «فيه» ليس في (غ).
(19) في (ب): «لأن».
(20) سيأتي الحديث في هذا برقم (513).
(21) في (أ) و(ب): «وخطا».
(22) من قوله: «تأكيدًا وحضًّا... » إلى هنا ليس في (ح).
(23) في (ب) و(غ): «في وقت».
(24) في (ب): «إنها».(2/201)
بذلك لأنها الصلاة الوسطى، كما سيأتي. وقد جاء في البخاري (1) : «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله». قال الداودي: ليس ذلك خاصًّا بالعصر، بل ذلك حكم غيرها من الصلوات. وسيأتي الكلام على الحَبْطِ إن شاء الله تعالى. =(2/252)=@
*************
(67) باب ما جاء في الصلاة الوسطى
219 - عَنْ عَلِيٍّ (2) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الأَحْزَاب: «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاةِ الْوُسْطَى صَلاةِ الْعَصْرِ مَلأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا»، ثُمَّ صَلاَّهَا بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ: بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ما جاء في الصلاة الوسطى
قوله: «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاةِ الْوُسْطَى»: اختلفوا في الصلاة الوسطى، فقيل: هي مبهمة ليُحَافَظَ على الصلوات كلها. وقيل: الجمعة. وقيل: الصلوات &(2/202)&$
__________
(1) انظر "صحيح البخاري" (1/31 رقم553) كتاب مواقيت الصلاة، باب من ترك العصر.
(2) أخرجه البخاري (6/105 رقم2931) في الجهاد،باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، ومسلم (1/436 رقم627) في المساجد، باب التغليظ في تفويت صلاة العصر.(2/202)
الخمس، قاله معاذ (1) ، قال: لأنها أوسط الدين. وقال ابن عباس (2) : هي الصبح، ووافقه مالك والشافعي (3) . وقال زيد بن ثابت (4) وعائشة (5) وأبو سعيد الخدري - رضي الله عنهم - (6) : هي الظهر، وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : هي العصر (7) ، ووافقه أبو حنيفة والشافعي (8) ، وقال قبيصة بن ذؤيب: هي المغرب. وقال غيره: هي العتمة. وأضعف هذه الأقوال: قول (9) من قال: هي الصلوات كلها؛ لأن ذلك يؤدى إلى خلاف عادة الفصاحة (10) من أوجه:
أحدها: أن الفصحاء لا يذكرون شيئًا (11) مفصلاً مبينًا (12) ، ثم يذكرونه مجملاً، وإنما عادتهم (13) أن يشيروا إلى مجمل أو كلي، ثم يفصلوه (14) ؛ كقوله تعالى: {فيهما (15) فاكهة ونخل ورمان} (16) ، وقد قال (17) الله (18) تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} (19) ، فالصلوات (20) مبيَّن، والصلاة الوسطى مجمل.
وثانيها: أن الفصحاء لا يطلقون لفظ الجمع (21) ويعطفون عليه أحد مفرداته، ويريدون (22) بذلك المفرد ذلك الجمع، فإن ذلك في غاية العي والإلباس.
وثالثها: أنه لو أراد بالصلاة الوسطى الصلوات (23) ؛ لكان كأنه قال: (حافظوا على الصلوات (24) والصلوات (25) ». ويريد بالثاني الأول، ولو كان كذلك لما كان فصيحًا في لفظه، ولا صحيحًا في معناه؛ إذ لا يحصل باللفظ الثاني تأكيد للأول؛ لأنه =(2/253)=@ معطوف عليه (26) ، ولا يفيد معنى آخر، فيكون حشوًا. وحمل كلام الله تعالى على شيء من هذه الثلاثة غير مسوّغ ولا جائز. وسبب اختلاف العلماء القائلين بالتعيين: صلاحية «الوسطى»؛ لأن يراد به التوسطُ في العدد أو في الزمان. فإن راعينا أعداد الركعات، أدّى إلى أنها المغرب؛ لأن أعداد (27) الصلوات أربع ركعات، وأقلها ركعتان، وأوسطها ثلاث، وهي المغرب. وإن راعينا أعداد الصلوات أنفسها، فما من صلاة إلا وهي متوسطة بين شفعين؛ إذ الصلوات خمس (28) . وإن راعينا الأوسط من الزمان؛ كان الأبين أنها الصبح؛ لأنها بين (29) صلاتي نهار محقق، &(2/203)&$
__________
(1) وذكره الحافظ في "الفتح" (8/196)- ولعله أخذه عن المصنِّف -، ولم يعزه لأحد، وإن كان ظاهر عبارته قد يفهم منه نسبته لابن أبي حاتم، إلا أن ابن أبي حاتم لم يخرجه، وإنما أخرج حديث ابن عمر الذي صرح الحافظ بأن ابن أبي حاتم أخرجه.
(2) أخرجه سعيد بن منصور (3/915 رقم402) وغيره، وبينت في تعليقي على "سنن سعيد " أنه صحيح عن ابن عباس.
(3) قوله: «والشافعي» ليس في (أ).
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (2/246 رقم8617) في الصلاة،باب في قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى}، كلاهما من طريق شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر، عن زيد بن ثابت قال: الصلاة الوسطى: صلاة الظهر. وسنده صحيح.
(5) أخرجه عبدالرزاق (1/577-578 رقم2200) عن معمر، عن سعيد بن عبدالرحمن الجحشي، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: أرسل زيد بن ثابت مولاه حرملة إلى عائشة يسألها عن الصلاة الوسطى، قالت: هي الظهر.
وسنده حسن، وعلقه الترمذي (1/342) في الصلاة، باب ما جاء في صلاة الوسطى أنها العصر.
(6) أخرجه ابن جرير (5/201-202، 204 رقم5451، 5457)، والبيهقي (1/458-459)، كلاهما من طريق زهرة بن معبد، قال: حدثني سعيد بن المسيب قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: الصلاة الوسطى هي الظهر. وسنده صحيح.
(7) أخرجه سعيد بن منصور(3/901رقم394) بسند صحيح عنه،ويؤيده حديث الباب.
(8) قوله: «والشافعي» ليس في (ح) و(ز) و(غ) و(ب).
(9) قوله: «قول» ليس في (ح) و(غ).
(10) في (ح) و(ز) و(غ) و(ب): «الفصحاء».
(11) في (غ): «الشيء».
(12) قوله: «مبينًا» ليس في (ب).
(13) في (ح): «عاداتهم».
(14) في (أ) و(ح) و(غ) و(ز): «يفصلونه».
(15) في (ح): «فها»، وفي (ز) و(غ): «فيها».
(16) سورة الرحمن، الآية: 68.
(17) قوله: «وقد» ليس في (غ) وفي (ب): «وقال».
(18) قوله: «الله» ليس في (أ).
(19) سورة البقرة، الآية: 238.
(20) في (ب) و(ز): «والصلوات».
(21) في (ح): «الجميع».
(22) في (ز): «ويجدون».
(23) قوله: «الصلوات» ليس في (ح).
(24) في (ز) تشبه: «أنصلوات».
(25) في (ح): «والصلاة الوسطى».
(26) قوله: «عليه» ليس في (ح).
(27) في (ب): «لأن أكثر أعداد».
(28) من قوله: «وإن راعينا أعداد الصلوات... » إلى هنا ليس في (ح).
(29) في (غ): «من».(2/203)
وهما الظهر والعصر، وبين (1) صلاتي ليل محقق وهما المغرب والعشاء. فأما وقت الصبح فوقت متردد بين النهار والليل.
قال الشيخ رحمه الله- والله أعلم-: لا يصلح هذا الذي ذكر أن يكون سببًا (2) للخلاف فيها؛ إذ لا مناسبة لما ذكر لكون (3) هذه الصلاة أفضل أو أوكد من غيرها. أما أعداد الركعات، فالمناسب هو أن تكون الرباعية أفضل؛ لأنها أكثر ركعات وأكثر عملاً (4) . والقاعدة: أن ما كثر عمله كثر ثوابه. وأما مراعاة أعداد الصلوات؛ فيلزم منه أن تكون كل صلاة هي الوسطى، وهو الذي أبطلناه، وأيضا فلا مناسبة بين ذلك وبين أكثرية الثواب. وأما اعتبارها من حيث الأزمان فغير مناسب أيضًا؛ لأن نسبة الصلوات إلى الأزمان كلها من حيث الزمانية واحدة، فإن فرض شيء يكون في بعض الأزمان، فذلك لأمر خارج عن الأزمان (5) . والذي يظهر لي أن السبب في خلافهم (6) فيها: اختلافهم في مفهوم الكتاب والسنة الواردة في ذلك المعنى، ونحن نتكلم على ما ورد في ذلك بحسب ما يقتضيه مساق الكلام وصحيح الأحاديث إن شاء الله تعالى فنقول:
إن قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} هو (7) من باب قوله =(2/254)=@ تعالى: {فيهما (8) فاكهة ونخل ورمان} (9) ، وقوله: {من كان عدوًّا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال (10) } (11) ، فخص الرُّمّان والنخل (12) ،وجبريل وميكال (13) بالذكر - وإن كانوا قد دخلوا فيما قبل بحكم العموم - تشريفًا وتكريمًا. وإذا كان ذلك (14) كذلك؛ فلهذه الصلاة المعبر عنها بالوسطى شرفيَّة (15) وفضيلة ليست لغيرها، غير أن هذه الصلاة الشريفة لم يعينها الله تعالى في القرآن، فوجب أن يبحث (16) عن تعيينها في السنّة (17) ، فبحثنا عن (18) ذلك فوجدنا ما يعيِّنها. وأصح ما في ذلك أنها العصر على ما في حديث علي، وأنصّ ما في ذلك ما &(2/204)&$
__________
(1) في (غ): «ومن».
(2) في (غ): «رسمت هكذا»: «مبينى».
(3) في (غ): «بكون».
(4) في (ح) و(أ) و(ب) و(ز): «عمل». [وكرر الهامش مرة أخرى وكتب فيه في (ب): «لأن أكثر أعداد»].
(5) في (أ): «الأزمان».
(6) في (ح): «اختلافهم».
(7) في (ح): «وهو».
(8) في (غ): «فيها».
(9) سورة الرحمن، الآية: 68.
(10) في (أ) و(غ): «وميكايل».
(11) سورة البقرة، الآية: 98.
(12) في (أ): «والنخيل».
(13) في (أ) و(غ): «وميكايل».
(14) قوله: «ذلك» ليس في (أ) و(ز) و(ب).
(15) في (غ): «مسرقية».
(16) في (غ): «نبحث».
(17) في (ح): «أن يبحث عنها في السنة».
(18) في (ز) و(ب) و(غ): «في ذلك».(2/204)
ذكره (1) الترمذي (2) وصححه، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : «الصَّلاةِ الْوُسْطَى: صَلاةِ الْعَصْرِ»، وهذا (3) نص في الغرض، غير أنه قد جاء ما يشعث (4) التعويل عليه، وهو ما ذكره البراء بن عازب رضي الله عنهما (5) ؛ وذلك أنه قال: «نزلت هذه الآية: (حافظوا على الصلوات وصلاة العصر (6) »، فقرأناها (7) ما شاء الله، ثم نسخها الله فنزلت: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى}، فلزم من هذا أنها بعد أن عُيِّنت نُسخ تعيينها وأبهمت (8) ، فارتفع التعيين، ولم يمكنَّا أن نتمسك بالأحاديث المتقدمة، فلما انبهم (9) أمر تعيينها، أخذ العلماء يستدلون على تعيينها بما ظهر لكل واحد منهم بما (10) يناسب الأفضلية. فذهب مالك وأهل المدينة إلى أن الصبح أولى بذلك؛ لكونها (11) تأتي في وقت نوم وركون إلى الراحة واستصعاب الطهارة، فتكثر (12) المشقة في المحافظة عليها (13) أكثر من غيرها، فتكون هي الأحق (14) بكونها أفضل. وأيضًا فإنه وقت يتمكنى الإنسان فيه (15) من إحضار فهمه وتفرغه (16) للصلاة؛ لأن علاقات الليل قد انقطعت بالنوم، وأشغال النهار بعد لم تأت؛ ولذلك قال تعالى: {إن قرآن الفجر كان مشهودًا} (17) ؛ أي: يحضره القارئ بفراغ ذهنه على أحد التأويلات، وهو =(2/255)=@ أحسنها، وبنحوٍ من هذا يستدل لسائرها من الصلوات، إلا أن الصبح أدخل في هذا المعنى. وعلى الجملة فهذا النحو هو الذي يمكن أن يكون باعثًا لكل من المختلفين على تعيين ما عينه من الصلوات بحسب ما غلب على ظنه من أرجحية ما عُيِّن. والذي يظهر لي بعد أن ثبت نسخ التعيين: أن القول (18) قول من قال: إن الله تعالى أخفاها في جملة الصلوات، ليحافظ على الكل؛ كما فعل في ليلة القدر وساعة الجمعة، والله تعالى أعلم.
220 - وَمِنْ حَدِيثِ عَبْداللهِ (19) قَالَ: حَبَسَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَلاةِ الْعَصْرِ حَتَّى احْمَرَّتِ الشَّمْسُ أَوِ اصْفَرَّتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : «شَغَلُونَا ...». وَذَكَرَ نَحْوَهُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «شَغَلُونَا»: يحتمل أنه نسيها لشغله بالعدو، ويحتمل أن يكونوا لم يمكنوه منها، ولم يفرغوه لفعلها، ويحتمل أن يكون أخرها قصدًا لأجل شغله بالعدو، وعلى هذا يكون هذا التأخير لأجل القتال (20) مشروعًا، ثم (21) نسخ بصلاة الخوف. وقد ذهب مكحول والشاميون إلى جواز تأخير صلاة الخوف إذا (22) لم يتمكن &(2/205)&$
__________
(1) في (غ): «ما ذكر».
(2) في "جامعه" (1/340-341 رقم182)في الصلاة، باب ما جاء في صلاة الوسطى أنها العصر، و(5/202، 203 رقم2983، 2985) في تفسير سورة البقرة من كتاب التفسير، من حديث سمرة بن جندب وعبدالله بن مسعود، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «صلاة الوسطى: صلاة العصر». قال الترمذي عن الحديثين: «هذا حديث حسن صحيح»، ويشهد له حديث علي - حديث الباب -، فإن فيه: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر».
(3) في (ز): «هذا».
(4) في (غ): «يشغب».
(5) وهو الحديث الآتي قريبًا برقم (511).
(6) في (ح): «وصلاة الوسطى».
(7) في (أ) و(ح) و(ز): «فقرأناه» وفي (غ): «فقرأنا»، والمثبت من (ب) والموضع الآتي من التلخيص رقم (511).
(8) ذكر الحافظ في "الفتح" (8/197) أن في هذه الدعوى نظرًا، وقال: «بل فيه - أي في حديث البراء -: أنها عُيِّنت ثم وصفت، ولهذا قال الرجل: فهي إذًا صلاة العصر، ولم ينكر عليه البراء. نعم، جواب البراء يشعر بالتوقف لما نظر فيه من الاحتمال، وهذا لا يدفع التصريح بها في حديث علي».
(9) في (ح) و(ز): و(غ): «أبهم».
(10) في (ب) و(غ): «مما».
(11) في (ح): «لأنها».
(12) في (غ): «فتكبر».
(13) قوله: «عليها» ليس في (أ).
(14) في (غ): «اللاحق».
(15) في (ب): «فيه الإنسان».
(16) في (ز): «ولفرغه».
(17) سورة الإسراء، الآية: 78.
(18) في (ح): «أن قول من قال».
(19) أخرجه مسلم (1/437 رقم628) في المساجد، باب الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى صلاة العصر.
(20) في (ب): «لأجل الأفعال».
(21) قوله: «ثم» سقط من (غ).
(22) في (غ): «إذا».(2/205)
أداؤها معه في الوقت إلى وقت الأمن. والصحيح الذي عليه الجمهور ألاَّ يؤخرها ويصليها على سنتها، على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
وقوله: «ثم صلاّها بين العشاءين المغرب والعشاء»؛ ظاهر هذا أنه صلى العصر المتروكة بعد أن صلى المغرب، وليس بصحيح بدليل - ما في (1) حديث جابر - رضي الله عنه - (2) ، قال: «فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العصر بعد ما غربت (3) الشمس، ثم صلى بعدها المغرب» وهذا نص، وإنما أراد بقوله: بين العشاءين: بين (4) وقتي العشاءين، فإن =(2/256)=@ تأخيرها كان منه إلى أن غربت الشمس، ثم توضأ، ثم أوقعها بعد الغروب (5) قبل أن يصلي المغرب. وقد روى الترمذي (6) عن أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود عن أبيه: أَنَّ المشركين شغلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أربع صلوات يوم الخندق حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فأمر بلالاً فأذن، ثم أقام (7) فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء. وبهذه (8) الأحاديث استدل جميع العلماء على أن من فاتته صلوات قضاها مرتبة كما فاتته إذا ذكرها في وقت واحد. واختلفوا إذا ذكر صلاة (9) فاتته في ضيق وقت حاضرة: هل يبدأ بالفائتة وإن خرج وقت الحاضرة؟ أو يبدأ بالحاضرة؟ أو يتخير فيقدم أيتهما (10) شاء؟ ثلاثة أقوال: وبالأول قال (11) مالك والليث والزهري، وبالثاني قال الحسن وابن المسيب وفقهاء (12) أصحاب الحديث وأصحاب الرأي والشافعي وابن وهب من أصحابنا (13) . وبالثالث قال أشهب من أصحابنا. وهذا ما لم تكثر الصلوات (14) ، فإن كثرت (15) فلا خلاف عند جميعهم - على ما حكاه القاضي عياض -: أنه يبدأ بالحاضرة مع الكثيرة (16) ، واختلفوا في مقدار اليسير: فعن (17) مالك أن الخمس فدون من اليسير، وقيل الأربع فدون، ولم يختلف المذهب أن الست كثير . =(2/257)=@
221 - وَعَنْ أَبِي يُونُسَ (18) مَوْلَى عَائِشَةَ قَالَ: أَمَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنْ أَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا وَقَالَتْ: إِذَا بَلَغْتَ هَذِهِ الآيَةَ فَآذِنِّي: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى}. فَلَمَّا بَلَغْتُهَا آذَنْتُهَا فَأَمْلَتْ عَلَيَّ: «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى، وَصَلاةِ الْعَصْرِ، وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ». قَالَتْ عَائِشَةُ: سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث عائشة رضي الله عنها: «فَأَمْلَتْ عَلَيَّ (19) : (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ &(2/206)&$
__________
(1) في (ح) و(ز): «ما جاء في».
(2) وهو الآتي برقم (512).
(3) في (ز): «غابت».
(4) في (ب) و(غ): «يعني بين».
(5) في (ز): «المغرب».
(6) في "جامعه" (1/337 رقم179) في الصلاة، باب ما جاء في الرجل تفوته الصلوات بأيتهن يبدأ، من طريق أبي الزبير، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود قال: قال عبدالله بن مسعود... ، فذكره.
قال الترمذي: «حديث عبدالله ليس بإسناده بأس، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من عبدالله».
وأخرجه البيهقي (1/403) وقال: «إلا أن أبا عبيدة لم يدرك أباه، وهو مرسل جيد».
وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري، أخرجه أحمد (3/25، 49، 67-68)، والنسائي (2/17 رقم661) في الأذان، باب الأذان للفائت من الصلاة، وابن حبان كما في "الإحسان" (2/147-148 رقم2890)، جميعهم من طريق ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن عبدالرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه... ، به بمعنى حديث ابن مسعود. ونقل السيوطي في حاشيته على النسائي أنّ ابن سيد الناس صحح سنده، وقد صححه كذلك الشيخ الألباني في "الإرواء" (1/257).
(7) في (غ): «فأمر بلالاً بالأذان فأقام».
(8) في (غ): «وهذه».
(9) قوله: «صلاة» ليس في (أ).
(10) في (ح): «أيتها».
(11) في (ز): «قا».
(12) في (غ): «ومعها».
(13) قوله: «من أصحابنا» سقط من (غ).
(14) في (ح): «الصلاة».
(15) قوله: «فإن كثرت» ليس في (أ).
(16) في (ب): «مع الكثرة».
(17) في (غ): «وعن»، وفي (ب): «فقال».
(18) أخرجه مسلم (1/437 رقم629) في المساجد، باب الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى صلاة العصر.
(19) قوله: «عليّ» ليس في (ح)، وقوله: «فأملت عليّ» ليس في (ب).(2/206)
الْوُسْطَى، وَصَلاةِ الْعَصْرِ»، هكذا ثبتت (1) الرواية بالواو في صلاة (2) العصر. وقيل فيها: إنها زائدة كما زيدت في قول الشاعر:
فلما أَجَزْنا ساحَةَ الحَيِّ وانْتَحى (3) (4)
أي: فلما أجزنا ساحة الحي انتحى، فإذا قدرنا زيادتها كانت صلاة العصر الصلاة الوسطى، كما جاء في حديث عليّ - رضي الله عنه - المتقدم. وهذا الذي سمعته (5) عائشة رضي الله عنها، وأمرت (6) بكتبه في المصحف؛ كان على القراءة المتقدمة التي أخبر (7) البراء رضي الله عنه أنها =(2/258)=@ نسخت على ما مضى (8) ، والله أعلم.
222 - وَعَنْ شَقِيقِ بْنِ عُقبَةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ (9) قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَصَلاةِ الْعَصْرِ». فَقَرَأْنَاهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نَسَخَهَا اللَّهُ فَنَزَلَتْ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} فَقَالَ رَجُلٌ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ شَقِيقٍ لَهُ: هِيَ إِذَنْ صَلاةُ الْعَصْرِ؟ فَقَالَ الْبَرَاءُ: قَدْ أَخْبَرْتُكَ كَيْفَ نَزَلَتْ، وَكَيْفَ نَسَخَهَا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد اتفق المسلمون كافة على أن قولها: «وَصَلاةِ الْعَصْرِ»، ليس قرآنًا اليوم يتلى، وإنما هي رواية شاذة انفردت بها وبرفعها للنبي (10) - صلى الله عليه وسلم - ، وغايتها أن تكون خبرًا؛ لأنها قد رفعتها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (11) وأسندتها، والله تعالى أعلم. وقد تقدم القول في قوله: {وقوموا لله قانتين} (12) .
وقول البراء للسائل: «قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله " يظهر منه تردُّد، لكن في ماذا (13) ؟ هل نُسخ تعيينها فقط وبقيت هي الوسطى؟ أو نُسخ كونها وسطى؟ في هذا تردد - والله أعلم -، وإلا فقد أخبر بوقوع النسخ .
*************
(68) باب من فاتته صلوات كيف يقضيها؟
223 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (14) : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ جَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَاللَّهِ مَا كِدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : «فَوَاللَّهِ إِنْ صَلَّيْتُهَا»، قَالَ: فَنَزَلْنَا إِلَى بُطْحَانَ فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَتَوَضَّأْنَا، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب من فاتته صلوات (15) كيف يقضيها؟
قول عمر: «مَا كِدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ» (16) ؛ معناه: ما قاربت صلاة العصر إلى أن قارب غروب الشمس. &(2/207)&$
__________
(1) في (غ): «ثبت».
(2) في (ب) و(ز): «وصلاة».
(3) في (ز): «واالثحي».
(4) هذا صدر بيت لامرئ القيس، وعجزه: ... ...................................
............................... ... بنا بطنُ خَبْتِ ذي قِفَافٍ عَقَنْقَلِ.
"شرح ديوان امرئ القيس" تحقيق السندوبي (ص170)، وانظر: "لسان العرب" (5/326).
(5) في (ح): «سمعت».
(6) في (ب): «وانبرت».
(7) في (ح): «أخبر بها».
(8) في (ح): «على ما نص».
(9) أخرجه مسلم (1/438 رقم630) في المساجد، باب الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى صلاة العصر.
(10) في (ح): «إلى النبي».
(11) قوله: «إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - » من (أ) فقط.
(12) سورة البقرة، الآية: 238.
(13) في (غ): «فيهاذا»، وفي (ب): «فيماذا».
(14) أخرجه البخاري (2/68 رقم596) في مواقيت الصلاة، باب من صلى بالناس جماعة بعد ذهاب الوقت، ومسلم (1/438 رقم631) في المساجد، باب الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.
(15) في (ب): «صلاة».
(16) في (ح): «حتى كادت الشمس أن تغرب».(2/207)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «فَوَاللَّهِ إِنْ صَلَّيْتُهَا» يقوِّي قول من قال: إنه كان ناسيًا، و «إِنْ» بمعنى: ما. و«بُطْحَانَ»: وادٍ بالمدينة (1) . ورويناه (2) بضم الباء وسكون الطاء، وبفتح الباء وكسر الطاء، وهو صوابه عند أهل اللغة. وقد تقدم الكلام (3) على قضاء الفوائت في الباب الذي قبله . =(2/259)=@
(69) باب المحافظة على الصبح والعصر
224 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (4) : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاةِ الْصُبْحِ وَصَلاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي، فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب المحافظة على الصبح والعصر
قوله: «يَتَعَاقَبُونَ (5) فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ (6) »)، هذه الواو في «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ» علامة للفاعل (7) المذكر المجموع، وهي لغة (8) بني الحارث؛ وهي أنهم يلحقون علامة للفاعل (9) المثنى والمجموع، وهم القائلون: أكلوني البراغيث، وهي لغة معروفة فاشية، وعليه حمل الأخفش قوله تعالى: {وأسروا النجوى الذين ظلموا} (10) ، ومن هذا قول الشاعر:
ولكن دِيَافِيٌّ (11) أبوه وأمُّه ... بِحَوْرَانَ (12) يَعْصِرْنَ السَّلِيطَ أقارِبُه (13) &(2/208)&$
__________
(1) في (ز): «واد المدينة».
(2) في (غ): «رويناه».
(3) في (ب) و(غ): «وقد تقدم القول»، وبإزائها بهامش (ح): «القول»، فكأنه يعني أن في نسخة: «تقدم القول».
(4) أخرجه البخاري (2/33 رقم555) في مواقيت الصلاة، باب صلاة العصر، ومسلم (1/439 رقم632) في المساجد، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما.
(5) في (ب): «ويتعاقبون».
(6) في (ب) و(غ) و(ح) و(ز): «ملائكة بالليل والنهار».
(7) في (ب): «الفاعل».
(8) في (ح): «وهي علامة».
(9) في (ز): «الفاعل».
(10) سورة الأنبياء، الآية: 3.
(11) في (ح): «دبابي».
(12) في (ز): «بحوزان»، وفي (غ): «بحواز».
(13) البيت للفرزدق يهجو فيه عمرو بن عفراء. الديوان شرح علي قاعود (ص44).
و«دِيَافيُّ» نسبه إلى دِيَاف، وهو موضع بالجزيرة، وهم نَبَطُ الشام. و«حَوْرَان» كورة واسعة في أعمال دمشق. و«السَّليطُ»: الزيت. انظر "لسان العرب" (7/320-321) و(9/108)، و"معجم البلدان"(2/317).(2/208)
=(2/260)=@ وقد تعسَّف بعض النحويين (1) في تأويلها وردّوها للبدل، وهو تكلف (2) مستغنًى عنه، مع أن تلك اللغة مشهورة، لها وجه من القياس واضح يعرف في موضعه. ومعنى التعاقب: إتيان طائفة بعد أخرى، فكان الثانية تأتي عقيب (3) الأولى. وهؤلاء الملائكة إن كانوا هم الحفظة، فسؤال الله تعالى لهم بقوله: «كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟» إنما هو سؤال عما أمرهم به من حفظهم لأعمالهم وكَتْبِهم إياها عليهم. وعلى أنهم هم الحفظة؛ فذهب (4) الجمهور، وإن كانوا غيرهم - وهو الأظهر عندي -، فسؤاله تعالى لهم إنما هو على جهة التوبيخ لمن قال: {أتجعل فيها من يفسد فيها (5) } (6) ، وإظهار (7) لما سبق في معلومه إذ قال لهم: {إني أعلم ما لا تعلمون} (8) ، وهذه حكمة اجتماعهم في صلاة الفجر والعصر، والله أعلم. أو يكون (9) سؤاله لهم استدعاء لشهاداتهم لهم (10) ، ولذلك قالوا: «أَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَتَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ». وهذا من خفي لطفه تعالى وجميل ستره؛ إذ أطلعهم بكرمه عليهم حال (11) عباداتهم، ولم يطلعهم عليهم ولا جمعهم لهم (12) في حال خلواتهم بلذاتهم وانهماكهم في معاصيهم وشهواتهم، فسبحانه من كريم حليم (13) جليل! إذ ستر القبيح وأظهر الجميل .
225 - وَعَنْ جَرِيرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (14) قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ: «أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا». يَعْنِي الْعَصْرَ وَالْفَجْرَ، ثُمَّ قَرَأَ جَرِيرٌ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد تقدم الكلام على رؤية الله تعالى، وعلى قوله: «لا تُضَامُونَ». وقوله: «إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلَبُوا عَلَى (15) صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا»- يعني: الفجر والعصر -، قال المهلّب: لا تغلبوا؛ أي: على شهودها في =(2/261)=@ الجماعة (16) . وقراءة جرير (17) في هذا الموضع: {وَسَبِّحْ (18) بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} (19) يشعر بأن قوله: {وسبِّح (20) } (21) ، معناه (22) : فصلِّ في هذين الوقتين .
226 - وَعَن عُمَارَةَ بْنِ رُؤَيْبَةَ (23) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا». يَعْنِي: الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا»، يعني: الفجر والعصر؛ أي: لن يدخل النار من عاهد وحافظ على هاتين الصلاتين؛ ببركة المداومة عليهما (24) ، والله أعلم (25) . &(2/209)&$
__________
(1) في (أ): «النحاة».
(2) في (ح) و(ز): «تكليف».
(3) في (ب): «عقب».
(4) في (ب) و(ح) و(ز): «مذاهب».
(5) قوله: «{من يفسد فيها}» ليس في (أ) و(ب) و(ز) و(غ).
(6) سورة البقرة، الآية 30.
(7) في (ح): «وإظهارًا».
(8) سورة البقرة، الآية: 30.
(9) في (أ): «ويكون».
(10) في (ح): «أو يكون سؤالهم استدعاء من خفي لشهاداتهم لهم».
(11) في (ب) و(ح) و(ز): «حالة».
(12) قوله: «ولا جمعهم لهم» ليس في (ح).
(13) في (ح) و(ز): «حليم كريم».
(14) أخرجه البخاري (2/33 رقم554) في مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر، ومسلم (1/439 رقم633) في المساجد، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما.
(15) في (أ) و(ب) و(غ): «عن»، والمثبت من (ح) و(ز) ونسخ "صحيح مسلم".
(16) في (غ): «الجماعات».
(17) في (ح): «وقراءة آخرين».
(18) في نسخ "التلخيص" و"المفهم": «فسبح» و(ب) و(غ) و(ز) أيضًا بالفاء، وكذا جاء في نسخ "صحيح مسلم" المطبوعة، عدا التي بتحقيق عبد الباقي فإنها جاءت على رسم المصحف.
(19) سورة طه، الآية: 130.
(20) في نسخ "التلخيص" و"المفهم": «فسبح» بالفاء و(ب) و(غ) و(ز) أيضًا، وكذا جاء في نسخ "صحيح مسلم" المطبوعة، عدا التي بتحقيق عبد الباقي فإنها جاءت على رسم المصحف.
(21) في (ز): «فيسبح» وقوله: «سبح» سقط من (غ).
(22) في (ح) و(ز): «بمعناه».
(23) أخرجه مسلم (1/440 رقم634) في كتا المساجد، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما.
(24) في (أ): «عليها».
(25) قوله: «والله أعلم» ليس في (أ) و(غ) و(ز) و(ب).(2/209)
227 - وعن أبي موسى الأشعري (1) : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «مَنْ (2) صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ»؛ قال كثير من العلماء: هما الفجر والعصر، وسُمِّيا بذلك؛ لأنهما يفعلان في وقتي (3) البرد. =(2/262)=@
*************
(70) باب تعجيل صلاة المغرب
228 - عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ (4) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَتَوَارَتْ بِالْحِجَابِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب تعجيل صلاة المغرب
قوله: «إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ»؛ أي: ساعة تغرب، وهذا (5) يدل على تأهبه لها قبل وقتها، ومراقبته (6) وقتها.
وقوله: «وَتَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (7) »)؛ أي: استترت بما يحجبها عن الأبصار، ويعني به (8) : غيبوبة جرم الشمس. وقد تقدم حكاية إجماع الأمة على استحباب &(2/210)&$
__________
(1) في نسخ "التلخيص": «وعنه»؛ أي: وعن عمارة بن رؤيبة، وهو وهم، فالحديث من رواية أبي موسى الأشعري؛ وأخرجه البخاري (2/52 رقم574) في مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة الفجر، ومسلم في الموضع السابق برقم (635).
(2) في (ح): «ومن».
(3) في (ب): «وقت».
(4) أخرجه البخاري (2/41 رقم561) في مواقيت الصلاة، باب وقت المغرب، ومسلم (1/441 رقم636) في المساجد، باب بيان أن أول وقت المغرب عند غروب الشمس.
(5) في (ب): «فهذا».
(6) قوله: «بالحجاب» ليس في (أ) و(ب) و(ز) و(غ).
(7) في (ب): «ومراقبة».
(8) في (ب): «بها».(2/210)
تعجيلها، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : «لا تزال أمتي بخير - أو قال: على الفطرة - ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم» (1) .
229 - وَعَنْ رَافِعَ بْنِ خَدِيجٍ (2) قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَيَنْصَرِفُ أَحَدُنَا وَإِنَّهُ لَيُبْصِرُ مَوَاقِعَ نَبْلِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله (3) : «وَإِنَّهُ لَيُبْصِرُ مَوَاقِعَ نَبْلِهِ»؛ أي: حيث يقع (4) . وهذا يدل على تعجيل المغرب، وأنه (5) - صلى الله عليه وسلم - كان لا يطولها (6) . (7) =(2/263)=@
**************
(71) باب تأخير العشاء الآخرة
230 - عَنْ عَائِشَةَ (8) قَالَتْ: أَعْتَمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى ذَهَبَ عَامَّةُ اللَّيْلِ وَحَتَّى نَامَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى فَقَالَ: «إِنَّهُ لَوَقْتُهَا لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب تأخير العشاء الآخرة
قول عائشة رضي الله عنها: «أَعْتَمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ لَيْلَةٍ»؛ أي: أخر العشاء الآخرة (9) إلى عتمة الليل - وهي ظلمته -. و "ذات ليلة"؛ أي: ليلة من الليالي. وهذا يدل على أن غالب أحواله كان تقديمها (10) رفقًا بهم، ولئلا يشق (11) عليهم؛ كما قال في آخر هذا الحديث. وقال الخطابي رحمه الله: إنما أخرهم ليقل حظ النوم، وتطول مدة الصلاة، فيكثر أجرهم (12) ؛ لأنهم في صلاة ما داموا ينتظرون الصلاة. وقال بعض الحكماء (13) : النوم (14) المحمود مقدار ثمان ساعات. &(2/211)&$
__________
(1) هو حديث حسن، تقدم تخريجه في شرح الحديث رقم (495) (ص...).
(2) أخرجه البخاري (2/40 رقم559) في مواقيت الصلاة، باب وقت المغرب، ومسلم (1/441 رقم637) في المساجد، باب بيان أن أول وقت المغرب عند غروب الشمس.
(3) في (غ): «قوله»: بلا واو.
(4) في (ب): «تقع».
(5) في (ب): «وأن».
(6) يعني أحيانًا، وأحيانًا كان يطولها فيقرأ فيها بـ{المرسلات}، و{الطور}؛ كما تقدم برقم (357، 358)، وأحيانًا كان يقرأ بطولي الطولين - يعني: الأعراف-؛ كما في "صحيح البخاري" (2/246 رقم764) كتاب الأذان، باب القراءة في المغرب.
(7) في حاشية (ب): «بلغ مقابلة».
(8) أخرجه البخاري (2/47 رقم566) في مواقيت الصلاة، باب فضل العشاء، ومسلم (1/442 رقم638) في المساجد، باب وقت العشاء وتأخيرها.
(9) من قوله: «قول عائشة... » إلى هنا ليس في (ح).
(10) في (ب): «يقدمها».
(11) في (ح): «تشق».
(12) من قوله: «ليقل حظ النوم... إلى هنا» سقط من (غ).
(13) في (ب): «العلماء» وكتب في الهامش أنها في نسخة «الحكماء».
(14) قوله: «النوم " ليس في (ح).(2/211)
وقوله: «إِنَّهُ لَوَقْتُهَا»؛ يعني: الأفضل، ولهذا وشبهه قال مالك: إن تأخير العشاء أفضل. وقيل عنه: تعجيلها أفضل أخذًا بالتخفيف؛ ولأن التعجيل كان =(2/264)=@ غالب أحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها. وقد اختار بعض أصحابنا تقديمها إذا اجتمعوا، وتأخيرها إذا أبطأوا؛ أخذًا بحديث جابر الآتي (1) . وقوله في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «مكثنا ليلة»؛ أي: لبثنا وأقمنا ننتظر.
231 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ (2) قَالَ: مَكَثْنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِصَلاةِ الْعِشَاءِ الآخِرَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ أَوْ بَعْدَهُ، فَلا نَدْرِي أَشَيْءٌ شَغَلَهُ فِي أَهْلِهِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ حِينَ خَرَجَ: «إِنَّكُمْ لَتَنْتَظِرُونَ صَلاةً مَا يَنْتَظِرُهَا أَهْلُ دِينٍ غَيْرُكُمْ،وَلَوْلا أَنْ يَثْقُلَ عَلَى أُمَّتِي لَصَلَّيْتُ بِهِمْ هَذِهِ السَّاعَةَ»، ثُمَّ أَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَقَامَ الصَّلاةَ وَصَلَّى .
وَفِي رِوَايَةٍ: شُغِلَ عَنْهَا لَيْلَةً فَأَخَّرَهَا حَتَّى رَقَدْنَا فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا، ثُمَّ رَقَدْنَا، ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .... وذكر نحوه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «فلا ندري أشيء شغله (3) في أهله أو غير ذلك؟» وقال في الرواية الأخرى: «شُغِلَ عَنْهَا (4) لَيْلَةً»، قيل: إنه جهز جيشًا.
وقوله (5) في آخرها: «حَتَّى رَقَدْنَا فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا، ثُمَّ رَقَدْنَا (6) »): يعني به: نوم الجالس المحتبي وخطرات (7) السِّنَات، لا نوم (8) الاستغراق، كما قال في الحديث الآخر: «كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينامون حتى تخفق رؤوسهم، ثم =(2/265)=@ يصلون ولا يتوضؤون» (9) .
وقد تقدم القول في النوم في كتاب الطهارة .
232 - ومن حَدِيثِ عَائِشَة (10) : فَلَمْ يَخْرُجْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى قَالَ عُمَرُ: نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .... وذكر نحوه. وَفِيهِ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَذُكِرَ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تَنْزُرُوا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - للصَّلاةِ». وَذَلِكَ حِينَ صَاحَ عُمَرُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تبرزُوا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - »: رواه الرازي (11) بالباء، وتقديم الراء، وضم التاء، وكسر الراء: من الإبراز، وهو الإخراج، ورواه سائر الرواة: «تَنْزُرُوا» بفتح التاء، وبالنون (12) ، وتقديم الزاي، وَبِضَمِّها (13) ، وهو الصحيح، ومعناه: الإلحاح عليه في الخروج إلى الصلاة (14) ، وهذا إنما قاله - صلى الله عليه وسلم - مؤدبًا لهم ومعلمًا لما صاح عمر - رضي الله عنه - : نام النساء والصبيان، والله أعلم .
233 - وَعَنْ ثَابِتٍ (15) ؛ أَنَّهُمْ سَأَلُوا أَنَسًا عَنْ خَاتَمِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْعِشَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ أَوْ كَادَ يَذْهَبُ شَطْرُ اللَّيْلِ، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: «إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا وَنَامُوا، وَإِنَّكُمْ لَنْ تَزَالُوا فِي صَلاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلاةَ». قَالَ أَنَسٌ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ مِنْ فِضَّةٍ، وَرَفَعَ إِصْبَعَهُ الْيُسْرَى بِالْخِنْصِرِ .
234- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ (16) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ نَحْوًا مِنْ صَلاتِكُمْ، وَكَانَ يُؤَخِّرُ الْعَتَمَةَ بَعْدَ صَلاتِكُمْ شَيْئًا، وَكَانَ يُخِفُّ فِي الصَّلاةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «أَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْعِشَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ - أَوْ كَادَ &(2/213)&$
__________
(1) سيأتي برقم (526).
(2) أخرجه البخاري (2/50 رقم 570) في مواقيت الصلاة، باب النوم قبل العشاء لمن غُلب، ومسلم (1/442 رقم 639) في المساجد، باب وقت العشاء وتأخيرها.
(3) في (أ): «فلا ندري، أشغله شغل»، وفي (ب): «فلا ندري أشيء شغله عنها».
(4) في (غ): «عنا».
(5) في (ح): «قوله».
(6) قوله: «ثم رقدنا» ليس في (ب).
(7) في (ز): «وخطوات».
(8) في (ح) يشبه أن تكون: «لا تؤثر».
(9) تقدم في الطهارة برقم (211)، باب فعل الصلوات بوضوء واحد....
(10) تقدم تخريجه قريبًا برقم (230) في باب تأخير العشاء الآخرة.
(11) في (ح): «الراوي» وفي (ب): «الدارمي».
(12) في (ح): «النون»وزاد بعد هذا في (ح) و(ز) و(غ): «وكسر الراء»، وضع علامة الحق في (غ) على قوله: «وكسر» وكتب في الحاشية «وتأخير».
(13) في (ح): «بفتح التاء والنون وكسر الراء وتقديم الزاي ونصبها»، وفي (ز): «ونصبها» وفي (غ): «وضمها».
(14) قوله: «إلى الصلاة» من (ب) فقط.
(15) أخرجه البخاري (2/51 رقم572) في مواقيت الصلاة، باب وقت العشاء إلى نصف الليل، ومسلم (1/443 رقم640) في المساجد، باب وقت العشاء وتأخيرها.
(16) أخرجه مسلم (1/445 رقم643) في المساجد، باب وقت العشاء وتأخيرها.(2/212)
يَذْهَبُ شَطْرُ اللَّيْلِ-»؛ أي: نصف الليل. وهذا كقوله (1) في حديث ابن عمرو (2) : «ووقت العشاء: مغيب الشفق إلى نصف الليل» (3) ، وكلاهما (4) حجة لما صار إليه ابن حبيب من أن آخر وقت العشاء الآخرة: نصف الليل . =(2/266)=@
وقوله: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ في يدهِ مِنْ فِضَّةٍ»، الوبيص: البريق، وهو دليل على جواز اتخاذ خاتم الفضة (5) ، وعلى جعله في اليد اليسرى، وهو الأفضل والأحسن عند مالك (6) ، وسيأتي الكلام على ذلك .
باب
235 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ (7) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : «لا تَغْلِبَنَّكُمُ الأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلاتِكُمْ أَلا إِنَّهَا الْعِشَاءُ، وَهُمْ يُعْتِمُونَ بِالإِبِلِ».
وَفِي رِوَايةٍ: «فَإِنَّهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ الْعِشَاءُ، وَإِنَّهَا تُعْتِمُ بِحِلابِ الإِبِلِ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تَغْلِبَنَّكُمُ الأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلاتِكُمْ أَلا إِنَّهَا الْعِشَاءُ». الأعرابي: من كان من أهل البادية. والعربي: منسوب إلى العرب وإن لم يكن بدويًّا. وهذا =(2/267)=@ النهي عن اتباع الأعراب في تسميتهم العشاء عتمة إنما كان لئلا يعدل (8) بها عما سماها الله تعالى به (9) في كتابه؛ إذ قال تعالى: {ومن بعد صلاة العشاء} (10) ، فكأنه إرشاد إلى ما هو الأولى، وليس على جهة التحريم، ولا على أن تسميتها العتمة لا يجوز. ألا ترى أنه قد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أطلق عليها ذلك؛ إذ قال: «ولو يعلمون (11) ما في العتمة والصبح» (12) ؟ وقد أباح تسميتها بذلك أبو بكر (13) وابن عباس (14) رضي الله عنهم (15) ». وقيل: إنما نهى عن ذلك تنزيهًا (16) لهذه العبادة الشريفة (17) الدينية عن أن &(2/213)&$
__________
(1) في (ح): «لقوله».
(2) في (ز) و(غ): «حديث ابن عمر».
(3) تقدم حديث عبدالله بن عمرو برقم (495)، وليس فيه: «مغيب الشفق»، وإنما جاء هذا في حديث أبي موسى المتقدم برقم (496)، وحديث بريدة المتقدم برقم (497)، لكن في اللفظ الذي لم يورده المصنف.
(4) في (ح): «فكلاهما».
(5) في (غ): «الخاتم من فضه».
(6) في (غ): «عند مالك والأحسن».
(7) أخرجه مسلم (1/445 رقم644) في المساجد، باب وقت العشاء وتأخيرها.
(8) في (ب): «تعدل».
(9) قوله: «به» ليس في (ح).
(10) سورة النور، الآية: 58.
(11) في (غ): «تعلمون».
(12) تقدم برقم (343) في كتاب الصلاة، باب الأمر بتسوية الصفوف ومن يلي الإمام.
(13) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/200 رقم8084) في الصلاة، باب من سماها: العتمة، من طريق عبدالله بن محمد بن عقيل، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: «متى توتر؟ » قال: من أول الليل، بعد العتمة، قبل أن أنام.
وسنده ضعيف لضعف ابن عقيل من قبل حفظه. انظر "التقريب" (3617).
(14) أخرجه ابن أبي شيبة أيضًا برقم (8085) عن جرير بن عبدالحميد، عن منصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: إذا كان سفرك يومًا إلى العتمة، فلا تقصر الصلاة، فإن جاوزت ذلك فأقصر. وسنده صحيح.
(15) في (أ) و(ز) و(غ): «عنهما».
(16) في (أ): «تنويهًا».
(17) في (أ): «الشرعية».(2/213)
يطلق عليها ما هو اسم لفعلة دنيوية؛ وهي الْحَلْبَةُ التي كانوا يحلبونها في ذلك الوقت ويسمونها: العتمة. ويشهد لهذا قوله: «فَإِنَّهَا تُعْتِمُ بِحِلابِ الإِبِلِ» (1) .
قال الشيخ رحمه الله: ويظهر (2) لي أن المقصود من هذا النهي (3) ، ومن قوله: «لا تَغْلِبَنَّكُمُ الأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلاتِكُمْ المغرب» (4) : أن لا نتبع الأعراب في تسميتهم هاتين الصلاتين بذلك؛ لأنهم لم يقتدوا في تسميتهما (5) ، لا بما جاء في الكتاب (6) - من تسميتها العشاء -، ولا بما جاء في السنة - من تسميتها المغرب (7) -؛ إذ قد ثبت في غير ما حديث (8) تسميتها بالمغرب؛ كما جاء في حديث جبريل (9) وغيره، والله أعلم . =(2/268)=@ &(2/214)&$
__________
(1) في (ب): «فإنهم يعتمون بحلاب الإبل».
(2) في (ح): «يظهر».
(3) قوله: «النهي» ليس في (غ).
(4) أخرجه البخاري في "صحيحه" (2/43 رقم563) في مواقيت الصلاة، باب من كره أن يقال للمغرب العشاء.
(5) في (أ) و(ح) و(ب): «تسميتها».
(6) في (أ): «كتاب الله».
(7) في (ز) و(ب) و(غ): «بالمغرب».
(8) في (ب) و(ح) و(ز): «في غيرها حديث».
(9) تقدم تخريجه في شرح الحديث رقم (494).(2/214)
**********
(72) باب التغليس بصلاة الصبح
236- عَنْ عَائِشَةَ (1) ؛ قَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيُصَلِّي الصُّبْحَ، فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ. وَفِي رِوَايَةٍ: مُتَلَفِّفَاتٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب التغليس بصلاة الصبح
قوله: «مُتَلَفِّعَاتٍ (2) بِمُرُوطِهِنَّ»؛ كذا الرواية الصحيحة بالفاء والعين المهملة، من التلفع، وهو تغطية الرأس والجسد. وقد وقع لبعض رواة "الموطأ": «مُتَلَفِّفَاتٍ»؛ أى: متغطيات. والمروط جمع مِرط بكسر الميم، وهو الكساء.
وقوله: «مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ»؛ هو بقايا ظلمة الليل يخالطها بياض الفجر، قاله الأزهري. وقال الخطابي: والغبش - بالباء والشين المعجمتين (3) - قبل الغَبَس - بالسين المهملة - وبعد الغلس - باللام – وهي كلها في آخر الليل، ويكون الغبش أول الليل .
وقوله: «مَا يُعْرَفْنَ»؛ أي: أَهُنّ (4) نساء أم رجال؟ وقيل: لا تُعرف (5) أعيانهن وإن عرف أنهن نساء، وإن كن منكشفات (6) الوجوه. وهذا يدل على أن الغالب من صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح إنما كان في أول الوقت، وكذا قال ابن عباس رضي الله عنهما (7) : «ثم كانت =(2/269)=@ صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات، لم يعد إلى أن يسفر». ويفيد هذا: أن صلاة الصبح في أول (8) وقتها أفضل، وهو مذهب مالك والشافعي وعامة (9) العلماء، خلا الكوفيين (10) ، فإن آخر وقتها عندهم أفضل. &(2/215)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (1/482 رقم 372) في الصلاة، باب: في كم تصلي المرأة في الثياب، ومسلم (1/446 رقم 645) في المساجد، باب: استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها، وهو التغليس.
(2) في (غ): «ملتفعات».
(3) في (ب) و(ح): «المعجمة».
(4) في (ح): «هن»، وفي (ب): «أنهن».
(5) في (ب): «لا يعرف».
(6) في (ب): «متكشفات».
(7) هذا وهم من المصنِّف رحمه الله، وإنما جاء هذا في إحدى طرق حديث أبي مسعود الأنصاري المتقدم برقم (493) وهي عند غير مسلم، بل هي زيادة ضعيفة كما سبق بيانه في التعليق على شرح الحديث رقم (495).
(8) قوله: «أول» سقط من (غ).
(9) في (ب): «وكافة».
(10) في (غ): «خلافًا للكوفيين».(2/215)
237- وعن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله (1) ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ نَقِيَّةٌ، وَالْمَغْرِبَ إِذَا وَجَبَتْ، وَالْعِشَاءَ أَحْيَانًا يُؤَخِّرُهَا، وَأَحْيَانًا يُعَجِّلُ، كَانَ إِذَا رَآهُمْ قَدِ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ، وَإِذَا رَآهُمْ قَدْ أَبْطَئُوا أَخَّرَ، وَالصُّبْحَ كَانُوا، أَوْ قَالَ: كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «وَالْمَغْرِبَ (2) إِذَا وَجَبَتْ»؛ أي: سقطت - يعني الشمس -، ومنه: وَجَبَ الحائط؛ أي: سقط.
238- وعن أَبَي بَرْزَةَ (3) ، قال:كَان رَسُولِ اللهِِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الظُّهْرَ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ، وَالْعَصْرَ يَذْهَبُ الرَّجُلُ إِلَى أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ. قَالَ: وَالْمَغْرِبَ لا أَدْرِي أَيَّ حِينٍ ذَكَرَ. وَكَانَ يُصَلِّي الصُّبْحَ، فَيَنْصَرِفُ الرَّجُلُ فَيَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ جَلِيسِهِ الَّذِي يَعْرِفُ فَيَعْرِفُهُ. وَكَانَ يَقْرَأُ فِيهَا بِالسِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ .
وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ رَسُولُ اللهِِ - صلى الله عليه وسلم - يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، وَيَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي صَلاةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ»؛ أي: بيضاء لم تدخلها صفرة. وقيل: أي لم تذهب حرارتها . =(2/270)=@
وقوله: «وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا». أما كراهة النوم قبلها (4) ؛ فلما يخاف من (5) غلبة النوم، فيفوت وقتها، أو فضل (6) وقتها المستحسن (7) ، وقال بهذا جماعة؛ منهم: ابن عمر (8) ، وعمر (9) (10) ، وابن عباس (11) ، وغيرهم - رضي الله عنهم - ، وهو مذهب مالك، ورخص فيه بعضهم؛ منهم: علي (12) ، وأبو موسى (13) ، وغيرهم (14) - رضي الله عنهم - ، وهو مذهب الكوفيين، وشرط بعضهم: أن يجعل معه من يوقظه للصلاة، وروي عن ابن عمر مثله (15) ، وإليه ذهب الطحاوي. وأما كراهة الحديث بعدها؛ فلما يؤدي إليه من السهر ومخافة غلبة النوم آخر الليل، فينام عن قيام آخر الليل، وربما ينام عن صلاة الصبح.
قال الشيخ رحمه الله: ويظهر لي: أن كراهة ذلك إنما هو لَمَّا أن الله تعالى جعل الليل سكنًا - أي يسكن فيه -، فاذا تحدث الإنسان فيه فقد جعله كالنهار الذي هو متصرّف المعاش (16) ، فكأنه قصد إلى مخالفة حكمة (17) الله تعالى التي أجرى عليها وجوده. وقيل: كره (18) ذلك؛ لئلا نلغوا (19) في كلامنا، أو نخطئ، فنختم (20) عملنا بعمل سيء، أو بقول سيء (21) . و«النوم أخو الموت» (22) ، أو لعله يكون فيه الموت، والله أعلم.
وقيل: كره ذلك ليراح (23) الكتبة الكرام. وقد كان بعض السلف يقول لمن أراد أن يتحدث بعد العشاء: أريحوا الكَتَبَة (24) . وهذه الكراهة تختص بما لا
يكون (25) من قبيل القُرَبِ، والأذكار، وتعليم العلم، ومسامرة الأهل بالعلم (26) ، وبتعلم المصالح (27) وما شابه ذلك. فقد ورد (28) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (29) ، وعن السلف ما يدل على جواز ذلك، بل على ندبيته، والله أعلم . =(2/271)=@ &(2/216)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (2/41 رقم 560) في مواقيت الصلاة، باب وقت المغرب، ومسلم (1/446 رقم 646) في المساجد، باب استحباب التبكير بالصبح.
(2) في (ح) و(ز): «المغرب».
(3) أخرجه البخاري (12/22 رقم 541) كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت الظهر عند الزوال، ومسلم (1/447 رقم 647) في المساجد، باب باب استحباب التبكير بالصبح.
(4) قوله: «والحديث بعدها أما كراهة النوم قبلها» سقط من (غ).
(5) في (غ): «يخاف عليه من».
(6) في (ب) و(غ) و(ز): «أو أفضل».
(7) وكذا مخافة فوات صلاة الجماعة.
(8) أخرجه ابن أبي شيبة (2/122 رقم7185) في الصلاة، باب من كره النوم بين المغرب والعشاء، عن وكيع ومحمد بن فضيل، عن مسعر، قال: سألت يزيد الفقير: أسمعت ابن عمر يكره النوم قبلها؟ قال: نعم.
وسنده صحيح، وله طرق غير هذا عنه، وروي عنه أنه كان ينام قبلها كما سيأتي قريبًا، ولا منافاة بينهما كما سيأتي.
(9) قوله: «وعمر» ليس في (ح).
(10) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/7 رقم7) في وقوت الصلاة، باب وقوت الصلاة، عن عمه أبي سهيل بن مالك، عن أبيه: أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري: إِنَّ صلّ الظهر إذا زالت الشمس... ، وأخّر العشاء ما لم تنم... ، الحديث. وسنده صحيح.
وأخرجه أيضًا برقم (6) عن نافع: أن عمر بن الخطاب كتب إلى عماله: أن أهمّ أمركم عندي الصلاة... ، الحديث، وفيه: والعشاء إذا غاب الشفق إلى ثلث الليل، فمن نام فلا نامت عينه. وهذا مرسل؛ فإن نافعًا لم يدرك عمر، لكن ورد موصولاً، إلا أنه اختلف في الواسطة بين نافع وعمر، فمرة ذكر أنه بواسطة ابن عمر، ومرة بواسطة صفية، ومرة بواسطة أسلم مولى عمر، ومرة مرسلاً كما رواه مالك.
انظر هذه الروايات في "مصنف عبد الرزاق" (1/536، 537، 563-564 رقم2037، 2039، 2142)، و"مصنف ابن أبي شيبة"(2/121 رقم7178، 7179)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (1/235).
(11) أخرجه ابن أبي شيبة (2/121 رقم7183) في الصلاة، باب من كره النوم بين المغرب والعشاء، من طريق شهر بن حوشب، عن ابن عباس قال: ما أحب النوم قبلها، ولا الحديث بعدها. وسنده ضعيف، فإن شهر بن حوشب متكلم في حفظه.
(12) أخرجه عبدالرزاق (1/564 رقم2147)، وابن أبي شيبة (2/122 رقم7190)، في الصلاة، باب من رخص في النوم قبلها، والإمام أحمد (1/111)، ثلاثتهم من طريق محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن عبدالله الرازي، عن جدّته - وكانت سُرِّية لعلي -: أن عليًّا ربما غفا قبل العشاء.
وفي رواية الإمام أحمد سَمّى شيخ ابن أبي ليلى: «ابن الأصبهاني».
وسنده ضعيف لضعف ابن أبي ليلى من قبل حفظه، مع جهالة جدة الرازي أو ابن الأصبهاني.
(13) لعله يشير إلى أثر عمر بن الخطاب السابق، وفيه أنه كتب إلى أبي موسى... ، وفي بعض طرقه: فمن نام فلا نامت عينه، فلعله فُهم منه أن سبب كتابة عمر شيء بلغه عن أبي موسى أنه كان ينام قبلها، والله أعلم.
(14) من قوله: «وهو مذهب مالك... إلى هنا» سقط من (غ).
(15) أخرجه ابن أبي شيبة (2/122 رقم7194) في الصلاة، باب من رخص في النوم قبلها، عن ابن عليّة، عن أيوب، عن نافع، قال: قلت له: أكان ابن عمر ينام عنها؟ - يعني العشاء -. قال: قد كان ينام ويوكل من يوقظه.
وسنده صحيح.
وأخرجه عبدالرزاق (1/564 رقم2146) من طريق ابن جريج عن نافع. وأصله في "صحيح البخاري" (2/50 رقم570) في مواقيت الصلاة، باب النوم قبل العشاء لمن غُلب، من طريق ابن جريج، أخبرني نافع... ، فذكر الحديث المتقدم برقم (520)، لكن زاد فيه: وكان ابن عمر لا يبالي أقدّمها أم أخّرها، إذا كان لا يخشى غلبة النوم عن وقتها، وكان يرقد قبلها. قال ابن حجر في "الفتح" (2/51) تعليقًا على هذا الموضع: «وهو محمول على ما إذا لم يخش أن يغلبه النوم عن وقتها كما صرح به قبل ذلك حيث قال: وكان لا يبالي أقدّمها أم أخّرها. وروى عبدالرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع: أن ابن عمر كان ربما رقد عن العشاء الآخرة، ويأمر أن يوقظوه. والمصنِّف - يعني البخاري - حمل ذلك في الترجمة على ما إذا غلبه النوم، وهو اللائق بحال ابن عمر». اهـ.
(16) في (ح) و(ز): «المعايش».
(17) في (غ): «حكم».
(18) في (ح) و(ز): «يكره».
(19) في (ز) و(غ): «يلغوا».
(20) في (ح): «ونخطئ فيه فيختم». وفي (ز) و(غ): «أو نخطئ فيختم».
(21) قوله: «أبو بقول سيء» سقط من (غ).
(22) ورد مرفوعًا ولا يصح؛ كما سبق بيانه في التعليق على شرح الحديث رقم (139) في كتاب الإيمان، باب هل رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه؟
(23) في (ب) و(غ): «لتراح».
(24) أخرجه عبدالرزاق في "المصنف" (1/565 رقم2149) من طريق جعفر بن سليمان، عن رجل من أهل مكة، عن عروة بن الزبير قال: كنت أتحدث بعد العشاء الآخرة، فنادتني عائشة: ألا تريح كاتبيك يا عُرَيَّة؟ إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا ينام قبلها، ولا يتحدث بعدها.
وسنده ضعيف لإيهام اسم الراوي له عن عروة.
(25) في (ح) و(ز): «بمن لا يكون».
(26) في (ب) و(غ): «مسامرة أهل العلم».
(27) في (ح): «والتعليم للمصالح»، وفي (ب): «وتعلم المصالح».
(28) في (ب): «فقد رُوي».
(29) أخرجه ابن أبي شيبة (2/79-80 رقم6688) في الصلاة، باب من رخص في ذلك، وأحمد (2/25، 26، 34)، والترمذي (1/315 رقم169) في الصلاة، باب ما جاء من الرخصة في السمر بعد العشاء، وابن خزيمة (2/291 رقم1341)، وابن حبان كما في ترتيبه "الإحسان"(5/379-380 رقم2034)،والحاكم (2/227)، جميعهم من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عمر بن الخطاب قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمر مع أبي بكر في الأمر من أمر المسلمين وأنا معهما.
وسنده صحيح.(2/216)
**************
(73) با ب المنع من إخراج الصلاة عن وقتها
239- عَنْ أَبِي ذَرٍّ (1) ، قال:قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «كَيْفَ أَنْتَ إِذَا كَانَتْ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلاةَ عَنْ وَقْتِهَا؟ أَوْ يُمِيتُونَ الصَّلاةَ عَنْ وَقْتِهَا؟ »قَالَ: قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: «صَلِّ الصَّلاةَ لِوَقْتِهَا، فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ، فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «فَإِنْ صَلَّيْتَ لِوَقْتِهَا كَانَتْ لَكَ نَافِلَةً، وَإِلا كُنْتَ قَدْ أَحْرَزْتَ صَلاتَكَ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب المنع من إخراج الصلاة عن وقتها
قوله: «يُؤَخِّرُونَ الصَّلاةَ عَنْ وَقْتِهَا، أَوْ يُمِيتُونَ الصَّلاةَ»، هو شك من (2) أحد الرواة. وإماتتها: إخراجها عن وقتها حتى تكون كالميت الذي لا روح له. وهذا منه - صلى الله عليه وسلم - من أعلام نبوته؛ إذ قد أخبر بأمر غيب وقع على نحو ما (3) أخبر، وقد طرأ بعده من تأخير بني أمية للصلوات (4) ما قد عُرِف وشُوِهد.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «كَيْفَ أَنْتَ إِذَا كَانَتْ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ؟»: إشعار بقرب زمان ذلك.
240- وعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الْبَرَّاءِ (5) ، قال:أَخَّرَ ابْنُ زِيَادٍ الصَّلاةَ، فَجَاءَنِي عَبْدُالله بْنُ الصَّامِتِ، فَأَلْقَيْتُ لَهُ كُرْسِيًّا فَجَلَسَ عَلَيْهِ، فَذَكَرْتُ لَهُ صَنِيعَ ابْنِ زِيَادٍ، فَعَضَّ عَلَى شَفَتيِهِ، فَضَرَبَ فَخِذِي وَقَالَ: إِنِّي سَأَلْتُ أَبَا ذَرٍّ كَمَا سَأَلْتَنِي، فَضَرَبَ فَخِذِي كَمَا ضَرَبْتُ فَخِذَكَ، وَقَالَ: إِنِّي سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا سَأَلْتَنِي، فَضَرَبَ فَخِذِي كَمَا ضَرَبْتُ فَخِذَكَ وَقَالَ: «صَلِّ الصَّلاةَ لِوَقْتِهَا، فَإِنْ أَدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ مَعَهُمْ فَصَلِّ، وَلا تَقُلْ إِنِّي قَدْ صَلَّيْتُ فَلا أُصَلِّي».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «صَلِّ الصَّلاةَ (6) لِوَقْتِهَا»؛ يعني: الأفضل، بدليل قوله: «فَإِنْ أَدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ مَعَهُمْ»؛ أي: في الوقت، وبدليل قوله: «فإن صُلِّيَتْ (7) لوقتها كانت لك نافلة»؛ أي: زيادة في العمل والثواب. &(2/217)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/448 رقم 648) كتاب المساجد، باب كراهية تأخير الصلاة عن وقتها المختار.
(2) في (ز): «في».
(3) في (أ) و(ب) و(غ) و(ز): «مما».
(4) في (ب) و(ح) و(ز): «الصلاة».
(5) أخرجه مسلم (1/449 رقم 648-242) في الكتاب والباب السابقين. وسيأتي برقم (1410) في الإمارة والبيعة، باب قول الله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}.
(6) قوله: «صلِّ الصلاة» سقط من (غ).
(7) كذا ضبطت في (أ).(2/217)
وقوله: «وإلا كنت قد أحرزت صلاتك»؛ أي: فعلتها في وقتها، وعلى =(2/272)=@ ما يجب أداؤها. وفيه: جواز فعل الصلاة مرتين. ومحمل (1) النهي (2) عن إعادة الصلاة: على إعادتها من غير سبب. وتأخير ابن زياد الصلاة (3) على رأي بني أمية في تأخيرهم الصلوات. وضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - على فخذ أبي ذر تنبيهٌ له على الاستعداد لقبول ما يلقى إليه.
وقوله: «ولا تقل إني قد (4) صليت فلا أصلي»؛ نهاه عن إظهار خلافٍ على الأئمة، ولذلك قال: «إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع، وإن كان عبدًا مُجَدَّع الأطراف» (5) . =(2/273)=@ &(2/218)&$
__________
(1) في (ب) و(غ): «ويحمل».
(2) يشير إلى ما أخرجه أحمد (2/19، 41)، وأبو داود (1/389 رقم579) في الصلاة، باب إذا صلى في جماعة ثم أدرك جماعة، أيعيد؟ والنسائي (2/114 رقم860) في الإمامة، باب سقوط الصلاة عمّن صلى مع الإمام في المسجد جماعة، وابن خزيمة (3/69 رقم1641)، وابن حبان كما في ترتيبه "الإحسان" (6/155 رقم2396)، جميعهم من طريق حسين المعلِّم، عن عمرو بن شعيب، عن سليمان مولى ميمونة، قال: أتيت ابن عمر على البلاط- موضع =
= بالمدينة - وهم يصلون، فقلت: ألا تصلي معهم؟ قال: قد صليت؛ إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تصلوا صلاة في يوم مرتين».
والحديث حسّن إسناده الشيخ الألباني في تعليقه على "المشكاة" (1157)، ونقل عن النووي تصحيحه.
(3) في (غ): «للصلاة».
(4) قوله: «قد» ليس في (ح).
(5) سيأتي برقم (1410) في الإمارة والبيعة، باب قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}.(2/218)
*************
(74) باب صلاة الفذ جائزة والجماعة أفضل
241- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « صَلاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاةِ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب صلاة الفذ جائزة والجماعة أفضل
قوله: «صَلاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاةِ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا»، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «بسبع وعشرين درجة». اختلف في الجزء والدرجة: هل مقدارهما واحد أو لا؟ فقيل: الدرجة أصغر من الجزء، فكأن الخمسة (2) العشرين (3) جزءًا (4) إذا جُزِّئت درجات كانت سبعًا وعشرين. وقيل: يحمل على أن الله تعالى كتب فيها أنها أفضل بخمسة وعشرين جزءًا، ثم تفضل بزيادة درجتين .
وقيل: إن هذا بحسب أحوال المصلين (5) : فمن حافظ على آداب (6) الجماعة، واشتدت عنايته بذلك، كان ثوابه سبعًا وعشرين، ومن نقص عن ذلك كان ثوابه خمسًا وعشرين. وقيل: إنه راجع إلى أعيان الصلوات (7) كالصبح والعصر أو ما شاء الله منها (8) ، فيكون على بعضها سبعًا وعشرين، وعلى بعضها خمسًا وعشرين (9) ، والله أعلم.
242- وعَنِ ابْنِ عُمَرَ (10) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « صَلاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «صَلاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تَزِيدُ عَلَى صَلاتِهِ وَحْدَهُ سَبْعًا وَعِشْرِينَ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا الحديث رد على داود في قوله: إن من صلى فذًّا وترك الجماعة (11) لا تجزئه صلاته. ووجه الرد عليه: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «صَلاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاةِ الْفَذِّ» فشّرك بينهما في الفضيلة (12) ، وذلك لا يكون إلا بعد الحكم بصحة كل صلاة منهما (13) . وقد نص على هذا المعنى في الرواية التي (14) قال فيها: «صَلاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تَزِيدُ (15) عَلَى صَلاتِهِ وَحْدَهُ سَبْعًا وَعِشْرِينَ» (16) . ولا تتحقق الزيادة إلا بعد =(2/274)=@ ثبوت المزيد عليه وتحققه (17) ، وقد أفادت هذه الزيادة أن المصلي في جماعة يكون (18) له ثمانية وعشرون (19) جزءًا باعتبار الأصل الذي زيد عليه سبع وعشرون، ويكون للمصلي وحده جزء واحد. لا يقال: إن لفظة أفعل قد تَرِد لإثبات صفة في إحدى الجهتين ونفيها عن الأخرى، وأفضل (20) المضافة إلى صلاة الفذ كذلك؛ لأنا نقول: إنما يصح &(2/219)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (1/564 رقم 477) في الصلاة، باب الصلاة في مسجد السوق، وذكر أطرافه في (1/282 رقم 176) في الوضوء، باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين من القبل أو الدبر، ومسلم (1/449 رقم 649-245) في المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها.
(2) في (أ): «الخمس».
(3) في (ب) و(ز) و(غ) و(أ): «وعشرين».
(4) قوله: «جزءًا» ليس في (ح) و(ز) و(غ).
(5) في (ح) و(ز): «المسلمين».
(6) في (ب): «إدراك».
(7) في (ح) و(ز): «الصلاة».
(8) قوله: «كالصبح والعصر أو ما شاء الله منها» ليس في (ب) و(ح) و(ز) و(غ).
(9) في (ح): «وفي بعضها خمس وعشرين».
(10) أخرجه البخاري (2/131 رقم 645) في الأذان، باب فضل صلاة الجماعة، ومسلم (1/450 رقم 650-249، 250) في الكتاب والباب السابقين.
(11) قوله: «وترك الجماعة» ليس في (ب).
(12) في (ب): «الفَضْليَّة».
(13) ذكر الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (2/134) في شرح هذا الحديث أن الجماعة قد لا تتأكد في حق المسافر لوجود المشقة، ونقل عن النووي نفيه الخلاف في ذلك، فعلق عليه شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله بقوله: «ليس ما قاله النووي بجيد، والصواب وجوب الجماعة حضرًا وسفرًا كما يُعلم ذلك من فعله - صلى الله عليه وسلم - ، ومواظبته على الجماعة، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «صلوا كما رأيتموني أصلي»، وقوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة... } الآية. وأما تفضيل صلاة من صلى في الفلاة فأتم ركوعها وسجودها على صلاة من صلى في الجماعة، فليس فيه حجة على عموم وجوب الجماعة في السفر؛ لأن أدلتها محكمة، فلا تجوز مخالفتها لشيء محتمل، وإنما يجب حمل هذا النص- إن صح - على من صلى في الفلاة حسب طاقته، من غير ترك للجماعة عند إمكانها، فأتم ركوعها وسجودها مع كونه خاليًا بربه،بعيدًا عن الناس،فشكر الله له هذا الإخلاص والاهتمام بأمر الصلاة، فضاعف له هذا التضعيف، والله أعلم». اهـ.
(14) في (ب) و(غ): «الأخرى» بدل «التي» وفي (ز): «في الرواية الأخرى التي قال فيها».
(15) في (أ): «تزيد صلاة الرجل في جماعة على صلاته... ».
(16) وهي الرواية الأخرى لحديث ابن عمر.
(17) في (ب): «وتحقيقه».
(18) في (أ): «تكون».
(19) في (غ): «وعشرين».
(20) في (ح): «وأفعل».(2/219)
ذلك في أفعل مطلقًا غير مقرون بمن؛كقوله تبارك وتعالى (1) : {فتبارك (2) الله أحسن الخالقين} (3) . وقد اختلف العلماء في هذا الفضل المضاف للجماعة: هل هو لأجل الجماعة فقط حيث كانت، أو إنما (4) يكون ذلك الفضل للجماعة التي تكون في المسجد؟ لما يلازم (5) ذلك من أفعال تختص بالمساجد؛ كإكثار الخطا إلى المساجد، وكتب الحسنات، ومحو السيئات بكل خطوة، وانتظار الصلاة، ودعاء الملائكة، ومراعاة آداب دخول المسجد إلى غير ذلك؟ والظاهر الأول؛ لأن الجماعة هو الوصف الذي علق عليه الحكم. ثم إذا قلنا ذلك لأجل الجماعة، فهل تفضل جماعةٌ جماعةً بالكثرة؟ المشهور عن مالك أنه لا فضل لجماعة على جماعة. وقال ابن حبيب: بل تفضل جماعةٌ جماعةً بالكثرة، وفضيلة الإمام. وعلى المشهور: فمن صلى في جماعة، فلا يعيد في أكثر منها، وعليه عامة العلماء، إلا ما روي عن مالك وغيره من إعادتها (6) في المساجد الثلاثة (7) في الجماعة . =(2/275)=@
*************
(75) باب التغليظ في التخلف عن الجماعة والجمعة
243- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (8) ، قال:قَالَ رَسُولُ اللهِِ - صلى الله عليه وسلم - : «إِنَّ أَثْقَلَ صَلاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلاةُ الْعِشَاءِ وَصَلاةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاةِ فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ، مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لا يَشْهَدُونَ الصَّلاةَ؛ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ » .
وَفِي رِوَايَةٍ: «ثُمَّ تحرق بُيُوت عَلَى مَنْ فِيهَا » .
244- وعَنْ عَبْدِ الله (9) ؛ أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِقَوْمٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجُمُعَةِ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلاً يُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ أُحَرِّقَ – عَلَى رِجَالٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجُمُعَةِ – بُيُوتَهُمْ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب التغليظ في التخلف عن الجماعة والجمعة
ثقل صلاة العشاء والفجر على المنافقين للمشقة اللاحقة من المحافظة عليهما (10) ؛ لأنهما في وقت نوم وركون إلى الراحة، ولمشقة الخروج إليهما (11) في الظلمة، إلى (12) &(2/220)&$
__________
(1) في (ز): «كقوله تعالى».
(2) في (ز): «تبارك».
(3) سورة المؤمنون، الآية: 14.
(4) في (ز): «وإنما».
(5) في (ح) و(ز): «يلزم».
(6) قوله: «إعادتها» لم يتضح في (ز).
(7) في (ب) و(ز): «الثلاث».
(8) أخرجه البخاري (2/125 رقم 644) في الأذان، باب وجوب صلاة الجماعة، ومسلم (1/451 رقم 651) في المساجد، باب فضل صلاة الجماعة.
(9) أخرجه مسلم (1/452 رقم 652) في المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها.
(10) في (أ): «عليها».
(11) في (ب): «إليها».
(12) في (ح): «وإلى».(2/220)
غير ذلك، فلا يتجشَّم هذه المشاق إلا من تيقن ثوابَ (1) الله ورجاه، وخاف عقاب الله واتقاه، وذلك هو المؤمن. وأما المنافق فكما قال الله تعالى فيهم: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً} (2) .
وقوله: «وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا»؛ أي: في فعلهما من الثواب، وفي
تركهما من العقاب. «لأَتَوْهُمَا»؛ أي: لجؤوا إليهما. «وَلَوْ حَبْوًا»؛ أي: محتبين يزحفون على أَلْيَاتهم من مرض أو آفة.
وقوله: «وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاةِ فَتُقَامَ» إلى قوله: «فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ» استدل بهذا الهمّ داود وعطاء وأحمد وأبو ثور على أن صلاة الجماعة فرض، ولا حجة لهم فيه؛ لأنه «هَمَّ» ولم يفعل، وإنما مخرجه مخرج التهديد والوعيد للمنافقين الذين كانوا يتخلفون عن الجماعة والجمعة. وقد كان التخلف عن الصلاة في الجماعة علامة من علامات النفاق عندهم؛ كما قال عبد الله بن مسعود (3) : =(2/276)=@ «لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق»، وكما قال - صلى الله عليه وسلم - : «بيننا وبين المنافقين شهود العتمة والصبح، لا يستطيعونهما (4) ») (5) . ويفيد هذا الحديث تأكُّدَ (6) أمر شهود الصلوات في الجماعة، وكذلك (7) قال جماعة من أئمتنا: إن الجماعة فيها واجبة على الكفاية؛ من أجل أن إقامة السنن وإحياءها واجب على الكفاية (8) ؛ إذ (9) تركها يؤدي إلى إماتتها. وذهب عامة العلماء إلى أنها سنة مؤكدة، كما قد دللنا عليه بقوله: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ»؛ إذ حاصله: أن صلاة &(2/221)&$
__________
(1) في (؟؟؟): «بثواب»، وفي (ح): «يتقرب لثواب الله».
(2) سورة النساء، الآية: 142.
(3) في حديثه الآتي قريبًا برقم (533).
(4) في (ز): «يستطيعو».
(5) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/130 رقم5) في صلاة الجماعة، باب ما جاء في العتمة والصبح، من طريق سعيد بن المسيب مرسلاً.
قال ابن عبدالبر في "التمهيد" (20/11): «ولم يختلف عن مالك في إسناد هذا الحديث وإرساله، ولا يحفظ هذا اللفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسندًا، ومعناه محفوظ من وجوه ثابتة».
(6) في (ب): «تأكيد شهود».
(7) في (ز): «ولذلك».
(8) من قوله: «من أجل إقامة السنن....» إلى هنا ليس في (ح)، وهو ملحق بحاشية (أ).
(9) في (ب): «أي».(2/221)
الفذ صحيحة. ووقوعها في الجماعة أفضل.
قال القاضي عياض رحمه الله: اختلف في التمالؤ (1) على ترك ظاهر السنن: هل (2) يقاتَلُ عليه (3) أم لا؟ والصحيح قتالهم؛ لأن في التمالؤ (4) عليها إماتتها.
قال الشيخ رحمه الله: ويحتمل أن يكون ذلك التهديد لقوم من المؤمنين صلوا في بيوتهم؛ لأمر توهّموه مانعًا ولم يكن كذلك. ويؤيد هذا التأويل: ما في كتاب (5) أبي داود (6) من الزيادة في هذا الحديث، فقال: «لقد هممت أن آمر فتيتي فيجمعوا حزمًا (7) من حطب، ثم آتي قومًا يصلّون في بيوتهم ليست بهم علّة فأحرقها عليهم». والمنافقون لا يصلون في بيوتهم، إنما يصلون في الجماعة رياء وسمعة، وأما إذا خلوا فكما وصفهم الله تعالى به من الكفر والاستهزاء.
وعلى هذا التأويل تكون هذه الجماعة المهدَّد على التخلُّف عنها هي الجمعة؛ كما قد نص عليه في حديث عبد الله بن مسعود (8) ، فيحمل المطلق منهما (9) على المقيَّد، والله تعالى أعلم.
وفي هذا الحديث دليل على جواز العقوبة في المال. وفي قوله: «ثم تُحَرَّقُ بيوتٌ على من فيها» (10) ما يدل على أن (11) تارك الصلاة =(2/277)=@ متهاونًا يقتل (12) . وفيه جواز أخذ أهل الجرائم على غِرَّة.
وقوله: «ولو علم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا لشهدها»، وقال البخاري - آخِرَ (13) هذا الحديث -: «والذي نفسي بيده! لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينًا أو مِرْمَاتين حسنتين (14) لشهد العشاء». العرق (15) والعراق: العظم الذي عليه &(2/222)&$
__________
(1) في (ب) و(ز): «التمالئ».
(2) في (أ): «فهل».
(3) في (ب) و(غ): «عليها».
(4) في (ب) و(ز): «التمالئ».
(5) في (ب): «ما جاء في كتاب».
(6) "سنن أبي داود" (1/372 رقم549) في الصلاة، باب التشديد في ترك الجماعة، من طريق يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، به. وهو عند مسلم من هذا الطريق، إلا أنه لم يسق لفظه، وإنما أحال على لفظ الرواية الثانية التي أوردها القرطبي هنا لحديث أبي هريرة هذا.
(7) في (ب): «جزمًا».
(8) المتقدم برقم (531).
(9) في (ح): «منها».
(10) قوله: «ما» سقط من (غ).
(11) قوله: «أن» ليس في (أ).
(12) قوله: «يقتل» ليس في (ز).
(13) في (ب) و(ح) و(ز): «في آخر».
(14) في (ز): «سنيين».
(15) في (ح): «والعرق». ...(2/222)
اللحم. والمرماة - بكسر الميم -، صحيح الرواية فيه كذلك. وقد اختلف فيها، فقال ابن حبيب: هما السهمان. وقال الأخفش: المرماة: لعبة كانوا يلعبونها بنصال محددة (1) يرمونها في كوم من تراب، فأيهم أثبتها في الكوم غلب. وهي: المرماة والمدحاة، والجمع: مرام ومداح. وقال أبو عبيد: المرماة: ما بين ظلفي الشاة. ومعنى هذا الحديث: أن المنافق لجهله (2) .
بما أعدّ الله تعالى على (3) شهودها في الجماعة اعة يكسل عنها، وتثقل (4) عليه، ولقلة رغبته في أعمال الخير. فلو عَنَّ له حظ يسير من الدنيا كالمرماة، أو كالعرق؛ لبادر إليه وأتى المسجد في أي وقت كان؛ إذا كان ذلك الحظ في المسجد، والله أعلم . =(2/278)=@
245 -وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (5) قَالَ: أَتَى النبي - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ أَعْمَى فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى الْمَسْجِدِ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فَيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ، فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ: «هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلاةِ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَأَجِبْ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول أبي هريرة - رضي الله عنه - : «أَتَى النبي - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ أَعْمَى» هو ابن أم مكتوم على ما ذكره أبو داود والدارقطني (6) .
وقوله (7) : «فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ»: هذا الترخيص إنما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - بناء منه على أنه لما لم يكن له قائد يقوده تعذّر عليه المشي إلى المسجد، ثم إنه تبين له من حاله أنه يتمكن (8) من ذلك؛ كما قد يتفق لبعض العميان، قال له: «لا أجد لك رخصة»؛ كما رواه أبو داود في (9) هذا الخبر. ودليل صحة ما ذكرناه: أنه - صلى الله عليه وسلم - لو تحقق له عذرٌ (10) لعذره؛ كما قد اتفق لعتبان بن مالك (11) ، وكما قد أجمعت الأمة عليه من سقوط حضور الجماعة عن ذَوي الأعذار. &(2/223)&$
__________
(1) في (ح): «محدودة».
(2) في (ح): «بجهله».
(3) في (غ): «أعد الله تعالى له».
(4) في (غ): «ويثقل».
(5) أخرجه مسلم (1/452 رقم 653) في المساجد ومواضع الصلاة، باب يجب إتيان المسجد على من سمع النداء.
(6) أخرجه أبو داود (1/374، 375 رقم552،553) في الصلاة، باب في التشديد في ترك الجماعة، من طريق أبي رزين وعبدالرحمن بن أبي ليلى، كلاهما عن ابن أم مكتوم - واللفظ لحديث أبي رزين - أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إني رجل ضرير البصر، شاسع الدار، ولي قائد لا يلائمني، فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟... الحديث.
وأخرجه الدارقطني في "سننه" (1/381 رقم1) من طريق عبدالله بن شداد بن الهاد، عن ابن أم مكتوم، نحوه.
وأخرجه أحمد(3/423)، وابن ماجه (1/260 رقم792) في المساجد والجماعات، باب التغليظ في التخلف عن الجماعة، وابن خزيمة في "صحيحه"(2/368-369رقم1480)، والحاكم (1/247)، جميعهم من طريق عاصم بن بهدلة، عن أبي رزين، عن ابن أم مكتوم، به.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/303-304 رقم3473) في الصلاة، باب من قال: إذا سمع المنادي فليجب، والنسائي (2/109-110 رقم851) في الإمامة، باب المحافظة على الصلوات حيث ينادى بهن، وابن خزيمة (2/367-368 رقم1478)، جميعهم من طريق عبدالرحمن بن عابس، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن ابن أم مكتوم، به.
وأخرجه الحاكم (1/246-247) من هذا الطريق، إلا أنه سقط من إسناده عبدالرحمن ابن أبي ليلى، ولذلك قال: «صحيح الإسناد إن كان ابن عابس سمع من ابن أم مكتوم»، ووافقه الذهبي. وأخرجه ابن أبي شيبة في الموضع السابق برقم (3472)، وأحمد (3/423)، وابن خزيمة برقم (1479)، والحاكم في الموضع السابق، جميعهم من طريق عبدالله بن شداد، عن ابن أم مكتوم، به، وصحح الحاكم إسناده.
(7) في (ح) و(غ): «قوله».
(8) في (ب): «متمكن».
(9) قوله: «في» جاء في نهاية اللوحة من نسخة (ح)، ثم لم يتصل الكلام مع اللوحة التي بعدها، فتبين أن صفحة قد سقطت، وينتهي السقط في نهاية «باب النهي عن الخروج من المسجد بعد الأذان» كما سيأتي التنبيه عليه.
(10) في (أ) و(ب) و(غ) و(ح): «عذرًا».
(11) في (أ): «كما رخص لعتبان»، وسيأتي حديث عتبان قريبًا برقم (537).(2/223)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلاةِ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَأَجِبْ» يدل على أن ذلك كان في الجمعة، وحينئذ لا تكون (1) فيه حجة لداود، ولا لمن استدل به =(2/279)=@ على وجوب الجماعة في غير الجمعة. ولو سُلِّم أن المراد به الجماعة لسائر الصلوات؛ لأمكن أن يقال: كان ذلك سدًّا لباب الذريعة إلى إسقاطها لأجل المنافقين، كما قال عبد الله (2) : «ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق أو مريض».
246- وعَنْ عَبْدِ الله (3) ، قال:مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى الله غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاءِ الصَّلَوَاتِ، حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ. فَإِنَّ الله - عَزَّ وَجَلَّ - شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ - صلى الله عليه وسلم - سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ، إِلا كَتَبَ الله لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً، وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً. وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ.وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله (4) في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - : «وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ (5) نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْوها لَضَلَلْتُمْ» هذا لا يصلح (6) أن يتمسك به من قال: إن إقامة الجماعة للصلوات فرض على الكفاية؛ كما حكيناه. ويصلح لمن يقول: إنها سنة. ويكون إطلاقه (7) الضلال على التاركين إذا تمالؤوا (8) على تركها كما قدمناه. والضلال ضد الهدى، وأصله من: ضلَّ عن الطريق: إذا أخطأه وعدل عنه. و«السَّنَنُ» رُوي بفتح السين؛ وهو الطريق، وبضمها (9) : جمع سُنَّة؛ وهي: الطريقة. و«يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ»: يتماشى بينهما معتمدًا عليهما لمرضه وضعفه . =(2/280)=@ &(2/224)&$
__________
(1) في (ب): «لا يكون».
(2) أي: ابن مسعود في حديثه الآتي.
(3) أخرجه مسلم (1/453 رقم 654-257) في المساجد ومواضع الصلاة، باب صلاة الجماعة من سنن الهدى.
(4) في (ز): «قوله».
(5) في (ب): «سنته».
(6) في (ب) و(ز) و(غ): «هذا يصلح لأن».
(7) في (ز) و(غ): «إطلاق».
(8) في (ب): «تمالوا».
(9) قوله: «وبضمها» في (ز) لم يتضح.(2/224)
*****************
( 76 ) باب النهي عن الخروج من المسجد بعد الأذان، وفضل العشاء والصبح في جماعة
247- عَنْ أبي هُرَيْرَةَ (1) ، وَرَأَى رَجُلاً يَجْتَازُ الْمَسْجِدَ خَارِجًا بَعْدَ الأَذَانِ. فَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب النهي عن الخروج من المسجد بعد الأذان
قول أبي هريرة - رضي الله عنه - في الخارج من المسجد: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» محمول على أنه حديث مرفوع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ بدليل ظاهر (2) نسبته إليه في معرض الاحتجاج به، وما كان يليق بواحد منهم؛ للذي (3) عُلِم من دينهم وأمانتهم وضبطهم وبعدهم عن التدليس ومواقع الإيهام (4) ، وكأنه سمع ما يقتضي تحريم الخروج من المسجد بعد الأذان، فأطلق لفظ المعصية. فإذا ثبت هذا استُثمر (5) منه: أن من دخل المسجد لصلاة فرض، فأذن مؤذنٌ ذلك الوقت (6) ، حَرُمَ عليه أن يخرج منه لغير ضرورة، حتى يُصلي فيه تلك الصلاة؛ لأن ذلك المسجد تعين لتلك الصلاة، أو لأنه إذا خرج قد يمنعه مانع من الرجوع إليه، أو إلى غيره فتفوته الصلاة. &(2/225)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/453 رقم 655-258) في المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن الخروج من المسجد إذا أذن المؤذن.
(2) قوله: «ظاهر» ليس في (ب).
(3) في (ز): «الذي».
(4) في (ز): «الإبهام».
(5) في (ز) و(غ): «استمر».
(6) في (ب): «ذلك المسجد».(2/225)
248- وعَنْ عُثْمَانُ بْنُ عَفْانَ (1) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ ».
249- وعَنْ جُنْدَبَ بْنَ عَبْدِ الله الْقَسْرِيّ (2) ، قال:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «مَنْ صَلَّى صَلاةَ الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ الله، فَلا يَطْلُبَنَّكُمُ الله مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ، فَإِنَّهُ مَنْ يَطْلُبْهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ يُدْرِكْهُ، ثُمَّ يَكُبَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي نَارِجَهَنَّمْ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى (3) اللَّيْلَ كُلَّهُ» (4) ؛ معناه: قام نصف ليلة أو ليلة (5) لم يصل (6) فيها =(2/281)=@ العتمة والصبح في جماعة؛ إذ لو صلى ذلك في جماعة لحصل له فضلها وفضل القيام.
وقوله: «مَنْ صَلَّى صَلاةَ الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ الله»؛ أي: في أمان الله، وفي جواره؛ أي: قد استجار بالله تعالى، والله تعالى قد أجاره، فلا ينبغي لأحد يتعرض له بضر أو أذى، فمن فعل ذلك فالله تعالى يطلبه (7) بحقه، ومن يطلبه لم يجد مفرًّا ولا ملجأ. وهذا وعيد شديد لمن يتعرض (8) للمصلين، وترغيب في (9) حضور صلاة الصبح. و«يكبّه في النار»: يقلبه (10) فيها على وجهه . =(2/282)=@
( 77 ) باب الرخصة في التخلف عن الجماعة للعذر
250- عَنْ مَحْمُودَ بْنَ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيَّ (11) ؛ أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الأَنْصَارِ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي قَدْ أَنْكَرْتُ بَصَرِي، وَأَنَا أُصَلِّي لِقَوْمِي، وَإِذَا كَانَتِ الأَمْطَارُ سَالَ الْوَادِي الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، وَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ آتِيَ مَسْجِدَهُمْ، فَأُصَلِّيَ لَهُمْ. ووَدِدْتُ أَنَّكَ يَا رَسُولَ اللهِ تَأْتِي فَتُصَلِّي فِي مُصَلًّى، أَتَّخِذَهُ مُصَلًّى، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «سَأَفْعَلُ إِنْ شَاءَ الله» قَالَ عِتْبَانُ: فَغَدَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ حِينَ ارْتَفَعَ النَّهَارُ، فَاسْتَأْذَنَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَذِنْتُ لَهُ، فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ، ثُمَّ قَالَ: «أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟ » قَالَ: فَأَشَرْتُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَيْتِ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَكَبَّرَ، فَقُمْنَا وَرَاءَهُ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، قَالَ: وَحَبَسْنَاهُ عَلَى خَزِيرٍ صَنَعْنَاهُ لَهُ - وَفِي رِوَايَةٍ: جَشِيشَةٍ - قَالَ: فَثَابَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ حَوْلَنَا، حَتَّى اجْتَمَعَ فِي الْبَيْتِ رِجَالٌ ذَوُو عَدَدٍ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُنِ؟فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ مُنَافِقٌ لا يُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ.فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «لا تَقُلْ لَهُ ذَلِكَ، أَلا تَرَاهُ قَدْ قَالَ: لا إِلهَ إِلا الله، يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ الله؟» قَالُوا: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّمَا نَرَى وَجْهَهُ وَنَصِيحَتَهُ لِلْمُنَافِقِينَ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «فَإِنَّ الله قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لا إِلهَ إِلا الله، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ الله ». قَالَ الزُّهْرِيِّ: ثُمَّ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَرَائِضُ وَأُمُورٌ، نَرَى أَنَّ الأَمْرَ انْتَهَى إِلَيْهَا، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَغْتَرَّ فَلا يَغْتَرَّ .
وَفِي رِوَايَةٍ: قاَلَ مَحْمُودُ بْنُ الرَبِيْعِ: إِنّي لأَعْقِلُ مَجَّةً مَجَّهَا رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ دَلْوٍ فِي دَارِنْاَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الرخصة في التخلف عن الجماعة للعذر
قوله: «أَنْكَرْتُ بَصَرِي»؛ أي: عميت بعد أن لم أكن كذلك، وفي هذا الحديث أنه أباح له الصلاة في بيته لتحقق عذره، ولأن مثل هذا لا يقدر على الوصول مع الأمطار وسيل الوادي، وكونه أعمى. وهذا (12) بخلاف عذر الأعمى الذي في حديث أبي هريرة المتقدم؛ إذ قال له (13) : «لا أجد لك رخصة».
وقد تقرر الإجماع المتقدم على أن من تحقق عذره أبيح له التخلف عن الجماعة والجمعة، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. &(2/226)&$
__________
(1) أخرجه مسلم(1/454رقم656)في المساجد، فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة.
(2) أخرجه مسلم (1/454 رقم 657) في الكتاب والباب السابقين.
(3) في (غ): «قام».
(4) إلى هنا انتهى السقط في نسخة (ح) الذي سبق التنبيه عليه في نهاية «باب التغليظ في التخلف عن الجماعة».
(5) قوله: «أو ليلة» ليس في (ح).
(6) في (ب) و(ح): «فالله يطلب».
(7) في (غ): «يصلوا»، وفي (ز): «يصلي».
(8) في (غ): «يعرض».
(9) قوله: «في» ليس في (أ)، و(ح).
(10) في (ب): «يقليه».
(11) أخرجه البخاري (3/60-61 رقم1185،1186) في التهجد، باب صلاة النوافل جماعة، وانظر أطرافه في (1/172 رقم77) كتاب العلم، باب متى يصح سماع الصغير، و(1/518 رقم 424) في الصلاة، باب إذا دخل بيتًا يصلي حيث شاء... ، ومسلم (1/61 رقم 33) في الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، وفي (1/455 رقم 33) في المساجد، باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر.
(12) قوله: «وهذا» ليس في (ب) و(غ).
(13) في (ح): «أنه قال لا أجد»، وفي (غ): «إذ قال لا أجد».(2/226)
و«الخزيرة» قال فيها (1) ابن قتيبة: هي لحم يقطع صغارًا، ثم يصب عليه ماء كثير، فإذا أنضج (2) ذُرّ عليه الدقيق، فإن لم يكن فيها لحم فهي عصيدة. وقال =(2/283)=@ أبو الهيثم: إذا كانت (3) من دقيق فهي حريرة، وإذا كانت من نخالة فهي خزيرة. قال ابن السكيت: الخزيرة (4) : اللفيتَةُ (5) من لبن أو ماء ودقيق.
قال الشيخ رحمه الله: وقد سماها في الرواية الأخرى: «جَشِيشَةٍ». قال شمر: هي أن تطحن الحنطة قليلاً، ثم يلقى فيها لحم أو تمر فيطبخ فيه.
وقال النضر: الخزيرة من النخالة، والحريرة من اللبن.
وقوله: «فَثَابَ رِجَالٌ»، قال النضر: المثابة: المجمع (6) والمرجع. وأصله من ثاب إلى كذا؛ أي: رجع.
وقد تقدم (7) الكلام على قوله: «فَإِنَّ الله قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لا إِلهَ إِلا الله».
وقول محمود - رضي الله عنه - : «إني لأعقل مَجَّةً مَجَّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من دلو في (8) دارنا»؛ =(2/284)=@ أي: في وجهه. والمجّ: طرح الماء وغيره (9) من الفم؛ كما قال (10) :
............................. ... يَمُجُّ لُعَاعَ البَقْل في كُلّ مَشْربِ
وإنما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك مباسطة للصبي وتَأْنِيسًا له؛ كما قال: «يا أبا عمير (11) ما فعل النغير؟ (12) »)، (13) ، أو لعله فعل هذا ليعقل هذا الفعل منه لصغره، فيحصل &(2/227)&$
__________
(1) قوله: «فيها» ليس في (غ).
(2) في (ب) و(غ): «نضج».
(3) في (أ) و(ح) و(ز) و(غ): «كان».
(4) قوله: «الخزيرة» سقط من (أ) و(ح) و(ز) و(غ).
(5) في (غ): «التلبينة».
(6) في (غ): «المجتمع».
(7) في كتاب الإيمان، باب من لقي الله تعالى عالِمًا به دخل الجنة؛ في شرح الحديث رقم (21)، وباب لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين، بل لابد من استيقان القلب؛ في شرح الحديث رقم (26).
(8) في (غ): «من» بدل «في».
(9) قوله: «وغيره» ليس في (ز).
(10) القائل: هو امرؤ القيس؛ كما في "شرح ديوانه" (ص65)، وصدر البيت:
أَقَبَّ رَبَاعٍ مِنْ حَمِيرِ عَمَايَةٍ ... ...................................
وهو هنا يصف حمار وحشٍ. والأقبّ هو: الضامر البطن ،والرَّباع: فَتيُّ السنّ، وعماية: جبل بالبحرين. ومعنى قوله: «يًمُجُّ لُعَاعَ البَقْل»: يرمي خضرة البقل الذي يأكله في الماء الذي يشربه.
(11) في (غ): «يا عمير» وفي (ب): «يا با عمير».
(12) قوله: «ما فعل النغير» تكررت في (ز).
(13) وهو الحديث الآتي في كتاب الأدب برقم (2051)، باب تكنية الصغير وندائه بـ: يابني.(2/227)
له بذلك تأكيد في فضيلة الصحبة، ونقل شيء عنه - صلى الله عليه وسلم - كما كان. وكان محمود إذ ذاك ابن أربع سنين، وقيل: ابن خمسٍ (1) (2) . وفيه دليل: على جواز سماع الصغير (3) إذا عقل وثبت، ثم نقل في كبره. وهذا الحديث فيه أبواب من الفقه كثيرة (4) لا تخفي (5) على متأمل (6) ، والله الموفق للصواب .
**************
( 78 ) باب صلاة النفل في جماعة، والصلاة على البسط
وإن عتقت وامتهنت
251- عَنْ إِسْحاَقَ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (7) : أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: « قُومُوا فَأُصَلِّيَ لَكُمْ ». قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ، فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ، فَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ، وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا، فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ .
252-وعَنْ أَنَسِ (8) أَيْضًا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، فَرُبَّمَا تَحْضُرُ الصَّلاةُ وَهُوَ فِي بَيْتِنَا، فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِي تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ، ثُمَّ يُنْضَحُ، ثُمَّ يَؤُمُّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَقُومُ خَلْفَهُ، فَيُصَلِّي بِنَا. قَالَ: وَكَانَ بِسَاطُهُمْ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب صلاة النفل في جماعة
الضمير في قوله: «أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ» عائد على إسحاق بن عبد الله، وهي أم أبيه: عبد الله بن أبي طلحة. ومالك هو القائل: «أن جدته»، قال (9) أبو عمر (10) ، &(2/228)&$
__________
(1) في (غ): «ابن خمس سنين».
(2) والراجح أنه ابن خمس سنين؛ كما دلّت عليه رواية البخاري، وصوّبه ابن حجر في "الفتح" (1/172-173).
(3) في (ز): «سماع الصبي الصغير».
(4) قوله: «كثيرة» ليس في (ح).
(5) في (ز): «يخفى».
(6) في (ح): «فطنٍ متأمل».
(7) أخرجه البخاري(1/488 رقم 380) في الصلاة، باب الصلاة على الحصير، و(2/212 رقم727) كتاب الأذان، باب المرأة وحدها تكون صفًّا، و(2/345 رقم860) كتاب الأذان، باب وضوء الصبيان... ، و(2/351 رقم871) كتاب الأذان، باب صلاة النساء خلف الرجال، و(2/353 رقم 874) في الكتاب والباب السابقين، و(3/48 رقم1164) كتاب التهجد، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، ومسلم (1/457 رقم 658) في المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز النافلة والصلاة على حصير وخمرة ثوب وغيرها من الطاهرات.
(8) أخرجه مسلم(1/457رقم 659) في المساجد، باب جواز الجماعة في النافلة...
(9) في (ز) و(ب) و(غ): «قاله».
(10) في "التمهيد" (1/264).(2/228)
وغلّط =(2/285)=@ غيرُه هذا القول، وقال: بل مليكة جدة أنس أم أمه (1) ، وعليه يعود الضمير، وهو القائل: «أن جدته». والرواية الصحيحة: «مُلَيْكَة» بضم الميم وفتح اللام، وذكر ابن عتابٍ عن الأصيلي أنها (2) : «مَلِيكة»، بفتح الميم وكسر اللام .
وقوله: «فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ»، قال إسماعيل بن إسحاق: إنما نضحه (3) ليلين وليتوطّأ (4) للصلاة، والأظهر قول غيره: إن ذلك إما لنجاسة متيقنة - فيكون النضح هنا غَسلاً- أو متوقَّعة (5) ؛ لامتهانه بطول (6) افتراشه، فيكون رشًّا لزوال الشك وتطييب النفس، وهذا هو الأليق؛ لاسيما وقد كان عندهم أبو عمير أخو أنس طفلاً صغيرًا حينئذ .
وقوله: «فَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ»: حجة لكافة أهل العلم في أن هذا حكم الاثنين خلف الإمام، وعلى أبي حنيفة والكوفيين؛ إذ يقولون: يكونان (7) عن يمينه ويساره (8) .
وقوله: «وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا»؛ هذا حكم قيام المرأة خلف الإمام، ولا خلاف فيه. ويجوز أن يتمسك به على أن المرأة لا تؤم الرجال؛ لأنها إذا كان =(2/286)=@ مقامها في الائتمام (9) متأخرًا عن مرتبة الرجال، فأبعد أن تتقدمهم، وهو قول الجمهور خلافًا للطبري وأبي ثور في إجازتهما إمامة النساء للنساء (10) والرجال (11) جملة،وحكي عنهما إجازة ذلك في التراويح إذا لم يوجد قارئ غيرها. واختلف في إمامتها للنساء (12) : فذهب مالك وأبو حنيفة وجماعة من العلماء إلى منع إمامتها للنساء (13) ، وأجاز ذلك الشافعي، وفيه رواية شاذة عن مالك.
وفي هذا الحديث أبواب من الفقه؛ منها: الصلاة على ما تُنْبِتُه الأرض؛ فإن هذا الحصير كان من جريد النخل؛ كما قاله في الرواية الأخرى، ولا خلاف في هذا. وما رُوي (14) عن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - من خلاف هذا؛ إنما كان لأن مباشرة الأرض أبلغ في التواضع. وفيه (15) : أن الافتراش سُمِّي (16) لباسًا، فمن حلف ألا &(2/229)&$
__________
(1) في (ح) يشبه أن تكون: «أم أبيه».
(2) قوله: «أنها» ليس في (أ).
(3) في (ح) و(ز) و(غ): «نضحته».
(4) في (ز): «ويتوطأ».
(5) في (أ) و(ح) و(غ) و(ز): «توقعها».
(6) في (أ): «لامتهانة طول»، وفي (غ): «متهانه طول».
(7) في (ح): «يقومان».
(8) علق بهامش (ح) على هذا الموضع بما نصه: «كأنه مذهب عبدالله بن مسعود والله أعلم».
(9) قوله: «الائتمام» سقط من (غ).
(10) في (غ): «بالنساء».
(11) في (ب): «وللرجال».
(12) قوله: «للنساء» ليس في (ح).
(13) في (ب): «للنساء أيضًا».
(14) في (ز»: «وروي».
(15) في (ب): «ومنه».
(16) في (ب) و(ز) و(غ): «يسمى».(2/229)
يلبس ثوبًا، فافترشه وجلس (1) عليه حنث، وعلى هذا لا يفترش الرجل الحرير فيجلس (2) عليه، وهو مذهب مالك وكافة العلماء، خلافًا لعبد الملك، ومن قال بقوله في إجازة الافتراش. وفيه حجة على أن من يعقل الصلاة من الصبيان حكمهم في القيام خلف الإمام حكم الرجال، وهو مذهب الجمهور، وروي عن أحمد كراهة ذلك (3) ، وقال: لا يقوم مع الناس إلا من قد بلغ. وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (4) وغيره أنه كان إذا أبصر صبيًّا في الصف أخرجه، وهذا عند الكافة محمول على من لا يعقل الصلاة ولا يكف عن العبث فيها. =(2/287)=@
253- وعَنْهُ (5) ، قَالَ: دَخَلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْنَا، وَمَا هُوَ إِلا أَنَا وَأُمِّي وَأُمُّ حَرَامٍ خَالَتِي، فَقَالَ: « قُومُوا فَلأُصَلِّيَ بكُمْ » - فِي غَيْرِ وَقْتِ صَلاةٍ - فَصَلَّى بِنَا، فَقَالَ رَجُلٌ لِثَابِتٍ: أَيْنَ جَعَلَ أَنَسًا مِنْهُ؟ قَالَ جَعَلَهُ عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ دَعَا لَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ بِكُلِّ خَيْرٍ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَقَالَتْ أُمِّي: يَا رَسُولَ اللهِ! خُوَيْدِمُكَ ادْعُ الله لَهُ. قَالَ: فَدَعَا لِي بِكُلِّ خَيْرٍ، وَكَانَ فِي آخِرِ مَا دَعَا لِي بِهِ أَنْ قَالَ: « اللهمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ ».
254- وَعَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدَرِيْ (6) ؛ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَوَجَدَهُ يُصَلِّي عَلَى حَصِيرٍ يَسْجُدُ عَلَيْهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «قُومُوا فَلأُصَلِّيَ بكُمْ»؛ هذه اللفظة رويناها هنا (7) : «فَلأُصَلِّيَ بكُمْ (8) ») بكسر لام (9) «فلأصليَ لكم» وفتح الياء؛ على أنها لام كي، والفاء زائدة. وقد جاءت زائدة في مواضع؛ منها قولهم: زيد فمنطلق، كما قال:
وقائلة خَوْلانُ فانكح فتاتهم (10) &(2/230)&$
__________
(1) في (ب): «فجلس».
(2) في (ب): «ويجلس».
(3) في (ب): «كراهته».
(4) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (1/363 رقم4169) من طريق إبراهيم النخعي: أن عمر بن الخطاب كان إذا رأى غلامًا في الصف أخرجه. وسنده ضعيف؛ فإبراهيم النخعي لم يدرك عمر - رضي الله عنه - .
(5) أخرجه مسلم (1/457 رقم 660) في المساجد، باب جواز الجماعة في النافلة....
(6) أخرجه مسلم (1/458 رقم 661) في المساجد، باب جواز الجماعة في النافلة....
(7) في (غ): «هاهنا».
(8) قوله: «لكم» ليس في (ب) و(ح) و(ز) و(غ).
(9) في (ح): «اللام».
(10) هذا صدر بيت أنشده سيبويه؛ كما في "لسان العرب" (14/239)، والمستقصي في أمثال العرب وعجزه: ... ................................
............................... ... وأَكْرُومَةُ الحيَّيْن خِلْوٌ كما هِيَا(2/230)
وهو مذهب الأخفش فيما سمعت .
وقد روي بكسر اللام وجزم الياء، على أنه أمر نفسه؛ كما يقال: لأقم ولأقعد (1) . وقد روي بفتح اللام وإثبات الياء ساكنة، وهي أشذّها؛ لأن اللام تكون جواب قسم محذوف، وحينئذ تلزمها النون في الأَعْرَف. وقيل: إن اللام مُقْحَمَة (2) ؛ كقوله تعالى: {إن كاد ليضلنا} (3) ، وكقول الشاعر:
أُمُّ حُلَيْس لَعَجُوزٌ سَلهبَه (4) (5)
وقوله: «اللهمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ»: حجة على جواز الدعاء في تكثير المال والولد (6) ، لكن مع الدعاء بالبركة، والاجتهاد في كفاية الفتنة، وبذلك كمل لأنس - رضي الله عنه - خير الدنيا والآخرة، وهذا الحديث عَلَم من أعلام نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه استجيب له في أنس، فكثر ماله وولده (7) . =(2/288)=@
*************
(79) باب فضل انتظار الصلاة في المسجد
255- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (8) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : « صَلاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تَزِيدُ عَلَى صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَصَلاتِهِ فِي سُوقِهِ، بِضْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ، لا يَنْهَزُهُ إِلا الصَّلاةُ، لا يُرِيدُ إِلا الصَّلاةَ، فَلَمْ يَخْطُ خَطْوَةً، إِلا رُفِعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَانَ فِي الصَّلاةِ مَا كَانَتِ الصَّلاةُ هِيَ تَحْبِسُهُ، وَالْمَلائِكَةُ يُصَلُّونَ عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ يَقُولُونَ: اللهمَّ ارْحَمْهُ،اللهمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللهمَّ تُبْ عَلَيْهِ، مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ، مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ ». قِيلَ لأَبِي هُرَيْرَةَ: مَا يُحْدِثُ؟ قَالَ: يَفْسُو أو يَضْرِط .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب فضل انتظار الصلاة
قوله: «لا يَنْهَزُهُ إِلا الصَّلاةُ»؛ أي: لا يحركه إلا إرادة الصلاة. ومنه: انتهز الفرصة؛ أي: تحرك إليها وحصّلها.
وقوله: «مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ (9) »)، قد فسره أبو هريرة بما ذكره (10) في الأصل، وهو منه تمسك بالعرف الشرعي، وقد فسره غيره بأنه الحدث الذي يصرفه
عن إحضار قصد (11) انتظار الصلاة، ويحمله على الإعراض عن ذلك، سواء كان مسوغًا أو غير مسوغ، وهو تمسك بأصل اللغة، وحمله بعضهم على إحداث مأثم، والله أعلم.
وقد تقدم الكلام في البضع (12) . &(2/231)&$
__________
(1) في (ب): «قم لأقعد». وفي (غ): «لأقم لأقعد».
(2) في(أ): «مقمحة» بتقديم الميم على الحاء،وهو تصحيف، والعبارة ليست في (ب)و(ح).
(3) سورة الفرقان، الآية: 42.
(4) علق الشيخ محمد محيي الدين عبدالحميد على هذا البيت في تحقيقه لـ"شرح ابن عقيل" (1/336)، فقال: «نسبه جماعة - ومنهم الصاغاني - إلى عنترة بن عروس مولى بني ثقيف، ونسبه آخرون إلى رؤبة بن العجاج، والأول أكثر وأشهر. ورواه الجوهري، ورواه ابن منظور في "اللسان" (1/510) غير منسوب».اهـ.
(5) قوله: «وقيل: إن اللام مقحمة» إلى هنا ساقط من (ب) و(ح) و(ز) و(غ).
(6) في (ح): «على جواز تكثير الدعاء في المال».
(7) كما سيأتي في النبوات برقم (2384)، باب فضل أنس بن مالك.
(8) أخرجه البخاري (2/131 رقم 647) في الأذان، باب فضل صلاة الجماعة، وانظر الحديث المتقدم في (241)، ومسلم (1/459 رقم 649) في المساجد، باب فضل صلاة الجماعة وانتظار الصلاة.
(9) في (ح) و(ز): «يحدث نفسه»، وفي (ب): «إحظار قصد».
(10) في (ب) و(ح) و(ز): «ذكر».
(11) في (ح): «إحضار فضل».
(12) تقدم في باب الإيمان شعبٌ والحياء شعبة منها.(2/231)
وهذا الحديث يفهم منه: أن فضل الجماعة لم يكن لأجل الجماعة فقط، بل لما يلازمها من الأحوال؛ كقصد الجماعة، ونقل الخطا، وانتظار الصلاة، وصلاة الملائكة عليه، وغير ذلك. ويعتضد بهذا الحديث مالك رحمه الله لمذهبه في قوله: =(2/289)=@ لا تفضل جماعةٌ جماعةً؛ لاشتراكهم في تلك الأمور.
وقوله: «فَلَمْ يَخْطُ خَطْوَةً»، بضم الخاء - الرواية -، وهي واحدة الخُطا، وهي (1) ما بين القدمين. فأما الخطوة - بفتح الخاء - فهي المصدر، واحدة الخَطو (2) . فالضم للاسم، والفتح للمصدر.
وقوله: «مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ»؛ أي: ما لم (3) يصدر عنه ما يتأذّى (4) به بنو آدم والملائكة (5) .
قال الشيخ رحمه الله: ويحتمل قوله (6) : «مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ» أن يكون بدلاً من
قوله: «مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ».
وقوله: «إِلا رُفِعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا (7) خَطِيئَةٌ»، قال الداودي: إن كانت له ذنوب حُطّت عنه، وإلا رفعت له درجات.
قال الشيخ رحمه الله: وهذا يقتضي أن الحاصل بالخُطوة درجة واحدة: إما (8) الحَطّ، وإما الرفع. وقال غيره: بل الحاصل بالخطوة الواحدة ثلاثة أشياء؛ لقوله في الحديث الآخر (9) : «كتب الله له بكل خطوة حسنة، ويرفعه (10) بها درجة، ويحط سيئة بها عنه (11) »)، والله أعلم . =(2/290)=@ &(2/232)&$
__________
(1) في (أ): «وهو».
(2) في (غ): «الخطوة».
(3) في (ح) و(ز): «أي لم».
(4) في (ب): «منه» بدل «به».
(5) في (أ): «أو الملائكة».
(6) في (ب) و(غ): «ويحتمل أن يكون».
(7) قوله: «بها» ليس في (أ).
(8) في (ح) و(غ): «واما».
(9) يعني حديث ابن مسعود المتقدم برقم (533).
(10) في (ح): «ويرفع».
(11) قوله: «عنه» ليس في (ح).(2/232)
صفحة فارغة =(2/291)=@
*************
( 80 ) باب من كانت داره عن المسجد أبعد كان ثوابه في
إتيانه أكثر
256- عَنْ أَبِي مُوسَى (1) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ أَجْرًا فِي الصَّلاةِ أَبْعَدُهُمْ إِلَيْهَا مَمْشًى، فَأَبْعَدُهُمْ. وَالَّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلاةَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الإِمَامِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنِ الَّذِي يُصَلِّيهَا ثُمَّ يَنَامُ ».
257-وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ (2) قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَار، لا أَعْلَمُ رَجُلاً أَبْعَدَ مِنَ الْمَسْجِدِ مِنْهُ، وَكَانَ لا تُخْطِئُهُ صَلاةٌ. قَالَ: فَقِيلَ لَه: - أَوْ قُلْتُ لَهُ- لَوِ اشْتَرَيْتَ حِمَارًا تَرْكَبُهُ فِي الظَّلْمَاءِ وفي الرَّمْضَاءِ. قَالَ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ مَنْزِلِي إِلَى جَنْبِ الْمَسْجِدِ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ يُكْتَبَ لي مَمْشَايَ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَرُجُوعِي إِذَا رَجَعْتُ إِلَى أَهْلِي. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : « قَدْ جَمَعَ الله لَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ » .
258-وعَنْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله (3) قَالَ: كَانَتْ دِيَارُنَا نَائِيَةً مِنِ الْمَسْجِدِ، فَأَرَدْنَا أَنْ نَبِيعَ بُيُوتَنَا فَنَقْتَرِبَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَنَهَانَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: «إِنَّ لَكُمْ بِكُلِّ خَطْوَةٍ دَرَجَةً».
259- وعَنْهُ (4) قَالَ: أَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ أَنْ يَتَحَوَّلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ قَالَ: وَالْبِقَاعُ خَالِيَةٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: « يَا بَنِي سَلِمَةَ! دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ (5) » فَقَالُوا: مَا كَانَ يَسُرُّنَا أَنَّا كُنَّا تَحَوَّلْنَا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب من كانت داره (6) عن المسجد أبعد كان ثوابه أكثر
قوله (7) : «دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ»: «دِيَارَكُمْ»: بالنصب على الإغراء؛ أي: الزموا دياركم. و«تُكْتَبْ (8) »): جزم على جواب ذلك الأمر. و«الآثار»: الخُطا. و«البقاع»: جمع بُقعة؛ وهي المواضع الفارغة، زاد في كتاب البخاري (9) : «وكره أن تُعْرَى المدينة»، وهذا تنبيه على علّة أخرى تحملهم على مقامهم بمواضعهم؛ وهي أنه كره أن تترك جهات المدينة عراء؛ أي: فضاء خالية، فيؤتون منها. ومن هذا قوله تعالى: {فنبذناه بالعراء} (10) ؛ أي: بموضع خال. وهذا الحديث، بل (11) والأحاديث التي قبله تدل على أن البعد من المسجد أفضل. فلو كان بجوار مسجد فهل له أن يجاوزه للأبعد؟ اخْتُلِفَ (12) فيه، فرُوِيَ عن أنس - رضي الله عنه - : أنه كان (13) يجاوز المحدث إلى القديم (14) ، ورُوِي عن غيره أنه قال: الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرًا. وكره (15) الحسن وغيره هذا، وقال: لا يدع مسجدًا قربه (16) ويأتي (17) غيره، وهو مذهبنا. وفي المذهب عندنا في تخطي مسجده إلى مسجده الأعظم قولان . =(2/292)=@ &(2/233)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (2/137 رقم 651) في الأذان، باب فضل صلاة الفجر في جماعة، ومسلم (1/460 رقم 662) في المساجد، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد.
(2) أخرجه مسلم (1/460 رقم 663) في المساجد، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد.
(3) أخرجه مسلم (1/461 رقم 664) في المساجد، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد.
(4) أخرجه مسلم(1/462 رقم 665) في المساجد، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد.
(5) قوله: «دياركم تكتب آثاركم» تكرر في (هـ).
(6) من قوله: «ومن باب... إلى هنا» سقط من (ز).
(7) في (أ): «وقوله».
(8) في (ب): «تكتب» بدون الواو.
(9) أخرجه البخاري في "صحيحه" (4/99 رقم1887) في فضائل المدينة، باب كراهية النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تعرى المدينة، من حديث أنس بن مالك. وكان قد أخرجه قبل ذلك في كتاب الأذان (2/139 رقم655، 656)، باب احتساب الآثار، بلفظ: «فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعروا المدينة».
(10) الآية ( 145) من سورة الصافات.
(11) قوله: «بل» ليس في (ح).
(12) في (ب): يشبه أن تكون «ختلف».
(13) في (ز): «أنه إن كان».
(14) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/42 رقم6244) في الصلاة، باب في المسجد المحدَث والعتيق، من طريق معتمر بن سليمان، عن عمارة الصيدلاني، عن ثابت البناني قال: كنت أكون مع أنس، فيأتي على المسجد فيسمع الأذان، فيقول: محدَث هذا؟ قالوا: نعم، يجاوزه إلى غيره.
وفي سنده عمارة بن زاذان الصيدلاني، وهو صدوق كثير الخطأ؛ كما في "التقريب" (4881).
(15) في (ح): «قاله».
(16) في (ب): «لا تدع مسجد القرية»، وفي (ز): «مسجدًا بقربه»، وفي (غ): «مسجد لقربه».
(17) في (ب): «وتأتي».(2/233)
**************
باب
260- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: « أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شيء؟» قَالُوا: لا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ. قَالَ: « فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو الله بِهِنَّ الْخَطَايَا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله (2) في "الأم": «مثل الصلوات الخمس كمثل نهر غمر»، النهر: ما بين جَنَبَتَيْ الوادي، وسمي نهرًا لسعته، وسمي النهار به (3) لسعة ضوئه، ويقال: نَهْر ونَهَر - بسكون الهاء وفتحها -. وكذلك يقال في كل ما كان عين الفعل منه حرف حلق؛ مثل: شَعَر، وشَعْر ودَهْر ودَهَر.
و «الغَمر» بفتح الغين: الماء الكثير، &(2/234)&$
__________
(1) أخرجه البخاري(2/11 رقم 528) في مواقيت الصلاة، باب الصلوات الخمس كفارة، ومسلم (1/462-463 رقم 667) في المساجد، باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات.
(2) في (غ): «قوله» بلا واو.
(3) في (ب): «وسمي النهار نهارًا لسعة ضوئه».(2/234)
وبضمّها: الرجل (1) الذي لم يجرب الأمور، وبكسرها: الحقد. و«الدَّرن»: ا لوسخ (2) .
وقوله: «هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شيء؟» (3) ، كذا صحت الرواية بفتح ياء «يَبْقَى»؛ مبني (4) للفاعل، وبإثبات «مِنْ»، وبتمام الكلام على «دَرَنِهِ»، من غير «شيء» (5) . ويحمل على أن «مِن» زائدة على الفاعل؛ لأن الكلام قبلها غير موجب، فكأنه قال: «هل يبقى درنه؟» =(2/293)=@ وقد تخيل بعض الناس أن في الكلام حذفًا، فقال: «هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شيء؟» ولا تعضده الرواية، ولا القانون النحوي. وظاهر هذا الحديث: أن الصلوات بانفرادها تستقل بتكفير جميع الذنوب: كبائرها وصغائرها، وليس الأمر كذلك؛ لاشتراطه في الحديث المتقدم اجتناب الكبائر (6) ، فدل ذلك (7) على أن المكفَّر بالصلوات هي جميع الصغائر إن شاء الله، وقد تقدم القول في ذلك في كتاب الإيمان .
261- وعَنْهُ (8) عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ رَاحَ أَعَدَّ الله لَهُ فِي الْجَنَّةِ نُزُلاً كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ رَاحَ أَعَدَّ الله لَهُ نُزُلاً فِي الْجَنَّةِ»، أصل «غَدَا»: خرج بغُدُوٍّ؛ أي: مبكِّرًا (9) ، و «رَاحَ»: رجع بعشي. ثم قد يستعملان في الخروج والرجوع (10) مطلقًا توسعًا. وهذا الحديث يصلح أن يحمل على الأصل، وعلى التوسع به، والله أعلم .
و«أعدّ»: هَيَّأ، ومنه قولهم (11) :
وأَعْدَدْتُ للحرب أوزارها ... رماحًا طوالاً وخيلاً ذكورًا
و«النُّزل»: ما يُهَيّأ للضيف من الكرامة.
وقوله: «كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ»؛ أي: بكل غدوة أو روحة (12) .
262- وعَنْهُ (13) أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: «أَحَبُّ الْبِلادِ إِلَى الله مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلادِ إِلَى الله أَسْوَاقُهَا » .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «أَحَبُّ الْبِلادِ إِلَى الله مَسَاجِدُهَا»؛ أي: أحب بيوت البلاد، أو =(2/294)=@ بقاعها. وإنما كان ذلك؛ لما خُصّت به من العبادات، والأذكار، واجتماع (14) المؤمنين، وظهور (15) شعائر الدين، وحضور الملائكة. وإنما كانت الأسواق أبغض البلاد إلى الله تعالى؛ لأنها مخصوصة بطلب الدنيا، ومخادعة العباد، والإعراض عن ذكر الله تعالى؛ ولأنها &(2/235)&$
__________
(1) قوله: «الرجل» ليس في (ب).
(2) في (غ): «والوسخ».
(3) في (ح): «من درنه شيء»، وهذه الزيادة ليست في (أ)و (ب) و(ز) و(غ)، وفي موضعها في (ب): «صح»؛ إعلامًا بأن العبارة كذا بالأصل، وهو الصواب؛ كما يتضح من كلام المصنِّف الآتي.
(4) في (غ): «مبنيًا».
(5) أي: أن كلمة «شيء» لا توجد في الرواية.
(6) في (ح): «ذلك» بدل: «الكبائر».
(7) قوله: «ذلك» ليس في (ب).
(8) أخرجه البخاري (2/148 رقم 662) في الأذان، باب فضل من غدا إلى المسجد ومن راح، ومسلم (1/463 رقم 669) في المساجد، باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات.
(9) في (ب): «مبتكرًا».
(10) في (ز): «كالرجوع».
(11) القائل هو الأعشى؛ كما في "لسان العرب" (5/282). وانظر: ديوان الأعشى بشرح د.قاسم، (ص190).
(12) في (أ): «وروحة».
(13) أخرجه مسلم (1/464 رقم 671) في المساجد، باب فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح وفضل المساجد.
(14) في (ز): «ولا جماع».
(15) في (ح): «وحضور»، وفي (ز): «وحظور».(2/235)
مظان الأيمان الفاجرة، وهي معركة الشيطان، وبها يركز (1) رايته. وقد تقدم الكلام في معنى حب الله تعالى وبغضه .
************
( 81 ) باب الجلوس في المصلى بعد صلاة الصبح
263- عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ (2) وَقِيلَ لَهُ: أَكُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: نَعَمْ، كَثِيرًا، كَانَ لا يَقُومُ مِنْ مُصَلاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ أَوِ الْغَدَاةَ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَامَ. وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ، فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَيَضْحَكُونَ وَيَتَبَسَّمُ ».
وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ إِذْاَ صَلىَ الفَجْرَ جَلَسَ فِيْ مُصَلاَّهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَمْسُ حَسَنًا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الجلوس في المصلى بعد الصلاة حتى تطلع الشمس
قوله: «كَانَ (3) - صلى الله عليه وسلم - لا يَقُومُ مِنْ مُصَلاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ (4) أَوِ الْغَدَاةَ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ»، هذا الفعل منه - صلى الله عليه وسلم - يدل على استحباب لزوم موضع صلاة الصبح؛ للذكر، والدعاء، إلى طلوع الشمس؛ لأن ذلك الوقت وقت (5) لا يُصلَّى فيه، وهو بعد صلاةٍ مشهودة، وأشغال اليوم بعدُ لم تأت، فيقع الذكر والدعاء على فراغِ قلبٍ (6) ، وحضورِ فهمٍ، فيرتجى (7) فيه قبول الدعاء، وسماع الأذكار. وقال بعض علمائنا: يكره الحديث حينئذ، واعتذر عن قوله: «وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ، فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَيَضْحَكُونَ وَيَتَبَسَّمُ»: بأن هذا فصل آخر، من سيرة أخرى، في وقت آخر وصلها (8) بالحديث =(2/295)=@ الأول .
قال الشيخ رحمه الله: وهذا فيه (9) نظر، بل يمكن أن يقال: إنهم في ذلك الوقت كانوا يتكلمون؛ لأن الكلام فيه (10) جائز غير ممنوع؛ إذ لم يرد في ذلك منع وغاية ما هنالك (11) : أن الإقبال في ذلك الوقت (12) على ذكر الله أفضل وأولى، ولا يلزم من ذلك أن يكون الكلام مطلوبَ التركِ في ذلك الوقت، والله أعلم. &(2/236)&$
__________
(1) في (ز): «يركن»، وفي (غ): «تركز».
(2) أخرجه مسلم (1/463 رقم 670) في المساجد، باب فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح وفضل المساجد.
(3) في (ز): «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ».
(4) في (أ): «الصبح فيه».
(5) في (غ) رسمت هكذا: «فابت».
(6) قوله: «وقت» ليس في (ب).
(7) في (ب) و(ز): «فيرجى»، وفي (غ): «فيرجى منه».
(8) في (ب): «وصله».
(9) في (أ) و(ز) و(غ) و(ب): «وفيه نظر».
(10) قوله: «فيه» ليس في (ب).
(11) في (ب) و(ح) و(ز): «هناك».
(12) في (ز): «يستدع».(2/236)
وقوله: «حَتَّى تَطْلُعَ الشَمْسُ حَسَنًا»؛ أي: طلوعًا حسنًا، فيكون نعتًا لمصدر محذوف، ويعني بذلك أنه كان يستديم (1) الذكر والمقام بمجلسه إلى أن يدخل الوقت الذي تجوز فيه الصلاة (2) .
*************
( 82 ) باب في الإمامة، ومن أحق بها؟
264- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (3) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «إِذَا كَانُوا ثَلاثَةً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَحَدُهُمْ، وَأَحَقُّهُمْ بِالإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ » .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الإمامة ومن (4) أحق بها
قوله: «إِذَا كَانُوا ثَلاثَةً فَلْيَؤُمَّكُمْ أكبركم»: ليس له مفهوم خطاب؛ لأنه إذا كانا اثنين، أمَّهما أحدهما؛ كما قال في حديث (5) مالك بن الحويرث (6) له ولصاحبه: «إذا حضرت الصلاة فأذِّنا وأقيما، وليؤمّكما أكبركما». وإنما خصّ الثلاثة بالذكر؛ لأنه سئل عنهم، والله أعلم . =(2/296)=@
وقوله: «وَأَحَقُّهُمْ بِالإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ»؛ أي: أكثرهم قرآنًا؛ كما قال البخاري من حديث عمرو (7) بن سلمة: «وليؤمكم (8) أكثركم (9) قرآنًا» (10) . ومحمله على أنه (11) إذا اجتمع جماعة صالحون للإمامة، فكان أحدهم أكثر قرآنًا، كان أحقَّهم بالإمامة؛ &(2/237)&$
__________
(1) من قوله: «يتكلمون لأن الكلام فيه... إلى هنا» سقط من (غ).
(2) في (ب) و(ح) و(ع): «تجوز الصلاة فيه». وفي (ز): «يجوز فيه الصلاة فيه».
(3) أخرجه مسلم (1/264 رقم 672) في المساجد، باب من أحق بالإمامة.
(4) في (غ): «من» بلا واو.
(5) في (ح): «كما قال في الحديث حديث».
(6) وهو الآتي قريبًا برقم (553).
(7) في (غ): «عمر».
(8) في (غ): «وليؤمكما».
(9) في (ب): «أكثرهم».
(10) أخرجه البخاري (8/22-23 رقم4302) في المغازي، باب منه.
(11) قوله: «على أنه» ليس في (ب).(2/237)
للمزية الحاصلة فيه. فلو كانوا قد استظهروا القرآن كله، فيرجح من كان أتقنهم قراءة، وأضبط لها، وأحسن ترتيلاً، فهو الأقرأ بالنسبة إلى هؤلاء.
265- وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ (1) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ الله. فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً، فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ. فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً. فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا. وَلا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الَّرجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلا بِإِذْنِهِ». وَفِي رِوَايَةٍ: «سِلْمًا » مَكَانَ: «سِنًّا » .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ الله»، تمسك بظاهر هذا أبو حنيفة، فقال: القارئ أولى من الفقيه. وقال مالك: الفقيه أولى (2) . قال (3) : لأن الحاجة إلى الفقه (4) أكثر، وهو أعرف بما ينوبه (5) من الحوادث في الصلاة. وتأول أصحابه (6) الحديثَ: بأن الأقرأ فيه (7) هو الأفقه؛ لأن الأقرأ كان عندهم هو الأفقه؛ لأنهم (8) كانوا يتفقهون في القرآن، وقد كان من عرفهم الغالب تسميتهم الفقهاء بالقراء.
قال الشيخ رحمه الله: إن صحت غلبة العرف، فالقول ما قال مالك.
وقوله: «فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً، فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ» يعتضد به أبو حنيفة لمذهبه؛ من حيث فضّل (9) فيه بين القرآن والسنة. وهذه (10) الزيادة مما (11) انفرد بها الأعمش، ومحملها عندنا وعند الشافعي - والله أعلم -: فيمن كان في أول الإسلام عند عدم التفقُّه، فكان المقدَّم القارئ - وإن كان صبيًّا - على ما جاء في حديث عمرو بن سلمة، فلما تفقه الناس في القرآن والسنة قُدِّم الفقيه، بدليل تقديم النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر لخلافته في الصلاة (12) . وقد نص - صلى الله عليه وسلم - على أن «أقرأهم أُبَيٌّ» (13) . فلو =(2/297)=@ كان الأمر على ما ذهب إليه أبو حنيفة لكان أُبَيٌ أولى بالإمامة في الصلاة.
والسنة المذكورة هي أحاديث السنن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وفي قوله: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ»؛ حجة لنا في منع إمامة المرأة للرجال؛ لأن القوم هم الرجال؛ لأنهم بهم قوام الأمور، وقد قال تعالى: {لا يسخر قوم من قوم} (14) ، ثم قال: {ولا نساء من نساء}.
وقال الشاعر (15) : &(2/238)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/465 رقم 673) في المساجد، الباب السابق.
(2) في (ح) و(ز): «الفقيه أولى من القارئ».
(3) قوله: «قال» سقط من (ز).
(4) في (ب) و(غ): «الفقيه».
(5) في (غ): «ينوب».
(6) في (ب): «فأَوَّلَ أصحابنا».
(7) أي: في الحديث.
(8) في (ز): «إلا أنهم».
(9) في (ز): «فصَّل»، وفي (ب) مهملة هكذا: «مصل».
(10) في (ب): «فهذه» بدل «وهذه».
(11) في (ح) و(ز): «هنا».
(12) تقدم برقم (326).
(13) هو جزء من حديث أخرجه الترمذي (5/623 رقم3791) في كتاب المناقب، باب مناقب معاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأُبيّ وأبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - ، من طريق خالد الحذّاء، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أرحم أمتي بأمتي: أبو بكر...» الحديث، وفيه: «وأقرؤهم لكتاب الله: أُبَيّ بن كعب».
قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح». وذكر الحافظ ابن حجر في "الفتح" (8/167) تصحيح الترمذي لهذا الحديث، ثم قال: «لكن قال غيره: إن الصواب إرساله». وللأخ مشهور بن حسن رسالة بعنوان: «دراسة حديث: أرحم أمتي بأمتى أبو بكر»، جمع فيها طرق الحديث ورجح إرساله، لكن جاء عن عمر بن الخطاب - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أقرؤُنا أُبَيّ».
أخرجه البخاري في "صحيحه" (8/167 رقم4481) في تفسير سورة البقرة من كتاب التفسير، باب قوله: { ما ننسخ من آية أو نَنْسأْها }.
(14) الآية ( 11) من سورة الحجرات.
(15) هو زهير بن أبي سُلْمى؛ كما في "لسان العرب" (12/505)، وانظر: «شرح شعر زهير لثعلب» تحقيق د. قباوة (ص65).(2/238)
وما أدري وسوف إِخَالُ أدري ... أقومٌ آلُ (1) حِصْنٍ أم نساء؟
فسَمّى الرجالَ: قومًا.
وقوله: «فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً»، هذا لزيادة (2) فضيلة الهجرة. قال الخطابي: وإن كانت الهجرة اليوم قد انقطعت، ففضيلتها باقية على أبنائهم. فمن كان من أبنائهم، أو كان في آبائه وأسلافه من له سابقةٌ وقِدمٌ (3) في الإسلام، فهو مُقَدَّم على غيره.
وقوله (4) : «فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا»؛ أي (5) : إسلامًا. وهذا لفضيلة السبق للإسلام (6) ؛ كما قال تعالى: {والسابقون السابقون ( أولئك المقربون} (7) . وفي الرواية الأخرى: «سِنًّا» مكان: «سِلْمًا»، وهو راجع إلى سبق السن بالإسلام؛ لأن الأكبر سنًّا سبق الأصغر.
قال القاضي (8) : وقد روى الزهري (9) في هذا الحديث: «فإن استووا في القراءة، فأفقههم في دين الله، فإن كانوا في الفقه سواء فأكبرهم سنًّا، فإن كانوا في السن سواء، فأصبحهم وجهًا، فإن كانوا في الصباحة والحسن سواء، فأكثرهم حسنًا (10) »). قال بعض العلماء: إنما رتب النبي - صلى الله عليه وسلم - =(2/298)=@ الأئمة هذا الترتيب؛ لأنها خلافة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ إذ هو إمام الناس في الدنيا والآخرة، فهي بعده للأقرب إليه منزلة، وللأشبه (11) به (12) مرتبة.
وقوله: «لا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الَّرجُلَ (13) فِي سُلْطَانِهِ»؛ أي: في موضع سلطنته، وهو ما يملكه ويتسلط (14) عليه بالتصرف فيه، وفيه حجة على أن الإمام المنصوب من السلطان، أو من جعل له الصلاة، أحق بالتقديم من غيره
حيث كان. وقال (15) &(2/239)&$
__________
(1) في (أ): «إلى».
(2) في (ب): «هذه الزيادة».
(3) ضبطها في (ب) بفتح القاف والدال.
(4) قوله: «وقوله» سقط من (ز).
(5) في (ب): «أو».
(6) في (ح): «إلى الإسلام».
(7) سورة الواقعة، الآية: 10- 11.
(8) قوله: «قال القاضي» ليس في (أ)، ويعني بالقاضي: عياض اليحصبي.
(9) لم أجده عن الزهري. لكن روى البيهقي في "سننه" (3/121) من طريق عبدالعزيز ابن معاوية بن عبدالعزيز، عن أبي عاصم، عن عزرة بن ثابت، عن علباء بن أحمر، عن أبي زيد الأنصاري عمرو بن أخطب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أقرؤهم لكتاب الله عز وجل،، فإن كانوا في القراءة سواء فأكبرهم سنًّا، فإن كانوا في السن سواء فأحسنهم وجهًا».
وأخرجه ابن حبان في ترجمة عبدالعزيز بن معاوية هذا من كتاب "الثقات" (8/397- 398)، ثم قال: «هذا حديث منكر لا أصل له، ولعله أُدخل عليه فحدّث به، فأما غير هذا الحديث من حديثه فيشبه حديث الأثبات».
وذكره الشيخ الألباني في "الضعيفة" (2/76 رقم609) وقال: «منكر لا أصل له».
(10) في (ب) و(غ): «حسبًا».
(11) في (ز) و(غ): «والأشبه».
(12) قوله: «به» ليس في (أ).
(13) قوله: «الرجل» ليس في (ب).
(14) في (ح) و(ز): «أو يتسلط»، وفي (ب): «أو تسلط».
(15) في (ب): «قال».(2/239)
الخطابي: وهذا في الجمعات والأعياد لتعلقها بالسلاطين. فأما في (1) الصلوات المكتوبات، فأعلمهم أولاهم.
قال القاضي: وهذا ما لا يوافق عليه، بل الصلاة (2) لصاحب السلطنة حق من حقه، وإن حضر أفضل منه (3) .
وقد تقدم الأمراء من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن بعدهم على من تحت أيديهم وفيهم الأفضل.
وقد ذكر شيوخنا: أن الإمام على الجملة أفضل دون تفصيل (4) في وجه. وحكى الماوردي قولين في الأحق (5) : هو، أو ربّ المنزل. ثم صاحب المنزل أحق من زائره؛ لأنه سلطانه، وموضع تدبيره، إلا أن يأذن صاحب المنزل للزائر. ويستحب له إن حضر من هو أفضل منه أن يقدمه.
وقوله: «وَلا يَقْعُدْ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلا بِإِذْنِهِ»، التكرمة هنا: الفراش (6) الذي يقعد عليه، ووجه هذا المنع: أنه مبني على منع التصرف في ملك الغير إلا بإذنه، غير أنه خصّ التكرمة بالذكر للتساهل (7) في القعود عليه، وإذا مُنِعَ القعودُ فمنْعُ التصرفِ بنقلها مثلاً، أو ببيعها (8) أولى . =(2/299)=@
266-وعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ (9) قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَحِيمًا رَقِيقًا، فَظَنَّ أَنَّا قَدِ اشْتَقْنَا أَهْلَنَا، فَسَأَلَنَا عَنْ مَنْ تَرَكْنَا مِنْ أَهْلِنَا فَأَخْبَرْنَاهُ. فَقَالَ: «ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ، فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ، وَمُرُوهُمْ فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ » .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول مالك بن الحويرث: «أَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ»، وفي الرواية الأخرى: «أتيت (10) النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا وصاحب لي»؛ يحتمل أن يكون في وفادتين، أو في وفادة واحدة، غير أن ذلك الفعل تكرر (11) منه ومن النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما ذكر، والله أعلم.
267- وعَنْهُ (12) قَالَ: أَتَيْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنَا وَصَاحِبٌ لِي، فَلَمَّا أَرَدْنَا الإِقْفَالَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ لَنَا: «إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ فَأَذِّنَا ثُمَّ أَقِيمَا، وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا». قَالَ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ: وَكَانَا مُتَقَارِبَيْنِ فِي الْقِرَاءَةِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والإقفال: الرجوع من السفر. ومعروفه ثلاثي؛ يقال: قَفَلَتْ، فهي قافلة، وقفل الجند من مبعثهم (13) ؛ أي (14) : رجعوا. ومصدره: القفول، كالدخول والخروج. ويحتمل أن يكون هذا مُعَدَّى قفل، ويكون (15) معناه: فلما أردنا أن يُقفلنا هو، والله أعلم.
وقوله: «فَأَذِّنَا أَقِيمَا»؛ يدل على تأكيد الأذان والإقامة، وإن لم يكن &(2/240)&$
__________
(1) قوله: «في» ليس في (ب).
(2) في (غ): «الصواب».
(3) قوله: «منه» سقط في (ز).
(4) في (ز): «تفصيل».
(5) في (غ): «اللاحق».
(6) في (ح): «الفرش».
(7) في (ز): «بالتساهل هو».
(8) في (ب): «بيعها». وفي (ز): «أو بيعها»، وفي (أ): «يبيعها».
(9) أخرجه البخاري (2/110 رقم 628) في الأذان، باب من قال: ليؤذن في السفر مؤذن واحد.
و(2/111 رقم630-631) في الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة....
و(2/142 رقم658) كتاب الأذان، باب اثنان فما فوقهما جماعة.
و(2/170 رقم685) كتاب الأذان، باب إذا استووا في القراءة فليؤمهم أكبرهم.
و(2/300 رقم819) كتاب الأذان، باب المكث بين السجدتين.
و(6/53 رقم2848) كتاب الجهاد، باب صف الاثنين.
و(10/637 رقم6008) كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم.
و(13/231 رقم7246) كتاب أخبار الآحاد، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم....
ومسلم (1/465 رقم 674) في المساجد، باب من أحق بالإمامة.
(10) في (ب): «أتينا».
(11) في (غ): «يكرر».
(12) أخرجه مسلم (1/465 رقم 674) في المساجد، باب من أحق بالإمامة.
(13) في (غ): «مغيبهم».
(14) في (ب): «إذا» بدل «أي».
(15) في (ب): «ويكنون».(2/240)
في المساجد، بل في السفر. وكافة العلماء على استحباب الأذان للمسافر، إلا عطاء، فإنه قال: إذا لم يؤذن ولم يقم أعاد الصلاة. وحكى الطبري عن مالك في المسافر: أنه يعيد إذا ترك الأذان، ومشهور مذهبه الاستحباب، وبوجوبه على المسافر قال داود . =(2/300)=@
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا»؛ يدل على تساويهما في شروط الإمامة، ورجح أحدهما بالسن .
*************
( 83 ) باب ما جاء في القنوت، والدعاء للمُعَيَّنِ وعليه في الصلاة
268- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ حِينَ يَفْرُغُ مِنْ صَلاةِ الْفَجْرِ مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَيُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ: «سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ » ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: «اللهمَّ! أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ ابْنَ هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللهمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ كَسِنِي يُوسُفَ، اللهمَّ! الْعَنْ لِحْيَانَ وَرِعْلاً وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ، عَصَتِ الله وَرَسُولَهُ » ثُمَّ بَلَغَنَا أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لَمَّا أُنْزِلَت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ: ثُمَّ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَرَكَ الدُّعَاءَ بَعْدُ. فَقُلْتُ: أُرَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَهُمْ. قَالَ: فَقِيلَ: وَمَا تُرَاهُمْ قَدْ قَدِمُوا؟
وَفِي رِوَايَةٍ أنه عليه السلام قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُعةِ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ شَهْرًا، إذا قَالَ: «سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَه ».
269- وعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (2) أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: وَالله لأُقَرِّبَنَّ بِكُمْ صَلاةَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقْنُتُ فِي الظُّهْرِ، وَالْعِشَاءِ الآخِرَةِ، وَصَلاةِ الصُّبْحِ. وَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَلْعَنُ الْكُفَّارَ .
270- وعَنِ الْبَراءِ بنِ عَازِبٍ (3) : أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ.
271- وعَنْ أَنَسٍ (4) وُسئِلَ عَنِ الْقُنُوتِ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَه؟ فَقَالَ: قَبْلَ الرُّكُوعِ. فَقِيلَ: فَإِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ. قَالَ: إِنَّمَاقَنَتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شَهْرًا. في رواية: بَعْدَ الرُكُعِ في صَلاةِ الفَجْرِ، يَدْعُو عَلَى أُنَاسٍ قَتَلُوا أُنَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ، يُقَالُ لَهُمُ: الْقُرَّاءُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ما جاء في القنوت
قد (5) تقدم ذكر القنوت ومعناه في اللغة، واختلف في حكمه في الفجر، وفي الوتر في رمضان. فقيل: لا قنوت في فجر ولا غيره، قاله الكوفيون والليث ويحيى بن يحيى من المالكية، وأنكره الشعبي (6) . وقيل: يقنت في الفجر دائمًا، وفي سائر الصلوات إذا نزلت نازلة بالمسلمين، قاله الشافعي والطبري. وقال مالك وغيره: إنه مستحب في صلاة الفجر، وروي عن الشافعي. وقال الحسن وابن سحنون: إنه سنة، وهو مقتضى رواية علي عن مالك بإعادة تاركه للصلاة عمدًا، وحكى الطبري الإجماع على أن تركه غير مفسد للصلاة. وعن الحسن: في تركه سجود السهو. =(2/301)=@ ثم اختلفوا في موضعه، فالمشهور عن مالك قبل الركوع، وهو قول إسحاق، وابن أبي ليلى وعمر بن عبد العزيز. وروي عن مالك بعد الركوع (7) ، وروي عن الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم - (8) ،وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق (9) . وروي عن علي وعمر وابن مسعود وجماعة من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - التخيير في ذلك (10) . ثم اختُلِف: هل يكبر له؟ وهل يرفع يديه إذا دعا فيه؟ ومالك لا يرى شيئًا من ذلك. &(2/241)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (2/290 رقم 804) في الأذان، باب يهوي بالتكبير حين يسجد، و(2/492 رقم1006) في الاستسقاء، باب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - : «اجعلهم عليهم سنين كسني يوسف»، و(6/105 رقم 2932 كتاب الجهاد، باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، و(6/418 رقم3386) كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله تعالى: { لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين }، و(8/226 رقم4560) كتاب المغازي، باب: {ليس لك من الأمر شيء}، و(8/264 رقم4598) كتاب التفسير، باب: { فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم }، و(10/580 رقم6200) كتاب الأدب، باب تسمية الوليد، و(11/193 رقم6393) كتاب الدعوات، باب الدعاء على المشركين، و(12/311 رقم6940) كتاب الإكراه، باب منه، ومسلم (1/466 رقم 675) في المساجد، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة.
(2) أخرجه البخاري (2/284 رقم 797) في الأذان، باب منه، وانظر ما قبله، ومسلم (1/468 رقم 676 ) في المساجد، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة.
(3) أخرجه مسلم (1/470 رقم 678) في المساجد، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة.
(4) أخرجه البخاري (2/489-490 رقم 1001-1003) في الوتر، باب القنوت قبل الركوع وبعده، و(3/167رقم1300) كتاب الجنائز، باب من جلس عند المصيبة يعرف فيه الحزن، و(6/19 رقم2801) كتاب الجهاد، باب من ينكب في سبيل الله، و(6/31 رقم 2814) كتاب الجهاد، باب فضل قول الله تعالى: {ولا يحسبن الذين قتلوا في سبيل الله... }، و(6/180رقم 3064) كتاب الجهاد، باب العون بالمدد، و(6/272 رقم 3170) كتاب الجزية والموادعة، باب دعاء الإمام على من نكث عهدًا، و(8/385-389 رقم 4088-4092، 4094-4096) كتاب المغازي، باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان وبئر معونة... ، و(11/194 رقم6394) كتاب الدعوات، باب الدعاء على المشركين، و(13/305 رقم 7341) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحض على اتفاق أهل العلم... ، ومسلم (1/469 رقم677) في المساجد، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة. ...
(5) في (ب) و(غ): «وقد».
(6) في (ب): «القعنبي».
(7) قال ابن عبدالبر في "الاستذكار" (6/201) وقد روي عنه - يعني مالكًا - أنه خير في ذلك قبل الركوع وبعده.
(8) قال البيهقي في "السنن" (2/208): «ورواة القنوت بعد الركوع أكثر وأحفظ، فهو أولى، وعلى هذا أدرج الخلفاء الراشدون - رضي الله عنهم - في أشهر الروايات عنهم وأكثرها... »، ثم أخرجه من طريق العوام بن حمزة، عن أبي عثمان النهدي أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قنتا في صلاة الصبح بعد الركوع. وكان قد رواه قبل ذلك (2/202) من طريق العوام أيضًا قال: سألت أبا عثمان عن القنوت في الصبح، قال: بعد الركوع، قلت: عمّن؟ قال: عن أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنه - .
قال البيهقي: «هذا إسناد حسن... ». أقول: ولكنه منقطع بين أبي عثمان النهدي وأبي بكر - رضي الله عنه - ؛ فإنه لم يدركه، وأما عن عمر وعثمان فهو حسن؛ كما قال البيهقي، بل ساقه البيهقي بعد ذلك بإسناد صحيح عن عمر - رضي الله عنه - ، ثم ساقه عن عثمان من طريق أنس بن مالك، لكن في سنده خليد بن دعلج، قال البيهقي: «خليد بن دعلج لا يحتج به، وفيما مضى كفاية».
وأما عن علي، فقد أخرج البيهقي في الموضع السابق من طريق يزيد بن أبي زياد قال: سمعت أشياخًا يحدثون: أن عليًّا كان يقنت في صلاة الصبح بعد الركوع.
ويظهر أن البيهقي تنبّه لضعف هذا الإسناد، ولذلك قال بعده: «وقد روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما قبل الركوع، والصحيح عن عمر بعده». اهـ.
وعلى كلٍّ فالرواية عن أبي بكر - رضي الله عنه - لا تصح، وكذا عن علي، بل ورد عن علي: قبل الركوع، وهو أولى بالقبول من ذاك الإسناد؛ كما في تعقب ابن التركماني للبيهقي. وأما عن عثمان فهو حسن ،وأما عمر - رضي الله عنه - ، فكما قال البيهقي: «والصحيح عن عمر بعده». وانظر "المصنف" لعبدالرزاق (3/109، 110، 114، 115، 118-119رقم4962، 4968، 4977، 4980، 4986)، و"المصنف" لابن أبي شيبة (2/106 رقم7011، 7019)، و"سنن الدارقطني"(2/40 رقم12)، و"الاستذكار" لابن عبدالبر(5/165-177) و(6/198-203).
(9) من قوله: «وروي عن مالك بعد الركوع... » إلى هنا ليس في (ح).
(10) لم أجد رواية عن هؤلاء الصحابة في التخيير، وإنما جاء عن عمر وعلي رضي الله عنهما ما سبق ذكره. وأما ابن مسعود فلم أجد ما يدل على قنوته قبل الركوع أو بعده، لكنه لم يكن يقنت في الفجر كما تراه في "المصنف" لابن أبي شيبة (2/102) وغيره.(2/241)
ثم اختلف القائلون بالقنوت في الفجر: هل يقنت في الوتر؟ فقيل: يقنت في وتر السَّنَةِ كلها، وهو قول ابن مسعود (1) ، والحسن، والنخعي، وإسحاق، وأبي ثور. وقال قتادة (2) : يقنت في السنة كلها (3) ، إلا في النصف الأول من رمضان. وقالت طائفة: لا يقنت في الوتر جملة، وهو مروي عن ابن عمر (4) وطاووس، وهي رواية المصريين عن مالك. وروي عن علي (5) وأُبَيّ (6) وابن عمر (7) وجماعة من السلف، وهي رواية ابن وهب عن مالك: أنه يقنت في النصف الآخر من رمضان من ليلة ست عشرة، وقيل: خمس عشرة،
وهو قول الشافعي (8) وأحمد وإسحاق. وعن أبي حنيفة: لا يقنت إلا في وتر رمضان فقط. ثم اتفقوا على أنه لا يتعين في القنوت دعاء مؤقت إلا ما روي عن بعض أهل الحديث في تخصيصهم بقنوت مصحف أُبي بن كعب - رضي الله عنه - المرويّ: أن جبريل عَلَّمه النبي (9) - صلى الله عليه وسلم - (10) وهو: «اللهم إنا نستعينك ونستغفرك...» إلى آخره، وأنه لا يصلى (11) خلف من لا يقنت بذلك، واستحبه مالك. واستحب الشافعي القنوت بالدعاء المروي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما (12) ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : «اللهم أهدني فيمن هديت (13) ...» إلى آخره. وقد اختار بعض شيوخنا البغداديين الجمع بينهما، وهو قول إسحاق والحسن بن =(2/302)=@ حَيّ. وسبب الخلاف فيما ذُكر: اختلاف الأحاديث، وهل كان ذلك مخصوصًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أم لا؟ &(2/242)&$
__________
(1) أخرجه عبدالرزاق في "المصنف" (3/120 رقم4991) عن معمر، عن أبان، عن إبراهيم النخعي أن ابن مسعود كان يقنت السنة كلها في الوتر.
وفي سنده أبان بن أبي عياش وهو متروك؛ كما في "التقريب" (143). وأخرجه ابن أبي شيبة في"المصنف" (2/100 رقم6941) من طريق أبي خالد الأحمر، عن أشعث، عن الحكم، عن إبراهيم قال: عبدالله لا يقنت السنة كلها في الفجر، ويقنت في الوتر كل ليلة قبل الركوع.
وفي سنده أشعث بن سَوّار القاضي وهو ضعيف؛ كما في التقريب (528).
(2) في (ز): «قال» بلا واو.
(3) قوله: «كلها» ليس في (غ).
(4) أخرجه عبدالرزاق في "المصنف" (3/106 رقم4950)، وابن أبي شيبة (2/100 رقم6944) بسند صحيح عنه.
(5) أخرجه ابن أبي شيبة (2/99 رقم6933)، والبيهقي (2/498) كلاهما من طريق الحارث بن عبدالله الأعور، عن علي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقنت في النصف الأخير من رمضان.
وسنده ضعيف؛ لضعف الحارث الأعور. انظر "التقريب" (1036).
(6) أخرجه ابن أبي شيبة في الموضع السابق برقم (6934) من طريق الحسن البصري، أن أُبيًّا أمَّ الناس في خلافة عمر، فصلى بهم النصف من رمضان لا يقنت، فلما مضى النصف قنت بعد الركوع، فلما دخل العشر أبقى وخلّى عنهم،فصلى بهم العشر معاذ القارئ في خلافة عمر.
وأخرجه أبو داود في "سننه"(2/136 رقم1429) في الصلاة، باب القنوت في الوتر. وسنده ضعيف؛ لأن الحسن البصري كان صغيرًا في خلافة عمر، فمولده لسنتين بقيتا من خلافة عمر. وأخرجه أبو داود أيضًا برقم (1428) من طريق محمد بن سيرين، عن بعض أصحابه، أن أبي بن كعب أمّهم - يعني في رمضان -، وكان يقنت في النصف الآخر من رمضان. وسنده ضعيف أيضًا لإبهام شيخ ابن سيرين، ولا يبعد أن يكون هو الحسن البصري، فيرجع إلى الإسناد الأول.
لكن لعلّ مما يحسن الاستدلال به ما أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (2/155-156 رقم1100) عن عبدالرحمن بن عبدٍ القاري في ذكر أمر عمر بن الخطاب أُبَيّ بن كعب أن يقوم بالناس في رمضان، وفيه قال عبدالرحمن: فكان الناس يقومون أوّله، وكانوا يلعنون الكفرة في النصف... ، الحديث. وسنده صحيح.
(7) أخرجه ابن أبي شيبة في الموضع السابق برقم (6931) بسند صحيح، عن ابن عمر أنه كان لا يقنت إلا في النصف - يعني من رمضان -.
(8) في (غ): «الشعبي».
(9) في (ح) و(ز): «للنبي».
(10) صنيع المصنِّف رحمه الله يوهم أن حديث القنوت المذكور في مصحف أُبَيّ هو نفس حديث تعليم جبريل هذا الدعاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وليس كذلك؛ بل هما حديثان منفصلان.
أمَّا حديث أُبَيّ فأخرجه عبدالرزاق في "المصنف" (3/112 رقم4970) من طريق سفيان الثوري، وابن أبي شيبة (2/107 رقم7029) من طريق وكيع، كلاهما عن جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران، عن أُبّيّ بن كعب أنه كان يقول: «اللهم إنا نستعينك ونستغفرك... » الحديث، وهذا لفظ عبدالرزاق.
وأمَّا حديث ابن أبي شيبة فلفظه: عن ميمون بن مهران؛ في قراءة أُبَيّ بن كعب: «اللهم إنا نستعينك ونستغفرك... » الحديث.
وسنده ضعيف؛ لأن ميمون بن مهران لم يدرك أُبَيّ بن كعب.
وأمَّا تعليم جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الدعاء، فأخرجه البيهقي في "السنن" (2/210 من طريق خالد بن أبي عمران قال: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو على مضر؛ إذ جاءه جبريل، فأومأ إليه: أن اسكت، فسكت، فقال: يا محمد ّ إن الله لم يبعثك سبّابًا ولا لعانًا، وإنما بعثتك رحمة، ولم بعثك عذابًا { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون }[آل عمران 128]، ثم علّمه هذا القنوت: «اللَّهم إنا نستعينك ونستغفرك... »الحديث.
ثم أعلّه البيهقي بقوله: «هذا مرسل».
(11) في (ز) و(أ): «يصلي».
(12) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (1/199، 200)، وأبو داود (2/133-134 رقم 1425، 1426) في الصلاة، باب القنوت في الوتر، والترمذي (2/328-329 رقم464) في الصلاة، باب ما جاء في القنوت في الوتر، والنسائي (3/248 رقم1745) في قيام الليل، باب الدعاء في الوتر، وابن ماجه (1/372-373 رقم1178) في إقامة الصلاة، باب ما جاء في القنوت في الوتر، وابن خزيمة في "صحيحه" (2/151-153 رقم1095، 1096)، وابن حبان في "صحيحه" (2/498-499 رقم722/الإحسان)، و(3/225 رقم945/الإحسان)، جميعهم من طريق بُرَيدة بن أبي مريم، عن أبي الحَوْراء السَّعدي، عن الحسن بن علي، به.
قال الترمذي: «هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه... ، ولا نعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القنوت في الوتر شيئًا أحسن من هذا». وقد أطال الحافظ ابن حجر في الكلام على هذا الحديث في "التلخيص الحبير" (1/446-451 رقم372)، فانظره إن شئت.
(13) زاد في (ح): «وعافني فيمن عافيت».(2/242)
وقوله: «اللهمَّ! أَنْجِ الْوَلِيدَ (1) ...» إلى آخره. " أَنْج: من النجاة، والهمزة للتعدية، وقد عُدِّي بالتضعيف، وأصله من النجوة؛ وهو المرتفع من الأرض. وهؤلاء المدعو لهم هم (2) قوم من أهل مكة أسلموا، ففتنهم أهل مكة وعذبوهم، وبعد ذلك نجوا منهم وهاجروا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله: «واجعلها عليهم كَسِنِيّ يوسف»؛ يعني به قوله تعالى: {ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلاً مما تحصنون} (3) ، فاستجيب (4) له - صلى الله عليه وسلم - فيهم (5) ، فأجدبوا سبعًا أكلوا فيها كل شيء، حتى أكلوا الميتة والعظام. وكان الواحد منهم يرى بينه وبين السماء دخانًا من شدة الجوع والضعف، حتى جاء أبو سفيان فكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فدعا لهم، فسُقُوا على ما ذكرناه عن ابن مسعود في كتاب التفسير (6) .
ولَحْيَان ورِعْل وذَكْوان وعُصَيَّة: قبائل من العرب قَتلوا أصحاب بئر مَعُونة، وهم السبعون القُرَّاء. وكان من حديثهم أن أبا بَرَاء (7) الكلابي- ويعرف بملاعب الأَسِنَّة - سأل من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يوجه معه رجالاً من أصحابه إلى قومه بنجد يدعونهم (8) إلى الله، ويعرضون عليهم الإسلام، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إني =(2/303)=@ أخاف عليهم أهل نجد»، فقال له (9) أبو براء: أنا لهم جار، فبعثهم معه (10) ، فلما مروا ببني عامر استصرخ عليهم عدو الله عامر بن الطفيل تلك القبائل التي دعا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ وهم من بني سليم، فأجابوه فقتلوهم، ولم ينج منهم إلا عمرو بن أمية الضمري، فحزن لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حزنًا شديدًا، فإنه لم يُصب بمثلهم، وكانوا (11) من خيار المهاجرين - رضي الله عنهم - (12) . &(2/243)&$
__________
(1) في (ب): «الوليد بن الوليد».
(2) قوله: «هم» سقط من (غ).
(3) سورة يوسف، الآية: 48.
(4) في (أ): «فأجيب».
(5) قوله: «فيهم» ليس في (ب) و(ح).
(6) (7/395 رقم2906) كتاب التفسير، باب ومن سورة الدخان، وسيأتي في كتاب التفسير برقم (2900)، باب ومن سورة الدخان.
(7) في (ز): «أبابن».
(8) في (غ): «يدعوهم».
(9) في (أ) و(ح): «لهم»، والمثبت من (ب).
(10) في (ح): «فبعثهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه».
(11) في (غ): «كانوا» بلا واو.
(12) أخرج حديث قصة قتل أصحاب بئر معونة بطوله ابن إسحاق في "السيرة" (3/ 184-187/ابن هشام) من طريق المغيرة بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام وغيره مرسلاً.(2/243)
وفي هذا الحديث من الفقه: جواز الدعاء على معين، وله. وجواز الدعاء بغير ألفاظ القرآن في الصلاة، وهو حجة على أبي حنيفة في منعه ذلك كله فيها (1) . ولا خلاف في جواز لعن الكفرة، والدعاء عليهم. واختلفوا في جواز الدعاء على أهل المعاصي، فأجازه قوم ومنعه آخرون، وقال (2) : يُدْعَى لهم بالتوبة لا عليهم. وقيل: إنما يُدْعَى على أهل الانتهاك في حين فعلهم ذلك، وأما في إدبارهم فيدْعَى لهم بالتوبة (3) .
قال الشيخ رحمه الله: والذي استقر (4) عليه أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القنوت ما رواه الدارقطني (5) =(2/304)=@ بإسناد صحيح عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: ما زال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا (6) . =(2/305)=@ &(2/244)&$
__________
(1) في (ح): «فيهما».
(2) كذا في جميع النسخ! ولعل الأصوب: «وقالوا».
(3) قوله: «بالتوبة» ليس في (ح).
(4) في (غ): «استمر».
(5) أخرجه عبدالرزاق في "المصنف" (3/110 رقم4964) عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أنس.
ومن طريق عبدالرزاق أخرجه أحمد (3/162)، والدارقطني (2/39 رقم9).
وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (2/105 رقم7002) في الصلاة، باب من كان يقنت في الفجر ويراه، والطحاوي (1/244)، والبيهقي (2/201)، ثلاثتهم من طريق أبي جعفر الرازي، به.
وأخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/441 رقم753)، وقال: «هذا حديث لا يصح؛ قال أحمد: أبو جعفر الرازي مضطرب الحديث، وقال ابن حبان: ينفرد بالمناكير عن المشاهير».
(6) في (ز) زيادة: «والله أعلم».(2/244)
***************
(84 ) باب من نام عن صلاة أو نسيها
272- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) : أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَفَلَ مِنْ غَزْوَةِ خَيْبَرَ، سَارَ لَيْلَهُ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْكَرَى عَرَّسَ، وَقَالَ لِبِلالٍ: «اكْلأْ لَنَا اللَّيْلَ » فَصَلَّى بِلالٌ مَا قُدِّرَ لَهُ، وَنَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ، فَلَمَّا تَقَارَبَ الْفَجْرُ اسْتَنَدَ بِلالٌ إِلَى رَاحِلَتِهِ مُوَاجِهَ الْفَجْرِ، فَغَلَبَتْ بِلالاً عَيْنَاهُ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى رَاحِلَتِهِ، فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلا بِلالٌ، وَلا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى ضَرَبَتْهُمُ الشَّمْسُ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوَّلَهُمُ اسْتِيقَاظًا، فَفَزِعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: « أَيْ بِلالُ! » فَقَالَ بِلالٌ: أَخَذَ بِنَفْسِي الَّذِي أَخَذَ - بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ - بِنَفْسِكَ، قَالَ: «اقْتَادُوا » فَاقْتَادُوا رَوَاحِلَهُمْ شَيْئًا، ثُمَّ تَوَضَّأَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَمَرَ بِلالاً فَأَقَامَ الصَّلاةَ، فَصَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلاةَ قَالَ: «مَنْ نَسِيَ الصَّلاةَ فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا »، فَإِنَّ الله قَالَ: {وأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}، وَكَانَ ابْنُ شِهَابٍ يَقْرَؤُهَا: «لِلذِّكْرَى ».
وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لِيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ بِرَأْسِ رَاحِلَتِهِ فَإِنَّ هَذَا مَنْزِلٌ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَانُ »، قَالَ: فَفَعَلْنَا، ثُمَّ دَعَا بِالْمَاءِ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَصَلَّى الْغَدَاةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب من نام عن صلاة أو نسيها
قوله: «حِينَ قَفَلَ مِنْ غَزْوَةِ خَيْبَرَ»؛ أي: رجع (2) . قال الأصيلي: خيبر غلط، وإنما هو: «من حنين (3) »)، ولم يَعْترِ ذلك النبي (4) - صلى الله عليه وسلم - إلا مرة واحدة حين قفل من حنين إلى مكة. وقال الباجي وابن عبد البر: قول ابن شهاب: «من خيبر (5) ») أصحّ. وهو قول أهل السير. وفي حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - (6) : أن نومه ذلك كان عام الحديبية (7) ، وذلك في زمن خيبر، وعليه يدل حديث أبي قتادة (8) . قال غيره: وذلك (9) بطريق مكة، وهو طريق لمكة لمن شاء. قال أبو عمر:
في هذه الأحاديث ما يدل على (10) أن نومه كان مرة واحدة، ويحتمل أن يكون مرتين (11) . قال عياض: أما حديث أبي (12) قتادة فلا مرية أنه غير حديث أبي هريرة، وكذلك حديث عمران بن حصين - رضي الله عنهم - (13) .
و «الْكَرَى»: النوم، و"عرّس": نزل آخر الليل، قاله الخليل وغيره (14) . وقال أبو زيد: التعريس: النزول أيّ وقت كان من ليل أو نهار. وفي الحديث: «يعرسون (15) في نحر الظهيرة» (16) .
و«اكْلأْ»؛ أي (17) : احفظ، ومنه: كلأك الله؛ أي: حفظك، وهذا (18) إنما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن طلبوا ذلك منه؛ كما قال البخاري (19) : إنهم طلبوا التعريس منه، فقال: «أخاف أن تناموا»، =(2/306)=@ فقال بلال: أنا أوقظكم. فحينئذ عرّس بهم (20) ، ووكّل بلالاً بحفظ الفجر.
وقوله: «فَفَزِعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - »؛ اختلف في هذا الفزع وفي سببه: فقال الأصيلي: كان لأجل عدوهم أن يكون اتبعهم فيجدهم على غِزّة. وقال غيره: لما &(2/245)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/471 رقم 680) في المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها.
(2) في (ب): «رحل».
(3) في (ب) و(ح) و(ز): «وإنما هو حنين».
(4) في (ب): «للنبي».
(5) في (ز): «حنين».
(6) أخرجه الطيالسي (ص49-50 رقم377)، وأحمد (1/386، 464)، وأبو داود (1/309-310 رقم447) في الصلاة، باب فيمن نام عن الصلاة أو نسيها، والبيهقي (2/ 218)، جميعهم من طريق شعبة، عن جامع بن شداد، عن عبدالرحمن بن أبي علقمة، عن عبدالله بن مسعود قال: أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية ليلاً... ، الحديث.
وقد حسنه المنذري في "مختصر السنن" (1/255)، وصححه أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (5/240 رقم3657)، فقال: «إسناده صحيح عبدالرحمن بن أبي علقمة تابعي ثقة، وقد اختلط على بعضهم بصحابي اسمه: عبدالرحمن بن علقمة، فظنوه إياه، وهما اثنان... » الخ كلامه.
وقد اعتمد الشيخ أحمد شاكر على ذكر ابن حبان لعبدالرحمن هذا في الثقات، وأما صحبته؛ فقد جزم أبو حاتم بأنه تابعي ليس له صحبة، وقال الدارقطني: «لا تصح صحبته، ولا يعرف»، وقال ابن عبدالبر: «في سماعه نظر».انظر "تهذيب الكمال" وحاشيته (17/290-292).
(7) جاء في بعض الروايات - كرواية أبي داود السابقة-: «أقبلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية».
(8) وهو الآتي قريبًا برقم (561)، لكن ليس فيه تحديد الغزوة، ولا زمنها. وانظر تفصيل ذلك في "فتح الباري" (1/448-449).
(9) في (أ): «وكذلك».
(10) قوله: «على» ليس في (ب) و(غ).
(11) في حاشية (ب) ما نصه: «بلغ».
(12) قوله: «أبي» سقط في (ز).
(13) وهو الآتي قريبًا برقم (562)
(14) قوله: «وغيره» ليس في (ح) و(غ).
(15) في (ب): «معرسون»، وفي (غ): «تعرسون».
(16) هو جزء من حديث عائشة الطويل في قصة الإفك، وسيأتي برقم (2887)، كتاب التفسير، باب ومن سورة النور، لكن لفظ مسلم: «موغرين في نحر الظهيرة»، وقد أخرجه البخاري (5/269-272 رقم2661) في الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضًا، وفيه: «مُعَرِّسين في نحر الظهيرة».
(17) قوله: «أي» ليس في (أ).
(18) في (غ): (حفظك الله وهذا».
(19) في روايته لحديث أبي قتادة الآتي قريبًا برقم (561).
(20) قوله: «بهم» سقط من (غ).(2/245)
فاتهم من أمر الصلاة، ولم يكن عندهم حكم من ذلك. وقد دل على هذا قولهم: ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا (1) (2) ؟ وهذا بيِّن في حقهم. وقد يكون الفزع بمعنى: مبادرتهم إلى الصلاة؛ كما قال: «فافزعوا إلى الصلاة» (3) ؛ أي: بادروا إليها. وقد يكون فزع النبي - صلى الله عليه وسلم - إجابة الفزعين من أصحابه وإغاثتهم لما نزل بهم، يقال: فَزِعْتُ: استغثت، وفَزَعت: أَغَثْتُ (4) .
وقوله: «أَيْ بِلالُ!» كذا عند أكثر الرواة (5) بـ«أي» التي للنداء (6) ، وعند العذري والسمرقندي: «أين بلال؟» بـ«أين» الظرفية.
و قول بلال: «أَخَذَ بِنَفْسِي الَّذِي أَخَذَ بنفسك»؛ على طريق العذر مما كان تكفل به؛ كما قدمناه من رواية البخاري. والنفس هنا هي (7) التي (8) تتوفي (9) بالنوم وبالموت؛ كما قال الله (10) تعالى: {الله (11) يتوفي الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} (12) ، وهي التي تخرج من البدن حالة الموت؛ كما قال تعالى: {أخرجوا أنفسكم} (13) ، وهي المناداة بقوله: {يا أيتها النفس المطمئنة} إلى (14) : {فادخلي في عبادي} (15) . وقد عبر عنها في "الموطأ" (16) في هذا الحديث بالروح، فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله قبض أرواحنا، ولو شاء لردَّها إلينا في حينٍ غير هذا»، فما سماه بلال: نفسًا سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : روحًا، فهما إذًا عبارتان عن مُعَبَّرٍ واحد، وهذا مذهب أئمتنا .
وقد اختلف الناس قديمًا وحديثًا فيما هو هذا المعنى المعبر عنه بالنفس =(2/307)=@ والروح. والذي (17) يفهم من مجموع ما في الكتاب والسنة وأقاويل علمائنا: أن ذلك هو (18) لطيفة مودعة في الأجساد، مشابكة (19) لجميع (20) أجزائها التي تحلّها الحياة، يَتَأَتَّى &(2/246)&$
__________
(1) في (غ): «لتفريطنا».
(2) وهذا أيضًا رواية أبي قتادة التي سبقت الإشارة إليها في التعليق السابق.
(3) هو جزء من حديث عائشة الآتي برقم (770) في الكسوف، باب كيفية العمل فيها، وأنها ركوعان في كل ركعة.
(4) في (ز): «فزعت»: استعنت، وفزعت: «أَعَنْت».
(5) في (ح): «كذا هذا لأكثر الرواة».
(6) في (ب) و(غ): «أي بلال بأي التي للنداء».
(7) قوله: «هي» ليس في (ب) و(غ).
(8) قوله: «التي» ليس في (أ).
(9) في (ز): «يتوفى».
(10) قوله: «الله» ليس في (ز).
(11) قوله: «الله» ليس في (غ).
(12) سورة الزمر، الآية: 42.
(13) سورة الأنعام، الآية: 93.
(14) في (ز): «إلى قوله».
(15) سورة الفجر، الآية: 27-29.
(16) (1/14-15 رقم26) في وقوت الصلاة، باب النوم عن الصلاة، عن زيد بن أسلم أنه قال: عرَّس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق مكة ووكّل بلالاً أن يوقظهم للصلاة... ، فذكره مطولاً هكذا مرسلاً، وذكر الزيادة التي ذكرها المصنِّف هنا. قال ابن عبدالبر في "التمهيد" (5/204): «هكذا هذا الحديث في الموطآت، ولم يسنده عن زيد أحد من رواة الموطأ، وقد جاء معناه متصلاً مسندًا من وجوه صحاح ثابتة في نومه - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الصبح في سفره، روى ذلك جماعة من الصحابة». اهـ.
(17) في (ح): «الذي».
(18) في (ب): «هي».
(19) في (ب) و(غ) و(ز) و(ح): «مشاركة».
(20) في (غ): «بجميع».(2/246)
إخراجها من الجسد، وإدخالها فيه، وقبضها منه، أجرى الله العادة بخلق الحياة في الجسد ما دامت فيه تلك اللطيفة، وهي (1) القابلة للعلوم. والإنسان: هو الجسد وتلك اللطيفة (2) .
وقد فرق الصوفية بين النفس والروح (3) . فقالوا (4) : النفس: لطيفة مودعة في الجسم محل للأخلاق المذمومة (5) ، والروح محل للأخلاق (6) المحمودة، وهو اصطلاح من قبلهم، ولا مشاحة في الاصطلاحات بعد فهم المعنى (7) .
والنفس في اللغة مشترك يطلق على ما ذكرناه، ويطلق ويراد به وجود الشيء وذاته، ويطلق ويراد به الدّم. والروح يطلق على ما ذكر، وعلى جبريل؛ إذ قد سماه الله - عز وجل - روحًا في قوله تعالى: {نزل به الروح الأمين} (8) ، ويحتمل أن يكون هو المراد في قوله: {تنزل الملائكة والروح فيها (9) } (10) ، وفي قوله (11) : {قل الروح من أمر ربي} (12) على ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما (13) (14) في قوله: {قل الروح (15) }، وقد تقدم أن الروح مشتق من الريح.
وقوله: قال: «اقْتَادُوا فَاقْتَادُوا رَوَاحِلَهُمْ (16) شَيْئًا»، قد استدل بعض (17) الحنفيين على أن الفرائض لا تقضى في هذا الوقت بهذا الحديث؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما ارتحل عن ذلك الموضع ليخرج الوقت المنهي عنه، وهذا تحكم؛ بل كما يحتمل ما ذكروه، فيحتمل أنه إنما كان ذلك ليعم النشاط جميعهم، وأبين من ذلك كله ما قد نص عليه من كراهية (18) ذلك بقوله (19) - صلى الله عليه وسلم - : «لِيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ بِرَأْسِ رَاحِلَتِهِ فَإِنَّ هَذَا مَنْزِلٌ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَانُ». وقد زاد أبو داود (20) في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تحوَّلوا عن مكانكم الذي أصابتكم (21) فيه الغفلة». =(2/308)=@
وقوله: «فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَمَرَ بِلالاً فَأَقَامَ الصَّلاةَ»، ولم يذكر الأذان (22) ، وقد ذكره في حديث أبي قتادة (23) . فاختلف العلماء في الفوائت: هل يؤذن لها ويقام؟، &(2/247)&$
__________
(1) قوله: «وهي» ليس في (أ).
(2) قوله: «اللطيفة» ليس في (أ).
(3) انظر تفصيل الكلام على الفِرقَ والروح في المسألة العشرين من كتاب الروح لابن القيم.
(4) في (ب): «قالوا».
(5) في (ح): «المعلومة»، وفي (غ): «الملعونة»، وفي (ب) و(ز): «المعلولة».
(6) في (أ) و(ح): «الأخلاق».
(7) في (ب) و(ز) و(غ): «المعاني».
(8) سورة الشعراء، الآية: 193.
(9) قوله: «فيها» من (ب).
(10) سورة القدر، الآية: 4.
(11) من قوله: «{ نزل به الروح الأمين }...» إلى هنا ليس في (ح).
(12) سورة الإسراء، الآية: 85.
(13) من قوله: «تنزل الملائكة والروح... إلى هنا» سقط من (غ).
(14) لم أجده عنه صريحًا، لكن أخرج الطبري في "تفسيره" (17/544) عن قتادة: {يسئلونك عن الروح } قال: هو جبريل، قال قتادة: وكان ابن عباس يكتمه. وسنده ضعيف؛ فإن قتادة لم يسمع من ابن عباس. ثم أخرج ابن جرير الطبري عقبه مباشرة من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس- قوله: {ويسئلونك عن الروح }- قال: الروح: مَلَك.
(15) في (ز): «قل الروح من أمر ربي».
(16) قوله: «رواحلهم» ليس في (ب) و(غ).
(17) لم تتضح العبارة في مصورة (ح) لكن يشبه أن تكون: «قال: استدل به بعض». وفي (ز): «قد استدل به بعض».
(18) في (ب): «كراهة».
(19) بعده في (ح) مقدار ثلاث كلمات لم تتضح.
(20) أخرجه أبو داود في "سننه" (1/303 رقم436) في الصلاة، باب من نام عن الصلاة أو نسيها، ومن طريق أبان العطّار، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، وانظر التعليق الآتي.
(21) في (ب): «أصابكم».
(22) يعني في رواية مسلم لحديث أبي هريرة، لكنه مذكور في رواية أبي داود السابقة، ثم قال أبو داود عقبه: «رواه مالك وسفيان بن عيينة والأوزاعي وعبدالرزاق عن معمر وابن إسحاق، لم يذكر أحد منهم الأذان في حديث الزهري هذا، ولم يسنده منهم أحد إلا الأوزاعي وأبان العطار، عن معمر».
وتعقبه المنذري بقوله: «وروى هذا الحديث هشام عن الحسن، عن عمران بن حصين، فذكر فيه الأذان، ورواه أبو قتادة الأنصاري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر الأذان والإقامة، والزيادات إذا صحّت مقبولة، والعمل بها واجب».
(23) أي الآتي قريبًا برقم (561).(2/247)
أو لا يؤذن لها ولا يقام، أو يقام لها ولا يؤذن؟ ثلاثة أقوال: فالأول (1) مذهب أهل الرأي وأحمد وأبي ثور. والثاني: مذهب الثوري. والثالث: مذهب مالك والأوزاعي، والقول الثاني للشافعي.
وقد تأول بعض أصحابنا الأذان في حديث أبى قتادة بمعنى الإعلام، وهو تكلف، بل الذي يجمع بين الأحاديث: أنه إن احتيج إلى الأذان. بحيث يجمع (2) متفرقهم فُعِلَ، وعلى هذا يحمل (3) حديث أبي هريرة، وإن كانوا مجموعين لم يحتج لذلك؛ إذ ليس وقتًا راتبًا فيدعى إليه الجميع ويعلمونه، ويكون شعارًا. وقد قدمنا نبذة في (4) أن هذه فوائد الأذان، وعلى هذا يحمل حديث أبي قتادة، والله أعلم.
وقوله: «فَصَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ»؛ حجة للجمع (5) في (6) الفوائت.
273- وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (7) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلاةِ أَوْ غَفَلَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى يَقُولُ: {وأَقِم الصَّلاةَ لِذِكْرَى}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «مَنْ نَسِي صَلاة أَو نَامَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا»- وفي لفظ آخر: «أو غفل» (8) -؛ كل ذلك دليل على وجوب القضاء على النائم والغافل، كَثُرَت الصلوات (9) أو قلَّتْ، وهذا (10) مذهب عامة العلماء. وقد حكي خلاف شاذ عن بعض الناس فيمن زاد على خمس صلوات: أنه لا يلزمه قضاء، وهو خلاف لا يُعبأ به؛ لأنه مخالف لنص الحديث. وأما من ترك الصلاة عامدًا، فالجمهور أيضًا على وجوب القضاء عليه، وفيه خلاف شاذ أيضًا عن داود وأبي عبدالرحمن الأشعري. وقد احتج الجمهور عليهم بأوجهٍ:
أحدها: أنه قد ثبت (11) الأمر بقضاء الناسي والنائم، مع أنهما غير مأثومين (12) ، فالعامد أولى . =(2/309)=@
وثانيها: التمسك بقوله: «إِذَا ذَكَرَهَا»، والعامد ذاكر لتركها فلزمه (13) قضاؤها.
وثالثها (14) : التمسك بعموم قوله: «من نسي صلاة»؛ أي: من حصل منه (15) نسيان، والنسيان هو الترك، سواء كان مع ذهول أو لم يكن، وقد دل على هذا قوله تعالى: &(2/248)&$
__________
(1) في (ز) رسمت هكذا: «فاولاول» وكأنه حكَّ (الواو) الأولى.
(2) في (أ): «تجمع».
(3) في (ح): «يحتمل».
(4) قوله: «نبذة في» من (ب) فقط.
(5) في (ب): «للجميع» وفي (غ): «الجميع».
(6) في (ز): «وفي الفوائت».
(7) أخرجه البخاري (2/70 رقم 597) كتاب مواقيت الصلاة، باب من نسي صلاة ولايعيد إلا تلك الصلاة، ومسلم(1/477 رقم 684) في المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها.
(8) هذا لفظ حديث أنس بن مالك الآتي. وفي (ز): «أو غفل عنها». وفي (غ): «غفل».
(9) في (ح): «الصلاة».
(10) في (أ): «وهو».
(11) في (غ): «تبث».
(12) في (ب): «تبث».
(13) في (غ): «يلزمه».
(14) من قوله: «التمسك بقوله: إذا... إلى هنا» سقط نم (ز).
(15) في (أ) و(ب): «منهم».(2/248)
{نسوا الله فنسيهم} (1) ؛ أي: تركوا معرفة الله وأمره فتركهم في العذاب.
ورابعها: التمسك بقوله: «من نسي صلاة فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها»، الكفَّارة (2) إنما تكون عن الذنب (3) - غالبًا – والمأثم (4) والناسي بمعنى الذاهل ليس بآثم، فتعين العامد لأن يكون هو المراد بلفظ الناسي.
وخامسها: قوله: {وأقم (5) الصلاة لذكري (6) } (7) ؛ أي: لتذكرني فيها - على أحد التأويلات -.
وسادسها: أن القضاء يجب بالخطاب الأول؛ لأن خروج وقت العبادة لا يسقط وجوبها؛ لأنها لازمة في ذمة المكلف كالديون، وإنما يُسقطُ العبادة فعلُها، أو فقدُ شرطها، ولم يحصل شيء من ذلك، وهذا (8) أحد القولين لأئمتنا الأصوليين والفقهاء (9) .
وفي قوله: «إِذَا ذَكَرَهَا» حجة للجمهور (10) على أبي حنيفة حيث يقول: إن المتروكة لا تقضى بعد الصبح ولا بعد العصر. ووجه تمسكهم: أنها صلاة تجب بسبب ذكرها، فتفعل عند حضور سببها متى ما حضر، وقد صرح بالتعليل في قوله تعالى: {وأقم (11) الصلاة لذكري} (12) (13) ؛ فإن اللام للتعليل ظاهرًا، ولا يعارض هذا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا صلاة (14) بعد الصبح حتى تطلع الشمس» (15) ؛ فإن هذا عام في جنس الصلوات، وذلك خاص في الواجبات المقضيّة. والوجه الصحيح عند الأصوليين: بناء العام على الخاص؛ إذ ذلك يرفع التعارض، وبه يمكن الجمع، وهو (16) أولى من الترجيح باتفاق الأصوليين. =(2/310)=@ واستدلاله - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى: {وأقم (17) الصلاة لذكري} (18) ؛ دليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا (19) بخلافه، وهو قول أكثر أصحابنا. واختلف أهل التفسير في قوله تعالى: {لذكري}، فقال مجاهد: لتذكرني (20) فيها. وقال &(2/249)&$
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 67.
(2) في (أ) و(ح): «الكفارة».
(3) في (ب): «الذنوب». وفي (ز): «المذنب».
(4) في (ب): كتبها و«الماثم» وعد لها إلى: «والنائم».
(5) في (ز) و(ب) و(غ): «أقم». بلا واو.
(6) في (ب): «للذكرى». وهي قراءة نافع وأبي عمرو.
(7) سورة طه، الآية: 4.
(8) في (ب): «وهو».
(9) قوله: «والفقهاء» ليس في (ب).
(10) في (غ): «الجمهور».
(11) في (ز) و(ب) و(غ): «أقم».
(12) سورة طه، الآية: 14.
(13) بعدها جاءت في (ز) عبارة «فلأن اللام للتعليل في قوله تعالى: {أقم الصلاة لذكري} إلى» قد أشار الكتاب إلى حذفها.
(14) في (ح): «الصلاة».
(15) هو حديث أبي سعيد الخدري الآتي برقم (689) في باب الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها.
(16) في (غ): «وهذا».
(17) في (ز) و(ب) و(غ): «أقم».
(18) سورة طه، الآية: 14.
(19) في (ح): «مالم يرد علينا».
(20) في (ز): «ليذكرني».(2/249)
النخعي: اللام للظرف؛ أي: إذا ذكرتني؛ أي: ذكرت أمري بعد ما نسيت، ومنه الحديث. وقيل: لا تذكر (1) فيها غيري. وقيل: شكرًا لذكري. وقيل ما ذكرناه: من (2) أن اللام للتسبيب (3) ، وهو أوضحها، ويقرب منه قول النخعي. وقراءة ابن شهاب: تأنيث للذِّكْر (4) .
وقوله: «ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ»، وفي حديث أبي قتادة: «فصلى ركعتين»، وبهذه الزيادة قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد وداود، وهو قول أشهب وعلي بن زياد من أصحابنا. ومشهور مذهب مالك: أنه يصليهما (5) قبل الصبح الفائتة (6) ، وهو قول الثوري والليث؛ تمسُّكًا بحديث ابن شهاب وليس فيه من ذلك شيء، ولأن فعلهما (7) قبل الفائتة يزيد الفائتة فواتًا (8) . وقال أصحابنا: إن النوافل لا تقضى (9) ؛ إذ ليس في الذمة شيء فيجب قضاؤه، فإن أراد أن يقضي فليصلّ نفلاً مبتدءًا (10) ، والله أعلم .
وقوله (11) : «لِيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ بِرَأْسِ رَاحِلَتِهِ فَإِنَّ هَذَا مَنْزِلٌ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَانُ»، ذهب بعض العلماء إلى الأخذ بظاهر هذا الحديث، فقال: إن من انتبه من نومٍ عن صلاةٍ فاتته (12) في سفر زال عن موضعه، وإن كان واديًا خرج عنه. واعتضد بقوله - صلى الله عليه وسلم - : «تحوّلوا عن مكانكم الذي أصابتكم (13) فيه الغفلة»، وهذه الزيادة ذكرها =(2/311)=@ أبو داود في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (14) . وقال آخرون: إنما يلزم هذا في ذلك الوادي بعينه إن علم ونزلت (15) فيه مثل تلك النازلة، فيجب الخروج منه كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقال الجمهور: إن هذا غير مراعى، وإن من استيقظ عن صلاة فاتتهُ صلاَّها في ذلك الوقت وحيث كان (16) ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «فحيثما أدركتك الصلاة فصلِّ» (17) . وهذا الحديث لا يصلح لتخصيصه (18) في غير حق النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ إذ لا يعلم غير النبي (19) - صلى الله عليه وسلم - من حال ذلك الوادي ولا من غيره من المواضع ما علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - . وبتقدير أن تقع النازلة في ذلك الوادي، فلا ندري (20) هل ذلك الشيطان باقٍ فيه أم لا؟
وقوله (21) : «تحولوا»: خطاب لأصحابه الكائنين معه خاصة، لا يتعدّى إلى &(2/250)&$
__________
(1) في (غ): «لا يذكر».
(2) قوله: «من» ليس في (غ).
(3) في (أ): «للتسبب».
(4) في (ب): «للذكرى».
(5) في (ح) و(ز) و(غ): «يصليها».
(6) قوله: «يزيد الفائتة» ليس في (غ).
(7) في (ح) و(ز) و(ب): «فعلها».
(8) في (أ): «فُوَاما».
(9) في (ز): «تقتضي».
(10) في (ز) رسمت هكذا «متدا».
(11) في (ز): «قوله».
(12) في (ب): «فائتة».
(13) في (ز) رسمت هكذا: «أمابتكم».
(14) تقدم تخريج الزيادة قريبًا.
(15) في (ز): «وتركت فيه). وفي (ب): «وترك فيه».
(16) في (ب): «وحيث ما كان».
(17) هو جزء من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - المتقدم برقم (409).
(18) في (غ): «في تخصيصه».
(19) قوله: «غير النبي» ليس في (ح).
(20) في (أ): «يدري»، وفي (غ): «يدرَى».
(21) في (ز): «قوله» بدون واو.(2/250)
غيرهم؛ لأنه كان لسبب علمه - صلى الله عليه وسلم - بحضور الشيطان فيه، وغيره لا يعلم ذلك، فلا يتعدى إليه ذلك الحكم، والله أعلم .
وإلى معنى ما ذكرناه ذهب الداودي وغيره من أصحابنا في تأويل الحديث، والله أعلم (1) . =(2/312)=@
*************
( 85 ) باب من نام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس، فله أن يؤذن إذا كان في جماعة، ويصلي ركعتي الفجر
274- عَنْ أَبِي قَتَادَةَ (2) قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «إِنَّكُمْ تَسِيرُونَ عَشِيَّتَكُمْ وَلَيْلَتَكُمْ، وَتَأْتُونَ الْمَاءَ - إِنْ شَاءَ الله - غَدًا» فَانْطَلَقَ النَّاسُ لا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسِيرُ حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ، وَأَنَا إِلَى جَنْبِهِ. قَالَ: فَنَعَسَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَمَالَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فأَتيتُهُ فَدَعَمْتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ أُوقِظَهُ، حَتَّى اعْتَدَلَ عَلَى رَاحِلَتِهِ. قَالَ: ثُمَّ سَارَ حَتَّى تَهَوَّرَ اللَّيْلُ مَالَ عَنْ رَاحِلَتِهِ. قَالَ: فَدَعَمْتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ أُوقِظَهُ حَتَّى اعْتَدَلَ عَلَى رَاحِلَتِهِ. قَالَ: ثُمَّ سَارَ حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ السَّحَرِ مَالَ مَيْلَةً، هِيَ أَشَدُّ مِنَ الْمَيْلَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ، حَتَّى كَادَ يَنْجَفِلُ، فَأَتَيْتُهُ فَدَعَمْتُهُ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: «مَنْ هَذَا؟» قُلْتُ: أَبُو قَتَادَةَ. قَالَ: «مَتَى كَانَ هَذَا مَسِيرَكَ مِنِّي؟» قُلْتُ: مَا زَالَ هَذَا مَسِيرِي مُنْذُ اللَّيْلَةِ. قَالَ: «حَفِظَكَ الله بِمَا حَفِظْتَ بِهِ نَبِيَّهُ» ثُمَّ قَالَ: «هَلْ تَرَانَا نَخْفي عَلَى النَّاسِ؟» ثُمَّ قَالَ: «هَلْ تَرَى مِنْ أَحَدٍ؟» قُلْتُ: هَذَا رَاكِبٌ. ثُمَّ قُلْتُ: هَذَا رَاكِبٌ آخَرُ، حَتَّى اجْتَمَعْنَا فَكُنَّا سَبْعَةَ رَكْبٍ. قَالَ: فَمَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الطَّرِيقِ فَوَضَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ: «احْفَظُوا عَلَيْنَا صَلاتَنَا» فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالشَّمْسُ فِي ظَهْرِهِ، قَالَ: فَقُمْنَا فَزِعِينَ، ثُمَّ قَالَ: «ارْكَبُوا» فَرَكِبْنَا فَسِرْنَا، حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرَكِبْنَا مَعَهُ، قَالَ: فَجَعَلَ بَعْضُنَا يَهْمِسُ إِلَى بَعْضٍ: مَا كَفَّارَةُ مَا صَنَعْنَا بِتَفْرِيطِنَا فِي صَلاتِنَا؟ ثُمَّ قَالَ: «أَمَا لَكُمْ فِيَّ أُسْوَةٌ؟» ثُمَّ قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلاةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الصَّلاةِ الأُخْرَى، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلْيُصَلِّهَا حِينَ يَنْتَبِهُ لَهَا، فَإِذَا كَانَ الْغَدُ فَلْيُصَلِّهَا عِنْدَ وَقْتِهَا» ثُمَّ قَالَ: «مَا تَرَوْنَ النَّاسَ صَنَعُوا؟» قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «أَصْبَحَ النَّاسُ فَقَدُوا نَبِيَّهُمْ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ: رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَكُمْ، لَمْ يَكُنْ لِيُخَلِّفَكُمْ، وَقَالَ النَّاسُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَيْدِيكُمْ: فَإِنْ يُطِيعُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَرْشُدُوا ». قَالَ: فَانْتَهَيْنَا إِلَى النَّاسِ حِينَ امْتَدَّ النَّهَارُ وَحَمِيَ كُلُّ شَيْءٍ، وَهُمْ يَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ! هَلَكْنَا، عَطِشْنَا. فَقَالَ: «لا هُلْكَ عَلَيْكُمْ»،
ثُمَّ قَالَ: «أَطْلِقُوا لِي غُمَرِي» قَالَ: وَدَعَا بِالْمِيضَأَةِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصُبُّ، وَأَبُو قَتَادَةَ يَسْقِيهِمْ، فَلَمْ يَعْدُ أَنْ رَأَى النَّاسُ مَاءً فِي الْمِيضَأَةِ تَكَابُّوا عَلَيْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «أَحْسِنُوا الْمَلأَ، فَكُلُّكُمْ سَيَرْوَى» قَالَ: فَفَعَلُوا.
فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصُبُّ وَأَسْقِيهِمْ، حَتَّى مَا بَقِيَ غَيْرِي وَغَيْرُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ثُمَّ صَبَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لِي: «اشْرَبْ» فَقُلْتُ: لا أَشْرَبُ حَتَّى تَشْرَبَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «إِنَّ سَاقِيَ الْقَوْمِ آخِرُهُمْ»، قَالَ: فَشَرِبْتُ وَشَرِبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فَأَتَى النَّاسُ الْمَاءَ جَامِّينَ رِوَاءً .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
باب شرح ما تضمنه حديث أبي قتادة وعمران بن حصين من الغريب
قوله: «لا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ»؛ أي: لا يعطف عليه ولا ينتظره، وأصله من لَيِّ العُنُق (3) .
وقوله: «حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ»؛ أي: انتصف. وبُهْرَةُ (4) كل شيء: وسطه. وقيل: ذهب عامته، وبقي (5) نحو من ثلثه. قال أبو سعيد الضرير: ابْهِرَارُ (6) الليل: طلوع نجومه إذا تَتَامَّت. وقال غيره: ابهارَّ الليل: طال. والباهِرُ: الممتلئ نورًا. وقد صحّفه بعض الشارحين تصحيفًا قبيحًا، فقال: انهار الليل - بالنون -. قال (7) : ومنه (8) قوله تعالى: {فَانْهَار بِه فِي نَارِ جَهَنَّمَ} (9) . =(2/313)=@ &(2/251)&$
__________
(1) قوله: «والله أعلم» سقط من (ز) و(ب).
(2) أخرجه مسلم (1/472 رقم 681) في المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة.....
(3) في (ح): «وأصله في العنق».
(4) في (غ): «وبهر».
(5) في (ز): «وهي».
(6) في (غ): «ابهيار».
(7) في (ب) و (ح) و(ز): «وقال».
(8) في (ب): «وفيه» بدل «ومنه».
(9) سورة التوبة، الآية: 109.(2/251)
وقوله (1) : «تَهَوَّرَ اللَّيْلُ»، قال الهروي: معناه: ذهب أكثره وانهدم؛ كما يتهوَّر البناء (2) ، يقال (3) : تَهَوَّر الليل وتَوَهَّر .
وقوله: «فَدَعَمْتُهُ»؛ أي: أقمت مَيْلَه، وصرت له كالدّعامة تحته (4) .
وقوله: «حَتَّى كَادَ يَنْجَفِلُ»؛ أي: قارب أن ينقلب ويقع، ومنه: ما جاء في الحديث: «إن البحر جَفَل سمكًا»؛ أي: ألقاه فرمى به، ذكره الهروي (5) .
وقوله: «فمال عن الطريق فوضع رأسه»، هذا الفعل منه - صلى الله عليه وسلم - مثل قوله: «إذا عرستم فاجتنبوا الطريق فإنه مأوى الهوام» (6) . =(2/314)=@
والمِيضَأَةُ: الإناء الذي يتوضأ فيه، وهي التي قال فيها: «أَطْلِقُوا لِي غُمَرِي». والغُمَر: القعب الصغير. ويقال: تغَمَّرْت؛ أي: شربت قليلاً، قال أعشى باهلة (7) :
تكفيه حُزَّةُ فِلْذٍ إنْ أَلمََّ بها ... من الشِّواءِ ويُروي شُرْبَه الغُمَرُ
وقوله: «فتوضأ منها وضوءًا دون وضوء»؛ يعني: وضوءًا مخفّفًا، وكأنه اقتصر فيه على المرة الواحدة، ولم يكثر صبّ الماء؛ لأنه أراد أن يفضل منه فضلة لتظهر فيها بركته وكرامته، وهذا أولى من قول من قال: أراد بقوله: «وضوءًا دون وضوء»: الاستجمار بالحجارة؛ لأن ذلك لا يقال عليه وضوءًا عرفًا ولا لغة؛ لأنه لا نظافة (8) فيه بالغة؛ ولما روى أبو داود (9) في هذه القصة من حديث ذي مِخْبَر (10) خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ وضوءًا لم يبتلّ منه التراب .
والأسوة: القدوة. &(2/252)&$
__________
(1) قوله: «وقوله» ليس في (ح).
(2) قوله: «البناء» غير واضحة في (ز).
(3) في (أ): «فقال».
(4) في (ح): «وتحته».
(5) الحديث ذكره الهروي - كما ذكر المصنِّف - في كتاب "الغريبين" (1/359)، لكن بدون إسناد
وقد أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (4/253 رقم 19742) في كتاب الصيد، باب في الطافي، من طريق شيخه علي بن مسهر، عن الأجلح بن عبدالله، عن عبدالله بن أبي الهذيل قال: سأل رجل ابن عباس فقال: إني آتي إلى البحر، فأجده قد جَفَل سمكًا كثيرًا؟ فقال: كل ما لم تر شيئًا طافيًا. وسنده حسن.
وأخرجه الخطابي في غريب الحديث (2/447) من طريق ابن أبي شيبة، ومنه جري تصويب ما تصحّف في المطبوع من "المصنف".
(6) سيأتي برقم (1385) في الجهاد والسير، باب من آداب السفر.
(7) في رثاء أخيه المنتشر بن وهب الباهلي. انظر: "أساس البلاغة" مادة: غمر (ص593)، وانظر "لسان العرب" (5/31)، وقد جاء فيه: «يكفيه» بدل: «تكفيه»، و"خزانة الأدب" للبغدادي تحقيق عبد السلام هارون (1/198)، وقد ورد فيها: تكفيه حُزَّة فِلذَانٍ، و"جمهرة أشعار العرب" (2/719).
(8) رسمت في (ب) هكذا: «نضافة».
(9) في "سننه" (1/309 رقم 445، 446) في الصلاة، باب في من نام عن الصلاة أو نسيها، من طريق حريز بن عثمان، حدثني يزيد بن صالح، عن ذي مِخْبَر الحبشي - وكان يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الخبر قال: فتوضأ - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - وضوءًا لم يَلْثَ منه التراب... ، الحديث.
وأخرجه أحمد (4/90)، والطحاوي (1/464)، كلاهما من طريق حريز، به.
وسنده ضعيف؛ وفيه يزيد بن صالح - ويقال: ابن صُلَيْح - الرَّحَبي، والحمصي، قال الدارقطني: «لا يعتبر به»، وقال الذهبي: «لا يكاد يعرف، وُثِّق»، وقال ابن حجر: «مقبول». انظر "ميزان الاعتدال" (4/429)، و"التقريب" رقم (7782).
(10) في (ز) و(ب) و(غ): «مخبر الحبشي».(2/252)
وقوله: «فَجَعَلَ بَعْضُنَا يَهْمِسُ إِلَى بَعْضٍ»؛ أي: يحرك شفتيه بكلام خفي . =(2/315)=@
وقوله: «إِنَّهُ لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ»، يدل على أن النائم غير مكلف ولا مؤاخذ .
وقوله: «إِنَّمَا التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلاةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الصَّلاةِ الأُخْرَى»؛ أي: من لم يصلها عامدًا لتركها، وفيه ما يدل على أن أوقات الصلوات كلها موسعة .
وقوله: «فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلْيُصَلِّهَا حِينَ يَنْتَبِهُ لَهَا»: الإشارة بـ«ذلك» إلى ما وقع له من النوم عن الصلاة، ويحتمل أن يعود الضمير (1) إلى جميع ما ذكر: من النوم (2) والتفريط على ما قررنا في قضاء العامد.
وقوله: «فَإِذَا كَانَ الْغَدُ فَلْيُصَلِّهَا عِنْدَ وَقْتِهَا»: قال قوم: ظاهره إعادة المقضيَّة مرتين عند ذكرها وعند حضورها (3) مثلها من الوقت الآتي، وقد وافق (4) هذا الظاهر ما رواه أبو داود نصًّا من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - (5) ، وذكر القصة، وقال في آخرها: «فمن أدرك منكم صلاة الغداة من غدٍ صالحًا، فليقض معها مثلها».
قال الخطابي: لا أعلم أحدًا قال بهذا وجوبًا، ويشبه أن يكون الأمر به استحبابًا؛ ليُحرز (6) &(2/253)&$
__________
(1) قوله «الضمير» من (ح) فقط.
(2) في (غ): «من النوم عن الصلاة».
(3) في (ب) و(غ): «حُضَور».
(4) في (ب) و (ح): «وقد وافق».
(5) ليس هو من حديث عمران، وإنما هو طريق آخر لحديث أبي قتادة، وأخرجه أبو داود في "سننه" (1/305-306 رقم438) في الصلاة، باب في من نام عن الصلاة أو نسيها، من طريق خالد بن سُمَير، قال: قدم علينا عبدالله بن رباح الأنصاري من المدينة - وكانت الأنصار تفقّهه -، فحدثنا، قال: حدثني أبو قتادة... ، فذكر الحديث بطوله، وفي آخره اللفظ الذي ذكره المصنف.
وأخرجه البيهقي في السنن (2/216-217)، ونقل عن البخاري قوله في خالد بن سمير: «لا يتابع في قوله: من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها ولوقتها من الغد»، ثم قال البيهقي: «والذي يدل على ضعف هذه الكلمة، وأَنَّ الصحيح ما مضى من رواية سليمان بن المغيرة: أن عمران بن حصين أحد الركب كما حدّث عبدالله بن رباح عنه، وقد صرّح في رواية هذا الحديث بأن لا يجب مع القضاء غيره».
والغريب أن الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (2/71) ذكر أن هذا الحديث عند أبي داود من حديث عمران بن حصين! فعله نقله عن القرطبي، ثم ذكر ابن حجر أنهم عَدُّوا هذا الحديث غلطًا من راويه.
(6) في (ب): «ليحوز»، وكذا نقله ابن حجر في "الفتح" (2/71) عن الخطابي.(2/253)
فضيلة الوقت في القضاء.
قال الشيخ رحمه الله: وهذا كله يعارضه ما ذكره أبو بكر بن أبي (1) شيبة (2) من حديث الحسن، عن عمران بن الحصين (3) في هذه القصة؛ أنه - صلى الله عليه وسلم - لما صلى بهم المقضيَّة؛ قالوا: ألا نقضيها لوقتها من الغد؟ فقال: «لا ينهاكم الله عن الربا ويأخذه منكم». والصحيح ترك العمل بذلك الظاهر لهذه المعارضة؛ ولما حكى الخطابي؛ ولأن الطرق الصحاح المشهورة ليس فيها من تلك الزيادة شيء، إلا (4) =(2/316)=@ ما ذكر في حديث أبي قتادة (5) ، وهو محتمل كما قررناه (6) ، والله أعلم .
وقوله: ثم قال: «مَا تَرَوْنَ النَّاسَ صَنَعُوا؟»، هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن كان معه مستفهمًا على جهة استحضار أفهامهم، ثم قال - صلى الله عليه وسلم - مخبرًا بما صنعوا وبما قالوا ...، إلى قوله: «وَقَالَ النَّاسُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ»، وهنا انتهى الخبر عنهم، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «فَإِنْ يُطِيعُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَرْشُدُوا (7) »)؛ لأنهما وافقا الحق فيما قالاه، فصوابه إذًا أن يكون: «يُطِيعُوا» و«يَرْشُدُوا» بياء الغائبين. وقد قيد (8) في بعض النسخ بتاء المخاطبين، ووجهه: كأنه أقبل على الغائبين فخاطبهم، ويجري هذا مجرى قول عمر - رضي الله عنه - : «الجبلّ يا سارية» (9) ، وهو بالمدينة، وسارية بمصر أو بالشام، فسمعه سارية ولجأ إلى الجبل، ونجا هو وأصحابه (10) ، والله أعلم (11) .
ويحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - حاكيًا قولهم (12) (13) .
وقوله: «أَحْسِنُوا (14) الْمَلأَ»: بفتح الميم والهمز (15) مقصورًا؛ أي: الخُلُق (16) ، قاله =(2/317)=@ جماعة من اللغويين: أبو زيد والمفضل (17) والزجاج وابن السكيت وابن قتيبة، وأنشد بعضهم (18) :
تنادوا يا لَبُهْثَة (19) إذ رَأَوْنا ... فقلنا أحسني ملأً جُهينا &(2/254)&$
__________
(1) قوله: «أبي» ليس في (ح).
(2) لم أجده في "المصنف"، فلعله في "المسند". وقد أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (4/431، 441، 444)، وابن خزيمة في "صحيحه"(2/97-98 رقم994)، والطحاوي (1/400)، وابن حبان (4/319 رقم1461/الإحسان) و (6/375 رقم2650/الإحسان)، والدارقطني (1/385-386)، والبيهقي (2/217)، جميعهم من طريق هشام بن حسان، عن الحسن البصري، عن عمران، به. وأخرجه عبدالرزاق في "المصنف" (1/589 رقم2241) من طريق إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن عمران، به، فانتفي إعلال الحديث برواية هشام عن الحسن؛ فإنها مرسلة، لكن يبقى إعلال الحديث برواية الحسن عن عمران، فإنه لم يسمع منه، وروايته عنه مرسلة، وفيها خلاف لا يلتفت إليه، وانظر تفصيل ذلك في "المراسيل" لابن أبي حاتم (ص 38).
(3) في (ح): «حصين».
(4) في (ز): «لا» بدل «إلا».
(5) في (ز): رسمت هكذا: «قادة».
(6) في (ب): «قررنا».
(7) في (ح): «تطيعوا... ترشدوا».
(8) في (ز): «قيل».
(9) قصة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في مناداته سارية وهو على المنبر - وسارية في الغزو - قصة مشهورة في كتب السير والمغازي، ولها طرق متعددة معظمها واهٍ بمرّة، وأحسنها ما أخرجه اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (7/1409-1410 رقم2537)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (6/370)، كلاهما من طريق عبدالله بن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر، فذكره.
وهذا إسناد تفرد به محمد بن عجلان عن نافع؛ برغم كثرة أصحاب نافع، ومع ذلك فيحيى بن أيوب الغافقي متكلم في حفظه، ولذلك يقول عنه الحافظ في التقريب (7561): «صدوق ربما أخطأ».
وقد ذكر الحافظ ابن كثير في "البداية" (7/131-132) طرق هذا الحديث، ومنها هذه الطريق، وقال عنها: «وهذا إسناد جيد حسن»، وفي نهاية جمعه للطرق قال: «فهذه طرق يشد بعضها بعضًا».
وذكر الحافظ ابن حجر في "الإصابة"(4/97-98) بعض طرقه، ومنها طريق ابن وهب التي سبقت الإشارة إليها، وقال: «وهو إسناد حسن». وقد ذكر الشيخ الألباني رحمه الله في "السلسلة الصحيحة" (3/101 رقم1110) هذا الحديث، وفصل القول في طرقه وصححه، وتعقب قول ابن كثير: «فهذه طرق يشد بعضها بعضًا»، فقال - أي الألباني-: «وفي هذا نظر؛ فإن أكثر الطرق المشار إليها مدارها على سيف بن عمرو الواقدي، وهما كذابان... » الخ ما قال.
(10) في (غ): «أصحابه» بلا واو.
(11) قوله: «والله أعلم» ليس في (غ) و(ب).
(12) قوله: «ويحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - حاكيًّا قولهم» ليس في (أ).
(13) زاد في (ب) و(غ) بعده: «والله أعلم».
(14) في (ح): «وأحسنوا».
(15) في (ب): «والهمزة».
(16) في (غ): «لخلق».
(17) في (ز): «والمفضلى».
(18) في (ز) بعدها كلمة غير واضحة تشبه: «وقوله».
(19) في (أ) و (ح): «يا آلَبُهْتَةَ»، وفي (ب): «يا آلَبُهْثَةَ" بالثاء وفي (ز) رسمت هكذا: «بال بهثة»، والمثبت من "النهاية" لابن الأثير (4/351)، و"لسان العرب" (2/119)، وفيه نسب البيت لعبد الشارق بن عبد العزى الجهني.(2/254)
أي: خُلُقًا .
وروى ابن قتيبة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه - حين زجروا الأعرابي البائل في المسجد -: «أحسنوا مَلأَكُم» (1) ؛ أي: خلقكم. ومن روى هذا الحرف: «مِلأكم» (2) ساكنة اللام مهموزة - من الامتلاء (3) -؛ فقد أخطأ؛ لأنه لم يملأ أحد في هذه النازلة قِربةً ولا وعاءً، وإنما كان شربًا، والله أعلم (4) .
وقوله: «فَأَتَى النَّاسُ الْمَاءَ جَامِّينَ رِوَاءً»؛ أي: نِشاطًا صالحي الأحوال .
و «رِواءً» من الرِّيِّ؛ وهو: الامتلاء من الماء .
وفي حديث أبي قتادة أوجه من الفقه لا تخفي (5) على متأمل .
باب منه
275- وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ (6) قَالَ: كُنْتُ مَعَ نَبِيِّ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي مَسِيرٍ لَهُ، فَأَدْلَجْنَا لَيْلَتَنَا، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي وَجْهِ الصُّبْحِ عَرَّسْنَا، فَغَلَبَتْنَا أَعْيُنُنَا حَتَّى بَزَغَتِ الشَّمْسُ، قَالَ فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ مِنَّا أَبُو بَكْرٍ، وَكُنَّا لا نُوقِظُ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَنَامِهِ إِذَا نَامَ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ عُمَرُ، فَقَامَ عِنْدَ نَبِيِّ الله - صلى الله عليه وسلم - فَجَعَلَ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ حَتَّى اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ وَرَأَى الشَّمْسَ قَدْ بَزَغَتْ قَالَ: «ارْتَحِلُوا» فَسَارَ بِنَا، حَتَّى إِذَا ابْيَضَّتِ الشَّمْسُ نَزَلَ فَصَلَّى بِنَا الْغَدَاةَ، فَاعْتَزَلَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ لَمْ يُصَلِّ مَعَنَا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «يَا فُلانُ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَنَا؟» قَالَ: يَا نَبِيَّ الله أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ ولا ماء، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَيَمَّمَ بِالصَّعِيدِ، فَصَلَّى، ثُمَّ عَجَّلَنِي فِي رَكْبٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، نَطْلُبُ الْمَاءَ. وَقَدْ عَطِشْنَا عَطَشًا شَدِيدًا، فَبَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ إِذَا نَحْنُ بِامْرَأَةٍ سَادِلَةٍ رِجْلَيْهَا بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ، فَقُلْنَا لَهَا: أَيْنَ الْمَاءُ؟ قَالَتْ أَيْهَاهْ أَيْهَاهْ، لا مَاءَ لَكُمْ، قُلْنَا: فَكَمْ بَيْنَ أَهْلِكِ وَبَيْنَ الْمَاءِ؟ قَالَتْ: يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، قُلْنَا: انْطَلِقِي إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ: وَمَا رَسُولُ اللهِ؟ فَلَمْ نُمَلِّكْهَا مِنْ أَمْرِهَا شَيْئًا، حَتَّى انْطَلَقْنَا بِهَا، فَاسْتَقْبَلْنَا بِهَارَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَهَا، فَأَخْبَرَتْهُ مِثْلَ الَّذِي أَخْبَرَتْنَا، وَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا مُوتِمَةٌ لَهَا صِبْيَانٌ أَيْتَامٌ، فَأَمَرَ بِرَاوِيَتِهَا، فَأُنِيخَتْ، فَمَجَّ فِي الْعَزْلاوَيْنِ الْعُلْيَاوَيْنِ، ثُمَّ بَعَثَ بِرَاوِيَتِهَا، فَشَرِبْنَا وَنَحْنُ أَرْبَعُونَ رَجُلاً عِطَاشٌ حَتَّى رَوِينَا، وَمَلأنَا كُلَّ قِرْبَةٍ مَعَنَا وَإِدَاوَةٍ، وَغَسَّلْنَا صَاحِبَنَا، غَيْرَ أَنَّا لَمْ نَسْقِ بَعِيرًا، وَهِيَ تَكَادُ تَنْضَرِجُ مِنَ الْمَاءِ – يَعْنِي الْمَزَادَتَيْنِ- ثُمَّ قَالَ: «هَاتُوا مَاعِنْدَكُمْ» فَجَمَعْنَا لَهَا مِنْ كِسَرٍ وَتَمْرٍ، وَصَرَّ لَهَا صُرَّةً فَقَالَ لَهَا: «اذْهَبِي فَأَطْعِمِي هَذَا عِيَالَكِ، وَاعْلَمِي أَنَّا لَمْ نَرْزَأْ مِنْ مَائِكِ». فَلَمَّا أَتَتْ أَهْلَهَا قَالَتْ: لَقَدْ لَقِيتُ أَسْحَرَ الْبَشَرِ، أَوْ إِنَّهُ لَنَبِيٌّ كَمَا زَعَمَ، كَانَ مِنْ أَمْرِهِ ذَيْتَ وَذَيْتَ. فَهَدَى الله ذَلكَ الصِّرْمَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ، فَأَسْلَمَتْ وَأَسْلَمُوا .
وَفِي رِوَايَةٍ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ، فَسَرَيْنَا لَيْلَةً حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، قُبَيْلَ الصُّبْحِ، وَقَعْنَا تِلْكَ الْوَقْعَةَ الَّتِي لا وَقْعَةَ عِنْدَ الْمُسَافِرِ أَحْلَى مِنْهَا، فَمَا أَيْقَظَنَا إِلا حَرُّ الشَّمْسِ.
وَفِيهَا: فَلَمَّا اسْتِيْقَظَ عُمَرُ وَرَأَى مَا أَصَابَ النَّاسَ، وَكَانَ أَجْوَفُ جَلِيْدًا، فَكَبَّرَ وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَكْبِيِر ،حَتَى اسْتِيْقَظَ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِشِدَّةِ صَوْتِهِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شَكَوْا إِلَيْهِ الَّذِي أَصَابَهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لا ضَيْرَ، ارْتَحِلُوا. وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث عمران - رضي الله عنه - : «فَأَدْلَجْنَا لَيْلَتَنَا»؛ أي: سرنا ليلتنا كلها، يقال: =(2/318)=@ أَدْلَج - بقطع الألف وسكون الدال -؛ أي (7) : سار الليل كله، يدلج إدلاجًا. وادّلج - بوصل الألف وتشديد الدال -: سار من آخره. وقد قيل: هما بمعنى واحد. والتعريس في أصله: النزول من آخر الليل، وقد تقدم.
وبزغت (8) الشمس؛ أي: بدا طلوعها .
وقوله: «وَكُنَّا (9) لا نُوقِظُ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَنَامِهِ»: إنما كان ذلك لأنه كان يوحى إليه في النوم، فكان يُخاف أن يكون إيقاظه قطعًا للوحي وتشويشًا له .
وقوله: «ثُمَّ عَجَّلَنِي»- مشدد الجيم -؛ أي: أمرني (10) بالاستعجال، وأكّده عليّ .
وقوله: «إِذَا نَحْنُ بِامْرَأَةٍ سَادِلَةٍ رِجْلَيْهَا بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ»؛ أي: مرسلة (11) ، وكذلك رواية الجماعة. وللعُذَري: «سابلة» بالباء بواحدة، والأول أصوب؛ لأنه لا يقال: سَبَلَتْ، وإنما (12) يقال: أَسْبَلَتْ.
والمزادتان: القربتان، وقيل: المزادة: القِربة الكبيرة التي تحمل على الدابة، وسُمّيت (13) بذلك لأنه يزاد فيها جلد من غيرها لتكبر. &(2/255)&$
__________
(1) لم أجده.
(2) في (غ): «الملأ».
(3) في (ب) و(ز) و(غ): «من معنى الامتلاء».
(4) قوله: «والله أعلم» سقط من (ز).
(5) في (ز): «لا يخفى».
(6) أخرجه البخاري (1/447 رقم 344) كتاب التيمم، باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء، و(1/457 رقم348) كتاب التيمم، باب منه، و(6/580 رقم3571) كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، ومسلم (1/474 رقم 682) في المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها.
(7) في (ب): «إذا».
(8) قوله: «بزغت» ليست واضحة في «ز».
(9) في (أ): «كنا».
(10) في (ز): «أمراني».
(11) في (ح) و(ز) و(غ): «سادلة: أي مرسلة».
(12) في (غ): «سَبَلَ إِنَّما».
(13) في (ز): «فسميت»، وفي (غ): «سميت».(2/255)
وقولها (1) : «أَيْهَاهْ (2) »): كذا روي هنا بالهمز (3) في أولهما، وبالهاء في =(2/319)=@ آخرهما (4) ، ويروى بالتاء أيضًا في آخرهما (5) ، وهي: «هيهات» المذكورة في قوله تعالى: {هيهات هيهات لما توعدون} (6) ؛ أبدلت الهاء همزة، ومعناها: البعد، والهاء في آخرها للوقف. وقيل: هي مُرَكّبة من: «هَيْ» للتأسف، و: «هاوه» للتأوهّ، فقلبت الهاء في الوصل تاء، ثم حركت بالفتح والضم والكسر، وقد قرئ بها قوله تعالى (7) : {هيهات (8) }، وهي اسم من أسماء الأفعال، فتارة تقدَّر ببَعُدَ (9) كما في قول الشاعر (10) :
فهيهات هيهات العقيقُ وأهلُهُ ... وهيهات خِلٌّ بالعقيقِ نُواصِلُه &(2/256)&$
__________
(1) في (أ): «وقوله».
(2) قوله: «أيها» تكررت في (ز) و(ب).
(3) في (ب): «بالهمزة».
(4) في (ح): «في أولها وبالهاء في آخرها».
(5) في (ح): «آخرها».
(6) سورة المؤمنون، الآية: 36.
(7) في (ح): «وقد قرئ بها في قوله تعالى».
(8) في (ب): «هيهات هيهات».
(9) في (غ): «كما قيل في قول الشارعر» بشرح ابن حبيب (2/965).
(10) البيت لجرير، انظر الديوان بشرح ابن حبيب (2/965)، وقد ورد هكذا.
فأيْهاتَ أيهاتَ العقيقُ ومَنْ بِه ... وأيهاتَ وصْلٌ بالعقيقِ تُواصِلُهْ
وانظر: «لسان العرب» (13/553)، وفيه: «نحاوله» بدل: «نواصله».(2/256)
أي: بَعُدَ العقيق وأهله، وتارة تقدر بِبُعْدٍ الذي هو المصدر؛ كما قيل في قوله تعالى: {هيهات هيهات لما توعدون}؛ أي: بُعدًا بُعْدًا للذي توعدون، هو (1) حكاية عن قول الكفار .
و«مُؤتِمَةٌ»- بكسر التاء -؛ أي: ذات أيتام .
و«رَاوِيَتِهَا (2) ») هنا: الجمل الذي يُستقى (3) عليه الماء (4) ، وهذه رواية الجماعة، وعند السمرقندي: فأمر براويتيها (5) ، وكأنه أراد المزادتين، وفيه بعد من حيث (6) قوله (7) : «فَأُنِيخَتْ».
و«مَجَّ»؛ أي: طرح من فيه فيهما (8) ، ومعناه: بَزَق (9) فيهما (10) .
و«الْعَزْلاوَيْنِ»: قال ابن ولّاد: العَزْلاء بالمد: عزلاء المزادة؛ وهي: مخرج الماء منها. وقال الهروي: هو فوها (11) الأسفل. والذي في الكتاب يشهد لما ذكره ابن ولاّد. =(2/320)=@ &(2/257)&$
__________
(1) في (ب) و (ح): «هي».
(2) في (ز): «وروايتها».
(3) في (ز): «تستقي».
(4) قوله: «الماء» سقط من (غ).
(5) في (ز): «بروايتها».
(6) في (ب) و(ح) و(ز) و(غ): «وفيه بعد من جهة اللفظ».
(7) في (ب) و(غ): «وقوله».
(8) في (غ): «فيها».
(9) في (ح): «وبزق».
(10) في (غ): «فيها».
(11) في (أ): «فيها».(2/257)
وقوله: «وَغَسَّلْنَا صَاحِبَنَا»؛ أي: أعطيناه من الماء ما يغتسل به، وهو مشدّد السين .
وقوله: «وَهِيَ تَنْضَرِجُ مِنَ الْمَاءِ»: كذا عند ابن ماهان بتاءين، و بـ«من» (1) ، وعند الجماعة: «تَنْضَرِجُ بالماء»، وهما (2) بمعنى واحد؛ أي: تقارب (3) أن (4) تنشقّ (5) من الامتلاء .
و«لَمْ نَرْزَأْك (6) »)؛ أي: لم ننقصْكِ (7) ، ومنه قولهم (8) : ما رزأته زِبالاً (9) ؛ أي: ما نقصته. و «ذَيْتَ وذَيْتَ»؛ أي: كَيْتَ وكَيْتَ، وهو كناية عن حديث معلوم .
و«الصِّرْمَ»- بكسر الصاد -: قال يعقوب: هو أبيات مجتمعة .
ولا يخفي ما تضمنه هذا الحديث من الأحكام، ومن معجزات (10) النبي - صلى الله عليه وسلم - ، - (2/258)&$
__________
(1) في (ب): «بتاءين ومن».
(2) في (ح): «وهي».
(3) في (ز): «يقارب».
(4) قوله: «أن» ليست في (ز) و(غ) و(ب).
(5) في (ب): يشبه أن تكون: «تشقق».
(6) في (ح) و (ب): «ولم نرزأ».
(7) في (غ): «لم تنقص».
(8) في (أ): «قولهم».
(9) ضبطت في (ب): «زُبالاً" بضم الزاي.
(10) في (أ): «معجزة».(2/258)
وأن حديث عمران بن حصين نازلة (1) أخرى غير ما تضمنه حديث أبي قتادة . =(2/312)=@
وقوله: «لا ضَيْرَ»؛ أي: لا ضرر، وقد تقدم في كتاب الإيمان . =(2/322)=@
*******
( 86 ) باب ماجاء في حكم قَصْرِ الصلاة في السفر
276- عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ (2) قَالَتْ: فَرَضَ الله الصَّلاةَ - حِينَ فَرَضَهَا- رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَتَمَّهَا فِي الْحَضَرِ، وَأُقِرَّتْ صَلاةُ السَّفَرِ عَلَى الْفَرِيضَةِ الأُولَى .
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَقُلْتُ لِعُرْوَةَ: مَا بَالُ عَائِشَةَ تُتِمُّ فِي السَّفَرِ؟ قَالَ. إِنَّهَا تَأَوَّلَتْ مَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب حكم قصر الصلاة في السفر
قول عائشة رضي الله عنها: «فَرَضَ الله الصَّلاةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ (3) ...»، الحديث؛ مخالف لفعلها؛ فإنها كانت تتم في السفر، ومخالف لما قاله غيرها من الصحابة &(2/259)&$
__________
(1) في (غ): «فإن».
(2) أخرجه البخاري (1/464 رقم 350) في الصلاة، باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء، و(2/569 رقم1090) في تقصير الصلاة، باب يقصر إذا خرج من موضعه، و(7/267 رقم 3935) كتاب مناقب الأنصار، باب التاريخ، من أين أرخوا التاريخ، ومسلم (1/478 رقم 685) في صلاة المسافرين، باب صلاة المسافرين وقصرها.
(3) في (أ): «ركعتين ركعتين».(2/259)
- رضي الله عنهم - ؛ كعمر (1) وابن عباس (2) ، وجبير بن مطعم (3) ؛ فإنهم قالوا: «إن الصلاة رضت في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين؛ كما رواه مسلم عن ابن عباس، يخالفه (4) أيضًا ظاهر الكتاب في قوله تعالى: {فليس (5) عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن فتم أن يفتنكم الذين كفروا} (6) ؛ مع قوله - صلى الله عليه وسلم - وقد سئل عن ذلك -، فقال: «صدقة تصدق الله (7) بها (8) عليكم» كما يأتي في حديث يعلى. وقد رام بعض المتأخرين الجمع بين حديث عائشة وبين حديث =(2/323)=@ ابن عباس، فقال: يحمل حديث عائشة رضي الله عنها على أول الأمر، حديث ابن عباس (9) على الذي استقرّ عليه الفرضان، وهو تحكُّم؛ مع أنه خفي (10) عليه العذر عن (11) مخالفتها هي، وعن معارضة ظاهر الكتاب .
ثم نقول: إنه (12) لو كان الأمر على ما ذكرته عائشة؛ لاستحال عادةً أن تنفرد بفعل (13) ذلك عائشة؛ فإنه حكم يعمّ الناس كلهم، فيشيع (14) ، وينقله (15) الكافة من الصحابة والعدد الكثير منهم، ولم يُسمع ذلك قطّ من غيرها من الصحابة، فلا مُعَوَّل عليه، والله أعلم .
فإن قيل: فلعل ذلك كان في أول مشروعية الصلاة، ولم يستمرّ ذلك الحكم، فلا يلزم (16) الإشاعة. قلنا: ذلك باطل؛ لأن عائشة رضي الله عنها لعلها (17) لم تكن موجودة في ذلك الوقت؛ فإن أول مشروعية (18) الصلاة إنما كان (19) حين الإسراء، وقد ذكرنا (20) وقت ذلك في كتاب الإيمان (21) ، وإن كانت موجودة إذ ذاك؛ فلم تكن تميز (22) ، ولا تعقل (23) ؛ لصغرها (24) .
واختلف في حكم القصر في السفر؛ فروي عن جماعة أنه فرض، وهو قول عمر بن عبد العزيز والكوفيين وإسماعيل القاضي.
وحكى ابن الجهم: أن أشهب روى عن مالك: أن القصر فرض، ومشهور مذهب مالك، وجُلّ أصحابه، وأكثر العلماء من السلف والخلف: أن القصر سنة، وهو قول الشافعي. ومذهب عامة البغداديين من أصحابنا: أن الفرضَ التخييرُ، وهو قول أصحاب الشافعي. ثم اختلف أصحاب التخيير في أيهما أفضل؟ فقال بعضهم: القصر أفضل، وهو قول الأبهري من أصحابنا وأكثرهم، وقيل: إن الإتمام أفضل، وحكي عن الشافعي . =(2/324)=@
وسبب الخلاف (25) : اختلاف الأحاديث في ذلك كما سيأتي. وقد تأول القائلون بأن القصر ليس بفرض حديث عائشة وحديث ابن عباس: أن الفرض (26) فيهما بمعنى التقدير، وهو أصله في اللغة، فيكون معناه أن الله تعالى قدَّر صلاة المسافر بركعتين (27) عددًا؛ كما قدَّر صلاة الحضر بأربع (28) ركعات على ما في حديث ابن عباس، وعلى أي وجه يكون هذا التقدير، على حكم الوجوب أو &(2/260)&$
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (1/338 رقم1064) في إقامة الصلاة، باب تقصير الصلاة في السفر، والنسائي في "الكبرى" (1/183 رقم490) في الصلاة، باب عدد صلاة الفطر وصلاة النحر، وابن خزيمة (2/340 رقم1425)، والبيهقي (3/199) جميعهم من طريق يزيد بن زياد بن أبي الجعد، عن زُبيد، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، عن عمر، قال: «صلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، والفطر والأضحى ركعتان، تمام غير قصر، على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وفي سنده يزيد بن زياد بن أبي الجعد: وهو وإن كان ثقة، إلا أنه قد خالفه من هو أوثق منه وأكثر عددًا.
وقد أخرجه الطيالسي (ص 20 رقم136)، وعبدالرزاق (2/519 رقم4278)، وأحمد (1/37)، والنسائي (3/183 رقم1566) في العيدين، باب عدد صلاة العيدين، والطحاوي (1/421)، والبيهقي (3/200)، جميعهم من طريق سفيان الثوري.
وأخرجه ابن أبي شيبة (2/205 رقم8156) في الصلاة، باب من كان يقصر الصلاة، وعنه ابن ماجه (1/338 رقم1063) في الموضع السابق، وأخرجه عبد بن حميد (ص 40 رقم29)، والنسائي (3/111 رقم 1420) في الجمعة، باب عدد صلاة الجمعة، والطحاوي (1/422)، أربعتهم من طريق شريك.
وأخرجه النسائي (3/118 رقم1440) في تقصير الصلاة في السفر، والبزار (1/465 رقم331/"البحر الزخار")، كلاهما عن شعبة.
وأخرجه الطحاوي (1/421) من طرق محمد بن طلحة بن مصرف. أربعتهم: «الثوري، وشريك، وشعبة، ومحمد بن طلحة» عن زبيد اليامي، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن عمر، فذكره ليس فيه: كعب بن عجرة.
وأخرجه الطحاوي (1/422)، والبيهقي (3/304-305) كلاهما من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان، عن زبيد، عن ابن أبي ليلى، عن الثقة، عن عمر، فذكره.
وقد رجح أبو حاتم في "العلل" لابنه (1/138، 204 رقم381، 585)، والدارقطني في "العلل" (2/115-118) رواية الثوري، عن زبيد، عن ابن أبي ليلى، عن عمر.
وأما ما ورد من تصريح ابن أبي ليلى بسماعه لهذا الحديث عن عمر، كما عند أحمد (1/37) من طريق يزيد بن هارون، عن الثوري، فقد ردَّ ذلك الدارقطني بقوله: «ولم يتابع يزيد بن هارون على قوله هذا». اهـ.
وقد اختلف في سماع ابن أبي ليلى من عمر، فأنكر سماعه منه أبو حاتم، وقال :«ويُروى عن عبدالرحمن بن أبي ليلى أنه رأى عمر، وبعض أهل العلم يُدخل بينه وبين عمر: البراء بن عازب، وبعضهم يُدخل بينه وبين عمر: كعب بن عجرة».اهـ. وقال النسائي في "سننه" (3/111): «لم يسمع من عمر».اهـ. وقال الآجري :" قلت لأبي داود: سمع عمر؟ قال: قد رُوي، ولا أدري يصح أم لا؟ قال: رأيت عمر يمسح، ورأيت عمر حين رأى الهلال. قال أبو داود: وقد رأيت من يدفعه، وسئل يحيى بن معين: عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن عمر؟ فقال: لم يره، فقيل له: الحديث الذي يُروى: كنا مع عمر نتراءى الهلال؟ فقال: ليس بشيء. وقال مرة: لم يسمع من عمر شيئًا قط.
وقال ابن المديني: لم يثبت عندنا من جهة صحيحة أن ابن أبي ليلى سمع من عمر، وكان شعبة ينكر أنه سمع من عمر». اهـ.
وكان ولادةُ ابن أبي ليلى لستٍّ بقين من خلافة عمر، كما حكاه المزي وغيره.
وقال الذهبي: ولد في خلافة الصديق، أو قبل ذلك، وقيل: بل وُلد في وسط خلافة عمر ورآه يتوضأ ويمسح على الخفين.
انظر: "تهذيب الكمال مع حاشيته" (17/372-377)، "المراسيل" لابن أبي حاتم (ص 125-126)، "المراسيل" للعلائي (ص226)، "السير" (4/263).
وقد توبع ابن أبي ليلى على روايته، لكنها متابعة لا يُفرح بها.
فقد أخرجه البزار (1/462-463 رقم330/"البحر الزخار") من طريق ياسين الزيات، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عمر، بمثله، لكن ياسين الزيات: يتكلمون فيه منكر الحديث؛ كما قال البخاري في "تاريخه" (8/429)، ولذا قال البزار عقب روايته :" ولا نعلمه يروي عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عمر، إلا من حديث ياسين، عن الأعمش».اهـ.
وانظر: "الإرواء" (3/105-106 رقم638)، و"نصب الراية" (2/189-190)، و"المطالب العالية" (2/208-209).
(2) وحديثه هو الآتي.
(3) لم أجده.
(4) في (ب): «ويخالف».
(5) في الأصل: «ليس» و(ز) و(غ).
(6) سورة النساء، الآية: 101.
(7) قوله: «الله» ليس في (أ).
(8) قوله: «بها» ليس في (ب).
(9) من قوله: «فقال:يحمل حديث عائشة على... إلى هنا» سقط من (غ).
(10) في (ب) و(ح) و(ز) و(غ): «بقي».
(11) في (ح) و(غ): «من».
(12) قوله: «إنه» ليس في (ح).
(13) في (ز) و(غ): «بنقل».
(14) في (أ) و (ب) و(ز): «فليشع»، وفي (غ): «فليسع».
(15) في (ب) و(ح) و(غ) و(ز): «وتنقله».
(16) في (ب): «نلزم»، وفي (غ): «فلم نلزم».
(17) قوله: «لعلها» ليس في (ح).
(18) في (أ): «مشرعية».
(19) في (ح) و(ز): «كانت».
(20) في (ب): «ذكر».
(21) في الحديث رقم (131) منه، باب ما خص الله به محمدًا نبينا - صلى الله عليه وسلم - من كرامة الإسراء.
(22) في (ب) و(غ): «ممن تميز».
(23) في (ح) و(ز): «ممن يميز ولا يعقل».
(24) في (غ): «تشبه: «كغيرها».
(25) في (ح): «الاختلاف».
(26) في (ح) و(ز) و(غ): «القصر».
(27) في (ح): «ركعتين».
(28) في (ب) و(ح) و(ز) و(غ): «أربع».(2/260)
السنة؟ ذلك يؤخذ من دليلٍ آخر، وقد دلت أدلة كثيرة على أنه ليس بواجب؛ منها: حديث عمر (1) حيث قال - صلى الله عليه وسلم - : «صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته».
وقد روى النسائي (2) من حديث عائشة - وهو صحيح -: أن عائشة اعتمرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة، قالت: قلت (3) : يارسول الله! بأبي أنت وأمي! قصَرتَ وأتممتُ، وأفطرتَ وصمتُ؟ فقال: «أحسنت يا عائشة»، وما عابه عليَّ. وهكذا (4) قيدته بفتح التاء الأولى وضم الثانية في الكلمتين.
وروى الدارقطني (5) عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقصُر في السفر ويتمّ، ويفطر ويصوم. قال: «إسناد صحيح" (6) . وكذلك دلّ قوله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} (7) . فإذا تقرر أنه ليس بواجب، فهل هو سنة أم لا؟ قلنا: هو سنة دلّ عليه مداومته - صلى الله عليه وسلم - على القصر، واستمرار عمل الخلفاء على ذلك وأكثر الصحابة .
ثم اختلفوا في السفر الذي تقصر فيه الصلاة: فذهب عامة العلماء إلى جوازه في كل سفر مباح، ومنعِه في سفر المعصية، وهو قول مالك والشافعي والطبري وأصحابهم (8) . وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري إلى جوازه في كل سفر: طاعةً كان أو معصيةً، وهو (9) رواية شاذة عن مالك. وذهب داود إلى أنه لا يجوز إلا في سفر الحج والعمرة والغزو لا (10) في غيرها، وروي &(2/261)&$
__________
(1) يعني الذي هذا شرحه.
(2) في "سننه" (3/122 رقم1456) في تقصير الصلاة في السفر، باب المقام الذي يقصر بمثله الصلاة، والبيهقي (3/142) من طريق أبي نعيم، والدارقطني (1/188) من طريق القاسم بن الحكم؛ كلاهما "أبو نعيم، والقاسم بن الحكم" عن العلاء بن زهير، عن عبدالرحمن بن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: «اعتمرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي! قصرتَ وأتممتُ وأفطرتَ وصمتُ؟ قال: «أحسنت يا عائشة».
قال البيهقي في "معرفة السنن"(4/259): «وهو إسناد صحيح موصول، فإن عبدالرحمن ابن الأسود أدرك عائشة " اهـ. لكن أخرجه الدارقطني أيضًا من طريق محمد بن يوسف، عن العلاء بن زهير، عن عبدالرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة فذكرته، وفيه: «خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمرة رمضان... ». قال الدارقطني: «موصول وهو إسناد حسن، وعبدالرحمن قد أدرك عائشة ودخل عليها وهو مراهق، وهو مع أبيه، وقد سمع منها " اهـ.
لكن نقل البيهقي في "سننه" (3/142) عن أبي بكر النيسابوري قال: «ومن قال عن أبيه في هذا الحديث فقد أخطأ " اهـ.
وقال الدارقطني في "العلل" (5/61/ب): « والمرسل أشبه بالصواب، وعبدالرحمن قد دخل على عائشة وسمع منها، كان أبوه يرسله إليها في الحاجة، فقال: «دخلت عليها عام احتلمت، فقالت: فعلتها يالكع! وأرسلت الحجاب» اهـ.
وقال ابن عبدالهادي في "التنقيح" (2/1163): « هذا حديث منكر، وقوله: «في عمرة في رمضان" باطل، فإن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر في رمضان قط » اهـ.
وقال الشيخ الألباني في " الإرواء " (3/8-9 رقم 563 ): «ولعل الإرسال هو علة الحديث». اهـ. وأصح من هذا في سبب إتمام عائشة: ما رواه البيهقي (3/143) من طريق وهب بن جرير، عن شعبة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تصلي في السفر أربعًا، فقلت لها: لو صليت ركعتين؟ فقالت: «يا ابن أختي، إنه لا يشق عليّ». قال الحافظ في "الفتح" (2/571): «إسناده صحيح».
(3) قوله: «قلت» من (ب) فقط.
(4) في (غ): «وكذا».
(5) في "سننه" (2/189)، وأخرجه الطحاوي (1/415)، والبيهقي (3/141-142) ثلاثتهم من طريق مغيرة بن زياد، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر في السفر ويتم. قال الدارقطني: «المغيرة بن زياد ليس بالقوي». وقال الشيخ الألباني في "الإرواء"(3/6): «وقد سأل عبدالله بن أحمد أباه عن حديثه هذا: يصح؟ فقال: له أحاديث منكرة، وأنكر هذا الحديث " اهـ.
وقد تابعه طلحة بن عمرو، عند الدارقطني أيضًا، والبيهقي (3/142)، والبغوي (4/166 رقم1023)، وطلحة هذا متروك.
وأخرجه الدارقطني أيضًا من طريق عمر بن سعيد، ثم قال: «هذا إسناد صحيح». قال الشيخ الألباني في "الإرواء" (3/7): «ورجاله كلهم ثقات غير ابن ثواب، فإني لم أجد له ترجمة في غير"تاريخ بغداد»،ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، فهو مجهول الحال... فلا تطمئن النفس لصحة هذا الحديث " اهـ.
وقد خالفهم عمر بن ذر المرهبي، فرواه عن عطاء: أن عائشة كانت تصلي في السفر المكتوبة أربعًا. أخرجه البيهقي (3/142)، وقال: «عمر بن ذر كوفي ثقة». قال الشيخ الألباني في "الإرواء" (3/7): «فروايته أولى، وهي تدل على أن الإتمام إنما هو عن عائشة موقوفًا عليها، وهذا ثابت عنها من غير طريق في "الصحيحين" وغيرهما كما يأتي، وأما الرفع فلم يثبت عنها من وجه يصح». اهـ. وقال البيهقي في "سننه" (3/142-143): « وصحيح عن عائشة أنها كانت تتم مع قولها: «فرضت الصلاة ركعتين"». اهـ.
(6) من قوله: «وروى الدارقطني.... " إلى هنا ليس في (ب) و(ح) و(ز) و(غ).
(7) سورة النساء، الآية: 101.
(8) في (ح): «وأصحابه».
(9) في (غ): «وهي».
(10) في (أ): «ولا».(2/261)
ذلك (1) عن ابن مسعود (2) . واختُلف عن أحمد بن حنبل: فمرة قال بقول مالك، ومرة قال: لا يقصر إلا في =(2/325)=@ حج أو عمرة. وقال عطاء: لا يقصر إلا في سبيل من سبل (3) الله، والصحيح: المذهب الأول؛ لأن القصر إنما شرع تخفيفًا عن (4) المسافر للمشقّات (5) اللاحقة فيه، ومعونة له على ما هو بصدده مما يجوز، وكل الأسفار في ذلك سواء، وأما سفر المعصية فلا يترخص فيه بالقصر ولا بالفطر؛ لأن ذلك يكون معونة له على معصيته، والله تعالى يقول: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} (6) .
واختلفوا في قدر السفر الذي تقصر (7) فيه الصلاة، فقال داود: تقصر في كل سفرٍ طويلٍ أو قصيرٍ (8) ؛ ولو كان ثلاثة أميال؛ في سفر الطاعة .
وكافة العلماء على أن القصر إنما شُرِعَ تخفيفًا ،وإنما يكون في السفر الطويل الذي تلحق به (9) المشقة غالبًا. واختلفوا في تقديره، فذهب مالك والشافعي وأصحابهما والليث والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث إلى أنها لا تقصر إلا في اليوم التام. وقول مالك: يوم وليلة؛ راجع إلى اليوم التام، وهو قول ابن عباس (10) وابن عمر (11) ، وقدّره مالك بثمانية وأربعين ميلاً، والشافعي والطبري بستة وأربعين ميلاً (12) ، وهو أمر متقارب. والتفت هؤلاء إلى أقل ما سمّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سفرًا؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم منها» (13) . ومسيرة يوم وليلة هو مسيرة (14) اليوم التام؛ فإن عادتهم في أسفارهم أن يقيلوا بالنهار، ويسيروا بالليل؛ ولأن مسيرة يوم تامٍّ (15) لا يمكن الخارج من منزله الرجوع إليه من يومه (16) ، ويبيت ضرورة عنه، فخرج عن القرار (17) =(2/326)=@ في السفر.
وقال الكوفيون: لا تقصر (18) في أقل من مسيرة ثلاثة أيام، وهو قول عثمان وابن مسعود وحذيفة - رضي الله عنهم - (19) .
وقال الحسن وابن شهاب: يقصر (20) في مسيرة يومين. وأولاها القول الأول، والله أعلم. &(2/262)&$
__________
(1) في (غ): «في ذلك».
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/204رقم8149)، وابن المنذر في "الأوسط" (4/345 رقم2257)، كلاهما من طريق الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبدالرحمن بن يزيد قال: قال عبدالله: «لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد». وسنده صحيح.
(3) قوله: «من سبل» سقط من (غ).
(4) في (غ): «على» بدل «عن».
(5) في (غ): (للمسبك» وكتب في الحاشية: «لعله للمشقة».
(6) سورة المائدة، الآية: 2.
(8) في (ب) و(ح): «قصير أو طويل».
(9) في (ب) و(ح): «فيه».
.
(10) أخرجه عبدالرزاق في "المصنف" (2/525 رقم4299)، وابن أبي شيبة (2/200، 203 رقم8085، 8135)، كلاهما من طريق منصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: "إذا سافرت يومًا إلى العشاء فأتمّ الصلاة، فإن زدت فاقصر». وسنده صحيح.
(11) أخرجه مالك في "الموطأ (1/147رقم13) في قصر الصلاة في السفر، باب ما يجب فيه قصر الصلاة، من طريق ابن شهاب الزهري، عن سالم بن عبدالله بن عمر: أن عبدالله بن عمر كان يقصر الصلاة في مسيرة اليوم التام. وسنده صحيح.
(12) قوله: «ميلاً " ليس في (ب).
(13) سيأتي في كتاب الحج، باب ما جاء أن المَحْرم من الاستطاعة برقم (1190).
(14) قوله: «مسيرة " ليس في (ب).
(15) في (ب) و(غ): «اليوم التام».
(16) قوله: «من يومه " ليس في (ح).
(17) في (أ): «القران».
(18) في (ح) و(ز): «لا يقصر».
(19) الظاهر أن المصنف أخذ هذا عن ابن عبدالبر، فإنه قال في "الاستذكار" (6/87): «وقال الكوفيون - سفيان الثوري، والحسن بن صالح، وشريك، وأبو حنيفة وأصحابه: لا
يقصر المسافر الصلاة إلا في المسافة البعيدة المحتاجة إلى الزاد والمزاد؛ من الأفق إلى الأفق. قال سفيان وأبو حنيفة: أقل ذلك ثلاثة أيام، لا يقصر الصلاة مسافر في أقل من ثلاثة أيام كاملة، ومن السلف من ذهب هذا المذهب: عثمان بن عفان، وابن مسعود، وحذيفة بن اليمان... »، ثم أٍند هذه الآثار من طريق ابن أبي شيبة وعبدالرزاق.
وأما قول عثمان - صلى الله عليه وسلم - ، فأخرجه عبدالرزاق في "المصنف" (2/521 رقم4285) من طريق معمر، وابن أبي شيبة في "المصنف" (2/205 رقم8151) من طريق ابن عليَّة، كلاهما عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة قال: أخبرني من قرأ كتاب عثمان - أو قُرئ عليه -: أن عثمان كتب إلى أهل البصرة: أما بعد، فإنه بلغني أن بعضكم يكون في جَشْرةٍ، أو في تجارة، أو يكون جابيًا، فيقصر الصلاة، إنما يقصر الصلاة من كان شاخصًا أو بحضرة عدو. وسنده رجاله ثقات، لولا شيخ أبي قلابة المبهم.
لكن رواه حماد بن سلمة، عن أبي قلابة، عن عمّه أبي المهلَّب، قال: كتب عثمان... ، فذكره هكذا مصرحًا باسم المبهم.
أخرجه ابن المنذر في "الأوسط" (4/345 رقم2258)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/426). فإن كان حماد بن سلمة حفظه؛ فالسند صحيح.
وأما قول ابن مسعود - صلى الله عليه وسلم - فأخرجه عبدالرزاق (2/522 رقم4287)، وابن المنذر في "الأوسط" (4/349 رقم2267)، كلاهما من طريق خصيف الجزري، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود؛ أنه قال: «لا تغترُّوا بتجاراتكم وأجشاركم؛ وتسافروا إلى آخر السواد؛ تقولوا: إنا قوم سفر، إنما المسافرون من أفق إلى أفق».
وسنده منقطع بين أبي عبيدة وأبيه عبدالله بن مسعود؛ فإنه لم يسمع منه.
وأخرجه الطبراني في "الكبير" (9/289 رقم9457) عن محمد بن النضر الأزدي، عن معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عبدالله قال: «لا تغترُّوا بسوادكم، فإنما مجشر أحدكم وأهله شيء واحد، إلا أن يكون مختارًا». وسنده صحيح.
ثم أخرجه الطبراني أيضًا برقم (9458) من الطريق السابق عن الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن ابن مسعود مثله. ورواية إبراهيم النخعي عن ابن مسعود مرسلة، لكن بعض أهل العلم يصححها على ما فيها من إرسال، وهو الراجح على ما كنت بينته في تعليقي على الحديث رقم (3) من "سنن سعيد بن منصور».
وأما قول حذيفة - صلى الله عليه وسلم - فأخرجه الطحاوي (1/424) من طريق شعبة عن الحكم، عن إبراهيم التميمي، عن أبيه قال: استأذنت حذيفة من الكوفة إلى المدائن، ومن المدائن إلى الكوفة؛ في رمضان، فقال: «آذن لك على أن لا تفطر ولا تقصر». وسنده صحيح.
وأخرجه ابن عبدالبر في "الاستذكار" (6/89) من طريق عبدالرزاق، عن ابن جربج، قال: أخبرنا عبدالكريم الجزري، عن ابن مسعود وحذيفة؛ أنهما كانا يقولان لأهل الكوفة: «لا يغرنكم جشركم ولا سوادكم، لا تقصروا الصلاة إلى السواد»، قال: وبينهم وبين السواد ثلاثون فرسخًا.
والحديث في مصنف عبدالرزاق (2/522 رقم4288)، لكن تصحف فيه "ابن مسعود" إلى "ابن سعيد».
(20) في (أ): «تقصر».(2/262)
وقول عروة: «إِنَّهَا تَأَوَّلَتْ مَا تَأَوَّلَ (1) عُثْمَانُ»: اختلف في تأويل إتمام عائشة وعثمان رضي الله عنهما في السفر على أقوال، وأَولى ما قيل في ذلك: أنهما تأوّلا أن القصر رخصة غير واجبة، وأخذا (2) بالأكمل (3) الأتم (4) ، وما عدا هذا القول إما فاسد، وإما بعيد، ولنذكر ما قيل في ذلك:
فمنها: أن عائشة - رضي الله عنه - تأوّلت أنها أم المؤمنين، فحيث حَلّتْ نزلت في أهلها وولدها، وهذا يبطل بما بين المنزلتين من المسافات البعيدة، فإنها كانت تتم فيها وهي على ظهر سفر.
ومنها: أنها كانت لا ترى القصر إلا في الحج والعمرة والغزو، وهذا (5) باطل؛ لأن ذلك لم ينقل عنها، ولا عُرف من مذهبها، ثم قد أتمّت في سفرها إلى عليٍّ رضي الله عنهما.
ومنها: أنها حيث أتمّت لم تكن في سفر جائز، وهذا باطل قطعًا، فإنها كانت أتقى لله وأخوف وأطوع من أن تخرج في سفر لا يرضاه الله (6) ، وهذا التأويل عليها هو (7) من أكاذيب الشيعة المبتدعة، وتشنيعاتهم عليها {سبحانك هذا بهتان عظيم} (8) ، وإنما خرجت رضي الله عنها مجتهدة محتسبة في خروجها؛ تريد أن تطفئ نار الفتنة، ثم خرجت الأمور عن الضبط، وأقل درجاتها أن تكون ممن قال فيها رسول الله (9) - صلى الله عليه وسلم - : «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر» (10) . =(2/327)=@
وقد ذكرنا من حديث النسائي والدارقطني (11) عن عائشة ما يبيّن (12) أن المعنى الذي لأجله أتمت في السفر؛ إنما هو ما اخترناه أوّلاً .
وأما عثمان - رضي الله عنه - تُؤُوِّلَ فقد تُأُوِّلَ له (13) : أنه كان إمام الناس، فحيث حلّ فهو منزله (14) . وهذا يردّه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أولى بذلك، ومع ذلك فلم يفعله.
ومنها: أنه كان معه أهله (15) بمكة (16) . وهذا يردّه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سافر بزوجاته (17) ، وكن معه بمكة، ومع ذلك فقصر.
ومنها: أنه إنما فعل ذلك لأجل (18) الأعراب (19) لئلا يظنوا (20) أن فرض الصلاة أبدًا ركعتان (21) . وهذا يردّه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أولى بذلك، ولم (22) يفعله.
ثم قد عَلِمَ الأعرابُ والكلُّ من المسلمين (23) : أن الصلاة &(2/263)&$
__________
(1) قوله: «ما تأول» ليس في (ح).
(2) في (أ) و(ح): «وأخذ».
(3) في (ح): «الأكمل».
(4) قوله: «الأتم» ليس في (ح).
(5) في (ب): «وذلك» بدل: «وهذا.
(6) قال الحافظ ابن حجر في "الفتح"(2/571): «وقد قيل في تأويل عائشة: إنما أتمّت في سفرها إلى البصرة إلى قتال علي،والقصر عندها إنما يكون في سفر طاعة،وهذا القول باطل».
(7) قوله: «هو» ليس في (ح).
(8) سورة النور، الآية: 16.
(9) قوله: «رسول الله» ليس في (ح) و(ز).
(10) سيأتي في كتاب الأقضية، باب الاعتصام بحبل الله برقم (1803).
(11) قوله: «والدارقطني» ليس في (ب) و(ز) و(غ).
(12) في (غ): «وما بيّن».
(13) في (ب): «فيه» بدل «له».
(14) في (ح): «فحيث حل كل إمامًا للناس، فحيث حل فهو منزله».
(15) في (أ): «أهل».
(16) أخرجه الحميدي (1/21 رقم36)، وأحمد (1/62، 75)، كلاهما من طريق أبي سعيد مولى بني هاشم، عن عكرمة بن إبراهيم، عن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي ذباب، عن أبيه: أن عثمان بن عفان صلى بمنى أربع ركعات، فأنكر الناس عليه، فقال: يا أيها الناس، إني تأهلت بمكة منذ قدمت، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من تأهل في بلد فليصل صلاة المقيم». وفي سنده عكرمة بن إبراهيم الباهلي: قال الحافظ في "التعجيل" (2/21-23 رقم747): «قال الحسيني: ليس بالمشهور، وقال ابن شيخنا - أبو زرعة العراقي -: لا أعرف حاله». اهـ.
والحديث قال عنه البيهقي في "معرفة السنن" (4/263): «منقطع، وعكرمة بن إبراهيم: ضعيف».اهـ.
وقال الحافظ في "الفتح" (2/570): «لا يصح؛ لأنه منقطع».اهـ.
(17) في (غ): «مع زوجاته».
(18) في (ح): «من أجل».
(19) أخرجه البيهقي (3/144) من طريق موسى بن إسحاق القاضي، عن يعقوب بن حميد بن كاسب، عن سليمان بن سالم مولى عبدالرحمن بن حميد، عن عبدالرحمن بن حميد، عن أبيه، عن عثمان بن عفان أنه أتم الصلاة بمنى، ثم خطب الناس؛ فقال: «يا أيها الناس! إن السنة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة صاحبيه، ولكنه حدث طغام من الناس، فخفت أن يستنّوا». وفي سنده يعقوب بن حميد، صدوق ربما وهم؛ كما في "التقريب" (7869).
وسليمان بن سالم: مجهول الحال، وحميد بن عبدالرحمن بن عوف: اختُلف في سماعه من عثمان بن عفان. "تهذيب التهذيب" (1/497).
والحديث حسَّن إسناده البيهقي في "معرفة السنن" (4/263).
وأخرجه الطحاوي (1/425)، والبيهقي (3/144) كلاهما من طريق حماد بن سلمة، عن أيوب، عن الزهري، قال: إنما صلى عثمان - رضي الله عنه - بمنى أربعًا؛ لأن الأعراب كانوا أكثر في ذلك العام، فأحب أن يخبرهم أن الصلاة أربع. وهذا مرسل.
وذكر له الحافظ في "الفتح" (2/571) مرسلاً آخر لابن جريج، ثم قال: «وهذه طرق يقوي بعضها بعضًا».
(20) في (أ): «يظنون».
(21) في (ب): «ركعتين».
(22) في (ب): «فلم».
(23) في (ب): «وكل المسلمين».(2/263)
في الحضر أربع، ومن جهل ذلك من قريب عهد بالإسلام نادر قليل، لا تغير القواعد لأجله.
ومنها: أن عثمان - رضي الله عنه - أزمع على المقام بمكة بعد الحج (1) ، ويردّه: أن المقام بمكة للمهاجر أكثر من ثلاث ممنوع (2) .
ومنها: أنه كان لعثمان بمنىً أرضٌ ومالٌ فرأى (3) أنه كالمقيم (4) . وهذا فيه بُعْدٌ؛ إذ لم يقل أحدٌ: إن المسافر إذا مرّ بما يملكه (5) من الأرض، ولم (6) يكن له فيه (7) أهل؛ أن حكمه حكم المقيم. والوجه ما ذكرناه أولاً (8) ، والله أعلم (9) .
277- وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (10) قَالَ: فَرَضَ الله الصَّلاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول ابن عباس: «وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً»: ذهب جماعة من السلف إلى ظاهر هذا، فقالوا: صلاة الخوف ركعة واحدة عند الشدّة. وهو قول إسحاق، قال: أما عند الشدة فركعة واحدة يومئ بها إيماءً، فإن لم يقدر فسجدة، فإن لم يقدر =(2/328)=@ فتكبيرة. وقال الضحاك: إن لم يقدر على ركعة؛ فتكبيرتان. وقال الأوزاعي: لا يجزئه التكبير. وقال قتادة والحسن: صلاة الخوف ركعة ركعة لكل طائفة من المأمومين، وللإمام ركعتان، وسيأتي القول في صلاة الخوف .
278- وعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ (11) قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمِ الَّذِينَ كَفَرُوا} فَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ! فَقَالَ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ الله بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «{فَلَيْسَ (12) عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} (13) »): يعني به القصرَ من عدد الركعات، والقصرَ بتغيير (14) الهيئات؛ بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - : «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ الله بِهَا عَلَيْكُمْ» عندما سئل عن قصرها مع (15) الأمن، فكان قوله ذلك تيسيرًا وترفيقًا (16) ؛ على أن الآية (17) متضمَّنة لقصر الصلاة مع الخوف ومع غير الخوف، فالقصر (18) مع الخوف هو في الهيئات على ما يأتي ومع الأمن في الركعات، والمتصدَّق به إنما هو إلغاء شرط الخوف في قصر عدد الركعات مع الأمن. وعلى هذا فبقي (19) اعتبار (20) الخوف في قصر الهيئات على ما يأتي. وقد أكثر الناس في هذه الآية، وما ذكرناه أولى وأحسن؛ لأنه جمع بين الآية والحديث.
و«الجناح»: الحرج. وهذا يشعر أن القصر ليس واجبًا لا في السفر ولا في الخوف؛ لأنه لا يقال في الواجب: لا جناح في فعله . =(2/329)=@ &(2/264)&$
__________
(1) أخرجه عبدالرزاق (2/516 رقم4268) عن معمر، عن الزهري، قال: بلغني أن عثمان إنما صلاها أربعًا؛ لأنه أزمع أن يقيم بعد الحج. قال الحافظ في "الفتح" (2/571): «وأما ما رواه عبدالرزاق، عن معمر، عن الزهري: أن عثمان إنما أتمّ الصلاة لأنه نوى الإقامة بعد الحج؛ فهو مرسل، وفيه نظر؛ لأن الإقامة بمكة على المهاجرين حرام... ، وصحّ عن عثمان أنه كان لا يودّع النساء إلا على ظهر راحلته، ويسرع الخروج؛ خشية أن يرجع في هجرته. وثبت عن عثمان أنه قال لما حاصروه - وقال له المغيرة: اركب رواحلك إلى مكة - قال: لن أفارق دار هجرتي». اهـ.
(2) في (ح): «ممنوع حرام " وفي (ز): «ممنوع محرم».
(3) في (غ): «يرى».
(4) قال البيهقي في "المعرفة" (4/263): «وروى يونس، عن الزهري، قال: لما اتخذ عثمان الأموال بالطائف وأراد أن يقيم بها؛ صلى أربعًا».
وهذا ضعيف لإرساله.
(5) في (ب): «تملكه».
(6) في (ب): «لم» بلا واو.
(7) في (ب) و(غ): «فيها».
(8) لكن قال الحافظ في "الفتح" (2/571): « والمنقول أن سبب إتمام عثمان أنه كان يرى القصر مختصًّا بمن كان شاخصًا سائرًا، وأما من أقام في مكان في أثناء سفره فله حكم المقيم فيتم، والحجة فيه ما رواه أحمد بإسناد حسن عن عباد بن عبدالله بن الزبير قال: لما قدم علينا معاوية حجًّا؛ صلى بنا الظهر ركعتين بمكة، ثم انصرف إلى دار الندوة؛ فدخل عليه مروان وعمر بن عثمان؛ فقالا: لقد عِبْتَ أمر ابن عمك؛ لأنه كان قد أتمّ الصلاة. قال: وكان عثمان حيث أتمّ الصلاة إذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء أربعًا أربعًا، ثم إذا خرج إلى منى وعرفة قصر الصلاة، فإذا فرغ من الحج وأقام بمنى أتمّ الصلاة ». اهـ.
(9) قوله: «والله أعلم " ليس في (ح).
(10) أخرجه مسلم (1/479 رقم 687) في صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها.
(11) أخرجه مسلم (1/478رقم686) في صلاة المسافرين، باب صلاة المسافرين وقصرها.
(12) في جميع النسخ: «ليس».
(13) سورة النساء، الآية: 101.
(14) في (غ): «بتغير».
(15) في (غ): «عند».
(16) في (ح): «وتوفيقًا " وفي (ز): «وتوقيفًا».
(17) في (ح): «الصلاة».
(18) في (غ): «والقصر».
(19) في (ب): «فيبقى».
(20) في (ز): «الاعتبار».(2/264)
وقوله في حديث ابن عمر: «يسبِّحون»؛ أي: يصلون سبحة (1) الضحى، أو غيرها من النوافل، والسبحة (2) : صلاة النافلة. الهروي: تسمى الصلاة تسبيحًا، ومنه: {فلولا أنه كان من المسبحين} (3) ؛ أي: المصلين (4) .
279- وعَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ أَبِيهِ (5) قَالَ: صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، قَالَ: فَصَلَّى لَنَا الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَقْبَلَ وَأَقْبَلْنَا مَعَهُ حَتَّى جَاءَ رَحْلَهُ وَجَلَسَ وَجَلَسْنَا مَعَهُ، فَحَانَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَةٌ نَحْوَ حَيْثُ صَلَّى، فَرَأَى نَاسًا قِيَامًا فَقَالَ: مَا يَصْنَعُ هَؤُلاءِ؟ قُلْتُ: يُسَبِّحُونَ، قَالَ: لَوْ كُنْتُ مُسَبِّحًا أَتْمَمْتُ صَلاتِي، يَا ابْنَ أَخِي، إِنِّي صَحِبْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي السَّفَرِ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ الله، وَصَحِبْتُ أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ الله، وَصَحِبْتُ عُمَرَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى ىقَبَضَهُ الله، ثُمَّ صَحِبْتُ عُثْمَانَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ الله، وَقَدْ قَالَ الله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول ابن عمر: «لَوْ كُنْتُ مُسَبِّحًا لأَتْمَمْتُ»: ظاهر هذا أن ابن عمر كان يمنع من التنفُّل في السفر ليلاً ونهارًا، هكذا نقل أهل الخلاف عنه، وحُكي عنه أنه منعه بالنهار (6) ، وجوَّزه بالليل؛ لقوة أمر القيام بالليل؛ إذ قد (7) كان فرضًا، وعامة العلماء على جوازه؛ إذ قد (8) روى جابر (9) وغيره (10) :
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتنفل في السفر على راحلته، وبالأرض ليلاً ونهارًا (11) .
وقوله: «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء كانوا يصلون ركعتين ولا يزيدون»: هذا (12) محمول على أنهم ما كانوا يتنفَّلون رواتب للفرائض (13) في السفر، لا قبل الفرض ولا بعده، وأما في غير ذلك فقد روى جابر وعلي بن أبي طالب (14) (15) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتنفل في السفر ليلاً ونهارًا .
وقوله: «صَحِبْتُ عُثْمَانَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ الله»: قد روي =(2/330)=@ عنه هذا (16) : الحديث الآتي بعد هذا؛ أنه قال: «ومع عثمان صدرًا من خلافته ثماني سنين - أو ست سنين -»، ووجه (17) التلفيق: أن ابن عمر إنما أخبر عن عثمان في سائر أسفاره في غير منى؛ لأن إتمام عثمان إنما كان بمنى على ما فسَّره عمران بن حصين (18) ، وكذلك (19) قال ابن حبيب .
و «الأسوة»: القدوة . &(2/265)&$
__________
(1) قوله: «سبحة " ليس في (ب).
(2) في (أ): «والصبحة».
(3) الآية: (143 ) من سورة الصافات.
(4) في (ح) و(ز): «أي من المصلين».
(5) أخرجه البخاري (2/577 رقم 1101-1102) كتاب تقصير الصلاة، باب من لم يتطوع في السفر دبر الصلاة وقبلها، ومسلم (1/479-480 رقم 689) في صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها.
(6) أخرج مالك (1/150 رقم22) في قصر الصلاة، باب صلاة النافلة في السفر بالنهار والليل، والصلاة على الدابة، عن نافع، عن عبدالله بن عمر: أنه لم يكن يصلي مع صلاة الفريضة في السفر شيئًا، قبلها ولا بعدها، إلا من جوف الليل، فإنه كان يصلي على الأرض، وعلى راحلته حيث توجهت. وسنده صحيح.
(7) قوله: «قد " ليس في (ح) و(غ).
(8) في (ب) و(ح): «وقد " بدل: «إذ قد».
(9) في (غ): «وجابر».
(10) أخرج البخاري في "صحيحه" (1/503 رقم400) كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان، و(2/575 رقم1099) كتاب تقصير الصلاة، باب ينزل للمكتوبة، من حديث جابر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي على راحلته نحو المشرق، فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل فاستقبل القبلة.
ولم أجد من ذكر: «ليلاً ونهارًا»، والذي يدل صراحة على تطوعه - صلى الله عليه وسلم - في السفر نهارًا: حديث البراء بن عازب قال: صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية عشر سفرًا، فما رأيته ترك ركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر.
أخرجه أبو داود (2/19 رقم1222) في الصلاة، باب التطوع في السفر، والترمذي (2/435 رقم550) في الصلاة، باب ما جاء في التطوع في السفر.
وهو حديث ضعيف؛ في سنده أبو بُسرَةَ الغفاري وهو مجهول الحال؛ قال الذهبي في "الميزان" (4/495 رقم9992): «لا يعرف، تفرد عنه صفوان بن سليم»، وقال ابن حجر في "التقريب" (ص1113 رقم8012): «مقبول». وقد ضعفه الترمذي بقوله: «حديث البراء: حديث غريب، وسألت محمدًا - يعني البخاري - عنه فلم يعرفه إلا من حديث الليث بن سعد، ولم يعرف اسم أبي بُسرة الغفاري، ورآه حسنًا».
وأخرج الترمذي في الموضع السابق برقم (551) من طريق حجاج بن أرطأة، عن عطية، عن ابن عمر قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر في السفر ركعتين، وبعدها ركعتين.
قال الترمذي: «هذا حديث حسن، وقد رواه ابن أبي ليلى عن عطية ونافع عن ابن عمر»، ثم أخرجه برقم (552) من طريق ابن أبي ليلى، عن عطية ونافع، عن ابن عمر مثل سابقه، وفيه زيادة، ومن تلك الزيادة ذكره أنه - صلى الله عليه وسلم - صلّى بعد المغرب ركعتين.
ثم قال الترمذي: «هو حديث حسن، سمعت محمدًا - يعني البخاري - يقول: ما روى ابن أبي ليلى حديثًا أعجب إليّ من هذا، ولا أروي عنه شيئًا».
والحديث بالإسناد الأول ضعيف جدًّا، فحجاج بن أرطأة وعطية كل منهما ضعيف ومدلِّس، وقد عنعناه. وبالإسناد الثاني منكر، فابن أبي ليلى - واسمه محمد - ضعيف، وقد تفرد به عن نافع.
(11) زاد بعدها في (غ): «والله أعلم».
(12) في (ب) و(ح) و(ز) و(غ): «هو».
(13) في (ح) و(ز) و(غ): «الفرائض».
(14) قوله: «ابن أبي طالب " ليس في (ح).
(15) أما حديث جابر فسبق الكلام عنه في التخريج السابق، وأما حديث علي - رضي الله عنه - فلم أجده عنه مرفوعًا، وإنما أخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/238 رقم8509) من طريق حجاجٍ، عن أبي جعفر قال: كان علي يصلي على راحلته حيثما توجهت به، ويجعل الركوع أرفع من السجود.
وسنده ضعيف؛ فأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين لم يدرك جده علي بن أبي طالب (، والراوي عنه حجاج بن أرطأة، وهو ضعيف.
(16) قوله: «هذا " ليس في (ب) و(ح) و(ز) و(غ).
(17) في (أ): «وجه».
(18) في حديثه الآتي تخريجه (ص340)، وهو حديث ضعيف.
(19) في (ب) و(ح) و(ز) و(غ): «وكذا».(2/265)
*************
( 87 ) باب من أين يبدأ بالقصر إذا خرج من وطنه،
واستمراره القصر على مالم ينو إقامة
280- عَنْ أَنَسٍ بِنْ مَالِكْ (1) : أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَصَلَّى الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب من أين يبدأ (2) بالقصر؟
قول أنس: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا (3) ، وَصَلَّى الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ»: هذا كان وقد أزمع - صلى الله عليه وسلم - على سفره إلى مكة، والظاهر أنه كان في حجته، وبين ذي الحليفة والمدينة نحو من ستة أميال، وقيل: سبعة. واختلف =(2/331)=@ في الموضع الذي يَبدأُ منه بالقصر المسافرُ؟ فذهب جمهور السلف والعلماء إلى أنه إذا خرج من بيوت المدينة قصر، وإذا دخلها (4) راجعًا من سفره أتم. ومحصول مشهور مذهب مالك هذا. ورُوي عنه أنه لا يقصر (5) حتى يجاوز ثلاثة أميال؛ إن كانت القرية مما يجمع (6) فيها (7) الجمعة، فإذا رجع أتم من هناك. وروي عن عطاء وغيره وجماعة من أصحاب عبد الله: أنه إذا أراد السفر قصر قبل خروجه. ورُوي عن مجاهد: لا تقصرْ إذا خرجت يومك إلى الليل، ولم يوافقه أحدٌ على هذا، والصحيح مذهب الجمهور. وفي حديث أنس ما (8) يرد قول عطاء ومن قال بقوله وقول مجاهد؛ فإنه قصر بعد ما فارق المدينة وقبل الليل (9) ، فكان ذلك ردًّا لقولهما .
281- وعَنْ يَحْيَى بْنِ يَزِيدَ الْهُنَائِيِّ (10) قَالَ: سَأَلْتُ انَسَ ابْنَ مَالِكٍ عَنْ قَصْرِ الصَّلاةِ فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلاثَةِ أَمْيَالٍ، أَوْ ثَلاثَةِ فَرَاسِخَ - شُعْبَةُ الشَّاكُّ - صَلَّى رَكْعَتَيْنِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلاثَةِ أَمْيَالٍ، أَوْ ثَلاثَةِ فَرَاسِخَ»: ربما تمسك به بعض الظاهرية، وبحديث ذي الخليفة: على أن من نوى سفرًا قصيرًا ولو لم يبلغ (11) يومًا تامًّا أنه يقصر، ولا حجة له فيه؛ لأنه مشكوك فيه فلا يوثق (12) لا بالثلاثة الأميال (13) ، ولا بالثلاثة الفراسخ (14) ؛ إذ كل واحد منهما مشكوك فيه، وعلى تقدير &(2/266)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (2/569 رقم 1089) في تقصير الصلاة، باب يقصر إذا خرج من موضعه، (3/407 رقم1546-1547) كتاب الحج، باب من بات بذي الحليفة حتى أصبح، و(3/408 رقم1548) كتاب الحج، باب رفع الصوت بالإهلال، و(3/411 رقم1551) كتاب الحج، باب التحميد والتسبيح والتكبير قبل الإهلال عند الركوب على الدابة، و(3/554 رقم1714-1715) كتاب الحج، باب نحر البدن قائمة، و(6/114 رقم2951) كتاب الجهاد، باب الخروج بعد الظهر، و(6/131 رقم2986) كتاب الجهاد، باب الإرتداف في الغزو والحج ( مختصر ليس فيه الصلاة )، ومسلم (1/480 رقم 690) في صلاة المسافرين، باب صلاة المسافرين.
(2) في (أ): «يبتدأ».
(3) في (ح): «والعصر».
(4) في (ب): «دخله».
(5) في (أ): «يقصر».
(6) قوله: «يجمع " لم تنقط الياء في (ب) و(ح)، وفي (أ) نقطت من تحت ومن فوق، فاحتملت أيضًا: «تجمع»، والمثبت من (ز) و(غ).
(7) في (أ): «فيه».
(8) في (غ): «فما».
(9) قوله: «وقبل الليل " ليس في (ح).
(10) أخرجه مسلم (1/481رقم691) في صلاة المسافرين،باب صلاة المسافرين وَقَصْرها.
(11) في (ح): «ولم يبلغ».
(12) في (ح): «فلا موثق».
(13) في (ح): «أميال».
(14) في (ح) و(ز): «فراسخ».(2/266)
أحدهما: فلعلّه حدّد المسافة التي بدأ منها القصر، وسفره بعد ذلك كان أزبد بالمقدار الذي حكيناه عن الجمهور، والله أعلم .
282- وَعَنْ أَنَسٍ (1) قَالَ: خَرَجْنَّا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى رَجَعَ، قُلْتُ: كَمْ أَقَامَ بِمَكَّةَ؟ قَالَ: عَشْرًا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول أنس: «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام بمكة عشرًا يصلّي ركعتين ركعتين»: يتمسك (2) =(2/332)=@ به من قال (3) : إن المسافر إذا نوى إقامة عشرة أيام قصر، فإن (4) نوى زيادة عليها أتم، وهو مروي عن علي (5) وابن عباس في أحد قوليه (6) .
وقد كثر اختلاف الناس في هذه المسألة: فقيل عن ربيعة: إذا نوى إقامة (7) يوم وليلة أتم. وروي عن سعيد بن المسيب: إذا نوى إقامة ثلاثة أيام (8) أتم. وروي عن جمهور أئمة الفتوى: إذا نوى إقامة أربعة أيام بلياليها أتم. وروي عن أحمد وداود: إذا نوى زيادة على أربعة، ويقصر في الأربعة. وروي: زيادة على عشرة عمن ذكرنا. وروي: اثنا عشر عن ابن عمر في أحد قوليه (9) ، وعن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب (10) - وروي عن الأوزاعي-: ثلاثة عشر، وهو قول الكوفيين. وروي عن الليث: إذا (11) زاد على خمسة عشر (12) أتمّ. وروي عن ابن عباس: يتمّ فيما زاد على سبعة عشر، وروي: تسعة عشر (13) . وروي عن أحمد: يقصر إذا نوى إقامة أحد وعشرين (14) ، ويتم فيما زاد؛ اعتمادًا على إقامة النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فإنه خرج صبيحة الثامن من يوم التروية. وقال داود: في عشرين صلاة، ويتم إذا زاد، ونحو هذا لابن الماجشون.
وروي عن الحسن: أنه يقصر أبدًا، إلا (15) أن يقدم مصرًا من الأمصار. قال القاضي عياض: وأكثر اختلافهم في هذا مبني على مدة إقامة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقصيره في حجته؛ فإنه دخل مكة صبح رابعة من ذي الحجة، وخرج صبح أربعة عشر على ما تظاهرت به الروايات، لكن بعض شيوخنا قال: كان شارف مكة في اليوم الثالث، فقصر عنها، وبات بذي طوى حتى صلى الصبح، ثم دخل نهارًا - والنهار لا اعتداد =(2/333)=@ به عند العرب إذا انقضت (16) ليلته-، فأقام بها اليوم الخامس والسادس والسابع، وخرج بعد تمام ثلاثٍ كما شرع، فلم يقم بمكة أكثر من ثلاث، وخرج &(2/267)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (2/161 رقم 1081) في تقصير الصلاة، باب ماجاء في التقصير وكم يقيم حتى يقصر، و(8/21 رقم2497) كتاب المغازي، باب مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة زمن الفتح، ومسلم (1/481 رقم 693) في صلاة المسافرين، باب صلاة المسافرين.
(2) في (ب): «تمسك».
(3) في (ح): «بعض من قال "
(4) في (ب): «وإن».
(5) أخرجه عبدالرزاق (2/532 رقم4333، 4334)، وابن أبي شيبة (2/210 رقم8213، 8214، 8215)، كلاهما من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي قال: «إذا أقمت عشرًا فأتم». لكن وقع في إسناد عبدالرزاق الأول: «عن جعفر بن محمد، عن علي، عن أبيه، وهو خطأ بتقديم وتأخير. والأثر ضعيف من هذا الطريق، فوالد جعفر هو محمد بن علي بن الحسين المعروف بالباقر، ولم يسمع من جده علي - صلى الله عليه وسلم - ، ولذلك ضعفه ابن المنذر في "الأوسط" (4/356)، وابن عبدالبر في "التمهيد" (11/182).
(6) أخرجه ابن المنذر في "الأوسط" (4/356) من طريق خالد بن عبدالله، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:" إذا قدمت بلدة فلم تدر متى تخرج فأتم الصلاة، وإذا قلت: أخرج اليوم، أخرج غدًا؛ فأقمت عشرًا فأتم الصلاة». وفي سنده: ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف، ولذلك ضعف الأثر ابن المنذر في الموضع السابق، وابن عبدالبر في "التمهيد" (11/182).
(7) قوله: «إقامة» ليس في (غ).
(8) قوله: «أيام " ليس في (ب).
(9) قال ابن عبدالبر في "التمهيد" (11/182): «وعن السلف في هذه المسألة أقاويل متباينة، منها: إذا أزمع المسافر على مقام اثنتي عشرة أتمّ الصلاة. رواه نافع عن ابن عمر. قال نافع: وهو آخر فعل ابن عمر وقوله».
وقد أخرجه عبدالرزاق في "المصنف" (2/534 رقم4342)، وابن المنذر في "الأوسط" (4/355 رقم2278)، وأما عبدالرزاق فمن طريق عبدالله بن عمر العمري، وأما ابن المنذر فمن طريق محمد بن عجلان، كلاهما عن نافع، عن ابن عمر قال: «إذا أزمعت الإقامة ثنتي عشرة فأتم الصلاة»، واللفظ لابن المنذر. وفي سند عبدالرزاق: عبدالله العمري وهو ضعيف، لكن طريق ابن المنذر صحيحة، وبالأخص أنه رواه أيضًا برقم (2279) من طريق الأوزاعي، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كانت منه أشياء في قصر الصلاة في إقامته في السفر مختلفة، ثم صار إلى آخر أمره إلى أن كان إذا قدم بلدة فأجمع أن يقيم بها اثنتي عشرة فأكثر من ذلك أتم الصلاة، وإذا قدم بلدة لا يدري ما يقيم فيها قصر الصلاة فيما بينه وبين اثنتي عشرة، فإذا كملها أتمّ الصلاة وإن خرج من غد.
(10) لم أجده عن عمر، والوارد عن ابن عباس وابن المسيب أقوال أخرى غير هذا؛ كما سيأتي، وكما في "المصنف" لعبدالرزاق (2/533، 535)، ولابن أبي شيبة (2/209-211)، و"الاستذكار" (6/105) و"الأوسط لابن المنذر (4/356-360).
(11) في (ب): «أنه إذا».
(12) في (ح): «خمسة عشر يومًا».
(13) أخرجه أبو داود (2/24 رقم1230) في الصلاة، باب متى يتم المسافر، وابن حبان (6/457 رقم2750/الإحسان)، والدارقطني (1/387-388)، ثلاثتهم من طريق عكرمة، عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم مكة، فأقام بها سبع عشرة يقصر الصلاة.
قال ابن عباس: متى أقام سبع عشرة قصر الصلاة، ومتى أقام أكثر أتم. وهو عند البخاري (2/561 رقم1080) في الصلاة، باب ما جاء في التقصير وكم يقيم حتى يقصر، و(8/21 رقم4299) في المغازي، باب مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة زمن الفتح، ولفظه: «أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - تسعة عشر يقصر، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا».
وجمع بعضهم بين الروايتين باحتمال أن يكون في بعضها عدَّ يومي الدخول والخروج، وهي رواية " تسعة عشر»، وفي بعضها لم يعدّ يومي الدخول والخروج، وهي رواية " سبعة عشر». ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/562).
(14) ظاهره أنه يريد أحد وعشرين يومًا، لكن قال الحافظ في "الفتح" (2/562): «وقال أحمد: إحدى وعشرين صلاة».اهـ. ويؤيده نقله الآتي عن داود، وانظر "الأوسط" لابن المنذر (2/357).
(15) في (ب): «إلى».
(16) في (ح): «دخلت».(2/267)
إلى منى للنظر في حجه، وهو فيه في حكم المسافر حتى أكمله، ئم عاد إلى المدينة، فجاء هذا موافقًا لمذهبنا في أن ثلاثة أيام ليست بإقامة. واختلف في إقامته بمكة زمن الفتح: فروي عن ابن عباس: خمس عشرة، وسبع عشرة، وتسع عشرة (1) (2) . وعن عمران بن حصين: ثمان عشرة (3) .
قال الشيخ رحمه الله: والأشبه في هذه الأقوال (4) قول الجمهور: مالك وغيره؛ لأنه يعتضد بإباحة النبي - صلى الله عليه وسلم - المقام للمهاجر بمكة (5) ثلاثًا (6) ، فإنه أبقى عليه فيها حكم المسافر. ومنعه من مقام الرابع، فحكم له فيه بحكم (7) الحاضر القاطن، فكان ذلك أصلاً معتمدًا عليه (8) . وأما ما استُدِلَّ به غير هذا من إقامة النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة في الفتح، وفي حجته، وكم أقام في الطائف؛ فلا حجة فيه؛ لما في تلك الروايات من الاضطراب الكثير، ولأنه يمكن (9) أن يقال في كل واحد منها: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أقام تلك المدة فقصر (10) ؛ لأنه لم يُجمع في نيته على إقامة أربعة أيام بلياليها، والله أعلم .
( 88 ) باب قَصْر الصلاة بِمْنىً
283- عَنِ ابْنِ عُمَرَ (1) قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ، وَعُمَرُ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُثْمَانُ صَدْرًا مِنْ خِلافَتِهِ، ثُمَّ إِنَّ عُثْمَانَ صَلَّى بَعْدُ أَرْبَعًا، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا صَلَّى مَعَ الإِمَامِ صَلَّى أَرْبَعًا وَإِذَا صَلاَّهَا وَحْدَهُ صَلَّى رَكْعَتَيْن. « »
وَفِي رِوَايَةٍ: مكان: صدرًا من خلافته، ثماني سنين. أوقال: ست سنين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب قصر الصلاة بمنى
فيه حديث ابن عمر: «صَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ صَدْرًا مِنْ خِلافَتِهِ»: لا خلاف أن هذا حكم الحاج من غير أهل مكة وعرفة: =(2/334)=@ &(2/268)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (2/563 رقم 1082) في تقصير الصلاة، باب الصلاة بمنى، و(3/509 رقم1655) كتاب الحج، باب الصلاة بمنى، ومسلم (1/482 رقم 694) في صلاة المسافرين، باب قصر الصلاة بمنى.
__________
(1) قوله: «وتسع عشرة» ليس في (غ).
(2) أما روايتا: «سبع عشر وتسع عشر " فتقدم تخريجهما، وأما رواية: «خمس عشر " فأخرجها ابن أبي شيبة (2/209 رقم8196) في الصلاة، باب في المسافر يطيل المقام في المصر، و(7/408 رقم36924) في المغازي، باب حديث فتح مكة، والبيهقي (3/151)، وأبو داود (2/25 رقم 1231) في الصلاة، باب متى يتم المسافر؟ وابن ماجه (1/342 رقم1076) في إقامة الصلاة. أما ابن أبي شيبة والبيهقي فمن طريق عبدالله بن إدريس، وأما أبو داود وابن ماجه فمن طريق محمد بن سلمة، كلاهما عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام بمكة عام الفتح خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة. وقد توبع الزهري على روايته:
فأخرجه النسائي (3/121 رقم1453) في تقصير الصلاة في السفر، باب المقام الذي يقصر بمثله الصلاة، من طريق عراك بن مالك، به.
قال أبو داود عقب روايته: «روى هذا الحديث عبدة بن سليمان، وأحمد بن خالد الوهبي، وسلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، لم يذكروا فيه: ابن عباس». اهـ.
وقال البيهقي: «لا أراه محفوظًا»، وقال: «الصحيح مرسل».
وقد أخرج البيهقي الرواية المرسلة (3/151) من طريق ابن إدريس عن ابن إسحاق قال: وحدثني محمد بن مسلم: ثم أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة خمس عشرة ليلة... الحديث.
قال الحافظ في الفتح (2/562): وأما رواية "خمس عشر" فضعفها النووي في الخلاصة، وليس بجيد؛ لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق،... وإذا أثبت أنها صحيحة، فليحمل على أن الراوي ظن أن الأصل رواية سبعة عشر، فحذف منها يومي الدخول والخروج. اهـ. مع أنه ذكر في "التلخيص" (2/96) أنها شاذة.
وقال الزيلعي في "نصب الراية (2/184): «مرسلة ضعيفة " ا.هـ.
(3) أخرجه أحمد (4/430، 431، 432، 440) وأبو داود (2/23-24 رقم1229) في الصلاة، باب متى يتم المسافر، والترمذي (2/430 رقم545) في الصلاة، باب ما جاء في التقصير في السفر، وابن خزيمة (3/70-71 رقم1643)، والطحاوي (1/417).
جميعهم من طريق علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة، عن عمران بن حصين، قال: غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين... الحديث. قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح». ا.هـ. وفي سنده: علي بن زيد بن جدعان: وهو ضعيف؛ كما في "التقريب" (ص696 رقم4768).
قال الحافظ في "التلخيص" (2/96): «وإنما حسّن الترمذي حديثه لشواهده، ولم يعتبر الاختلاف في المدة، كما عرف من عادة المحدثين من اعتبارهم الاتفاق على الأسانيد دون السياق».اهـ. ثم قال: « ورواية "ثمانية عشر " ليست بصحيحة من حيث الإسناد ». اهـ. وقال في "الفتح" (2/563): «ضعيف؛ لأن الحديث من رواية على بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف».
(4) في (غ): «الأقاويل».
(5) في (غ): «المقام بمكة للمهاجر».
(6) سيأتي برقم (125) في الحج، باب تملك دور مكة ورباعها.
(7) في (ح) و(ز): «بمقام».
(8) قوله: «عليه ليس في (ب) و(ح) و(ز) و(غ).
(9) في (غ): «ولا يمكن».
(10) في (ب): «مقصرًا».(2/268)
بمنى يقصرون، وعند مالك أن حكم الحاج من أهل مكة: أنهم يقصرون بمنى وعرفة (1) ، وكذلك أهل عرفة بمنى ومكة يقصرون، وخالفه في ذلك أبو حنيفة والشافعي وجماعة، فقالوا: إنهم (2) يتمون؛ إذ ليس في المسافة مسافة قصر، وحجة مالك: التمسك بظاهر حديث ابن عمر المذكور، واتّباع العمل العام في ذلك؛ ولأن تكرار (3) الحاج في مشاعره ومناسكه مقدار (4) المسافة التي تُقصر (5) فيها الصلاة، والله تعالى أعلم. فأما أهل تلك المواضع فلا خلاف أحسبه في (6) أن كل واحد منهم يتم في موضعه وإن شرع في عمل الحج (7) ؛ لأنهم في أهلهم، وقد ذكرنا ما تُؤُوِّل به إتمام عثمان.
وقوله (8) : «ست سنين أو ثماني سنين»: الصحيح سبع سنين، قال عمران بن حصين (9) : حججت مع عثمان سبعًا من إمارته، لا يصلي إلا ركعتين، ثم صلَّى بمنى أربعًا.
وقوله: «فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا صَلَّى مَعَ الإِمَامِ صَلَّى أَرْبَعًا وَإِذَا صَلاَّهَا وَحْدَهُ صَلَّى رَكْعَتَيْن»: يعني بالإمام: عثمان لما أتم؛ فإن (10) ابن عمر وابن مسعود كانا (11) يصليان معه ويتمّان مع اعتقادهما أن القصر أولى وأفضل، لكنهما اتبعاه؛ لأن =(2/335)=@ الإتمام جائز، ومخالفة الإمام فيما رآه (12) مما يسوغ ممنوعة. ويحتمل أن يريد بالإمام هنا: أيّ إمام اتفق من أئمة المسلمين، ويعني به: أن ابن عمر كان إذا صلى خلف مقيم أتم؛ تغليبًا لفضيلة الجماعة، ولحكم الموافقة فيما يجوز أصله.
وقد اختلف في مسافر صلى خلف مقيم، وهذا الخلاف يتنزل على الخلاف المتقدم في حكم القصر، فقياس من قال: إن القصر فرض: ألا تجزئه (13) صلاته، وحكاه القاضي أبو محمد عن بعض المتأخرين من أصحابنا. وقال غير هؤلاء: &(2/269)&$
__________
(1) في (ب) و(ح): «وعرفات».
(2) قوله: «أنهم» ليس في (ح).
(3) في (غ): «تمام».
(4) في (غ): «وبمناسكه بمكة مقدار».
(5) في (غ): «يقصر».
(6) قوله: «في» ليس في (ح).
(7) في (ح) و(ز): «الحاج».
(8) قوله: «وقوله»: لم يتضح في (ز).
(9) أخرجه ابن أبي شيبة (2/207 رقم8174) في الصلاة، باب من كان يقصر الصلاة، من طريق علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة، عن عمران...، الحديث، وفيه: «وحججت مع عثمان سبع سنين من إمارته لا يصلي إلا ركعتين، ثم صلى بمنى أربعًا ».
وهو جزء من حديث عمران بن حصين المتقدم (ص203.نفس الباب، وذكرت هناك أنه ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان.
(10) في (أ): «فكانا»، والمثبت من (ب) و(ح) و(ز).
(11) في (غ): «فيما».
(12) في (غ): «قال».
(13) في (ح): «يجزئه».(2/269)
يقتدي به في الركعتين خاصة، ثم هل يسلم ويتركه أو ينتظره ويسلم معه؟ قولان. ومن قال بأن (1) القصر سنة من أصحابنا اختلفوا: فروى ابن الماجشون وأشهب: أنه يتم ثم يعيد في الوقت؛ إلا أن يكون في أحد مسجدي الحرمين أو مساجد الأمصار الكبار، وروى مطرف: أن لا إعادة، ورآه (2) ابن القاسم.
قال الشيخ رحمه الله: وقياس من قال بالتخيير: أن لا إعادة أصلاً؛ بل القصر والإتمام في حقه سيّان يفعل أيهما شاء؟ إلا أن الأولى به ألا يخالف على (3) الإمام، فإذا صلى خلف مقيم اتبعه من جهة (4) منع المخالفة، لا من جهة التخيير، والله أعلم.
284- وعَنْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ (5) قَالَ: صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَقِيلَ ذَلِكَ لِعَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ، فَاسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «فَاسْتَرْجَعَ»؛ أي: قال: «إنا لله وإنا إليه راجعون»، وهذا الاسترجاع لما رأى من تفويت عثمان لفضيلة القصر، ولوجود (6) صورة خلافه لمن تقدمه، ولا يفهم منه أن ذلك الإتمام لا يجزئ؛ لأنه قد (7) قال: «فَلَيْتَ (8) حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ (9) رَكْعَتَانِ (10) مُتَقَبَّلَتَانِ»، فلو كانت تلك الصلاة لا تجزئ لما كان له فيها حظ لا (11) من ركعتين ولا من (12) غيرهما، فإنها كانت تكون فاسدة كلها، والله تعالى أعلم. =(2/336)=@
وقال الداودي: خشي ألا تجزئه الأربع، وليس بصحيح لما ذكرناه.
قال الشيخ رحمه الله: ولا خلاف أن القصر المذكور إنما هو في الصلوات الرباعية، فإن الصبح والمغرب لا تقصران (13) بالإجماع (14) ، حكى ذلك القاضيان: أبو عبد الله بن أبي صُفَرة، وعياض. &(2/270)&$
__________
(1) في (غ): «إن».
(2) في (ب) و(غ): «ورواه».
(3) قوله: «على» ليس في (ب).
(4) في (ح): «من أجل».
(5) أخرجه البخاري (2/563 رقم 1084) في تقصير الصلاة، باب الصلاة بمنى، و(3/509 رقم1657) كتاب الحج، باب الصلاة بمنى، ومسلم (1/483 رقم 695) في صلاة المسافرين، باب قصر الصلاة بمنى.
(6) في (ز): «ولوجوده».
(7) قوله: «قد» ليس في (ح) و(ز).
(8) في (ح) و(ز) و(غ): «وليت».
(9) قوله: «ركعات» ليس في (غ).
(10) في (ز): «ولوجوده».
(11) في (ح): «ولا».
(12) قوله: «من» ليس في (أ).
(13) في (ز): «يقصران».
(14) قوله: «بالإجماع»: ليس في (أ).(2/270)
****************
(89) باب جواز التخلف عن صلاة الجماعة والجمعة لعذر المطر
285- عَنِ ابْنِ عُمَرَ (1) أَنَّهُ نَادَى بِالصَّلاةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ وَمَطَرٍ، فَقَالَ فِي آخِرِ نِدَائِهِ: «أَلا صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ، أَلا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ » ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ أَوْ ذَاتُ مَطَرٍ فِي السَّفَرِ أَنْ يَقُولَ: «أَلا صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ».
286- وعَنْ جَابِرٍ (2) قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ، فَمُطِرْنَا، فَقَالَ: «لِيُصَلِّ مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فِي رَحْلِهِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب جواز التخلف عن الجماعة لعذر المطر
قوله: «نَادَى»؛ أي: أذّن (3) ، وظاهر قوله: «آخِرِ نِدَائِهِ» (4) أنه قال ذلك بعد فراغه من الأذان، ويحتمل أن يكون في آخره قبل الفراغ، ويكون هذا مثل حديث ابن عباس (5) ؛ حيث قال لمؤذنه: «إذا قال الشيخ رحمه الله: أشهد أن =(2/337)=@ محمدًا رسول الله؛ فلا تقل: حي على الصلاة، قل: صلوا في بيوتكم» (6) . وقد استدل بهذين الحديثين من أجاز الكلام في الأذان، وهم: أحمد والحسن وعروة وعطاء وقتادة، وعبد العزيز بن أبي (7) سلمة وابن أبي حازم من المالكية، ولا حجة لهم في ذلك؛ لأن الحديث الأول إن (8) لم يكن ظاهرًا فيما ذكرناه، فلا أقل من أن يكون محتملاً (9) ، على أن هذا الحديث قد رواه أبو أحمد بن عدي (10) من حديث أبي هريرة، قال فيه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كانت ليلة باردة أو مطيرة أمر المؤذن، فأذن الأذان (11) الأول، فإذا فرغ نادى: الصلاة في الرحال -أو في رحالكم -، وهذا نص يرفع ذلك الاحتمال. &(2/271)&$
__________
(1) أخرجه البخاري(2/156رقم666) في الأذان، باب الرخصة في المطر والعلة أن يصلي في رحله، ومسلم (1/284 رقم 697) في صلاة المسافرين، باب الصلاة في الرحال في المطر.
(2) أخرجه مسلم (1/284، 285 رقم 698) في الكتاب والباب السابقين.
(3) في (ب) رسمت هكذا: «نادِ أي أذِّن».
(4) في (ح): «في آخره وايهْ».
(5) وهو الآتي قريبًا برقم (573).
(6) في (ح): «في رحالكم».
(7) قوله: «أبي» ليس في (أ).
(8) قوله: «إن» ليس في (ح).
(9) في (أ): «مجملاً».
(10) في "الكامل" (6/153.طريق محمد بن جابر، عن عبدالعزيز بن رفيع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. وهو ضعيف من هذا الطريق؛ محمد بن جابر اليمامي متكلم فيه، وفي "التقريب" (ص831 رقم5814) قال عنه ابن حجر: «صدوق ذهبت كتبه فساء حفظه وخلّط كثيرًا وعمي فصار يلقّن، ورجحه أبو حاتم على ابن لهيعة».
(11) في (ح): «بالأذان».(2/271)
والحديث (1) الثاني لم يسلك به مسلك الأذان، أَلا تراه قال: لا تقل حي على =(2/338)=@ الصلاة؟ وإنما أراد إشعار الناس بالتخفيف عنهم للعذر، كما فعل في التثويب للأمراء. وقد كره الكلام في الأذان (2) مالك والشافعي وأبو حنيفة، وعامة الفقهاء.
وظاهر هذين الحديثين جواز التخلف عن الجماعة والجمعة للمشقة اللاحقة من المطر والريح والبرد (3) ، وما في معنى ذلك من المشاق المحرجة (4) في الحضر والسفر، وهذا في غير الجمعة قريب؛ إذ ليس غيرها بواجب على أصولنا، وأما في الجمعة ففيه إشكال، وقد اختلف الناس فى جواز التخلف عنها لعذر (5) المطر والوحل: فذهب أحمد بن حنبل إلى جواز التخلف عنها للمطر الوابل، وبمثله قال مالك في المطر الشديد والوحل في أحد القولين عنه، وروي عنه أنه لا يجوز، وحديث ابن عباس حجة واضحة على الجواز.
فرع: وعلى القول بالجواز عن مالك، فتترك لعذر تمريض (6) المشرف على الهلاك: القريب، والزوجة، والمملوك. وقال (7) ابن القاسم: ولجنازة أخ من إخوانه ينظر في أمره. وقال (8) ابن حبيب: ولغسل ميت عنده.
287- وعَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَبَّاسٍ (9) أَنَّهُ قَالَ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ: إِذَا قال الشيخ رحمه الله: أَشْهَدُ أنَّ لاَ إلهَ إلاَ الله، وأَشْهدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَلا تَقُلْ: حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، قُلْ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ. قَالَ: فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذَلكَ، فَقَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ ذَا؟ قَدْ فَعَلَ ذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي. إِنَّ الْجُمُعَةَ عَزْمَةٌ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ فَتَمْشُوا فِي الطِّينِ وَالدَّحْضِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ»؛ الرواية فيه بالحاء المهملة، وهو من الحرج والمشفة، ومنه: {وما (10) جعل عليكم في الدين من حرج} (11) ، والدَّحَض: الزلق، وهو الزلل (12) . =(2/339)=@
وقوله في "الأم" (13) : «في يوم ذي رَدْغٍ»: الرواية المشهورة فيه بدال مهملة ساكنة، وغين معجمة، ووقع في رواية أبي الفتح السمرقندي: «رزغ» بالزاي، &(2/272)&$
__________
(1) في (أ): «الحديث».
(2) في (ح): «وقد كره الأذان في الكلام».
(3) قوله: «والبرد» ليس في (غ).
(4) في (ز): «المخرجة».
(5) في (غ): «فيترك كعذر المريض».
(6) في (غ): «فيترك كعذر المريض».
(7) قوله: «وقال» سقط من (ز)، و(غ).
(8) قوله: «وقال» سقط من (ز)، و(غ).
(9) أخرجه البخاري (2/97 رقم616) كتاب الأذان، باب الكلام في الأذان، و(2/157 رقم668) كتاب الأذان، باب هل يصلي الإمام بمن حضر وهل يخطب يوم الجمعة في المطر، و(2/384 رقم901) كتاب الجمعة، باب الرخصة إن لم يحضر الجمعة في المطر، ومسلم(1/485 رقم699/26) كتاب صلاة المسافرين، باب الصلاة في الرحال في المطر.
(10) في (ح) و(ز): «ما».
(11) سورة الحج، الآية: 78.
(12) قوله: «وهو الزلل» ليس في (ح).
(13) أي في الرواية الأخرى لحديث ابن عباس، وهي في"صحيح مسلم" برقم (699/27).(2/272)
وكلاهما: الطين الذي يزلق فيه. وقد قُيِّد: «رَزَع» (1) بفتح الزاي وسكونها، وصوابه الفتح، فإنه الاسم؛ كالنَّقض (2) والقَبَض، والسكون للمصدر.
**************
( 90 ) باب التنفل والوتر على الراحلة في السفر
288- عَنِ ابْنِ عُمَرَ (3) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي، وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ، قَالَ: وَفِيهِ نَزَلَتْ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله}.
وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ، وَهُوَ مُوَجِّهٌ إِلَى خَيْبَرَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب التنفل والوتر على الراحلة
لم تختلف (4) العلماء في جواز التنفل على الراحلة للمسافر قِبَل أي وجه توجه بعد الشروع فيها، واختلفوا: هل يلزمه أن يفتتح نافلته إلى القبلة أو (5) لا؟ فذهب الشافعي وأحمد وأبو ثور إلى أن ذلك يلزمه،وذهب مالك وغيره إلى أنه لا يلزمه (6) ، وحجتهم التمسك بظاهر الحديثين المذكورين في هذا الباب،أعني: حديث ابن عمر وأنس (7) (8) فتأملهما.
ولا شك أن هذا الفعل منه - صلى الله عليه وسلم - إنما كان في السفر، وهل يجوز فعله في الحضر أم لا؟ فذهب أبو يوسف إلى أنه يجوز في الحضر، ورَوَى عن أنس أنه كان يومئ على حمار في أزقَّة المدينة (9) ، وحكاه بعض (10) الشافعية عن مذهبهم، ومالك لا يراه إلا في سفرٍ طال. =(2/340)=@
وقوله تعالى: {فثم وجه الله} (11) ؛ أي: جهة الله، يعني: القبلة، &(2/273)&$
__________
(1) في (ز): «زرع».
(2) في (ح) يشبه أن تكون: «كالنَّقصَ».
(3) أخرجه البخاري (2/488 رقم999) كتاب الوتر، باب الوتر على الدابة، و(2/489 رقم1000) كتاب الوتر، باب الوتر في السفر، و(2/573 رقم1095) كتاب تقصير الصلاة، باب صلاة التطوع على الدواب...، و(2/574 رقم1096) كتاب تقصير الصلاة، باب الإيماء على الدابة، و(2/575 رقم1098) كتاب تقصير الصلاة، باب ينزل للمكتوبة، و(2/578 رقم1105) كتاب تقصير الصلاة، باب من تطوع في السفر في غير دبر الصلوات وقبلها...، ومسلم (1/486، 487 رقم 700) كتاب صلاة المسافرين، باب جواز صلاة النافلة على الدابة.
(4) في (ز) و(غ): «يختلف».
(5) في (ح) و(ز): «أم» بدل: «أو».
(6) في (ح): «إلى أن ذلك لا يلزمه».
(7) قوله: «وأنس» ليس في (غ).
(8) لم يذكر المصنف حديث أنس في "التلخيص"، وهو في "صحيح مسلم" (1/488 رقم702) في صلاة المسافرين، باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت، من طريق همام، عن أنس بن سيرين قال: تلقّينا أنس بن مالك حين قدم الشام، فتلقيناه بعين التمر، فرأيته يصلي على حمار ووجهه ذلك الجانب - وأومأ همام عن يسار القبلة-، فقلت له: رأيتك تصلي لغير القبلة! قال: لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله لم أفعله.
(9) لم أجد حديثًا مسندًا يروى هكذا، وأصله أخرجه مالك في "الموطأ" (1/151) في قصر الصلاة، باب صلاة النافلة في السفر بالنهار والليل، والصلاة على الدابة، رواه شيخه يحيى بن سعيد قال: رأيت أنس بن مالك في السفر وهو يصلي على حمار، وهو متوجِّه إلى غير القبلة، يركع ويسجد إيماءً من غير أن يضع وجهه على شيء.
وسنده صحيح، وليس فيه دليل على ما ذكره المصنف، لكن قال ابن عبدالبر في "الاستذكار" (6/130-131): «وقال أبو يوسف: يصلي في المصر على الدابة أيضًا بالإيماء؛ لحديث يحيى بن سعيد عن أنس بن مالك: أنه صلى على حمار في أزقَّة المدينة يومئ إيماء »، ثم قال ابن عبدالبر: «ذكر مالك حديث يحيى ابن سعيد هذا عن أنس فلم يقل فيه: «في أزقة المدينة، بل قال فيه...»، ثم ذكر الحديث، ثم قال: «ولم يروه عن يحيى بن سعيد أحد يقاس بمالك، وقد قال فيه: «في السفر، فبطل بذلك قول من قال: «في أزقة المدينة» يريد الحضر». اهـ.
(10) في (أ): «بعد».
(11) سورة البقرة، الآية: 115.(2/273)
وأضافها الله تعالى إليه تشريفًا، وقيل: رضاه، وقيل: رحمته (1) ؛ كما قال في الحديث: «فإن الرحمة تواجهه» (2) ، وقال الفَرَّاء: العمل؛ كما قال الشاعر (3) :
أستغفرُ الله ذنبًا لست مُحْصِيَهُ ... ربَّ العبادِ إليه الوجهُ والعملُ
وفي قوله نظر، فإن الوجه المذكور في الشعر ليس هو (4) العمل؛ بدليل ذكر العمل بعده، وإنما معناه: القصد؛ أي: إليه القصد والعمل، ويمكن حمل الوجه في الآية على هذا، والله أعلم.
وقوله في رواية عمرو بن يحيى المازني: «عَلَى حِمَارٍ» وَهَّمَ الدارقطني (5) وغيره هذه الرواية؛ قالوا: والمعروف: على راحلته، وعلى بعير، ولم يخرج البخاري هذه الرواية.
وقوله: «وَهُوَ (6) مُوَجِّهٌ إِلَى خَيْبَرَ»؛ أي: متوجِّه، يقال: وجَّه هاهنا (7) ؛ أي (8) : توجَّه. =(2/341)=@ وقد يقال: إن معناه قاصد، يقال: هذا وجهي إليه؛أي: قصدي (9) .
ولم يقع في كتاب مسلم كيفية صلاته على الدابة، وقد وقع مفسرًا في "الموطأ" (10) من فعل أنس: أنه صلى إيماءً. قال مالك: «وتلك سنة (11) الصلاة». قال: «ولا يسجد على القَرَبُوس» (12) .
289- وعَنْهُ (13) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُسَبِّحُ عَلَى الرَّاحِلَةِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَ، وَيُوتِرُ عَلَيْهَا، غَيْرَ أنَّهُ لا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَيُوتِرُ عَلَيْهَا»: حجة للجمهور على أصحاب الرأي حيث يقولون: إن الوتر لا يصلى على الراحلة.
وقوله: «غَيْرَ أنَّهُ لا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ»: حجة على من يقول بوجوب الوتر. وقد أجمع أهل العلم فيما حكاه عياض: على أنه لا يصلي فريضة على الدابة؛ في (14) غير عذر خوف أو مرض. واختُلِفَ في الزَّمِن (15) ، واختَلَفَ فيه قول &(2/274)&$
__________
(1) تفسير الوجه هنا بالقبلة مروي عن بعض السلف، فيكون المعنى هنا: الجهة التي أمر الله باستقبالها. أما تأويله بالرضا والرحمة فتأويل غير صحيح؛ لأن حقيقة الرحمة والرضا غير حقيقة الوجه، وصفة الوجه ثابتة لله عز وجل كما يليق بجلال ربنا وعظمته.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الجواب الصحيح" (4/414) بعد أن ذكر، الآية: «وهذا قد قال فيه طائفة من السلف: فثم قبلة الله؛ أي: فثم جهة الله، والجهة كالوَعْد والعِدَة، والوَزْن والزِّنَة، والمرادُ بوَجْه الله: وجِهَةِ الله: الوجهُ والجهةُ والوجهةُ الذي لله يستقبل في الصلاة...» كنا في الجواب الصحيح. وقال في "الفتاوى" (3/193) في مناظرة له مع بعض المؤوِّلة: « فأحضر بعض أكابرهم كتاب "الأسماء والصفات" للبيهقي رحمه الله تعالى، فقال: هذا فيه تأويل الوجه عن السلف، فقلت لعلك تعني قوله تعالى: { ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله }، فقال: نعم، قد قال مجاهد والشافعي: يعني قبلة الله، فقال الشيخ رحمه الله: نعم، هذا صحيح عن مجاهد والشافعي وغيرهما، وهذا حق، وليست هذه الآية من آيات الصفات، ومن عدّها في الصفات فقد غلط كما فعل طائفة؛ فإن سياق الكلام يدل على المراد؛ حيث قال: { ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله }، والمشرق والمغرب من الجهات».
(2) تقدم تخريجه (ص ) برقم (434) في باب النهي عن الاختصار في الصلاة، وما يجوز من مسِّ الحصى فيها.
(3) قال ابن منظور في "لسان العرب" (5/26): «أنشد سيبويه...»، ثم ذكره، وعزاه الشيخ محمود شاكر رحمه الله في تعليقه على "تفسير الطبري" (1/169)، و"الكتاب سيبويه" (1/17)، ثم قال: « وهو من أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف قائلها».
وانظر: «أدب الكاتب» (ص545)، وقد أسهب المحقق في تخريجه.
(4) قوله: «هو» في (أ) في موضعه بياض.
(5) في "التتبع" (299).
(6) في (غ): «هو» بلا واو.
(7) في (ح): «فلان» بدل: «هاهنا».
(8) في (ب) و(ح): «إذا» بدل: «أي».
(9) في (ب): «هذا وجهه إليه أي قصده».
(10) تقدم تخريجه قريبًا (ص355).
(11) في (أ): «سنبة».
(12) القَرَبُوس: بفتح القاف والراء، وضم الباء، وبضم القاف وسكون الراء وضم الباء لغة، وهو: حِنْوُ السَّرْجِ. انظر "اللسان" (6/172).
(13) انظر تخريج الحديث السابق.
(14) في (ز): «من» بدل «في»، وفي (غ): «على دابة من».
(15) في (أ): «المزْمِن» وفوقها: «صح»، وفي (ح) يشبه أن تكون: «الزمنى». والزَّمِن: هو المقْعَد، أو الشيخ الكبير الهرم.(2/274)
مالك (1) . واختلف قول مالك أيضًا: هل حكم السفينة في التنفل حيث توجهت به حكم الدابة أو خلافها؟ والمشهور أنها ليست كالدابة. =(2/342)=@
*************
( 91 ) باب الجمع بين الصلاتين في السفر والحضر
290- عَنِ ابْنِ عُمَرَ (2) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا عَجِلَ بِهِ السَّيْرُ، جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ يُؤَخِّرُ صَلاةَ الْمَغْرِبِ، حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَلاةِ الْعِشَاءِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الجمع بين الصلاتين
المراد في هذا الباب من الجمع: إنما هو إِخراجُ إحدى (3) الصلاتين المشتركتين عن وقت جوازها، وإيقاعها في وقت الأَخَرَى مَضمومةً إليها، وهو إنما يكونُ في الصلَوَات المشتركة الأوقات، وهي: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء. ولا يكون في غيرها بإجماع (4) ، ثم الجمع متفق عليه ومختلف فيه:
فالأول: هو الجمع بعرفة والمزدلفة. والمختلف فيه هو الجمع في السفر والمطر (5) والمرض. فأما الجمع في السفر فإليه ذهب جماعة السلف وفقهاء المحدثين والشافعي، وهو مشهور مذهب مالك، وهل ذلك بمجرد (6) السفر، أو لابد معه (7) من جدّ السير؟ قولان (8) : وبالأول قال جمهور السلف وعلماء الحجاز وفقهاء المحدثين وأهل الظاهر، وبالثاني قال مالك والليث والثوري والأوزاعي، وَأَبَى (9) أبو حنيفةَ وحده الجمع (10) للمسافر، وكرهه الحسن (11) وابن سيرين، وروي عن مالك كراهيته (12) ، وروي عنه أنه كرهه للرجال دون النساء. =(2/343)=@ وأحاديث ابن عمر وأنس ومعاذ المذكورة في هذا الباب حجة على أبي حنيفة. لكنْ أبو حنيفة تأوّلها على أن الصلاة الأولى أوقعت (13) في آخر وقتها، والثانية أول (14) وقتها، وهذا يجوز باتفاق.
وقد جاء في (15) حديث معاذ في كتاب أبي داود (16) : أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ارتحل قبل &(2/275)&$
__________
(1) قوله: «واختلف قول مالك» ليس في (غ).
(2) أخرجه البخاري (2/572 رقم1091، 1092) في تقصير الصلاة، باب يصلي المغرب ثلاثًا في السفر، و(2/579رقم1106) كتاب تقصير الصلاة، باب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء، و(2/581 رقم 1109) كتاب تقصير الصلاة، باب هل يؤذن أو يقيم إذا جمع بين المغرب والعشاء، و(3/519 رقم1668) كتاب الحج، باب النزول بين عرفة وجمع، و(3/523 رقم1673) كتاب الحج، باب من جمع بينهما ولم يتطوع، و(3/624 رقم1805) كتاب العمرة، باب المسافر إذا جدّ به السير يعجل إلى أهله، و(6/139 رقم3000) كتاب الجهاد، باب السرعة في السير، ومسلم (1/488 رقم703) كتاب صلاة المسافرين، باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر.
(3) قوله: «إحدى» ليس في (ح).
(4) في (ب) و(غ): «بالإجماع».
(5) في (ز): «في المطر والسفر والمرض».
(6) في (غ): «مجرد».
(7) قوله: (معه» ليس في (غ).
(8) في (ح): «وقولان».
(9) في (ح) تشبه أن تكون: «وأنبا»، وقوله: «أبى» ليس في (غ).
(10) في (غ): «وحده ومنع الجمع».
(11) في (ز) و(غ): تشبه أن تكون «الحسين».
(12) في (ب): «كراهته».
(13) في (ب): «وقعت».
(14) في (ح): «أوقعت في أول».
(15) في (ز) و(غ): «من» بدل «في».
(16) (2/18-19 رقم1220) في الصلاة، باب الجمع بين الصلاتين، وأخرجه أيضًا الإمام أحمد (5/241-242)، والترمذي (2/438-439 رقم553) في أبواب الصلاة، باب ماجاء في الجمع بين الصلاتين، وابن حبان في "صحيحه" (4/313-314، 465 رقم1458، 1593/ الإحسان)، والدارقطني في "السنن" (1/392-393)، والبيهقي (3/163)، جميعهم من طريق قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل، عن معاذ بن جبل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس...، الحديث. ولا خلاف بين أهل العلم بأن رجال إسناد هذا الحديث كلهم ثقات، لكنه أعل بعلتين:
الأولى: قول الحاكم في "معرفة علوم الحديث" (ص120): «نظرنا، فلم نجد ليزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل رواية». وبهذه العلة أعله ابن حزم، كما في "التلخيص الحبير" (2/102).
العلة الثانية: تفرد قتيبة بهذا الحديث، وتخطئة الأئمة له. وقد افتخر قتيبة بأن هذا الحديث كتبه عنه سبعة من أئمة الحديث، وذكر منهم: الإمام أحمد، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وأبا بكر بن أبي شيبة، وأبا خيثمة زهير بن حرب؛ قال الحاكم في الموضع السابق: «فأئمة الحديث إنما سمعوه من قتيبة تعجُّبًا من إسناده ومتنه ».
وقال الحاكم أيضًا: «هذا الحديث رواته أئمة ثقات، وهو شاذ الإسناد والمتن، لا نعرف له علّة نعلله بها، ولو كان الحديث عن الليث عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل؛ لعللنا به الحديث، ولو كان عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الزبير؛ لعللنا به، فلمّا لم نجد له العلتين خرج عن أن يكون معلولاً...»، ثم قال: «وقد قرأ علينا أبو علي الحافظ هذا الباب، وحدثنا به عن أبي عبدالرحمن النسائي - وهو إمام عصره -، عن قتيبة بن سعيد، ولم يذكر أبو عبدالرحمن ولا أبو علي للحديث علّة، فنظرنا فإذا الحديث موضوع، وقتيبة بن سعيد ثقة مأمون... »، ثم استدل بما رواه بإسناده عن البخاري أنه قال: «قلت لقتيبة بن سعيد: مع من كتبت عن الليث بن سعد حديث يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل؟ فقال: كتبته مع خالد المدائني. قال البخاري: وكان خالد المدائني يدخل الأحاديث على الشيوخ ».
ونقل ابن أبي حاتم في "العلل" (1/91) عن أبيه أنه قال: «لا أعرفه من حديث يزيد، والذي عندي أنه دخل له حديث في حديث »، ثم روى أبو حاتم الحديث عن أبي صالح، عن الليث بن سعد، عن هشام بن سعد، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ.
قال البيهقي في "السنن" (3/163): «وإنما أنكروا من هذا رواية يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل، فأما رواية أبي الزبير عن أبي الطفيل فهي محفوظة صحيحة ». اهـ.
وقال الترمذي في "جامعه" (2/440): «وحديث معاذ حديث حسن غريب، تفرد به قتيبة، لا نعرف أحدًا رواه عن الليث غيره. وحديث الليث عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل، عن معاذ حديث غريب. والمعروف عند أهل العلم حديث معاذ من حديث أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء. رواه قرّة بن خالد، وسفيان الثوري، ومالك، وغير واحد، عن أبي الزبير المكّي».
وذكر الدارقطني في "العلل" (6/40-43 س965) هذا الحديث، وتكلم عن طرقه، ومنها رواية قتيبة هذه، ثم قال: «كذلك حدث به جماعة من الرفعاء عن قتيبة. ورواه المفضل بن فضالة عن الليث، عن هشام بن سعد، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ بهذه القصة بعينها، وهو أشبه بالصواب، والله أعلم».
فتبين بهذا أن الأئمة وهّموا قتيبة - مع حفظه وإتقانه - في روايته لهذا الحديث، مستدلين بأنه تفرد به عن الليث، ولم يروه عن الليث - مع كثرة تلاميذه - أحد على هذا الوجه غير قتيبة، وإنما رواه أصحاب الليث عنه، عن هشام بن سعد، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ، ولكن ليس فيه ذكر لجمع التقديم، وكذا رواه باقي الأئمة عن أبي الزبير؛ كمالك والثوري وغيرهما.
على أن هناك من صحح الحديث كابن حبان، ومال إليه بعض العلماء المتأخرين كالشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على الترمذي، والشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في "إرواء الغليل" (3/29-30)، وانظر "التلخيص الحبير" (2/101-103).(2/275)
أن تزيغ الشمس أخّر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعًا (1) ، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا، ثم سار. وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجّل العشاء فصلاها مع المغرب. وهذا حجة ظاهرة للجمهور في الرد على أبي حنيفة. وأما الجمع لعذر المطر فقال به مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وجمهور السلف بين المغرب والعشاء، وأما بين الظهر والعصر فقال بالجمع بينهما في المطر الوابل: الشافعي وأبو ثور والطبري، وأبى أبو حنيفة وأصحابه وأهل الظاهر والليث من الجمع في صلاتي الليل والنهار. وأما الجمع لعذر المرض فقال به مالك إذا خاف الإغماء على عقله، وأبى (2) ابن نافع الجمعَ لذلك، وقال: لا يجمع قبل الوقت، فمن (3) أغمي عليه حتى ذهب وقته لم يجب عليه قضاؤه، ومنعه أيضًا أشهب والشافعي.
وذهب كافة العلماء إلى منع الجمع بين الصلاتين في الحضر لغير عذر إلا شذوذًا؛ منهم من السلف: ابن سيرين، ومن أصحابنا أشهب؛ فأجازوا (4) ذلك للحاجة ما لم تتخذ عادة، ونحوه لعبدالملك في الظهر والعصر. وحجتهم في ذلك حديث ابن عباس (5) .
وقوله في حديث أنس وابن عمر: «إِذَا عَجِلَ بِهِ السَّيْرُ (6) »): حجة ظاهرة لمشترط =(2/344)=@ جِدَّ (7) السير في الجمع، ولا تعارض (8) هذه (9) الأحاديث التي لم يذكر (10) فيها ذلك؛ لأن الحجة في المنقول لا في المسكوت عنه، ويتعين حمل المطلق منهما على المقيد هنا لاتحاد الموجِب والموجَب (11) ، وهو موضع اتفاق الأصوليين في حمل المطلق على المقيد. وإنما خصّ ابن عمر صلاة(5) المغرب والعشاء بالذكر، ولم يذكر العصر؛ لوقوع &(2/276)&$
__________
(1) في (ب): «جمعًا».
(2) قوله: «أبي» ليس في (غ).
(3) في (ز) و(غ): «فما» بدل «فمن».
(4) في (ب) و(ح): «فأجاز». ... ...
(5) في (ب): «صلاتي».
(5) أي: الآتي برقم (580).
(6) في (غ): «المسير».
(7) في (ز): «جد هذا السير».
(8) في (ز) و(غ): «ولا يعارض».
(9) في (غ): «هذا».
(10) في (ح) و(ز): «نذكر».
(11) قوله: «الموجب» ليس في (أ).(2/276)
الجمع له بين المغرب والعشاء، وهو الذي سأله عنه نافع فأجاب عمّا سئل عنه حين استُصْرِخَ على امرأته صفية بنت (1) أبي عبيد، فاستعجل فجمع بين المغرب والعشاء، فسئل فأجاب بما ذكر (2) .
291- وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (3) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ زَاغَتِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ.
وَفِي رِوَايَةٍ: يُؤَخِرْ الظُهْرَ إِلَى أَولْ وقْتِ العَصْرَ.
292- وعَنْهُ (4) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا عَجِلَ عَليِهِ السَّفَرُ يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إِلَى أَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ، فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث أنس: « - صلى الله عليه وسلم - إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ»: ظاهر في أنه كان يصلي الظهر في وقت العصر؛ لأنه إذا أخّر الظهر لأول وقت العصر (5) ، ثم بعد ذلك بمهلة نزل فتوضأ، فصلى =(2/345)=@ الصلاتين؛ فيلزم أن يصلي الظهر في أول وقت العصر ولابدّ. وأوضح من هذا ما في الرواية الأخرى؛ من أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يؤخّر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق، فظاهر ذلك حجة على أبي حنيفة؛ حيث (6) منع الجمع المذكور، وهذا إنما فعله ابن عمر والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنهما زالت عليهما الشمس وغربت وهما يجدّان السير، فلو أراد أن يرتحل بعد (7) الزوال ناويًا ألا ينزل (8) حتى يخرج وقت الصلاتين؛ صلى الأولى في أول الوقت، والثانية بعدها مجموعة إليها. قال أبو محمد عبدالوهاب: وله أن يجمع بين الصلاتين في وقت أيتهما (9) شاء، والاختيار: في آخر وقت الأولى (10) ، وأول وقت الثانية. وكونه - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر ثم ركب، ولم يصل العصر مجموعة إليها؛ إما لأنه نوى أن ينزل (11) في وقت العصر، وإما لأنه (12) لم يرد أن يجمع بينها؛ لأن الجمع هنا غايته أن يكون جائزًا للرّخصة، وإما لأنه (13) لم يجدّ به السير (14) ، والله أعلم.
293- وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (15) قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا، فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلا سَفَرٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ: بِالْمَدِينَةِ فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلامَطَرٍ. قِيلَ لابْنَ عَبَّاسٍ: ما أَرَادَإلى ذَلِكَ؟ قَالَ: أَرَادَ أَنْ لا يُحْرِجَ أُمَّتِهِ.
294- وعَنْهُ (16) قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ثَمَانِيًا جَمِيعًا، وَسَبْعًا جَمِيعًا. قِيلَ: يَا أَبَا الشَّعْثَاءِ! أَظُنُّهُ أَخَّرَ الظُّهْرَ وَعَجَّلَ الْعَصْرَ، وَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ وَعَجَّلَ الْعِشَاءَ. قَالَ: وَأَنَا أَظُنُّ ذَلكَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث ابن عباس: «أنه - صلى الله عليه وسلم - أخّر الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في غير خوف ولا مطر ولا سفر» (17) : قد أخذ الناس في تأويل هذا الحديث مآخذ، &(2/277)&$
__________
(1) في (ب) و(ز) و(غ): «ابنة».
(2) أخرجه البخاري (2/572 رقم1092) في تقصير الصلاة، باب يصلى المغرب ثلاثًا في السفر، و(6/139 رقم3000) في الجهاد، باب السرعة في السير.
(3) أخرجه البخاري (2/582 رقم 1111) في تقصير الصلاة، باب يؤخر الظهر إلى العصر إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، و(2/582 رقم 1112) كتاب تقصير الصلاة، باب إذا ارتحل بعد ما زاغت الشمس صلى الظهر ثم ركب، ومسلم (1/489 رقم 704/46، 47) في صلاة المسافرين، باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر.
(4) أخرجه البخاري (2/579 رقم 1108) في تقصير الصلاة، باب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء، و(2/581 رقم1110) كتاب تقصير الصلاة، باب هل يؤذن أو يقيم إذا جمع بين المغرب والعشاء، وانظر المواضع السابقة في حديث (291)، ومسلم (1/489 رقم 704/48) في صلاة المسافرين، باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر.
(5) قوله: «ثم نزل، ظاهر في...» إلى هنا ليس في (ح).
(6) في (غ): «حين».
(7) في (ح): «قبل» بدل: «بعد».
(8) في (ب): «ناويًا لا ينزل».
(9) في (ح) و(ز) و(غ): «أيهما».
(10) في (غ): «الأول».
(11) في (غ): «يترك».
(12) في (ح): «وإما أنه».
(13) في (ح): «وإما أنه».
(14) في (غ): «المسير».
(15) أخرجه مسلم (1/489-491 رقم 705/49-51، 54) في صلاة المسافرين، باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر.
(16) أخرجه البخاري (2/23 رقم 543) في مواقيت الصلاة، باب تأخير الظهر إلى العصر، و(2/41 رقم562) كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت المغرب، و(3/51 رقم1174) كتاب التهجد، باب من لم يتطوع بعد المكتوبة، ومسلم (1/491 رقم 705/ 55، 56) في صلاة المسافرين، باب الجمع بين صلاتين في الحضر.
(17) قوله: «ولا مطر» ليس في (ح)، وليست الرواية هكذا، وإنما خلط المصنف بين روايتي أبي الزبير وحبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس؛ ففي الأولى: «خوف ولا سفر»، وفي الثانية: «خوف ولا مطر».(2/277)
وأَوْلَاها: أن هذا الجَمعَ يمكنُ أن يكونَ المراد به تأخير الأولى إلى أن يفرَغ منها في آخر وقتها، ثم يبدأ بالثانية في أولِ وقتِها، وإلى هذا يَشيُر تأويلُ أبي الشعثاءِ، ويدل على صحة هذا التأويل: أنه قد نفى (1) فيه الأعذار المبيحة للجمع التي هي =(2/346)=@ الخوف والسفر والمطر، وإخراج الصلاة عن وقتها المحدود لها بغير عذر لا يجوز باتفاق، فتعين ما ذكرناه، والله أعلم.
وقول من تأوّله على (2) أنه كان في مطر، قد أبطلته هذه الرواية الصحيحة التي قال فيها: «مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلامَطَرٍ».
295- وَعَنْ مُعَاَذْ بْنِ جَبَلٍ (3) قَالَ: خَرَجْنَّا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَكَانَ يُصَلِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ جَمِيعًا، والْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ جَمِيعَا، فَقِيلَ: مَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَرَادَ أَنْ لا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «أَرَادَ أَنْ لا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ»: روي بالياء باثنتين من أسفل وبضمها، و«أمتَه» منصوبًا على أنه مفعول، وبفتح التاء باثنتين (4) من فوق، وضم «أمتُه» على أنها فاعلة، ومعناه: إنما فعل ذلك لئلا يشق عليهم، ويثقل، فقصد إلى التخفيف عنهم، مع المحافظة على إيقاع كل صلاة في وقتها على ماتأوّلناه، والله أعلم. =(2/347)=@ &(2/278)&$
__________
(1) في (ز): «بقي».
(2) قوله: «على» ليس في (ب).
(3) أخرجه مسلم (1/490رقم 706) في صلاة المسافرين، باب الجمع بين صلاتين في الحضر.
(4) قوله «باثنتين) ليس في (أ)، وفي (ز): «باثنيين».(2/278)
***************
(92) باب الإنصراف من الصلاة عن اليمين والشمال
296- عَنْ عَبْدِالله (1) قاَلَ: لا يَجْعَلَنَّ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ مِنْ نَفْسِهِ جُزْءًا لا يَرَى إِلا أَنَّ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ لا يَنْصَرِفَ إِلا عَنْ يَمِينِهِ. أَكْثَرُ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْصَرِفُ عَنْ شِمَالِهِ.
297- وَعَنِ السُّدِّيِّ (2) قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسًا: كَيْفَ أَنْصَرِفُ إِذَا صَلَّيْتُ عَنْ يَمِينِي أَوْ عَنْ يَسَارِي؟ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَكْثَرُ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْصَرِفُ عَنْ يَمِينِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الانصراف من الصلاة عن اليمين والشمال (3)
قوله (4) : «لا يَجْعَلَنَّ (5) أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ مِنْ نَفْسِهِ جُزْءًا»: هذا (6) الحديث يدل على أن ملازمة الانصراف عن اليمين من الصلاة غير جائز، وأن (7) له أن ينصرف عن يمينه وشماله، وهو مذهب كافة العلماء؛ غير أن الحسن ذهب إلى استحباب الانصراف عن اليمين، وهو (8) الظاهر من حديث (9) أنس، وما حكاه ابن مسعود وأنس في هذين الحديثين يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل الأمرين جميعًا، وأن ذلك واسع، وليس فيه سنة يدام (10) عليها؛ إذ قد (11) رأى ابنُ مسعود النبي - صلى الله عليه وسلم - في أكثر حالاته ينصرف عن شماله، ورأى أنس عكس ذلك، فكان (12) ذلك دليلاً على ما قلناه، والله أعلم. =(2/348)=@
298-وَعَنِ البَرَاءِ (13) قالَ: كُنَّا إِذْاَ صَلِّيِنَّا خَلّفَ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ، يُقْبِلُ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «رَبِّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ - أَوْ تَجْمَعُ - عِبَادَكَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «أَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ (14) عَنْ يَمِينِهِ، يُقْبِلُ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ»: هذا (15) يحتمل أن يكون هذا الإقبال منه - صلى الله عليه وسلم - في حال سلامه من الصلاة؛ فإنه كان يبدأ بالسلام بيمينه، والأظهر أنه كان حين انصرافه من الصلاة، ويكون هذا حين كان يكثر أن ينصرف عن يمينه كما قاله (16) أنس، والله أعلم. &(2/279)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (2/337 رقم 852) في الأذان، باب الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال، ومسلم (1/492 رقم 707) في صلاة المسافرين، باب جواز الانصراف من الصلاة عن اليمين والشمال.
(2) أخرجه مسلم (1/492 رقم 708) في صلاة المسافرين، باب جواز الانصراف من الصلاة عن اليمين والشمال.
(3) في (ب) و(ح): «على اليمين والشمال».
(4) في (ح) و(ز): «قوله - صلى الله عليه وسلم - »، وهو خطأ، فالقائل هو ابن مسعود.
(5) في (غ): «يجعل».
(6) قوله: «هذا» من (ب) و(ز) فقط.
(7) قوله: «أن» ليس في (غ).
(8) في (غ): «وهذا» بدل «وهو».
(9) في (ب): «مذهب» بدل: «حديث».
(10) في (غ): «يداوم».
(11) قوله: «قد» ليس في (ح).
(12) في (غ): «وكان».
(13) أخرجه مسلم(1/492، 493 رقم709)في صلاة المسافرين، باب استحباب يمين الإمام.
(14) في (غ): «يكون».
(15) في (ح): «وهذا».
(16) في (ح): «قال».(2/279)
*************
( 93 ) باب إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة
299- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) ، عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَلا صَلاةَ إِلا الْمَكْتُوبَةُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب قوله إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة
ظاهره أنه لا تنعقد صلاة تطوع (2) في وقت إقامة الفريضة، وبه قال أبو هريرة (3) وأهل الظاهر، ورأوا أنه يقطع صلاته إذا أقيمت عليه المكتوبة.
وروي عن =(2/349)=@ عمر بن الخطاب أنه كان يضرب على صلاة الركعتين بعد الإقامة (4) . وذهب مالك إلى أنه إذا أقيمت عليه المكتوبة وهو في نافلة، فإن كان (5) ممن تخف (6) عليه ويتمّها بأم القرآن وحدها فعل ولا يقطع، وإن لم يكن كذلك قطع. وذهب بعض أصحابنا إلى أنه يتمها. وعلى هذا الحديث فمن دخل لصلاة الصبح والإمام في الصلاة ولم يكن صلى الفجر لا يصلي (7) الفجر. وهو مذهب جمهور العلماء من السلف وغيرهم (8) .
وقد اختلفوا: هل يخرج لها من المسجد ويصلي خارجه أم لا يخرج؟ قولان لأهل العلم. وإذا قلنا: لا يخرج، فهل يصليهما والإمام يصلي، أو لا يصليهما، ويدخل مع الإمام في صلاته؟
وبالأول: قالت (9) طائفة من السلف؛ منهم ابن مسعود (10) .
وبالثاني: قال الشافعي وأحمد والطبري وابن سيرين، وحكي عن مالك. وإذا قلنا: إنه يخرج، فهل ذلك ما لم يخش فوات الركعة الأولى، فإن خشيه دخل، أو إنما يراعي خشية فوات الآخرة؟ قولان:
الأول لمالك والثوري.
والثاني أيضًا حُكي عن مالك. وقيل: يصليهما وإن فاتته صلاة الإمام إذا كان الوقت واسعًا؛ قاله ابن الجلاب. &(2/280)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/493 رقم710) كتاب صلاة المسافرين، باب كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن.
(2) في (ح): «المتطوع».
(3) لم أجد قولاً مستقلاً لأبي هريرة - رضي الله عنه - ، ولكنه حديث الباب هنا يرويه عمرو بن دينار، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، واختُلفَ على عمرو، فمنهم من رواه عنه مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومنهم من رواه موقوفًا، وقد أخرج مسلم كلا الوجهين، فذكره أولاً من طريق ورقاء بن عمر، وزكريا بن إسحاق، وأيوب السختياني، ثلاثتهم عن عمرو، به، ثم رواه من طريق حماد بن زيد عن عمرو موقوفًا على أبي هريرة.
وقد عرض الترمذي لهذا الاختلاف في "جامعه"، فأخرج الحديث (2/282-283 رقم421) في أبواب الصلاة، باب ما جاء: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة»، من طريق زكريا بن إسحاق، عن عمرو، ثم قال: «حديث أبي هريرة حديث حسن. وهكذا روى أيوب وورقاء بن عمر وزياد بن سعد وإسماعيل بن مسلم ومحمد بن حجادة عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وروى حماد بن زيد وسفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، فلم يرفعاه، والحديث المرفوع أصح عندنا ».
فمن نسب القول لأبي هريرة اعتمد على الرواية الموقوفة، والله أعلم.
(4) أخرجه عبدالرزاق (2/436 رقم3988) عن الثوري، عن جابر، عن الحسن بن مسافر، عن سويد بن غفلة، قال: كان عمر بن الخطاب يضرب على الصلاة بعد الإقامة.
وفي سنده جابر بن يزيد الْجُحْفي وهو ضعيف جدًّا، والحسن بن مسافر لم أجد من ترجم له.
وكذا قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على "المحلى" (3/110).
(5) في (أ): «كانت».
(6) في (غ): «يخف».
(7) أي: لا يصلي ركعتي سنة الفجر.
(8) في (ح) و(ز): «وهو مذهب جمهور السلف من العلماء وغيرهم».
(9) في (ز»: «قال» بدل «قالت».
(10) أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/374 رقم2198). طريق زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق السبيعي قال: حدثني عبدالله بن أبي موسى عن أبيه -حين دعاهم سعيد بن العاص -؛ دعا أبا موسى وحذيفة وعبدالله بن مسعود - رضي الله عنهم - قبل أن يصلي الغداة، ثم خرجوا من عنده وقد أقيمت الصلاة، فجلس عبدالله إلى أسطوانة من المسجد، فصلى الركعتين، ثم دخل في الصلاة. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (9/277 رقم9387. طريق زهير.
وأخرجه الطبراني أيضًا برقم (9385، 9386).طريق عبدالرزاق، عن سفيان الثوري ومعمر، كلاهما عن أبي إسحاق، عن عبدالله بن أبي موسى، عن ابن مسعود مختصرًا، ولم يذكر: «عن أبيه»، وفي لفظ الثوري: «جاء ابن مسعود والإمام يصلي».
وهذا الأثر في "مصنف عبدالرزاق" (2/444 رقم4021، 4022)، لكن سقط الثوري من الإسناد، وفيه: «جاءنا ابن مسعود»، وهذه الصيغة تدل على الاتصال فيما يظهر، لكن أخشى أن يكون ذلك تصحيفًا، وأن يكون الصواب ما في "المعجم الكبير".
وقد أخرجه الطحاوي في الموضع السابق برقم (2199) طريق خالد بن عبدالرحمن، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبدالله بن أبي موسى، عن عبدالله: أنه دخل المسجد والإمام في الصلاة، فصلى ركعتي الفجر.
وبنحوه رواه ابن المنذر في "الأوسط" (5/231 رقم2762) طريق عبدالله بن المبارك، عن سفيان. وللحديث فيما يظهر علتان:
إحداهما: ما تقدم من الاختلاف في كون عبدالله بن أبي موسى يرويه عن أبيه، عن ابن مسعود، أو عن ابن مسعود بلا واسطة. وذكر «عن أبيه» تفرد به زهير بن معاوية، وخالفه سفيان الثوري ومعمر، فروياه عن أبي إسحاق ولم يذكرا: «عن أبيه».
فإن ترجح هذا بقي السؤال: هل سمع عبدالله بن أبي موسى من ابن مسعود؟
ورواية عبدالرزاق التي فيها: «جاءنا» رواها الطبراني من طريقه، وفيها: «جاء»، فلا تدل على الاتصال إلا بعد التيقن من سلامتها.
العلة الثانية: عبدالله بن أبي موسى الأشعري لم أجد من وثقه، وقد ذكره مسلم بن الحجاج في "المنفردات والوحدان " (ص128 رقم322) فيمن تفرد بالرواية عنه أبو إسحاق السبيعي ممن لم يرو عنه أحد سواه. ولكن أرجو أن تزول هاتان العلتان بالطريقين الآتيين.
فقد أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/56 رقم6414) عن شيخه عبدالله بن إدريس، عن مطرِّف بن طريف، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مُضَرِّب: أن ابن مسعود وأبا موسى خرجا من عند سعيد بن العاص، فأقيمت الصلاة، فركع ابن مسعود ركعتين، ثم دخل مع القوم في الصلاة، وأما أبو موسى فدخل في الصفّ.
وهذا سند صحيح إن سلم من العلّة؛ فإن مطرِّفًا رواه عن أبي إسحاق السبيعي هكذا، ورواه الباقون عنه - كما سبق -، عن عبدالله بن أبي موسى. وأبو إسحاق مكثر، فلا يستغرب عليه أن يكون له في هذه الرواية إسنادان، وقد يكون هذا اختلافًا عليه، والله أعلم.
وله طريق ثالثة: فقد أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/375.طريق أبي مالك الأشجعي، عن أبي عبيدة، عن أبيه عبدالله بن مسعود أنه كان يفعل ذلك؛ أي: يدخل المسجد والناس صفوف في صلاة الفجر، فيصلي الركعتين في ناحية المسجد، ثم يدخل مع القوم في الصلاة.
ورواية أبي عبيدة عن أبيه مرسلة، وبعض أهل العلم يقبلها على اعتبار أن الواسطة بينه وبين أبيه هم كبار أصحاب أبيه، وهم ثقات.
فالأثر - فيما يظهر - صحيح عن ابن مسعود، والله أعلم.(2/280)
300- وعَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَالِكٍ بْنِ بُحَيْنَةَ (1) قَالَ: أُقِيمَتْ صَلاةُ الصُّبْحِ، فَرَأَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً يُصَلِّي، وَالْمُؤَذِّنُ يُقِيمُ، فَقَالَ: «أَتُصَلِّي الصُّبْحَ أَرْبَعًا؟ ».
301- وَعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ سَرْجَسْ (2) قالَ: دَخَلَ رَجُلٌ المَسْجِدَ، وَرَسُوْل اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي صَلاةِ الْغَدَاةِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي جَانِبِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا سَلَّمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَا فُلانُ بِأَيِّ الصَّلاتَيْنِ اعْتَدَدْتَ؟ أَبِصَلاتِكَ وَحْدَكَ أَمْ بِصَلاتِكَ مَعَنَا؟ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «أَتُصَلِّي الصُّبْحَ أَرْبَعًا؟ »: إنكار على الرجل الذي فعل ذلك، وهذا الإنكار حجة على من ذهب إلى جواز صلاة ركعتي الفجر في المسجد =(2/350)=@ والإمام يصلي كما ذكرناه آنفًا، وعلى سدّ الذريعة التي يخاف منها توهم الزيادة في الفرائض. وقال في رواية أخرى (3) ما ينص على ذلك: «يوشك أن تُصَلَّى (4) الصبحُ أربعًا»، وكذلك يفهم من قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر: «يَا فُلانُ! بِأَيِّ الصَّلاتَيْنِ اعْتَدَدْتَ: أَبِصَلاتِكَ وَحْدَكَ أَو بِصَلاتِكَ مَعَنَا؟ » ويزيد معنى آخر وهو أن فيه منع ما يؤدي إلى الخلاف على الإمام. ويمكن أن يستنبط من هذين الحديثين: أن ركعتي الفجر إن وقعت في تلك الحال صحَّت؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقطع عليهما مع تمكنه من ذلك. وفي إنكاره عليه - صلى الله عليه وسلم - على المصلي مع كونه صلى (5) في جانب المسجد ما يدل على شدة المنع من صلاتهما والإمام في الصلاة، وإن كان في زاوية.
وقوله (6) : «عَبْدِ الله بْنِ مَالِكٍ بْنِ بُحَيْنَةَ»: هو الصحيح، وما رواه القعنبي خطأ كما قاله (7) في "الأم" (8) . وقال أبو مسعود الدمشقي: أهل العراق يقولون: عن مالك بن بحينة، وأهل الحجاز قالوا (9) في نسبه: عبد الله بن مالك بن بحينة، وهو الأصح. و «بحينة»: أم عبد الله؛ قال أبو عمر بن عبدالبر: إن بحينة اسم (10) أم أبيه مالك، والأول أصح وأثبت، ولعبد الله ولأبيه مالك صحبة (11) . =(2/351)=@ &(2/281)&$
__________
(1) أخرجه البخاري(2/148 رقم663) كتاب الأذان، باب إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة، ومسلم (1/494 رقم711/66) كتاب صلاة المسافرين، باب كراهية الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن.
(2) أخرجه مسلم (1/494 رقم 712) في الكتاب والباب السابقين.
(3) لحديث عبدالله بن بحينة المذكور في الباب، وهذه الرواية في "صحيح مسلم" برقم (711/65)، ولكن لفظها: «يوشك أن يصلي أحدكم الصبح أربعًا».
(4) في (ح): «يصلي».
(5) في (ب): «يصلي».
(6) في (ب) و(ح) و(ز): «وقول».
(7) في (ح): «قال».
(8) قال مسلم في "صحيحه" (1/494) عقب روايته للحديث: «قال القعنبي: «عبدالله بن مالك بن بحينة عن أبيه»، وقوله: «عن أبيه» في هذا الحديث خطأ». اهـ.
(9) في (ح): «قالوا: يقولون».
(10) قوله: «اسم» ليس في (ب).
(11) انتهى الجزء الثاني من نسخة(أ)، وبعده مانصّه: «كمل الجزء بحمد الله وعونه وحسن توفيقه من"المفهم"، وصلىالله على سيدنا محمد وآله وصحبه.كتبه من خط الشيخ الإمام أبي عبدالله محمدبن أبي بكرالأنصاري الخزرجي الأندلسي، ثم القرطبي رحمه الله علىيد مالكه: العبد الفقير إلى عفو ربه محمد بن عبدالرحمن بن عوض بن عبدالخالق بن عبدالمنعم بن يحيى البكري القرشي، ثم الدهروطي، غفر الله لكاتبه ولوالديه ولجميع المسلمين، وذلك وقت الضحى يوم الجمعة، سابع عشر شهر صفر، من شهور سنة تسع وثلاثين وسبعمائة، أحسن الله عاقبتها بمحمد وآله، إنه قريب مجيب.يتلوه: باب ما يقول عند دخول المسجد والأمر بتحيته، وهو الجزء الثالث ». وقوله: «بمحمد وآله» هذا من التوسل الممنوع كما سبق التنبيه عليه في المقدمة.(2/281)
( 94 ) باب ما يقول عند دخول المسجد، والأمر بِتحيَّتِهِ
302- عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ، أَوْ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ (1) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلْيَقُلِ: اللهمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ. وَإِذَا خَرَجَ، فَلْيَقُلِ: اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ ».
303- وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ (2) - صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ النَّاسِ. قَالَ: فَجَلَسْتُ - فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَا مَنَعَكَ أَنْ تَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تَجْلِسَ؟ » قَالَ: فَقال الشيخ رحمه الله: يَا رَسُولَ اللهِ! رَأَيْتُكَ جَالِسًا وَالنَّاسُ جُلُوسٌ. قَالَ: «فَإِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على محمد وآله (3)
ومن باب ما يفعل عند دخول المسجد
قوله: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فليركع ركعتين قبل أن يجلس » (4) : عامة العلماء على أن هذا الأمر على الندب والترغيب، وقد ذهب داود وأصحابه إلى أن ذلك على الوجوب، وهذا باطل، ولو كان الأمر على ما قالوه لحرم دخول المسجد على المحدث الحدث الأصغر حتى يتوضأ (5) ، ولا قائل به، وإنما الخلاف =(2/352)=@ في دخول الجنب، فإذا جاز دخول المسجد على غير وضوء؛ لزم منه أنه لا يجب عليه تحيته (6) عند دخوله، إذ لو كان ذلك للزمه أن يتوضأ عند إرادة الدخول. فإن قيل: الخطاب بالتحيّة لمن كان متوضئًا؛ قلنا: هذا تحكُّم، وعدول عن الظاهر بغير دليل؛ فإنه متوجه لداخل المسجد فيلزم ما ذكرناه. وقد عدّها بعض أصحابنا في السنن.
ثم هل يحيّي المسجد في أيّ الأوقات دخله، أو لا يحييه في الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها؟ قولان: الأول لبعض أهل الظاهر، والثاني للجمهور. فلا يحيي المسجد عندهم بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس، غير أن الشافعي منع منها حالة الطلوع وحالة الغروب، وأجازها فيما قبل ذلك؛ بناء منه على أصله(2) في أن كل صلاة يتعيّن فعلها بحسب سببها؛ فجائز فعلها ما لم تطلع الشمس وما لم تغرب، وسيأتي الكلام على هذا الأصل. وسبب الخلاف في تلك المسألة اختلاف ظواهر الأحاديث؛ إذ تعليق الأمر بالتحية على الدخول يقتضي فعلها &(2/282)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/494رقم 713) في صلاة المسافرين، باب ما يقول إذا دخل المسجد.
(2) أخرجه البخاري (1/537 رقم 444) في الصلاة، باب إذا دخل المسجد فليركع ركعتين، و(3/48 رقم1163) كتاب التهجد، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، ومسلم (1/495 رقم 714) في صلاة المسافرين، باب استحباب تحية المسجد بركعتين وكراهة الجلوس قبل صلاتهما... ... ... (2) في (ح) و(ز) و(غ): «على أن أصله».
(3) قوله: «بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد وآله» ليس في (ب) و(ح) و(ز) و(غ).
(4) لم يذكر المصنف هذا اللفظ في "التلخيص"، وهو أحد ألفاظ حديث أبي قتادة الثاني في الباب، وهو في "صحيح مسلم" برقم (714/69).
(5) هذا إلزام بما لا يلزم؛ لأنهم لم يمنعوا دخول المحدث الحدث الأصغر للمسجد، وإنما منعوا جلوسه حتى يصلي ركعتين.
(6) في (ب) و(غ): «تحية».(2/282)
متى دخل المسجد. وعموم قوله - عليه السلام - : «لا صلاة بعد العصر وبعد الصبح (1) » (2) يقتضي ألاّ يفعل (3) .
وكذلك اختلفوا في تحية المسجد بعد طلوع الفجر وقبل صلاة الصبح،فقال بجواز ذلك الشافعي وأحمد وداود. وقال بالمنع (4) أبو حنيفة والليث والأوزاعي. واختلف عن مالك فيمن ركع ركعتي الفجر في بيته: هل يحيي المسجد أو لا يحييه (5) ؟ قولان عنه (6) . وهذا الخلاف فيمن أراد (7) الجلوس في المسجد، فأما العابر فخفف فيه أكثرهم، وهو قول مالك، ومنهم من أمر (8) به، وهو قياس مذهب أهل الظاهر. واختلف قول مالك في تحية المسجد إذا صليت (9) العيد فيه. ورأى في مسجد مكة تقديم الطواف على التحية، وفي مسجد المدينة تقديم التحية =(2/353)=@ على السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد وسع في ذلك أيضًا. وقال بعض أصحاب مالك: إن من تكرر عليه الدخول في المسجد تسقط (10) عنه تحيته؛ كمن كثر تردده إلى مكة من الحطّابين وغيرهم،وكسقوط السجود عمن كثرت تلاوته من القُرَّاء (11) ، وسقوط الوضوء لمسّ المصحف للمتعلمين (12) .
304- وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله (13) قَالَ: كَانَ لِي عَلَى رَسوُلِ الله - صلى الله عليه وسلم - دَيْنٌ، فَقَضَانِي وَزَادَنِي، وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ لِي: «صَلِّ رَكْعَتَيْنِ ».
305 - وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَاَلِكٍ (14) : أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ لا يَقْدَمُ مِنْ سَفَرٍ إِلا نَهَارًا فِي الضُّحَى، فَإِذَا قَدِمَ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ، فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ فِيهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول جابر - رضي الله عنه - : «كَانَ لِي عَلَى رَسوُلِ الله - صلى الله عليه وسلم - دَيْنٌ، فَقَضَانِي وَزَادَنِي»: هذا الدين هو ثمن البعير الذي كان (15) النبي (16) - صلى الله عليه وسلم - اشتراه منه في رجوعه إلى المدينة (17) من بعض أسفاره، وشرط عليه ركوبه إلى المدينة، فلما بلغها دفع له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمل والثمن، وزاده قيراطًا، وسيأتي في البيوع إن شاء الله تعالى (18) .
وكونه - صلى الله عليه وسلم - لا يقدم من سفر إلا نهارًا؛ إنما كان ذلك لأنه قد نهى أن يأتي =(2/354)=@ الرجل أهله (19) طروقًا (20) ، وقد نبه على تعليله في حديث جابر فقال: «يتخونهم (21) ويطلب &(2/283)&$
__________
(1) من قوله: «يقتضي فعلها متى دخل المسجد... إلى هنا» سقط من (غ).
(2) سيأتي برقم (689) في باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها.
(3) في (ب) و(غ): «ألا تفعل».
(4) في (ب): «وبالمنع قال».
(5) زاد في (غ) بعد هذا ما نصه: «في الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها».
(6) في (ح): «قولان عنده».
(7) في (ب): «أدرك» وكتب فوقها: «أراد» وعليها «صح».
(8) في (ح) و(ز): «أمره».
(9) في (ح): «صلت».
(10) في (أ) و(ح) و(ز): «سقط».
(11) في (ب): «القَرَأَةِ».
(12) في (ح) و(ز) بعد هذا الموضع: «باب ركعتين لمن قدم من سفر» وليس هو في التلخيص.
(13) أخرجه البخاري (1/537 رقم443) كتاب الصلاة، باب الصلاة إذا قدم من سفر، و(3/620 رقم1801) كتاب العمرة، باب لا يطرق أهله إذا بلغ المدينة (مختصرًا لم يذكر فيه الركعتين)، و(4/320 رقم2097) كتاب البيوع، باب شراء الدواب والحمير (مطولاً)، و(4/485 رقم2309) كتاب الوكالة، باب إذا وكل رجل رجلاً أن يعطي شيئًا (لم يذكر فيه الركعتين)، و(5/53 رقم2385) كتاب الاستقراض، باب من اشترى بالدين (لم يذكر فيه الركعتين)، و(5/59 رقم2394) كتاب الاستقراض، باب حسن القضاء، و(5/67 رقم 2406)كتاب الاستقراض، باب الشفاعة في وضع الدين (لم يذكر فيه الركعتين)، و(5/117 رقم2470) كتاب المظالم، باب من عقل بعيره على البلاط (لم يذكر فيه الركعتين)، و(5/ 225 رقم2603، 2604) كتاب الهبة، باب الهبة المقبوضة وغير المقبوضة، و(5/230 رقم 2718) كتاب الشروط، باب إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز (لم يذكر فيه الركعتين)، و(6/65 رقم2861) كتاب الجهاد، باب من ضرب دابة غيره في الغزو (لم يذكر فيه الركعتين)، و(6/121 رقم2967) كتاب الجهاد، باب استئذان الرجل الإمام ( ليس فيه الركعتين)، و(6/193رقم3087)كتاب الجهاد، باب الصلاة إذا قدم من السفر، و(6/194 رقم3089-3090)كتاب الجهاد، باب الطعام عند القدوم، و(7/121رقم5080)كتاب النكاح، باب تزويج الشيبان(ليس فيه الركعتين)، و(7/339-342 رقم 5243 - 5247) كتاب النكاح، باب لا يطرق أهله ليلاً إذا أطال الغيبة، (وما بعده) (ليس فيه ذكر الركعتين)، و(7/513رقم5367) كتاب النفقات، باب عون المرأة زوجها في ولده (ليس فيه ذكر الركعتين)، و(11/190 رقم6387) كتاب الدعوات، باب الدعاء للمتزوج (ليس فيه ذكر الركعتين)، ومسلم(1/495 رقم 715) في صلاة المسافرين، باب استحباب تحية المسجد.
(14) أخرجه البخاري (5/386 رقم2757) كتاب الوصايا، باب إذا تصدق أو وقف بعض رقيق (ليس فيه الركعتين)، (6/112-113 رقم2947- 2950) كتاب الجهاد، باب من أراد غزوة فورَّى بغيرها... (ليس فيه الركعتين)، و(6/193 رقم3088) كتاب الجهاد، باب الصلاة إذا قدم من السفر، و(6/565 رقم3556) كتاب المناقب، باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - (ليس فيه الركعتين)، و(7/219 رقم3889) كتاب مناقب الأنصار، باب وفود الأنصار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة (ليس فيه الركعتين)، و(7/285 رقم3951) كتاب المغازي، باب قصة غزوة بدر (ليس فيه الركعتين)، و(8/113 رقم4418) كتبا المغازي، باب حديث كعب بن مالك (مطولاً)، و(8/340 رقم4673) كتاب التفسير، باب { سيحلفون بالله لكم...} (ليس فيه الركعتين)، و(8/341 رقم4676) كتاب التفسير، باب { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار...} (ليس فيه الركعتين)، و(8/342 رقم4677) كتاب التفسير، باب {وعلى الثلاثة الذين خلفوا...}، و(8/343 رقم4678) كتاب التفسير، باب { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين...} (ليس فيه الركعتين)، و(11/40 رقم 6255) كتاب الاستئذان، باب من لم يسلم على من اقترف ذنبًا (ليس فيه الركعتين)، و(11/572 رقم6690) كتاب الإيمان والنذور، باب إذا أهدى ماله على وجه النذر والتوبة (ليس فيه الركعتين)، (13/216 رقم7225) كتاب الأحكام، باب هل للإمام أن يمنع المجرمين وأهل المعصية من الكلام معه والزيارة ونحوه (ليس فيه الركعتين)، ومسلم (1/496 رقم716) في صلاة المسافرين، باب استحباب الركعتين في المسجد لمن قدم من سفر أول قدومه.
(15) في (أ): «الذي كان له على».
(16) قوله: «النبي» ليس في (ب) و(ح) و(ز) و(غ).
(17) قوله: «شرط عليه ركوبه إلى المدينة» سقط من (غ).
(18) برقم (1685) في باب بيع البعير واستثناء حملانه.
(19) قوله: «أهله» ليس في (غ).
(20) سيأتي برقم (1388) في كتاب الجهاد والسير، باب من آداب السفر، وهذا لفظ بعض رواياته؛ كما سيأتي التنبيه عليه هناك.
(21) في (غ): «يتخورهم».(2/283)
عثراتهم»، وفي حديث غيره: «كي تستحدَّ المغيبة وتمتشط الشعثة» (1) . واقتصر هنا كعب على ذكر وقت الضحى، وقد رواه أنس (2) فقال: «كان لا يطرق أهله، وكان يأتيهم غدوة وعشية»، وكأنه كان (3) أكثر قدومه في أول النهار ليبدأ بالصلاة في المسجد، فكان يتأخر حتى يخرج وقت النهي، والله أعلم.
****************
(95) باب في صلاة الضحى
306- عَنْ عَبْدِ الله بْنِ شَقِيقٍ (4) قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ أَكَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَتْ: لا، إِلا أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب صلاة الضحى
قد تقدم أن الضحى صدر النهار، والصلاة الموقعة فيه هي المنسوبة إليه، وأول وقتها خروج الوقت المنهيّ عنه، وآخره ما لم تَزُل الشمس، وأفضل وقتها إذا رمضت الفصال، وسيأتي (5) . =(2/355)=@ &(2/284)&$
__________
(1) سيأتي برقم (1526) في كتاب النكاح، باب من قدم من سفر فلا يعجل بالدخول على أهله.
(2) سيأتي برقم (1387) في كتاب الجهاد والسير، باب من آداب السفر.
(3) قوله: «كان» ليس في (غ).
(4) أخرجه مسلم (1/496-497 رقم 717) في صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة الضحى، وأن أقلها ركعتان....
(5) برقم (579).(2/284)
وهذه الصلاة مشروعة، مندوب إليها، مُرَغَّب فيها؛ على ما يأتي بيانه عند جمهور العلماء. وقد روي عن أبي بكر وعمر وابن عمر (1) (2) وابن مسعود (3) - رضي الله عنهم - أنهم كانوا لا يصلونها، وهذا إن صح محمول على أنهم خافوا (4) أن تُتَّخَذَ سنة، أو يظن بعض الجهال أنها واجبة. وقول ابن عمر (5) رضي الله عنهما وقد رأى الناس يصلونها في المسجد: «بدعة»؛ يعني به الاجتماع لها وفعلها في المسجد، ويحتمل أن يكون قوله في الضحى: «بدعة»؛ أي: حسنة (6) ؛كما قال في قيام رمضان (7) . وقد روي عنه (8) : «ما ابتدع المسلمون بدعة أفضل من صلاة الضحى» (9) ، وهذا منه نصٌّ على ما تأوّلناه.
307- عَنْ عَائِشَةَ (10) أَنَّهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ، وَإِنِّي لاُسَبِّحُهَا، وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيَدَعُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ.
308- وعَنْ مُعَاذَةَ (11) أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ: كَمْ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَتْ: أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَيَزِيدُ مَا شَاءَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول عائشة رضي الله عنها: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ»: يعارضه قولها فيما روت عنها معاذة: «أنه كَانَ يُصلِّيها أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَيَزِيدُ مَا شَاءَ (12) »). واختلف في الجمع بينهما، فقيل: إنما نفت أن تكون رأته يصليها بحضرتها، وغير حال قدومه من سفر، وحيث صلى أربعًا كان إذا قدم من سفر؛ كما جاء في حديث عبدالله بن شقيق أنها قالت: «كَانَ يُصَلِّي الضُّحَى، إِلا أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ». وقال القاضي عياض: والأشبه (13) عندي في الجمع بين حديثيها: أن تكون (14) إنما أنكرت صلاة الضحى المعهودةَ حينئذٍ عند الناس؛ على الذي اختاره جماعة من (15) السلف من صلاتها ثماني (16) ركعات، فقد صلاها كذلك خالد بن الوليد (17) ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - إنما =(2/356)=@ كان يصليها أربعًا؛ كما قالت (18) ، ويزيد ما شاء.
قال الشيخ رحمه الله: ويمكن أن يقال: يحتمل أن يكون الذي أنكرت ونفت أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله: اجتماع الناس لها في المسجد يصلونها كذلك، وهو الذي قال فيه [ابن] (19) عمر رضي الله عنهما: «إنه بدعة». &(2/285)&$
__________
(1) قوله: «ابن عمر» ليس في (أ) و(غ).
(2) أخرجه البخاري (3/51 رقم 1175) في التهجد، باب الضحى في السفر، من طريق مورِّق قال: قلت لابن عمر رضي الله عنهما: أتصلي الضحى؟ قال: لا، قال الشيخ رحمه الله: فعمر؟ قال: لا، قال الشيخ رحمه الله: فأبوبكر؟ قال: لا، قال الشيخ رحمه الله: فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال: لا إخاله.
(3) أخرجه عبدالرزاق (3/80 رقم4874) عن ابن عيينة، قال: أخبرني شيخ من بجيلة، قال: سمعت الشعبي يقول: كان عبدالله بن مسعود لا يصلي الضحى.
وهذا سند ضعيف لجهالة الشيخ البجلي، وبين ابن مسعود والشعبي واسطة؛ فقد أخرجه عبدالرزاق أيضًا برقم (4875) عن ابن عيينة، عن مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن عمه قيس بن عَبْدٍ، قال: اختلفت إلى عبدالله بن مسعود سنة، فما رأيته مصليًا صلاة الضحى ومجالد بن سعيد ضعيف.
وأخرجه الطبراني في "الكبير" (9/287 رقم9447) طريق معاوية بن عمرو، عن زهير، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة: أن أباه لم يكن يصلي صلاة الضحى. قال الهيثمي في "المجمع" (2/490): «ورجاله موثوقون، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه».اهـ.
ولاشك بأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه عبدالله بن مسعود، إلا أن بعض أهل العلم يحتملون روايته، ويرون أن الواسطة بينه وبين أبيه هم كبار أصحاب أبيه، وهم ثقات، ولذلك صححه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (3/55).
(4) قوله: (على أنهم خافوا» ليس في (أ).
(5) في جميع النسخ: «عمر»، وهو خطأ، وقد جاء على الصواب في "الإكمال" (3/52)، وسيأتي قول ابن عمر هذا برقم (1107) في الحج، باب كم اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكم حج؟
(6) هذا من المؤلف رحمه الله جنوح إلى تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة، والصواب أن البدع في الدين كلها سيئة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «كل بدعة ضلالة »؛ كما سيأتي برقم (733) في كتاب الجمعة، باب ما يقال في الخطبة ورفع الصوت بها. وما ذكر عن عمر - رضي الله عنه - من تسمية قيام رمضان: «بدعة»، فالمراد به البدعة بمعناها اللغوي؛ إذ إن قيام رمضان بصلاة التراويح فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة - رضي الله عنهم - ، ثم تركه - صلى الله عليه وسلم - خشية أن يفرض عليهم.وابن عمر وعائشة رضي الله عنهما اضطرب النقل عنهما في صلاة الضحى كما تجده هنا، وكما تجده مفصلاً في "فتح الباري" (3/52-56)، ومن جملة ما قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (3/53): «وفي الجملة ليس في أحاديث ابن عمر هذه ما يدفع مشروعية صلاة الضحى؛ لأن نفيه محمول على عدم رؤيته، لا على عدم الوقوع في نفس الأمر، أو الذي نفاه صفة مخصوصة كما سيأتي نحوه في الكلام على حديث عائشة. قال عياض وغيره: إنما أنكر ابن عمر ملازمتها وإظهارها في المساجد وصلاتها جماعة، لا أنها مخالفة للسنة، ويؤيده: ما رواه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود: أنه رأى قومًا يصلونها فأنكر عليهم، وقال: إن كان لابدّ ففي بيوتكم». اهـ.
(7) لعل المؤلف يريد قول عمر - رضي الله عنه - في اجتماع الناس في قيام رمضان على إمام واحد: «نعم البدعة هذه» أخرجه البخاري(4/250) في كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان.
(8) قوله: «عنه» ليس في (ح).
(9) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/176 رقم7799)، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا يحيى بن مسلم الهمداني، عن سعيد بن عمرو القرشي قال: اتبعت عبدالله بن عمر لأتعلّم منه، فما رأيته يصلي السبحة، وكان إذا رآهم يصلّونها قال: «من أحسن ما أحدثوا سبحتهم هذه». وأخرجه عبدالرزاق في "المصنف" (3/78-79 رقم4868) عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر قال: «لقد قتل عثمان وما أحد يسبِّحها، وما أحدث الناس شيئًا أحبّ إلى منها». وسنده صحيح، وصححه الحافظ في "الفتح" (3/52).
(10) أخرجه البخاري(3/10 رقم1128) كتاب التهجد، باب تحريض النبي - صلى الله عليه وسلم - على صلاة الليل والنوافل...، و(3/55 رقم1177) كتاب التهجد، باب من لم يصل الضحى ورآه واسعًا، ومسلم (1/497 رقم 718) في صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة الضحى....
(11) أخرجه مسلم(1/497رقم 719) في صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة الضحى.
(12) في (ب) و(ح) و(ز): «ما شاء الله».
(13) في (ب) و(ح) و(ز): «الأشبه».
(14) في (ز): «يكون».
(15) قوله: «من» ليس في (ح).
(16) في (غ): «ثمان»
(17) صلاها - رضي الله عنه - لما فتح الحيرة. نقله الطبري؛ كما في "فتح الباري" (3/55).
(18) في (ح): «كما قال».
(19) مابين المعكوفين ليس في جميع النسخ، وتقدم تصويبه.(2/285)
وقول عائشة رضي الله عنها: «وَإِنِّي لاُسَبِّحُهَا»- بالسين والباء بواحدة، وهي (1) الرواية المشهورة-؛ أي: لأفعلها. وقد وقع في"الموطأ" (2) : «لأستحبها (3) »)، من الاستحباب، والأول أولى، وقد روي عنها: أنها كانت تصليها (4) .
وقولها: «وإن كان ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم»؛ أي: يظنونه فرضًا؛ للمداومة، فيجب على من يظنه كذلك؛ كما إذا ظن المجتهد حِلّ شيء أو تحريمه وجب عليه العمل بذلك. وقيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان حكمه أنه إذا ثبت على شيء من أعمال القرب واقتدى الناس به في ذلك العمل فُرض عليهم؛ كما قال في قيام رمضان، وسيأتي (5) . =(2/357)=@
309- وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى (6) قَالَ: مَا أَخْبَرَنِي أَحَدٌ أَنَّهُ رَأَى النبي - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الضُّحَى إِلا أُمُّ هَانِئٍ، فَإِنَّهَا حَدَّثَتْ أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ بَيْتَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَصَلَّى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ مَا رَأَيْتُهُ صَلَّى صَلاةً قَطُّ أَخَفَّ مِنْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ.
وَفِي رِوَايَةٍ: لا أَدْرِي أَقِيَامُهُ فِيهَا أَطْوَلُ أَمْ رُكُوعُهُ أَمْ سُجُودُهُ. كُلُّ ذَلِكَ مِنْهُ مُتَقَارِبٌ. قَالَتْ: فَلَمْ أَرَهُ سَبَّحَهَا قَبْلُ وَلا بَعْدُ.
وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَهُ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى فِي بَيْتِهَا عَامَ الْفَتْحِ ثَمَانَِ رَكَعَاتٍ فِي ثَوْبٍ قَدْ خَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول أم هانئ: «أَنَهُ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الضحى فِي بَيْتِهَا عَامَ الْفَتْحِ ثَمَاني (7) رَكَعَاتٍ»، وفي حديث معاذة (8) : «أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ»: يدل على أنها (9) ليس لعددها حدٌّ محدود. وقد ذكر البزار (10) عن أبي ذر قال: قال لي (11) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن صليت الضحى ركعتين لم تكتب من الغافلين، وإن صليت أربعًا كتبت من العابدين، وإن صليت ستًّا لم يلحقك ذنب، وإن صليت ثمانيًا كتبت من القانتين، وإن صليت اثنتي عشرة (12) بُنِيَ لك بيت في الجنة ». قال البزار: «لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه ». =(2/358)=@
*************
باب
310- عَنْ زِيْدِ بْنِ أَرْقَمْ (13) قالَ: خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَهْلِ قُبَاءَ، وَهُمْ يُصَلُّونَ، فَقَالَ: صَلاةُ الأَوَّابِينَ، إِذَا رَمِضَتِ الْفِصَالُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «صَلاةُ الأَوَّابِينَ، إِذَا رَمِضَتِ الْفِصَالُ»: الأوَّابون: جمع أوَّاب؛ وهو مبالغة آيب، وهو من (14) : آب إلى كذا؛ أي (15) : رجع، ومنه قول تَأَبَّط شرًّا (16) : &(2/286)&$
__________
(1) في (غ): «هي» بلا واو.
(2) (1/152 رقم 29) في قصر الصلاة في السفر، باب صلاة الضحى، ولكن لفظه: «لأسبحها» أيضًا، الذي ذكره ابن عبدالبر في "التمهيد" (8/134)، وقد أخرج البخاري هذا الحديث في "صحيحه" من طريق مالك وفي أكثر نسخه: «لأستحبّها»؛ كما في "اليونينية" (2/62) في كتاب التهجد، باب تحريض النبي - صلى الله عليه وسلم - على صلاة الليل، وانظر "فتح الباري" (3/56)، وتعليق محقق "التمهيد" (8/134).
(3) في (ب) تشبه أن تكون: «لاتستحبها».
(4) أخرجه الإمام مالك في "الموطأ" (1/153 رقم30) في قصر الصلاة في السفر، باب صلاة الضحى، من طريق زيد بن أسلم، عن عائشة؛ أنها كانت تصلي الضحى ثماني ركعات، ثم تقول: لو نُشر لي أبواي ما تركتهن. وسنده ضعيف، فرواية زيد بن أسلم عن عائشة مرسلة كما في "المراسيل" لابن أبي حاتم (ص64)، وذكر أن الواسطة بينهما هو القعقاع بن حكيم. وانظر "جامع التحصيل" (ص178). فالظاهر أن زيد بن أسلم أخذ هذا الحديث عن القعقاع بن حكيم، عن جدته رُمَيْثة، عن عائشة.
فقد أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/177 رقم7813)، والبخاري في "التاريخ الأوسط" (1/201)، والمزي في "تهذيب الكمال" (35/181)، أما ابن أبي شيبة فمن طريق محمد بن عجلان، وأما البخاري والمزي فمن طريق يعقوب بن عبدالله بن الأشجّ، كلاهما عن القعقاع: أن جدته رُمَيْثة بنت حكيم حدثته قالت: ركعت عائشة ثمان ركعات وقالت: يا أم حكيم! لو نُشر لي أبو بكر ما تركتهن، وقالت: ركعتين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . واللفظ للبخاري، وسنده صحيح.
وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا برقم (7810)، وإسحاق بن راهويه في "مسنده" (3/771 رقم1392)، والبخاري في الموضع السابق، وابن عبدالبر في"التمهيد" (8/144-145)، والمزي في "تهذيب الكمال" (35/180)، جميعهم من طريق سفيان بن عيينة، عن ابن المنكدر، عن ابن رميثة، عن أمه...، فذكره.
ورواه أبو بكر الشافعي في "الغيلانيات" (ص259 رقم730) طريق سعيد بن سلمة، عن محمد بن المنكدر، عن رميثة به، فأسقط من سنده: « ابن رميثة»، وتصحف فيه اسم «رميثة» إلى: «رقية»، وهو خطأ من المحقق، فقد أخرجه المزي في الموضع السابق من "تهذيب الكمال" من طريق «الغيلانات» على الصواب في اسم «رميثة».
وابن رميثة المبهم في هذا الإسناد يحتمل أن يكون القعقاع بن حكيم، ويحتمل أن يكون عاصم بن عمر بن قتادة.
فقد أخرج الحديث البخاري في الموضع السابق، وأبو يعلى في "مسنده" (8/81-82 رقم4612)، والنسائي في "الكبرى" (1/181 رقم482) في الصلاة، باب عدد صلاة الضحى في الحضر، ثلاثتهم من طريق يوسف بن الماجشون، عن أبيه، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن جدته رميثة، به.
وأخرجه الإمام أحمد في "المسند" (6/138) طريق وكيع بن الجراح، عن أبيه، عن سعيد بن مسروق، عن أبان بن صالح، عن أم حكيم، عن عائشة، به.
وأم حكيم هي رميثة.
(5) برقم (634) في باب الترغيب في قيام رمضان وليلة القدر وكيفية القيام.
(6) أخرجه البخاري (2/578 رقم 1103) في تقصير الصلاة، باب من تطوع في السفر في غير دبر الصلوات وقبلها، و(3/51 رقم1176) كتاب التهجد، باب صلاة الضحى في السفر، و(8/19 رقم4292) كتاب المغازي، باب منزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح، ومسلم (1/497، 498 رقم336) كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة الضحى، وتقدم في مسلم (1/265 رقم 336) في الحيض، باب تستر المغتسل بثوب ونحوه (وليس فيه صلاة الضحى).
(7) في (غ): «ثمان».
(8) في (ز) و(أ) و(ب) و(ح): «معاذ» وفي (غ): «معاة»، والمثبت هو الصواب؛ فالحديث ترويه معاذة العدوية عن عائشة؛ كما في حديث الباب رقم (595).
(9) في (غ): «أنه».
(10) في "مسنده" (9/335-336 رقم3890.طريق حسين بن عطاء، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر قال: قلت لأبي ذر: يا عماه! أوصني، قال: سألتني كما سألتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال...، فذكره. وسنده ضعيف جدًّا؛ فيه الحسين بن عطاء بن يسار؛ قال عنه أبو حاتم الرازي كما في "الجرح والتعديل" (3/62 رقم273): «شيخ منكر الحديث، وهو قليل الحديث، وما حدث فمنكر»، وذكر ابن حجر في "اللسان" (3/126) أن أبا داود قال: «ليس بشيء»، وأن ابن الجارود قال: «كذاب»، وذكره ابن حبان في "الثقات" (6/209) وقال: «يخطئ ويدلس»، وذكره في "المجروحين" (1/243-244)، وذكر له هذاالحديث، وقال: «يروي عن زيد بن أسلم المناكير التي ليست تشبه حديث الأثبات، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد؛ لمخالفته الأثبات في الروايات».
والحديث ذكره ابن أبي حاتم في "العلل" (1/134 رقم370) أنه سأل أباه عنه فقال: «ورواه موسى بن يعقوب الزمعي عن الصلت بن سالم، عن مولى ابن عمر - يعني زيد بن أسلم -، عن عبدالله بن عمرو، عن أبي الدرداء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ». قال ابن أبي حاتم: «قلت لأبي: أيهما أشبه؟ قال: جميعًا مضطربين، ليس لهما في الرواية معنى».
وأخرجه البيهقي في "سننه" (3/48-49). طريق إسماعيل بن رافع، عن إسماعيل بن عبيدالله، عن عبدالله بن عمر، قال: لقيت أبا ذر...، فذكره، وكان قد قال عنه: «في إسناده نظر»، وهو كذلك؛ فإنه من رواية إسماعيل بن رافع بن عويمر، وقد قال عنه الإمام أحمد وأبو حاتم والفلاس: «منكر الحديث»، وقال النسائي: «متروك الحديث»، وقال ابن عدي: «أحاديثه كلها مما فيه نظر، إلا أنه يكتب حديثه في جملة الضعفاء»، انظر "تهذيب الكمال" (3/86-89)، وفي "التقريب" (ص139 رقم446) قال ابن حجر: «ضعيف الحفظ»، وذكر الحديث في "التلخيص الحبير" (2/44) وضعفه، وذكر في "فتح الباري" (3/54) بعض شواهده وقال: « لكن إذا ضُمّ إليه حديث أبي ذر وأبي الدرداء قوي وصلح للاحتجاج به». وشاهداه إنما هما حديثا أبي الدرداء وأنس.
أما حديث أبي الدرداء فتقدم كلام أبي حاتم الرازي عنه.
وأما حديث أنس فإنما يشهد لجزئه الأخير، ولفظه: «من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصرًا من ذهب في الجنة ». أخرجه الترمذي (2/337رقم473) في الصلاة، باب ما جاء في صلاة الضحى، وابن ماجه (1/439 رقم1380) في إقامة الصلاة، باب ما جاء في صلاة الضحى، وضعفه الترمذي بقوله: «حديث أنس حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه».
قال الشيخ رحمه الله: هو من رواية محمد بن إسحاق، عن موسى بن أنس، عن عمه ثمامة بن أنس بن مالك، عن أنس.
وموسى بن أنس هذا - ويقال: موسى بن فلان بن أنس - مجهول؛ كما في "التقريب" (ص987 رقم7076).
(11) قوله: «لي» ليس في (ح).
(12) في (أ) و(ز) و (غ): «ثنتي عشرة ركعة»، وزيادة: «ركعة» ليس في (ب) و(ح)، ولا في "مسند البزار».
(13) أخرجه مسلم (1/516 رقم 748) في صلاة المسافرين، باب صلاة الأوابين حين ترمض الفصال.
(14) قوله: «من» ليس في (غ).
(15) في (غ): «إذا» بدل «أي».
(16) انظر الديوان بشرح وتحقيق علي ذو الفقار شاكر (ص91)، "الأغاني" (10/152)، وعجز البيت:
............................. ... وكم مثلها فارقتها وهي تَصْفِر(2/286)
فأبْتُ إلى فَهْمٍ وما كدت (1) آيبا ... ..................................
أي: رجعت. فمعنى الأوابين هنا، وفي قوله تعالى: {فإنه (2) كان للأوابين فورًا} (3) ؛ أي: الراجعين من الإساءة إلى الإحسان؛ على ما قاله قتادة. وقال مجاهد (4) : التائبون. وابن (5) عمر (6) : المستغفرون. وقال ابن عباس (7) : المسبحون، وكل ذلك متقارب. والفصال والفصلان: جمع فصيل، وهو الذي يفطم عن الرضاعة من الإبل. والرمضاء: شدة الحرّ في الأرض. وخص الفصلان هنا بالذكر؛ لأنها (8) هي التي ترمض قبل انتهاء شدة الحرّ التي ترمض بها (9) أمهاتها (10) ؛ لقلة جلدها، وذلك يكون في الضحى أو بعده بقليل، وهو الوقت المتوسط بين طلوع الشمس وزوالها.
**************
( 96 ) باب الوصية بالضحى وأقله ركعتان
311- وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ (11) قَالَ: أَوْصَانِي حَبِيبِي بِثَلاثٍ، أَنْ لا أَدَعَهُنَّ مَا عِشْتُ، بِصِيَامِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلاةِ الضُّحَى، وَبِأَنْ لا أَنَامَ حَتَّى أُوتِرَ.
312- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (12) قَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي - صلى الله عليه وسلم - بِثَلاثٍ. بِصِيَامِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَرْقُدَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الوصية بالضحى
وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي الدرداء وأبي هريرة رضي الله عنهما يدل (13) على فضيلة الضحى، وكثرة ثوابه وتأكده، ولذلك حافظا عليه (14) ولم يتركاه. وقد بينّا الخلة والخليل (15) في كتاب الإيمان. =(2/359)=@ &(2/287)&$
__________
(1) في (ز): «كذب».
(2) في جميع وانظر النسخ: «إنه».
(3) سورة الإسراء، الآية: 25.
(4) أخرجه ابن جرير في "تفسيره" (17/424). طريق ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله جل ثناؤه {للأوابين غفورًا }، قال: الأوابين: الراجعون التائبون.
وسنده صحيح.
(5) في (ز): «ابن عمر».
(6) لم أجد من أخرجه.
(7) أخرجه ابن جرير(17/422.طريق أبي كُدَينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -{فإنه كان للأوابين غفورًا }-، قال: المسبحين.
وفي سنده عطاء بن السائب وقد اختلط، ولم أجد من ذكر أبا كدينة يحيى بن المهلب فيمن روى عنه قبل الاختلاط.
(8) في (ح) و(غ): «فيها».
(9) في (ز): «لأنه».
(10) قوله: «أمهاتها» غير واضحة في (ز).
(11) أخرجه مسلم (1/499 رقم 722) في صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة الضحى. ...
(12) أخرجه البخاري (3/56 رقم1178) كتاب التهجد، باب صلاة الضحى في الحضر، و(4/226 رقم198) كتاب الصوم، باب صيام البيض، مسلم (1/499 رقم721) كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة الضحى.
(13) في (غ): «تدل».
(14) في (أ): «عليها».
(15) في (ح) و(ز): «الخليل والخلة».(2/287)
وقد عاب بعض الطاعنين على أبي هريرة قوله: «خَلِيلِي»، في النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ بناءً منه على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتخذه ولا أحدًا من الخلق خليلاً، وهذا إنما وقع فيه قائله ظانًّا (1) أن خليلاً (2) بمعنى مخالل، من المخاللة التي لا تكون إلا بين (3) اثنين، وليس الأمر كذلك، فإن خليلاً (4) مثل حبيب، لا يلزم فيه من المفاعلة شيء؛ إذ قد يُحَبُّ الكاره.
وقوله: «رَكْعَتَيِ (5) الضُّحَى»: يشعر بأن أقلَّه ركعتان، وسيأتي الكلام على الوتر.
313- وعَنْ أَبِي ذَرٍّ (6) عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ»؛ أصل السُّلامى - بضم السين-: عظام (7) الأصابع والأكُفّ والأرجل، ثم استعمل في سائر عظام الجسد ومفاصله. وفي حديث عائشة رضي الله عنها (8) : «خُلِقَ الإنسان على ستين وثلاثمائة مفصل »، ففي (9) كل مفصل صدقة، وسيأتي. =(2/360)=@
وقوله: «ويُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ»؛ أي: يكفي من هذه الصدقات عن هذه الأعضاء ركعتان، فإن الصلاة عمل لجميع أعضاء الجسد، فإذا صلى فقد قام كل عضو بوظيفته التي عليه (10) في الأصل الذي ذُكر (11) فيه (12) الحديث المتقدم. &(2/288)&$
__________
(1) في (ح) و(ز): «ظنًّا».
(2) في (ح) و(ز): «خليل».
(3) في (ب): «من» بدل: «بين».
(4) في (ح): «خليل».
(5) في (ز): «وركعتي» وفي (غ): «وركعتا».
(6) أخرجه مسلم (1/498-499 رقم 720) في صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة الضحى.
(7) في (أ) و(ب) و(ج) و(غ): «عظائم».
(8) الآتي برقم (867) في كتاب الزكاة، باب أعمال البر صدقات.
(9) في (أ) و(غ): «وفي».
(10) في (غ): «عليها».
(11) في (ب): «ذكره».
(12) في (غ): «في».(2/288)
***************
(97) باب ما جاء في ركعتي الفجر
314- عَنْ حَفْصَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ (1) قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ لا يُصَلِّي إِلا رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ما جاء في ركعتي الفجر
قول حفصة رضي الله عنها: «كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ لا يُصَلِّي إِلا رَكْعَتَيْن»: ظاهره: أنه لا يجوز في هذا الوقت نافلة إلا ركعتي الفجر. وقد روى الترمذي (2) حديثًا عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله (3) - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا صلاة بعد الفجر إلا =(2/361)=@ سجدتين ». قال: «حديت غريب، وهو ما أجمع عليه أهل العلم؛ كرهوا أن يصلي الرجل بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر».
قال الشيخ رحمه الله: وهذا الإجماع الذي حكاه الترمذي إنما هو على كراهة التنفل (4) المبتدأ، وأما ما كان منه بحسب سبب؛ فقد ذكرنا الخلاف فيه في باب: تحية المسجد.
وتخفيفه - صلى الله عليه وسلم - في ركعتي الفجر إنما كان لمبادرته إلى إيقاع صلاة الصبح في أول وقتها، والله أعلم.
315- وعَنْ عَائِشَةَ (5) أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، فَيُخَفِّفُ حَتَّى إِنِّي أَقُولُ: هَلْ قَرَأَ فِيهِا بِأُمِّ الْقُرْآنِ !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول عائشة رضي الله عنها: «إنه كان يخففهما حَتَّى إِنِّي أَقُولُ: هَلْ قَرَأَ فِيهِما (6) بِأُمِّ الْقُرْآنِ؟»: ليس معنى هذا أنها شكّت في قراءته - صلى الله عليه وسلم - فيها بأمّ القرآن؛ لأنه قد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن » (7) ، وإنما معنى ذلك: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان في غيرها من النوافل يقرأ بالسورة، ويرتِّلُها حتى تكون أطول (8) من أطول منها (9) ، بخلاف فعله في هذه، فإنه كان يخفف أفعالها وقراءتها؛ حتى إذا نُسبت إلى قراءته &(2/289)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (2/101 رقم 618) في الأذان، باب الأذان بعد الفجر، و(3/50 رقم1173) كتاب التهجد، باب التطوع بعد المكتوبة، و(3/58 رقم1181) كتاب التهجد، باب الركعتان قبل الظهر، ومسلم (1/500 رقم 723) في صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتي سنة الفجر.
(2) في "جامعه" (2/278-280 رقم419) في الصلاة، باب ما جاء لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتين، من طريق عبدالعزيز بن محمد الدراوَرْدي، عن قدامة بن موسى، عن محمد بن الحصين، عن أبي علقمة، عن يسار مولى ابن عمر، عن ابن عمر، به.
ومن هذا الوجه أخرجه الدارقطني في "سننه" (1/419)، والبيهقي (2/465)، وأخرجه ابن ماجه مختصرًا (1/86 رقم235) في المقدمة، باب من بلغ علمًا .
وقد ضعفه الترمذي بقوله: «حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث قدامة بن موسى».
وأخرجه أحمد (2/104)، وأبو داود (2/58 رقم1278) في الصلاة، باب من رخص فيهما إذا كانت الشمس مرتفعة، وأبو يعلى (9/460 رقم5608)، والدارقطني والبيهقي في الموضعين السابقين، جميعهم من طريق وهيب بن خالد، عن قدامة بن موسى، عن أيوب بن حصين، عن أبي علقمة، عن يسار مولى ابن عمر قال: رآني ابن عمر وأنا أصلي بعد ما طلع الفجر، فقال: يا يسار! كم صليت؟ قال الشيخ رحمه الله: لا أدري! قال: لا دريت! إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج علينا ونحن نصلي هذه الصلاة، فقال: « ألا ليبلغ شاهدكم غائبكم: أن لا صلاة بعد الصبح إلا سجدتان ».
وأخرجه البيهقي (2/465). طريق عبدالله بن وهب، عن سليمان بن بلال، عن أيوب بن حصين، به. وقال: «أقام إسناده عبدالله بن وهب، عن سليمان بن بلال، ورواه أبو بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال فخلَّط في إسناده، والصحيح رواية ابن وهب، فقد رواه وهيب بن خالد، عن قدامة، عن أيوب بن حصين التميمي، عن أبي علقمة مولى ابن عباس، عن يسار مولى ابن عمر، نحوه». اهـ.
فالبيهقي هنا رجّح أن الصواب: «أيوب بن حصين»، وهذا الذي رجحه الدارقطني؛ كما في "نصب الراية" (1/256)، وعكس ذلك ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (7/235)؛ فقال: «ومحمد أصح». قال الشيخ ناصر الدين الألباني في "الإرواء" (2/234): «وسواء كان هذا أو ذاك، فالرجل مجهول، ولعله لذلك استغربه الترمذي». اهـ.
وقد بسط البخاري في "تاريخه" (1/61-62) و(8/421) الاختلاف في إسناد هذا الحديث، فانظره إن شئت.
وللحديث طرق أخرى عن ابن عمر، ولكنها واهية، فلذلك أعرضت عن ذكرها، وقد أوردها الشيخ الألباني رحمه الله في "الإرواء" (2/232-236)، وأورد له بعض الشواهد التي أعرضت عنها أيضًا للسبب نفسه، عدا حديث عبدالله بن عمرو بن العاص فإسناده أحسن ما في الباب. وهو ما أخرجه عبدالرزاق في "المصنف" (3/53 رقم4757)، وابن أبي شيبة (2/137 رقم 7367)، والبزار (1/338 رقم703/كشف الأستار)، والدارقطني (1/419)، والبيهقي (2/465)، جميعهم من طريق عبدالرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، عن عبدالله بن يزيد، عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر ».
وسنده ضعيف لضعف عبدالرحمن بن زياد؛ مع كونه رجلاً صالحًا؛ كما في "التقريب" (ص578 رقم3887).
(3) في (ز): «النبي».
(4) في (غ): «النفل».
(5) أخرجه البخاري (3/46 رقم 1171) في التهجد، باب ما يقرأ في ركعتي الفجر، ومسلم (1/501 رقم 724) في صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتي سنة الفجر ...
(6) في (غ): «فيها».
(7) تقدم برقم (304) في الصلاة، باب ما جاء في القراءة في الصلاة.
(8) قوله: «أطول» ليس في (ح).
(9) سيأتي برقم(611) في الصلاة، باب صلاة النفل قائمًا وقاعدًا.(2/289)
في غيرها كانت كأنها (1) لم يقرأ فيها. وقد دلّ على صحة هذا ما في (2) حديث أبي هريرة: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان (3) يقرأ فيهما (4) بـ: {قل يا أيها الكافرون} و{قل هو الله أحد}، وهذا بعد قراءة الفاتحة في الركعتين قبل السورتين، على ما قد تبيّن اشتراطه في الصلاة كما تقدم، وعلى هذا يحمل حديث ابن عباس (5) : أنه كان يقرأ فيهما بقوله (6) : {قولوا آمنّا بالله (7) } (8) ، وبقوله (9) : {تعالوا إلى كلمة} (10) : أنه =(2/362)=@ كان يقرأ ذلك بعد الفاتحة، وما ذكرناه هو الظاهر من مجموع الأحاديث، وهو اختيار جمهور أصحاب مالك؛ استحبوا أن يقرأ فيهما (11) بأم القرآن في كل ركعة منهما (12) ، و {قل يا أيها الكافرون}، في الأولى، و{قل هو الله أحد} في الآخرة، وهو قول الشافعي وأحمد، واستحب مالك الاقتصار (13) على أم القرآن (14) على ظاهر حديث عائشة رضي الله عنها. وذهب قوم إلى أنه لا يقرأ فيهما بالجملة الكافية؛ حكاه الطحاوي وذهب النخعي إلى جواز إطالة القراءة فيهما، واختاره الطحاوي. وذهب الثوري والحسن وأبو حنيفة إلى أنه يجوز لمن فاته حزبه من الليل أن يقرأه فيهما.
316- وعَنْهَا (15) : أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ أَشَدَّ مُعَاهَدَةً مِنْهُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ.
317- وعَنْهَا (16) ، عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «لَهُمَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا ».
318- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (17) : أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَ {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ}.
319- وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ (18) : أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، فِي الأُولَى مِنْهُمَا: {قُولُوا آمَنَّا بِالله وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} (19) الآيَةَ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ وَفِي الآخِرَةِ مِنْهُمَا: {آمَنَّا بِالله وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (20) .
وَفِي رِوَايَةٍ: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (21) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول عائشة رضي الله عنها: «لَمْ يَكُنْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ أَشَدَّ مُعَاهَدَةً مِنْهُ (22) عَلَى رَكْعَتَيْنِ &(2/290)&$
__________
(1) في (غ): «كأنه».
(2) قوله: «ما في» ليس في (ب).
(3) في (ب): «أنه كان - صلى الله عليه وسلم - ».
(4) في (أ) و(غ): «فيها».
(5) وهو الآتي قريبًا برقم (604).
(6) في (ز): بقوله تعالى...
(7) قوله: «بالله» ليس في (أ).
(8) سورة البقرة، الآية: 136.
(9) في (ز): بقوله تعالى...
(10) سورة آل عمران، الآية: 64.
(11) في (أ) و(غ): «فيها».
(12) في (أ): «منها».
(14) قوله: «على أم القرآن» ليس في (غ)
(15) أخرجه البخاري (3/45 رقم 1169) في التهجد، باب تعاهد ركعتي الفجر ومن سماها تطوعًا، ومسلم (1/501 رقم 724) في صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتي سنة الفجر ... .
(16) أخرجه مسلم (1/501 رقم 725) في صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتي سنة الفجر....
(17) أخرجه مسلم (1/502 رقم 726) في صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتي الفجر ... .
(18) أخرجه مسلم (1/502 رقم 727) في الكتاب والباب السابقين.
(19) سورة البقرة، الآية: 136.
(20) سورة آل عمران، الآية: 52.
(21) سورة آل عمران، الآية: 64.
(22) قوله: «منه» تكررت في (ز).(2/290)
قَبْلَ الصُّبْحِ»: استدل بهذا من قال: إنهما (1) سنة (2) ، وهو قول كافة العلماء وأكثر (3) =(2/363)=@ أصحاب مالك، وروي عن (4) بعضهم أنها (5) من الرغائب، وهو القول الآخر عن مالك. وذهب الحسن إلى وجوبهما، وهو شاذّ لا أصل له، والله تعالى أعلم.
**************
( 98 ) باب رواتب الفرائض وفضلها
320- عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ (6) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وفي رواية «تَطَوُعًا غَيرَ فَرِيضَةٍ بُنِيَ لَهُ ِبهْنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ ». قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب رواتب الفرائض
وقع في كتاب مسلم حديث أم حبيبة لم يعيِّن فيه الثِّنْتَيْ (7) عشرة ركعة ولا عددها، وقد ذكر النسائي (8) عن أم حبيبة هذا الحديث مرفوعًا، وعيَّن فيه =(2/364)=@ الركعات وعددها؛ فقال: «أربع ركعات قبل الظهر، وركعتين بعد الظهر (9) ، وركعتين قبل العصر، وركعتين بعد (10) المغرب، وركعتين قبل صلاة الصبح (11) »)، وهو صحيح. واختلف العلماء: هل للفرائض رواتب مسنونة، أو ليس لها؟ فذهب الجمهور &(2/291)&$
__________
(1) في (ز) و(غ): «إنها».
(2) في (ح): «من رأى أنها سنة».
(3) في (ب) و(ز) و(غ): «وكبراء» بدل: «وأكثر».
(4) قوله: «عن» ليس في (ح) و(ز).
(5) في (ز): «أنهما».
(6) أخرجه مسلم (1/503 رقم 728) في صلاة المسافرين، باب فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن.
(7) في (غ): «اثنتي».
(8) في "سننه" (3/262 رقم1801) في قيام الليل وتطوع النهار، باب ثواب من صلى في اليوم والليلة ثنتي عشرة ركعة، من طريق محمد بن عجلان، عن أبي إسحاق السبيعي الهمداني، عن عمرو بن أوس، عن عنبسة بن أبي سفيان، عن أم حبيبة رضي الله عنها، به.
ومن طريق ابن عجلان أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (2/204-205 رقم1188)، والطبراني في "الكبير" (23/230 رقم432، 433). والحديث بهذه الزيادة ضعيف، فمداره على أبي إسحاق السبيعي، واختُلف عليه. فرواه محمد بن عجلان عنه بالإسناد واللفظ المتقدمين. وخالفه سهيل بن أبي صالح وزهير بن معاوية وسفيان الثوري، فرووه عن أبي إسحاق، عن المسيب بن رافع، عن عنبسة، عن أم حبيبة، على اختلاف فيما بينهم.
أما رواية سهيل: فأخرجها البخاري في "التاريخ الكبير" (1/99)، والنسائي في الموضع السابق برقم (1802)، وابن خزيمة برقم (1189)، ثلاثتهم من طريق فليح بن سليمان، عن سهيل، عن أبي إسحاق، عن المسيب، عن عنبسة، عن أم حبيبة، بنحوه بتمامه، إلا أن البخاري لم يسق لفظه. قال النسائي: فليح بن سليمان ليس بالقوي».
وأما رواية زهير: فأخرجها البخاري في "التاريخ" أيضًا(7/37)، والنسائي برقم (1803)، كلاهما من طريق أبي نعيم الفضل بن دكين، عن زهير، عن أبي إسحاق، عن المسيب، عن عنبسة، عن أم حبيبة، به، إلا أن النسائي رواه موقوفًا على أم حبيبة، وأما البخاري فعلقه عن أبي نعيم، وذكره مرفوعًا، وأحال لفظه على لفظ مختصر.
وأما رواية سفيان الثوري: فأخرجها الترمذي في "جامعه" (2/274 رقم415) في الصلاة، باب فيمن صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة، والطبراني في "الكبير" (23/231 رقم435)، كلاهما من طريق مؤمَّل بن إسماعيل، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن المسيب، عن عنبسة، عن أم حبيبة به مرفوعًا، إلا أنه قال: «وركعتين بعد العشاء» بدل: «وركعتين قبل العصر». قال الترمذي: «وحديث عنبسة عن أم حبيبة في هذا الباب حديث حسن صحيح، وقد روي عن عنبسة من غير وجه».
والحديث تفرد به مؤمَّل عن سفيان، ولم أجد من تابعه عليه، ومؤمل سيء الحفظ مع كونه صدوقًا؛ كما في "تقريب التهذيب" (ص987 رقم7078). واعلم أن حديث أم حبيبة هذا قد روي من طرق متعددة أغلبها معلول، وقد عرض لعلله والاختلاف فيه البخاري في "تاريخه" (1/99)، و(3/141-142)، و(7/36-37)، وابن أبي حاتم في "العلل" (1/144 و171)، والنسائي في "سننه" (3/260-266)، وأحسن طرقه ما انتقاه مسلم رحمه الله، وهي طريق النعمان بن سالم، عن عمرو بن أوس، عن عنبسة، عن أم حبيبة مرفوعًا، به مختصرًا لم يذكر فيه النعمان بن سالم تعيينًا للركعات، ولا بيانًا لعددها، وهو حديث الباب، وخالفه أبو إسحاق كما سبق فذكر ذلك، ولكن بعض الاختلاف السابق على أبي إسحاق يشعر بعدم ضبطه هو أو الرواة عنه لهذا الحديث، هذا مع ما يضاف لذلك من أن طرق الحديث الأخرى عن عنبسة لم ترد فيها هذه الزيادة عدا طريقين:
الطريق الأولى: ما أخرجه النسائي في الموضع السابق (3/260-261 رقم1794) من طريق مغيرة بن زياد، عن عطاء، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من ثابر على اثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة دخل الجنة: أربعًا قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر ».
وهذه رواية معلولة، فقد قال الإمام أحمد - كما في "العلل" لابنه (1/404 رقم835)-: «وروي عن عطاء، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : «من صلى في يوم ثنتي عشرة ركعة»، وهذا يروونه عن عطاء، عن عنبسة، عن أم حبيبة».
فالإمام أحمد رحمه الله يشير إلى وجود اختلاف على عطاء في هذا الحديث، وهو كذلك.
فقد رواه عن عطاء كل من: ابن جريج، ومعقل بن عبدالله، وابن لهيعة، وخالد بن يزيد، ومحمد بن سعيد الطائفي، وأبي يونس القشيري، على اختلاف فيما بينهم في سنده، وأما متنه فلم يذكر فيه أحد تلك الزيادة التي ذكرها مغيرة بن زياد.
أما رواية ابن جريج: فقد أخرجها النسائي برقم (1797) من طريق حجاج بن محمد، عنه؛ قال: قلت لعطاء: بلغني أنك تركع قبل الجمعة اثنتي عشرة ركعة، ما بلغك في ذلك؟ قال أخبرت أن أم حبيبة حدثت عنبسة بن أبي سفيان: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من ركع اثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة سوى المكتوبة؛ بنى الله عز وجل له بيتًا في الجنة».
وهذه الرواية تُعِلّ - ولا شك- رواية مغيرة بن زياد في تعيين تلك الركعات.
وقد وافق ابن جريج على روايته هكذا: معقل بن عبيدالله عند النسائي أيضًا برقم (1796)، والطبراني في "الكبير" (23/237 رقم461) بذكر المرفوع فقط، دون سؤال أحد لعطاء عن صلاته. وأخرجه النسائي أيضًا برقم (1798) من طريق زيد بن حبان، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عنبسة، عن أم حبيبة، به بذكر المرفوع فقط كسابقه، ثم قال النسائي: " عطاء لم يسمعه من عنبسة».
وأخرجه الطبراني أيضًا (23/232و237 رقم439و440و460) من طريق عبدالله بن لهيعة وخالد بن يزيد، كلاهما عن عطاء، عن عنبسة، به مثل سابقه.
فتبين بهذا أن الصواب موافقة رواية عطاء هذه لرواية النعمان بن سالم، عن عمرو بن أوس، عن عنبسة عن أم حبيبة التي أخرجها مسلم، ومع ذلك فهي معلولة بعدم سماع عطاء لها من عنبسة. وقد رواه عن عطاء أيضًا محمد بن سعيد الطائفي وأبو يونس القشيري على وجهين مخالفين لما سبق عن عطاء، وهما معلولان.
أما محمد بن سعيد الطائفي: فأخرج روايته النسائي برقم (1799) من طريق زيد بن الحباب، عنه، عن عطاء، عن يعلى بن أمية، عن عنبسة، عن أم حبيبة، به مرفوعًا مثل سابقه، وفيه ذكر لقصة دخول يعلى على عنبسة بالطائف عند موته، فحدثه بالحديث.
وأخرجه الطبراني أيضًا في "الكبير" (23/234 رقم448) من طريق عبدالله بن رجاء، عن محمد بن سعيد الطائفي هذا، فذكره، إلا أنه قال: «صفوان بن يعلى بن أمية» بدل: «يعلى بن أمية».
ومحمد بن سعيد الطائفي، قال: المؤذن ذكر ابن حجر في "التقريب" (ص848 رقم5953) أنه صدوق، لكنه لا يحتمل مثل هذه المخالفة، وقد جاء في "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (7/264 رقم1437): «محمد بن سعيد المؤذن، روى عن عبدالله بن عنبسة، عن أم حبيبة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حافظ على أربع قبل الظهر بنى الله عز وجل له بيتًا في الجنة...»، ثم ذكر عن أبيه أنه قال: «روى شيخ طائفي يقال له: محمد بن سعيد، فإن أراد ذلك فهو هو، وإلا فإني لا أعرفه وهو مجهول، والطائفي يحدث بهذا الحديث عن عطاء بن أبي رباح، عن عنبسة، عن أم حبيبة».
فهذا فيه إشعار بمزيد علة لهذا الحديث؛ مع مافيه من الاختلاف بين زيد بن الحباب وعبدالله بن رجاء في تسمية شيخ عطاء، وزيد وعبدالله متكلم في حفظهما.
وأما أبو يونس القشيري: فأخرج روايته النسائي برقم (1800) عن عطاء بن أبي رباح، عن شهر بن حوشب، عن أم حبيبة، به موقوفًا عليها.
ورواية أبو يونس هذه شاذة لمخالفتها باقي الروايات عن عطاء؛ وذلك في وقفه، وجعله من رواية عطاء عن شهر، والله أعلم.
الطريق الثانية: أخرجها الطبراني في "الكبير" (23/231-232 رقم438) من طريق عبدالله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن عمر بن السائب، عن أسامة بن زيد، عن عبدالله بن عبدالرحمن الجفري، عن عنبسة بن أبي سفيان، عن أم حبيبة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صلى في يوم اثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتًا في الجنة: أربع ركعات قبل الظهر، وركعتين بعد الظهر، وركعتين قبل العصر، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء »، كذا ذكر العصر والعشاء، ولم يذكر الفجر.
وعبدالله بن عبدالرحمن الجفري هذا لم أجده، وأسامة بن زيد متكلم في حفظه، فلا يحتمل تفرده بمثل هذا، لكن أخشى أن يكون البلاء من عبدالله بن صالح كاتب الليث، وأن يكون هذا الحديث مما أدخله جاره الذي كان يدخل عليه بعض الأحاديث فيحدث بها كما في ترجمته من "المجروحين" لابن حبان (2/40).
فتبين بهذا أنه ليس للحديث طريق سالمة من العلل يعتمد عليها في تصحيحه، إلا أن تعيين الركعات وعددها يستدل على صحته بحديثي ابن عمر وعائشة في الباب؛ فإنهما بمجموعهما يدلان على: أربع قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر، فهذه اثنتا عشرة ركعة، والله أعلم.
(9) قوله: «ركعتين بعد الظهر» سقط من (غ).
(10) قوله: «الركعات وعددها فقال...» إلى هنا ليس في (ح).
(11) في (غ): «وركعتين قبل صلاة الصبح وركعتين بعد المغرب».(2/291)
إلى الأخذ بحديث أم حبيبة، وبما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من فعله لهذه النوافل، على ما (1) ذُكر عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما في هذا الباب، فقالوا: هي سنة مع الفرائض. وذهب مالك في المشهور عنه إلى أنه لا رواتب في ذلك ولا توقيت، عدا ركعتي الفجر، وقد تقدم ذكرها حمايةً للفرائض (2) ، ولا يمنع من تطوع بما شاء (3) إذا أمن ذلك. وذهب العراقيون من أصحابنا إلى استحباب الركوع بعد الظهر، وقبل العصر، وبعد المغرب. وقد تقدم أن أهل الحجاز يسمون الركعة: سجدة.
321- وعَنِ ابْنِ عُمَرَ (4) قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَبْلَ الظُّهْرِ سَجْدَتَيْنِ، وَبَعْدَهَا سَجْدَتَيْنِ، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ سَجْدَتَيْنِ، وَبَعْدَ الْعِشَاءِ سَجْدَتَيْنِ، وَبَعْدَ الْجُمُعَةِ سَجْدَتَيْنِ. فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَالْجُمُعَةُ فَصَلَّيْتُ مَعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فِي بَيْتِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول ابن عمر: «فَأَمَّا الْمَغْرِبُ (5) وَالْعِشَاءُ وَالْجُمُعَةُ فَصَلَّيْتُ (6) مَعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فِي بَيْتِهِ»: يدلّ على أنه كان يصلي بعض النوافل في المسجد، مع أنه قد قال (7) : =(2/365)=@ «خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة » (8) ، وهذا مقتضى حديث عائشة رضي الله عنها؛ فإنها ذكرت فيه أنه صلى ذلك كله في بيته إلا الفرائض خاصة؛ فإنه كان يصليها في المسجد، وعلى هذا فالأصل في أفضلية (9) التطوع أن يكون في البيت، وإيقاعها (10) في المسجد لمقتضٍ لذلك (11) وعارضٍ؛ مثل تشويشٍ في البيت، أو ليسر (12) في المسجد ونشاط وما شاكل ذلك. وقد كره النوافل في المسجد النخعي وعَبِيدة (13) ، وعُلِّل ذلك لهما بالحماية (14) للفرائض، وبأن لا يخلي بيته من الصلاة، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - : «خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ». وذهب بعضهم إلى (15) كونها في المسجد أجمع، وحُكي عن مالك والثوري أنهما ذهبا إلى كونهما في المسجد نهارًا وبالليل في البيت.
قال الشيخ رحمه الله: وكأن هذا قول بمقتضى حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وأما بعد الجمعة: فذهب مالك وأصحابه إلى أن الأفضل للإمام ألا يتنفل بأثرها في المسجد، ووسّع في ذلك للمأموم، واختار الشافعي والكوفيون الركوع (16) بعد الجمعة ستًّا أو أربعًا. وقال الشافعي: ما كثر فهو أحب إليَّ، وسيأتي الكلام في ركعتي العصر وقبل المغرب. &(2/292)&$
__________
(1) في (ز): «عمّا» بدل «على ما».
(2) في (أ): «حكاية الفرائض».
(3) في (ح): «ما شاء».
(4) أخرجه البخاري (2/425 رقم937) كتاب الجمعة، باب الصلاة بعد الجمعة وقبلها، و(3/48 رقم1165) كتاب التهجد، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، و(3/50 رقم1172) كتاب التهجد، باب التطوع بعد المكتوبة، و(3/58 رقم1180) كتاب التهجد، باب الركعتان قبل الظهر، ومسلم (1/504 رقم 729) في صلاة المسافرين، باب فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن.
(5) من قوله: «وقد تقدم أن أهل الحجاز... إلى هنا» سقط من (غ).
(6) في (غ): «قوله فصليت».
(7) قوله: «قد قال» سقط من (ز).
(8) سيأتي في الصلاة، باب أفضل النوافل ما صلّي في البيت.
(9) في (غ): «فضيلة».
(10) في (ح) و(ز): «وإيقاعه».
(11) في (ح) و(ز): «بذلك».
(12) في (غ): «لسير».
(13) في (أ) و(غ): «وغيره».
(14) في (غ): «يالحماية».
(15) في (ح): «أن».
(16) قوله: «الركوع» ليس في (ح).(2/292)
قال الشيخ رحمه الله: والحاصل من الأحاديث استحباب الرتبة على نوافل (1) حديث أم [حبيبة] (2) - الذي ذكرناه - في البيت؛ كما في حديث عائشة رضي الله عنها، فإن (3) هذه النوافل يجبر بها نقص إن وقع في الفرائض؛ على ما رواه الترمذي (4) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته (5) ، فإذا (6) صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتَقَصَ من فريضته شيء قال الرب تبارك وتعالى: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمَّلُ بها ما انتَقَصَ =(2/366)=@ من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك »، والله أعلم (7) .
322- وعَنْ عَبْدِ الله بْنِ شَقِيقٍ (8) قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صَلاةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، عَنْ تَطَوُّعِهِ؟ فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ. وَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَيُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعِشَاءَ، وَيَدْخُلُ بَيْتِي فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ تِسْعَ رَكَعَاتٍ فِيهِنَّ الْوِتْرُ. وَكَانَ يُصَلِّي لَيْلاً طَوِيلاً قَائِمًا، وَلَيْلاً طَوِيلاً قَاعِدًا، وَكَانَ إِذَا قَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَائِمٌ وَإِذَا قَرَأَ قَاعِدًا رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَكَانَ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقولها (9) : «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي تسع ركعات فيهن الوتر»: هو مثل (10) حديث سعد بن هشام (11) قالت (12) : «كان يصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة، ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة»، وهذا مخالف لما يأتي (13) بعد هذا من قولها: «إنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي إحدى عشرة ركعة (14) ، يسلم من (15) كل ركعتين، ويوتر بواحدة»، ولِما قالت (16) : «إنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي (17) ثلاث عشرة ركعة (18) ، يوتر من ذلك بخمس، لا يجلس في شيء(8) إلا في آخرها»، ولقولها (19) : «كان يصلي ثلاث عشرة ركعة بركعتي الفجر»، ولقولها (20) : «يصلي أربعًا فلا تَسَلْ عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا كذلك، ثم يصلي ثلاثًا»، ولقولها (21) (22) : «إنه كان يوتر بسبع»، وقد أشكلت هذه الأحاديث على كثير من العلماء، حتى إن بعضهم نسبوا حديث عائشة رضي الله عنها في صلاة الليل إلى الاضطراب، وهذا إنما كان يصح لو كان الراوي عنها واحدًا، أو (23) أخبرت عن وقت واحد، والصحيح: أن كل ما ذكرته صحيح من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في أوقات متعددة، وأحوال مختلفة، حسب النشاط واليُسْر (24) ، وليبيِّن أن كل &(2/293)&$
__________
(1) في (ح): «النوافل».
(2) في (أ): «هانئ».
(3) في (ب): «بأن» بدل: «فإن».
(4) في "جامعه" (2/269-272 رقم413) في الصلاة، باب ما جاء أن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، من طريق همام، قال: حدثني قتادة، عن الحسن، عن حُرَيث بن قبيصة، قال: قدمت المدينة فقال الشيخ رحمه الله: اللهم! يسِّر لي جليسًا صالحًا، قال: فجلست إلى أبي هريرة فقال الشيخ رحمه الله: إني سألت الله أن يرزقني جليسًا صالحًا، فحدِّثني بحديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلّ الله أن ينفعني به، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول...، فذكره.
قال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن غريب من هذا الوجه. وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه عن أبي هريرة. وقد روى بعض أصحاب الحسن، عن الحسن، عن قبيصة بن حريث غير هذا الحديث، والمشهور هو قبيصة بن حريث. وروي عن أنس بن حكيم، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا».
قال الشيخ رحمه الله: الترمذي يشير بكلامه هذا إلى وجود اختلاف في الحديث، وهو اختلاف شديد على الحسن البصري والرواة عنه. فقد روي عن الحسن البصري مرسلاً، وروي عنه، عن أبي هريرة بلا واسطة، وروي عنه بذكر الواسطة بينه وبين أبي هريرة، ولكن اختُلف فيها، فمنهم من يجعل الواسطة حريث بن قبيصة، ومنهم من يقول: قبيصة بن حريث، ومنهم من يجعل الواسطة أنس بن حكيم، ومنهم من يجعلها أبا رافع، ومنهم من يجعلها رجلاً من بني سليط، ومنهم من يجعلها: رجلاً من أهل البصرة، ومنهم من لا ينسبه؛ فيقول: «رجل»، ومنهم من يجعلها صعصعة بن معاوية، ومنهم من يرفعه، ومنهم يقفه على أبي هريرة، إلى غير ذلك من الاختلاف الذي تجده مبسوطًا في "التاريخ الكبير" (2/33-35) و"العلل" للدارقطني (8/244-248 رقم1551)، و"بيان الوهم والإيهام" لابن القطان (4/133-136)، و"تحفة الأشراف" (9/298-299). ولكثرة هذا الاختلاف حكم عليه المزي بالاضطراب، فقال في "تهذيب الكمال" (3/346): «وهو حديث مضطرب، منهم من رفعه، ومنهم من شك في رفعه، ومنهم من وقفه، ومنهم من قال: عن الحسن، عن رجل من بني سليط، عن أبي هريرة، ومنهم من قال: عن الحسن، عن أبي هريرة». وتابعه الحافظ ابن حجر في "التهذيب" (1/189). ولما ذكر ابن القطان الاختلاف فيه على الحسن، قال في "بيان الوهم" (4/136): «فهذه عن الحسن خمسة أقوال وما منها شيء يصح».
وقد رجح أبو زرعة والدارقطني رواية من رواه عن الحسن، عن أنس بن حكيم، عن أبي هريرة، فنقل ابن أبي حاتم في "العلل" (1/152) أن أبا زرعة سئل عن هذا الحديث فقال: «الصحيح عن الحسن، عن أنس بن حكيم، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ».
وقال الدارقطني في الموضع السابق من "العلل": «وأشبهها بالصواب قول من قال: عن الحسن، عن أنس بن حكيم، عن أبي هريرة». وهذا ما رجحه البيهقي؛ حيث أخرج الحديث في "السنن" (2/386.طريق الحسن، عن أنس بن حكيم، وعن رجل من بني سليط، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال: «هذا حديث قد اختلف فيه الحسن من أوجه كثيرة، وما ذكرنا أصحها إن شاء الله تعالى».
وهذه الطريق أخرجها الإمام أحمد في "المسند" (2/425)، والبخاري في "تاريخه" (2/34)، وأبو داود في "سننه" (1/540-541 رقم864) في الصلاة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «كل صلاة لا يتمها صاحبها تتم من تطوعه »، والحاكم (1/262)، جميعهم من طريق يونس بن عبيد، عن الحسن، عن أنس بن حكيم؛ أنه خاف من زياد - أو ابن زياد -، فأتى المدينة، فلقي أبا هريرة، قال: فنسبني، فانتسبت له، فقال: يا فتى! ألا أحدثك حديثًا؟ قال: قال الشيخ رحمه الله: بلى رحمك الله! - قال يونس: وأحسبه ذكره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال: «إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم: الصلاة... ». الحديث. قال الحاكم: «صحيح الإسناد»، ووافقه الذهبي. وسنده ضعيف؛ فأنس بن حكيم هذا مجهول. قال المزي في الموضع السابق من "تهذيب الكمال": «وهو أحد المجهولين الذين ذكر علي بن المديني أن الحسن روى عنهم»، وقال ابن القطان في "بيان الوهم" (4/135): «مجهول». ومع هذا فقد كان يونس يشك في رفعه كما تقدم، وانظر "العلل" للدارقطني (8/245-246).
وترجيح الأئمة السابق ذكرهم لهذا الطريق لا يعني الحكم بصحتها كما هو معلوم، وإنما لبيان الراجح من الروايات عن الحسن.
وقد تابع علي بن زيد بن جدعان الحسن على ذلك، ولكنها متابعة معلولة. فقد أخرجه الإمام أحمد (2/290)، وابن ماجه (1/458 رقم1425) في إقامة الصلاة، باب ما جاء في أول ما يحاسب به العبد الصلاة، ومحمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" (1/210 رقم180)، ثلاثتهم من طريق يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن علي بن زيد، عن أنس بن حكيم، به. وعلي بن زيد ضعيف في الحديث، وسفيان بن حسين متكلم فيه، وبالأخص روايته عن الزهري، وقد خالفه سفيان بن عيينة؛ فأعاد الحديث إلى الحسن البصري؛ قال الدارقطني في "العلل" (8/248): «وقال ابن عيينة: عن علي بن زيد، عن الحسن مرسلاً».
ولم أجد رواية سفيان بن عيينة هذه. وله طريق أخرى عن أبي هريرة.
فقد أخرجه إسحاق بن راهويه في "مسنده" (1/436 رقم506)، ومن طريقه النسائي في "سننه" (1/233-234 رقم467) في الصلاة، باب المحاسبة على الصلاة، والطحاوي في "مشكل الآثار" (6/388-389 رقم2554)، كلاهما من طريق النضر بن شميل، عن حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس، عن يحيى بن يعمر، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أول ما يحاسب به العبد صلاته، فإن كان أكملها، وإلا قال الله عز وجل: انظروا لعبدي من تطوع، فإن وجد له تطوع قال: أكملوا به الفريضة ». وقد صحح ابن القطان هذا الإسناد في "بيان الوهم والإيهام" (4/136 رقم1577) و(5/229-230 رقم2439)، ولكن له علة خفيت عليه. فقد خالف النضر بن شميل كل من عفان بن مسلم والحسن بن موسى وأبي الوليد الطيالسي هشام بن عبدالملك، فرووه عن حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس، عن يحيى بن يعمر، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، به.
أما رواية عفان فأخرجها ابن أبي شيبة في "المصنف" (7/271 رقم35997) في الأوائل، باب أول ما فعل ومن فعله، والإمام أحمد في "المسند" (5/72).
وأما رواية الحسن بن موسى فأخرجها الإمام أحمد في"المسند" (4/65، 103)، و(5/377).
وأما رواية أبي الوليد فأخرجها محمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" (1/214رقم186).
فرواية هؤلاء الثلاثة أرجح من رواية النضر، وعليه فيكون الإسناد ضعيفًا، لا لأجل إبهام الصحابي فقط، فالصحابة كلهم عدول، ولكننا لا نعلم أَسَمع يحيى بن يعمر من هذا الصحابي المبهم أم لا؟ ولو أفصح باسمه لأمكن معرفة ذلك كما هو مقرر في كتب المصطلح.
وله شاهد من حديث تميم الداري - رضي الله عنه - .
أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (4/103)، والدارمي (1/313) في الصلاة، باب أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة، وابن ماجه (1/458 رقم1426) في إقامة الصلاة، باب ما جاء في أول ما يحاسب به العبد: الصلاة، وأبو داود (1/541 رقم866) في الصلاة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : « كل صلاة لا يتمها صاحبها تتم من تطوعه »، والحاكم في "المستدرك" (1/262-263)، ومحمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" (1/216-217 رقم190)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (6/385 رقم2552)، جميعهم من طريق حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، عن زرارة بن أوفى، عن تميم الداري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو لفظ الحديث السابق.
وقد روى الحاكم هذا الحديث من طريق موسى بن إسماعيل عن حماد، ثم قال: «إسناده صحيح على شرط مسلم، وقصر به بعض أصحاب حماد بن سلمة، وموسى بن إسماعيل الحكم في حديثه». ومحمد بن نصر أخرج الحديث من طريق أبي الوليد الطيالسي، ثم نقل عن أبي الوليد قوله: «لم يرفع هذا الحديث أحد غير حماد بن سلمة». وأخرجه البيهقي في "سننه" (2/387). طريق الحاكم، ثم قال: «رفعه حماد بن سلمة، ووقفه غيره».
قال الشيخ رحمه الله: رواه عن داود بن أبي هند كل من هشيم ويزيد بن هارون وخالد بن عبدالله وبشر ابن المفضل وسفيان الثوري وحفص بن غياث، فوقفوه على تميم - رضي الله عنه - .
وأما روايتا هشيم ويزيد فأخرجهما ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/174 رقم7771)، و(6/170 رقم30413) في الصلاة، باب من قال: أول ما يحاسب به العبد: الصلاة، وفي الإيمان والرؤيا، باب منه. وأما روايتا خالد بن عبدالله وبشر بن المفضل فأخرجهما محمد بن نصر (1/217 رقم191، 192).
وأما روايتا سفيان وحفص فأشار إليهما البيهقي؛ فقال في الموضع السابق: «ووقفه كذلك سفيان الثوري وحفص بن غياث عن داود بن أبي هند».
وسند الموقوف صحيح، ومثله لا يقال بالرأي، إلا أن تميمًا أخذ عن أهل الكتاب، فأرجو أن يكون الحديث بمجموع طرقه السابقة مع الموقوف صحيحًا، والله أعلم.
(5) في (ب): «من عمله يوم القيامة صلاته».
(6) في (ز): «فإن» بدل «فإذا».
(7) قوله: «والله أعلم» ليس في (غ).
(8) أخرجه مسلم (1/504 رقم 730) في صلاة المسافرين، باب جواز النافلة قائمًا وقاعدًا، وفعل بعض الركعة قائمًا وبعضها قاعدًا.
(9) في (غ): «قوله».
(10) قوله: «مثل» سقط من (غ).
(11) سيأتي برقم (622) في باب صلاة الوتر.
(12) في (ح) و(ز): «قال».
(13) في (غ): «في».
(14) سيأتي برقم (614) في باب كيف صلاة الليل، وكم عددها؟
(15) في (ح): «يوتر من ذلك بخمس» بدل: «يسلم من»، وهو خطأ ظاهر. وفي (ز): «في» بدل «من».
(16) في الحديث الآتي برقم (615).
(17) من قوله: «إحدى عشرة ركعة... إلى هنا» سقط من (غ).
(18) قوله: «ركعة» ليس في (ب). ... (8) قوله: «في شيء» ليس في (ب).
(19) في الحديث الآتي برقم (615).
(20) في الحديث الآتي برقم (616).
(21) في (غ): «وكقولها».
(22) في الحديث الآتي برقم (622).
(23) في (ز): «و» بدل «أو».
(24) في (ح) و(ز): «والتيسير».(2/293)
ذلك جائز، ولأجل هذه الأحاديث المختلفة قال الحنفي: إن صلاة النفل ليلاً ونهارًا (1) لا يشترط فيها الفصل بين كل ركعتين بالسلام، بل يصلي ستًّا وثمانيًا، وأقل وأكثر =(2/367)=@ بتسليمة واحدة. وقال عبدالوهاب بن نصر: والمختار في النفل مثنى مثنى ليلاً ونهارًا.
قال الشيخ رحمه الله: ويفهم من هذا: أنه يجوز غير ذلك: من أربع وست وثمان وعشر (2) ، كمذهب الحنفي والجمهور على أن الفصل بين كل ركعتين (3) أولى وأفضل.
وقولها: «كان يصلي ليلاً طويلاً قاعدًا، وليلاً طويلاً قائمًا»: فيه: جواز التنفل قاعدًا مع القدرة على القيام، ولا خلاف فيه.
وقولها: «وَكَانَ (4) إِذَا قَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَائِمٌ، وَإِذَا قَرَأَ قَاعِدًا رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَاعِدٌ (5) »): هذا (6) يخالف حديثها الآخر (7) : أنه (8) كان يجمع بين القعود والقيام في ركعة واحدة، ولا تناقض فيه؛ فإن ذلك كان منه في أوقات مختلفة، وبحسب ما يجد من المشقَّة، والانتقال في النافلة من الجلوس إلى القيام، أو من القيام إلى الجلوس جائز عند (9) جمهور العلماء: مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم، وكره محمد بن الحسن وأبو يوسف: أن يبتدئ صلاته قائمًا، ثم يقعد (10) ثم يركع قاعدًا (11) . وحجة الجمهور: أنه انتقال من حالٍ إلى حالٍ لو (12) ابتدأ الصلاة عليه لجاز؛ كالانتقال من القعود إلى القيام المتفق عليه عندهم وعندنا، واختلف كبراء أصحاب مالك إذا نوى القيام فيها كلها: هل له أن يجلس في بقية الصلاة أم لا؟ على قولين: الأول لابن القاسم، والثاني لأشهب. وعلى قول أشهب (13) : هل يلزمه ذلك بمجرد النيّة؟ أو بإلزامه ذلك نفسه وبالنذر؟ قولان لأشياخنا. =(2/368)=@ &(2/294)&$
__________
(1) قوله: «ونهارًا» ليس في (ب).
(2) قوله: «وعشر» ليس في (أ).
(3) في (غ): «ركعتين بتسليمة».
(4) في (غ): «كان» بلا واو.
(5) في (ح): «وهو قائم».
(6) في (أ) و(ب) و(ح): «وهذا».
(7) وهو الحديث الآتي.
(8) في (ز): «إلا أنه».
(9) في (ح) و(ز): «عندهم».
(10) قوله: «ثم يقعد» سقط من (غ).
(11) في (ح): «قائمًا».
(12) في (أ): «أو».
(13) في (ز): «وعلى قول أهل أشهب يلزمه».(2/294)
**************
( 99 ) باب في صلاة النفل قائمًا وقاعدًا
323- عَنْ عَائِشَةَ (1) : أَنَّ رَسُولَ اللهِِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي جَالِسًا، فَيَقْرَأُ وَهُوَ جَالِسٌ، فَإِذَا بَقِيَ مِنْ قِرَاءَتِهِ قَدْرُ مَا يَكُونُ ثَلاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً، قَامَ فَقَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ يَفْعَلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ.
324- وعَنْهَا (2) قَالَتْ: لَمَّا بَدَّنَ، رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَثَقُلَ كَانَ أَكْثَرُ صَلاتِهِ جَالِسًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب صلاة النفل قائمًا وقاعدًا
قول عائشة رضي الله عنها: «لَمَّا بَدَّنَ (3) ، وَثَقُلَ كَانَ أَكْثَرُ صَلاتِهِ جَالِسًا»: أكثر الرواة قيدوه (4) : «بَدُن» (5) ، بضم الدال، ورواه (6) الصدفي عن العذرى: «بَدَّن»، مفتوحة الدال مشددة، وارتضى أبو عبيد (7) رواية الفتح والتشديد، وقال: يقال (8) : بَدَّن الرجل تبدينًا: إذا أسنّ (9) ، وأنشد:
وكُنْتُ خِلْتُ الشَّيْبَ والتَّبدينا ... والهمَّ مما يُذْهِلُ القرينا (10)
قال: ومن رواه بَدُن ليس له (11) معنى؛ لأنه خلاف وصفه - صلى الله عليه وسلم - ، ومعناه: كثر =(2/369)=@ لحمه؛ يقال: بَدُنَ يَبْدُنُ بَدَانَةً.
قال الشيخ رحمه الله: ولا معنى لإنكار بَدُنَ، وقد صحت الرواية فيه، وقد جاء معناه مفسَّرًا من قول عائشة (12) ؛ قالت: «فلما كبر وأخذه اللحم»، وفي رواية: «أسَنَّ وكثر لحمه». وقول أبي عبيد: لم يكن ذلك وصفه - صلى الله عليه وسلم - : صِدْق؛ لأنه لم يكن في أصل خلقته بادنًا كثير اللحم، لكن عندما أسنّ وضعف عن كثير مما كان يتحمله في حال النشاط من الأعمال الشاقة استرخى لحمه، وزاد على ما كان في أصل خلقته زيادة يسيرة، بحيث يصدق عليه ذلك الاسم، والله أعلم.
325- وعَنْ عَبْدِ الله بْنِ شَقِيقٍ (13) قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: هَلْ كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي وَهُوَ قَاعِدٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، بَعْدَ مَا حَطَمَهُ النَّاسُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقولها: «بَعْدَ مَا حَطَمَهُ النَّاسُ»: قال أبو عبيد: يقال: حَطَم فلانًا أهلُه: إذا كبر فيهم؛ كأنه بما تحمَّل من أثقالهم صيَّروه شيخًا محطومًا. والحَطْمُ: كسر الشيء &(2/295)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (2/589 رقم 1118، 1119) في تقصير الصلاة، باب إذا صلى قاعدًا ثم صح أو وجد خفة تمم مابقي، و(3/33 رقم1148) كتاب التهجد، باب قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل في رمضان وغيره، و(8/584 رقم3837) كتاب التفسير، باب { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك...}، ومسلم (1/505 رقم 731-112) في صلاة المسافرين، باب جواز النافلة قائمًا وقاعدًا.
(2) أخرجه مسلم(1/506رقم 732) في صلاة المسافرين، باب جواز النافلة قائمًا وقاعدًا.
(3) في (ز): «بدز»، وفي (غ): «وبَدُن».
(4) في (ب): «قيدوا»، وفي (غ): «قيده».
(5) في (ز): «بدز»، وفي (غ): «وبَدُن».
(6) في (ب) و(ح) و(ز) و(غ): «ورواية».
(7) في (ح): «عبدالله».
(8) في (ز): «أسرَّ».
(9) في (غ): «وقد يقال».
(10) نسبه ابن منظور في "اللسان" (13/48) لحميد الأرقط، وانظر: «أدب الكاتب» تحقيق الدالي ص345، و«معجم مقاييس اللغة» 1/212.
(11) قوله: «له» ليس في (أ).
(12) في الحديث الآتي برقم (622).
(13) أخرجه مسلم(1/506رقم 732) في صلاة المسافرين، باب جواز النافلة قائمًا وقاعدًا.(2/295)
اليابس. يؤيد هذا قول حفصة رضي الله عنها: «إنه - صلى الله عليه وسلم - ما صلى سُبْحَتَه قاعدًا حتى كان قبل وفاته بعامٍ».
326- وعَنْ حَفْصَةَ (1) قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى فِي سُبْحَتِهِ قَاعِدًا، حَتَّى كَانَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِعَامٍ، فَكَانَ يُصَلِّي فِي سُبْحَتِهِ قَاعِدًا، وَكَانَ يَقْرَأُ بِالسُّورَةِ فَيُرَتِّلُهَا، حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطوْلِ مِنْهَا.
327- و عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو (2) قَالَ: حُدِّثْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «صَلاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا نِصْفُ الصَّلاةِ » قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي جَالِسًا، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى رَأْسِهِ فَقَالَ: «مَا لَكَ يَا عَبْدَ الله بْنَ عَمْرٍو! »، قال الشيخ رحمه الله: حُدِّثْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَنَّكَ قال الشيخ رحمه الله: «صَلاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا عَلَى نِصْفِ الصَّلاةِ » وَأَنْتَ تُصَلِّي قَاعِدًا! قَالَ: «أَجَلْ، وَلَكِنِّي لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقولها: «فَيُرَتِّلُهَا، حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطوْلِ مِنْهَا»؛ أي: يمد (3) ويرتل في قراءة السورة (4) (5) القصيرة، حتى يكون (6) زمان (7) قراءتها أطول من زمان قراءة سورة أخرى فوق الأولى في العدد. =(2/370)=@
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «صَلاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا نِصْفُ الصَّلاةِ»: يعنى في الأجر (8) ، مع عدم العذر المانع من القيام (9) ، وعليه حمله الثوري وابن الماجشون وابن شعبان، وحمله بعضهم على من رُخِّص له في الصلاة جالسًا من أصحاب الأعذار الذين لو كلفوا أنفسهم (10) ذلك لقدروا على القيام بمشقّة، وهذا يَطَّرد في الفرض والنفل، وهو قول مالك وأحمد وإسحاق، ومنع الشافعي من صلاة الفرض قاعدًا؛ إلاّ مع عدم القدرة على القيام، ويجوز ذلك في النفل مع القدرة بإجماع (11) ، وأما من عجز عن القيام لعذرٍ مانع منه (12) ، فأجره (13) إن شاء الله تامٌّ كامل؛ لأنه فعل عبادته على كمالها في حقه ولم يقصِّر فيها، و {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} (14) ، وبدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما خرجه الترمذي (15) - وصححه-، من حديث الأربعة النفر (16) ؛ حيث قال فيه: «إنما الدنيا (17) لأربعة نفر: رجل آتاه الله (18) مالاً وعلمًا، فهو يتَقي فيه ربه، ويصل فيه (19) رحمه، ويعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأفضل المنازل، ورجل آتاه الله علمًا ولم يؤته مالاً، فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيّته (20) ، فأجرهما سواء »، وهذا نص في الفرض (21) . &(2/296)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/507 رقم 733) كتاب صلاة المسافرين، باب جواز النافلة قائمًا وقاعدًا.
(2) أخرجه مسلم (1/507 رقم 735) في الكتاب والباب السابقين.
(3) في (ز): «تمد».
(4) في (ز): «تكون».
(5) في (أ): «السورة».
(6) في (ز) تشبه أن تكون «وقولها».
(7) في (ح): «زمن».
(8) في (ز): «الأخر»: وفي (غ): «يعني نصف الصلاة في الأجر».
(9) قوله: «من القيام» ليس في (ح).
(10) قوله: «أنفسهم» ليس في (ح).
(11) في (ب): «بالإجماع».
(12) قوله: «منه» ليس في (أ).
(13) في (ز): «فأجزه».
(14) سورة الأنعام، الآية: 160.
(15) تقدم تخريجه في كتاب الإيمان، باب في قوله عز وجل: {ولله مافي السموات والأرض}.
(16) في (أ): «نَفَر».
(17) في (أ) يشبه أن تكون: «أكرمني» وكأنه حاول تصحيحها في الهامش، فلم تتضح في التصوير.
(18) قوله: «الله» ليست في (ز).
(19) في (ز) و(غ): «به» بدل «فيه».
(20) في (غ): «نيته».
(21) في (ب) و(ح) يحتمل أن تكون: «الغرض».(2/296)
وقوله: «فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى رَأْسِهِ»: هذا يدل على عظيم (1) تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم - وحنانه (2) وحسن أخلاقه، وأنه كان مع خاصة أصحابه فيما يرجع إلى المعاشرة والمخالطة كواحد منهم؛ إذ كان يباسطهم ويمازحهم، ويكون معهم في علمهم (3) ، ولا يستأثر عليهم، ولا يترفع عنهم (4) ، ولذلك كانت الأمة من إماء أهل المدينة تأخذ =(2/371)=@ بيده وتنطلق به حيث شاءت، ويجلس (5) يحدثها حيث أرادت (6) . ومن كانت هذه حاله؛ فلا يستنكر من بعض أصحابه أن يعامله (7) بمثل ذلك في بعض الأحوال، سيّما وكان مقصود عبدالله: أن يقبل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حتى يجيبه عما وقع في خاطره من هذا الأمر الدينيّ المهم في حقّه، والله أعلم. وهذا كله على ما صح عندنا من الرواية «عَلَى (8) رَأْسِهِ»، وظاهره: أنه عائد على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد ذُكر لي أن بعض الناس رواه: رأْسِيَهْ، فألحق به ياء المتكلم وهاء السكت، ووجهها واضح لو ثبتت (9) ، وأظن أنه إصلاح ورأي، لا رواية (10) . ويقرب من فعل عبدالله فعل جبريل - صلى الله عليه وسلم - (11) معه - صلى الله عليه وسلم - (12) ؛ حيث أسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، على قول من قال: إنه أراد فخذي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو الصحيح.
وقوله: «أَجَلْ »؛ أي: نعم.
وقوله: «لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ »؛ أي: لا يكون له (13) في صلاته قاعدًا نصف الأجر، بل أكثر من ذلك، أو الأجر كله، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون معناه: لست كأحدٍ منكم ممن لا عذر له ممن قلت له هذا القول؛ فإنه لم يصل قاعدًا حتى ثقل، والأول أظهر. =(2/372)=@ &(2/297)&$
__________
(1) في (ب): «عظم».
(2) في (ب): «وحلمه».
(3) في (ز): «وتجلس».
(4) في (أ): «عليهم».
(5) في (غ): «وتجلس».
(6) سيأتي برقم (2228) في كتاب النبوات، باب في رحمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصبيان والعيال والرقيق.
(7) في (غ): «يقابله».
(8) في (غ): «في على».
(9) في (ح) و(ز) و(غ): «لو ثبت».
(10) من قوله: «وهذا كله» إلى قوله: «لا رواية» ليس في (أ).
(11) تقدم برقم (7) في الإيمان، باب معاني الإيمان والإسلام والإحسان شرعًا.
(12) قوله: «معه - صلى الله عليه وسلم - » ليس في(أ)، وفي(ح) و(ز): «معه»، ولم يذكر الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(13) قوله: «له» ليس في (ح).(2/297)
*************
( 100 ) باب كيف صلاة الليل وكم عددها
328- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) ، عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ فَلْيَفْتَتِحْ صَلاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب (2) كيفية (3) صلاة الليل
قوله: «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ فَلْيَفْتَتِحْ صَلاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ »: هذا أمر على جهة الإرشاد إلى ما يدفع به (4) بقايا النوم، وينشِّط إلى الصلاة، وقد ثبت أنه كان في وقتٍ يفتتح بركعتين (5) خفيفتين (6) ، وفي وقت آخر يفتتح (7) بركعتين أطول من التي بعدها (8) (9) ، وبأربع ركعات طوال (10) ، فلهذا لا يُتَخَيَّل أن هذا الأمر من قبيل الواجب، ولم يقل به أحد فيما علمته.
329- وَعَنْ عَائِشَةَ (11) قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلاةِ الْعِشَاءِ - وَهِيَ الَّتِي يَدْعُو النَّاسُ الْعَتَمَةَ - إِلَى الْفَجْرِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ، فَإِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ صَلاةِ الْفَجْرِ، وَتَبَيَّنَ لَهُ الْفَجْرُ، وَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ، قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ لِلإِقَامَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقولها (12) : «إِنه - صلى الله عليه وسلم - اضْطَجَعَ بعد ركعتي الفجر عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ»: هذه &(2/298)&$
__________
(1) أخرجه مسلم(1/532 رقم768) صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه.
(2) قوله: «من باب» في مكانها بياض في (ز).
(3) في (ز): «كيف».
(4) قوله: «به» ليس في (ح) و(ز).
(5) في (ب): «ركعتين».
(6) كما في حديث زيد بن خالد الآتي قريبًا برقم (637)، وجاء أيضًا في بعض طرق حديث عائشة رضي الله عنها عند مسلم (1/532 رقم767) في صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه.
(7) قوله: «يفتتح» ليس في (أ).
(8) في (ب): «من اللتين بعدهما»، وفي (غ): «التي بعدهما».
(9) لعله أشكل على المؤلف ما جاء في حديث زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - عند مالك في "الموطأ" (1/122رقم12)في صلاة الليل، باب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوتر؛ حيث قال زيد بن خالد: لأرمُقَنَّ الليلة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال: فتوسَّدْتُ عَتَبَتَه -أو فسطاطه-، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فصلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما...، الحديث.
وهذا لا دلالة فيه؛ لأن مسلمًا أخرجه في "صحيحه" (1/531-532 رقم765) في صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، من طريق الإمام مالك، به، وفيه: فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين...، الحديث، فزاد فيه ذكر الركعتين الخفيفتين في الأول.
أو لعل المؤلف أراد حديث حذيفة الآتي برقم(641)في صلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل، وأنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ في الركعة الأولى بالبقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، يقرأ مترسِّلاً، إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مرّ بتعوُّذ تعوَّذ...، الخ... ولكن لم يذكر في هذا الحديث كيف كانت صلاته - صلى الله عليه وسلم - في التسليمة الثانية؟ وإن كان المتبادر للذهن أنها دون ذلك، والله أعلم.
(10) كما في حديث عائشة الآتي قريبًا برقم (616).
(11) أخرجه البخاري (2/109 رقم 626) في الأذان، باب من انتظر الإقامة، و(2/ 478 رقم994) كتاب الوتر، باب ما جاء في الوتر، و(3/7 رقم1123) كتاب التهجد، باب طول السجود في قيام الليل، و(3/43 رقم1160) كتاب التهجد، باب الضجعة على الشق الأيمن بعد ركعتي الفجر، و(3/45 رقم1170) كتاب التهجد، باب ما يقرأ في ركعتي الفجر، و(11/108 رقم6310) كتاب الدعوات، باب الضجع على الشق الأيمن، ومسلم (1/508 رقم 736) في صلاة المسافرين، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل ... .
(12) في (غ): «وقوله».(2/298)
ضجعة الاستراحة من قيام الليل، والأمر الذي في كتاب الترمذي (1) .
33- وَعَنْهَا (2) قالتْ: كَاَنَ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ، لا يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ إِلا فِي آخِرِهَا.
وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً بِرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بها (3) محمول على =(2/373)=@ الإرشاد إلى الراحة، ولينشط لصلاة الصبح، وليست بواجبة عند الجمهور ولا ستة؛ خلافًا لمن خكم بوجوبها من أهل الظاهر، ولمن (4) حكم بسنيِّتها (5) ، وهو الشافعي، والدليل على أنها ليست كذلك: أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يفعلها دائمًا، ألا ترى أن عائشة رضي الله عنها قالت (6) : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى ركعتي الفجر، فإن كنت مستيقظة حدثني، وإلا اضطجع (7) ؟ وأيضًا (8) فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يضطجع هذه الضجعة (9) بعد فراغه من وتره، وقبل (10) ركعتي الفجر (11) ، فدلّ (12) ذلك: على أنها ليست مخصوصة بما (13) بعد ركعتي الفجر، لا وجوبًا ولا سنة، والله تعالى أعلم.
331- وعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (14) أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ: كَيْفَ كَانَتْ صَلاةُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي رَمَضَانَ؟ قَالَتْ: مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاثًا. فَقَالَتْ: فَقال الشيخ رحمه الله: يَا رَسُولَ اللهِ! أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟ فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ! إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلا يَنَامُ قَلْبِي ».
332- وعَنْهَا (15) قَالَتْ: كَانَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَيُحْييِ آخِرَهُ، ثُمَّ إِنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى أَهْلِهِ قَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ يَنَامُ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ النِّدَاءِ الأَوَّلِ، قَالَتْ: وَثَبَ فأَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَوَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُنُبًا تَوَضَّأَ وُضُوءَ الرَّجُلِ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ (16) وَلا يَنَامُ قَلْبِي»: قد تقدم أنه من خصائص =(2/374)=@ الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - .
وقول عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام أول الليل ويُحْيِي آخره»: تعني به أن هذا كان آخر فعله، أو أغلب حاله (17) ، وإلا فقد قالت (18) : «من كل الليل قد (19) أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أوله وأوسطه وآخره، فانتهى وتره إلى السَّحر». &(2/299)&$
__________
(1) أخرجه الترمذي (2/281 رقم420) في الصلاة، باب ما جاء في الاضطجاع بعد ركعتي الفجر. وأخرجه الإمام أحمد في "المسند" (4/415)، وأبو داود (2/47 رقم1261)، في الصلاة، باب الاضطجاع بعدها، وابن خزيمة في "صحيحه" (2/167 رقم1120)، وابن حبان في "صحيحه" (6/220 رقم2468)، والبيهقي في "سننه" (3/45)، جميعهم من طريق عبدالواحد بن زياد، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه ».
قال الترمذي: «حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه».
والحديث شاذ بهذا اللفظ؛ تفرد به عبدالواحد بن زياد عن الأعمش، ولم يتابع عليه، وهو ثقة، إلا أن تفرده بهذا الحديث عن سائر أصحاب الأعمش - وهو ليس من كبارهم -؛ جعل الأئمة يتكلمون في روايته عن الأعمش بعامة، وفي هذا الحديث بخاصة.
قال يحيى بن سعيد القطان: «ما رأيت عبدالواحد بن زياد يطلب حديثًا قط بالبصرة، ولا بالكوفة، وكنا نجلس على بابه يوم الجمعة بعد الصلاة أذاكره حديث الأعمش، لا يعرف منه حرفًا». وقال أبو داود الطيالسي: «عهد إليّ نقل أحاديث كان يرسلها الأعمش، فوصلها كلها؛ يقول: حدثنا الأعمش، قال: حدثنا مجاهد في كذا وكذا». اهـ. من "الضعفاء" للعقيلي (3/55). ولذلك قال عنه ابن حجر في "التقريب" (ص630 رقم4268): «ثقة، في حديثه عن الأعمش وحده مقال».
ولما ذكر ابن القيم هذا الحديث في "زاد المعاد" (1/318-321) قال: «وسمعت ابن تيمية يقول: هذا باطل وليس بصحيح، وإنما الصحيح عنه الفعل، لا الأمر بها، والأمر تفرد به عبدالواحد بن زياد وغلط فيه، وأما ابن حزم ومن تابعه فإنهم يوجبون هذه الضجعة، ويبطل ابن حزم صلاة من لم يضطجعها بهذا الحديث، وهذا مما تفرد به عن الأئمة».
ثم قال ابن القيم: «وقال أبو طالب: قلت لأحمد: حدثنا أبو الصلت، عن أبي كُدَينة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ أنه اضطجع بعد ركعتي الفجر. قال: شعبة لا يرفعه، قال الشيخ رحمه الله: فإن لم يضطجع عليه شيء؟ قال: لا، عائشة ترويه وابن عمر ينكره. قال الخلال: وأنبأنا المروزي: أن أبا عبدالله قال: حديث أبي هريرة ليس بذاك. قال الشيخ رحمه الله: إن الأعمش يُحدث به عن أبي صالح، عن أبي هريرة؟ قال: عبدالواحد وحده يُحدث به. وقال إبراهيم بن الحارث: إن أبا عبدالله سئل عن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، قال: ما أفعلُه، وإن فعله رجل فحسن. انتهى. فلو كان حديث عبدالواحد بن زياد عن الأعمش، عن أبي صالح صحيحًا عنده، لكان أقلّ درجاته عنده الاستحباب».اهـ.
ونقل السيوطي في "تدريب الراوي" (1/235) عن البيهقي قوله: «خالف عبدالواحد العدد الكثير في هذا، فإن الناس إنما رووه من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لا من قوله، وانفرد عبدالواحد من بين ثقات الأعمش بهذا اللفظ».
ولم أجد قول البيهقي هذا، ولكنه أخرج الحديث في الموضع السابق من "السنن" من طريق أبي داود، ثم قال: «وهذا يحتمل أن يكون المراد به الإباحة، فقد رواه محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة حكاية عن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لا خبرًا عن قوله...»، ثم أخرجه من طريق محمد بن إبراهيم، ثم قال: «هذا أولى أن يكون محفوظًا؛ لموافقته سائر الروايات عن عائشة وابن عباس».
(2) أخرجه مسلم (1/508 رقم 337) في صلاة المسافرين، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل.
(3) قوله: «بها» ليس في (ب) و(ح) و(غ) وفي (ز) رسمت هكذا: «جها».
(4) في (ز): «وإن» بدل: «ولمن».
(5) في (أ) و(ز): «بسنتها».
(6) في حديثها الآتي قريبًا برقم (619).
(7) في (ز): «اضطجعي».
(8) قوله: «أيضًا» سقط في (ز).
(9) في (ح) و(ز): «هذه الضجعة أيضًا».
(10) في (غ): «قبل» بلا واو.
(11) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/120 رقم8) في صلاة الليل، باب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوتر، ومن طريقه مسلم في "صحيحه" (1/508 رقم736/121) في صلاة المسافرين، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل، وأن الوتر ركعة، من رواية مالك، عن ابن شهاب الزهري، عن عروة، عن عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة، فإذا فرغ منها اضطجع على شقة الأيمن حتى يأتيه المؤذن، فيصلي ركعتين خفيفتين. كذا رواه مالك عن ابن شهاب، فذكر الاضطجاع بعد الفراغ من الوتر، وقبل ركعتي الفجر!
وأخرجه مسلم بعد ذلك برقم (736/122.طريق عمرو بن الحارث ويونس بن يزيد، كلاهما عن ابن شهاب، فذكر الاضطجاع بعد ركعتي الفجر.
وهذا الذي اختاره البخاري في "صحيحه"؛ فإنه ترك رواية مالك فلم يخرجها، وأخرج الحديث (11/108-109 رفم6310) في الدعوات، باب الضجع على الشق الأيمن، من طريق معمر، عن ابن شهاب الزهري، موافقًا لروايتي عمرو ويونس، بل بوّب عليه؛ فقال (3/43) في كتاب التهجد، باب الضجعة على الشق الأيمن بعد ركعتي الفجر، ثم أورد تحته حديث عائشة هذا من رواية أبي الأسود يتيم عروة، عن عروة، عنها رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن.
وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (3/44): «وأما ما رواه مسلم من طريق مالك، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: أنه - صلى الله عليه وسلم - اضطجع بعد الوتر، فقد خالفه أصحاب الزهري عن عروة، فذكروا الاضطجاع بعد الفجر، وهو المحفوظ، ولم يصب من احتج به على ترك استحباب الاضطجاع، والله أعلم».
وهذا الذي ذهب إليه البيهقي؛ فإنه أخرج الحديث في "سننه" (3/44.طريق معمر، عن الزهري، ثم قال: «وكذلك رواه الأوزاعي وعمرو بن الحارث ويونس بن يزيد وابن أبي ذئب وشعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، وكذلك قاله أبو الأسود، عن عروة، عن عائشة، وخالفهم مالك بن أنس، فذكر الاضطجاع بعد الوتر...»، ثم أخرجه من طريق مالك، ثم قال: «كذا قاله مالك!» والعدد أولى بالحفظ من الواحد، وقد يحتمل أن يكونا محفوظين، فنقل مالك أحدهما، ونقل الباقون الآخر». اهـ.
ونقل ابن القيم في "زاد المعاد" (1/320) عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال: «وأما حديث عائشة، فاختلف على ابن شهاب فيه، فقال مالك عنه: فإذا فرغ يعني من قيام الليل، اضطجع على شِقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن فيُصلي ركعتين خفيفتين، وهذا صريح أن الضجعة قبل سنة الفجر، وقال غيرُه عن ابن شهاب: فإذا سكت المؤذن من أذان الفجر، وتبين له الفجر، وجاءه المؤذن، قام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن. قالوا: وإذا اختلف أصحاب ابن شهاب، فالقول ما قاله مالك؛ لأنه أثبتهم فيه وأحفظهم. وقال الآخرون: بل الصواب في هذا مع من خالف مالكًا. وقال أبو بكر الخطيب: روى مالك عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، يوتر منها بواحدة، فإذا فرغ منها، اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن، فيصلي ركعتين خفيفتين. وخالف مالكًا عقيل ويونس وشعيب وابن أبي ذئب والأوزاعي وغيرهم، فرووا عن الزهري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يركع الركعتين للفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن، فيخرج معه. فذكر مالك أن اضطجاعه كان قبل ركعتي الفجر، وفي حديث الجماعة: أنه اضطجع بعدهما، فحكم العلماء أن مالكًا أخطأ وأصاب غيره».
فتبين من هذا كله أن رواية مالك هذه شاذة؛ لمخالفتها رواية الآخرين الذين شاركوه في رواية هذا الحديث عن الزهري، وهذا ظاهر صنيع البخاري، وهو الذي رجحه البيهقي والخطيب البغدادي وابن حجر، ويظهر أن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم مالا إلى ذلك، والله أعلم.
وأما حديث ابن عباس الآتي برقم (636)، فإنه ذكر فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اضطجع بعد الوتر وقبل ركعتي الفجر، وهذا لا ينافي حديث عائشة هذا، بل يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضطجع أحيانًا قبل ركعتي الفجر، وأحيانًا بعدها، وأحيانًا لا يضطجع إذا كانت عائشة مستيقظة -كما سبق ذكره -، ولذلك قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (3/44): «تقدم في أول أبواب الوتر في حديث ابن عباس: أن اضطجاعه - صلى الله عليه وسلم - وقع بعد الوتر قبل صلاة الفجر، ولا يعارض ذلك حديث عائشة؛ لأن المراد به نومه - صلى الله عليه وسلم - بين صلاة الليل وصلاة الفجر، وغايته: أنه تلك الليلة لم يضطجع بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح؛ فيستفاد منه عدم الوجوب أيضًا». اهـ.
قال الشيخ رحمه الله: ولو قيل: فيستفاد منه عدم السنيّة أيضًا لما كان بعيدًا؛ فقد نقل ابن القيم في "زاد المعاد" (1/319) عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قوله: «وقد غلا في هذه الضجعة طائفتان، وتوسط فيها طائفة ثالثة، فأوجبها جماعة من أهل الظاهر، وأبطلوا الصلاة بتركها؛ كابن حزم ومن وافقه، وكرهها جماعة من الفقهاء، وسموها بدعة، وتوسط فيها مالك وغيره؛ فلم يروا بها بأسًا لمن فعلها راحة، وكرهوها لمن فعلها استنانًا، واستحبها طائفة على الإطلاق، سواء استراح بها أم لا...». الخ كلامه.
(12) في (ز): «فد».
(13) في (ز): «ما».
(14) أخرجه البخاري (3/33 رقم 1147) في التهجد، باب قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل في رمضان وغيره، و(4/251 رقم2013) كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، و(6/579 رقم3569) كتاب المناقب، باب كان النبي - صلى الله عليه وسلم - تنام عينه ولا ينام قلبه، ومسلم (1/509 رقم 738) في صلاة المسافرين، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل.
(15) أخرجه البخاري(3/32 رقم1146) في التهجد، باب من نام أول الليل وأحي آخره، ومسلم (1/510 رقم 739) في صلاة المسافرين، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(16) في (ز): «ينامان».
(17) في (أ): «وأغلب أحواله»، وفي (غ): «أو أغلب أحواله».
(18) في حديثها الآتي قريبًا برقم (621).
(19) قوله: «قد» ليس في (أ) و(غ).(2/299)
وقولها: «إن كانت له حاجة إلى أهله قضى حاجته، ثم نام»: يفهم منه جواز نوم الجنب من غير أن يتوضأ؛ فإنها لم تذكر وضوءًا عند النوم، وذكرت أنه إن (1) لم يكن جنبًا توضأ وضوء الصلاة (2) ، وقد تقدم هذا.
333- وعَنْهَا (3) وسُئِلَتْ عَنْ عَمَلِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: كَانَ يُحِبُّ الدَّائِمَ. قَالَ: قال الشيخ رحمه الله: أَيَّ حِينٍ كَانَ يُصَلِّي؟ فَقَالَتْ: إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ، قَامَ فَصَلَّى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقولها: «كَانَ يُحِبُّ الدَّائِمَ»: تتميمه قولها في أخرى (4) : «وإن قَلَّ». وسبب محبته =(2/375)=@ للدائم (5) : أن فاعله لا ينقطع عن عمل الخير، ولا ينقطع عنه الثواب والأجر، ويجتمع منه الكثير وإن قل العمل في الزمان الطويل، ولا تزال صحائفه مكتوبة بالخير، ومصعد (6) عمله معمورًا بالبر، ويحصل (7) به مشابهة الملائكة في الدوام، والله أعلم.
*************
باب
334- وعَنْهَا (8) قَالَتْ: كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِي وَإِلا اضْطَجَعَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقولها: «فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِي»: فيه دليل على جواز الحديث بعد ركعتي الفجر، وهذا مذهب الجمهور. وقد كرهه الكوفيون، وروي مثله عن ابن مسعود (9) وبعض السلف؛ لما جاء أنه وقت الاستغفار، وما ذكرناه(2) أولى، والله أعلم (10) . &(2/300)&$
__________
(1) قوله: «إن» ليس في (أ) و(ز).
(2) في (ب): «وضوءه للصلاة».
(3) أخرجه البخاري (3/16 رقم 1132) في التهجد، باب من نام عند السحر، ومسلم (1/511 رقم 741) في صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(4) هي روايتها الآتية برقم (652) في باب: أحب العمل إلى الله أدومه وإن قلّ.
(5) في (ح) (و) و(غ): «محبة الدائم».
(6) في (أ) و(ب) و(غ): «ويصعد، وتشبه أن تكون: «ومصعد» في (ز).
(7) في (غ) و(ز): «وتحصل».
(8) أخرجه البخاري (3/43 رقم 1161) في التهجد، باب من تحدث بعد الركعتين ولم يضطجع، ومسلم (1/511 رقم 743) في صلاة المسافرين، باب صلاة الليل....
(9) أخرج عبدالرزاق في"المصنف" (3/61رقم4796)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (2/55 رقم6401)، من طريق ليث بن أبي سليم، عن مجاهد قال: رأى ابن مسعود رجلاً يكلم آخر بعد ركعتي الفجر، فقال: إما أن تذاكرا الله، وإما أن تسكتا. هذا لفظ ابن أبي شيبة، ولفظ عبدالرزاق نحوه، وسندهما ضعيف، فليث ضعيف من قبل حفظه، ومجاهد لم يدرك ابن مسعود.
وقد أخرجه عبدالرزاق برقم (4795، 4800) طريق عطاء بن أبي رباح وقتادة، كلاهما عن ابن مسعود بمعناه، وسندهما ضعيف؛ فعطاء وقتادة لم يدركا ابن مسعود.
وأحسن طرقه ما أخرجه عبدالرزاق برقم(4797)، وابن أبي شيبة برقم (6402، 6403). طريق عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود قال: ما من أحد أكره إليه الكلام بعد ركعتي الفجر حتى يصلي الغداة من ابن مسعود. هذا أحد لفظي ابن أبي شيبة، ولفظه الآخر: كان عبدالله يعزّ عليه أن يسمع متكلمًا بعد الفجر - يعني بعد الركعتين - إلا بالقرآن، أو بذكر الله، حتى يصلي. ولفظ عبدالرزاق نحو هذا اللفظ الثاني. وسند رجاله ثقات؛ إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه عبدالله بن مسعود، وبعض أهل العلم يصحح روايته عنه، ويروى أنه أخذ عن ثقات أصحاب أبيه (2) في(ح): «وما ذكرنا».
(10) قوله: «والله أعلم» من (غ) فقط.(2/300)
( 101 ) باب في صلاة الوتر
335- عَنْ عَائِشَةَ (1) قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، فَإِذَا أَوْتَرَ قَالَ: «قُومِي فَأَوْتِرِي، يَا عَائِشَةُ ».
وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ كَانَ يُصَلِي صَلاتَهُ بِالليِّلِ وَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِذَا بَقِيَ الوِتْرَ أَيْقَظَهَا فَأَوْتَرَتْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الوتر
قوله - صلى الله عليه وسلم - : «قُومِي فَأَوْتِرِي »: دليل: على مشروعية تنبيه النائم للصلاة إذا =(2/376)=@ خيف عليه (2) خروج وقت الصلاة، ولا يبعد أن يقال: إن ذلك واجب في الصلاة الواجبة؛ لأن النائم وإن لم يكن مكلّفًا في حال نومه، لكن مانعه سريع الزوال، فهو كالغافل، ولا شك أنه يجب تنبيه (3) الغافل.
واختلف في حكم الوتر: فذهب مالك وجمهور العلماء إلى أنه سنة مؤكدة، ولا يُؤَثَّم (4) تاركها من حيث هو تارك. وقال مالك: إنه يجرح (5) تاركه. وذهب أبو حنيفة إلى أنه واجب يؤثم تاركه، ولم يسمّه فرضًا؛ بناءً منه على أن الفرض هو الذي يقطع بلزومه، أو ما وجب بالقرآن، أو ما يكفر من خالف فيه، هذه عبارات (6) أصحاب مذهبه، والمعنى متقارب. وهذا الفرق إن (7) ادعاه لغة أو شرعًا منعناه وطالبناه (8) بالدليل عليه، وإن كان اصطلاحًا (9) من جهته سلمناه ولم نناقشه (10) ، ونستدل بعد ذلك على أن الوتر ليس بواجب بأدلة قد تقدمت في باب الإسراء (11) ، وفي باب التنفُّل على الراحلة. =(2/377)=@
336- وعَنْهَاَ (12) قَالَتْ: مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَأَوْسَطِهِ، وَآخِرِهِ. فَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ.
337- وعَنْ سَعْدَ بْنَ هِشَامِ (13) قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنا وحَكِيمِ بْنِ أَفْلَحَ إِلَى عَائِشَةَ، فَاسْتَأْذَنَّا عَلَيْهَا، فَأَذِنَتْ لَنَا فَدَخَلْنَا عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: أَحَكِيمٌ؟ -فَعَرَفَتْهُ- فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَتْ: مَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: سَعْدُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَتْ: مَنْ هِشَامٌ؟ قَالَ: ابْنُ عَامِرٍ، فَتَرَحَّمَتْ عَلَيْهِ وَقَالَتْ خَيْرًا - قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ أُصِيبَ يَوْمَ أُحُدٍ - فَقال الشيخ رحمه الله: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قال الشيخ رحمه الله: بَلَى. قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ الْقُرْآنَ. قَالَ: فَهَمَمْتُ أَنْ أَقُومَ، وَلا أَسْأَلَ أَحَدًا عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أَمُوتَ، ثُمَّ بَدَا لِي فَقال الشيخ رحمه الله: أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ رَسُولِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} قال الشيخ رحمه الله: بَلَى. قَالَتْ: فَإِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَامَ نَبِيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ حَوْلاً، وَأَمْسَكَ الله خَاتِمَتَهَا اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فِي السَّمَاءِ، حَتَّى أَنْزَلَ الله فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ التَّخْفِيفَ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَةٍ، قَالَ: قال الشيخ رحمه الله: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْبِئِينِي عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -
فَقَالَتْ: كُنَّا نُعِدُّ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ فَيَبْعَثُهُ الله مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَيَتَسَوَّكُ وَيَتَوَضَّأُ، وَيُصَلِّي تِسْعَ رَكَعَاتٍ لا يَجْلِسُ فِيهَا إِلا فِي الثَّامِنَةِ، فَيَذْكُرُ الله وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ ثُمَّ يَنْهَضُ وَلا يُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي التَّاسِعَةَ، ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَذْكُرُ الله وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ وَهُوَ قَاعِدٌ فَتِلْكَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يَا بُنَيَّ. فَلَمَّا أسَنَّ رَسُوْلُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَخَذَهُ اللَّحْمُ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ وَصَنَعَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِثْلَ صَنِيعِهِ الأوَّلِ فَتِلْكَ تِسْعٌ يَا بُنَيَّ. وَكَانَ نَبِيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا صَلَّى صَلاةً أَحَبَّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا. وَكَانَ إِذَا غَلَبَهُ نَوْمٌ أَوْ وَجَعٌ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَلا أَعْلَمُ نَبِيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ وَلا صَلَّى لَيْلَةً إِلَى الصُّبْحِ، وَلا صَامَ شَهْرًا كَامِلاً غَيْرَ رَمَضَانَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول عائشة رضي الله عنها: «كَانَ خُلُقَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْقُرْآنَ»؛ أي: كان يتخلق بما فيه من محمود (14) الأوصاف، ويجتنب ما فيه من ممنوعها. ويحتمل أن تريد بقولها: «الْقُرْآنَ»: الآيات التي اقتضت الثناء على النبي (15) - صلى الله عليه وسلم - ؛ كقوله (16) تعالى: {وإنك (17) لعلى خلق عظيم} (18) ، وكقوله تعالى: {الرسول النبي الأميِّ...} (19) ، إلى آخرها، وما في معنى ذلك، والله أعلم. &(2/301)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (1/587 رقم 512) في الصلاة، باب الصلاة خلف النائم، و(2/487 رقم997) كتاب الوتر، باب إيقاظ النبي - صلى الله عليه وسلم - أهله بالوتر...، ومسلم (1/511 رقم 744) في صلاة المسافرين، باب صلاة الليل ... .
(2) قوله: «عليه» ليس في (ح).
(3) قوله: «» سقط من (ح).
(4) في (ح) و(ز): «ولا يأثم».
(5) في (ح): «يحرج»، وفي (ز): «يخرج».
(6) في (أ): «عبارة».
(7) في (ب): «وإن».
(8) في (ح) و(ز): «وطلبناه».
(9) في (أ): «اصطلاحيًّا».
(10) في (ح): «ولم نناقشه عليه».
(11) في (ز): «الاستبراء».
(12) أخرجه البخاري (2/486 رقم 996) في الوتر، باب ساعات الوتر، ومسلم (1/512 رقم 745) في صلاة المسافرين، باب صلاة الليل.
(13) أخرجه مسلم (1/512 رقم 746) في صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل.
(14) في (ب): «محبوب» بدل: «محمود».
(15) في (ز): «رسول الله».
(16) في (ب): «في قوله».
(17) في (ز) و(غ): «إنك» بلا واو.
(18) سورة القلم، الآية: 4.
(19) سورة الأعراف، الآية: 157.(2/301)
وكون سعد هَمَّ أن لا يسأل أحدًا عن شيء حتى يموت؛ إنما كان ذلك منه (1) استقصارًا لفهمه؛ إذ لم يفهم ذلك من القرآن مع وضوح ذلك المعنى (2) فيه، وإنهاضًا لهمته (3) للبحث عن معاني القرآن، واكتفاء (4) بذلك عن سؤال أحد من أهل العلم.
وقول عائشة رضي الله عنها: «إِنَّ الله فَرضَ قِيَامَ اللَّيْلِ...» إلى قولها: «فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا»: ظاهر قولها هذا يدل على أنه كان فرضًا عليه وعلى الناس. قال مكي: وهو قول كافة أهل العلم. وقيل: إنه لم يكن فرضًا عليه ولا عليهم، حكاه الأبهري عن =(2/378)=@ بعضهم، قال لقوله: {نصفه أو انقص منه قليلاً ( أو زد عليه} (5) ، وليس هذا ضرب (6) الفروض، وإنما هو ندب. وقيل: كان فرضًا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده، مندوبًا لغيره، وكأن هذا مأخوذ من مواجهة (7) النبي (8) - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {يا أيها المزمل} (9) ، فخُصّ بالخطاب، وبما روي عن ابن عباس مرفوعًا (10) : «ثلاث عليّ فريضة، ولكم تطوع: الوتر، والضحى، وركعتا (11) الفجر »، وهو ضعيف. والصحيح ما نقلته عائشة رضي الله عنها. &(2/302)&$
__________
(1) قوله: «ذلك من» ليس في (ب)، وفي (أ): «ذلك منه منه».
(2) في (ب): «المغني».
(3) قوله: «إذا لم يفهم ذلك» إلى هنا ليس في (أ).
(4) في (غ): «واكتفى».
(5) سورة المزمل، الآية: 3-4.
(6) في (أ): «صوب»، وفي (ح): «صرف»، والمثبت من (ب).
(7) في (غ): «مواجَهته».
(8) قوله: «النبي» ليس في (ز) و(غ).
(9) سورة المزمل، الآية: 1.
(10) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (1/231)، والبزار كما في "كشف الأستار" (3/144 رقم2433)، والدارقطني (2/21)، والحاكم في "المستدرك" (1/300)، والبيهقي في "السنن" (2/468)، و(9/264)، جميعهم من طريق شجاع بن الوليد، عن أبي جناب يحيى بن أبي حيّة الكلبي، عن عكرمة، عن ابن عباس، به، وفيه: «الوتر، والنحر، وصلاة الضحى، وبعضهم يذكر» وركعتا الفجر «بدل» وصلاة الضحى».
والحديث أعلّه البزار والبيهقي بأبي جناب الكلبي، وقال الذهبي في "التلخيص": «ما تكلم الحاكم عليه، وهو غريب منكر، ويحيى ضعفه النسائي والدارقطني».
وقال الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (2/38-39): «ومداره على ابن أبي جناب الكلبي عن عكرمة، وأبو جناب ضعيف ومدلس أيضًا، وقد عنعنه، وأطلق الأئمة على هذا الحديث الضعف؛ كأحمد، والبيهقي، وابن الصلاح، وابن الجوزي، والنووي، وغيرهم، وخالف الحاكم فأخرجه في"مستدركه"، لكن لم يتفرد به أبو جناب، بل تابعه أضعف منه؛ وهو جابر الجعفي...».
قال الشيخ رحمه الله: جابر ضعيف جدًّا، فمتابعته ليست بشيء، وقد يكون هو الواسطة بين أبي جناب وعكرمة، فأسقطه أبو جناب.
وذكر ابن حجر أيضًا متابعًا آخر شديد الضعف كسابقه.
(11) في (غ): «وركعتي».(2/302)
وقولها: «إن النسخ كان بعد حول» (1) : خولفت في ذلك، فقيل: بعد
عشر سنين، قال عياض (2) : «وهو الظاهر؛ لأن السورة مكية، ومن أول ما نزل من القرآن، إلا (3) الآيتين (4) آخرها نزلت بالمدينة»، وهذا الذي قاله صحيح بصحيح الأحاديث والنقل المشهور على ما قدمناه في كتاب الإيمان.
وقولها: «ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد (5) »): تعني أنه كان يسلم من وتره وهو قاعد (6) ، مخبرة بمشروعية (7) محل السلام، ولم يرو (8) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى ركعتي الفجر قاعدًا، والله أعلم.
وسيأتي الكلام على من غلب عن حزبه. =(2/379)=@
338- وعَنِ ابْنِ عُمَرَ (9) : أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَلاةِ اللَّيْلِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «صَلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً، تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ ».
وفي أُخْرَى: فَقِيلَ لابْنِ عُمَرَ: مَا مَثْنَى مَثْنَى؟ قَالَ: تُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول (10) ابن عمر في تفسير: مثنى مثنى: «يُسَلِّم مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ»: إخبار منه عن صلاته - صلى الله عليه وسلم - كيف كانت؛ كما تقدم من قول عائشة. &(2/303)&$
__________
(1) هذا تعبير من المصنف بالمعنى، وإلا فنص الرواية: «وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرًا في السماء».
(2) في "الإكمال" (3/95).
(3) قوله: «إلا» سقط في (ز).
(4) في (ب): «آيتين».
(5) في (ح): «قائم» بدل: «قاعد».
(6) قوله: «وهو قاعد» ليس في (أ).
(7) في (ز): «مشروعية»، وفي (غ): «من مشروعية».
(8) في (ب): «ترو».
(9) أخرجه البخاري (1/561 رقم 472) في الصلاة، باب الحلق والجلوس في المسجد، و(2/477 رقم990، 993) كتاب الوتر، باب ما جاء في الوتر، و(2/486 رقم995) كتاب الوتر، باب ساعات الوتر، و(3/20 رقم1137) كتاب التهجد، باب كيف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومسلم (1/516-517، 519 رقم 749/145، 147، 159) في صلاة المسافرين، باب صلاة الليل مثنى مثنى والوتر ركعة من آخر الليل.
(10) في (ب): «وقال».(2/303)
339- وَعَنْهُ (1) عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلا تِكُمْ بِالَليلِ وِتْرًَا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله (2) - صلى الله عليه وسلم - : «اجْعَلُوا آخِرَ صَلا تِكُمْ وِتْرًَا »: يفهم منه أن الوتر يضاف إلى شفع قبله، لكن هل (3) هذا الشفع هو العشاء، أو هو نفل، فيكون أقله ركعتين (4) ؟ قولان =(2/380)=@ لأصحابنا، وعليه انبنى (5) الخلاف في الوتر: هل يكتفى (6) فيه (7) بركعة فقط، أو لا بد من شفع؟ وعلى الأول يدل (8) حديث (9) النسائي (10) .
340- وَعَنْهُ (11) قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «الْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ الَليْلِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن ابن عمر مرفوعًا: «والمغرب (12) وتر صلاة النهار، فأوتروا صلاة الليل »، وعليه يدل قوله - صلى الله عليه وسلم - : «الْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ الَليْلِ»، وصار إليه جماعة من السلف والفقهاء (13) ،وهو قول ابن نافع من أصحابنا، وقد روي في الحديث (14) ما يرفع الخلاف؛ وهو ما خرّجه النسائي (15) عن أبي أيوب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الوتر حق، فمن شاء أوتر بخمس، ومن شاء أوتر بثلاث، ومن شاء أوتر بواحدة ». وذُكر في هذا الحديث: أنه روي موقوفًا (16) .
والحاصل في مجموع (17) الأحاديث: أنه يصح أن يضاف إلى الفرض وإلى النفل، وإضافته إلى النفل أولى، والله أعلم.
341- وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ (18) : أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَوْتِرُوا قَبْلَ أَنْ تُصْبِحُوا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله (19) : «أَوْتِرُوا قَبْلَ أَنْ تُصْبِحُوا »، وقوله: «إذا (20) خشي أحدكم الصبح =(2/381)=@ صلى ركعة »: دليل على أن آخر وقت الوتر طلوع الفجر، وقد زاد هذا المعنى وضوحًا ما خرّجه أبو داود عن ابن عمر مرفوعًا: «إذا طلع الفجر فقد ذَهَبَ كل صلاة الليل والوتر، فأوتروا قبل طلوع الفجر »؛ تفرد به سليمان بن موسى الأشدق، وهو ثقة إمام. ولا خلاف في أن أول وقته بعد صلاة العشاء، وأما آخر وقته &(2/304)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (1/562 رقم 472) في الصلاة، باب الحلق والجلوس في المسجد، و(2/488 رقم998) كتاب الوتر، باب ليجعل آخر صلاته وترًا، ومسلم (1/517 رقم 751) في صلاة المسافرين، باب صلاة الليل مثنى مثنى.
(2) في (ز): «وقوله - صلى الله عليه وسلم - ».
(3) قوله: «هل» ليس في (ب).
(4) في (أ): «ركعتان».
(5) في (ز): «ابتنى».
(6) في (غ): «هو يكتفي».
(7) في (ح): «منه» بدل: «فيه».
(8) في (ب): «قد دل».
(9) في (ز): «يدل على الحديث».
(10) أخرجه النسائي في "الكبرى" (1/435 رقم1382) في الوتر، با الأمر بالوتر، من طريق فضيل بن عياض، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «صلاة المغرب وتر صلاة النهار، وأوتروا صلاة الليل ». وسنده صحيح.
وقد أخرجه عبدالرزاق في "المصنف" (3/28 رقم4675) عن هشام بن حسان كذلك.
وكذا رواه يزيد بن هارون وعلي بن عاصم عن هشام.
أما رواية يزيد بن هارون: فأخرجها ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/81 رقم6708)، والإمام أحمد في "المسند" (2/30، 41).
وأما رواية علي بن عاصم: فأخرجها ابن عدي في "الكامل" (5/192)، وقرن علي في هذه الرواية خالدًا الحذاء مع هشام.
وأخرجه عبدالرزاق أيضًا برقم (4676) عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن ابن عمر مرفوعًا. وأخرجه الإمام أحمد أيضًا (2/82-83، 154)، والطبراني في "الأوسط" (8/207 رقم8414)، و"الصغير" (2/231 رقم1081)، كلاهما من طريق هارون بن إبراهيم الأهوازي، عن ابن سيرين، عن ابن عمر أيضًا مرفوعًا. وخالف هؤلاء جميعًا خالد السلمي وأشعث بن عبدالملك الحمراني، فروياه عن محمد بن سيرين، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً.
أما رواية خالد السلمي، فأخرجها ابن أبي شيبة في الموضع السابق برقم (6713).
وأما رواية أشعث بن عبدالملك: فأخرجها النسائي في الموضع السابق برقم (1383).
والرواية الموصولة أصح كما هو ظاهر، وقد تكون المرسلة صحيحة عن ابن سيرين أيضًا، فيكون ينشط أحيانًا فيصل الحديث، ويكسل أحيانًا فيرسله، والله أعلم.
وقد صحح الحديث الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء" (2/875 رقم1147)، والشيخ ناصر الدين الألباني في "صحيح الجامع" (2/713، 1138 رقم3834، 6720).
(11) أخرجه مسلم (1/518 رقم 752) في صلاة المسافرين، باب صلاة الليل مثنى مثنى.
(12) في (ب): «والمغرب».
(13) قوله: «والفقهاء» ليس في (ح).
(14) قوله: «في الحديث» ليس في (أ)، وفي (ح) و(ز): «في هذا الحديث».
(15) في "سننه" (3/238 رقم1710، 1711) في قيام الليل وتطوع النهار، باب ذكر الاختلاف على الزهري، من طريق دُوَيْد بن نافع والأوزاعي، كلاهما عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب، به مرفوعًا، وهذا لفظ رواية الأوزاعي.
وأخرجه الطبراني في "الكبير" (4/147-148 رقم3965)، وابن عدي في "الكامل" (4/ 102)، والدارقطني في "السنن" (2/23)، ثلاثتهم من طريق دويد بن نافع، عن الزهري، به.
وأخرجه الدارمي في "سننه" (1/371) في الصلاة، باب كم الوتر، وابن ماجه (1/376 رقم1190) في إقامة الصلاة، باب ما جاء في الوتر بثلاث، وابن حبان في "صحيحه" (6/170 رقم2410/الإحسان)، والطبراني برقم (3961)، والدارقطني (2/22-23)، والحاكم (1/302)، والبيهقي في "سننه" (3/23-24)، جميعهم من طريق الأوزاعي، عن الزهري، به.
وتابع دويد بن نافع والأوزاعي على رفعه: سفيان بن حسين، وبكر بن وائل، ويونس بن يزيد، ومحمد بن الوليد الزبيدي، ومحمد بن أبي حفصة، وأشعث بن سوار.
وأما رواية سفيان بن حسين: فأخرجها ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/92 رقم6844) في الصلاة، باب من كان يوتر بثلاث أو أكثر، والإمام أحمد في "المسند" (5/418)، والدارمي في الموضع السابق، والطحاوي في"شرح معاني الآثار" (1/291)، والطبراني برقم (3963)، والدارقطني (2/23)، والحاكم (303)، والبيهقي في الموضع السابق.
وأما رواية بكر بن وائل: فأخرجها أبو داود في "سننه" (2/132رقم1422) في الصلاة، باب كم الوتر، وابن المنذر في "الأوسط" (5/188 رقم2666)، والطبراني برقم (3962)، والحاكم في الموضع السابق.
وأمّا رواية يونس بن يزيد: فأخرجها ابن حبان(6/167، 171 رقم2407، 2411/إحسان).
وأما رواية محمد بن الوليد الزبيدي: فأخرجها الدارقطني (2/23)، والحاكم (1/302).
وأما رواية محمد بن أبي حفصة: فأخرجها الطبراني برقم (3967)، وابن عدي (6/261)، والبيهقي (3/24).
وأما رواية أشعث بن سوار: فأخرجها الطبراني برقم (3964). كذا رواه هؤلاء جميعهم عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي أيوب مرفوعًا، وخالفهم عبدالله بن بديل وأبو معيد فروياه عن الزهري، به موقوفًا على أبي أيوب.
أما رواية عبدالله بن بديل: فأخرجها الطيالسي في "مسنده" (ص81 رقم593).
وأما رواية أبي معيد: فأخرجها النسائي في الموضع السابق برقم (1712). ورواه سفيان ابن عيينة، ومعمر بن راشد، ومحمد بن إسحاق، ثلاثتهم عن الزهري، لكن اختلف عليهم في رفعه ووقفه. فرواه ابن أبي شيبة في الموضع السابق برقم (6845) عن ابن عيينة، عن الزهري، فوقفه على أبي أيوب. وأخرجه النسائي في الموضع السابق برقم (1713.طريق الحارث بن مسكين، والطحاوي (1/291.طريق يونس بن عبدالأعلى، كلاهما عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، به موقوفًا كما رواه ابن أبي شيبة. وخالفهم إبراهيم بن محمد الشافعي ومحمد بن حسان الأزرق، فروياه عن ابن عيينة، به مرفوعًا.
أما رواية إبراهيم بن محمد: فأخرجها الطبراني برقم (3966).
وأما رواية محمد بن حسان الأزرق: فأخرجها الحاكم (1/303).
هذا بالنسبة لرواية ابن عيينة.
وأما رواية معمر بن راشد: فأخرجها عبدالرزاق في "المصنف" (3/19 رقم4633) عنه، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي أيوب موقوفًا عليه.
وتابع عبدالرزاق حماد بن زيد وابن علية وعبدالأعلى كما سيأتي عن الدارقطني. وخالفهم وهيب بن خالد وعدي بن الفضل، فروياه عنه، عن الزهري، به مرفوعًا.
أما رواية وهيب فأخرجها الطحاوي (1/291).
وأما رواية عدي بن الفضل: فأخرجها الدارقطني في الموضع السابق، والحاكم في الموضع السابق أيضًا.
وممن رواه عن الزهري أيضًا واختُلف عليه: محمد بن إسحاق. فقد رواه عن الدارقطني (2/24.طريق يزيد بن هارون، والحاكم في الموضع السابق من طريق أحمد بن خالد الوهبي، كلاهما عن محمد بن إسحاق عن الزهري، به موقوفًا على أبي أيوب.
وذكر الدارقطني كما سيأتي أن محمد بن إسحاق رواه عن الزهري مرفوعًا. والحديث رواه الحاكم على شرط الشيخين، وقال: «لست أشك أن الشيخين تركا هذا الحديث لتوقيف بعض أصحاب الزهري إياه، هذا مما لا يعلّ مثل هذا الحديث».
ونقل ابن أبي حاتم في "العلل" (1/172) عن أبيه قوله: «هو من كلام أبي أيوب».
ونقل ابن حجر في "بلوغ المرام" (ص100 رقم394) أن النسائي رجح وقفه. وقال في "التلخيص الحبير" (2/29): «وصحح أبو حاتم والذهلي والدارقطني في "العلل" والبيهقي وغير واحد وقفه، وهو الصواب».
كذا قال عن الدارقطني! والذي في "العلل" للدارقطني (6/98-100) ترجيح الوقف عن معمر فقط؛ حيث سئل الدارقطني عن هذا الحديث، فقال: «يرويه الزهري، واختُلف عنه في رفعه. فرواه بكر بن وائل والأوزاعي والزبيدي ومحمد بن أبي حفصة وسفيان بن حسين ومحمد بن إسحاق، عن الزهري مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ورواه أشعث بن سوار عن الزهري فشكّ في رفعه.
واختلف عن يونس، فرواه حرملة عن ابن وهب، عن يونس مرفوعًا. وخالفه ابن أخي وهب، عن عمه، عن يونس، فوقفه. وتابعه عثمان بن عمر عن يونس.
واختلف عن معمر، فرفعه عدي بن الفضل عن معمر. ووقفه حماد بن زيد وابن علية وعبدالأعلى وعبدالرزاق عنه. واختلف عن ابن عيينة، فرفعه محمد بن حسان الأزرق عنه. ووقفه الحميدي وقتيبة وسعيد بن منصور. والذين وقفوه عن معمر أثبت ممن رفعه».اهـ.
(16) في (غ): «مرفوعًا».
(17) في (ز) و(غ: «من» بدل «في».
(18) أخرجه مسلم (1/519 رقم 754) في صلاة المسافرين، باب صلاة الليل مثنى مثنى.
(19) في (ب): «وقوله».
(20) في (ز): «وإذا».(2/304)
المختار فمذهب الجمهور أنه طلوع الفجر. وقال ابن مسعود: إلى صلاة الصبح. وهل له بعد ذلك وقت ضرورة؟ فقال مالك والشافعي: وقت ضرورته بعد طلوع الفجر ما لم يصل الصبح، وقال أبو مصعب: لا وقت ضرورة له، فلا يصلى بعد طلوع الفجر، وقاله الكوفيون. وقد روي عن (1) مالك، وقال أبو حنيفة: يُقْضَى (2) بعد صلاة الصبح، وقاله طاووس. وقال الأوزاعي وأبو ثور (3) والحسن وا لليث وغيرهم: يقضى بعد طلوع الشمس، وحكي عن سعيد بن جبير (4) : أنه يوتر من القابلة.
قال الشيخ رحمه الله: وقد روى أبو داود عن أبي سعيد مرفوعًا: «من نام عن وتره، أو نسيه فليصله إذا ذكره »، وهذا الظاهر يقتضي أنه يُقْضَى دائمًا كالفرض. ولم أر قائلاً به، والله أعلم.
ثم إن القائلين: بأن أقل الوترثلاث اختلفوا: هل يفصل بينهما بسلام أم لا؟ فالأول: مشهور مذهب مالك والشافعي، والثاني: مذهب أبي حنيفة. وقال ابن نافع: إذا صلى شفعًا قبل وتره فلا يسلم منه، ولا يفصل بينهما، وليأت به متصلاً كصلاة المغرب، وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز، وذكر: أنه مذهب =(2/382)=@ الفقهاء السبعة، ومذهب أهل المدينة. وقال الأوزاعي: إن وصل حسن (5) ، وإن فصل حسن، ثم المستحبُّ عند الشافعي وأصحابه، وعند مالك، وجل أصحابه: أن يقرأ في الوتر بـ{قل هو الله أحد}، والمعوذتين. وقيل عن مالك: بـ{قل هو الله أحد} فقط، وبه قال الثوري، وأحمد، وأصحاب الرأي، وعليه أكثر أهل العلم. واختار أبو مصعب: أن يقرأ في كل ركعة من الشفع والوتر بـ{قل هو الله أحد}. &(2/305)&$
__________
(1) قوله: «عن» سقط من (ز).
(2) في (ز) و(ح): «تقضي».
(3) في (ز): «الوزاعي أبو ثور».
(4) في (ز): «وحكى عن ابن مسعود: سعيد بن جبير، وشطب علي: «مسعود» وأبقى «ابن».
(5) في (ز) و(ح): «فحسن».(2/305)
واختارت طائفة من أهل العلم: أن يقرأ في الشفع بـ{سبح اسم ربك الأعلى (1) }، و {قل يا أيها الكافرون}، وفي الوتر بـ{قل هو الله أحد} والمعوّذتين، أخذًا بما خرَّجه النسائي والترمذي من فعله - صلى الله عليه وسلم - لذلك (2) .
- - - - -
وهنا بدأت المقابلة الثنائية مع نسخة (أ)
ومن (3) باب مَن غُلِب عن حزبه
قوله - صلى الله عليه وسلم - : «مَن نام عن حِزْبه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كُتِب له كأنما قرأه مِنَ الليل» هذا تفضل من الله تعالى، ودليل على (4) أن صلاةَ =(2/383)=@ الليل أفضلُ من صلاة النهار. والحزبُ هنا الجزءُ من القرآن يُصلَّى به. وهذه الفضيلةُ (5) إنما تحصلُ (6) لمن غلبه نوم، أو عذر منعه من القيام؛ مع أن نيَّتَهُ القيام (7) . وقد ذكر مالك في "الموطأ" عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما مِن امرئٍ تكونُ له صلاة بليل فَغَلبه (8) عليها نوم (9) إلا كتب الله له أجرَ صلاته، وكان نومُه صدقةَ عليه»، وهذا أتَمُّ في التَّفضيل (10) &(2/306)&$
__________
(1) قوله: «اسم ربك الأعلى» ليس في (ز) و(غ).
(2) في (غ): «كذلك».
(3) من هناد بداية سقط من نسخة (غ).
(4) قوله: «على» تكرار في (ز).
(5) في (ز): «فضيلة».
(6) في (ز): «تجعل».
(7) في (أ): «للقيام» وفي (ز) تشبه كذلك.
(8) في (أ): «يغلبه».
(9) في (ز): «النوم».
(10) في (أ): «التفضل».(2/306)
والمجازاة بالنية، وظاهِرُه أن له أجرَه مُكملاً مُضاعَفًا؛ وذلك لحسن نيته، وصدق تلهّفه، وتأسّفه. وهذا قولُ بعضِ شيوخنا، وقال بعضُهم: يُحتمل أن يكونَ غيرَ مضاعَفٍ (1) إذ الذي يُصليها (2) أكمل وأفضل.
قال الشيخ رحمه الله: والظاهِرُ التمسُّكُ بالظَّاهر، فإن الثوابَ فَضلٌ من الكريم الوهاب، وقد تقدَّم من حديث عائشة رضي الله عنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا غَلَبَهُ نوم، أو وَجَعٌ، صلَّى من النهار اثنتي (3) عشرة ركعة. وهذا كلُّه إنما هو سَعْي في تحصيل مثل ما غُلِب عليه، لا أنه قضاءٌ له (4) ؛ إذ ليس في ذمَّته (5) شيء، ولا يُقضَى إلا ماتعلَّق بالذمة، وقد رأى مالك أن يصلِّي حزبه مَن فاته بعد طُلُوع الفجر، وهو عنده وقتُ ضرورة لمن غُلِب على حزبه وفاته؛ كما يقول في الوتر.
وقوله (6) - صلى الله عليه وسلم - : «أيكُم خاف ألاَّ يقومَ من آخر الليل فليوتر ثم ليرقد » إلى =(2/384)=@ آخره... يدلُّ على أن تأخيرَ الوتر أفضلُ لمن قَوِيَ عليه، وأنَّ تعجيلَه حزمٌ لئلا يفوت بطلوع الفجر. وقد روى أبو سليمان الخطابي عن سعيد بن المسيّب: أنَّ أبا بكر وعمر رضي الله عنهما تذاكرا (7) الوترَ عند (8) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال أبو بكر: أما أنا (9) فإنِّي أنام على وتر، فإن صليتُ صليتُ شَفعًا حتى أصبحَ (10) ، وقال عُمر: لكنًي أنامُ على شفع ثم أوتر من السَّحر. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: «حَذِر (11) هذا ». وقال لعمر: «قَوِيَ هذا ». وقد دلَّ قولُ أبي بكر - رضي الله عنه - في هذا الحديث: على أنَّ مَن صلَّى وِترَه في (12) أول الليل، ثم نشطَ للصَّلاة من آخره صلّى ما شاء مِن شَفْع، ولا يلزمُه أن يُوتر من آخر صلاته وترًا آخر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما خرَّجه أبو داود عن طلق بن علي مرفوعًا: «لا وتران في ليلة »، وهو صحيح (13) ، ولا يجوزُ أن يضيفَ إلى وتره المتقدِّم وِتْرًا آخر، فينقض المتقدِّم (14) ، وقد اختلفَ فيه. وإلى ما فَعَلَه (15) أبو بكر ذهبَ كثير من &(2/307)&$
__________
(1) في (ز): «غير مضاف».
(2) في (أ): «يصليهما».
(3) في (أ): «ثنتي».
(4) في (أ): «إلا أنه فضاء له».
(5) في (ز): «دمتو».
(6) في (ز): «قوله».
(7) في (ز): «تذاكر».
(8) في (غ): «عن» بدل «عند».
(9) في (ز): «أمانا».
(10) في (ز) و(أ): «يصبح».
(11) في (أ): «حرر».
(12) في (ز) و(أ): «من» بدل «في».
(13) في (ز): «الصحيح».
(14) في (أ): «المقدم».
(15) في (أ): «فعل».(2/307)
الصحابة، والتابعين وأئمة الفتوى (1) : مالك، وغيره، وقد ذهبَ إلى النَّقض جماعة من الصَّحابة وغيرهم، وروي عن مالك، والصَّحيحُ: فِعل أبي بكر، والله أعلم. =(2/385)=@
وقد تقدَّم الكلامُ في القنوت، وفيما هو الأفضلُ، هل طول القيام في الصلاة أفضل؟ أو كثرة السُّجود؟
وقوله: «إن في الليل ساعة... » الحديث؛ هذه الساعةُ هي (2) التي يُنادي فيها المنادي: «من يسألني فأعطيه... » الحديث. وهي في الثُّلُث الأخير (3) من الليل إلى أن يطلعَ الفجر؛ كما يأتي.
وقوله: «ينزل (4) ربُّنا » كذا صحَّتِ الروايةُ هنا، وهي ظاهِرة في النُزول المعنوي، وإليها يردُّ ينزلُ على أحد التأويلات، ومعنى ذلك: أنَّ مقتضى عظمةِ الله تعالى، وجلاله، واستغنائه، ألاَّ يعبأ بحقيرٍ، ذليل، فقير، لكن ينزل (5) بمقتضى كرمه ولُطفه؛ لأن يقول: «من يقرضُ غيرَ عَدُوم ولا ظَلُوم ». ويكون قولُه: «إلى السَّماء الدُّنيا » عبارةً عن الحاجة (6) القريبة إلينا، والدُّنيا بمعنى: القُربى، والله أعلم.
وقد قيَّده بعضُ الناس «يُنزِل » بضم الياء، من: أنزل، فيكون مُعدَّى إلى مفعولٍ محذوف؛ أي: يُنزل اللهُ تعالى مَلَكًا فيقولُ: كذا. وأما رواية: «ينزل » ثلاثيًّا، &(2/308)&$
__________
(1) في (أ): «الفتيا».
(2) في (ز) و(أ): «هي الساعة التي».
(3) في (أ): «الآخر».
(4) في (ز): «يتنزل».
(5) في (ز): «يتنزل».
(6) في (أ): «الحالة».(2/308)
مِن «نزل»، فهي صحيحةٌ أيضًا، وهي من باب حَذْف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه؛ كما قال: {وَسْئَلِ القَريَةَ}. وقد دلَّ على صحَّة هذا التأويل ما رواه =(2/386)=@ النسائيُّ عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله عز وجل يُمهل حتى يمضي شطرُ الليل الأول (1) ، ثم يأمرُ مناديًا يقول: هل مِن داعٍ يُستجاب له؟ هل من مُستغفر يُغفر له؟ هل من سائل يُعطى؟ وهذا صحيح، وهو نص، وبه يرتفع الإشكال (2) ، وقد قدَّمنا في كتاب الإيمان ما تُحمل (3) عليه هذه المشكلات كلُّها.
وقوله: «من يدعوني فاستجيبَ له »؛ أي: فأجيبه، وهذا مِنَ الله تعالى وعدٌ حق، وقَول صدق: {وَمَن أوفى بعَهده من الله}، وإذا وقعت هذه الشُروطُ من العبد على حقيقتها وكَمالها فلا بُدَّ من المشروط، فإن تخلَّفَ شيء مِن ذلك؛ فذلك لخللٍ في الشرط (4) . =(2/387)=@ &(2/309)&$
__________
(1) قوله: «الأول» ليس في (أ).
(2) في (ز): «للإشكال».
(3) في (ز) و(أ): «يحمل...».
(4) في (ز): «من الشروط».(2/309)
- - - - -
( 103 ) باب الترغيب في قيام رمضان وليلة القدر وكيفية القيام
348- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) قَالَ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُرَغِّبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ فِيهِ بِعَزِيمَةٍ، فَيَقُولُ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ » فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ كَانَ الأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِي خِلافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ عَلَى ذَلِكَ.
وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ».
وفِي أُخْرَى: مَنْ يُقِمْ لَيْلَةَ القَدْرِ فَيُوَافِقهَا.
349- وعَنْ عَائِشَةَ (2) : أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَصَلَّى بِصَلاتِهِ نَاسٌ. ثُمَّ صَلَّى مِنَ الْقَابِلَةِ فَكَثُرَ النَّاسُ - في رواية: عَجَزَ المَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ - ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: «قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ فَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلا أَنِّي خَشِيتُ أنْ تفْرَضَ عَلَيْكُمْ» قَالَ: وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الترغيب في قيام رمضان
قوله: «كَانَ يُرَغِّبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ فِيهِ (3) بِعَزِيمَةٍ» يدل (4) على أن قيام الليل في رمضان من نوافل الخير، ومن أفضل أعمال البر، لا خلاف في هذا، وإنما الخلاف في الأفضل منه. هل إيقاعه في البيت، أو في (5) المسجد؟ فذهب مالك إلى أنه (6) في البيت أفضل لمن قوي عليه، وكان أولاً يقوم في المسجد ثم ترك ذلك، وبه قال أبو يوسف، وبعض أصحاب الشافعي. وذهب ابن عبد الحكم وأحمد وبعض أصحاب الشافعي (7) : إلى أن حضورها في الجماعة أفضل (8) ، وقال الليث: لو قام الناس في بيوتهم، ولم (9) يقم أحد في المسجد؛ لا ينبغي (10) أن يخرجوا إليه، والحجة لمالك قوله - صلى الله عليه وسلم - : «خير صلاة المرء في بيته إلاَّ المكتوبة »، (11) ، وقول عمر - رضي الله عنه - : «نعمت البدعة هذه (12) ، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون (13) ») (14) . وحجة مخالفه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صلاّها في الجماعة في المسجد، &(2/310)&$
__________
(1) أخرجه البخاري(1/91 رقم 35) في كتاب الإيمان، باب قيام ليلة القدر من الإيمان، و(1/92 رقم37، 38) كتاب الإيمان، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان (وما بعده)، و(3/115 رقم190) كتاب الصوم، باب من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا ونية، و(3/250 رقم2008، 2009) كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، و(3/255 رقم2014) كتاب فضل ليلة القدر، باب فضل ليلة القدر، ومسلم(1/523 رقم 759) في صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح.
(2) أخرجه البخاري (2/213 رقم 729) كتاب الأذان، باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة، و(2/214 رقم730) كتاب الأذان، باب صلاة الليل، و(2/403 924) كتاب الجمعة، باب من قال في الخطبة بعد الثناء: أما بعد، و(3/10 رقم1129) كتاب التهجد، باب تحريض النبي - صلى الله عليه وسلم - على صلاة الليل...، و(4/250 رقم2011، 2012) كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، و(10/314 رقم586) كتاب اللباس، باب الجلوس على الحصير ونحوه، ومسلم (1/524 رقم 761) في صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح.
(3) قوله: «فيه»: وليس في (غ) و(أ) و(ح) و(ز).
(4) في (أ): «تدل».
(5) قوله: «في» ليس في (أ).
(6) في (ح): «إلى أن إيقاعه».
(7) قوله: «وذهب ابن عبد الحكم وأحمد وبعض أصحاب الشافعي» وقوله: «أفضل» ليس في (أ).
(8) قوله: «وذهب ابن عبد الحكم وأحمد وبعض أصحاب الشافعي» وقوله: «أفضل» ليس في (أ).
(9) في (غ): «لم» بلا واو.
(10) في (غ): «لا نبغي».
(11) هو الحديث الآتي برقم (657) أحاديث التلخيص.
(12) في (ح): «هي».
(13) في (ب) و(ح) و(ز) و(غ): «يقومون فيها»، والمثبت من (أ)، وهو الموافق لرواية البخاري.
(14) أخرجه البخاري في "صحيحه" (4/250 رقم2010) في صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان.(2/310)
ثم أخبر بالمانع الذي منعه (1) من الدوام على ذلك، وهو خشية أن تفرض (2) عليهم، ثم إن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يصلونها في المسجد أوزاعًا متفرقين؛ إلى أن جمعهم عمر - رضي الله عنه - على قارئٍ واحد، فاستقرّ الأمر على ذلك، وثبتت السنة كذلك (3) . =(2/388)=@
قال الشيخ رحمه الله: ومالك أحق الناس بالتمسك (4) بهذا؛ بناءً على أصله في التمسّك بعمل أهل المدينة.
وقوله: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ»، دليل على جواز (5) إطلاق لفظ رمضان غير مضافٍ إلى شهر؛ خلافًا لمن (6) منع ذلك حتى يقال: شهر رمضان، قال: لأن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، ولا يصح هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (7) .
وقوله: «إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا »؛ أي: تصديقًا بما جاء في ذلك، واحتسابًا لأجره (8) على الله تعالى. وقد روي: «من قام رمضان وصامه إيمانًا واحتسابًا غُفر (9) له ما تقدّم من ذنبه» (10) .
وقوله (11) : «فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ كَانَ الأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِي خِلافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ» أي: لم يزل أمر قيام رمضان معلوم الفضيلة؛ يقومونه لكن متفرقين وفي (12) بيوتهم، ولم يجتمعوا (13) على قارئٍ واحد؛ حتى كان مِنْ جَمْعِ عمر لهم على أُبَيٍّ في المسجد ما قد ذكره مالك في "الموطأ" (14) .
ثم اختُلف في المختار من عدد القيام، فعند مالك: أن المختار من ذلك (15) ست وثلاثون ركعة (16) ؛ لأن ذلك عمل أهل المدينة المتصل.
وقد قال نافع (17) : «لم أدرك الناس إلا &(2/311)&$
__________
(1) في (ب) و(ز): «يمنعه».
(2) في (ز): «يفرض».
(3) في (ح): «وثبتت سنته بذلك»، وفي (ب): «فثبتت سنته كذلك» وفي (ز) و(غ): «وثبتت سنته كذلك».
(4) قوله: «بالتمسك " ليس في (ب).
(5) قوله: «جواز " ليس في (ح).
(6) قوله: «لمن» سقط من (غ).
(7) أخرجه ابن عدي في "الكامل" (7/53)، وعنه البيهقي (4/201.طريق محمد بن أبي معشر، عن أبيه، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا تقولوا رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، ولكن قولوا: شهر رمضان ».
قال ابن عدي: «لا أعلم يروى عن أبي معشر بهذا الإسناد». وقال البيهقي: «وهكذا رواه الحارث بن عبدالله الخازن، عن أبي معشر. وأبو معشر هو نجيح السندي، ضعفه يحيى بن معين، وكان يحيى القطان لا يحدث عنه». اهـ.
وقال ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/187): «هذا حديث موضوع لا أصل له، وأبو معشر اسمه نجيح، كان يحيى بن سعيد يضعفه ولا يحدث عنه، ويضحك إذا ذكره، وقال يحيى بن معين: إن إسناده ليس بشيء، ولم يذكر أحد في أسماء الله تعالى رمضان، ولا يجوز أن يسمى به إجماعًا. وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: « إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة». اهـ.
وقال البيهقي عقب روايته: «وقد قيل عن أبي معشر، عن محمد بن كعب، عن قوله، وهو أشبه».
ثم قال: «وروي ذلك عن مجاهد والحسن البصري، والطريق إليهما ضعيف، وقد احتج محمد بن إسماعيل البخاري في "الصحيح" في جواز ذلك بالحديث». اهـ.
وقد سُئل أبو حاتم عن هذا الحديث، كما في "العلل" لابنه (1/249-250)، فقال: «هذا خطأ، إنما هو قول أبي هريرة». اهـ.
ومن قول أبي هريرة أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" كما في "تفسير ابن كثير" (1/310.طريق أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة.
وقال الحافظ ابن كثير: «قال الشيخ رحمه الله: أبو معشر: هو نجيح بن عبدالرحمن المدني، إمامُ المغازي، وقد أنكره عليه الحافظ ابن عدي، وهو جدير بالإنكار، فإنه متروك، وقد وهم في رفع هذا الحديث». ا.هـ. والحديث ضعفه الحافظ في "الفتح" (4/311).
وله شاهد من رواية ناشب بن عمرو، عن مقاتل بن حيان، عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عمر، مرفوعًا بمعناه؛ أخرجه تمام في "فوائده" (1/162 رقم551/الروض البسام).
وقال المعلمي في تحقيقه لـ"الفوائد المجموعة" (ص87): «في سنده من لم أجده، وهو مع ذلك منقطع».اهـ.
وناشب بن عمرو؛ قال البخاري: منكر الحديث، وضعفه الدارقطني.
وأخرجه ابن النجار في "التاريخ"- كما في "اللآلئ المصنوعة" (2/98)- من حديث عائشة، قال ابن عراق في "تنزيه الشريعة" (2/153): «في سنده من لم أعرفهم». اهـ.
وقال المعلمي اليماني في الموضع السابق: «سنده مظلم، وهو موضوع بلا ريب». اهـ.
(8) في (ح) و(غ): «بالأجرة».
(9) في (ب): «غفر الله له».
(10) أخرجه ابن ماجه (1/420 رقم1326)، وابن حبان (8/437-438 رقم3682/الإحسان)، والبغوي في "شرح السنة" (6/218 رقم1707)، ثلاثتهم من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعًا، به. وسنده حسن، وصححه البغوي.
(11) في الحديث المتقدم برقم (633).
(12) في (أ): «في» بدون الواو.
(13) في (ب) و(ح) و(ز) و(غ): «يجمعوه».
(14) (1/114 رقم 3) في الصلاة في رمضان، باب ماجاء في قيام رمضان، وعنه أخرجه البخاري في "صحيحه" (4/250 رقم2010) في صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان.
(15) قوله: «من ذلك» ليس في (ب).
(16) قوله: «ركعة» ليس في (أ) و(ز) و(ح).
(17) قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (4/254): «وقد رواه ابن وهب، عن العُمري، عن نافع...» فذكره.(2/311)
وهم يقومون بتسع (1) وثلاثين ركعة، يوترون منها بثلاث». وقال الشافعي: عشرون =(2/389)=@ ركعة، وقال كثير من أهل العلم: إحدى عشرة ركعة؛ أخذًا بحديث عائشة رضي الله عنها المتقدم (2) .
وسيأتي الكلام على أحاديث ليلة القدر.
وقوله: «مَنْ يُقِمْ (3) لَيْلَةَ القَدْرِ فَيُوَافِقهَا »: اختلف في القدر الذي (4) أضيفت الليلة له (5) ، فقال ابن عباس: القدر: العظمة (6) ؛ من قوله تعالى (7) : {وما قدروا (8) الله حق قدره} (9) ؛ أي: ما عظموه حق عظمته، وقال مجاهد: القدر: تقدير الأشياء من أمور السنة. وقال ابن الفضل: يعني سوق (10) المقادير إلى المواقيت، وقيل: قُدِّر في وقتها إنزال القرآن.
و«يُقِمْ» في هذه الرواية يعني به يطلب بقيامه ليلة القدر، وحينئذ يلتئم (11) مع قوله: «وَافِقهَا»؛ لأن معنى يوافقها (12) : يصادفها (13) ، ومن صلى فيها فقد صادفها. =(2/390)=@
ويحتمل أن تكون الموافقة هنا عبارة عن قبول الصلاة فيها والدّعاء، أو يوافق الملائكة في دعائها، أو يوافقها حاضر القلب متأهلاً لحصول الخير والثواب؛ إذ ليس كل دعاء يسمع، ولا كل عمل يقبل (14) ، فإنه: {إنما يتقبل الله من المتقين} (15) ، وسيأتي استيفاء هذا المعنى إن شاء الله تعالى.
350- وَعَنْ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ (16) ؛ وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ عَبْدَ الله بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَنْ قَامَ السَّنَةَ أَصَابَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَقَالَ أُبَيٌّ: وَالله الَّذِي لا إِلهَ إِلا هُوَ! إِنَّهَا لَفِي رَمَضَانَ - يَحْلِفُ مَا يَسْتَثْنِي- وَوَالله، إِنِّي لأَعْلَمُ أَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ، هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِقِيَامِهَا، هِيَ لَيْلَةُ صَبِيحَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لا شُعَاعَ لَهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «وَأَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فِي صَبِيحَتها (17) بَيْضَاءَ لا شُعَاعَ لَهَا»، وفي حديث أبي هريرة: «أن القمر يطلع فيها مثل شقّ جَفْنَة (18) ») (19) ؛ قيل: إن ذلك إنما كان لصعود الملائكة الذين نزلوا في ليلة القدر حين تطلع الشمس، فكأن الملائكة بكثرتها (20) حالت بين الناظرين إلى الشمس وبين (21) شعاعها، والله أعلم (22) .
ثم هل (23) هذه الأمارات راتبة لكل ليلة قدر تأتي (24) ، أو كان ذلك لتلك الليلة الخاصة؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «وأراني أسجد في صبيحتها (25) في ماء وطين » (26) ؟ &(2/312)&$
__________
(1) في (غ): «تسع».
(2) برقم (616).
(3) في (أ): «يقوم».
(4) في (أ): «التي».
(5) في (ب): «إليه».
(6) لم أجد من أخرجه.
(7) قوله: «تعالى» ليس في (ز).
(8) في (ز) و(غ): «ما قدروا» بلا واو وهي آية (74) سورة الحج.
(9) سورة الأنعام، الآية: 91.
(10) في (غ): تشبه أن تكون «شوق».
(11) في (ز): «تلتئم». [تراجع]
(12) قوله: «لأن معنى يوافقها» ليس في (أ).
(13) في (ز): «يصادقها».
(14) قوله: «يقبل» ليس في (أ).
(15) سورة المائدة، الآية: 27.
(16) أخرجه مسلم (1/525 رقم رقم 762) في صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح.
(17) في (ز): «صبحتها».
(18) في (ز): «خفنة» بالخاء المعجمة.
(19) وهو الحديث الآتي برقم (1039).
(20) في (أ) و(ح): «لكثرتها».
(21) في (أ): «من».
(22) قوله: «والله أعلم» ليس في (أ).
(23) قوله: «هل» سقط من (غ).
(24) في (ز): «يأتي».
(25) في (أ): «صبحتها».
(26) سيأتي برقم (1037) حديث عبدالله بن أنيس.(2/312)
قولان لأهل العلم، والأول (1) أولى؛ لما رواه أبو عمر (2) بن عبدالبر (3) من طريق عبادة بن =(3/391)=@ الصامت مرفوعًا: «إن أمارة (4) ليلة القدر أنها صافية بَلْجَاء، كأن فيها قمرًا ساطعًا، ساكنة لا برد فيها ولا حرّ، ولا يحلّ لكوكب أن يرمى به (5) فيها حتى يصبح، وإن أمارة الشمس أنها تخرج صبيحتها مشرقة ليس لها شعاع، مثل القمر ليلة البدر، ولا يحلّ للشيطان أن يطلع يومئذٍ (6) معها ». قال (7) : «وهذا (8) حديث حسن غريب من حديث الشاميين (9) ، رواته كلهم معروفون ثقات» (10) .
*********
( 104 ) باب في كيفية صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالليل، وتَبَتُّلِه ودُعَائِهِ
351- عَنْ ابْنَ عَبَّاسٍ (11) : أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ خَالَتُهُ قَالَ: فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا، فَنَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، اسْتَيْقَظَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَجَعَلَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الآيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ، فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي، وَأَخَذَ بِأُذُنِي الْيُمْنَى يَفْتِلُهَا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَوْتَرَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ، حَتَّى جَاءَ الْمُؤَذِّنُ، فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ.
زَادَ في رواية: ثُمَّ عَمَدَ إِلَى شَجْبٍ مِنْ مَاءٍ فَتَسَوَّكَ، وَتَوَضَّأَ، وَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، وَلَمْ يُهْرِقْ مِنَ الْمَاءِ إِلا قَلِيلاً، ثُمَّ حَرَّكَنِي فَقُمْتُ.
وفِي أُخْرَى: فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَدَارَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَتَتَامَّتْ صَلاةُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ اللَّيْلِ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ اضْطَجَعَ، فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ، فَأَتَاهُ بِلالٌ فَآذَنَهُ بِالصَّلاةِ، فَقَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَكَانَ يَقُوْلُ فِي دُعَائِهِ: «اللهمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا، وَعَنْ يَمِينِي نُورًا، وَعَنْ يَسَارِي نُورًا، وَفَوْقِي نُورًا، وَتَحْتِي نُورًا، وَأَمَامِي نُورًا، وَخَلْفِي نُورًا، وَعَظِّمْ لِي نُورًا ».
وَفِي رِوَايَةٍ: وَسَبْعًا فِي التَّابُوتِ فَذَكَرَ عَصَبِي وَلَحْمِي وَدَمِي وَشَعْرِي وَبَشَرِي. وَذَكَرَ خَصْلَتَيْنِ.
وفي أُخْرَى: «وفي لِسَانِي نُورًَا ». وَقَالَ فِي آخِرِهْ: «وَاجْعَلْ لِي نُورًَا ».
وفي أُخْرَى: «وَاجْعَلْنِي نُورًَا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب كيفية صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالليل (12)
قول ابن عباس رضي الله عنهما: «فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَهْلُهُ (13) فِي طُولِهَا»: العَرض - بفتح العين- خلاف الطول، وهو المراد هنا. وعُرض الوادي: ناحيته؛ بالضم. والعِرض - بالكسر-: السبُّ والذمُّ. والوسادة: ما يُتوسَّدُ &(2/313)&$
__________
(1) أي: هي راتبة كل ليلة قدر تأتي.
(2) في (ز): «ابن عمر».
(3) في "الاستذكار" (10/342-343). طريق محمد بن المصفَّى، قال: حدثنا بقية بن الوليد، قال: حدثني بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن عبادة بن الصامت، به. قال ابن عبدالبر: «هذا حديث حسن، حديث غريب، وهو من حديث الشاميين، رواته كلهم ثقات، وبقية إذا روى عن الثقات فليس بحديثه بأس». اهـ.
وقد تصحف "بحير بن سعد" في "الاستذكار" إلى "بجير بن سعيد"، والحديث أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (5/324) طريق حيوة بن شريح، عن بقية، به.
(4) في (ز): «أمارات».
(5) قوله: «به» ليس في (ح).
(6) في (أ) و(ح): «فيها يومئذ»، والمثبت من (ب)، وهو موافق لما في "الاستذكار" وفي (ز): «ولا يحل للشيطان يومئذ أن يطلع معها».
(7) أي: ابن عبدالبر، وسبق نقل عبارته بتمامها.
(8) في (ز) و(أ) و(غ): «هذا»: بلا واو.
(9) في (ز): «الشامين» بياء واحدة.
(10) قوله: «ثقات» ليس في (ح).
(11) أخرجه مسلم (1/526 رقم 763) في صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه. وهذا الحديث تقدم برقم (26، 73) في كتاب الطهارة.
(12) قوله: «بالليل» ليس في (أ).
(13) قوله: «وأهله» ليس في (غ) و(أ) و(ز) و(ح).(2/313)
إليه وعليه، ويريد به هنا الفراش. وكان اضطجاع ابن عباس لرؤوسهما (1) ، أو لأرجلهما (2) ؛ وذلك لصغره.
قال الشيخ رحمه الله: هذا الذي ذكره (3) الشارحون من تسمية الفراش وسادة تجوُّزٌ (4) لا شك فيه؛ إذ الوسادة ما يتوسَّد إليه؛ كما أن المِرفقة ما يُرتفقُ عليه. ويمكن أن يبقى لفظ =(2/392)=@ الوسادة على حقيقته، ويكون اضطجاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها: وضعه (5) رأسه على طولها، واضطجاع ابن عباس: وضعه رأسه على عرضها، وقد تقدم ذكر سن ابن عباس يوم موت النبي (6) - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله: «فَنَامَ (7) رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ»: هذا من ابن عباس تقدير (8) للوقت لا تحقيق، لكنه لم يخرج به عن قول الله تعالى: {قم الليل (9) إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه} (10) . وقراءته (11) - صلى الله عليه وسلم - هذه (12) العشر في هذا الوقت؛ لما تضمّنه من الحضّ والتنبيه على الذكر والدعاء والصلاة والتفكر، وغير ذلك من المعاني المنشطة على القيام؛ على ما لا يخفى.
و«الشَّنّ»: القربة البالية (13) ، وهو الشجب أيضًا في الرواية الأخرى، ويقال: سقاء شاجب؛ أي: يابس.
وقوله: «فَأَحْسَنَ الوضوء»؛ أي: أبلغه وكمله (14) ، ومع ذلك فلم يهرق من الماء إلا قليلاً؛ كما جاء في الرواية الأخرى: «ولم يكثر، وقد أبلغ»، وفي الأخرى: «وضوءًا حسنًا بين الوضوءين».
ووضعه - صلى الله عليه وسلم - يمينه على رأس عبد الله: تسكين له، &(2/314)&$
__________
(1) في (ز): «لرؤيتهما».
(2) في (غ): «ولأرجلهما».
(3) في (ب) و(ح): «ذكره».
(4) في (ز): «تجوز» بالراء المهملة.
(5) في (أ): «ووضعه».
(6) في (ز): «رسول الله» بدل «النبي».
(7) في (أ): «فقام».
(8) في (غ): «تحري».
(9) قوله: «قم الليل» ليس في (ب).
(10) سورة المزمل، الآيات: 2-4.
(11) قوله: «وقراءته» في مكانه بياض في (غ).
(12) في (ب) و(ح) و(ز) و(غ): «هذا».
(13) في (ح): «المعلقة» بدل: «البالية».
قال ابن منظور في "اللسان": «الشَّن والشَّنَّةُ: الْخَلَقُ من كل آنية صُنعت من جلد...، وتَشَنَّنَ السّقاءُ واشْتَنَّ واسْتَشَنَّ: أخْلَقَ. والشَّنُّ: القربة الخلق» مادة: شن (13/241).
(14) في (ب) و(ح) و(ز): «وأكمله»، وفي (غ): «وأجمله».(2/314)
وأخذه بأذنه، تثبيت (1) في التعليم (2) ، أو زيادة في التأنيس والتسكين، وقيل: فعل ذلك لينفي عنه العين؛ لما أعجبه فعله معه (3) ، وقيل: فعل ذلك به طردًا للنوم، وفي بعض طرق هذا الحديث (4) عنه قال: «فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني»، وهذا نصّ.
وشناق =(2/393)=@ القربة (5) : ما تُشْنَقُ به القربة، أي: يُشدُّ (6) عنقها. وقد قيل (7) : هو الذي تُعَلَّقُ به، قال أبو عبيد: والأول أشبه.
وقوله في الرواية الأخرى: «فَقُمْتُ عَنْ (8) يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَدَارَنِي عَنْ يَمِينِهِ»، هذا (9) أخذٌ للإدارة (10) ، والأخذ بالأذن أخذ للتنشيط (11) أو للتنبيه (12) ، على ما تقدم. وقد فسّر هذه الإدارة في رواية أخرى (13) ؛ فقال: «وأخذ بيدي من وراء ظهره»، ولا تعارض بين الأخذين؛ إذ قد جمعهما له، والله أعلم. =(2/394)=@
وقد تقدم الكلام على مراتب المأموم مع إمامه، وعلى نوم الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، وعلى الخلاف في كيفية صلاة الليل.
وهذه الأنوار التي دعا بها (14) النبي - صلى الله عليه وسلم - يمكن أن تحمل على ظاهرها، فيكون معنى سؤاله: أن يجعل الله تعالى له (15) في كل عضو من أعضائه نورًا يوم القيامة؛ يستضيء به في تلك الظلم هو ومن تبعه، أو من شاء الله ممن تبعه (16) . والأولى أن يقال: هذه الأنوار هي مستعارة للعلم والهداية، كما قال تعالى: {أفمن شرح الله صدره &(2/315)&$
__________
(1) في (ز): «تثبت».
(2) في (ح): «للعلم» بدل: «في التعليم»، وفي (ب): «للتعليم».
(3) قوله: «معه» سقط من (ز).
(4) عند مسلم برقم (763/185).
(5) وقوله: «وشناق القربة» تفسير منه لما جاء في الرواية الأخرى لحديث ابن عباس عند مسلم برقم (763/187)، وفيه: «ثم قام إلى قربة فأطلق شِنَاقها».
(6) في (ح) و(غ): «تشد».
(7) في (ح) و(ز): «وقيل» بدون «قد».
(8) في (ح) رسمت هكذا: «عل».
(9) في (غ): «وهذا».
(10) في (أ): «الإدارة».
(11) في (أ) و(غ): «التنشيط» وفي (ز): «بتسيط».
(12) في (ح) و(ز) و(غ) و(أ): «أو التنبيه».
(13) عند مسلم في الموضع السابق برقم (763/192).
(14) في (أ) و(ز): «فيها»، ويشبه أن تكون كذلك في (ح)، والمثبت من (ب).
(15) قوله: «له» ليس في (ب).
(16) في (ب): «ممن معه».(2/315)
للإسلام فهو على نور من ربه} (1) ، وكما قال: {أومن (2) كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس} (3) ، أي: علمًا وهداية.
والتحقيق في معنى النور (4) أن النور (5) مُظهِرٌ ما ينسب إليه، وهو يختلف بحسبه، فنور الشمس مُظِهرٌ للمبصرات، ونور القلب كاشف عن المعلومات، ونور الجوارح ما يبدو عليها من أعمال الطاعات، فكأنه دعا بإظهار الطاعات عليها دائمًا، والله تعالى أعلم (6) .
352- وعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ (7) أَنَّهُ قَالَ: لأرْمُقَنَّ صَلاةَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اللَّيْلَةَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ثُمَّ أَوْتَرَ. فَذَلِكَ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله (8) : «وَسَبْعًا فِي التَّابُوتِ»؛ أي: وذكر سبعًا، والتابوت أراد به الجسد (9) ، وذكر خمسًا، ولم يعيِّن الخصلتين؛ وهما: اللسان والنفس على ما ذكره في [الأم] (10) (11) .
قال أبو الفرج في قوله: «وَسَبْعًا فِي التَّابُوتِ»؛ أي: سبعة أشياء مكتوبة عنده في =(2/395)=@ الصندوق؛ أي (12) : قد نسيها، وهي عنده مكتوبة، وقد جاء فيما بعد (13) منها: عصبي، ولحمي، ودمي، وشعري، وبشري.
353- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (14) : أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاةِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ: «اللهمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيَّامُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللهمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَأَخَّرْتُ وَأَسْرَرْتُ أَعْلَنْتُ، أَنْتَ إِلَهِي، لا إِلهَ إِلا أَنْتَ ». وَفِي رِوَايَةٍ: «قَيِّمُ » مَكَانَ «قَيَّامُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «اللهمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ »؛ أي: منوّرها في قول الحسن؛ دليله: قراءة علي - رضي الله عنه - : {الله نَوَّرَ السموات (15) والأرض (16) } (17) بفتح النون، والواو مشددة (18) .
قال (19) ابن عباس: «هادي أهلهما (20) ») (21) . مجاهد: «مدبرهما (22) ») (23) ، وقيل: هو المنزه في السموات والأرض من كل عيب؛ من قول العرب (24) : امرأة نوارة؛ أي: مبرأة من كل ريبة. وقيل: هو اسم مدح، يقال: فلان نور البلد، وشمس الزمان؛ كما (25) قال النابغة:
فإنك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ ... إذا طلعتْ لم يبدُ للناس (26) كوكبُ (27)
=(2/396)=@ &(2/316)&$
__________
(1) سورة الزمر، الآية: 22.
(2) في (أ): «أفمن».
(3) سورة الأنعام، الآية: 122.
(4) في (أ): «والتحقيق في معناه».
(5) في (أ): «النوم»، وقوله: «أن النور» سقط من (غ).
(6) قوله: «والتحقيق في معناه...» إلى هنا تأخر في (أ) إلى بعد قوله: «على ماذكره في الأم».
(7) أخرجه مسلم (1/531رقم765) في صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاةالليل وقيامه.
(8) في (أ): «وقوله».
(9) في (ب): «الخلد» بدل: «الجسد».
(10) في (أ): «الأتم».
(11) أي: في "صحيح مسلم" في الموضع السابق منه برقم (763/189)، وفيه: «وفي لساني نورًا»، و: «واجعل في نفسي نورًا».
(12) في (غ): «إذا» بدل «أي».
(13) في (أ): «وقوله».
(14) أخرجه البخاري (3/3 رقم 1120) كتاب التهجد، باب التهجد بالليل، و(11/ 116 رقم6317) كتاب الدعوات، باب الدعاء إذا انتبه من الليل، و(13/371 رقم7385) كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق}، و(13/423 رقم7442) كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة ( إلى ربها ناظرة }، و(13/465 رقم7499) كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: { يريدون أن يبدلوا كلام الله }، ومسلم (1/532 رقم 769) في صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه.
(15) في (ز): «للسمواات».
(16) قوله: «والأرض» ليس في (ب) و(ح) و(ز).
(17) سورة النور، الآية: 35.
(18) في (أ): «مشدودة». ولم أجد من أخرجه، وقد ذكره أبو حيان في "البحر المحيط" (6/455)، ولم يذكر من أخرجه.
(19) قوله: «قال» ليس في (أ) و(ب) و(غ).
(20) في (ز) و(غ): «أهلها».
(21) أخرجه الطبري (19/177)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (1/201 رقم136)، كلاهما من طريق عبدالله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: { الله نور السموات والأرض }، يقول: الله هادي أهل السموات والأرض. وأورده السيوطي في "الدر المنثور" (6/197): وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم. ورواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مرسلة، لكن تساهل أهل العلم في قبولها في التفسير.
(22) في (غ): «مدبرها»
(23) أخرجه الطبري (19/177) عن القاسم، عن الحسين، عن الحجاج، عن ابن جريج قال: قال مجاهد وابن عباس في قوله: { الله نور السموات والأرض }: يدبر الأمر فيهما، نجومها وشمسها وقمرها. وسنده ضعيف؛ فابن جريج مدلس، ولم يصرح بالسماع.
وحسين هو ابن داود المصِّيصي، لقبه: سنيد، قال عنه ابن حجر في "التقريب" (ص418 رقم2661): «ضُعِّف مع إمامته ومعرفته؛ لكونه كان يلقِّن حجاج بن محمد شيخه».
(24) قوله: «العرب» سَقَط من (أ).
(25) قوله: «كما» ليس في (أ).
(26) في (غ): «منهن» بدل «للناس»، وكذا ورد في الديوان.
(27) ديوان النابغة الذبياني (ص57) بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.(2/316)
وقال آخر (1) :
إذا سار عبدالله في (2) مَرْو ليلةً ... فقد سار فيها نورها وجمالها
وقال أبو العالية: مزيِّن السموات بالشمس والقمر والنجوم، ومزيِّن الأرض بالأنبياء والأولياء والعلماء (3) .
قوله (4) : «أَنْتَ قَيَّامُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ»: قيام على المبالغة؛ من قام بالشيء: إذا هيأ له ما يحتاج إليه، ويقال: قيوم، وقيام، وقيِّم. وقرأ عمر - رضي الله عنه - : {الله لا إله إلا هو الحي القيّام} (5) . وعلقمة: {القيِّم} (6) . وقال قتادة: هو القائم بتدبير خلقه. الحسن: القائم على كل نفس بما كسبت. ابن جبير: الدائم الوجود. ابن عباس: الذي لا يحول ولا يزول.
وقوله: «أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ»؛ أي: مصلحها، ومصلح من فيها، مأخوذ من الربّة، وهي نبت تصلح عليه (7) المواشي، يقال: رَبَّ، يَرُبُّ رَبَّا، فهو رابٌّ (8) ، وربٌّ، وربِّى يربي تربية، فهو (9) مُربٍّ. قال النابغة (10) :
وربَّ عليه اللَّهُ أحْسَنَ صَنْعَةً (11)
وقال آخر:
يَرُبُّ (12) الذي يأتي من الخير إنه (13) ... إذا (14) فعل المعروف زاد وتمَّما (15) (16)
=(2/397)=@ ... والربُّ أيضًا: السَّيِّد، فيكون معناه: أنه سيد من في السموات والأرض (17) .
والرب: المالك؛ أي: هو مالكها ومالك من فيها. &(2/317)&$
__________
(1) وهو عمارة بن الحسن يمدح عبدالله بن المبارك المروزي رحمه الله، كما في "تاريخ بغداد" (10/163).
(2) في (أ): «من».
(3) في (ز): «بالأنبياء والعلماء والأولياء».
(4) في (أ): «وقوله».
(5) أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (3/1029 رقم486)، وأبو عبيد في "الفضائل" (ص245 رقم585)، وابن أبي داود في "المصاحف" (ص61-62)، من طريق محمد بن عمرو بن علقمة، عن يحيى بن عبدالرحمن بن حاطب، عن أبيه، عن عمر. وسنده حسن لحال محمد بن عمرو، مع أنه قد توبع، كما بينته في تعليقي على "سنن سعيد بن منصور".
(6) أخرجه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (6/155 رقم6545، 6546) طريق عثام بن علي ووكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر عبدالله بن سخبرة، قال: سمعت علقمة يقرأ: { الحي القيِّم }.
وسنده ظاهره الصحة، لكن له علّة، فإن في آخر رواية عثام: «قال الشيخ رحمه الله: أنت سمعته؟ قال: لا أدري». والظاهر أن السائل عثام بن علي، والقائل: «لا أدري» هو الأعمش.
ومع ذلك فقد رواه شيبان عن الأعمش عند ابن جرير الطبري أيضًا برقم (6547)، وفيه أنه قرأها: {الحي القيَّام}.
(7) في (ز): «عليها».
(8) في (ز): «ربٌّ».
(9) في (أ) و(ز): «وهو».
(10) يمدح النعمان، وعجز البيت: وكان له على البريَّة ناصرًا.
انظر "ديوان النابغة" بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (ص71).
(11) في (ز): «صنعه».
(12) في (أ): «ورب».
(13) في (ز): «ربه» بدل: «إنه».
(14) في (أ): «بما».
(15) في (ز): «ونمما».
(16) ذكره ابن منظور في "اللسان" (1/401) مادة ربب، ولكن بلفظ: «العرف» بدل: «الخير»، وبلفظ: «سُئل» بدل: «فعل»، وذكره التالي في «أماليه» 2/283) ونسبه إلى رجل من بني ضنة.
(17) قوله: «الأرض» ليس في (أ).(2/317)
وقوله: «أَنْتَ الْحَقُّ»؛ أي: الواجب الوجود (1) ، وأصله من: حق الشيء؛ إذا (2) ثبت ووجب، ومنه: {أفمن حق (3) عليه كلمة العذاب} (4) ، {ولكن حق القول مني} (5) ؛ أي: ثبت ووجب، وهذا الوصف لله تعالى بالحقيقة والخصوصية (6) لا ينبغي لغيره؛ إذ وجوده لنفسه، فلم يسبقه عدم، ولا يلحقه عدم، وما عداه مما يقال عليه هذا الاسم مسبوق بعدم، ويجوز عليه لحاق العدم، ووجوده من موجده (7) لا من نفسه؛ وباعتبار هذا المعنى كان أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد:
ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطل (8)
وإليه الإشارة بقوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون} (9) .
ولقاؤنا الله (10) تعالى عبارة عن مآل حالنا بالنسبة إلى جزائنا (11) على أعمالنا في الدار الآخرة.
والساعة: يوم القيامة، وأصله القطعة من الزمان، لكن لما لم يكن هناك كواكب تقدر بها الأزمان (12) ؛ سُمِّيت بذلك، والله أعلم.
وإطلاق اسم الحق على هذه الأمور كلها؛ معناه: أنها (13) لابد من كونها، وأنها مما ينبغي أن تصدق (14) بها، وتكرار (15) الحق في تلك المواضع على جهة التأكيد والتفخيم والتعظيم (16) لها. =(2/398)=@ &(2/318)&$
__________
(1) وصف الرب سبحانه بـ«الواجب الوجود» من الزلات التي تابع فيها المصنف الفلاسفة والمتكلمين فيما أحدثوا في شرع الله، ولم يكن لهم فيه سلف من صالحي الأمة وعلمائها، بل حتى من أسلافهم من الفلاسفة والمتكلمين، وإنما أحدثه ابن سينا؛ كما أوضحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الفتاوى" (9/277-278) وردّ عليهم؛ بقوله: « وكان أرسطو وأتباعه يسمون «الرب» عقلاً وجوهرًا، وهو عندهم لا يعلم شيئًا سوى نفسه. ولا يريد شيئًا، ولا يفعل شيئًا، ويسمونه: «المبدأ» و«العلة الأولى»...، ولا كانوا يسمونه واجب الوجود، ولا يقسمون الوجود إلى واجب وممكن، ويجعلون الممكن هو موجودًا قديمًا أزليًا كالفلك عندهم.
وإنما هذا فعل ابن سينا وأتباعه، وهم خالفوا في ذلك سلفهم وجميع العقلاء، وخالفوا أنفسهم أيضًا فتناقضوا؛ فإنهم صرحوا بما صرح به سلفهم وسائر العقلاء؛ من أن الممكن الذي يمكن أن يكون موجودًا وأن يكون معدومًا، لا يكون إلا مُحدَثًا مسبوقًا بالعدم.
وأما الأزلي الذي لم يزل ولا يزال فيمتنع عندهم وعند سائر العقلاء أن يكون ممكنًا يقبل الوجود والعدم، بل كان ما قبل الوجود والعدم لم يكن إلا محدثًا، وهذا مما يستدل به على أن كل ما سوى الله فهو محدث، مسبوق بالعدم، كائن بعد أن لم يكن، كما بُسط في موضعه.
لكن ابن سينا ومتبعوه تناقضوا، فذكروا فى موضع آخر أن الوجود ينقسم إلى واجب، وممكن. وأن الممكن قد يكون قديمًا أزليًا لم يزل ولا يزال يمتنع عدمه، ويقولون: هو واجب بغيره، وجعلوا الفلك من هذا النوع؛ فخرجوا عن إجماع العقلاء الذين وافقوهم عليه في إثبات شيء ممكن يمكن أن يوجد وألا يوجد وأنه مع هذا يكون قديمًا أزليًّا أبديًّا ممتنع العدم واجب الوجود بغيره، فإن هذا ممتنع عند جميع العقلاء. وذلك بيّن فى صريح العقل لمن تصور حقيقة الممكن الذي يقبل الوجود والعدم كما بسط فى موضعه.
وهؤلاء المتفلسفة إنما تسلطوا على المتكلمين الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم؛ لأن
هؤلاء لم يعرفوا حقيقة ما بعث الله به رسوله. ولم يحتجوا لما نصروه بحجج صحيحة في المعقول. فقصر هؤلاء المتكلمون في معرفة السمع والعقل....» الخ ما قال، وانظر معه "درء تعارض العقل والنقل" (4/139).
(2) في (ح) و(ز) و(غ): «أي».
(3) في (ب) و(ح) و(غ): «حقت»، وفي (ز): «فمن حقت».
(4) سورة الزمر، الآية: 19.
(5) سورة السجدة، الآية: 13.
(6) في (غ): «أو الخصوصية».
(7) قوله: «من موجده» ليس في (ح).
(8) "ديوان لبيد بن ربيعة" (ص 132).
(9) سورة القصص، الآية: 88.
(10) في (غ): «بالله».
(11) في (أ) و(غ): «إجزائنا».
(12) في (ز): «الزمان».
(13) في (أ) و(غ): «أنه».
(14) في (ز) و(غ): «يصدق» بالياء.
(15) قوله: «تكرار» سقط من (غ).
(16) في (ح): «والتعليم».(2/318)
وقوله: «لَكَ أَسْلَمْتُ»؛ أي: انْقَدْتُ (1) وخضعت.
«وَبِكَ آمَنْتُ»؛ أي: صدّقت.
«وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ»؛ أي: فوّضت.
«وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ (2) »؛ أي: رجعت.
«وَبِكَ (3) خَاصَمْتُ »؛ أي: بما لقَّنْتَنِي من الحجة غلبت الخصوم.
«وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ »؛ أي: إليك فوّضت (4) الحكومة؛ كما قال تعالى: {أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون} (5) .
وقد تقدم الكلام على عصمة الأنبياء عليهم السلام، والذنوب المنسوبة لهم (6) في كتاب الطهارة. فإذا فرّعنا على جواز الصغائر عليهم؛ فيكون الاستغفار على بابه وظاهره، وإن أحلنا ذلك عليهم، فيكون استغفاره ليسنه (7) لأمته، أو على تقدير وقوع ذنوب منه حتى يلازم حالة الافتقار والعبودية.
وقوله (8) : «ومَا قَدَّمْتُ»؛ أي: قبل وقتي (9) هذا. «ومَا أَخَّرْتُ» عنه. «ومَا أَسْرَرْتُ»؛ أي: أخفيت. «أَعْلَنْتُ »: أظهرت.
«أَنْتَ إِلَهِي (10) »؛ أي: معبودي ومقصودي، الذي وَلِهَ فيك قلبي، وتحيَّر في جلالك وعظمتك (11) عقلي، وكَلَّ عن ثنائك (12) لساني؛ فغاية الوسيلة إليك (13) : لا (14) أحصي ثناءً عليك.
«لا إِلهَ إِلا أَنْتَ »؛ أي: لا معبود غيرك، ولا معروف بهذه المعرفة سواك. =(2/399)=@
354- وعَنْ عَائِشَةَ (15) قَالَتْ: كَانَ نَبِيُّ الله إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلاتَهُ: «اللهمَّ رَبَّ جَبْرَيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «اللهمَّ رَبَّ جَبْرَيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ »: خص هؤلاء الملائكة (16) بالذكر تشريفًا لهم؛ إذ بهم ينتظم هذا الوجود؛ إذ قد أقامهم الله تعالى في ذلك - وأعني بالوجود: وجود الدارين (17) -.
و «فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ »؛ أي: مبتدئ (18) خلقهما. و«الغيب»: ما غاب عن عياننا (19) . و «الشهادة»: ما شاهدناه؛ أي: علمناه بمشاهدتنا.
و «تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ »: تقضي وتبيّن الحق.
«اهْدِنِي »؛ أي: أرشدني ودلَّني على صواب ما اختلف فيه. &(2/319)&$
__________
(1) في (ز): «انفدت».
(2) في (أ): «أنيب»، ويشبه أن تكون كذلك في (ب).
(3) في (أ): «وبما».
(4) قوله: «وإليك أنبت...» إلى هنا ليس في (ح).
(5) سورة الزمر، الآية: 46.
(6) في (ح): «إليهم».
(7) في (أ): «ليسنّ».
(8) قوله: «قوله» سقط في (أ) و(ز).
(9) في (ز) تشبه «وفي».
(10) في (ز) رسمت هكذا: «الأتبى».
(11) في (ح) و(ب) و(غ): «عظمتك وجلالك»، وفي (ب) كتب: «يؤخر» فوق قوله: «جلالك»، وكتب: «يقدم» فوق قوله: «عظمتك».
(12) في (غ): يشبه «بيانك».
(13) في (غ): «ألك».
(14) قوله: «لا» ليس في (أ).
(15) أخرجه مسلم (1/534 رقم 770) في صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه.
(16) في (غ): «بالملائكة».
(17) قوله: «وأعني» ليس في (ب) و(ح).
(18) في (ح) و(ز) و(غ): «مبدئ».
(19) في (أ): «عنك».(2/319)
«بِإِذْنِكَ»؛ أي: بتمكينك وتسخيرك.
و«الصِرَاطٍ »: الطريق المستقيم (1) الذي لا اعوجاج فيه.
355- وعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (2) ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاةِ قَالَ: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، اللهمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لا إِلهَ إِلا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا، إِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ، وَاهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلاقِ، لا يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا، إِلا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ !! وَإِذَا رَكَعَ قَالَ: «اللهمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي، وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي » وَإِذَا رَفَعَ قَالَ: «اللهمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ الأَرْضِ، وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ» وَإِذَا سَجَدَ قَالَ: «اللهمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ » ثُمَّ يَكُونُ مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ: «اللهمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لا إِلهَ إِلا أَنْتَ».
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: كَانَ إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلاةَ كَبَّرَ ثُمَّ قَالَ: «وَجَّهْتُ وَجْهِي » وَقَالَ: «وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ » وَقَالَ: وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: «سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ » وَقَالَ: وَصَوَّرَهُ فَأَحْسَنَ صُوَرَهُ. وَقَالَ: وإِذَا سَلَّمَ قَالَ: اللهمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ... إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «وَجَّهْتُ وَجْهِيََ»؛ أي: صوَّبت وجهي، وأخلصت في عبادتي (3) . و«حَنِيفًا»؛ أي: مائلاً عن جميع المعبودات سوى الله تعالى. و «وَنُسُكِيَ» (4) ؛ أي: ما أَسْتَنْسِكُ (5) به من القُرب والعبادات. و «المحيا والممات »؛ أي: الحياة والموت، كما قال للأنصار: «المحيا محياكم، والممات مماتكم » (6) . و «العالمين »: =(2/400)=@ الخلق. وأصله من العلم، وقيل: من العلامة. و «أنا من المسلمين »؛ أي: مسلم من المسلمين المتمكنين في الاستسلام (7) ، الذين سلموا أنفسهم (8) للنيران، وأموالهم للضيفان، وولدهم للقربان (9) ، وفوّضوا جميع أمورهم للرحمن. وفي التلاوة: {وأنا أول المسلمين} (10) ؛ أي: أوّل سابق بالنسبة (11) إلى زمانه.
وقوله: «وَاهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلاقِ»؛ أي: لأكملها وأفضلها؛ وهي (12) : الخُلق الصحيح (13) ، والكفَّ عن القبيح. وقيل: القيام بالحقوق (14) ، والعفو عن العقوق؛ كما قال: «أن تعطي (15) من حرمك، وتصل من قطعك (16) ، وتعفو عمن ظلمك » (17) . وقد أجاب الله تعالى دعاء نبيه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فجمع له منها (18) ما (19) تفرق في العالمين؛ حتى قال له تعالى: {وإنك (20) لعلى خلق عظيم} (21) . و «لبيك »: معناه: إجابة لك بعد إجابة. و «سعديك »؛ أي: مساعدة بعد مساعدة، وهما من المصادر التي لا تستعمل إلا مضافة مثنَّاة، وقد تقدّم القول في: «بيدك الخير ». &(2/320)&$
__________
(1) في (ز): «والمستقيم».
(2) أخرجه مسلم(1/534رقم771) في صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه.
(3) في (غ): «في عبادتك».
(4) في (أ): «نسكي» بدون واو.
(5) في (ح): «أنتسك»، وفي (ز) «أنفسك»، وفي (غ): «أنسكته».
(6) سيأتي في الجهاد، باب ما جاء في أن فتح مكة عنوة؛ برقم (1291).
(7) في (غ): «الإسلام».
(8) في (ب) و(غ): «نفوسهم»، وفي (ز): «لقوسهم النيران».
(9) يشير بذلك إلى حال إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - الذي أسلم نفسه للنار فأُلقي فيها، وماله لضيفه، وولده للذبح لَمَّا أُمر بذبحه، فهُدي النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ملَّته؛ كما قال تعالى: { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينًا قيمًا ملة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين }.
(10) سورة الأنعام، الآية: 163.
(11) في (غ): «بالسنة».
(12) في (أ): «وهو» بدل «وهي».
(13) في (غ): «النجيح» وفي (أ): «السحيح».
(14) في (ح): «وقيل: للقيام هو الحقوق».
(15) في (ز): «يعلى» رسمت هكذا.
(16) قوله: «وتصل من قطعك» ليس في (ب) و(ح) و(ز) و(غ).
(17) أخرجه الإمام أحمد في"المسند" (4/148)من طريق معاذ بن رفاعة، عن علي بن يزيد، عن القاسم أبي عبدالرحمن، عن أبي أمامة، عن عقبة بن عامر، به؛ مطولاً، وهذا جزء منه.
وأخرج الترمذي (4/523 رقم 2406) في الزهد، باب ما جاء في حفظ اللسان جزءًا منه غير هذا، وقال: «هذا حديث حسن».
وفي سنده علي بن يزيد الألهاني، وهو ضعيف؛ كما في "التقريب" (ص 707 رقم4851)، ولكنه لم ينفرد به، فقد أخرجه الإمام أحمد (4/158)، وهناد في"الزهد" برقم (460، 1126)، من طريق إسماعيل بن عياش، عن أسيد بن عبدالرحمن، عن فروة بن مجاهد، عن عقبة، به.
قال الشيخ الألباني رحمه الله في "الصحيحة" (2/552): «وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات معروفون؛ غير فروة بن مجاهد، وقد ذكره ابن حبان في "الثقات"، وروى عنه جماعة، وقال البخاري: «كانوا لا يشكّون أنه من الأبدال».
قال الشيخ رحمه الله: وفروة هذا قال عنه ابن حجر في "التقريب" (ص 780 رقم5423): «مختلف في صحبته، وكان عابدًا». وأما ما يخشى من الكلام في إسماعيل بن عياش؛ فلا أثر له هنا؛ لأنه من روايته عن أهل بلده.
(18) قوله: «منها» ليس في (ب) و(غ).
(19) قوله: «ما» ليس في (أ).
(20) في (ح) و(غ) و(ز): «إنك» بدون واو.
(21) سورة القلم، الآية: 4.(2/320)
وقوله: «وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ »؛ أي: لا يضاف إليك مخاطبة ونسبة؛ تأدُّبًا، مع أنه بقضاء الله تعالى وقدره، وخلقه واختراعه؛ كالخير، كما قال الله (1) تعالى: =(2/401)=@ {قل (2) كلٌ من عند الله} (3) ، وكما قال (4) : {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله} (5) .
وقوله: «خَشَعَ (6) لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي، وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي»؛ أي: أخذ كل عضو من هذه الأعضاء حظه من الخضوع والتذلل؛ أي: سكنت وافتقرت، وإن كان أصل الخضوع (7) في القلب؛ لكن ثمرته تظهر على الجوارح والأعضاء، فسُمِّيَ بذلك (8) : خشوعًا، كما قال تعالى: {وترى الأرض خاشعة} (9) ؛ أي: متذللة، مفتقرة لما تحيا به من الماء، أو يكون هذا على الإغياء والتشبيه، كما قال:
لا عُضْوَ لي إلا وفيه محبةٌ ... فكأن أعضائي خلقن قلوبًا (10)
وهذا هو النور الذي دعا به في حديث ابن عباس المتقدم.
وقد تقدم القول في: «مِلْءَ (11) السَّمَاوَاتِ الأَرْضِ (12) »، في الطهارة.
وقوله: «وَمِلْءَ (13) مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ»: يحتمل أن يكون معناه: من شيء يمكن أن يخلقه؛ يكون أكبر من السموات والأرض، ويحتمل أن يراد به العرش والكرسي، ففي الحديث: «إن السموات والأرض في الكرسي كالحلقة الملقاة في فلاة من الأرض، والكرسي وما فيه في العرش كحلقه ملقاة في (14) فلاة من الأرض » (15) ، والله أعلم.
ومقصود هذا الحديث: الإغياء في تكثير الحمد والثناء. =(2/402)=@ &(2/321)&$
__________
(1) في (أ) و(غ): «كما قال تعالى».
(2) قوله: «قل» ليس في (غ).
(3) سورة النساء، الآية: 78.
(4) في (ز): «كمال» رسمت هكذا!
(5) سورة يونس، الآية: 107.
(6) في (ز): «جشع».
(7) في (ب) و(ح) و(غ) و(ز): «الخشوع».
(8) في (غ): «ذلك».
(9) سورة فصلت، الآية: 39.
(10) البيت لقابوس بن وشمكير وقبله:
خطرات ذكرك تستثير صبابتي ... فأُحس منها في الفؤاد دبيبا
انظر: "معجم الأدباء" (5/2183)، وعزاه المحقق د/إحسان عباس إلى "يتيمة الدهر" (4/16).
(11) في (غ): «ومليئ».
(12) قوله: «الأرض» من (ب) فقط.
(13) في (غ): «ومليئ».
(14) في (أ): «ملقاة بأرض فلاة».
(15) أخرجه ابن جرير في "تفسيره" (5/399 رقم5794) طريق عبدالله بن وهب قال: قال ابن زيد: - في قوله: { وسع كرسيه السموات والأرض }-؛ قال ابن زيد: فحدثني أبي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما السموات والسبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في تُرس. قال: وقال أبو ذر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد أُلقيت بين ظهري فلاة من الأرض».
وأعلّه الحافظ ابن كثير في "البداية" (1/13) بقوله: «أول الحديث مرسل، وعن أبي ذر منقطع»، ثم قال: «وقد روي عنه من طريق أخرى موصولاً؛ فقال الحافظ أبو بكر ابن مردويه في "تفسيره": أخبرنا سليمان بن أحمد الطبراني، أنبأنا عبدالله بن وهيب الغزّي، أنبأنا محمد بن أبي سري العسقلاني، أنبأنا محمد بن عبدالله التميمي، عن القاسم بن محمد الثقفي، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر الغفاري: أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الكرسي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «والذي نفسي بيده! ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي؛ إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة ».
وساق الحديث أيضًا في "تفسيره" (1/458)، ومنه جرى تصويب "الغزّي"؛ فإنه تصحّف في «البداية» إلى: «المغربي».
ولم يتكلم ابن كثير عن هذه الطريقة بشيء، وهي طريق ضعيفة جدًّا؛ فالقاسم بن محمد الثقفي مجهول كما في "التقريب" ( ص 795 رقم 5529)، وانظر "تهذيب الكمال" (23/442).
والراوي عنه محمد بن عبدالله التميمي لم أعرفه.
والراوي عنه محمد بن أبي سري العسقلاني، وهو محمد بن المتوكل؛ قال عنه ابن حجر في "التقريب (ص892 رقم6303): «صدوق عارف، له أوهام كثيرة».
والراوي عنه شيخ الطبراني عبدالله بن وهيب الغزّي، وذكر اسمه كاملاً المزي في "تهذيب الكمال" (26/357) في تلاميذ محمد بن أبي السري، فقال: «أبو العباس عبدالله بن محمد بن وهيب الجُذَامي، الغزّي»، ولم أجد من ترجم له بهذا الاسم أو ذاك، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/177): «لم أعرفه».
وقد روي عن مجاهد من قوله، ولا يصح عنه كما بينته في تعليقي على "سنن سعيد بن منصور " (2/952 رقم425).(2/321)
و«بَعْدُ» ظرف (1) مبني على الضم؛ لأنه قُطَع عن المضاف إليه، مع أنه مراد، ومعناه هنا: بعد السموات والأرض المذكورة قبل.
وقوله: «وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ»؛ أي: خلق فيه السمع والبصر. وقد يحتج بإضافة السمع إلى الوجه من يقول: إن الأذنين من الوجه فيغسلان بغسله، ولا حجة فيه؛ لأنه يعارضه قوله - صلى الله عليه وسلم - : «فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج (2) من أذنيه» (3) .
فجعل الأذن غاية للرأس، فهي منه؛ ولأنا نقول (4) بموجب ذلك، ونفرق (5) بين السمع والأذن؛ فإن السمع الإدراك الذي في الأذن لا الأذن؛ ولأن الوجه لا يتضمن الأذنين كما تقدم.
وقوله: «أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ»؛ أي: تقدم من تشاء، فتجعلهم أولياء وأنبياء (6) ، وعلماء وفضلاء، وتؤخر من شئت، فتجعله فرعون وأبا جهل. أو (7) تملك الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وعلى الجملة فكل (8) تقديم وتأخير منه (9) .
وقوله: «كَانَ إِذَا اسْتَفْتَحَ (10) الصَّلاةَ كَبَّرَ ثُمَّ قَالَ: «وَجَّهْتُ وَجْهِي »: أخذ منه (11) =(2/403)=@ الشافعي أن هذا التوجه (12) سنة راتبة في صلاة الفرض بعد التكبير، ولا حجة له فيه (13) ؛ لأن هذا يحتمل أنه (14) كان في صلاة الليل فقط، وتكون الصلاة يراد بها &(2/322)&$
__________
(1) في (ز): «طرف».
(2) في (ز): «يخرج».
(3) أخرجه الإمام مالك في "الموطأ" (1/31 رقم30) في الطهارة، باب جامع الوضوء، ومن طريقه النسائي (1/74-75 رقم103) في الطهارة، باب مسح الأذنين مع الرأس وما يستدل به على أنهما من الرأس، وأخرجه ابن ماجه (1/103 رقم282) في الطهارة، باب ثواب الطهور، والإمام أحمد في "المسند" (4/348-349)، ثلاثتهم من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبدالله الصنابحي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، به بتمامه. وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (1/129-130) طريق الإمام مالك أيضًا، وقال: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وليس له علّة، وإنما خرّجا بعض هذا المتن من حديث حمران عن عثمان، وأبي صالح، عن أبي هريرة؛ غير تمام. وعبدالله الصنابحي صحابي، ويقال: أبو عبدالله الصنابحي، صاحب أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - : عبدالرحمن ابن عسيلة، والصنابحي صاحب قيس بن أبي حازم، يقال له: الصنابح بن الأعسر».
وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني في "صحيح الترغيب" (1/79) بشواهده؛ لأجل الخلاف في صحبة الصنابحي.
(4) في (ب): «ولا نقول». وفي (ز): «أو لأنا نقول»، وفي (غ): «ولا يقول».
(5) في (غ): «ويفرق».
(6) في (ب): «أنبياء وأولياء».
(7) في (أ): «و» بدل «أو».
(8) في (غ): «وكل».
(9) في (ح): «فمنه».
(10) في (غ): «افتتح».
(11) في (ح) و(ز): «به» بدل: «منه».
(12) في (ب) و(ح) و(ز): «التوجيه».
(13) قوله: «فيه» ليس في (أ).
(14) في (أ) و(ز) و(غ): «أن».(2/322)
صلاة الليل (1) ، ولئن سلمنا أنه للعموم (2) ؛ لزم منه أن يكون الدعاء المذكور في هذا الحديث في الركوع والسجود سنة راتبة في كل صلاة، ولا قائل به؛ فإن مساق (3) الحديث واحد، فلِمَ يفرق بين التوجه (4) وغيره من الأدعية والأذكار؟ ولئن سلمنا الفرق فعندنا ما يعارض ذلك، وهو أمران:
أحدهما: أنه قال في الرواية الأولى: «إِذَا كَانَ إذا قَامَ إِلَى الصَّلاةِ قَالَ: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ»، ولم يذكر التكبير، وظاهره إذا أراد القيام، فيكون قبل التكبير.
وثانيهما: أنه لو كان ذلك سنة راتبة لنقله أهل المدينة بالعمل؛ إذ مثل ذلك لا يخفى عليهم مع شدة بحثهم عن أحواله وأفعاله (5) ، وخصوصًا في الصلاة الكثيرة التكرار، العظيمة الموقع؛ فلما كان ذلك علمنا أنه ليس بسنة راتبة، ولا يُمنع من قاله كسائر الأذكار والأدعية (6) .
وقد روى الدارقطني (7) في حديث علي - رضي الله عنه - المتقدم: أن ذلك كان في المكتوبة، فإن صح ذلك (8) كان دليلاً على جواز وقوع ذلك في الصلاة المكتوبة، إذا (9) لم يضر بمن (10) خلفه بطول القيام؛ لا أنه (11) سنة راتبة؛ لما تقدم، والله أعلم (12) . =(2/404)=@ &(2/323)&$
__________
(1) في (ح) و(ز) و(غ): «الليل فقط».
(2) في (ح) و(ز): «للمعلوم».
(3) في (ب): «سياق».
(4) في (ب) و(ح) و(ز): «التوجيه».
(5) في (ب) و(ح): «أفعاله وأحواله».
(6) قوله: «والأدعية» ليس في (أ).
(7) في "سننه" (1/297-298، 342)، وأخرجه أيضًا أ[و داود (1/484-485 رقم 761) في الصلاة، باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، والترمذي (5/454-455 رقم3423) في الدعوات، باب منه، وابن خزيمة (1/236 رقم464)، وابن حبان (5/68-69، 70، 74 رقم1771، 1772، 1774/الإحسان)، والبيهقي (2/32-33، 74)، جميعهم من طريق موسى بن عقبة، عن عبدالله بن الفضل، عن عبدالرحمن الأعرج، عن عبدالله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ أنه كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة...، الحديث.
قال الترمذي: «حديث حسن صحيح»، وقال الدارقطني: «هذا إسناد حسن صحيح».
(8) في (ح) و(ز) و(غ): «هذا».
(9) في (أ): «إذ».
(10) في (ب): «من».
(11) في (ح) و(ز): «لأنه».
(12) قوله: «والله أعلم» ليس في (غ).(2/323)
( 105 ) باب ترتيل القراءة والجهر بها في صلاة الليل وتطويلها
356- عَنْ حُذَيْفَةَ (1) قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقال الشيخ رحمه الله: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى، فَقال الشيخ رحمه الله: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى، فَقال الشيخ رحمه الله: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ » فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ ثُمَّ قَالَ: «سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ » ثُمَّ قَامَ طَوِيلاً قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى » فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ- وَزَادَ في رواية فَقَالَ: «سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ترتيل القراءة
قوله: «يقرأ مترسلاً»؛ أي: مترفِّقًا متمهِّلاً (2) ؛ من قولهم: على رسلك؛ أي: على رفقك (3) . وهذا التطويل، وهذه الكيفية التي صدرت عنه في هذه الصلاة؛ إنما كانت (4) منه بحسب وقت صادفه، وَوَجْدٍ وجده (5) ، فاستطاب ما كان فيه، واستغرقه عما سواه (6) ، وهو موافق لما قاله في حديث آخر: «إذا أمَّ أحدُكم الناس فليخفِّف، وإذا صلى وحده فليطوِّل ما شاء ». (7) =(2/405)=@
357- وَعَنْ عَبْدُ الله (8) قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَطَالَ حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ، قَالَ قِيْلَ: وَمَا هَمَمْتَ بِهِ؟ قَالَ: هَمَمْتُ أَنْ أَجْلِسَ وَأَدَعَهُ.
358- وَعَنْ عَاَئِشَةَ (9) : أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ رَجُلاً يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: «يَرْحَمُهُ الله، لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا، آيَةً كُنْتُ أَسْقَطْتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «لَقَدْ أَذْكَرَتَنِي (10) كَذَا وَكَذَا، آيَةً كُنْتُ أَسْقَطْتُهَا »: قال ابن السيِّد البطليوسي: كذا وكذا: كناية عن الأعداد المعطوف بعضها على بعض؛ من أحد وعشرين إلى تسعة وتسعين، والمميز بعد هذه الأعداد (11) حقه أن ينصب، قال: وإذا قال: له عندي (12) كذا كذا (13) درهمًا؛ فهي (14) كناية عن الأعداد؛ من أحد عشر إلى تسعة عشر. هذا اتفاق من والبصريين الكوفيين (15) . وقال الكوفيون خاصة: إذا قال: له عندي كذا أثواب، فهي كناية عن الأعداد المضافة إلى الجمع (16) من ثلاثة إلى عشرة. وإذا قال: له عندي كذا درهم - بالإفراد -، فهي (17) كناية عن الأعداد المضافة إلى المفرد &(2/324)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/536 رقم 772) في صلاة المسافرين، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل.
(2) في (ز): «متملا»، قوله: «متمهلاً» ليس في (غ).
(3) في (ز): «فقك».
(4) في (ب) و(ح): «كان».
(5) في (غ): «ورجل وجده».
(6) قوله: «ووجد وجده... واستغرقه عما سواه» من العبارات التي أحدثها الصوفية؛ وربما رفعوا اللوم عمن صدرت منه أقوال أو أفعال مخالفة للشرع؛ بحجة صدورها منه وهو في حالة الوجد التي فنى فيها عما سوى الله، فالبعد عنها، وترك المحدثات، والتمسك بالقديم هو المطلوب، وإنما الهدى هدى الله.
(7) قوله: «وهو موافق لما قاله...» إلى هنا ليس في (ح).
(8) أخرجه البخاري (3/19 رقم 1135) في التهجد، باب طول القيام في صلاة الليل، ومسلم (1/537 رقم773) في صلاة المسافرين، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل.
(9) أخرجه البخاري (5/264 رقم 2655) كتاب الشهادات، باب شهادة الأعمى وأمره ونكاحه وإنكاحه ومبايعته وقبوله في التأذين وغيره، و(9/85 رقم5037، 5038) كتاب فضائل القرآن، باب نسيان القرآن، و(9/87 رقم 5042) في فضائل القرآن، باب من لم ير بأسًا أن يقول سورة البقرة وسورة كذا وكذا، و(11/136 رقم 6335) كتاب الدعوات، باب قول الله تبارك وتعالى: {وصل عليهم}، ومسلم (1/543رقم 788) في صلاة المسافرين وقصرها، باب الأمر بتعهد القرآن وكراهية قول نسيت آية كذا وجواز قول أُنسيتها.
(10) في (ب) و(أ): «أذكرني».
(11) قوله: «المعطوف بعضها على بعض...» إلى هنا ليس في (ح).
(12) قوله: «عندي» ليس في (ح).
(13) في (ح): «كذا وكذا».
(14) في (ب): «وهي».
(15) في (ز) و(غ): «الكوفيين والبصريين».
(16) في (ب): «للجمع».
(17) في (ب): «وهي».(2/324)
من مائة إلى تسعمائة، ولا يجيز البصريون (1) إضافة (ذا) (2) إلى ما بعده؛ لأن المبهم لا يضاف. انتهى قوله.
قال الشيخ رحمه الله: وعلى نحو ما اتفق عليه والبصريون الكوفيون (3) فرَّع الإقرار ابن عبد الحكم، فقال: إن قال: له عندي كذا كذا درهمًا؛ لزمه أحد عشر، وإن قال: =(2/406)=@ كذا وكذا درهمًا (4) ؛ لزمه أحد وعشرون، وإن قال: كذا درهمًا؛ لزمه عشرون؛ بناء على (5) أقل ما تقتضيه هذه الكنايات. وعلى هذا الأصل فيكون قوله - صلى الله عليه وسلم - : «كذا وكذا آية»؛ أنه (6) أقل ما يحمل عليه إحدى وعشرون. ولا يجوز (7) في «آية» في (8) الحديث إلا النصب على ما حكيناه.
وقد تقدم القول في نسيان النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه إن نسي شيئًا من الوحي فلا (9) يقرّ على نسيانه، إلا أن يكون ذلك نسخًا (10) ، كما قال تعالى: {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله (11) } (12) ، والله أعلم (13) . &(2/325)&$
__________
(1) في (أ): «البصريون والكوفيون».
(2) في (غ): «ذلك إلى».
(3) في (أ): «الكوفيين والبصريين».
(4) قوله: «درهمًا» ليس في (ب) و(ح) و(ز) و(غ).
(5) في (غ): «عشرون درهمًا على».
(6) قوله: «أنه» من (ب) فقط.
(7) في (غ): «أحد وعشرون آية ولا يجوز».
(8) قوله: «في» ليس في (أ).
(9) في (ب) و(ح) و(ز) و(غ): «لا».
(10) قوله: « نسخا») ليس في (أ)و(ب).
(11) قوله: «إلا ما شاء الله» ليس في (ز).
(12) سورة الأعلى، الآيتان: 6-7.
(13) في (ح): «والله أعلم به».(2/325)
( 106 ) باب استغراق الليل بالنوم من آثار الشيطان
359- عَنْ عَبْدِالله (1) قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ نَامَ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ، قَالَ: «ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنَيْهِ » أَوْ قَالَ: «فِي أُذُنِهِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب استغراق الليل بالنوم من آثار الشيطان
قوله: «ذَاكَ (2) رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنَيْهِ»: يصح بقاؤه على ظاهره؛ إذ لا إحالة (3) فيه، ويفعل ذلك استهانة به، ويحتمل أن يحمل (4) على التوسُّع، فيكون معناه: أن الذي ينام الليل كله ولا يستيقط عند أذان المؤذنين (5) ، ولا تذكار المذكرين؛ فكأن الشيطان سدَّ أذنيه ببوله، وخصّ البول بالذكر إبلاغًا (6) في التنجيس (7) به، وليجتمع له مع إذهاب سمعه استقذار ما ضرب به (8) سمعه، ويحتمل أن يكون معناه: أن الشيطان (9) استولى عليه واستهان به، حتى قد اتخذه كالكَنيف المعَدّ لإلقاء البول فيه (10) ، والله أعلم. =(2/407)=@
360- وعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (11) : أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ، فَقَالَ: «أَلا تُصَلُّونَ؟» فَقال الشيخ رحمه الله: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ الله، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا. فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قُلْتُ لَهُ ذَلِكَ. ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُدْبِرٌ يَضْرِبُ فَخِذَهُ، وَيَقُولُ: {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ»؛ أي: أتاهم (12) ليلاً، والطارق هو الآتي بالليل، ومنه سُمّيَ النجم: طارقًا في قوله تعالى: {والسماء والطارق} (13) . وهذا الإتيان منه - صلى الله عليه وسلم - ؛ إنما كان (14) ليوقظهما للصلاة؛ بدليل قوله: «ألا تصلون؟ » وقد استنكر منهما نومهما في تلك الليلة؛ إذ قد (15) خالفا عادتهما، ووقت قيامهما، ولذلك اعتذر له علي - رضي الله عنه - بقوله: «إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء بعثنا (16) »)؛ أي: أيقظنا (17) .
وانصراف النبي - صلى الله عليه وسلم - عند سماعه هذا الكلام منه، وضربه فخذه، وتمثُّله بالآية؛ يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يرض بذلك الجواب منه؛ لأن الحزم (18) والتهمُّم بالشيء يقتضي أن لا ينام عنه؛ لأن من تحقق رجاؤه بشيء (19) ، واشتَّدت عنايته به (20) ، ورغبته فيه، أو خاف من شيء مكروه؛ قلّ ما يصيبه ثقيل النوم، أو طويله، والله أعلم.
361- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (21) يبلغُ بِهِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ ثَلاثَ عُقَدٍ إِذَا نَامَ، بِكُلِّ عُقْدَةٍ يَضْرِبُ عَلَيْكَ لَيْلاً طَوِيلاً، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ الله انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَإِذَا تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عَنْهُ عُقْدَتَانِ فَإِذَا صَلَّى انْحَلَّتِ الْعُقَدُ، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلانَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ ثَلاثَ عُقَدٍ»: هذا العقد الذي يعقده الشيطان كأنه من باب عقد السواحر {النفاثات في العقد} (22) ؛ &(2/326)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (3/28رقم 1144) في التهجد، باب إذا نام ولم يصل بال الشيطان في أُذنه، و(6/335 رقم3270) كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، ومسلم (1/537 رقم 774) في صلاة المسافرين، باب ما روى فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح.
(2) في (ز) و(ح) و(غ) و(أ): «ذلك».
(3) في (أ): «إذ لا إخالة» بالخاء المعجمة من فوق، وفي (ح): «إذ لا إجالة» بالجيم المعجمة من تحت، وفي (ز): «إذ لا حالة» والمثبت من (ب)، وهو موافق لما نقله الحافظ ابن حجر في "الفتح" (3/28) عن القرطبي وغيره.
(4) في (غ): «يكون».
(5) في (غ): «المؤذن».
(6) في (غ): «بلاغًا».
(7) في (ح): «التفحيش».
(8) في (ح): «ما صرف به».
(9) في (ز): «أشيطان».
(10) قوله: «فيه» ليس في (أ).
(11) أخرجه البخاري (3/10 رقم 1127) في التهجد، باب تحريض النبي - صلى الله عليه وسلم - على صلاة النوافل من غير إيجاب، و(8/407 رقم4724) كتاب التفسير، باب { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً }، و(13/313 رقم 7347) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً }، و(13/446 رقم7465) كتاب التوحيد، باب في المشيئة والإرادة، ومسلم (1/537 رقم 775) في صلاة المسافرين، باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح.
(12) في (غ): «أتاهما».
(13) سورة الطارق، الآية: 1.
(14) في (ح): «إنما كان منه».
(15) قوله: «قد» ليس في (ح) و(ز).
(16) في (ب) و(ز) و(غ) و(ح): «بعثها».
(17) في (ح): «بعثها؛ أي: أيقظها».
(18) في (غ): «الجزم».
(19) في (أ) و(ز): «لشيء».
(20) قوله: «به» ليس في (ب).
(21) أخرجه البخاري (3/24 رقم 1142) في التهجد، باب عقد الشيطان على قافية الرأس إذا لم يصل بالليل، و(6/335 رقم3269) كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، ومسلم (1/538 رقم 776) في صلاة المسافرين، باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح.
(22) سورة الفلق، الآية: 4.(2/326)
وذلك بأنهن يأخذن خيطًا، فيعقدن عليه عقدة منه، ويتكلَّمن (1) عليه بالسحر، فيتأثر المسحور عند ذلك؛ إما بمرض، أو تخييل (2) ، أوتحريك قلب، أو تحزين، أو غير ذلك، فشبَّه فعل الشيطان بالنائم بفعل السواحر؛ وذلك أن النائم =(2/408)=@ كلما أراد أن يقوم ليذكر الله (3) تعالى، أو يصلي؛ غرّه وخدعه؛ بأن يقول له: عليك ليل طويل فارقد، فيريه (4) أنه لطول ما بقي عليه من الليل يمكنه استيفاء راحته من النوم، وقيامه بعد ذلك لحزبه (5) ، فيصغي لذلك ويرقد، ثم إن استيقط ثانية فعل به ذلك، وكذلك ثالثة (6) ، فلا يستيقط من الثالثة إلا وقد طلع الفجر (7) ، فيفوته ما كان أراد من القيام. وإنما خص العقد بثلاث (8) ؛ لأن أغلب (9) ما يكون انتباه النائم (10) في السحر، فإن اتفق له (11) أن يستيقظ (12) ويرجع للنوم ثلاث مرات؛ لم تنقض النومة الثالثة في الأغلب (13) إلا والفجر قد طلع، والله أعلم.
وروايتنا (14) الصحيحة: «عليك ليل طويل »؛ على الابتداء والخبر، وقد وقع في بعض الروايات: «عليك ليلًا طويلًا »؛ على الإغراء، والأول أولى من جهة المعنى؛ لأنه الأمكن في الغرور، من حيث إنه يخبره (15) عن طول الليل، ثم يأمره بالرقاد بقوله: «فارقد». وإذا (16) نُصِبَ على الإغراء لم يكن فيه إلا الأمر بملازمة طول الرقاد، وحينئذ يكون قوله: «فارقد» ضائعًا، والله أعلم.
و«قافية الرأس»: آخره، وكذلك قافية كل شيء، ومنه: قافية الشعر.
وقوله: «فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ»؛ أي: نشيطًا لما يرد عليه من عبادات أُخر؛ من صلوات وغيرها، فإنه يألف العبادات ويعتادها، حتى تصير له شِرْبًا، فتذهب عنه (17) مشقتها، ولا يستغني عنها.
و «طَيِّبَ النَّفْسِ»؛ لرجاء ثواب ما فعل، ولانشراح صدره بما (18) يستقبل (19) ، والله أعلم. &(2/327)&$
__________
(1) في (ح): «ويتكلمون».
(2) في (ز): «أو تخبيل».
(3) قوله: «الله» ليس في (ز).
(4) في (غ): «فيره».
(5) في (ب): «يجزئه».
(6) في (غ): «في الثالثة».
(7) قوله: «الفجر» ليس في (ح).
(8) في (ب) و(غ): «بالثلاث».
(9) قوله: «لأن أغلب» عليها سواء في (ز)، ولم يظهر ؟؟؟ إلا: «لأن».
(10) في (أ): «إتيانه للنائم».
(11) قوله: «له»: ليس في (أ).
(12) في (غ): «استيقظ».
(13) في (ب) و(ح) و(ز) و(غ): «الغالب».
(14) في (أ): «روايتنا» بدون واو.
(15) في (غ): «يخره».
(16) في (غ): «فإذا».
(17) قوله: «عنه» سقط في (ز).
(18) قوله: «بما» سقط من (ز).
(19) في (ز): «بمستقبل».(2/327)
وقوله: «وَإِلا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلانَ »؛ أي: بشؤم تفريطه، وبإتمام =(2/409)=@ خديعة الشيطان عليه؛ إذ قد حمله على أن فاته الحظ الأوفر من قيام الليل.
و «كَسْلانَ »؛ أي: متثاقل (1) عن الخيرات فلا يكاد (2) تسخو نفسه، ولا يخف (3) عليها صلاة ولا غيرها من القربات، وربما يحمله ذلك على تضييع الواجبات.
وكسلان: غير منصرف؛ للألف والنون الزائدتين، وهو مذكر (4) كسلى. وقد وقع لبعض رواة "الموطأ": «كسلانًا» مصروفًا، وليس بشيء. وقد أضاف النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الخبث للنفس، مع أنه قد قال في حديث آخر: «لا يقل أحدكم: خبثت نفسي، ولكن ليقل: لقست نفسي»، (5) ولا تعارض بينهما؛ لأن الذي منعه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، إنما هو: أن يطلق الإنسان على نفسه لفظ الخبث، وهو مذموم، فيذم نفسه، ويضيف (6) الذم (7) إليها، وهو ممنوع في مثل هذا، وأما لو أضاف الإنسان لفظ الخبث (8) إلى غيره مما يصدق عليه، لم يكن ذلك مذمومًا ولا ممنوعًا، والله أعلم.
وقوله (9) : «لقست (10) » معناه غثت، ويقال: مقست بالميم والقاف، ونقست بالنون، وكله (11) بمعنى خبثت، وكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كره إطلاق ذلك اللفظ، فنقل إلى غيره كما قررناه.
وقد غيّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اسم (12) عاصية بجميلة (13) ، وكره لفظ (14) العقوق (15) ، وهذا النحو كثير عنه - صلى الله عليه وسلم - ، وسيأتي (16) . =(2/410)=@ &(2/328)&$
__________
(1) في (ز): «تكاد»وفي (أ): «ولا يكاد».
(2) في (غ): «فتشاغل».
(3) في (ب): «تخف».
(4) في (أ): «مؤنث».
(5) سيأتي برقم (2114) في كتاب الأدب، باب: لا يقل أحد: خبثت نفسي.
(6) في (غ): «يضيفه».
(7) في (ح): «الدوام».
(8) في (ح): «الحديث».
(9) قوله: «وقوله» ليس في (أ) فقط.
(10) في (ح) و(ب) و(ز) و(غ): «ولقست».
(11) في (أ): «ونفست وكله».
(12) قوله: «اسم» ليس في (ح) و(أ)، وفي (ز) رسمت هكذا: «سم».
(13) كما سيأتي برقم (2050) في كتاب الأدب، باب في تغيير الاسم بما هو أولى.
(14) في (غ): «اسم».
(15) أخرجه عبدالرزاق (4/330 رقم7961)، وعنه أحمد (2/182-183).
وأخرجه ابن أبي شيبة (5/112 رقم24234) في العقيقة، باب في العقيقة كم عن الغلام، وكم عن الجارية، وأحمد (2/193-194)، وأبوداود (3/262 رقم2842) في الأضاحي، باب في العقيقة، والنسائي (7/162-164 رقم4212) في العقيقة، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (3/79-80 رقم1055.طريق النسائي، والحاكم (4/238)، والبيهقي(9/300، 312) طريق أبي داود، وغيره، وابن عبدالبر في "التمهيد" (4/317)، جميعهم من طريق داود بن قيس، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العقيقة، فقال: «لا أحب العقوق ».
قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي. وقال الشيخ الألباني رحمه الله في "الصحيحة" (4/213 رقم1655): «وإنما هو حسن فقط؛ للخلاف المعروف في عمرو بن شعيب».
وله شاهد من حديث رجل من بني ضمرة، عن أبيه: أخرجه مالك (2/500 رقم 1 ) في العقيقة، باب ما جاء في العقيقة، وعنه أحمد (5/369)، والبيهقي (9/300).
وأخرجه ابن أبي شيبة (5/112 رقم24230) في العقيقة، باب في العقيقة من رآها، وأحمد (5/430)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (3/80، 81 رقم1056، 1057)، والبيهقي (9/312).
جميعهم من طريق زيد بن أسلم، عن رجل من بني ضمرة، عن أبيه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العقيقة...، فذكره.
قال الهيثمي في " المجمع" (4/90): «وفيه رجل لم يسمّ، وبقية رجاله رجال الصحيح».
وقال الشيخ الألباني رحمه الله في "الصحيحة" (4/213): «وهذا شاهد لا بأس به، فالرجل الضمري شيخ زيد بن أسلم الظاهر أنه تابعي؛ إن لم يكن صحابيًّا، فإن زيدًا هذا من التابعين الثقات، فالحديث به صحيح».
(16) قوله: «وسيأتي» في (ب) فقط، وسيأتي هذا في كتاب الأدب.(2/328)
************
(107) باب أفضل النوافل ماصُلِّىَ في البيت
362- عَنِ ابْنِ عُمَرَ (1) ، عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اجْعَلُوا مِنْ صَلاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، وَلا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا ».
363- وعَنْ جَابِرٍ (2) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «إِذَا قَضَى أَحَدُكُمُ الصَّلاةَ فِي مَسْجِدِهِ، فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصِيبًا مِنْ صَلاتِهِ، فَإِنَّ الله جَاعِلٌ فِي بَيْتِهِ مِنْ صَلاتِهِ خَيْرًا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب: فضل النوافل
قوله - صلى الله عليه وسلم - : «اجْعَلُوا مِنْ صَلاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ (3) »: «مِنْ» هنا للتبعيض، ويعني به النوافل؛ بدليل قوله فى الحديث الآخر (4) : «إِذَا قَضَى أَحَدُكُمُ الصَّلاةَ فِي مَسْجِدِهِ، فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصِيبًا مِنْ صَلاتِهِ ».
وقوله: «وَلا (5) تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا »؛ أي: لا تصيِّروها (6) كالقبور التي ليس فيها صلاة.
وقوله: «فَإِنَّ الله - عز وجل - جَاعِلٌ فِي بَيْتِهِ مِنْ صَلاتِهِ خَيْرًا »: الضمير في «بَيْتِهِ» عائد (7) على المصلي الذي تضمنه الكلام المتقدم. و«مِنْ» ها هنا سببِّية؛ بمعنى: من أجل. والخير الذي يجعل في البيت بسبب التنفل فيه هو (8) عمارته بذكر الله تعالى، وبطاعته، وبالملائكة (9) ، وبدعائهم، واستغفارهم، وما يحصل لأهله من الثواب والبركة. =(2/411)=@ &(2/329)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (1/529 رقم 432) في الصلاة، باب كراهة الصلاة في المقابر، و(3/62 رقم 1187) كتاب التهجد، باب التطوع في البيت، ومسلم (1/538 رقم 777) في صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد.
(2) أخرجه مسلم (1/539 رقم 778) في الباب السابق.
(3) قوله: «في بيوتكم» ليس في (ز).
(4) أي: الآتي.
(5) في (غ): «لا» بلا واو.
(6) في (ب): «أي تصيروها».
(7) قوله: «عائد» ليس في (أ).
(8) في (ح): «وهو».
(9) في (أ): «والملائكة».(2/329)
364- وعَنْ أَبِي مُوسَى (1) ، عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ الله فِيهِ، وَالْبَيْتِ الَّذِي لا يُذْكَرُ الله فِيهِ، مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ ».
365- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (2) : أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ. إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله (3) : «مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ الله فِيهِ (4) ، وَالْبَيْتِ الَّذِي لا يُذْكَرُ الله فِيهِ، مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ»: هذا التشبيه واقع بأهل البيت، بالبيت (5) ، ووجهه: أن أهل البيت إذا لم يصلوا فيه، ولم يذكروا الله تعالى فيه (6) ؛ نومًا، أو غفلةً، فهم بمنزلة الموتى، والبيت بمنزلة القبر. وعلى هذا؛ ففي الحديث حذف مضاف، وتقديره (7) : مثل أهل (8) البيت.
366- وعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ (9) قَالَ: احْتَجَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حُجَيْرَةً بِخَصَفَةٍ أَوْ حَصِيرٍ فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فِيهَا قَالَ فَتَتَبَّعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ وَجَاءُوا يُصَلُّونَ بِصَلاتِهِ، قَالَ: ثُمَّ جَاءُوا لَيْلَةً فَحَضَرُوا، وَأَبْطَأَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْهُمْ قَالَ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ، فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ، وَحَصَبُوا الْبَابَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُغْضَبًا، فَقَالَ لَهُمْ: «مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُكْتَبُ عَلَيْكُمْ، فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلاةِ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ خَيْرَ صَلاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلا الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «احْتَجَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حُجَيْرَةً بِخَصَفَةٍ (10) »)؛ أي: اقتطع من المسجد قطعة (11) بحصير ليعتكف فيه، والله أعلم.
والخصفة (12) : حصير يخصف؛ أي: يخاط من السعف (13) ، ومنه قوله تعالى: {يخصفان عليهما من ورق الجنة} (14) ؛ أي: يخيطان. والخَصَفَةُ: ما يخصف، والحصير: ما ينسج، وهو على الشك من الراوي (15) . وكان هذا الفعل منه - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا القول في رمضان، وقد تقدم في حديث عائشة رضي الله عنها (16) . =(2/412)=@
ومعنى: «حَصَبُوا الْبَابَ»؛ أي: رموه بالحصباء (17) ؛ حرصًا على خروجه إليهم للصلاة. و«سيُكتب» (18) ؛ أي: يُفرض (19) ، وقد تقدم الكلام على هذا المعنى في قيام رمضان.
( 108 ) باب أَحَبُّ العمل إلى الله أَدْوَمُهُ وإن قَلَّ، وكراهية
التَّعَمُّقِ والتشديد
367- عَنْ عَائِشَةَ (20) أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَصِيرٌ، وَكَانَ يُحَجِّرُهُ مِنَ اللَّيْلِ فَيُصَلِّي فِيهِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاتِهِ، وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ، فَثَابُوا ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ الله لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى الله مَا دُووِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ وَكَانَ آلُ مُحَمَّدٍ إِذَا عَمِلُوا عَمَلاً أَثْبَتُوهُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب أحب العمل إلى الله تعالى أدومه
قوله - صلى الله عليه وسلم - : «عَلَيْكُمْ مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ»: هذا حضٌ (21) على التخفيف في أعمال (22) النوافل، ويتضمن الزجر عن (23) التشديد، والغلوّ فيها. وسبب ذلك: أن &(2/330)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (1/208 رقم 6407) في الدعوات، باب فضل ذكر الله عز وجل، ومسلم (1/539 رقم 779) في صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة النافلة في البيت وجوازها في المسجد.
(2) أخرجه مسلم (1/539 رقم 780) في صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة النافلة في البيت وجوازها في المسجد.
(3) في (ز): «وقوله».
(4) قوله: «فيه» سقط من (ز).
(5) في (أ): «لا بالبيت».
(6) قوله: «فيه» ليس في (ب).
(7) في (ز) و(أ) و(غ): «تقديره».
(8) في (ح): «هذا».
(9) أخرجه البخاري (2/214 رقم 731) في الأذان، باب صلاة الليل، و(10/517 رقم6113) كتاب الأدب، باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله تعالى، و(13/264 رقم 7290) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، ومسلم (1/ 539 رقم 781) في صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد.
(10) في (أ): «بخصيفة»، وفي و(ز) و(ح): «لخصيفة»، والمثبت من (ب)، و"صحيح مسلم".
(11) في (غ): «قطع».
(12) في (ز) و(أ) و(غ): «والخصيفة».
(13) في (غ): «النخل».
(14) سورة الأعراف، الآية: 22.
(15) في (ب): «من الرواة».
(16) تقدم برقم (634) في الصلاة، باب الترغيب في قيام رمضان.
(17) في (أ): «بالحصا».
(18) في (ز): «سكيت».
(19) في (ب): «تفرض».
(20) أخرجه البخاري (2/213 رقم 729) كتاب الأذان، باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أوسترة، و(2/213، 214 رقم730) كتاب الأذان، باب صلاة الليل-مختصرًا-، و(2/403 رقم924) كتاب الأذان، باب من قال في الخطبة بعد الثناء أما بعد، (3/10 رقم1129) كتاب التهجد، باب تحريض النبي - صلى الله عليه وسلم - على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب، و(4/250 رقم 2011، 2012) كتاب صلاة التروايح، باب فضل من قام رمضان، و(10/314 رقم 5861) في اللباس، باب الجلوس على الحصير ونحوه، ومسلم (1/540 رقم 782) في صلاة المسافرين، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره.
(21) في (ز): «على»
(22) في (أ) و(ز): «الأعمال».
(23) في (غ): «نص».(2/330)
التخفيف يكون معه الدوام والنشاط؛ فيكثر الثواب لتكرار (1) العمل، وفراغ القلب، بخلاف الشاقّ منها، فإنه يكون معه (2) التشويش والانقطاع غالبًا.
وقوله: «فَإِنَّ الله لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا »: ظاهره محالٌ على الله تعالى. فإن الملال (3) فتورٌ عن تعب، وألَمٌ عن مشقة، وكل ذلك على الله تعالى محال (4) ، وإنما =(2/413)=@ أطلق هنا (5) على الله تعالى على جهة المقابلة اللفظية مجازًا؛ كما قال الله تعالى: {ومكروا ومكر الله (6) } (7) ، و: {فمن (8) اعتدى عليكم فاعتدوا عليه} (9) ، وجهة (10) مجازه (11) : أنه تعالى لما كان يقطع ثوابه عَمَّن ملَّ من العمل (12) وَقَطَعَهُ؛ عبّر عن ذلك بالملل؛ من باب تسمية الشيء باسم (13) سببه (14) . &(2/331)&$
__________
(1) في (ب) و(غ): «لتكرر».
(2) في (ب): «منه».
(3) في (ب): «الملل».
(4) في (أ): «وكل ذلك محال على الله تعالى».
(5) في (أ): «هاهنا».
(6) في (ز): «قال: «ومكروا مكر الله».
(7) سورة آل عمران، الآية: 24.
(8) في جميع الأصول: «ومن» و(غ) و(أ).
(9) سورة البقرة، الآية: 194.
(10) في (ب): «ووجه».
(11) في (أ): «مجازاة»، وفي "فتح الباري" (1/102) نقلاً عن المصنف: «وجه مجازه».
(12) المثبت من (ب) في (أ): «عن أمل العمل»، وفي (ح): «عمل من مل العمل»، وفي (ز): «عمل مل العلم»، وفي (غ): «عَمَّن ملَّ العمل».
(13) في (أ): «باسمه».
(14) الصواب أن هذا من نصوص الصفات التي تثبت على وجه يليق بالبارئ لا نقص فيه؛ كنصوص الاستهزاء والخداع. انظر فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (1/209).(2/331)
368- عَنْ عَلْقَمَةَ (1) قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ قَالَ: قال الشيخ رحمه الله: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ! كَيْفَ كَانَ عَمَلُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الأَيَّامِ؟ قَالَتْ: لا، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَطِيعُ؟!
369- وعَنْ أَنَسٍ (2) قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَسْجِدَ، وَحَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟ » فَقَالُوا: لِزَيْنَبَ، تُصَلِّي فَإِذَا كَسِلَتْ أَوْ فَتَرَتْ أَمْسَكَتْ بِهِ فَقَالَ: «حُلُّوهُ. لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا كَسِلَ أَوْ فَتَرَ قَعَدَ ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «فَلْيَقْعُدْ ».
370- وَعَنْ عَاَئِشَةَ (3) : أَنَّ الحَوْلاَء بِنْتَ تُوِيْتْ مَرَّتْ بِهَا، وَعِنْدَهَا رَسُوْلُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَتْ: هَذِهِ الْحَوْلاءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ، وَزَعَمُوا أَنَّهَا لا تَنَامُ اللَّيْلَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «لا تَنَامُ اللَّيْلَ! ! خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَوَالله! لا يَسْأَمُ الله حَتَّى تَسْأَمُوا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول علقمة: «هَلْ كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الأَيَّامِ؟» وجواب عائشة رضي الله عنها بنفي ذلك، خرج على غير الصيام؛ لأنه قد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يخص (4) الإثنين والخميس بالصيام، فتعيَّن صرف حمله إلى غير ذلك.
وقولها: «وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَطِيعُ؟» هذا يدل على شدة ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه (5) ؛ من كثرة التكاليف، والاجتهاد في الوفاء بها، وذلك أنه كُلِّف تكاليف (6) خاصة به (7) ؛ كما خُصَّ به من الواجبات زيادة على ما ساوى فيه جميع المكلفين. ثم إنه قد كُلِّف مراعاة مصالح أهل بيته، ومصالح الخلق كلهم: خاصة وعامة، الدينية والدنيوية؛ هذا بالنظر إلى ظاهر أمره، وأما بالنظر إلى خواصّ باطنه؛ فمما (8) لا يدرك، ولا يمكن وصفه، وغاية العبارة عنه قوله: «إني (9) لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية » (10) ، ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - متواصل الأحزان (11) والعبادات والمشقّات، =(2/414)=@ ليست له راحة، وقال في لفظ آخر: «إني أخشاكم (12) لله وأعلمكم (13) بحدوده » (14) . وقد كان
تتفطر قدماه من القيام (15) ، ويجهد نفسه من الجوع، ويربط على بطنه بالحجر (16) والحجرين (17) ، وكان (18) ينتهي من إجهاد (19) نفسه إلى أن يرقّ عليه وليُّه، ويرحمه الناظر إليه (20) - صلى الله عليه وسلم - (21) .
باب
371- عَنْ عَائِشَةَ (22) : أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاةِ فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لَعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاةِ فَلْيَرْقُدْ... »، الحديث نَبَّه في آخره على =(2/415)=@ عللة ذلك؛ وهو (23) أنه توقع منه ما يكون منه من الغلط فيما يقرأ ويقول، ولم &(2/332)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (4/235 رقم 1987) كتاب الصوم، باب هل يخص شيئًا من الأيام، و(11/294 رقم 6464- 6466) كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل، ومسلم (1/541 رقم 783) في صلاة المسافرين، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره.
(2) أخرجه البخاري (3/36 رقم 1150) في التهجد، باب مايكره من التشدد في العبادة، ومسلم (1/541 رقم 584) في صلاة المسافرين، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر؛ بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك.
(3) أخرجه البخاري (3/36 رقم 1151) في التهجد، باب ما يكره من التشدد في العبادة، ومسلم (1/542 رقم 785) في صلاة المسافرين، الباب السابق.
(4) في (ب): «يختص».
(5) قوله: «فيه» ليس في (غ).
(6) في (ب) و(ح): «بتكاليف».
(7) قوله: «خاصة به» ليس في (أ).
(8) في (ب) و(غ): «مما». وفي (ز): «فما».
(9) قوله: «إني» سقط في (ز) وفي (غ): «وقوله».
(10) سيأتي برقم (2259) في النبوات، باب: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم الناس بالله، وأشدهم له خشية.
(11) أخرجه ابن سعد (1/422-425)، والترمذي في "الشمائل" (ص184 رقم226)، والطبراني في "الكبير" (22/155-159 رقم414)، والحاكم (3/640) ولم يسق لفظه، والبيهقي في "دلائل النبوة" (1/285-292)، جميعهم من طريق جميع بن عمير بن عبدالرحمن العجلي، عن رجل من بني تميم من ولد أبي هالة زوج خديجة، يكنى أبا عبدالله، عن ابن لأبي هالة، عن الحسن بن علي، قال: سألت خالي هند بن أبي هالة - وكان وصّافًا - عن حلية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: ... فذكره مطولاً، وفيه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متواصل الأحزان...
قال ابن القيم رحمه الله: «وأما حديث هند بن أبي هالة في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أنه كان متواصل الأحزان»، فحديث لا يثبت، وفي إسناده من لا يعرف، وكيف يكون متواصل الأحزان وقد صانه الله عن الحزن على الدنيا وأسبابها، ونهاه عن الحزن على الكفار، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فمن أين يأتيه الحزن؟» "مدارج السالكين" (1/507).
وقال الشيخ الألباني في "مختصر الشمائل" (ص18 رقم6): «إسناده ضعيف جدًّا». وقال في "الصحيحة" (5/85): «وله علتان: الأولى: جهالة أبي عبدالله التميمي. الثانية: ضعف جميع بن عمير، واتهمه بعضهم». اهـ.
(12) في (ز) و(أ) و(غ): «لأنشاكم».
(13) قوله: «لله وأعلمكم» ليس في (أ).
(14) أخرجه الإمام مالك في "الموطأ" (1/291-292 رقم13) في الصيام، باب ما جاء في الرخصة في القبلة للصائم، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار مرسلاً؛ في قصة الرجل الذي قبّل امرأته وهو صائم، وفيه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «والله! إني لأتقاكم لله، وأعلمكم بحدوده».
قال ابن عبدالبر في "التمهيد" (5/108): «هذا الحديث مرسل عند جميع رواة الموطأ».
وأخرجه الشافعي في "الرسالة" (ص404-405) طريق مالك، ثم قال: «وقد سمعت من يصل هذا الحديث، ولا يحضرني ذكر من وصله».
قال الشيخ رحمه الله: وصله عبدالرزاق، فرواه في "المصنف" (4/184 رقم8412.طريق شيخه ابن جريج، قال: أخبرني زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن رجل من الأنصار؛ أنه أخبره أنه قبّل امرأته على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ...، فذكره. وهذا إسناد صحيح.
ومن طريق عبدالرزاق أخرجها أحمد في "المسند" (5/434).
وله طريق أخرى أخرجها أحمد أيضًا (6/226.طريق عبدالرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة قال: دخلت امرأة عثمان بن مظعون على عائشة وهي باذّة الهيئة...، الحديث، وفيه: فقال - صلى الله عليه وسلم - : « فوالله إني أخشاكم لله، وأحفظكم لحدوده ».
(15) أخرجه البخاري في التفسير من "صحيحه" (8/584 رقم4837)، باب { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر }، من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه...، الحديث.
وسيأتي برقم (2707) في الزهد، باب الاجتهاد في العبادة والدوام على ذلك، من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلّى حتى انتفخت قدماه، فقيل له: أتكلّف هذا وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟! قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا ».
(16) أخرجه البخاري (7/395 رقم 4101) في المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب؛ من حديث جابر، وفيه: «ثم قام وبطنه معصوب بحجر».
(17) أخرجه الترمذي (4/506 رقم2371) في الزهد، باب ما جاء في معيشة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي "الشمائل" رقم (372).
والطبري في "تهذيب الآثار" (ص274 رقم459- مسند ابن عباس).
وأبو الشيخ في "أخلاق النبي " (ص288 رقم830).
ثلاثتهم من طريق سيار بن حاتم، عن سهل بن أسلم، عن يزيد بن أبي منصور، عن أنس بن مالك، عن أبي طلحة قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجوع ورفعنا عن بطوننا، عن حجر حجر، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حجرين».
قال الترمذي: «هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه».اهـ.
قلت وفي سنده: سيار بن حاتم، قال ابن معين: «كان صدوقًا، ثقة ليس به بأس، ولم أكتب عنه شيئًا قط». وقال علي بن المديني: «ما كنت أظن يُحَدَّث عن ذا». وقال أبو أحمد الحاكم: «في حديثه بعض المناكير». وقال العقيلي: «حديثه مناكير، ضعفه ابن المديني». وفي "التقريب" (2729): «صدوق له أوهام».
(18) في (ز): «وما كان».
(19) في (أ): «اجتهاد».
(20) في (أ) و(غ) و(ز): «له».
(21) كما في حديث المغيرة بن شعبة الذي تقدم ذكره في التعليق على قوله: «تتفطر قدماه من القيام»، وغيره.
(22) أخرجه البخاري (1/313 رقم 212) في الوضوء، باب الوضوء من النوم....، ومسلم (1/542 رقم 786) كتاب صلاة المسافرين، باب أمر من نعس في صلاته، أو استعجم عليه القرآن أوالذكر؛ بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك. ...
(23) في (أ): «وهي».(2/332)
يجعل علّة ذلك نقض طهارته،فدلّ على أن النوم ليس بحدث على ما تقدم.
وقوله: «لَعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ، فَيَسُبُّ نَفْسَهُ»: رويناه برفع الباء من «يسبّ» ونصبها (1) ، فمن رفع فعلى العطف (2) على «يذهب»، ومن نصب (3) فعلى جواب لعلّ، وكأنه أَشْرَبَهَا معنى التمنِّي؛ كما قرأ حفص: {لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع} (4) ، بنصب العين.
372- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (5) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْتَعْجَمَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ، فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ فَلْيَضْطَجِعْ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «فَاسْتَعْجَمَ الْقُرْآنُ»، رفعًا على أنه فاعل استعجم؛ أي: صارت قراءته كالعجمية (6) ؛ لاختلاط (7) حروف النائم، وعدم بيانها، والله أعلم. =(2/416)=@ &(2/333)&$
__________
(1) في (أ): «ونصبه».
(2) في (غ): «رفع للعطف».
(3) في (غ): «نصبه».
(4) سورة غافر، الآية: 36.
(5) أخرجه مسلم (1/543 رقم 787) في صلاة المسافرين، باب أمر من نعس في صلاته أواستعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد.
(6) في (أ): «كالعجمة».
(7) في و(غ) و(ز) و(ب) و(ح): «لاختلاف».(2/333)
**********
أبواب فضائل القرآن وما يتعلق بها
( 109 ) باب الأمر بِتَعاهُدِ القرآن، وذَمِّ من فرط حتى نسي
373- عَنْ ابْنِ عُمَرَ (1) : أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ الإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ، وَإِذَا قَامَ صَاحِبُ الْقُرْآنِ فَقَرَأَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ذَكَرَهُ، وَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ نَسِيَهُ ».
374- وعَنْ عَبْدِ الله (2) ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «بِئْسَمَا لأَحَدِهِمْ أَنْ يَقُولُ: نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ، بَلْ هُوَ نُسِّيَ، اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ بِعُقُلِهَا ».
375- عَنْ أَبِي مُوسَى (3) ، عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الإِبِلِ فِي عُقُلِهَا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله - صلى الله عليه وسلم - : «بِئْسَمَا لأَحَدِهِمْ (4) أَنْ يَقُولُ: نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ»: «بِئْسَمَا» هي بئس (5) التي للذم، أخت «نعم» التي هي للمدح، وهما فعلان غير منصرفين (6) يرفعان الفاعل (7) ظاهرًا، أو مضمرًا؛ إلا أنه إذا (8) كان ظاهرًا لم تكن (9) في الأمر العام إلا بالألف واللام للجنس، أو مضافًا إلى ما هما فيه؛ حتى يشتمل على الممدوح بهما والمذموم (10) ، ولا بدّ من ذكر الممدوح (11) والمذموم تعيينًا؛ كقولك: نعم الرجلُ زيدٌ، وبئس الرجلُ عمروٌ. فإن كان فاعلهما مضمرًا، فلابدّ من ذكرِ اسمِ نكرةٍ، ينصب على التفسير (12) لذلك المضمر، كقولك: نعم رجلاً زيدٌ. وقد يكون هذا التفسير: «ما» (13) ؛ =(2/417)=@ كما جاء (14) في الحديث، وكما جاء (15) في قوله تعالى: {فَنِعِمَّا هي} (16) ، وقد يجمع بين الفاعل الظاهر وبين (17) المفسر؛ قال (18) :
تزود مثل زاد أبيك فينا ... فنعم الزاد زاد أبيك زادًا (19)
&(2/334)&$
__________
(1) أخرجه البخاري(9/79رقم5031)في فضائل القرآن، باب استذكار القرآن وتعاهده، ومسلم (1/543 رقم 789) كتاب صلاة المسافرين، باب فضائل القرآن وما يتعلق به.
(2) أخرجه البخاري (9/79 رقم 5032) في الكتاب والباب السابقين، و(9/85 رقم 5039) كتاب فضائل القرآن، باب نسيان القرآن، ومسلم (1/544 رقم 790) في الكتاب والباب السابقين.
(3) أخرجه البخاري (9/79 رقم 5033) كتاب فضائل القرآن، باب استذكار القرآن وتعاهده، ومسلم (1/545 رقم 791) في صلاة المسافرين، باب فضائل القرآن وما يتعلق به.
(4) في (ح): «لأحدكم».
(5) قوله: «لبئس» ليس في (أ).
(6) في (ز): «متصرفين».
(7) في (غ): كرر جزءًا من كلمة الفاعل وهو: «عل».
(8) في (ب) و(ح) و(غ) و(ز): «إن».
(9) في (ز): «لم يكن».
(10) قوله: «والمذموم» ليس في (أ).
(11) في (ز): «المدح».
(12) في (ب): «على التمييز».
(13) قوله: «ما» ليس في (غ).
(14) قوله: «جاء» ليس في (ب) و(ح) و(ز) و(غ).
(15) قوله: «جاء» ليس في (ب) و(ح) و(ز) و(غ).
(16) سورة البقرة، الآية: 271.
(17) قوله: «بين» ليس في (غ).
(18) في (ب) و(ح) و(غ) و(ز): «فيقال».
(19) في(ح) البيت هكذا: «تزود مثل زاد أبيك زادًا»، والبيت لجرير. انظر ديوانه برواية محمد بن حبيب (1/118)، وانظر "خزانة الأدب" (9/394).(2/334)
والاسم الممدوح أو المذموم مرفوع بالابتداء (1) ، وخبره الجملة المتقدمة من (2) نعم وفاعلها، وقيل: على الخبر وإضمار المبتدأ. واختلف العلماء في متعلق هذا الذم: فقال بعضهم: هو على نسبة الإنسان لنفسه النسيان؛ إذ لا صنع له فيه، فالذي (3) ينبغي له أن يقول: أُنسيت، مبنيًّا لما لم يُسَمَّ فاعله، وهذا ليس بشيء؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد نسي، وقد (4) نسب النسيان لنفسه (5) ، ونسبه الله تعالى إليه (6) ، في قوله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى ( إلا ما شاء الله} (7) ، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - : «إنما أنا بشر مثلكم (8) أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني» (9) .
وقيل: كان هذا الذم خاصًّا بزمان النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه كان من ضروب (10) النسخ نسيان الآية، كما قال تعالى: {سنقرئك فلا تنسى ( إلا ما شاء الله} (11) ؛ أن ينسيكه (12) ؛ كما قرأت الجماعة: {ما ننسخ من آية أو ننسيها (13) } (14) بضم النون، وترك الهمز؛ أي: نُنْسِكَها (15) ، فلما كان هذا؛ فكأنه (16) نهى عن ذلك القول؛ لئلا يتوهم في كثير من محكم القرآن، أنه قد ضاع لكثرة الناسين، وفيه بُعد.
وقيل قول ثالث؛ وهو أولاها: إن نسيان القرآن إنما يكون (17) لترك تعاهده، وللغفلة عنه، كما أن حفظه إنما يثبت بتكراره والصلاة به؛ كما قال في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «إذا قام صاحب القرآن فقرأ (18) بالليل (19) والنهار ذكره، وإن لم =(2/418)=@ يقم به نسيه ». (20) فإذا قال الإنسان: نسيت آية كيت وكيت (21) فقد شهد على نفسه بالتفريط، وترك معاهدته له (22) ، وهو ذنب عظيم؛ كما قال في حديث أنس - رضي الله عنه - الذي خرّجه الترمذي (23) مرفوعًا: «عرضت عليّ أعمال أمتي، فلم أر ذنبًا أعظم (24) من سورةٍ من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها »، وهو نصٌ. وعلى هذا &(2/335)&$
__________
(1) في (غ): «الابتداء».
(2) في (غ): «مع» بدل «من».
(3) في (ب): «بالذي».
(4) قوله: «نسي وقد» ليس في (ب) و(ح) و(غ) و(ز).
(5) في (غ): «دروب».
(6) في (ح) و(غ) و(ز): «وقد نسبه الله له».
(7) سورة الأعلى، الآيتان: 6-7.
(8) قوله: «مثلكم» ليس في (أ) و(ح) و(ز).
(9) هو جزء من حديث ابن مسعود المتقدم برقم (455).
(10) في (غ): «دروب».
(11) سورة الأعلى، الآيتان: 6-7.
(12) في (ب): «ننسيكه».
(13) في (أ) و(ح): «نُنْسِيها».
(14) سورة البقرة، الآية: 106.
(15) في (ز): «ينسكها».
(16) في (ز): «فكأن».
(17) في (ب): «هو» بدل: «يكون».
(18) في (ح): «يقرأه»، وفي (ب) و(ز): «فقرأه»، وفي (غ): «بقراءة».
(19) في (غ): «الليل».
(20) سيأتي برقم (658).
(21) قوله: «وكيت» من (ب) و(ز) فقط.
(22) قوله: «له»: ليس في (غ) و(أ).
(23) في "جامعه" (5/163-164 رقم2916) في فضائل القرآن، باب منه، من طريق عبدالمجيد بن عبدالعزيز بن أبي روّاد، عن ابن جريج، عن المطلب بن حنطب، عن أنس، به.
وأخرجه أبو داود (1/316-317 رقم 161) في الصلاة، باب في كنس المسجد، وعنه البيهقي (2/440). وأخرجه أبو يعلى (7/253-254 رقم4265)، وابن خزيمة (2/271 رقم1297)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/116 رقم158) جميعهم من طريق عبدالمجيد، به. قال الترمذي: «هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه». قال: «وذاكرت به محمد بن إسماعيل فلم يعرفه واستغربه. قال محمد: ولا أعرف للمطلب بن عبدالله سماعًا من أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا قوله: حدثني من شهد خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ». قال: «وسمعت عبدالله بن عبدالرحمن يقول: لا نعرف للمطلب سماعًا من أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال عبدالله: وأنكر علي بن المديني أن يكون المطلب سمع من أنس». اهـ.
وقال ابن الجوزي في "العلل" (1/117): «قال الدارقطني: قد روي عن ابن جريج، عن أنس، والأول أشبه بالصواب، والحديث غير ثابت، لأن ابن جريج لم يسمع من المطلب شيئًا يقال: كان يدلسه عن ابن ميسرة وغيره من الضعفاء». اهـ.
وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (6/308 رقم6489)، وفي "الصغير" (1/330 رقم547) طريق محمد بن يزيد الآدمي، عن عبدالمجيد بن عبدالعزيز، عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس مرفوعًا، قال الطبراني: «لم يروه عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس إلا عبدالمجيد، تفرد به محمد بن يزيد، عن عبدالمجيد، ورواه غير محمد، عن عبدالمجيد، عن ابن جريج، عن المطلب بن عبدالله بن حنطب، عن أنس».اهـ.
وأخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص201) عن حجاج، عن ابن جريج.
وأخرجه عبدالرزاق (3/361 رقم5977) عن ابن جريج.
قال حجاج: عن ابن جريج حُدِّثت عن أنس، وقال عبدالرزاق: عن رجل عن أنس.
والحديث ضعّف إسناده الحافظ في "الفتح" (9/86)، ثم قال: « وقد أخرج ابن أبي داود من وجه آخر مرسل نحوه، ولفظه: «أعظم من حامل القرآن وتاركه»، ومن طريق أبي العالية موقوفًا: «كنا نعدّ من أعظم الذنوب أن يتعلم الرجل القرآن ثم ينام عنه حتى ينساه»، وإسناده جيد، ومن طريق ابن سيرين بإسناد صحيح في الذي ينسى القرآن: كانوا يكرهونه ويقولون فيه قولاً شديدًا».اهـ.
(24) في (غ): «عظم».(2/335)
فمتعلَّق الذم تركه (1) ما أُمر به من استذكار القرآن وتعاهده، والنسيان علامة ترك (2) ذلك، فعلق (3) الذم عليه. ولا يقال: حفظ جميع القرآن ليس واجبًا على الأعيان، فكيف (4) يذم من تغافل عن حفظه؟! لأنا نقول: من جمع القرآن فقد علت رتبته ومرتبته (5) ، وشرف في نفسه وقومه شرفًا عظيمًا، وكيف لا يكون كذلك (6) ، و«من حفظ القرآن فكأنما أدرجت النبوة بين كتفيه» (7) ؟ وقد صار ممن يقال فيه: هو من أهل الله تعالى وخاصته (8) ، وإذا كان كذلك؛ فمن المناسب تغليظ العقوبة على من أخل بمزيته (9) الدينية، ومؤاخذته بما لا يؤاخذ به غيره؛ كما قال تعالى: {يانساء النبي من يأتِ منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين} (10) ؛ لاسيما (11) إذا كان ذلك الذنب مما يحط تلك المزية (12) ويسقطها؛ لترك (13) معاهدة القرآن المؤدي به (14) إلى الرجوع إلى الجهالة. ويدل على صحة هذا التأويل: قوله في آخر الحديث (15) : «بل هو نُسِّي ». وهذا اللفظ رويناه مشدَّدًا مبنيًّا لما لم يسم فاعله، وقد سمعناه من بعض من لقيناه بالتخفيف، وبه ضُبِط عن (16) أبي بحر، والتشديد لغيره، ولكل منهما وجهٌ صحيح: فعلى التشديد يكون معناه: أنه عوقب بتكثير النسيان عليه؛ لما تمادى في التفريط. وعلى التخفيف يكون (17) معناه: تُرِك (18) غير مُلْتَفَتٍ إليه، ولا مُعْتَنىً (19) به ولا مرحوم؛ كما قال الله تعالى (20) : {نسوا الله فنسيهم} (21) ؛ أي: تركهم في العذاب، أو تركهم من (22) الرحمة. =(2/419)=@
وقوله: «كَيْتَ وَكَيْتَ»: كلمة يعبَّر بها عن الجمل الكبيرة (23) ، والحديث الطويل (24) ، ومثلها: ذيت وذيت. قال (25) ثعلب: كان من الأمر كيت وكيت، وكان من فلان ذيت وذيت، فكيت: كناية عن الأفعال، وذيت: إخبار عن الأسماء. و التَّفَصِّي (26) : التَّفَلُّت والانفصال، يقال: تفصّى (27) فلان عن كذا؛ أي: انفصل عنه. والنَّعَم: الإبل، ولا واحد له من لفظه. و العُقُل: جمع عقال، وهو ما تعقل به الناقة.
وقوله: «من عقله »: من (28) : هو (29) على (30) أصل ما يقتضيه اللفظ من أصل التعدِّي، فأما رواية من رواه: «بِعُقُلِهَا» (31) ، و«فِي عُقُلِهَا (32) »)؛ فعلى أن يكون (33) الباء والفاء بمعنى: «من»، أو يكون معناهما (34) : المصاحبة والظرفية، ويعني به: تشبيه من يتفلت منه بعض القرآن بالناقة التي انفلتت من عقالها، وبقي (35) متعلِّقًا بها، والله أعلم. &(2/336)&$
__________
(1) في (ز): «ترك».
(2) في (ب): «تؤكد» بدل: «ترك».
(3) في (غ): «يعلق».
(4) في (غ): «وكيف».
(5) في (ب): «ومزيته».
(6) في (ح): «ذلك».
(7) أخرجه بهذا اللفظ وكيع بن الجراح في "تفسيره"- كما في "تفسير ابن كثير" (1/476)-، عن إسماعيل بن رافع، عن رجل لم يسمِّه، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما من قوله موقوفًا عليه. وسنده ضعيف جدًّا؛ لإبهام الراوي عن ابن عمر، وشيخ وكيع هو أبو رافع إسماعيل بن رافع الأنصاري، المدني، القاصّ، وهو ضعيف الحفظ كما في "التقريب" (ص139 رقم446).
وقد روي مرفوعًا من طرق، لكنها جميعها واهية، وقد عدّه بعضهم في الموضوعات كما تجده مفصلاً في تعليقي على "سنن سعيد بن منصور" (2/263-266 رقم68).
(8) أخرجه الطيالسي (ص283 رقم2124)، وأبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص88)، وأحمد (3/127- 128، 242)، وابن الضريس (ص50 رقم75)، وابن ماجه (1/78 رقم215) في المقدمة، باب فضل من تعلم القرآن وعلمه، والنسائي في "الكبرى" (5/17 رقم8031)، والحاكم (1/556)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/63) و(9/40).جميعهم من طريق عبدالرحمن بن بديل، عن بديل بن ميسرة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن لله أهلين من الناس »، قالوا: يا رسول الله! من هم؟ قال: « هم أهل القرآن، أهل الله وخاصته ».
قال البوصيري في "الزوائد" (1/91): «هذا إسناد صحيح رجاله موثقون». وقال المنذري في "الترغيب" (2/328): «وهو إسناد صحيح». وقال الحاكم: «قد روي هذا الحديث من ثلاثة أوجه عن أنس، هذا أمثلها». وصححه الشيخ الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2165).
(9) في (ح): «بمنزلته»، وفي (ب) و(غ): «بمرتبته»، وفي (ز) تشبه أن تكون كذلك.
(10) سورة الأحزاب، الآية: 30.
(11) في (ب): «ولا سيما».
(12) في (ب) و(ح) و(ز): «المنزلة»، وفي (غ): «مما يحبط تلك المنزلة».
(13) في (ب) و(غ) و(ز): «كترك».
(14) قوله: «به» ليس في (أ).
(15) في (ح): «في الحديث الآخر».
(16) في (غ): «على» بدل «عن».
(17) في (ب): «فيكون».
(18) في (غ): «تركه».
(19) في (غ): «معنا».
(20) في (أ): «كما قال تعالى».
(21) سورة التوبة، الآية: 67.
(22) في (ز): «في» بدل «من».
(23) 9) في (ب) و(ز) تشبه أن تكون، وفي (غ): «الكثيرة».
(24) في (ح) و(غ) و(ز): «والحديث من الأمر الطويل».
(25) في (أ) و(ب) و(غ): «وقال».
(26) في (ز): «والتقصي».
(27) في (ز): «نقصى».
(28) في (أ) و(غ): «بمن».
(29) قوله: «هو» ليس في (ب) و(ح) و(ز) و(غ).
(30) في (ز): «أعلى» بدل «على».
(31) في (ز): «يعلقها».
(32) قوله: «وفي عقلها» تكرر في (ح) فلعله يقصد بالثانية: «ومن عقلها» كما ورد.
(33) في (ز) و(غ): «تكون».
(34) في (غ): «معناها».
(35) في (ب) و(غ) و(ز): «ويبقى».(2/336)
وصاحب القرآن: هو الحافظ له، المشتغل (1) به، الملازم لتلاوته، ولفظ الصحبة مستعمل في أصل اللغة على إلف (2) الشيء وملازمته، ومنه: أصحاب الجنة، وأصحاب النار، وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - . =(2/420)=@
(110) باب تحسين الصوت بالقراءة والترجيع فيها
376- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (3) ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَا أَذِنَ الله لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ، يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «كَإِذْنِهِ »، مَكَانَ: «مَا أَذِنَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «مَا أَذِنَ الله »؛ أي: ما استمع الله (4) وأصغى. وأصله: أن المسْتَمِع يميل بأذنه إلى جهة المسْتَمَع (5) ، تقول العرب: أَذِن؛ بكسر الذال، يأذَن (6) بفتحها في المستقبل؛ أَذَنًا بفتح الهمزة والذال في المصدر: إذا أصغى واستمع. وهذا المعنى في حق الله تعالى محال، إنما هو من باب التوسُّع على ما جرى في (7) عرف التخاطب، وهو منصرف في حق الله تعالى لإكرام القارئ وإجزال ثوابه (8) . ووجه هذا التوسع: أن الإصغاء إلى الشيء قبول له، واعتناء (9) به، ويترتب على ذلك إكرام الْمُصْغَى إليه، فعبّر عن الإكرام بالإصغاء؛ إذ هو عنه.
وفائدة هذا الحديث (10) حث القارئ على إعطاء القراءة (11) حقها من (12) : ترتيلها، وتحسينها، وتطييبها بالصوت الحسن ما أمكن (13) .
فأما (14) قوله: «يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ»، فتمسك (15) به من يجوّز قراءة القرآن &(2/337)&$
__________
(1) في (أ): «المستقل».
(2) في (ب): «على تألف».
(3) أخرجه البخاري (9/68 رقم 5023، 5024) في فضائل القرآن، باب من لم يتغن بالقرآن، و(13/453 رقم7482) في التوحيد، باب قول الله تعالى: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له...}، و(13/518 رقم7544) كتاب التوحيد، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «الماهر بالقرآن مع الكرام البررة»، ومسلم (1/545 رقم 792) في صلاة المسافرين، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن.
(4) قوله: «الله» ليس في (أ)و(ب) و(ز) و(غ).
(5) في (ز): «الممتع» في (أ): «ليسمع».
(6) في (ز): «بأذن».
(7) في (ب): «به» بدل «فيه».
(8) سبق التنبيه مرارًا على أن المصنف من المؤوِّلة نفاة الصفات، فهو هنا يؤوِّل هذا النص، مع أن بالإمكان إجراءه على ظاهره؛ فنقول: دلّت نصوص الكتاب والسنة على أنه - سبحانه- سميع بصير، فالمعنى هنا إذًا: «ما استمع الله لشيء ما استمع لنبي حسن الصوت»، فنثبت له - سبحانه- سمعًا يليق بجلاله، ولا نكيِّف، ولا نمثل استماعه باستماع المخلوق.
(9) في (ز): «والاعتناء».
(10) في (ح) و(غ) و(ز): «الخبر» بدل: «الحديث».
(11) قوله: «على إعطاء القراءة» سقط من (أ).
(12) في (ز): «ومن».
(13) في (أ): «على ما أمكن».
(14) في (ز): «وأما».
(15) في (ح): «يتمسك» وفي (غ): «فيتمسك».(2/337)
بالألحان، وهو (1) أبو حنيفة وجماعة من السلف، وقال به الشافعي في التحزين، وكرهه (2) مالك وأكثر العلماء. ولا أشك (3) أن موضع الخلاف في هذه المسألة إنما هو إذا لم يغيّر لفظ القرآن بزيادة أو نقصان، أو يبهم معناه بترديد (4) الأصوات، فلا يُفهم معنى القرآن، فإن هذا مما لا يُشك (5) في تحريمه. فأما إذا سلم من ذلك، وحذا به حذو أساليب الغناء والتطريب والتحزين فقط، فقد قال (6) مالك: ينبغي أن يُنَزِّه (7) أذكار الله تعالى وقراءة القرآن عن التشبه بأحوال المجون والباطل؛ فإنها حق وجِدٌّ وصِدق، والغناء هزل ولهو (8) ولعب. وهذا الذي قاله مالك وجمهور العلماء هو الصحيح؛ بدليل ما ذُكِر، وبأدلة أُخَر: =(2/421)=@
منها: أن كيفية قراءة القرآن قد بلغتنا متواترة عن كافة المشايخ جيلاً فجيلاً إلى العصر الكريم؛ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وليس فيها تلحين ولا تطريب، مع كثرة المتعمِّقين والمتنطِّعين في مخارج الحروف، وفي المدِّ، والإدغام، والإظهار، وغير ذلك من كيفية القراءات، وهذا قاطع.
ومنها: أن النبي - رضي الله عنه - قال (9) : «لست من ددٍ ولا الدَّدُ مني » (10) ،والدَّدُ: هو اللعب واللهو، ومعنى ذلك: أن اللعب لا يليق (11) بأحواله، فكيف بقرآنه وقراءته (12) ؟!
ومنها: أنّ التطريب والترجيع يؤدي إلى الزيادة في القرآن والنقص منه، وهما ممنوعان، فالمؤدِّي إليهما ممنوع. وبيانه: أن التطريب والتلحين يحتاج من ضروراته أن يمد في غير موضع المدّ، وينقص؛ مراعاة للوزن (13) ؛ كما هو معلوم عند أهله. &(2/338)&$
__________
(1) إلى هنا انتهت المقابلة مع نسخة (غ).
(2) في (ح): «فكرهه».
(3) في (ز): «ولا شك».
(4) في (أ): «بتريد».
(5) في (ب): «لا شك».
(6) في (ا): «فقال» بدل: «فقد قال».
(7) في (ب) و(ح): «ننزه».
(8) في (ب): «ولغو».
(9) في (ح) و(ز): «قد قال».
(10) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (2/256-257 رقم785)، والبزار (3/129 رقم2402/كشف)، والطبراني في "الأوسط" (1/132 رقم413)، وابن عدي (7/243)، والبيهقي (10/217).
جميعهم من طريق أبي زُكير يحيى بن محمد بن قيس، عن عمرو بن أبي عمرو، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لست من دد، ولا الدد مني ».
وأخرجه الدولابي في "الكنى" (1/179) بهذا الإسناد، لكنه أدخل المطلب بين عمرو بن أبي عمرو، وأنس. وقال البزار: «لا نعلمه يروى إلا عن أنس، ولا نعلم رواه عن عمرو إلا يحيى بن محمد بن قيس».
وقال ابن عدي: «وهذا الحديث يعرف بيحيى بن قيس... ويحيى بن محمد بن قيس له أحاديث سوى ما ذكرت، وعامة أحاديثه مستقيمة إلا هذه الأحاديث التي بينتها».
وقال العقيلي (4/427): «لا يتابع على حديثه، وتابعه على هذا من هو دونه».
وأخرجه الطبراني في "الكبير" (19/343-344 رقم794) عن محمد بن أحمد بن نصر أبي جعفر الترمذي، عن محمد بن عبدالوهاب الأزهري، عن محمد بن إسماعيل الجعفري، عن عبدالعزيز بن محمد الداروردي، عن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب، عن معاوية، فذكره.
وسنده ضعيف، قال الهيثمي في "المجمع" (8/414): «ورواه الطبراني عن محمد بن أحمد بن نصر، عن محمد بن عبدالوهاب الأزهري، ولم أعرفهما، وبقية رجاله ثقات». اهـ.
ومحمد بن إسماعيل الجعفري: قال أبو حاتم: «منكر الحديث يتكلمون فيه».
وقال ابن أبي حاتم في "العلل" (2/266): سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه أبو زكير...، فذكره، قالا: «هكذا رواه أبو زكير، ورواه الداروردي، عن عمرو، عن المطلب بن عبدالله، عن معاوية بن أبي سفيان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ». قلت لأبي زرعة: أيهما عندك أشبه؟ قال: «الله أعلم»، ثم قال تفكر ساعة، فقال: «حديث الداروردي أشبه». وسألت أبي، فقال: «حديث معاوية أشبه».اهـ.
قال الشيخ الألباني في "الضعيفة" (5/469-470 رقم2453): « وعلته عنعنة المطلب بن عبدالله، فإنه كان كثير التدليس والإرسال، كما قال الحافظ في "التقريب». اهـ.
(11) في (ز): «يلتق».
(12) في (ب): «فكيف بقرباته وقراءته»، وفي (ز): «فكيف بقربانه وقراءته»، وفي (أ): «وكيف بقرنائه وقراءته».
(13) في (ح): «الوزن».(2/338)
ومنها: أنه يؤدي إلى تشبيه (1) القرآن بالشعر، وقد نزهه الله تعالى عن الشعر وأحواله، حيث قال تعالى: {إنه لقول رسول كريم( وما هو بقول شاعر} (2) ، وقد تأوّل من منع من تلحين القرآن، قوله - صلى الله عليه وسلم - : «يتغنى به »، وقوله: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن »؛ على تأويلات:
أحدها: أن معناه أنه (3) يستغني به، يقال: تغنّيت، وتغانيت بمعنى: استغنيت، قاله سفيان.
وثانيها: أن معناه يجعله مكان الغناء، وبدلاً منه، فيستديم تلاوته، ويستطيبه كما يستطيب الغناء. =(2/422)=@
وثالثها: أن معناه يجهر به. كما فسّره الصحابي راوي الحديث، وهذا أشبه؛ لأن العرب تسمي كل من رفع صوته ووالى به: غانيًا، وفعله ذلك (4) : غناء، وإن لم يلحنه،: تلحين (5) الغناء؛ وعلى هذا فسّره الصحابي، وهو أعلم بالمقال، وأقعد بالحال، والله أعلم.
377- وعَنْ أَبِي مُوسَى (6) ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَبِي مُوسَى: «لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ، لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله لأبي موسى: «لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ»: المزمار (7) والمزمور (8) : الصوت الحسن، وبه سُمِّيت آلة الزمر (9) : مزمارًا. وآل داود: نفسه. وآل: صلة، والمراد به داود نفسه، وفي غير "الأم" (10) قال أبو موسى للنبي - صلى الله عليه وسلم - : «لو علمت أنك تسمع قراءتي؛ لحبرته لك تحبيرًا»؛ أي: لحسَّنته ولجمَّلته. والحبر: الجمال، ومنه الحديث (11) في وصف الرجل (12) من أهل النار: «ذهب حبره وسبره (13) ») (14) ؛ أي: جماله وبهاؤه (15) . وهذا محمول على (16) أبي موسى على أنه كان يزيد في رفع صوته وتحسين ترتيله، حتى يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعرفه أنه قَبِلَ عنه =(2/423)=@ كيفية أداء (17) &(2/339)&$
__________
(1) في (أ): «إلى لشبيه».
(2) سورة الحاقة، الآيتان: 40-41.
(3) قوله: «أنه» ليس في (ب) و(أ).
(4) قوله: «ذلك» ليس في (أ).
(5) في (أ): «بتلحين».
(6) أخرجه البخاري (9/92 رقم 5048) في فضائل القرآن، باب حسن الصوت بالقراءة للقرآن، ومسلم (1/546 رقم 793) في صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن.
(7) في (أ): «والمزمار».
(8) في (ح): «أو المزمور».
(9) في (أ): «المزمر».
(10) حديث أبي موسى هذا أخرجه مسلم عن داود بن رشيد، عن يحيى بن سعيد، عن طلحة بن يحيى، عن أبي بردة، عن أبي موسى.
وأخرجه البيهقي في "سننه" (3/12) و(10/230-231.طريق حسين بن محمد القباني وعمران بن موسى، كلاهما عن داود بن رشيد، به، وزاد: أن أبا موسى قال: «لو علمت لحبرته لك تحبيرًا». قال البيهقي: «رواه مسلم في الصحيح عن داود بن رشيد، إلا أنه لم يذكر قول أبي موسى».
وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (16/169-170 رقم 7197.طريق عبدالله بن جعفر البرمكي، عن يحيى بن سعيد، به، وفيه الزيادة.
وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" (13/266 رقم 7279.طريق سعيد بن أبي بردة، عن أبي بردة، به، وفيه الزيادة أيضًا.
(11) قوله: «الحديث» ليس في (أ).
(12) في (ب) و(ح): «رجل».
(13) في (ز): «وسيره».
(14) الحديث ذكره أبو عبيد في"غريب الحديث" (1/85)، ولم يسنده، وقال عقب ذكره له: «في الحديث اختلاف، وبعضهم لا يرفعه»، ولم أجد من أسنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أحد من أصحابه، وإنما أسنده ابن جرير في "تفسيره" (21/48) عن خليد العصري ومطرِّف بن عبدالله.
(15) في (ب): «أي بهائه وجماله».
(16) في (أ) و(ز): «من» بدل «على».
(17) في (ز): «بكيفية أذا» رسمت هكذا.(2/339)
القراءة، وأنه متمكِّن منها، فيحمده النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعو له، فتحصل له فضيلة ومنقبة؛ كما فعل بأبيٍّ حيث سأله فأجابه (1) فقال: «لِيَهْنِكَ العلم أبا المنذر » (2) . ويحتمل أن يكون ذلك ليبالغ في حالةٍ يطيب (3) بها القرآن له (4) ؛ فإن الإنسان قد يتساهل مع نفسه في أموره، ويعتني بها عند مشاركة غيره فيها، وإن كان مخلصًا في أصل عمله.
378- وَعَنْ عَبْدَ الله بْنَ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيَّ (5) ، قَالَ: قَرَأَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الْفَتْحِ، فِي مَسِيرٍ لَهُ سُورَةَ الْفَتْحِ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَرَجَّعَ فِي قِرَاءَتِهِ.
قَالَ مُعَاوِيَةُ: لَوْلا أَنِّي أَخَافُ أَنْ يَجْتَمِعَ عَلَيَّ النَّاسُ لَحَكَيْتُ لَكُمْ قِرَاءَتَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «فَرَجَّعَ فِي قِرَاءَتِهِ»؛ أي: ردَّد، وذكره البخاري (6) ، وقال في صفة (7) الترجيع قال (8) : آ آ آ (9) ثلاث مرات. وهذا محمول على إشباع المدّ في موضعه، ويحتمل أن يكون ذلك حكاية صوته عند هز الراحلة؛ كما يعتري رافع صوته إذا كان راكبًا (10) من انضغاط صوته، وتقطيعه لأجل هز المركوب (11) .
379- وَعَنْ عَائِشَةَ (12) ، قَالَتْ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ، لَهُ أَجْرَانِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ»: يعني: الحاذق به، قال الهروي: أصله (13) : الحذق بالسباحة (14) ، قال الشيخ رحمه الله: ومنه قول امرئ القيس:
وترى الضَّبَّ خفيفًا ماهرًا ... ثانيًا بُرْثُنَه ما يَنْعَفِرْ (15)
=(2/424)=@ قال المهلَّب: المهارة في القرآن: جودة التلاوة؛ بجودة الحفظ، ولا يتردّد فيه؛ لأنه يسره الله تعالى عليه؛ كما يسره على الملائكة، فهو على (16) مثلها في الحفظ والدرجة. والسفرة: جمع سافر، وهم ملائكة الوحي، سُمُّوا بذلك؛ لأنهم يسفرون بين الله تعالى وبين خلقه. وقيل: هم الكتبة، والكتب يسمى: سافرًا، ومنه أسفار الكتاب. وعلى هذا فيكون وجه كونهم مع الملائكة: أن حملة القرآن يبلغون كلام الله تعالى إلى خلقه، فهم سفراء بين رسل الله تعالى وبين خلقه، فهم معهم؛ أي: في مرتبتهم في هذه العبادة. ويستفيد من هذا حملة القرآن: التحرُّز (17) في التبليغ (18) والتعليم، والاجتهاد في تحصيل الصدق، وإخلاص النية لله تعالى؛ حتى تصح لهم المناسبة بينهم وبين الملائكة. &(2/340)&$
__________
(1) في (ز): «فأجابه به».
(2) سيأتي برقم (674) في الصلاة، باب فضل فاتحة الكتاب.
(3) في (أ): «نطيب».
(4) قوله: «له» ليس في (ح) و(ز).
(5) أخرجه البخاري (8/13 رقم 4281) في المغازي، باب أين ركز النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم الفتح، و(8/573 رقم4835) كتاب التفسير، باب: { إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا }، و(9/83 رقم5034) كتاب فضائل القرآن، باب القراءة على الدابة، و(9/92 رقم5047) كتاب فضائل القرآن، باب الترجيع، و(13/512 رقم7540) كتاب التوحيد، باب ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وروايته عن ربه، ومسلم (1/547 رقم 794) في صلاة المسافرين، باب ذكر قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة الفتح يوم فتح مكة.
(6) في كتاب التوحيد من"صحيحه" (13/512رقم7540)، باب ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وروايته عن ربه.
(7) في (ز): «في وصفه الترجيع».
(8) في (أ): «الرجيع».
(9) في (ح) و(أ): «آآ آآ آآ»
(10) في (ز): تشبه أن تكون: «راكبًا».
(11) في (ب): «الركوب»، وفي (ز): «لأجل هذا المركوب».
(12) أخرجه البخاري (8/691 رقم 4937) كتاب التفسير، باب منه، ومسلم (1/549 رقم 798) في صلاة المسافرين، باب فضل الماهر بالقرآن والذي يتتعتع فيه.
(13) في (أ) و(ز): «وأصله» بالواو.
(14) في (ز): «بالساحة»، وفي (أ): «بالسباحة ومنه».
(15) في (ح): «برثله ما ينعقر». والبرثن: المخلب، وينعفر: يلصق بالتراب. انظر "شرح ديوان امرئ القيس" بتحقيق السندوبي (ص 125)، و"لسان العرب" (13/50) مادة برثن، وفيه: «رافعًا» بدل: «ثانيًا».
(16) في (أ): «فهي».
(17) في (ح): «التجوز»، وفي (ز): «النحور».
(18) في (أ): «بالتبليغ»، وفي (ز) و(ح): «والتبليغ».(2/340)
وقوله: «وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ »؛ أي: يتردد في تلاوته عِيًّا وصعوبة. والتعتعة في الكلام: العِيُّ. وإنما كان له أجران: من حيث التلاوة، ومن حيث المشقة. ودرجات الماهر فوق ذلك كله؛ لأنه قد كان القرآن متعتعًا عليه، ثم ترقَّى عن ذلك إلى أن شُبِّه بالملائكة، والله أعلم (1) . =(2/425)=@
( 111 ) باب إقراء النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن وتعليمه كيفية الأداء
380- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (2) : أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لأُبَيّ: «إِنَّ الله أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} قَالَ: الله سَمَّانِي لَكَ؟ قَالَ: «الله سَمَّاكَ لِي » قَالَ: فَجَعَلَ أُبَيٌّ يَبْكِي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و (3) من باب إقراء النبي - صلى الله عليه وسلم -
قوله (4) - صلى الله عليه وسلم - لأُبَيٍّ - رضي الله عنه - : «إِنَّ الله أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ القرآن »: إنما (5) كان ذلك ليلقّن عنه أُبيّ كيفية القراءة ومشافهة (6) وصفتها (7) ، وليبيِّن (8) طريق تحميل الشيخ للراوي بقراءته عليه، وفي حديث عبد الله بن مسعود قراءة التلميذ على الشيخ، وكلاهما طريق صحيح. وتخصيصه (9) سورة (10) {لم يكن}؛ لما تضمنته من ذكر الرسالة، والصحف، والكتب في قوله تعالى: {رسول من الله يتلو صحفًا مطهرة ( فيها كتب قيمة} (11) ، وهو مناسب لحالهما (12) ، والله أعلم. &(2/341)&$
__________
(1) قوله: «والله أعلم» ليس في (أ). وجاء بعدها في (ز): «ويتلوه باب إقراء النبي - صلى الله عليه وسلم - ».
(2) أخرجه البخاري (7/127 رقم 3809) في مناقب الأنصار، باب مناقب أُبي بن كعب - رضي الله عنه - ، و(8/725-726 رقم4959، 4960، 4961) كتاب التفسير، سورة: { لم يكن }، ومسلم (1/550 رقم 799) في صلاة المسافرين، باب استحباب قراءة القرآن على أهل الفضل والحذاق فيه... .
(3) جاء قبل هذا في (س): «بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على»، وفي (ز) قبله: «بسم الله الرحمن الرحيم ربّ يسر برحمتك».
(4) في (أ): «وقوله».
(5) في (ز) و(س): «بسورة».
(6) في (أ): «ومشافة».
(7) في (أ): «وصفها».
(8) في (ح): «وليس».
(9) في (ح): «وتخصيص».
(10) في (ز) و(س): «بسورة».
(11) سورة البينة، الآيتان: 2-3.
(12) في (ح): «لحاليهما»، وفي (ز): «لحالتهما».(2/341)
وقوله: «آلله سَمَّاكَ لك (1) ؟!» بهمزة الاستفهام على التعجب منه، إذ كان ذلك عنده مستبعدًا؛ لأن تسميته له تعالى (2) ، وتعيينه ليقرأ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ تشريف عظيم، وتأهيل لم يحصل مثله (3) لأحد من الصحابة رضوان الله عليه (4) وعليهم، ولذلك لما أخبره بذلك بكى من شدة الفرح والسرور؛ لحصول (5) تلك المنزلة الشريفة، والرتبة (6) المنيفة. =(2/426)=@
381- وعَنْ عَبْدِ الله (7) قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ » قَالَ: فَقال الشيخ رحمه الله: يَارَسُولَ اللهِ! أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: «إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي » قَالَ: فَقَرَأْتُ النِّسَاء حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} رَفَعْتُ رَأْسِي أَوْ غَمَزَنِي رَجُلٌ إِلَى جَنْبِي فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَرَأَيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ.
وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ لِي وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «اقْرَأْ عَلَيَّ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «إِنِّي أَشْتَهِي (8) أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي»؛ أي: أستطيب ذلك (9) ، وذلك أن السامع قد يكون أحضر من القارئ؛ لاشتغال القارىء بالقراءة وكيفيتها، ويحتمل أن يكون: «أَشْتَهِي» بمعنى: أُحِبّ. وفيه (10) : بيان سنة قراءة الطالب على الشيخ كما قدمناه آنفًا.
وقوله: «حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا}» (11) ، وذكر بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ كان ذلك منه لعظم (12) ما تضمنته هذه الآية من هول المطلع، وشدة الأمر. وفي غير "الأم" أنه قال: لما بلغتها (13) ، قال: «حسبك » (14) ؛ احتج به أهل التجويد على جواز الوقف الكافي من الآي، والمقاطع (15) ؛ لأن الكلام حيث قال له (16) : «حسبك »، غير تام، بل تمامه فيما بعده. وقد قيل: إن قوله لعبد الله: «حسبك» تنبيه على ما في الآية، لا أنه وقف (17) هناك. =(2/427)=@
وحدُّ عبدالله للرجل (18) الذي وجد منه ريح الخمر حجة على من (19) منع وجوب الحد بالرائحة، وهو: أبو حنيفة والثوري. وكافة العلماء على ما فعل ابن مسعود (20) . ويحتمل: أن يكون إنما أقام (21) عليه الحد؛ لأنه جعل ذلك له (22) من له ذلك، &(2/342)&$
__________
(1) في (أ) رسمت هكذا: «لا».
(2) في (ح): «تسميته تعالى له».
(3) قوله: «مثله» ليس في (ح).
(4) قوله: «عليه و» ليس في (س)، وفي (ز): (رضوان الله عليهم أجمعين».
(5) في (أ): «والمرتبة».
(6) في (أ): «لمحصول».
(7) أخرجه البخاري (8/250 رقم 4582) في التفسير، باب: { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا }، و(9/93 رقم5049) كتاب فضائل القرآن، باب من أحب أن يستمع القرآن من غيره، و(9/94 رقم5050) كتاب فضائل القرآن، باب قول المقرئ للقارئ: «حسبك»، و(9/98 رقم5055، 5056) كتاب فضائل القرآن، باب البكاء عند قراءة القرآن، ومسلم (1/551 رقم 800) في صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل استماع القرآن....
(8) قوله: «أشتهى» سقط من (س).
(9) قوله: «ذلك» ليس في (أ) و(س) و(ز).
(10) قوله: «وفيه» ليس في (س) و(ز) و(أ).
(11) سورة النساء، الآية: 41.
(12) في (ح): «تعظيم»، وفي (ز): «لعظيم».
(13) في (أ): «بلغها».
(14) أخرجه البخاري في فضائل القرآن من "صحيحه" (9/94 رقم5050)، باب قول المقرئ للقارئ: حسبك.
(15) في (س): «والقاطع».
(16) قوله: «له» ليس في (أ) و(ب).
(17) في (ب) و(ح): «وقفه».
(18) في (ح): «الرجل».
(19) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(20) في (ب): «بالرائحة، وهو أبو حنيفة وكافة العلماء على ما فعل، والثوري وكأفة العلماء على ما فعل ابن مسعود»، ثم شطب الناسخ على قوله: «والثوري وكافة العلماء على ما فعل».
(21) في (ز): «قام».
(22) في (ب): «لأنه جعل له ذلك».(2/342)
أو لأنه رأى أنه قام عن (1) الإمام بواجب، أو لأنه كان ذلك في زمان (2) ولايته الكوفة، فإنه ولي القضاء بها زمان (3) عمر، وصدرًا من خلافة عثمان (4) .
382- وَعَنْ عَبْدِ الله (5) قَالَ: كُنْتُ بِحِمْصَ، فَقَالَ لِي بَعْضُ الْقَوْمِ: اقْرَأْ عَلَيْنَا، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمْ سُورَةَ يُوسُفَ. قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: وَالله، مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ قَالَ قال الشيخ رحمه الله: وَيْحَكَ! وَالله، لَقَرَأْتُهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لِي: «أَحْسَنْتَ ». فَبَيْنَمَا أَنَا أُكَلِّمُهُ إِذْ وَجَدْتُ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ. قَالَ فَقال الشيخ رحمه الله: أَتَشْرَبُ الْخَمْرَ وَتُكَذِّبُ بِالْكِتَابِ؟ لا تَبْرَحُ حَتَّى أَجْلِدَكَ، قَالَ: فَجَلَدْتُهُ الْحَدَّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «أَتَشْرَبُ الْخَمْرَ وَتُكَذِّبُ بِالْكِتَابِ؟!» نسبته (6) إلى التكذيب بالكتاب على جهة التغليظ، وليس على حقيقته؛ إذ لو كان ذلك لحكم بردّته أو قتله؛ إذ هذا حكم من كذّب بحرف منه، وكأن الرجل إنما كذب عبدالله لا القرآن (7) ، وهو الظاهر من قول الرجل: ما هكذا أنزلت؛ جهالة منه، وقلّة (8) حفظ، أو قلّة تثبت؛ لأجل السكر، والله أعلم. =(2/428)=@
( 112 ) باب فضل تعلُّم القرآن وقراءته وفضل سورة البقرة وآل عمران
383- عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ (9) قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ فَقَالَ: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلا قَطْعِ رَحِمٍ؟ » فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ! نُحِبُّ ذَلِكَ. قَالَ: «أَفَلا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ الله عَزَّ وَجَلَّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإِبِلِ؟! ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب فضل تعلم (10) القرآن
«الصُّفَّةِ»: سقيفة كانت في المسجد، يأوي إليها الفقراء. و: «يَغْدُو»: يبكِّر (11) . و«بُطحان والعقيق»: واديان بينهما وبين المدينة قريب من ثلاثة أميال أو نحوها، و «الكَوْمَاوَان»: تثنية كَوْمَاء؛ وهي الناقة العظيمة السنام؛ كأنه كوم، وفي &(2/343)&$
__________
(1) في (س): «على» بدل «عن» وتشبه أن تكون كذلك في (أ).
(2) في (ح): «زمن».
(3) في (ح): «زمن».
(4) وكان ابن مسعود قاضيًا بالكوفة فلعله راعى حكمه حيثما حل. انظر "الأبي" (2/417).
(5) البخاري(9/47 رقم 5001) في فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومسلم (1/551 رقم 801) في صلاة المسافرين، باب فضل استماع القرآن وطلب القراءة من حافظ؛ للاستماع والبكاء عند القراءة والتدبر.
(6) في (س): «نسبه».
(7) في (ح): «للقرآن».
(8) في (ح): «أو قلة».
(9) أخرجه مسلم (1/552 رقم 803) صلاة المسافرين، باب فضل قراءة القرآن.
(10) في (ح): «تعليم».
(11) قوله: «من» ليس في (س).(2/343)
"الأم" (1) من (2) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : «ثلاث خلفات سمان »، وهن (3) : النوق الحوامل إلى أن يمضي لها نصف أمدها، ثم تسمى: عُشَراء، وجمعها: عشار.
ومقصود الحديث الترغيب في تعلم القرآن وتعليمه. وخاطبهم على ما تعارفوه؛ فإنهم أهل الإبل (4) ، وإلاَّ فأقلّ جزء من ثواب القرآن وتعليمه (5) خير من الدنيا =(2/429)=@ وما فيها، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : «لموضع (6) سوط أحدكم في (7) الجنة خير من الدنيا وما فيها » (8) .
384- وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ (9) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ. اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ، الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ، فَإِنَّهُمَا يَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا، اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلا يَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ ».
قَالَ مُعَاوِيَةُ: بَلَغَنِي أَنَّ الْبَطَلَةَ السَّحَرَةُ.
385- وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ (10) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الأُتْرُجَّةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ. وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ، لارِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ. وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ. وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ، لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ.
وَفِي رِوَايَةٍ: «الْفَاجِرِ » بَدَلَ «الْمُنَافِقِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا»: هذا على جهة التوسع في الإفهام، وتحقيقه: أنه يُشفع له بسببه (11) ، فإما الملائكة الذين كانوا يشاهدون تلاوته، أو من شاء الله تعالى ممن يُشَفِّعهم فيه بسببه، وهذه الشفاعة على تقدير أن يكون القارئ صاحب كبيرة في تخليصه من النار، وإن لم يكن (12) عليه ذنوب؛ شُفع له في ترفيع درجاته (13) في الجنة، أو في المسابقة إليها، أو في جميعهما (14) ، أو ما شاء الله تعالى منهما (15) ، إذ كل ذلك بكرمه تعالى وبفضله (16) .
وفي تسمية (17) البقرة وآل عمران بالزهراوين وجهان:
أحدهما: أنهما النيرتان، مأخوذ من الزهر، والزَّهرة، والزُّهرة (18) ، فإما لهدايتهما قارئهما (19) بما يزهر له من أنوارهما، وإما لما يترتب على قراءتهما من النور التام يوم القيامة. قال الشيخ - رضي الله عنه - : ويقع لي أنهما سميتا (20) بذلك (21) ؛ لأنهما اشتركتا (22) في تضمن (23) اسم الله الأعظم؛ كما ذكر أبو داود (24) من حديث أسماء ابنة يزيد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: =(2/430)=@ &(2/344)&$
__________
(1) أي: "صحيح مسلم" (1/552 رقم802) في صلاة المسافرين، باب فضل قراءة القرآن.
(2) في (ز): «ويبكي» بالواو.
(3) في (ح): «وهي»، وفي (س) غير واضحة.
(4) في (ب) و(ح): «فإنهم أهل إبل»، وفي (س) و(ز): «لأنهم أهل إبل»ز
(5) قوله: «وتعليمه» ليس في (أ) و(ب) و(س) و(ز).
(6) في (ح): «ولا موضع»، وفي (ز) و(س): «ولموضع».
(7) في (ب): «من » بدل: «في».
(8) أخرجه البخاري(6/85، 319 رقم 2892، 3250) في الجهاد، باب فضل رباط يوم في سبيل الله، و(6/319 رقم3250) في بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وانها مخلوقة، و(11/232 رقم6415) في الرقاق، باب ما جاء في الرقاق وأن لا عيش إلا عيش الآخرة.
(9) أخرجه مسلم (1/553 رقم 804) في صلاة المسافرين، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة.
(10) أخرجه البخاري (9/65 رقم 5020) كتاب فضائل القرآن، باب فضل القرآن على سائر الكلام، و(9/100 رقم 5059) كتاب فضائل القرآن، باب إثم من راءى بقراءة القرآن، و(9/555 رقم5427) كتاب الأطعمة، باب ذكر الطعام، و(3/535 رقم7560) كتاب التوحيد، باب قراءة الفاجر والمنافق، ومسلم (1/549 رقم 797) في صلاة المسافرين، باب فضيلة حافظ القرآن.
(11) الصواب إجراء المعنى على ما دل عليه ظاهر النص؛ وهو أن القرآن يشفع لقارئه، وأما شفاعة الملائكة أو من شاء الله؛ فتلك شفاعة أخرى، والله أعلم.
(12) في (س): «تكن».
(13) في (أ): «درجات».
(14) في (أ) و(ز) و(س): «جميعها».
(15) في (أ) و(س): «منها».
(16) في (ب) و(ح) و(ز): «وتفضله».
(17) في (س) و(ز): «تسميته».
(18) قوله: «والزُّهرة» سقط من (ز).
(19) قوله: «قارئهما» ليس في (س) و(ز).
(20) في (ب): «سمي».
(21) في (ح): «بذاك».
(22) في (س): «اشتركا».
(23) في (أ) و(ز): «فيما».
(24) في "سننه" (2/168 رقم1496) في الصلاة، باب الدعاء، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (6/48 رقم29354) في الدعاء، باب في اسم الله الأعظم، و(7/233 رقم 35595) في الزهد، باب ما قالوا في البكاء من خشية الله، وأحمد (6/461)، وعبد بن حميد (ص456 رقم1578)، وابن الضريس (ص 89 رقم182)، والدارمي (2/450) في فضائل القرآن، باب فضل أول سورة البقرة وآية الكرسي، وابن ماجه (2/1267 رقم3855) في الدعوات، باب اسم الله الأعظم، والترمذي (5/483 رقم3478) في الدعوات، باب.
جميعهم من طريق عبيدالله بن أبي زياد، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم }، وفاتحة آل عمران { الم ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم }»، قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح». اهـ. وسنده ضعيف؛ فعبيدالله بن أبي زياد ليس بالقوي؛ كما في "التقريب" (4321). وشهر بن حوشب: صدوق كثير الإرسال والأوهام؛ كما في التقريب (2846)، وله شاهد من حديث أبي أمامة وبريدة.
أما حديث أبي أمامة:
فأخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" (1/162 رقم176)، والطبراني في "الكبير" (8/237 رقم7925)، والحاكم (1/505، 506)، وتمام (4/408 رقم1568- كما في الروض البسام). جميعهم من طريق الوليد بن مسلم، عن عبدالله بن العلاء بن زبر، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن اسم الله الأعظم في ثلاث سور من القرآن: في سورة البقرة، وآل عمران، وطه ». قال القاسم: فالتمستها؛ أنه الحي القيوم.
وفي سنده: القاسم، هو ابن عبدالرحمن الدمشقي، صدوق يغرب كثيرًا؛ كما في "التقريب" (5505)، والظاهر من حاله أن الأئمة يقبلون حديثه إذا روى عنه الثقات؛ كما قال أبو حاتم: «حديث الثقات عنه مستقيم لا بأس به، وإنما ينكر عنه الضعفاء». "تهذيب الكمال" (23/389).
والراوي عنه هنا: عبدالله بن العلاء بن زبر: ثقة؛ كما في "التقريب" (3545)، وقد صرح الوليد بن مسلم عند الحاكم والطحاوي والطبراني، في جميع طبقات السند بالتحديث، فانتفت شبهة تدليسه.
وقد توبع عبدالله بن العلاء على رفعه: فأخرجه الطحاوي في "المشكل" (1/163 رقم177)، والطبراني في "الكبير" (8/183 رقم7758)، كلاهما من طريق عمرو بن أبي سلمة، عن عيسى بن موسى، عن غيلان بن أنس، عن القاسم، به، مرفوعًا.
وأما ماأخرجه ابن ماجه(2/1267رقم3856) في الدعاء، باب اسم الله الأعظم، والدولابي في "الكنى" (1/184)، والحاكم(1/506)، والبيهقي في"الأسماء والصفات" (1/59-60رقم27). جميعهم من طريق عمرو بن أبي سلمة، عن عبدالله بن العلاء بن زبر، عن القاسم موقوفًا عليه.
فقد ورد ما يدل على رفعه، وذلك فيما ورد في هذه الرواية: فقال رجل يقال له: عيسى بن موسى لابن زبر: يا أبا زبر! سمعت غيلان بن أنس يحدث عن القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فذكره، فاتصل الحديث.
والحديث حسَّن إسناده الشيخ الألباني في "الصحيحة" (2/371-372 رقم746).
وعيسى بن موسى: صدوق. "التقريب" (5367). وغيلان بن أنس: مقبول "التقريب" (5402). وأما قول القاسم: إن اسم الله الأعظم: الحي القيوم، فقد رجح الطحاوي في "المشكل" أنه: «الله»، فانظره. ويشهد له حديث أسماء الماضي، وحديث بريدة الآتي، والذي في سورة طه يحتمل أن يكون قوله تعالى: { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني}.
وأما حديث بريدة:
فأخرجه ابن أبي شيبة (6/47 رقم29351) في الدعاء، باب في اسم الله الأعظم، و(7/233 رقم35596) في الزهد، باب ما قالوا في البكاء من خشية الله، وأحمد (5/349، 350، 360)، وابن ماجه (2/1267-1268 رقم3857) في الدعاء، باب اسم الله الأعظم، وأبو داود (2/166-167 رقم1493) في الصلاة، باب الدعاء، والترمذي (5/481-482 رقم3475) في الدعوات، باب جامع الدعوات، وابن حبان (3/173، 174 رقم891، 892/الإحسان)، والحاكم (1/504).
جميعهم من طريق مالك بن مغول، عن عبدالله بن بريدة، عن أبيه قال: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يدعو وهو يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد... الحديث، وفيه: فقال: « والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم؛ الذي إذا دعي به أجاب ». قال الترمذي: «حديث حسن غريب».وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وقال المنذري في "تهذيب السنن" (2/145): «وقال شيخنا الحافظ أبو الحسن المقدسي: وهو إسناد لا مطعن فيه، ولا أعلم أنه روي في هذا الباب حديث أجود إسنادًا منه، وهو يدل على بطلان مذهب من ذهب إلى نفي القول بأن لله تعالى اسمًا هو الاسم الأعظم». اهـ.
وصححه الشيخ الألباني في تعليقه على: "المشكاة" (2/708 رقم2289).(2/344)
«اسم الله الأعظم (1) في هاتين الآيتين: {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} (2) ، والتي في سورة آل عمران: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} (3) ، والله أعلم.
و«الغمام»: السحاب الْمُلْتَفّ، وهي: الغياية (4) إذا كانت قريبًا من الرأس، والظُّلَّةُ أيضًا، وقد جاءت هذه الألفاط الثلاثة في هذا الحديث، وفي حديث النوَّاس بن سمعان (5) . ومعنى هذا الحديث: أن صاحب هاتين السورتين (6) في ظل ثوابهما (7) يوم القيامة؛ كما قال (8) : «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» (9) ، وقال: «الرجل في ظل صدقته حتى يُقضى بين الناس» (10) . وعبّر عن هذا المعنى بتلك العبارة توسعًا واستعارة؛ إذ كان ذلك بسببهما (11) .
و«فِرْقَانِ»: قطيعان، وهما: الحِزْقان. والحِزْق، وا لحَزِيقة (12) : الجماعة، وهي رواية السمرقندي في حديث النوّاس، وجمهور الرواة قالوا: «فِرْقَانِ» مثل ما في حديث أبي أمامة. و«صَوَافَّ»: مُصْطَفَّة. و«تُحَاجَّانِ»: تقومان بحجّة قارئهما وتجادلان (13) عنه؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم - في سورة تبارك: «تجادل عن صاحبها» (14) . وهذه المجادلة إن حملت على ظاهرها؛ فيخلق الله تعالى من يجادل بها عنه ملائكة (15) ؛ كما قد جاء في بعض الحديث (16) : «أن (17) من قرأ: {شهد الله أنه لا إله إلا هو} (18) الآية؛ خلق الله تعالى سبعين ملكًا يستغفرون له إلى يوم القيامة» (19) . =(2/431)=@
وإن حملت على تأويلها؛ فيكون معنى ذلك: أن الله تعالى يوصله إلى ثواب قراءتها (20) ، ولا ينقص منه شيء؛ كما يفعل من (21) يستخرج حقه، ويجادل عليه؛ كما قال: «القرآن (22) حجة لك أو عليك » (23) . &(2/345)&$
__________
(1) قوله: «كما ذكر أبو داود...» إلى هنا ليس في (ح).
(2) سورة البقرة، الآية: 163.
(3) سورة آل عمران، الآية: 2.
(4) في (أ): «الغياية».
(5) قوله: «بن سمعان» ليس في (أ) فقط. وحديث النواس هذا هو الذي بعد الآتي.
(6) في (أ): «الصورتين».
(7) في (ز) و(س): «قراءتهما».
(8) في الحديث الآتي برقم (893) في الزكاة، باب من أحصى أُحصي عليه.
(9) قوله: «يوم لا ظل إلا ظله» من (ب) فقط.
(10) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (ص 227 رقم645)، وأحمد (4/147-148)، وأبو يعلى (3/300-301 رقم1766)، وابن خزيمة (4/94 رقم2431)، وابن حبان (8/104 رقم3310/الإحسان)، والطبراني في "الكبير" (17/280 رقم771)، والحاكم (1/416)، والبيهقي (4/177).
جميعهم من طريق حرملة بن عمران، عن يزيد بن أبي حبيب: أن أبا الخير حدثه: أنه سمع عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس »، أو قال: «حتى يحكم بين الناس ».
قال يزيد: «فكان أبو الخير لا يخطئه يوم لا يتصدق فيه بشيء، ولو بعكة، ولو بصلة».
وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وصححه الشيخ الألباني في تعليقه على ابن خزيمة. وأبو الخير هو: مرثد بن عبدالله اليزني.
(11) في (أ): «سببهما».
(12) في (أ): «الجزقان، والجزق، والجزيقة» بالجيم والزاي، وفي (ح) بالراء بدل الزاي، وفي (س): «الحرفان والحرف والحزيقة»، والمثبت من (ب)، وهو الصواب كما في "الإكمال" (3/174) و"شرح النووي" (4/90)، وقال ابن الأثير في "النهاية" (1/378): «الحزق والحزيقة: الجماعة من كل شيء. ويُروى بالخاء والراء»، وانظر "لسان العرب" (10/47) مادة: «حزق».
(13) في (أ): «ويجادلان».
(14) أخرجه أبو عبيد (ص260-261)، وأحمد (2/299، 231)، وابن الضريس (ص106، 106-107 رقم 235، 236)، وابن ماجه (2/1244 رقم3786) في الأدب، باب ثواب القرآن، وأبو داود (2/119-120رقم1400) في الصلاة، باب عدد الآي، والترمذي (5/151- 152 رقم2891) فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل سورة الملك، والنسائي في "الكبرى" (6/496 رقم11612)، وابن حبان (3/67، 69 رقم 787، 788/ الإحسان)، والحاكم (1/565).
جميعهم من طريق شعبة، عن قتادة، عن عباس الجشمي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي تبارك الذي بيده الملك ». قال الترمذي: «هذا حديث حسن».
وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وحسَّن إسناده الألباني في "المشكاة" (رقم 2653)، وفي سنده: عباس الجشمي، لم يرو عنه سوى قتادة، وسعيد الجريري، ذكره البخاري في"تاريخه" (7/4) ولم يورد فيه جرحًا ولا تعديلاً، وابن حبان في "الثقات" (5/259)، وفي "التقريب" (3212): «مقبول». وقال الحافظ في "التلخيص" (1/423): وأعله البخاري في "التاريخ الكبير" بأن عباسًا الجشمي لا يعرف سماعه من أبي هريرة. اهـ.
وله شاهد من حديث ابن عباس، وابن مسعود، وأنس:
أما حديث ابن عباس: فأخرجه الترمذي (5/151 رقم2890) في الموضع السابق، وأبو نعيم في "الحلية" (3/81)، وابن عدي (7/205)، وعنه البيهقي في "الدلائل" (7/41).
ثلاثتهم من طريق يحيى بن عمرو بن مالك النكري، عن أبيه، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، قال: ضرب بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا فيه إنسان يقرأ سورة تبارك الذي بيده الملك حتى ختمها. فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فقال: يا رسول الله! إني ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا فيه إنسان يقرأ سورة تبارك الملك حتى ختمها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «هي المانعة، هي المنجِّية؛ تنجيه من عذاب القبر ».
قال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه». وقال أبو نعيم: «غريب من حديث أبي الجوزاء، لم نكتبه مرفوعًا مجودًا إلا من حديث يحيى بن عمرو، عن أبيه».
وقال البيهقي: «تفرد به يحيى بن عمرو النكري، وهو ضعيف، إلا أن لمعناه شاهدًا عن عبدالله بن مسعود». وضعفه الشيخ الألباني في تعليقه على "المشكاة" (1/663 رقم2154)، وقال في "الصحيحة" (3/132): «أبوه عمرو بن مالك صدوق له أوهام، وابنه يحيى ضعيف، ويقال: إن حماد بن زيد كذبه؛ كما في "التقريب"، وساق له في "الميزان" من مناكيره أحاديث، هذا أحدها».اهـ.
وأما حديث ابن مسعود: فقد اختلف في رفعه ووقفه: ويرويه عاصم، عن زر، عن ابن مسعود، واختلف عنه: فأخرجه عبدالرزاق (3/379-380 رقم6025)، والحاكم (2/498)، كلاهما من طريق الثوري، وابن الضريس (ص 105 رقم231، 232.طريق الثوري، وحماد بن زيد، والطبراني في "الكبير" (9/131، 131-132 رقم8652، 8563، 8654.طريق زائدة، وشعبة، وحماد بن زيد.
أربعتهم ( الثوري، وحماد، وزائدة، وشعبة) عن عاصم بن أبي النجود، عن زر، عن ابن مسعود، قال: «يؤتى الرجل في قبره، فيؤتى رجلاه فتقولان: ليس لكم علي ما قبلنا سبيل، قد كان يقرأ علينا سورة الملك، ثم يؤتى جوفه فيقول: ليس لكم عليَّ سبيل، كان قد أوعى فيَّ سورة الملك...»، إلى أن قال: «هي المانعة تمنع من عذاب القبر». موقوفًا عليه.
قال الحاكم: «صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي.
وأخرجه عبدالرزاق (3/378-379 رقم6024)، وعنه الطبراني في "الكبير" (9/131 رقم8650) عن معمر، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، به، موقوفًا.
قال الشيخ الألباني في "الصحيحة" (3/131): «وهو في حكم المرفوع».
وأخرجه النسائي في "الكبرى" (6/179 رقم10547)، والطبراني في "الكبير" (10/142 رقم10254.طريق ابن أبي حازم، عن سهيل بن أبي صالح، عن عرفجة بن عبدالواحد، عن عاصم، به. ولفظه: «كنا نسميها في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المانعة».
قال الدارقطني في "العلل" (5/54): «حدث به سهل بن أبي صالح، واختلف عنه، فرواه عبدالعزيز بن أبي حازم، وقاسم بن عبدالله العمري، عن سهيل بن أبي صالح، عن عرفجة ابن عبدالواحد، عن عاصم، وقال فيه محمد بن زنبور، عن ابن أبي حازم، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن عرفجة بن عبدالواحد. والقول الأول أشبه بالصواب. ورواه شعبة، ومسعر، وأبو عوانة، وحماد بن سلمة، وزيد بن أبي أنيسة، عن عاصم، عن زر، عن عبدالله موقوفًا. وهو المحفوظ». وقارن بالصحيحة (3/131 رقم1140).
وأما حديث أنس: فأخرجه الطبراني في "الصغير" (1/296 رقم490)، وفي "الأوسط" (4/76 رقم3654)، وعنه الضياء (5/114-115 رقم1739). وأخرجه الضياء المقدسي في "المختارة" (5/114 رقم1738).
كلاهما من طريق شيبان بن فروخ، عن سلام بن مسكين، عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «سورة في القرآن ما هي إلا ثلاثين آية خاصمت عن صاحبها حتى أدخلته الجنة، وهي سورة تبارك». قال الطبراني: «لم يروه عن ثابت البناني إلا سلام». وصحح إسناده الحافظ في "التلخيص" (1/423). وحسنه الشيخ الألباني في "صحيح الجامع" (3644). فالحديث صحيح بشواهده.
(15) هذا ليس إجراء على الظاهر، بل هو تأويل وصرف للنص عن ظاهره، والصواب أن سورة البقرة وآل عمران تجادلان عن صاحبهما حقيقة، وكيفية ذلك لا يعلمها إلا الله.
(16) في (ح): «في بعض هذا الحديث».
(17) قوله: «أن» سقط من (ز).
(18) سورة آل عمران، الآية: 18.
(19) ذكره الشوكاني في "الفوائد المجموعة" (ص312 رقم 49)، وقال: «في إسناده وضاع»، ولم يعزه لأحد.
(20) في (ح) و(ز) و(س): «قراءتهما».
(21) في (أ): «لمن».
(22) في (ب): «والقرآن».
(23) تقدم برقم (166) في الطهارة، باب: فضل الطهارة وشرطها في الصلاة.(2/345)
386- وَعَنِ النَّوَاسْ بْنِ سَمْعَان الكِلابِيَّ (1) قَالَ: سَمِعْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ، تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ ». وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَلاثَةَ أَمْثَالٍ. مَا نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ، قَالَ: «كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ، بَيْنَهُمَا شَرْقٌ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث النوّاس: وضرب لهما ثلاثة أمثلة (2) : «كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ (3) أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ (4) ، أو كَأَنَّهُمَا خِرَقان (5) »): هذا يدل على أن «أو» ليست للشك؛ لأنه مثل السورتين بالثلاثة الأمثال (6) ، فيحتمل أن يكون (7) «أو» بمعنى الواو؛ كما يقول الكوفي، وأنشدوا عليه: =(2/432)=@
نال الخلافَة أو كانت له قَدَرًا ... كما أتى ربَّه موسى على قَدَرِ (8)
وقال آخر (9) :
وقد زعمت (10) ليلى بأني فاجر ... لنفسي تُقاها أو عليها فُجورُها (11)
&(2/346)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/554 رقم805) كتاب صلاة المسافرين، باب فضل قرّاء القرآن وسورة البقرة.
(2) قوله: «وضرب لهما ثلاثة أمثلة» ليس في (أ) فقط.
(3) في (أ): «كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَّان وضرب لهما ثلاثة أمثال».
(4) في (أ): «سوداوتان».
(5) كذا في (أ) بالخاء المعجمة والراء المهملة، وفي (ب) و(ح): «حزقان» بالحاء المهملة والزاي، وكلاهما صواب، وفي (س): «حرفان»؛ قال ابن الأثير في "النهاية" (2/26): «هكذا جاء في حديث النواس، فإن كان محفوظًا بالفتح؛ فهو من الْخَرْق؛ أي: ما انخرق من الشيء وبان منه، وإن كان بالكسر؛ فهو من الخِرْقة: القطعة من الجراد. وقيل الصواب: «حِزْقان» بالحاء المهملة والزاي؛ من الحِزْقة، وهي الجماعة من الناس والطير وغيرهما». اهـ. وانظر (1/378)، و"لسان العرب" (10/416).
(6) في (ز): «أمثال» بدون (ال).
(7) في (أ): «تكون».
(8) البيت لجرير يمدح به عمر بن عبدالعزيز رحمه الله. انظر "ديوانه"، شرح محمد بن حبيب، بتحقيق د.نعمان طه (ص416)، و"تفسير ابن جرير الطبري مع حاشية أحمد شاكر" (1/377).
(9) في (ب) و(ح) و(س): «وأنشدوا».
(10) في (ز) و(س) و(أ): «علمت».
(11) البيت لتوبة بن الحميِّر في صاحبته ليلى الأخيلية انظر: "الديوان" بتحقيق خليل العطية ص38، و"الأمالي" للقالي (1/88)، و"الحماسة البصرية" بتحقيق د/عادل سليمان (3/1218).(2/346)
وقالوه (1) في قوله تعالى: {أو كصيب من السماء فيه (2) } (3) ،وقال البصريون: إنها بمعنى الإباحة، وكأنه (4) قال: شبهوهم (5) بكذا أو بكذا (6) ، وهذا الخلاف جارٍ في هذا الحديث؛ لأنها أمثال معطوفة بـ«أو»، فهي مثل: {أو كصيب}.
وقوله: «بَيْنَهُمَا (7) شَرْقٌ»، قال القاضي أبو الفضل عياض: رويناه بسكون (8) الراء وفتحها، قيل: وهو الضياء والنور. قال الشيخ رحمه الله: والأشبه أن الشرق بالسكون، بمعنى المشرق (9) (10) ، يعني: أن بين تلك الظلتين السوداوين مشارق (11) أنوار، وبالفتح: هو الضياء نفسه، وإنما نبّه في هذا الحديث على هذا الضياء؛ لأنه لما قال: سوداوان؛ قد يتوهم أنهما مظلمتان، فنفى ذلك بقوله: «بَيْنَهُمَا شَرْقٌ»؛ أي: مشارق أنوار، أو أنوار (12) ، حسب ما قررناه، ويعني بكونهما (13) سوداوين: أي من كثافتهما التي بسببهما (14) حالتا بين من تحتهما وبين حرارة الشمس وشدة اللهب، والله أعلم. =(2/433)=@
( 113 ) باب فضل فاتحة الكتاب وآية الكرسي وخواتم سورة البقرة
387- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (15) قَالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلا الْيَوْمَ. فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الأَرْضِ، لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلا الْيَوْمَ. فَسَلَّمَ وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ، فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلا أُعْطِيتَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب فضل فاتحة الكتاب
قوله: «سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ»؛ أي: صوتًا. والنقيض: صوت الباب عند فتحه.
وقوله: «بِنُورَيْنِ»؛ أي: بأمرين عظيمين، نيّرين، تبيِّن (16) لقارئهما وتنوره (17) ، &(2/347)&$
__________
(1) في (ز) و(س): «وقالوا»، ومن هنا بداية سقط من نسخة (ب).
(2) قوله تعالى: «من السماء فيه» ليس في (أ) و(س) و(ز).
(3) سورة البقرة، الآية: 19.
(4) في (ح): «فكأنه».
(5) في (س): «يشبهوهم».
(6) في (ح): «بكذا وبكذا» وفي (ز): «بكذا أو كذا».
(7) في (س): «بنها».
(8) في (ح): «بكسر»، والمثبت من (أ) و"إكمال المعلم" (2/174).
(9) في (س): «ويعني».
(10) في (أ) رسمت هكذا: «المسية».
(11) قوله: «مشارق» ليس في (أ).
(12) في (س): «أنواز وأنوار»، وفي (ز): «أنوار وأنوار».
(13) في (ح): «بهما».
(14) في (أ): «بسببها».
(15) أخرجه مسلم (1/554 رقم 806) في صلاة المسافرين، باب فضل قراءة الفاتحة وخواتيم سورة البقرة.
(16) في (ح): «يتبين» وفي (س): «تبيين».
(17) قوله: «الإسلام» ليس في (ز).(2/347)
وخصت الفاتحة بهذا؛ لما ذكرنا من أنها تضمنت جملة معاني الإسلام (1) ، والإيمان (2) ، والإحسان. وعلى الجملة: فهي آخذة بأصول القواعد الدينية، والمعاقد المعارفية. وخصت خواتيم سورة البقرة بذلك: لما تضمنته من الثناء على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى أصحابه؛ بجميل انقيادهم لمقتضاها، وتسليمهم لمعناها (3) ، وابتهالهم إلى الله عز وجل، ورجوعهم إليه في جميع أمورهم؛ ولما حصل (4) فيه من إجابة دعواتهم (5) ، بعد أن علموها، فخُفِّف عنهم، وغُفر لهم، ونُصِروا، وفيها غير ذلك مما يطول تتبعه. =(2/434)=@
388- وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ (6) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «مَنْ قَرَأَ هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ ».
389- عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ (7) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ! أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ الله مَعَكَ أَعْظَمُ؟ » قَالَ: قال الشيخ رحمه الله: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ الله مَعَكَ أَعْظَمُ؟ » قال الشيخ رحمه الله: {الله لا إِلهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ: «لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «مَنْ قَرَأَ هَاتَيْنِ (8) الآيَتَيْنِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ »؛ أي: من قيام الليل، أو (9) من حزبه؛ إن كان له حزب من القرآن، وقيل: وقتاه شرَّ كل شيطان، وكل ذي شر (10) ؛ كما جاء في أن: «من قرأ آية الكرسي لم يزل عليه من الله تعالى حافظ، ولم يقربه شيطان حتى يصبح » (11) ، أو لكثرة ما يحصل له بقراءتهما من الثواب والأجر، والله أعلم (12) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لأُبيٍّ: «أَيُّ آيَةٍ مَعَكَ في كِتَابِ الله - عز وجل - أَعْظَمُ؟ »: حجة لمن يقول بتفضيل بعض (13) آي القرآن على بعض، وتفضيل القرآن على سائر الكتب المنزلة، وهذا مما اختلف فيه: فذهب إلى جوازه إسحاق بن راهويه وغيره من العلماء والمتكلمين مستدلاً بهذا الحديث (14) ، وبما (15) يشبهه؛ كقوله (16) : «قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن» (17) ، ومنع ذلك (18) الشيخ أبو الحسن الأشعري، والقاضي أبو بكر، وجماعة &(2/348)&$
__________
(1) في (س) رسمت هكذا: «وبتوره».
(2) في (س): «والإيمان وا لإسلام».
(3) في (س): «لمعنالها».
(4) في (أ) و(ز) و(س): «فيها».
(5) في (ز) و(س): «دعواهم».
(6) أخرجه البخاري (7/317 رقم 4008) في المغازي، باب منه، و(9/55 رقم5009) كتاب فضائل القرآن، باب فضل سورة البقرة، و(9/87 رقم5040) كتاب فضائل القرآن، باب من لم ير بأسًا أن يقول سورة البقرة وسورة كذا كذا، و(9/94 رقم 5051) كتاب فضائل القرآن، باب قول المقرئ للقارئ: حسبك، ومسلم (1/555 رقم 807، 808) في صلاة المسافرين، باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة.
(7) أخرجه مسلم (1/556رقم 810 ) في صلاة المسافرين، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي.
(8) في (ز): «هابين».
(9) في (أ): «أي».
(10) في (ز) و(س): «وشر كل ذي شر»، وفي (أ): «وكل ذاي شر».
(11) أخرجه البخاري (4/487 رقم2311) في الوكالة، باب إذا وكل رجلاً فترك الوكيل شيئًا فأجازه الموكل، فهو جائز، و(6/335-336 رقم3275) في بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، و(9/55 رقم 5010) في فضائل القرآن، باب فضل سورة البقرة.
(12) قوله: «والله أعلم» ليس في (س) و(ز).
(13) قوله: «بعض» ليس في (أ).
(14) قوله: «بعض» ليس في (أ).
(15) في (أ) و(ز) و(س): «وما».
(16) في (أ): «كقوله تعالى».
(17) وهو الحديث الآتي برقم (678).
(18) في (ز) و(س): «من ذلك».(2/348)
من الفقهاء، قالوا: لأن الأفضل يشعر بنقص المفضول، وكلام الله تعالى لا نقص =(2/435)=@ فيه، وتأولوا هذا اللفظ: بأن أفعل تأتي بمعنى فعيل، كما قال تعالى: {وهو أهون عليه} (1) ، وهذا فيه نظر؛ فإنا لا نقول: إن أريد بالنقص اللازم من التفضيل إلحاق ما يعيب المفضول؛ فهذا ليس بلازم مطلقًا، وإن أريد بالنقص أن (2) المفضول ليس فيه ما في الأفضل من ذلك القدر الذي زاد به؛ فهو الحق، ولولا ذلك لما تحققت المفاضلة. ثم لا يجوز إطلاق النقص ولا الأنقص على شيء من كلام الله تعالى.
وأما تأويل الحديث فهو وإن كان فيه مسوّغًا، فلا يجري في كل موضع يستدل به (3) على التفضيل، فإن منها نصوصًا لا تقبل التأويل؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم - : «قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن »، وغير ذلك مما في هذا المعنى.
وإنما كانت آية الكرسي أعظم؛ لما تضمنته من أوصاف الإلهية وأحكامها، مما لا يخفى (4) على من تأملها، فإنها تضمنت من ذلك ما لم يتضمنه (5) غيرها من الآي. وقال بعض المتأخرين (6) : إن هذه الآية اشتملت من الضمائر العائدة على الله تعالى على ستة عشر، وكلها تفيد (7) تعظيمًا لله تعالى، فكانت أعظم آية في كتاب الله تعالى لذلك، والله أعلم.
وقوله لأُبيٍّ - رضي الله عنه - حين أخبره بذلك: «لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ »، وضربه صدره (8) : تنشيط له، وترغيب في أن يزداد علمًا وبصيرة، وفَرِحَ (9) بما ظهر عليه من آثاره المباركة، وفيه إلقاء العالم المسائل على المتعلم؛ ليختبره بذلك (10) . =(2/436)=@ &(2/349)&$
__________
(1) سورة الروم، الآية: 27.
(2) قوله: «أن» ليس في (س).
(3) في (ز): «يستدل له به».
(4) في (ح) و(ز) و(س): «على ما لا يخفى».
(5) في (أ) و(ز) و(س): «يتضمن».
(6) نهاية السقط من نسخة (ب).
(7) في (ز): «يفيد».
(8) في (ز): «وضربه في صدره».
(9) في (أ) و(ز) و(س): «وفرحا».
(10) بعد هذا الموضع في (ز): «والله أعلم».(2/349)
( 114 ) باب فضل سورة الكهف، وتتنزل السكينة عند قراءتها
390- عَنِ الْبَرَاءِ (1) قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ، وَعِنْدَهُ فَرَسٌ مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْنِ، فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ، فَجَعَلَتْ تَدُورُ وَتَدْنُو، وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ مِنْهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النبي - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ ذَلِكَ فَقَالَ: «تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب فضل سورة الكهف
قوله: «بِشَطَنَيْنِ»؛ أي: حَبْلَيْن (2) . والشَّطَن: الحبل (3) الطويل، والنَّوَى (4) : الشَّطون البعيدة القعر (5) ، وشَطَن؛ أي: بعد، ومنه الشيطان على أحد التأويلين. وتغشته (6) : غطَّته. والسكينة (7) : مأخوذة من السكون، وهو الوقار والطمأنينة، وهي ها هنا (8) اسم للملائكة (9) ؛ كما فسرها في الرواية الأخرى، وسَمّاهم بذلك لشدّة وقارهم وسكونهم؛ تعظيمًا لقراءة هذه السورة.
واختلف المفسرون في قوله تعالى: {فيه سكينة من ربكم} (10) على أقوال كثيرة: فقيل: السكون: الرحمة (11) (12) . وقيل: حيوان طاهر (13) ، كالهرّ له جناحان وذنب (14) ، ولعينيه شعاع، فإذا نظر (15) للجيش (16) انهزم . وقيل: آيات يسكنون إليها. وقال ابن وهب: روح من الله يتكلم معهم (17) ، ويبيّن لهم إذا اختلفوا. وهذا القول أشبهها؛ لأنه موافق لما في هذا الحديث .
391- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ (18) : أَنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ بَيْنَمَا هُوَ لَيْلَةً يَقْرَأُ فِي مِرْبَدِهِ، إِذْ جَالَتْ فَرَسُهُ فَقَرَأَ، ثُمَّ جَالَتْ أُخْرَى فَقَرَأَ، ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا، فَقَالَ، أُسَيْدٌ: فَخَشِيتُ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى، فَقُمْتُ إِلَيْهَا، فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فَوْقَ رَأْسِي، فِيهَا أَمْثَالُ السُّرُجِ، عَرَجَتْ فِي الْجَوِّ حَتَّى مَا أَرَاهَا. قَالَ: فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقال الشيخ رحمه الله: يَا رَسُولَ اللهِ! بَيْنَمَا أَنَا الْبَارِحَةَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ أَقْرَأُ فِي مِرْبَدِي، إِذْ جَالَتْ فَرَسِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «اقْرَأِ، ابْنَ حُضَيْرٍ » قَالَ: فَقَرَأْتُ. ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - «اقْرَأِ، ابْنَ حُضَيْرٍ! » قَالَ: فَقَرَأْتُ. ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «اقْرَأِ، ابْنَ حُضَيْرٍ! » قَالَ: «فَانْصَرَفْتُ، وَكَانَ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا، خَشِيتُ أَنْ تَطَأَهُ، فَرَأَيْتُ مِثْلَ الظُّلَّةِ، فِيهَا أَمْثَالُ السُّرُجِ، عَرَجَتْ فِي الْجَوِّ حَتَّى مَا أَرَاهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «تِلْكَ الْمَلائِكَةُ كَانَتْ تَسْتَمِعُ لَكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ لأَصْبَحَتْ يَرَاهَا النَّاسُ مَا تَسْتَتِرُ مِنْهُمْ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و«المربد» للتمر مثل الأندر (19) =(437)=@ للطعام. وجالت (20) : اضطربت. والرواية المشهورة: «يغفر»؛ من النفور، وعند أبي بحر: «تنقز» بالقاف والزاي، ومعناه: تَثِب؛ يقال: نَقَزَ الصبي وقَفَزَ: إذا وثب .
وقوله: «فَخَشِيتُ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى»، يعني: أنه خشي أن تطأ (21) الفرس يحيى ابنه، &(2/350)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (6/622 رقم 3614) في المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، و(8/586 رقم4839) كتاب التفسير، باب { هو الذي أنزل السكينة }، و(9/57 رقم 5011) كتاب فضائل القرآن، باب فضل الكهف، ومسلم (1/547 رقم 795) في صلاة المسافرين، باب نزول السكينة لقراءة القرآن.
(2) في (ز) و(س): «أي في حبلين».
(3) في (أ): «الجبل» بالجيم المعجمة.
(4) في (أ): «والبر» بدل «والنوى».
(5) قوله: «القعر» ليس في (ب) و(ح) و(ز) و(س).
(6) في (أ): «وتغشيه».
(7) في (أ): «وسكينة».
(8) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): «وهي هنا».
(9) في (ب): «الملائكة»
(10) سورة البقرة، الآية: 248.
(11) في (أ): «والرحمة».
(12) أخرج ابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/469 رقم 2481) من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: السكينة: الرحمة.
(13) قوله: «طاهر» ملحق بهامش (ب) وكتب عليه «صح»، وليس في (أ) و(ح) و(س) و(ز).
(14) أخرجه ابن أبي حاتم في «التفسير» (2/468 رقم 2475) من طريق أبي ورق، عن الضحاك، عن ابن عباس، بلفظ: لاسكينة: دابة قدر الهرّ لها عينان لهما شعاع، وكان إذا التقى الجمعان أخرجت يديها ونظرت إليهم، فيهزم الجيش من ذلك؛ من الرعب. والضحاك لم يسمع من ابن عباس، فالسند ضعيف.
ثم أخرجه ابن أبي حاتم عقبه برقم (2476) من طريق ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: السكينة لها وجه كوجه الهرّ وجناحان.
وسنده عن مجاهد صحيح، لكن قد يكون من الإسرائيليات.
(15) في (أ): «نظرت».
(16) في (س): (الجيش».
(17) في (س): «معهم يتكلم» وتراجع في (س).
(18) أخرجه البخاري (9/63 رقم 5018) في فضائل القرآن، باب نزول السكينة والملائكة عند قراءة القرآن، ومسلم (1/548 رقم 796) في صلاة المسافرين، باب نزول السكينة لقراءة القرآن.
(19) الأندر: هو البيدر، وهو الكدس من القمح خاصة. "اللسان" (5/200).
(20) في (أ): «يطأ»، وفي (س): الثانية: «يطأ».
(21) في (أ): «يطأ»، وفي (س): الثانية: «يطأ».(2/350)
وقد فسره بعد ذلك. والظُّلَّة: السحابة فوق الرأس؛ مأخوذ من الظل. و«الْجَوِّ»: ما بين السماء والأرض. و«السُّرُجِ»: جمع سراج؛ شَبَّة الأنوار التي رأى في السحابة بها.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لابن حُضير: «اقْرَأِ »؛ عند إخباره له بما رأى، هو أمر له بداومه (1) على القراءة فيما يستأنفه؛ فرحًا بما أطلعه الله تعالى عليه، وكرر ذلك تأكيدًا (2) .
وقوله: «تِلْكَ الْمَلائِكَةُ كَانَتْ تَسْتَمِعُ لَكَ»: استطابة لقراءته (3) ؛ لحسن =(2/438)=@ ترتيلها، وحضور قلبه فيها، وخشوعه وإخلاصه، والله أعلم.
وإطلاع الله تعالى له على ذلك: إظهار كرامة (4) له ليزداد يقينًا مع يقينه، واجتهادًا (5) عبادته. وهذا دليل على جواز رؤية من ليس بنبي للملائكة (6) .
وقوله: «وَلَوْ (7) قَرَأْتَ لأَصْبَحَتْ (8) يَرَاهَا»: يعني: لو دمت على حالتك في قراءتك (9) لأصبحت على تلك الحال ظاهرة للناس، لكنه قطع القراءة، فارتفعت الملائكة وغابت؛ لتختص (10) الكرامة به، وليعمل (11) الناس على التصديق بالغيب.
392- وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ (12) : أَنَّ نَّبِيّ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْف عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «مِنْ آخِرِ الْكَهْفِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «مَنْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْف عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ»، وفي الرواية الأخرى: «مِنْ آخِرِ الْكَهْفِ ». واختلف المتأوِّلون في سبب ذلك:
فقيل: سورة الكهف (13) لما في قصة أصحاب الكهف من العجائب والآيات، فمن (14) علمها لم يستغرب أمر الدجال، ولم يَهُلْهُ ذلك، فلا يفتتن به.
وقيل: لما في قوله تعالى: {أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء} (15) - إلى آخر السورة - من المعاني المناسبة (16) لحال الدجّال، وهذا على (17) رواية من روى: «من آخر سورة (18) الكهف ».
وقيل: لقوله تعالى: {لينذر بأسًا شديدًا من لدنه} (19) ؛ تمسُّكًا بتخصيص البأس بالشدة واللدنِّية، وهو مناسب لما يكون من الدجال من دعوى &(2/351)&$
__________
(1) في (ب): «بمداومة ».
(2) قوله: «وقوله - صلى الله عليه وسلم - لابن حضير...» إلى هنا ليس في (ح).
(3) قوله: «لقراءته» ليس في (ب).
(4) في (ب): «كرامته».
(5) في (أ): «مع» وسقطت من (ز).
(6) في (ز) و(س): «الملائكة».
(7) في (ح): «لو».
(8) في (ح) و(ز) و(س): «يراها».
(9) في (ز) و(س): «لو دمت في حالتك في قراءتك»، وفي (أ): «في قراءتك».
(10) في (ز) و(س) و(ب) و(ح): «لتخصيص».
(11) قوله: «ليعمل» غير واضحة في (ز).
(12) أخرجه مسلم (1/55 رقم 809 ) في صلاة المسافرين، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي.
(13) قوله: «سورة الكهف» سقط من (أ) و(س) و(ز).
(14) في (أ) تشبه أن تكون: «ممن».
(15) سورة الكهف، الآية: 102.
(16) في (س) تشبه أن تكون: «المتناسبة».
(17) في (ز) و(س): «وعلى هذا».
(18) قوله: «سورة» ليس في (ح) و(س) و(ز).
(19) سورة الكهف، الآية: 2.(2/351)
الإلهية، واستيلائه، وعظيم فتنته، ولذلك عظَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره، وحذّر منه، وتعوّذ من فتنته. فيكون معنى هذا الحديث: أن من قرأ هذه الآيات وتدبرها، ووقف على معناها؛ حَذِرَه فَأَمِنَ من ذلك (1) . وقيل: هذا من خصائص هذه السورة كلها، فقد روي: «من حفظ =(2/439)=@ سورة الكهف، ثم أدركه (2) الدجال؛ لم يسلط عليه » (3) ، وعلى هذا تجتمع رواية من روى: «من أول سورة الكهف»، ورواية من روى: «من آخرها »، ويكون ذكر العشر على جهة الاستدراج في حفظها كلها.
وقيل: إنما كان (4) ذلك لقوله تعالى (5) : {لينذر (6) بأسًا شديدًا من لدنه (7) } (8) ، فإنه يهون بأس الدجال، وقوله: {ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا حسنًا} (9) ؛ فإنه يهون الصبر على فتن الدجال بما يظهر من جنته وناره، وتنعيمه وتعذيبه، ثم ذمُّه تعالى لمن اعتقد الولد؛ يفهم منه: أن من ادعى الإلهية أولى بالذم، وهو الدجال، ثم قضية (10) أصحاب الكهف؛ فيها عبر (11) تناسب العصمة من الفتن، وذلك أن الله تعالى حكى عنهم أنهم قالوا: {ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيِّئْ لنا من أمرنا رشدًا} (12) ، فهؤلاء قوم ابتلوا فصبروا، وسألوا إصلاح أحوالهم، فأصلحت لهم (13) ، وهذا تعليم لكل مدعو إلى الشرك.
ومن روى: «مِنْ (14) آخِرِ الْكَهْفِ»؛ فلما في قوله تعالى: {وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضًا} (15) ، فإن فيه مايهون ما يظهره الدجال (16) من ناره.
وقوله: {الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري} (17) ، تنبيه على أحوال تابعي الدجال؛ إذ قد عموا عن ظهور الآيات التي تكذبه،والله أعلم (18) .
والكهف: المغار الواسع في الجبل، والصغير منه (19) يسمى الغار. =(2/440)=@ &(2/352)&$
__________
(1) قوله: «من ذلك» ليس في (أ).
(2) في (ب) و(ز) و(س): «أدرك».
(3) أخرجه نعيم بن حماد في "الفتن" (2/563 رقم1579)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" من "الكبرى" (6/236 رقم10790)، والحاكم في"المستدرك" (1/565)، ثلاثتهم من طريق سفيان الثوري، عن أبي هاشم، عن أبي مجلز، عن قيس بن عُبَاد، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: «من قرأ سورة الكهف كما أنزلت، ثم أدرك الدجال؛ لم يُسَلَّط عليه - أو: لم يكن له عليه سبيل -، ومن قرأ سورة الكهف كان له نور من حيث قرأها ما بينه وبين مكة».
وسنده صحيح موقوف.
وأخرجه النسائي برقم (10789.طريق محمد بن جعفر غندر، عن شعبة، عن أبي هاشم، به نحو سابقه.
وشدَّ أبو غسان يحيى بن كثير، فرواه عن شعبة، فجعله مرفوعًا، والصحيح الموقوف كما بينته في تعليقي على الحديث رقم (1368) "سنن سعيد بن منصور".
(4) قوله: «كان» ليس في (أ).
(5) قوله: «تعالى» ليس في (ز).
(6) في (أ): «لتنذر».
(7) قوله: «من لدنه» ليس في (س) و(ز).
(8) سورة الكهف، الآية: 2.
(9) سورة الكهف، الآية: 2.
(10) في (أ): «بأقضية».
(11) قوله: «لهم» سقط من (س) و(ز).
(12) سورة الكهف، الآية: 10.
(13) في (ز) و(س): «ما يظهر من الدجال».
(14) قوله: «من» ليس في (أ).
(15) سورة الكهف، الآية: 100.
(16) في (س): «عبرة».
(17) سورة الكهف، الآية: 101.
(18) قوله: «والله أعلم» ذكر في (ب) في نهاية الكلام بعد قوله: «يسمى الغار».
(19) في (ح) و(ز) و(س): «منها»، وفي (أ): «منهما».(2/352)
( 115 ) باب فضل قراءة {قل هو الله أحد}
393- عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ (1) ، عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؟ قَالُوا: وَكَيْفَ يَقْرَأُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «إِنَّ الله جَزَّأَ الْقُرْآنَ ثَلاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَجَعَلَ {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب فضل {قل هو الله أحد}
قوله - صلى الله عليه وسلم - : «قل هو الله أحد: تعدل ثلث القرآن »؛ أي: تساوي جزءًا منه، كما قال في الرواية الأخرى: «إن الله تعالى جزَّأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل {قل هو الله أحد} جزءًا من أجزاء القرآن »، وإيضاحه ما قال المحققون من علمائنا: إن القرآن بالنسبة إلى معانيه الكلية على ثلاثة أنحاء: قصص، وأحكام، وأوصاف لله تعالى.
و: {قل هو الله أحد} مشتملة (2) على ذكر أوصاف الحق سبحانه (3) ، فكانت ثُلُثًا (4) من هذه الجهة. قال الشيخ - رضي الله عنه - : وهذا إنما يتمّ إذا حُقِّق: أن هذه السورة مشتملة على (5) جميع ذكر أوصافه تعالى، وليس ذلك (6) فيها ظاهرًا، لكنها اشتملت على (7) اسمين من أسمائه تعالى؛ يتضمنان جميع أوصاف كماله تعالى، لم يوجدا في غيرها من جميع (8) السور، وهما: الأحد، والصمد؛ فإنهما يدلاّن على أحديَّة الذات المقدسة &(2/353)&$
__________
(1) أخرجه مسلم(1/556رقم811) في صلاة المسافرين، باب فضل «قراءة قل هوالله أحد».
(2) في (ح): «تشتمل»، وفي (ز) و(س): «مشتمل».
(3) في (ز) و(س): «أَوصافًا».
(4) في (ز): «الحق تعالى وتقدس».
(5) قوله: «على» مكرر في (ب).
(6) قوله: «ذلك» ليس في (أ).
(7) قوله: «اشتملت على» ليس في (أ).
(8) قوله: «جميع» سَقَطَ مِن (س) و(ز).(2/353)
الموصوفة بجميع صفات الكمال المعظمة، وبيانه: أن الأحد والواحد وإن رجعا إلى أصل واحد لغة، فقد افترقا استعمالاً وعرفًا، وذلك: أن الهمزة من «أحد» منقلبة عن الواو من: وَحَد، كما قال النابغة (1) :
كأن رحلي (2) وقد زال النهار بنا (3) ... يوم الجَليل (4) على مُسْتَأْنِسٍ وَحَدِ (5) (6)
=(2/441)=@ فهما (7) من الوحدة، وهي راجعة إلى نفي التعدد (8) والكثرة، غير أن استعمال العرب فيهما مختلف (9) : فإن الواحد عندهم أصل العدد، من غير تعرض لنفي ما عداه (10) ، والأحد يثبث مدلوله (11) ، ويتعرض لنفي (12) ما سواه، ولهذا (13) أكثر ما استعملته (14) العرب في النفي، فقالوا: ما فيها أحد، {ولم يكن له كفوًا أحد}، ولم يقولوا هنا: واحد، فإن أرادوا الإثبات قالوا: رأيت واحدًا من الناس، ولم يقولوا هنا: أحدًا. وعلى هذا فالأحد في أسمائه تعالى مشعر بوجوده (15) الخاص به، الذي لا يشاركه فيه غيره، وهو &(2/354)&$
__________
(1) أي الذبياني، وانظر ديوانه (ص 17)، بتحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم.
(2) في (ح): «وجلى»، وسقط قوله: «كأن».
(3) في (ح): «بها».
(4) كذا في (ب)، و"ديوان النابغة"، و"معجم البلدان" (2/158)، و"لسان العرب" (3/450)، و(6/15)، وفي (ح) و"لسان العرب (11/315): «الْحُلَيْل»، بالحاء، و: «الْحُلَيْلُ» و«الْجَلِيل» موضعان ذكرهما ياقوت في "معجم البلدان" (2/157-158، 296).
(5) كذا ضُبط في (ب) و(ح) و"لسان العرب" (3/450) و"ديوان النابغة" بفتح الحاء، وفي "معجم البلدان" (2/158) و"لسان العرب" (6/15) و(11/315): «وَحِدِ» بكسر الحاء.
(6) البيت بتمامه ليس في (أ)، وفي موضعه بياض بقدر سطر.
(7) في (س): «فها» كذا رسمت.
(8) في (ب): «العدد».
(9) في (ز): «يختلف».
(10) في (ح): «تعرض لما عداه» وكتب فوقها بخط صغير «لنفي».
(11) قوله: «والأحد يثبت مدلوله» فكأنها طمس في (ز).
(12) في (ز): «النفي».
(13) قوله: «ما سواه ولهذا» سقط في (ز).
(14) في (س): «استعمله»
(15) في (ب): «يشعر به وجوده».(2/354)
المعبَّر عنه بواجب الوجود (1) ، وربما (2) عبر عنه بعض المتكلمين: بأنه أخص وصفه. وأما الصَّمد: فهو المتضمن لجميع أوصاف الكمال، فإن الصمد هو الذي انتهى سؤدده (3) (4) ؛ بحيث يُصمَدُ (5) إليه في الحوائج كلها؛ أي: يقصد، ولا يصح ذلك تحقيقًا إلا لمن (6) حاز جميع خصال الكمال حقيقة، وذلك لا يكمل (7) إلا لله تعالى، فهو الأحد الصمد، الذي {لم يلد ولم يولد ( ولم يكن له كفوًا أحد}.
فقد ظهر أن لهذين الاسمين من شمول الدلالة على الله تعالى وصفاته ما ليس لغيرهما من الأسماء، وأنهما ليسا موجودين في شيء من سور القرآن، فظهرت خصوصية هذه السورة بأنها (8) ثلث القرآن، كما قررناه، والله أعلم.
وقد كثرت أقوال الناس في هذا المعنى، وهذا أنسبها وأحسنها حسب ما ظهر، فليُقتصر عليه (9) . =(2/442)=@
394- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (10) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «احْشُدُوا فَإِنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ » فَحَشَدَ مَنْ حَشَدَ، ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَرَأَ: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ}، ثُمَّ دَخَلَ. فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: إِنِّي أُرَى هَذَا خَبَرًا جَاءَهُ مِنَ السَّمَاءِ، فَذَاكَ الَّذِي أَدْخَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ: سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، أَلا إِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ».
395- وعَنْ عَائِشَةَ (11) : أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ رَجُلاً عَلَى سَرِيَّةٍ، فَكَانَ يَقْرَأُ لأَصْحَابِهِ فِي صَلاتِهِمْ فَيَخْتِمُ بـ{قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} فَلَمَّا رَجَعُوا ذُكِرَوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «سَلُوهُ لأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟ » فَسَأَلُوهُ. فَقَالَ لأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «أَخْبِرُوهُ أَنَّ الله يُحِبُّهُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «فَحَشَدَ مَنْ حَشَدَ»؛ أي: اجتمع من اجتمع، والحشد (12) : الجمع، قاله الهروي وغيره.
ومحبة الله تعالى للخلق (13) : تقريبه لمحبوبه وإكرامه له (14) ، وليست بميل ولا غرض كما هي منا، وليست المحبة في حقوقنا هي الإرادة، بل شيء &(2/355)&$
__________
(1) في (أ) و(ب) و(ح): «بوجوب الوجود»، وفي (ز): «بوجود الوجود». وانظر تعليقي(حديث 353، ص82) وهذا المجلد المفهم 11 على قوله: «واجب الوجود».
(2) في (ب): «وبما».
(3) أخرجه ابن جرير (24/692)، وأبو الشيخ في "العظمة" (1/383-384 رقم96)،والبيهقي في «الأسماء والصفات» (1/156 رقم 98)، ثلاثتهم من طريق عبدالله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: «الصمد»: قال: «السيد الذي كمل في سؤدده، والشريف الذي كمل في شرفه...» الحديث.
وأورده السيوطي في "الدر المنثور" (8/682)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم.
وقد احتمل الأئمة في التفسير رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، مع أنها منقطعة، وعبدالله بن صالح متكلم في حفظه.
وقال ابن جرير في "تفسيره" (24/692-693): «الصمد عند العرب: هو السيد الذي يُصمد إليه، الذي لا أحد فوقه، وكذلك تسمي أشرافها...، فإذا كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بتأويل الكلمة: المعنى المعروف من كلام من نزل القرآن بلسانه».اهـ .
(4) في (ز): «سؤدده».
(5) في (ب): «تصمد».
(6) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): «ممن».
(7) في (ب): «لم يكمل».
(8) في (ب): «وأنها».
(9) في (ز) و(ح): «فلنقتصر عليه»، وفي (س): «فليقتصر عليه» كذا رسمت.
(10) أخرجه مسلم (1/557 رقم 812) في صلاة المسافرين، باب فضل قراءة قل هو الله أحد.
(11) أخرجه البخاري (13/347 رقم 7375) في التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى، ومسلم (1/557 رقم 813) في صلاة المسافرين، باب فضل قراءة {قل هو الله أحد}.
(12) في (أ): «والحشر».
(13) في (س): «الخلق».
(14) الصواب أنها محبة حقيقية تليق بعظمته وجلاله سبحانه، ويجب الإعراض عن تأويل نفاة الصفات لهذه المحبة بإرادة الإكرام ونحوها من التأويلات؛ كما عند المصنف هنا.(2/355)
زائد عليها، فإن الإنسان يجد من نفسه أنه (1) يحب ما لا يقدر على اكتسابه، ولا على (2) تخصيصه به (3) . والإرادة: هي التي تخصص الفعل ببعض وجوهه الجائزة، والإنسان يحسُّ (4) من نفسه: أنه يحب الموصوفين بالصفات الجميلة والأفعال الحسنة؛ مثل العلماء، والفضلاء، وإن لم يتعلق له (5) بهم إرادة مخصصة، وإذا =(2/443)=@ صح (6) فرق ما بينهما، فالله تعالى محبوب
لمحبيه على حقيقة المحبة؛ كما هو المعروف عند من رزقه الله تعالى منا (7) شيئًا من ذلك، فنسأله تعالى ألاّ يحرمنا (8) ذلك، وأن يجعلنا من محبيه المخلصين (9) . =(2/444)=@
( 116 ) باب فضل قراءة المعوذتين
396- عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ (10) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتِ اللَّيْلَةَ، لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ؟ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}.
وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: قَالَ لِي رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «أُنْزِلَ - أَوْ أُنْزِلَتْ - عَلَيَّ آيَاتٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ، الْمُعَوِّذَتَيْنِ ».
( 117 ) باب لا حسد إلا في اثنتين، ومن يرفع بالقرآن
397- عَنْ ابْنِ عُمَر (11) ، عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا حَسَدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ الله الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ الله مَالاً، فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَآنَاءَ النَّهَارِ ».
398- وَعَنْ عَبْدَ الله بْنَ مَسْعُودٍ (12) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «لا حَسَدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ الله مَالاً فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ الله حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب لا حسد إلا في اثنتين
أصل الحسد: تمنِّي زوال النّعمة عن المنعَم عليه، ثم قد يكون مذمومًا، وغير مذموم، فالمذموم: أن تتمنَّى (13) زوال نعمة الله عن أخيك المسلم، سواء (14) تمنيت مع ذلك أن تعود إليك أو (15) لا، وهذا النوع هو الذي ذمَّه الله تعالى بقوله: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} (16) . وأما غير المذموم؛ فقد &(2/356)&$
__________
(1) في (ز) و(س): «بأنه».
(2) قوله: «على» سقط من (س) و(ز).
(3) قوله: «به» من (ب) فقط.
(4) في (س): «يحسن».
(5) قوله: «له» ليس في (ح).
(6) في (ح) و(ز) و(س) و(ب): «وضح» بدل: «صح».
(7) قوله: «منا» من (ب) فقط.
(8) في (ح): «لا».
(9) في (ز) بعدها: «والله أعلم».
(10) أخرجه مسلم (1/558 رقم 814) في صلاة المسافرين، باب فضل قراءة المعوذتين.
(11) أخرجه البخاري (9/73 رقم 5025) في فضائل القرآن، باب اغتباط صاحب القرآن، و(13/502 رقم7529) كتاب التوحيد، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار...»، ومسلم (1/558 رقم 815) في صلاة المسافرين، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه.
(12) أخرجه البخاري (1/165 رقم 73) في العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة، و(3/276 رقم1409) كتاب الزكاة، باب إنفاق المال في حقه، و(13/120 رقم7141) كتاب الأحكام، باب أجر من قضى بالحكمة، و(13/298 رقم7316) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما جاء في اجتهاد القضاء بما أنزل الله تعالى...، ومسلم (1/559 رقم 816) في صلاة المسافرين، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه ... .
(13) في (ز) و(ح): «يتمنى».
(14) في (ز) و(س): «سواء أن».
(15) في (أ) و(ح): «أم».
(16) سورة النساء، الآية: 54.(2/356)
يكون محمودًا، مثل: أن يتمنّى زوال النعمة عن الكافر (1) ، وعمن يستعين بها على المعصية. وأما الغبطة: فهو أن تتمنّى (2) أن يكون لك (3) من النعمة والخير مثل ما لغيرك، من غير أن تزول عنه، والحرص على هذا يُسمّى: منافسة، ومنه: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} (4) غير أنه قد يطلق على الغبطة حَسدًا، وعليه يُحمل (5) الحسدُ في هذا الحديث، فكأنه (6) قال: لا غبطةَ أعظم أو أفضل من الغبطة في هذين الأمرين.
وقد نبّه البخاري (7) على هذا؛ حيث (8) بوَّب على هذا =(2/445)=@ الحديث: باب الاغتباط في العلم والحكمة.
و«آنَاءَ اللَّيْلِ»: ساعاته، واحدتها (9) : إنْيٌ، وإنًى (10) .
399- وَعَنْ عَاَمِر بْنِ وَاَثِلةَ (11) : أَنَّ نَافِعْ بْنِ عَبْدِ الحَارِثْ لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ، وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلَهُ عَلَى مَكَّةَ، فَقَالَ: مَنْ اسْتَعْمَلتَ عَلَى أَهْلِ الوَادِيْ؟ قَالَ: اْبْنُ اَبْزْى. قَالَ: وَمَنْ ابْنُ اَبْزىَ؟ قَالَ: مَوْلَى مِنْ مَوْاَلِيْنَا. قَالَ: فَاْسْتَخْلفْتَ عَلَيِهِمْ مَوْلَى؟! قَالَ: إِنَّهُ قَاَرِئٌ لِكِتَابِ اللهِ، وَإِنَّهُ عَاَلِمٌ بِالَفَرائِضِ. قاَلَ عُمَرُ: أَمَّا نَبِيُّكُمْ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ قَالَ: «إِنَّ الله يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «إِنَّ الله يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا (12) »، يعني: يُشرف، ويكرم في الدنيا والآخرة، وذلك بسبب الاعتناء به، والعلم به (13) ، والعمل بما فيه. «وَيَضَعُ»: يعني: يحقِّر (14) ، ويصغِّر (15) في الدنيا والآخرة؛ وذلك بسبب تركه، والجهل به، وترك العمل به. =(2/446)=@
( 118 ) باب أنزل القرآن على سبعة أحرف
400- عَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ (16) قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَقْرَأَنِيهَا، فَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقال الشيخ رحمه الله: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «أَرْسِلْهُ، اقْرَأْ » فَقَرَأْ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : « هَكَذَا أُنْزِلَتْ » ثُمَّ قَالَ لِي: « اقْرَأْ » فَقَرَأْتُ فَقَالَ: « هَكَذَا أُنْزِلَتْ. إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب إنزال (17) القرآن على سبعة أحرف
قوله: «فلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ»؛ أي: جمعت ثوبه على حَلْقه، وأصله من اللّبة، وهي النقرة (18) التي في أسفل (19) الحلق؛ وهذا من عمر - رضي الله عنه - غَيْرةٌ على كتاب الله تعالى، وقوة في دينه. &(2/357)&$
__________
(1) قوله: «عن الكافر» ليس في (ح).
(2) في (ز) و(ح): «يتمنى».
(3) في (ز): «يكون ذلك».
(4) سورة المطففين، الآية: 26.
(5) في (ح) و(ز) و(س): «محمل».
(6) في (ب): «وكأنه».
(7) في "صحيحه" (1/165-166) في العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة.
(8) قوله: «حيث» سقط من (س) و(ز).
(9) في (ح): «واحدها».
(10) في (ز) و(س): «وإِنًا».
(11) أخرجه مسلم (1/559 رقم 817) في صلاة المسافرين، باب فضل من يقوم بالقرآن، وفضل من تعلم...
(12) قوله: «أقوامًا» ليس في (ب) و(ح) و(س) و(ز).
(13) قوله: «به» ليس في (ب).
(14) في (ب): «نحقِّرُ»، وفي (أ): «ويحقِّر».
(15) في (ب): «ونصغِّرُ».
(16) أخرجه البخاري (5/73 رقم 2419) كتاب الخصومات، باب كلام الخصوم بعضهم في بعض، و(9/23 رقم4992) كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف، و(9/87 رقم5041) كتاب فضائل القرآن، باب من لم ير بأسًا أن يقول سورة البقرة، وسورة كذا وكذا، و(12/303 رقم 6936) كتاب استتابة المرتدين، باب ما جاء في المتأولين، و(13/520 رقم7550) كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: { فأقرأوا ما تيسر منه }، ومسلم (1/560 رقم 818) في صلاة المسافرين، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه.
(17) في (ح): «أنزل».
(18) في (ح) و(ب): «الثغرة».
(19) في (ب) و(ح): «أسفل».(2/357)
وقوله لعمر: «أَرْسِلْهُ »؛ أي: أطلقه؛ لينفِّس (1) عنه، حتى يُعْرِب عن نفسه.
وقوله لهشام: «اقْرَأْ »؛ ليسمعَ ما ادعى عليه إفساده (2) ؛ ليتّضح ذلك.
وقوله (3) لعمر: «اقْرَأْ»: لتجويز الغلَط على عمر، أو ليبيِّن أن كل واحدة من القراءتين جائزة؛ كما قد (4) صوّبه فيها بعد ذلك بقوله (5) : «هكذا أنزلت ».
واختلف في قوله - صلى الله عليه وسلم - : «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» على خمسة وثلاثين قولاً؛ حكاها أبو حاتم بن حِبَّان (6) ، أَوْلاها عند المحققين، وأقربها لمساق (7) الأحاديث: أن =(2/447)=@ السبعة الأحرف (8) هي سبع لغات من لغات العرب. قال أبو عبيد: يَمَنُها، ومَعَدُّها (9) ، وهي أفصح اللغات وأعلاها من كلامهم، وقيل: بل هذه السبع لغات (10) لمضر لا لغيرها. قالوا: وهذه اللغات مُتفرِّقة في القرآن، لا يلزم اجتماعها في الكلمة الواحدة، ولو اجتمعت (11) لم يكن في (12) ذلك بُعد. ويمكن (13) : أن يُقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمعها من جبريل - عليه السلام - في عَرَضَات سبع (14) ، أو في واحدة، ويُوقفه على المواضع (15) المختلف فيها. ثم لا يشترط أن يكون اختلاف هذه اللغات السبع في كيفيَّة (16) الكلمات؛ من الإدغام، والإظهار، والمدّ، والقصر، والإمالة، والفتح، ومابين اللفظين، والتغليظ، والترقيق، واختلاف الإعرابات فقط، بل يجوز أن يكون (17) في هذه كلها، وفي ألفاظ مترادفة على معنى واحد، كما قد رُوي أنه قُرئ (18) : (انظرونا نقتبس من نوركم (19) ، وأخرونا (20) وأنسئونا (21) »، و: (كلما أضاء لهم مشوا فيه (22) ، ومروا وسَعَوا)، وفي قوله: (فاسعوا إلى ذكر الله (23) وامضوا)، وفي زيادة الألفاظ (24) ، فيزيد بعضهم كلمة، وينقصها غيرهم؛ كما قرأ قوم: {من تحتها} (25) وأسقطها آخرون (26) ، و: {إن الله هو الغني} (27) ، و (إن الله الغني) بإسقاط «هو». وهذا النحو من الاختلاف هو الذي كثر في خلافة عثمان - رضي الله عنه - ، حتى خاف أن يتبدَّل كثير من القرآن ويتغيّر، ويختلف الناس، فاتفق نظره ونظر الصحابة أجمعين على جمع الناس على مصحف واحد، وكتبوه (28) على لغة قريش، &(2/358)&$
__________
(1) في (ب): «ليتنفس».
(2) في (أ): «بإفساده».
(3) في (ب) و(ز) و(س): «فقوله».
(4) قوله: «قد» ليس في (أ).
(5) في (ب): «لقوله».
(6) قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (9/23): «ولم أقف على كلام ابن حبان في هذا بعد تتبعي مظانه من صحيحه».
(7) في (ز) و(س): «بمساق».
(8) في (ح): «أحرف».
(9) في (أ): «يمينها ومعدنها»، وفي (ز) تشبه أن تكون «منهم وبعدها».
(10) في (ز) و(س): «اللغات».
(11) في (ح): «اجتمع».
(12) قوله: «في» من (ب) و(ز).
(13) في (ز): «وتكن».
(14) في (أ): «سبعة».
(15) في (أ): «التواضع».
(16) في (ب) و(ح) و(س): «كيفيات»، وفي (ز): «كيفيا».
(17) في (ب): «تكون».
(18) في (أ) و(ز): «قرأ».
(19) سورة الحديد، الآية: 13.
(20) في (ح) و(س): «وأجيرونا».
(21) في (ح): «وآنسونا».
(22) سورة البقرة، الآية: 20.
(23) سورة الجمعة، الآية: 9.
(24) في (ب) و(س): «ألفاظ».
(25) سورة مريم، الآية: 24.
(26) في (ز) و(س): «وأسقط آخرون من».
(27) سورة لقمان، الآية: 26.
(28) في (ب) و(ز) و(س): «فكتبوه».
(29) في (ز): «المخالف».
(30) في (ب): «الخلاف».
(31) في (ز): «وهو».
(32) في (ح): «أبي أيضًا».
(33) في (أ) و(ح) و(ز) و(س): «لأنهما لما سمعا»، وقوله: «سمعا» مكرر في (ب).
(34) في (أ) و(س): «مخالفات».
(35) في "سننه" (2/150 رقم936) في الافتتاح، باب جامع ما جاء في القرآن، من طريق معمر، عن الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة، عن عمر، به، وهو في الموضع السابق من "الصحيحين" مروي من طريق المسور وعبدالرحمن بن عبدالقاريّ، وقد صحح الدارقطني جميع هذه الروايات، ولم يعتبره اختلافًا مؤثرًا. انظر "العلل" (2/213-214 رقم229).
(36) مابين المعكوفين ليس في (أ) و(ب)، وكأن ناسخ (ح) قد كتب عليها علامة الإلغاء: « لا... إلى»، ثم يبدو أنه وجد ذلك في نسخة أخرى فكتب بجوار هذه العبارة «صح» أكثر من مرة، وكتب أيضًا قوله: «نسخة».
(37) في (ح): «يقصر».
(38) قوله: «في» سقط في (ز).
(39) في (أ) و(ح) و(ز) و(س): «وانهى».
(40) في (س): «التوسع».
(41) في (ح) (ز) و(س): «الكل»، وفي (ب): «يقرأه الكل».
(42) في (ب): «بلغة قريش».
(43) في (ب) (ز) و(س): «لشق».
(44) في (ز): «وخرجوا».
(45) في (ب): «كل واحد منهم».
(46) في (أ) و(ز) و(س): «فاتسع».
(47) قوله: «أمر كلٌ منهم...» إلى هنا ليس في (ح).
(48) في (ح): «زمن».
(49) في (أ) و(ح): «إلى حدّ».
(50) في (ب) (ز) و(س): «وما كان».
(51) قوله: «قد» سقط من (س) و(ز).
(52) في (ز): «تكتبوا».
(53) في (ز): «فاتخذوها».
(54) من قوله: «للأمصار...» إلى هنا ليس في (أ)، فأثبته من (ب) وهو ضمن السقط الذي سيأتي التنبيه عليه في (ح).
(55) في (ز) و(س): «اختيارهم».
(56) قوله: «ففعلوا فوجهوا...» إلى هنا ليس في (ح).
(57) وانظر لما سبق: "صحيح البخاري" (6/537 رقم3506) كتاب المناقب، باب نزل القرآن بلسان قريش، و(9/8-9، 11 رقم4984، 4987) كتاب فضائل القرآن، باب نزل القرآن بلسان قريش والعرب، وباب جمع القرآن.
(58) في (أ): «أحدًا».
(59) في (ز) و(س): «إسحاق».
(60) في (ز) و(س): «ورواه».
(61) في (ز) و(س): «إذ كان».
(62) في (ز) و(س): «قد»ليس في (أ).
(63) في (ح) و(ز) و(س): «جائزة».
(64) في (ز): «وكل».
(65) في (أ): «المجتمع».
(66) في (أ): «السبع».
(67) في (ز) و(س): «وهذا».
(68) في (ز) و(س): «بالمصحف».
(69) في (ز) و(س): «إسحاق».
(70) في و(س): «المشهور».
(71) في (ب) و(ز): «اختيارات» وفي (س): «اختبار أن».
(72) في (ب): «مما».
(73) في (ز) و(س): «فالزمه».
(74) في (ب) كلمة لم تتضح ورسمها هكذا: «وزوّاما» بدل: «ورواه».
(75) في (ز) و(أ) و(ح): «عنهم»، وفي (س) مكانها لحق ولم تتضح في الهامش.
(76) في (أ): «ورواه».
(77) في (أ): «اكتبوا» بلا واو.
(78) قوله: «والطبري» ليس في (أ).
(79) في (أ): «فاقرءوا منه ما تيسر».(2/358)
وعلى حرق ما عداه من المصاحف المخالفة (29) لذلك المصحف، وهذا النحو من الاختلاف (30) هو (31) الذي أنكره عمر - رضي الله عنه - لَمَّا سمعه من هشام، والذي أنكره أيضًا أُبيٌّ (32) - رضي الله عنه - وعَظُم عليه؛ لأنهما سمعا (33) كلماتٍ مخالفة (34) للتي قرآ بها على النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقد دلّ على هذا: أن النسائي (35) أخرج هذا الحديث.
وقال فيه: إن عمر قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان، فقرأ فيها حروفًا لم يكن =(2/448)=@ النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرأنيها، ولما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: إني سمعت هذا يقرأ فيها حروفًا لم تكن أقرأتنيها. وهذا نص (36) . وعن ذلك تحرّج النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن تقتصر (37) أمته على حرف واحد؛ حتى سأل الله تعالى في (38) أن يخفف عنهم، فأجيب إلى ذلك، ووسَّع عليهم، وانتهى (39) التّوسيع (40) إلى هذه؛ لأنها لغات أكثر العرب الحجازيين، ولو ضُيِّق على الناس حتى يقرأ كلٌّ (41) بلغةٍ واحدةٍ (42) ؛ شقَّ (43) ذلك عليهم، وحُرِجُوا (44) ؛ لأنهم كانوا يُكلَّفون أن يخرجوا عن أسلوب طباعهم وعاداتهم في كلامهم، لا سيّما في حدّة الأمر وفجأته، فلما وُسِّع عليهم في ذلك؛ أُمر كلُّ منهم (45) أن يقرأ بلغته، ولا ينكر على غيره، واتسع (46) الناس في ذلك (47) في صدر الإسلام، وإلى زمان (48) عثمان - رضي الله عنه - ، فلما خاف عثمان أن يتعدَّى الناس حدَّ (49) التوسعة ومحلَّها، وأدخل بعض الناس في مصحفه ما ليس بقرآن؛ كالتشهد، والقنوت، وغير ذلك، أو ما كان (50) قد (51) نُسِخَت تلاوته؛ شاور الصحابة - رضي الله عنهم - على جمع الناس على مصحف واحد،يكتبونه بلغة قريش،فأجابوه لذلك،واجتهدوا في ذلك غايتهم، وبذلوا في حفظه وصيانته غاية وسعهم، ثم أجمعوا على أن يكتبوه (52) كذلك، وأن يكتبوا منه نسخًا، وأن يوجّهوها للأمصار ففعلوا، فوجّهوا للعراق والشام ومصر بأمهات، فاتخذها (53) قراءُ (54) الأمصار معتمد اختياراتهم (55) (56) (57) ، ولم يخالف أحدٌ (58) منهم مصحفه على النحو الذي بلغه، وما وُجد بين هؤلاء القراء السبعة من الاختلاف في حروفٍ يزيدها بعضهم، وينقصها بعضهم؛ فذلك لأن كلاً منهم اعتمد على ما بلغه في (59) &(2/359)&$(2/359)
مصحفه أو رواه (60) ؛ إذ قد كان (61) عثمان - رضي الله عنه - قد (62) كتب تلك المواضع في بعض =(2/449)=@ نُسخ المصاحف، ولم يكتبها في بعضٍ؛ إشعارًا بأن كل ذلك صحيح، وأن القراءة بكل منها جائز (63) .
قال الشيخ رحمه الله: فكلُّ (64) ما تضمنته تلك المصاحف متواتر، مُجْمَعٌ عليه من الصحابة - رضي الله عنهم - ، وغيرهم، وما خرج عن تلك المصاحف لا تجوز القراءة به، ولا الصلاة؛ لأنه ليس من القرآن المجمع (65) عليه، فأما هذه القراءات السبع التي تُنسب لهؤلاء القراء السبعة (66) ، فقال كثير من علمائنا؛ كالداودي، وابن أبي صفْرَة وغيرهما: إنها ليست هي الأحرف السبعة التي اتّسعت الصحابة - رضي الله عنهم - في القراءة بها، وإنما هي راجعة إلى حرفٍ واحدٍ من تلك السبعة، وهو (67) الذي جمع عليه عثمان - رضي الله عنه - المصحف (68) ؛ ذكره ابن النحاس (69) وغيره. وهذه القراءات المشهورة (70) هي اختيار (71) أولئك الأئمة القراء، وذلك أن كل واحد منهم اختار فيما (72) روى وعَلِم وجهه من القراءات ما هو الأحسن عنده والأولى، فالتزمه (73) طريقةً، ورواه (74) ، وأقرأ به فاشتهر عنه، وعرف به، فنُسب إليه، فقيل: حرف نافع، وحرف ابن كثير، ولم يمنع واحد منهم اختيار الآخر، ولا أنكره، بل سوّغه وجوَّزه، وكل واحد من هؤلاء السبعة، رُوي عنه (75) اختياران أو أكثر، وكلٌ صحيح.
وقد أجمع المسلمون في هذه الأعصار على الاعتماد على ما صح عن هؤلاء الأئمة، مما رووه، ورأوه (76) من القراءات، وكتبوا (77) في ذلك مصنفات، فاستمر الإجماع على الصواب، وحصل ما وعد الله تعالى به من حفظ الكتاب، وعلى هذا الذي قررناه الأئمةُ المتقدمون، والفضلاء المحققون؛ كالقاضي أبي بكر ابن الطيِّب والطبري (78) ، وغيرهما.
وقوله: «فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ (79) »، الضّمير في: «مِنْهُ» عائد على القرآن، =(2/450)=@ لا على &(2/360)&$(2/360)
الأحرف؛ إذ لو كان عائدًا (1) على الأحرف؛ لقال: «منها»، وإنما أعاده على القرآن؛ ليبيّن (2) أنه يجوز أن يقرأ بما تيسَّر من الأحرف، ومن القرآن؛ لأنه (3) إذا أباح الاقتصار (4) على قراءة بعض القرآن، فلأن يجوز الاقتصار على بعض الأحرف أولى .
401- وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ (5) قَالَ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ، فَدَخَلَ رَجُلٌ يُصَلِّي، فَقَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ قِرَاءَةً سِوَى قَرَاءَةِ صَاحِبِهِ، فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلاةَ دَخَلْنَا جَمِيعًا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقال الشيخ رحمه الله: إِنَّ هَذَا قَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ، وَدَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ، فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَرَآ، فَحَسَّنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - شَأْنَهُمَا، فَسَقَطَ فِي نَفْسِي مِنَ التَّكْذِيبِ، وَلا إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا قَدْ غَشِيَنِي ضَرَبَ فِي صَدْرِي، فَفِضْتُ عَرَقًا، وَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ فَرَقًا فَقَالَ لِي: «يَا أُبَيُّ! أُرْسِلَ إِلَيَّ: أَنِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ، أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي؟! فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّانِيَةَ: أنْ اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ، فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ: أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي؟! فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّالِثَةَ: أنْ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ وَلَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكَهَا مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا. فَقال الشيخ رحمه الله: اللهمَّ اغْفِرْ لأُمَّتِي اللهمَّ اغْفِرْ لأُمَّتِي، وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ - صلى الله عليه وسلم - ».
وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ الله يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَقَالَ: «أَسْأَلُ الله مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لا تُطِيقُ ذَلِكَ » ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ مِثْلَهُ، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ قَالَ: إِنَّ الله يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَأَيُّمَا حَرْفٍ قَرَءُوا عَلَيْهِ فَقَدْ أَصَابُوا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول أُبيّ - رضي الله عنه - : «فَسَقَطَ فِي نَفْسِي مِنَ التَّكْذِيبِ (6) ،وَلا إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ»: هذا الذي وقع لأُبيّ - رضي الله عنه - نزغة (7) من الشيطان، ليشوِّش عليه حاله، ويكدِّر عليه وقته، فإنه عظَّم عليه من اختلاف القراءات ما ليس عظيمًا في نفسه، وإلا فأيّ شيء يلزم من المحال والتكذيب من اختلاف القراءات (8) ، لكن لما تولّى الله لكفايتهم (9) أَمْرَ الشيطان لم يؤثر تزيينه وتسويله أثرًا يركنون إليه، ولا يدومون عليه، وإنما ذلك امتحان (10) لسرائرهم؛ ليبرز للوجود ما علمه (11) الله من ضمائرهم، ولـ{يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا (12) العلم درجات} (13) ، وإلا فانظر مآل هذا الواقع ماذا (14) كان؟ فإنه لما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أصاب (15) من ذلك الخاطر؛ نبّهه بأن ضرب في صدره، فأعقب ذلك بأن انشرح صدره (16) ، وتنوّر باطنه، حتى آل به الشرح والكشف (17) إلى حالة المعاينة، فلما ظهر له قبح (18) ذلك الخاطر؛ خاف من الله تعالى؛ وسببه: أنه قد حصل منه التفات إلى ذلك الخاطر (19) . وفيضه بالعرق؛ إنما كان استحياء من الله تعالى.
ومعنى: «سَقَطَ فِي (20) نَفْسِي»؛ أي: اعترتني حيرة ودهشة. =(2/451)=@ يقال للنادم المتحيِّر: سقط في يده، وأسقط؛ أي: حصل في يده منه مكروه. ومنه: {ولما سُقِطَ في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا} (21) . وهذا &(2/361)&$
__________
(1) في (س): «عائد».
(2) في (س): «ليتبين»
(3) في (ز): «لا أنه».
(4) في (ز): «للاقتصار».
(5) أخرجه مسلم (1/561 رقم 820) في صلاة المسافرين، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف، وبيان معناه.
(6) قوله: «من التكذيب» ليس في (ب) و(ح) و(س) و(ز).
(7) في (س): «نزعه».
(8) من قوله: «ما ليس عظيمًا... إلى هنا» ليس في (س) و(ز).
(9) في (ح) و(ز) و(س): «بكفايتهم».
(10) في (ح): «وإنما كان ذلك امتحانًا».
(11) في (ز) و(س): «ما علم».
(12) في (أ) و(ز): «آمنوا منكم».
(13) سورة المجادلة، الآية: 11.
(14) في (ز) و(س): «فإذا» بدل «ماذا».
(15) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): «أصابه».
(16) في (ح): «شرح الله صدره».
(17) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): «الكشف والشرح».
(18) في (أ): «قبيح»، وفي (س): «فتح».
(19) في (ح): «الحاضر».
(20) قوله: «في» ليس في (أ).
(21) سورة الأعراف، الآية: 149.(2/361)
الخاطر الذي خطر لأُبَيّ (1) هو (2) من قبيل ما قد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يُؤاخذُ به، بل هو من قبيل ما قال فيه: «ذلك محض الإيمان » (3) .
وقوله: «إِنَّ الله يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ عَلَى سَبْعٍ »؛ أي: لا تَزِيد (4) عليها، وأي شيء قرؤوا به كفاهم وأجزأهم؛ بدليل قوله: «فَأَيّ (5) حَرْفٍ قَرَءُوا عَلَيْهِ فَقَدْ أَصَابُوا » (6) .
وقوله: «أَسْأَلُ الله مُعَافَاتَهُ»؛ أي: تسهيله وتيسيره، من عفا الأثر؛ أي: =(2/452)=@ سهل وتغيّر (7) ، وسؤاله المغفرة: مخافةَ وقوع التقصير فيما يلزم من ذلك، والله أعلم (8) .
( 119 ) باب قراءة سورتين في ركعتين من النوافل
402- عَنْ أَبِي وَائِلٍ (9) قَالَ: غَدَوْنَا عَلَى عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ يَوْمًا بَعْدَ مَا صَلَّيْنَا الْغَدَاةَ، فَسَلَّمْنَا بِالْبَابِ، فَأَذِنَ لَنَا. قَالَ: فَمَكَثْنَا بِالْبَابِ هُنَيَّةً قَالَ: فَخَرَجَتِ الْجَارِيَةُ فَقَالَتْ: أَلا تَدْخُلُونَ؟ فَدَخَلْنَا، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ يُسَبِّحُ فَقَالَ: مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا وَقَدْ أُذِنَ لَكُمْ؟ فَقُلْنَا: لا، إِلا أَنَّا ظَنَنَّا أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْبَيْتِ نَائِمٌ، قَالَ: ظَنَنْتُمْ بِآلِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ غَفْلَةً؟ قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلَ يُسَبِّحُ حَتَّى ظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ طَلَعَتْ، فَقَالَ: يَا جَارِيَةُ! انْظُرِي، هَلْ طَلَعَتْ؟
قَالَ: فَنَظَرَتْ فَإِذَا هِيَ لَمْ تَطْلُعْ، فَأَقْبَلَ يُسَبِّحُ حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ طَلَعَتْ فقَالَ: يَا جَارِيَةُ، انْظُرِي هَلْ طَلَعَتْ؟ فَنَظَرَتْ فَإِذَا هِيَ قَدْ طَلَعَتْ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَقَالَنَا يَوْمَنَا هَذَا ( قَالَ مَهْدِيٌّ وأَحْسِبُهُ قَالَ: وَلَمْ يُهْلِكْنَا بِذُنُوبِنَا ). قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ الْبَارِحَةَ كُلَّهُ. قَالَ فَقَالَ عَبْدُالله: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ؟ إِنَّا لَقَدْ سَمِعْنَا الْقَرَائِنَ، وَإِنِّي لأَحْفَظُ الْقَرَائِنَ الَّتِي كَانَ يَقْرَؤُهُنَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِنَ الْمُفَصَّلِ، وَسُورَتَيْنِ مِنْ آلِ حم.
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي بَجِيلَةَ، يُقَالُ لَهُ: نَهِيكُ بْنُ سِنَانٍ، إِلَى عَبْدِ الله، فَقَالَ: إِنِّي أَقْرَأُ الْمُفَصَّلَ فِي رَكْعَةٍ. فَقَالَ عَبْدُ الله: هَذًّاكَهَذِّ الشِّعْرِ؟! لَقَدْ عَلِمْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ بِهِنَّ، سُورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ.
وَفِي أُخْرَى: فَقَالَ عَبْدُ الله: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ؟ إِنَّ أَقْوَامًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ فَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ، إِنَّ أَفْضَلَ الصَّلاةِ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، إِنِّي لأَعْلَمُ النَّظَائِرَ... الحَدِيثْ.
وَفِي أُخْرَى قَالَ: هِيَ عِشْرُونَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب قراءة سورتين في ركعة
قوله: «فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ يُسَبِّحُ»؛ أي: يسبح الله ويذكره، لا بمعنى: يتنفَّل؛ لأن ذلك في (10) وقت يُمنع التنفل فيه. &(2/362)&$
__________
(1) في (أ): «لأبي موسى».
(2) قوله: «هو» ليس في (ب).
(3) تقدم برقم (102، 103).
(4) في (أ) و(ز) و(س): «لا تزد».
(5) في (ز) و(س): «بأي».
(6) من قوله: «وقوله إن الله يأمرك... إلى هنا» سقط من (أ).
(7) في (ب): «وتيسر».
(8) قوله: «والله أعلم» ليس في (أ) و(ح) و(س).
(9) أخرجه البخاري (2/255 رقم 775) في الأذان، باب الجمع بين السورتين في الركعة، والقراءة بالخواتيم، وبسورة قبل سورة وبأول سورة، و(9/39 رقم4996) في فضائل القرآن، باب تأليف القرآن، و(9/88 رقم 5043) في فضائل القرآن، باب الترتيل في القراءة وقوله تعالى: { ورتل القرآن ترتيلاً }، وقوله تعالى: { وقرآنًا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث}، ومسلم (1/564 رقم 822) في صلاة المسافرين، باب ترتيل القراءة واجتناب الهذ وهو الإفراط في السرعة وإباحة سورتين فأكثر في ركعة.
(10) قوله: «في» ليس في (ب).(2/362)
وقوله: «هَذًّا (1) كَهَذِّ الشِّعْرِ»: إنكار منه على من يسرع في قراءته، ولا يُرتل ولا يتدبَّر (2) ، ونصب «هذًّا» على المصدر؛ كأنه قال: أتهذّ هذًّا؟ وهذّ الشعر: =(2/453)=@ الاسترسال في إنشاده من غير تدبُّرٍ في معانيه، ومعنى هذا: أن الشعر هو الذي إن فعل الإنسان فيه ذلك سُوِّغ له، وأما في القرآن فلا ينبغي مثل ذلك فيه (3) ؛ بل يقرأ (4) بترتيل وتدبر؛ ولذلك قال: «إن قومًا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسَخ فيه نفع »، والتراقي: جمع ترقوة، وهي عظامُ أعالي الصدر، وهو (5) كناية عن عدم الفهم؛ كما وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - به الخوارج؛ إذ قال: «لا يجاوز حناجرهم » (6) .
والنظائر والقرائن هي: السّور المتقاربة في المقدار، وقد عدّدها ثمان (7) عشرة في رواية، وفي أخرى عشرين، ولا بُعد (8) في ذلك، فإنه يذكر في وقت الأقلّ من غير تعرُّضٍ للحصر، ويزيد في وقت آخر. أو يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قرن في وقت بين ثماني عشرة، وفي أخرى (9) بين عشرين (10) .
وقد ذكر أبو داود هذا الحديث (11) عن علقمة والأسود؛ قالا: أتى ابنَ مسعودٍ رجلٌ فقال: إني أقرأ (12) المفصل في ركعة، فقال: أهذًّا كهذِّ الشعرِ، ونثرًا كنثر الدَّقَل؟ لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان &(2/363)&$
__________
(1) في (أ): «أهذًّا».
(2) في (س): «ويتدبر».
(3) وقوله: «فيه» ليس في (أ).
(4) في (ب): «بل يقرؤه».
(5) في (ب): «وهي».
(6) هذا لفظ حديث جابر الآتي برقم (923) في الزكاة، باب يجب الرضا بما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما أعطى، وأما لفظ حديث ابن مسعود الذي يتكلم عنه المصنف هنا فهو: «لا يجاوز تراقيهم »؛ كما في الصفحة السابقة.
(7) كذا في جميع النسخ.
(8) في (ز): «ولا يُعَدُ».
(9) في (ب) و(ح): «أخَرَ» والمثبت من (ز) و(س).
(10) من قوله: «ولا بعد في ذلك...إلى هنا» ليس في (أ).
(11) في "سننه" (2/117-118 رقم 1396) في كتاب الصلاة، باب تحزيب القرآن، من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن علقمة والأسود، عن ابن مسعود به، وأخرجه الإمام أحمد في "المسند" (1/418) طريق زهير، عن أبي إسحاق، به.
(12) في (س): «أقرا لمفصل» كذا رسمت.(2/363)
يقرأ النظائر: السورتين في ركعة: الرحمن والنجم في ركعة، واقتربت والحاقة في ركعة، والطور والذاريات في ركعة (1) ، وإذا وقعت (2) ونون (3) في ركعة، وسأل سائل =(2/454)=@ والنازعات في ركعة، وويل للمطففين وعبس في ركعة، وهل أتى ولا أقسم في ركعة، وعمّ يتساءلون والمرسلات في ركعة، والدخان وإذا الشمس كوّرت (4) في ركعة. وقال (5) أبو داود: «هذا (6) تأليف ابن مسعود ».
قال الشيخ رحمه الله: وهذا مفسِّرٌ لرواية من روى: «ثمان (7) عشرة». وزاد في رواية ابن الأعرابي: «والمدثر والمزمل في ركعة»، فكملت عشرين.
وقوله في رواية أبي داود: «ونثرًا كنثر الدَّقَل»، الدَّقَل (8) : رديء التمر. ووجه التشبيه: أَنَّهُ يَتَنَاثَرُ مُتتابِعًا على غير ترتيب، فشبَّه (9) المسرع في قراءته بذلك.
وقوله في "الأم": «لا يصعد له عمل»؛ أي: لا يكون له ثواب يصعد به؛
كما قال امرُؤُ القَيْسِ (10) :
على لاَحِبٍ لا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ ... .....................................
أي: ليس له منار فيُهتَدَى به.
وقوله: «إِنَّ أَفْضَلَ الصَّلاةِ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ»: حجة لمن قال: إنَّ كثرةَ السجود أفضل من تطويل القيام، وقد تقدّم ذكر الخلاف في هذه المسألة (11) .
واختُلف في مبدأ المفصل، فقيل: من سورة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وقيل: من سورة ق، وسُمِّيَ بذلك؛ لكثرة الفصل بين (12) سوره بسطر: {بسم الله الرحمن الرحيم}. =(2/455)=@
وقول ابن مسعود - رضي الله عنه - : «الحمد لله الذي أقالنا يومنا هذا ولم يهلكنا بذنوبنا»؛ خوفٌ منه للذي رأى من تبدُّل الأحوال (13) . &(2/364)&$
__________
(1) قوله: «في ركعة» ليس في (أ).
(2) في (ح): «والواقعة» بدل: «وإذا وقعت».
(3) في (ز) و(س): «ونون والقلم».
(4) قوله: «كورت» ليس في (أ) و(ب) و(س) و(ز).
(5) المثبت من (ح) فقط وباقي النسخ: «قال» بلا واو. و(أ).
(6) في (ب): «وهذا».
(7) كذا في جميع النسخ.
(8) في (ب) و(س) و(ز): «والدَّقَلَ».
(9) في (أ): «فأشبه».
(10) هذا صدر البيت، وتمامه:
................................... ... إِذا سافَهَ العدْدُ النباطيُّ جَرْجَرَا
انظر شرح "ديوانه" لحسن السندوبي (ص157)، و"اللسان" (9/315).
(11) بعدها في (ز): «والله أعلم».
(12) في (ح): «من».
(13) في (س): «لسلة».(2/364)
( 120 ) باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها
403- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (1) قَالَ: سَمِعْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَكَانَ أَحَبَّهُمْ إِلَيَّ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ الصَّلاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ.
404- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ (2) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «لا صَلاةَ بَعْدَ صَلاةِ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَلا صَلاةَ بَعْدَ صَلاةِ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الأوقات المنهي عن الصلاة فيها
قوله: «لا صَلاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ (3) ، وَلا صَلاةَ بَعْدَ صَلاةِ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ»: قد تقدّم من مذهب أبي حنيفة: أنه حمل هذا اللفظ على عمومه =(2/456)=@ في النوافل كلها، والفرائض المقضيَّات، ولم يستثن من الصلوات شيئًا.
وخصّص الجمهور من ذلك: المقضيات، وخصّص الشافعي: ما كان من النوافل مُعلقًا (4) على سبب، فتصلّى (5) لحضور سببها؛ كتحيّة المسجد-كما تقدم-، وسجود القرآن (6) ، وركعتي ا لطواف، والإحرام، وغير ذلك.
405- وعَنِ ابْنِ عُمَرَ (7) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «لا تَحَرَّوْا بِصَلاتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلا غُرُوبَهَا فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بِقَرْنَيْ شَيْطَانٍ ».
406- وَعَنْهُ (8) قالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «إِذَا بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلاةَ حَتَّى تَبْرُزَ. وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلاةَ حَتَّى تَغِيبَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «لا تَحَرَّوْا بِصَلاتِكُمْ (9) طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلا غُرُوبَهَا»؛ أي: لا تقصدوا ذلك الوقت بصلاتكم، وهذان الوقتان هما المقصودان بالنهي لأنفسهما؛ لأنهما الوقتان اللذان يسجد فيهما الكفارُ للشمس (10) ؛ كما قال في الحديث الآخر (11) . وما قبل هذين الوقتين إنما نَهى عنه؛ لأنه ذريعة ووسيلة إلى إيقاع الصلاة فيهما (12) . ومن هنا أجاز مالك الصلاة على الجنازة ما لم تغرب الشمس، وكرهها عند ذلك (13) .
و«حَاجِبُ =(2/457)=@ الشَّمْسِ»: أول ما يبدو منها (14) في الطلوع، وهو أول ما يغيب منها، وقد تقدم مثل ذلك. &(2/365)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (2/58 رقم 581) في مواقيت الصلاة، باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، ومسلم (1/566 رقم 826) في صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نُهِي عن الصلاة فيها.
(2) أخرجه البخاري (2/61 رقم 586) في مواقيت الصلاة، باب لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس، و(3/63 رقم 1188) كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، و(3/73 رقم1864) كتاب جزاء الصيد، باب حج النساء، و(4/239 رقم1992) كتاب الصوم، باب صوم يوم الفطر، و(4/240 رقم 1995) كتاب الصوم، باب صوم يوم النحر، ومسلم (1/567 رقم 827) في صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نُهي عن الصلاة فيها.
(3) في (س): «السمش» رسمت كذا.
(4) في (ز) و(س): «مطلقًا».
(5) في (أ): «فيصلى».
(6) في (ح): «التلاوة» بدل: «القرآن».
(7) أخرجه البخاري( 2/58 رقم 582) في مواقيت الصلاة، باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، و(2/60 رقم585) كتاب مواقيت الصلاة، باب لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس، و(2/62 رقم589) كتاب مواقيت الصلاة، باب من لم يكره الصلاة إلا بعد العصر والفجر، و(3/68 رقم1192) كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب مسجد قباء، و(3/488 رقم1629) كتاب الحج، باب الطواف بعد الصبح والعصر، و(6/335 رقم3273) كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، ومسلم (1/567 رقم 828) في صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها.
(8) انظر مواضع البخاري في الحديث السابق، وأخرجه مسلم (1/568 رقم 829) في صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها.
(9) في (ح): «بصلواتكم».
(10) في (ب): «يسجد فيها الكفار للشمس».
(11) أي: حديث عمرو بن عبسة الآتي بعد ثلاثة أحاديث؛ برقم (694).
(12) في (ز) و(س): «فيها».
(13) قوله: «عند ذلك» ليس في (أ)، وفي (ز) رسمت هكذا: «عند لك».
(14) في (ز): «منه».(2/365)
407- وعَنْ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ (1) قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْعَصْرَ بِالْمُخَمَّصِ فَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ عُرِضَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَضَيَّعُوهَا، فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ، وَلا صَلاةَ بَعْدَهَا حَتَّى يَطْلُعَ الشَّاهِدُ »، وَالشَّاهِدُ: النَّجْمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في العصر: «فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ»: يُشعر بتأكُّدِها (2) على غيرها، وذلك مما يدلّ على أنها الصلاة الوسطى كما تقدم. وسُمِّيَ النجم شاهدًا؛ لأنه يشهد (3) بمغيب الشمس ودخول الليل.
408- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ (4) قَالَ: ثَلاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، أَوْ أَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَمِيلَ الشَّمْسُ، وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «ثَلاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، أَوْ أَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ (5) مَوْتَانَا»: رويت هذا اللفظ: «أَوْ (6) أَنْ (7) ») التي هي (8) لأحد الشيئين، ورويته أيضًا: بالواو الجامعة (9) ، وهو الأظهر، ويكون مورد النهي: الصلاة على الجنائز (10) والدفن؛ لأنه إنما يكون إثر الصلاة عليها، وأما رواية (11) : «أو» ففيها إشكال؛ إلا إن قلنا: إن «أو» كون بمعنى الواو؛ كما قاله الكوفي. وقد اختلف في الصلاة عليها في هذه الأوقات المذكورة في هذا الحديث: فأجاز الشافعي الصلاة عليها ودفنها في هذه الأوقات، وكره الجمهور الصلاة عليها حينئذٍ، وعن مالك في ذلك خلاف يُذكر في الجنائز إن شاء الله تعالى (12) .
وقوله: «وَحِينَ يَقُومُ (13) قَائِمُ الظَّهِيرَةِ»، الظهيرة: شدة الحر، وقائمها: =(2/458)=@ قائم الظل الذي لا يزيد ولا ينقص في رأي العين، وذلك يكون منتصف النهار، حين استواء الشمس. وقد اختلف في الصلاة في ذلك الوقت على ما يأتي في حديث عمرو بن عنبسة.
وقوله: «وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ»؛ أي: تميل للغروب (14) ، يقال: ضافت، تضيفُ؛ إذا مالت. وأصل الإضافة: الإسناد (15) والإمالة؛ كما قال الشاعر:
فلمَّا دَخَلْناه أَضَفْنا ظُهُورَنا ... إلى كل حاريٍّ جديدٍ مُشَطَّبِ (16)
&(2/366)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/568 رقم 830) في صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها.
(2) في (ز): «بتأكيدها».
(3) في (ب): «شهد».
(4) أخرجه مسلم (1/568 رقم 831) في صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها.
(5) في (س): «فيها».
(6) في (ب) و(ز) و(س): «بأو».
(7) قوله: «أن» ليس في (ب) و(س) و(ز).
(8) قوله: «هي» ليس في (س) و(ز).
(9) ورواية الواو هذه أخرجها أيضًا الإمام أحمد في "المسند" (4/152)، وابن حبان في "صحيحه" (4/413 رقم 1546/الإحسان).
(10) في (ح) و(ز) و(س): «الجنازة».
(11) في (أ): «رواه».
(12) قوله: «إن شاء الله تعالى» ليس في (س) و(ز).
(13) في (ح): «تقوم».
(14) قوله: «للغروب» ليس في (أ) و(س) و(ز).
(15) في (ب): «الاستناد».
(16) البيت لامرئ القيس، وأضفنا ظهورنا: أسندناها، والحاري: أي الرحال الحاريَّة المصنوعة بالحيرة، والمشطب: المخطط. انظر شرح "ديوان امرئ القيس" (ص56)، و"لسان العرب" (4/225).(2/366)
ومنه: ضفت فلانًا؛ إذا (1) نزلت به، وأضفته: أنزلته عليَّ.
409- وَعَنْ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِيُّ (2) قَالَ: كُنْتُ وَأَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ - أَظُنُّ أَنَّ النَّاسَ عَلَى ضَلالَةٍ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ، وَهُمْ يَعْبُدُونَ الأَوْثَانَ، قَالَ: فَسَمِعْتُ بِرَجُلٍ بِمَكَّةَ يُخْبِرُ أَخْبَارًا، فَقَعَدْتُ عَلَى رَاحِلَتِي، فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَخْفِيًا، جُرَءَاءُ عَلَيْهِ قَوْمُهُ، فَتَلَطَّفْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيَّهِ بِمَكَّةَ، قُلْتُ لَهُ: مَا أَنْتَ؟ قَالَ: «أَنَا نَبِيٌّ الله»، فَقُلْتُ: وَمَا نَبِيٌّ الله؟ قَالَ: «أَرْسَلَنِي الله »، فَقُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: «أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الأَرْحَامِ، وَكَسْرِ الأَوْثَانِ، وَأَنْ يُوَحَّدَ الله لا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ»، قُلْتُ: فَمَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: «حُرٌّ وَعَبْدٌ» (قَالَ: وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ أَبُو بَكْرٍ وَبِلالٌ مِمَّنْ آمَنَ مَعَهُ).
فَقال الشيخ رحمه الله: إِنِّي مُتَّبِعُكَ. قَالَ: «إِنَّكَ لا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ يَوْمَكَ هَذَا، أَلا تَرَى حَالِي وَحَالَ النَّاسِ؟ وَلَكِنِ ارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ، فَإِذَا سَمِعْتَ بِي قَدْ ظَهَرْتُ فَأْتِنِي » قَالَ: فَذَهَبْتُ إِلَى أَهْلِي، وَقَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ، وَكُنْتُ فِي أَهْلِي فَجَعَلْتُ أَتَخَبَّرُ الأَخْبَارَ، وَأَسْأَلُ النَّاسَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، حَتَّى قَدِمَ عَلَيَّ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةَ فَقال الشيخ رحمه الله: مَا فَعَلَ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي قَدِمَ الْمَدِينَةَ؟ فَقَالُوا: النَّاسُ إِلَيْهِ سِرَاعٌ، وَقَدْ أَرَادَقَوْمُهُ قَتْلَهُ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا ذَلِكَ ،
فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقال الشيخ رحمه الله: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتَعْرِفُنِي؟ قَالَ: «نَعَمْ أَنْتَ الَّذِي لَقِيتَنِي بِمَكَّةَ؟ » قَالَ فَقال الشيخ رحمه الله: بَلَى، فَقال الشيخ رحمه الله: يَا نَبِيَّ الله! أَخْبِرْنِي عَمَّا عَلَّمَكَ الله وَأَجْهَلُهُ، أَخْبِرْنِي عَنِ الصَّلاةِ؟ قَالَ: «صَلِّ صَلاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ، ثُمَّ صَلِّ، فَإِنَّ الصَّلاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلاةِ، فَإِنَّ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ، فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ، فَإِنَّ الصَّلاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ، حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ ». قَالَ فَقال الشيخ رحمه الله: يَا نَبِيَّ الله، فَالْوُضُوءَ؟
حَدِّثْنِي عَنْهُ. قَالَ: «مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ يُقَرِّبُ وَضُوءَهُ فَيَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ فَيَسْتنَثِرُ إِلا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ وَفِيهِ وَخَيَاشِيمِهِ، ثُمَّ إِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ كَمَا أَمَرَهُ الله إِلا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ إِلا خَرَّتْ خَطَايَا يَدَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ إِلا خَرَّتْ خَطَايَا رَأْسِهِ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ إِلا خَرَّتْ خَطَايَا رِجْلَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ، فَإِنْ هُوَ قَامَ فَصَلَّى، فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَمَجَّدَهُ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِلَّهِ إِلا انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ » .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول عمرو بن عبسة (3) : «كُنْتُ وَأَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَظُنُّ أَنَّ النَّاسَ عَلَى ضَلالَةٍ»؛ أي: أعلم وأتيقن، فإن الظن قد يطلق على اليقين؛ كما قال تعالى: {فظنوا (4) أنهم مواقعوها} (5) . =(2/459)=@
وقوله: «قَعَدْتُ عَلَى رَاحِلَتِي»؛ أي: ركبتها.
وقوله: «جُرَءَاءُ عَلَيْهِ قَوْمُهُ»؛ أي: مجترئون - من الجرأة -، وهو مرفوع على أنه خبر مقدم، وقومه مبتدأ، على مذهب البصريين.
وقوله: «مَا أَنْتَ؟» سؤال عمن يعقل.
وقوله: «وَمَا (6) نَبِيٌّ (7) الله؟» سؤال (8) عن النبوة، وهي (9) من جنس ما لا يعقل؛ لأنها معنى من المعاني.
وقوله: «فَمَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا؟» قال: «حُرٌّ وَعَبْدٌ»؛ الحر: أبو بكر، والعبد: بلال؛ كما فسَّره. ولم يذكر (10) له النبي - صلى الله عليه وسلم - عليًّا (11) - رضي الله عنه - لصغر سنه (12) ، فإنه أسلم وهو ابن سبع سنين، وقيل: ابن عشر (13) ، ولا خديجة؛ لأنه فهم (14) عنه أنه إنما سأله عن الرجال، فأجابه حسب ذلك. ويُشكل (15) هذا الحديث بحديث سعد بن أبي وقاص (16) ، فإنه قال: «ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام، وإني (17) لثلث الإسلام»، وظاهره أن أبا بكر وبلالاً رضي الله عنهما (18) أسلما في اليوم الذي أسلم فيه سعد، وأنه أقام سبعة أيام لم يسلم معهم الثلاثة أحد، وحينئذ يلزم (19) أن يكون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم جاءه عمرو بن عبسة (20) : أبوبكر وسعد وبلال، لكن سكت عنه =(2/460)=@ النبي - صلى الله عليه وسلم - أعني: عن سعد-، فلم يذكره: إما ذهولاً عنه، وإما لأن سعدًا لم يكن حاضرًا إذ ذاك بمكة، وإما لأمر (21) آخر (22) ، والله أعلم. وقد تقدم الكلام على قرني الشيطان في الإيمان، وعلى ما تضمنه من الأوقات فيها، وعلى تكفير الخطايا في الطهارة. &(2/367)&$
__________
(1) قوله: «إذا» من (ب) فقط.
(2) أخرجه مسلم (1/569 رقم832) في صلاة المسافرين، باب إسلام عمرو بن عبسة.
(3) في (س): «عنبسة».
(4) في (ب): «وظنوا».
(5) سورة الكهف، الآية: 53.
(6) في (ب): «ما».
(7) في (أ): «نهى».
(8) في (أ): «سؤل».
(9) في (ز): «فهي».
(10) في (ز) و(س): «يذكره».
(11) قوله: «عليَّا» ليس في (ز) و(س).
(12) في (ب) و(ح): «لصغره».
(13) قوله: «ابن» ليس في (أ).
(14) في (أ): «إنما فهم».
(15) في (ز) و(س): «يُشكل» بلا واو.
(16) أخرجه البخاري (7/83، 170 رقم3726، 3727، 3858) في فضائل الصحابة، باب مناقب سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - ، وفي مناقب الأنصار، باب إسلام سعد بن أبي وقاص.
(17) قوله: «وإني» غير واضحة في (ز).
(18) في (أ) و(ز) و(س): «أن بلالاً وأبا بكر».
(19) في (أ): «فيلزم» .
(20) في (ز) و(س): «عنبسة».
(21) في (أ): «لصارف».
(22) الأقرب - والله أعلم- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «حر وعبد » وليس مراده العدّ، وإنما ذكر الجنس؛ أي: أن من معي إما حر، أو عبد. وفهمها عمرو بن عبسة على أنها للعدّ؛ أي: هما اثنان حر وعبد.(2/367)
وقوله: «إِنِّي مُتَّبِعُكَ»، معناه: أصحبك، وأكون معك في موضعك،
ولذلك أجابه بقوله: «إِنَّكَ لا تَسْتَطِيعُ يَوْمَكَ هَذَا»، ولم يرد عليه إسلامه، وإنما ردّ عليه كونه معه.
وقوله: «فَإِذَا (1) سَمِعْتَ أَني (2) قَدْ ظَهَرْتُ»؛ أي: علوت وغلبت (3) ، وهذا من إخباره بالغيب، فهو داخل في باب دلالات نبوته - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه أخبر بغيب (4) وقع على نحو ما أخبر (5) ، وهذا معنى قوله تعالى: {ليظهره (6) على الدين كله} (7) ؛ أي: ليعليه (8) . &(2/368)&$
__________
(1) في (ح): «فأي».
(2) في (ب): «سمعت بي».
(3) في (أ): «وعليت».
(4) في (ب): «عن غيب».
(5) في (ح): «ما أخبر عنه».
(6) في (ح): «لتظهره».
(7) سورة التوبة، الآية: 33، سورة الفتح، والآية: 28.
(8) في (أ): «ليغلبه»، وفي (ح): «لعيليه»، وفي (س): «ليعلمه»، وفي (ز) تشبه: «ليعلم»، والمثبت في (أ).(2/368)
وقوله: «أَخْبِرْنِي عَنِ الصَّلاةِ»: سؤال عن تعيين (1) الوقت الذي يجوز النفل (2) فيه (3) من الوقت الذي لا يجوز، وإنما قُلنا لك؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - فَهِم عنه (4) ذلك، فأجابه به، =(2/461)=@ ولو كان سؤاله عن (5) غير ذلك لما كان يكون جوابه مطابقًا للسؤال.
وقوله: «أَقْصِرْ»؛ أي: كف. و «تُسَجَّر»؛ أي: تملأ، ومنه: {البحر المسجور}؛ أي (6) : المملوء. واسم «إن» محذوف، وهو ضمير الأمر والشأن. تقديره: فإنه حينئذٍ؛ كما قال الشاعر:
إن من يدخل الكنيسة يومًا (7)
أي: إنه من يدخل (8) ، ويجوز إثباته؛ كما قال تعالى: {إنه من يأت ربه مجرمًا} (9) .
وقوله: «حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ»؛ أي: يكون ظلُّه قليلاً، كأنه قال: حتى يقل ظل الرمح، والباء زائدة؛ كما قال تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم} (10) . وقد رواه أبو داود (11) ، فقال: «حتى يعدل الرمح ظله ». قال الخطابي: هذا إذا قامت الشمس، وتناهى قصر الظل. وقد روى الخشني لفظ «كتاب مسلم»: «حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ»؛ أي: يقوم، ولا تظهر زيادته. وفيه حجة لمن منع الصلاة حينئذ، وهم أهل الرأي، وقد روي عن مالك، ومشهور مذهبه ومذهب جمهور العلماء: جواز الصلاة حينئذٍ، وحجتهم: عمل المسلمين في &(2/369)&$
__________
(1) في (ب): «نفس».
(2) في (ح): «التنفل».
(3) في (ب) جاءت العبارة هكذا: «يجوز فيه النفل فيه».
(4) في (أ): «عند».
(5) في (أ): «على».
(6) قوله: «أي» ليس في (ب) و(س) و(ز).
(7) وتمامه: «يَلْقَ فيها جآذرًا وظِبَاء». والجآذِر: أولاد البقر الوحشيّ، كما في "لسان العرب" (4/124). وينسب إلى الأخطل، انظر شرح "ديوانه" تحقيق الدكتور قباوة (ص511).
(8) قوله: «يدخل» ليس في (ح) و(س) و(ز).
(9) سورة طه، الآية: 74.
(10) سورة الحج، الآية: 25.
(11) في "سننه" (2/56-57 رقم1277) في كتاب الصلاة، باب من رخص فيهما إذا كانت الشمس مرتفعة.(2/369)
جميع الأقطار (1) على جواز التنفُّل يوم الجمعة إلى صعود الإمام على المنبر عند الزوال. قال القاضي أبو الفضل عياض (2) : وتأوّل الجمهور الحديث: على أنه منسوخ بإجماع عمل الناس، أو يكون المراد به: الفريضة، ويكون موافقًا لقوله (3) : «إذا اشتد الحرّ فأبردوا عن =(2/462)=@ الصلاة (4) ، فإن شدة الحر من فيح جهنم » (5) .
قال الشيخ رحمه الله: وفي (6) هذا نظر، وهو: أنه لا يصحّ أن يكون نسخًا على حقيقته، وإنما هو تخصيص، فإنه إخراج بعض ما تناوله اللفظ الأول، لا رفع لكلية ما تناوله (7) . وأما (8) قولهم: إن هذا في الفريضة؛ فليس بصحيح لوجهين:
أحدهما: أن مقصود هذا الحديث: بيان الوقت الذي يجوز فيه التنفل من الوقت (9) الذي لا يجوز فيه؛ كما قررناه آنفًا. &(2/370)&$
__________
(1) في (ح): «الأمصار».
(2) قوله: «عياض» ليس في (ب) و(س) و(ز).
(3) في (ب) تشبه أن تكون: «بقوله».
(4) في (ح): «بالصلاة».
(5) تقدم برقم (492) في باب الإبراد بالظهر في شدة الحر.
(6) في (ب): «ففي».
(7) في (ح): «يتناوله».
(8) في (ب): «فأما».
(9) في (ح): «والوقت».(2/370)
وثانيهما: حديث عقبة بن عامر المتقدم، فإنه قال فيه: «ثلاث ساعات نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصلّي فيهن»، وذكر هذا الوقت فيها (1) ، ومقصوده قطعًا: بيان حكم النفل (2) في هذه الأوقات، فالظاهر: حمل النهي على منع التنفل في هذه الأوقات الثلاثة؛ إلا في يوم الجمعة؛ جمعًا بين الأحاديث والإجماع المحكي، والله أعلم.
وقوله (3) : «خَرَّتْ خَطَايَا»: رواية أكثرهم بالخاء المعجمة؛ أي: سقطت، وهو كناية عن مغفرة الذنوب. وعند أبي جعفر: «جرت » بالجيم في الأول (4) ، وقد رويناه بالجيم (5) في جميعها، ومعناه صحيح؛ كما قال: «خرجت خطاياه مع الماء » (6) . =(2/463)=@
وقوله: «وَفَرَّغَ (7) قَلْبَهُ لِلَّهِ (8) »)؛ أي: مما يشغله عن الصلاة؛ كما قال: «لا يحدث فيها (9) نفسه » (10) .
وقوله: «إِلا انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ (11) يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»؛ أي: لا يبقى عليه شيء،لا كبيرة ولا صغيرة؛هذا ظاهره.وقد بينا هذا المعنى في الطهارة (12) .
( 121 ) باب في الركعتين بعد العصر
410- عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ (13) : أَنَّ عَبْدَ الله بْنَ عَبَّاسٍ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ ابْنَ أَزْهَرَ، وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَرْسَلُوهُ إِلَى عَائِشَةَ زَوْجِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: اقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلامَ مِنَّا جَمِيعًا، وَسَلْهَا عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَقُلْ: إِنَّا أُخْبِرْنَا أَنَّكِ تُصَلِّينَهُمَا، وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْهُمَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكُنْتُ أَصْرفُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ النَّاسَ عَنْهُمَا، قَالَ كُرَيْبٌ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهَا وَبَلَّغْتُهَا مَا أَرْسَلُونِي بِهِ، فَقَالَتْ: سَلْ أُمَّ سَلَمَةَ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ فَأَخْبَرْتُهُمْ بِقَوْلِهَا، فَرَدُّونِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ بِمِثْلِ مَا أَرْسَلُونِي بِهِ إِلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَى عَنْهُمَا، ثُمَّ رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهِمَا، أَمَّا حِينَ صَلاهُمَا فَإِنَّهُ صَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ دَخَلَ عليَّ وَعِنْدِي نِسْوَةٌ مِنْ بَنِي حَرَامٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَصَلاهُمَا، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ الْجَارِيَةَ فَقال الشيخ رحمه الله: قُومِي بِجَنْبِهِ فَقُولِي لَهُ: تَقُولُ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي أَسْمَعُكَ تَنْهَى عَنْ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ، وَأَرَاكَ تُصَلِّيهِمَا؟ فَإِنْ أَشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأْخِرِي عَنْهُ، قَالَ: فَفَعَلَتِ الْجَارِيَةُ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأْخَرَتْ عَنْهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «يَا بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ، سَأَلْتِ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، إِنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ بِالإِسْلامِ مِنْ قَوْمِهِمْ فَشَغَلُونِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، فَهُمَا هَاتَانِ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الركعتين بعد العصر
قوله (14) : «كُنْتُ أَصْرفُ (15) مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - النَّاسَ عَنْهُمَا (16) »): هذه رواية السمرقندي، ومعناه: أمنع. ورواه (17) أكثر الرواة: «أضرب» من الضرب، &(2/371)&$
__________
(1) قوله: «فيها " ليس في (ح).
(2) في (ب): «التنفل».
(3) في (ب): «قوله».
(4) في (ح): «الأولى».
(5) في (ز) و(س): «بالجميع».
(6) تقدم في الطهارة، باب فضل تحسين الوضوء رقم (172).
(7) في (س): «قرغ»، وفي (ز): «وقرع» بالعين المهملة.
(8) في (أ): «إلى».
(9) في (ح): «فيهما».
(10) تقدم في الطهارة، باب في صفة الوضوء رقم (163).
(11) قوله: «في» ليس في (أ).
(12) زاد بعدها في (ز): «والله أعلم».
(13) أخرجه البخاري (3/105 رقم1233) كتاب السهو، باب إذا كلم وهو يصلي فأشار بيده واستمع، و(8/86 رقم4370) كتاب المغازي، باب وفد عبد قيس، ومسلم (1/571 رقم 834) في صلاة المسافرين، باب معرفة الركعتين اللتين كان يصليهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد العصر.
(14) في (أ): «وقوله».
(15) في (ح): «أضرب».
(16) في (ز): «عنها».
(17) في (ب): «ورواية».(2/371)
ويحتمل (1) أن =(2/464)=@ يكون هذا مثل: «أصرف»؛ أي: أمنع؛ من الضرب على اليد، ويحتمل أن يكون من الضرب بالدِّرَّة تأديبًا. وقد جاء ما يعضد هذا في "الموطأ" (2) : أن عمر - رضي الله عنه - كان يضرب بالدِّرَّة على الصلاة في هذا الوقت، وهو معلوم من فعله - رضي الله عنه - ، وإنما كان عمر - رضي الله عنه - يمنع من ذلك؛ للنهي الوارد في ذلك، وهذا القول صادر عن كريب.
411- وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ (3) أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنِ السَّجْدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الْعَصْرِ؟ فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّيهِمَا قَبْلَ الْعَصْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ شُغِلَ عَنْهُمَا أَوْ نَسِيَهُمَا، فَصَلاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، ثُمَّ أَثْبَتَهُمَا، وَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلاةً أَثْبَتَهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من فعله لهما على ما في حديث أم سلمة رضي الله عنها؛ فقد ذكرت أم سلمة القضية، وتممتها عائشة رضي الله عنها بقولها: «ثُمَّ أَثْبَتَهُمَا (4) ،وَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلاةً أَثْبَتَهَا»، وقد روى أبو داود (5) عن عائشة أنها قالت: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُواصل وينهى (6) عن الوصال، ويصلّي بعد العصر، وينهى عنها»، وهذا نصٌ جليٌ في =(2/465)=@ خصوصيته - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فلا ينبغي لأحد أن يصلّي في هذه الأوقات المنهي عنها نفلاً &(2/372)&$
__________
(1) في (أ): «ويحمل».
(2) (1/221 رقم50) في القرآن، باب النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر، عن ابن شهاب، عن السائب بن يزيد: أنه رأى عمر بن الخطاب يضرب المنكدر في الصلاة بعد العصر.
(3) أخرجه البخاري (2/64 رقم 590، 591، 592، 593) كتاب مواقيت الصلاة، باب ما يصلَّى بعد العصر من الفوائت ونحوها، و(3/488 رقم1631) كتاب الحج، باب الطواف بعد الصبح والعصر، ومسلم (1/572 رقم 835) في صلاة المسافرين، باب معرفة الركعتين اللتين كان يصليهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد العصر.
(4) في (ب) و(ح): «أثبتها».
(5) في "سننه" (2/59 رقم1280) في الصلاة، باب من رخص فيها إذا كانت الشمس مرتفعة، من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن ذكوان مولى عائشة؛ أنها حدثته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بعد العصر وينهى عنها، ويواصل وينهى عن الوصال. قال الشيخ الألباني رحمه الله في "الضعيفة" (2/351-352 رقم 945): «وهذا سند ضعيف؛ رجاله ثقات كلهم، لكن ابن إسحاق مدلِّس وقد عنعنه، وقد صح ما يعارض حديثه هذا، وهو ما أخرجه أحمد (6/125) عن المقدام بن شريح، عن أبيه، قال: سألت عائشة عن الصلاة بعد العصر، فقالت: صلّ، إنما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قومك أهل اليمن عن الصلاة إذا طلعت الشمس.
قال الشيخ رحمه الله: وسنده صحيح على شرط مسلم. ووجه المعارضة واضح منه، وهو قولها: «صل»، فلو كان عندها علم بالنهي الذي رواه ابن إسحاق عنها لما أفتت بخلافه إن شاء الله تعالى، بل قد ثبت عنها أنها كانت تصلي بعد صلاة العصر ركعتين. أخرجه البخاري (3/82)، ومسلم (2/210). فهذا كله يدل على خطأ حديث ابن إسحاق ونكارته. وهذا من جهة الصلاة، وأما من حيث الوصال؛ فالنهي عنه صحيح ثابت في "الصحيحين" وغيرهما عن غير واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ». اهـ.
وقول الشيخ: «بل قد ثبت عنها أنها كانت تصلي بعد صلاة العصر» يشير إلى أحاديث الباب هنا.
(6) في (أ): «ونهى».(2/372)
مبتدأً.
قال الشيخ: ويظهر لي أن النهي عن الصلاة في هذا الوقت، هو ذريعةٌ لئلا تُوقَعَ (1) الصلاة في الوقت الذي إذا صَلَّى فيه قارن (2) فعلُه فعل الكفار، ووقع التشابه بينهم، فإذا أُمِنَتِ (3) العّلةُ التي لأجلها نهى عن الصلاة فيه؛ جاز ذلك؛ كما فعلته عائشة رضي الله عنها، وكما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - على قول (4) من لا يرى خصوصيته بذلك، لكن عموم المنع في الوقت كلّه أدفع للذريعة، وأسدُّ للباب، فيمنع مطلقًا، والله أعلم.
412- وَعَنْهُمَا (5) قَالَتْ: صَلاتَانِ مَا تَرَكَهُمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَيْتِي قَطُّ، سِرًّا وَلا عَلانِيَةً: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول عائشة رضي الله عنها في الركعتين بعد العصر: «إِنَّ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَا تَرَكَهُمَا في بَيْتِهَا قطٌ»؛ تعني: من الوقت الذي شغل عن الركعتين بعد الظهر، فقضاهما بعد العصر، ثم إنه (6) دام عليهما، فأخبرت هنا (7) عن الدوام، وإلا فقبلَ أن يفعلَ هذا لم يكن يُصليهما بعد العصر، وبهذا يتفق الجمع بين أحاديثها (8) في هذا الباب، والله تعالى أعلم.
وفي هذا الحديث أبواب من الفقه لا تخفى (9) . =(2/466)=@ &(2/373)&$
__________
(1) في (ز) و(س): «يوقع».
(2) في (ز) و(س): «فإن» بدل «قادن».
(3) في (س): «أفنيت»، وفي (ز): «فهمت».
(4) قوله: «قول» ليس في (ح).
(5) انظر تخريج الحديث السابق.
(6) قوله: «إنه» ليس في (ح).
(7) في (ح): «بها» بدل: «هنا».
(8) قوله: «بين أحاديثها» ليس في (أ).
(9) بعدها في (ز): «والله أعلم».(2/373)
( 122 ) باب الركوع بعد الغروب وقبل المغرب
413- عَنْ مُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ (1) قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الْعَصْرِ؟ فَقَالَ: كَانَ عُمَرُ يَضْرِبُ بِالأَيْدِي عَلَى صَلاةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَكُنَّا نُصَلِّي عَلَى عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَبْلَ صَلاةِ الْمَغْرِبِ، فَقُلْتُ لَهُ: أَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلاهُمَا؟ قَالَ: كَانَ يَرَانَا نُصَلِّيهِمَا، فَلَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا.
414- وَعَنْهُ (2) قَالَ: كُنَّا بِالْمَدِينَةِ فَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ لِصَلاَةِ الْمَغْرِبِ ابْتَدَرُوا السَّوَارِيَ، فَرْكَعُواَ رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ الْغَرِيبَ لَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيَحْسِبُ أَنَّ الصَّلاةَ صُلِّيَتْ مِنْ كَثْرَةِ مَنْ يُصَلِّيهِمَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الركوع بعد الغروب
ظاهر حديث أنس - رضي الله عنه - : أن الركعتين بعد غروب الشمس وقبل صلاة المغرب كان أمرًا قرّر (3) النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عليه. وأنهم عملوا بذلك، وتظافروا (4) عليه، حتى كانوا يبتدرون السواري لذلك (5) . وهذا يدلُّ على الجواز (6) وعدم الكراهية، بل على (7) الاستحباب؛ لاسيّما مع قوله - صلى الله عليه وسلم - (8) : «بين كل أذانين صلاة ». وإلى جواز ذلك ذهب كثير من السلف، وأحمد، وإسحاق، وروي عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي (9) وجماعة من الصحابة - صلى الله عليه وسلم - : أنهم (10) كانوا لا يصلونها، وهو قول مالك والشافعي. وقال النخعي: هي بدعة، وكأنه لم يبلغه حديث أنس. قال ابن أبي صفرة: وصلاتُها كان في أول (11) الإسلام ليتبَّين للناس (12) خروج الوقت المنهي عنه بمغيب الشمس، ثم التزم الناس (13) المبادرة بالمغرب؛ لئلا يتباطأ الناس عن وقت الفضيلة للمغرب، وقد يُقال: لأن وقتها (14) واحد؛ على قول أكثر &(2/374)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/573 رقم 837) في صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتين قبل صلاة المغرب.
(2) أخرجه البخاري (1/577 رقم 503) كتاب الصلاة، باب الصلاة إلى الإسطوانة، و(2/106 رقم 625) كتاب الأذان، باب كم بين الأذان والإقامة، ومسلم (1/573 رقم 837) كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتين قبل صلاة المغرب.
(3) في قوله: «قرر» غير واضح في (س).
(4) كذا في الأصول، وهو بمعنى تضافر، فيقال: تضافر القوم على فلان، وتظافروا عليه، وتظاهروا؛ بمعنى واحد كله: إذا تعاونوا وتجمعوا عليه. انظر "لسان العرب" (4/490).
(5) في (س): «عليه لذلك».
(6) في (س): «الجوار».
(7) قوله: «الجواز وعدم الكراهية بل على» ليس في (ح).
(8) في الحديث بعد الآتي.
(9) أخرج عبدالرزاق (2/435) عن الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، قال: لم يصل أبو بكر ولا عمر ولا عثمان الركعتين قبل المغرب.
قال ابن حزم في "المحلى" (2/254): «وهذا لا شيء، أَوَّل ذلك: أنه منقطع؛ لأن إبراهيم لم يدرك أحدًا ممن ذكرناه، ولا وُلد إلا بعد قتل عثمان بسنين، ثم لو صح لما كانت فيه حجة؛ لأنه ليس فيه أنهم - صلى الله عليه وسلم - نهوا عنها، ولا أنهم كرهوهما». اهـ.
وقال الحافظ في "الفتح" (2/108): «وهو منقطع، ولو ثبت لم يكن فيه دليل على النسخ ولا الكراهة». اهـ.
بل ورد عن بعضهم خلاف هذا: فقد أخرج البيهقي في "سننه الكبرى" (2/476.طريق ابن أبي مريم، عن يحيى بن أيوب، عن ابن طاوس، عن أبيه: أن أبا أيوب الأنصاري الذي نزل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى مع أبي بكر بعد غروب الشمس قبل الصلاة، ثم لم يكن يصلي مع عمر - رضي الله عنه - ، ثم صلى مع عثمان - رضي الله عنه - ، فذكر ذلك له، فقال: إني صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم صليت مع أبي بكر، وفرِقت من عمر فلم أصل معه، وصليت مع عثمان - رضي الله عنه - : إنه لين، وكان عمر - رضي الله عنه - لا يراهما، فلم يصلهما أبو أيوب معه، وصلاهما مع عثمان - رضي الله عنه - .
وفي سنده: يحيى بن أيوب، الغافقي: صدوق ربما أخطأ؛ كما في "التقريب" (7561)، ولم أجد من نصّ على سماع طاوس من أبي أيوب الأنصاري، وإن كان سماعه منه محتمل، فوفاة طاوس: قيل: سنة ست ومائة، وله بضع وسبعون سنة، وكانت ولادته في خلافة عثمان، أو قبل ذلك. ووفاة أبي أيوب: قيل: إحدى وخمسين، وقيل: اثنتين وخمسين، وقيل: سنة خمس وخمسين، وقيل: سنة خمسين. وأما الرواية عن علي فلم أجدها.
(10) قوله: «أنهم» ليس في (ز).
(11) من قوله: «وكأنه لم يبلغه...» إلى هنا سقط في (ز)
(12) قوله: «للناس» ليس في (ب) و(ح) و(س) و(ز).
(13) في (ز) و(س): «الناظر» بدل «الناس».
(14) في (ح): «وقتهما».(2/374)
العلماء، ولا خلاف بينهم في أن المبادرة بها وإيقاعها في أول وقتها أفضل، وتجويز الاشتغال بغيرها في ذلك الوقت ذريعة إلى مخالفة (1) ذلك. =(2/467)=@
415- وعَنْ عَبْدِ الله بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ (2) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلاةٌ » قَالَهَا ثَلاثًا، قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: «لِمَنْ شَاءَ ».
وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ فِي الرَّابِعَةِ: «لِمَنْ شَاءَ ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلاةٌ»؛ يعني: الأذان والإقامة، وغَلب عليها (3) اسم الأذان؛ لأن فيها إعلامًا بالشروع في الصلاة، ووجه هذا الحديث: أنه (4) إذا أُذِّنَ للصلاة (5) فقد خرج وقت النهي، فتجوز الصلاة حينئذٍ، والله تعالى أعلم (6) .
( 123 ) باب صلاة الخوف
416- عَنِ ابْنِ عُمَرَ (7) قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلاةَ الْخَوْفِ، بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً، وَالطَّائِفَةُ الأُخْرَى مُوَاجِهَةُ الْعَدُوِّ، ثُمَّ انْصَرَفُوا، وَقَامُوا فِي مَقَامِ أَصْحَابِهِمْ، مُقْبِلِينَ عَلَى الْعَدُوِّ، وَجَاءَ أُولَئِكَ، ثُمَّ صَلَّى بِهِمُ النبي - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَضَى هَؤُلاءِ رَكْعَةً، وَهَؤُلاءِ رَكْعَةً.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَإِذَا كَانَ خَوْفٌ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَصَلِّ رَاكِبًا أَوْ قَائِمًا، تُومِئُ إِيمَاءً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب صلاة الخوف
قولنا: صلاة الخوف: هي الصلاة المعهودة تحضر والمسلمون مُتعرّضون (8) لحرب العدو (9) ، وقد اختلف العلماء: هل للخوف تأثير في تغيير الصلاة المعهودة =(2/468)=@ عن (10) أصل مشروعيتها المعروفة (11) أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنه للخوف تأثير (12) في تغيير الصلاة، على ما يأتي تفصيل مذاهبهم. وذهب أبو يوسف إلى أنه لا تُغيَّرُ &(2/375)&$
__________
(1) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): «خلاف».
(2) أخرجه البخاري (3/59 رقم1183) كتاب التهجد، باب الصلاة قبل المغرب، و(13/ 337 رقم7368) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التحريم إلا ما تعرف إباحته، ولفظ البخاري: « صلوا قبل المغرب »، قال في الثالثة: «لمن شاء »؛ خشية أن يتخذها الناس سنة، ومسلم (1/573 رقم738) كتاب صلاة المسافرين، باب بين كل أذانين صلاة.
(3) في (ز) و(س): «عليه».
(4) قوله: «أنه» ليس في (أ).
(5) في (أ): «الصلاة».
(6) قوله: «والله تعالى أعلم» سقط من (ز)، ولم يتضح في (س).
(7) أخرجه البخاري ( 2/429، 431 رقم 942، 943) في الخوف، باب صلاة الخوف، وباب صلاة الخوف رجالاً وركبانًا، و(7/422 رقم4132) كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع، و(8/199 رقم4535) كتاب التفسير، باب: { فإن خفتم فرجالاً أو ركبانًا }، ومسلم (1/574 رقم 839) في صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف.
(8) في (أ): «لصلاة».
(9) قوله: «العدو» ليس في (أ).
(10) في (أ): «على».
(11) في (ح): «المعهودة».
(12) في (ب): «إلى أن للخوف تأثيرًا».(2/375)
الصلاة لأجل الخوف اليوم، قال: وإنما كان التغيير المروي في ذلك، والذي دل (1) عليه القرآن، خاصًّا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، مستدلاًّ بخصوصية خطابه تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله (2) : {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} (3) ، قال (4) : فإذا (5) لم يكن فيهم لم تكن صلاة الخوف. وهذا لا حجة (6) فيه لثلاثة أوجه:
أحدها: أنا قد أُمرنا باتباعه، والتأسِّي به، فيلزم اتباعه مطلقًا؛ حتى يدلّ دليل واضح على الخصوص، ولا يصلح ما ذكره دليلاً على ذلك، ولو (7) كان مثل ذلك دليلاً على الخصوصية؛ للزم قصر الخطابات على من توجهت له، وحينئذ يلزم أن تكون الشريعة قاصرةً على من خوطب بها. لكن قد تقرر بدليل إجماعي أن حُكْمَه على الواحد حُكمه على الجماعة (8) ، وكذلك ما يخاطب هو به؛ كقوله تعالى : { فإن كنت في شك} (9) ، و{ ياأيها النبي حسبك الله } (10) ، ونحوه كثير .
وثانيها: أنه قد (11) قال - صلى الله عليه وسلم - : «صلوا كما رأيتموني أصلي» (12) .
وثالثها: أن الصحابة - رضي الله عنه - اطَّرحوا توهُّم الخصوص في هذه الصلاة، وعَدَّوهُ إلى غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهم أعلم بالمقال، وأقعد بالحال، فلا يُلتفت إلى قول من ادعى الخصوصية. =(2/469)=@ &(2/376)&$
__________
(1) قوله: «دل» ليس في (ح).
(2) في (ب): «لقوله».
(3) سورة النساء، الآية: 102.
(4) قوله: «قال» ليس في (ز) و(س).
(5) في (ب): «فإن».
(6) في (ز) و(س): «لا حجة له فيه».
(7) في (س): «ولو يصلح»، وفي (ز): «ولو كان يصلح في مثل».
(8) في (ح) و(ز) و(س): «الجميع».
(9) سورة يونس، الآية: 94.
(10) سورة الأنفال، الآية : 64.
(11) قوله: «قد» ليس في (ب).
(12) أخرجه البخاري (2/111 رقم631) في الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة، و(10/437-438 رقم6008) في الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، و(13/231 رقم7246) في أخبار الآحاد، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق .(2/376)
ثم اختلف الجمهور في كيفية صلاة الخوف على أقوال كثيرة؛ لاختلاف الأحاديث المروية في ذلك، فلنذكر تلك (1) الأحاديث، ونذكر مع كل حديث من قال به إن وجدنا ذلك إن شاء الله. فلنبدأ من ذلك بالحديث الأول: وهو حديث ابن عمر رضي الله عنهما، ومضمونه: أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بإحدى الطائفتين ركعة، والأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا، وقاموا مقام أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء (2) أولئك، وصلى بهم ركعة، ثم سلَّم، فقضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة، وبه أخذ الأوزاعي وأشهب، وحُكي عن الشافعي. واختلفوا (3) في تأويل قضائهم: فقيل: قضوا معًا، وهو تأويل ابن حبيب، وعليه حمل قول أشهب. وقيل: قضوا مفترقين (4) ؛ مثل حديث ابن مسعود (5) ، وهذا (6) المنصوص لأشهب.
الحديث الثاني: حديث جابر - رضي الله عنه - وذلك أن - صلى الله عليه وسلم - صفهم صفين خلفه - والعدو بينهم وبين القبلة -، وصلى بهم جميعهم صلاة واحدة، لكنه لَمَّا سجد سجد معه الصف (7) الذي يليه، وقام الصف المؤخر يحرسونهم (8) ، ثم تقدموا وتأخر المقدم، ثم عملوا بالركعة (9) الثانية كما فعلوا في الأولى. ونحوه حديث ابن عباس رضي الله عنهما (10) . وبهذا قال ابن أبي ليلى، وأبو يوسف في قولٍ له: إذا كان العدوّ في القبلة، وروي عن الشافعي، واختاره بعض أصحابه وأصحابنا. &(2/377)&$
__________
(1) قوله: «تلك» ليس في (ب).
(2) في (ز) و(س): «وجاؤوا».
(3) في (ب) و(ج) و(ز) و(س): «واختلف».
(4) في (س): «مقتربين»، وفي (ز): «معترفين».
(5) سيذكره المصنف بتمامه برقم (ص660)، ويأتي تخريجه هناك.
(6) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): «وهو».
(7) في (ح): «الصف الأول».
(8) قوله: «يحرسونهم» ليس في (ح) و(ز) و(س)، وفي (أ): «وقاموا»، والمثبت من (ب).
(9) في (أ) و(ز): «في الركعة».
(10) أخرجه البخاري في صلاة الخوف من "صحيحه" (2/433 رقم944)، باب يحرس بعضهم بعضًا في صلاة الخوف.(2/377)
الحديث الثالث: حديث سهل بن أبي حَثْمَة (1) - رضي الله عنه - (2) ؛ وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بالطائفة الأولى ركعة، ثم ثبت قائمًا، فأتَمُّوا لأنفسهم، ثم انصرفوا، وصفوا (3) وجاه العدوّ، =(2/470)=@ وجاءت (4) الطائفة الأخرى، فصلى بهم (5) ركعةً، ثم ثبت جالسًا حتى أتَمُّوا، ثم سلّم بهم. ونحوه حديث صالح (6) ، وبهذا قال مالك والشافعي وأبو ثور.
الحديث الرابع: حديث أبي سلمة (7) عن جابر: أنه صلى أربع ركعات، بكل (8) طائفة ركعتين، وهو اختيار الحسن، وذُكر عن الشافعي، ورواه غير مسلم من طريق أبي بكرة (9) وجابر (10) . وأنه سلم من كل ركعتين. قال الطحاوي: إنما كان هذا في أول الإسلام؛ إذ كان يجوز أن تُصلى الفريضة مرتين، ثم نُسخ ذلك.
الحديث الخامس: رواه أبو هريرة (11) وابن مسعود (12) رضي الله عنهما: أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بالطائفة التي وراءه ركعة، ثم انصرفوا، ولم يسلموا، فوقفوا بإزاء العدوّ، وجاء الآخرون، فصلى بهم ركعة (13) ، ثم سلم، فقضى هؤلاء ركعتهم، ثم سلموا، وذهبوا، فقاموا مقام أولئك، ورجع أولئك فصلوا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا. والفرق (14) بين هذه الرواية ورواية ابن عمر رضي الله عنهما: أن ظاهر (15) قضاء أولئك في حديث ابن عمر في حالة واحدة، ويبقى الإمام كالحارس وحده، وها هنا قضاؤهم متفرق على صفة صلاتهم، وقد تأوّل بعضهم حديث ابن عمر على ما في حديث ابن مسعود، وبهذا أخذ أبوحنيفة وأصحابه، إلا أبا يوسف، وهو نص (16) قول أشهب من أصحابنا؛ خلاف ما تأوّل عليه ابن حبيب.
الحديث السادس: ذكره أبو داود (17) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - : أنه - صلى الله عليه وسلم - كبّر وكبّر (18) =(2/471)=@ معه الصفّان جميعًا، وفيه: أن الطائفة الثانية لَمَّا صلت معه ركعةً وسلم؛ رجعت (19) إلى مقام أصحابهم، وجاءت الطائفة الأولى فصلّوا ركعة لأنفسهم، فرجعوا إلى مقام أصحابهم، وأتم أولئك لأنفسهم. &(2/378)&$
__________
(1) في (ز): «خثمة».
(2) وهو رقم (418) أحاديث التلخيص.
(3) في (ح): «فصلوا».
(4) في (ب): «فجاءت».
(5) في (ب): «معهم».
(6) أي: ابن خوَّات.
(7) وهو رقم (420) أحاديث التلخيص.
(8) في (ب): «لكل».
(9) أخرجه أحمد (5/39، 49)، وأبو داود (2/40-41 رقم1248) في الصلاة، باب من قال: يصلي بكل طائفة ركعتين، والنسائي (2/103 رقم836) في الإمامة، باب اختلاف نية الإمام والمأموم، و(3/178، 179رقم1551، 1555) في صلاة الخوف، وابن حبان (7/ 135-136 رقم2881-الإحسان)، والطحاوي(1/315)، والدارقطني(2/61)، والبيهقي (3/ 259-260). جميعهم من طريق أشعث بن عبدالملك الحمراني، عن الحسن، عن أبي بكرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفّهم صفين، فصلى ركعتين بالصف الذي يليه، ثم سلم، وتأخروا، وتقدم الآخرون، فصلى بهم ركعتين، ثم سلم فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع ركعات، وللمسلمين ركعتين ركعتين. وهذا سند رجاله ثقات، وصححه الزيلعي في نصب الراية (2/246).
(10) حديث جابر هو المذكور في "التلخيص" هنا برقم (420)، وهو عند مسلم من طريق أبي سلمة عن جابر، وليس فيه ذكر أنه - صلى الله عليه وسلم - سلّم من كل ركعتين. ورواه أيضًا سليمان بن قيس اليشكري عن جابر، ورواه عن سليمان اثنان؛ وهما: أبو بشر جعفر بن إياس وقتادة.
وأما رواية أبي بشر، فأخرجها الإمام أحمد في "المسند" (3/364-365، 390)، وأبو يعلى في "مسنده" (3/312-313رقم1778)، وعنه ابن حبان(7/138-139رقم2883/الإحسان)، وأخرجها الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/315)، جميعهم من طريق أبي عوانة، عن أبي بشر، عن سليمان، عن جابر، به بنحو سياق مسلم، ليس فيه ذكر السلام من كل ركعتين.
وأما رواية قتادة، فأخرجها ابن جرير في "تفسيره" (9/132 رقم10325)، وابن حبان في "صحيحه" (7/136-137 رقم2882/الإحسان)، أما ابن جرير فمن طريق محمد بن بشار، وأما ابن حبان فمن طريق إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، كلاهما عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، به مثل سابِقه ليس فيه ذكر للسلام من كل ركعتين.
وشذّ يزيد بن سنان، فرواه عن معاذ بن هشام، فخالف محمد بن بشار وإسحاق بن راهويه، فذكر السلام من كل ركعتين.
أخرج هذه الرواية الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/317).
(11) السياق الذي ذكره المصنف هو سياق حديث ابن مسعود، وأما حديث أبي هريرة فلفظه: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل بين ضجنان وعسفان، فقال المشركون: إن لهم صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم؛ صلاة العصر، فأجمعوا أمركم فميلوا عليهم ميلة واحدة. وإن جبريل - صلى الله عليه وسلم - أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يقسم أصحابه شطرين، فيصلي ببعضهم، وتقوم الطائفة الأخرى وراءهم، وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم، ثم تأتي الأخرى فيصلون معه ويأخذ هؤلاء حذرهم وأسلحتهم لتكون لهم ركعة ركعة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتان.
أخرجه أحمد في "المسند" (2/522)، واللفظ له، والترمذي (5/227 رقم3035) في التفسير، باب ومن سورة النساء، والنسائي (3/174 رقم1544) في صلاة الخوف، وابن حبان في "صحيحه" (7/123-124/الإحسان)، جميعهم من طريق عبدالصمد بن عبدالوارث، قال: حدثني سعيد بن عبيد الْهُنَائي، قال: حدثنا عبدالله بن شقيق العقيلي، قال: حدثني أبو هريرة...، فذكره. وسنده حسن، وقال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث عبدالله بن شقيق عن أبي هريرة».
(12) أخرجه عبدالرزاق (2/508 رقم4245)، وأحمد (1/375-376، 409)، وأبو داود كما سيذكره المصنف في الحديث الآتي، وأبو يعلى (9/239 رقم5353)، والطبري (9/150، 151 رقم10355، 10356، 10357)، والطحاوي (1/311)، والطبراني في الكبير(10/147-148 رقم10272)، والدارقطني (2/61-62)، والبيهقي (3/261).
جميعهم من طريق خصيف، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود، قال: صلّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف، فقاموا صفًّا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصف مستقبل العدو، فصلى بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعة، ثم جاء الآخرون فقاموا مقامهم، واستقبل هؤلاء العدو، فصلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعة، ثم سلم، فقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا، ثم ذهبوا، فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو، ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا.
قال البيهقي: «وهذا الحديث مرسل، أبو عبيدة لم يدرك أباه، وخصيف الجزري: ليس بالقوي». اهـ. ويشهد له حديث ابن عمر في الباب، وحديث أبي هريرة السابق.
(13) زاد في (س) بعده: «ثم انصرفوا ولم يسلموا».
(14) في (ز): «والمعروف».
(15) قوله: «ظاهر» ليس في (أ).
(16) قوله: «نص» ليس في (س) ولا (ز).
(17) في "سننه" (2/37 رقم 1244، 1245) في الصلاة، باب من قال: يصلي بكل طائفة ركعة ثم يسلم...، من طريق خصيف عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود، كما سبق التنبيه عليه في التخريج السابق.
(18) في (أ) و(ز) و(ب): «فكبر».
(19) في (ز): «لأنفسهم فرجعوا».(2/378)
الحديث السابع: ذكره أبو داود من رواية أبي هريرة (1) - رضي الله عنه - : أنها قامت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مقابلة العدو وظهورهم إلى القبلة، فكبّر جميعهم، ثم صلى بالذين معه (2) ركعة والآخرون قيام، ثم قام وذهبت الطائفة التي معه إلى العدو، وأقبلت تلك فصلى بهم ركعة، ثم أقبلت الطائفة (3) الأولى فصلوا (4) ركعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم، ثم صلى بهم ركعة، ثم أقبلت الطائفة الأولى فصلت ركعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد ومن معه، ثم سلم وسلموا جميعًا.
الحديث الثامن: من حديث عائشة (5) رضي الله عنها، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنه كبّر وكبّرت معه الطائفة التي تليه، وصلى بهم ركعة وسجدة وثبت جالسًا، وسجدوا هم السجدة التي بقيت لهم، ثم انصرفوا القهقري، حتى قاموا من (6) ورائهم، وجاءت (7) الطائفة الأخرى فكبروا، ثم ركعوا - يعني لأنفسهم -، ثم سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني سجدته التي بقيت عليه من الركعة الأولى -، فسجدوا معه، ثم قام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأتَمُّوا هم السجدة التي بقيت عليهم، ثم قامت الطائفتان، فصلى بهم جميعًا ركعة كأسرع الإسراع.
الحديث التاسع: حديث ابن أبي حَثْمَة (8) من رواية صالح بن خوَّات (9) عنه: أن الطائفة الأولى لَمَّا صلّت ركعتها (10) مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم صلّت الركعة الأخرى لنفسها؛ =(2/472)=@ سلّمت، ثم تقدّمت، وجاءت الأخرى. وهذا خلاف الحديث الآخر الذي ذكر فيه آخرًا (11) : «ثم سلّم بهم جميعًا» (12) .
ومن رواية القاسم (13) في حديث ابن أبي حثمة (14) : أنه - صلى الله عليه وسلم - سلّم عند تمام صلاته الركعة (15) الثانية بالطائفة الثانية، وأتَموا بعد سلامه؛ خلاف الروايات الأُخَر عن القاسم ويزيد بن رومان (16) : أنه انتظرهم حتى قضوا، ثم سلّم.
وقد اختلف قول مالك في الأخذ برواية القاسم، أو برواية يزيد (17) .
وبرواية يحيى (18) عن القاسم (19) أخذ أكثر أصحاب مالك لصحة القياس: أن القضاء إنما يكون بعد سلام الإمام. وهو اختيار أبي ثور، واختيار الشافعي (20) في الرواية الأخرى.
الحديث العاشر: ما رواه أبو داود من حديث حذيفة (21) وأبي هريرة (22) وابن عمر (23) - رضي الله عنهم - : &(2/378)&$
__________
(1) أخرجه أحمد (2/320)، وأبو داود (2/32-34 رقم 1240) في الصلاة، باب من قال: يكبرون جميعًا... الخ، والنسائي (3/173 رقم 1543) في صلاة الخوف، وابن خزيمة (1361)، وابن المنذر (5/35 رقم 2354)، والطحاوي (1/314)، والحاكم (1/338)، والبيهقي (3/264)، كلهم من طريق عبدالله بن يزيد المقري، ثنا حيوة وابن لهيعة، ثنا أبو الأسود يتيم عروة، أنه سمع عروة بن الزبير يحدث عن مروان بن الحكم أنه سأل أبا هريرة هل صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف؟ فقال أبو هريرة: نعم، فقال: متى؟ قال: عام غزوة نجد، قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصلاة العصر، وقامت معه طائفة أخرى مقابلة العدو ظهورهم إلى القبلة، فكبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكبروا جميعًا الذين معه والذين يقابلون العدو، ثم ركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعة واحدة، ثم ركعت معه الطائفة التي تليه، ثم سجد وسجدت الطائفة التي تليه، والآخرون قيام مقابلة العدو، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقامت الطائفة التي معه، فذهبوا إلى العدو فقابلوهم، وأقبلت الطائفة التي كانت مقابلة العدو فركعوا وسجدوا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم كما هو، ثم قاموا، فركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعة أخرى فركعوا معه، وسجدوا معه، ثم أقبلت الطائفة التي كانت تقابل العدو فركعوا وسجدوا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد ومن تبعه، ثم كان التسليم، فسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسلموا جميعًا، فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتان، ولكل رجل من الطائفتين ركعتان ركعتان. هذا لفظ أحمد.
وعند كل من أبي داود والحاكم والبيهقي: «ولكل رجل من الطائفتين ركعة ركعة»، وقال البيهقي بعد ذكر هذه اللفظة: «كذا قال! والصواب: لكل واحد من الطائفتين ركعتين ركعتين»، ولم يذكر بعضهم ابن لهيعة في الإسناد، وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه».
وأخرجه ابن خزيمة (1362.طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن عبدالرحمن بن الأسود يتيم عروة، عن عروة بن الزبير، قال: سمعت أبا هريرة ومروان بن الحكم يسأله...، فذكره. ومن طريق ابن خزيمة أخرجه ابن حبان (7/131-132 رقم2878/الإحسان).
(2) قوله: «معه» ليس في (أ).
(3) قوله: «الطائفة» ليس في (أ).
(4) في (ح): «فصلت».
(5) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (6/275)، وأبو داود (2/34-35 رقم1242) في الصلاة، باب من قال: يكبرون جميعًا، وابن خزيمة (2/303 رقم1363)، ثلاثتهم من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، قال: حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة...، فذكره.
وحسن إسناده الشيخ الألباني في تعليقه على "صحيح ابن خزيمة".
(6) قوله: «من» ليس في (س).
(7) في (س): «وجاب» بدل «جاءت».
(8) السابق برقم (419) في (ز): «خثمة».
(9) في (ز) و(س): «حراب».
(10) في (ز) و(س): «ركعة».
(11) في (أ): «أخيرًا».
(12) قوله: «جميعًا» ليس في "صحيح مسلم "، والمصنف أخذ هذا عن "الإكمال" للقاضي عياض (3/221)، ونص عبارته هناك: «زاد في كتاب أبي داود: «بهم جميعًا»، وهذا إنما جاء في تبويب أبي داود (2/164/طبعة عوامة )، لا في حديث ابن أبي حثمة، وفي حديث أبي هريرة الذي تقدم تخريجه في الحديث السابع: «فسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسلموا جميعًا».
(13) القاسم: هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق، ويزيد: هو ابن رومان، وكلاهما يروي الحديث عن صالح بن خوّات، ولكن القاسم جعله من رواية صالح عن سهل بن أبي خثمة، وأما يزيد فأبهم اسم الصحابي، فجعله من رواية صالح عَمَّن صلَّى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفيه من اختلاف المتن ما أشار إليه المصنف.
(14) في (ز) و(س): «خثمة».
(15) في (ب): «عند تمام الركعة».
(16) انظر الحاشية رقم (4) الصفحة السابقة.
(17) انظر الحاشية رقم (4) الصفحة السابقة.
(18) يحيى هذا: هو ابن سعيد الأنصاري، وروايته هذه عن القاسم أخرجها الإمام مالك في "الموطأ" (1/183 رقم2)، كتاب صلاة الخوف، باب صلاة الخوف، وأما مسلم فروى الحديث من طريق عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه القاسم.
(19) قوله: «عن القاسم» ليس في (أ)، وقوله: «يحيى عن» ليس في (ب) و(ح) و(ز) و(س)، وتصويب العبارة من "الإكمال" للقاضي عياض (3/223)، فعنه أخذ المصنف.
(20) في (ح): «وهو اختيار أبي ثور والشافعي»، وفي (أ): «وهو اختيار أبي ثور واختار الشافعي».
(21) أخرجه أبو داود (2/38-39 رقم 1246) في الصلاة، باب من قال: يصلي بكل طائفة ركعة ولا يقضون، والإمام أحمد في "المسند" (5/385، 399)، والنسائي (3/167- 168 رقم1529، 1130) في صلاة الخوف، وابن خزيمة (1343).
جميعهم من طريق سفيان الثوري، قال: حدثني الأشعث بن سليم، عن الأسود بن
هلال، عن ثعلبة بن زهدم قال: كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقام فقال: أيكم صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا. هذا لفظ أبي داود، وسياق الآخرين أتم منه، ولم يذكر أحمد في الموضعين قوله: « ولم يقضوا». وقال الشيخ الألباني رحمه الله في تعليقه على "صحيح ابن خزيمة": «إسناده صحيح».
(22) تقدم تخريج حديث أبي هريرة هذا (ص 660).
(23) حديث ابن عمر هذا لم يسنده أبو داود، وإنما أشار إليه في "سننه" (2/39)، فقال عقب حديث حذيفة السابق: «وكذلك رواه سماك الحنفي، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ».
وقد أسنده ابن خزيمة في "صحيحه" (2/295 رقم1349)، وصحح إسناده الشيخ الألباني رحمه الله في تعليقه على "صحيح ابن خزيمة"، وهذا يختلف عن حديث ابن عمر المتقدم برقم (701) في أول الباب.(2/379)
أنه - صلى الله عليه وسلم - صلّى بكل طائفة ركعة ولم يقضوا، ويؤيده حديث ابن عباس (1) - رضي الله عنهم - : «صلاة الخوف ركعة»، وبه قال إسحاق.
ثم اختلف العلماء في الأخذ بهذه الأحاديث؛ فمنهم من ذهب إلى أن هذه الكيفيات كلها جائزة، وأن الإمام مُخيّر في أيّها شاء فعل، ومِمَّن ذهب إليه: أحمد بن حنبل، والطبري وبعض الشافعية؛ قالوا: وقد يجوز أن يكون ذلك في مرّات على حسب شدّة الخوف، إلا أن أحمد اختار حديث سهل بن أبي حثمة (2) ، وقال: كلها جائزة، وذلك على قدر الخوف، وكل من عيَّن من هذه الكيفيات واحدة فبحسب (3) ترجيحٍ حصل عنده أوجب له المصير إلى ما صار إليه؛ ولذلك قال الخطابي: صلاة الخوف أنواع صلاّها (4) النبي - صلى الله عليه وسلم - في أيام مختلفة، وأشكال متباينة، يتوخى فيها كلها ما هو أحوط للصلاة، وأبلغ في الحراسة.
وذكر ابن القصار: أنه - صلى الله عليه وسلم - صلاّها في عشرة مواضع، وذكر غيره: أنه صلاّها أكثر من هذا العدد، ففي حديث ابن أبي حثمة (5) وأبي هريرة وجابر أنه صلاّها يوم =(2/473)=@
ذات الرقاع (6) سنة خمس من الهجرة، وهي غزوة نجد وغطفان.
وفي حديث أبي عياش (7) : أنه صلاّها بعُسْفان، ويوم بني سليم. وفي حديث جابر: في غزاة (8) جهينة (9) ، وفي غزوة (10) محارب بنجد (11) . وقد ذكر بعضهم صلاته إيّاها ببطن نخل على باب المدينة. وعليها حمل بعضهم صلاته بكل طائفة ركعتين. لكن مسلمًا قد ذكرها في غزوة ذات الرقاع. وذكر الدارقطني: أنه صلى بهم المغرب ثلاثًا ثلاثًا (12) ، وبه قال الحسن، والجمهور في صلاة المغرب على خلاف هذا؛ وهو: أنه يصلي بالأولى ركعتين، وبالثانية ركعة، ويقضي؛ على اختلاف أصولهم فيه: متى يكون؛ هل قبل سلام الإمام أو بعده؟ على ما تقرر (13) .
وقول ابن عمر (14) رضي الله عنهما: «فإن كان خوفٌ (15) أكثر من ذلك؛ فصل (16) راكبًا أو قائمًا، تومئ (17) إيماءً»: قال في "الموطأ": مستقبلي القبلة أو غير (18) (19) مستقبليها (20) . وبهذا أخذ مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وعامة العلماء (21) ، ويشهد له قوله تعالى (22) : {فإن &(2/380)&$
__________
(1) تقدم برقم (563) في باب ما جاء في حكم قصر الصلاة في السفر من كتاب الصلاة.
(2) في (س): «خثمة».
(3) في (س): «فنحسب».
(4) في (أ): «صلاة».
(5) في (س): «خثمة».
(6) في (أ): «أنه صلاها ذات يوم الرقاع».
(7) في (أ) و(ب): «ابن عباس». وحديث أبي عياش الزرقي هذا حديث صحيح أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (4/1367 رقم686) وغيره، وقد فصّلت القول فيه في تعليقي عليه في "سنن سعيد بن منصور" فانظره إن شئت.
(8) في (ز) و(س): «عَزاة» بالعين المهملة.
(9) في (س): «جهيته».
(10) في (س): «غزاة».
(11) في (ز) و(س): «بعجل».
(12) في (ح): «ثلاثًا» واحدة.
(13) في (ز): «تقدر».
(14) تقدم تخريجه في هذا الباب برقم (416).
(15) في (ز) و(س): «خوفًا».
(16) في (ب): «فيصلي»، وفي (ز) و(س): «فصلى».
(17) في (ب) و(ز) و(س): «يومئ».
(18) في جميع النسخ «مستقبل القبلة وغير» والمثبت من "صحيح البخاري" و"الموطأ".
(19) قوله: «قال في الموطأ: مستقبلي القبلة وغير» ليس في (ح).
(20) في (ز) و(س): «مستقبلها».
(21) في (ب) و(ز) و(س): «الفقهاء» بدل: «العلماء»، وكذا في هامش (ح)، وكأنه يشير إلى أنه في نسخة.
(22) في (ز): «ويشهد لقوله تعالى».(2/380)
خفتم فرجالاً أو ركبانًا} (1) . قال بعض علمائنا: بحسب ما يتمكن منه. =(2/474)=@ وقال جماعة من الصحابة والسَّلف - رضي الله عنهم - : يُصلي في الخوف ركعة، يُومئ بها إيماءً، وقاله الضحاك، قال: «فإن لم يقدر على ركعة؛ فتكبيرتين حيث كان وجهه»،وقال (2) إسحاق: إن لم يقدر على ركعة إيماءً؛ صلي سجدة (3) ، فإن لم يقدر فتكبيرة، وقال الأوزاعي نحوه إذا تهيأ الفتح، لكن إن لم يقدر على ركعة ولا على سجدة؛ لم تجزه التكبيرة (4) ، وأخّرها حتى يَأْمَنُوا. ومنع مكحول وبعض أهل الشام من صلاة =(2/475)=@ الخائف جملة متى لم يتهيأ له أن يأتي بها على وجهها، ويؤخّرها إلى أن يتمكنوا من ذلك، واحتجّوا بتأخير النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق، ولا حجة لهم فيه (5) ؛ لأن صلاة الخوف إنما شرعت بعد ذلك على ما تقدم.
واختلف الذين قالوا بجواز ذلك للمطلوب في جواز ذلك للطالب، فمالك (6) وجماعة من أصحابه (7) على التسوية بينهما، وقال الشافعي والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث وابن عبد الحكم: لا يصلي الطالب إلا بالأرض.
ثم اختلفوا فيما يباح له من العمل في الصلاة: فجمهورهم على جواز كل ما يحتاج إليه في مطاردة العدو، وما يضطر إليه من ذلك (8) ؛ من مشي ونحوه، وقال الشافعي: إنما يجوز من ذلك الشيء اليسير، والطعنة والضربة، فأما ما كثر فلا تجزئه الصلاة، ونحوه عن محمد بن الحسن.
وقوله: «وجاه العدو»: بكسر الواو، وضمِّها؛ أي: مواجهته، ومقابلته. =(2/476)=@
واختلف في تسمية غزوة (9) ذات الرقاع: بذات الرقاع، فقيل: سمّيت بذلك لجبل هناك، يقال له: الرقاع؛ لبياضٍ وحمرةٍ وسوادٍ فيه. وقيل: لأنهم لفُّوا على أرجلهم رقاعًا لَمَّا نقِبت (10) . وقيل: لأنهم رقّعوا راياتهم، والله أعلم (11) . =(2/477)=@ &(2/381)&$
باب منه
417- عَنْ جَابِرٍ (1) قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَوْمًا مِنْ جُهَيْنَةَ. فَقَاتَلُونَا قِتَالاً شَدِيدًا، فَلَمَّا صَلَّيْنَا الظُّهْرَ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: لَوْ مِلْنَا عَلَيْهِمْ مَيْلَةً لاقْتَطَعْنَاهُمْ. فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَلِكَ، وَذَكَرَ ذَلِكَ لَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ: وَقَالُوا: إِنَّهُ سَتَأْتِيهِمْ صَلاةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنَ الأَوْلادِ فَلَمَّا حَضَرَتِ الْعَصْرُ، قَالَ: صَفَّنَا صَفَّيْنِ، وَالْمُشْرِكُونَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، قَالَ: فَكَبَّرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَبَّرْنَا، وَرَكَعَ فَرَكَعْنَا، ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الأَوَّلُ، فَلَمَّا قَامُوا سَجَدَ الصَّفُّ الثَّانِي، ثُمَّ تَأَخّرَ الصَفُّ الأَوَّلْ وَتَقَدَّمَ الصَفُّ الثَّانِي فَقَامُوا مَقَامَ الأَوَّلِ فَكَبَّرَ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَبَّرِنَّا وَرَكَعَ فَرَكَعْنَا، ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الصَفُّ الأَوَّل، وَقَامَ الثَّانِي، فَلَمَّا سَجَدَ الصَّفُّ الثَّانِي، ثُمَّ جَلَسُوا جَمِيعًا، سَلَّمَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ. ثُمَّ خَصَّ جَابِرٌ أَنْ قَالَ: كَمَا يُصَلِّي أُمَرَاؤُكُمْ هَؤُلاءِ.
وَفِي رِوَايَةٍ. قَالَ جَابِرٌ: كَمَا يَصْنَعُ حَرَسُكُمْ هَؤُلاءِ بِأُمَرَائِهِمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
باب منه
418- عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ (2) : أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِأَصْحَابِهِ فِي الْخَوْفِ، فَصَفَّهُمْ خَلْفَهُ صَفَّيْنِ، فَصَلَّى بِالَّذِينَ يَلُونَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ قَامَ فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى صَلَّى الَّذِينَ خَلْفَهُمْ رَكْعَةً، ثُمَّ تَقَدَّمُوا، وَتَأَخَّرَ الَّذِينَ كَانُوا قُدَّامَهُمْ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ قَعَدَ حَتَّى صَلَّى الَّذِينَ تَخَلَّفُوا رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ.
419- وَعَنْ صَالِحْ بْنِ خَوَّاتْ (3) ، عَمنْ صَلَّىَ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ، صَلاةَ الْخَوْفِ، أَنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ، وَطَائِفَةٌ وِجَاهَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا وَأَتَمُّوا لأَنْفُسهُمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا فَصَفُّوا وِجَاهَ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الأُخْرَى فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا، وَأَتَمُّوا لأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
باب منه
420 - عَنْ جَابِرٍ (4) قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى إِذَا كُنَّا بِذَاتِ الرِّقَاعِ، قَالَ: كُنَّا إِذَا أَتَيْنَا عَلَى شَجَرَةٍ ظَلِيلَةٍ تَرَكْنَاهَا لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَسَيْفُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُعَلَّقٌ بِشَجَرَةٍ، فَأَخَذَ سَيْفَ نَبِيِّ الله - صلى الله عليه وسلم - فَاخْتَرَطَهُ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَتَخَافُنِي؟ قَالَ: «لا » قَالَ: فَمَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: «الله يَمْنَعُنِي مِنْكَ » قَالَ: فَتَهَدَّدَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَغْمَدَ السَّيْفَ وَعَلَّقَهُ، قَالَ فَنُودِيَ بِالصَّلاةِ، فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ تَأَخَّرُوا، وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ، قَالَ: فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ.
تم كتاب الصلاة، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد
__________
(1) أخرجه البخاري(7/416-417، 421، 426 رقم 4125، 4126، 4127، 4130، 4137) كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع، ومسلم (1/575 رقم 840) في صلاة المسافرين، باب صلاةالخوف.
(2) أخرجه البخاري (7/422 رقم 4131) في المغازي، باب غزوة ذات الرقاع، من طريق صالح بن خوات، وهو أيضًا في البخاري قبل هذا بموضع (7/421 رقم4129.طريق صالح بن خوات عمن شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف، وانظر الحديث التالي، ومسلم (1/575 رقم 841) في صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف.
(3) أخرجه البخاري (7/421 رقم4129، 4131) كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع، ومسلم (1/575 رقم 842) كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف.
(4) أخرجه البخاري (6/96 رقم 2910) في الجهاد، باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة، و(6/97 رقم2913) كتاب الجهاد، باب تفرق الناس عن الإمام عند القائلة والاستظلال بالشجر، و(7/426 رقم4134، 4135، 4136) كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع، ومسلم (1/576 رقم 843) في صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 239.
(2) في (أ): «وبه قال».
(3) في (ح): «إن لم يقدر على ركعة إنما يصلي سجدة»، والمثبت موافق لما نقله الحافظ في "الفتح" من قول إسحاق (2/435).
(4) في (أ): «التكبير».
(5) قوله: «فيه» ليس في (أ).
(6) في (ز) و(س): «مالك».
(7) في (ز) و(س): «من الصحابة».
(8) قوله: «من ذلك» ليس في (أ).
(9) قوله: «غزوة» ليس في (أ)، وفي (ح): «غزوات».
(10) في (ح): «نقب».
(11) قوله: «والله أعلم» ليس في (س) و(أ) و(ح).(2/381)
الملف من ص227 على الورق المطبوع إلى ص379
4
كتاب الجمعة
( 1 ) باب فضل الغسل للجمعة وتأكيده، ومن اقتصر على الوضوء أجزأه
1 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ (1) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ((إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْتِيَ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ)). - صلى الله عليه وسلم -
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن كتاب (2) الجمعة
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ))، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((غُسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)): ظاهر في وجوب غسل الجمعة، وبه قال أهل =(2/478)=@ الظاهر، وحكي عن بعض الصحابة (3) ، وعن الحسن (4) ، وحكاه الخطابي (5) عن مالك (6) ، ومعروف مذهبه وصحيحه: أنه سنة، وهو مذهب عامة أئمة الفتوى، وحملوا تلك الأحاديث على أنه واجب وجوب السنن المؤكدة، ودلّهم على ذلك أمور : &(2/382)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (2/382 رقم 894) في الجمعة، باب هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم، ومسلم (2/579 رقم 844) في الجمعة، باب منه.
(2) في (ز):((باب)) .
(3) أخرجه ابن المنذر في "الأوسط"(4/40 رقم1768) بسند صحيح عن أبي هريرة أنه كان يقول:((غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم كغسل الجنابة)) .
وأسند ابن المنذر أيضًا برقم (1770و1771و1772و1773) عن عمر بن الخطاب وأبي سعيد الخدري وعمار بن ياسر وابن عباس أقوالاً رأى أنها تدل على قولهم بالوجوب، ولا يظهر منها ذلك، وإنما غايتها: تنفيرهم من ترك الغسل يوم الجمعة. وانظر "فتح الباري" (2/361).
(4) وحكاه ابن المنذر (4/41) أيضًا عن الحسن، ولم يسنده.
(5) في (س):((الخطاني)) .
(6) وحكاه ابن المنذر (4/41) أيضًا عنه.(2/382)
أحدها: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة (1) : ((من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت؛ غفر له))، فذكر فيه الوضوء، واقتصر عليه دون الغسل، ورتَّب الصِّحة والثواب عليه. فدلَّ على أن الوضوء كافٍ من غير غُسل، وأن الغسل ليس بواجب.
وثانيها: قوله - صلى الله عليه وسلم - لهم حين وَجد منهم الريح الكريهة: ((لو اغتسلتم ليومكم هذا)). وهذا عرضٌ (2) وتحضيضٌ (3) وإرشادٌ للنظافة المستحسنة، ولا يقال مثل ذلك اللفظ في الواجب.
وثالثها: تقرير عمر والصحابة - رضي الله عنهم - لعثمان - رضي الله عنه - على صلاة الجمعة بالوضوء من غير غسل، ولم يأمروه بالخروج، ولم ينكروا عليه، فصار ذلك كالإجماع منهم على أن الغسل ليس بشرط في صحة صلاة (4) الجمعة، ولا واجب.
ورابعها: ما يقطع مادة النزاع، ويحسم كل إشكال: حديث الحسن، عن سَمُرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل &(2/383)&$
__________
(1) وهو الآتي برقم (713).
(2) في (أ):((وهو)) .
(3) في (س):((وتخصيص)) .
(4) قوله: ((صلاة)) ليس في (ب) و(ز) و(س).(2/383)
فالغسل أفضل)) (1) ، وهذا نصٌ في موضع الخلاف؛ غير أن سماع الحسن من سمرة مختلف فيه، وقد صح عنه أنه سمع منه حديث العقيقة (2) ، فيحمل حديثه عنه على السماع إلى أن يدلّ دليلٌ على غير ذلك، والله أعلم.
وخامسها: أنه عليه الصلاة والسلام قد قال: ((غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وسواك، ويمسُّ من الطيب ما قدر عليه)). وظاهر هذا وجوب =(2/479)=@ السواك والطيب، وليس كذلك بالاتفاق، فدلّ (3) على أن قوله: ((واجب)) ليس على ظاهره، بل المراد به الندب المؤكَّد؛ إذ لا يصح تشريك ما ليس بواجب مع الواجب (4) في لفظ الواجب (5) ، والله أعلم (6) .
2 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (7) قَالَ: بَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِذْ دَخَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَعَرَّضَ بِهِ عُمَرُ، فَقَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَأَخَّرُونَ بَعْدَ النِّدَاءِ، فَقَالَ عُثْمَانُ ! يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ! مَا زِدْتُ حِينَ سَمِعْتُ النِّدَاءَ أَنْ تَوَضَّأْتُ ثُمَّ أَقْبَلْتُ. فَقَالَ عُمَرُ: وَالْوُضُوءَ أَيْضًا ! أَلَمْ تَسْمَعُوا أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ((إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ))؛ دليل لمالك (8) على أن الغسل إنما يجب عند الرواح متصلاً به، كما هو مذهب مالك والأوزاعي، وأحد قولي الليث وغيرهم ، وفيه نظر (9) .
3- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (10) : أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((غُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَسِوَاكٌ، وَيَمَسُّ مِنَ الطِّيبِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ)).
وَفِي أُخْرَى: ((وَلَوْ مِنْ طِيبِ الْمَرْأَةِ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((عَلَى (11) كُلِّ مُحْتَلِمٍ))، يعني به: البالغ، وخصّ المحتلم بالذكر؛ لأن الاحتلام أكثر ما يبلغ (12) به الرجال، وهو الأصل. وهذا كما قال في حق النساء: ((لا تقبل (13) صلاة حائضٍ إلا بخمار)) (14) ، يعني بالحائض: البالغ من النساء، وخصّها به؛ لأن الحيض أغلب ما تختصّ (15) به النساء من علامات البلوغ. وفيه دليل: على أن الجمعة لا تجب على صبي ولا امرأة؛ لأنه عيّن (16) محل وجوبها. &(2/384)&$
__________
(1) يرويه قتادة، عن الحسن، عن سمرة، واختلف عليه:
فأخرجه ابن أبي شيبة (1/436 رقم5026) في الصلاة، باب من قال: الوضوء يجزئ من الغسل، وأحمد (5/8و15و16و22)، والدارمي (1/362) في الصلاة، باب الغسل يوم الجمعة، وأبو داود (1/251 رقم354) في الطهارة، باب في الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة، والطحاوي (1/119)، والطبراني في "الكبير" (7/199 رقم6817)، والبيهقي (1/295) (3/190). جميعهم من طريق همام.
وأخرجه أحمد(5/11)، والترمذي(2/369 رقم497) في الصلاة، باب ما جاء في الوضوء يوم الجمعة، والنسائي (3/94رقم1380) في الجمعة، باب الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة، وابن خزيمة (3/128 رقم 1757)، والطبراني في "الكبير" (7/199، 200 رقم 6818، 6819، 6826). جميعهم من طريق شعبة.
وأخرجه الطبراني في "الكبير" (7/199 رقم6820 طريق أبي عوانة.
ثلاثتهم ( همام، وشعبة، وأبو عوانة ) عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، مرفوعًا.
وخالفهم سعيد بن أبي عروبة ، ومعمر، فروياه عن الحسن، مرسلاً: أخرجه عبدالرزاق (3/199 رقم5311) عن معمر، والبيهقي (1/296 طريق ابن أبي عروبة.
قال الترمذي: ((حديث سمرة حديث حسن.
وقد رواه بعض أصحاب قتادة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، ورواه بعضهم عن قتادة، عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل)) . اهـ.
وقال الحافظ في "الفتح" (2/362):((وله علتان: إحداهما: أنه من عنعنة الحسن، والأخرى أنه اختلف عليه فيه)) . اهـ.
أما عن الاختلاف في وصل الحديث وإرساله، فقد رجح أبو حاتم الموصول؛ كما في "العلل" لابنه (1/200 رقم575)، فقال:((همام ثقة وصله)) .
وأما عنعنه الحسن، فهو كذلك، ولم يصرح بالسماع.
قال الشيخ الألباني في تعليقه على "المشكاة" (1/168):((ورجاله ثقات غير أنه من رواية الحسن عن سمرة، وهو مدلس، ولم يصرح بسماعه من سمرة، لكن الحديث قوي ؛ لأن له شواهد كثيرة)) . اهـ. وانظر شواهده في "نصب الراية" (1/91-93).
(2) في (أ):((العقبة)) .
(3) في (ب) و(س): ((يدل)) .
(4) قوله:((مع الواجب)) ليس في (ز).
(5) في (ح): ((في لفظ الواو)) .
(6) قوله:((والله أعلم)) ليس في (ب).
(7) أخرجه مسلم (2/580 رقم 845) في الجمعة، باب منه.
(8) قوله:((لمالك)) ليس في (ب).
(9) قوله:((فيه نظر)) ليس في (أ).
(10) أخرجه البخاري (2/356و382و397 رقم877، 894، 919) كتاب الجمعة، باب فضل غسل الجمعة، باب هل على من لم يشهد الجمعة غسل...، باب الخطبة على المنبر، ومسلم (1/574 رقم839) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الخوف.
(11) قوله:((على)) ليس في (س).
(12) في (أ): ((ما بلغ)) .
(13) في (ح): ((ولا تقبل)) .
(14) يرويه قتادة، عن محمد بن سيرين، عن صفية بنت الحارث، عن عائشة، واختلف، فأخرجه ابن أبي شيبة (2/40 رقم6222) في الصلاة، باب في المرأة تصلي ولا تغطي شعرها، وابن راهويه في "مسنده" (3/687و688 رقم741، 742)، وأحمد (6/150و218و259)، وابن ماجه (1/214-215 رقم655) في الطهارة، باب إذا حاضت الجارية لم تصل إلا بخمار، وأبو داود (1/421-422 رقم641) في الصلاة، باب المرأة تصلي بغير خمار، والترمذي (2/215 رقم377) في الصلاة، باب ما جاء لا تقبل صلاة المرأة إلا بخمار، وابن الجارود (1/166-167 رقم173)، وابن خزيمة (1/380 رقم775)، وابن حبان (4/612- 613 رقم1711، 1712/الإحسان)، والحاكم (1/251)، والبيهقي (2/233)و(6/57).
جميعهم من طريق حماد بن سلمة، عن قتادة، عن صفية بنت الحارث، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار)) .
قال الترمذي: ((حديث عائشة حديث حسن)) . اهـ.
وقال الحاكم: ((صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأظن أنه لخلاف فيه على قتادة))، ثم أخرجه من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن مرسلاً.
قال الذهبي:((علته ابن أبي عروبة)) .اهـ.
وقال أبو داود:((رواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - )) .اهـ. وكذا قال البيهقي. وكذا رواه مرسلاً: أيوب السختياني، وهشام بن حسان:
فأخرجه أحمد (6/96)، وأبو داود (1/422 رقم642) في الموضع السابق، كلاهما من طريق حماد بن زيد، عن أيوب السختياني. وأخرجه أحمد (6/238 طريق هشام. كلاهما (أيوب السختياني، وهشام ) عن ابن سيرين: أن عائشة نزلت على حفصة...، الحديث بمعناه.
وقد أعله الدارقطني في "العلل" - كما في "نصب الراية" (1/296)؛ حيث قال: حديث: ((لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار)) ؛ يرويه قتادة، عن محمد بن سيرين، عن صفية بنت الحارث، عن عائشة، واختلف فيه على قتادة:
فرواه حماد بن سلمة، عن قتادة، هكذا مسندًا مرفوعًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وخالفه شعبة، وسعيد بن بشير، فروياه عن قتادة موقوفًا، ورواه أيوب السختياني، وهشام بن حسان، عن ابن سيرين مرسلاً عن عائشة: أنها نزلت على صفية بنت الحارث، حدثتهما بذلك، ورفعا الحديث. وقول أيوب وهشام أشبه بالصواب)) .اهـ.
وقال الحافظ في "التلخيص" (1/505):((وأعله الدارقطني بالوقف، وقال: إنّ وقفه أشبه، وأعله الحاكم بالإرسال)) . اهـ. وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في "الإرواء" (1/214-217 رقم196)، ولم يعتدّ بمخالفة أيوب وهشام.
(15) في (ح) (ز) و(س):((ما يبلغ)) بدل: ((ما تختص))، وكذا في أصل (ب)، وكتب في الهامش:((ما تختص))، وكأنه يشير إلى أنه في نسخة.
(16) في (ح): ((غير)) .(2/384)
وقول عمر - رضي الله عنه - : ((مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَأَخَّرُونَ بَعْدَ النِّدَاءِ)): إنكار (1) منه على عثمان - رضي الله عنه - تأخره عن وقت وجوب السعي، ثم عذر عثمان حين اعتذر بقوله: ((مَا زِدْتُ عَلَى أَنْ تَوَضَّأْتُ (2) ))؛ يعني: أنه ذَهَل عن الوقت، ثم تذكره، فإذا به (3) قد ضاق عن الغسل، وكان ذهوله ذلك لعذر مُسوِّغ للتأخير (4) . =(2/480)=@
وقول عمر - رضي الله عنه - : ((وَالْوُضُوءَ أَيْضًا؟!)): إنكار آخر على ترك السنة المؤكدة التي هي الغسل على جهة التغليظ؛ حتى لا يتهاون (5) بالسنن، لا أنه كان يعتقد الغسل واجبًا، ويجوز في: و((الوضوء)) (6) النصب والرفع، فالرفع على أنه مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: الوضوءُ تقتصر (7) عليه، والنصب على أنه مفعول بإضمار فعل تقديره: أتخصّ الوضوءَ دون الغسل؟ أو ما (8) في معنى ذلك، و((الواو)) عِوَضٌ من همزة الاستفهام؛ كما قال تعالى : { قال (9) فرعون وآمنتم (10) به } (11) ، في قراءة ابن كثير.
وقوله: ((وَلَوْ مِنْ طِيبِ الْمَرْأَةِ)): يعني بذلك: الطيب المباح للنساء، المكروه للرجال، وهو ما يظهر (12) لونه، فأباحه هنا لعدم غيره، ويدلّ هذا على تأكد التطيب (13) للجمعة. =(2/481)=@
4- وعَنْ عَائِشَةَ (14) قَالَتْ: كَانَ النَّاسُ يَنْتَابُونَ الْجُمُعَةَ، مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَمِنَ الْعَوَالِي، فَيَأْتُونَ فِي الْعَبَاءِ، وَيُصِيبُهُمُ الْغُبَارُ، فيَخْرُجُ مِنْهُمُ الرِّيحُ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنْسَانٌ مِنْهُمْ وَهُوَ عِنْدِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ((لَوْ أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا)).
5- وَعَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّاسُ أَهْلَ عَمَلٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ كُفَاةٌ، فَكَانُوا يَكُونُ لَهُمْ تَفَلٌ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَوِ اغْتَسَلْتُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول عائشة رضي الله عنها : ((كَانَ النَّاسُ يَنْتَابُونَ))؛ أي: يجيئون. والانتياب: المجيء نوّبًا، والاسم: النوب، وأصله: ما كان من قرب؛ كالفرسخ والفرسخين. و((الكُفاةُ)): جمع كافٍ؛ أي: عبيد وخدم يكفونهم العمل. و((العباء)): جمع عباءة، وهو كساء غليظ، وقد تقدم: أن أقرب العوالي من المدينة على ثلاثة أميال أو نحوها، وهذا ردّ على الكوفيّ الذي لا يوجبها على من كان &(2/385)&$
__________
(1) في (ز) تشبه:((بعدا إنكار)) .
(2) في (ز) و(س):((اتوضأت)) .
(3) في (ب): ((فإذا هو)) .
(4) قوله: ((للتأخير)) ليس في (ح) و(س) و(ز) و(ب).
(5) في (أ):((تهاون)) .
(6) في (ح) و(ز) و(س): ((الوضوء)) بلا واو.
(7) في (س):((يقتصر)) .
(8) في (ح): ((وما)) .
(9) قوله: ((قال)) ليس في (أ).
(10) قوله:((به)) ليس في (أ).
(11) سورة الأعراف، الآية: 123.
(12) في (ب) و(ح) و(ز):((ما ظهر)) .
(13) في (ب) و(ح):((التطيب))، وفي (ز) و(س):((التطييب)) .
(14) أخرجه البخاري ( 2/385 رقم 902) في الجمعة، باب من أين تؤتى الجمعة وعلى من تجب؟، ومسلم (2/580 رقم 847) في الجمعة، باب وجوب غسل الجمعة على كل بالغ من الرجال وبيان ما أُمروا به.(2/385)
خارج المصر، وخالفه في ذلك الجمهور: مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق؛ فقالوا: تجب الجمعة على من كان خارج المصر ممن يسمع النداء، غير أن مالكًا (1) حدّه بثلاثة أميال، أخذًا بحديث عائشة رضي الله عنها هذا، وأيضًا فإنه المقدار الذي يُسمع فيه (2) النداء من المؤذن الصيّت في الوقت الهادئ غالبًا. واختلف أصحابه: هل تعتبر الثلاثة الأميال من طرف المدينة، أو من المنار؟
ولا خلاف أنها (3) تجب على أهل المصر، وإن عَظُم وزاد على ستة أميال، إلا شيئًا روي عن ربيعة: أن الجمعة إنما تجب على من إذا (4) سمع النداء وخرج ماشيًا أدرك الصلاة، وروي عن جماعة أنها تجب على من آواه الليل إلى أهله (5) ،فيجيء (6) على هذا: أنها تجب على من يكون (7) على نصف يومٍ (8) ، وهو مذهب =(2/482)=@ الحكم والأوزاعي وعطاء وأبي ثور، وذهب الزهري إلى أنها تجب على من هو من المصر على ستة أميال (9) .
وروي عنه وعن ابن المنكدر، وربيعة: أربعة أميال.
وقوله : ((فَيَكُونُ لَهُمْ تَفَلٌ)): بالتاء باثنتين من فوق، وفتح الفاء؛ وهي الرائحة الكريهة. وفي رواية في "الأم" (10) : ((فيصيبهم الغبار والعرق))، وهو دليل: على أنهم كانوا يُهجِّرون.
6- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (11) ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((حَقٌّ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((حَقٌّ الله عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ)): لم يُعيّن في "الصحيح" يوم هذا الغسل، وقد عينه البزار (12) في زيادة زادها في هذا الحديث. قال: ((وهو يوم الجمعة)). وتمسك به من قال من أهل الظاهر: بأن الغسل ليوم الجمعة لا للجمعة، ولا حجة فيه؛ لأن الصحيح ليس فيه : ((يوم الجمعة)). والمفسر ظاهره أنه قول الراوي، والله تعالى أعلم.
والصحيح أن الغسل للجمعة لإضافته إليها، ولأنَّ معقوله المبالغة في النظافة؛ كما فهم من حديث عائشة رضي الله عنها المتقدِّم. =(2/483)=@ &(2/386)&$
__________
(1) في (ح): ((أن مالك)) .
(2) في (ز) و(س):((فإن هذا المقدار يسمع منه)) .
(3) في (أ):((على أنها)) .
(4) قوله:((إذا)) سقط من (أ).
(5) روي مرفوعًا ولا يصح.
فأخرجه الترمذي (2/376 رقم502) في الصلاة، باب ما جاء من كم تؤتى الجمعة؟ عن أحمد بن الحسن، عن حجاج بن نصير، عن معارك بن عباد، عن عبدالله بن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الجمعة على من آواه الليل إلى أهله)) .
وقد أنكر الإمام أحمد هذا الحديث، وقال لأحمد بن الحسن لما حدث به: استغفر ربك ! استغفر ربك !
قال الترمذي:((إنما فعل أحمد بن حنبل هذا لأنه لم يعدَّ هذا الحديث شيئًا، وضعّفه لحال إسناده)) .اهـ.
وقال البغوي:((هذا حديث إسناده ضعيف ضعّفه أحمد بن حنبل جدًّا)) .اهـ.
وقال الشيخ الألباني رحمه الله في تعليقه على "المشكاة" (1/434 رقم1376): ((بل هو إسناد تالف هالك، فيه عبدالله بن سعيد المقبري، وقد كذبوه، وعنه معارك بن عباد، وعنه حجاج بن نصير، وكلاهما ضعيف)) .اهـ.
(6) في (ح) و(ز) و(س): ((فيجب)) .
(7) في (أ):((من كان)) .
(8) في (أ):((يومه)) .
(9) في (س): ((أمثال)) .
(10) أي: "صحيح مسلم"، وهي الرواية المتقدمة برقم (427)، لكن ليس فيها:((والعرق))، وإنما هذه رواية البخاري في "صحيحه" (2/385 رقم902) في الجمعة، باب من أين تؤتى الجمعة، وعلى من تجب؟
والذي أوقع المصنف في هذا الوهم: اعتماده على "الإكمال" للقاضي عياض ؛ فإنه قال هناك (3/234): «وفي قوله:((ينتابون في العباء))، و:((يصيبهم الغبار))، وفي رواية: ((والعرق)) ...»، ففهم المصنف من قول القاضي:((وفي رواية)) أن هذه الرواية في "صحيح مسلم "، ولا يلزم ذلك كما لا يخفى، والله أعلم.
(11) أخرجه البخاري (2/382 رقم 897) في الجمعة، باب هل على من لم يشهد الجمعة غسل...، ومسلم (2/582 رقم 849) في الجمعة، باب الطيب والسواك يوم الجمعة.
(12) في "مسنده" (3/ل228/ب-228/أ)؛ حيث قال: حدثنا محمد بن المثنى، نا أبو عامر، نا زمعة، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( على كل مسلم غسل في كل سبعة أيام، وذلك يوم الجمعة)) .
ثم قال البزار: ((وثناه محمد بن مسكين، نا عبدالله بن صالح، نا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن أبان بن صالح، عن مجاهد، عن طاوس، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحوه أو قريبًا منه)) .
والطريق الأولى عند البزار ضعيفة، بل منكرة، فهي من رواية زمعة بن صالح الجَنَدي، اليماني، نزيل مكة، وهو ضعيف كما في "التقريب" (ص340 رقم2046)، وقد خالف الثقات الذين رووه عن عبدالله بن طاوس، فلم يذكروا هذه الزيادة: ((وذلك يوم الجمعة))، ومن هؤلاء الثقات: وهيب بن خالد عند البخاري ومسلم.
وأما الطريق الثانية ؛ فإن البزار لم يسق لفظها، وإنما قال: ((بنحوه أو قريبًا منه))، والظاهر أن هذه الزيادة ليست فيها ؛ لأن الحديث علقة البخاري في "صحيحه" (2/382 رقم898) في الجمعة، باب: هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم؟ فقال: «رواه أبان بن صالح، عن مجاهد، عن طاوس، عن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :((لله تعالى على كل مسلم حق أن يغتسل في كل سبعة أيام يومًا». ا. هـ.
وقد وصله البيهقي في "سننه" (1/297) طريق يحيى بن بكير، عن الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن أبان، ولم يذكر الزيادة.
وعلى فرض أن تكون الزيادة في الطريق التي رواها البزار، فتكون مرجوحة ؛ لأنها من رواية عبدالله بن صالح كاتب الليث، عن الليث، وعبدالله بن صالح صدوق كثير الغلط، كما في "التقريب" (ص515 رقم3409)، وخالفه يحيى بن عبدالله بن بكير عند البيهقي كما سبق، فلم يذكر الزيادة، ويحيى ثقة في الليث كما في "التقريب" (ص 1059 رقم7630).
فتلخَّص مما سبق أن ذكر الزيادة في رواية أبي هريرة لا يصح.
وجاءت هذه الزيادة عند النسائي (3/93 رقم1378) في الجمعة، باب إيجاب الغسل يوم الجمعة، وابن خزيمة (3/124 رقم1747)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/116)، من طريق داود بن أبي هند، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((على كل رجل مسلم في كل سبعة أيام غُسل يومٍ ؛ وهو يوم الجمعة)) .
وسنده رجاله ثقات، لكن أبو الزبير مدلس وقد عنعنه. وانظر "فتح الباري" (2/383).(2/386)
7- وَعَنْهُ (1) : أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ)): يعني في الصفة. والأغسال الشرعية كلها على (2) صفة واحدة وإن اختلفت أسبابها. وهكذا رواية الجمهور، ووقع عند ابن ماهان : ((غسل الجمعة)) مكان : ((غُسْلَ الْجَنَابَةِ)). وفي "كتاب أبي داود" (3) من حديث أوس بن أوس مرفوعًا بتشدد (4) السين: ((من غسَّل واغتسل))، وذكر نحو حديث مسلم. وقد روي مخفف السين، وروايتنا التشديد. واختُلف في معناه، فقيل: معناه: جامَعَ؛ يقال: غسَل وغَسَّل؛ أي: جامَعَ. قالوا: ليكون أغضَّ لبصره في سعيه إلى الجمعة وقيل في التشديد (5) : أوجب الغسل على غيره، أو: حمله عليه. وقيل: غسّل للجنابة، واغتسل للجمعة، وقيل: غسّل رأسه، واغتسل في بقية جسده. وقيل: غسَّل: بالغ في النظافة والدَّلْكِ، واغتسل: صبّ الماء عليه. وأنسبُ ما في هذه الأقوال: قول من قال: حمل غيره على الغسل بالحث والترغيب والتذكير، والله أعلم (6) .
وقوله: ((مَنْ رَاحَ)): الرواح في أصل اللغة: الرجوع بِعَشِيّ، ومنه قول امرىء القيس :
ورحنا كأنَّا من جُواثَا عَشِيَّةً ... نُعالي (7) النِّعاجَ بَيْنَ عِدْلٍ وَمِحْقَبِ (8)
=(2/484)=@ وأول العشي: زوال الشمس، وهو أوّل وقت أمرنا الله تعالى فيه بالسعي إلى (9) الجمعة؛ لأنه تعالى قد قال : {إذا نودِيَ للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله (10) } (11) ، وهذا النداء هو الذي يحصل به الإعلام بدخول الوقت، وبعده يخرج الإمام فيجلس على المنبر، ويؤذن الأذان الثاني، وفائدته (12) : الإعلام بحضور الخطبة (13) ، &(2/387)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (2/366 رقم 881) في الجمعة، باب فضل الجمعة. ومسلم (2/582 رقم 850) في الجمعة، باب الطيب والسواك يوم الجمعة.
(2) قوله: ((على)) ليس في (ح).
(3) أي: "السنن" (1/246 رقم345) كتاب الطهارة، باب في الغسل يوم الجمعة، من طريق حسان بن عطية، عن أبي شعث الصنعاني، عن أوس بن أوس ؛ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من غسَّل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ ؛ كان له بكل خطوة عمل سنة: أجر صيامها وقيامها)) .
وأخرجه عبدالرزاق في "المصنف" (3/260 رقم 5570)، وابن أبي شيبة في "المصنف (1/433 رقم4990) في الصلاة، باب في غسل الجمعة، وأحمد في "المسند" (4/9و10و 104)، والدارمي (1/363) في الصلاة، باب الاستماع يوم الجمعة عند الخطبة والإنصات، والترمذي (2/367-368 رقم496) في الصلاة، باب في الغسل يوم الجمعة، والنسائي (3/97 رقم1384) في الصلاة، باب فضل المشي إلى الجمعة، وابن ماجه (1/346 رقم1087) في إقامة الصلاة، باب ما جاء في الغسل يوم الجمعة، وابن خزيمة (3/128-129 و132 رقم1758و1767)، والطحاوي (1/368-369 رقم2167و2168)، وابن حبان (7/19-20 رقم2781/الإحسان)، والحاكم (1/281و282)، جميعهم من طريق أبي الأشعث الصنعاني، به.
وسنده صحيح، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه الشيخ الألباني في تعليقه على "مشكاة المصابيح" (1/437-438 رقم1388).
(4) في (أ): ((بتشديد)) .
(5) في (س):((الستديد)) .
(6) وضح الناسخ في (س) مكان((والله أعلم)) لحق ولم يتضح الهامش.
(7) في (أ): تشبه أن تكون((نبالى)) .
(8) ((جواثا)): مدينة من مدن هجر، وانظر ديوان امرئ القيس (ص72)، وفيه((جدائي)) بدل((جداثى)) .
(9) قوله:((إلي)) غير واضح في (ز).
(10) قوله:((إلى ذكر الله)) سقط من (ز) و(س)
(11) الآية: 9 سورة الجمعة.
(12) في (س):((فائدته)) بلا واو.
(13) قوله:((الخطبة))، وقوله:((العراقيون من)) ليس في (أ).(2/387)
وعند هذا الأذان تطوي الملائكة صحف المبكِّرين، ويستمعون الذكر، كما جاء في حديث أبي هريرة، ولذلك قال العراقيون من (1) أصحابنا: للجمعة أذانان: عند الزوال، وعند جلوس الإمام على المنبر. وهذه الساعات المذكورة في هذا الحديث؛ هي مراتب أوقات الرائحين إلى الجمعة؛ من أول وقت الزوال إلى أن يجلس الإمام على المنبر، ويؤذن الأذان الثاني، وليست عبارة عن الساعات التعديلية (2) التي النهار منها: اثنا عشرة (3) ساعة، وهذا الذي ذكرناه هو مذهب مالك، وخالفه (4) في ذلك الشافعي. وأكثر العلماء وابن حبيب من أصحابنا قالوا: هذه الساعات المذكورات في هذا الحديث هي المعروفة عند المعدِّلين، وعلى هذا الخلاف انبنى الخلاف في الأفضل: هل البكور إليها من أوّل ساعات (5) النهار إلى الزوال؟ أو الأفضل (6) البكور من (7) أول الزوال إلى أن يجلس الإمام على المنبر؟ واحتجَّ لمالك بثلاثة أوجه (8) :
أحدها: التمسك بلفظ: الرواح، كما تقدم. ولئن سُلِّم أنه يُقال على المشي مطلقًا؛ فعلى خلاف الأصل، وهو مجاز. ولا يُعارضُ هذا بما في الحديث الآخر من قوله: ((المهجِّر إلى الجمعة))، (9) فيقال: إنه من المهاجرة (10) ، وذلك قبل =(2/485)=@ الزوال؛ لأنا لا نُسلِّم أنها تختصّ بما قبل الزوال، بل بشدَّة الحرّ وقت الهاجرة (11) ، فهو (12) صالح لما قبل الزوال وما بعده (13) . فيبين (14) لفظ الرواح (15) أن المراد به ما بعد الزوال. ولا يُقال: إنّ حقيقة الساعة العرفية إنما هي المتعارفة عند المعدِّلين؛ لأنا نمنع ذلك ونقول: بل الساعة في عرف اللغة: القطعة من الزمان غير محدود بمقدار (16) ؛ كما قال تعالى : { ما لبثوا غير ساعة } (17) ، وتقول العرب: جئتك ساعة كذا. فتتعيَّن (18) بحسب ما تضاف إليه، وليست محدودة. والأصل: التمسك بالأصل.
وثانيها: قوله - صلى الله عليه وسلم - (19) : ((على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول &(2/388)&$
__________
(1) قوله:((الخطبة))، وقوله:((العراقيون من)) ليس في (أ).
(2) في (س):((إلى)) بدل((التي)) .
(3) في (س):((اثني عشر)) وفي (أ) و(ز):((اثنا عشر)) .
(4) في (أ): ((ويخالفه)) .
(5) في (ح): ((الساعات)) .
(6) في (أ): ((والأفضل)) .
(7) في (ح) و(ز) و(س): ((في)) .
(8) كذا قال هنا: (بثلاثة أوجه) ولكنه زاد وجهًا رابعًا (انظر ص243). أشرف.
(9) سيأتي برقم (14) في باب فضل التهجير للجمعة ووقتها.
(10) في (أ) و(ب): ((الهاجرة)) .
(11) قوله: ((وقت الهاجرة)) ليس في (ب) و(ح) و(ز) و(س).
(12) في (ح): ((وهو)) .
(13) في (أ) و(ز): ((وبعده)) .
(14) في (ح) و(ز) و(س): ((فبين)) .
(15) قوله: ((لفظ الرواح)) ليس في (ح).
(16) في (ز) و(س):((مقدار)) .
(17) سورة الروم، الآية: 55.
(18) في (ح): ((فتعين)) .
(19) أي: حديث أبي هريرة الآتي باب: فضل التهجير للجمعة، ووقتها.(2/388)
...))، فالأول كالجزور، ثم نزلهم حتى صغر مثل البيضة. وهذا السياق تفسير (1) الحديث الأول، فإنَّ الفاء للترتيب وعدم المهلة، فاقتضى هذا سبقيَّة (2) الأول، وتعقيب (3) الثاني، فالأوّل هو الذي راح في الساعة الأولى، وهو الذي شُبِّه بِمُهدي البدنة، والثاني في الساعة الثانية، وهو المهدي بقرة، وبعده المهدي شاة، وبعده دجاجة، وبعده بيضة. فهذه الخمس المراتب هي من أوّل الساعة السابعة إلى أن يجلس الإمام على المنبر؛ فهي ساعات الدخول للجمعة (4) ، لا ساعات النهار، والله أعلم.
وثالثها: عمل أهل المدينة المتصل (5) بترك البكور للجمعة في أول النهار، وسعيهم (6) إليها قُرب،: خطبتها وصلاتها، وَهْوَ نَقْلٌ معْلُومٌ عندهم غير مُنْكَرٍ، وما كان أهل عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين من بعدهم ممن يترك الأفضل إلى غيره، ويتمالؤون على العمل بأقل الدرجات. =(2/486)=@
ورابعها (7) : إنّا لو تنزَّلنا على أن الساعات في الحديث هي التعديلية؛ للزم عليه انقضاء فضائل المبكِّرين للجمعة بانقضاء الخامسة، ولا يبقى لأهل السادسة فضل، فيلزم طيّ الملائكة (8) الصحف (9) إذ ذاك، وهو خلاف الحديث. وبيان ذلك: أن البدنة لأهل الساعة الأولى إلى أن تنقضي، والبقرة لأهل الساعة الثانية إلى انقضائها، والشاة لأهل الثالثة إلى انقضائها، والدجاجة لأهل الرابعة، والبيضة لأهل الخامسة، وقد فرغت ساعات البكور، ولم يبق لأهل السادسة ثواب في سعيهم، وهذا مناقض للحديث الذي ذكرناه ولمعناه؛ فإنه أخبر فيه: أن أجورهم لا تزال تكتب إلى أن يخرج الإمام، وهو إنما يخرج في السابعة، وحينئذ تَطْوي الملائكة الصحف، وتستمع (10) الذكر، فلا يكتب (11) للداخل إذ ذاك ثواب البكور (12) ؛ إذ قد فرغت مراتب ثواب المبكرين، والله أعلم. &(2/389)&$
__________
(1) في (أ):((يفسر)) .
(2) في (س):((وتعقبت)) .
(3) في (ز) و(س):((لسبقيه)) .
(4) في (أ):((إلى الجمعة)) .
(5) هاهنا إشارة في هامش النسخة (ب) بعد قوله: ((المتصل))، ونصها: ((وقد جاء في سند النسائي ما ينصّ على هذا المعنى))، وعليها علامة التصحيح، وهذه الزيادة موجودة في صلب النسخة (ح)، لكن عليها علامة الإلغاء: ((لا - إلى))، وفيها: "كتاب النسائي" بدل: "سنن النسائي".
(6) في (ز) و(س):((بسعيهم)) .
(7) في (س):((قبل)) .
(8) قوله: ((الملائكة)) ليس في (ح) و(ز) و(س).
(9) في (أ): ((الصحف الملائكة)) .
(10) في (ح): ((وتسمع)) .
(11) في (س):((فلا تكتب)) .
(12) في (أ):((ثوابًا)) وقوله:((البكور)) ليس في (أ).(2/389)
8- وَعَنْهُ (1) قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ((مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ، وَزِيَادَةُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ، وَزِيَادَةُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ)): زيادة (2) الثلاثة لتكمل عشرة (3) أيام بالتضعيف؛ حتى تكون الحسنة بعشر (4) أمثالها؛ كما قال تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} (5) .
وقوله: ((وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا))؛ أي: قد أتى لغوًا من الفعل أو القول. قال (6) الهروي: تكلم بما لا يجوز له، وقيل: لغا عن الصواب؛ أي: مال عنه. وقال النضر بن شُمَيْل: خاب (7) ، أَلْغَيْته: خَيَّبته. قال ابن عرفة: اللغو: الشيء المسقط؛ أي: الْمُلْغى. يقال: لغا يلغو، ولَغِيَ يَلْغَى.
وفي هذا الحديث ما يدلّ على وجوب الإقبال على استماع الخطبة، والتجرُّد لذلك، والإعراض عن كل ما يُشغل (8) عنها؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث =(2/487)=@ الآخر: ((من قال لصاحبه أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب؛ فقد لغا)) (9) ، وهو حُجَّة على وجوب الإنصات للخطبة لِمَنْ كان (10) مستمعًا، وهو مذهب الجمهور. وذُكر (11) عن الشعبي والنخعي وبعض السلف أنه ليس بواجب إلا عند تلاوة القرآن، وهذه الأحاديث حجَّة عليهم. واختلف الجمهور فيمن لا يسمع الخطبة (12) : هل يلزمه الإنصات أَوْ لا؟ فأكثرهم: على أن ذلك لازم. وقال أحمد والشافعي في أحد قوليه: إنما يلزم من يسمع، ونحوه عن النخعي. فلو لغا الإمام، فهل (13) يلزم الإنصات أم لا؟ قولان لأهل العلم ولمالك.
وقوله: ((والإمام يخطب))؛ حجة لعامة العلماء: على أنه إنما يجب الإنصات عند شروع الإمام في الخطبة. وذهب أبو حنيفة: إلى أنَّ الإنصات يجب بخروج الإمام.
((والبَدَنَةً)): ما يُهْدَى إلى الكعبة من الإبل؛ لأنها تَبْدُن؛ أي: تَسْمَن. والبدانة: السّمنُ، وعظم البدن. وتفريقه بين البدنة والبقرة يدل على أن البقر (14) لا يقال عليها بُدنٌ، وهو مذهب عطاء، ومالك يرى أن البقر من البُدن. وفائدة هذا الخلاف فيمن نذر بدنة ، أو وجبت عليه (15) فلم يجد البدنة، أو لم يقدر عليها وقدر على البقرة، &(2/391)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (2/588 رقم 857) في الجمعة، باب فضل من استمع وأنصت في الجمعة.
(2) في (ز) و(س):((وزيادة))
(3) في (ح): ((العشرة)) .
(4) في (ز) و(س):((بعشرة))
(5) سورة الأنعام، الآية: 160.
(6) في (أ):((وقال)) .
(7) قوله (خاب) سقط من (ز) و(س).
(8) في (أ): ((شغل)) .
(9) سيأتي برقم (18) في باب الإنصات للخطبة وفضله.
(10) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((على من كان)) .
(11) في (ب): ((وحكي)) .
(12) في (أ):((الخطب)) .
(13) في (س):((هل)) وفي (ز):((فيه هل)) . ...
(14) في (ح): ((البقرة)) .
(15) قوله:((أو وجبت عليه)) ليس في (أ).(2/390)
فهل تجزئه أم لا؟ فعلى مذهب عطاء: لا، وعلى مذهب مالك: نعم. وظاهر هذا الحديث (1) يدلّ على أن الأفضل في الهدايا الإبل، ثم البقر، ثم الغنم، وهذا الترتيب لا خلاف فيه في الهدايا، وإنما اختلفوا في ترتيب الأفضل في الضحايا، فذهب الجمهور إلى أن الضحايا مثل الهدايا. وذهب مالك إلى أن =(2/488)=@ الغنم أفضل، ثم البقر (2) ، ثم الإبل؛ نظرًا إلى طيب لحومها، وإلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بالغنم دائمًا. وإطلاق اسم الهدي على الدجاجة والبيضة مجاز، قصد به تمثيل مقدار أجور (3) المبكِّرين للجمعة؛ لأن الهدي إنما هو من النعم؛ كما قال تعالى : {فجزاءٌ مثلُ ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديًا بالغ الكعبة} (4) ، وإنما أطلق اسم الهدي على هذين؛ لمقابلته ما يُهْدَى (5) من الإبل والبقر والغنم. وقد جاء في الرواية الأخرى : ((قرَّب)) مكان ((أهدى)) (6) ، وهو لفظ ينطلق على الهدي وغيره (7) .
( 2 ) باب فضل يوم الجمعة، والساعة التي فيه
9- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (8) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ((خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَلا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب فضل يوم الجمعة
قوله: ((خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ (9) )): خيرٌ وشرٌ: يستعملان للمفاضلة ولغيرها، فإذا (10) كانتا (11) للمفاضلة؛ فأصلهما (12) : أخير وأشر؛ على وزن أفعل، وقد نطق (13) بأصلهما، فجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((توافون يوم القيامة &(2/391)&$
__________
(1) في (أ): ((الخلاف)) .
(2) في (ح): ((من البقر)) .
(3) في (ز) و(س):((أجر)) .
(4) سورة المائدة، الآية: 95.
(5) في (ح): ((لما يهدى)) .
(6) في (أ): ((الهدي)) .
(7) ((بعده)) في (ز):((والله أعلم بذلك)) .
(8) أخرجه مسلم (2/585 رقم 854) في الجمعة باب فضل يوم الجمعة.
(9) قوله:((يوم الجمعة)) ليس في (أ).
(10) في (ب): ((وإذا)) .
(11) في (أ): ((كانت)) .
(12) في (ز) و(س):((فأصلها)) .
(13) في (أ):((نطلق)) .(2/391)
سبعين أمة أنتم أخيرهم)) (1) . ثم ((أفعل)) إن قرنت بـ((من)) كانت نكرة، ويستوي فيها المذكر والمؤنث، والواحد والاثنان (2) والجمع، وإن لم تقرن بـ((من)) (3) لزم تعريفها (4) بالإضافة، أو بالألف واللام، فإذا عرف بالألف واللام أُنِّث وثُنّي وجمع، وإن أضيف ساغ فيه الأمران (5) كما قال تعالى: {وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها} (6) ، وقال: {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} (7) . وأما =(2/489)=@ إذا لم يكونا للمفاضلة؛ فهما من جملة الأسماء كما قال تعالى : {إن ترك خيرًا} (8) ، وقال: {ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا} (9) ، وهي في هذا الحديث للمفاضلة، غير أنها مضافة لنكرة موصوفة، ومعناها في هذا الحديث: أن يوم الجمعة (10) أفضل من كل يوم طلعت شمسه.
ثم كون الجمعة أفضل الأيام لا يرجع ذلك إلى عين اليوم؛ لأن الأيام متساوية في أنفسها، وإنما يَفْضُل (11) بعضها بعضًا بما يخص (12) به من أمر زائد على نفسه. ويوم الجمعة قد خصّ من جنس العبادات بهذه الصلاة المعهودة التي يجتمع لها الناس (13) ، وتتفق هممهم (14) ودواعيهم ودعواتهم فيها، ويكون حالهم فيها كحالهم في (15) يوم عرفة، فيستجاب لبعضهم في (16) بعض، ويغفر لبعضهم ببعض، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : ((الجمعة حج المساكين)) (17) ؛ أي: يحصل لهم فيها ما يحصل لأهل عرفة، والله أعلم. ثم إن الملائكة يشهدونهم، ويكتبون ثوابهم، ولذلك (18) سُمّي &(2/392)&$
__________
(1) أخرجه عبدالرزاق في "تفسيره" (1/130)، ومن طريقه الترمذي (5/211 رقم 3001) في التفسير، باب: ومن سورة آل عمران، وابن جرير (2/25 رقم 873) (7/104 رقم 7622)، والحاكم (4/84)، وأخرجه ابن ماجه (2/1433 رقم 4287، 4288) في الزهد، باب صفة أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وابن جرير (7/104 رقم 7621)، والدارمي (2/313) في الرقائق، باب في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((أنتم خير الأمم))، وعبد بن حميد (ص 155 رقم409)، والبيهقي (9/5)، ونعيم بن حماد في "زوائد الزهد" (ص 114 رقم 382)، والطبراني في "الكبير" (19/419و422-423 رقم1012، 1023، 1024، 1025).
جميعهم من طريق بهز بن حكيم، عن أبيه حكيم بن معاوية، عن جده معاوية بن حيدة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، به.
وأخرجه الإمام أحمد (5/3)، و(6/447)، والطبراني في "الكبير" (19/424 رقم 1030)، والحاكم (4/84) ثلاثتهم من طريق سعيد الجريري، عن حكيم بن معاوية، به.
وأخرجه الطبراني في "الكبير" (19/426-427 رقم1036، 1037، 1038 طريق أبي قزعة سويد بن حجير، عن معاوية بن حكيم، به.
قال الترمذي: ((حديث حسن)) .
وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وقال ابن كثير في "تفسيره" (1/78): ((وهو حديث مشهور، وقد حسنه الترمذي)) . وحسنه الشيخ الألباني في تعليقه على "المشكاة" (3/1771-1772 رقم 6294).
(2) في (ح):((والاثنين)) .
(3) في (ب) و(ح):((وإن لم يقرن بها))، وفي (ز) و(س):((وإن لم تقرن بها)) .
(4) في (أ): رسمت هكذا((لطريقها)) .
(5) قوله:((الأحران)) غير واضحة في (ز).
(6) سورة الأنعام، الآية: 123.
(7) سورة البقرة، الآية: 96.
(8) سورة البقرة، الآية: 180.
(9) سورة النساء، الآية: 19.
(10) قوله:((الجمعة)) سقط من (ز).
(11) في (س):((تفضل))
(12) في (ب): ((تخص)) .
(13) قوله: ((الناس)) ليس في (ب).
(14) في (أ): ((همتهم))، وفي (ز):((همهم)) .
(15) قوله: ((في)) ليس في (أ).
(16) في (ز):((إلى)) بدل((في)) .
(17) أخرجه ابن الأعرابي في "معجمه" (ل 240/ب)، ومن طريقه القضاعي في "مسند الشهاب" رقم (78)، وأخرجه أبو نعيم في "ذكر أخبار أصبهان" (2/190)، كلاهما من طريق عيسى بن إبراهيم الهاشمي، عن مقاتل، عن الضحاك، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، به. وفي سنده مقاتل بن سليمان وهو كذاب، وعيسى بن إبراهيم الهاشمي وهو متروك كما في ترجمتهما في "الميزان" (3/308-309 رقم6546)، و(4/173-175 رقم8741)، وحكم عليه الشيخ الألباني بالوضع في "السلسلة الضعيفة" (1/344 رقم191).
(18) زاد في (ز):((لأهل عرفة)) وكأنه ضرب عليها.(2/392)
هذا اليوم: المشهود (1) ، ثم يحصل (2) فيه لقلوب العارفين من الألطاف والزيادات حسب ما يدركونه (3) من ذلك؛ ولذلك (4) سُمّي: بـ((يوم المزيد)) (5) ، ثم إن الله تعالى قد خصّه بالساعة التي فيه على ما يأتي ذكرها، ثم إن الله تعالى قد خصّه (6) بأن أوقع فيه هذه الأمور العظيمة التي هي خلق آدم - صلى الله عليه وسلم - ؛ الذي هو أصل البشر، ومن ولده الأنبياء والأولياء والصالحون. ومنها: إخراجه من الجنة الذي (7) حصل عنده (8) إظهار معرفة الله تعالى وعبادته في هذا النوع الآدمي. ومنها: توبة الله تعالى عليه التي بها ظهر لطفه تعالى ورحمته لهذا النوع (9) الآدمي مع اجتراصه (10) ومخالفته. ومنها: موته الذي بعده وُفِّي أجره، ووصل =(2/490)=@ ؤإلى مأمنه، ورجع إلى المستقرّ الذي خرح منه. ومن فهم (11) هذه المعاني؛ فَهِمَ فضيلة هذا اليوم وخصوصيته بذلك، فحافظ عليه وبادر إليه.
10- وَعَنْهُ (12) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ((نَحْنُ الآخِرُونَ الأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيْهِ، فَهَدَانَا الله لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ، فَهَذَا يَوْمُهُمِ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، هَدَانَا الله لَهُ - قَالَ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ - فَالْيَوْمَ لَنَا، وَغَدًا لِلْيَهُودِ، وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((وَهَذَا يَوْمُهُمِ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا الله لَهُ، فَهُمْ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، فَالْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ)).
11- وَمِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ (13) نَحْوَهُ وقَالَ: ((نَحْنُ الآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَالأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلائِقِ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((الْمَقْضِيُّ بَيْنَهُمْ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((نَحْنُ الآخِرُونَ الأَوَّلُونَ))، قد فسرته الرواية (14) الأخرى (15) التي قال فيها: ((نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق، وأول من يدخل الجنة)). وهذا كلّه لِشَرف هذه (16) الأمة بشرف نبيها - صلى الله عليه وسلم - (17) ، ولأنهم خير أمة أخرجت للناس.
وقوله: ((بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا)): هكذا روينا هذا اللفظ (18) : ((بَيْدَ)) بفتح الباء، وسكون الياء، وفتح الدال. قال أبو عبيد (19) : تكون (20) ((بيد)) بمعنى غير، وبمعنى على، وبمعنى: من أجل، وأنشد (21) :
عَمْدًا فَعَلْتُ ذاكَ بَيْدَ أنِّي ... أخافُ إن هَلَكْتُ لم تُرِنِّي (22)
قال الليث: ويقال: مَيْدَ وبَيْدَ؛ بالتاء والميم؛ بمعنى غير.
قال الشيخ رحمه الله: ونصبه إذا كان بمعنى غير على الاستثناء، ويمكن أن يقال: إنه بمعنى مع (23) ، ويكون نصبه على الظرف الزماني.
و ((أُوتُوا الْكِتَابَ)): أُعطوه. و ((الكتاب)): التوراة، ويحتمل أن يريد به التوراة والإنجيل؛ بدليل: أنه قد ذكر بعد هذا اليهود والنصارى. &(2/393)&$
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (2/298-299)، وابن جرير الطبري في "تفسيره" (24/332و333)، والبيهقي في "سننه" (3/170)، أم الإمام والبيهقي فمن طريق شعبة، وأما ابن جرير فمن طريق سفيان الثوري وإسماعيل بن عليّة، ثلاثتهم عن يونس بن عبيد، عن عمار بن أبي عمار مولى بني هاشم، عن أبي هريرة أنه قال في هذه الآية: { وشاهد ومشهود}؛ قال: الشاهد: يوم الجمعة ، والمشهود: يوم عرفة ، والموعود: يوم القيامة.
وسنده صحيح.
وأخرجه الإمام أحمد أيضًا (2/298 طريق شعبة ؛ قال: سمعت علي بن زيد ويونس ابن عبيد يحدثان عن عمار مولى بني هاشم، عن أبي هريرة، أما علي فرفعه...، وأما يونس فلم يعدُ أبا هريرة.اهـ.
ولاشك أن رواية يونس أرجح ؛ فهو ثقة، وأما علي بن زيد فضعيف، ولذلك قال الحاكم في "المستدرك" (2/519)- بعد أن أخرجه من طريق الإمام أحمد -: ((حديث شعبة عن يونس بن عبيد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي.
وقال ابن كثير في "تفسيره" (8/385): ((وروي موقوفًا على أبي هريرة، وهو أشبه)) .
وروي من وجه آخر مرفوعًا.
فأخرجه الترمذي (5/406 رقم3339) في تفسير سورة البروج من كتاب التفسير، وابن جرير (24/332و333و334)، وابن عدي في "الكامل" (2/44)، و(6/336)، ثلاثتهم من طريق موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد، عن عبدالله بن رافع، عن أبي هريرة، به مرفوعًا. وسنده ضعيف لضعف موسى بن عبيدة، وضعّفه الترمذي بقوله:((هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة، وموسى بن عبيدة يضعَّف في الحديث ؛ ضعَّفه يحيى بن سعيد وغيره من قبل حفظه، وقد روى شعبة وسفيان الثوري وغير واحد من الأئمة عن موسى بن عبيدة)) . كذا في "جامع الترمذي" المطبوع مع "تحفة الأحوذي"(9/258-259)؛ لم يذكر فيه أن الترمذي حسّن الحديث، ونقل المزي في "تحفة الأشراف" (10/133-134) تضعيف الترمذي للحديث، ولم ينقل تحسينه له، وهذا يدل على أن ما جاء في المطبوع من "جامع الترمذي" بتحقيق أحمد شاكر وتكملة محمد فؤاد عبدالباقي، ثم إبراهيم عطوة عوض ؛ من أن الترمذي حسّن الحديث ليس بصحيح، ويتنافى مع باقي كلامه.
وضعّف الحديث أيضًا ابن عدي في الموضعين السابقين من "الكامل"، حيث قال في الموضع الأول:((وهذا الحديث العهدة فيه على موسى بن عبيدة))، وفي الموضع الثاني ذكر الحديث على أنه من الأحاديث التي انتقدت على موسى بن عبيدة، ثم قال:((وهذه الأحاديث التي ذكرتها لموسى بن عبيدة بأسانيدها مختلفة، عامتها مما ينفرد بها من يرويها عنه، وعامتها متونها غير محفوظة، وله غير ما ذكرت من الحديث، والضعف على رواياته بيِّن)) .
(2) في (ب) و(ح): ((تخطر)) بدل: ((يحصل))، وفي (ز) و(س):((يخطر)) .
(3) قوله: ((يدركونه)) رسم في (ب) هكذا: ((نذكره كونه)) .
(4) قوله:((ولذلك)) سقط من (ز)
(5) هو حديث يروى عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، وله عنه ست طرق:
أ - طريق أبي اليقظان عثمان بن عمير، عن أنس - رضي الله عنه - ؛ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( أتاني جبريل وفي يده كالمرآة البيضاء فيها كالنكتة السوداء، فقلت: يا جبريل ! ما هذه؟ قال: الجمعة...))، الحديث بطوله، وفيه:((ونحن ندعوه يوم القيامة: يوم المزيد...)) الحديث.
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (1/477-478 رقم5516) في الصلاة، باب فضل الجمعة ويومها، وعبدالله بن أحمد في "السنة" (1/250-251 رقم460)، والآجري في "الشريعة" (2/31-32 رقم654).
وآفته أبو اليقظان عثمان بن عمير البجلي، الكوفي، الأعمى، فقد ضعفه الإمام أحمد وابن نمير والنسائي والدارقطني وأبو زرعة ، وقال البخاري :((كان يحيى وابن مهدي لا يحدثان عنه))، وقال أبو حاتم :((ضعيف الحديث ، منكر الحديث ، كان شعبة لا يرضاه))، وذكر شعبة أنه حضره فروى عن شيخ ، فقال له شعبة : كم سنك ؟ فقال : كذا ، فإذا قد مات الشيخ وهو ابن سنتين . انظر "تهذيب الكمال" (19/469-472). وقال ابن حجر في "التقريب" (ص667 رقم4539) عنه :"ضعيف ، واختلط ، وكان يدلِّس ويغلو في التشيع ".
ب - طريق عبدالله بن بريدة ، عن أنس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو سابقه .
أخرجه الطبراني في((الأحاديث الطوال)) الملحقة بـ" المعجم الكبير" (25/264-266 رقم35)، وابن عدي في "الكامل" (4/55)، كلاهما من طريق أبي يوسف القاضي ، عن صالح بن حيان ، عن عبدالله بن بريدة ، به .
وصالح بن حيان القرشي ، الكوفي ضعيف كما في "التقريب" (ص444 رقم2867).
جـ - طريق سالم بن عبدالله ، عن أنس بن مالك بنحو سابقه .
أخرجه الطبراني في "الأوسط" (7/15 رقم6717) من طريق الوليد بن مسلم، عن عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن سالم. وسنده ضعيف جدًّا؛ لضعف عبدالرحمن بن ثابت من قِبل حفظه، ففي "التقريب" (ص572 رقم3844):((صدوق يخطئ ، ورُمي بالقدر ، وتغير بآخره)) .
والوليد بن مسلم مدلس ولم يصرح بالسماع.
وسالم بن عبدالله هذا ليس ابن عبدالله بن عمر ، وإنما هو شيخ شامي ؛ كما نقله ابن أبي حاتم في "العلل" (1/206 رقم593) عن أبيه.
د - طريق قتادة عن أنس بنحو سابقه ، وفيه زيادات.
أخرجه العقيلي في "الضعفاء" (1/292-293)، والدارقطني في "الرؤية"(ص179-182رقم164)، كلاهما من طريق حمزة بن واصل المنقري ، عن قتادة.
وآفته حمزة هذا ، قال عنه العقيلي في الموضع السابق:((مجهول في الرواية ، وحديثه غير محفوظ))، وقال:((ليس له من حديث قتادة أصل ، هذا حديث عثمان بن عمير أبو البقظان عن أنس...، إلا أن حديث عثمان دون هذا التمام ، وفي هذا كلام كثير ليس في حديث عثمان)) .
وقال عنه الذهبي في "ميزان الاعتدال" (1/608 رقم2312):((لا يعرف وليس بعمدة)) .
هـ - طريق أبي عمران الجَوْنِي ، عن أنس ، به نحو طريق عثمان بن عمير.
أخرجه الطبراني في "الأوسط" (2/314-315 رقم2084) من طريق خالد بن مخلد القطواني ، عن عبدالسلام بن حفص ، عن أبي عمران.
وهذه أمثل طرق هذا الحديث ، والظاهر أنه لأجله - مع الطرق السابقه- حكم عليه الشيخ الألباني رحمه الله بالصحة في تعليقه على "الترغيب والترهيب" (ص291 رقم694)، ولكن من يضعفه فإنه يراه مما تفرد به عبدالسلام بن حفص ، وعنه خالد بن مخلد.
أما عبدالسلام بن حفص ، فقد وثقه ابن معين ، وقال أبو حاتم:((ليس بمعروف)) ؛ كما في "الجرح والتعديل" (6/45-46 رقم239)، واستنكر له ابن عدي حديثًا ، ولأجله أورده في "الكامل" (5/333).
وأما خالد بن مخلد القطواني فقال ابن معين :((ما به بأس))، وقال أبو داود:((صدوق، ولكنه يتشيع))، وذكر له ابن عدي عشرة أحاديث مما يستنكر عليه ، ثم قال:((ولم أجد في كتبه أنكر مما ذكرته، فلعله توهمًا منه ، أو حملاً على الحفظ ، وهو عندي إن شاء الله لا بأس به))، وقال الإمام أحمد:((له أحاديث مناكير))، وقال ابن سعد:((كان منكر الحديث ، في التشيع مفرطًا ، وكتبوا عنه ضرورة)) . انظر "الطبقات" لابن سعد (6/406)، و"الكامل" لابن عدي (3/34-36)، و"تهذيب الكمال" (8/163-166).
(6) قوله:((ثم إن الله تعالى قد خصَّه)) سقط في (ز).
(7) في (ب)و(ح): ((التي)) .
(8) في (أ):((عنه)) بدل((عنده)) .
(9) قوله:((النوع)) غير واضحة في (ز) وتراجع.
(10) في (أ): ((إجرامه)) .
(11) في (ب):((جمع)) .
(12) أخرجه البخاري (2/354 رقم 876) في الجمعة، باب فرض الجمعة، ومسلم (2/585 رقم 855) في الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة.
(13) أخرجه مسلم (2/586 رقم 856) في الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة.
(14) في (ب): ((قد فسره في الرواية)) .
(15) وهي الآتية قريبًا برقم (11) في الجمعة باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة.
(16) في (س):((شرفٌ لهذه)) .
(17) قوله:((بشرف نبيها)) في (أ).
(18) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((الحرف)) بدل:((اللفظ)) .
(19) في "غريب الحديث" (1/89).
(20) قوله: ((تكون)) ليس في (ح).
(21) نص عبارة أبي عبيد: ((وقال الأموي: بَيْدَ: معناها: على، وأنشدنا لرجل يخاطب امرأة)) .اهـ.، ولم يذكر من هو الرجل، وذكر ابن منظور في "اللسان"(13/187)البيت ولم يعزه، وكذلك ابن السكيت في "إصلاح المنطق" (1/24)، وعجزه هكذا:
.............................. ... إفَال إن هلك أَنْ ترنِّي
(22) الرَّنين: الصوت الحزين، والصيحة الشديدة؛ كما في الموضع السابق من "لسان العرب".
(23) قوله:((مع)) سقط من (س) و(ز).(2/393)
وقوله: ((فَاخْتَلَفُوا)): يعني: في يوم الجمعة. وقد اختلف العلماء في كيفية =(2/491)=@ ما وقع لهم من فرضية (1) يوم الجمعة، فقالت طائفة: إن موسى - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بيوم الجمعة، وعيَّنه لهم، وأخبرهم بفضيلته (2) على غيره، فناظروه: أن السبت أفضل. فقال الله تعالى له (3) : ((دعهم وما اختاروا لأنفسهم)). ونقلوا هذا القول. ويؤيد هذا قول نبينا - صلى الله عليه وسلم - في بعض طرق هذا الحديث: ((وهذا يومهم الذي فُرض عليهم، فاختلفوا فيه (4) )). وقيل: إن الله تعالى لم يعيِّنه لهم، وإنما أمرهم بتعظيم يوم في (5) الجمعة، ووكل تعيينه إلى اختيارهم (6) ، فاختلف اجتهادهم في تعيينه، فعيَّنت اليهود السبت؛ لأن الله تعالى فرغ فيه من الخلق. وعيَّنت النصارى يوم الأحد؛ لأن الله تعالى بدأ فيه الخلق، فألزم كل واحد (7) منهم ما أدّاه إليه اجتهاده. وعيَّنه الله تعالى لهذه الأمة من غير أن يَكِلَهم لاجتهادهم (8) ؛ فضلاً منه ونعمة (9) . ويدلّ (10) على صحة هذا: قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((فَهَذَا يَوْمُهُمِ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ))؛ أي: في تعيينه: ((هدانا الله له))؛ أي: بتعيينه (11) لنا، لا باجتهادنا. وممَّا يؤيده: أنه لو عُيّن لهم فعاندوا فيه لما قيل: اختلفوا فيه (12) ، وإنما كان ينبغي أن يقال: فخالفوا فيه وعاندوا. وممّا يؤيده أيضًا قوله في "الأم" (13) في بعض طرقه: ((أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا)).
وقوله: ((فَالْيَوْمَ لَنَا، وَغَدًا لِلْيَهُودِ، وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى))؛ أي: بعد إلزام &(2/394)&$
__________
(1) في (ب): ((فريضة)) .
(2) في (ز):((بفيضيلته)) .
(3) قوله:((له)) ) ليس في (ز) و(س).
(4) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((ثم اختلفوا فيه)) .
(5) قوله: ((في)) ليس في (أ).
(6) قوله: ((ووكل تعيينه إلى اختيارهم)) من (ب)، وفي (ح):((ووكل فاختلف)) .
(7) قوله:((واحد)) من (ز) و(س) وليس في (أ).
(8) في (ز) و(س):((إلى اجتهادهم)) .
(9) تشبه أن تكون في (ب): ((ورحمة)) بدل:((ونعمة)) .
(10) في (ز):((ويدر بوء)) بدل قوله:((ويدل)) .
(11) في (س):((بتعينه)) .
(12) قوله:((فيه)) ليس في (أ).
(13) أي: "صحيح مسلم" (2/586 رقم856) كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة.(2/394)
المشروعية بالتعيين لنا (1) ، وبالاختيار لهم. وحقّ ((غد)) و((بعد)) (2) أن يكونا مرفوعين على المبتدأ، وخبرهما في المجرورين بعدهما، وقد قيَّدهما كذلك بعض من نعتمده. وقيدناهما (3) أيضًا بالنصب (4) بناء (5) على أنهما ظرفان (6) غير متمكنين، والأول أولى؛ لأنهما قد أخبر عنهما هنا، فقد خرجا عن الظرفية. وقد جاء في رواية: =(2/492)=@ ((فَالْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ)) منصوبين على الظرف؛ إلا أنهما متعلقان بمحذوف تقديره: فاليهود يعظمون غدًا، والنصارى بعد غد (7) ، وضمّ إلى ذلك التقدير (8) : أن ظروف الزمان لا تكون أخبارًا عن الجثث.
12- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (9) قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - : ((إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ لَسَاعَةً، لا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ الله خَيْرًا إِلا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ)). وَقَالَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا، يُزَهِّدُهَا. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: ((وَهِيَ سَاعَةٌ خَفِيفَةٌ)).
13- عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوْسَى الأَشْعَرِيِّ (10) قَالَ: قَالَ لِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرْ: أَسَمِعْتَ أَبَاكَ يُحَدِثْ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي شَأْنِ سَاعَةِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ((هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الإِمَامُ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلاةُ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: ((إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ لَسَاعَةً)): اختلف في تعيينها: فذهبت طائفة من السلف: إلى أنها من بعد العصر إلى الغروب، وقالوا: إن (11) معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((وهو قائم يصلي))، أنه بمعنى: ملازم ومواظب على الدعاء. وذهب آخرون: إلى أنها ما بين (12) خروج الإمام إلى أن تُقضى الصلاة؛ كما في حديث أبي موسى (13) . وذهب =(2/493)=@ آخرون: إلى أنها وقت الصلاة نفسها. وقيل: من وقت الزوال إلى نحو الذراع، وقيل: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وقيل: هي (14) مخفيّة في اليوم كله؛ كليلة القدر. قال الشيخ رحمه الله: وحديث أبي موسى نصٌ في موضع الخلاف، فلا يلتفت إلى غيره، والله أعلم.
وقوله: ((وَهِيَ (15) سَاعَةٌ خَفِيفَةٌ))؛ أي: قصيرة غير طويلة؛ كما قال في الرواية الأخرى: ((يُزَهِّدُهَا))؛ أي: يقللها. وهذا يدل على أنها ليست من بعد العصر إلى غروب الشمس؛ لطول هذا الوقت (16) . =(2/494)=@ &(2/395)&$
__________
(1) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(2) قوله:((وبعد)) غير واضح في (ز).
(3) قوله: ((كذلك بعض من نعتمده وقيدناهما)) ليس في (ح).
(4) في (ح): ((بالنصب أيضًا)) .
(5) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(6) في (ز):((طرفان)) .
(7) من قوله:((منصوبيبن على الظرف... إلى هنا)) سقط من (ر) و(س).
(8) قوله: ((التقدير)) ليس في (ب)و(ح).
(9) أخرجه البخاري (2/415 رقم 935) في الجمعة، باب الساعة التي في يوم الجمعة. ومسلم (2/584 رقم 852) في الجمعة، باب في الساعة التي في يوم الجمعة.
(10) أخرجه مسلم (2/584 رقم 853) في الجمعة، باب في الساعة التي في يوم الجمعة.
(11) قوله:((إن)) ليس في (ز) و(س).
(12) في (ب) و(ز) و(س): ((فيما بين)) .
(13) قوله: ((وذهب آخرون إلى أنها....)) إلى هنا ليس في (ح).
(14) قوله: ((هي)) ليس في (أ).
(15) في (ب): ((هي)) .
(16) زاد بعدها في (ز):((والله أعلم)) .(2/395)
( 3 ) باب فضل التهجير للجمعة ووقتها
14- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ((إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ كَانَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ مَلائِكَةٌ يَكْتُبُونَ الأَوَّلَ فَالأَوَّلَفَإِذَا جَلَسَ الإِمَامُ طَوَوُا الصُّحُفَ وَجَاءُوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ، وَمَثَلُ الْمُهَجِّرِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي بَدَنَةَ، ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي الْكَبْشَ، ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي الدَّجَاجَةَ، ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي الْبَيْضَةَ)).
15- وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ (2) قَالَ: كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب فضل التهجير للجمعة
قد تقدم الكلام على التهجير، وعلى كثير مما تضمنه حديث أبي هريرة.
وقوله : ((كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ)) دليل للجمهور على أحمد بن حنبل وإسحاق إذ قالا: إنه يجوز أن تصلى الجمعة قبل الزوال، &(2/396)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (2/407 رقم 929) في الجمعة، باب الاستماع إلى الخطبة، ومسلم (2/587 رقم 850) في الجمعة، باب فضل التهجير يوم الجمعة.
(2) أخرجه مسلم (2/589 رقم 860)في الجمعة، باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس.(2/396)
وهذا الحديث مُبيِّن للأحاديث التي بعده، ولا متمسك لأحمد وإسحاق في شيء منها مع هذا النص، فإنها كلها محتملة، وهو القاضي عليها، المبيِّنُ لها. =(2/495)=@
16- وعَنْهُ (1) قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْجُمُعَةَ، فَنَرْجِعُ وَمَا نَجِدُ لِلْحِيطَانِ فَيْئًا نَسْتَظِلُّ بِهِ.
17- وعَنْ جَعْفَرٍ بِنْ مُحَمَدّْ (2) ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَأَلَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله: مَتَى كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الْجُمُعَةَ؟ قَالَ: كَانَ يُصَلِّي ثُمَّ نَذْهَبُ إِلَى جِمَالِنَا فَنُرِيحُهَا.
وَفِي رِوَايَةٍ: نَوَاضِحَنَا. قَالَ حَسَنٌ بِنُ عِيَاشٍ فَقُلْتُ لِجَعْفَرٍ: فِي أَيِّ سَاعَةٍ تِلْكَ؟ قَالَ: زَوَالَ الشَّمْسِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : ((فَنَرْجِعُ (3) وَمَا نَجِدُ (4) لِلْحِيطَانِ فَيْئًا نَسْتَظِلُّ بِهِ))، يعني أنه كان يفرغ من صلاة الجمعة قبل تمكن الفيء من أن يستظل (5) به؛ كما قال : ((ثم نرجع نتتبع (6) الفيء))، وهذا يدل على إيقاعه - صلى الله عليه وسلم - إياها في أول الزوال.
و((النواضح)): الإبل التي يُسْتَقَى عليها. و((نريحها (7) )): نروحها؛ أي: نروِّحها؛ لتستريح. قال القاضي أبو الفضل: لا خلاف (8) بين فقهاء الأمصار أن الجمعة لا تصلى (9) إلا بعد الزوال، إلاَّ أحمد وإسحاق. وروي عن الصحابة - رضي الله عنهم - في هذا (10) أشياء لم تصح عنهم؛ إلا ما عليه الجمهور.
وقد روي عن مجاهد: أنها صلاة عيد. =(2/496)=@
قال الشيخ - رحمه الله -: ويلزم على هذا (11) ألاّ تنوب عن ظهر يوم الجمعة، كظهر يوم العيد (12) (13) . =(2/497)=@ &(2/397)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (7/449 رقم 4168) في المغازي، باب غزوة الحديبية ، ... ومسلم (2/589 رقم 860 ) في الجمعة، باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس.
(2) أخرجه مسلم(2/588 رقم 858) في الجمعة، باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس.
(3) في (ز):((فيرجع)) .
(4) في (ز) و(س):((ولا نجد)) .
(5) قوله:((يستظل)) غير واضحة في (ز).
(6) في (أ):((نتتع)) كذا رسمت.
(7) في (ز):((وتريحها)) .
(8) في (ح): ((لا خلاف فيها)) .
(9) في (ز):((يصلي)) .
(10) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((وروي من هذا عن الصحابة)) .
(11) في (ب): ((ويلزم عليه)) .
(12) قوله:((وقد روي عن مجاهد أنها صلاة عيد...)) إلى هنا ليس في (أ).
(13) زاد بعده في (ز) و(س):((والله أعلم)) .(2/397)
( 4 ) باب الإنصات للخطبة وفضله
18- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) : أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ: أَنْصِتْ، يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: لَغَيْتَ، وَهِيَ لُغَةُ أَبِي هُرَيرَةَ.
19- وَعَنْهُ (2) ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((مَنِ اغْتَسَلَ ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ، ثُمَّ أَنْصَتَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى. وَفَضْلُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ)).
زَادَ في رواية: ((وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 5 ) باب الخطبة، والقيام لها، والجلوس بين الخطبتين، والإشارة باليد
20- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله (3) : أَنَّ النَّبِيَّr كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَجَاءَتْ عِيرٌ مِنَ الشَّامِ، فَانْفَتَلَ النَّاسُ إِلَيْهَا، حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِلا اثْنَا عَشَرَ رَجُلاً - في رواية: فِيهِمْ أَبُو بَكْر وَ عُمَر - فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا }.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الخطبة والقيام لها
قوله (4) : ((كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ قَائِمًا)): هكذا سنّة الخطبة لتكون (5) أبلغ في الإسماع؛ كالمؤذن عند الجمهور (6) ، إلا أن تدعوه حاجة من ضعف أو غيره. وقد حُكي عن أبي حنيفة: أنه لا يرى القيام لها مشروعًا. حكاه ابن القصار، بل هو عنده مُباح. ثم اختلف (7) في مشروعيته: هل هو شرط في صحة الخطبة والجمعة أم لا؟ فذهب الشافعى إلى أنه شرطٌ (8) إلا (9) مع العذر، ومذهبنا: أنه ليس من شروط الصحة للخطبة ولا للجمعة، ومن تركه أساء ولا شيء عليه. وقد روي: أن (10) (11) أول من خطب جالسًا معاوية رضي الله عنه لما ثقل (12) .
واختُلف في الخطبة: هل هي شرط في صحة الجمعة (13) أم لا؟
فكافة العلماء على أنها شرط، وشذّ الحسنُ فرأى أن الصلاة تجزئ دونها، وتابعه أهل الظاهر في هذا، وحكاه ابن الماجشون عن مالك. ثم اختلف هؤلاء: هل هي فرض، أو سنة؟ واضطربت الروايات عن أصحابنا في ذلك (14) ، ثم =(2/498)=@ اختلفوا في الخطبة المشروعة: فذهب مالك وجمهور العلماء إلى أنه لا يجزئ في الخطبة إلا ما وقع عليه اسم الخطبة عند العرب، وأبو حنيفة وأبو يوسف ذهبا إلى أنه يجزئ من ذلك تحميدةٌ، أو تهليلة، أو تسبيحة، وحكاه ابن عبد الحكم عن مالك. &(2/398)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (2/414 رقم 934) في الجمعة، باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب، ومسلم (2/583 رقم 851) في الجمعة، باب في الإنصات يوم الجمعة في الخطبة.
(2) أخرجه مسلم (2/587 رقم 857) في الجمعة، باب فضل من استمع وأنصت في الخطبة.
(3) أخرجه مسلم (2/590 رقم 863) في الجمعة، باب قوله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهوًا انفضوا إليها وتركوك قائمًا }.
(4) في (ز) و(س):((ليكون)) .
(5) قوله:((قوله)) ليس في (ز).
(6) قوله: ((عند الجمهور)) ليس في (ح).
(7) في (ح): ((اختلفوا)) .
(8) هناك إشارة لحق في هذا الموضع من (ب) بعد قوله:((شرط))، وكتب في الهامش ما نصه: ((في صحة الخطبة والجمعة)) .
(9) قوله:((إلا)) ليس في (أ.)
(10) قوله:((أول)) ليس في (ز) و(س).
(11) في (أ): ((انه)) .
(12) أخرجه ابن أبي شيبة (1/448 رقم5179و5180) في الصلاة، باب: من كان يخطب قائمًا، من طريق ليث، عن طاوس قال: ((خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائمًا، وأبو بكر قائمًا، وعثمان قائمًا، وأول من جلس على المنبر: معاوية بن أبي سفيان)) .
وأخرجه أيضًا (1/449 رقم5193) في الموضع السابق من طريق جرير عن مغيرة، والبيهقي (3/197 طريق شعبة، عن حصين، كلاهما ( مغيرة، وحصين ) عن الشعبي، قال: ((أول من أحدث القعود على المنبر معاوية)) . وفي لفظ: ((إنما خطب معاوية قاعدًا حيث كثر شحم بطنه ولحمه)) .
وكلا الطريقين ضعيف لإرساله، والأول فيه مع الإرسال ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف.
(13) كذا في الأصول، وفي هامش (ح): ((الصلاة)) ؛ أي بدل:((الجمعة))، وفوقها:((صح)) .
(14) في (ح): ((في أصحابنا عن ذلك)) .(2/398)
و((العير)): الإبل التي تحمل الأطعمة والتجارة، وهي المسماة في الرواية الأخرى (1) بـ((سويقة))] (2) ، وهي تصغير سوق.
وقوله : ((فَانْفَتَلَ النَّاسُ إِلَيْهَا (3) ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ (4) إِلا اثْنَا (5) عَشَرَ رَجُلاً)) فيه ردّ على من يقول: إن الجمعة لا تُقام إلا على أربعين فصاعدًا، وحُكي ذلك عن الشافعي، وقد تمسّك بهذا الحديث طائفة من أهل العلم على أن أقل ما تنعقد (6) به الجمعة اثنا (7) عشر، ولا حجة فيه على ذلك؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما عَقَدَهَا، وشرع فيها بأكثر من هذا (8) العدد، ثم عرض لهم أن تفرقوا، ولم يبق منهم غير ذلك العدد. وقد رُوي في بعض روايات هذا الحديث: أنه بقي معه أربعون رجلاً (9) ، والأول أصح وأشهر.
وعلى الجملة فقد اختلف العلماء في العدد المشترط في وجوب الجمعة، وفي العدد الذي تصح ببقائهم إذا تفرقوا عن الإمام بعد شروعه فيها على أقوال كثيرة، فلنرسم (10) فيه مسألتين :
المسألة الأولى: اختلف: هل يُشترط في وجوب الجمعة عدد؟ فذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء إلى اشتراطه، وذهب داود إلى أنه لا يُشترط ذلك في وجوبها، وتلزم (11) المنفرد، وهي ظهرُ ذلك اليوم عنده لكل أحد. قال القاضي عياض: وهو خلافُ الإجماع. واختلف المشترطون: هل هو مختصٌ =(2/499)=@ بعدد (12) محصور أم لا؟ فعدم الحصر هو مذهب مالك؛ فإنه لم يشترط في ذلك حدًّا محدودًا، وإنما قال: يكونون بحيث يمكنهم الثَّواء في بلدهم، وتتقرَّى (13) بهم قرية. وفسّره بعض أصحابنا بنصب الأسواق (14) فيها؛ حكاه عياض. والمشترطون للعدد (15) اختلفوا: فمن قائل: مئتان. ومن قائل: خمسون؛ قاله عمر بن عبد العزيز (16) ومن قائل: أربعون؛ قاله الشافعي، ومن قائل: ثلاثون بيتًا (17) ؛ قاله مطرف، وعبد الملك، عن مالك، ومن قائل: اثنا (18) عشر. ومن قائل: أربعة؛ قاله أبو حنيفة (19) ، لكن إذا أقاموا (20) في مصر. وقال &(2/399)&$
__________
(1) عند مسلم في الموضع السابق برقم (863/37).
(2) في (أ) و(ز) و(س): ((سويقة)) بدون الباء.
(3) في (أ): ((إليهما)) .
(4) في (أ): ((لم يبق معه)) .
(5) رسمت في (أ) و(س) في الموضع الأول بالألف المقصورة: ((اثنى)) .
(6) في (ز):((ينعقد)) .
(7) رسمت في (أ) و(س) في الموضع الأول بالألف المقصورة: ((اثنى)) .
(8) قوله: ((هذا)) ليس في (أ).
(9) أخرجه الدارقطني في "السنن" (2/4 رقم5)، ومن طريقه البيهقي (3/182)، من حديث على بن عاصم، عن حصين بن عبدالرحمن، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر بن عبدالله قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطبنا يوم الجمعة ؛ إذا أقبلت عير تحمل الطعام حتى نزلوا بالبقيع، فالتفتوا إليها، وانفضّوا إليها، وتركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس معه إلا أربعون رجلاً أنا فيهم...، الحديث.
قال الدارقطني: «لم يقل في هذا الإسناد:((إلا أربعين رجلاً)) غير علي بن عاصم، عن حصين، وخالفه أصحاب حصين ؛ فقالوا: ((لم يبق مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا غثنا عشر رجلاً ».
وعلي بن عاصم هذا هو: ابن صهيب الواسطي، قال الحافظ في "التقريب" (ص699 رقم4792):((صدوق يخطئ وويصرّ ورمي بالتشيع)) .
(10) في (أ): ((فليرسم)) .
(11) في (أ): ((ويلزم)) . و(س):((نلزم)) كذا رسمت.
(12) في (س):((بفرد)) .
(13) في (س) تشبه أن تكون:((ومفرى)) .
(14) في (ز) و(س):((الأمران)) .
(15) في (س):((بفرد)) .
(16) قوله:((ابن عبدالعزيز)) مكرر في (ب).
(17) قوله:((بيتا)) ليس في (أ).
(18) في (أ):((اثنى)) بالمقصورة.
(19) قوله:((قاله أبو حنيفة)) ليس في (ز) و(س).
(20) في (ب) و(ح) و(ز) و(س): ((كانوا)) بدل: ((أقاموا)) .(2/399)