و الفَلاَةُ : القَفْر ، وهذا هو الماءُ الذي قد نَهَى النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن منعه بقوله : لاَ يُمْنَعُ فَضْلُ المَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الكَلَأُ ، وسيأتي الكلامُ عليه إنْ شاء الله.
وقد أجمَعَ المسلمون على تحريمِ ذلك ؛ لأنَّه منَعَ ما لا حَقَّ له فيه مِنْ مستَحِقِّهِ ، وربَّما أتلفَهُ أو أتلَفَ مالَهُ وبهائمه ، فلو منعَهُ هذا الماءَ حتَّى مات عطشًا ، أُقِيدَ منه عند مالك ؛ لأنَّه قتلَهُ ، كما لو قتلَهُ بالجُوعِ أو بالسلاح.
وقوله : وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلاً سِلْعَةً ، رويناه : سِلْعَةً بغير باء ، ورويناه : بسلعة بالباء :
فعلى الباء : يكونُ بايَعَ ، بمعنى ساوَمَ ؛ كما جاء في الرواية الأخرى : ساوَمَ مكان بايَعَ ، وتكونُ الباء بمعنى عن ؛ كما قال الشاعر :
فَإِنْ تَسْأَلُونِي بالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي
بَصِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ =(1/306)=@
أي : عن النِّسَاء.
وعلى إسقاطها : يكون معنى بايع : باع ؛ فيتعدَّى بنفسه ، وسِلْعةً : مفعولٌ.
وقوله : فَحَلَفَ لَهُ بِاللهِ ، لَأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا ، يعني : أنَّه كذَبَ فزاد في الثَّمَنِ الذي به اشتَرَى ؛ فكَذَبَ واستخَفَّ باسمِ الله تعالى حين حَلَفَ به على الكذب ، وأخَذَ مالَ غيرِهِ ظُلْمًا ؛ فقد جمع بين كبائر ، فاستَحَقَّ هذا الوعيدَ الشديد.
وتخصيصُهُ بـ "ما بَعْدَ العَصْر" : يَدُلُّ على أنَّ لهذا الوقتِ من الفضلِ والحُرْمةِ ما ليس لغيره مِنْ ساعات اليوم.
قال الشيخ ، ـ رحمه الله ـ : ويظهرُ لي أنْ يقال : إنما كان ذلك ؛ لأنَّه عَقِيبَ الصلاةِ الوُسْطَى - كما يأتي النصُّ عليه - ولمَّا كانتْ هذه الصلاةُ لها مِنَ الفضلِ &(1/206)&$(1/206)
وعظيمِ القَدْرِ أكثَرُ مما لغيرها ، فينبغي لمصلِّيها أن يَظْهَرَ عليه عَقِيبَهَا -من التحفُّظِ على دينه ، والتحرُّزِ على إيمانِهِ- أكثَرُ مما ينبغي له عَقِيبَ غيرها ؛ لأنَّ الصلاةَ حَقُّهَا : أن تَنْهَى عن الفحشاء والمنكر ؛ كما قال الله تعالى : {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ، أي : تَحْمِلُ على الامتناعِ مِنْ ذلك ، بما يحدُثُ في قلب المصلِّي بسببها من النُّورِ والانشراح ، والخوفِ من الله تعالى والحياءِ منه ؛ ولهذا أشار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : مَنْ لم تَنْهَهُ صلاتُهُ عن الفحشاءِ والمُنْكَرِ ، لم يَزْدَدْ مِنَ اللهِ إلا بُعْدًا ، وإذا كان هذا في الصلواتِ كلِّها ، كانتِ الصلاةُ الوسطى بذلك أولَى ، وحقُّها مِنْ ذلك أكبَرَ وأوفَى ؛ فمَنِ اجترَأَ بعدها على اليمينِ الغَمُوسِ التي يأكُلُ بها مالَ الغير ، كان إثمُهُ أشدَّ وقلبُهُ أَفْسَدَ ، والله تعالى أعلم.
وهذا الذي ظهَرَ لي : أَوْلَى مما قاله القاضي أبو الفَضْل ؛ فإنَّه قال : "وإنَّما كان =(1/307)=@ ذلك لاجتماعِ ملائكةِ الليلِ وملائكةِ النهار في ذلك الوَقْتِ" ؛ لوجهَيْن :
أحدهما : أنَّ هذا المعنى موجودٌ في صلاة الفجر ؛ لأنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ ، ثُمَّ يَجْتَمِعُونَ فِي صَلاَةِ العَصْرِ وَصَلاَةِ الفَجْرِ ؛ وعلى هذا : فتبطُلُ خصوصيَّةُ العصر ؛ لمساواةِ الفجرِ لها في ذلك.
وثانيهما : أنَّ حضورَ الملائكةِ واجتماعَهُمْ إنما هو في حالِ فعل هاتَيْنِ الصلاتين لا بعدهما ؛ كما قد نَصَّ عليه في الحديثِ حين قال : فَيَجْتَمِعُونَ في صلاةِ الفَجْرِ وصَلاَةِ العَصْرِ ، ولقولِ الملائكةِ : أتيناهُمْ وهم يُصَلُّونَ ، وتَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ ، وهذا يدلُّ دلالةً واضحةً على أنَّ هؤلاءِ الملائكةَ لا يشاهدون من أعمالِ العبادِ إلا الصلواتِ فَقَطْ ، وبها يَشْهَدون.
فتدبَّرْ ما ذكرتُهُ ؛ فإنَّه الأنسَب الأسلَمُ ، والله أعلم . &(1/207)&$(1/207)
وقوله : وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لاَ يُبَايِعُهُ إِلاَّ لِدُنْيَا ؛ إنَّما استَحَقَّ هذا الوعيدَ الشديدَ ؛ لأنَّه لم يَقُمْ لله تعالى بما وجَبَ عليه مِنَ البَيْعةِ الدينيَّة ، فإنَّها من العباداتِ التي تجبُ فيها النيَّةُ والإخلاص ، فإذا فَعَلَهَا لغيرِ اللهِ تعالى مِنْ دنيا يَقْصِدها ، أو غَرَضٍ عاجلٍ يقصده ، بَقِيَتْ عهدتُهَا عليه ؛ لأنَّه منافقٌ مُرَاءٍ غَاشٌّ للإمامِ وللمسلمين ، غيرُ ناصحٍ لهم في شيء من ذلك.
ومَنْ كان هكذا ، كان مُثِيرًا للفتن بين المسلمين ؛ بحيثُ يَسْفِكُ دماءَهُمْ ، ويستبيحُ أموالهم ، ويَهْتِكُ بلادهم ، ويَسْعَى في إهلاكهم ؛ لأنَّه إنما يكونُ مع مَنْ يبلِّغُهُ إلى أغراضه ، فيبايعُهُ لذلك ويَنْصُرُهُ ، ويغضَبُ له ويقاتلُ مخالفَهُ ، فينشأ من ذلك تلك المفاسد.
وقد يكونُ هذا يخالفُهُ في بعضِ أغراضه ، فينكُثُ بيعتَهْ ، ويطلُبُ هَلَكَتَهْ ، كما هو حالُ أكثر =(1/308)=@ أهلِ هذه الأزمانْ ، فإنَّهم قد عمَّهم الغَدْرُ والخِذْلاَنْ.
وقوله : فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وَفَى ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ ؛ هكذا الرواية وَفَى مخفَّفَ الفاء ، ويَفِ محذوفَ الواوِ والياءِ مخفَّفًا ، وهو الصحيحُ هنا روايةً ومعنًى ؛ لأنَّه يقال : وَفَى بعهده يَفِي وَفَاءً ، والوفاءُ ممدودٌ ضِدُّ الغدر ، ويقال : أوفَى ، بمعنى : وَفَى ، ، فأما وَفَّى المشدَّدُ الفاءِ ، فهو بمعنى توفيةِ الحَقِّ وإعطائِهِ ؛ يقال : وفَّاه حَقَّهُ يُوَفِّيهِ تَوْفِيَةً ؛ ومنه قوله تعالى : {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى *} ، أي : قام بما كُلِّفَهُ مِنَ الأعمالِ ؛ كخِصَالِ الفطرة ، وغيرها ؛ كما قال الله تعالى : {فَأَتَمَّهُنَّ} ، وحكى الجوهريُّ : أوفاه حقَّه.
قال الشيخ ، ـ رحمه الله ـ : وعلى هذا وعلى ما تقدَّم ، فيكونُ أَوْفَى بمعنى الوفاء بالعهد ، وتوفيةِ الحق. والأصلُ في أَوْفَى : أَطَلَّ على الشيء ، وأشرَفَ عليه.
وقوله : والمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالحَلِفِ الكَاذِب ، الروايةُ الصحيحةُ في المُنَفِّق : بفتح النون وكسر الفاء مشدَّدة ، وهو مضاعَفُ : نَفَقَ المَبِيعُ يَنْفُقُ نَفَاقًا : إذا خرَجَ ونفَدَ ، وهو ضدُّ كَسَدَ ، غيرَ أنَّ نَفَقَ المخفَّفَ لازمٌ ، فإذا شُدِّد ، عُدِّي للمفعول ، ومفعولُهُ هنا "سِلْعته".
وقد وصَفَ "الحَلِف" - وهي مؤنَّثة - بـ "الكاذب" - وهو وصفُ مذكَّرٍ – وكأنَّه &(1/208)&$(1/208)
ذهب بالحلفِ مذهبَ القَوْل ، فذكَّره ، ، أو مذهَبَ المصدر ، وهو مِثْلُ قولهم : "أتاني كِتَابُهُ فَمَزَّقْتُهَا" ؛ ذهب بالكتابِ مذهَبَ الصَّحِيفة ، والله تعالى أعلم. =(1/309)=@
بَابٌ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ ، عُذِّبَ بِهِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ ، يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ، وَمَنْ شَرِبَ سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ ، فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ ، فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِجَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا .
وَعَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ ؛ أَنَّهُ بَايَعَ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإِْسْلاَمِ كَاذِبًا - وَفِي رِوَايَةٍ : مُتَعَمِّدًا- فَهُوَ كَمَا قَالَ ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ ، عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِي شَيْءٍ لاَ يَمْلِكُهُ .
وَفِي رِوَايَةٍ : وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ ، وَفِيهَا : وَمَنِ ادَّعَى دَعْوَى كَاذِبَةً لِيَتَكَثَّرَ بِهَا ، لَمْ يَزِدْهُ اللهُ إِلاَّ قِلَّةً ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ صَبْرٍ فَاجِرَةٍ .
وَفِي أُخْرَى : وَمَنْ ذَبَحَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ ، ذُبِحَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَعَنْ جُنْدَبٍ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : إِنَّ رَجُلاً مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ خَرَجَتْ بِوَجْهِهِ قُرْحَةٌ ، فَلَمَّا آذَتْهُ ، انْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ، فَنَكَأَهَا ، فَلَمْ يَرْقَأِ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ ، قَالَ رَبُّكُمْ : قَدْ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ .
وَمِنْ بَابِ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ ، عُذِّبَ بِهِ
قوله : مَنْ قتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ ، يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا :
يتوجَّأ : يطعن ، وهو مهموز ، من قولهم : وَجَأْتُهُ بالسِّكِّينِ أَجَؤُهُ ، أي : ضربتُهُ ، ووُجِئَ هو ، فهو موجوءٌ ، ومصدرُهُ : وَجَأٌ مقصورًا مهموزًا ، ، فأما الوِجَاءُ ، بكسر الواو والمَدِّ : فهو رَضُّ الأنثيين ، وهو ضَرْبٌ من الخِصَاء.
وقوله : خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا :
ظاهرُهُ : التخليدُ الذي لا انقطاعَ له بوجه ، وهو محمولٌ على مَنْ كان مستَحِلاًّ لذلك ، ومَنْ كان مُعْتقِدًا لذلك ، كان كافرًا.
وأمَّا =(1/310)=@ مَنْ قتَلَ نفسَهُ ، وهو غيرُ مستحلٍّ ، فليس بكافر ، بل يجوزُ أن يَعْفُوَ اللهُ تعالى عنه، &(1/209)&$(1/209)
كما يأتي في الباب الآتي بعد هذا ، في الذي قطَعَ بَرَاجِمَهُ فمات ، وكما تقدَّم في حديثِ عبادة ـ رضى الله عنه ـ ، وغيره.
ويجوزُ أن يراد بقوله : خَالِدًا مخلَّدًا فِيهَا أَبَدًا تطويلُ الآمادِ ، ثم يكونُ خروجُهُ مِنَ النار مِنْ آخر مَنْ يخرُجُ من أهل التوحيد ؛ ويجري هذا مَجْرَى قول العرب : خَلَّدَ اللهُ مُلْكَكَ ، وأبَّد أيَّامك ، ولا أُكَلِّمُك أَبَدَ الآبِدِين ، ولا دَهْرَ الداهرين ، وقد ينوي أن يكلِّمَهُ بعد أزمان. ويجري هذا مجرى الإِغْيَاءِ في الكلامِ - على ما تقدَّم - والله تعالى أعلم.
و السُّمُّ : القاتلُ للحيوان ، يقال بضَمِّ. السين وفتحها. فأمَّا السَّمُّ الذي هو ثُقْبُ الإبرة : فبالفتح لا غير.
و يَتَحَسَّاهُ : يَشْربه ، و{يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} ؛ كما قال الله تعالى.
وقوله : إِنَّهُ بَايَعَ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ، وَكَانَتْ سَمُرَةً ، وهي بيعةُ الرضوانِ التي قال الله تعالى فيها : {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} ، وكانتْ قبل فَتْحِ مَكَّة في ذي القَعْدَةِ سنة سِتٍّ من الهجرة.
وكان سببها : أنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قصَدَ إلى مَكَّةَ معتمرًا ، فلمَّا بلغ الحُدَيْبِيَةَ – وهي =(1/311)=@ موضعٌ فيه ماءٌ ، بينه وبين مَكَّةَ نحوٌ من أميال - صَدَّتْهُ قريشٌ عن الدخولِ إلى البيت ، فوجَّه لهم عثمانَ رَسُولاً ، فَتُحُدِّثَ أنَّ قريشًا قتلوه ، فتهيَّأَ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لحربهم ، فبايَعَ أصحابَهُ تلك البيعةَ على الموت ، أو على ألاَّ يَفِرُّوا ؛ كما سيأتي ، إن شاء الله تعالى.
وقوله : مَنْ حلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإْسْلاَمِ :
اليمينُ هنا : يعني به المحلوفَ عليه ؛ بدليلِ ذكْرِهِ المحلوفَ به ، وهو : بملَّةٍ غيرِ الإسلام .
ويجوز أن يقال : إنَّ عَلَى : صِلَةٌ ، وينتصبُ يَمِين على أنَّه مصدرٌ مُلاَقٍ في المعنَى لا في اللفظ. &(1/210)&$(1/210)
وقوله : كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا يحتملُ أن يريدَ به النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مَنْ كان معتقدًا لتعظيمِ تلك المِلّةِ المغايرةِ لملَّةِ الإسلام ؛ وحينئذٍ : يكونُ كافرًا حقيقةً ، فيبقى اللفظُ على ظاهره.
و كاذبًا : منصوبٌ على الحال ، أي : في تعظيمِ تلك المِلَّة التي حلَفَ بها ، فتكونُ هذه الحالُ من الأحوالِ اللازمة ؛ كما قال الله تعالى : {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} ؛ لأنَّ مَنْ عظَّم مِلَّةً غيرَ الإسلام ، كان كاذبًا في تعظيمِهِ ذلك ، وآثمًا في كلِّ حالٍ وكلِّ وقتٍ ، لا ينتقلُ عن ذلك.
ولا يصلُحُ أن يقال : "إنَّه يعني بكونه كاذبًا في المحلوفِ عليه" ؛ لأنَّه يستوي في ذَمِّهِ كونُهُ صادقًا أو كاذبًا إذا حلَفَ بِمِلَّةٍ غيرِ الإسلام ؛ لأنَّه إنَّما ذمَّهُ الشرعُ مِنْ حيثُ إنَّه حَلَفَ بتلك الملَّةِ الباطلة ، معظِّمًا لها على نحوِ ما تعظَّمُ به ملَّةُ الإسلامِ الحَقِّ ؛ فلا فَرْقَ بين أن يكونَ صادقًا أو كاذبًا في المحلوفِ عليه ، والله تعالى أعلم.
وأمَّا إنْ كان الحالفُ بذلك غيرَ معتقِدٍ لذلك : فهو آثمٌ مرتَكِبٌ كبيرةً ؛ إذْ قد تشبَّه في قوله بِمَنْ يعظِّمُ تلك المِلَّةَ ويعتقدها ، فغُلِّظَ عليه الوعيدُ - بأن صُيِّرَ كواحدٍ منهم - مبالغةً في الرَّدْعِ والزَّجْر ؛ كما قال تعالى : {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}.
وهل تجبُ عليه كفَّارةٌ لذلك أم لا ؟ اختلَفَ العلماءُ في ذلك :
فَرُوِيَ عن =(1/313)=@ ابن المبارك - فيما ورَدَ مِثْلَ هذا - : أنَّ ذلك على طريقةِ التغليظ ، ولا كفَّارةَ على مَنْ حلف بذلك وإنْ كان آثِمًا ؛ وعليه الجمهورُ ، وهو الصحيحُ ؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مَنْ حَلَفَ بِاللاَّتِ ، فَلْيَقُلْ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ، ولم يوجبْ عليه أكثَرَ من ذلك ، ولو كانتِ الكفَّارةُ واجبةً ، لبيَّنها النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حينئذٍ ؛ لأنَّه لا يجوزُ تأخيرُ البيانِ عن وقتِ الحاجة.
وقد ذهب بعضُ العراقيِّين : إلى وجوبِ الكفَّارة عليه ، وسيأتي ذلك إنْ شاء الله تعالى. &(1/211)&$(1/211)
وقوله : لَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِي شَيْءٍ لاَ يَمْلِكُهُ ؛ هذا صحيحٌ فيما إذا باشَرَ النذرُ مِلْكَ الغير ؛ كما لو قال : "للهِ عَلَيَّ عِتْقُ عبدِ فلانٍ ، أو هَدْيُ بَدَنَةِ فُلاَن" ، ولم يعلِّق شيئًا مِنْ ذلك على مِلْكِهِ له ، ولا خلافَ بين العلماء : أنَّ ذلك لا يلزمُ منه شيءٌ ؛ غير أنَّه حُكِيَ عن ابن أبي ليلى في العتق : "أنَّه إذا كان مُوسِرًا ، أُعْتِقَ عليه" ، ثُمَّ رجَعَ عنه.
وإنَّما اختلَفُوا فيما إذا علَّقَ العِتْقَ أو الهَدْيَ أو الصدقةَ على المِلْك ؛ مِثْلُ أن يقول : "إنْ مَلَكْتُ عَبْدَ فلانٍ ، فهو حُرٌّ" :
فلم يُلْزمْهُ الشافعيُّ : شيئًا من ذلك عَمَّ أو خصَّ ؛ تمسُّكًا بهذا الحديث.
وألزمَهُ أبو حنيفة : كُلَّ شيء مِنْ ذلك عمَّ أو خصَّ ؛ لأنَّه مِنْ بابِ العقودِ المأمورِ بالوفاءِ بها ، وكأنَّه رأى أنَّ ذلك الحديثَ لا يتناوَلُ العِتْقَ المعلَّقَ على المِلْك ؛ لأنَّه إنَّما يلزمُهُ عند حصولِ المِلْكِ لا قبله.
ووافَقَ أبا حنيفةَ مالكٌ فيما إذا خَصَّ ؛ تمسُّكًا بمثل ما تمسَّكَ به أبو حنيفة ، وخالَفَهُ إذا عمَّ ؛ رفعًا للحَرَجِ الذي أدخَلَهُ على نفسه ، ، ولمالكٍ قولٌ آخر مِثْلُ قولِ الشافعيِّ.
وقوله : إِنَّ رَجُلاً مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ خَرَجَتْ بِوَجْهِهِ قُرْحَةٌ :
القُرْحَةُ : واحدةُ القُرَحِ والقروح ، وهي الجِرَاحُ ؛ يقال منه : قَرِحَ جِلْدُهُ - بالكسر- يَقْرَحُ قَرَحًا =(1/313)=@ ، ويقال : القَرْحُ والقُرْحُ - بفتح القاف وضمِّها - لغتان عن الأخفش ، وقال غيره : القَرْحُ ، بالفتح : الجَرْح ، وبالضمِّ : ألمُ الجراح.
وقوله : فَنَكَأَهَا هو بهمزةٍ مفتوحةٍ على الألف ، أي : قَشَرها وفَجَرها.
وقوله : فَلَمْ يَرْقَأِ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ أي : لم ينقطع ، وهو بالهمز ؛ يقال : رَقَأ الدَّمُ يَرْقَأُ : إذا انقطع ؛ ويروى أنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : لاَ تَسُبُّوا الإِْبِلَ ؛ فَإِنَّ فِيهَا رَقُوءَ الدَّمِ ، أي : إذا دُفِعَتِ الإبلُ في الدية ، ارتفَعَ القصاصُ والقَتْلُ وانقطَعَ الدم.
وهذا الفعلُ مِنْ هذا الرجل :
يَحْتملُ أن يكونَ : إنَّما حمله عليه الجزَعُ والتبرُّمُ واستعجالُ الموت ؛ فيكونُ ممَّن قتَلَ نفسه بحديدةٍ ؛ فيكونُ فِعْله نحوًا ممَّا فعله الذي &(1/212)&$(1/212)
أصابتْهُ جِرَاحَةٌ في الحرب ، فاستعجَلَ الموتَ ، فوضَعَ نَصْلَ سيفه بالأرض ، وذُبَابَهُ بين ثديَيْهِ ، فتحامَلَ عليه ، فقتَلَ نفسه.
ويَحْتملُ أن يكونَ : قصَدَ بَطَّ تلك الجراحةِ ؛ ليخفَّ عنه الألَمُ ، ففرَّطَ في التحرُّز ، فعوقبَ على تفريطه.
ويُستفادُ مِنَ التأويلِ الأوَّل : وجوبُ الصبرِ على الألم ، وتحريمُ استعجالِ الموتِ عند شِدَّةِ الألمِ وإنْ أيقَنَ به.
ومِنَ التأويل الثاني : وجوبُ التحرُّزِ مِنَ الأدويةِ المَخُوفَةِ والعلاجِ الخطر ، وتحريمُ التقصيرِ في التحرُّزِ مِنْ ذلك ، والله تعالى أعلم.
وقوله : وَلَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ ، أي : في الإثم.
ووجهه : أنَّ مَنْ قال لمؤمنٍ : لَعَنَهُ اللهُ ، فقد تضمَّنَ قولُهُ ذلك إبعادَهُ عن رحمةِ الله تعالى التي رَحِمَ بها المسلمين ، وإخراجَهُ مِنْ جملتهم في أحكامِ الدنيا والآخرة ، ومَنْ كان كذلك ، فقد صار بمنزلةِ المَفْقُودِ عن المسلمين بعد أَنْ كان موجودًا فيهم ؛ إذْ لم يَنْتفِعْ بما انتفَعَ به المسلمون ، ولا انتفَعُوا به ؛ فأشبَهَ ذلك قتلَهُ.
وعلى هذا : فيكونُ إثمُ اللاعنِ كَإِثْمِ القاتل ، غير أنَّ القاتِلَ أَدْخَلُ في الإثم ؛ لأنَّه أفقَدَ المقتولَ حِسًّا ومعنًى ، واللاعنُ =(1/314)=@ أفقدَهُ معنًى ، فإثمه أخفُّ منه ، لكنَّهما قد اشتَرَكَا في مطلَقِ الإثمِ ، فصدَقَ عليه أنَّه مِثْلُهُ ، والله أعلم.
وقوله : وَمَنِ ادَّعَى دَعْوَى كَاذِبَةً لِيَتَكَثَّرَ بِهَا ، لَمْ يَزِدْهُ اللهُ إِلاَّ قِلَّةً ، يعنى - والله أعلم - : أَنَّ مَنْ تظاهَرَ بشيء مِنَ الكمال ، وتعاطاه ، وادَّعَاهُ لنفسه ، وليس موصوفًا به ، لم يَحْصُلْ له مِنْ ذلك إلاَّ نقيضُ مقصودِهِ ، وهو النقص : فإنْ كان المُدَّعَى مالاً ، لم يبارَكْ له فيه ، أو علمًا ، أظهَرَ اللهُ تعالى جَهْلَهُ ، فاحتقَرَهُ الناس ، وقَلَّ مقدارُهُ عندهم.
وكذلك لو ادَّعَى دِينًا أو نَسَبًا أو غَيْرَ ذلك ، فضَحَهُ اللهُ ، وأظهَرَ باطلَهُ ؛ فقَلَّ مقدارُهُ ، وذَلَّ في نفسه ؛ فحصَلَ على نقيضِ قصده ؛ وهذا نحوُ قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مَنْ أَسَرَّ سَرِيرَةً ، أَلْبَسَهُ اللهُ رِدَاءَهَا، ونحوٌ منه قولُهُ &(1/213)&$(1/213)
تعالى: {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} ، وقولُهُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : المُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ.
وفائدةُ الحديث : الزجرُ عن الرياءِ وتعاطيه ، ولو كان بأمورِ الدنيا.
وقوله : وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ صَبْرٍ فَاجِرَةٍ ، كذا صحَّتِ الروايةُ في أصلِ كتابِ مسلم بهذا الكلام ، مقتصرًا على ذكر جملة الشرط مِنْ غير ذكرِ جملةِ الجزاء :
فَيَحتمِلُ : أنَّه سكَتَ عنه ؛ لأنَّه عطفَهُ على مَنْ التي قبلها ، فكأنَّه قال : ومن حلف يمينًا فاجرة ، كان كذلك ، أي : لم يَزِدْهُ اللهُ بها إلاَّ قِلَّةً ؛ قاله القاضي عِيَاض ، ـ رحمه الله ـ .
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ : ويَحتمِلُ : أن يكونَ الجزاءُ محذوفًا ، ويكونَ تقديره : مَنْ فعَلَ ذلك ، غَضِبَ اللهُ عليه ، أو عاقَبَهُ ، أو نحوَ ذلك ؛ كما جاء =(1/315)=@ في الحديثِ الآخر : مَنْ حلَفَ عَلَى يَمِينٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ مُسْلِمٍ ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عليه غَضْبَانُ.
والروايةُ في يَمِينٍ صَبْرٍ بالتنوينِ على أنَّ صَبْرًا صفةٌ ل يَمِينٍ ، أي : ذاتِ صَبْرٍ.
وأصلُ الصبر : الحَبْسُ ؛ كما قال عنترةُ :
فَصَبَرْتُ عَارِفَةً لِذَلِكَ حُرَّةً
............
أي : حَبَسْتُ في الحربِ نَفْسًا معتادةً لذلك ، كريمةً لا ترضَى بالفرار.
وقال أبو العبَّاس : "الصبرُ ثلاثةُ أشياء : الحبسُ ، والإكراهُ ، والجرأة ؛ كما قال الله تعالى : {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} ، أي : ما أجرأَهُمْ عليها".
ووُصِفَتِ اليمينُ بأنَّها ذاتُ صَبْرٍ ؛ لأنَّها تَحْبِسُ الحالفَ لها ، أو لأنَّ الحالفَ يجترئُ عليها ، ، وذكَّر الصبر ، وقد أجراه صفةً على اليمين ، وهي مؤنَّثةٌ ؛ لأنَّه قَصَدَ قَصْدَ المصدرِ. =(1/316)=@ &(1/214)&$(1/214)
بَابُ لاَ يُغْتَرُّ بِعَمَلِ عَامِلٍ حَتَّى يُنْظَرَ بِمَا يُخْتَمُ لَهُ
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فَاقْتَتَلُوا ، فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِلَى عَسْكَرِهِ ، وَمَالَ الآخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ ، وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَجُلٌ لاَ يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلاَ فَاذَّةً إِلاَّ اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ ، فَقَالُوا : مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلاَنٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : أَنَا صَاحِبُهُ أَبَدًا ، قَالَ : فَخَرَجَ مَعَهُ ، كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ ، وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ ، قَالَ : فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا ، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأَرْضِ ، وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ : أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ ، قَالَ : وَمَا ذَاكَ ؟ ، قَالَ : الرَّجُلُ الَّذِي ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ ، فَقُلْتُ : أَنَا لَكُمْ بِهِ ، فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهِ حَتَّى جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا ، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأَرْضِ ، وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عِنْدَ ذَلِكَ : إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ - فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ - وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ - فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ - وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِذَلِكَ ، فَقَالَ : اللهُ أَكْبَرُ! أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ، ثُمَّ أَمَرَ بِلاَلاً فَنَادَى فِي النَّاسِ : إنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ ، وَإِنَّ اللهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ .
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ ، أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَالُوا : فُلاَنٌ شَهِيدٌ ، فُلاَنٌ شَهِيدٌ ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ ، فَقَالُوا : فُلاَنٌ شَهِيدٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : كَلاَّ! إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ ، فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا ، ، أَوْ عَبَاءَةٍ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاسِ : إنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ الْمُؤْمِنُونَ ، قَالَ : فَخَرَجْتُ فَنَادَيْتُ : أَلاَ إِنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ الْمُؤْمِنُونَ .
وَمِنْ بَابِ لاَ يُغْتَرُّ بِعَمَلِ عَامِلٍ حَتَّى يُنْظَرَ بِمَا يُخْتَمُ لَهُ
قوله : لاَ يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلاَ فَاذَّةً :
الشَّاذُّ : الخارجُ عن الجماعة ، والفاذُّ : المنفرد ، وأنَّث الكلمتَيْنِ على جهة المبالغة ؛ كما قالوا : عَلاَّمَةٌ ، ونَسَّابة ؛ قال ابن الأعرابي : يقال : فلانٌ لا يَدَعُ لهم شَاذَّةً ولا فَاذَّةً : إذا كان شُجَاعًا لا يلقاه أحدٌ.
وفيه من الفقه : ما يدلُّ على جواز الإغْيَاءِ في الكلامِ والمبالغةِ فيه ، إذا احتِيج إليه ، ولم يكنْ ذلك تعمُّقًا ولا تشدُّقًا.
وقوله : مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلاَنٌ ؛ كذا صحَّتْ روايتنا فيه رباعيًّا مهموزًا ، ومعناه : ما أغنَى ولا كَفَى.
وفي "الصحاح" : "أجزَأَني الشيءُ : كفاني ، وجزَى عنِّي هذا الأمرُ ، أي : قَضَى ؛ ومنه قوله تعالى : {لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} ، أي : لا تَقْضِي ، ومنه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي بردةِ : تَجْزِي عَنْكَ ، وَلاَ تَجْزِي عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ ، قال : "وبنو تميمٍ يقولون : أَجْزَأَتْ عنك شاةٌ ، بالهمز".
وقال أبو عُبَيْد : ويقالُ : جَزَأْتُ بالشيءِ واجتَزَأْتُ به ، أي : اكتفَيْتُ به، وأنشَدَ : =(1/317)=@
فَإِنَّ اللُّؤْمَ فِي الأَْقْوَامِ عَارٌ
وَإِنَّ المَرْءَ يَجْزَأُ بِالكُرَاعِ
و فلانٌ ، قيل : هو قُزْمَان.
و نَصْلُ السيف : حديدتُهُ كلُّها ، وأنشدوا: &(1/215)&$(1/215)
كالسَّيْفِ سُلَّ نَصْلُهُ مِنْ غِمْدِهِ
ويقال عليها: مُنْصُلٌ ، والمرادُ بالنَّصْل في هذا الحديث : طَرَفُ النَّصْلِ الأسفلُ الذي يسمَّى : القَبِيعة ، والرئاس.
و ذُبَابُهُ : طَرَفُهُ الأعلى المحدَّدُ المهلَّل ، وضُبَتَاهُ وغَرْبَاه : حَدَّاهُ ، وصدرُ السيفِ : مِنْ مَقْبِضه إلى مَضْرِبه ، ومَضْرِبُهُ : موضِعُ الضَّرْب منه ، وهو دون الذُّبَاب بِشِبْرٍ.
وقوله : فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ ، أي : عظَّموه وكَبُرَ عليهم ؛ وإنما كان ذلك ؛ لأنَّهم نظروا إلى صورةِ الحالْ ، ولم يعرفوا الباطنَ ولا المآلْ ، فأعلَمَ العليمُ الخبيرُ البشيرَ النذيرَ بمُغَيَّبِ الأمرِ وعاقبتِهْ ، وكان ذلك مِنْ أدلَّةِ صِدْقِ الرسولِ وصِحَّةِ رسالتِهْ ، ففيه التنبيهُ على تركِ الاِعتمادِ على الأعمالْ ، والتعويلُ على فضلِ ذي العزَّةِ والجلالْ. =(1/318)=@
وقوله : إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ : دليلٌ على أنَّ ذلك الرجُلَ لم يكنْ مخلصًا في جهاده ، وقد صرَّحَ الرجلُ بذلك فيما رُوِي عنه أنَّه قال : إِنَّمَا قَاتَلْتُ عَنْ أَحْسَابِ قَوْمِي ، فتناول هذا الخَبَرُ أهلَ الرياء.
فأمَّا حديثُ أبي هريرة ـ رضى الله عنه ـ الذي قال فيه : إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ ، ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا - : فإنَّما تناوَلَ مَنْ كان مخلصًا في أعمالِهِ ، قائمًا بها على شروطها ، لكنْ سبَقَتْ عليه سابقةُ القدر ، فبدَّل به عند خاتمته ؛ كما يأتي تحقيقُهُ في كتاب القدر ، إن شاء الله تعالى. &(1/216)&$(1/216)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : اللهُ أَكْبَرُ! أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ؛ عند وقوعِ ما أخبَرَ به من الغيب : دليلٌ على أنَّ ذلك مِنْ جملة معجزاته ، وإنْ لم يقترنْ بها في تلك الحالِ تَحَدٍّ قوليٌّ ؛ وهذا على خلافِ ما يقولُهُ المتكلِّمون : "إنَّ مِنْ شروطِ المعجزةِ اقترانَ التحدِّي القَوْلِيِّ بها ، فإنْ لم يكنْ كذلك ، فالخارقُ كرامةٌ لا مُعْجِزةٌ".
والذي ينبغي أن يقال : أنَّ ذلك لا يشتَرَطُ ؛ بدليلِ أنَّ الصحابةَ ـ رضى الله عنهم ـ كانوا كُلَّما ظهَرَ لهم خارقٌ للعادة على يَدَيِ النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، استدلُّوا بذلك على صِدْقِهِ وثبوتِ رسالته ، كما قد اتَّفَقَ لعمر ـ رضى الله عنه ـ حين دعا رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على قليلِ الأزوادِ فكَثُرَتْ ، فقال عند ذلك : "أَشْهَدُ أنْ لاَ إِلَهَ إلا الله ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ" ، وكقول =(1/319)=@ أسامةَ بنِ زيد ـ رضى الله عنهما ـ ، وبدليل الاِتِّفاقِ على أنَّ نَبْعَ الماء مِنْ بين أصابعه ، وتسبيحَ الحصَى في كَفِّه ، وحَنِينَ الجِذْع : مِنْ أظهر معجزاته ، ولم يصدُرْ منه مع شيءٍ مِنْ ذلك تحدٍّ بالقولِ عند وقوعِ تلك الخوارق ، ومع ذلك فَهِيَ معجزاتٌ .
والذي ينبغي أن يقال : أَنَّ اقترانَ القولِ لا يلزم ، بل يكفي مِنْ ذلك قولٌ كليٌّ يتقدَّم الخوارقَ ؛ كقولِ الرسول : الدليلُ على صِدْقِي : ظهورُ الخوارق على يَدَيَّ ؛ فإنَّ كُلَّ ما يظهَرُ على يَدَيْه منها بعد ذلك يكونُ دليلاً على صِدْقه وإنْ لم يقترنْ بها - واحدًا واحدًا - قولٌ.
ويمكنُ أن يقال : إنَّ قرينةَ حاله تدلُّ على دوامِ التحدِّي ، فيتنزَّلُ ذلك منزلةَ اقترانِ القول ، والله أعلم.
وقوله : فَنَادَى فِي النَّاسِ : إِنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ إِلاَّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، أي: &(1/217)&$(1/217)
مؤمنة ؛ لأنَّ الإسلام العَرِيَّ عن الإيمانِ لا يَنْفَعُ صاحبَهُ في الآخرة ، ولا يُدْخِلُهُ الجَنَّة ؛ وذلك بخلافِ الإيمان : فإنَّ مجرَّده يَدْخُلُ به صاحبُهُ الجنَّةَ وإنْ عُوقِبَ بتركِ الأعمال على ما سنذكرُهُ - إن شاءَ اللهُ تعالى ؛ فدلَّ هذا على أنَّ هذا الرجُلَ كان مُرَائِيًا منافقًا ؛ كما تقدَّم.
ومما يدلُّك على ذلك أيضًا : قولُهُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إنَّ اللهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ ، وهو الكافر ؛ كما قال تعالى : {وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا}.
و يؤيِّد : يُقَوِّي ويَعْضُدُ.
وأَمْرُ النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بلالاً أنْ يُنادِيَ بذلك =(1/320)=@
القولِ ، إنَّما كان تنبيهًا على وجوبِ الإخلاصِ في الجهادِ وأعمالِ البِرِّ ، وتحذيرًا من الرِّيَاءِ والنفاق.
وقوله : حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ ، فَقَالُوا : فُلاَنٌ شَهِيدٌ ، هذا الرجلُ هو المسمَّى مِدْعَمً ، وكان عبدًا للنبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَبَيْنَا هو يَحُطُّ رحلَ رسولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، إذْ أصابه سهمٌ ، فقال الناس : هنيئًا له الجَنَّةُ ، فقال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الكلامَ.
و كَلاَّ : رَدْعٌ وزجر.
و الغُلُول : الخيانةُ في المَغْنَم ؛ يقالُ منه : غَلَّ - بفتح الغين - يَغُلُّ - بضمها - في المضارع ؛ قال ابن قتيبة وغيره : الغُلُولُ : من الغَلَل ، وهو الماءُ الجاري بين الأشجار ؛ فكأنَّ الغالَّ سمِّي بذلك ؛ لأنَّه يُدْخِلُ الغلولَ على أثناءِ رحله ، ، فأمَّا الغِلُّ ، بكسر الغين : فهو الحِقْدُ والشَّحْناء.
و البُرْدَة : كساءٌ أسودُ صغيرٌ مربَّع تلبسُهُ الأعراب ؛ قاله الجوهري ، وقال غيره : هي الشَّمْلَةُ المخطَّطة ، وهي كساءٌ يُؤْتَزَرُ به.
و العباءة ممدودة : الْكِسَاء.
وقوله : إِنِّي أُرِيتُهُ فِي النَّارِ ، ظاهره : أنَّها رؤيةُ عِيَانٍ ومشاهدة ، لا رؤيا منام ؛ فهو حُجَّةٌ لأهل السُّنَّة على قولهم : "إنَّ الجَنَّةَ والنار قد خُلِقَتَا ووُجِدَتَا".
وفيه : دليلٌ على أنَّ بعضَ مَنْ يُعَذَّبُ في النار يدخلُهَا ويعذَّبُ فيها قبلَ يوم القيامة.
ولا حُجَّةَ فيه للمُكَفِّرة بالذنوب ؛ لأنَّا نقولُ : إنَّ طائفةً مِنْ أهلِ التوحيدِ &(1/218)&$(1/218)
يَدْخُلُون النارَ بذنوبهم ، ثُمَّ يَخْرُجون منها بتوحيدهم ، أو بالشفاعةِ لهم ؛ كما يأتي في الأحاديثِ الصحيحة ، ويجوزُ أن يكونَ هذا الغالّ منهم ، والله تعالى أعلم. =(1/321)=@
بَابٌ قَتْلُ الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ لَيْسَ بِكُفْرٍ
عَنْ جَابِرٍ ؛ أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ أَتَى النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنَعَةٍ ؟ - قَالَ : حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ - فَأَبَى ذَلِكَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، لِلَّذِي ذَخَرَ اللهُ لِلأَْنْصَارِ ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِلَى الْمَدِينَةِ ، هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو ، وَهَاجَرَ مَعَهُ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ ، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ ، فَمَرِضَ رَجُلٌ ، فَجَزِعَ ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ لَهُ ، فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ ، فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ ، فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ ، فَرَآهُ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ : مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ ؟ فَقَالَ : غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَالَ : مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ ؟ قَالَ : قِيلَ لِي : لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ ، فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : اللَّهُمَّ ، وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ .
وَمِنْ بَابِ قَتْلُ الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ لَيْسَ بِكُفْرٍ
قوله : هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنَعَةٍ ؟ :
الحِصْنُ : واحدُ الحصون ، وهي القصورُ والقلاعُ التي يتحصَّن فيها.
و حصين : فعيلٌ للمبالغة ، أي : شديدُ المَنْعِ لمن فيه.
و مَنَعَة : تروى بفتح النون وسكونها ، وفي "الصحاح" : "يقالُ : فلانٌ في عِزٍّ ومَنَعَةٍ بالتحريك، وقد يسكَّن عن ابن السِّكِّيت ، ويقال : المَنَعَةُ بالتحريك : جمع مانعٍ ، ككافرٍ وكَفَرَة ، أي : هو في عِزٍّ وعشيرةٍ يمنعونه".
وقوله: وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ ، فَاجْتَوَى المَدِينَةَ ، فَمَرِضَ فَجَزِعَ، &(1/219)&$(1/219)
فَأَخَذَ ، هكذا صوابُ الرواية بتوحيد رَجُل ، وعَطْفِ ما بعده على ما قبله على =(1/322)=@ الإفراد ، وهي روايةُ عبد الغافر.
وعند غيره تخليطٌ ؛ فمنهم من جَمَعَ ، فقال : رِجَالٌ ، فَاجْتَوَوُا المَدِينَةَ ، ثم قال بعده : فَمَرِضَ فَجَزِعَ على الإفراد.
والأوَّلُ : أصوب.
وَ اجْتَوَى المَدِينَةَ ، أي : كرهها ؛ يقال : اجتَوَيْتُ المدينةَ : إذا كرهتَهَا ، وإنْ كانتْ موافقةً لك في بَدَنِكَ ، قال الخَطَّابي : "أصلُ الاِجتواءِ : استِيبَالُ المكانِ ، وكراهةُ المقامِ فيه ؛ لِضُرٍّ لَحِقَهُ ، وأصلُهُ : من الجَوَى ، وهو فسادُ الجَوْف".
وقوله : فَأَخَذَ مَشَاقِصَ ، فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ :
المَشَاقِص : جمعُ مِشْقَص ، وهو السهمُ العريض ، وقال الداووديُّ : هو السِّكِّين.
و البَرَاجِمُ والرَّوَاجِب : مفاصلُ الأصابعِ كلِّها ، وقال أبو مالك في كتابِ "خَلْقِ الإنسان" : "الرَّوَاجِبُ : رؤوسُ العظام في ظَهْرِ الكفِّ ، والبراجمُ : هي المفاصلُ التي تحتها".
وقوله : شَخَبَتْ يَدَاهُ هو بالخاء المعجمة ، وفَتْحِهَا في الماضي ، وضمِّها في المضارع ، وقد تُفْتَحُ ، ومعناه : سال ، قال ابن دُرَيْد : "كلُّ شيءٍ سال ، فهو شُخْبٌ - بضم الشين وفتحها - وهو : ما خرَجَ من الضَّرْع من اللبن ، وكأنه الدُّفْعَةُ منه" ، ومنه المَثَلُ : "شُخْبٌ في الأرضِ ، وشُخْبٌ في الإناء!" ، يقال للذي يُصِيبُ مَرَّةً ، ويخطئُ أخرى ؛ تشبيهًا له بالحالب الذي يفعلُ ذلك. =(1/323)=@
وقوله : غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ : دليلٌ على أن الكبائر قد تُغْفَرُ بفعلِ القواعد ، وفيه نَظَرٌ سيأتي في الطهارة ، إن شاء الله تعالى.
وقوله : لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ : دليلٌ على أنَّ المغفرةَ قد لا تتناول محلَّ الجناية ، فيحصُلُ منه توزيعُ العقاب على المعاقَبِ ؛ ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : اللَّهُمَّ ، وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ .
والظاهرُ : أنَّ هذا الرجلَ أدركتْهُ بركةُ دعوةِ النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فغُفِرَ ليدَيْهِ ، وكُمِّلَ له ما بقي من المغفرة عليه ؛ وعلى هذا : فيكونُ قوله: لَنْ &(1/220)&$(1/220)
نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ ممتدًّا إلى غايةِ دعاءِ النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ له ؛ فكأنَّه قيل له : لن نصلحَ منك ما أفسدْتَ ما لم يَدْعُ لك النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وهذا الحديثُ : يقتضي أنَّ قَاتِلَ نفسه ليس بكافر ، وأنَّه لا يُخَلَّدُ في النار ، وهو موافق لمقتضى قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
وهذا الرجلُ ممَّن شاء الله أن يَغْفِرَ له ؛ لأنَّه إنَّما أتَى بما دون الشِّرْك ، وهذا بخلافِ القاتلِ نفسَهُ المذكورِ في حديث جُنْدُب ؛ فإنَّه ممَّن شاء الله أن يعذِّبه. =(1/324)=@
بَابُ مَا يُخَافُ مِنْ سُرْعَةِ سَلْبِ الإِْيمَانِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ رِيحًا مِنَ الْيَمَنِ ، أَلْيَنَ مِنَ الْحَرِيرِ ، فَلاَ تَدَعُ أَحَدًا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ - وَفِي رِوَايَةٍ : ذَرَّةٍ - مِنْ إِيمَانٍ إِلاَّ قَبَضَتْهُ .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا ، وَيُمْسِي كَافِرًا - أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا ، وَيُصْبِحُ كَافِرًا - يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا .
وَمِنْ بَابِ مَا يُخَافُ مِنْ سُرْعَةِ سَلْبِ الإِيمَانِ
قوله : إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ رِيحًا مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ، أَلْيَنَ مِنَ الْحَرِيرِ ، هذه الريحُ إنما تُبْعَثُ بعد نزولِ عيسى بْنِ مريم صلى الله عليهما وسلم ، وقتلِه الدَّجَّالَ ، كما يأتي في حديثِ عبدالله بْنِ عَمْرٍو في آخر كتاب الفتن ، غير أنَّه قال هنا : رِيحًا مِنْ قِبَل الْيَمَنِ، وفي &(1/221)&$(1/221)
حديث عبد الله: مِنْ قِبَلِ الشَّامِ ؛ فيجوزُ أن يكونَ مبدؤها من اليمن ، ثُمَّ تَمُرُّ بالشام ، فَتَهُبُّ منه على مَنْ يليه.
وقَبْضُ الإيمانِ في هذا الحديث هو بقبض أهله ؛ كما جاء في حديث ابن عمرو ، قال فيه : ثُمَّ يُرْسِلُ اللهُ رِيحًا بَارِدَةً مِنْ قِبَلِ الشَّامِ ، فَلاَ يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الأَْرْضِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ إِيمَانٍ إِلاَّ قَبَضَتْهُ ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ فِي كَبِدِ جَبَلٍ ، لَدَخَلَتْهُ عَلَيْهِ حَتَّى تَقْبِضَهُ ، قال : فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ وَأَحْلاَمِ السِّبَاعِ . =(1/325)=@
وقوله : بَادِرُوا بِالأَْعْمَالِ فِتَنًا ، أي : سَابِقُوا بالأعمالِ الصالحةِ هجومَ المِحَنِ المانعةِ منها ، السالبةِ لشرطها المصحِّح لها الإيمان ؛ كما قال : يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا ، وَيُمْسِي كَافِرًا ، ولا إحالةَ ولا بُعْدَ في حمل هذا الحديثِ على ظاهره ؛ لأنَّ المِحَنَ والشدائد إذا توالَتْ على القلوب ، أفسدَتْهَا بِغَلَبتها عليها ، وبما تُؤَثِّرُ فيها مِنَ القَسْوة والغَفْلة التي هي سببُ الشِّقْوة.
ومقصودُ هذا الحديثِ : الحَضُّ على اغتنامِ الفُرْصة ، والاِجتهادُ في أعمالِ الخيرِ والبِرِّ عند التمكُّنِ منها ، قَبْلَ هجومِ الموانع.
وقوله : يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا :
عَرَضُ الدنيا بفتح العين والراء : هو طمعها وما يَعْرِضُ منها ، ويدخُلُ فيه جميعُ المال ؛ قاله الهَرَوِيُّ ، فأمَّا العَرْضُ ، بإسكان الراء : فهو خلافُ الطُّول ، ويقالُ على أمور كثيرة ، والعِرْضُ ، بكسر العين وسكون الراء : هو نسَبُ الرجلِ وحَسَبُهُ وذاتُهُ.
ومقصودُ هذا الحديثِ : الأمرُ بالتمسُّك بالدِّين ، والتشدُّدُ فيه عند الفتن ، والتحذيرُ مِنَ الفتنِ ومِنَ الإقبالِ على الدنيا وعلى مَطَامِعِهَا. =(1/326)=@ &(1/222)&$(1/222)
بَابٌ الإْسْلاَمُ إِذَا حَسُنَ ، هَدَمَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الآثَامِ ، وَأَحْرَزَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْبِرِّ
عَنْ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : قَالَ أُنَاسٌ لِرَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؟ قَالَ : أَمَّا مَنْ أَحْسَنَ مِنْكُمْ فِي الإِسْلاَمِ ، فَلاَ يُؤَاخَذُ بِهَا ، وَمَنْ أَسَاءَ ، أُخِذَ بِعَمَلِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالإِْسْلاَمِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : وَمَنْ أَسَاءَ فِي الإِْسْلاَمِ ، أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآْخِرِ .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا ، وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا ، وأَتَوْا مُحَمَّدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَالُوا : إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ ، وَلَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً ، فَنَزَلَتْ : {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا *} ، وَنَزَلَ : {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ...} الآْيَةَ.
وَعَنِ ابْنِ شُمَاسَةَ الْمَهْرِيِّ ، قَالَ : حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ ، فَبَكَى طَوِيلاً ، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ : يَا أَبَتَاهُ ، أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِكَذَا؟! أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِكَذَا؟! قَالَ : فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ : إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ : شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، إِنِّي كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلاَثَةٍ : لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِنِّي ، وَلاَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَقَتَلْتُهُ ، فَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، ، فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الإِْسْلاَمَ فِي قَلْبِي ، أَتَيْتُ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقُلْتُ : ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلأُِبَايِعْكَ ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ ، قَالَ : فَقَبَضْتُ يَدِي ، قَالَ : مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟! ، قَالَ : قُلْتُ : أَرَدتُّ أَنْ أَشْتَرِطَ ، قَالَ : تَشْتَرِطُ مَاذَا؟! ، قُلْتُ : أَنْ يُغْفَرَ لِي ، قَالَ : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِْسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟! ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟! وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟! ، وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وَلاَ أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ ؛ إِجْلاَلاً لَهُ ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ ، مَا أَطَقْتُ ؛ لأَِنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ ، وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ ، لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، ، ثُمَّ وَلِينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا ، فَإِذَا أَنَا مُتُّ ، فَلاَ تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ
وَلاَ نَارٌ ، فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي ، فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا ، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا ، حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ ، وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي.
وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ ؛ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَيْ رَسُولَ اللهِ ، أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؛ مِنْ صَدَقَةٍ ، أَوْ عَتَاقَةٍ ، أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ ، أَفِيهَا أَجْرٌ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ ، وَفِي رِوَايَةٍ : أَنَّهُ أَعْتَقَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِائَةَ رَقَبَةٍ ، وَحَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ ، ثُمَّ أَعْتَقَ فِي الإِْسْلاَمِ مِائَةَ رَقَبَةٍ ، وَحَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ... فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
وَمِنْ بَابٍ الإِْسْلاَمُ إِذَا حَسُنَ ، هَدَمَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الآثَامِ ، وَأَحْرَزَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْبِرِّ
قوله : أَمَّا مَنْ أَحْسَنَ مِنْكُمْ فِي الإِْسْلاَمِ ، فَلاَ يُؤَاخَذُ بِهَا ، وَمَنْ أَسَاءَ ، أُخِذَ بِعَمَلِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالإِْسْلاَمِ :
يعني بالإحسانِ هنا : تصحيحَ الدخولِ في دِينِ الإسلامِ ، والإخلاصَ فيه ، والدوامَ على ذلك مِنْ غير تبديلٍ ولا ارتداد.
والإساءةُ المذكورةُ في هذا الحديثِ في مقابلةِ هذا الإحسانِ : هي الكفرُ والنفاق ، ولا يَصِحُّ أن يراد بالإساءةِ هنا ارتكابُ سَيِّئةٍ ومعصية ؛ لأنه يلزمُ عليه ألاَّ يَهْدِمَ الإسلامُ ما قبله مِنَ الآثامِ إلا لمن عُصِمَ من جميعِ السيئاتِ إلى الموت ، وهو باطلٌ قطعًا ؛ فتعيَّن ما قلناه.
والمؤاخذةُ هنا : هي العقابُ على ما فعله مِنَ السيِّئات في الجاهليَّة وفي حالِ الإسلام ، وهو المعبَّرُ عنه في الروايةِ الأخرى بقوله : أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِرِ .
وإنما كان ذلك كذلك ؛ لأنَّ إسلامَهُ لمَّا لم يكنْ صحيحًا ولا خالصًا لله تعالى ، لم يَهْدِمْ شيئًا مما سبَقَ ، ثم انضافَ إلى ذلك إثمُ نفاقِهِ وسيئاتِهِ التي عَمِلَهَا في حالِ الإسلام ، فاستحَقَّ العقوبةَ عليها.
ومِنْ هنا : استَحَقَّ المنافقون أن يكونوا في الدَّرْكِ الأسفلِ من النار ؛ كما قال الله تعالى.
ويستفادُ منه : أنَّ الكُفَّارَ مخاطَبُونَ بالفروع. =(1/327)=@
ابْنُ شُمَاسَةَ رُوِّيناه بفتح الشين وضمِّها ، واسمُهُ : عبدالرحمن بن شُمَاسة ، أبوه مِنْ بني مَهْرة ، قَبِيلٌ.
وقولُ عمرو بن العاصي ـ رضى الله عنه ـ : إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ : شَهَادَةُ : أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ، أي : أفضلُ ما نتخذه عُدَّةً لِلِقَاءِ الله : الإيمانُ بالله تعالى ، وتوحيدُهُ ، وتصديقُ رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والنطقُ بذلك.
وقد تقدَّم أنَّ الإيمانَ أفضلُ الأعمالِ كلِّها ، ويتأكَّدُ أمرُ النطق بالشهادتَيْنِ عند الموت ؛ ليكونَ ذلك خَاتِمَةَ أمره ، وآخِرَ كلامه. &(1/223)&$(1/223)
وقوله : إِنِّي كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلاَثَةٍ ، أي : أحوالٍ ومنازلَ ، ومنه قوله تعالى : {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ *} ، أي : حالاً بعد حال.
وقوله : ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلأُِبَايِعْكَ ، بكسر اللام وإسكان العين على الأمر ، أي : أَمْرِ المتكلِّمِ لنفسه ، والفاءُ جوابٌ لما تضمَّنه الأمرُ الذي هو ابسُطْ من الشرط.
ويصحُّ : أن تكون اللامُ لامَ كي ، وتنصبَ أُبَايِعَكَ ، وتكونَ اللامُ سببية ، والله أعلم. =(1/328)=@
وقوله : إِنَّ الإِْسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ ، وَإِنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا ، وَإِنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ ، الهَدْمُ هنا : استعارةٌ وتوسُّع ، يعني به : الإذهابَ والإزالةً ؛ لأنَّ الجدار إذا انهدم ، فقد زالَ وضعُهُ ، وذهَبَ وجودُهُ ، وقد عبَّر عنه في الرواية الأخرى بالْجَبِّ ، فقال : يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ ، أي : يَقْطَعُ ، ومنه المجبوبُ ، وهو المقطوعُ ذَكَرُهُ.
ومعنى العبارتَيْنِ واحد ، ومقصودُهُمَا : أنَّ هذه الأعمالَ الثلاثةَ تُسْقِطُ الذنوبَ التي تقدَّمَتْهَا كلَّها ، كبيرَهَا وصغيرها ؛ فإنَّ ألفاظَهَا عامَّةٌ خرجَتْ على سؤالٍ خاصٍّ ؛ فإنَّ عَمْرًا ـ رضى الله عنه ـ إنما سأل أن تُغْفَرَ له ذنوبُهُ السابقةُ بالإسلام ، فأُجِيبَ على ذلك ؛ فالذنوبُ داخلةٌ في تلك الألفاظِ العامَّةِ قطعًا ، وهي بحكم عمومها صالحةٌ لتناوُلِ الحقوقِ الشرعيَّة ، والحقوقِ الآدميَّة ؛ وقد ثبَتَ ذلك في حَقِّ الكافر الحربيِّ إذا أسلَمَ ؛ فإنَّه لا يُطَالَبُ بشيء مِنْ تلك الحقوق ، ولو قَتَلَ وأَخَذَ الأموالَ ، لم يُقْتَصَّ منه بالإجماع ، ولو خرجَتِ الأموالُ مِنْ تحت يده ، لم يطالَبْ بشيء منها.
ولو أسلَمَ الحربيُّ وبيده مالُ مسلمٍ ؛ عَبِيدٌ ، أو عُرُوضٌ ، أو عَيْنٌ :
فمذهبُ مالك : أنَّه لا يجبُ عليه رَدُّ شيء من ذلك ؛ تمسُّكًا بعمومِ هذا الحديث ، وبأنَّ للكفَّارِ شبهةَ مِلْكٍ فيما حازُوهُ من أموال المسلمين وغيرهم ؛ لأنَّ الله تعالى قد نسَبَ لهم أموالاً وأولادًا ؛ فقال تعالى : {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ}.
وذهَبَ الشافعيُّ : إلى أنَّ ذلك لا يَحِلُّ لهم ، وأنَّه يجبُ عليهم ردُّها إلى مَنْ كان يملكها مِنَ المسلمين ، وأنَّهم كالغُصَّاب ؛ وهذا يُبْعِده : أنَّهم لو استَهْلَكُوا ذلك في حالةِ كُفْرهم &(1/224)&$(1/224)
ثُمَّ أسلموا ، لم يَضْمَنوه بالإجماعِ ؛ على ما حكاه أبو محمَّدٍ عبدُ الوهَّاب.
فأمَّا أسرى المسلمين =(1/329)=@ الأحرارِ : فيجبُ عليهم رفعُ أيديهم عنهم ؛ لأنَّ الحُرَّ لا يُمْلَكُ.
وأما مَنْ أسلم مِنْ أهل الذمَّة : فلا يُسْقِطُ الإسلامُ عنه حقًّا وجب عليه لأحدٍ مِنْ مالٍ أو دمٍ أو غيرهما ؛ لأنَّ أحكام الإسلامِ جاريةٌ عليهم.
واستيفاءُ الفروعِ في كتب الفقه.
وأما الهجرةُ ، والحَجُّ : فلا خلافَ في أنهما لا يُسْقِطان إلا الذنوبَ والآثامَ السابقة ، وهل يُسْقِطان الكبائرَ والصغائر ، أو الصغائرَ فقطْ ؟ موضعُ نظرٍ سيأتي في كتاب الطهارة ، إن شاء الله تعالى.
وقوله : فَإِذَا مُتُّ ، فَلاَ تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ وَلاَ نَارٌ ، إنَّما وصَّى باجتنابِ هذَيْن الأمرَيْن ؛ لأنَّهما مِنْ عَمَلِ الجاهليَّة ، ولِنَهْيِ النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك.
وقوله : فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي ، فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا :
شَنًّا رُوِيَ هذا الحرفُ بالسِّين المهملة ، وبالشِّينِ المعجمة ، فقيل : هما بمعنًى واحدٍ ، وهو الصَّبُّ ، وقيل : هو بالمهملة : الصَّبُّ في سهولة ، وبالمعجمةِ : صَبٌّ في تفريق.
وهذه سُنَّةٌ في صَبِّ التراب على الميِّت في القبر ؛ قاله عِيَاضٌ ، وقال : "كره مالكٌ في "العُتْبِيَّةِ" الترصيصَ على القَبْرِ بالحجارة والطُّوب".
وقوله : ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا ، الجَزُورُ بفتح الجيم : من الإبل ، والجَزَرَةُ : من غيرها ، وفي "كتاب العين" : "الجَزَرَةُ : من الضَّأْنِ والمَعْز خاصَّةً ، وهي مأخوذةٌ من الجَزْرِ ، وهو القَطْع". =(1/330)=@
وقوله : وَلَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً :
يَحْتملُ : أن تكونَ لو هنا للامتناع ، ويكونُ جوابها محذوفًا ، تقديره : لَأَسْلَمنا ، أو نحوه.
ويَحْتملُ : أن تكون تمنِّيًا بمعنى ليت .
والأوَّل أظهر.
وقوله تعالى : {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا *يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا *} الآية ، ذا : إشارةٌ إلى واحدٍ في أصلِ وضعها ، غَيْرَ أنَّ الواحدَ تارةً يكونُ واحدًا بالنصِّ عليه ، وتارةً يكونُ بتأويل &(1/225)&$(1/225)
وإن كانتْ أمورًا متعدِّدة في اللفظِ كما في هذه الآية ؛ فإنَّه ذكَرَ قَبْلَ ذا أمورًا ، وأعاد الإشارةَ إليها مِنْ حيثُ إنَّها مَذْكُورةٌ أو مَقُولة ؛ فكأنَّه قال : ومَنْ يفعلِ المذكورَ أو المقولَ.
وفي هذه الآية : حُجَّةٌ لمن قال : إنَّ الكفَّار مُخَاطَبُونَ بفروعِ الشريعة ، وهو الصحيحُ مِنْ مذهبِ مالكٍ ؛ على ما ذكرناه في الأصول.
وقوله : أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ ، اختُلِفَ في تأويله :
فقيل =(1/331)=@ معناه : إنَّك اكتسبتَ طِباعًا جميلةً ، وخُلُقًا حسنةً في الجاهلية ، أَكْسَبَتْكَ خُلُقًا جميلةً في الإسلام.
وقيل : اكتسَبْتَ بذلك ثناءً جميلاً ، فهو باقٍ عليك في الإسلام.
وقيل : معناه : ببركةِ ما سبَقَ لك مِنْ خيرٍ ، هداك الله تعالى للإسلام.
وقال الحَرْبِيُّ : معناه : ما تقدَّم لك مِنَ الخير الذي عَمِلْتَهُ : هو لك ؛ كما تقول : أَسْلَمْتُ على ألفِ درهم ، أي : على أَنْ أُحْرِزها لنفسه.
قال الشارح ـ رحمه الله ـ : وهذا الذي قاله الحَرْبِيُّ هو أشبهها وأَوْلاَها ، وهو الذي أَشَرْنا إليه في الترجمة ، والله تعالى أعلم. &(1/226)&$(1/226)
[وفي هذا الحديثِ - أعني : حديثَ عمرو بن العاصي ـ رضى الله عنه ـ - فوائد :
منها : تبشيرُ المحتضَرِ ، وتذكيرُهُ بأعمالِهِ الصالحة ؛ ليقوَى رجاؤه ، ويَحْسُنَ باللهِ تعالى ظَنُّهُ.
ومنها : أنَّ الميِّت تُرَدُّ عليه رُوحُهُ ، ويَسْمَعُ حِسَّ مَنْ هو على قبره ، وكلامَهُمْ ، وأنَّ الملائكةَ تسألُهُ في ذلك الوقت.
وهذا كلُّه إنما قاله عمرو ـ رضى الله عنه ـ عن النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ لأنَّ مِثْله لا يُدْرَكُ إلا مِنْ جهة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وعلى هذا : فينبغي أن يُرْشَدَ الميِّتُ في قبره حين وَضْعِهِ فيه إلى جوابِ السؤال ، ويُذكَّرَ بذلك ، فيقال له : "قُلِ : اللهُ ربِّي ، والإسلامُ ديني ، ومحمَّدٌ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسولي" ؛ فإنَّه عن ذلك يُسْأَلُ كما جاءَتْ به الأحاديث =(1/332)=@ على ما يأتي ، إن شاء الله تعالى ، وقد جرى العمَلُ عندنا بِقُرْطُبَةَ كذلك ، فيقال : قل : "هو محمَّدٌ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ؛ وذلك عند هَيْلِ التراب عليه.
ولا يُعارَضُ هذا بقوله تعالى : {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} ، ولا بقوله : {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ؛ لأنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد نادى أهلَ القَلِيبِ وأسمعهم، &(1/227)&$(1/227)
وقال : مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ ، ولَكِنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ جَوَابًا ، وقد قال في الميِّت : إِنَّهُ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ ، وأنَّ هذا يكونُ في حال دون حال ، ووَقْتٍ دون وقت ، وسيأتي استيفاءُ هذا المعنَى في الجنائز ، إن شاء الله تعالى.
وفي هذا الحديثِ: ما كانتِ الصحابةُ ـ رضى الله عنهم ـ عليه مِنْ شدَّة محبَّتهم لرسولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتعظيمِهِ وتوقيره.
وفيه : الخوفُ مِنْ تغيُّرِ الحال ، والتقصيرِ في الأعمالِ في حالِ الموت ، لكنْ ينبغي أن يكونَ الرجاءُ هو الأغلَبَ في تلك الحال ، حتَّى يَحْسُنَ ظنُّهُ بالله عزَّ وجلَّ ؛ فيلقاه على ما أَمَرَ به رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ حيثُ قال : لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ]. =(1/333)=@ &(1/228)&$(1/228)
بَابُ ظُلْمٍ دُونَ ظُلْمٍ
عَنْ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ : [الأنعَام : 82]{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} ، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وَقَالُوا : أَيُّنَا لا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ ، إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ [لقمَان : 13]{يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .
وَمِنْ بَابِ ظُلْمٍ دُونَ ظُلْمٍ
قوله : {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} ، أي : لم يَخْلِطوا ، يقال : لَبَسْتُ الأَمْرَ بغيره - بفتح الباء في الماضي ، وكسرها في المستقبل - لَبْسًا : إذا خَلَطْتَهُ ، ولَبِسْتُ الثوبَ - بكسر الباء في الماضي ، وفتحها في المستقبل - لُبْسًا ولِبَاسًا.
والظُّلْمُ : وَضْعُ الشيءِ في غير موضعه ؛ ومنه قولُ النابغة :
وَالنُّؤْيُ كالحَوْضِ بِالمَظْلُومَةِ الجَلَدِ
فسمَّى الأرضَ مظلومةً ؛ لأنَّ النُّؤْيَ حُفِرَ في الصُّلْبِ منها ، وليس موضعَ حَفْر.
والمرادُ به في الآية : الشِّرْكُ ، وهو أعظمُ الظلم ؛ إذ المُشْرِكُ اعتقدَ الإلهيَّةَ لغيرِ مستَحِقِّها ؛ كما قال تعالى : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، أي : لا ظُلْمَ أعظَمُ منه.
ويقال على المعاصي : ظُلْم ؛ لأنَّها وُضِعَتْ موضعَ ما يجبُ من الطاعةِ لله تعالى.
وقد يأتي الظُّلْمُ ويرادُ به النقص ؛ كما قال تعالى : {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ، أي : ما نَقَصُونا بِكُفْرهم شيئًا ، ولكنْ نَقَصُوا أنفسهم حظَّها من الخير. =(1/334)=@
وفي هذا الحديثِ : ما يدلُّ على أنَّ النكرةَ في سياق النفي تَعُمُّ ؛ لأنَّ الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ فَهِمَتْ من ذلك العمومِ كُلَّ ظلم ، وأقرَّهم النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ذلك الفَهْمِ ، وبيَّن لهم أنَّ المراد بذلك : ظُلْمٌ مخصوص.
وفي الآية : دليلٌ على جواز إطلاقِ اللَّفْظِ العامِّ ، والمرادُ به الخصوص &(1/229)&$(1/229)
بَابٌ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : [البَقَرَة : 284]{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَْرْضِ...} إلَى آخِرِ السُّورَةِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : لَمَّا أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : [البَقَرَة : 284]{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَْرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ...} الآية ، قَالَ : فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ ، فَقَالُوا : أَيْ رَسُولَ اللهِ ، كُلِّفْنَا مِنَ الأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ : الصَّلاَةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ ، وَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيْكَ هَذِهِ الآيَةُ ، وَلاَ نُطِيقُهَا!! قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ : سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟! بَلْ قُولُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ، فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ ، وَذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ ، أَنْزَلَ اللهُ فِي إِثْرِهَا : [البَقَرَة : 285]{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ *} ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ، نَسَخَهَا اللهُ تَعَالَى ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ : [البَقَرَة : 286]{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ، قَالَ : نَعَمْ ، [البَقَرَة : 286]{رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} ، قَالَ : نَعَمْ ، [البَقَرَة : 286]{رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ، قَالَ : نَعَمْ ، [البَقَرَة : 286]{وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} ، قَالَ : نَعَمْ .
وعَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لأُِمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَكَلَّمْ بِهِ .
ومِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى : {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَْرْضِ} الآيَةَ
ما هذه التي في أوَّلِ الآية : بمعني الذي ، وهي متناولةٌ لمن يَعْقِلُ وما لا يعقل ، وهي هنا عامَّةٌ لا تخصيصَ فيها بوجه ؛ لأنَّ كلَّ من في السمواتِ والأرضِ وما فيهما وما بينهما : خَلْقٌ لله تعالى ، ومِلْكٌ له.
وهذا إنما يتمشَّى على مذهبِ أهلِ الحَقِّ والتحقيقِ الذين يُحِيلُونَ على الله تعالى أن يكونَ في السماءِ أو في الأرضِ ؛ إذْ لو كان في شيء ، لكان محصورًا أو محدودًا ، ولو كان كذلك ، لكان مُحْدَثًا.
وعلى هذه القاعدة : فقوله تعالى : {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} ، وقولُ الأَمَةِ =(1/335)=@ للنبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين قال لها : أَيْنَ اللهُ ؟ فقالَتْ : فِي السَّمَاءِ ، ولم يُنْكِرْ عليها ذلك ، وما قد رُوِيَ عن بعض السلف أنَّهم كانوا يُطْلِقون ذلك : ليس على ظاهره ، بل هو مُؤَوَّلٌ تأويلاتٍ صحيحةً قد أبداها كثيرٌ من أهل العلمِ في كتبهم ، لكنَّ السلَفَ ـ رضى الله عنهم ـ كانوا يجتنبون تأويلَ &(1/230)&$(1/230)
المتشابهات ، ولا يتعرَّضون لها ، مع عِلْمهم بأنَّ الله تعالى يستحيلُ عليه سِمَاتُ المُحْدَثَات ، ولوازمُ المخلوقات ، واستيفاءُ المباحث في علم الكلام.
وقوله : {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} ، ما هذه أيضًا : على عمومها ، فتتناولُ كلَّ ما يقع في نَفْسِ الإنسانِ من الخواطر ؛ ما أُطِيقَ دفعُهُ منها وما لا يطاق ؛ ولذلك أَشْفَقَتِ الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ مِنْ محاسبتِهِمْ على جميعِ ذلك ومؤاخذتِهِمْ به ، فقالوا للنبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : كُلِّفْنَا مَا نُطِيقُ : الصَّلاَةَ وَالصِّيَامَ ، وَهَذِهِ الآيةُ لاَ نُطِيقُهَا.
ففيه : دليلٌ على أنَّ موضوعَ ما للعموم ، وأنَّه معمولٌ به فيما طريقُهُ الاعتقادُ ؛ كما هو معمولٌ به فيما طريقُهُ العمل ، وأنَّه لا يجبُ التوقُّفُ فيه إلى البحثِ على المخصِّص ، بل يُبَادِرُ إلى اعتقاد الاستغراقِ فيه وإنْ جاز التخصيصُ ، وهذه المسائلُ اختُلِفَ فيها ؛ كما بيَّنَّاه في الأصول.
ولمَّا سمع النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك القولَ منهم ، أجابهم بأنْ قال : أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ : سَمِعْنَا =(1/336)=@ وَعَصَيْنَا؟! بَلْ قُولُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ، فأقرَّهم النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ما فهموه ، وبيَّن لهم أنَّ لله تعالى أن يُكلِّفَ عبادَهُ بما يطيقونَهُ وبما لا يطيقونه ، ونهاهم عن أن يقَعَ لهم شيءٌ مما وقَعَ لضُلاَّلِ أهل الكتاب مِنَ المخالفة ، وأمَرَهُمْ بالسَّمْعِ والطاعةِ ، والتسليمِ لأمر الله تعالى على ما فهموه ، فسلَّم القومُ لذلك وأذعنوا ، ووطَّنوا أنفسهم على أنَّهم كُلِّفُوا في الآية بما لا يطيقونَهُ ، واعتقدوا ذلك ، فقد عملوا بمقتضى ذلك العمومِ ، وثبَتَ ووَرَدَ ، فإنْ قدِّر رافعٌ لشيء منه ، فذلك الرَّفْعُ نسخٌ لا تخصيص.
وعلى هذا : فقولُ الصحابي ـ رضى الله عنه ـ : فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ، نَسَخَهَا &(1/231)&$(1/231)
اللهُ على حقيقة النسخ ، لا على جهة التخصيص ؛ خلافًا لمن لم يَظْهَرْ له ما ذكرناه ، وهم كثيرٌ من المتكلِّمين على هذا الحديث ، مِمَّنْ رأى أنَّ ذلك من باب التخصيص ، لا مِنْ باب النسخ ، وتأوَّلوا قولَ الصحابيِّ أنَّه نَسْخٌ ؛ على أنَّه أراد بالنَّسْخِ التخصيصَ ، وقال : "فإنَّهم كانوا لا يفرِّقون بين النسخ والتخصيص" ، وقد كُنْتُ على ذلك زمانًا إلى أنْ ظَهَرَ لي ما ذكرتُهُ ، فتأمَّلْهُ ؛ فإنَّه الصحيح ، إن شاء الله.
وقوله : إِنَّهُمْ - يعني : الصحابةَ ـ رضى الله عنهم ـ - كانوا لا يُفرِّقون بين النسخ والتخصيص :
إنْ أراد به : أنَّهم لم ينصُّوا على الفَرْقِ : فمسلَّم ، وكذلك أكثرُ مسائلِ عِلْمِ الأصول ، بل كلُّها ؛ فإنَّهم لم ينصُّوا على شيء منها ، بل فرَّعوا عليها ، وعَمِلُوا على مقتضاها ، من غير عبارةٍ عنها ولا نُطْقٍ بها ، إلى أن جاء مَنْ بعدهم ، فتَفَطَّنُوا لذلك وعبَّروا عنه ، حتى صنَّفوا فيه التصانيفَ المعروفة ، وَأَوَّلُهُمْ في ذلك الشافعيُّ ـ رحمه الله ـ فيما علمناه.
وإن أراد بذلك : أنَّهم لم يكونوا يَعْرِفُونَ الفرقَ بين النسخ والتخصيص ، ولا عَمِلُوا عليه : فقد نسبهم إلى ما يستحيلُ عليهم ؛ لثقابةِ أذهانهم =(1/337)=@ ، وصحَّةِ فهومهم ، وغزارةِ علومهم ، وأنَّهم أَوْلَى بعلم ذلك مِنْ كل مَنْ بعدهم ؛ كيف لا وَهُمْ أئمَّةُ الهدى ، وبهم إلى كُلِّ العلومِ يُقتدَى ، وإليهم المرتَجَعْ ، وقولهم المُتَّبَعْ ، وكيف يَخْفَى عليهم ذلك ، وهو مِنَ المبادئ الظاهرة على ما قَرَّرْنَاهُ في الأصول؟!
وقوله : {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} ، أي : يقولون : لا نفرِّقُ بين أحد منهم ؛ في العلم بِصِحَّةِ رسالاتهم ، وصِدْقِهِمْ في قولهم.
و غُفْرَانَكَ : منصوبٌ على المصدر ، أي : اغفرْ غفرانَكَ ، وقيل : مفعولٌ بفعل مضمر ، أي : هَبْ غفرانَكَ.
و المَصِير : المرجع.
و التَّكْلِيف : إلزامٌ لِمَا في فعله كُلْفَةٌ ، وهي النَّصَبُ والمشقَّة.
و الوُسْع : الطاقة.
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ لله تعالى أن يكلِّفَ عبادَهُ بما يُطِيقونه وما لا &(1/232)&$(1/232)
يُطِيقونه ، ممكنًا كان أو غيرَ ممكن ، لكنَّه تعالى تفضَّلَ بأنَّه لم يُكَلِّفْنَا إلا بما نطيقه وبما يمكننا إيقاعُهُ ، وكمَّلَ علينا بِفَضْلِهِ رَفْعَ الإصْرِ والمشاقِّ التي كلَّفها غيرنا.
واستيفاءُ مباحثِ هذه المسألةِ في علمِ الكلامِ والأصول.
وقوله : {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ، أي : ما كسَبَتْ من خيرٍ ، فلها ثوابه ، وما اكتسَبَتْ من شَرٍّ ، فعليها عقابُهُ.
و كَسَبَ واكْتَسَبَ : لغتان بمعنًى واحدٍ ؛ كـ"قَدَرَ" و"اقتَدَرَ".
ويمكنُ أن يقال : إن هذه التاءَ تاءُ الاستفعالِ والتعاطي ، ودخلَتْ في اكتسابِ الشَّرِّ دون كسب الخير ؛ إشعارًا بأنَّ الشَّرَّ لا يؤاخَذُ به إلا بعد تعاطيه =(1/338)=@ وفعلِهِ دون الهَمِّ به ؛ بخلاف الخير : فإنَّه يُكْتَبُ لمن هَمَّ به وتحدَّثَ به في قلبه ، كما جاء في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُخْبِرًا عن الله تعالى : إِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً ، فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَمْ يَعْمَلْهَا ، فَإذَا عَمِلَهَا ، فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ، ، وإِذا تَحَدَّثَ بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً ، فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْ ، فَإِذَا عَمِلَهَا ، فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً ، وفي لفظٍ آخَرَ : إِذَا هَمَّ بدل تَحَدَّثَ ، وسيأتي إن شاء الله تعالى النظرُ في هذا الحديث.
و الإِصْرُ : العهدُ الذي يُعْجَزُ عنه ؛ قاله ابن عباس ، وقال الربيع : هو الثقلُ العظيم ، وقال ابن زيد : هو الذنبُ الذي لاتوبةَ له ، ولا كَفَّارَةَ.
وقوله : {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} ، قيل : اعْفُ عن الكبائر ، واغْفِرِ الصغائر ، وارحَمْ بتثقيل الموازين ، وقيل : اعْفُ عن الأقوالْ ، واغفِرِ الأفعالْ ، وارحَمْ بتوالي الألطافِ وسَنِيِّ الأحوالْ.
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ : وأصلُ العفو : التسهيلُ ، والمغفرةُ : السترُ ، والرحمةُ : إيصالُ النعمةِ إلى المحتاج.
و مولانا : وليُّنا ، ومتولِّي أمورِنَا ، وناصرُنَا.
و نَعَمْ : حرفُ جواب ، وهو هنا إجابةٌ لما دَعَوْا فيه ، كما قال في الرواية =(1/339)=@ الأخرى عن ابن عبَّاس : قَدْ فَعَلْتُ بدل قوله هنا نَعَمْ .
وهو إخبارٌ من الله &(1/233)&$(1/233)
تعالى : أنَّه أجابهم في تلك الدعوات ، فكلُّ داعٍ يشاركُهُمْ في إيمانِهِمْ وإخلاصِهِمْ واستسلامِهِمْ ، أجابه الله تعالى كإجابتهم ؛ لأنَّ وَعْدَ الله تعالى صدقٌ ، وقولَهُ حقٌّ.
وكان معاذ ـ رضى الله عنه ـ يختمُ هذه السورةَ بـ آمِينَ كما تُخْتَمُ الفاتحة ، وهو حَسَن.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لأُِمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا ، روايتنا : نصبُ أَنْفُسَهَا ، على أنَّه مفعولُ حَدَّثَتْ ، وفي حَدَّثَتْ ضميرُ فاعلٍ عائدٌ على الأُمَّة.
وأهل اللغة يقولون : أَنْفُسُهَا بالرفع على أنَّه فاعلُ حَدَّثَتْ ، يريدون بغير اختيار ؛ قاله الطحاويُّ ـ رحمه الله ـ .
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ : يعني بذلك : أنَّ الذي لا يؤاخَذُ به هو الأحاديثُ الطارئةُ التي لا ثباتَ لها ، ولا استقرارَ في النَّفْسِ ، ولا رُكُونَ إليها.
وهذا نحوٌ ممَّا قاله القاضي أبو بكر في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الله تعالى : إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِحَسَنَةٍ ، فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَمْ يَعْمَلْ ، فَإِذَا عَمِلَهَا ، فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ عَشْرًا ، ، وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ ، فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا ، فَإذَا عَمِلَهَا ، فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً.
قال القاضي : "إنَّ الهمَّ هنا : ما يَمُرُّ بالفِكْرِ من غير استقرارٍ ولا توطين ، فلو استمرَّ ووطَّن قلبه عليه ، لكان ذلك هو العَزْمَ المؤاخَذَ به أو المثابَ عليه ؛ بدليل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : =(1/340)=@ إِذَا الْتَقَى المُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا ، فَالقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ فِي النَّارِ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، هَذَا القَاتِلُ ، فَمَا بَالُ المَقْتُولِ ؟ قَالَ : إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ.
لا يُقَالُ : "فهذه المؤاخذةُ هنا إنَّما كانتْ لأنَّه قد عَمِلَ بما استَقَرَّ في قلبه مِنْ حمله السلاحَ عليه ، لا بمجرَّدِ حِرْصِ القلب ؛ لأنَّا نقول : هذا فاسدٌ ؛ لأنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد نصَّ على ما وقعَتِ المؤاخذةُ به ، وأعرَضَ عن غيره ، فقال: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى &(1/234)&$(1/234)
قَتْلِ صَاحِبِهِ ، فلو كان حَمْلُ السلاحِ هو العِلَّةَ الموجِبةَ للمؤاخذةِ أو جُزْءَهَا ، لَمَا سكَتَ عنه ، وعلَّقَ المؤاخذَةَ على غيره ؛ لأنَّ ذلك خلافُ البيانِ الواجبِ عند الحاجةِ إليه".
وهذا الذي صار القاضي إليه ، هو الذي عليه عامَّةُ السلفِ وأهلِ العلمِ ؛ من الفقهاء والمحدِّثين والمتكلِّمين.
ولا يُلْتَفَتُ إلى مَنْ خالفهم في ذلك ؛ فزعم : "أنَّ ما يَهُمُّ به الإنسانُ - وإن وطَّن نفسَهُ عليه - لا يؤاخَذُ به ؛ مُتَمَسِّكًا في ذلك بقوله تعالى : {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} ، وبقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ بِهِ ، ومن لم يعملْ بما عزَمَ عليه ولا نطَقَ به ، فلا يؤاخَذُ به ، وهو متجاوَزٌ عنه" :
والجوابُ عن الآية : أنَّ مِنَ الهمِّ ما يؤاخَذُ به ، وهو ما استَقَرَّ واستوطَنَ ، ومنه ما يكونُ أحاديثَ لا تستقرُّ ؛ فلا يؤاخَذُ بها ؛ كما شَهِدَ الحديثُ به ، وما في الآية من القِسْمِ الثاني لا الأوَّل ، ، وفي الآيةِ تأويلاتٌ هذا أحَدُهَا ، وبه يحصُلُ الانفصال.
وعن قوله : مَا لَمْ تَعْمَلْ : أنَّ توطينَ النفسِ عليه عَمَلٌ ؛ فيؤاخَذُ به.
والذي يرفعُ الإشكالَ ويبيِّنُ المرادَ بهذا الحديث : حديثُ أبي كَبْشةَ الأنماريِّ ، واسمه عُمَرُ بن سَعْد - على ما قاله خَليفة بنُ خَيَّاط - : أنَّه سَمِعَ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : إِنَّمَا الدُّنْيَا لأِرْبَعَةِ نَفَرٍ... الحديثَ إلى آخره ، وقد ذكرناه. =(1/341)=@ &(1/235)&$(1/235)
بَابُ مَا يَهُمُّ بِهِ العَبْدُ مِنَ الحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : قَالَ اللهُ تَعَالَى : إِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً ، فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَمْ يَعْمَلْ ، فَإِذَا عَمِلَهَا ، فَأَنَا أَكْتُبُهَا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ، ، وَإِذَا تَحَدَّثَ بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً ، فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا ، فَإِذَا عَمِلَهَا ، فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِمِثْلِهَا.
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : قَالَتِ الْمَلائِكَةُ : رَبِّ ، ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً ؟ - وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ - فَقَالَ : ارْقُبُوهُ ؛ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا ، وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً ، إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ .
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلاَمَهُ ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِمِثْلِهَا حَتَّى يَلْقَى اللهَ عَزَّوَجَلَّ .
قوله : قَالَتِ المَلاَئِكَةُ : رَبِّ ، ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً ؟ -وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ- ، قال الطبريُّ : "فيه دليلٌ على أنَّ الحَفَظَةَ تكتُبُ أعمالَ القلوبِ ؛ خلافًا لمن قال : إنَّها لا تكتُبُ إلاَّ الأعمالَ الظاهرة".
وقوله : إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ ، أي : مِنْ أجلي ، وفيه لغتان : المَدُّ والقصر ؛ ومنه الحديث : إنَّ امْرَأَةً دَخَلَتِ النَّارَ مِنْ جَرَّاءِ هِرَّةٍ ، أي : مِنْ أجلِ هِرَّة ، وهي مشدَّدةُ الراء في اللغتين ، وقد خُفِّفت معهما.
ومقصودُ هذا اللفظ : أنَّ الترك للسَّيِّئةِ لا يُكْتَبُ حسنةً ، إلاَّ إذا كان خوفًا من الله تعالى ، أو حياءً منه ، وأيُّهما كان =(1/342)=@ ، فذلك التركُ هو التوبةُ من ذلك الذنبِ. وإذا كان كذلك ، فالتوبةُ عبادةٌ من العبادات ؛ إذا حصَلَتْ بشروطها ، أذهبَتِ السَّيِّئات ، وأعقَبَتِ الحسنات.
وقوله تعالى : إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ : إخبارٌ منه تعالى للملائكةِ بما لم يعلموا مِنْ إخلاصِ العبد في التَّرْك ، ومِنْ ههنا قيل : إنَّ الملائكةَ لا تَطَّلِعُ على إخلاصِ العبد.
وَفِي رِوَايَةٍ : إِذَا هَمَّ مَكَانَ : إِذَا تَحَدَّثَ .
وقد دَلَّ عليه : قولُهُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديثِ حذيفةَ ـ رضى الله عنه ـ عن النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد سأله عن الإخلاص ما هو ، فقال : قَالَ اللهُ تَعَالَى : "هُوَ سِرٌّ مِنْ سِرِّي ، اسْتَوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَنْ أَحْبَبْتُ مِنْ عِبَادِي ، والحديثُ الآخرُ الذي يقولُ الله تعالى &(1/236)&$(1/236)
فيه للملائكةِ التي تكتُبُ الأعمالَ حينَ تَعْرِضها عليه : ضَعُوا هَذَا وَاقْبَلُوا هَذَا ، فَتَقُولُ المَلاَئِكَةُ : وَعِزَّتِكَ مَا رَأَيْنَا إِلاَّ خَيْرًا ، فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى : إِنَّ هَذَا كَانَ لِغَيْرِي ، وَلاَ أَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلاَّ مَا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهِي. =(1/343)=@
بَابُ : اسْتِعْظَامُ الوَسْوَسَةِ ، وَالنُّفْرَةُ مِنْهَا : خَالِصُ الإِْيمَانِ ، وَالأَْمْرِ بِالاِسْتِعَاذَةِ عِنْدَ وُقُوعِهَا
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَسَأَلُوهُ : إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ ؟ قَالَ : وَقَدْ وَجَدتُّمُوهُ؟! ، قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ : ذَلِكَ صَرِيحُ الإِْيمَانِ .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : سُئِلَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَنِ الْوَسْوَسَةِ ؟ فَقَالَ : تِلْكَ مَحْضُ الإِيمَانِ .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ : مَنْ خَلَقَ كَذَا وَكَذَا ؟ حَتَّى يَقُولَ لَهُ : مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ ؟ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ ، فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ وَلْيَنْتَهِ ، وَفِي رِوَايَةٍ : فَلْيَقُلْ : آمَنْتُ بِاللهِ .
وَمِنْ بَابِ : اسْتِعْظَامُ الْوَسْوَسَةِ ، وَالنُّفْرَةُ مِنْهَا : خَالِصُ الإِْيمَانِ
قوله : وَقَدْ وَجَدتُّمُوهُ؟! ؛ كذا صحَّت الروايةُ وقد بالواو ، ، ومعنى الكلام: &(1/237)&$(1/237)
الاستفهامُ على جهة الإنكارِ والتعجُّبِ :
فَيَحْتملُ : أن تكونَ همزةُ الاستفهامِ محذوفةً ، والواوُ للعطفِ ، فيكونُ التقدير : أَوَقَدْ وَجَدتموه؟!.
ويَحْتمل : أن تكونَ الواوُ عِوَضَ الهمزة ؛ كما قرأ قُنْبُلٌ ، عن ابن كَثِيرٍ : {قَالَ فِرْعَوْنُ وَأَامَنْتُمْ بِهِ} ، قال أبو عَمْرٍو الداني : "هي عِوَضٌ من همزة الاستفهام ، وهذه الواوُ مثلها.
والضميرُ في وَجَدتُّمُوهُ عائدٌ على التعاظم الذي دَلَّ عليه يتعاظم.
و الصَّرِيحُ وَ المَحْضُ : الخالصُ الصافي ، وأصلُهُ في اللبن.
ومعنى هذا الحديثِ : أنَّ هذه الإلقاءاتِ والوساوسَ التي يُلْقيها الشيطانُ في صدور المؤمنين =(1/344)=@ ، تَنْفِرُ منها قلوبُهُمْ ، ويَعْظُمُ عليهم وقوعُهَا عندهم ، وذلك دليلٌ على صِحَّةِ إيمانهم ويقينِهِمْ ومعرفتِهِمْ بأنَّها باطلة ، ومن إلقاءاتِ الشيطان ، ولولا ذلك ، لركنوا إليها ، وَلَقَبِلوها ، ولم تَعْظُمْ عندهم ، ولا سَمَّوْهَا وسوسةً.
ولمَّا كان ذلك التعاظُمُ ، وتلك النُّفْرَةُ عن ذلك : الإيمانَ ، عبَّر عن ذلك بأنَّه خالصُ الإيمان ، ومحضُ الإيمان ؛ وذلك مِنْ باب تسميةِ الشيءِ باسمِ الشيء ؛ إذا كان مُجَاوِرًا له ، أو كان منه بِسَبَبٍ.
وقوله : فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ ، وَلْيَنْتَهِ ، لمَّا كانتْ هذه الوساوسُ مِنْ إلقاءِ الشيطان ، ولا قُوَّةَ لأحدٍ بدفعِهِ إلا بمعونةِ الله تعالى وكفايتِهِ - : أمَرَ بالالتجاءِ إليه ، والتعويلِ في دفع ضرَرِهِ عليه ، وذلك معنى الاستعاذةِ على ما يأتي ، ، ثم عقَّب ذلك بالأمرِ بالانتهاءِ عن تلك الوساوسِ والخواطرِ ، أي : عن الالتفاتِ إليها والإصغاءِ نحوها ، بل يُعْرِضُ عنها ولا يبالي بها.
وليس ذلك نهيًا عن إيقاعِ ما وَقَعَ منها ، ولا عن أَلاَّ تقَعَ منه ؛ لأنَّ ذلك ليس داخلاً تحت الاختيار ولا الكَسْب ، فلا يكلَّفُ بها ، والله تعالى أعلم.
وقوله في الحديث الآخر : قُلْ : آمَنْتُ بِاللهِ ، أمرٌ بتذكُّرِ الإيمانِ الشرعيِّ ، وإشغالِ القلب به ؛ لِتُمْحَى تلك الشبهاتْ ، وتَضْمَحِلَّ تلك التُّرَّهَاتْ.
وهذه كلُّها أدويةٌ للقلوبِ السليمة ، الصحيحةِ المستقيمة ، التي تَعْرِضُ الشبهاتُ لها ولا تَمْكُثُ فيها ؛ فإذا استُعْمِلَتْ هذه الأدويةُ على نحو ما أمر به ، بَقِيَتِ القلوبُ على صِحَّتها، &(1/238)&$(1/238)
وانحفَظَتْ سلامتها.
فأمَّا القلوبُ التي تمكَّنَتْ منها أمراضُ الشُّبَه ، ولم تَقْدِرْ على =(1/345)=@ دفع ما حَلَّ بها بتلك الأدويةِ المذكورة : فلا بُدَّ من مشافهتها بالدليلِ العقليّ ، والبرهانِ القطعيّ ؛ كما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع الذي خالَطَتْهُ شبهةُ الإبلِ الجُرْب ، حين قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لاَ عَدْوَى ، فقال أعرابيٌّ : فما بَالُ الإِبِلِ تكونُ في الرَّمْلِ كأنَّهَا الظِّبَاءُ ، فإذا دخَلَ فيها البَعِيرُ الأَجْرَبُ أَجْرَبَهَا ؟ فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ؟! ؛ فاستأصَلَ الشبهةَ من أصلها.
وتحريرُ ذلك على طريقِ البرهانِ العقليِّ : أن يقال : إنْ كان الداخلُ أجرَبَهَا ، فما أجرَبَهُ ؟ : فإنْ كان أجرَبَهُ بعيرٌ آخر ، كان الكلامُ فيه كالكلامِ في الأوَّل ، فإمَّا أن يتسلسَلَ أو يَدُور ، وكلاهما محال ، فلا بُدَّ أن تقف عند بَعِيرٍ أجربَهُ الله تعالى مِنْ غير عَدْوَى ؛ وإذا كان كذلك ، فاللهُ تعالى هو الذي أجرَبَهَا كلَّها ، أي : خلَقَ الجَرَبَ فيها.
وهذا على منهاجِ دليلِ المتكلِّمين على إبطالِ عِلَلٍ وحوادثَ لا أَوَّلَ لها على ما يُعْرَفُ في كتبهم.
و الوَسْوَسَةُ وزنها : فَعْلَلَة ، وهي صيغةٌ مُشْعِرَةٌ بالتحرُّكِ والاضطرابِ ؛ كالزَّلْزَلَةِ ، والقَلْقَلَةِ ، والحَقْحَقَة ، وأصلُ الوسوسة : الصوتُ الخفيُّ ، ومنه سمِّي صوتُ الحَلْيِ : الوَسْوَاس. =(1/346)=@ &(1/239)&$(1/239)
بَابُ إِثْمِ مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ بِيَمِينِهِ
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟! قَالَ : وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ .
وَعَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إِلَى النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي كَانَتْ لأَِبِي ، فَقَالَ الْكِنْدِيُّ : هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا ، لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لِلْحَضْرَمِيِّ : أَلَكَ بَيِّنَةٌ ؟ ، قَال : لا ، قَالَ : فَلَكَ يَمِينُهُ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ ، لاَ يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ ، فَقَالَ : لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلاَّ ذَلِكَ ، فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لَمَّا أَدْبَرَ : أَمَا لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا ، لَيَلْقَيَنَّ اللهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ .
ومِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ صَبْرٍ ، يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ، هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ ، فَنَزَلَتْ : [آل عِمرَان : 77]{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بَعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً...} إِلَى آخِرِ الآيَةِ. وَفِي أُخْرَى : فَقَالَ : شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ .
وَفِي أُخْرَى : أَنَّ الْكِنْدِيَّ هُوَ : امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ عَابِسٍ ، وَخَصْمُهُ : رَبِيعَةُ بْنُ عِبْدَانَ ، ويُقَالُ : ابْنُ عَيْدَانَ.
وَمِنْ بَابِ إِثْمِ مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ بِيَمِينِهِ
اقْتَطَعَ : افتعَلَ من القطع ، وهو الأَخْذُ هنا ؛ لأنَّ مَنْ أخَذَ شيئًا لنفسه ، فقد قطَعَهُ عن مالكه.
وقوله : فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ ، أي : إنْ كان مستَحِلاًّ لذلك ، فإنْ كان غيرَ مستحلٍّ ، وكان ممَّن لم يغفرِ اللهُ له ، فيعذِّبُهُ اللهُ في النار ما شاء من الآماد ، وفيها يحرِّمُ عليه الجنةَ ، ثم يكونُ حاله كحالِ أهلِ الكبائر من الموحِّدين ؛ على ما تقدَّم.
ويستفادُ من هذا الحديث : أنَّ اليمينَ الغَمُوسَ لا يَرْفَعُ إثمَهَا الكَفَّارةُ ، بل هي أعظَمُ مِنْ أن يُكفِّرَهَا شيءٌ ، كما هو مذهبُ مالك ، على ما يأتي في "الأيمان" ، إن شاء الله تعالى.
وقوله : إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي كَانَتْ لأَِبِي ، وفي الرواية الأخرى : انْتَزَى ، بمعنى غلب ، وهو من النَّزْوِ ، وهو الارتفاعُ.
وفيه : دليلٌ على =(1/347)=@ أنَّ المُدَّعِيَ لا يلزمُهُ تحديدُ المُدَّعَى به إنْ كان مما يُحَدُّ ، ولا أن يصفه بجميعِ أوصافه كما يوصفُ المُسْلَمُ فيه ، بل يكفي من ذلك أن يتميَّز المدعَى به تمييزًا تنضبطُ به الدعوى ، وهو مذهبُ مالك.
خلافًا لما ذهَبَ إليه الشافعيَّة ؛ حيثُ ألزموا المدعيَ أن يَصِفَ المُدَّعَى به بحدودِهِ وأوصافِهِ المعيَّنةِ التامَّة ، كما يوصفُ المُسْلَمُ فيه.
وهذا الحديثُ حُجَّةٌ عليهم ؛ أَلاَ ترى أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يُكَلِّفْهُ تحديدَ الأرضِ ولا تعيينَهَا ، بل لمَّا كانتِ الدعوَى متميِّزةً في نفسها ، اكتفَى بذلك.
وظاهرُ هذا الحديثِ : أنَّ والد المدَّعِي قد كان توفِّي ، وأنَّ الأرضَ صارتْ للمدَّعِي بالميراث ، ومع ذلك فلم يطالبه النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإثباتِ الموتِ ولا بِحَصْرِ &(1/240)&$(1/240)
الورثة ؛ فَيَحْتملُ أن يقال : إنَّ ذلك كان معلومًا عندهم ، ، وَيَحْتملُ أن يقالَ : لا يلزمُهُ إثباتُ شيء من ذلك ، مالم يناكرْهُ خَصْمه ، والله أعلم.
وفيه : دليلٌ على أنَّ مَنْ نسَبَ خَصْمَهُ إلى الغَصْبِ حالةَ المحاكمة ، لم يُنْكِرِ الحاكمُ عليه ، إلا أنْ يكونَ المقولُ له ذلك لا يَلِيقُ به.
وقوله : هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا ، لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ ، دليلٌ على أنَّ المدعَى فيه لا يُنْتَزَعُ من يدِ صاحبِ اليدِ بمجرَّدِ الدعوَى ، وأنَّه لا يُسْأَلُ عن سببِ يدِهِ ، ولا عن سببِ ملكه.
وقوله للحضرمي : أَلَكَ بَيِّنَةٌ ؟ ، وفي الطريق الأخرى : شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ ، دليلٌ على أنَّ المدعي يلزمُهُ إقامةُ البيِّنة ، فإنْ لم يُقِمْهَا ، حَلَفَ المدعَى عليه ؛ وهو أمرٌ متَّفَقٌ عليه ، وهو مستفادٌ من هذا الحديث.
فأمَّا ما يُرْوَى عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من =(1/348)=@ قوله : البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي ، وَاليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ، فليس بصحيحِ الرواية ؛ لأنَّه يدورُ على مسلمِ بنِ خالدٍ الزَّنْجِيِّ ، ولا يُحْتَجُّ به ، لكنَّ معنى متنه صحيحٌ ؛ لشهادةِ الحديثِ المتقدِّم له ، ولحديثِ ابنِ عبَّاس ـ رضى الله عنهما ـ الذي قال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه : وَلَكِنِ اليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ.
وفيه : حجةٌ لمن لا يشترطُ الخِلْطَةَ في توجُّه اليمينِ على المدعَى عليه ، وقد اشترَطَ ذلك مالكٌ ، واعتُذِرَ له عن هذا الحديث : بأنَّها قضيةٌ في عَيْنٍ ، ، ولعلَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلِمَ بينهما خِلْطةً ، فلم يطالبْهُ بإثباتها ، والله تعالى أعلم.
وقوله : إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ لاَ يُبَالِي مَا حَلَفَ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ ، الفاجر : هو الكاذبُ الجريءُ على الكذب ، والوَرَعُ : الكَفُّ ، ومنه قولُهُ : "رَوِّعُوا اللِّصَّ وَلاَ تُورِعُوه" ، أي : لا تنكفُّوا عنه.
وظاهر هذا الحديث : أنَّ ما يجري بين &(1/241)&$(1/241)
المتخاصمَيْنِ في مجلس الحكم مِنْ مثلِ هذا السَّبِّ والتقبيحِ : جائزٌ ، ولا شيءَ فيه ؛ إِذْ لم يُنْكِرْ ذلك النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ وإلى هذا ذهَبَ بعضُ أهل العلم.
والجمهورُ : لا يُجِيزون شيئًا من ذلك ، ويَرَوْنَ إنكارَ ذلك ويؤدِّبون عليه ؛ تمسُّكًا بقاعدةِ تحريمِ السبابِ والأعراضِ.
واعتذَرُوا عن هذا الحديث : بأنَّه مُحْتمِلٌ لأنْ يكونَ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ علم أنَّ المقولَ له ذلك القولُ كان كما قِيلَ له ؛ فكان القائلُ صادقًا ولم يَقْصِدْ أذاه بذلك ، وإنَّما قصَدَ منفعةً يستخرجها ، فلعلَّه إذا شُنِّعَ عليه ، فقد ينزجرُ بذلك ، فيرجعُ إلى الحق.
ويَحْتملُ : أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تركَهُ ولم يَزْجُرْهُ ؛ لأنَّ المقولَ له لم يَطْلُبْ حقَّه في ذلك ، والله أعلم. =(1/349)=@
وقوله : شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ ، دليلٌ على اشتراطِ العددِ في الشهادة ، وعلى انحصارِ طُرُقِ الحِجَاجِ في الشاهد واليمين ، ما لم يَنْكُلِ المُدَّعَى عليه عن اليمين ، فإنْ نَكَلَ ، حلَفَ المدَّعي واستحَقَّ المدعَى فيه ، فإنْ نكل ، فلا حُكْمَ ، ويُتْرَكُ المدعَى فيه بيد مَنْ كان بيده ، وسيأتي القولُ في الشاهد واليمين.
وقوله : لَيَلْقَيَنَّ اللهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ ، أي : إعراضَ الغضبان ، كما في الحديث الآخر : وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ.
وقد تقدَّم القولُ في غضبِ الله تعالى وفي رضاه ، وأنَّ ذلك محمولٌ :
إمَّا على إرادةِ عقابِ المغضوبِ عليه وإبعادِهِ ، وإرادةِ إكرامِ المرضِيِّ عنه.
أو على ثَمَرَاتِ تلك الإرادة ، وهو الإكرامُ أوِ الانتقامُ.
وفيه : دليلٌ على نَدْبِيَّةِ وَعْظِ المُقْدِمِ على اليمين.
وقوله : فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ ، دليلٌ على أنَّ اليمينَ لا تُبْذَلُ أمام الحاكم ، بل لها موضعٌ مخصوص ، وهو أعظَمُ مواضعِ ذلك البلد ؛ كالبيتِ بمكَّة ، ومِنْبَرِ النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ &(1/242)&$(1/242)
بالمدينة ، ومَسْجِدِ بيت المَقْدِس ، وفي المساجِدِ الجامعةِ في سائرِ الأمصار ؛ لكنَّ ذلك فيما ليس بتافِهٍ ، وهو ما لا تُقْطَعُ فيه يَدُ السارق ، وهو أَقَلُّ من رُبُعِ دينار عند مالكٍ ؛ فيحلَّفُ فيه - حيثُ كان - مستقبِلَ القبلة ، وفي ربعِ دينارٍ فصاعدًا ؛ لا يُحَلَّفُ إلا في تلك المواضع ، ، وخالفه أبو حنيفة في ذلك ، فقال : لا يكونُ اليمينُ إلا حيثُ كان الحاكم.
وظاهرُ هذا الحديث : أنَّ المدعَى عليه إذا حلَفَ ، انقطعَتْ حجةُ خَصْمه وبقي المدعَى فيه بيدِهِ ، وعلى ملكِهِ في ظاهر الأمر ، غيرَ أنَّه لا يَحْكُمُ له الحاكمُ بملك ذلك ؛ فإنَّ غايتَهُ أنه حائز ، ولم يَجْرِ ما يزيله عن حَوْزه ، فلو سأل المطلوبُ تعجيزَ الطالبِ بحيثُ لا تَبْقَى له حُجَّةٌ ، فهل للحاكمِ تعجيزُهُ وقطعُ حُجَّته أم لا ؟ قولان بالنفي والإثبات.
وفي هذا الحديثِ : أبوابٌ من علمِ القَضَاءِ لا تخفَى. =(1/350)=@
وقوله : فنزلت : {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بَعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً...} ، عَهْدُ اللهِ : هو ميثاقُهُ ، وهو إيجابُهُ على المكلَّفين أن يقوموا بالحقِّ ، ويعملوا بالعدل.
و الأيمانُ : جمعُ يمين ، وهو الحَلِفُ بالله.
و يشترون : يعتاضون ؛ فكأنَّهم يُعْطُونَ ما أوجَبَ الله تعالى عليهم مِنْ رعاية العهود والأيمان في شيءٍ قليلٍ حقيرٍ من عَرَضِ الدنيا.
و الخَلاَقُ : الحَظُّ والنصيب.
و لاَ يُكَلِّمُهُمْ ، أي : بما يَسُرُّهم ، أو لا يكلِّمهم إعراضًا عنهم واحتقارًا لهم.
و لا ينظُرُ إليهم نظَرَ رحمةٍ.
و لاَ يُزَكِّيهِمْ ، أي : لا يُثْنِي عليهم كما يُثْنِي على مَنْ تَزَكَّى ، وقيل : لا يُطَهِّرهم من الذنوب.
و الأليم : المُوجِعُ الشديدُ الألم.
وقد تقدَّم القولُ على "يمين صبرٍ".
وقوله : إِنَّ الْكِنْدِيَّ هُوَ : امْرُؤُ القَيْسِ بْنُ عَابِسٍ ، وَخَصْمُهُ : رَبِيعَةُ بْنُ عِبْدَانَ ، عَابِس : بالباءِ بواحدةٍ من تحتها والسينِ المهملة.
و عِبْدَان : بكسرِ العينِ المهملة وباءٍ بواحدةٍ ، هي رواية زُهَيْر.
وقال أحمد بن حنبل : عَيْدَان بفتح العين &(1/243)&$(1/243)
المهملة وياءٍ باثنتين من تحتها ، وهو الصوابُ عند النُّقَّاد ؛ كالدارقطنيِّ ، وابنِ مَاكُولاَ ، وأبي عليٍّ الغَسَّانِيِّ ، وغيرِهِمْ. =(1/351)=@
بَابُ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ ، فَهُوَ شَهِيدٌ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَالَ : يَارَسُولَ اللهِ ، أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي ؟ قَالَ : فَلاَ تُعْطِهِ مَالَكَ ، قَالَ : أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي ؟ قَالَ : قَاتِلْهُ ، قَالَ : أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي ؟ قَالَ : فَأَنْتَ شَهِيدٌ ، قَالَ : أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ ؟ قَالَ : هُوَ فِي النَّارِ .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ ، فَهُوَ شَهِيدٌ .
وَمِنْ بَابِ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ ، فَهُوَ شَهِيدٌ
دُونَ في أصلها : ظرفُ مكانٍ ، بمعنى : أَسْفَلَ وتَحْتَ ، وهي نقيضُ فَوْق ، وقد استُعْمِلَتْ في هذا الحديث بمعنى "لأَِجْلِ" السببيةِ ، وهو مجازٌ وتوسُّعٌ ، ووجهه : أنَّ الذي يُقَاتِلُ على ماله ، إنما يجعله خَلْفَهُ أو تحته ، ثم يقاتِلُ عليه.
و الشَّهِيدُ سمِّي بذلك ؛ لأنَّه حيٌّ ؛ فكأنَّه يشاهدُ الأشياء ؛ قاله النَّضْرُ بن شُمَيْل.
وقال ابن &(1/244)&$(1/244)
الأنباريِّ : سمِّي بذلك ؛ لأنَّ اللهَ تعالى وملائكتَهُ شَهِدُوا له بالجنَّة.
وقيل : لأنَّه يُشْهَدُ يومَ القيامةِ مع النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقيل : لأنَّه يُشَاهِدُ ما أَعَدَّ اللهُ له من الكرامة ؛ كما قال تعالى : {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}.
وقوله : لاَ تُعْطِهِ مَالَكَ ، وقَاتِلْهُ ، دليلٌ على أنَّ المُحَارِبَ لا يجوزُ أن يُعْطَى شيئًا له بالٌ من المال إذا طلبَهُ على وجه الحِرَابَةِ ما أمكن ، لا قليلاً ولا كثيرًا ، وأنَّ المُحَارِبَ يجبُ قتالُهُ ؛ ولذلك قال مالك : "قِتَالُ المحارِبِينَ جهادٌ" ، وقال ابن المنذر : "عَوَامُّ العلماءِ على قتالِ المحارِبِ على كُلِّ وجهٍ ، ومدافعتِهِ عن المالِ والأهلِ والنَّفْس". =(1/352)=@
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ : واختلَفَ مذهبنا إذا طلَبَ الشيءَ الخفيفَ كالثَّوْبِ ، والطعامِ - فهل يُعْطُونه أم لا ؟ على قولَيْن ، ، وذكَرَ أصحابنا : أنَّ سبَبَ الخلافِ في ذلك : هو هل الأَمْرُ بقتالهم من بابِ تغييرِ المُنْكَرِ فلا يُعْطَوْنَ ويُقَاتَلُونَ ، أو هو مِنْ بابِ دفعِ الضَّرَر ؟ وخرَّجوا من هذا الخلافِ الخلافَ في دعائهم قبل القتال ، هل يُدْعَوْنَ قبله أم لا؟.
بَابُ مَنِ اسْتُرْعِيَ رَعِيَّةً ، فَلَمْ يَجْتَهِدْ لَهُمْ ، وَلَمْ يَنْصَحْ لَهُمْ ، لَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ ، وَمَنْ نَمَّ الحَدِيثَ لَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ
عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ ، إِلاَّ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ .
وَفِي رِوَايَةٍ : مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ ، ثُمَّ لاَ يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ ، إِلاَّ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ .
وَعَنْ هَمَّامِ بْنِ الحَارِثِ ، قَالَ : كَانَ رَجُلٌ يَنْقُلُ الحدِيثَ إِلَى الأَمِيرِ ، قَالَ : فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْنَا ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ : سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ ، وَفِي رِوَايَةٍ : نَمَّامٌ .
وَمِنْ بَابِ مَنِ اسْتُرْعِيَ رَعِيَّةً ، فَلَمْ يَنْصَحْ لَهُمْ
قوله : مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً... الحديثَ ، هو لفظٌ عامٌّ في كلِّ مَنْ كُلِّفَ حِفْظَ غيرِهِ ؛ كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : كُلُّكُمْ رَاعٍ ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ =(3/353)=@ &(1/245)&$(1/245)
رَعِيَّتِهِ ؛ فالإمامُ الذي على الناس راعٍ ، وهو مسؤولٌ عن رعيَّتِهِ ، وهكذا الرجلُ في أهل بيتِهِ ، والوَلَدُ ، والعبدُ.
و الرعايةُ : الحِفْظُ والصيانة ، والغِشُّ : ضِدُّ النصيحة.
وحاصلُهُ : راجعٌ إلى الزجر عن أن يضيِّع ما أُمِرَ بحفظه ، وأن يقصِّر في ذلك مع التمكُّنِ من فِعْلِ ما يتعيَّنُ عليه.
وقد تقدَّم القولُ على قوله : حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ ، وأنَّ ذلك محمولٌ على ظاهره إنْ كان مستحلاًّ ، ، وإن لم يكنْ مُسْتَحِلاًّ ، فأحدُ تأويلاتِهِ : أنه إنْ أنفَذَ اللهُ تعالى عليه الوعيدَ ، أدخلَهُ النارَ آمادًا ، ومنعَهُ الجنةَ وحَرَّمَهَا عليه في تلك الآمادِ ، ثم تكونُ حالُهُ حالَ أهلِ الكبائر مِنْ أهل التوحيد ؛ على ما تقدَّم.
وقوله : لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الجَنَّةَ ، يُشِيرُ إلى صِحَّةِ ما ذكرناه مِنْ أنَّه =(1/354)=@ لا يدخُلُ الجنةَ في وقتٍ دون وقت ، وهو تقييدٌ للرِّوَايةِ الأخرى المُطْلَقَةِ التي لم يَذْكُرْ فيها : مَعَهُمْ .
وقوله : لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَتَّاتٌ ، أي : نَمَّامٌ ، كما فسَّره في الرواية الأخرى ، وفي "الصِّحَاح" : "القَتُّ : نَمُّ الحديثِ ، والقِتِّيتَى مِثْلَ الهِجِّيرَى : النميمةُ".
و النمََّّام : هو الذي يرفعُ الأحاديثَ ويُفْشِيها على وجه المفسدة ، وإلقاءِ الشرور ؛ قال ابنُ الأعرابي : "القتّات : هو الذي ينقُلُ عنك ما تحدِّثُهُ وتستكتمُهُ ، والقَسَّاسُ : هو الذي يتسمَّعُ عليك ما تحدِّثُ به غيرَهُ ، ثُمَّ ينقُلُهُ عنك".
وفيه : دليلٌ على أنَّ النميمةَ من الكبائر ، وإنما كانت كذلك ؛ لما يترتَّبُ عليها من المفاسدِ والشرورِ. &(1/246)&$(1/246)
بَابٌ فِي رَفْعِ الأَْمَانَةِ وَالإِْيمَانِ مِنَ القُلُوبِ ، وَعَرْضِ الْفِتَنِ عَلَيْهَا
عَنْ حُذَيْفَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حَدِيثَيْنِ ، قَدْ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا ، وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ ؛ حَدَّثَنَا : أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ، ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ ، فَعَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ ، وَعَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ ، ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِ الأَمَانَةِ ، قَالَ : يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْوَكْتِ ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأَْمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ ، كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ ، فَنَفِطَ ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ ، ثُمَّ أَخَذَ حَصَاةً فَدَحْرَجَها عَلَى رِجْلِهِ ، فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ ، لاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ ، حَتَّى يُقَالَ : إِنَّ فِي بَنِي فُلاَنٍ رَجُلاً أَمِينًا ، حَتَّى يُقَالَ لِلرَّجُلِ : مَا أَجْلَدَهُ! مَا أَظْرَفَهُ! مَا أَعْقَلَهُ! وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ ، وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا أُبَالِي أَيَّكُمْ بَايَعْتُ ، لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا لَيَرُدَّنَّهُ عَلَيَّ دِينُهُ ، وَلَئِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا أَوْ يَهُودِيًّا لَيَرُدَّنَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ مِنْكُمْ إِلاَّ فُلاَنًا وَفُلاَنًا.
وعَنْه ، قَالَ : كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ ، فَقَالَ : أَيُّكُمْ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَذْكُرُ الْفِتَنَ ؟ فَقَالَ قَوْمٌ : نَحْنُ سَمِعْنَاهُ ، فَقَالَ : لَعَلَّكُمْ تَعْنُونَ فِتْنَةَ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَجَارِهِ ؟ قَالُوا : أَجَلْ ، قَالَ : تِلْكَ تُكَفِّرُهَا الصَّلاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ ، وَلَكِنْ أَيُّكُمْ سَمِعَ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَذْكُرُ الْفِتَنَ الَّتِي تَمُوجُ مَوْجَ الْبَحْرِ ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ : فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ ، فَقُلْتُ : أَنَا ، قَالَ : أَنْتَ ، ِللهِ أَبُوكَ! قَالَ حُذَيْفَةُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا ، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا ، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا ، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ : عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا ، فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادٌّ كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا ؛ لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا ، وَلا يُنْكِرُ مُنْكَرًا ، إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ ، قَالَ حُذَيْفَةُ : وَحَدَّثْتُهُ أَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا يُوشِكُ أَنْ يُكْسَرَ ، قَالَ عُمَرُ : أَكَسْرًا لاَ أَبَا لَكَ! فَلَوْ أَنَّهُ فُتِحَ لَعَلَّهُ كَانَ يُعَادُ! قَالَ : لاَ بَلْ يُكْسَرُ ، وَحَدَّثْتُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْبَابَ رَجُلٌ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ ، حَدِيثًا لَيْسَ بِالأَغَالِيطِ ، قَالَ أَبُو خَالِدٍ : فَقُلْتُ لِسَعْدٍ : يَا أَبَا مَالِكٍ ، مَا أَسْوَدُ مُرْبَادٌّ ؟ قَالَ : شِدَّةُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ ، قَالَ : قُلْتُ : فَمَا الْكُوزُ مُجَخِّيًا ؟ قَالَ : مَنْكُوسًا.
وَمِنْ بَابِ رَفْعِ الأَْمَانَةِ وَالإِْيمَانِ مِنَ القُلُوبِ
قوله : إِنَّ الأَْمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ، "جَذْرُ الشيء" بالجيم المفتوحة : أصلُهُ ؛ على قولِ الأصمعيِّ ، وحكى أبو عمرو كسرها ، قال أبو عُبَيْدٍ : =(1/355)=@ الجَذْرُ : الأصلُ مِنْ كل شيء.
ومعنى إنزالِهَا في القلوبِ : أنَّ الله تعالى جبَلَ القلوبَ الكاملةَ على القيامِ بحقِّ الأمانة ؛ مِنْ حِفْظِهَا واحترامِهَا ، وأدائِهَا لمستَحِقِّها ، وعلى النُّفْرةِ مِنَ الخيانةِ فيها ؛ لِتَنْتَظِمَ المصالحُ بذلك ، لا لأنَّها حَسَنَةٌ في ذاتها ؛ كما تقولُهُ المعتزلةُ ؛ على ما يُعْرَفُ في موضعه.
و الأَمَانَةُ : كلُّ ما يُوَكَّلُ إلى الإنسانِ حفظُهُ ويُخَلَّى بينه وبينه ؛ ومِنْ ههنا سُمِّيَ التكليفُ أمانةً في قوله تعالى : {إِنَّا عَرَضْنَا الأَْمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ وَالْجِبَالِ} في قولِ كثيرٍ من المفسِّرين.
و الوَكْتُ : الأَثَرُ اليسير ؛ يقال للبُسْرِ إذا وقَعَتْ فيه نُكْتةٌ من الإرطاب : قد وَكَّتَ ؛ قاله الهرويُّ ، وقال صاحبُ "العين" : "الوَكْتُ ، بفتح الواو : نكتةٌ في العَيْن ، وعَيْنٌ موكوتة ، والوَكْتُ : سواد العين". &(1/247)&$(1/247)
و المَجْلُ : هو أن يكونَ بين الجِلْدِ واللحم ماءٌ ، يقالُ : مَجِلَتْ يَدُهُ تَمْجَلُ مَجَلاً ، بكسر الجيم في الماضي وفتحها في المضارع ، ومَجَلَتْ ، بالفتح في الماضي ، والكسر في المضارع ، أي : تَنَفَّطَتْ مِنَ العمل.
و مُنْتَبِرًا : منتفِخًا ، وأصلُهُ : الارتفاعُ ، ومنه : انْتَبَرَ الأميرُ : إذا صَعِدَ المِنْبَرَ ؛ =(1/356)=@ وبه سمِّي المِنْبَرُ ، ونَبِرَ الجرحُ ، أي : وَرِمَ ، والنَّبْرُ : نَوْعٌ من الذُّبَابِ يَلْسَع ؛ ومنه سمِّي الهمزُ : نَبْرًا ، وكلُّ شيء ارتفَعَ : فقد نَبِرَ ، وقال أبو عبيد : مُنْتَبِرًا : مُنْتَفِطًا.
و لاَ يَكَادُ ، أي : لا يقارب.
و ما أجلده! ، أي : ما أقواه!
و ما أظرفه! ، أي : ما أحسَنَهُ! والظَّرْفُ عند العرب : في اللسان والجسم ، وهو حُسْنُهما ، وقال ابنُ الأعرابيِّ : "الظَّرْفُ في اللسان ، والحَلاَوَةُ في العين ، والمَلاَحَةُ في الفم" ، وقال المبرِّد : "الظَّرِيفُ : مأخوذٌ من الظَّرْف ، وهو الوعاء ، كأنَّه جُعِلَ وعاءً للآداب" ، وقال غيره : يقال منه : ظَرُفَ يَظْرُفُ ظَرْفًا ، فهو ظَرِيفٌ ، وَهُمْ ظُرَفَاء ، وإنما يقال في الفِتْيَانِ والفَتَيَاتِ أهلِ الخِفَّة.
وقوله : لاَ أُبَالِي أَيَّكُمْ بَايَعْتُ ، يعني : من البيع ، لا مِنَ المبايعة ؛ لأنَّ اليهوديَّ والنصرانيَّ لا يبايعُ بَيْعَةَ الإسلام ، ولا بيعةَ الإمامة ، وإنما يعني : أنَّ الأمانةَ قد رُفِعَتْ من الناس ، فقَلَّ مَنْ يُؤْتَمَنُ على البيعِ والشراء.
وقد قدَّمنا أنَّ أصلَ "الفِتْنَة" : الامتحانُ والاختبار ، ثم صارَتْ في العُرْفِ عبارةً عن : كلِّ أمرٍ كَشَفَهُ الاختبارُ عن سوء ؛ قال أبو زيد : "فَتِنَ الرجلُ فُتُونًا : إذا وقَعَ في الفتنة ، وتحوَّل عن حالٍ حسنةٍ إلى حالٍ(؟) سيئة" ، والأهلُ والمالُ والولدُ أمورٌ يُمْتَحَنُ الإنسانُ بها ، ويُخْتَبَرُ =(1/357)=@ عندها ؛ كما قال تعالى : {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} ، أي : مِحْنَةٌ تُمْتَحَنُونَ بها حتى يَظْهَرَ منكم ما هو خَفِيٌّ عمَّن يُشْكِلُ عليه أمركم. &(1/248)&$(1/248)
و أَجَلْ ، بمعنى : نَعَم.
و تَمُوجُ مَوْجَ الْبَحْرِ ، أي : تَضْطرِبُ ويدفعُ بعضُها بعضًا ، وكُلُّ شيءٍ اضطرَبَ : فقد ماج ؛ ومنه قوله تعالى : {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ}.
وَ أَسْكَتَ الْقَوْمُ ، أي : أَطْرَقوا ؛ قال الأصمعيُّ : سكَتَ القومُ : صَمَتُوا ، وأَسْكَتوا : أَطْرَقوا ، وقال أبو عليٍّ البغداديُّ وغيره : سكَتَ وأسكَتَ ، بمعنى : صَمَتَ.
قال الهرويُّ : " ويكونُ " سكَتَ " بمعنى " سكَنَ " ؛ ومنه قوله تعالى : {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} ، ويكونُ بمعنى "انقطَعَ" ؛ تقول العرب : جرى الوادي ثلاثًا ، ثم سكَتَ ، أي : انقطَعَ ، ويقال : هو السُّكُوتُ والسُّكَاتُ ، وسكَتَ يَسْكُتُ سَكْتًا وسُكُوتًا وسُكَاتًا".
وقوله : كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا ، فيه ثلاثُ تقييدات :
قيَّده القاضي الشَّهِيد : بفتح العينِ المهملة والذالِ المعجمة.
وقيَّده أبو بحر سفيانُ بن العاص : بضمِّ العين والدالِ المهملة.
واختار أبو الحُسَيْنِ بنُ سِرَاجٍ : فَتْحَ العينِ والدالِ المهمله.
فمعنى التقييدِ الأوَّل : سؤالُ الإعاذة ؛ كما يقال : غَفْرًا غَفْرًا ، أي : اللهمَّ اغفِرْ ، اللهم اغفرْ.
وأما التقييد الثاني ، فمعناه : أنَّ الفتن تتوالَى واحدةً بعد أخرى ؛ كَنَسْج =(1/358)=@ الحصير عُودًا بإزاء عُود ، وشَطْبةً بإزاء شَطْبة ، أو كما يناولُ مهيِّىءُ القُضْبان للناسجِ عُودًا بعد عُود.
وأما التقييدُ الثالث : فمعناه قريب مِنْ هذا ، يعني أنَّ الفتنةَ كلَّما مضت ، عادَتْ ؛ كما يفعلُ ناسجُ الحصير : كلَّما فرَغَ من موضعِ شَطْبةٍ أو عُودٍ ، عاد إلى مثله.
والمعنى الثاني أمكَنُ وأليقُ بالتشبيه ، والله أعلم.
و أُشْرِبَهَا ، أي : حَلَّتْ فيه مَحَلَّ الشَّرَاب ؛ كقوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ}، أي : حُبَّهُ. &(1/249)&$(1/249)
وقوله : عَلَى قَلْبَيْنِ : أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، أي : قَلْبٍ أبيضَ ، فحذَفَ الموصوفَ للعِلْمِ به ، وأقامَ الصفةَ مُقَامَهُ.
وليس تشبيهُهُ بالصَّفَا مِنْ جهة بياضه، ولكنْ مِنْ جهةِ صلابته على عَقْدِ الإيمان ، وسلامتِهِ من الخَلَلِ والفتن ؛ إذْ لم تَلْصَقْ به ولم تؤثِّر فيه ؛ كالصَّفَا وهو الحَجَرُ الأملسُ الذي لا يَعْلَقُ به شيءٌ ، بخلاف القلبِ الآخَرِ الذي شبَّهه بالكُوزِ الخاوي ؛ لأنه فارغٌ من الإيمانِ والأمانة.
وقوله : وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادٌّ ، فيه ثلاثُ تقييدات :
مُرْبَادٌّ : مُفْعَالٌّ ، من ارْبَادَّ ؛ مِثْلَ مُصْفَارٍّ من اصْفَارَّ ؛ وهو روايةُ الخُشَنِيِّ عن الطبريِّ.
و مُرْبَدٌّ : مثلُ مُسْوَدٍّ ومُحْمَرٍّ ، من اربَدَّ واسْوَدَّ واحْمَرَّ ؛ وهو تقييدُ أبي مروانَ بنِ سِرَاجٍ.
و مُرْبَئِدٌّ بالهمز ، قيَّده العُذْرِيُّ ، وكأنَّه من ارْبَأَدَّ لغةٌ.
وقال بعض اللغويين : "احمَرَّ الشيء ، فإذا قوي ، قيل : احمَارَّ ، فإذا زاد ، قيل : احمَأَرَّ بالهمز" ؛ فعلى هذا تكونُ تلك =(1/359)=@ الرواياتُ صوابًا كلُّها.
قال أبو عبيد ، عن أبي عمرو وغيره : الرُّبْدَة : لَوْنٌ بين السواد والغُبْرة ، وقال ابن دُرَيْد : الرُّبْدة : الكُدْرة ، وقال الحَرْبِيُّ : هو لونُ النَّعَامِ ؛ بعضُهُ أسودُ ، وبعضُهُ أبيض ، ومنه : اربَدَّ لونه : إذا تغيَّر ودخله سواد ؛ وإنما سمِّي النعام رُبْدًا ؛ لأنَّ أعاليَ رِيشِهَا إلى السواد ، وقال نِفْطَوَيْهِ : المُرْبَدُّ : الملمَّع بسواد وبياض ، ومنه : تربَّدَ لونُه ، أي : تلوَّن فصار كلونِ الرماد.
وقولُ سعدِ بنِ طارق لخالدٍ الأحمرِ في تفسير مُرْبَادّ : شِدَّةُ البَيَاضِ فِي سَوَادٍ ، قال فيه القاضي أبو الوليدِ الكِنَانِيُّ : "هذا تصحيفٌ ، وأرى صوابه : شِبْهُ البياضِ في سواد ؛ وذلك أنَّ شِدَّةَ البياضِ في سوادٍ لا تسمَّى : رُبْدة ، وإنما يقال لها : بَلَقٌ ؛ إذا كان في الجِسْم ، وحَوَرٌ ؛ إذا كان في العين ، والرُّبْدة إنما هي شيءٌ من بياضٍ يسيرٍ يخالطُ السوادَ ؛ كلونِ أَكْثَرِ النعام ".
وقوله : كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا ، قال الهروي : "المُجَخِّي : المائلُ ، وجَخَّى: إذا &(1/250)&$(1/250)
فتح عَضُدَيْهِ في السجود ، وكذلك : جَخَّ ، وقال شَمِرٌ : جَخَّى في صلاته : إذا رفَعَ بطنَهُ عن الأرض في السجود ، وكذلك : خَوَّى".
وقال أبو عُبَيْد : "المجخِّي : المائلُ ، ولا =(1/360)=@ أَحْسِبُهُ أراد بميله إلا أنه منخَرِقُ الأسفلِ ، شبَّه به القلبَ الذي لا يَعِي خيرًا ولا يَثْبُتُ فيه ، كما لا يثبُتُ الماءُ في الكُوزِ المنخرق".
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ : ولا نحتاجُ إلى هذا التقديرِ والتكلُّف ؛ فإنَّه إذا كان مقلوبًا منكوسًا - كما قال سعد - لم يَثْبُتْ فيه شيءٌ وإنْ لم يكنْ مُنْخَرِقًا ، وقد فسَّره سياقُ الحديث ؛ حيثُ قال : لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا ، وَلا يُنْكِرُ مُنْكَرًا ، إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ.
وقوله : أَكَسْرًا لاَ أَبَا لَكَ! : استعظامٌ من عمر ـ رضى الله عنه ـ لكسر ذلك البابِ ، وخوفٌ منه ألاَّ يَنْجَبِرَ ؛ لأن الكَسْرَ لا يكونُ إلا عن إكراهٍ وغَلَبة ؛ فكأنَّ البابَ المُغْلَقَ عن دخولِ الفتن على الإسلامِ : عمر ـ رضى الله عنه ـ ، وكَسْرُهُ قتله.
واللام في لاَ أَبَا لَكَ! مُقْحَمَةٌ ، وكذلك في قولهم : "لا يَدَيْ لفلانٍ بهذا الأمر" ، ولا تريد العربُ بهذا الكلامِ نَفْيَ الأبوَّةِ حقيقةً ، وإنما هو كلامٌ جَرَى على ألسنتهم كالمَثَلِ.
ولقد أبدَعَ البديع حيثُ قال في هذا المعنى : "وقَدْ يُوحِشُ اللفظُ وكلُّه وُدّ ْ ، ويُكْره الشيء وما من فعله بُدّ ْ ؛ هذه العربُ تقولُ : لا أَبَا لك للشيءِ إذا هَمّ ْ ، وقاتَلَهُ اللهُ ، ولا يريدون به الذمّ ْ ، وَوَيْلَ أُمِّهِ للأمر إذا تَمّ ْ ، وللألبابِ في هذا الباب أن تَنْظُرَ إلى القولِ وقائله ، فإنْ كان وليًّا فهو الولاءُ وإن خَشُنْ ، وإنْ كان عدوًّا فهو البَلاَءُ وإنْ حَسُنْ". &(1/251)&$(1/251)
وقوله : حَدِيثًا لَيْسَ بالأَْغَالِيط ، أي : حَدَّثْتُهُ حديثًا ، فهو مصدر.
و الأَغَالِيطُ : جمع أُغْلُوطة ؛ قال ابن دُرَيْد : "هي التي يُغَالَطُ بها ، واحدها : مَغْلَطَةٌ وأُغْلُوطة ، وجمعها : أغاليطُ". =(1/361)=@
باب كيف بدأ الإسلام وكيف يعود
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاء .
ومن باب كيف بدأ الإسلام وكيف يعود
قوله : بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ ؛ كذا رويتُه بهمزة بدأ ، وفيه نظر ، وذلك أنّ بدأ مهموزًا متعدٍّ إلى مفعول ؛ كقوله تعالى : {كما بدأنا أول خلق نعيده} ، قال صاحب الأفعال : يقال بدأ الله الخلق بدءًا ، وأبدأهم : خَلَقهم ، وبدأ في الحديث لا تقتضي مفعولاً ، فظهر الإشكال.
ويرتفع الإشكال بأنْ نحمل بدأ(6 ) الذي في الحديث على طرأ فيكون لازمًا ، كما قد اتّفق للعرب في كثير من الأفعال ، يتعدّى حملاً على صيغةٍ ، ولا يتعدّى حملاً على أخرى ، كما قالوا : رجع زيد ورجعته ، وفَغَرَ فَاه وفَغَرَ فُوه ، وهو كثير.
وقد سمعت من بعض أشياخي إنكار الهمز ، فزعم أنّه بدا بمعنى ظهر غير مهموز ، وهذا فيه بعد من جهة الرواية والمعنى.
فأما الرواية بالهمز ، فصحيحة النقل عَمَّن يُعتمد على علمه وضبطه. وأمّا المعنى ، فبعيد عن مقصود الحديث، فإنّ &(1/252)&$(1/252)
مقصودَه أنّ الإسلام نشأ في أول أمره في آحادٍ من الناس وقلّة ، ثمّ انتشر وظهر ، فأخبرَنا به ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنّه سيلحقه من الضعف والاختلال حتى لا يبقى إلا في آحاد وقلة كابتدائه.
وأصل الغربة البعد ، كما قال :
فلا تحرمَنِّي نائلا عن جنابة فإني امرؤٌ وَسْطَ القباب غريبُ =(1/362)=@
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ؛ عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : إِنَّ الإِسْلامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ ، وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ فِي جُحْرِهَا .
ويحتمل أن يراد بالحديث المهاجرون ؛ إذ هم الذين تغرَّبوا عن أوطانهم فرارًا بأديانهم ، فيكون معناه أنّ آخر الزمان تشتدّ فيه المحن على المسلمين ، فيفرّون بأديانهم ويغتربون عن أوطانهم كما فعل المهاجرون. وقد ورد في الحديث : قيل : يا رسول الله ! من الغرباء ؟ قال : هم النزاع من القبائل ، أشار إلى هذا المعنى ، والله أعلم. وكذلك قال الهرويّ : أراد بذلك المهاجرين .
و النُزَّاع جمع نزيع أو نازع ، وهو الذي نزع عن أهله وعشيرته وبَعُدَ عن ذلك.
وقوله : الإسلام يأرِز بين المسجدين ، وإنّ الإيمان ليأرِز إلى
ومن حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : إِنَّ الإِيْمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ... بنحوه.
المدينة ، قال أبو عبيد : أي : ينضمّ ويجتمع بعضه إلى بعض كما تنضمّ الحيّة في جحرها. وقال ابن دريد : أَرَزَ الشيء يأْرِز ، إذا ثبت في الأرض ، وشجرة أرْزَة ، أي : ثابتة مجتمعة.
وهذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إخبار بما كان في عصره وعصر من يليه من أصحابه وتابعيهم ، من حيث إنّ المدينة دار هجرتهم ومقامهم ، ومقصدهم وموضع رحلتهم =(1/363)=@ في طلب العلم والدين ، ومرجعهم فيما يحتاجون إليه من مهمّات دينهم ووقائعهم ، حتّى لقد حصل للمدينة من الخصوصيّة بذلك ما لا يوجد لغيرها .
وفيه حجّة على صحّة مذهب مالك في تمسُّكه بعمل أهل المدينة وكونِه حجّةً شرعيّة.
وقال أبو مصعب الزبيريّ في معنى هذا الحديث : إنّما أراد بالمدينة &(1/253)&$(1/253)
أهل المدينة ، وأنّه تنبيه على صحّة مذهبهم ، وسلامتهم من البدع المحدثات ، واقتدائهم بالسنن ، وأنّ الإيمان مجتمع عندهم وعند من سلك سبيلهم .
وعَنْ أَنَسٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لا يُقَالَ فِي الأَرْضِ : اللهَ ، اللهَ .
وفي أخرى : لا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ : اللهَ ، اللهَ .
وقوله : بين المسجدين ؛ يعني : مسجد مكّة - شرّفها الله تعالى - ومسجد المدينة. وهو إشارة إلى أنّ مبدأ الإيمان كان بمكّة وظهوره بالمدينة.
وقوله : لا تقوم الساعةُ حتّى لا يقالَ في الأرض : اللهَ اللهَ ، كذا صوابه بالنصب ، وكذلك قيّدناه عن محقِّقي من لقيناه.
ووجهه أنّ هذا مثل قول العرب : الأسدَ الأسدَ ، والجدارَ الجدارَ ، إذا حذّروا عن الأسد المفترس والجدار المائل ، فهو منصوب بفعل مضمر ، كأنّهم قالوا : احذر الأسد ، لكنّهم التزموا إضماره هنا ؛ لتكرار الاسم ونصبه ، كما قال الشاعر :
أخاكَ أخاكَ إنّ من لا أخَا له كساعٍ إلى الهيجا بغيرِ سلاحِ =(1/364)=@
فإن أفردوا ، ذكروا الفعل فقالوا : اتّقِ الأسد واحذر الجدار ، واحفظ أخاك.
وقد قيَّده بعضهم اللهُ اللهُ بالرفْع على الابتداء وحذْف الخبر ، وفيه بُعد.
ولا يعارض هذا قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين إلى يوم القيامة ؛ ؛ لأنّ هذه الطائفة يقاتلون الدجّال ويجتمعون بعيسى ـ عليه السلام ـ ، ثمّ لا تزال على ذلك إلى أن يقبضهم الله تعالى بالريح اليمانية التي لا تُبقِي مؤمنا إلا قبضَتْه ، فيبقى بعدَهم شرارُ الخلق ليس منهم من يقول : لا إله إلا الله يتهارجون تهارُج الحُمُر ، فعليهم تقوم الساعة على ما يأتي في كتاب الفتن.
وعَنْ حُذَيْفَةَ ؛ قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ : أَحْصُوا لِي كَمْ يَلْفِظُ الإِسْلامَ . قَالَ : فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ ! أَتَخَافُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ مَا بَيْنَ السِّتمِائَةِ إِلَى السَّبْعِمِائَةِ ؟ قَالَ : إِنَّكُمْ لا تَدْرُونَ لَعَلَّكُمْ أَنْ تُبْتَلَوْا . قَالَ : فَابْتُلِينَا ، حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ مِنَّا لا يُصَلِّي إِلاّ سِرًّا.
وقوله : أَحْصُوا لي كَمْ يلفظ الإسلام ، أي : عدّوا لي ، ومنه : {وأحصى كلَّ شيء عددًا}.
وأصل اللفظ الرمي ، ومنه : لفظه البحر، أي: &(1/254)&$(1/254)
رماه ، وعداه بنفسه لما حذف الباء في رواية ، وفي أخرى بثبوت الباء ؛ لأنه محمول على تكلّم المتعدي بحرف الجرّ ، فكأنه قال : عُدُّوا لي كم يتكلم بالإسلام أو ينطق به.
وقول حذيفة : فابتُلِيْنَا حتّى جعل الرجل منّا لا يصلّي إلا سرًا ؛ يعني بذلك - والله أعلم - ما جرى لهم في أوّل الإسلام بمكة حين كان المشركون يُؤْذُونهم ، ويمنعونهم من إظهار صلاتهم ، حتى كانوا يُصلّون سرًّا . =(1/365)=@
باب إعطاء من يخاف على إيمانه
عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ؛ قَالَ : قَسَمَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَسْمًا ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ! أَعْطِ فُلانًا فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَوْ مُسْلِمٌ ، أَقُولُهَا ثَلاثًا ، وَيُرَدِّدُهَا عَلَيَّ ثَلاثًا : أَوْ مُسْلِمٌ ، ثُمَّ قَالَ : إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ ، مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللهُ فِي النَّارِ .
ومن باب إعطاء مَن يُخاف على إيمانه
قوله : أعطِ فلانًا فإنّه مؤمنٌ ، فقال : أو مسلم ؛ دليل على صحّة ما قدّمناه من الفرق بين حقيقتي الإيمان والإسلام ، وأن الإيمان من أعمال الباطن ، والإسلام من أعمال الجوارح.
وَفِي رِوَايَةٍ قال : مَا لَكَ عَنْ فُلانٍ ؟ فَوَاللهِ إِنِّي لأَرَاهُ مُؤْمِنًا .
وفيه ردٌّ على غُلاة المُرجِئة والكرامية ، حيث حكموا بصحّة الإيمان لمن نطق بالشهادتين وإن لم يعتقد بقلبه ، وهو قولٌ باطلٌ &(1/255)&$(1/255)
قطعًا ؛ لأنّه تسويغٌ للنفاق.
وفيه حجّة لمن يقول : أنا مؤمن بغير استثناء. وهي مسألة اختلف فيها السلف ، فمنهم المجيز والمانع.
وسبب الخلاف النظر إلى الحال أو المآل ، فمن منع خاف من حصول شك في الحال أو تزكية ، ومن أجاز صرف الاستثناء إلى الاستقبال وهو غيب في الحال ؛ إذ لا يدري بما يختم له. والصواب الجوازُ إذا أُمِنَ الشكُّ والتزكيةُ ، فإنّه تفويض إلى الله تعالى.
قوله : أوْ مسلمًا ، الرواية بسكون الواو ، وقد غلط من فتحها وأحال المعنى ؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يُرِدْ استفهامَه ، وإنما أشار له إلى القِسْمِ الآخر المختص بالظاهر الذي يمكن أن يدرك ، فجاء ب أو التي للتقسيم والتنويع. =(1/366)=@
وقوله : مخافة أن يكبّه الله في النار ، الرواية يَكُبه بفتح الياء وضمّ الكاف ، من كبّ ثلاثيًا. ولا يجوز هنا غيره ؛ لأنّ رباعيَّه لازم ، ولم يأت في لسان العرب فعلٌ ثلاثيّه متعدٍ ورباعيّه غير متعدٍ إلا كلمات قليلة ، يقال : أكبَّ الرجلُ وكببْتُه ، وأقشعَ الغيمُ وقشعتْه الريح ، وأنسَلَ ريشُ الطائر ووَبَرُ البعيرِ ونسلْتُه أنا ، وأنزفتِ البئرُ : قلَّ ماؤها ونزفْتُها أنا ، وأَمْرَت الناقةُ : قلَّ دَرُّها ومَرَيْتُها أنا ، وأشنقَ البعيرُ : رفَع رأسَه وشْنَقْتُه أنا.
وقوله : والله إني لأُراه مؤمنًا ، الرواية بضم الهمزة ، يعني : أظنّه ، وهو من سعد حلفٌ على ما ظنَّه ، فكانت هذه اليمين لاغية ، ولذلك لم ينكرها عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولا أمره بكفارة عنها ، فكان فيه دليل على جواز الحلف على الظنّ ، وأنّها هي اللاغية ، وهو قول مالك والجمهور. &(1/256)&$(1/256)
وفِي أُخْرَى : قال : فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِيَدِهِ بَيْنَ عُنُقِي وَكَتِفِي ، ثُمَّ قَالَ : أَقِتَالاً ؟ أَيْ سَعْدُ ! إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ... ، وذكر نحوه.
وقوله : أقِتَالاً ؟ أيْ سعد ! ، هو مصدر ، أي : أتُقَاتِلُني قتالاً ، فحذف الفعل ؛ لدلالة المصدر عليه.
ومعنى القتال هنا : الدفع والمكابدة ، وهذا كقوله في المارّ بين يدَيْ المصلِّي : فإنْ أبى ، فَلْيُقَاتِلْه ، أي : فَلْيُدَافعْه ويمنعْه من المرور. =(1/367)=@
باب مضاعفة أجر الكتابي إذا آمن بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشدة عذابه إذا لم يؤمن
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ قَالَ : وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ! لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ ، إِلاّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ .
ومن باب مضاعفة أجر الكتابي إذا آمن
قوله : لا يسمع بي أحد من هذه الأمة الحديث ، الأمّة(2 ) في أصل اللغة : الجماعة من الحيوان ، قال الله تعالى : {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} ، وقال : {وجد عليه أمة من الناس} ، ثم قد استعمل في محامل شتّى.
وعَنْ أَبِي مُوسَى الأشعَرِي ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : ثَلاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ : رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ ، وَأَدْرَكَ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ وَصَدَّقَهُ ، فَلَهُ أَجْرَانِ. وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحَقَّ سَيِّدِهِ ، فَلَهُ أَجْرَانِ. وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ فَغَذَّاهَا فَأَحْسَنَ غِذَاءَهَا ، ثُمَّ أَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ أَدَبَهَا ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا ، فَلَهُ أَجْرَانِ .
ثُمَّ قَالَ الشَّعْبِيُّ لِلْخُرَاسَانِيِّ : خُذْ هَذَا الْحَدِيثَ بِغَيْرِ شَيْءٍ ، فَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِيمَا دُونَ هَذَا إِلَى الْمَدِينَةِ.
والمراد به في هذا الحديث : كل من أُرْسِلَ إليه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولزمته حجته ، سواء صدّقه أو لم يصدّقه ، ولذلك دخل فيه اليهودي والنصراني. لكن هذا على مساق حديث مسلم &(1/257)&$(1/257)
هذا ، فإنه قال فيه : لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ، بغير واو العطف ، فإنّه يكون بدلاً من الأمة .
وقد روى هذا الحديث عبد بن حميد ، وقال : لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهوديّ ولا نصرانيّ ، فحينئذ لا يدخل اليهوديّ ولا النصرانيّ في الأمة المذكورة ، والله أعلم.
وفيه دليل على أنّ مَن لم تبلغْه دعوةُ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا أمره ، لا عقاب عليه ولا مؤاخذة ، وهذا كقوله تعالى : {وما كنّا معذِّبين حتى نبعث رسولاً} الآية. ومن لم تبلغْه دعوة الرسول ولا معجزته ، فكأنّه لم يُبعثْ إليه رسول. =(1/368)=@
وهذا الكتابيّ الذي يضاعَف أجرُه ، هو الذي كان على الحقّ في شرعه
عقدًا وفعلاً ، ثمّ لم يزل متمسّكًا بذلك إلى أنْ جاء نبيّنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فآمن به ، واتّبع شريعته ، فهذا هو الذي يؤجَر على اتّباع الحقّ الأوّل والحقّ الثاني.
وأمّا من اعتقد الإلهيّة لغير الله تعالى ، كما يعتقده النصارى اليوم ، أو من لم يكن على حقّ في ذلك الشرع الذي كان ينتمي إليه ، فإذا أسلم جبّ الإسلام ما كان عليه من الفساد والغلط ، ولم يكن له حقّ يؤجر عليه إلاّ الإسلام خاصّة - والله أعلم - ، وسيأتي في هذا الحديث
زيادة وبحث إن شاء الله تعالى. =(1/369)=@ &(1/258)&$(1/258)
نزل هوامش هذا الجزء من ملفات السعودية, وافصل التلخيص عن المفهم
52 ) باب ما جاء في نزول عيسى بن مريم وما ما ينزل به
123- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وَاللهِ ! لَيَنْزِلَنَّ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَادِلاً ، فَلَيَكْسِرَنَّ الصَّلِيبَ ، وَلَيَقْتُلَنَّ الْخِنْزِيرَ ، وَلَيَضَعَنَّ الْجِزْيَةَ ، وَلَيَتْرُكَنَّ الْقِلاصَ ، فَلا يُسْعَى عَلَيْهَا ، وَلَتَذْهَبَنَّ الشَّحْنَاءُ وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ ، وَلَيَدْعُوَنَّ إِلَى الْمَالِ فَلا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ )) .
ومن باب ما جاء في نزول عيسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ
قوله : (( لَينزلنّ ابنُ مريم فيكم حَكَمًا مُقسِطًا )) ، وفي رواية : ((عادلاً))
مفسِّرًا. يقال : أَقسَطَ الرجلُ يُقسِطُ إقساطًا ؛ أي : عدل ، ومنه قوله تعالى : { وأَقْسِطُوا إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }. وقَسَطَ يَقْسُطُ قُسوطًا وقِسْطًا ؛ أي : جار ، ومنه قوله { وَأَمَّا القَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا}.
وقتْلُ عيسى للخنزير وكسْره الصليب يدلّ على أنّ شيئًا من ذلك لم يسوِّغْه لهم ، وأنّ ذلك لا يقر إذا تمكّن من تغييره وإزالته . وقيل معنى قوله : (( يكسّر الصليب )) ؛ أي : يبطل أمرُه ويُكسر حكمُه ، كما يقال : كسر حجّته .
وقوله : (( وليضعن الجزية )) ، قيل : يُسقطها فلا يقبلها من أحدٍ ، وذلك لكثرة الأموال ؛ إذ تقيء الأرض أفلاذ كبدها ، فلا يكون في أخذها منفعة للمسلمين ، فلا يقبل من أحد إلا الإيمان .
وقيل : يضربها على كلّ صنف من الكفّار ؛ إذ قد أذعن الكلّ له فإمّا بالإسلام ، وإمّا بأنْ ألقوا بأيديهم . والتأويل الأوّل أولى ؛ لقوله بعد هذا : (( ولْتتركنّ القلاص ، فلا يُسعى عليها )) ؛ أي : لا تطلب زكاتها ، كما جاء &(1/259)&$(1/259)
في الحديث الآخر .
و" القلاص" : جمع قَلوص ، وهي من الإبل كالفتاة من النساء والحدث
124-وعَنْهُ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ ؟ )).
وَفِي رِوَايَةٍ : (( فَأَمَّكُمْ مِنْكُمْ )). قَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ : تَدْرِي مَا أَمَّكُمْ مِنْكُمْ ؟ قَالَ : فَأَمَّكُمْ بِكِتَابِ رَبِّكُمْ - عَزَّ وَجَلَّ - وَسُنَّةِ نَبِيِّكُمْ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
من الرجال . وهذا كقوله { وإذا العشارُ عُطِّلت } ؛ أي : زُهِد فيها وتُرِكت وإن كانت أحبَّ الأموال إليهم الآن .
و" الشحناء " والتباغُض والعداوة بمعنى واحد . و" التحاسد " الحسد ، وهو أن =(1/370)=@ يتمنّى زوالَ نعمة الله عن المسلم . و" الغبطة " أن يتمنّى أن يكون لك مثلها من غير أن تزول عنه ، وهو التنافس أيضًا .
وقوله : (( حتّى تكونَ السجدةُ الواحدةُ خيرًا من الدنيا وما فيها )) ؛
125- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ؛ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : (( لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ )). قَالَ : (( فَيَنْزِلُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ : تَعَالَ صَلِّ لَنَا ، فَيَقُولُ : لا ، إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ ، تَكْرِمَةَ اللهِ هَذِهِ الأُمَّةَ )) .
معناه : أنّ الصلاة تكون أفضلَ من الصدقة ؛ لفيض المال إذ ذاك ، ولعدم الانتفاع به . وأهل الحجاز يُسمُّون الركعة سجدة .
وقوله : (( وإمامكم منكم )) و(( أمكم )) أيضًا ؛ قد فسّره ابن أبي ذئب في الأصل ، وتكميله أن عيسى لا يأتي لأهل الأرض بشريعة أخرى ، وإنّما يأتي مقرِّرًا لهذه الشريعة ، ومجدِّدًا لها ؛ لأنّ هذه الشريعة آخر الشرائع ، ومحمّدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخر الرسل . ويدلّ على هذا دلالةً واضحةً قولُ الأمير لعيسى : (( تعال صلِّ لنا ، فيقول : لا ، إنّ بعضَكم على بعض أمراء ؛ تكرمةَ الله لهذه الأمّة )).
و (( تكرمة )) مفعول من أجله. و" ظاهرين " : غالبين عالين ،
126- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ حَاجًّا أو مُعْتَمِرًَا أو لَيَثْنِيَنَّهُمَا )).
ومنه : { ليُظهِره على الدين كلِّه }. و" فجّ الروحاء " موضع معروف. =(1/371)=@ &(1/260)&$(1/260)
وقوله : " أو ليثنينّهما " ؛ يعني : ليقرننّ بينهما . و" أو " تحتمل أن تكون إبهامًا على السامع ؛ إذ ليس هذا من باب الأحكام ، ولا تدعو الحاجة إلى التعيين. ويجوز بقاؤها على أصلها من الشكّ . =(1/372)=@
( 53 ) باب في قوله تعالى : { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا ... } الآية .
127- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ثَلاثٌ إِذَا خَرَجْنَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا : طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا ، وَالدَّجَّالُ ، وَدَابَّةُ الأَرْضِ )) .
ومن باب قوله : { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ }
قوله : (( ثلاث إذا خرجن )) ؛ اختلف في أوّل الآيات خروجًا ، فقيل : أوّلها طلوع الشمس من مغربها ، وقيل : خروج الدابّة. ومن
رواية ابن أبي شيبة عن ابن عمرو مرفوعًا قال : (( وأيُهما ما كانت قبل صاحبتها ، فالأخرى على أثرها )) ، وفي حديث أنس : (( أوّل أشراط الساعة نار تحشر الناس تخرج من اليمن )) ، وفي حديث حُذَيفة بن أسيد (( آخر ذلك النار )). وسيأتي كلّ هذا (3) ، إن شاء الله .
ومذهب أهل السنّة حمل طلوع الشمس من مغربها وغيرها من الآيات على ظاهرها ؛ إذ لا إحالة فيها ، وهي أمور مُمكنة في نفسها ، وقد تظاهرت الأخبار الصحيحة بها مع كثرتها وشُهرتها ، فيجب التصديق بها ، ولا يُلتفت لشيء من تأويلات المبتدعة لها . =(1/373)=@ &(1/261)&$(1/261)
(54) باب كيف كان ابتداء الوحي لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وانتهاؤه.
128- عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ أَنَّهَا قَالَتْ : أَوَّلُمَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِنَ الْوَحْيِ : الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلاّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ . ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاءُ ، فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذوْاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا ، حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ : اقْرَأْ ، قَالَ : (( مَا أَنَا بِقَارِئٍ )). قَالَ : (( فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : اقْرَأْ ،
ومن باب كيف كان ابتداء الوحي وانتهاؤه
" الوحي " : إلقاء الشيء في سرعة ، ومنه : الوحى الوحى . وقد يقال على الإلهام ، ومنه قوله تعالى : { وأوحينا إلى أم موسى }(5) ؛ أي : فقُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ )). قَالَ : (( فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : اقْرَأْ ، فَقُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ )). قَالَ : ((فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } )). فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ ، فَقَالَ : (( زَمِّلُونِي ، زَمِّلُونِي )) ،
ألهمناها ، وعلى التسخير ، ومنه : { وأوحى ربُّك إلي النحل } ؛ أي : سخّرها . وهو في عرف الشريعة : إعلام الله تعالى لأنبيائه بما شاء من أحكامه أو أخباره .
و" فلق الصبح " وفرقه ضياؤه ؛ ومعناه : أنّها جاءت واضحة بيّنة ، وهذا له ـ صلى الله عليه وسلم ـ مبدأ من مبادئ الوحي ومقدّمة من مقدّماته . وقد أوحى الله إلى إبراهيم في النوم حيث قال : { يا بُنيّ إنّي أرى في المنام أنّي أذبحك } ، والأنبياء كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم )). وقد كان نبيُّنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أوّل أمره يرى ضوءًا ويسمع صوتًا ، ويسلِّم عليه
فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ، ثُمَّ قَالَ لِخَدِيجَةَ : (( أَيْ خَدِيجَةُ ! مَا لِي ؟ ... )) ، وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ ، فقَالَ : (( لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي )) ، فقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ : كَلاَّ! أَبْشِرْ ، فَوَاللهِ ! لا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا . وَاللهِ ! إِنَّكَ لَتَصِلُ الحجر والشجر وتناديه بالنبوّة ، وهذه أمور ابتُدِئ بها تدريجًا لَمّا &(1/263)&$(1/262)
..................................................................
الرَّحِمَ ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ . فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى - وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخِي أَبِيهَا ، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ ، وَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ- ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ : أَيْ عَمِّ ! اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ . قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ : يَا ابْنَ أَخِي! مَاذَا تَرَى ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ خَبَرَ مَا رَأى ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ :
أراد الله به من الكرامة والنبوة ، واستلطافًا به ؛ لئلا يفجأه صريح الوحي ، ويبغته الملك ، فلا تحتمل ذلك قوّة البشريّة . =(1/374)=@
و" حِرَاء "- بالمدّ - : جبل بينه وبين مكّة قدر ثلاثة أميال عن يسارك إذا سرت إلى منى . ويجوز فيه التذكير فيُصرف على إرادة الموضع ، والتأنيث فلا يصرف على إرادة البقعة . وضبطه الأَصيليّ : (( حَرَى )) بفتح الحاء والقصر . وقال الخطّابيّ : أصحاب الحديث يخطئون فيه في ثلاثة مواضع ، يفتحون الحاء وهي مكسورة ، ويكسرون الراء وهي مفتوحة ، ويقصرون الألف وهي ممدودة .
هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى ، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا ، يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ . قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ ؟ )) قَالَ وَرَقَةُ : نَعَمْ ! لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلا عُودِيَ ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا )).
وَفِي رِوَايَةٍ : (( فَوَاللهِ ! لا يُحْزِنُكَ اللهُ أَبَدًا )).
واختُلِف في عبادة النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل مبعثه ، هل كانت لأنّه كان متعبِّدًا بشريعة مَن قبله ، أم كانت لِمّا جعل الله في نفسه وشرح به صدره من نور المعرفة ، ومن بغضه لِما كان عليه قومه من عبادة الأوثان وسوء السيرة وقبح الأفعال ، فكان يفرّ منهم بُغْضًا ويخلو بمعروفه أُنسًا .
ثمّ الذين قالوا إنّه كان متعبِّدًا بشريعة ، منهم من نسبه إلى إبراهيم ، ومنهم من نسبه إلى موسى ، ومنهم من نسبه إلى عيسى . وكلّ هذه أقوال متعارضة لا دليلَ قاطع على صحّة شيء منها .
والأصحّ القول الثاني ؛ لأنّه لو كان متعبِّدًا بشيء من تلك الشرائع
...................................................................
لعُلم انتماؤه لتلك الشريعة ، ومحافظته على أحكامها وأصولها وفروعها ، ولو عُلم شيءٌ من ذلك ، لنُقِل ؛ إذ العادات تقتضي ذلك ؛ لأنّه ممّن تتوفّر الدواعي على نقل أحواله وتتبُّعِ أموره ، ولمّا لم يكن شيء من ذلك ، علم صحّة القول الثاني.
وقوله : " حتّى فجئه الحقّ " ؛ أي : أتاه الوحْي بغتةً ، يقال : فجِئ بكسر الجيم يفجَأ ، وفجَأ يفجَأ بفتحها أيضًا .
وقوله : (( ما أنا بقارئ )) ، "ما " نافية ، واسمها " أنا " ، وخبرها =(1/375)=@ "بقارئٍ " ، والباء زائدة لمجرَّد النفي والتأكيد . وقال بعضهم إنّها هنا استفهام(7) ، وهو خطأ ؛ لأنّ هذه الباء لا تزاد على الاستفهام ، وإنّما تصلح للاستفهام رواية من رواها : " ما أقرأ " ، وتصلح أيضًا للنفي. &(1/263)&$(1/263)
وقوله : (( فغطّني )) ؛ أي : غمّني وعصَرني ، ورواه بعضهم : فغتني ، وهما معنى واحد . وفي العين : غَطَّه في الماء غَرَّقَه وغمسه ، ويقال : غَتَّه
وغطه وخنقه بمعنى واحد .
وقوله : (( حتّى بلغ منّي الجَهد )) ؛ أي : غاية المشقَّة ، بفتح الجيم . و" الجُهد "- بالضمّ - : الطاقة ، قاله القُتبيّ . الشعبيّ : الجَهد في القوت والْجَهد في العمل . وقيل هما بمعنى واحد ، قاله البصريّون.
وهذا الغط من جبريل ـ صلى الله عليه وسلم ـ للنبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ تفريغٌ له وإيقاظٌ ، حتّى يقبل بكليته ما يُلقى إليه ، وتكراره ثلاثًا مبالغة في هذا المعنى. وقال الخطّابيّ : كان ذلك ليبلو صبره ويحسن أدبه فيرتاض لتحمُّل ما كلّفه من أعباء الرسالة.
وهذا الحديث نصّ في أوّل ما نزل من القرآن ، وهو أولى من حديث جابر إذ قال : إن أوّل ما أُنزِل من القرآن {يا أيّها المدّثّر} ، ومساق حديث جابر لا ينصّ على ذلك ، بل سكت عمّا ذكرتْه عائشة من نزول { اقرأ } في حراء ، وذكر أنّه رجع إلى خديجة =(1/376)=@ فدثّروه ، فأنزل الله تعالى : { يا أيّها المدّثّر } ، وعائشة أخبرت بأوّل ما نزل عليه في حراء ، فكان قول عائشة أولى ، والله أعلم .
وقوله : (( ترجف بوادره )) : ترعد وتضطرب . و(( البوادر )) من الإنسان اللحمة التي بين المنكب والعنق ، قاله أبو عبيد في الغريب . وقد رُوي في " الأمّ " : (( يرجف فؤاده )) ؛ أي : قلبه ، وهذا هو سبب طلبه أن يُدَّثّر ويُزّمَّل ؛ أي : (( يغطَّى ويُلفّ )) ؛ لشدّة ما لحقه من هول الأمر وشدّة الضغط .
...................................................................
و (( التزمُّل )) و(( التدثُّر )) واحد ، ويقال لكلّ ما يلقى على الثوب الذي يلي الجسد دثار . وأصل المزَّمِّل والمدَّثِّر : المتزمِّل والمتدثِّر ، أدغمت التاء فيما بعدها ، وقد جاء في أثر أنّهما من أسمائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقوله : (( لقد خشيتُ على نفسي )) ، اُختُلِف في سبب هذه الخشية ، وفي &(1/164)&$(1/264)
زمانها ، فقيل : كانت عند رؤية التباشير وسمع الصوت قبل لقاء الملك ، وعند هذا يجوز أن يكون شكّ في حاله ولم يتحقَّق مآله ، وأمّا بعد مشافهة الملك وسماعه منه ما أخبره به وما قرأ عليه ، فلا يُتصوّر في حقِّه شكٌّ في رسالته بوجه من =(1/377)=@ الوجوه . وإن كانت الخشية حصلت منه في هذه الحال ، فيحتمل أن كانت من ضعفه عن القيام بأعباء النبوّة والرسالة ، وأنّه لا يقدر عليها . ويحتمل أن يكون خوفه من مباعدة قومه له ونفارهم (( عنه )) ، فيُكذِّبونه(3) ويؤذونه ويقتلونه ، وهذا في أوّل أمره قبل أن يعلم بمآل حاله ، وأنّ الله يعصمه من الناس ، وقول خديجة يُشعِر بهذا ، والله أعلم .
وقولها : (( لا يخزيك الله أبدًا )) ، قاله معمر بالحاء المهملة والنون(4) ،
...................................................................
وقاله يونس وعقيل بالجاء المعجمة وبالياء المنقوطة بالاثنتين من أسفل ، ومعناه : لا يفضحك ولا يهينك .
وقولها : (( وتحمل الكَلَّ )) ، قال ابن النحّاس : الكَلُّ الثِقَل ، من كلَّ الشيءُ في المؤنة والجسم . والكَلّ أيضًا اليتيم والمسافر ، وهو الذي أصابه الكلال وهو الإعياء .
وقولها : (( وتكسب المعدوم )) ، رُوِيتُه بفتح التاء وضمّها ، قال ابن النحاس : يقال : كسبتُ الرجلَ مالاً ، وأكسبْتُه مالاً ، وأنشد :
فأكسبَنِي مالاً وأكسبْتُه حمدًا &(1/265)&$(1/265)
وحكى أبو عبد الله بن القزّاز أنّ (( كسب )) حرف نادر ، يقال : كسبْتُ المال وكسبْتُه غيري ، ولا يقال : أكسبْتُ . وحكى الهرويّ : كسبْتُ مالاً وكسبْتُه زيدًا . وحُكي عن ثعلب وابن الأعرابيّ : أكسبْتُ زيدًا مالاً . ومعناه أنّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يَكسب الناس ما لا يجدونه من معدومات الفوائد والفضائل ، وهذا =(1/378)=@ أولى في وصفه من قول من قال إنّ
...................................................................
خديجة مدحتْه باكتساب المال الكثير الذي لا يجده غيره ولا يقدر عليه.
وقول ورقة : (( هذا الناموس )) ، قال أبو عبيد في مصنَّفه : هو جبريل ـ صلى الله عليه وسلم ـ . قال الهرويّ : وسُمِّي جبريل ناموسًا ؛ لأنّ الله خصّه بالوحي وعلم الغيب . وقال المطّرز : قال ابن الأعرابيّ : لم يأت في الكلام فاعول لام الفعل سين إلاّ الناموس وهو صاحب سرّ الخير ، والجاسوس وهو صاحب سرّ الشرّ ، والجاروس الكثير الأكل ، والفاعوس الحيّة ، والبابوس الصبيّ الرضيع ، والراموس القبر ، والقاموس وسط البحر ، والقابوس الجميل الوجه ، والعاطوس دابّة يُتشاءم بها ، والفانوس النمّام ، والجاموس ضرب من البقر . قال ابن دريد في الجمهرة : جاموس أعجميّ وقد تكلّمت به العرب ، وقال غيره : الحاسوس بالحاء غيرَ معجمة من تحسّسه بمعنى الجاسوس . وقال ابن دريد : الكابوس هو الذي يقع على الإنسان في نومه ، والناموس موضع الصائد ، وناموس الرجل صاحب
...................................................................
سرّه ، وفي الحديث : (( فاعوس البحر )) ، ، وسيأتي إن شاء الله .
وقوله : (( يا ليتني فيها جذعًا )) ، فـ(( فيها )) عائد على النبوّة ، يريد مدّتها ، تمنّى =(1/379)=@ نصرته في مدّة نبوّته . و(( جذعًا )) كذا صحّت الرواية فيه ، وعند ابن ماهان (( جذع )) مرفوعًا على خبر (( ليت )) ، وكذا هو في البخاريّ . ونصبه من أحد ثلاثة أوجه :
أوّلها : أنّه خبر (( كان )) مقدَّرة ؛ أي : يا ليتني أكون فيها جدعًا ، وهذا على رأي &(1/266)&$(1/266)
الكوفيّين كما قالوا في قوله تعالى : { انتَهُوا خيرًا لكم} ؛ أي يكن خيرًا لكم ، ومذهب البصريّين أنّ (( خيرًا )) إنّما انتصببإضمار فعل دلّ عليه (( انتهوا )) ، والتقدير : انتهوا وافعلوا خيرًا. وقال الفرّاء : هو نعت لمصدر محذوف ، تقديره : انتهُوا انتهاءً خيرًا لكم.
وثانيها : أنّه حال ، وخبر (( ليت )) في المجرور ، فيكون التقدير : ليتني كائن فيها ؛ أي : مدّةَ النبوّة في هذه الحال .
129- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ؛ قَالَ : إِنَّ الله تَابَعَ الوَحْيَ عَلَى رَسُولِهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَبْلَ وَفَاتِهِ حَتَّى تُوفِّيَ ، وَأَكْثَرُ مَا كَانَ الْوَحْيُ يَوْمَ تُوفِّيَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وثالثها : أن تكون (( ليت )) أُعمِلتْ عمل (( تمنّيتُ )) ، فنصبت اسمين ، كما قاله الكوفيّون ، وأنشدو عليه :
يا ليتَ أيّام الصبا رواجعًا
وهذا فيه نظر .
وقوله : (( أنصرك نصرًا مؤزَّرًا )) ، كذا رويناه بالزاي المفتوحة والراء المهملة ، =(1/380)=@ وهو الصحيح ، ومعناه : قوِيًّا ، مأخوذ من الأزر وهو القوّة ، قال الله تعالى : { اشْدُدْ به أزري }.
وقوله في "الأمّ" : (( فحثثتُ منه فرقًا )) ، ، يروى بالحاء غير المعجمة وبالثاءين المثلّثتين ، بمعنى : أسرعْتُ خوفًا منه .
ويروى بالجيم المعجمة والثاءين ، وجَئِثْتُ بالجيم وبالهمزة المكسورة مكان الثاء الأولى ، قال الهرويّ : جوث الرجل وجيَّث وجثّ ؛ أي : أفزع. &(1/267)&$(1/267)
وقوله في حديث أنس : (( أنّ الله تابع الوحي على رسوله )) ؛ يعني : والى ، أي : الشيء بعد الشيء .
وقوله : (( وأكثرُ ما كان )) مرفوع بالابتداء ، و(( ما )) مع الفعل بتأويل المصدر ، و(( كان )) تامّة ، و(( يوم )) خبر (( أكثر )). =(1/381)=@
( 55 ) باب في شق صدر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صغره ، واستخراج حظ
الشيطان من قلبه
130- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً ، فَقَالَ : هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ ، ثُمَّ لأَمَهُ ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ ، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ - يَعْنِي : ظِئْرَهُ - فَقَالُوا : إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ ، فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ . قَالَ أَنَسٌ : قَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ .
ومن باب شُقَّ صدرُ النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صِغَره
قوله : (( فاستخرج منه علقة )) ؛ أي : قطعة دم ، و(( العلق )) : الدم . وهذه العلقة المنتزَعَة عنه هي القابلة للوساوس والمحرِّكة للشهوات ، فأُزِيل ذلك عنه ، وبذلك أُعين على شيطانه حتّى سلم منه .
و (( لأمَه )) ؛ أي : ضمَّه وجمَعه ، و(( ظِئره )) : مُرضِعَتُه ، و(( منتقَعٌ اللون )) : متغيِّره ، يقال : انتَقَعَ لونُه ، وابتُقِعَ وامتقع ؛ أي : تغيَّر عن حاله. و((المخيَط )) ما يخاط به ، وهو الخيط والإبرة . وفي (( الطست )) لغات ،
طَسْتٌ بفتح الطاء وكسرها ، وطَسٌّ وطَسَّة ، والجمع طِسَاس وطُسُوْسٌ وطسَّاتٌ.
وهذا الحديث محمول على ظاهره وحقيقته ؛ إذ لا إحالةَ في شيء منه عقلاً ، ولا يُستبعَدُ من حيثُ إنّ شقّ الصدرِ وإخراج القلب موجبٌ للموت، فإنّ ذلك &(1/268)&$(1/268)
أمر عاديٌّ ، وكانت جُلُّ أحوالِه ـ صلى الله عليه وسلم ـ خارقةٌ للعادة ، إمّا معجزةً ، وإمّا كرامةً .
وهذا الشقّ هو خلاف الشقّ المذكور في حديث أبي ذرّ ومالك بن صعصعة ؛ بدليل اختلاف الزمانين والمكانين والحالين . أمّا الزمانان ، فالأوّل في صِغَره ، والثاني في كِبَره . =(1/382)=@ وأمّا المكانان ، فالأوّل كان ببعضِ جهات مكّة عند مُرضِعته ، والثاني عند البيت . وأمّا الحالان ، فالأوّل نُزِعَ من قلبه ما كان يَضُرُّه وغُسِل ، وهو إشارة إلى عصمته ، والثاني غُسِل ومُلِئ حكمةً وإيمانًا ، وهو إشارة إلى التهيُّؤ إلى مشاهدة ما شاء الله أن يشهده . ولا تَلْتَفِتْ إلى قول مَن قال إنّ ذلك كان مرّةً واحدة في صِغَرِه ، وأخذ يُغَلِّط بعض الرواة الذين رووا أحد الخبرين ، فإنّ ...................................................................
الغلط به أليق ، والوَهم منه أقرب ، فإن كان رواةُ الحديثين أئمّةٌ مشاهيرَ حُفَّاظ .
ولا إحالةَ في شيء ممّا ذكروه ولا معارضةَ بينهما ولا تناقُضَ ، فصحّ ما قلناه . وبهذا قال جماعة ٌ من العلماء ، منهم القاضي المُهلَّب بن أبي صُفرة في (( شرح مختصر صحيح البخاريّ )).
( 56 ) باب في شق صدر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثانية ، وتطهير قلبه ، وحشوه حكمة وإيمانًا عند الإسراء
130- عَنْ أَبِي ذَرٍّ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ ، فَفَرَجَ صَدْرِي ، ثُمَّ غَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا ، قال : فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي ، ثُمَّ أَطْبَقَهُ ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي ، فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ ... )) ، وذكر الحديث .
131- وَعَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ ؛ قَالَ : قَالَ نَبِيُّ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( بَيْنَا أَنَا عِنْدَ الْبَيْتِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ ، إِذْ سَمِعْتُ قَائِلا يَقُولُ : أَحَدُ الثَّلاثَةِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ ، فَأُتِيتُ ، فَانْطُلِقَ بِي ، فَأُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ ، فَشُرِحَ صَدْرِي إِلَى كَذَا . (( قَالَ قَتَادَةُ : فَقُلْتُ لِلَّذِي مَعِي : مَا يَعْنِي ؟ قَالَ : إِلَى أَسْفَلِ بَطْنِهِ (( فَاسْتُخْرِجَ قَلْبِي ، فَغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ ، ثُمَّ أُعِيدَ مَكَانَهُ ، ثُمَّ حُشِيَ إِيمَانًا وَحِكْمَةً ، ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ أَبْيَضَ ، يُقَالُ لَها : الْبُرَاقُ ... )) وذكر الحديث .
و (( الحكمة )) أصلها ما يمنع من الجهل والقبائح ، مأخوذة من حكمة
...................................................................
البعير .
وكونها تملأ الطست استعارة تُفهِم أنّ المجعولَ في قلبه منها كثيرٌ شريف ، وإلاّ فليست العلوم أجسامًا حتّى تملأ الطست . وقيل إنّ القلب لمّا امتلأ حكمةً بعد غسْله بملء الطست من ماء زمزم ، قُدِّرت الحكمةُ بما كانت عنه ، والله أعلم . =(1/383)=@
( 57) باب ما خَصَّ الله به محمدًا نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ من كرامة الإسراء
132- عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : ((أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ - وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ ، فَوْقَ الْحِمَارِ ، وَدُونَ الْبَغْلِ ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ -. قَالَ : فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ. قَالَ : فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِها الأَنْبِيَاءُ . قَالَ : ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ خَرَجْتُ ، فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ ، فَقَالَ جِبْرِيلُ : اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ . قَالَ : ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ ، فَقِيلَ : مَنْ أَنْتَ ؟ فقَالَ : جِبْرِيلُ .
ومن باب الإسراء
(( الإسراء )) سير الليل ، يقال : سريْتُ مَسْرًى وسُرًى وأَسْرَيْتُ إِسْراءً ، بمعنى واحد ، وبالألف لغة أهل الحجاز وقد جاء في القرآن ، وقال حسّان: &(1/269)&$(1/269)
حَيِّ النظيرَ ورَبَّةَ الخِدْرِ أسْرَتْ إليَّ ولم تكنْ تَسْرِي
وقيل : أسرى سار من أوّل الليل ، وسَرَى سار من آخره ، والقول الأوّل أعرف . ويقال سِرْ بِنَا سَرْيَةً واحدةً ، والاسم السُرْيَة بالضمّ والسُرَى . ويقال . أسْراه وأسْرى به ، مثل . أخَذ الخطامَ وأخَذ بالخطامِ .
قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ . قِيلَ : وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ : قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ . قَالَ : فَفُتِحَ لَنَا ، فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ ، فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ . ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ ، فَقِيلَ : مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ : جِبْرِيلُ . قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ . قِيلَ : وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ : واختُلِف في كيفيّة هذا الإسراء وفي زمانه ، فقيل : كان كلُّه منامًا ، وقيل : كان كلُّه يقظةً ، وقيل : كان إلى المسجد الأقصى يقظةً ، وإلى ما بعد ذلك منامًا . وكلّ تلك الأقسام جائزة ، لكن الذي عليه معظم السلف والخلف أنّه إسراء بجسده ، وحقيقتُهُ ، في اليقظة إلى آخر ما انطوى عليه الإسراء ، وعليه يدلّ ظاهرُ الكتاب وصحيحُ الأخبار ، ومبادرةُ =(1/384)=@ قريش لإنكار ذلك وتكذيبه . ولو كان منامًا ، لما أنكروه ولما افتُتِنَ به من افتُتِنَ ؛ إذ كثيرًا ما يُرى في المنام أمورٌ عجيبةٌ وأحوالٌ هائلة ، فلا يُستبعَد ذلك في النوم ، وإنّما يُستبعَد في اليقظة .
ولا يُعارِض ما ذكرْنا إلاّ ظاهرُ قوله تعالى . { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } ، وألفاظٌ وقعتْ في بعض طُرُق أحاديث الإسراء ، كقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( بينا أنا نائمٌ )) ، وقوله : (( فاستيقظتُ )) ونحو
قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ . قال : فَفُتِحَ لَنَا ، فَإِذَا أَنَا بِابْنَيِ الْخَالةِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ ، فَرَحَّبَا وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ . ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ . فَقِيلَ : مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ : جِبْرِيلُ ، قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ . قِيلَ : وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ : قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ . فَفُتِحَ لَنَا ، فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ ، إِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ ، فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ ، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ ، فقِيلَ : مَنْ هذَا ؟
ذلك ممّا وقع في كتاب مسلم وغيرِه.
وقد انفصل عن الآية بوجهين :
أحدهما : أنّ هذه قضيّة أخرى غيرُ الإسراء على ما ذكره عكرمة ، قال : هي رؤيا دخول المسجد الحرام ، والفتنة : الصدّ بالحُدَيبِية .
الثاني : أنّ الرؤيا بمعنى الرؤية والمعاينة ، قاله ابن عبّاس في جماعة ، والفتنة ارتداد من أنكر ذلك .
قَالَ : جِبْرِيلُ . قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ . قِيلَ : وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ : قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ ، فَفُتِحَ لَنَا ، فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ ، فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ ، قَالَ اللهُ تَعالَى : {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}. ثُمَّ عَرَجَ بِنا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ ، فَقِيلَ : مَنْ هذَا ؟ قَالَ : جِبْرِيلُ . قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ . قِيلَ : وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ : قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ . فَفُتِحَ لَنَا ، فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ . قَالَ : فَرَحَّبَ بي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ . ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ ، قِيلَ : مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : جِبْرِيلُ . قِيلَ :
وأمّا قوله : (( بينا أنا نائم )) ؛ يعني في أوّل القصّة ، وذلك أنّه كان قد ابتدأ &(1/270)&$(1/270)
نومه ، فأتاه المَلَك فأيقظه . وفي بعض ألفاظِه " بينا أنا بين النائمِ واليقْظانِ أتاني المَلَك " وذكر الحديث .
وقوله : (( فاستيقظْتُ وأنا بالمسجد الحرام )) ؛ يحتمل أن يكون استيقاظه من نومٍ نامه بعد الإسراء ؛ لأنّ إسراءه لم يكن طول ليلته ، وإنّما كان في بعضها . ويحتمل أن يكون بمعنى . أفقْتُ ، وذلك ممّا كان غمر باطنَه من عجائب ما رأى ، وطالع من ملكوت السماوات ، وخامر باطنَه من مشاهدة الملأ =(1/385)=@ الأعلى . وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى : وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ . قِيلَ : وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ : قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ . فَفُتِحَ لَنَا ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى ، فَرَحَّبَ بي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ . ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابعَةِ ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ ، فَقِيلَ : مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : جِبْرِيلُ . قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ . قِيلَ : وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ : قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا ، فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لا يَعُودُونَ إِلَيْهِ . ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى ، فَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ ، وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلالِ. قَالَ : فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا . فَأَوْحَى اللهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى ، فَفَرَض عَلَيَّ خَمْسِينَ
{ لقد رأى من آياتِ ربّه الكُبرى } ، فلم يستَفِقْ ويرجعْ إلى حال بشريّته إلاّ وهو بالمسجد الحرام ، والله أعلم .
وأمّا متى كان الإسراء ، فأقلّ ما قيل فيه أنّه كان بعد مبعثه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بخمسةَ عشرَ شهرًا ، قاله الذهبيّ. وقال الحربيّ : كان ليلةَ سبعٍ وعشرين من ربيع الآخر قبل الهجرة بسنةٍ . وقال ابن إسحاق : أُسْرِيَ به
صَلاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ . فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى ، فَقَالَ : مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ ؟ قُلْتُ : خَمْسِينَ صَلاةً. قَالَ : ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ، فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا تُطِيقُ ذَلِكَ ، فَإِنِّي قدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ. قَالَ :
وقد فشا الإسلام بمكّة والقبائل . وقال الزُهْريّ : كان ذلك بعد مبعث النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بخمس سنين ، وهذا أشبه ؛ لأنّه لا خلافَ أنّ خديجة صلّت معه بعد فرض الصلاة، ولا خلافَ أنّها توفيت قبل الهجرة بمدّة قيل : بثلاث سنين ، وقيل : بخمس . وقد أجمع العلماء على أنّ فرض الصلاة كان ليلة الإسراء . =(1/386)=@ &(1/271)&$(1/271)
وقوله في صفة البُراق : (( دابّة أبيض طويل )) جاء بوصف المذكَّر ؛ لأنّه وصفٌ للبراق ، ولو أُتِيَ به على لفظ الدابّة ، لقال . طويلة .
و (( البُراق )) مشتقّ من البرْق ، قاله ابنُ دُرَيد . وقيل : هو من الشاة البَرْقاء إذا كان في خلال صُوفِها الأبيض طاقاتٌ سودٌ ، ومن هذا قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أَبْرِقوا ، فإنّ دم عفراء عند الله أزكى من دم سَوْدَاوَينِ )) ؛ فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي ، فَقُلْتُ : يَا رَبِّ ! خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي ، فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا . فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى ، فَقُلْتُ : حَطَّ عَنِّي خَمْسًا . قَالَ : إِنَّ أُمَّتَكَ لا يُطِيقُونَ ذَلِكَ ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ . قَالَ : فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي وَبَيْنَ مُوسَى ، حَتَّى قَالَ : يَا مُحَمَّدُ ! إِنَّهُنَّ خَمْسُ
أي : ضَحُّوا بالبرقاء ، وهي العفراء هنا ؛ فإنّ العفرة بياضٌ يخالطه يسيرُ صُفْرَةٍ .
صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، لِكُلِّ صَلاةٍ عَشْرٌ ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلاةً ، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً ، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا . وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا ، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً. قَالَ : فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى ، فَأَخْبَرْتُهُ ، فَقَالَ : ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : فَقُلْتُ : قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ )) .
وقوله : (( عند منتهى طَرْفِه )) بسكون الراء ، وهو العين ، يعني أنّه سريعٌ بعيدُ الخطْوِ. =(1/387)=@ &(1/272)&$(1/272)
وقوله : (( أصبتَ الفِطْرَة )) أصل الفطرة ابتداء الخِلْقَةِ ، ومنه . فطر ناب البعير ، إذا ابتدأ خروجه ، ومنه قول الأعرابيّ المتحاكِم إلى ابن عبّاس في البئر : (( أنا فَطَرْتُها )) ؛ أي : ابتدأتُ حفْرَها . وقيل في قوله ...................................................................
تعالى : { فطرة الله التي فطر الناسَ عليها } ؛ أي : جِبِلَّة الله التي جَبَلَهم عليها من التهيُّؤ لمعرفته والإقرار . وقيل : هي ما أخَذ عليهم في ظهر آدم ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الاعتراف بربوبيّته . وقيل : الفطرة الإسلام ؛ لأنّه الذي تقتضيه فطرة العقل ابتداءً . وقد حُمِل على هذا قولُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((كلّ مولود يُولَدُ على الفطرة ... )) الحديث ، وقد نصّ على هذا في حديث آخر فقال : ((جَبَلَ اللهُ الخلْقَ على معرفته فاجتابتْهم الشياطين )).
وكأن معنى الحديث أنّه لمّا مال إلى ما يُتناوَل بالجبلَّة والطبع وما لا تنشأ عنه مفسدةٌ وهو اللبن ، وعدل عمّا ليس كذلك مما تُتَوَقَّعُ منه مفسدة أو من جنسه ، وهي إذهاب العقل الموصل للمصالح ، صوَّب الملك فعله ودعا له ، كما قال في الرواية الأخرى : (( أصبتَ أصاب الله بك )) ، ويحتمل أن يكون ذلك من باب التفاؤل والتشبيه ؛ لما كان اللبن أوّلَ شيء يدخل جوف الصبيّ ويشقّ أمعاءه، فسمّي ذلك فطرةً . =(1/388)=@ &(1/273)&$(1/273)
134- وَمِنْ حَدِيثِ أبي ذَرٍّ ؛ قَالَ : (( فَلَمَّا عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَإِذَا رَجُلٌ عَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ ، وَعَنْ يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ . قَالَ : فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ ، وَإِذَا نَظَرَ قِبلَ شِمَالِهِ بَكَى ، فقَالَ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالابْنِ الصَّالِحِ- وهكَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ ، وَسَائِرُ الأَنْبِيَاءِ يَقُولُونَ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ-. قَالَ : قُلْتُ : يَا جِبْرِيلُ ! مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : هَذَا آدَمُ ، وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ أَهْلُ الْجَنَّةِ ، وَالأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ . فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى ... )) الحديث .
وقوله : (( وقد بعث إليه )) ، هو استفهام من الملائكة عن بعث النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإرساله إلى الخلق . وهذا يدلّ على أنّهم لم يكن عندهم علم من وقت إرساله ؛ لكونهم مستغرقين بالعبادة لا يفترون عنها . وقيل : معناه استفهام(3) عن إرسال الله تعالى إليه بالعروج إلى السماء .
و (( البيت المعمور )) سُمّي بذلك ؛ لكثرة عمارته بدخول الملائكة فيه وتعبُّدهم عنده .
و (( الأسْوِدَة )) جمع سواد ، وهي الأشخاص ، وسواد الإنسان شخصه ، يقال . لا يفارق سوادي سوادَك ، وهي ههنا(4) أرواح(5) بني آدم ، وقد
...................................................................
فسّرها بنسم بنيه .
و (( النَّسَم )) جمع نَسَمَة ، كالشجر جمع شجرة . ولا يناقض هذا أن يُخبِر الشارع أنّ أرواح المؤمنين في الجنّة أو في الصُور الذي يُنْفَخ فيه أو في القبور ، وأرواح الكافرين في سجّين ؛ لأنّ هذا في أحوالٍ مختلفةٍ وأوقاتٍ متغايرةٍ ، والله أعلم .
و (( السِدْرَةُ )) واحدة السِدْر ، وهو شجر النبق ، وهو من أعظم الشجر جرْمًا ، وهو أكثر شجر البادية عندهم له شوك . ولأجل هذا وصفه الله تعالى بكونه مخضودًا ؛ أي : منزوعَ الشوك . وقد فسّر المعنى الذي به سمّيت سدرة المنتهى في حديث عبد الله الآتي. =(1/389)=@ &(1/274)&$(1/274)
وقوله : (( فلمّا غَشِيَها مِن أمر الله ما غَشِيَ )) ؛ يعني . من جلال الله وعظيم شأنه وسلطانه ، تغيّرت ؛ أي : انتقلت عن حالها الأولى إلى حال أحسن منها .
وقوله في حديث مالك بن صعصعة : (( أن سدرة المنتهى يخرج من أصلها أربعة أنهار ، نهران باطنان في الجنة ، ونهران ظاهران وهما النيل والفرات )) ؛ يدلّ على أنّ السدرة ليست في الجنّة ، بل خارجًا عنها . وعلى
ذلك يدلّ أيضًا قوله تعالى : { عندها جنّة المأوى } ، لكن قد جاء
في حديث أبي هريرة =(1/390)=@ ما يدلّ على أنّ النيل والفرات ظاهران خارجان من الجنّة . ويمكن أن يجمع بينهما بأنّ النيل والفرات لمّا كانا مشاركين لنهري الجنّة في أصل السدرة ، أُطْلِقَ عليهما أنّهما من الجنّة . وسيحان وجيحان يمكن أن يكونا تفرَّعا من النيل والفرات ؛ لقرب انفجارهما من الأصل.وقيل : إنّ ذلك إنّما أُطْلِق تشبيهًا لهذه الأنهار بأنهار الجنّة ؛ لما فيها من شدّة عذوبتها وحسنها وبركتها ، والله أعلم . =(1/391)=@ &(1/275)&$(1/275)
وقوله : ((حتّى ظهرْتُ لمُستوًى أسمعُ فيه صريفَ الأقلام )) ، (( ظهرْتُ )) : علوتُ ، و(( المستوَى )) : موضعٌ مشرفٌ يُستوَى عليه ، وقد يكون المستوى يراد به هنا حيث يظهر عدلُ الله وحُكمه لعباده هناك ، و((السواء )) ،
...................................................................
و ((الاستواء )) : العدل .
و (( صريف الأقلام )) : تصويتها فيما يُكتب بها فيه ، ومن ذلك صريف الفحل بأنيابه ، وهو صوت حَكِّ بعضها ببعض ، وهذا المكتوب فيه هو اللوح المحفوظ ، والله أعلم .
ولعلّ الأقلام المصوِّتة هنا هي المعبَّر عنها بالقلم المُقسَم به في قوله تعالى : { ن والقلمِ } ، ويكون القلم هنا للجنس .
وكيفية الأقلام واللوح لا يعلمها إلاّ الله أو من أعلمه بذلك.
وأمّا تخصيص موسى بأمره النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمراجعة الله تعالى في الحطّ من الصلوات ، فلعلّه إنّما كان لأنّ أمّة موسى كانت =(1/392)=@ قد كُلِّفت من الصلوات ما لم يُكَلَّف غيرها من الأمم ، فثقُلَتْ عليهم ، فخاف موسى 135- وَمِنْ حَديثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي حَبَّةَ الأَنْصَارِيِّ ؛ قَالا : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ثُمَّ عَرَجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ بِمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلامِ )).
على أمّة محمّد ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل ذلك. وعلى هذا يدلّ قوله : (( فإنّي قد بلوتُ بني إسرائيل قبلك )) ، والله أعلم .
وقيل : لأنّ موسى كان في السماء السابعة ، فكان أوّل من لقي من الأنبياء ، وليس بصحيح ، فإنّ هذا الحديث نصّ في أنّ موسى كان في السادسة وإبراهيم في السابعة ، فكان يكون إبراهيم أولى بذلك . والأشبه الأوّل ، والله أعلم .
وهذا الحديث نصّ في وقوع النسخ قبل التمكّن من الامتثال ، فهو ردّ على من خالف في ذلك وهم المعتزلة .
وقوله : { لا يُبدَّلُ القول لديّ } ؛ دليل على استقرار هذا العدد، فلا &(1/276)&$(1/276)
يُزاد فيه ولا ينقص منه ، وهو ردّ على أبي حنيفة في حكمه بوجوب صلاة سادسة وهي الوِتر ، سيّما وقد جُعِلت هذه الخمس بمنزلة الخمسين ، فلو استقرّت في علم الله ستًّا ، لبُدِئ فرضها ستّين ، ثمّ يُقصَرُ على ستٍّ ؛ إذ كلّ صلاة بعشر .
136- وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ : فَقَالَ : (( هِيَ خَمْسٌ ، وَهِيَ خَمْسُونَ ، لا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ )). وَفِيهِ : (( ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ ، فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ )).
وقوله : (( ثمّ أُدْخِلْتُ الجنّة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ )) ، قال ابن الأعرابيّ : الجَنْبَذَةُ : القبّة ، وجمعها جَنَابِذ . وقال ثابت عن يعقوب : هو ما ارتفع من البناء . ووقع في كتاب البخاريّ في كتاب الصلاة حبائل اللؤلؤ ، وهو تصحيف ، والصحيح الأوّل على ما قاله جماعة من العلماء. =(1/393)=@
و (( أبو حبّةَ الأنصاريّ )) صحيح اسمه بالباء بواحدة من أسفلَ ، وقد رواه الفارسيّ عن المروزيِّ باثنتين ، وليس بشيء . واسمه مالك بن عمرٍو البدريّ ، وقال الغسّانيّ اسمه عامر ، وقيل : زيد ، وهو يشتبه بحيّةَ بالياء ، وهو حيّةُ بن حيّةَ الثقفيّ .
137- وَمِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ : قَالَ : (( فَلَمَّا جَاوَزْتُهُ - يعني : موسى - بَكَى ، فَنُودِيَ : مَا يُبْكِيكَ ؟ قَالَ : رَبِّ ! هَذَا غُلامٌ بَعَثْتَهُ بَعْدِي ، يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِهِ الْجَنَّةَ أَكْثَرُ مِمَّا يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي )) . وَفِيهِ : وَحَدَّثَ نَبِيُّ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنَّهُ رَأَى أَرْبَعَةَ أَنْهَارٍ يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا نَهْرَانِ ظَاهِرَانِ ، وَنَهْرَانِ بَاطِنَانِ ، فَقُلْتُ : (( يَا جِبْرِيلُ ! مَا هَذِهِ الأَنْهَارُ ؟ )) ، فقَالَ : أَمَّا النَّهْرَانِ الْبَاطِنَانِ : فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ : فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ )) .
وبكاء موسى إشفاق وحزن على أمّته ؛ لما تقدّم من ضلالهم ولأجل ما فاته من كثرة ثواب من عساه أن يؤمنَ من أمّته به لو آمن. &(1/277)&$(1/277)
وفي حديث أنس ما يقتضي أنّ السدرة في السماء السابعة أو فوقها ؛ لقوله : (( ثمّ ذهب بي إلى السدرة بعد أن استفتح السماء السابعة ، ففتح له فدخل )) ، وفي حديث عبد الله أنّها في السماء السادسة . وهذا تعارض
138- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ ؛ قَالَ : لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، انْتهى إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ، وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ ، إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الأَرْضِ ، فَيُقْبَضُ مِنْهَا ، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُهْبَطُ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا ، فَيُقْبَضُ مِنْهَا.
لا شكّ فيه ، وما في حديث أنس أصحّ ، وهو قول الأكثر ، والذي يقتضيه وصفُها بأنّها التي ينتهي إليها علمُ كلّ مَلَكٍ مقرَّب وكلّ نبيّ مرسل على ما قاله كعب ، قال : وما خلفها غيبٌ لا يعلمه إلاّ الله ، وكذلك قال الخليل بن أحمد .
وقيل : إليها تنتهي أرواح الشهداء . وقال ابن عبّاس : هي عن يمين العرش.
وأيضًا فإنّ حديث أنس مرفوع وحديث عبد الله موقوف عليه من قوله ، والمُسنَدُ المرفوعُ أولى . =(1/394)=@
قَالَ : { إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى }. قَالَ : فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ . قَالَ فَأُعْطِيَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثَلاثًا : أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ ، وَأُعْطِيَ خَوَاتِمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَغُفِرَ لِمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا الْمُقْحِمَاتُ .
وقوله : (( إذ يغشى السدرةَ ما يغشى )) ؛ أي : يُغَطِّي ويعلو .
و (( الفراش )) : كلّ ما يطير من الحشرات والديدان . وفي حديث ابن جُرَيج : (( وأُرخِيَتْ عليها ستورٌ من لؤلؤٍ وياقوتٍ وزَبَرْجَد )).
وقوله : (( وغفر لمن لم يشركْ بالله شيئًا المُقحَماتِ )) ؛ أي : الذنوب العظام التي تقحِمُهم في النار ؛ أي : تُدخِلهم فيها بمشقّةٍ وكُرْهٍ وشِدَّةٍ ، يقال : اقتحم يقتحم ؛ أي : دخل في أمر شاقّ ، وأقْحَمْتُه أنا أدْخلْتُهُ فيه.
وقوله : (( وأعطي خواتيم سورة البقرة )) ، إنّما خصّتْ بذلك ؛ لما تضمّنتْه من التخفيف عنهم والثناءِ على الرسول والمؤمنين ، وإجابةِ دعواتهم ونُصرتِهم، وقد تقدَّم القول فيها. =(1/395)=@ &(1/278)&$(1/278)
( 58 ) باب رؤية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأنبياء ، وصلاته بهم ، ووصفه لهم
وذكر الدجال
139- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ قَالَ : سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ ، فَمَرَرْنَا بِوَادٍ ، فَقَالَ : (( أَيُّ وَادٍ هَذَا ؟ )) فَقَالُوا : وَادِي الأَزْرَقِ ، قالَ : ((كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى- فَذَكَرَ مِنْ لَوْنِهِ وَشَعَرِهِ شَيْئًا لَمْ يَحْفَظْهُ دَاوُدُ- وَاضِعًا إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ ، لَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ بِالتَّلْبِيَةِ ، مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي )). قَالَ : ثُمَّ سِرْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى ثَنِيَّةٍ ، فَقَالَ : (( أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ ؟ )) قَالُوا : هَرْشَى أَوْ لِفْتٌ ، فَقَالَ : (( كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ ، عَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ ، خِطَامُ نَاقَتِهِ لِيفٌ خُلْبَةٌ مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي مُلَبِّيًا )) .
ومن باب رؤيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأنبياء
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( كأنّي أنظرُ إلى موسى )) ؛ يحتمل أن يكون هذا النظر في اليقظة على ظاهره ، وحقيقته ليلة الإسراء ، وهو ظاهر حديث جابر وأبي هريرة الآتي ، ويحتمل أن يكون ذلك كله مناما . ورؤيا الأنبياء وحيٌ ، وهو نص حديث ابن عمر .
140- وَعَنْ جَابِرٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( عُرِضَ عَلَيَّ الأَنْبِيَاءُ . فَإِذَا مُوسَى ضَرْبٌ مِنَ الرِّجَالِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنوءَةَ ، وَرَأَيْتُ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ ، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ ، وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ ، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي نَفْسَهُ - وَرَأَيْتُ جِبْرِيلَ فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ )) .
و (( الجؤار )) : رفع الصوت ، وهو مهموز ، ومنه قوله تعالى : { فإليه تجأرون}.
و (( هَرْشِيٌّ )) بفتح الهاء وسكون الراء . جبل من بلاد تهامة على طريق الشام والمدينة قريب من الجحفة .
و (( لَفْت )) روي عن أبي بحرٍ أنه قاله بفتح اللام وسكون الفاء ، وقاله ابن سراج بكسر اللام وسكون الفاء . وأنشد لبعضهم.
مررت بلفتٍ والثريا كأنها قلائد درٍ حلّ عنها نظامها =(1/396)=@
بالكسر . وقاله القاضي الشهيد بفتح اللام وسكونها .
و (( الخلبة )) بضم الخاء الليفة ، وفيها لغتان : ضم اللام ، وسكونها .
141- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ ، وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ ، فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا ، فَكُرِبْتُ كَرْبًا مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ )). قَالَ : (( فَرَفَعَهُ اللهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ ، مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ . وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ ، فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي ، فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ ، وَإِذَا عِيسَى قَائِمٌ يُصَلِّي ، أَقْرَبُ النَّاسِ شَبَهًا بهِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ قَائِمٌ يُصَلِّي ، أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي نَفْسَهُ - ، فَحَانَتِ الصَّلاةُ فَأَمَمْتُهُمْ ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلاةِ ، قَالَ قَائِلٌ : يَا مُحَمَّدُ ! هَذَا مَالِكٌ صَاحِبُ النَّارِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ : فَالْتَفَتُّ إِلَيه ، فَبَدَأَنِي بِالسَّلامِ )) .
و (( الضَّرْب )) من الرجال الذي له جسْم بين جسمين ، ليس بالضخم ولا بالضئيل . قال طرفة . أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه .
و (( أزد شنوءة )) : حي من اليمن ، شُبّه بهم موسى في كيفية خِلْقهم، &(1/279)&$(1/279)
وسموا شنوءة ؛ لِشنوءتهم ، وهي تباعدهم من الأنجاس ، يقال :
...................................................................
رجل فيه شنوءة ؛ أي : تقرر في المباعدة عن الأقذار ، حكاه الجوهري . وقال القتبي . سُموا بذلك ؛ لأنهم تشانؤوا ؛ أي : تباغضوا .
تنبيه : أن تنزلنا على أن رؤيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأنبياء حقيقة في اليقظة فصلاته وصلاتهم وطوافهم بالبيت كذلك .
ولا يبعد من حيث إنهم قد ماتوا ومن حيث إن ما بعد الموت ليس بمحل تكليف ؛ لأنا نجيب عن الأول بأنهم أحياء كالشهداء ، بل هم أولى .
وعن الثاني : أنهم يُحبب إليهم ذلك ويلهمونه ، فيتعبدون بما يجدون من دواعي أنفسهم ، لا بما يلزمون كما يحمده ويسبّحه أهل =(1/397)=@ الجنة ، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس)). &(1/280)&$(1/280)
142- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ، قَالَ : ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَوْمًا - بَيْنَ ظَهْرَانَيِ النَّاسِ - الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ ، فَقَالَ : (( إِنَّ اللهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ ، أَلا إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى ، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ )). قَالَ : وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أَرَانِي اللَّيْلَةَ فِي الْمَنَامِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ ، فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ كَأَحْسَنِ مَا تَرَى مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ ، تَضْرِبُ لِمَّتُهُ بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ ، رَجِلُ الشَّعْرِ ، يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً ، وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ وَهُوَ بَيْنَهُمَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ ، فَقُلْتُ : مَنْ هَذَا ؟ فَقَالُوا : الْمَسِيحُ بْنُ مَرْيَمَ . وَرَأَيْتُ وَرَاءَهُ رَجُلاً جَعْدًا قَطَطًا ، أَعْوَرَ العَيْنِ الْيُمْنَى ، كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ مِنَ النَّاسِ بِابْنِ قَطَنٍ ، وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ ، يَطُوفُ بِالْبَيْتِ ، فَقُلْتُ : مَنْ هَذَا ؟ قَالُوا : هَذَا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ )).
والمسيح بن مريم لا خلاف أنه بفتح الميم ، وكسر السين مخففة . وأما المسيح الدجّال ، فتقييده عند أكثر العلماء مثل الأول ، وقيّده أبو إسحاق ابن جعفر : بكسر الميم ، وتشديد السين ، وقاله كذلك غير واحد .
...................................................................
وبعضهم يقوله كذلك بالخاء المنقوطة ، وبعضهم يقول : مَسيخٌ بفتح الميم وبالخاء والتخفيف .
واختُلِف في المسيح بن مريم ممّاذا أُخِذ ؟ ، فقيل : لأنه مسح الأرض ؛ أي : ذهب فيها ، فلم يستكنّ بكن. وقيل : لأنه ممسوح بدهن البركة. وقيل : لأنه كان ممسوح الأخمصين . =(1/398)=@ وقيل : لأنه كان لا يمسح ذا عاهةٍ إلا برأ . وقيل : لأن الجمال مسحه ؛ أي : أصابه وظهر عليه . وقال ابن الأعرابي . المسيح الصدّيق ، وبه سُمي عيسى ، وقيل : هو اسم سمّاه الله به ؛ أي : أنه غير مشتق .
وأما الدجّال ، فسمّي مسيحًا ؛ لأنه ممسوح العين اليُمنى ، وقيل : لأنه مسح الأرض ؛ أي : قطعها بالذهاب . ومن قاله بالخاء فمن المسخ .
وقوله : (( بين ظهراني الناس )) ؛ أي : في الناس ومعهم ، يقال . ظهراني بنون وبغير نون ، وظهور كلها بمعنى واحد. &(1/281)&$(1/281)
وقوله في هذا الحديث : (( أعور العين اليُمنى )) ، هذا هو الصحيح والمشهور ، وقد وقع في رواية اليسرى وكأنه وهمٌ ، ويمكن أن يحمل هذا ...................................................................
على ما يتخيله بعض العامة من أن العوراء هي الصحيحة ؛ إذ قد بقيت منفردة عديمة قرينتها ، وليس بشيء ، بل العوراء التي أصابها العور ؛ أي : العيب .
وقوله : (( طافية )) بغير همز ، وعليه أكثر الروايات ، وهكذا قال الأخفش ، ومعناه أنها ممتلئة قد طفتْ وبرزتْ ، وقد روي بالهمز ؛ أي : قد ذهب ضوؤها وتقبّضت ، ويؤيد هذه الرواية قوله في أخرى أنه ممسوح العين ، وأنها ليست جحراء ولا ناتية وأنها مضمومة ، وهذه صفة حبة العنب إذا طفيت وزال ماؤها ، وبهذا فسره عيسى ابن دينار . =(1/399)=@
وقوله في وصف عيسى : (( آدم )) من الأدمة ، وهو لون فوق السُّمرة ودون السحمة بالسين المهملة وكأن الأدمة يسير سوادٍ يضرب إلى الحمرة ، وهو غالب ألوان العرب . ولهذا جاء في أخرى في وصف عيسى أنه أحمر مكان آدم ، وعلى هذا يجتمع ما في الروايتين . وقد روي البخاري من رواية أبي هريرة في صفة عيسى أنه أحمر ، كأنما خرج من ديماس .
...................................................................
وقد أنكر ابن عمر هذا وحلف أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يقله.
و (( اللمة )) بكسر اللام . الشعر الواصل إلى المنكب ، كأنه ألمّ به ؛ أي : نزل . والْجُمة الواصل إلى شحمة الأذن ، وهو أيضا الوفرة .
والرَّجِلُ فوق &(1/282)&$(1/282)
السبط ودون الجعد ، وهو الذي فيه يسير تكسُّر. و((الجعد )) : الكثير التكسر والتقبّض .
و (( القطط ))- بفتح الطاء وكسرها - : هو الشديد الجعودة الذي لا يطول إلا إذا جبذ ، كشعور غالب السودان ، وهو من وصف الدجّال .
وقوله : (( يقطر رأسه ماءً )) ؛ ما يعني أنه قريب عهد بغسل ، وكأنه اغتسل للطواف . وفي الرواية الأخرى : (( ينطف )) ، ومعناه . يقطر . وفي رواية : (( قد رجّلها )) ؛ أي : مشّطها ، وشعر مرجّل ؛ أي : ممشوط مسرّح . والشعر الرَّجِل منه . =(1/400)=@
( 59 ) باب هل رأى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ربه ؟
143- عَنْ مَسْرُوقٍ ؛ قَالَ : كُنْتُ مُتَّكِئًا عِنْدَ عَائِشَةَ ، فَقَالَتْ : يَا أَبَا عَائِشَةَ! ثَلاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ. قُلْتُ : مَاهُنَّ ؟ قَالَتْ : مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ . قَالَ : وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ ، فَقُلْتُ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ! أَنْظِرِينِي وَلا تَعْجَلِي. أَلَمْ يَقُلِ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ } ، { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى }. فَقَالَتْ : أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الأُمَّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ،
ومن باب هل رأى محمد ربّه
قالت عائشة للذي سألها عن رؤية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ربّه : (( لقد قفّ شعري لِما قلت )) ؛ أي : قام من الفزع . قال أبو زيد : قفّ الرجل من البرد قفّةً ، والقفوف . القشعريرة . قال الخليل بن أحمد : القفقفة . الرعدة . قال ابن الأعرابي : تقول العرب عند إنكار الشيء . قفّ شعري واقشعرّ جلدي واشمأزّت نفسي .
واختلف قديمًا وحديثًا في جواز رؤية الله تعالى ، فأكثر المبتدعة على إنكار جوازها في الدنيا والآخرة ، وأهل السنة والسلف على جوازها فَقَالَ : (( إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ ، لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ ، رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ ، سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ )). فَقَالَتْ : أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَقُولُ : { لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }. أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللهَ يَقُولُ : {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً... } إلى قَولِهِ : { عَلِيٌّ حَكِيمٌ } ؟ قَالَتْ : وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ ، وَاللهُ يَقُولُ : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ
فيهما ووقوعها في الآخرة.
تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ }. قَالَتْ : وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ . وَاللهُ يَقُولُ : { قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللهُ }.
ثم هل رأى نبينا ربّه أم لا ؟ اختلف في ذلك السلف والخلف ، فأنكرته عائشة وأبو هريرة وجماعة من السلف ، وهو المشهور عن ابن مسعود، &(1/283)&$(1/283)
وإليه ذهب جماعة من المتكلمين والمحدثين . وذهب طائفة أخرى
من السلف إلى وقوعه =(1/401)=@ وأنه رأى ربّه بعينيه ، وإليه ذهب ابن عبّاس ، وقال : اختُصّ موسى بالكلام وإبراهيم بالخلّة ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالرؤية ، وأبو ذرّ وكعب والحسن وأحمد بن حنبل . وحُكي عن ابن مسعود وأبي هريرة في قول لهما آخر ، ومثل ذلك حُكي عن أبي الحسن الأشعري وجماعة من أصحابه .
وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ : وَلَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ كَاتِمًا شَيْئًا مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ لَكَتَمَ هَذِهِ الآيَةَ : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ }.
وذهبت طائفة من المشايخ إلى الوقف ، وقالوا . ليس عليه قاطع نفيًا ولا إثباتًا ، ولكنه جائز عقلاً ، وهذا هو الصحيح ؛ إذ رؤية الله تعالى جائزة كما دلّت عليه الأدلة العقلية والنقلية .
فأما العقلية ، فتعرف في علم الكلام . وأما النقلية ، فمنها سؤال موسى رؤية الله تعالى ، ووجه التمسّك بذلك علم موسى بجواز ذلك ، ولو علم استحالة ذلك ، لما سأله ، ومحال أن يجهل موسى جواز ذلك ؛ إذ يلزم منه أن يكون مع علوّ منصبه في النبوة ، وانتهائه إلى أن يصطفيه الله على الناس ، وأن يُسمعه كلامه بلا واسطة ، جاهلاً بما يجب لله تعالى ويستحيل عليه ويجوز ، وملتزم هذا كافر .
ومنها قوله تعالى : { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } ، ووجه التمسك بها امتنانه تعالى على عباده بالنظر إلى وجهه تعالى في الدار الآخرة ، وإذا جاز أن يروه فيها ، جاز أن يروه في الدنيا ؛ لتساوي الوقتين بالنظر إلى الأحكام العقلية .
ومنها ما تواترت جملته في صحيح الأحاديث من إخباره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بوقوع ذلك ؛ كرامةً للمؤمنين في الدار الآخرة ، فهذه الأدلة تدلّ على جواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة والدنيا . ثم هل وقعت رؤية الله تعالى لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة الإسراء أو &(1/284)&$(1/284)
لم تقع ؟ ليس في ذلك دليل قاطع ، وغاية المستدل على نفي ذلك أو إثباته التمسّك =(1/402)=@ بظواهر متعارضة معرضة للتأويل ، والمسألة ليست من باب العمليات ، فيكتفى فيها بالظنون ، وإنما هي من باب المعتقدات ولا مدخل للظنون فيها ؛ إذ الظنّ من باب الشك ؛ لأن حقيقته تغليب أحد الْمُجَوَّزَيْن ، وذلك يناقض العلم والاعتقاد .
واختلفوا أيضا هل كلّم محمد ربّه ليلة الإسراء بغير واسطة أم لا ؟ ، فذهب ابن مسعود وابن عبّاس وجعفر ابن محمد وأبو الحسن الأشعري في طائفة من المتكلمين إلى أنه كلّم الله بغير واسطة ، وذهبت جماعة إلى نفي ذلك . والكلام على هذه المسألة كالكلام على مسألة الرؤية سواء .
144- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ؛ وَأَبِي هُرَيْرَةَ ؛ فِي تَفْسير : { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى } : أنَّهُ جِبْرِيلُ .
145- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } ، { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى } ، قَالَ : رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ.
وقول عائشة : (( فقد أعظم علي الله الفِرية )) ، وهي الافتراء ، وهو اختلاق الكذب وما يقبُح التحدّث به .
وقوله تعالى : { بالأفق المبين } ، (( الأفق )) : الجنابُ والناحية ، وجمعه آفاقٌ ، ويقال : أفق بضم الفاء وسكونها . و(( المبين )) : البيّن الواضح . والضمير في { ولقد رآه } عائد إلى رسولٍ ، وهو جبريل . وكذلك في قوله : { ولقد رآه نزلة أخرى } ، وقد روت ذلك عائشة مرفوعًا مفسّرا على ما يأتي ، =(1/403)=@ فلا يلتفت إلى ما يقال في الآية غير هذا .
وأما استدلال عائشة بقوله تعالى : { لا تدركه الأبصار } ، ففيه بُعْد ؛ إذ يقال بموجبه ، إذ يفرق بين الإدراك والإبصار ، فيكون معنى ((لا تدركه )) : لا تحيط به ، مع أنها تبْصره ، قاله سعيد بن المسيب . وقد نُفِيَ الإدراك مع وجود الرؤية في قول الله تعالى : { فلمّا ترآءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا } ؛ أي : لا يدركونكم. وأيضًا فإن الإبصار عموم وهو قابل للتخصيص ، فيخصّ بالكافرين ، كما قال : { إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } ، ويُكْرِم المؤمنين أو من شاء الله منهم بالرؤية ، كما قال { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } ، وبالجملة فالآية ليست نصا ولا من الظواهر الجلية ، فلا حجة فيها. &(1/285)&$(1/285)
و (( اللطيف )) : الكثير اللطف، وهو في حق الله تعالى رفقُه بعباده وإيصاله لهم ما يصلحهم بحيث لا يشعرون ، كما قال تعالى : { إن ربي لطيف لما يشاء }(7) ، وأصله من اللطف في العمل وهو الرفق فيه ، وضده
...................................................................
العنف ، والاسم منه اللطَف بتحريك الطاء ، يقال : جاءتنا لطَفَةٌ من فلان ؛ أي : هدية .
و (( الخبير )) : العليم بخبرة الأمور ؛ أي : ببواطنها وما يختبر منها ، يقال. صدَّق الْخَبر ، الخُبر بضم الخاء ، ومنه قول أبي الدرداء . وجدت الناس أُخْبرُ تَقْلِه.
وأما استدلالها بقوله تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيًا } ، =(1/404)=@ فلا حجة فيها على نفي الرؤية ؛ إذ يقال بموجبها ، فإن مقتضاها نفي كلامِ الله على غير هذه الأحوال الثلاثة ، وإنما تصلح أن يستدل بها على نفي تكليم الله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ مشافهةً على ضعفٍ في ذلك لا يخفى على متأمّل ، بل قد استدل بعض المشايخ بهذه الآية على أن محمدا رأى ربه وكلّمه دون واسطة ، فقال . هي ثلاثة أقسام . من وراء حجاب ، كتكليم موسى ، وبإرسال الملائكة ، كحال جميع الأنبياء . ولم يبق من تقسيم المكالمة إلا كونها مع المشاهدة ، وهذا أيضا فيه نظر .
وقوله له تعالى : { فيوحي بإذنه ما يشاء } ؛ أي : بأمره ، كما
...................................................................
قال : { من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه }.
وفي (( يوحي )) ضمير يعود على الرسول ، وفي { يشاء } ضمير يعود على الله تعالى ، ومعناه . فيُلقي الرسول إلى الموحَى إليه ما يشاؤه الله .
و (( العَلِيّ )) : ذو العلوّ ، وهو الرفعة المعنويَّة في حقّه تعالى ، لا المكانيّة. والحكيم المُحكِم للأمور ، أو الكثير الحكمة . ومعنى مساق الآية . أنّه تعالى مُنزَّه عن أن تَبْتَذِل كلامَهُ أسماعُ كلّ السامعين ، بل يُحكِمُ الله كيفية إيصاله إلى النبيّين والمرسلين ، والله أعلم . =(1/405)=@ &(1/286)&$(1/286)
وقولها : (( ولو كان محمّد كاتمًا شيئًا لكتم هذه الآية : { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه } الآية ، قد اجترأ بعض المفسّرين في تفسير هذه الآية ...................................................................
ونسب إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما لا يليق به ويستحيل عليه ؛ إذ قد عصمه الله منه ، ونزّهه عن مثله ، فقال . إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هَوِيَ زينب امرأة زيد ، وربما أطلق بعض الْمُجّان لفظ : (( عشق )). ثم جاء زيد يريد تطليقها ، فقال له . أمسك عليك زوجك واتَّقِ الله ، وهو مع ذلك يحبُّ أن يطلقها ليتزوجها. وهذا القول إنما يصدر عن جاهل بعصمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن مثل هذا ، أو مستخفّ بحرمته . والذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين أن ذلك القول الشنيع ليس بصحيح ، ولا يليق بذوي المروءات ، فأحرى بخير البريات ، وأن تلك الآية إنما تفسيرها ما حكي عن علي بن حسين أن الله تعالى أعلم نبيه بكونها زوجةً له ، فلما شكا حدّتَها زيدٌ له وأراد أن يطلقها ، قال له : أمسك عليك زوجَك واتَّقِ الله ، وأخفى في نفسه ما أعلمه الله به مما هو مبديه بطلاق زيدٍ لها وتزويج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها. ونحوه عن الزهري والقاضي بكر بن العلاء القشيري وغيرهم .
..................................................................
والذي خشيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما هو أرجاف المنافقين بأنه نَهى عن تزويج نساء الأبناء وتزوج زوجة ابنه ، ومساق الآية يدل على صحة هذا الوجه بقوله : { مَا كَانَ عَلى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ } ، ولو كان
146- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ ؛ قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ ؟ قَالَ : ((نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ )) . وَفِي رِوَايَةٍ : (( رَأَيْتُ نُورًا )) .
ما ذكر أولئك ، لكان فيه أعظم الحرج وبقوله { لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرًا } ، وبالله التوفيق . =(1/406)=@
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( نورًا أَنَّى أراه )) ، هكذا رويناه وقيدناه برفع (( نور )) وتنوينه ، وفتح (( أَنَّى )) التي بمعنى (( كيف )) الاستفهامية ، ورواية من زعم أنه رواه : (( نورٌ إني )) ليست بصحيحة النقل ولا موافقة للعقل ، ولعلها تصحيف . وقد أزال هذا الوهم الرواية الأخرى ، حيث قال : (( رأيت نورًا )) ، ورفع (( نور )) على فعل &(1/287)&$(1/287)
مضمر تقديره : غلبني نورٌ أو حجبني نورٌ .
و (( أَنَّى أراه )) استفهام على جهة الاستبعاد ؛ لغلبة النور على بصره كما هي عادة الأنوار الساطعة كنور الشمس ، فإنه يُغشي البصر
ويحيره إذا حدّق نحوه ، ولا يعارض هذا : (( رأيتُ نورًا )) ، فإنه عند وقوع بصره على النور رآه ، ثم غلب عليه بعد ، فضعُف عنه بصره .
ولا يصح أن يُعتقد أن الله تعالى نور كما اعتقده هشام الجوالقي وطائفته المجسّمة ممن قال . هو نور لا كالأنوار ؛ لأن النور لون قائم بالهواء ، وذلك على الله تعالى محال عقلاً ونقلا . =(1/407)=@
فأما العقل فلو كان عرضًا أو جسمًا ، لجاز عليه ما يجوز عليهما ، ويلزم تغيّره وحدثُه . وأما النقل ، فقوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ، ولو كان جسمًا أو عرضًا ،
...................................................................
لكان كل شيء منهما مماثلاً له. &(1/288)&$(1/288)
وقول هذا القائل : (( جسم لا كالأجسام )) ، أو (( نور لا كالأنوار )) متناقض ، فإن قوله : (( جسم )) أو ((نور )) ، حُكم عليه بحقيقة ذلك .
وقوله : (( لا كالأجسام )) نفي لما أثبته من الجسمية والنورية ، وذلك متناقض ، فإن أراد أنه مُساوٍ للأجسام من حيث الجسمية ومفارق لها من حيث وصفٌ آخر ينفرد به ، لزمت تلك المحالات من حيث الجسمية ، ولم يتخلص منها بذكر ذلك الوصف الخاص ؛ إذ الأعمّ من الأوصاف تلزمه أحكام من حيث هو لا تلزم الآخصّ كالحيوانية والنطقية ، وتتميم هذا في علم الكلام .
وقول ابن عباس : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ رآه بفواده مرتين ، الفؤاد . القلب . ولا يريد بالرؤية هنا العلم ، فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان عالِمًا بالله تعالى على الدوام ، وإنما أراد أن الرؤية التي تخلق في العين خلقت للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في القلب .
وهذا على ما يقوله أئمتنا أن الرؤية لا يُشترط فيها محل مخصوص عقلا ، بل يجوز أن تخلق في أي محل كان ، وإنما العادة جارية بخلقها في العين . وقول ابن عباس هذا خلاف ما حكيناه عنه من أنه رأه بعينه ،
147- وَعَنْ أَبِي مُوسَى ؛ قَالَ : قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ ، فَقَالَ : (( إِنَّ اللهَ لا يَنَامُ ، وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ ، حِجَابُهُ النُّورُ )). وَفِي رِوَايَةٍ : (( النَّارُ ، لَوْ كَشَفَها لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ )).
ولا يبعد الجمع بينهما في مذهبه ، فنقول : إنه رآه بقلبه وعينه . فأما اسم الله تعالى النور ، فمعناه أنه هادٍ من ظلمات الجهالات ، كما أن النور المحسوس هادٍ في محسوس الظلمات . وقيل : معناه أنه منوّر السموات والأرض وخالق الأنوار فيهما . =(1/408)=@
وقوله : (( إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام النوم عليه بحال )) ؛ لأن النوم موت ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين سئل عن نوم أهل الجنة ، فقال : ((النوم أخو الموت، &(1/289)&$(1/289)
والجنة لا موت فيها)) ، وأيضًا فإن النوم راحة من نعت التصرف وذلك من تعب الأجسام .
...................................................................
وقوله : (( يخفض القسط ويرفعه )) ، قال ابن قتيبة . القِسط . الميزان ، وسمي بذلك ؛ لأن القسط هو العدل ، وذلك إنما يحصل ويُعرف بالميزان ...................................................................
في حقوقنا ، وأراد به ههنا ما توزن به أعمال العباد المرتفعة إليه ، وأرزاقهم الواصلة إليهم ، كما قال تعالى : { وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ }.
و (( القسطاس )) -بضم القاف وكسرها - : هو أقوم الموازين ، وقيل : أراد بالقسط هنا الرزق الذي هو قسط كل مخلوق ، يخفضه فيقتره ، ويرفعه فيوسّعه . وقيل : إن القسط هو العدل نفسُهُ ، ويراد به الشرائع والأحكام ، كما قال تعالى . { لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } ؛ أي : النصفة في الأحكام والعدل المأمور به في قوله تعالى . { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } ، فتارة يرفعه بمعنى : يغلّبه ويظهره بوجود الأنبياء وأصحابهم وأتباعهم العاملين به ، وتارة يخفضه بمعنى أنّه يذهبه ويخفيه بدروس الشرائع ورجوع أكثر الناس عن المشي على منهاجها . ويحتمل أن يكون رفعها قبضها ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ
...................................................................
في الأمانة أنها ترفع من القلوب ، وكما قال : (( أول ما تفقدون من دينكم الأمانة ، وآخر ما تفقدون منه الصلاة )) ، بل كما قال : =(1/409)=@ (( عليكم بالعلم قبل أن يرفع )) ، وحفضها إيجادها في الأرض ووضعها فيه. &(1/290)&$(1/290)
وقوله : (( يرفع إليه عمل النهار قبل الليل )) ؛ يعني أن الملائكة الموكلين بنا تحصي علينا أعمال اليوم ، فترفعه في آخره بقرب الليل ، وكذلك في الليل ترفعه بقرب النهار ، ولذلك جاء في الرواية الأخرى : (( يرفع إليه عمل الليل بالنهار وعمل النهار بالليل )) ، فجعل الباء مكان (( قبل )) . وهذا الحديث كقوله : (( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار )). والهاء في (( إليه )) عائد إلى الله تعالى لكن على طريقة حذف المضاف ، والمراد به المحل الذي ينتهي إليه الملائكة بأعمال العباد ، ولعلّه سدرة المنتهى كما تقدم في حديث الإسراء . وهذا كما تقول . رفع المال إلى الملك ؛ أي إلى خزانته. وعلى هذا يحمل قوله تعالى : { إليه يصعد الكلم الطيب } ، وقوله { تعرج الملائكة والروح إليه } ؛ أي : إلى مقاماتهم في ...................................................................
حضرته ، وإنما احتجنا إلى إبداء هذا التأويل ؛ لئلا يتخيل الجاهل أنه مختصّ بجهة فوق فيلزمه التجسيم ، ويكفيك مما يدل على نفي الجهة في حقه قوله تعالى : {وهو معكم أينما كنتم } ، وما في معناه.
وقوله : (( حجابه النور أو النار )) ، (( الحجاب )) هو المانع والساتر ، ومنه سمي المانع من الأمير حاجبًا ، وهو مضاف إلى الله إضافة ملكٍ =(1/410)=@ واختراع ، أو إضافة تشريف ، والمحجوب به العباد.والنور الذي بهر بصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، حيث قال : (( نورٌ أَنَّي أراه )) ، وهو المعنى بقوله : ((سدرة المنتهى فغشيها ألوان لا أدري ما هي )). وأما الباري تعالى ، فيستحيل عليه أن يحيط به حجاب ؛ إذ يلزم منه أن يكون مقدرًا محصورًا ، فيحتاج إلى مُقدّر ومخصّص ، ويلزم منه حدوثه. وفي &(1/291)&$(1/291)
التحقيق أن الحجاب في حقوقنا الموانع التي تقوم بنا عند وجود هذه الحوائل ؛ كالجسم الكثيف والشديد النور . وقوله : (( لو كشفها )) ، الضمير عائد على النار أو الأنوار ، و((الحجاب )) ؛ بمعنى : الحجب ، والسبحات جمع سُبحة ، وأصلها جمال الوجه وبهاؤه ، ثم يُعبّر بها عن العظمة والجلالة ، وفي"العين" و"الصِحاح" : سبُحات وجه ربّنا جلاله . والهاء في (( بصره )) عائد على الله تعالى على أحسن الأقوال ، وهو الذي عاد عليه ضمير (( وجهه )) ، وكذلك ضمير (( خلقه )) .
ومعنى الكلام : أن الله تعالى لو كشف عن الخلق ما منعهم به من رؤيته في الدنيا لما أطاقوا رؤيته ، ولهلكوا من عند آخرهم ، كما قال : ...................................................................
{ فلمّا تجلى ربّه للجبل جعله دكًّا }. ويفيد أن تركيب هذا الخلق وضعفهم في هذه الدار لا تحتمل رؤية الله تعالى فيها ، فإذا أنشأهم الله للبقاء وقوّاهم ، حملوا ذلك .
وقد أكثر الناس في تأويل هذا الحديث وأبعدوا ، لا سيما من قال أن الهاء في (( وجهه )) تعود على المخلوق ، فإنه يحيل مساق الكلام ويُخلّ بالمعنى . والأشبه ما ذكرناه ، أو التوقف كما قال السلف : (( أمرّوها كما جاءت ))) ، يعنون المشكلات ، وسيأتي لهذا مزيد بيان . =(1/411)=@ &(1/292)&$(1/292)
( 60 ) باب ما جاء في رؤية الله تعالى في الدار الآخرة
148- عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : ((جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا ، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا ، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ ، فِي جَنَّةِ عَدْنٍ )).
ومن باب ما جاء في رؤية الله تعالى في الدار الآخرة
قوله : (( وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكِبرياء على وجهه )) ، (( الرداء )) هُنا استعارة كَني بها عن كبريائه وعظمته ، كما قال في الحديث الآخر : (( الكبرياء ردائي والعظمة إزاري )). وليست العظمة والكبرياء من جنس الثياب المحسوسة ، وإنّما هي توسُّعات .
ووجه المناسبة أنّ الرداء والإزار لَمّا كانا ملازمين للإنسان مخصوصين به لا يشاركه فيهما غيره ، عبّر عن عظمة الله وكبريائه بهما ؛ لأنّهما ممّا لا تجوز مشاركة الله فيهما . ألا ترى آخرَ الحديث : (( فمن نازَعَني واحدًا منهما قَصَمتُه ثمّ قذفتُه في النار )).
ومعنى حديث أبي موسى أنّ مقتضى جَبَرُوت الله وكبريائه وعزّته واستغنائه ألا يراه أحدٌ ولا يعبأ بأحد ولا يلتفت إليه ، لكن لطفه وكرمه لعباده المؤمنين ورحمته لهم وعوده عليهم يقتضي أن يمنّ عليهم بأن يُريهم وجهه ؛ إبلاغًا في الإنعام وإكمالاً للامتنان ، فإذا كشف عنهم الموانع وأراهم وجهه الكريم ، فقد فعل معهم خلاف مقتضى الكبرياء ، فكأنه قد رفع عنهم حجابًا يمنعهم. =(1/412)=@ ووجه الله تعالى هل هو عبارة عن وجوده المقدّس أو عن صفة شريفة &(1/293)&$(1/293)
عظيمة معقولة ، في ذلك ، لأئمتنا قولان ، وكذلك القول في اليد والعين والجنب المضافة إلى الله تعالى .
149- وَعَنْ صُهَيْبٍ ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ ، قَالَ : يَقُولُ اللهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - : تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا ؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ ؟ قَالَ : فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ )) .
وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ : ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}.
وقوله : ((في جنة عدن )) متعلق بمحذوف في موضع الحال من ((القوم )) ، كأنه قال : كائنين في جنة عدن ، ولا يكون من الله تعالى ؛ لاستحالة المكان والزمان عليه.
وقوله من سأله الله تعالى من أهل الجنة بقوله : (( هل تريدون شيئًا أزيدكم ؟ ألم تبيضَّ وجوهُنا وقد خلْنا الجنّة وتنجِنا من النار )) ، لا يليق بمن مات على كمال المعرفة والمحبة والشوق ، وإنما يليق ذلك بمن مات على الخوف والرجاء ، فلما حصل على الأمن من المخوف والظفر بالمرجو الذي كان تَشَوُّفه إليه ، قنِع به ولهى عن غيره. وأما من مات محبًّا لله 150- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّ نَاسًا قَالُوا لِرَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يَا رَسُولَ اللهِ! هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( هَلْ تُضَارُّونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ؟ )) قَالُوا : لا يَا رَسُولَ اللهِ ! قَالَ : ((هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ ؟ )) قَالُوا : لا . قَالَ : (( فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ ؛ يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيَقُولُ : مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْهُ ، فَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ ، وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ ، وَيَتَّبِعُ مَنْ
مشتاقًا لرؤيته ، فلا يكون همّه ، إلا طلب النظر لوجهه الكريم لا غير. ويدلّ على صحة ما قلته أن المرء يحشر على ما يموت عليه كما علم من الشريعة ، بل أقول . إن من مات مشتاقًا لرؤية الله تعالى لا ينبّه بالسؤال ، بل يعطيه أمنيته ذو الفضل والإفضال .
ومذهب أهل السنة بأجمعهم أن الله تعالى ينظر إليه المؤمنون في الآخرة بأبصارهم ، كما نطق بذلك الكتاب العزيز ، وأجمع =(1/413)=@ عليه سلف الأمة ، كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا ، فَيَأْتِيهِمُ اللهُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ ، فَيَقُولُ : أَنَا رَبُّكُمْ ، فَيَقُولُونَ : نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ ، هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا ، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ ، فَيَأْتِيهِمُ اللهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ ، فَيَقُولُ : أَنَا رَبُّكُمْ ، فَيَقُولُونَ : أَنْتَ رَبُّنَا ، فَيَتَّبِعُونَهُ ، وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ ، فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ ، وَلا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلا الرُّسُلُ ، وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ : اللهُمَّ ! سَلِّمْ ، سَلِّمْ . وَفِي جَهَنَّمَ كَلالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ ، هَلْ رَأَيْتُمُ
ورواه بضعة عشر من الصحابة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ومنع ذلك فِرَقٌ من المبتدعة منهم المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة ؛ بناءً منهم على أن الرؤية يلزمها شروط اعتقدوها عقلية ، كاشتراط البنية المخصوصة والمقابلة ، واتصال الأشعة ، وزوال الموانع من القرب المفرط والبعد المفرط والحجب الحائلة في &(1/294)&$(1/294)
خبط لهم وتحكم. وأهل الحق لا يشترطون شيئًا من ذلك عقلاً سوى وجود المرئيّ ، وأنّ الرؤية إدراك يخلقه الله تعالى للرائي ، فيرى المرئي لكن تقترن بالرؤية بحكم جريان العادة أحوال يجوز في العقل
السَّعْدَانَ ؟ )) قَالُوا : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ ! قَالَ : (( فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ ، غَيْرَ أَنَّهُ لا يَعْلَمُ مَا قَدْرُ عِظَمِهَا إِلا اللهُ . تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ ، فَمِنْهُمُ المُوبَقُ بِعَمَلِهِ ، وَمِنْهُمُ الْمُجَازَى حَتَّى يُنَجَّى ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ ، وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ بِرَحْمَتِهِ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، أَمَرَ الْمَلائِكَةَ
تبدلها ، وتفصيل ذلك وتحقيقه في علم الكلام.
وقوله : (( هل تضارّون )) يُروى بضم التاء وفتحها وبتشديد الراء وتخفيفها ، وضم الخاء والتشديد أكثر ، وكلها له معنى صحيح ، ووجه
أَنْ يُخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا مِمَّنْ أَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَرْحَمَهُ ، مِمَّنْ يَقُولُ : لا إِلهَ إِلا اللهُ ، فَيَعْرِفُونَهُمْ فِي النَّارِ ، يَعْرِفُونَهُمْ بِأَثَرِ السُّجُودِ ؛ تَأْكُلُ النَّارُ مِنِ ابْنِ آدَمَ إِلا أَثَرَ السُّجُودِ ، حَرَّمَ اللهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ . فَيُخْرَجُونَ مِنَ النَّارِ قَدِ امْتَحَشُوا ، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ ، فَيَنْبُتُونَ مِنْهُ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ ، ثُمَّ يَفْرُغُ اللهُ مِنَ
الأكثر أنه مضارع مبني لما لم يسمَّ فاعله.أصله (( تضاررون )) ، أسكنت الراء الأولى وأدغِمتْ في الثانية.وأصل ماضيه (( ضورر )). ويجوز أن يكون مبنيًّا للفاعل بمعنى : تُضارِرون ، بكسر الراء ، إلاّ أنّها سكنت الراء وأدغمت. وكلّه من الضرّ المشدّد. وأمّا التخفيف ، فهو من (( ضاره ، يضيره ، ويضوره ضيرًا )) مخفّفةً ، فإذا بُني لما لم يُسمَّ فاعله، قلت فيه =(1/414)=@ . يُضَار مخفَّفًا.
وأمّا رواية فتح التاء ، فهي مبنيّة للفاعل بمعنى. تتضاررون ، وحُذِفت إحدى التاءين ؛ استثقالا لاجتماعهما .
ومعنى هذا اللفظ أن أهل الجنة إذا امتنّ الله عليهم برؤيته سبحانه تجلّى لهم ظاهرًا ، بحيث لا يحجب بعضهم بعضًا ولا يضره ولا يزاحمه ولا يجادله ، كما يفعل عند رؤية الأهلّة ، بل كالحال عند رؤية الشمس والقمر ليلة تمامه .
الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ ، وَيَبْقَى رَجُلٌ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ - وَهُوَ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً الْجَنَّةَ - فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ ! اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ فَإِنَّهُ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا ، وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا ، فَيَدْعُو اللهَ مَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَهُ ، ثُمَّ يَقُولُ اللهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - : هَلْ عَسَيْتَ إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ بِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ ؟ فَيَقُولُ : لا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ - وَيُعْطِي رَبَّهُ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ مَا شَاءَ الله- ، فَيَصْرِفُ اللهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ ، فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْجَنَّةِ وَرَآهَا ،
وقد حُكي : (( ضاررته مضارة )) ؛ إذا خالفته . وقد رُوي : (( تضامّون )) بالميم. والقول فيه روايةً ومعنًى كالقول في (( تضارون )) ، غير أن ((تضامّون )) بالتشديد من المضامّة ، وهي الإزدحام ؛ أي : لا تزدحمون عند رؤيته تعالى كما تزدحمون عند رؤية الأهلّة . وأما بالتخفيف ، فمن الضيم ، وهو الذل ؛ أي : لا يذلّ بعضكم بعضا بالمزاحمة والمنافسة والمنازعة .
وقوله : (( فإنكم ترونه كذلك )) ، هذا تشبيه للرؤية ولحالة الرائي ، لا المرئي. &(1/295)&$(1/295)
ومعناه : أنكم تستوون في رؤية الله تعالى من غير مضارّة ولا مزاحمة ، كما تستوون في رؤية الشمس والبدر عِيانًا .
سَكَتَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَسْكُتَ ، ثُمَّ يَقُولُ : أَيْ رَبِّ ! قَدِّمْنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ ، فَيَقُولُ اللهُ لَهُ : أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ لا تَسْأَلُنِي غَيْرَ الَّذِي أَعْطَيْتُكَ ؟ وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ ! مَا أَغْدَرَكَ ! فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ ! يَدْعُو اللهَ حَتَّى يَقُولَ لَهُ : فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ ؟
وقد تأوّلت المعتزلة الرؤية في هذه الأحاديث بالعلم ، فقالوا . إن معنى رؤيته تعالى أنه يُعلم في الآخرة ضرورة. وهذا خطأ لفظًا فَيَقُولُ : لا وَعِزَّتِكَ ! فَيُعْطِي رَبَّهُ مَا شَاءَ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ ، فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ ، فَإِذَا قَامَ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ ، انْفَهَقَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ، فَرَأَى مَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالسُّرُورِ ، فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَسْكُتَ ، ثُمَّ يَقُولُ : أَيْ رَبِّ ! أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ ، فَيَقُولُ اللهُ لَهُ : أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ أَنْ لا تَسْأَلَ غَيْرَ مَا أُعْطِيتَ ؟ وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ ! مَا أَغْدَرَكَ ! فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ ! لا أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ ، فَلا يَزَالُ يَدْعُو اللهَ حَتَّى يَضْحَكَ اللهُ مِنْهُ ، فَإِذَا ضَحِكَ اللهُ مِنْهُ ، قَالَ لَهُ : ادْخُلِ الْجَنَّةَ ، فَإِذَا دَخَلَهَا قَالَ اللهُ لَهُ : تَمَنَّهْ ، فَيَسْأَلُ رَبَّهُ وَيَتَمَنَّى ، حَتَّى إِنَّ اللهَ لَيُذَكِّرُهُ يَقُولُ : مِنْ كَذَا وَكَذَا ، حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ بِهِ الأَمَانِيُّ ، قَالَ اللهُ : ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ )).
ومعنى . أما اللفظ ، فهو أنّ الرؤية بمعنى العلم يتعدّى إلى مفعولين ولا يجوز الاقتصار على أحدهما دون الآخر ، وهي قد تعدّت هنا إلى مفعول واحد ، فهي للإبصار . ولا يصحّ أن يقال إن الرؤية هنا بمعنى المعرفة ؛ قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ : وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ لا يَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِهِ شَيْئًا ، حَتَّى إِذَا حَدَّثَ أَبُو هُرَيْرَةَ : أَنَّ اللهَ قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ : ((ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ )) ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ مَعَهُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : مَا حَفِظْتُ إِلا قَوْلَهُ : (( ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ )). قَالَ أَبُوسَعِيدٍ : أَشْهَدُ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَوْلَهُ : (( ذَلِكَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ مَعَهُ )).
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : وَذَلِكَ الرَّجُلُ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً الْجَنَّةَ .
لأن العرب لم تستعمل (( رأيت )) بمعنى (( عرفت )) ، لكن بمعنى (( علمت )) أو (( أبصرت )) ، واستعملت (( علمت )) بمعنى (( عرفت )) ، لا رأيت بمعنى عرفت ، وأما المعنى ، فمن وجهين :
أحدهما : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ شبّه رؤية الله تعالى بالشمس ، وذلك التشبيه لا يصح إلا بالمعاينة . =(1/415)=@
وثانيهما : أن الكفّار يعلمونه تعالى بالضرورة في الآخرة ، فترتفع خُصوصية المؤمنين بالكرامة وبلذة النظر ، وذلك التأويل منهم تحريف حملهم عليه ارتكاب الأصول الفاسدة.
و (( الطواغيت )) : جمع طاغوت ، وهو الكاهن والشيطان وكل رأسٍ في الضلال ، والمراد به في الحديث الأصنام . ويكون واحدًا، كقوله تعالى. &(1/296)&$(1/296)
{يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به } ، وقد يكون جمعًا ، كقوله تعالى : { أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم }. و(( طاغوت )) وإن جاء على وزن لاهوت ، فهو مقلوب ؛ لأنه من طغى ، ولاهوت غير مقلوب ؛ لأنه من (( لاهٍ )) ، بمنزلة الرغبوت والرحموت والرهبوت ، قاله في الصحاح .
وقوله : (( وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها )) ، ظنّ المنافقون أن تسترهم بالمؤمنين في الآخرة ينفعهم وينجيهم كما نفعهم في الدنيا ، جهلا منهم بأن الله عالم بهم ومطلع على ضمائرهم . وهذا كما قد أقسمت طائفة ...................................................................
من المشركين أنهم ما كانوا مشركين ، توهمًا منهم أنّ ذلك يُنجيهم . ويحتمل أن يكون حشرهم مع المسلمين لِما كانوا يُظهرونه من الإسلام ، فحفظ عليهم ذلك ، حتّى يميِّز الله الخبيث من الطيّب . ويحتمل أنّه لمّا قيل : (( لتتّبعَ كلُّ أمّةٍ ما كانت تعبدُ )) ، فاتّبع الناس معبوداتِهم ، ولم يكونوا عبدوا شيئًا ، فبقوا هنالك حتّى مُيِّزوا ممّن كان يعبد الله .
وقوله : (( فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون )) ، هذا المقام مقام هائل يمتحن الله فيه عبادَه ؛ ليُميِّز المُحِقّ من المُبطِل ، وذلك أنّه لمّا بقي المنافقون والمُراؤون متلبّسين بالمؤمنين والمخلصين ، زاعمين أنّهم منهم ، وأنّهم =(1/416)=@ عملوا مثل أعمالهم وعرفوا اللهَ مثل معرفتهم ، امتحنهم الله بأن أتاهم بصورة هائلة قالت للجميع . أنا ربُّكم ، فأجاب المؤمنون بإنكار ذلك والتعوُّذ منه ؛ لما قد سبق لهم من معرفتهم بالله تعالى ، وأنّه منزَّه عن صفات هذه الصورة ؛ إذ سماتها سمات المُحدَثات ، ولذلك قال في حديث أبي سعيد : (( فيقولون . نعوذ بالله منك ، لا نشرك بالله شيئًا مرّتين أو ثلاثًا ، حتّى إنّ بعضهم ليكاد أن ينقلب )). وهذا &(1/297)&$(1/297)
البعض الذي همّ بالانقلاب لم يكن لهم رسوخ العلماء ولا ثبوت العارفين ، ولعلّ هذه الطائفة هي التي اعتقدت الحق وجزمت عليه من غير بصيرة ، ولذلك كان ...................................................................
اعتقادهم قابلاً للانقلاب . ثم يقال بعد هذا للمؤمنين . هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها ، فيقولون . نعم ، فيكشف عن ساقٍ ؛ أي : يوضح الحقّ ويتجلّى لهم الأمر فيرونه حقيقة معاينة .
وكشف الساقِ مَثَلٌ تستعمله العرب في الأمر إذا حقّ ووضح واشتدّ ، تقول العرب . كشفت الحرب عن ساقها ، إذا زالت مخارقها وحقّت حقائقها ، وأنشد.
وكنتُ إذا جاري دَعا لِمَضُوفةٍ أُشَمِّرُ حتى يَنْصُفَ الساقَ مِئزَري
وعند هذا يسجد الجميع ، فمن كان مخلصًا في الدنيا ، صحّ له سجوده على تمامه وكماله ، ومن كان منافقًا أو مرائيًا ، عاد ظهره طبقةً واحدةً ، كلما رام السجود ، خرّ على قفاه . وعند هذا الامتحان يقع امتياز المحقّ من المبطل ، فعلى هذا تكون الصورة التي لا يعرفونها مخلوقة .
والفاء التي دخلت عليها بمعنى الباء ، ويكون معنى الكلام أن الله تعالى يجيبهم بصورة ، كما قيل في قوله تعالى . { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة } ؛ أي : بظلل . ويكون معنى الإتيان =(1/417)=@ هنا أنه يحضر لهم تلك الصورة . وأما الصورة الثانية التي يعرفون ...................................................................
عندما يتجلّى لهم الحقّ ، فهي صفته تعالى التي لا يشاركه فيها شيء من الموجودات ، ولا يشبهه فيها شيء من المصوّرات . وهذا الوصف هو الذي كانوا قد عرفوه في الدنيا ، وهو المعبّر عنه بـ{ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } ، ولذلك قالوا : إذا جاء ربّنا عرفناه . وفي حديث آخر يقال : (( وكيف تعرفونه ، قالوا : إنه لا شبيه له ولا نظير )).ولا يستبعد إطلاق الصورة &(1/298)&$(1/298)
بمعنى الصفة ، فمن المتداول أن يقال :
...................................................................
صورة هذا الأمر كذا ؛ أي : صفته.
...................................................................
والإتيان والمجيء المضاف إلى الله تعالى ثانيًا هو عبارة عن تجليه لهم ، فكأنه كان بعيدًا فقرُبَ ، أو غائبًا فحضر . وكل ذلك خطابات مستعارة جارية على المتعارف من توسعات العرب ، فإنهم يسمّون الشيء باسم الشيء إذا جاوره ، أو قاربه ، أو كان منه بسبب.
...................................................................
وقوله في حديث أبي سعيد : ((ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحوّل في الصورة
التي رأوه فيها أول مرة )) ؛ يعني : أن المؤمنين إذا رفعوا رؤوسهم ، رأوا
الحقّ مرة ثانية ؛ إذ كانوا قد رأوه حالة قولهم . أنت ربنا قبل السجود .
والتحوّل المنسوب إلى الله تعالى هنا عبارة عن إزالة تلك الصورة الأولى المتعوّذ منها وعن إظهاره تعالى وجوده المقدّس للمؤمنين ، فيكون قوله : (( وقد تحوّل حالاً )) متقدمة قبل سجودهم ، بمعنى . وقد كان تحوّل ؛ أي : حوّل تلك الصورة وأزالها ، وتجلّى هو بنفسه ، فيكون المراد بهذا الكلام . أن الحقّ سبحانه لمّا تجلّى لعباده المؤمنين أوّل مرة رأوه فيها لم يزل كذلك ، لكنهم انصرفوا عن رؤيته عند سجودهم ، ثم لَمّا فرغوا منه عادوا إلى رؤيته مرة ثانية .
وقوله في حديث أبي هريرة الأول : (( فيتبعونه )) ؛ أي : يتبعون أمره ، كما =(1/418)=@ يقال . اتبعت فلانًا على رأيه ، واتبعت أمره ؛ أي : انْقَدْتُ
إليه وامْتَثَلْتُه ، فيكون من باب الاستعارة . ويجوز أن تكون من باب حذف المضاف ؛ أي : يتبعون ملائكته &(1/299)&$(1/299)
ورسله الذين يسوقونهم إلى الجنة ، فكأنهم يتقدّمون بين أيديهم دلالة وخدمة وتأنيسًا ، والله أعلم .
تنبيه : اعلم أن الناس قد أكثروا في تأويلات هذه الأحاديث ، فمِن مبعدٍ ومن ومحوّم ، وما ذكرناه أحسنها وأقربها لمنهاج كلام العرب ، ولأنْ يكون هو المراد . ومع ذلك فلا نقطع بأنه هو المراد . والتحقيق أن يقال . الله ورسوله أعلم . والتسليم الذي كان عليه السلف أسلم ، لكن مع القطع بأن هذه الظواهر الواردة في الكتاب والسنة الموهمة للتجسيم والتشبيه يستحيل حملها على ظواهرها ؛ لما يعارضها من ظواهر أخر كما قد قرره أئمتنا في كتبهم ، ولما دلّ العقل الصريح عليه .
وقد أشرنا إلى نبذٍ من ذلك.
وقوله : (( ثم يضرب الصراط بين ظهري جهنم )) ، (( الصراط )) في
اللغة هو الطريق ، وفيه لغات الصاد والسين والزاي ، وهو ههنا الطريق من أرض المحشر إلى الجنة ، وهو منصوب على متن جهنم أرقّ من الشعر وأحدّ من السيف ، وهو المسمى بالجسر في الحديث الآخر(2).
و (( جهنّم )) اسم من أسماء النار التي يُعذَّب &(1/300)&$(1/300)
بها في الآخرة . قال الجوهري : هو ملحقٌ بالخماسي بتشديد الحرف الثالث منه ، ولا ينصرف للتعريف والتأنيث ، وهو فارسي معرَّب . وركية جِهِنَّامٌ ؛ أي : بعيدة القعر.
وقوله : (( فأكون أنا وأمتي أوّل من يُجيز )) بضمّ أوّله رباعيًا من ((أجاز)) ؛ =(1/419)=@ أي : يمضي عليه ويقطعه ، يقال : أجزت الوادي وجُزْتُه لغتان فصيحتان. وحُكي عن الأصمعي أنه قال : أجزته قطعته ، وجُزته مشيت فيه.
ويحتمل أن يقال إن الهمزة في (( أجاز )) هنا للتعدية من قولهم : أجيزي صوفة ؛ أي : أجزنا ، وذلك أن صوفة كان رجلاً معظمًا في قريش يُقتدى به في مناسك الحج ، فلا يجوز أحدٌ في شيء من مواقفه حتى يجوز ، ...................................................................
فكان الناس يستعجلونه فيقولون . أجِزْ صوفةُ ؛ أي : ابتدِئ بالجواز حتّى نجوز بعدك ، فكان يمنعهم بوقوفه ويجيزهم بجوازه ، ثمّ بقي ذلك في ولده فقيل للقبيلة أجيزي صوفة . فكذلك الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمّته على الصراط ، فلا يجوز أحد حتّى يجوز هو وأمّته ، فكأنّه يجيز الناسَ .
و (( دعوى الرسل )) : دعاؤها ، جاء بالمصدر مؤنّثًا .
وقوله : (( يومئذٍ )) إشارة إلى حين الجواز على الصراط ، وإلا ففي وقت آخر تجادل كلّ نفس عن نفسها .
و (( السَّعْدان )) : نبت كثير الشوك ، شوكه كالخطاطيف والمحاجن .
وقوله : (( لا يعلم ما قدر عظمها إلاّ الله )) ، قيّدناه عن بعض مشايخنا برفع الراء على أن تكون (( ما )) استفهامًا خبرًا مقدَّمًا ، و(( قدر )) مبتدأ ، وبنصبها على أن تكون ما زائدة ، و(( قدر )) مفعول (( يعلم )). &(1/301)&$(1/301)
وقوله : (( فمنهم الموبق بعمله المسيئ )) بالباء بواحدة من أسفل كذا للعذري ، ومعناه : الْمُهْلَك بعمله السيء ، وللطبري : (( الموثق )) بالثاء المثلثة من الوثاق ، وللسمرقندي : (( المؤمن )) يعني بعمله ، وكلها صحيح ، والأول أصحّها. =(1/420)=@
وروى العذري وغيره : (( ومنهم المخردل )) مكان (( المجازي )) ، ومعناه الذي تقطع الكلاليب لحمه ، يقال . خردلت اللحم خراديل ؛ أي : قطعت قطعًا ، وهو بالدال المهملة . وحكى يعقوب أنه قال بالدال المعجمة ، وهو أيضًا بالخاء بواحدة من فوق ، وقد قاله بعضهم بالجيم . و(( الجردلة )) الإشراف على لهلاك والسقوط فيه .
وقوله : (( حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد )) ؛ أي : تمم عليهم حسابهم وكمّله وفصل بينهم ، لا أن الله سبحانه يشغله شأن عن شأن ، يعني : إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، وشفع كل من له شفاعة . ألا ترى قوله : (( وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار )). واقتصاره على (( لا إله إلا الله )) ، ولم يذكر معها الشهادة بالرسالة ؛ إما لأنهما كما تلازمتا في النطق ، اكتفى بذكر إحداهما عن الأخرى ، وإما لأنه لَمّا كانت الرسل كثيرين ويجب على كل أحد أن يعترف برسالة رسوله ، كان ذكر جميعهم يستدعي تطويلاً ، فسكت عن ذكرهم ؛ علمًا بهم واختصارًا لذكرهم ، والله أعلم .
وقوله : (( قد امتَحَشوا )) ، صوابه بفتح التاء والحاء ، ومعناه . احترقوا ، يقال . امتحش الخبز ؛ أي : احترق ، ويقال . محشتْه النارُ وأمحشتْه ،
والمعروف =(1/421)=@ أمحشتْه . قال صاحب العين . وقد رواه بعضهم : (( امتُحِشوا )) مبنيًا لما لم يسم فاعله ؛ أي : أُحرِقوا ، والصواب الأول .
و (( الحُمم )) : الفحم ، واحده حممة .
و (( الحِبة ))- بكسر الحاء - : بزْر العشب ، و(( الحَبة ))- بفتحها : من الحنطة وغيرها مما يزرع .
و (( ماء الحياة )) : هو الماء الذي من شربه أو تطهر به لم يمت أبدًا .
و (( حميل )) : السيل هو ما يحمله من طين وغثاء ، فإذا اتفق أن تكون فيه حبة ، فإنها تنبت في يوم وليلة ، وهي أسرع نابتة نباتا ، فشبّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ سُرعة نبات أجسامهم بسرعة &(1/302)&$(1/302)
نبات تلك الحبة ، هذا معنى ما قاله
الإمام أبو عبد الله. وبقي عليه من التشبيه المقصود بالحديث نوع آخر دلّ عليه ما في حديث أبي سعيد ، حيث قال : (( ألا ترونها تكون إلى الحجر ما يكون منها إلى الشمس أصيفر وأخيضر ، وما يكون منها إلى الظلّ يكون أبيض )) ، وهو تنبيه على أن ما يكون إلى الجهة التي تلي الجنة منهم يسبق إليه البياض المستحسن . وما يكون منهم إلى جهة النار ، ...................................................
يتأخر ذلك النصوع عنه ، فيبقى أصيفر وأخيضر إلى أن يتلاحق البياض ويستوي الحُسْن والنور ونضارة النعمة عليهم .
ويحتمل أن يشير بذلك إلى أن ما يباشر الماء ، تشتدّ سرعةُ نصوعه ، وأنّ ما فوق ذلك يتأخر عنه البياض ، ولكنه يسري إليه سريعًا ، والله أعلم .
وقوله : (( ثم يفرغ الله من القضاء بين العباد ثانيًا )) ، يعني . يكمل خروجَ الموحدين من النار .
وقوله : (( قَشَبني ريحها )) ؛ أي : غيّر جلدي وصورتي وسوّدني وأحرقني ، قاله الحربي . وقال الخطابي . قشبه الدخانُ ، إذا ملأ خياشيمه وأخذ بكَظمه. =(1/422)=@ الجوهري . قشبني يقشبني ؛ أي : آذاني ، كأنه قال : سمّني ريحه . قال . والقشب السمُّ ، والجمع أقشاب عن أبي عمرو .
و (( ذكاء النار )) : شدة حرِّها بفتح الذال مقصور ، وهو المشهور . وقد حكى أبو حنيفة اللغوي فيه المد ، وخطأه علي بن حمزة ، وقد روى هنا بالوجهين ممدودا ومقصورًا .
وقوله : (( انفهقت له الجنة )) ؛ أي : اتسعت وانفتحت ، والمتفيْهِق .
المتوسع في كلامه المتكلِّف فيه .
وقوله : (( فيرى ما فيها من الخير )) ، كذا مشهور الرواية فيه ، وقد روي (( الحَبرة )) بالحاء المهملة مفتوحة والباء بواحدة ، وهي إفراط التنعم ، ومنه : { وهم في روضة يحبرون } ؛ أي : يُنعمون ويسرّون . والحِبر بكسر الحاء الذي يكتب به والعالم والجمال ، ومنه . ذهب حِبْره وسِبره ؛ أي : جماله وبهاؤه . =(1/423)=@ &(1/303)&$(1/303)
وقوله : (( فلا يزال يدعو الله حتى يضحكَ الله منه ، فإذا ضحك الله منه قال له : ادخل الجنة )) ، الضحك من خواص البشر ، وهو تغيُّرٌ أوْجَبَه سرورُ القلب بحصول كمال لم يكن حاصلاً قبل ، فتثور من القلب حرارةٌ ينبسط لها الوجهُ ، ويضيق عنها الفمُ ، فينفتح ، وهو التبسّم ، فإذا زاد ولم يضبط الإنسان نفسه قهقه . وذلك كله على الله محال لكن لما كان دلالة عندنا على الرضا ومظهرًا له غالبًا ، عُبّر عن سببه به ، وقد قالوا : تضحك الأرض من بكاء السماء ؛ أي : يظهر خيرها. وفي بعض الحديث : (( فيبعث الله سحابًا فيضحك أحسن
...................................................................
الضحك )) ؛ يعني . السحاب ، ومنه قولهم : ضحك الشيب في رأسه فبكى ، وقال في طعنة : تضحك عن نجيع. فالضحك في هذه المواضع بمعنى الظهور ، فيكون معناه في هذا الحديث : أن الله تعالى رضي ...................................................................
عن هذا العبد وأظهر عليه رحمتَه وفضلَه ونعمه ، وكذا حمله قوم هنا على أنّه تعالى تجلّى لهذا العبد وظهر له.
وقوله في الحديث الآخر : (( أتسخر مني )) ، وفي رواية : (( أتستهزئ مني )) ، =(1/424)=@ قد أكثر الناس في تأويله ، ومن أشبه ما قيل فيه أن هذا الرجل استخفّه الفرح وأدهشه ، فقال ذلك غير ضابط لما يقول ، كما جاء في
الحديث الآخر في الذي وجد راحلته وقد أشرف على الهلاك من العطش والجوع : (( اللهم أنت عبدي وأنا ربك )) ، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أخطأ من شدّة الفرح )).
وقيل : إنما قال هذا الرجل ذلك على جهة أنّه خاف أن يقابله على ما كان منه في الدنيا من التساهل في &(1/204)&$(1/304)
الطاعات والتشبه بأحوال الساخرين والمستهزئين ، فكأنه قال : أتجازيني على ما كان مني . وهذا كما قال تعالى : { الله يستهزئ بهم } ، و{ سخر الله منهم} ؛ أي : يجازيهم جزاء استهزائهم وسخريتهم على أحد التأويلات .
وقوله في حديث ابن مسعود : (( فيقول الله يا ابن آدم ما يصريني منك )) ، قال الحربي : إنّما هو (( ما يصريك منّي )) ، قال . يقال . صريتُ الشيء ، إذا قطعتُه . الجوهريّ . صرى الله عنه شره ، دفعه ، وصريته . منعته ، وصرى قوله صريا ، قطعه . =(1/425)=@
( 61 ) باب ما خُصَّ به نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الشفاعة العامة لأهل المحشر
151- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ : أُتِيَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَوْمًا بِلَحْمٍ ، فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ ، فَنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً ، فَقَالَ : (( أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَهَلْ تَدْرُونَ بِمَ ذاَكَ ؟ يَجْمَعُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأَوَّلِينَ
ومن باب ما خصّ به نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الشفاعة العامة
قوله : (( فنهس منها نهسة )) ، النهس بالسين المهملة أخذ اللحم بمقدم الأسنان ، وقد يقال عليه أيضًا نهش بالمثلثة ، حكاه الجوهري ، وقيل : النهش بالأضراس ، قاله أبو العباس ، وقال غيره . هو هرش اللحم. &(1/305)&$(1/305)
وقوله : (( أنا سيّد الناس )) ؛ أي : المقدم عليهم . و(( السيّد )) هو الذي يسود قومه ؛ أي : يفوقهم بما جمع من الخصال الحميدة ، بحيث يلجؤون إليه ويعوّلون عليه في مهماتهم ، قال :
فإن كنتَ سيِّدَنا سدتَنا وإن كنت للخال فاذهب فخِل
وقد تحقق كمال تلك المعاني كلها لنبيِّنا محمّد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك المقام الذي
وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ، فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ ، فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لا يُطِيقُونَ وَلا يَحْتَمِلُونَ ، فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ : أَلا تَرَوْنَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ ؟ أَلا تَرَوْن مَا قَدْ بَلَغَكُمْ ؟ أَلا تَنْظُرُونَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ ؟ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ : ائْتُوا آدَمَ ، فَيَأْتُونَ آدَمَ ، فَيَقُولُونَ : يَا آدَمُ ! أَنْتَ أَبُونَا ، أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ ،
يحمده ويغبطه فيه الأولون والآخرون ، ويشهد بذلك النبيُّون والمرسلون .
وهذه حكمة عرض الشفاعة على خيار الأنبياء ، فكلّهم تبرّأ منها . ودلّ على غيره ، إلى أن بلغت محلّها ، واستقرَّت في نصابها .
ومحبّة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للذراع ؛ لنضج لحمها وسُرعة استمرائها وزيادة =(1/426)=@ لذتها ، ولبعدها عن موضع الأتفال .
و (( الصعيد )) : المستوى من الأرض. (( الثرى )) : هو التراب . ثعلب : هو وجه الأرض .
وقوله : (( فيسمعهم الداعي وينفُذهم البصر )) ، معناه أنهم مجتمعون مهتمُّون بما هم فيه لا يخفى منهم أحد ، بحيث إن دعاهم داعٍ سمعوه ، وإن نظر إليهم ناظر أدركهم . ويحتمل أن يكون الداعي هو الذي يدعوهم إلى العرض والحساب أو أمر آخر ، كقوله تعالى : { يوم يدع
خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ ، وَأَمَرَ الْمَلائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ ، أَلا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ ؟ أَلا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا ؟ فَيَقُولُ آدَمُ : إِنَّ رَبِّي- عَزَّ وَجَّلَّ- قَد غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ ، وَإِنَّهُ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ ، نَفْسِي ، نَفْسِي ، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي ، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ . فَيَأْتُونَ نُوحًا ، فَيَقُولُونَ : يَا نُوحُ ! أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى الأَرْضِ ، وَسَمَّاكَ اللهُ عَبْدًا شَكُورًا ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنا ، أَلا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ ؟ أَلا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا ؟ فَيَقُولُ لَهُمْ : إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ ،
الداع إلى شيء نكر }.
وقوله : (( خلقك الله بيده )) ، اعلم أنّ الله منزّه عن يد الجارحة كما قدمناه . واليد في كلام العرب تطلق على القدرة والنعمة والملك . والأليق هنا حمْلُها على القدرة ، وتكون فائدة الاختصاص لآدم أنّه تعالى خلقه &(1/306)&$(1/306)
بقدرته ابتداءً من غير سبب ولا واسطة خلق ولا أطوار قلبه فيها ، وذلك بخلاف غيره من ولده ، ويحتمل أن يكون شرّفه بالإضافة إليه ،
وَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُ بِهَا عَلَى قَوْمِي ، نَفْسِي ، نَفْسِي ، اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ . فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ : أَنْتَ نَبِيُّ اللهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ ، أَلا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ ؟ أَلا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا ؟ فَيَقُولُ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ : إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا ، لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ - وَذَكَرَ كَذَبَاتِهِ - ، نَفْسِي.. نَفْسِي ، اذْهَبُوا إِلَى
كما قال : { بَيْتِيَ }. وقد قدّمنا أن التسليم في المشكلات أسلم.
وقوله : (( ونفخ فيك من روحه )) ، (( الروح )) هنا هو المذكور في قوله {تنزّل =(1/427)=@ الملائكة والروح } ، و{ نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } ، وشرّفه بالإضافة كما قال : { فنفخنا فيها من روحنا } ؛ أي : كان كل واحد منهما من نفخة الملك وهو جبريل على قول أكثر المفسرين ، فصار المنفوخ فيه ذا روح من ريح نفخته ، ولا يلتفت إلى ما يقال غير هذا .
غَيْرِي ، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى . فَيَأْتُونَ مُوسَى ، فَيَقُولُونَ : يَا مُوسَى ! أَنْتَ رَسُولُ اللهِ ، فَضَّلَكَ اللهُ - بِرِسَالاتِهِ وَبِتَكْلِيمِهِ- عَلَى النَّاسِ ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ . أَلا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ ؟ أَلا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا ؟ فَيَقُولُ لَهُمْ مُوسَى : إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا ، لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ ، وَإِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا ، نَفْسِي .. نَفْسِي ،
وقد تقدم أنّ غضب الله عبارة عن انتقامه وحلول عذابه.
و (( الشفاعة )) أصلها الضم والجمع ، ومنه ناقة شَفُوع ، إذا جمعت بين محلبين في حلبة واحدة ، وناقة شافع ، إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعهما . و(( الشفع )) : ضمُّ واحدٍ إلى واحدٍ . و(( الشفعة )) : ضمُّ ملك الشريك إلى ملكك . و(( الشفاعة )) إذًا ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك ، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفِّع وإيصال منفعةٍ إلى المشفوع له ، وسيأتي ذكر أقسامها .
و (( الشكور )) : الكثير الشكر ، وهو من أبنية المبالغة ، وأصل الشكر الظهور ، ومنه دابة شَكور ، إذا كانت يظهر عليها من السمن فوق ما تأكله من العلف ، واشتكر الضرع ، إذا ظهر امتلاؤه باللبن ، والسماء بالمطر ، فكأنّ الشاكر يظهر القيام بحق المنعم ، ولذلك قيل : الشكور هو
اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي ، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى . فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُونَ : يَا عِيسَى! أَنْتَ رَسُولُ اللهِ ، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ ، وَكَلِمَةٌ مِنْهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ، وَرُوحٌ مِنْهُ ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ ، أَلا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ ؟ أَلا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا ؟ فَيَقُولُ لَهُمْ عِيسَى : إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ غَضَبًا ، لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ . وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ ذَنْبًا ، نَفْسِي.. نَفْسِي . اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي . اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فَيَأْتُونِّي ، فَيَقُولُونَ : يَا مُحَمَّدُ ! أَنْتَ رَسُولُ اللهِ ، وَخَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ ، وَغَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ،
الذي ظهر منه الاعتراف بالنعمة ، والقيام بالخدمة ، وملازمة الحرمة. =(1/428)=@ &(1/307)&$(1/307)
وقوله : (( كانت لي دعوة دعوت بها على قومي )) ، يريد به قوله : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا }.
و (( إبراهيم )) بالسريانية هو الأب الرحيم ، حكاه المفسرون .
و (( الخليل )) : الصديق المخلص ، والخُلَّة بضم الخاء الصداقة والمودة ، ويقال أيضًا فيها . خلالة بالضم والفتح والكسر ، والخَلة بفتح الخاء . الفقر والحاجة ، والخِلة بكسرها واحدة خِلل السيوف وهي بطائن أغشيتها ، والخلل الفرجة بين الشيئين ، والجمع الخلال .
واختُلِف في الخليل اسم إبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أي هذه المعاني والألفاظ
...................................................................
أُخذ ، فقيل : إنّه مأخوذ من الخُلّة بمعنى الصداقة ، وذلك أنه صدق في محبة الله وأخلص فيها حتى آثر محبته على كل محبوباته ، فبذل ماله للضيفان وولده للقربان ، وجسده للنيران . وقيل : من الخَلَّة التي بمعنى الفقر والحاجة ، وذلك أنه افتقر إلى الله في حوائجه ولجأ إليه في فاقاته ، حتى لم يلتفت إلى غيره ، بحيث آلت حاله إلى أن قال له جبريل وهو في الهواء حين رمي في المنجنيق : ألك حاجة ؟ فقال : أمّا إليك ، فلا. وقيل : من الْخَلَل بمعنى الفرجة بين الشيئين ، وذلك لما تخلل قلبه من معرفة الله ومحبته ومراقبته ، حتى كأنه مُزجت أجزاء قلبه بذلك . وقد أشار إلى هذا المعنى بعض الشعراء ، فقال :
قد تخللت مسلك الروح مني ولذا سمي الخليل خليلاً
ولقد جمع هذه المعاني وأحسن من قال في الخلة : إنها صفاء المودّة
...................................................................
التي توجب الاختصاص بتخلل الأسرار ، والغنى عن الأغيار .
وقوله : (( إنما كنت خليلاً من وراء وراء )) ؛ أي : إنما كنت خليلاً متأخرًا عن =(1/429)=@ غيري ؛ إشارة إلى أن كمالَ الخلّة ، إنما تصح لمن يصحّ له في ذلك اليوم المقام المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون ، وذلك لم يصح ولا يصح إلاَّ لنبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
(( وراءَ وراءَ )) صحيح الرواية فيه بالمد والفتح في الهمزتين وكأنه مبني على الفتح ؛ لتضمنه الحرف ، كما قالت العرب : هو جاري بيتَ بيتَ ؛ أي : بيته إلى بيتي ، فكأنه قال في الحديث : من وراء إلى وراء . ونحوه : خمسة عشر ، وسائر الأعداد المركبة، &(1/308)&$(1/308)
ومنه قولهم : هي همزة بين بين ، وآتيك صباح مساء ، ويوم يوم ، وتركوا البلاد حيثَ بيث وجاث باث ونحو ذلك .
وقد زعم بعض النحويين المتأخرين أن الصواب الضم فيهما ، واستدلّ على ذلك بما أنشده الجوهري في "الصحاح" :
إذا أنا لم أُومن عليك ولم يكُن لِقاؤُكَ إلاَّ من وَراءُ وراءُ
قلت : ولا شك أن السماع في هذا البيت بالضم فيهما ، ووجهه ما نبّه عليه الأخفش ؛ حيث قال : يقال : لقيته من وراءٌ فترفعه على الغاية ، كقولك : من قبلُ ومن بعدُ ، فنبّه على أن : وراء الأول ، إنما بنيت لقطعها عن الإضافة ، وأما الثانية : فيحتمل أن يكون كالأولى على تقدير حذف (( من )) لدلالة الأولى عليها ، ويحتمل أن تكون الثانية تأكيدًا لفظيًّا للأولى. ويجوز أن تكون بدلاً منها ، أو عطف بيان عليها . كما قالوا : يا نصرُ نصرٌ على تكلف .
وقد وجدت في أصل شيخنا أبي الصبر أيوب بن محمد الفهري السبتي : مِن وراءَ ، مِن وراءَ بتكرار (( مِن )) وفتح الهمزتين . وكان رحمه الله قد اعتنى بهذا الكتاب غاية الاعتناء ، وقيده تقييدًا حسنًا .
ولا يصح أن يقال : إن ذلك بناء على الوجه الأول ، لوجود من المضمنة في الوجه الأول ، وإنما تحمله على أن (( وراء )) قطعت عن الإضافة ، ولم يقصد قصد مضاف بعينه ، فصارت كأنها اسم علم ، وهي مؤنثة ، فيجتمع فيها =(1/430)=@ التعريف والتأنيث ، فتمتنع من الصرف . وإنما قلنا : إن ((وراء )) مؤنثة ؛ لما قال الجوهري : إنها مؤنثة لأنهم قالوا في تصغيرها : وُريِّئة. وعلى هذا فهمزتها ليست للتأنيث ، ولأن همزة التأنيث لا تقع ثالثة . وقد وجدت في بعض المعلقات بخط معتبر. قال الفراء : تقول العرب : فلان يكلمني من وراءَ وراءَ ، بالنصب على الظرف ، ومن وراءُ وراءُ ، يجعل الأولى ظرفًا والثانية غاية . ومن وراءُ وراءُ تجعلهما غايتين. ومِن وراءِ وراءُ تضيف الأولى إلى الثانية وتمنع الثانية من الجر . ومن وراءِ وراءِ على البناء . وحكى ثعلب عن بعض الناس : أنهم قالوا : من وراءٌ وراءٌ بالتنوين فيهما .
وقوله : (( وذكر كذباته )) قد فسّرها في الرواية الأخرى بما ليست كذبًا على التحقيق ، ونحن نذكرها ونبيّنها إن شاء الله . فمنها قوله في الكوكب: &(1/309)&$(1/309)
{هذا ربي}، ذكر المفسرون أنّ ذلك كان منه في حال الطفولية في أول حال استدلاله ، ثم إنه لَمّا كمُل له النظر وتمّ على السداد وضح له الحق ، فقال : { وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا}.
قلت : وهذا لا يليق بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ؛ لأن الله تعالى خصهم بكمال العقل والمعرفة بالله عز وجل ، وسلامة الفطرة والحماية عن الجهل بالله تعالى والكفر من أول نشوئهم وإلى تناهي أمرهم ، إذ لم يُسمع عن واحد منهم أنه اعتقد مع الله إلَهًا آخر ، ولا اعتقد محالاً على الله تعالى ، ولا ارتكب شيئًا من قبائح أممهم الذين أرسلوا إليهم ، لا قبل النبوة ولا بعدها . ولو كان شيء من ذلك لقَرَّعهم بذلك أممهم لَمَّا دعوهم إلى التوحيد ، ولاحتجوا عليهم بذلك ، ولم ينقل شيء من ذلك . وأما بعد إرسالهم فكل ذلك محال عليهم عقلاً على ما نبينه. =(1/431)=@
وقيل : إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال ذلك لقومه مستفهمًا لهم على جهة التوبيخ لهم
والإنكار عليهم ، وحذفت همزة الاستفهام على ما تفعله العرب اتساعًا ، كقولهم :
لعمرك ما أدري وإني لحاسب بسبعٍ رميتُ الجمرَ أم بثمانٍ
وقال آخر :
رموني وقالوا : يا خويلد لم ترع فقلت : وأنكرت الوجوه هُم هُم
أي : أهم هم ؟ وقيل : إنما قال ذلك على طريق الاحتجاج على قومه ؛ تنبيهًا على أن ما يتغير لا يصلح للربوبية .
ومنها قوله لآلهتهم : { بل فعله كبيرهم } ، وهذا إنما قاله ؛ ممهدًا للاستدلال على أنها ليست بآلهة ، وقطعا لقومه في قولهم إنها تضرُّ وتنفع . وهذا الاستدلال والذي قبله يتحرّر في الشرطي المتصل، ولذلك أردف على قوله : { بل فعله كبيرهم }(1) ، قوله : {فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ}، &(1/310)&$(1/310)
فعند ذلك قالوا : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ ... } الآية ، فحقت كلمته وظهرت حجته. =(1/432)=@
ومنها قوله {إِنّي سَقِيمٌ} ، هذا تعريض، وحقيقته أنه سيسقم ، واسم الفاعل بمعنى المستقبل كثير ، ويحتمل أن يريد به أنه سقيم الحجة على الخروج معكم ؛ إذ كان لا يصح على جواز ذلك حجة.
ومنها ما جاء في حديث إبراهيم أنّه قال لزوجه سارة حين دخل في أرض الجبار فسئل عنها ، فقال. إنها أختي. وصدق ، هي أخته في دينه ، وكذلك جاء منصوصًا عنه أنّه قال لها . أنتِ أختي في الإسلام.
وعلى الجملة فأوجه هذه ألأمور واضحة وصدقها معلوم على الأوجه المذكورة ، فليس في شيء منها ما يقتضي عتابًا ولا نقصًا ، لكن هول
ذلك المقام وشدة الأمر حمله على الخوف منها ، وأيضًا فلنتبيّن درجة من يقول . نفسي نفسي من درجة من يقول . أمتي أمتي .
و (( موسى )) سمي بذلك ؛ لأنه وجد بين موشِي بالعبرية ؛ أي : الماء والشجر فعرب ، والجمع موسَون وموسَيْن عند البصريين ، وموسُون وموسِين عند الكوفيين.
وقوله : (( فضلك الله برسالاته وبتكليمه )) هذا إشارة إلى قوله تعالى : { إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلامي } ، ولا خلاف بين أهل السنة في أن موسى سمع كلام الله الذي لا يشبه كلام البشر الذي ليس بصوت ولا حرف ، ولو سمعه بالحرف والصوت لما صحّت خصوصية الفضيلة لموسى بذلك ؛ إذ قد سمع كلامه تعالى بواسطة الحرف والصوت المشرِك، كما &(1/311)&$(1/311)
قال تعالى : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } ، واستيفاء الكلام على هذه المسألة سؤالاً وجوابًا في علم الكلام. =(1/433)=@
وقوله : (( وكلَّمتَ الناسَ في المهد )) ؛ أي : صغيرًا في الحال الذي يمهد له فيه موضعه ليضجع عليه لصغره .
وقوله : (( وكلمة منه )) ، قال ابن عباس : سماه كلمة ؛ لأنه كان بكلّمة (( كن )) من غير أن يتقلب في أطوار الخلق كما تقلّب غيره . وألقاها إلى مريم ؛ أي : أبلغها إليها . وقد تقدم الكلام في وصفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنه روح الله .
وقوله : (( وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر )) ، اختلف الناس في عصمة الأنبياء من الذنوب اختلافا كثيرا . والذي ينبغي أن يقال إنّ الأنبياء معصومون مما يناقض مدلولَ المعجزة عقلاً ، كالكفر بالله تعالى والكذب عليه ، والتحريف في التبليغ والخطأ فيه ، ومعصومون عن الكبائر وعن الصغائر التي تزْري بفاعلها ، وتحطّ منزلته وتسقط مروءته إجماعًا عند القاضي أبي بكر وعند الأستاذ أبي بكر أن ذلك مقتضى دليل المعجزة . وعند المعتزلة أن ذلك مقتضى دليل العقل على أصولهم .
واختلف أئمتنا في وقوع الصغائر منهم ، فمِن =(1/434)=@ قائل بالوقوع ومِن قائل بمنع ذلك . والقول الوسط في ذلك أن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم ونسبها إليهم وعاتبهم عليها ، وأخبروا بها عن نفوسهم وتنصلوا منها واستغفروا وتابوا . وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا &(1/312)&$(1/312)
تقبل التأويلات بجملتها ، وإن قبل ذلك آحادها .
لكن الذي ينبغي أن يقال : إنّ الذي أضيف إليهم من الذنوب ليس من قبيل الكبائر ولا مما يُزري بمناصبهم على ما تقدم ، ولا كثر منهم وقوع ذلك ، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم وعوتبوا عليها يخف أمرها بالنسبة إلى غيرهم ، وإنما عُدّت عليهم وعوتبوا عليها بالنسبة إلى مناصبهم وإلى علو أقدارهم ؛ إذ قد يؤاخذ الوزير بما يُثاب عليه السائس. ولقد أحسن الجنيد حيث قال. حسنات الأبرار سيئات المقربين ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ ؟ أَلا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا ؟ فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي ، ثُمَّ يَفْتَحُ اللهُ عَلَيَّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ لأَحَدٍ قَبْلِي ، ثُمَّ قَالُ : يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ ، سَلْ تُعْطَهِ ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ . فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ : يَا رَبِّ ! أُمَّتِي .. أُمَّتِي . فَيُقَالُ : يَا مُحَمَّدُ! أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِكَ ، مَنْ لا حِسَابَ
فهم وإن كانوا قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم ، فلم يُخِلّ ذلك بمناصبهم ، ولا قدح ذلك في رتبهم ، بل قد تلافاهم واجتباهم وهداهم ، ومدحهم وزكّاهم واختارهم واصطفاهم - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - إلى يوم الدين . والكلام على هذه المسألة تفصيلا يستدعي تطويلا ، وفيما ذكرناه كفاية ، والله الموفق للهداية .
وقوله : (( فأنطلق فآتى تحت العرش فأقع ساجدًا )) ، قد زاد عليه في حديث أنس : (( فأنطلق فأستأذن على ربي فيؤذن لي ، فأقوم بين يديه فأحمده بمحامد ، ثم أخِرّ =(1/435)=@ ساجدًا )). وبمجموع الحديثين يكمل المعنى ، وتُعلم مراعاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لآداب الحضرة العليّة .
ثم اعلم أن هذا الانطلاق من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما هو إلى جنة الفردوس التي
عَلَيْهِ ، مِنَ الْبَابِ الأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَبْوَابِ . وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ! إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ لَكَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرٍ . أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى )).
زَادَ فِي رِوَايَة - فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ - قَالَ : (( وَذَكَرَ قَوْلَهُ فِي الْكَوْكَبِ : {هَذَا رَبِّي } وَقَوْله لآلِهَتِهِمْ : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } وَقَوْله : { إِنِّي سَقِيمٌ} )).
هي أعلى الجنة ، وفوقها عرش الرحمن كما جاء في الصحيح ؛ بناء على أن لا محل هنالك إلا الجنة والنار ، وعلى أنّ العرش محيط بأعلى الجنة ، والله أعلم .
ولا شكّ أن دخول هذا المحلّ الكريم لا بد فيه من استئذان الخزنة ، وعن هذا عبّر بقوله : (( فأستأذن على ربي )) ، ولا يُفهم من هذا ما جرت به عادتنا من أن المستأذَن عليه قد احتجب بداره وأحاطت به &(1/313)&$(1/313)
جهاته ، فإذا استؤذن عليه فأذِن ، دخل المستأذن معه فيما أحاط به ؛ إذ كل ذلك على الله محال ، فإنه منزّه عن الجسمية ولوازمها على ما تقدم.
وَفِي أُخْرى : (( فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ : لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ . إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلاً مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ )) . وَفِيْها : (( فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا . فَيَقُومُ فَيُؤْذَنُ لَهُ. وَتُرْسَلُ الأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ ، فَيَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالاً فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ )) قَالَ : قُلْتُ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ! أَيُّ شَيْءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ ؟
و (( العرش )) في أصل اللغة الرفع ، ومنه قوله تعالى : { معروشات وغير معروشات } ؛ أي : مرفوعات القضبان ، قاله ابن عباس ، أو مرفوعات الحيطان على قول غيره ، ومنه سمي السرير وسقف البيت عريشًا ، ويقال : لما يُستظَلُّ به عرْش وعريش ، وإضافته إلى الله على جهة الملك أو التشريف ، لا لأنّ الله استقرّ عليه أو استظلّ به كما قد توهمه بعض الجُهّال في الاستقرار ، وذلك على الله محال ؛ إذ تستحيل عليه الجسمية ولواحقها.
قَالَ : (( أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ ؟ ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ ، وَشَدِّ الرِّجَالِ . تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ ، وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ : يَا رَبِّ ! سَلِّمْ .. سَلِّمْ . حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ ، حَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فَلا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلا زَحْفًا . قَالَ : وَفِي حَافَتَيِ الصِّرَاطِ كَلالِيبُ مُعَلَّقَةٌ ، مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ . فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ وَمَكْردسٌ فِي النَّارِ )). وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ ! إِنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ لَسَبْعُونَ خَرِيفًا .
152- ورُويَ أيْضًا عَنْ حُذْيفَة .
تنبيه : في حديث أبي هريرة أن المحامد كانت بعد السجود ، وفي حديث أنس قبل السجود في حال القيام ، وذلك يدل على أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكثر من التحميد والثناء في هذا المقام كله في قيامه وسجوده إلى أن أسعف في طلبته . =(1/436)=@
وقوله : (( فأقول يا ربِّ أمتي أمتي ، فيقال . يا محمدُ ، أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه )) ، هذا يدل على أنه شفع فيما طلبه من تعجيل حساب أهل الموقفِ ، فإنه لما أُمِر بإدخال من لا حساب عليه من أمته ، فقد شُرِع في حساب من عليه حِساب من أمته وغيرهم ، ولذلك قال في الرواية الأخرى : (( فيؤذن له وتُرسَل الأمانة والرحم ، فيقومان جنبتي الصراط )). وهذا المساق أحسن من مساق حديث معبد عن أنس(3) ، فإنه ذكر فيه عقيب استشفاعه لأهل الموقف أنه أجيب &(1/314)&$(1/314)
بشفاعته لأمته ، وليست الشفاعة العامة التي طلب منه أهل الموقف . وكأن هذا الحديث سُكِت فيه عن هذه الشفاعة وذُكِرت شفاعته لأمته ؛ لأن هذه الشفاعة هي التي طلبت من أنس أن يحدّث بها في ذلك الوقت ، وهي التي أنكرها أهل البدع ، والله أعلم .
قال القاضي عياض : شفاعات نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم القيامة أربعٌ .
الأولى : شفاعته العامة لأهل الموقف ؛ ليعجِّل حسابهم ويُراحوا من هول موقفهم ، وهي الخاصة به ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
الثانية : في إدخال قوم الجنة دون حساب .
الثالثة : في قوم من موحدي أمته استوجبوا النار بذنوبهم ، فيخرجون من النار ويدخلون الجنة بشفاعته ، وهذه الشفاعة هي التي أنكرتها المبتدعةُ الخوارج والمعتزلة ، فمنعتها على أصولهم الفاسدة ، وهي الاستحقاق العقلي المبني على التحسين والتقبيح العقليَّيين ، وتلك الأصول قد استأصلها أئمتنا في كتبهم ، ثم أنها مضادة لأدلة الكتاب والسنة الدالة على وقوع الشفاعة في الآخرة . ومن تصفح الشريعة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وابتها لهم إلى الله تعالى في الشفاعة علم على الضرورة صحة ذلك وفساد قول من خالف في ذلك .
الرابعة : في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها وترفيعها. =(1/437)=@
وقوله : (( أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه )) ، يعني به- والله أعلم- &(1/315)&$(1/315)
: السبعين ألفًا الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون.
والباب الأيمن هو الذي عن يمين القاصد إلى الجنة بعد جواز الصراط - والله أعلم - ، وكأنه أفضل الأبواب .
وقوله : (( وهم شركاء الناس في سائر الأبواب )) ، يحتمل أن يعود الضمير إلى الذين لا حساب عليهم ، وهو الظاهر ويكون معناه أنهم لا يلجأون إلى الدخول من الباب الأيمن ، بل من أي باب شاؤوا ، كما جاء(3) في حديث أبي بكر ، حيث قال : فهل على من يدعى من تلك الأبواب
من ضرورة ؟ ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا ، وأرجو أن تكون منهم )). وكما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيمن أسبغ الوضوء وهلّل بعده : (( أدخله الله الجنة من أي أبواب الجنّة الثمانية شاء )). ويحتمل أن يعود على الأمة ، وفيه بعد.
و (( المصْرَعان )) : ما بين عضادتي البابين ، والباب الغلقُ .
وقوله : (( لكما بين مكة وهجر )) ، أو كما بين مكة وبصرى ، يحتمل أن =(1/438)=@ يكون شكًّا من بعض الرواة ، ويحتمل أن يكون تنويعًا ، كأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : إذا رُؤِيَ(5) ما بينهما ، قدره رأءٍ بكذا ، وقدّره آخر بكذا ، ويصح أن يقال . سلك بها مسلك التخيير ، فكأنه قال . قدِّروها إن شئتم بكذا وإن شئتم بكذا .
وقوله : (( تجري بهم أعمالهم )) ، يعني أن سرعة مرّهم على الصراط بقدر أعمالهم ، ألا تراه كيف قال : (( حتى تعْجِز أعمال العباد )) ، و(( شدّ الرجال )) : جريهم الشديد " ، جمع رجل . وعند ابن ماهان (( الرحال )) بالحاء المهملة ، وكأنه سُميت الراحلة بالرحْل ثم جمع ، يريد : كجري الرواحل ، وفيه بعد .
و (( الزحْف )) مشي &(1/316)&$(1/316)
الضعيف ، يقال . زحف الصبي يزحف على الأرض قبل أن يمشي ، وزحف البعيرُ إذا أَعْيَي فَجَرَّ فِرْسِنَه .
و (( الكلاليب )) جمع كَلُّوب على فَعُّول ، نحو =(1/439)=@ سَفُّود ، وهي التي سمّاها فيما تقدم : (( خطاطيف )).
و (( مكردس )) بمعنى : مكدوس ، يقال . كرْدس الرجل خَيْلَهُ إذا جمعها كراديس ؛ أي : قطعًا كبارًا . ويحتمل أن يكون معناه المكسور فقار الظهر . ويحتمل أن يكون من الكردسة ، وهو الوثاق ، يقال . كُرْدِسَ الرجلُ ، جُمعت يداه ورجلاه ، حكاه الجوهري .
وقوله : (( لسبْعون خريفًا )) ، تفسيره في الحديث الآخر ؛ إذ قال : ((إن الصخرة العظيمة لتلقي في شفير جهنّم ، فيهوي فيها سبعين عامًا )). و(( الخريف )) : أحد فصول السنة ، وهو الذي تخترف فيه الثمار ، والعرب تذكره كما تذكر المساناة والمشاهرة ، يقال : عاملته مُخَارَفَةً ؛ أي : إلى الخريف. والأجود رفع (( لسبعون )) على الخبر ، وبعضهم يرويه : ((لسبعين )) يتأوّل فيه الظرف ، وفيه بعد . =(1/440)=@ &(1/317)&$(1/317)
( 61 ) باب شفاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن أدخل النار من الموحدين
153- عَنْ مَعْبَدِ بْنِ هِلالٍ الْعَنَزِيُّ ؛ قَالَ : انْطَلَقْنَا إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَتَشَفَّعْنَا بِثَابِتٍ . فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي الضُّحَى . فَاسْتَأْذَنَ لَنَا ثَابِتٌ . فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ ، وَأَجْلَسَ ثَابِتًا مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ . فَقَالَ لَهُ : يَا أَبَا حَمْزَةَ ! إِنَّ إِخْوَانَكَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَسْأَلُونَكَ أَنْ تُحَدِّثَهُمْ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ . فَقَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ، مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ لَهُ : اشْفَعْ لِذُرِّيَّتِكَ . فَيَقُولُ : لَسْتُ لَهَا ،
ومن باب شفاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن أدخل النار من الموحدين
قوله : (( فيقال انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبةٍ من برّة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منها ، إلى أن قال : (( أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان )) ، اختلف الناس في هذا الإيمان المقدّر بهذه المقادير ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ ، فَإِنَّهُ خَلِيلُ اللهِ . فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ ، فَيَقُولُ : لَسْتُ لَهَا ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى ، فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللهِ . فَيُؤْتَى مُوسَى ، فَيَقُولُ : لَسْتُ لَهَا ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى ، فَإِنَّهُ رُوحُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ ، فَيُؤتَى عِيسَى ، فَيَقُولُ : لَسْتُ لَهَا ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ . فَأُوتَى فَأَقُولُ : أَنَا لَهَا .
فمنهم من قال : هو &(1/318)&$(1/318)
اليقين ، ورأى أنّ العلم يصحّ أن يقال فيه أنه يزيد باعتبار توالي أمثاله على قلب المؤمن ، وباعتبار دوام حضوره ، وأنّه ينقص بتوالي الغفلات على قلب المؤمن . =(1/441)=@ وهذا معقول ، غير أنّ حمْلَ هذا الحديث عليه فيه بعدٌ ؛ لما جاء من حديث أبي سعيد ، حيث قال الشافعون : (( لم نذر فيها خيرًا )) ؛ مع أنه تعالى يخرج بعد ذلك جموعًا أَنْطَلِقُ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي ، فَيُؤْذَنُ لِي ، فَأَقُومُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لا أَقْدِرُ عَلَيْهِ إلا أنَ يُلْهِمُنِيهِ اللهُ ، ثُمَّ أَخِرُّ له سَاجِدًا. فَيُقَالُ لي : يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ ، قُلْ يُسْمَعْ لَكَ ، وَسَلْ تُعْطَ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ . فَأَقُولُ : يَا رَبِّ! أُمَّتِي .. أُمَّتِي ، فَيُقَالُ : انْطَلِقْ فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ بُرَّةٍ أَوْ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنْهَا . فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ . ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَى رَبِّي فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا . فَيُقَالُ لِي : يَا مُحَمَّدُ ! ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ ، وَسَلْ تُعْطَهْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ . فَأَقُولُ : يَا رَبَّ ! أُمَّتِي .. أُمَّتِي . فَيُقَالُ لِي انْطَلِقْ فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ
كثيرة ممن يقول : لا إله إلا الله وهم مؤمنون قطعًا ، ولو لم يكونوا مؤمنين ، لما خرجوا بوجهٍ من الوجوه ، ولذلك قال تعالى : (( لأُخرّجن من قال لا إله إلا الله )). وعن إخراج هؤلاء عبّر بقوله : (( فيقبض قبضةً فيخرج قومًا لم يعملوا خيرًا قط )) ، فإذًا الأصحّ في هذا الحديث أن يكون الإيمان هنا أطلق على أعمال القلوب ، كالنية والإخلاص والخوف والنصيحة وشبه ذلك من أعمال القلوب ، وسمّاها إيمانًا ؛ لكونها في محل الإيمان أو عن الإيمان ، على عادة العرب في تسمية الشيء باسم الشيء إذا جاوره ، أو كان منه بسبب .
وإنما قلنا . أراد به أعمال القلوب هنا دون أعمال الأبدان ، لقوله من كان في قلبه ، ووجدتم في قلبه ، فخصّه بالقلب ، ولا جائز أن يكون التصديق على ما تقدّم ، فتعيّن ما قلناه ، والله أعلم .
مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنْهَا . فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ . ثُمَّ أَعُودُ إِلَى رَبِّي فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا. فَيُقَالُ لِي : يَا مُحَمَّدُ ! ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ ، وَسَلْ تُعْطَهْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، فَأَقُولُ : يَا رَبِّ ! أُمَّتِي .. أُمَّتِي. فَيُقَالُ لِي : انْطَلِقْ فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِنْ مِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ . فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ )) .
وذكر الحبّة ونصفها والمثقال ونصفه وأدنى من ذلك ، هي كلها عبارات عن كثرة تلك الأعمال وقلتها. =(1/442)=@ &(1/319)&$(1/319)
وقوله : (( وعزتي وكبريائي وعظمتي )) ، (( العزّة )) : القوة والغلبة ، ومنه : { وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ } ؛ أي : غلبني ، ويقال أيضًا : عزَّ الشيء إذا قلّ ، فلا يكاد يوجد مثله ، يعِزّ عِزًّا وعزازة ، وعزّ يعِزُّ عزَّةً ، إذا صار قويًّا بعد ضعف وذلَّةً ، فعزّة الله تعالى قهره للجبابرة وقوَّته الباهرة ، وهو مع ذلك عديم المثل والنظير ، { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}.
وأما (( الكبرياء )) و(( الكِبر ))، فكلاهما مصدر كَبر في نفسه يكبر ، وأصله من كِبَر السن وكِبَر الجرم ، لكن صار ذلك بحكم عُرف الاستعمال عبارة عن حصول كمال لذات يستلزم ترفيعا لها على الغير . ومن هنا كان الكبر قبيحًا ممنوعًا في حقنا ، واجبًا في حق الله. وبيانه أنَّ
هَذَا حَدِيثُ مَعْبَد عَنْ أَنَسٍ ، وَزَادَ الْحَسَنِ عَنْهُ : (( ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَى رَبِّي فِي الرَّابِعَةِ ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا ، فَيُقَالُ لِي : يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ ، وَسَلْ تُعْطَ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، فَأَقُولُ : يَا رَبِّ! ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ : لا إِلهَ إِلا اللهُ . قَالَ : لَيْسَ ذَلكَ لَكَ - أَوْ قَالَ : لَيْسَ ذلكَ إِلَيْكَ - وَلَكِنْ وَعِزَّتِي ! وَكِبْرِيَائِي ! وَعَظَمَتِي! وَجِبْرِيَائِي ! لأُخْرِجَنَّ مَنْ قَالَ : لا إِلهَ إِلا اللهُ )) .
الكمال الحقيقيَّ المطلق لا يصحّ إلا لله تعالى ، وكمال غيره إنما هو عرضيّ نسبيّ ، فإذا وصَف الحقَُ نفسَه بالكِبَر ونسبه إليه ، كانت النسبة حقيقيَّةً في حقه ؛ إذ لا أكملَ منه ولا أرفعَ ، فكلّ كاملٍ ناقص ، وكل رفيع محتقر بالنسبة إلى كماله وجلاله .
و (( العظمة )) بمعنى الكبرياء ، غير أنها لا تستدعي غيرًا يُتَعاظم عليه كما يستدعيه الكِبْر على ما بيّنا ، وأيضًا فقد يُستعمل الكبير فيما لا يُستعمل فيه العظيم ، فيقال . فلان كبير السنِّ ، ولا يقال . عظيم السن .
وقوله : (( وجِبريائي )) بكسر الجيم ، فمعناه : يجبرونني ، و(( الجبّار )) :
العظيم =(1/443)=@ الشأن الممتنع على من يرومه ، ومنه نخلة جبّارة إذا فامت الأيدي طولا ، يقال منه . جبّار بيِّن الجبرية والجبروَّة والْجُبُورة والْجَبُورة ، ولم يأت فعّال من أفعلت إلا جبَّار ودرّاك وستّار . و(( الجبروت )) أيضًا
للمبالغة بزيادة التاء ، مثل مَلَكُوت ورَحَمُوت ورَهَبوت من الملك والرحمة والرهبة .
وجاء (( جبريائي )) هنا لمطابقة كبريائي ، كما قالوا . هو يأتينا بالغدايا والعشايا. وقيل في معنى الجبّار ؛ أي : المصلح ، من قولهم : جبرت العظم ، وذلك أنه تعالى يجبر القلوب المنكسرة من أجله ، ويرحم عباده ، ويسدّ خلاتهم. &(1/320)&$(1/320)
( 62 ) باب شفاعة الملائكة والنبيين والمؤمنين
154- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ؛ أَنَّ نَاسًا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ! هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( نَعَمْ )) قَالَ : (( هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ مَعَهَا سَحَابٌ ؟ وَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ ؟ ))
ومن باب شفاعة الملائكة
قوله : (( أذَّن مؤذِّنٌ )) ؛ أي : نادَى منادٍ برفيع صوته ؛ كي يعلم أهل الموقف . و(( الأنصاب )) جمع نَصْب بفتح النون ، وهو ما نُصِبَ من حجارة أو غيرها ليُعْبد =(1/444)=@ من دون الله ، و"الأصنام" : جمع صَنَم ، وهو ما كان مصورًا اتُّخِذَ ليعبد . ويقال عليه . وَثَنٌ وأوثان .
وقوله : ((وغُبَّرِ أهل الكتاب )) ؛ يعني : بقاياهم ، وهو من غَبَر الشيء : إذا بقي ، ويقال أيضًا بمعنى نَفِد وذهب ، وهو من الأضداد ، وقد جاء معناه قَالُوا : لا . يَا رَسُولَ اللهِ ! قَالَ : (( مَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا . إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ : لِيَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ . فَلا يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللهِ مِنَ الأَصْنَامِ وَالأَنْصَابِ ، إِلا يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ . حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ ، وَغُبَّرِ أَهْلِ الْكِتَابِ . َفُتدْعَى الْيَهُودُ فَيُقَالُ لَهُمْ : مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ؟ قَالُوا : كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللهِ . فَيُقَالُ : كَذَبْتُمْ ، مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلا وَلَدٍ . فَمَاذَا تَبْغُونَ ؟ قَالُوا : عَطِشْنَا ، يَا رَبَّنَا!
في كتاب الله تعالى.وقد روي : (( غَيْرُ )) من المغايرة ، ومعناه واضح.
و (( عزير )) : رجل من بني إسرائيل قيل إنه لما حرّق بختنصّر التوراة وقتل القائمين بها والحافظين لها ، قذفها الله في قلبه فقرأها عليهم ، فقالت جهلة اليهود عنه إنه ابن الله .
و (( تبغون )) : تطلبون . قال : وأنشدوا :
والباغي يحب الوجدان &(1/321)&$(1/321)
و (( السراب )) : ما تراه نصف النهار كأنه ماءٌ .
و ((يحطم بعضها بعضًا))؛ أي: يركب بعضها على بعض ويكسر
فَاسْقِنَا . فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ : أَلا تَرِدُونَ ؟ فَيُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ كَأَنَّهَا سَرَابٌ ، يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ. ثُمَّ يُدْعَى النَّصَارَى . فَيُقَالُ لَهُمْ : مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ؟ قَالُوا : كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللهِ. فَيُقَالُ لَهُمْ : كَذَبْتُمْ ، مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلا وَلَدٍ ، فَيُقَالُ لَهُمْ : مَاذَا تَبْغُونَ؟ فَيَقُولُونَ : عَطِشْنَا ، يَا رَبَّنَا ! فَاسْقِنَا . قَالَ : فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ : أَلا ترِدُونَ ؟ فَيُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ كَأَنَّهَا سَرَابٌ ، يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ . حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ ، أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا . قَالَ : فَمَا تَنْتَظِرُونَ ؟
بعضها في بعض ، كما يفعل البحر إذا هاج .
وقوله : (( فيشار إليهم ألا ترِدون )) ، لما ظنّوا أنه ماء أُسمعوا بحسب ما ظنّوا =(1/445)=@ )) ، فإن الورود إنما يقال لمن قصد إلى الماء ليشرب .
و (( يحشرون )) : يساقون مجموعين .
وقوله : (( حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من برّ وفاجر )) ، يعبد الله يوحده ويتذلل له ، و(( البر )) : ذو البر ، وهو فِعل الطاعات والخير ، و((الفجور )) عكسه .
وقوله : (( أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها )) ، إتيان الله هنا هو عبارة عن إقباله تعالى عليهم وتكليمه إياهم ، و(( أدنى ))
تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ . قَالُوا : يَا رَبَّنَا ! فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ ، فَيَقُولُ : أَنَا رَبُّكُمْ . فَيَقُولُونَ : نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ . لا نُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا - حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ . فَيَقُولُ : هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ .
بمعنى : أقرب ، و(( الصورة )) بمعنى : الصفة ، و(( رأوه )) بمعنى : أبصروا غضبه .
ومعنى ذلك أنّه لما طال عليهم قيامُهم في ذلك المقام العظيم الكرْب الشديد الخوف الذي يقول فيه كل واحد من الرسل الكرام : إن ربي قد غضب غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، هالهم ذلك ، وكأنهم يئسوا من انجلاء ذلك . فلمّا كشف الله &(1/322)&$(1/322)
عنهم ذلك وأقبل عليهم بفضله ورحمته وكلّمهم ، رأوا من صفات لطفه ومن كرمه ما هو أقرب مما رأوه أولاً من غضبه وأخذه ، وإلا ، فهذا أول مقام كلّمهم الله فيه مشافهةً ، وأرى من أراد منهم وجهَه الكريمَ ، إن قلنا إنَّ المؤمنين رأوه في هذا المقام ، وقد اختلف فيه ، ولم يكن تقدّم لهم قبل ذلك سماع ولا رؤية ، فتعيّن ما قلنا ، والله أعلم .
وقوله : (( قالوا يا ربّنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم )) ،
فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ، فَلا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلا أَذِنَ اللهُ لَهُ بِالسُّجُودِ ، وَلا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً إِلا جَعَلَ اللهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً ، كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ . ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ ، وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي الصُورَةِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ . فَيقَول : أَنَا رَبُّكُمْ . فَيَقُولُونَ : أَنْتَ رَبُّنَا . ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ ، وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ . وَيَقُولُونَ : اللهُمَّ! سَلِّمْ .. سَلِّمْ )) . قِيلَ : يَا رَسُولَ اللهِ ! وَمَا الْجِسْرُ ؟ قَالَ : دَحْضٌ مَزِلَّةٌ . فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلالِيبُ ، وَحَسَكةٌ ،
الصحيح =(1/446)=@ من الرواية : (( فَارَقْنا )) ساكنة القاف ، و(( الناسَ )) منصوب على مفعول (( فارقنا )) ، وهو جواب الموحدّين لمّا قيل : لِتَتَّبِعْ كلُّ أمَّة ما كانت تعبد ، ومعناه . إنا فارقنا الناس في معبوداتهم ولم نصاحبْهم على شيء منها ؛ اكتفاءً بعبادتك ومُعاداةً فيك ، ونحن على حال حاجة شديدة إليهم وإلى صحبتهم ؛ إذ قد كانوا أهلا وعشيرة ومخالطين ومُعاملين ، ومع ذلك ففارقناهم فيك وخالفناهم ؛ إذ خالفوا أمرك ، فليس لنا معبود ولا متبوع سواك .
وكان هذا القول يصدر من المحق والمتشبه به ، فحينئذ تظهر لهم صورةٌ تقول . أنا ربكم امتحانًا واختبارًا ، فيثبت المؤمنون العارفون فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ، فَلا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلا أَذِنَ اللهُ لَهُ بِالسُّجُودِ ، وَلا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً إِلا جَعَلَ اللهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً ، كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ . ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ ، وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي الصُورَةِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ . فَيقَول : أَنَا رَبُّكُمْ . فَيَقُولُونَ : أَنْتَ رَبُّنَا . ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ ، وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ . وَيَقُولُونَ : اللهُمَّ! سَلِّمْ .. سَلِّمْ )) . قِيلَ : يَا رَسُولَ اللهِ ! وَمَا الْجِسْرُ ؟ قَالَ : دَحْضٌ مَزِلَّةٌ . فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلالِيبُ ، وَحَسَكةٌ ، تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ ، يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ . فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ. فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ ، وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ . حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ بِأَشَدَّ
ويتعوّذون ، ويرتاب المنافقون والشاكون . ثم يؤمر الكل بالسجود على ما تقدم، وقد تقدم القول على مشكلات هذا الحديث في حديث أبي هريرة المتقدم.
وقوله: (( كأجاويد الخيل والركاب هي سراعها )) ، وهو جمع جياد، فهو =(1/447)=@ &(1/323)&$(1/323)
جمع الجمع . و(( الركاب )) : الإبل ، و(( مخدوش )) : مرسل ، يعني تأخذ منه الخطاطيف حتى تقطع لحمه ثم يُخلّى ، وبعد ذلك ينجو .
مُنَاشَدَةً لِلَّهِ ، فِي اسْتِيْفَاءِ الْحَقِّ ، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لإِخْوَانِهِمِ الَّذِينَ فِي النَّارِ . يَقُولُونَ : رَبَّنَا ! كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ. فَيُقَالُ لَهُمْ : أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ ، فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا . قَدْ أَخَذَتِ النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ ، يَقُولُونَ : رَبَّنَا ! مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ . فَيَقُولُ جَلَّ وَعَزَّ : ارْجِعُوا . فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ . فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا . ثُمَّ يَقُولُونَ : رَبَّنَا ! لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ . ثُمَّ يَقُولُ : ارْجِعُوا . فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ . فَيُخْرِجُونَ
وقوله : (( ومكدوسٌ في نار جهنم )) روايتنا فيه بالسين المهملة ، وروي عن العذري بالشين المثلثة. ووقع في بعض نسخ كتاب مسلم هنا : ((مكردس )) بدل ((مكدوس )) ، وهي الثابتة في حديث أنس المتقدم ، وقد ذكر تفسيرها فيه . والكدس بالمهملة : إسراع المُثْقل في السير ، يقال : تكدّس الفرس ؛ إذا مشى كأنه مثقل . والكُدسُ بضم الكاف واحد أكداس الطعام . ويحتمل أن يؤخذ المكدوس من كلّ واحد منهما . وأما بالشين المعجمة ، فالكَدْش الخدش ، عن الأصمعي ، وهو أيضًا السوْق الشديد ، وكلاهما يصحّ حملُ هذه الرواية عليه. &(1/324)&$(1/324)
خَلْقًا كَثِيرًا . ثُمَّ يَقُولُونَ : رَبَّنَا ! لَمْ نَذَرْ فِيهَا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا أَحَدًا . ثُمَّ يَقُولُ : ارْجِعُوا . فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ . فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا . ثُمَّ يَقُولُونَ : رَبَّنَا ! لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا.
وقوله : (( فتحرم صورهم على النار )) ، يعني صور المخرجين . وهذا كما قال فيما تقدم : (( حرّم الله على النار أن تأكل أثر السجود )) ، وآثار السجود تكون في الأعضاء السبعة ولا يقال ، فقد قال عقيب هذا : (( فيخرجون خلقًا كثيرًا قد =(1/448)=@ أخذت النار إلى أنصاف ساقيه وإلى ركبتيه )). وهذا ينصّ على أنّ أهل النار قد أخذت بعض أعضاء السجود ، لأنَّا تقول : تأخذ فتغيّر ولا تأكل فتُذهب . ولا يبعد أن يقال : إنّ تحريم الصور على النار إنما يكون في حق هذه الطائفة المشفوع لهم أولاً ؛ لعلو رتبتهم على من يخرج بعدهم ، فتكون النار لم تقرب صُوِر وجوههم لا بالتغيّر ولا بالأكل ، والله أعلم .
وقوله : (( مثقال ذَرّة )) ، كذا صحّت روايتنا فيه بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء ، وهي الصغير من النمل ، ولم يختلف في أنه كذلك في هذا الحديث . وقد صحّفه شعبة في حديث أنس ، فقال : ذُرَة ، بضم الذال
وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ يَقُولُ : إِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي بِهَذَا الْحَدِيثِ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ : { إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } . فيَقُولُ اللهُ تَعَالىَ : شَفَعَتِ الْمَلائِكَةُ ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ ، وَلَمْ يَبْقَ إِلا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ . فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ ، قَدْ عَادُوا حُمَمًا . فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهَرٍ فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ نَهَرُ الْحَيَاةِ ، فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ ، أَلا تَرَوْنَهَا تَكُونُ إِلَى الْحَجَرِ أَوْ إِلَى الشَّجَرِ ، مَا يَكُونُ إِلَى الشَّمْسِ أُصَيْفِرُ وَأُخَيْضِرُ ، وَمَا يَكُونُ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ يَكُونُ أَبْيَضَ ؟ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ! كَأَنَّكَ كُنْتَ تَرْعَى بِالْبَادِيَةِ . قَالَ : فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ ، فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِمُ ، يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ ، هَؤُلاءِ عُتَقَاءُ اللهِ ، الَّذِينَ أَدْخَلَهُمُ اللهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ . ثُمَّ يَقُولُ : ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَمَا رَأَيْتُمُوهُ فَهُوَ لَكُمْ . فَيَقُولُونَ : رَبَّنَا أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ. فَيُقَالُ : لَكُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا . فَيَقُولُونَ : يَا رَبَّنَا ! أَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا ؟ فَيَقُولُ : رِضَأي : فَلا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا .
وتخفيف الراء . على ما قيّده أبو علي الصدفي والسمرقندي ، وفيما قيّده العُذري والخشني . دُرّة ، بضم الدال المهملة وتشديد الراء واحدة الدُّر ، وَفِي رِوَايَةٍ ؛ قَالَ أَبُوسَعِيدٍ : بَلَغَنِي أَنَّ الْجِسْرَ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْر وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ .
وهو تصحيف التصحيف . وقول أبي سعيد . إن لم تصدّقوني فاقرؤوا ، ليس على معنى أنهم اتهموه ، وإنما كان منه على معنى التأكيد والعضد . =(1/449)=@
وقوله : (( فيقبض قبضة )) ، يعني . يجمع جماعة فيخرجهم دفعة واحدة بغير شفاعة أحد ولا ترتيب خروج ، بل كما يُلقى القابض الشيء المقبوض عليه من يده في مرة واحدة . &(1/325)&$(1/325)
وقوله : (( قد عادوا حُمَمًا )) ؛ أي : صاروا ، وليس على أصل العود الذي هو الرجوع إلى الحال الأولى ، بل هذا مثل قوله تعالى : { أو لتعودُنَّ في ملّتنا } ؛ أي : لتصيرن إليها ، فإن الأنبياء لم يكونوا قط على الكفر ، وكما قال الشاعر :
تلك المكارم لا قَعْبان من لبنٍ شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
و (( الحمم )) : الفحم ، واحدها حممة .
وقوله : (( في رقابهم الخواتيم )) ؛ أي : الطوابع والعلامات التي بها يُعرفون . =(1/450)=@ &(1/326)&$(1/326)
( 63 ) باب كيفية عذاب من يعذب من الموحدين
وكيفية خروجهم من النار
155- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا ، فَإِنَّهُمْ لا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلا يَحْيَوْنَ . وَلَكِنْ نَاسٌ أَصَابَتْهُمُ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ أَوْ قَالَ بِخَطَايَاهُمْ فَأَمَاتَتهُمْ إِمَاتَةً . حَتَّى إِذَا كَانُوا فَحْمًا ، أذِنَ اللهُ لَهْم فِي الشَّفَاعَةِ فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ ، فَبُثُّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ ، ثُمَّ قِيلَ : يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ ! أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ . فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ تَكُونُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ . فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : كَأَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَدْ كَانَ يَرْعَى بِالْبَادِيَةِ .
ومن باب كيفية عذاب من يعذَّب من الموحّدين
قوله : (( ضبائر ضبائر )) ، قال الهروي : جمع ضِبارة بكسر الضاد ، مثل عِمارة وعمائر ، وهي الجماعة من الناس ، يقال . رأيتهم ضبائر ؛ أي : جماعات في تَفْرِقَة . قال الكسائي : الصواب أضابر جمع إضبارة . وفي
الصحاح . الإضبارة =(1/451)=@ بالكسر الإضمامة ، يقال . جاء فلان بإضبارةٍ من كتبٍ ، وهي الأضابير ، قال . والضَّبْرُ . الجماعة من الناس يغْزُون ، وضَبَرَ الفرسُ ، إذا جمع قوائمه ووثب .
و (( بُثّوا )) : فرّقوا ، وهذا الحديث ردّ على الخوارج والمعتزلة ، حيث حكموا بخلود أهل الكبائر في النار ، وأنّهم لا يخرجون منها أبدًا ، وقد تمّ الكلام على الجنّة ، وردٌّ على المرجئةِ ، حيث يقولون . لا يدخلون النار. وقد تقدَّم الكلام على الحِبَّة. &(1/327)&$(1/327)
( 64 ) باب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكثر الأنبياء تابعًا وأولهم تفتح له الجنة ، وأولهم شفاعة ، واختباء دعوته شفاعة لأمته
156- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ يَشْفَعُ فِي الْجَنَّةِ ، وَأَنَا أَكْثَرُ الأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : (( أَنَا أَوَّلُ شَفِيعٍ فِي الْجَنَّةِ . لَمْ يُصَدَّقْ نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ مَا صُدِّقْتُ . وَإِنَّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيًّا مَا يُصَدِّقُهُ مِنْ أُمَّتِهِ إِلا رَجُلٌ وَاحِدٌ )).
157- وَعَنْهُ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَأَسْتَفْتِحُ ، فَيَقُولُ الْخَازِنُ : مَنْ أَنْتَ ؟ فَأَقُولُ : مُحَمَّدٌ . فَيَقُولُ : بِكَ أُمِرْتُ لا أَفْتَحُ لأَحَدٍ قَبْلَكَ.
ومن باب قوله : (( أنا أوّل الناس يشفع في الجنّة ))
أي : في دخول الجنّة قبل الناس ، ويدلّ عليه قوله : (( وأنا أوّل من يقرع باب الجنّة )) ، وقول الخازن : (( بك أُمِرْتُ لا أفتح لأحدٍ قبلك )) ، وقوله في حديث آخر : (( فأنطلقُ معي برجالٍ فأدخلهم الجنّة )). وهذه إحدى شفاعاته المتقدِّمة الذكر .
158- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا )) .
وقوله =(1/452)=@ في الرواية الأخرى : (( أنا أوّل شفيع في الجنّة )) يمكن حمله على ما تقدّم ، ويحتمل أن يراد به أنّه يشفع في ترفيع منازل بعض أهل الجنّة ، والأوّل أظهر .
وقوله : (( لكلّ نبيٍّ دعوة مستجابة )) ؛ أي : مجابة ، والسين زائدة ، يقال . أجاب واستجاب ، قال :
فلم يستجبْه عند ذاك مجيبُ
أي : لم يجبه . ومعناه : أنهم عليهم السلام لهم دعوة في أممهم هم على يقين في إجابتها بما أعلمهم الله تعالى ، ثم خيّرهم في تعيينها وما عداها من دعواتهم يرجون إجابتها ، وإلا ، فكم قد وقع لهم من 159- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ تَلا قَوْلَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ... } الآيَةَ .
الدعوات المجابة وخصوصًا نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقد دعا لأمته بأن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم ، وألا يهلكهم بسنة عامة فأعطيها. وقد منع أيضًا بعض ما دعا لهم به ؛ إذ قد دعا ألا يجعل بأسهم بينهم شديد فمنعها(2) ، وهذا يحقق ما قلناه من أنّهم في دعواتهم راجون للإجابة ، بخلاف هذه الدعوة الواحدة ، والله أعلم . =(1/453)=@
وقوله : (( فهي نائلة إن شاء الله )) ، (( نائلة )) وأصله من نال الشيء إذا &(1/328)&$(1/328)
ظفر به ، ودخول الاستثناء هنا كدخوله في قوله تعالى : { لتدخلّن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } ، وسيأتي القول فيه إن شاء الله في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون )) في الطهارة.
وَقَالَ عِيسَى : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ } إلى قوله { فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ : (( اللهُمَّ ! أُمَّتِي .. أُمَّتِي )) وَبَكَى فَقَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : يَا جِبْرِيلُ ! اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ ، فَاسألْهُ : مَا يُبْكِيكَ . فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ جبريل ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِمَا قَالَ ، وَهُوَ أَعْلَمُ. فَقَالَ اللهُ : يَا جِبْرِيلُ ! اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ : إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلا نَسُوءُكَ )) .
وقوله : (( وقال عيسى : إن تعذّبهم )) هو مصدر معطوف على قوله : (( وتلا قول الله تعالى )). والعرب تقول قال يقول قولا وقالا وقيلا ، فكأنه قال . وتلا قول عيسى . ومعنى هاتين الآيتين أنّ كلَّ واحد من إبراهيم وعيسى لم يَجْزِمَا في الدعاء لعصاة أممهما ، ولم يُجْهدا أنفسهما في ذلك ، ولم يكن عندهما من فرْط الشفقة ما كان ينبغي لهم. ألا ترى أنهما في الآيتين كأنّهما تبرأ من عصاة أممهما ، ولما فهم نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك انبعث بحكم ما يجده من شدة شفقته ورأفته وكثرة حرصه =(1/454)=@ على نجاة أمته ، وبحكم ما وهبه الله تعالى من رفعة مقامه على غيره ، جازمًا في الدعاء مجتهدًا لهم فيه متضرعًا باكيا مُلحًّا يقول . أمتي أمتي ، فعل المحب المستهتر لمحبوبه الحريص على ما يرضيه ، الشفيق عليه ، اللطيف به ، ثم لم يزل كذلك
حتى أجابه الله فيهم وبشّره بما يسرّه من مآل حالهم ، حيث قال له تعالى : (( إنا سنرضيك في أمتك )) ، وهو معنى قوله تعالى : { ولسوف يعطيك ربّك فترضى}. وقد قال بعض العلماء . واللهِ ما يرضى محمد وأحدٌ من أمته في النار. &(1/329)&$(1/329)
وهذا كلّه يدلّ على أنّ الله تعالى خصّ نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ من كرم الخُلق ومن طيب النفس ومن مقام الفتوة بما لم يختص به أحدٌ غيره ، وإليه الإشارة بقوله تعالى . { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ، وبقوله { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ } الآية ، فصلى الله عليه أفضل ما صلى على أحدٍ من خليقته ، وجازاه عنّا أفضل ما جازى نبيًّا عن أمته .
وأمر الله تعالى لجبريل بأن يسأل نبينا عليهما السلام عن سبب بكائه ؛ ليعلم جبريل تمكن نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مقام الفتوة وغاية اعتنائه بأمته. =(1/455)=@ &(1/330)&$(1/330)
( 65 ) باب شفاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعمه في التخفيف عنه
160- عَنِ الْعَبَّاسَ ؛ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ! إِنَّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَنْصُرُكَ فَهَلْ نَفَعَهُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : (( نَعَمْ ، وَجَدْتُهُ فِي غَمَرَاتٍ مِنَ النَّارِ ، فَأَخْرَجْتُهُ إِلَى ضَحْضَاحٍ )). &(1/331)&$(1/331)
وَفِي رِوَايَةٍ : (( لَوْلا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ )) .
ومن باب شفاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعمّه أبي طالب
في التخفيف عنه
قوله : (( كان يحوطك )) ؛ أي : يحفظك . و(( ينصرك )) : يعينك ، والنصرة . العون ، تقول العرب . أرض منصورة ؛ أي : معانة على إنباتها بالمطر . وقد كان أبو طالب يمنعه ممن يريد به مكروهًا ، ويعينه على ما كان بصدده .
و (( غَمَرات ))- بالميم- : جمع غمرة ، وهي ما يغطي الإنسان ويغمره ، مأخوذ من الماء الغَمْر ، وهو الكثير . وقد وقع في بعض النسخ. غُبّرات ، 161- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ . فَقَالَ : (( لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ النَارٍ ، يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ ، يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ )) .
وهو تصحيف ولا معنى للغبرات هنا ، و(( الضحضاح )) : ما رقّ من الماء على وجه الأرض ، ومنه قول عَمرو في عُمر : (( أنه جانب غمرتها ، ومشى ضحضاحها وما ابتلّت قدماه ؛ يعني . لم يتعلّق من الدنيا بشيء .
و (( الدرك )) : في مراتب السفل والنزول ، كالدرج في مراتب العلو والارتفاع ، ويراد به آخر طبق في أسفل النار ، وهو أشدّ أطباق جهنّم عذابًا ، ولذلك قال تعالى : { إنَّ الْمُنَافِقِين فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} ، وكان أبو طالب يستحق ذلك ؛ إذ كان قد عُلِم صدقُ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جميع حالاته ، ولم يخفَ عليه شيءٌ من أموره من مولده وإلى حين اكتهاله ، ولذلك كان يقول لعلي ابنه . اتَّبِعْه ، فإنه لا يُرشِدُك إلا إلى خير أو حق أو كما قيل عنه . =(1/456)=@
162- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ ، وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ )) .
وقوله : (( لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة )) ، هذا المترجى في هذا الحديث قد تحقق وقوعه ؛ إذ قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وجدته في غمراتٍ فأخرجته إلى ضحضاح )) ، فكأنه لما ترجى ذلك أعطيه وحقق له فأخبر به ، وهل هذه الشفاعة لسان قول محقق أو لسان حال ، اختلف فيه ، فإن تنزلنا على أنه حقيقة ، وأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ شفع لأبي طالب بالدعاء والرغبة حتى شُفِّع ، عارضه قوله تعالى : { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } ، وقوله : {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } ، وما في معناه .
والجواب من أوجه ؛ أقربها : أن الشفاعة المنفية إنما هي شفاعةٌ خاصةٌ ، وهي التي تخلّص من العذاب . وغاية ما ذكر من المعارضة إنما هي بين خصوصٍ وعموم . ولا تعارُض بينهم ؛ إذ البناء والجمع ممكن ، وأن تنزّلنا على أنه لسان حال ، فيكون معناه . أن أبا طالب لمّا بالغ في إكرام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والذبّ عنه ، خُفّف عنه بسبب ذلك ما كان يستحقه بسبب كفره مع ما يحمله عنده من معرفة صدق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما قدمناه . 163- وَعَنِ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ ؛ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : ((إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؛ لَرَجُلٌ تُوضَعُ فِي أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ ، يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ )) .
ولما كان ذلك بسبب وجود النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وببركة الحنو عليه ، نسبه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى نفسه . ولا يستبعد إطلاق الشفاعة على مثل هذا المعنى ، فقد سلك الشعراء هذا المعنى ، فقال بعضهم :
في وجهه شافعٌ يمحو إساءته إلى القلوب وجيه حيث ما شفعا =(1/457)=@
وقد يُورَد أيضًا على هذا المعنى ، فيقال . هذا إثبات نَفْعٍ للكافر في الآخرة بما عمله في الدنيا . وقد نفاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله في حديث ابن جدعان الآتي : (( لا ينفعه )) ، وبقوله : (( وأمّا الكافر ، فيُعطى بحسنات ما عمل في الدنيا ، حتى إذا أفضي إلى الآخرة ، لم تكن له حسنة يجزى بها )).
والجواب من وجهين .
أحدهما : ما تقدم في بناء العام على الخاص .
والثاني : أنّ المخفّف عنه لَمَّا لم يجد &(1/332)&$(1/332)
أثرًا لما خُفف عنه ، فكأنّه لما ينتفع بذلك . ألا ترى أنه يعتقد أنّه ليس في النار أشدّ عذابًا منه ، مع أنّ عذابه جمرة من جهنّم في أخمصة . وسببه أن القليل من عذاب جهنّم - أعاذنا الله منه - لا تطيقه الجبال ، وخصوصًا عذاب الكافر . وإنما تظهر فائدة التخفيف لغير المعذّب ، وأما المعذّب ، فمشتغل بما حلّ به ؛ إذ لا يخلَّى ، ولا بغيره يتسلى ، فصدق عليه أنه لم ينتفع ، ولم يحصل له نفع البتة ، والله الموفق . =(1/458)=@
( 66 ) باب من لم يؤمن لم ينفعه عمل صالح ولا قريب في الآخرة
164- عَنْ عَائِشَةَ ؛ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ! ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ، فَهَلْ ذَلكَ نَافِعُهُ ؟ قَالَ : (( لا يَنْفَعُهُ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا : رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ )) .
165- وَعَنْ أَنْسٍ ؛ أَنَّ رَجُلاً قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ! أَيْنَ أَبِي ؟ قَالَ : ((فِي النَّارِ )) فَلْمَا قَفَى دَعَاهُ فَقَالَ : (( إِنَّ أبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ )) .
ومن باب من لم يؤمن لم ينفعه عمل صالح
قول عائشة : (( هل ذلك نافعه ؟ )) معناه . هل ذلك مخلصه من عذاب الله المستحق بالكفر ، فأجابها بنفي ذلك ، وعلله بأنه لم يؤمن . وعبّر عن الإيمان ببعض ما يدلّ عليه وهو قوله : (( لم يقل يومًا ربِّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين )). ويقتبس منه أن كل لفظ يدلّ على الدخول في الإسلام اكتفى به ، ولا يلزم من أراد الدخول في الإسلام صيغة مخصوصة مثل كلمتي الشهادة ، بل أي شيء دلّ &(1/333)&$(1/333)
على صحة إيمانه ومجانبة ما كان عليه اكتفي به في الدخول في الإسلام ، ولا بد له مع ذلك من النطق
166- وَعَنْهُ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِنَّ اللهَ لايَظْلِمُ مُؤمِنًا حَسَنَة ، يُعْطَى بِها فِي الدُنْيا ويُجْزَى بِها فِي الآخِرةِ. وأَمَّا الكَافِرُ فَيُطْعَمْ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ للهِ بِها فِي الدُنْيَا حَتْى إِذْا أَفْضَى إِلى الآخِرةِ لَمْ تَكُنْ لَه حَسَنَةٌ يُجْزَى بها )) .
بكلمتي الشهادة ، فإن النطق بها واجب مرة في العمر . =(1/459)=@
وقوله : (( إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنةً )) ؛ يعني : لا ينقصه ولا يمنعه ثوابها في الدار الآخرة والأولى .
وقوله : (( وأما الكافر ، فيطعم بحسناته )) ، هكذا رواه الجماعة ، ورواه ابن ماهان : (( فيعطى بحساب )) ، وكلاهما صحيح المعنى . وتسمية ما يصدر عن الكافر حسنة إنما كان بحساب ظنّ الكافر ، وإلا ، فلا تصح منه قربة ؛ لعدم شرطها الذي هو الإيمان ، أو سميت حسنة ؛ لأنها تشبه صورة حسنة المؤمن ظاهرًا. ثمّ هل يعطى الكافر بحسناته في الدنيا ولا بدّ ، بحكم هذا الوعد الصادق ، أو ذلك مقيَّد بمشيئة الله المذكورة في قوله تعالى : { من كان يريد العاجلة عجّلْنا له فيها ما نشاء لمن نريد } ، وهذا هو الصحيح. وأمّا المؤمن ، فلا بدّ له من الجزاء الأخرويّ كما قد عُلم من الشريعة .
وقوله في الكافر : (( لم تكن له حسنةٌ يجزى بها )) ؛ أي : لا يتخلّص من العذاب بسببها ، وأمّا التخفيف عنه بسببها ، فقد يكون على ما قرّرناه ، والله أعلم .
وقوله : (( فلمّا قفَّى )) ؛ أي : ولّى قفاه .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنّ أبي وأباك في النار )) جبرٌ للرجل ممّا &(1/334)&$(1/334)
أصابه ، وإحالة له على التأسّي حتّى تهون عليه مصيبته بأبيه ؛ وذلك لَمَّا حفظ الحرمة ، ولم يقل : أين أبوك ؟ بخلاف من قال ذلك للنبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال له : ((حيثما مررْتَ بقبر =(1/460)=@ كافر فبشِّرْه بالنار )) ، فكان الرجل يفعل ذلك ، فشقَّ عليه حتّى قال : لقد كلَّفني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شططًا ، ذكره النسائيّ.
167- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، جِهَارًا غَيْرَ سِرٍّ ، يَقُولُ : (( أَلا إِنَّ آلَ أَبِي - يَعْنِي فُلانًا- لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ . إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللهُ وَصَالِح الْمُؤْمِنِينَ )) .
وقوله : (( ألا إنّ آل أبي فلان )) ، كذا للسمرقنديّ ، ولغيره : (( ألا إنّ آل أبي )) ؛ يعني : فلانًا ، وفي رواية : (( فلانٍ )) على الحكاية ، وهذا كناية
عن قومٍ معينين كره الراوي تسميتهم ؛ لما يُخاف ممّا يقع في نفوس ذراريهم المؤمنين . وقيل : إن الْمَكْنِيِّ هو الحكم ابن أبي العاص . وفائدة الحديث انقطاع الولاية بين المسلم والكافر وإن كان قريبًا حميمًا . =(1/461)=@ &(1/335)&$(1/335)
( 67 ) باب يدخل الجنة من أمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سبعون ألفًا بغير حساب
168- عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؛ قَالَ : كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ : أَيُّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الَّذِي انْقَضَّ الْبَارِحَةَ ؟ قُلْتُ : أَنَا . ثُمَّ قُلْتُ : أَمَا إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلاةٍ ، وَلَكِنِّي لُدِغْتُ . قَالَ : فَمَاذَا صَنَعْتَ ؟ قُلْتُ : اسْتَرْقَيْتُ . قَالَ : فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ ؟ قُلْتُ : حَدِيثٌ حَدَّثَنَاهُ الشَّعْبِيُّ. قَالَ : وَمَا حَدَّثَكُمُ الشَّعْبِيُّ ؟ قُلْتُ : حَدَّثَنَا عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ حُصَيْبٍ الأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ : لا رُقْيَةَ إِلا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ . فَقَالَ : قَدْ أَحْسَنَ مَنِ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ. وَلَكِنْ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ ؛ عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنهُ قَالَ :
ومن باب كم يدخل الجنّة من أمّة النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بغير حساب
قوله : (( لا رقيةَ إلاّ من عين أو حُمَة العين )) : إصابة العائن ، والحمة -بضمّ الحاء وفتح الميم مخفَّفة- : حرقة السُمّ ولذعه ، وقيل : السُمّ نفسه.
قال الخطّابيّ : معنى(4) ذلك : لا رقيةَ أشفى وأولى من رقية العين
((عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلانِ ، وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ . إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي ، فَقِيلَ لِي : هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ . وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ ، فَنَظَرْتُ ، فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ . فَقِيلَ لِي : انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ الآخَرِ ، فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ . فَقِيلَ لِي : هَذِهِ أُمَّتُكَ ، وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلا عَذَابٍ )) . ثُمَّ نَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ ، فَخَاضَ النَّاسُ فِي أُولَئِكَ الَّذِينَ
والْحُمّة . وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد رقى ورُقي ، وأمر بها وأجازها ، فإذا كانت بالقرآن وبأسماء الله تعالى ، فهي مباحة أو مأمور بها . وإنّما جاءت الكراهية والمنع فيما كان منها بغير لسان العرب ، فإنّه ربّما كان كفرًا أو قولاً يدخله الشرك . قال : ويحتمل أن يكون الذي يُكره من الرقية ما كان منها على مذاهب الجاهليّة التي كانوا يتعاطونها ، وأنّها تَدفع عنهم الآفات ، ويعتقدون أنّ ذلك من قِبَل الجنّ ومعونتهم =(1/462)=@ . وقد اختلفت الرواية عن مالك في إجازة رقية أهل الكتاب للمسلم ، فأجازها مرّةً إذا رقي بكتاب الله ، ومنعها أخرى ؛ إذ لا يُدرى ما الذي يرقى به .
وقوله : (( فإذا سواد عظيم )) يعني به . أشخاصًا كثيرةً ، ويجمع أَسْوِدَة ، وقد تقدّم . &(1/336)&$(1/336)
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلا عَذَابٍ ، فَقَالَ بَعْضُهْمْ : فَلَعَلَّهُمِ الَّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : فَلَعَلَّهُم الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الإِسْلامِ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِاللهِ شيئًا ، وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ . فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ : (( مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ ؟ )) فَأَخْبَرُوهُ . فَقَالَ : (( هُمِ الَّذِينَ لا يَرْقُونَ ، وَلا يَسْتَرْقُونَ ، وَلا يَتَطَيَّرُونَ ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ )) . فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ ، فَقَالَ : ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ . فَقَالَ : (( أَنْتَ مِنْهُمْ )) . ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ ، فَقَالَ : ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ . فَقَالَ : (( سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ )) .
وقوله : (( هم الذين لا يرقون ولا يستَرْقَون ولا يكتوون ولا يتطيّرون )) ، اختلف الناس في معنى هذا الحديث وعلى ماذا يُحمل ، فحمله الإمام المازَرِيّ على أنّهم الذين جانبوا اعتقاد الطبائعيّين في أنّ الأدوية تنفع بطباعها واعتقاد الجاهليّة في ذلك ورقاهم . وهذا غير لائق بمساق الحديث ولا بمعناه ؛ إذ مقصوده إثبات مزيَّةٍ وخصوصيّةٍ لهؤلاء السبعين ألفًا ، وما ذكره يرفع المزيّة والخصوصيّة ، فإنّ مجانبة اعتقاد ذلك هو حال المسلمين كافَّةً ، ومن لم يجانب اعتقاد ذلك ، لم يكن مسلمًا . ثمّ إنّ ظاهر لفظ الحديث إنّما هو : (( لا يرقون ولا يكتوون )) ؛ أي : لا يفعلون هذه الأمور ، وما ذكره خروج عنه من غير دليل .
169- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ )) قَالُوا : مَنْ هُمْ ؟ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ : (( هُمِ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ ، وَلا يَتَطَيَّرُونَ ، وَلا يَكْتَوُونَ ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ )) .
وقال الداوديّ . المراد بذلك الذين يجتنبون فعله في الصحّة ، فإنّه يُكره =(1/463)=@ لمن ليست به علّة أن يتّخذ التمائم ويستعمل الرقى ، فأمّا من يستعمل ذلك من مرضٍ به ، فهو جائز . وهذا إن صحّ أن يقال في التمائم وفي بعض الرقي ، فلا يصحّ أن يقال في التعويذات ، وهي من باب الرقي ؛ إذ قد يجوز أن يتعوّذ من الشرور كلّها قبل وقوعها . ولا يصح ذلك في التطبب ، فإنه يجوز أن يتحرز من الأدواء قبل وقوعها ، وأمّا الكيّ ، فسيأتي القول فيه إن شاء الله .
وذهب الخطّابيّ وغيره إلى أنّ وجه ذلك أن يكون تركُها على جهة التوكّل على الله والرضا بما يقضيه من قضاء وينزل من بلاء ، قال . وهذه أرفع درجات المتحقِّقين بالإيمان ، قال . وإلى هذا ذهب جماعة من السلف ، وسمّاهم . قال القاضي أبو الفضل عياض . وهذا هو ظاهر الحديث ؛ ألا ترى قوله : (( وعلى ربّهم يتوكّلون )).
ومضمون كلامه أنّه لا فرق بين ما ذكر من الكيّ والرقى وبين سائر أبواب الطبّ ، وقد ذهب غيره إلى أنّ استعمال الرقى والكيّ قادح في التوكّل بخلاف &(1/337)&$(1/337)
سائر أنواع الطبّ ، فإنّها غير قادحة في التوكّل ، وفرّق بين القسمين بأن قال . باب الرقى والكيّ والطِيَرة موهوم فيقدح ، وما عداها غير موهوم بل محقّق ، فيصير كالأكل للغذاء والشرب للريّ ، فلا يقدح .
قلت : وهذا فاسد من وجهين .
أحدهما : أنّ أكثرَ أبواب الطبّ موهومة كالكيّ ، فلا معنى لتخصيصه بالكيّ والرقى .
وثانيهما : أنّ الرقى بأسماء الله تعالى هو غاية التوكّل على الله تعالى ، فإنّه التجأ إليه ، ويتضمّن ذلك رغبة له وتبرّكًا بأسمائه ، والتعويل عليه في كشف الضُرّ والبلاء .
فإن كان هذا قادحًا في التوكّل ، فليكن الدعاء والأذكار قادحة في =(1/464)=@ التوكّل ، ولا قائل به ، وكيف يكون ذلك وقد رقى النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ واسترقى ، ورقاه جبريل وغيره ورقته عائشة ، وفعل ذلك الخلفاء والسلف ، فإن كان الرقى قادحًا في التوكّل ومانعًا من اللحوق بالسبعين ألفًا ، فالتوكّل لم يتمّ للنبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا لأحد من الخلفاء ، ولا يكون أحد منهم في السبعين ألفًا مع أنّهم أفضل مَن وافى القيامة بعد الأنبياء ، ولا ينتحل هذا عاقل .
قلت : والذي يظهر لي أنّ القول ما قاله الخطّابيّ وحكاه عن جماعة من السلف ، وذلك ظاهر في الطيرة والكيّ ، فإذا دفع الطيرة عن نفسه ولم يلتفت إليها بالتوكّل على الله ، كان في المقام الأرفع من التوكّل ؛ لأنّ الطيرة قد تلازم قلب الإنسان ولا يجد الانفكاك عنها ، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث سئل عن الطيرة فقال : (( ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدّنّكم )) .
فإذا استعمل المؤمن الإعراض عنها والتفويض إلى الله في أموره ، ذهب ما كان يجده منها ، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه أبو داود من حديث ابن &(1/338)&$(1/338)
مسعود : (( الطيرة شرك ، الطيرة شرك )) ثلاثًا ، (( وما منّا إلا ، ولكنّ الله يذهبه بالتوكّل )).
وقوله : (( إلاّ )) يعني به استثناء ما يجده الإنسان منها في نفسه الذي قال فيه : (( ذاك شيء يجدونه في صدورهم )).
وأمّا الكيّ ، فالمأمون منه جائز ، وقد كوي النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أُبيًّا يوم الأحزاب على =(1/465)=@ أكحله لما رمي. وفي البخاريّ عن ابن عبّاس أنّ النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( الشفاء في ثلاث : في شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو كيّة بنار ، وأنا أنهى أمّتي عن الكيّ )) ، وفي حديث جابر : (( وما أُحِبُّ أن أكتوي )). وعلى هذا فالمأمون من الكيّ وإن كان نافعًا جائزًا ، إلاّ أنّ تركه خير من فعله ، وهذا معنى نهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنه ، وسببه أنّه تعذيب بعذاب الله ، وقد قال : (( لا تُعذِّبوا بعذاب الله )) ؛ يعني : النار . وبهذا ينفرد الكيّ ولا يُلحق به التطبُّب بغير ذلك في الكراهة ، فإنّ النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد تطبَّب وطبّ ، وأحال على الطبيب وأرشد إلى الطبّ بقوله : (( يا عبادَ الله ! تداووا ، فإنّ الذي أنزل الداء أنزل الدواء )).
وأمّا الرقي والاسترقاء ، فما كان منه من رقي الجاهليّة أو بما لا يعرف ، فواجب اجتنابه على سائر المسلمين ، وتركه حاصل من أكثرهم ، فلا يكون اجتناب ذاك هو المراد هنا ، ولا اجتناب الرقي بأسماء الله وبالمرويّ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ لما قدّمناه من أنّه التجإ إلى الله تبارك وتعالى وتبرّك بأسمائه. &(1/339)&$(1/339)
ويظهر لي - والله أعلم - أنّ المقصود اجتناب رقي خارج عن القسمين ، كالرقي بأسماء الملائكة والنبيّين والصالحين ، أو بالعرش والكرسيّ والسماوات والجنّة والنار وما شاكل ذلك ممّا يعظَّم ، كما قد يفعله كثير ممن يتعاطى الرقي ، فهذا القسم ليس من قبيل الرقي المحظور الذي يعمّ =(1/466)=@ اجتنابه ، وليس من قبيل الرقي الذي هو التجاء إلى الله تعالى وتبرُّك بأسمائه ، وكأنّ هذا القسم المتوسط يُلحق بما يجوز فعله ، غير أنّ تركه أولى ؛ من حيث إنّ الرقي بذلك تعظيم ، وفيه تشبيه للمَرقيِّ به بأسماء الله تعالى وكلماته ، فينبغي أن يُجتنب لذلك . وهذا كما نقوله في الحلف بغير الله تعالى ، فإنّه ممنوع ، فإنّ فيه تعظيمًا لغير الله تعالى بمثل ما يعظّم به الله تعالى ، والله أعلم .
فهذا ما ظهر لي ، فمن ظهر له ذلك فليقلْه شاكرًا ، وإلا ، فليتركْه
عاذرًا . وسيأتي الكلام في اشتقاق لفظ الطِيَرَة في كتاب الصلاة ، إن شاء الله تعالى .
وقوله : (( وعلى ربّهم يتوكّلون )) ، (( التوكّل )) لغةً : هو التعاجز عن أمر ما ، والاعتماد فيه على من يثق به ، والاسم التكلان ، يقال منه . اتّكلْتُ عليه في أمري ، وأصله أوْتَكلْت ، قُلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها ، ثمّ أُبدل منها التاءُ وأُدغمت في تاء الافتعال . ويقال . وكّلْتُه بأمر كذا توكيلاً ، والاسم الوِكالة بكسر الواو وفتحها .
واختلف العلماء في التوكّل وفيمن يستحِقّ اسم المتوكِّل على الله تعالى ، فقالت طائفة من المتصوِّفة . لا يستحقّه إلا من لم يخالط قلبه خوف غير الله من سَبُع أو غيره ، وحتّى يترك السعي في طلب الرزق لضمان الله تعالى .
وقال عامّة الفقهاء . إنّ التوكّل على الله تعالى هو الثقة بالله والإيقان بأنّ قضاءه ماضٍ ، واتّباع سنّة نبيّه في السعي فيما لا بدّ منه من الأسباب من مطعم &(1/340)&$(1/340)
ومشرب وتحرّز من عدوّ وإعداد الأسلحة واستعمال ما تقتضيه سنّة الله تعالى المعتادة . وإلى هذا ذهب متحقِّقو المتصوِّفة ، لكنّه لا يستحقّ اسم المتوكّل عندهم مع الطمأنينة إلى تلك الأسباب ، والالتفات إليها بالقلوب ، فإنّها لا تجلب نفعًا ولا تدفع ضرًّا ، بل السبب والمسبّب فعل الله تعالى ، والكلّ منه وبمشيئته . ومتى وقع من المتوكِّل ركون إلى تلك الأسباب ، فقد انسلخ عن ذلك الاسم . =(1/467)=@
ثمّ المتوكِّلون على حالين :
الحال الأوّل : حال المتمكِّن في التوكُّل ، فلا يَلتفِت إلى شيء من تلك الأسباب بقلبه ، ولا يتعاطاها إلاّ بحكم الأمر .
الحال الثاني : حال غير المتمكِّن ، وهو الذي يقع له الالتفات إلى الأسباب أحيانًا ، غير أنّه يدفعها عن نفسه بالطرق العلميّة والبراهين القطعيّة والأذواق الحاليّة ، فلا يزال كذلك إلى أن يُرقِيَه الله بجوده إلى مقام المتمكِّنين ، ويلحقه بدرجات العارفين .
وقوله : (( فقام إليه عُكّاشة بن مِحصَن فقال : ادع اللهَ يجعلُني منهم )) ، (( عكاشة )) هذا هو بضمّ العين وتشديد الكاف ، قال ثعلب . وقد يُخفَّف.
قلت : ولعلّه منقول من عُكاشة اسمٍ لبيت النمل بالتخفيف ، أو مأخوذ من عَكِش الشَعر وتعكَّش إذا التوى .
وعُكاشة هذا من أفاضل الصحابة وخيارهم وشجعانهم ، له ببدر المقام المشهود والعَلَم المنشور ، وذلك أنّه ضرب بسيفه في الكفّار حتّى انقطع ، فأعطاه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جِذْل حطب فأخذه فهزّه فعاد في يده
سيفًا صارمًا ، فقاتل به حتّى فتح الله على المسلمين . وكان ذلك السيف يسمَّى العون ، ولم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتّى قُتل عُكاشة في الردّة وهو عنده ، قتله طُليحة الأسديّ ، وهو الذي قال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( منّا خيرُ فارسٍ في العرب )) ، قالوا . ومن هو يا &(1/341)&$(1/341)
رسول الله ، قال =(1/468)=@ : (( عُكاشة بن محصن )).
ولقوّة يقينه وشدّة حرصه على الخير ورغبته فيما عند الله سبق الصحابةَ كلَّهم بقوله : (( ادع الله أن يجعلني منهم )). ولمّا لم يكن عند القائم بعده من تلك الأحوال الشريفة ما كان عند عُكاشة ، قال له : ((سبقك بها عُكاشة )) ، وأيضًا فلئلاّ يطلبَ كلّ من هناك ما طلبه عُكاشة ، والآخر ، ويتسلسل الأمر ، فسدّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الباب بقوله : ((سبقك بها )). وهذا أولى من قول من قال إنّ الرجل كان منافقًا ؛ لوجهين :
أحدهما : أنّ الأصل في الصحابة صحة الإيمان والعدالة ، فلا يُظنُّ بأحد منهم شيءٌ يقتضي خلاف ذلك الأصل ، ولا يُسمع إلاّ بالنقل
الصحيح . وأمّا بالتقديرات والتخمينات ، فلا .
والثاني : أنّه قلّ أن يصدر مثل ذلك السؤال من منافق ، فإنّه لا يصدر غالبًا إلاّ عن تصديق صحيح ويقين بما عند الله تعالى. =(1/469)=@
( 68 ) باب أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ شطر أهل الجنة
170- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( يَقُولُ اللهُ : يَا آدَمُ ! فَيَقُولُ : لَبَّيْكَ ! وَسَعْدَيْكَ ! وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ ! قَالَ : يَقُولُ : أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ . قَالَ : وَمَا بَعْثُ النَّارِ ؟ قَالَ : مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ . قَالَ : فَذَاكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ ، { وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَترَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ} قَالَ : فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ! أَيُّنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ ؟ فَقَالَ : ((أَبْشِرُوا ، فَإِنَّ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفًا ، وَمِنْكُمْ
ومن باب أمّة محمّد ـ صلى الله عليه وسلم ـ شطر أهل الجنّة
قول الله تعالى لآدم : (( اخرجْ بعث النار )) ، إنّما خصّ بذلك آدم ؛ لكونه أبًا للجميع ، ولأنّ الله تعالى أطلعه على نسم بنيه أهل الجنّة وأهل النار ، كما تقدّم في حديث الإسراء. &(1/342)&$(1/342)
رَجُلٌ )) قَالَ : ثُمَّ قَالَ : (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ! إِنِّي لأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ )) فَحَمِدْنَااللهَ وَكَبَّرْنَا . ثُمَّ قَالَ : (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ! إِنِّي لأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ )) فَحَمِدْنَا اللهَ وَكَبَّرْنَا . ثُمَّ قَالَ : (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ! إِنِّي لأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ . إِنَّ مَثَلَكُمْ فِي الأُمَمِ كَمَثَلِ الشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأَسْوَدِ ، أَوْ كَالرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الْحِمَارِ )).
و (( بعث النار )) : من يبعث إليها ، وكذلك بعث أهل الجنة . ومعنى ((أخرج )) هنا : مُرّ من يخرج ، وتمييز بعضهم عن بعض ، وذلك يكون في الحشر حيث يجتمع الناس ويختلطون ، والله أعلم .
ويحتمل أن يكون معنى أخرج ؛ أي : احضر إخراجهم ، فكأنهم يعرضون عليه بأشخاصهم وأسمائهم ، كما قد عرضت عليه نسمهم .
وقوله : (( وما بعث النار ؟ )) وضعت هنا (( ما )) موضع ((كم )) العددية ؛ لأنه أجيب عنها بعدد ، وأصل (( ما )) أن يسال بها عن ذوات الأشياء وحدودها . ولَمَّا سمع أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن ألفًا إلا واحدًا للنار ، وواحدًا للجنة ، اشتد خوفهم لذلك ، واستقلوا عدد أهل الجنة ، واستبعد كل واحد منهم أن يكون هو ذلك الواحد ، فسكّن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خوفهم ، وطيَّب قلوبهم ، فقال : (( أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج ألفًا ومنكم رجل )) ؛ ويعني بالألف هنا : التسعمائة والتسعة والتسعين =(1/470)=@ المتقدمة الذكر.
و (( يأجوج ومأجوج )) : قوم كفار وراء سد ذي القرنين . والمراد بهم في هذا الحديث : هم ومن كان على كفرهم ، كما أن المراد بقوله : (( منكم )) : أصحابه ومن كان على إيمانهم ؛ لأن مقصود هذا الحديث : الإخبار بقلة أهل الجنة من هذه الأمة بالنسبة إلى كثرة أهل النار من غيرها من الأمم ، ألا ترى أن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ، أو كالرّقمة في ذراع الحمار )) ؛ يدل على ذلك المقصود . وأما نسبة هذه الأمّة إلى من يدخل الجنة من الأمم ، فهذه الأمة شطر أهل الجنة كما نص عليه.
و (( الشطر )) هنا : النصف ، يقال . شاطرْتُه مُشاطَرَةً ، إذا قاسمْتُه(5) فأخذتُ نصفَ ما في يديه .
والرقمتان للفرس والحمار الأثرانِ بباطن &(1/343)&$(1/343)
أعضادهما ، والرقمتانِ للشاة هَنَتَان في قوائمها متقابلتانِ كالظفرين .
و (( لبّيْك )) معناه : إجابةً لك بعد إجابة ، و(( سَعْدَيْك )) معناه : مساعدة بعد ، وكلاهما منصوبٌ على المصدر ، ولم تستعمل العرب له فعلاً من لفظه يكون صدره .
وقوله : (( والخير في يديْك )) أي : تملكه أنت لا يملكه غيرك ، وهذا كقوله تعالى : { بيدك الخير إنّك على كلّ شيءٍ قديرٌ } ، ومعناه : بيدك الخير والشرّ ، لكن سكت آدم عن نسبة الشرّ إليه تعالى ؛ مراعاة لأدب الحضرة ، ولم ينسب الله ذلك ؛ تعليمًا لنا مراعاة الأدب واكتفاء بقوله { إنّك على كلِّ شيءٍ قديرٌ }(3) ؛ إذ قد استغرق كلّ الموجودات الممكنات . =(1/471)=@
وقوله : ((إنّي لأَطمعُ أن تكونوا شطرَ أهل الجنّة))، هذه الطماعية قد حُقِّقتْ له بقوله : {ولسوف يعطيك ربُّك فترضى}، وبقوله : (( إنّا سنُرضيك في أمّتك )) ، كما تقدّم ، لكن علّق هذه البُشرى على الطمع ؛ أدبًا مع الحضرة الإلهيّة ووقوفًا مع أحكام العبوديّة . =(1/472)=@ &(1/344)&$
كمُل كتابُ الإيمان والحمد لله ، يتلوه كتاب الطهارة(1/344)
أَلْمُفْهِمْ
لِمَا أَشْكَلَ مِنْ تَلْخِيصِ كِتَابِ مُسْلِمْ
كِتَابُ الطَّهَارَةِ
(1) بَابُ فَضْلِ الطَّهَارَةِ، وَشَرْطِهَا فِي الصَّلَاةِ
163 - عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ (1) ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «الطَّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلهِ: تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلهِ: تَمْلَآنِ - أَوْ تَمْلَأُ - مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو؛ فَبَائِعٌ نَفْسَهُ، فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا».
كَشْفُ مُشْكِلِ كِتَابِ الطَّهَارَةِ
مِنْ (2) بَابِ فَضْلِ الطَّهَارَةِ
قولُهُ ?: «الطَّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ»:
«الطَّهُورُ» (3) بفتحِ الطاء: الاسمُ، وبضمِّها: المَصْدَرُ؛ ومنه قولُهُ تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (4) ، وكذلك: الوَضُوءُ، والوَقُودُ، والوَجُورُ (5) ، والفَطُورُ (6) : الفتحُ للاسم، والضمُّ للمصدر (7) (8) .
وحُكِيَ عن الخليلِ في «الوَضُوءِ»: الفتحُ فيهما (9) ، ولم يَعْرِفِ الضمَّ (10) .
قال ابنُ الأنباريِّ: «والأَوَّلُ هو المعروفُ، والذي عليه أهلُ اللُّغَةِ» (11) .
فأمَّا الغُسْلُ: =(1/473)=@ فالفتحُ للمصدرِ، والضَّمُّ للماءِ، عَكْسَ «الوُضُوءِ»؛ على ما حكاه الجَوْهَرِيُّ (12) ، وقد قِيلَ في الغُسْلِ ما قِيلَ في الوُضُوءِ (13) .
و«الطُّهُورُ»، و«الطَّهَارَةُ»: مَصْدَرَانِ بمعنى: النَّظَافةِ؛ تقولُ العَرَبُ: طَهَرَ الشيءُ: بفتحِ الهاءِ (14) وضمِّها، يَطْهُرُ: بِضَمِّها لا غيرُ، طَهَارةً وطُهُورًا؛ &(1/345)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/203 رقم 223) في الطهارة، باب فضل الوضوء.
(2) قوله: «من» لم يتضح في (ب) و(ح).
(3) قوله: «الطهور» سقط من (ب) و(غ).
(4) سورة الفرقان، الآية: 48.
(5) الوَجُورُ: الدواءُ يُصَبُّ في وَسَطِ الحَلْق، واللَّدُود: في أَحَدِ الشِّدْقين. انظر: "اللسان" (5/279).
(6) قوله: «والفطور» ليس في (ح).
(7) زاد في (ح) بعدَ هذا: «ومنه قولُهُ تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}، وكذلك»؛ وهو تكرار.
(8) انظر: "الصِّحَاح" (1/80 - 81).
(9) قوله «فيهما»، أي: في الاسمِ والمصدَر.
(10) [توثيق ما حُكِيَ عن الخليلِ].
(11) [توثيق قولِ ابنِ الأنباريِّ].
(12) في "الصِّحَاح" (5/1781)، وانظر أيضًا: ... . ...
(13) انظر: .
(14) [تراجع المخطوطات]. ...(1/345)
كما تقولُ: نَظُفَ يَنْظُفُ نَظَافَةً، ونَزُهَ يَنْزُهُ نَزَاهَةً، بضمِّها (1) لا غيرُ، وهي: التنزُّهُ عن المُسْتَخْبَثَاتِ المحسوسةِ والمعنويَّةِ؛ كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (2) .
وَ«الشَّطْرُ»: النِّصْفُ، وقد تَقدَّمَ (3) .
والشَّطْرُ - أيضًا -: النَّحْوُ والقَصْدُ؛ ومنه: {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (4) ، وقولُ الشاعرِ:
أَقُولُ لِأُمِّ زِنْبَاعٍ أَقِيمِي ... صُدُورَ الْعِيسِ شَطْرَ بَنِي تَمِيمِ (5)
أي: نَحْوَهُمْ، ويقالُ: شَطَرَ عنه، أي: بَعُدَ، وشَطَرَ إليهِ، أي: أقبَلَ، والشاطرُ مِنَ الشُّبَّانِ: البعيدُ من الخَيْرِ (6) .
وقد اختُلِفَ في معنى قولِهِ ?: «الطَّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ»، على أقوالٍ كثيرةٍ:
أَوْلَاهَا (7) : أنْ يقالَ: إنَّه أرادَ بـ «الطَّهُورِ»: الطَّهَارَةَ من المستَخْبَثَاتِ الظَّاهِرَةِ والباطنةِ، والشَّطْرُ: النِّصْفُ، و«الإيمانُ» هاهنا (8) : هو - بالمعنَى العامِّ - كما قد دلَّلنا عليه بقولِهِ ?: «الْإِيمَانُ: تَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ، وَإِقْرَارٌ بالِّلسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ» (9) .
ولا شَكَّ: أنَّ هذا الإيمانَ ذو خِصَالٍ كثيرةٍ، وأحكامٍ متعدِّدة، غيرَ أنَّها مُنْحَصِرَةٌ في: «مَا يَنْبَغِي التَّنَزُّهُ والتَّطَهُّرُ مِنْهُ» (10) ، وهي: كُلُّ ما نَهَى الشَّرْعُ عنه، وفي: =(1/474)=@ «ما يَنْبَغِي (11) التَّلَبُّسُ والاتِّصَافُ به»، وهي (12) : كُلُّ ما أَمَرَ الشَّرْعُ به؛ فهذان النِّصْفَانِ (13) عبَّر عن أَحَدِهما بـ «الطَّهَارة» على (14) مُستَعْمَلِ اللُّغَةِ (15) ؛ وهذا كما قد رُوِيَ مَرْفُوعًا: «الإيمانُ نِصْفَانِ: نِصْفٌ (16) صَبْرٌ، وَنِصْفٌ شُكْرٌ (17) » (18) .
وقد قِيلَ: «إنَّ الطَّهَارَةَ الشَّرْعِيَّةَ لَمَّا كانتْ تُكفِّرُ الخَطَايَا السابقةَ، كانتْ كالإيمانِ الذى يَجُبُّ ما قَبْلَهُ؛ فكانتْ (19) شَطْرَ الإيمانِ (20) بالنسبةِ إلى مَحْوِ الخَطَايَا»:
وهذا فيه بُعْدٌ؛ إذِ الصلاةُ وغيرُهَا مِنَ الأعمالِ الصالحةِ تُكفِّرُ الخطايا؛ فلا يكونُ لخُصُوصِيَّةِ الطهارةِ بذلك معنًى.
ثُمَّ لا يَصِحُّ - أيضًا - معنَى كونِ الطهارةِ نِصْفَ الإيمانِ بذلك الاعتبارِ؛ لأنَّها إنما تكونُ مِثْلًا له في التكفيرِ (21) ، ولا يُقَالُ على المِثْلِ للشَّيْءِ: شَطْرُهُ (22) .
وقيل: «إنَّ الإيمانَ - هنا- يرادُ به الصَّلَاةُ؛ كما قال تعالى (23) : {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (24) ، أي: صَلَاتَكُمْ على &(1/346)&$
__________
(1) قوله: «بضمها» سقط من (أ).
(2) سورة الأحزاب، الآية: 33.
(3) في كتاب الإيمان، بابُ أمَّةُ محمَّدٍ ? شَطْرُ أهلِ الجَنَّة، وهو آخِرُ أبوابِ كتابِ الإيمان.
(4) سورة البقرة، الآية: 144.
(5) هذا بيتٌ مِنَ الوافر، وبعدَهُ:
وَغَرَّبْتُ الدُّعَاءَ وَأَيْنَ مِنِّي ... أُنَاسٌ بَيْنَ مَرَّ وَذِي يَدُومِ؟!
والبيتُ لأبي جُنْدُبٍ الهُذَليِّ أخي أبي خِرَاشٍ في "مُعْجَم البُلْدان" (5/204، 433)، و"الأغاني" (10/229)، (21/229)، ولأبي ذُؤَيْب الهُذَلِيِّ في "شرح أشعار الهُذَلِيِّين" (1/363)، ولأبي زِنْبَاعٍ الجُذَامِيِّ في "اللِّسَان" (4/409)، و"الدُّرَر " (3/90)، ولساعدةَ بنِ جُؤَيَّةَ في "الرِّسَالة" للشافعيِّ (ص35)، و"أحكام القُرْآن" له (1/69)، وبلا نِسْبة في "مَقايِيس اللُّغَة" (3/188)، و"شَرْح ديوان الحَمَاسة" للمَرْزُوقيِّ (2/705)، و"هَمْع الهَوَامِع" (2/159 - 201)، و"فَتْح القدير" للشَّوْكاني (1/153).
والعِيسُ: جمع....................
ومعنى البيت:...................
(6) [توثيق لغوي].
(7) ضبَّب ناسخ (ح) على قوله: «أولاهما».
(8) في (ب) و(ح) و(غ): «هنا».
(9) أخرجه ابن ماجه وغيره، وقد تقدَّم تخريجُهُ والكلامُ عليه أثناءَ شرحِ كتابِ الإيمانِ، بابُ معاني الإيمانِ والإسلامِ والإحسانِ شَرْعًا.
(10) في (أ): «عنه».
(11) في (غ): «وما ينبغي». وتراجع في (ب) 133/أ.
(12) في (غ): «وهو».
(13) في (ح): «الصنفان».
(14) في (غ): «عن».
(15) يعني: على المعنى اللغوي للطهارة، وهو النظافة والنزاهة، ومراده: أن الطهارة هنا بمعنى: التنظُّف والتنزُّه مما ينبغي التنظُّف والتنزُّه منه؛ وهذا أحد شطري الإيمان.
(16) ونيس.
(17) في (ب) و(غ): «نصف شكر، ونصف صبر».
(18) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (159)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (7/123 رقم 9715) من طريق عُتْبة بن السَّكَن، عن العلاء بن خالد، عن يزيد الرقاشي، عن أنس - رضي الله عنه - ، مرفوعًا.
قال الألباني في "الضعيفة" (625): «ضعيف جدًّا؛ ويزيدُ هو ابن أَبَان الرقاشي: متروك، كما قال النسائي وغيره». اهـ.
وفيه: عتبة بن السكن، قال الدراقطني: متروك.
(19) في (ب): «وكانت».
(20) في (غ): «شطرًا للإيمان».
(21) في (غ): «في التكفر».
(22) في (أ): «على مثل الشيء: شطره»، وفي (ب): «على المثل للشيء: شطر».
(23) في (ح): «كما قال الله تعالى».
(24) سورة البقرة، الآية: 143.(1/346)
قولِ المفسِّرينَ، ومعناه على هذا: أنَّ الصلاةَ لَمَّا كانتْ مُفْتَقِرَةً إلى الطَّهَارةِ، كانتْ كالشَّطْرِ لها (1) »:
وهذا أيضًا فاسدٌ؛ إذْ لا يكونُ شَرْطُ الشيءِ شَطْرَهُ، لا لُغَةً ولا مَعْنًى (2) .
فالأَوْلَى التأويلُ الأَوَّلُ، والله أعلم.
فإنْ قِيلَ (3) : «كلُّ ما ذَكَرْتُمْ مَبْنِيٌّ على أنَّ المرادَ بـ «الطَّهُورِ»: الطَّهَارةُ، وذلك لا يَصِحُّ؛ لأنَّه لم يَرْوِهِ أحدٌ فيما عَلِمْنَاهُ (4) : «الطُّهُورُ»، بالضمِّ، وإنما
رُوِيَ بالفتحِ؛ فإذنْ: هو الاسمُ على ما تَقدَّمَ (5) »:
قلنا: يصحُّ أنْ يقالَ: يُحْمَلُ هذا على مَذْهَبِ الخَلِيلِ - كما تَقدَّمَ (6) - ويُمْكِنُ حَمْلُهُ على المعروفِ، ويُرَادُ به: «استعمالُ الطَّهُورِ: شَطْرُ الإيمانِ» (7) .
وقولُهُ: «وَالْحَمْدُ لِلهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ»، قد (8) تَقدَّمَ معنى «الحَمْد»، وأنَّه راجعٌ إلى الثَّنَاءِ (9) على مُثْنًى مَّا بأوصافِ كَمَالِهِ (10) (11) ، فإذا حَمِدَ اللهَ حامدٌ، مُستَحْضِرًا معنى «الحَمْدِ» في =(1/475)=@ قلبِهِ، امتلَأَ مِيزَانُهُ مِنَ الحسناتِ، فإنْ أضافَ إلى ذلك: «سُبْحَانَ اللهِ» - الذي معناه: تَبْرِئَةُ اللهِ (12) ، وتنزيهُهُ عن (13) كُلِّ ما لا يليقُ به مِنَ النقائصِ -: مَلَأَتْ حسناتُهُ وثوابُهَا، زيادةً على ذلك: «ما بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ»؛ إذِ الميزانُ مملوءٌ بثوابِ التحميد.
وذِكْرُ السمواتِ والأَرْضِ: على جِهَةِ الإِغْيَاءِ (14) على العادةِ العَرَبِيَّة، والمرادُ: أنَّ الثوابَ على ذلك كثيرٌ جِدًّا، بحيثُ لو كان أجسامًا، لَمَلَأَ ما بين السمواتِ والأَرْض (15) .
وقولُهُ: «والصَّلَاةُ نُورٌ»، معناه: أنَّ الصلاةَ إذا فُعِلَتْ بِشُرُوطِهَا - المصحِّحةِ والمكمِّلةِ - نَوَّرَتِ القَلْبَ بحيثُ تُشْرِقُ فيه أنوارُ المَعَارِفِ والمُكَاشَفَاتْ (16) (17) ، حتى يَنْتَهِيَ أمرُ مَنْ يُرَاعِيهَا حَقَّ رِعَايتِها أنْ يقولَ: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةْ» (18) .
وأيضًا: فإنَّها تُنوِّرُ بين يَدَيْ مُرَاعِيهَا يومَ القيامةِ في تلكَ الظُّلَمِ.
وأيضًا: تُنَوِّرُ (19) وَجْهَ المُصَلِّي يومَ القيامةِ (20) ، فيكونُ ذا غُرَّةٍ وتحجيلٍ؛ كما قد ورَدَ في حديثِ عبدِاللهِ بنِ بُسْرٍ (21) - رضي الله عنه - ، مرفوعًا: «أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرٌّ مِنَ السُّجُودِ، مُحَجَّلُونَ مِنَ الْوُضُوءِ» (22) .
وقولُهُ: «وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ»، أي: على صِحَّةِ إيمانِ المُتصدِّقِ،، أو على
أنَّه ليسَ مِنَ المنافقينَ الذين يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المؤمنينَ في الصَّدَقات،، أو على &(1/347)&$
__________
(1) أي: كانت الطهارة كالشطر للصلاة التي الإيمانُ بمعناها، ومن هنا كانت الطهارة شطر الإيمان؛ هذا مراده!
(2) ونيس.
(3) قوله: «فإن قيل» مكانه بياض في (ح).
(4) في (أ): «أعلم».
(5) تقدَّم في صدر الباب: أن المعروف الذي عليه أهل اللغة: أن الطَّهُور، بفتح الطاء: الاسم، والطُّهُور، بضمها: المصدر.
(6) تقدَّم في صدر الباب: أنه حكي عن الخَلِيل بن أحمد الفَرَاهِيدِيِّ في «الوضوء»: فتحُ الواو في الاسم والمصدر جميعًا، ولم يَعْرِفِ الضمَّ.
(7) يعني: أنه إن حُمِلَ الحديث: «الطَّهُورُ شطر الإيمان» - بفتح الطاء - على المشهور من كلام أهل اللغة، وهو أنه بفتح الطاء: بمعنى الاسم، وهو الماء-: إنْ حُمِلَ على ذلك، فيكون على التأويل بتقدير حذف مضاف، وتقديره: «استعمال الطَّهُور شطر الإيمان».
(8) في (أ): «وقد».
(9) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «الثناء: هو تكرير المحامد وتثنيتها، كما في الحديث الصحيح، عن النبي?؛ أنَّه قال: «إذا قال: العبد الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم، قال: أثنى عليَّ عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي»، وفي الحديثِ الصحيحِ، عن النِّبي? : «أنه كان إذا رفَعَ رَأْسَهُ من الركوعِ، قال: ربَّنا ولَكَ الحَمْدُ مِلْءَ السمواتِ، ومِلْءَ الأرض، ومِلْءَ ما بينهما، ومِلْءَ ما شِئْتَ مِنْ شيءٍ بعدُ؛ أهلَ الثناءِ والمجد؛ أَحَقُّ ما قال العَبْدُ، وكلُّنا لك عبدٌ، لا مانعَ لما أعطَيْتَ ولا معطي لما مَنَعْتَ، ولا يَنْفَعُ ذا الجَدِّ منك الجَدُّ»؛ فذكر الحمْدَ والثناءَ والمجدَ هنا، كما ذكره في أولِ الفاتحة؛ فالحمدُ يتناولُ جنسَ المحامد، والثناءُ يقتضي تكريرَهَا وتعديدَهَا والزيادةَ في عددها، والمجدُ يقتضي تعظيمَهَا وتوسيعَهَا والزيادةَ في قدرها وصفتها؛ فهو سبحانه مستحقٌّ للحمد والثناء والمجد». "درء تعارض العقل والنقل" (4/16).
(10) في (ب): «كمال».
(11) تقدَّم ذلك في صدر الكتاب، باب شرح ما تضمَّنته خطبةُ الكتاب وصدره من المعاني والغريب، وعبارة الشارح هناك: «الحمدُ لغةً: هو الثناء على مُثْنًى عليه بما فيه من أوصاف الجلال والكمال»،
(12) في (ح) و(غ): «تنزيه الله».
(13) في (ب): «من».
(14) الإغياء: بلوغ الغاية، وغاية الشيء أقصاه. "اللسان" (15/143).
(15) مكتوب انظر الورقة المرفقة ولم أجد هذه الحاشية في الورق.
(16) يوجد لابن القيم تقسيم للكشف يستحسن ذكره هنا. (ونيس).
(17) في (ح): «أنوار المكاشفات والمعارف».
(18) أخرجه أحمد (3/128 و199 و285)، والنسائي (7/6) في عِشْرة النساء، باب حب النساء، والحاكم (2/160)، والبيهقي (7/87)، جميعهم من طريق ثابت، عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله?: «حبِّب إليَّ النَّساء والطِّيب، وجعلتْ قرة عيني في الصلاة».
قال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي، وحسَّنه الشيخ الألباني في "المشكاة" (5261)، و"صحيح الجامع" (3124).
(19) في (أ) و(ح): «فيتنوَّر».
(20) في (غ): «الوجه للمصلي لها يوم القيامة».
(21) في (ح): «أنس»، وفي (غ): «بشر».
(22) أخرجه أحمد (4/189)، والترمذي (2/505 - 506 رقم 607) في الصلاة، باب ما ذكر مِنْ سِيمَا هذه الأمة يوم القيامة مِنْ آثار السجود والطهور، كلاهما من طريق صفوان بن عمرو، عن يزيد بن خمير الرحبي، عن عبدالله بن بُسْر، عن النبي?، قال: «أمتي يوم القيامةِ غُرٌّ من السجود، محجَّلون من الوضوء».
وقال الترمذي: «حسن صحيح غريب من هذا الوجه».(1/347)
صحةِ محَّبةِ المُتصدِّقِ للهِ تعالى، ولِمَا لَدَيْهِ مِنَ الثواب؛ إذْ قد آثَرَ مَحَبَّةَ اللهِ تعالى وابتغاءَ ثَوَابِه، على ما جُبِلَ عليه مِنْ حُبِّ الذَّهَبِ والفِضَّة؛ حتى أخرَجهُ للهِ تعالى. =(1/476)=@
وقولُهُ: «وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ»، كذا صَحَّتِ روايتُنَا فيه، وقد رَوَاهُ بعضُ المَشَايِخ: «وَالصَّوْمُ ضِيَاءٌ» بالميم، ولم تقعْ لنا تلك الروايةُ، على أنَّه يَصِحُّ أنْ يُعَبَّرَ بـ «الصَّبْرِ» عن «الصَّوْم»، وقد قِيلَ ذلك في قولِهِ تعالى (1) : {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} (2) .
فإنْ تنزَّلنا على ذلك، فيقالُ في كونِ الصَّبْرِ ضِيَاءً، كما قِيلَ في كونِ الصلاةِ نُورًا؛ وحينئذٍ: لا يكونُ بين النُّورِ والضِّيَاءِ فَرْقٌ (3) معنويٌّ، بل لفظيٌّ.
والأَوْلَى (4) أنْ يقالَ: إنَّ الصَّبْرَ في هذا الحديثِ غيرُ الصَّوْمِ؛ بل هو الصَّبْرُ على العباداتِ والمَشَاقَّ والمصائب، والصبرُ عن المخالفاتِ والمنهيَّات؛ كاتِّبَاعِ هَوَى النَّفْسِ والشَّهَوات، وغيرِ ذلك؛ فمَنْ كان صابرًا في تلك الأحوال، مُتثبِّتًا فيها، مُقابِلًا لكُلِّ حالٍ بما يليقُ به - ضَاءَتْ له (5) عواقبُ أَحْوَالِهْ، ووضَحَتْ له مَصَالِحُ أَعْمَالِهْ؛ فظَفِرَ بمَطْلُوبِهْ، وحصَلَ مِنَ الثوابِ على مَرْغُوبِهْ؛ كما قيل:
فَقَلَّ مَنْ جَدَّ فِي أَمْرٍ يُطَالِبُهُ (6) ... وَاسْتَعْمَلَ الصَّبْرَ إِلَّا فَازَ بِالظَّفَرِ (7)
وقولُهُ: «وَالقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ»، يعني: أنَّكَ إِنِ (8) امتَثَلْتَ أوامرَهُ، واجتنَبْتَ نَوَاهِيَه، كان حُجَّةً لك في المواقفِ التي تُسْأَلُ فيها عنه؛ كمُسَاءَلَةِ المَلَكَيْنِ في القَبْر (9) ، والمُسَاءَلَةِ عند المِيزَان (10) ، وفي عَقَبَاتِ الصِّرَاط (11) ،، وإنْ لم تَمْتَثِلْ ذلك، احْتُجَّ به عليك.
ويَحْتمِلُ أنْ يرادَ به: أنَّ القرآنَ هو الذي يُنْتَهَى إليه عند التَّنَازُعِ في المَبَاحِثِ الشرعيَّهْ، والوقائعِ الحُكْمِيَّهْ؛ فبه تَسْتَدِلُّ على صِحَّةِ دَعْواك، وبه يَسْتَدِلُّ عليك خَصْمُك.
وقولُهُ: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو...» الحديثَ، «يَغْدُو» (12) ، بمعنى: يُبَكِّرُ؛ يقالُ: =(1/477)=@ «غَدَا»: إذا خرَجَ صَبَاحًا في مَصَالحِهِ بِغُدُوٍّ، و«رَاحَ»: إذا رجَعَ بعَشِيٍّ.
ومعنى ذلك: أنَّ كُلَّ إنسانٍ يُصْبِحُ ساعيًا في أمورِه، مُتصرِّفًا في أغراضِه.
ثُمَّ إمَّا أن تكونَ تصرُّفاتُهُ: بِحَسَبِ دَوَاعِي الشرعِ والحقِّ؛ فهو الذي يَبِيعُ نفسَهُ مِنَ الله، وهو بَيْعٌ آيِلٌ إلى عِتْقٍ وحُرِّيَّة؛ كما قال تعالى: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ &(1/348)&$
__________
(1) في (غ): «قول الله تعالى».
(2) سورة البقرة، الآية: 45.
(3) في (أ) و(ح): «فرقان».
(4) في (غ): «والأول».
(5) قوله: «له» ليس في (ب).
(6) قوله: «في أمر يطالبه» في (أ): «في مطالبه».
(7) البيت من البسيط، من أبيات، وهي:
إِصْبِرْ عَلَى مَضَضِ الْإِدْلَاج بِالسَّحَرِ ... وَبِالرَّوَاحِ عَلَى الحَاجَاتِ وَالبُكَرِ
لَا تَعْجِزَنَّ وَلَا يُضْجِرْكَ مَطْلَبُهُ ... فَالنُّجْحُ يَتْلَفُ بَيْنَ العَجْزِ وَالضَّجَرِ
إِنِّي رَأَيْتُ وَفِي الأَيَّامِ تَجْرِبَةٌ ... لِلصَّبْرِ عَاقِبَةً مَحْمُودَةَ الْأَثَرِ
فَقَلَّ مَنْ جَدَّ فِي أَمْرٍ يُطَالِبُهُ ... فَاسْتَصْحَبَ الصَّبْرَ إِلَّا فَازَ بِالظَّفَرِ
والبيتُ لعليِّ بنِ أبي طالب - رضي الله عنه - في "شعب الإيمان" (7/224)، و"تاريخ مدينة دمشق" (42/529)، و"المستطرف" (2/139)، وبلا نسبة في "الجامع، لأخلاق الراوي وآداب السامع" (2/180)، و"شرح السيوطي لسنن النسائي" (5/8) و"تفسير الثعالبي" (3/15)، و"المستطرف" (2/125)، و"الصناعتين" (ص 391)، و"العقد الفريد" (1/195).
ويروى مكان «يطالبه»: «يحاوله»، «ويؤمله»، ويروى مكان «في أمر»: «في شيء»، ويروى مكان «واستعمل»: «واستصحب»، و«فاستصحب»، و«واستشعر».
(8) في (ب) و(ح) و(غ): «إذا».
(9) أخرجه أحمد (4/287، 288، 295)، وأبو داود (5/114-116 رقم 4753) في السنة، باب في المسألة في القبر وعذاب القبر، كلاهما من طريق المنهال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء عن عازب، قال: خرجنا مع رسولِ الله ? في جنازة... وفيه قال: «ويأتيه ملكان فَيُجْلِسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ قال: فيقول: هو رسول الله?...» الحديث. وإسناده صحيح.
(10) أخرجه الحارث بن أبي أسامة (1132/بغية الباحث)، والبزار (3445/كشف)، واللالكائي في "أصول الاعتقاد" (2205)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/174).
جميعهم من طريق داود بن المحَّبر، عن صالح الْمُرِّي، عن جعفر بن زيد - زاد بعضهم: ومنصور بن زاذان، وثابت - عن أنس رفعه: «إن مَلَكًا موكَّل بالميزان، فيُؤْتَى بابن آدم، فيوقف بين كفتي الميزان، فإن رجَحَ، نادى الملك بصوت يسمع الخلائق: سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدًا، وإن خف، نادى الملك: شَقِيَ فلانٌ شَقَاوةً لا يسعُد بعدها أبدًا»؛ وإسناده ضعيف جدًّا.
داود بن المحبَّر: متروك، وصالح الْمُرِّي: ضعفه ابن معين، والدارقطني، وقال البخاري والفَلَّاس: منكر الحديث، وقال البزار عقب روايته له: «لا نعلم رواه عن ثابت إلا صالح، ولا عن جعفر أيضًا إلا صالح».
وقال أبو نعيم: «تفرد به داود عن صالح عن جعفر».
(11) لم أجده، لكن ذكر معناه أبو عبد الله القرطبي في "التذكرة" (1/399-400)، ولم يعزه لأحد، وإنما قال: روي عن بعض أهلِ العلمِ أنه قال... فذكره.
(12) قوله: «الحديث، يغدو» سقط من (غ).(1/348)
الْجَنَّةَ} (1) .
وإمَّا أنْ تكونَ تصرُّفاتُهُ: بحسَبِ دَوَاعِي الهَوَى والشيطان؛ فهو الذى باع نفسَهُ مِنَ الشيطانِ، فأَوْبَقَهَا، أَيْ: أهلَكَهَا، ومِنْهُ: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} (2) ، ومِثْلُهُ (3) : قولُ ابنِ مَسْعُود: «النَّاسُ غَادِيَانِ، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُوبِقُهَا، أَوْ مُفَادِيهَا فَمُعْتِقُهَا» (4) .
164 - وَعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ (5) ، قَالَ: دَخَلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى ابْنِ عَامِرٍ يَعُودُهُ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَقَالَ: أَلَا تَدْعُو اللهَ لِي يَا بْنَ عُمَرَ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ? يَقُولُ: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَلَا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ»، وَكُنْتَ عَلَى الْبَصْرَةِ!!
وقولُهُ: «لَا تُقْبَلُ (6) صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ»، دليلٌ لمالكٍ وابنِ نافعٍ على قولهما: إنَّ مَنْ عَدِمَ الماءَ والصَّعِيدَ، لم يُصَلِّ، ولم يَقْضِ، إنْ خرَجَ وقتُ الصلاة؛ لأنَّ عَدَمَ قَبُولها لِعَدَمِ شَرْطِها يَدُلُّ على أنه ليسَ مُخَاطَبًا بها حالةَ عَدَمِ شَرْطِها؛ فلا يَترتَّبُ شيءٌ (7) في الذِّمِّة، فلا يَقْضِي (8) ؛ وعلى هذا: فتكونُ الطهارةُ مِنْ شروطِ الوُجُوب (9) .
واختَلَفَ أصحابُ مالكٍ في هذه المسألةِ؛ لاختلافِهِمْ في هذا الأصلِ (10) ، وسيأتي إنْ شاءَ اللهُ تعالى (11) . =(1/478)=@
و«الغُلُولُ» هنا: الخِيَانةُ مُطْلَقًا، والمالُ (12) الحَرَامُ.
وذِكْرُ ابنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عنهما - هذا الحديثَ لابنِ عامرٍ، حينَ سألَهُ في الدُّعَاءِ له (13) ، إنَّما كان على جِهَةِ الوَعْظِ والتذكيرِ؛ حتى يَخْرُجَ عن المَظَالِمِ، وكأنَّه يشيرُ له (14) إلى أنَّ الدعاءَ - مَعَ الاستمرارِ على المظالمِ - لا يَنْفَعُ، كما لا تَنْفَعُ صلاةٌ بغير طُهُورٍ، ولا صَدَقَةٌ من غُلُول.
وقولُهُ: «وَكُنْتَ عَلَى الْبَصْرَةِ»، تنبيهٌ على الزمانِ الذي تَعلَّقَتْ به فيه الحقوقُ؛ حتى يُحاسِبَ نفسَهُ على تلك المُدَّةِ، فيَتخلَّصَ مما تَرتَّبَ (15) عليه فيها.
165 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (16) ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ، حَتَّى يَتَوَضَّأَ».
وقولُهُ: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ، حَتَّى يَتَوَضَّأَ»:
«الحَدَثُ» هنا (17) : كنايةٌ عمَّا يَخرُجُ من السَّبِيلَيْنِ معتادًا في جنسِهِ وأوقاتِهِ؛ عند مالكٍ وجُلِّ أصحابِهِ (18) .
وقال ابنُ عبدِالحَكَمِ والشافعيُّ: المُعْتَبَرُ: الخارجُ النَّجِسُ من المَخْرَجَيْنِ (19) .
وقال أبو حَنِيفةَ: المعتَبَرُ: الخارجُ النَّجِسُ وحدَهُ؛ فَمِنْ أيِّ مَحَلٍّ خرَجَ، نقَضَ وأوجَبَ (20) (21) (22) (23) . =(1/479)=@ &(1/349)&$
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 111.
(2) الآية: 34. سورة الشورى.
(3) في (ب) و(غ): «ومنه».
(4) أخرجه أبو داود في "الزهد" (ص170) من طريق سفيان، عن معن بن عبد الرحمن، عن القاسم.
وأخرجه الطبراني في "الكبير" (9/185 رقم 8911) من طريق سفيان، عن معن بن عبدالرحمن، عن أبيه.
كلاهما – القاسم، وعبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود – عن عبدالله بن مسعود، قال: «السكينةُ مَغْنَمٌ، وتكرها مَغْرَمٌ، والصلاةُ نور، والصدقةُ برهان، والصيامُ جُنَّة حصينة، والناسُ غاديان، فبائعٌ نفسه فموبقها، ومفاديها فمعتقها».
وفي إسناده انقطاع؛ القاسم بن عبدالرحمن: روايته عن ابن مسعود مرسلة، وعبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود: اختلف في سماعه من أبيه، والأكثرون على عدم سماعه منه، والحديث ذكره الهيثمي في "المجمع" (10/236) وقال: رواه الطبراني وإسناده جيد.
(5) أخرجه مسلم (1/204 رقم 224) في الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة.
(6) في (ب) و(ح): «لا يَقْبَلُ اللهُ».
(7) قوله «فلا يترتب شيء» في (غ): «فلا يترتب».
(8) في (ب) و(ح): «تُقضى».
(9) هذا هو المعتمد في مذهب مالك، ووجهُهُ عندهم: أن هذا مُحْدِثٌ لا يقدرُ على رَفْع حدثٍ ولا استباحةِ صلاة بالتيمُّم، فلم يكن عليه صلاةٌ كالحائض، ولأنَّ وجود الماء أو الصعيد شرطٌ – عندهم – في وجوبِ أدائها، وقد عُدِم، وشرطُ وجوبِ القضاءِ تعلُّقُ الأداءِ بالقاضيِ. انظر: "المنتقى" (1/116)، و"مواهب الجليل" (1/360)، و"التاج والإكليل" (1/528)، و"حاشية الخرشي" (1/200)، و"الفواكه الدواني" (1/160، 165)، و"حاشية الدسوقي" (1/162)، و"حاشية الصاوي" (1/201)، و"منح الجليل" (1/161).
قلت: وبقولِ مالكٍ أبو حنيفة، والثوريُّ، والأوزاعيُّ؛ وهو روايةٌ عن أبي ثور، ومحكيٌّ عن داود الظاهريِّ.
قال أبو محمد ابن حزم في "المحلى" (1/363): «... هذا كان أصحَّ الأقوال، لولا ما ذكرنا من أن النبي ? أسقَطَ عنا ما لا نستطيعُ ممَّا أمرنا به، وأبقى علينا ما نستطيع، وأنَّ الله تعالى أسقَطَ عنا ما لا نقدرُ عليه، وأبقى علينا ما نقدر عليه، بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]؛ فصحَّ أن قوله - عليه السلام -: «لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ»، و«لا يقبل الله صلاة إلا بطهور»؛ إنما كلَّف ذلك من يقدر على الوضوء أو الطهور بوجود الماء أو التراب، لا من لا يقدر على وضوء ولا تيمم، هذا هو نصُّ القرآن والسنة، فلما صحَّ ذلك، سقط عنا تكليف مالا نطيق من ذلك، وبقي علينا تكليف ما نطيقه – وهو الصلاة – وإذ ذلك كذلك، فالمصلي كذلك مؤدٍّ ما أُمِرَ به، ومن أَدَّى ما أمر به فلا قضاء عليه». اهـ.
قلت: وقد ذهب جمهور العلماء إلى أنَّ الصلاة واجبةٌ على فاقد الطهورّيْنِ لرحمة الوقت؛ ولذا قال ابن عبدالبر في "التمهيد" (19/275): «ما أعرف كيف أقدر على أنْ أجعَلَ هذا [يعني: مشهور مذهب مالك] الصحيحَ من مذهب مالك، مع خلافه جمهور السلفَ وعامَّةَ الفقهاء وجماعةَ المالكيين». اهـ.
ثم اختلفوا في سقوط هذه الصلاة عنه – إذا صلَّاها بغير طهور – وهل تجب إعادتها عن إمكان الطهور:
مذهب الشافعي – في الجديد – والصاحبان من الحنفية، وابن القاسم من المالكية: إلى انه يصلِّي كما هو، وعليه الإعادة؛ وحجتهم: أن الطهارة شرطُ قبولِ الصلاة؛ فلا تُقْبَلُ بدونها، وإنما وجبتْ عليه في الوقت لحرمته (!!)، ولأنَّه عذر نادر غير متصل، فلم تسقطِ الإعادة، كمن صلَّى محدثًا ناسيًا أو جاهلًا حَدَثَهُ.
وذهب الإمام أحمد: إلى أنه يصلي، وفي الإعادة عنه روايتان.
وذهب الشافعي في القديم – واختاره النووي – وأبو ثور، وأشهب من المالكية، وابن حزم، وشيخ الإسلام ابن تيمية: إلى أنه يصلَّي، ولا إعادة عليه، وهو الراجح؛ لما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: «أنها استعارت قلادة من أسماء، فهلكت، فأرسل رسول الله ? ، ناسًا من أصحابه في طلبها، فأدركتهم الصلاة، فصلَّوْا بغير وضوء، فلما أتوا النبي ?، شكوا ذلك إليه، فنزلت آية التيمم»، وليس نية أنه أمرهم بالإعادة،، ولأنّ من صلَّاها، فقد أدَّى ما أمر به؛ فلا قضاء عليه،، ولأنَّ القضاء لا يجب إلا بأمر جديد، ولم يثبت فيه شيء،، ولأنَّ العجز عن الشرط يوجب ترك المشروط، والله أعلم.
انظر في مذهب الحنفية: "المبسوط" (1/123)، و"البدائع" (1/50)، و"رد المحتار" (1/253)، وفي مذهب الشافعية: "أسنى المطالب" (1/123)، و"قليوبي وعميرة" (1/110)، و"تحفة المحتاج" (1/378)، و"مغني المحتاج" (1/273)، و"نهاية المحتاج" (1/317)، و"البجيرمي" (1/128)، و"المجموع" (2/322). وفي مذهب الحنابلة: "كشاف القناع" (1/171)، و"الفروع" (1/221)، و"الإنصاف" (1/282)، و"مطالب أولي النهى" (1/206).
(10) قال ابن العربي في "عارضة الأحوذي" ( / ): «العاجز عن استعمال الطهارة لمرضٍ أو عدوٍّ أو سَبُعٍ أو عدمِ قدرة حتى لا يمكنه تطهيرٌ بماءٍ أو ترابٍ مختلف فيه [يعني: عند المالكية]، على ستة أقوال:
الأول: قال مالك وابن نافع: لا صلاة، ولا قضاء. والثاني: قال ابن القاسم: يصلِّي ويقضي. والثالث: يصلِّي ولا يعيد؛ قاله أشهب والشافعي. والرابع: يصلي إذا قدر [يعني: قضاءً]؛ قاله أصبغ. والخامس: لا يصلِّي ويعيد؛ قاله الذي قال: يؤمئ إلى التيمم، وهو أبو الحسن القابسي... السادس: يومئ إلى التيمم أشار إليه متأخرًا، والأظهر قول أشهب، لأن الطهارة شرطُ أداءٍ لا شرطُ وجوب، وعدمها لا يمنعُ من جعلها كسائر شروطها من شروط طهارة ثوبٍ واستقبالِ قبلة». اهـ. وانظر: "المنتقى" (1/116)، و"المواهب" (1/360)، و"الخرشي" (1/200).
(11) ونيس.
(12) في (أ): «أو المال».
(13) قوله: «له» سقط من (ب) و(ح) و(غ).
(14) قوله: «له» ليس في (غ).
(15) في (غ): «يترتب».
(16) أخرجه البخاري (1/234 رقم 135) في الوضوء، باب لا تقبلُ صلاةٌ بغير طهور، ومسلم (1/204 رقم 225) في الطهارة، بابُ وجوبِ الطهارةِ للصلاة.
(17) قوله: «الحدث هنا» في (أ): «أحدث».
(18) الخارج من السبيلَيْن عند مالك وأصحابه: لا يخلو أن يكون معتادًا أو غير معتاد: فإن كان معتادًا – وهو البول، والغائط، والودي -: فإنه الذي يجب فيه الوضوءُ،، وأما غير المعتاد – كالحصى، والدم، والدود -: فإن المشهور عندهم: أنه لا يجب به الوضوء.
أما الخارج النجس من غير السبيلين: فلا يعتبر عندهم حَدَثًا، إلا إذا خرج من ثُقْبَةٍ تحت المعدة حال انسداد مخرجه – وفي قول: وإنْ لم ينسد – فيقضي حينئذ؛ فالمعتبر عند مالك الخارج والمخرج وصفة الخروج. انظر: "المنتقى" (1/54)، و"مواهب الجليل" [(1/293) ومكتوب أيضا (1/291 وما بعدها) ونيس، و"حاشية العدوي" (1/129)، و"حاشية الصاوي" (1/139) و"شرح مختصر خليل للخرشي" (1/151 وما بعدها) ونيس و"بداية المجتهد" (1/24).
(19) المعتبر عند الشافعي رحمه الله، ومحمد بن عبدالحكم – من أصحاب مالك – في الحدث: هو المَخْرَج، سواءٌ كان الخارج نجسًا أو غير نجس، فكلُّ خارج من السبيلين ينقض الوضوء إلا المني، وأمَّا الخارج النجس من غير السبيلين: فلا يعتبر حدثًا عندهم، لكن يستثنى من هذا الحكم ما خرج من ثُقْته تحت المعدة إن انسَدَّ مخرجه؛ كالمالكية. انظر: "المجموع" (2/10) و(2/62)، و"مغني المحتاج" (1/141)، و"حاشية البجيرمي على الخطيب" (1/201) و"فتوحات الوهاب" (1/64) وما بعدها، ونيس، و"تحفة المحتاج" (1/133) (1/129 وما بعدها) ونيس، و"نهاية المحتاج" (1/112) (1/10 (وما بعدها)) ونيس، و"قيلوبي" (1/34).
(20) قوله: «الحدث هنا» في (أ): «أحدث».
(21) الخارج النجس من غير السبيلين: حَدَثٌ ينقُضُ الوضوء عند أبي حنيفة بِشرط أن يكون سائلًا جاوَزَ إلى محل يطلب تطهيره ولو ندبًا؛ كدمٍ وقيحٍ وصديدٍ عن رأس جُرِحَ، وكقَيْءِ ملء الفم.
وهذا مذهبُ الإمامِ أحمد في خروج البولِ والغائط مطلقًا، واشترَطَ في غيرهما أن يكون كثيرًا فاحشًا في نفس كل أحدٍ بحسبه.
وإلى اعتبار الخارج النجس حدثًا، سواءٌ خرج من المخرجين أو غيرهما: ذهب أبو محمد بن حزم، وهو قولُ كثير من الصحابة، والتابعين، منهم: ابن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وابن المسِّيب، والحسن، وقتادة، والثوري، وإسحاق.
انظر: "رد المحتار" (1/134 وما بعدها) ونيس، و"بدائع الصنائع" (1/24) ونيس، و"فتح القدير" (1/36 – وما بعدها)، و"البحر الرائق" (1/33) (1/31 وما بعدها) ونيس، و"كشاف القناع" (1/124)، و"مطالب أولي النهى" (1/141)، و"المحلَّى" (1/218) و"الانصاف" (1/194) ونيس، و"المغني" (1/111) ونيس
(22) بيَّن ابن رشد في "بداية المجتهد" (1/71) سبب اختلاف الفقهاء في ذلك، فقال:
«والسبب في اختلافهم: أنه لمَّا أجمَعَ المسلمون على انتقاض الوضوءِ ممَّا يخرُجُ من السبيلَيْن – من غائطٍ وبولٍ وريحٍ ومَذْيٍ – لظاهرِ الكتاب، ولتظاهرِ الآثارِ بذلك -: تطرَّق إلى ذلك ثلاثةُ احتمالات:
أحدها: أن يكونَ الحُكْمُ إنما علِّق بأعيانِ هذه الأشياء فقطِ المتفقِ عليها؛ على ما رآه مالكٌ - رحمه الله -.
الاحتمال الثاني: أن يكونَ الحكمُ إنما علِّق بهذه مِنْ جهة أنها أنجاسٌ خارجةٌ من البَدَنِ لكونِ الوضوءِ طهارةً، والطهارة إنما يؤثِّر فيها النجس.
والاحتمال الثالث: أن يكونَ الحكمُ أيضًا إنما علِّق بها من جهة أنها خارجةٌ من هذَيْن السبيلَيْن.
فيكونُ على هذَيْنِ القولَيْنِ الأخيرَيْنِ ورودُ الأمرِ بالوضوء من تلك الأحداثِ المجمَعِ عليها إنما هو من باب الخاصِّ أريدَ به العامُّ، ويكونُ عند مالك وأصحابه إنما هو مِنْ بابِ الخاصِّ المحمولِ على خصوصه؛ فالشافعيُّ وأبو حنيفة اتفقا على أنَّ الأمر بها هو من بابِ الخاصِّ أريد به العامُّ، واختلَفَا أيُّ عامٍّ هو الذي قُصِدَ به؟:
فمالكٌ: يرجِّح مذهبه بأنَّ الأصلَ هو أن يحملَ الخاصُّ على خصوصه، حتى يدلَّ الدليلُ على غير ذلك.
والشافعيُّ: محتجٌّ بأنَّ المراد به المَخْرَجُ لا الخارجُ؛ باتفاقهم على إيجابِ الوضوء من الرِّيحِ الذي يخرُجُ من أسفل، وعدمِ إيجابِ الوضوء منه إذا خرَجَ من فوقُ، وكلاهما ذاتٌ واحدة، والفرقُ بينهما: اختلافُ المَخْرَجَيْن، فكان هذا تنبيهًا على أنَّ الحكم للمَخْرَجِ، وهو ضعيف؛ لأنَّ الريحين مختلفان في الصفة والرائحة.
وأبو حنيفة: يحتجُّ لأنَّ المقصود بذلك هو – الخارجُ النجسُ لكون النجاسةِ مؤثِّرةً في الطهارة، وهذه الطهارةُ – وإنْ كانتْ طهارةً حُكْمية – فإنَّ فيها شبهًا من الطهارة المعنوية، أعني: طهارةَ النَّجَسِ،، وبحديثِ ثَوْبَان: «أن رسول الله? قاء فتوضَّأ»،، وبما رُوِيَ عن عمر، وابن عمر – رضي الله عنهما – مِنْ إيجابهما الوضوءَ من الرُّعَاف،، وبما روي من أمره? المستحاضةَ بالوضوء لكلِّ صلاة؛ فكان المفهومُ من هذا كلِّه عند أبي حنيفة الخارجَ النَّجِسَ.
وإنما اتفق الشافعيُّ، وأبو حنيفةَ: على إيجابِ الوضوءِ من الأحداثِ المتفقِ عليها – وإنْ خرَجَتْ على جهة المرض – لأمره? بالوضوءِ عند كلِّ صلاةٍ المستحاضةَ، والاستحاضةُ مَرَضٌ.
وأما مالكٌ: فرأى أن المرَضَ له ههنا تأثيرٌ في الرخصة؛ قياسًا أيضًا على ما رُوِيَ أيضًا من أنَّ المستحاضةَ لم تؤمَرْ إلا بالغَسْلِ فقطْ، وذلك أنَّ حديث فاطمة بنت أبي حُبَيْش هذا هو متفق على صحته، ويختلفُ في هذه الزيادة فيه – أعني: الأمر بالوضوء لكل صلاة – ولكنْ صحَّحها أبو عمر عبدالبر؛ قياسًا على مَنْ يغلبه الدمُ مِنْ جُرْح ولا ينقطع، مثل ما روي أن عمر - رضي الله عنه - صلَّى وجُرْحُهُ يَثْعَبُ دمًا». اهـ.
(23) ونيس.(1/349)
(2) بَابٌ فِي صِفَةِ الوُضُوءِ
166 - عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ (1) ؛ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِوَضُوءٍ، فَتَوَضَّأَ، فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ? تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ عُلَمَاؤُنَا يَقُولُونَ: هَذَا الْوُضُوءُ أَسْبَغُ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ أَحَدٌ لِلصَّلَاةِ.
وَمِنْ بَابِ فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ
قولُهُ: «ثَلَاثَ مَرَّاتٍ»، هو تعديدُ الغَسَلاتْ، لا تعديدُ الغَرَفَاتْ؛ كما ذهَبَ إليه بعضُهم (2) :
وليس بشيءٍ؛ إذْ لم يَجْرِ للغَرَفَاتِ في هذا الحديثِ ذِكْرٌ (3) ، وإنَّما قال: «غَسَلَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ»، و«ثَلَاثَ»: منصوبٌ نصبَ المصدرَ لإضافتِهِ إليه؛ فكأنَّه قال: غَسَلَاتٍ ثَلَاثًا، ومِنْ ضرورةِ ذلك: تعديدُ الغَرَفات (4) .
و«المَضْمَضَةُ»: وَضْعُ الماء في الفَمِ، وخَضْخَضَتُهُ فيه، و«الِاسْتِنْثَارُ»: إيصالُ الماءِ إلى الأَنْفِ، ونَثْرُهُ منه بِنَفَسٍ أو بإِصْبَعَيْهِ، وسُمِّيَ: استِنْثَارًا بآخِرِ الفعلِ، وقد يُسَمَّى: استنشاقًا بأوَّلِهِ، وهو: استدعاءُ الماءِ بِنَفَسِ الأَنْف (5) .
وقولُهُ: «هَذَا الْوُضُوءُ أَسْبَغُ (6) »، أي: أَكْمَلُ، والدِّرْعُ السابغُ: الكاملُ.
وقد يقالُ على هذا: «فكيفَ (7) يكونُ هذا الوُضُوءُ أسبَغَ ما يَتَوَضَّأُ به أحدٌ، ولم يَذْكُرْ فيه =(1/480)=@ مَسْحَ الأُذُنَيْنِ؟»:
والجوابُ: أنِّ اسمَ «الرَّأْسِ» تَضمَّنَهما (8) ، واللهُ أعلم.
167- وَعَنْ أَبِي أَنَسٍ (9) ؛ أَنَّ عُثْمَانَ تَوَضَّأَ بِالْمَقَاعِدِ، فَقَالَ: أَلَا أُرِيكُمْ وُضُوءَ رَسُولِ اللهِ ?، ثُمَّ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا.
و«المَقَاعِدُ»: دَكَاكِينُ ومَوَاضِعُ كانوا يَقْعُدونَ عليها، وكانتْ بِقُرْبِ المسجد.
وقولُهُ: «ثَلَاثًا ثَلَاثًا»، تَمسَّكَ به الشافعيُّ في استحبابِهِ تَكْرارَ مَسْحِ الرأسِ بمياهٍ متعدِّدةٍ؛ كالأعضاءِ المغسولة (10) .
وخالفَهُ في ذلك (11) مالكٌ وأبو حَنِيفةَ (12) ، ورَأَيَا: أنَّ هذا اللفظَ مخصَّصٌ، أو مُبَيَّنٌ بما وَرَدَ مِنْ حديثِ عُثْمانَ نفسِهِ - رضي الله عنه - (13) ؛ حيثُ ذكَرَ أعضاءَ الوُضُوءِ مُفصَّلةً، وقال فيها: «ثَلَاثًا ثَلَاثًا»، ولم يَذْكُرْ لمسحِ الرأسِ عَدَدًا، وليس في شيءٍ مِنْ أحاديثِ عثمانَ الصِّحَاحِ ذِكْرُ أنَّه ? مَسَحَ رأسَهُ &(1/350)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (1/259 رقم 159) في الوضوء، باب الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، ومسلم (1/204 رقم 226) في الطهارة، باب صفة الوضوء وكماله.
(2) ونيس.
(3) ونيس.
(4) ونيس.
(5) ونيس.
(6) في (أ) زيادة: «ما يَتَوَضَّأُ به أَحَدٌ».
(7) في (أ): «كيف».
(8) في (ح): «تضمنها»، وفي (غ): «يضمنها».
(9) أخرجه مسلم (1/ 207 رقم 230) في الطهارة، باب فضل الوضوء والصلاة عقبه.
(10) انظر: "الأم" (1/ 47) ومكتوب (1/ 42)ونيس، و"أسنى المطالب" (1/ 39)، و"مغني المحتاج" (1/ 188)، و"حاشية البجيرمي على الخطيب" ونيس (1/ 169)، و"المجموع" (1/ 461، 462) ونيس.
وهذا هو مشهور مذهب الشافعيِّ الذي نصَّ عليه في كتبه، وقطع به جماهير أصحابه، وحكى الترمذيُّ عنه أنَّ مسح الرأس مرة، وهو وجهٌ لبعض الشافعية.
وقد ذهب إلى استحبابِ التثليث في مسح الرأس كذلك: داود، وهو روايةٌ عن أحمد، وبه قال ابن حزم، وحكاه ابن المنذر عن أنس بن مالك، وسعيد بن جبير، وعطاء، وزاذان، وميسرة - رضي الله عنهم - واحتجَّ الشافعي ومن معه لمذهبهم بأدلة منها:
1 - حديث عثمان - رضي الله عنه - ، وهو حديث الباب؛ أنَّ النبيَّ ? «توضَّأ ثلاثًا ثلاثًا»، قالوا: وهذا عامُّ يشمل المسح والغَسْل.
لكن: منع البيهقي - رغم اعتياده نصرة المذهب - وفيه الدلالةَ منه؛ لأنها روايةٌ مطلقةٌ، وجاءت الروايات الثابتة في الصحيح المفسِّرة مصِّرحةً بأنَّ غَسْلَ الأعضاء ثلاثًا، ومسح الرأس مرة، على نحو ما سيذكره الشارح قريبًا؛ قال ابن قدامة: «والأحاديث التي ذكرها فيها أنَّ النبي ? توضَّأ ثلاثًا ثلاثًا، أرادوا بها سوى المسح، فإنَّ رواتها حين فصَّلوا، قالوا: ومسح برأسه مرة واحدة، والتفصيل يُحكم به على الإجمال، ويكون تفسيرًا له، ولا يعارض به، كالخاصِّ مع العامِّ». اهـ.
2 - حديث عثمان - رضي الله عنه - «أنه توضَّأ، فمَسَحَ رأسه ثلاثًا، وقال رأيتُ رسول الله ? توضَّأ هكذا»؛ رواه أبو داود.
قالوا: ورُوي مثل ذلك عن غير واحد مِنْ أصحاب رسول الله ? .
وأجيب: بأنَّ هذه الأحاديث لم يصحَّ منها شيْءٌ كما قال أبو داود رحمه الله.
3 - القياسُ على سائر الأعضاء، فيسنُّ تكراره لغيره، ونقض الجمهور هذا القياس بالتيمُّم.
وانظر غير ما تقدَّم: "المحلَّى" (1/ 315)، "والمغني" لابن قدامة (1/ 88). ومكتوب يعتمد ما ذكرنا من مذاهب الفقهاء.
(11) قوله: «في ذلك» ليس في (ح).
(12) وهذا قولُ أكثر أهل العلم، وهو الصحيحُ من مذهب أحمد؛ وبه قال ابن عمر، وطلحة ابن مصرَّف، والحكم، وحَمَّاد، والنخعي، ومجاهد، وسالم بن عبدالله، والحسن البصري، وأبو ثَوْر، وأصحاب الرأي، وسفيان الثوري، وإسحاق، واختاره ابن المنذر، أنَّ المستحبَّ مسحُ الرأس مرةً واحدة. انظر: "البدائع" (1/ 22)، وتبيين الحقائق (1/ 5) ونيس، و"فتح القدير" (1/ 31) و"رد المحتار" (1/ 120) و"المبسوط" (1/ 7)، وعند الحنفية: إذا مسح ثلاثًا بماء واحد، كان مسنونًا، وعلى هذا جَمَلَ بعضهم ما استدلَّ به الشافعي من رواية التثليث؛ جمعًا بين الأحاديث. وانظر: "مواهب الجليل" (1/ 252) (1/ 202، 203) ونيس، و"الدسوقي" (1/ 101) و"الصاوي" (1/ 128)؛ لكن ذهب أكثر المالكية إلى أن رد اليدين ثالثة فضيلة إذا كان في اليدين بلل، ولا يستأنف الماء للثانية ولا للثالثة.
وانظر: "كشاف القناع" (1/ 100)، و"الإنصاف" (1/ 163) و"مطالب أولي النهى" (1/ 96)، و"المغني" (1/ 88 - وما بعدها).
(13) وهو أول أحاديث الباب، وهو حديث حمران مولى عثمان.(1/350)
ثلاثًا، على ما قالَهُ أبو داود (1) ، بل وقدْ (2) جاءَ في حديثِ عبدِالله بنِ زَيْد: «أنَّه مَسَحَ رَأْسَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً» (3) (4) ، وعضَدَ هذا بإبداء مناسبةٍ (5) ، وهي: أنَّ المَسْحَ شُرِعَ تخفيفًا، وَفَرْضُ مشروعيةِ التكرارِ فيه تثقيلٌ؛ فلا يكونُ مشروعًا (6) (7) .
وقوله: «عَنْ أَبِي أَنَسٍ»، هو: مالكُ بنُ أبي عامرٍ الأَصْبَحِيُّ، قال أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ: وَهِمَ وَكِيعٌ في قولِهِ: «عَنْ أَبِي أَنَسٍ»، وإنَّما هو أبو النَّضْرِ، عن بُسْرِ بنِ سَعِيد، عن عُثْمان - رضي الله عنه - ، وقال الدَّارَقُطْنيُّ: هذا مما وَهِمَ فيه وَكِيعٌ، عن الثَّوْرِيِّ، وخالَفَهُ بَقِيَّةُ أصحابِ الثَّوْرِيِّ الحفَّاظِ، فرَوَوْهُ (8) عن الثوريِّ، عن أبي النَّضْر، عن بُسْرِ بنِ سَعِيد، عن عُثْمان - رضي الله عنه - (9) . =(1/481)=@
وقولُهُ: «لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ»، أي: حديثًا مكتَسَبًا له؛ بحيث يَتمكَّنُ مَنْ إِيقاعِهِ ودَفْعه، فأمَّا ما لا يكونُ مكتَسَبًا للإنسانِ، فلا يَتعلَّقُ عليه ثوابٌ ولا عِقَاب.
168 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (10) ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ? قَالَ: «إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً، ثُمَّ لْيَنْتَثِرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ، فَلْيُوتِرْ».
وقولُهُ: «ثُمَّ لْيَنْتَثِرْ (11) »: مُتَمَسَّكٌ لأحمدَ، وإسحاقَ، وأبي ثَوْرٍ، على
وجوب الِاستنشاقِ في الوُضُوءِ والغُسْل.
والجمهورُ: على أنَّ ذلك مِنَ السُّنَنِ فيهما؛ مُتمسِّكينَ بأنَّ فروضَ الوُضُوءِ مَحْصُورةٌ في آيةِ الوُضُوء؛ بدليلِ قولِ النبيِّ ? للأعرابيِّ: «تَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللهُ» (12) ، وليس في الآية ذِكْرُ الاستنثار، وبدليلِ أنه قد صَحَّ عن النبيِّ ? أنه اقتصَرَ في وضوئه على الأعضاءِ الأربعة، ولم يَزِدْ عليها، وذلك يدلُّ على أن غيرها مِنَ الأعضاء ليس فعله بواجبٍ، وهذه عمدةُ أصحابنا في حُكْمهم بِحَصْرِ فُروضِ الوضوء في ستة؛ فإنَّ النيةَ مفهومةٌ من &(1/351)&$
__________
(1) (يوثق من كتب الحديث) ونيس.
(2) في (ح): «فر» بلا واو.
(3) يأتي حديثه بعد حديثين.
(4) قال في "المغني" (1/88): «فإن قيل: يجوزُ كان يكون النبيُّ ? قد مسح مرة ليبيِّن الجواز، وثلاثًا ثلاثًا ليبيِّن الأفضل؛ كما فعَلَ في الغُسْلِ، فنُقِلَ الأمران نقلًا صحيحًا من غير تعارض بين الروايات:
قلنا: قولُ الراوي: «هذا طهورُ رسول الله ? يدلُّ على أنَّه طهوره على الدوام، ولأن الصحابة - رضي الله عنهم - إنما ذكروا صفة وضوء رسول الله ? لتعريف سائلهم ومن حضرهم كيفيَّة وضوئه في دوامه، فلو شاهدوا وضوءَهُ على صفة أخرى، لم يُطلقوا هذا الإطلاق الذي يُفْهَمُ منه أنَّهم لم يشاهدوا غيره؛ لأنَّ ذلك يكون تدليسًا وإيهامًا بغير الصواب، فلا يظنُّ ذلك بهم...». اهـ.
(5) ونيس.
(6) واستدل الجمهور على منع التثليث في مسح الرأس كذلك:
1 - بأنَّ تكرار المسح يؤدَّي إلى أن يصير المسح غَسْلًا، وأجاب النوويُّ: بأنَّ هذا غير مُسَلَّم؛ قال: لأنَّ الغَسْلَ جريان الماء على العُضْوِ، وهذا لا يحصُلُ بتكرار المَسْح ثلاثًا، وقد أجمع العلماء على أنَّ الجنب لو مسح بدنه بالماء، وكرَّر ذلك لا ترتفع جنابته بل يشترطُ جري الماء على الأعضاء. اهـ.
2 – قالوا: قد أجمع الناس – قبل الشافعي – على عدم التكرار؛ فقولُهُ خارقٌ للإجماع (!!) وردَّه النوويُّ بأنه مرويٌّ عن أنس بن مالك، وعطاء، وغيرهما؛ كما حكاه ابن المنذر.
قلت: والحقُّ مع النوويِّ رحمه الله في ردَّه هذَيْن الاستدلالَيْن، لكنْ يبقى مذهبُ الجمهور أرجَحَ لما تقدَّم من أدلَّتهم، والله أعلم. انظر: "المغني" (1/88 – وما بعدها)، و"المجموع" (1/462).
مكتوب يعتمد هذا مع ما لخصناه من مذاهب الفقهاء في المسألة. ونيس.
(7) ونيس.
(8) في (ح): «فروه».
(9) انظر علل "الدارقطني" (3/17 – 19)، و"علل ابن أبي حاتم" (1/56).
(10) أخرجه البخاري (1/ 263 رقم 162) في الطهارة، باب الاستجمار وترًا، وذكر طرفه في (1/ 262 رقم 161) في الوضوء، باب الاستنثار في الوضوء، ومسلم (1/212 رقم 237 – 20، 22) في الطهارة، باب الإيتار في الاستنثار والاستجمار.
(11) في (ح): «ثم ليستنثر».
(12) أخرجه الطيالسي (1372)، والبخاري في "تاريخه" (8/297)، وأبو داود (1/538 رقم 861) في الصلاة، باب صلاة مَنْ لا يقيمُ صُلْبه في الركوع والسجود، والترمذي (2/100 – 102) في الصلاة، باب ما جاء في وَصْفِ الصلاة، والنسائي (2/20) في الأذان، باب الإقامة لمن يصلِّي وحده، والحاكم (1/243)، وعنه البيهقي (2/380)، جميعهم: من طريق إسماعيل بن جعفر، عن يحيى بن علي بن يحيى، عن أبيه، عن جده، عن رفاعة بن رافع... الحديث، وفيه: فَتَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللهُ».
قال الترمذي عقب روايته: «حديثُ رفاعة بن رافع حديث حسن»، وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين»، ووافقه الذهبي.(1/351)
قوله: {إِذَا قُمْتُمْ} (1) ، أي: إذا أردتُّمُ القيامَ، والماءُ المطلقُ مِنْ قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} (2) ، ومِنْ تضمُّنِ الغسلِ له، والأربعةُ الأعضاءِ منصوصٌ (3) عليها (4) في الآية (5) (6) ، وما عدا ذلك مِنْ أحكامِ الوضوءِ مأخوذٌ من فعلِ النبيِّ ?، فمنه: متأكِّدٌ، ويسمَّى: سُنَّةً، وغيرُ متأكِّد، ويسمَّى: فضيلةً، كما هو معروفٌ في كتب أصحابنا (7) .
وقوله: «مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ»، «الاستجمارُ»: هوالتمسُّحُ من الغائطِ (8) بالجِمَار، وهي: الأحجارُ الصغار (9) ، ومنه: الجمارُ التي يُرْمَى بها (10) في الحجِّ (11) ، وقد نصَّ عليها في حديثِ سَلْمان - رضي الله عنه - (12) ، وقال أبو الحَسنِ (13) بنُ القَصَّار: ويجوزُ أن يقال: =(1/482)=@ إنه أُخِذَ مِنَ الاستجمارِ بالبَخُور؛ لأنه يزيلُ الرائحةَ القبيحةَ.
وقد اختلَفَ قولُ مالكٍ وغيرِهِ في معنى الاستجمارِ في هذا الحديث:
فقيل: ما تقدَّم.
وقيل: هو البَخُور، فَيَجْعلُ منه ثلاثَ قطعٍ، أو يأخذُ منه ثلاثَ مرات، واحدةً بعد أخرى.
والأولُ أظهر (14) .
169- وَعَنْهُ (15) ، عَنِ النَّبِيِّ ? قَالَ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ، فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثًا؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيَاشِيمِهِ».
وقوله: «فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيَاشِيمِهِ»، هو جمعُ خيشومٍ، وهو أعلى الأنف، وقيل: الأنفُ كلُّه، ويحتملُ: البقاءَ على ظاهره؛ كما
جاء (16) : «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ إَذَا لَمْ يَكْظِمِ المُتَثَاوِبُ فَاهُ» (17) .
ويَحْتملُ: أن يكونَ ذلك عبارةً عمَّا ينعقدُ (18) مِنْ رطوبةِ الأنفِ وقَذرِهِ الموافِقَةِ للشيطان، وهذا على عادةِ العربِ في نسْبتهم المستخبَثَ والمُسْتَبْشَعَ (19) إلى الشيطان؛ كما قال تعالى: {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} (20) ، وكما قال الشاعر:
........................ ... وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ (21)
وهي الشياطينُ.
ويحتملُ: أن يكونَ ذلك عبارةً عن تكسيله عن القيامِ إلى الصلاةِ (22) ؛ كما قال ?: «يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا =(1/483)=@ &(1/352)&$
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 6.
(2) سورة المائدة، الآية: 6.
(3) قوله: «المنصوص» في (ح): «منصوص».
(4) في (غ): «عليه».
(5) يشير إلى قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6].
(6) ونيس.
(7) ونيس.
(8) ونيس.
(9) ونيس.
(10) ونيس.
(11) قوله: «يرمى بها» من (ب)، وفي بقية النسخ: «ترمي».
(12) سيأتي برقم (36).
(13) قوله: «أبو الحسن» سقط من (أ).
(14) ونيس.
(15) أخرجه البخاري (6/339 رقم 3295) في بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، ومسلم (1/212، 213 رقم 238) في الطهارة، باب الإيتار في الاستنثار والاستجمار.
(16) في (أ): «قد جاء».
(17) سيأتي في البر والصلة، باب في التثاؤب وكظمه.
(18) في (ب): «يتعقد».
(19) في (ح) و(غ): «والمستشنع».
(20) سورة الصافات، الآية: 65.
(21) هذا عجز بيت من الطويل، والبيت بتمامه:
أَيَقْتُلَنِيَ والْمَشْرَفِيُّ مُضَاجِعِي ... وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ
وهو من قصيدة مشهورة لامرئ القيس مطلعها:
أَلَا عَمْ صباحًا أَيُّهَا الطَّلَلُ البالي ... وهَلْ يَعِمَنْ مَنْ كان في العُصُرِ الخَالِي
وامرؤ القيس هنا يَهْزَأُ بِبَعْلِ امرأةٍ دَبَّ إليها، ويصف الهول الذي وقع في قلبه من الإقدام على قتله مع شدة غَيْرته، انظر: "ديوانه" (ص 142)، و"الكامل" للمبرِّد (2/62)، و"المحكم" (8/18)، و"تهذيب اللغة" (8/193)، و"جمهرة اللغة" (ص 961)، و"اللسان" (11/508)، (13/238)، و"طبقات فحول الشعراء" (1/83)، و"معاهد التنصيص" (2/7)، و"معجم الأدباء" (5/511)، و"تاج العروس" (مادة زرق)، والبيت بلا نسبة في "المخصَّص" (8/111).
(22) في (أ) و(غ): «للصلاة»، وساقط من (ب).(1/352)
هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ» (1) ، ويكونُ أمره بالاستنثارِ (2) أمرًا بالوضوء؛ كما قد جاء مفسَّرًا في غير كتاب مسلم: «فَلْيَتَوَضَّأْ، وَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثًا؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيَاشِيمِهِ» (3) .
وقوله في الحديث قبله: «وَمَنِ اسْتَجْمَرَ، فَلْيُوتِرْ»، تمسَّك به من يراعي عدد الثلاثِ مع الإنقاء، وهو قولُ أبي الفَرَج، وابنِ شَعْبان مِنْ أصحابنا (4) ، والشافعيِّ وأصحابِهِ، صائرين إلى أنَّ أقلَّ الوتر هنا الثلاث (5) ، بدليلِ حديثِ سَلْمان - رضي الله عنه - ؛ حيثُ نهى أن يستنجَى بأقلَّ من ثلاثةِ أحجار (6) .
والجمهورُ: يستحبُّون الوتر؛ بدليل قوله:«الِاسْتِجْمَارُ تَوٌّ» (7) ، أي: وترٌ، ولا يشترطون عددًا، بل الإنقاءُ إذا حصَلَ هو المقصودُ الأصليُّ، وقد استدعى النبيُّ ? ثلاثةَ أحجار، فأُتِيَ بحجرَيْنِ ورَوْثَةٍ، فأخَذَ الحجرَيْنِ وأَلْقَى الرَّوْثة (8) ، وقد جاء عنه ? في كتاب أبِي داود: «إِذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْتَجْمِرْ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، مَنْ (9) فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا، فَلَا حَرَجَ» (10) ، وإنما جرى ذِكْرُ الثلاثِ في الأحجار: إمَّا لأنَّ الإنقاءَ يحصُلُ بها غالبًا، وإما لأنَّ الاثنَيْنِ للصَّفْحَتَيْنِ، والثالث للوَسَطِ، والله أعلم (11) .
170 - وَعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الأَنْصَارِيِّ (12) - وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ - قَالَ: قِيلَ لَهُ: تَوَضَّأْ لَنَا وُضُوءَ رَسُولِ اللهِ ?، فَدَعَا بِإِنَاءٍ فَأَكْفَأَ مِنْه عَلَى يَدَيْهِ، فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا، فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ، فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا، فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا، فَغَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا، فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، فَأَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا كَانَ وُضُوءُ رَسُولِ اللهِ ?.
زَادَ فِي أُخْرَى: فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ.
وَفِي أُخْرَى: فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ غَرَفَاتٍ، وَفِيهَا: فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ فَأَقْبَلَ بِهِ وَأَدْبَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَفِي أُخْرَى: وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ بِمَاءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدَيْهِ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَّى أَنْقَاهُمَا.
وقولُهُ في حديث عبدالله بن زيد: «وَقِيلَ لَهُ: تَوَضَّأْ لَنَا وُضُوءَ (13) رَسُولِ اللهِ ?، فَتَوَضَّأَ»، المعلِّم للوضوء (14) : إذا نوى به رفْعَ الحَدَثِ، أجزَأَهُ، فإنْ لم يَنْوِهِ لم يُجْزِهِ عند مَنْ يشترطُ النيَّةَ (15) على ما يأتي، وكذلك المتعلِّمُ (16) . =(1/484)=@
وقوله: «فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثًا»؛ حجةٌ لأشهَبَ (17) في اختيارِهِ في غَسْلهما الإفراغَ عليهما معًا.
وقد روى ابن القاسم، عن مالك: أنه استَحَبَّ أن يُفْرِغَ على يده &(1/353)&$
__________
(1) يأتي في الصلاة، باب استغراق الليل بالنوم مِنْ آثار الشيطان.
(2) في (أ): «باستثنار».
(3) أخرجه البخاري (6/339 (3295) في بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، ولفظه: «إذا استيقظ أحدكم مِنْ منامه، فتوضَّأ، فليستنثرْ ثلاثًا»، ولفظ أحمد (2/352): «إذا توضأ أحدكم، فليستنثر ثلاثًا (مكتوب عندها ليس في الأصل)، فإنَّ الشيطان يبيت على خياشيمه».
(4) ونيس.
(5) في (ب): «ثلاث».
(6) يأتي في باب ما يستنجى به والنَّهْيِ عن الاستنجاء باليمين.
(7) يأتي في الحج، باب رمي جمرة العقبة.
(8) أخرجه البخاري في الوضوء، باب لا يستنجى بروث (1/ 256 رقم 156)، (هناك تعليق للشيخ علي ونيس).
(9) في (غ): «ومن».
(10) أخرجه أحمد (2/371)، وأبو داود (1/33 – 34 رقم 35) كتاب الطهارة، باب الاستتار في الخلاء، وابن ماجه (1/121 – 122 رقم 337 – 338) كتاب الطهارة وسننها، باب الارتياد للغائط والبول، والطحاوي (1/72)، والبيهقي (1/94، 104).
جميعهم من طريق ثور بن يزيد، عن الحصين الحميري، عن أبي سعيد، عن أبي هريرة، عن النبي ?، قال: «من اكتحَلَ فليوترْ، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن استجمَرَ فليوترْ، من فعَلَ فقد أحسَنَ، ومَنْ لا، فلا حرَجَ، ومَنْ أتى الغائطَ، فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيبًا من رمل، فليستدبره؛ فإنَّ الشيطانَ يلعبُ بمقاعد بني آدم، مَنْ فعل فقد أحسن، ومَنْ لا، فلا حرج»؛ لفظ أبي داود.
قال أبو داود عقب روايته: رواه أبو عاصم، عن ثور، قال: حصين الحميريُّ، ورواه عبدالملك بن الصباح، عن ثور، فقال: أبو سعيد الخير.
قال أبو داود: أبو سعيد الخير، هو من أصحاب النبي ?. اهـ.
قال صاحب "عون المعبود": غرض المؤلِّف من إيراد هذه الجملة: أن في رواية إبراهيم بن موسى – شيخ أبي داود – أبا سعيد بغير إضافة لفظ الخير، فهو ليس بصحابي.اهـ.
وقد فرّق الحافظ في "التهذيب" (12/109) بين أبي سعد الخير وهو صحابي وبين أبي سعيد الحبراني الراوي عن أبي هريرة، وعنه حصين الحبراني، وجزم بأنه تابعي، وأن بعض الرواة وهم في حديثه، وقال: عن أبي سعد الخير، ولعله تصحيف وحذف.
وعلى ذلك فأبو سعيد الحبراني مجهول، وكذا الراوي عنه حصين الحبراني.
وقال الحافظ في "التلخيص" (1/180): «ومداره على أبي سعد الحبراني الحمصي، وفيه اختلاف، وقيل: إنه صحابي ولا يصح، والراوي عنه حصين الحبراني، وهو مجهول. وقال أبو زرعة: شيخ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه في "العلل"». اهـ. والحديث ضعفه الشيخ الألباني في "الضعيفة" (1028).
(11) أخرجه العقيلي (1/16)، وابن عدي (1/420)، والدارقطني (1/56)، والبيهقي (1/114)، جميعهم من طريق عتيق بن يعقوب، عن أُبَيِّ بن العباس بن سهل بن سعد، عن أبيه، عن سهل بن سعد الساعدي، قال: سئل رسولُ الله ? عن الاستطابة؟ فقال: «أولا يَجِدُ أحدُكُمْ ثلاثةَ أحجار: حجرَيْن للصفحتَيْنِ، وحَجَر للمَسْرُبَة».
وسنده ضعيف:
أُبَيُّ بن العباس: ضعَّفه ابن مَعِين، وقال أحمد بن حنبل: منكر الحديث، وقال النسائي والدولابي: ليس بالقوي.
وقال العقيلي: وروى الاستنجاء بثلاثة أحجار عن النبي ? جماعةٌ، منهم: أبو هريرة، وسَلْمان، وخُزَيْمة بن ثابت، والسائبُ بنُ خَلَّاد الجُهَني، وعائشةُ، وأبو أيوب، لم يأتِ أحدٌ منهم بهذا اللفظ.
ولأُبَيٍّ أحاديثُ لا يتابعُ منها على شيء.
وقال ابن عدي: «ولأُبَيٍّ هذا غير ما ذكَرْتُ من الحديث يسيرٌ، وهو يُكْتَبُ حديثه، وهو فردُ المتون والأسانيد».
والحديث ضعفه الشيخ الألباني في "الضعيفة" (969)، وقال: «وقال الدارقطني: إسناده حسن»، وأقره البيهقي، وتبعهما ابن القيم؛ فقال في "إعلام الموقعين" (3/487): حديث حسن". قلت: «وفي ذلك نظر عندي؛ فإن أُبيًّا هذا وقد تفرَّد بهذا الحديث مجروح، ولم يوثِّقه أحد، بل كل من عرف كلامه فيه ضعَّفه... وأما قولُ الذهبي في "الميزان": قلت: أُبَيٌّ وإن لم يكن بالثبت، فهو حسَنُ الحديث، فهذا مما لا وجه له عندي بعد ثبوت تضعيفه ممَّن ذكرنا من الأئمة... وكأنَّ الذهبيُّ تراجَعَ عن ذلك، حين أورد أبيًّا هذا في "الضعفاء"، وقال: ضعَّفه ابن معين، وقال أحمد: منكر الحديث». اهـ.
(12) أخرجه البخاري (1/289 رقم 185) في الوضوء، باب مسح الرأس كله،... ومسلم (1/210 رقم 235، 236) في الطهارة، باب في وضوء النبي ?.
(13) قوله: «وضوء» ليس في (أ).
(14) قوله: «للوضوء» سقط من (أ).
(15) ونيس.
(16) ونيس.
(17) ونيس.(1/353)
اليمنَى فيغسلَهَا، ثم يدخلَهَا ويَصُبَّ بها على اليسرى؛ محتجًّا بقوله في "الموطأ" (1) في هذا الحديث: «فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْه، وَغَسَلَهُمَا مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ»، وقد يكونُ منشأُ الخلافِ في هذا الفرعِ الخلافَ في غَسْلهما، هل هو عبادةٌ؛ فيغسِلُ كلَّ عضو منهما بانفرادِهِ كسائر الأعضاء، أو هو للنظافة؛ فَيُغْسَلَانِ مجموعَيْن (2) (3) .
وقوله: «فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ، فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا»، أي: جمع بين المضمضةِ والاستنشاقِ في كف واحدة، وفعل ذلك ثلاثًا من ثلاث غَرَفات، كما بيَّنه في روايةِ ابنِ وهبٍ (4) ؛ فإنَّه قال: «فَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ مِنْ ثَلَاثِ غَرَفَاتٍ» (5) (6) .
وقد اختُلِفَ في الأَوْلَى من ذلك، عن مالك والشافعي:
فقيل: الأولى عندهما: جمعُهُمَا في غَرْفةٍ واحدة، والإتيانُ بهما كذلك في ثلاثِ غَرَفات (7) .
وقيل: بل الأَوْلَى عندهما: إفرادُ كلِّ واحدةٍ منهما مفترقتَيْنِ (8) بثلاث غَرَفَات، ويشهد للأوَّل (9) : روايةُ ابن وهب (10) (11) ، والثاني (12) : ما في كتاب أبي داود مِنْ قوله: «فَرَأْيُتُهُ يَفْصِلُ بَيْنَ المَضْمَضَةِ والِاسْتِنْشَاقِ» (13) .
وقيل: بل يفعلان معًا ثلاثَ مَرَّات مِنْ غَرْفةٍ واحدة (14) ، كما روى (15) البخاريُّ (16) ، قال (17) : «فَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا مِنْ غَرْفَةٍ».
وقوله: «ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا، فَغَسَلَ وَجْهَهُ»، ظاهِرُه: أنه أدخَلَ يَدَهُ الواحدةَ في الماء، فأفرَغَ بها على اليسرى، وهو أحدُ القولَيْنِ عندنا، وأنه كذلك =(1/485)=@ يفعلُ في جميعِ الأعضاء.
وفي البخاري (18) - في بعض طرقِ هذا الحديث -: «ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَيْهِ فَاغْتَرَفَ بِهِمَا»، وهذا حجةٌ لاختيارِ مالكٍ في هذه المسألة، وكذلك القولُ في غَرْفةِ مسحِ الرأس (19) ، وفي البخاري (20) : «ثُمَّ أَخَذَ بِيَدَيْهِ مَاءً فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ».
واختُلِفَ عن مالك في حَدِّ الوجهِ طُولاً وعَرْضًا:
فأمَّا الطُّولُ: فمِنْ منابتِ شعرِ الرأس &(1/354)&$
__________
(1) في الطهارة، باب العمل في الوضوء (1/18).
(2) في (ب): «فتغسلان مجموعتين»، وفي (غ): «فتغسلان مجتمعتين»، وفي (أ): «فيغسلان مجموعتين».
(3) ونيس.
(4) ونيس.
(5) رواية ابن وهب عند ابن خزيمة (1/88 رقم 173)، وليس فيها قوله: «من ثلاثِ غَرَفات»، وإنما هذه رواية وهيب كما عند مسلم (1/211 رقم 235).
(6) في (ب): «من ثلاث غرفات كما بينه».
(7) في (أ): «في باقي الغرفات».
(8) في (أ): «مفترقين».
(9) في (أ) و(غ): «الأول».
(10) لعله: وهيب.
(11) «وهيب» كما صرح بها الباجي في المنتقى (1/45) ونيس.
(12) في (ب) و(ح): «والثاني».
(13) أخرجه أبو داود (1/96 رقم 139) كتاب الطهارة، باب في الفرق بين المضمضة والاستنشاق، وعنه البيهقي (1/51).
وأخرجه الطبراني في "الكبير" (19/181 رقم 410).
كلاهما من طريق ليث بن أبي سُلَيْم، عن طلحة بن مصرِّف، عن أبيه، عن جده، قال: دخلتُ على النبيِّ ? وهو يتوضَّأ والماءُ يسيلُ من وجهه على لِحْيته وصَدْره، فرأيتُهُ يفصلُ بين المضمضةِ والاستنشاق.
قال أبو داود في حديث آخر لليث، عن طلحة بن مصرَّف، عن أبيه، عن جده: قال مسدَّد: فحدَّثْتُ به يحيى، فأنكره، وقال أبو داود: وسمعتُ أحمد يقول: إن ابن عيينة زعموا أنه كان ينكره، ويقول: أَيْشٍ هذا؟! طلحة عن أبيه عن جده؟! اهـ.
وروى البيهقيُّ عن علي بن المديني، قال: قلت لسفيان: إن ليثًا روى عن طلحة بن مصرِّف، عن أبيه، عن جدِّه؛ أنه رأى النبيَّ ? توضَّأ؟ فأنكر ذلك سفيان، وعجب أن يكونَ جَدَّ طلحة لقي النبيَّ ?، "السنن الكبرى" (1/51).
فتلخَّص من هذا الكلام: أن في الحديث ثلاثَ علل:
الأولى: ليث بن أبي سُلَيْم، صدوقٌ اختلط جِدًّا، ولم يتميَّز حديثه، فتُرِك.
الثانية: جهالةُ مصرِّف بن عمور بن كعب.
الثالثة: الاختلافُ في صحبة جَدِّ طلحة.
انظر "العلل" لابن أبي حاتم (1/53)، و"الأحكام الوسطى" لعبدالحق الإشبيلي (1/170)، و"تلخيص الحبير" (1/133-134)، و"البدر المنير" لابن الملقِّن (3/283-285)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (1/51).
(14) ونيس.
(15) في (أ): «رواه».
(16) (1/289 رقم 185) في الوضوء، باب مسح الرأس كله.
(17) قوله: «قال» ليس في (غ).
(18) (1/303 رقم 199) في الوضوء، باب الوضوء من التور.
(19) ونيس.
(20) في الموضع السابق.(1/354)
المعتاد إلى الذَّقَنِ مُطلقًا، للأَمْرَدِ (1) والملتحي (2) ، وقيل: إلى آخر اللحية للملتحي (3) .
وأما حدُّه عرضًا (4) : فمن الأذن إلى الأذن (5) ، وقيل: مِنَ العِذَارِ إلى العذار (6) ، وقيل: بالفرقِ بين الأَمْرَدِ والملتحي (7) .
وسببُ هذا الخلاف: الاختلافُ في اسمِ الوجهِ والمواجهةِ على ماذا يَقَعَانِ؟ (8)
وقوله: «فَغَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى المِرْفَقَيْنِ»، المِرْفَقُ: هو العَظْمُ الناتئ في آخر الذراع، سمِّي بذلك؛ لأنه يُرتَفَقَ عليه، أي: يُتَّكَأُ (9) ويُعْتَمَدُ.
واختلف فيهما: هل يَدْخُلَانِ (10) في الغَسْلِ أم لا؟ (11)
وسببه: توهُّمُ الاشتراكِ في "إلى"؛ وذلك (12) أنها لانتهاءِ الغاية في الأصلِ، وقد تأتي بمعنى: "مع" في مثل (13) قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} (14) ، وفي قوله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} (15) ، وفي قول العرب: «الذَّوْدُ إلى الذَّوْدِ إِبِلٌ»، والأصل فيها: انتهاءُ الغاية؛ فيجبُ أن تحمل عليه، ويمكن (16) أن يقال: إنَّ (17) "إلى" - وإنْ كانتْ لانتهاءِ الغاية - فهي محتملة لدخول الغاية فيما قبلها، (18) والذي يرفع الخلاف فيها: ما حكي عن سيبوَيْهِ: أن الغاية إنْ كانتْ من جنسِ ذي الغاية، دخلَتْ فيه، وإنْ لم تكنْ لم تدخُلْ، مثالُ ذلك: أن تقولَ: بعتُكَ مِنْ هذه الشجرةِ إلى هذه الشجرة، والمَبِيعُ شَجَرٌ (19) ، فلا شك في دخولِ =(1/486)=@ الشجرتَيْنِ في جملة الشجر المبيعة، وإنْ كان المَبِيعُ أرضًا، لم تَدْخُلَا (20) فيه (21) (22) ، والله تعالى أعلم. &(1/355)&$
__________
(1) في (ب): «الأمرد».
(2) ونيس.
(3) ونيس.
(4) في (ب): «عرض».
(5) ونيس.
(6) ونيس.
(7) ونيس.
(8) ونيس.
(9) في (أ) و(غ): «يُتَوَكَّأ».
(10) في (ب): «تدخلان».
(11) ونيس.
(12) قوله: «وذلك» ليس في (غ).
(13) قوله: «مثل» ليس في (غ).
(14) سورة النساء، الآية: 2.
(15) سورة آل عمران، الآية: 52.
(16) في (أ): «ويحتمل».
(17) قوله «إن» ليس في (ب).
(18) ونيس.
(19) في (غ): «شجرة».
(20) في (غ): «يدخل»، وفي (ح): «يدخلا».
(21) قوله: «فيه» ليس في (ح).
(22) ونيس.(1/355)
وقوله: «فَغَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ»؛ دليلٌ على عدمِ كراهةِ الشَّفْعِ في الغَسَلات (1) ، ولا خلافَ أنه يجوزُ الاقتصارُ على الواحدة إذا أسبَغَ (2) ، وأنَّ الاثنتين (3) أفضلُ من الاقتصار على الواحدة، وأنَّ الثلاثَ أفضلُ من الاثنتين (4) (5) ، وأنَّ الزيادةَ على الثلاثِ ممنوعةٌ، إلا أن يفعل (6) بنيَّةِ تجديدِ الوضوء؛ فإنَّ أبا حنيفة: أجازَ ذلك (7) ، وعندنا: أنه لا يصحُّ له التجديدُ حتى (8) يفعلَ بذلك الوضوءِ صلاةً، وسيأتي (9) (10) ، وقد كَرِهَ مالكٌ الاقتصارَ على الواحدةِ للجاهل؛ لما يخافُ من تفريطِهِ، وللعالمِ؛ لئلا (11) يقتدي به الجاهلُ.
وقوله: «فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ»:
الباء في "بِرَأْسِهِ": باء التعدية (12) التي (13) يجوزُ حذفُهَا وإثباتها؛ كقولك (14) : مَسَحْتُ (15) برأسِ اليتيمِ، ومَسَحْتُ رَأْسَهُ، وكقولهم: نَصَحْتُ له، ونَصَحْتُهُ، وشكَرْتُ له، وشكَرْتُهُ (16) ، وسَمَّيْتُ ابني بمحمَّدٍ ومحمَّدًا.
ولا يصحُّ أن تكونَ للتبعيض؛ خلافًا للشافعيِّ (17) ؛ لأنَّ المحقَّقين من أئمَّةِ النحويِّين (18) البصريِّين وأكثَرَ الكوفيين (19) : أنكروا ذلك،، ولأنها لو كانتْ للتبعيض، لكان قولك (20) : «مَسَحْتُ برأسِهِ» كقولك (21) : «مَسَحْتُ بَعْضَ (22) رأسِهِ»، ولو كان كذلك، لَمَا حَسُنَ أن تقول: «مَسَحْتُ بِبَعْضِ رأسِهِ»، ولا «برَأْسِهِ بعضِهِ»؛ لأنه كان يكونُ (23) تكريرًا، ولا «مَسَحْتُ برأسِهِ كلِّه»؛ لأنه كان يكونُ مناقضًا له (24) ،، ولو كانتْ للتبعيضِ، لما جاز إسقاطُهَا هنا؛ فإنَّه يقال: مَسَحْتُ برأسِهِ، ومَسَحْتُ رأْسَهُ، بمعنىً واحدٍ،، وأيضًا: فلو كانتْ مبعِّضةً في مسح الرأس في الوضوء، لكانتْ مُبعَّضَةً في مسحِ =(1/487)=@ الوجه في التيمُّم؛ لتساوى اللفظين في المحلَّين، ولم (25) فلا (26) (27) .
ومذهبُ مالكٍ رحمه الله (28) : وجوبُ عمومِ مسحِ الرأس؛ تمسُّكًا باسمِ الرأس؛ فإنَّه للعضو (29) بجملتِهِ كالوجه، وتمسُّكًا بهذه الأحاديثِ.
ثم نقولُ: نحنُ - وإنْ تنزَّلنا على أنَّ «الباء» تكونُ مبعِّضةً وغيرَ مُبَعِّضة - فذلك يُوجِبُ فيها إجمالاً أزالَهُ النبيُّ ? بفعله، فكان فعله بيانًا (30) لمجمَلٍ واجبٍ، فكان مسح جميعِ الرأس واجبًا (31) (32) ، وسيأتي القولُ في حديث المغيرة الذي ذكَرَ فيه أنه ? مسَحَ مقدَّم رأسه وعلى عمامته (33) . &(1/356)&$
__________
(1) ونيس.
(2) ونيس.
(3) في (ب): «الاثنين».
(4) في (ب): «الاثنين».
(5) ونيس.
(6) في (غ): «تفعل».
(7) ونيس.
(8) في (أ) و(ح) و(غ) «إلا حتى».
(9) في (أ) و(ب): «وستأتي».
(10) ونيس.
(11) في (ح): «ألا».
(12) قوله: «باب التعدية» في (ح): «التعدية».
(13) في (ب): «الذي»، وفي (ح): «أي».
(14) في (غ): «كقوله».
(15) في (ح): «مسح».
(16) من قوله: «وكقولهم...» إلى هنا سقط من (ب) و(ح) و(غ).
(17) ونيس.
(18) في (ح) و(غ): «أئمة النحو».
(19) يوثق هذا من كتب اللغة ونيس.
(20) في (أ): «قوله».
(21) في (أ): «كقولك».
(22) في (ح): «ببعض».
(23) قوله: «يكون» ليس في (ح).
(24) ونيس.
(25) في (ح): «ولم لا فلا».
(26) أي: ولمَّا لم تكنْ كذلك في التيمُّم، فلا تكونُ كذلك في الوضوء.
(27) ونيس.
(28) ونيس.
(29) في (أ): «العضو».
(30) في (ب): «بيان».
(31) في (أ) و(ب) و(غ): «فكان مسحه كله واجبا».
(32) ونيس.
(33) من قوله: «وسيأتي القول...» إلى هنا سقط من (أ).
وسيأتي حديث المغيرة هذا في باب المسح على الناصية والعمامة والخمار، من كتاب الطهارة.(1/356)
وقوله: «فَأَقْبَلَ بِيَدَيْهِ (1) وَأَدْبَرَ»، معناه: أقبَلَ إلى جهة قفاه، والإدبارُ: رجوعُهُ إلى حيثُ بدأ، كما فسَّره حيث قال: «فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ».
وقيل: المرادُ: أدبَرَ وأقبَلَ؛ لأنَّ الواو لا تُعْطِي رتبةً، وفي البخاري: «فَأَدْبَرَ بِهِمَا وَأَقْبَلَ» (2) ، وهذا أولى بهذا (3) النصِّ.
وقيل: معنى أقبَلَ: دخَلَ في قِبَلِ الرأس؛ كما يقالُ: أَنْجَدَ وأَتْهَمَ: إذا دخَلَ نجدًا وتِهَامةَ.
وقيل: معناه: أنه ابتدَأَ من الناصية مُقْبِلاً إلى الوجه، ثم رَدَّهُما إلى القفا، ثم رجَعَ إلى الناصيةِ، وهذا ظاهرُ اللفظ، والإقبالُ والإدبار مَسْحةٌ واحدة؛ لأنها بماءٍ واحد، والمقصودُ بالرَّدَّةِ على الرأس: المبالغةُ في استيعابه.
وقوله: «ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ»، الكعبُ في اللغة: هو العَظْمُ الناشِزُ =(1/488)=@ عند ملتقى الساقِ والقَدَم،، وأنكَرَ الأصمعيُّ (4) قولَ الناس: إنَّ الكعب في ظَهْرِ القدمِ، قاله في "الصحاح"،، والأول: هو المشهور (5) عند أهلِ المذهبِ والفقهاءِ (6) ، وقد رُوِيَ عن ابن القاسم: أنه العَظْمُ الذي في ظهر القدمِ عند مَعْقِدِ الشراك، والأولُ (7) : هو الصحيحُ ا لمعروف (8) .
وقوله: «وَمَسَحَ رَأْسَهُ (9) بِمَاءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدَيْهِ»، دليلٌ على مشروعيَّةِ تجديدِ الماءِ لمسحِ الرأس، وأنه سُنَّةٌ، خلافًا للأوزاعيِّ والحَسَنِ وعُرْوة في تجويزهمْ مسحَهُ ابتداءً بماء (10) (11) فَضَلَ في يديه (12) .
ولم يجىءْ في هذا الحديثِ ولا في حديثِ عثمان - رضي الله عنه - للأذنَيْن ذِكْرٌ، ويمكنُ أن يكونَ ذلك (13) ؛ لأنَّ اسم الرأسِ تضمَّنهما (14) .
وقد جاءت أحاديثٌ (15) صحيحةٌ في كتابِ النسائيِّ وأبي داود وغيرهما: «أنَّ النبيَّ ? مسَحَ أذنَيْهِ ظاهِرَهُمِا وباطِنَهُمَا، وأدخَلَ أصابعَهُ في صِمَاخَيْهِ»، وسيأتي ذِكْرُهما (16) . =(1/489)=@ &(1/357)&$
__________
(1) في (ح): «فأقبل بهما».
(2) (1/303 رقم 199) في الوضوء، باب الوضوء من التور.
(3) في (أ) و(ح): «لهذا».
(4) يوثق قول الأصمعي ونيس.
(5) في (أ): «وهو المشهور» بدل: «والأول هو المشهور».
(6) ونيس.
(7) في (غ): «والأولى».
(8) ونيس.
(9) كذا في جميع النسخ: «رأسه»، وفي "التلخيص" وصحيح مسلم: "رأسه" بالباء.
(10) في (ب) و(غ): «بما فضل».
(11) لعل الصواب (بما) ونيس.
(12) ونيس.
(13) قوله: «ويمكن أن يكون ذلك» مكانه في (أ): «وذلك».
(14) ونيس.
(15) في (ح): «الأحاديث».
(16) روي ذلك من حديثِ جماعةٍ من الصحابة - رضي الله عنهم - :
1 – المقدام بن معدي كرب:
أخرجه أحمد (4/132) وعنه أبو داود(1/88 رقم 121) كتاب الطهارة، باب صفة وضوء النبي ?، عن أبي المغيرة.
وأخرجه ابن ماجه (1/151 رقم 442) كتاب الطهارة، باب ما جاء في مسح الأذنين، والطحاوي (1/32) من طريق الوليد بن مسلم.
كلاهما – أبو المغيرة، والوليد بن مسلم - عن حريز بن عثمان، عن عبدالرحمن بن ميسرة، عن المقدام بن معدي كرب، قال: أتي رسولُ الله ? بوضوءٍ، فغسَلَ كَفَّيْهِ ثلاثا... ومسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما... .
وفي مسنده عبدالرحمن بن ميسرة، أبو سلمة الحمصي: وثَّقه العِجْلي، وجهله ابن المديني، وفي التقريب: مقبول.
2 – عبدالله بن عباس:
أخرجه ابن ماجه (1/151 رقم 439) كتاب الطهارة، باب ما جاء في مسح الأذنين، والترمذي (1/52 رقم 36) كتاب الطهارة باب ما جاء في مسح الأذنين ظاهرهما وباطنهما مع الرأس وما يستدل به على أنهما من الرأس، وابن خزيمة (148)، وابن حبان (3/360 و367 رقم 1078 و1086/ كما في الإحسان)، والبيهقي (1/55 و73).
جميعهم من طريق محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس؛ أن رسول الله ? توضَّأ... الحديث، وفيه: «فمسَحَ راسه وأذنيه، فأدخلهما السبابتين، وخالَفَ بإبهامَيْهِ على ظاهر أذنَيْهِ، فمسَحَ باطنهما وظاهرهما»، وزاد بعضهم: «وأدخَلَ إصبعَيْهِ فيهما».
قال الترمذي عَقِبَ روايته: وحديثُ ابن عبَّاس حديثٌ حسن صحيح. اهـ.
ومحمد بن عجلان: متكلَّم فيه؛ لسوءِ حفظه، وقد خولف في سياق هذا الحديث، فرواه كلُّ من سفيان الثوري، وعبدالعزيز بن محمد الدراوردي، وهشام بن سعد، وسليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، فلم يذكروا: «فمسح باطنهما وظاهرهما».
انظر رواياتهم عند أحمد (1/233، 268) وعبد بن حميد (702)، والدارمي (1/177، 180) كتاب الصلاة، باب الوضوء مرة مرة وباب في نضح الفرج قبل الوضوء، والبخاري (1/240 – 241، 258 رقم 140، 157) كتاب الوضوء، باب غسل الوجه باليدين مَنْ غَرْفة واحدة، باب الوضوء مرة مرة، وابن ماجه (1/141، 143 رقم 403، 411) كتاب الطهارة، باب المضمضة والاستنشاق من كف واحد، وباب ما جاء في الوضوء، وأبو داود (1/95، 95 – 96 رقم 137، 138) كتاب الطهارة، باب الوضوء مرتين، وباب الوضوء مرة مرة، والترمذي (1/60 رقم 42) كتاب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء مرة مرة، والنسائي (1/62 و73) كتاب الطهارة، باب الوضوء مرة مرة، وباب مسح الأذنين، وابن خزيمة (171)، والطحاوي (1/29)، وابن حبان (3/357 رقم 1076 – كما في الإحسان)، والحاكم (1/150)، والبيهقي (1/50، 72، 73، 80).
3 – الربيع بنت معوِّذ:
أخرجه أحمد (6/395)، وأبو داود (1/89 – 90 رقم 126) كتاب الطهارة، باب صفة وضوء النبي ?، والترمذي (1/48 رقم 33) كتاب الطهارة، باب ما جاء أنه يبدأ بمؤخّر رأسه، والحاكم (1/152)، وعنه البيهقي (1/59 – 60).
جميعهم من طريق عبدالله بن محمد بن عقيل، عن الربيِّع بنت معوِّذ؛ أن رسول الله ? مسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما.
قال الترمذي: هذا حديث حسن.
ونقل في "سننه" (1/9): وعبدالله بن محمد بن عقيل: وهو صدوق، وقد تكلَّم فيه بعضُ أهل العلم من قبل حفظه، وسمعتُ محمد بن إسماعيل يقول: كان أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، والحميدي: يحتجُّون بحديث عبدالله بن محمد بن عقيل، قال محمد: وهو مقارب الحديث. اهـ.
وقال الحاكم: لم يحتجَّا بابنِ عَقِيلٍ، وهو مستقيمُ الحديث، مقدَّم في الشرف، ووافقه الذهبي.
4 – عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده:
أخرجه أبو داود (1/94 رقم135) كتاب الطهارة، باب الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، والطحاوي (1/33) من طريق أبي عَوَانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ أنَّ رجلًا أتى نبيَّ الله ? فقال: كيف الطهور؟... فذكر الحديث، وفيه: ثم مسح برأسه، فأدخَلَ إصبعيه السباحَتَيْنِ باطن أذنيه.
لكنْ أخرجه أحمد (2/180)، وابن ماجه (1/146 رقم 422) كتاب الطهارة وسننها، والنسائي (1/88) كتاب الطهارة، باب الاعتداء في الوضوء، وابن خزيمة (174) من طريق سفيان، به، وفيه: فسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثًا ثلاثًا، ولم يذكر: فأدخل إصبعيه السباحتين... إلى آخره.
5 - ........... صفحة مفقودة (54)................
....................
....................
6 – تميم الأنصاري:
أخرجه أحمد (2/180)، وابن ماجه (1/146 رقم 422) كتاب الطهارة وسننها، والنسائي (1/88) كتاب الطهارة، باب الاعتداء في الوضوء، وابن خزيمة (201) عن أبي زهير عبدالمجيد بن إبراهيم المصري.
كلاهما – أحمد وأبو زهير – عن عبدالله بن يزيد المقرئ، عن سعيد بن أبي أيوب.
وأخرجه الطحاوي (1/32) عن فهد، عن ابن أبي مريم، عن ابن لهيعة.
كلاهما – سعيد بن أبي أيوب، وابن لهيعة – عن أبي الأسود، عن عباد بن تميم الأنصاري، عن أبيه، أنه رأى رسولَ الله ? توضَّأ، فمسَحَ راسه وأذنيه داخلهما وخارجهما؛ هذا لفظ ابن لهيعة.
ولفظ سعيد بن أبي أيوب: رأيتُ رسول الله ? يتوضَّأ ويمسحُ على رجليه.
وابن لهيعة: صدوقٌ اختلَطَ بعد احتراقِ كتبه، وقد خالفه سعيدُ بن أبي أيوب، وهو ثقة ثبت.(1/357)
وهذه الأحاديثُ - أعني: حديثَ (1) عثمانَ، وعبدِالله -: تدلُّ (2) على مراعاةِ الترتيبِ في الوضوءِ، والموالاةِ، وقد اختلَفَ أهلُ المذهب وغيرُهُمْ في ذلك (3) على ثلاثة أقوال: الوجوب (4) ، والسُّنَّة (5) ، والاستحباب (6) ، والأولى: القولُ بالسُّنَّة فيهما؛ إذْ لم يصحَّ قطُ عن النبي ? أنه توضَّأ مُنَكَّسًا ولا مفرِّقًا تفريقًا مُتفاحشًا، وليس في آيةِ الوضوءِ ما يدلُّ على وجوبهما (7) ، وما ذُكِرَ مِنْ أنَّ الواو ترتَّب لا يصحُّ، ومما يدلُّ على بطلانِ ذلك: وقوعُهَا في موضعٍ يستحيلُ فيه الترتيبُ؛ وذلك بابُ المفاعَلَة؛ فإنَّها لا تكونُ إلا (8) بين (9) اثنَيْن؛ فإنَّ العرب تقولُ: تخاصَمَ زَيْدٌ وعَمْرٌو، ولا يجوزُ أن يكونَ هنا (10) ترتيبٌ، ولا أن يقَعَ موقعَهَا حَرْفٌ مَنْ حروف الترتيبِ بوجهٍ من الوجوه؛ فصَحَّ ما قلناه.
(3) بَابُ فَضْلِ تَحْسِينِ الْوُضُوءِ، والْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ
171 - عَنْ عُثْمَانَ (11) ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ? يَقُولُ: «مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا، إِلَّا كَانَتْ لَهُ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ، مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً (12) ، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ».
172 - وَعَنْ حُمْرَانَ (13) ، قَالَ: أَتَيْتُ عُثْمَانَ بِوَضُوءٍ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ نَاسًا يَتَحَدَّثُونَ عَنْ وُضُوءِ رَسُولِ اللهِ ? أَحَادِيثَ، لَا أَدْرِي مَا هِيَ ؟ إَلَّا أَنِّي رَأَيْتُ (14) رَسُولَ اللهِ ? تَوَضَّأَ مِثْلَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ:«مَنْ تَوَضَّأَ هَكَذَا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَمَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ نَافِلَةً».
وَمِنْ بَابِ (15) فَضْلِ تَحْسِينِ الْوُضُوءِ
قوله (16) : «وَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَمَشْيُهُ إِلَى المَسْجِدِ نَافِلَةً»، يعني: أنَّ الوضوءَ لم يُبْقِ =(1/490)=@ عليه ذنبًا، فلمَّا فعَلَ بعده (17) الصلاةَ، كان ثوابها زيادةً له على المغفرةِ المتقدِّمة.
و«النَّفْل»: الزيادةُ، ومنه: نَفَلُ الغنيمة؛ وهو ما يعطيه الإمامُ من الخُمُسِ بعد القَسْم. &(1/358)&$
__________
(1) في (أ): «أحاديث».
(2) في (غ): «يدل».
(3) في (ب) و(ح) و(غ): «في ذلك وغيرهم».
(4) ونيس.
(5) ونيس.
(6) ونيس.
(7) ونيس.
(8) قوله: «فإنها لا تكون إلا» سقط من (أ).
(9) في (ح): «من اثنين».
(10) في (أ): «هذا».
(11) أخرجه البخاري (11/250 رقم 6433) في الرقاق، باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا...} [سورة فاطر: الآية 5] (وذكر أطرافه في (1/259 رقم 159) في الوضوء، باب الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، ومسلم (1/206 رقم 228) في الطهارة، باب فضل الوضوء والصلاة عقبه.
(12) في هامش "الطبعة العامرة" (1/142): «قوله: ما لم يُؤْتِ كبيرةً، أي: ما لم يعملها؛ فهو على حد قوله تعالى: {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا} [سورة الأحزاب: آية 14]؛ كأن الفاعل يعطيها من نفسه، قال النووي: معناه: أن الذنوب كلّها تغفر إلا الكبائر، فإنها إنما تكفِّرها التوبة أو الرحمة» اهـ. انظر: "شرح النووي" (3/112)، وانظر: "الإكمال". ( ... شواط).
(13) أخرجه البخاري (1/266 رقم 164) في الوضوء، باب المضمضة في الوضوء، ومسلم (1/207 رقم 231 – 11) في الطهارة، باب فضل الوضوء والصلاة عقبه.
(14) في هامش "الطبعة العامرة" (1/142): «في نسخة: أَلَا إنِّي رأيتُ».
(15) قوله: «باب» مطموس في (ب).
(16) قوله: «الوضوء قوله» مطموس في (ب).
(17) في (ح): «بعد».(1/358)
وهذا الحديثُ يقتضي أن الوضوءَ بانفرادِهِ يستقلُّ بالتكفير، وكذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، فإنه قال فيه: «إذَا تَوَضَّأَ العَبْدُ المُسْلِمُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ، خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ» (1) ، وهكذا إلى أنْ قال: «حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ» (2) ، وهذا بخلافِ أحاديثِ عثمانَ المتقدِّمة؛ إذ مضمونُهَا: أنَّ التكفيرَ إنما يحصُلُ بالوضوءِ إذا صلَّى به صلاةً مكتوبةً يُتِمُّ ركوعها وخشوعها.
والتلفيقُ مِنْ وجهين:
أحدهما: أَنْ يُرَدَّ (3) مطلق هذه الأحاديثِ إلى مُقَيَّدِها.
والثاني: أنْ نقولَ: إنَّ ذلك يختلفُ بحسبِ اختلافِ أحوالِ الأشخاص؛ فلا بُعْدَ في أن يكونَ بعضُ المتوضِّئين يحصُلُ له من الحضور ومراعاةِ الآدابِ المكمِّلة ما يستقلُّ بسببها وضوءُهُ بالتكفير، ورُبَّ متوضِّئٍ لا يحصُلُ له مثلُ ذلك، فيكفَّرُ عنه بمجموعِ الوضوءِ والصلاة.
173 - وَعَنْ عُثْمَانَ (4) ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «مَنْ أَتَمَّ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ، فَالصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَاتُ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ».
ولا يعتَرَضُ على (5) هذا: بقولِهِ ?: «مَنْ أَتَمَّ الوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ فَالصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَةُ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ»، لأنا نقولُ: إنَّ (6) من اقتصر على واجبات الوضوء، فقد توضَّأ كما أمره الله تعالى، كما قال النبيُّ ? للأعرابي: «تَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللهُ» (7) ، فأحاله على آيةِ =(1/491)=@ الوضوء (8) ، على ما قدَّمناه (9) .
وكذلك (10) ذكَرَ النسائيُّ رحمه الله (11) من حديثِ رِفَاعةَ بنِ رافع، فقال النبيُّ ?: «إَنَّهَا لَمْ تَتِمَّ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُسْبِغَ الْوُضُوءَ، كَمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى، فَيَغْسِلُ وَجْهَهُ، وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَيَمْسَحُ رَأْسَهُ (12) ، وَرِجْلَيْهِ (13) إِلَى الْكَعْبَيْنِ» (14) ، ونحن إنما أردنا المحافظةَ على الآدابِ المكمِّلةِ التي لا يراعيها إلا مَنْ نوَّر اللهُ باطنه (15) بالعلم والمراقبة، والله تعالى أعلم. &(1/359)&$
__________
(1) في (غ): «بعينه».
(2) هذا آخر حديث في الباب.
(3) في (أ): «ترد».
(4) أخرجه مسلم (1/208 رقم 231 – 11).
(5) قوله: «على» ليس في (أ) و(غ).
(6) قوله: «إن» سقط من (ب) و(ح).
(7) تقدم تخريجه (ص...).
(8) في (غ): «على الآية آية الوضوء».
(9) في (أ) و(ب): «قدمنا»، وفي (ح): «كما قدَّمناه».
(10) في (ب) و(غ): «ولذلك».
(11) أخرجه أحمد (4/340)، وأبو داود (1/536 – 537 رقم 858)، في الصلاة، باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، وابن ماجه (1/156 رقم 460) كتاب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء على ما أمر الله تعالى، والترمذي (2/100 – 102 رقم 302) كتاب الصلاة، باب ما جاء في وصف الصلاة، والنسائي (2/225 – 226) في التطبيق، باب الرخصة في ترك الذكر في السجود. جميعهم: من طريق إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة، عن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن عمِّه رفاعة بن رافع: أنه كان جالسا عند النبي طلحة، عن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن عمِّه رفاعة بن رافع: أنه كان جالسا عند النبي ?، فقال: «إنَّها لا تتمُّ صلاةٌ لأحدٍ حتَّى يُسْبِغَ الوضوءَ كما أمَرَ الله عزَّ وجل: فَيَغْسِلُ وجهَهُ ويَدَيْهِ إلى المِرْفَقَيْنِ، ويمسحُ برأسِهِ ورِجْلَيْهِ إلى الكعبين، ثم يُكِّبَر اللهَ عزَّ وجل ويحمده...» الحديث.
قال الترمذي: حديث حسن. وقال الحاكم (1/242): هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. ونقل صاحب تحفة الأحوذي (2/208) عن ابن عبدالبر، أنه قال: هذا حديث ثابت. اهـ.
(12) في (ب) و(غ): «برأسه».
(13) في (ب) و(غ): «ورجله».
(14) من قوله: «وكذلك ذكر النسائي...» إلى هنا سقط من (أ).
(15) في (ح): «قلبه».(1/359)
174- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? كَانَ يَقُولُ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ».
وقوله: «إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» (2) ، يدلُّ على أن الكبائر إنما تُغْفَرُ بالتوبة المعبَّرِ (3) عنها بالاجتنابِ في قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (4) ، وقد تقدَّم القولُ في الكبائر ما هي (5) ؟
175- وَعَنهْ (6) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? قَالَ: «إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ - أَوِ الْمُؤْمِنُ - فَغَسَلَ وَجْهَهُ، خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ - أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ - فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ، خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ - أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ -، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ، خَرَجَ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ - أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ - حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ».
فقوله: «حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ»، يعني به: مِنَ (7) الصغائرِ، ثم لا بُعْدَ في (8) أن يكونَ بعضُ الأشخاصِ (9) تُغْفَرُ له الكبائرُ والصغائر بحسَبِ مايحضُرُهُ من الإخلاص (10) ، ويراعيه مِنَ الإحسانِ والآداب، وذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء (11) . =(1/492)=@
وقوله: «إِذَا (12) تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ، أَوِ الْمُؤْمِنُ»، شكٌّ من بعض الرواة، وكذلك قوله: «مَعَ المَاءِ، أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ المَاءِ»، ويدلُّ على أنه على الشكِّ زيادةُ مالك فيه: «مَعَ المَاءِ، أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ المَاءِ، أَوْ نَحْوَ هَذَا» (13) ، ويفهم منه: أنَّ الغسْلَ لا بدَّ فيه مِنْ نَقْلِ الماء (14) ، ولا يفهمُ منه: أنَّ غايةَ الغَسْلِ أن يَقْطُرَ الماء (15) ؛ لأنه على الشَّكِّ، ولِمَا جاء: «حَتَى يُسْبِغَ».
وقوله: «خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ»، هذه عبارةٌ مستعارةٌ، المقصودُ بها الإعلامُ بتكفيرِ الخطايا ومحوها (16) ، وإلا فليستِ الخطايا أجسامًا حتى يَصِحَّ منها الخروجُ.
وقد استدلَّ أبو حنيفة رحمه الله: بهذا الحديثِ على نجاسةِ الماء المستَعْمَلِ (17) ، ولا حُجَّةَ له فيه؛ لما ذكرناه.
وعند مالك: أنَّ الماءَ (18) المستعمَلَ طاهرٌ مطهِّرٌ؛ غير أنه يُكْرَهُ استعمالُهُ مع وجود غيره؛ للخلاف فيه.
وعند أصبغ بن الفَرَج (19) : أنه طاهرٌ غيرُ مُطَهَّرٍ.
وقيل: إنه مشكوكٌ فيه (20) ، فيجمَعُ بينه وبين التيمُّم (21) ، وقد سمَّاه بعضهم: ماءَ الذُّنُوب (22) .
وقد روَى هذا الحديثَ مالكٌ (23) من رواية أبي عبد الله الصُّنَابِحِيِّ، وهو &(1/360)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/209 رقم 233 – 16) في الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفِّرات...
(2) في "الطبعة العامرة" (1/144): «إذا اجْتَنَبَ الكبائرَ»، وفي هامشها: «في نسخة: إذا اجتُنِبَتِ الكبائر»؛ قال النووي رحمه الله: «قوله ?: إذا اجتنَبَ الكبائرَ، هكذا هو في أكثر الأصول «اجتنَبَ» آخره باء موحَّدة، والكبائر منصوب، أي: إذا اجتنب فاعلها الكبائر، وفي بعض الأصول: اجتنبت بزيادة تاء مثناة في آخره على ما لم يسم فاعله، ورفع الكبائر، وكلاهما صحيح ظاهر، والله أعلم». "شرح مسلم" (3/118)، وانظر: "الديباج" (2/21).
(3) قوله: «المعبر» ليس في (ح).
(4) سورة النساء، الآية: 31.
(5) ونيس.
(6) أخرجه مسلم (1/215 رقم 244) في الطهارة، باب خروج الخطايا مع ماء الوضوء.
(7) قوله: «من» ليس في (ح).
(8) قوله: «ثم لا بعد في» في (أ): «ثم لا بُعْد»، وفي (ح): «ولا بعد في».
(9) في (غ): «والأشخاص».
(10) في (غ): «الإخلاص بالقلب».
(11) ونيس.
(12) في (غ): «وإذا».
(13) انظر "التمهيد" لابن عبدالبر (21/260 - 261).
(14) ونيس.
(15) ونيس.
(16) في (ح): «ونحوها».
(17) ونيس.
(18) قوله: «الماء» ليس في (غ).
(19) قوله: «ابن الفرج» سقط من غير (غ).
(20) قوله: «فيه» ليس في (ح).
(21) ونيس.
(22) ونيس.
(23) رواه مالك في "الموطأ" في الطهارة، باب جامع الوضوء (1/31 رقم 30) عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبدالله الصنابحي. ومن طريق مالك:
أخرجه النسائي في الطهارة، باب مسع الأذنين (1/74 رقم 103)، وأحمد (4/349)، والبخاري في "تاريخه الصغير" (1/195)، والحاكم (1/129)، والبيهقي (1/81)، وفي "شعب الإيمان" (3/13).
ورواه أبو غسان محمد بن مطرِّف، عن زيد، به، فقال: أبو عبدالله الصنابحي، أخرج حديثه أحمد (4/348 و349) والإسماعيلي في "معجمه" (1/382) ومن طريقه السهمي في "تاريخ جرجان" (ص 94).
وأخرجه أبو الشيخ في "طبقات الأصفهانيين" (2/57 رقم 120) من طريق هشام بن سعد، عن زيد، به، فقال: عن أبي عبدالرحمن الصنابحي.
وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (3/379 رقم 2815)، من طريق روح بن القاسم، عن زيد، به، فقال عن الصنابحي، ولم يسمِّه.
وإسناده جيد، وله شاهد من حديث عمرو بن عبسة، سيأتي في كتاب الصلاة، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها.
وقول الشارح: «أبو عبدالله الصنابحي»، كذا في النسخ، وهي رواية طائفة، منهم: مطرِّف، وإسحاق بن عيسى الطباع، عن مالك. أما رواية يحيى بن يحيى، والقعنبي، وجمهور الرواة عن مالك: فرووه عن مالك بهذا عن «عبدالله الصنابحي» بدون أداة الكنية.
وقد نسب قوم – منهم: الإمام البخاري – إلى مالك الوهم فيه، قالوا: إنما هو: أبو عبدالله الصنابحي: انظر "التمهيد" (4/2)، "والإصابة" (6/248).
وتحرير القول فيمن يرد في الروايات ممَّن يسمَّى بالصنابحي: أنهم ثلاثة، اتُّفِقَ على اثنين، واختلف في الثالث:
أما الأول: فهو الصنابح بن الأعسر الأحمسي، مشهورٌ بحديث الحوض، يروي عنه قيسُ بنُ أبي حازم، وربَّما سمَّاه بعضُ الرواة على سبيل الوَهْمِ والغلطِ: الصنابحي بزيادة ياء في آخره، وهذا متفق على صحبته.
والثاني: أبو عبدالله عبدالرحمن بن عُسَيْلة – بضم أوله مصغرًا – الصنابحي يروي عن أبي بكر، وبلال، وعبادة بن الصامت، وغيرهم، يروي عنه أبو الخير، وابن محيريز، وغيرهما، وهذا متفق على أنه من التابعين؛ لأنه رحَلَ إلى النبيِّ ?، فوجده قد مات قبله بليالٍ.
واختلف في الثالث، وهو عبدالله الصنابحي، أبو عبدالرحمن، الذي يروي عنه عطاء ابن يسار حديثَ فَضْلِ الوضوء، وحديث أن الشمس تطلع بين قرني الشيطان، واختلفوا فيه على قولين:
الأول: أنه لا يوجدُ أحدٌ بهذا الاسم أصلًا، وإنما صوابه: أبو عبدالله بن عبدالرحمن، فيرجع إلى ابن عُسَيْلة، هنا قولُ يعقوبَ بنِ شيبة، وابنِ المدينيِّ، والبخاري، والترمذي، والدارقطني، والخطيب، وابن عبدالبر، وعبدالحق، والمزي، والذهبي، وغيرهم.
الثاني: أن الصنابحي هذا ثالثٌ، غير عبدالرحمن بن عُسَيْلة، ثم اختلَفَ هؤلاء، فقال أكثرهم: له صحبة، هذا قولُ ابن معين، ويعقوب بن سفيان، وابن سعد، وابن السكن، والحاكم، ومن المتأخِّرين: مغلطاي، والبلقيني، وابن حجر، وغيرهم. وقال أبو حاتم: هو ثالثٌ، لكن لم يثبت له صحبة، والراجحُ: قول ابن معين ومن وافقه بثبوتِ صُحْبته. وانظر المعرفة والتاريخ (2/314، 363)، وابن سعد (7/426، 509)، والعلل الكبير للترمذي (1/78) والتاريخ الكبير (5/321)، والمراسيل (ص 122)، والمؤتلف للدارقطني (3/1457)، والموضح للخطيب (1/288)، ومستدرك الحاكم (1/130)، وحاشية الأم (1/130)، والاستيعاب (6/62)، والنبلاء (3/505)، وتهذيب التهذيب (4/438)، (6/90)، وفتح الباري (11/468)، ونصب الراية (1/21)، ونقد الذهبي للوهم والإيهام (15).
وهاهنا تنبيه مهم جدا، وهو أن الصنابح بن الأعسر وبما جاء في بعض الروايات باسم الصنابحي – على ما تقدَّمت الإشارة إليه – فيظنه من لم يدقق أنه أحد الاثنين الآخرين، وليس كذلك، وقد وقَعَ مثلُ ذلك للعلَّامة الألباني رحمه الله، والعجبُ: أنْ يقع ذلك في حديث الحوض الذي به عُرِفَ الصنابحُ بن الأعسر، فانظرْهُ في تحقيقه للسنة لابن أبي عاصم في حديث الحوض رقم (739)، وانظر أيضًا تعليق أحمد شاكر على "الرسالة للشافعي" (صـ 317 وما بعدها)، والله أعلم.(1/360)
عبد الرحمن بن عُسَيْلة، ولم يدركِ النبيَّ ?، وقال فيه: «فَإِذَا =(1/493)=@ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، خَرَجَتِ الخَطَايَا (1) مِنْ رَأْسِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ أُذُنَيْهِ»؛ استدلَّ به بعض أصحابنا على صِحَّةِ قولِ مالك: «الأُذُنَانِ مِنَ الرَّأس» (2) (3) ، ولم يُرِدْ مالكٌ (4) بذلك أنَّ الأذنَيْنِ جزءٌ من الرأس؛ بدليلِ أنه لم يُخْتَلَفْ عنه أنهما تُمْسَحَانِ (5) بماءٍ جديد (6) ، وأنَّ مَنْ تركهما حتى صلَّى، لم تلزمْهُ الإعادةُ (7) (8) ، وإنما أرادَ مالكٌ بقوله: «الأذنانِ مِنَ الرَّأْسِ»: أنهما تُمْسَحَان (9) كما يُمْسَحُ الرأس، لا أنهما تُغْسَلَان (10) كما يُغْسَلُ الوجهُ (11) ، تَحَرُّزًا مما يحكى عن ابْنِ شِهَابٍ أنه قال: «إنَّ (12) ما أقبَلَ منهما على الوجهِ هو مِنَ الوجه، فيغسلُ معه (13) ، وما يلي الرَّأْسَ هو مِنَ الرأسِ، فَيُمْسَحَ مَعَهُ» (14) .
(4) بَابُ مَا يُقَالُ بَعْدَ الْوُضُوءِ
176 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ (15) ، قَالَ: كَانَتْ عَلَيْنَا رِعَايَةُ الإِبِلِ، فَجَاءَتْ نَوْبَتِي، فَرَوَّحْتُهَا بِعَشِيٍّ، فَأَدْرَكْتُ رَسُولَ اللهِ ? قَائِمًا يُحَدِّثُ النَّاسَ، فَأَدْرَكْتُ مِنْ قَوْلِهِ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، مُقْبِلاً عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ، إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ»، قَالَ: فَقُلْتُ: مَا أَجْوَدَ هَذِهِ ! فَإِذَا قَائِلٌ بَيْنَ يَدَيَّ يَقُولُ: الَّتِي قَبْلَهَا أَجْوَدُ مِنْها، فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ، قَالَ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُكَ جِئْتَ آنِفًا، قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ - أَوْ فَيُسْبِغُ - الْوَضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ».
وَمِنْ بَابِ مَا يُقَالُ بَعْدِ الْوُضُوءِ
قولُ عقبة - رضي الله عنه - : «كَانَتْ عَلَيْنَا رِعَايَةُ الإِبِلِ»، يعني: إبلَ الصدقةِ المنتظَرَ بها تفريقُهَا، أو الإبلَ المعدَّةَ لمصالحِ المسلمين. &(1/361)&$
__________
(1) من قوله: «عُسَيْلة ولم يدرك...» إلى هنا سقط من (غ).
(2) رواه أبو داود في الطهارة باب صفة وضوء النبي ? برقم (134)، ورواه الترمذي في الطهارة برقم (37) باب ما جاء في أن الأذنين من الرأس، وابن ماجه في الطهارة، باب الأذنان من الرأس، رقم الحديث (445).
(3) ونيس.
(4) قوله: «مالك» سقط من (ب) و(ح) و(غ).
(5) في (أ) و(ح) و(غ): «يمسحان».
(6) ونيس.
(7) في (ب) و(ح) و(غ): «إعادة».
(8) ونيس.
(9) في (أ) و(ح) و(غ): «يمسحان».
(10) في (أ) و(ح) و(غ): «يغسلان».
(11) ونيس.
(12) قوله: «إن» سقط من (أ) و(ح).
(13) قوله: «فيغسل معه» ليس في (ح).
(14) ونيس.
(15) أخرجه مسلم (1/209 رقم 234) في الطهارة، باب الذكر المستَحَبِّ عقب الوضوء.(1/361)
وقوله: «فَرَوَّحْتُهَا بِعَشِيٍّ»؛ يعني (1) : رددتُهَا إلى حيثُ تَبِيتُ، والْمُرَاحُ - بضم الميم -: مَبِيتُ الماشية. =(1/494)=@
وفي هذا الحديث: مايدلُّ (2) على أنَّ الذِّكْرَ بعد الوضوءِ فضيلةٌ من فضائله،، وعلى أنَّ: أبوابَ الجنةِ ثمانيةٌ لا غيرُ،، وعلى أنَّ: داخلَ الجنةِ يخيَّرُ في أيِّ الأبوابِ شاء، وقد تقدَّم استيعابُ هذا المعنى.
(5) بَابُ تَوَعُّدِ مَنْ لَمْ يُسْبِغْ، وَغَسْلِهِ مَا تَرَكَ، وَإِعَادَتِهِ الصَّلَاةَ
177- عَنْ سَالِمٍ مَوْلَى شَدَّادٍ (3) ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ? يَوْمَ تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَدَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَتَوَضَّأَ عِنْدَهَا، فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، أَسْبِغِ الْوُضُوءَ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ? يَقُولُ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ».
وَمِنْ بَابِ تَوَعُّدِ مَنْ لَمْ يُسْبِغْ
قوله: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ»، «وَيْلٌ»: كلمةُ عذابٍ وقُبُوحٍ (4) وهلاكٍ، مثل: وَيْح، وعن أبي سعيد الخدريِّ (5) ، وعطاءِ بنِ يَسَار (6) : هو وادٍ في جهنَّمِ لو أُرْسِلت فيه الجبالُ، لماعَتْ من حَرِّه،، ابنُ مسعودٍ - رضي الله عنه - (7) : صديدُ أهلِ النارِ.
ويقالُ: وَيْلٌ لزيد، =(1/495)=@ &(1/362)&$
__________
(1) قوله: «يعني» في (ب): «أي».
(2) قوله: «ما يدل» في (أ): «دليل».
(3) أخرجه مسلم (1/213 رقم 240) في الطهارة، باب وجوب غَسْلِ الرجلين بكمالهما.
(4) يقال: قَبَحَ اللهُ فلانًا قَبْحًا وقُبُوحًا، أي: أبعده عن كل خير. انظر "اللسان" (2/255).
(5) اختُلِفَ في رفعه ووقفه:
فأخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/534)، وعنه البيهقي في "البعث" رقم (512). من طريق ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن دَرَّاج أبي السَّمْح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، قال: «الويلُ وادٍ في جهنَّم يَهْوِي فيه الكافرُ أربعين خريفًا قبل أن يَفْرُغَ من حِسَابِ الناس»، موقوفًا. قال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وليس كما قالا، فإنَّ في سنده: دَرَّاجًا أبا السَّمْح ضُعِّفَ في حديثه عن أبي الهيثم.
قال أحمد: أحاديثُ دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، فيها ضعف.
وقال أبو داود: أحاديثه مستقيمة إلا ما كان عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد.
وأخرجه أحمد (3/75)، وعبد بن حُمَيْد (924)، وعنه الترمذي (4/605 رقم 2576)، كتاب صفة جهنم، باب ما جاء في صفة قعر جهنم، و(5/299-300 رقم 3164) كتاب التفسير، باب ومن سورة الأنبياء، من طريق ابن لهيعة.
وأخرجه الحاكم (2/507) وعنه البيهقي في «البعث» رقم (513)، من طريق أبي عبيدالله الوهبي، عن عمه، عن عمرو بن الحارث.
وأخرجه البغوي "شرح السنة" (15/147 رقم 4409)، من طريق رِشْدين بن سعد، عن عمرو بن الحارث.
جميعهم عن دَرَّاج أبي السمح، عن أبي الهيثم، به، مرفوعًا بمعناه.
قال الترمذي: «غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث ابن لهيعة». اهـ.
وقال ابن كثير في تفسيره (1/168): «قلت: لم ينفردْ به ابن لهيعة كما ترى، ولكنَّ الآفة ممَّن بعده، وهذا الحديثُ بهذا الإسنادِ مرفوعًا منكر». اهـ.
(6) أخرجه ابن المبارك في الزهد والرقائق (2/95/زوائد)، والبيهقي في البعث رقم (516)، من طريق سعيد بن أبي أيوب، عن محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار؛ أنه قال: الويل: «وادٍ في جهنَّم، لو سُيِّرَتْ فيه الجبالُ، لماعتْ من حره»، وسنده حسن.
(7) أخرجه الطبراني في الكبير (9/228 رقم 9114)، والبيهقي في البعث رقم (515)، من طريق سعيد بن منصور، عن خلف بن خليفة، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود: ويلٌ وادٍ في جهنَّم يسيلُ فيه صديدُ أهلِ النار جُعِلَ للمكذِّبين. وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه.
وأورده في الدر المنثور (1/202) وزادة نسبته إلى سعيد بن منصور وابن المنذر.(1/362)
ووَيْلًا له، بالرفعِ على الابتداءِ (1) ، والنصبِ (2) على إضمارِ الفعلِ، فإنْ أضفتَهُ، لم يَكُنْ إلا النصبُ؛ لأنَّك لو رفعتَهُ، لم يكنْ له خبرٌ.
178 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو (3) ؛ قَالَ: رَجَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ? مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِمَاءٍ بِالطَّرِيقِ، تَعَجَّلَ قَوْمٌ عِنْدَ الْعَصْرِ، فَتَوَضَّؤُوا وَهُمْ عِجَالٌ، فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ، وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?:«وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ؛ أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ».
«والأَعْقَابُ»: جمعُ عَقِبٍ، وعَقِبُ كلِّ شيء: آخرُهُ.
والعراقيب: جمعُ عُرْقُوب، وهو العَصَبُ الغليظُ المؤتَّر فوقَ عَقِبِ الإنسان (4) ، وعرقوبُ الدابَّة في رجلها: بمنزلةِ الرُّكْبة في يَدِها، قال الأصمعيُّ: وكلُّ ذي أربعٍ عرقوباه (5) في رِجْلَيْهِ، وركبتاه في يَدَيْه.
ومعنى ذلك: أنَّ الأعقابَ والعراقيبَ (6) تعذَّب إن لم تُعَمَّ بالغَسْل.
وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ: تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِيُّ ? فِي سَفَرٍ سَافَرْنَاهُ، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَانَا:«وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ».
وهذه الأحاديثُ كلُّها تدلُّ على أنَّ فرضَ الرِّجْلين الغَسْلُ، لا المسحُ؛ وهو مذهبُ جمهورِ السلفِ وأئمَّةِ الفتوى (7) .
وقد حُكِيَ عن ابْن عَبَّاسِ (8) ، وأنس (9) ، وعِكْرمة (10) : «أنَّ فرضهما المَسْحُ»، إنْ صحَّ ذلك عنهما، وهو مذهبُ الشِّيعة (11) .
179 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (12) ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ? رَأَى رَجُلاً لَمْ يَغْسِلْ عَقِبَهُ، فَقَالَ:«وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ»، وَفِي أُخْرَى:«وَيْلٌ لِلْعَرَاقِيبِ مِنَ النَّارِ».
وذهب ابنُ جريرٍ الطبريُّ (13) (14) : إلى أنَّ فرضهما التخييرُ (15) بين الغَسْل والمَسْح.
وسبَبُ الخلاف: اختلافُ القرَّاء (16) في قوله تعالى: {وأرجلكم} (17) بالخفض والنصب، وقد أكثَرَ الناسُ في تأويلِ هاتَيْن القراءتَيْن.
والذي ينبغي أن يقال: إن قراءةَ الخَفْض عطفٌ على الرأس؛ فهما يُمْسَحَان، لكن إذا كان عليهما خُفَّانِ، وتلقَّينا هذا القَيْدَ من فعلِ رسولِ الله ?؛ إذْ لم يَصِحَّ عنه أنه مسَحَ رِجْلَيْهِ إلا وعليهما خُفَّان (18) ، والمتواترُ عنه: غَسْلهما، فبيَّن النبيُّ ? بفعله الحالَ الذي تُغْسَلُ فيه الرِّجْلُ، والحالَ الذي تُمْسَحُ فيه (19) ، فَلْيُكْتَفَ بهذا؛ فإنه بالغٌ، وقد طوَّلنا النَّفَسَ في هذه المسألةِ في كتابنا في (20) «شرحِ التَّلْقِين»، أعان الله على تمامه (21) (22) . =(1/496)=@
وقوله:«فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا»، قد يَتمسَّك به مَنْ قال بجوازِ مسح الرِّجْلين، ولا حجة له فيه؛ لأربعة أوجه:
أحدها: أنَّ المسح هنا يرادُ به الغَسْل، فمن الفاشِي المستَعْمَلِ (23) في أرضِ الحجازِ، أن يقولوا: تمسَّحنا للصلاةِ، أي: توضَّأنا. &(1/363)&$
__________
(2) في (ح): «فالنصب».
(3) أخرجه البخاري (1/142رقم60) في العلم، باب مَنْ رفع صوته بالعلم، ومسلم (1/214رقم 241-26،27) في الطهارة، باب وجوب غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ بكمالهما.
(4) في (غ): «الموتر وعقب الإنسان».
(5) في (ب)و (ح) و (غ): «فعرقوباه».
(6) في (غ): «أو العراقيب».
(7) توثيق فقهي ونيس.
(8) ما روي عن ابن عباس:
وله طريقان:
أ- أخرجه الحميدي (342)، وعبدالرزاق (1/22 رقم65)، وابن أبي شيبة (1/27 رقم199) كتاب الطهارة، باب من كان يقول: اغسل قدميك، وعنه ابن ماجه (1/156 رقم 458) كتاب الطهارة، باب ما جاء في غسل القدمين، وأخرجه البيهقي (1/72).
جميعهم مِنْ طريق عبدالله بن محمد بن عقيل، عن الرُّبَيِّع بنت معوِّذ، قالت: أتاني ابنُ عباس فسألني عن هذا الحديث - تعني: حديثَهَا الذي ذكَرَتْ أنها رأتِ النبيَّ ? توضَّأ، وأنه غسَلَ رجليه - قالت: فقال ابنُ عباس: أبى الناسُ إلا الغَسْل، ولا أَجِدُ في كتابِ الله إلا المَسْح. وإسناده ضعيف.
عبدالله بن محمد بن عقيل: صدوقٌ سيِّئ الحفظ، وفيه غفلة. وحسن إسناده البوصيري في "الزوائد" (1/183).
ب - له طريق آخر، عن عكرمة، عنه:
أخرجه عبدالرزاق (1/19 رقم55)، والطبري (10/58 رقم11474)، من طريق
ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، أنه سمع عكرمة يقول: قال ابن عباس: الوضوءُ مَسْحتان وغَسْلتان. وإسناده صحيح.
(9) ما روي عن أنس:
أخرجه سعيد بن منصور (4/1444-1445 رقم718) بتحقيق د. سعد الحميد، وابن أبي شيبة (1/26 رقم182) كتاب الطهارة، باب في المسح على القدمين، وابن المنذر (1/412 رقم418) كتاب الطهارة، باب ذكر اختلاف أهل العلم في قراءة: {وأرجلكم}، والطبري (10/58 رقم11475 و11477)، والبيهقي (1/71).
جميعهم من طريق حميد، قال: قال موسى بن أنس لأنس ونحن عنده: يا أبا حمزة، إن الحجاج خطبنا بالأهوازِ ونحنُ معه... الحديث، وفيه: قال: وكان أنسٌ إذا مسَحَ قدميه بَلَّهُمَا. وإسناده صحيح. وصحَّحه الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (3/48).
(10) ما روي عن عكرمة:
وله طرق:
أ- أخرجه عبدالرزاق (1/19 رقم55)، وابن أبي شيبة (1/26 رقم180) كتاب الطهارة، باب في المسح على القدمين. كلاهما من طريق عمرو بن دينار، عن عكرمة، قال: «غَسْلتان ومَسْحتان». وسنده صحيح.
ب - وأخرجه أبو عبيد في «الطهور» رقم (390)، وابن أبي شيبة (1/25 رقم178) كتاب «الطهارة»، باب في المسح على القدمين، عن إسماعيل، عن أيوب، قال: رأيتُ عِكْرمةَ يمسحُ على رجليه، وكان يقول به. وسنده صحيح.
جـ- وأخرجه عبدالرزاق (1/18 رقم53)، عن معمر، عن قتادة، عن عكرمة والحسن، قالا في هذه الآية: {وأرجلكم إلى الكعبين}، قالا: تمسح الرِّجْلين.
(11) تعليق فقهي ونيس.
(12) أخرجه البخاري (1/267رقم165) في الوضوء، باب غسل الأعقاب، ومسلم(1/214رقم 242-28، 29) في الطهارة، باب وجوب غسل الرِّجْلين بكمالهما.
(13) تعليق فقهي ونيس.
(14) قوله: " الطبري " سقط من (ب)، وفي (غ): «والطبري» بزيادة واو العطف.
(15) في (غ): تشبه أن تكون: «التخير».
(16) في (ب): «القراءة».
(17) سورة المائدة، الآية: 6.
(18) من قوله: «وتلقينا هذا...» إلى هنا سقط من (ح).
(19) في (ح): «به».
(20) قوله: «في» ليس في (ب).
(21) تعليق فقهي ونيس.
(22) من قوله: « وقد طولنا...» إلى هنا سقط من (أ).
وانظر (ص...) من الدراسة.
(23) في (غ): «يعني المستعمل» وعل الناسخ عليها في الهامش بقوله: «لعل الصواب إسقاط «يعني» وتراجع في (غ)».(1/363)
وثانيها: أنَّ قوله: «وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ لَمْ يَمَسَّهَا (1) المَاءُ»، يدلُّ على أنهم كانوا يَغْسِلون أَرْجُلَهم؛ إذْ لو كانوا يَمْسَحُونها، لكانتِ القدَمُ كلُّها لائحةً؛ فإنَّ المَسْحَ لا يحصُلُ منه بَلَلُ المَمْسُوح.
وثالثها: أنَّ هذا الحديثَ قد رواه أبو هريرةَ، فقال فيه (2) : إِنَّ النَّبِيَّ ? رَأَى رَجُلاً لَمْ يَغْسِلْ عَقِبَهُ، فَقَالَ:«وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ». =(1/497)=@
ورابعها: أنَّا لو سلَّمنا أنهم مَسَحوا، لم يَضُرَّنا ذلك، ولم تكنْ (3) فيه حجةٌ لهم؛ لأنَّ ذلك المَسْحَ هو الذي توعَّد عليه بالعقابِ، فلا يكونُ مشروعًا، والله تعالى أعلم (4) .
180- وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (5) ؛ أَنَّ رَجُلاً تَوَضَّأَ، فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفُرٍ عَلَى قَدَمِهِ، فَأَبْصَرَهُ النَّبِيُّ ? فَقَالَ:«ارْجِعْ؛ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ»، فَرَجَعَ ثُمَّ صَلَّى.
وقوله للرجل الذي ترَكَ موضعَ ظُفُرٍ على قدمه (6) :«ارْجِعْ؛ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ»، دليلٌ على استيعابِ الأعضاء (7) ، ووجوبِ غَسْلِ الرِّجْلين، وأنَّ تاركَ بعضِ وضوئِهِ – جهلاً أو عَمْدًا – يستأنفُهُ (8) ؛ إذْ لم يَقُلْ له: اغسِلْ ذلك الموضعَ فقطْ.
وقد جاءَ في كتاب أبي داود (9) في هذا الحديثِ:«أَنَّ النَّبِيَّ ? أَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ»، وهذا نَصٌّ. &(1/364)&$
__________
(1) في (أ): «تمسها».
(2) قوله: «فيه» سقط من (ب)، و (ح)، و(غ).
(3) في (غ): «ولم يكن».
(4) توثيق فقهي ونيس.
(5) أخرجه مسلم (1/215رقم 243) في الطهارة، باب وجوب استيعاب أجزاء محل الطهارة.
(6) في (غ): «قدميه».
(7) تعليق فقهي ونيس.
(8) تعليق فقهي ونيس.
(9) أخرجه أحمد (3/424)، وأبو داود (1/121 رقم175)، كتاب الطهارة، باب تفريق الوضوء، وعنه البيهقي (1/83). كلاهما من طريق بقيَّة، عن بحير بن سعد، عن خالد بن مَعْدان، عن بعض أصحاب النبي?: أنَّ النبيَّ ? رأى رجلاً يصلِّي، وفي ظَهْرِ قَدَمِهِ لُمْعَةٌ قَدْرَ الدرهمِ، لم يُصِبْهَا الماء، فأمره النبيُّ ? أن يعيد الوضوءَ والصلاة.
قال البيهقيُّ عَقِبَ إخراجِهِ لهذا الحديث: وهو مرسلٌ، وتعقَّبه ابن التركماني بقوله: تسميتُهُ هذا مرسلاً ليس بجيِّد؛ لأنَّ خالدًا هذا أدرَكَ جماعةً من الصحابة، وهم عدول؛ فلا يضرُّهم الجهالة، وقال الأثرم: قلتُ – يعني لابن حنبل –: إذا قال رجل من التابعين: حدَّثني رجلٌ من أصحابِ النبيِّ ? ولم يسمِّه؛ فالحديثُ صحيح؟ قال: نعم. اهـ.
وأمَّا تدليسُ بقيَّة، فقد صرَّح بالتحديث عند أحمد. وصحَّحه الشيخ الألباني رحمه الله في "الإرواء" رقم (86)، وذكر له شواهدَ عدَّة.(1/364)
بَابُ الْغُرَّةُ وَالتَّحْجِيلُ مِنَ الْإسْبَاغِ، وَأَيْنَ تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ، وَفَضْلِ الْإِسْبَاغِ عَلَى الْمكَارِهِ
181 - عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمُجْمِرِ (1) ، قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضَّأُ؛ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ، ثُمَّ يَدَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ? يَتَوَضَّأُ، وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «أَنْتُمُ الْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ مِنْ إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ؛ فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ، فَلْيُطِلْ غُرَّتَهُ وَتَحْجِيلَهُ».
وَمِنْ بَابِ (2) الْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ
قوله: «ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ»:
«أَشْرَعَ»: رباعيٌّ، أي: =(1/498)=@ مَدَّ يده بِالغَسْلِ إلى العَضُدِ، وكذلك: « حَتَّى (3) أَشْرَعَ فِي السَّاقِ»، أي: مَدَّ يَدَهُ إليه؛ من قولهم: أَشْرَعْتُ الرمحَ قِبَلهُ، أي: مَدَدتُّهُ إليه، وسَدَّدتُّهُ (4) نحوَهُ، وأشرَعَ بابًا إلى الطريق، أي: فتحَهُ مسدِّدًا إليه، وليس هذا مِنْ: شَرَعْتُ في هذا الأمر، ولا مِنْ: شَرَعَتِ الدوابُّ في الماء، بشيء؛ لأنَّ هذا ثلاثيٌّ، وذاك (5) رباعيٌّ.
وكان أبو هريرة رضي الله عنه يَبْلُغُ بالوضوء إِبطَيْهِ وساقَيْهِ، وهذا الفعلُ منه هو (6) مذهبٌ له، ومما انفرَدَ به (7) ، ولم يَحْكِهِ عن النبيَّ ? فِعْلاً، وإنما استنبطَهُ من قوله ?: «أَنْتُمُ الْغُرُّ الْمُحَجَّلُون»، ومن قوله: «تَبْلُغُ الحِلْيَةُ مِنَ المُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ مِنْهُ الْوضُوُءُ» (8) .
قال &(1/365)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (1/235رقم136) في الوضوء، باب فضل الوضوء والغُرِّ المحجَّلين من آثار الوضوء، ومسلم (1/216رقم 246-34) في الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء.
(2) قوله: «ومن باب» لم يتضح في (ح).
(3) قوله: «حتى» ليس في (غ).
(4) في (ب): «وشددته».
(5) في (أ): «وذلك».
(6) قوله: «هو» سقط من (ب)، و (ح) و (غ).
(7) تعليق فقهي ونيس.
(8) هو الحديث قبل الأخير من أحاديث الباب.(1/365)
أبو الفضلِ عِيَاضٌ: والناسُ مُجْمِعونَ على خلافِ هذا (1) ، وألَّا يُتعدَّى بالوضوءِ حدودُهُ؛ لقوله ?: «فَمَنْ زَاَدَ فَقَدْ تَعَدَّى وَظَلَمَ» (2) ، (3) .
والإشراعُ المرويُّ عن النبيِّ ? من حديثِ أبي هريرة هو محمولٌ على استيعابِ المرْفقين والكَعْبين بالغَسْل، وعبَّر عن ذلك بالإشراعِ في العَضُدِ والساق؛ لأنَّهما مبادئهما،، وتطويلُ الغُرَّة والتحجيلِ بالمواظبةِ على الوضوءِ لكلِّ صلاةٍ وإدامته، فتطولُ غُرَّتُهُ بتقويةِ نُورِ وجهه، وتحجيلُهُ بتضاعُفِ نورِ أعضائه (4) .
قال الشيخ رضي الله عنه: وأصلُ الغُرَّة: لُمْعَةٌ بيضاءُ في جبهةِ الفرس، تزيد على قَدْرِ الدرهمِ، يقالُ منه: فَرَسٌ أَغَرُّ، ثم قد استُعْمِلَ في الجمالِ والشُّهْرةِ وطِيبِ الذِّكْر؛ كما قال:
ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طَهَارَى نَقِيَّةٌ وَأَوْجُهُهُمْ عِنْدَ الَمَشَاهِدِ غُرَّانُ (5) =(1/449)=@
والتحجيلُ: بياضٌ في اليدَيْن والرَّجْلَيْن من الفرس، وأصلُهُ من الحجل؛ وهو الخلخالُ والقَيْد.
ولَابَّد أن يجاوزَ التحجيلُ الأرساغَ (6) ولا يجاوزُ الركبتَيْن والعرقوبَيْن، وهو في هذا الحديثِ مستعارٌ عبارةً عن النورِ الذي يعلو أعضاءَ الوضوءِ يومَ القيامةِ.
182 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (7) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? أَتَى الْمَقْبُرَةَ، فَقَالَ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، وَدِدتُّ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا!»، قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! قَالَ: «أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ»، فَقَالُوا: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ فَقَالَ: «أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ، بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ، أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ ؟»، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ ! قَالَ: «فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ، أَلَا لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ: أَلَا هَلُمَّ ! أَلَا هَلُمَّ ! فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا! سُحْقًا!!».
وقوله: «أَتَى الْمَقْبُرَةَ فَقَالَ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ»:
« الْمَقْبُرَةَ: تقالُ بفتح الباء وضمِّها، وتسليمُهُ عليهم لبيانِ مشروعيَّة ذلك (8) ، وفيه معنى الدعاءِ لهم. ويدُّل أيضًا: على حسن التعاهُدِ وكَرَمِ العَهْدِ، وعلى دوامِ الْحُرْمة، ويحتملُ: أن يَرُدَّ الله تعالى أرواحهم فَيَسْمَعون (9) ويَرُدُّون (10) .
وقد ذكَرَ أبو عمر بْنُ عبدالبَرِّ حديثًا صحيحًا عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا، قال: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أَخِيهِ المُسْلِمِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلَّا رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ مِنْ قَبْرِهِ» (11) .
وإتيانُ &(1/366)&$
__________
(1) تعليق فقهي ونيس.
(2) تعليق فقهي ونيس.
(3) أخرجه أحمد (2/180)، وأبو داود (1/94 رقم135) كتاب الطهارة، باب الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، وابن ماجه (1/146 رقم422) كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في القصد في الوضوء وكراهية التعدِّي فيه، والنسائي (1/88) كتاب الطهارة، باب الاعتداء في الوضوء، وابن خزيمة (174)، والطحاوي (1/33)؛ جميعهم مِنْ طريق عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جده.
وحسَّنه الشيخ الألباني في "صحيح الجامع" (6989).
(4) تعليق فقهي ونيس.
(5) في (ح): «غرار»، والمثبت هو الصواب.
والبيت من الطويل، وهو لامرئ القيس يمدح قوما،ن في «ديوانه» (ص 83)، و"غريب الحديث" لأبي عبيد (2/254)، و"تهذيب اللغة" (6/171)، (15/55)، (16/84)، و"المحكم" (4/245)، (5/362)، و"أساس البلاغة" (2/298)، و"التنبيه والإيضاح" (2/177)، و"الصناعتين" (ص353)، و"تفسير القرطبي" (19/64)، و"اللسان" (1/246)، (4/369، 504)، (5/14، 15، 16)، و"التاج" (مادة ثوب، سفر، طهر، غرر)، والبيت بلا نسبة في "العين" (4/19)، و"مقاييس اللغة" (3/428) و"تفسير القرطبي" (12/311)، ويروي البيت في بعض هذه المصادر هكذا:
ثيابُ بني عوفٍ ظَهَارَى نقِيَّةٌ وأَوْجُهُهُمْ بِيضُ المَسَافِرِ غُرَّانُ
وأما معاني مفردات البيت... يوثق من مصادر التخريج معاني
(6) في (أ): «الإسراع».
(7) أخرجه مسلم (1/218رقم249) في الطهارة، بابُ استحبابِ إطالةِ الغُرَّةِ والتحجيلِ في الوضوء.
(8) في (ح): «مشروعيته».
(9) في (ح): «فيستمعون».
(10) تبحث مسألة سماع الأموات ونيس.
(11) أخرجه الخطيب في "تاريخه" (6/137)، وعنه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/911 رقم1523).
وأخرجه تَمَّام (2/122 رقم515/الروض البسام). كلاهما من طريق الربيع بن سليمان المرادي، عن بشر بن بكر، عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي ?، قال: «ما مِنْ رجلٍ يَمُرُّ بقبرِ رجلٍ كان يعرفه في الدنيا، فيسلِّم عليه، إلا عَرَفَهُ وردَّ عليه».
قال ابن الجوزي: «لا يصحُّ، وقد أجمعوا على تضعيف عبدالرحمن بن زيد، قال ابن حبان: كان يَقْلِبُ الأخبار، وهو لا يَعْلَمُ حتَّى كثر ذلك في روايته من رفع المراسيل وإسناد الموقوف، فاستحق الترك». اهـ.
قال ابن رجب في "أهوال القبور" (ص142): «عبدالرحمن بن زيد فيه ضعف، وقد خولف في إسناده». اهـ.
يشير إلى ما أخرجه ابن أبي الدنيا في "كتاب القبور" – كما في "الروح" لابن القيم (1/170) – عن محمد بن قدامة الجوهري، عن معن بن عيسى القزاز، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي هريرة، موقوفًا.
وسنده ضعيف؛ لضعف محمد بن قدامة الجوهري، ضعفه أبو داود، وقال ابن معين: «ليس بشيء».
وأخرجه ابن عبدالبر في "الاستذكار" (2/165)، عن عبيد بن محمد، عن فاطمة بنت الريان، عن الربيع بن سليمان، عن بشر بن بكر، عن الأوزاعي، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن ابن عباس، مرفوعًا. ...
قال ابن رجب في "أهوال القبور" (ص141): «وقال عبدالحق الإشبيلي: إسناده صحيح، يشير إلى أن رواته كلهم ثقات، وهو كذلك، إلا أنه غريب، بل منكر». اهـ.(1/366)
النبيِّ ? المقبُرَةَ يدلُّ على جواز زيارة القبورِ، ولا خلافَ في جوازِهِ للرِّجَال، وأنَّ النهيَ عنه قد نُسِخَ، واختُلِفَ فيه للنساءِ، على ما يأتي (1) .
وقوله: «وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ»؛ يحتمل (2) أوجهًا:
أحدها: أنه امتثالٌ لقول الله تعالى (3) : {ولا تقولنَّ لشيء إني فاعل ذلك غدًا * إلا أن يشاء الله} (4) ، فكان يُكْثِرُ مِنْ ذلك حتى أدخله فيما لا بدَّ منه، وهو الموت. =(1/500)=@
وثانيها: أنْ (5) يكونَ أراد: إنا بكم لاحقون في الإيمان، ويكون هذا قَبْلَ أن يعلم بمآلِ أمره (6) ، كما قال: { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} (7) .
وثالثها: أن يكون: استثناءً في الواجب؛ كما قال الله سبحانه وتعالى: {لتدخلُن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } (8) ، وتكونُ فائدتُهُ التفويضَ المطلق.
ورابعها: أن يكونَ أراد: لاحقون بكم في هذه البقعةِ الخاصَّةِ؛ – فإنه وإنْ كان قد علم (9) أنه يموتُ بالمدينةِ ويُدْفَنُ بها – فإنَّه ? قد قال للأنصار:
«المَحْيَا مَحْيَاُكْم، والْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ» (10) ، لكنْ لم تعيَّن (11) له البقعةُ التي يكونُ فيها إذْ ذاك.
وهذا الوجهُ أَوْلَى من كلِّ ما ذُكِرَ، وكلُّها أقوالٌ لعلمائنا (12) .
وقوله: «وَدِدتُّ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا»، هذا يدلُّ على جوازِ تمنيِّ لقاء الفُضَلاءِ والعُلَماء، وهذه الأُخُوَّةُ هي أخوَّةُ الإيمانِ اليقينيِّ، والحبِّ الصحيحِ للرسول ?، وقد روي (13) في بعضِ طُرُقِ هذا الحديث؛ أنه ? قال: «إِخْوَانِي الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي، وَيُصَدِّقُونَ بِرِسَالَتِي وَلَمْ يَلْقَوْنِي، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بأَهْلِهِ وَمَاِلِه» (14) .
وقد أخذ أبو عمرَ بنُ عبدالبر – رحمه الله – مِنْ هذا الحديثِ ومِنْ قوله ?: «إنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ القَبْضِ عَلَى &(1/367)&$
__________
(1) تعليق فقهي ونيس.
(2) في (ب): «يحمل».
(3) في (أ): «لقوله تعالى».
(4) الآية: 23،24. سورة الكهف.
(5) في (ح): «أنه».
(6) قوله: «بمآل أمره» في (ح): «بما أمره».
(7) سورة الأحقاف، الآية: 9.
(8) سورة الفتح، الآية: 27.
(9) في (ح): «تكلم».
(10) يأتي في كتاب الجهاد والسير، باب ما جاء أن فتح مكة عنوة.
(11) في (غ): «لم تتعين».
(12) تعليق فقهي ونيس.
(13) في (ب): «ورد».
(14) أخرج الإمام أحمد في "مسنده" (3/155)، عن هشام بن القاسم، عن جَسْر، عن ثابت، عن أنس، قال: قال رسول الله ?: «وَدِدتُّ أنِّي لَقِيتُ إخواني!»، قال: فقال أصحاب النبي ?: أوليس نحنُ إخوانَكَ؟ قال: «أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني».
وفي سنده: جَسْر، وهو ابن فرقد: ضعفه الدارقطني، والنسائي، وقال البخاري: ليس بذاك عندهم.
وانظر "التمهيد" (20/250)، و"كنز العمال" (12/181).(1/367)
الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ (1) أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ» (2) -: أنه يكونُ فيمن يأتي بعد الصحابة
– رضي الله عنهم – من يكونُ =(1/501)=@ أفضَلَ ممَّن كان في جُمْلةِ الصحابة – رضي الله عنهم –.
وذهب معظمُ العلماءِ (3) – رحمهم الله – إلى خلافِ هذا، وأنَّ مَنْ صَحِبَ النبيَّ ?، ورآه ولو مَرَّةً مِنْ عمره، أفضَلْ مِنْ كلِّ من يأتي بعد (4) ، وأنَّ فضيلةَ الصُّحْبة لا يعدلها عَمَلٌ،، وهو الحقُّ الذي لا ينبغي أن يُصَارَ لغيره؛ لأمور:
أولها: مزيَّةُ الصُّحْبةِ ومشاهدةِ رسولِ الله ?.
وثانيها: فضيلةُ السَّبْقِ للإسلام.
وثالثها: خصوصيَّةُ الذبِّ (5) عن حَضْرةِ رسولِ الله ?.
ورابعها: فضيلةُ الهِجْرةِ والنُّصْرة (6) .
وخامسها: ضَبْطُهم للشريعةِ، وحِفْظُها عن (7) رسولِ الله ?.
وسادسها: تبليغُهَا لمن بعدهم عن النبي ? (8) .
وسابعها: السبقُ بالنفقةِ في أول الإسلام - رضي الله عنهم -.
وثامنها: أنَّ كلَّ خيرٍ وفضلٍ وعلمٍ (9) وجهادٍ ومعروفٍ فُعِلَ في الشريعة (10) إلى يوم القيامة، فحظُّهم – رضي الله عنهم – منه (11) أكملُ حظٍّ، وثوابهم –رضي الله عنهم– فيه أجزلُ ثواب؛ لأنهم سَنُّوا سُنَنَ الخير، وافتتحوا أبوابَهُ، وقد قال ?: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» (12) ، ولاشكَّ في أنهم الذين سَنَّوا جميعَ السنن، =(1/502)=@ وسابقوا إلى المكارم. ولو عُدِّدَتْ مكارِمُهُمْ، وفسِّرت خواصُّهم، وحُصِرَتْ لَمَلَأتْ أسفارَا، ولظَّلْتِ (13) الأعينُ بمطالعتها (14) حَيَارَى، وعن هذه الجملة قال رسول الله ? فيما خرَّجه البزَّار، عن جابر بنِ (15) عبدالله – رضي الله عنهما – مرفوعًا: &(1/368)&$
__________
(1) في (أ): «فيه»، وفي (ب): «فيهم».
(2) أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (8/426)، وأبو داود (4/512 رقم4341) كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، وابن ماجه (2/1330-1331 رقم4014) كتاب الفتن، باب قوله تعالى: [{يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم}]، والترمذي (5/240-241 رقم3058) كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة المائدة، وابن حبان (2/108-109 رقم385/كما في الإحسان)، والبغوي "شرح السنة" (14/347-348 رقم4156).
جميعهم: من طريق عتبة بن أبي حَكِيمٍ، عن عمرو بن جارية اللخمي، عن أبي أمية الشعباني، قال: سألتُ أبا ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - ، فقلت: يا أبا ثعلبة، كيف تقول في هذه الآية: {عليكم أنفسكم}؟ قال: أما والله، لقد سألتَ عنها خبيرًا، سألتُ عنها رسولَ الله ?، فقال.... فذكر الحديث، وفيه: «للعامل فيهم مثلُ أَجْرِ خمسين رجلاً يعملون مثل عمله...».
وفي سنده: عتبة بن أبي حَكِيم، ضعيفٌ من قبل حفظه، وعمرو بن جارية، ذكره ابن حِبَّان في «ثقاته»، وفي "التقريب" مقبول.
وأبو أمية الشعباني - واسمه يُحْمِد، وقيل: عبدالله بن أُخَامِر - ذكره ابن حبان في «ثقاته»، وقال في"التقريب": مقبول.
والحديث قال عنه الترمذي: حسن غريب.
وله شواهد من حديث عتبة بن غزوان، مرفوعًا: ... ... ... ...
أخرجه محمد بن نصر المروزي في "السنة" (ص14)، والطبراني في "الكبير" (17/117 رقم289)، من طريق إبراهيم بن أبي عَبْلة، عن عتبة بن غزوان، بمعناه.
وسنده ضعيف؛ لإرساله، إبراهيمُ بن أبي عَبْلة، عن عتبة، مرسلٌ، كما في "التهذيب" (1/75).
وله شاهد آخر من حديث عبدالله بن مسعود مرفوعًا:
أخرجه البزار (5/178-179 رقم1776/كما في "البحر الزخار")، والطبراني في "الكبير" (10/182-183 رقم 10394)، من طريق سهل بن عامر البجلي، عن عبدالله بن نمير، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود، مرفوعًا، بمعناه.
وسنده ضعيف، سهل بن عامر، قال عنه البخاري: منكر الحديث،وضعفه أبو حاتم.
لكن الحديث حسنٌ بمجموعِ طرقه.
(3) تعليق فقهي ونيس.
(4) في (ح): «بعده».
(5) في (ب): «القرب».
(6) في (غ): «الهجرة معه، والنصرة له ?».
(7) في (غ): «وحفظها عنه».
(8) قوله: «عن النبي ?» من (غ) فقط.
(9) قوله: «وعلم» في (غ): «وعمل».
(10) في (غ): «في شريعة النبي ?».
(11) قوله: «منه» لي في (غ).
(12) يأتي في كتاب الزكاة، باب حث الإمام الناس على الصدقة.
(13) في (ب): «ولكلت».
(14) في (غ): «لمطالعتها».
(15) قوله: «جابر بن» سقط من (أ).(1/368)
«إنَّ اللهَ اخْتَارَ أَصْحَابِي عَلَى الْعالَمِينَ سِوَى النَّبِيِّينَ وَالمُرْسَلِينَ، وَاخْتَارَ مِنْ أَصْحَابِي أَرْبَعَةً - يعني: أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وُعْثَمَانَ وَعَلِيًّا - فَجَعَلَهُمْ أَصْحَابِي»، وقال: «فِي أَصْحَابِي كُلِّهِمْ خير» (1) . وكذلك قال ?: «اتَّقُوا اللهَ فِي أَصْحَابِي فَلَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ (2) أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» (3) .
وكفى مِنْ ذلك كلِّه ثناءُ الله تعالى عليهمْ جملةً وتفصيلاً، وتعيينًا (4) وإبهامًا، ولم يحصُلْ (5) شيءٌ مِنْ ذلك لِمَنْ بعدهم.
فأما استدلالُ المخالف بقولِهِ ?: «إخواننا»: فلا حجةَ فيه؛ لأنَّ الصحابةَ قد حصَلَ لهم مِنْ هذه الأخوَّة الحظُّ الأوفر؛ لأنها الأخوَّةُ الدينيَّة (6) العامَّة، وانفردَتِ الصحابةُ بخصوصيَّة الصُّحْبة.
وأما قوله: «لِلْعَامِلِ فِيِهنَّ (7) أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ»: فلا حجَّة فيه؛ لأنَّ ذلك - إن صحَّ - إنما (8) هو في الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكر؛ لأنه قد قال ? في آخرِه: «لِأنَّكُمْ تَجِدُونَ عَلَى الخَيْرِ أَعْوَانًا، وَلَا يَجِدُونَ»، ولا بُعْدَ في أن يكونَ في بعضِ الأعمال لغيرهم من الأجورِ أكثرُ ممَّا لهم فيه، ولا تلزمُ (9) منه الفضيلةُ المطلقة التي هي المطلوبةُ بهذا البحث، والله أعلم (10) . =(1/503)=@
وقوله ?: «وأنا فرطُهمُ على الحوض»، أي: متقدِّمهم إليه، يقال: فَرَطْتُ القومَ: إذا تقدَّمْتَ لترتاد لهم الماءَ.
و«على»: وقعَتْ هُنا موقعَ (11) «إلى» ويحتملُ: أن يقدَّر هناك (12) فعل (13) يدل عليه مساق الكلام، تقديرُهُ: فيجدوني (14) على الحَوْض (15) . &(1/369)&$
__________
(1) أخرجه البزار (3/288 رقم2763/كشف الأستار)، والطبري في «صريح السنة» (ص23)، والخطيب في "تاريخه" (3/162)، جميعهم من طريق عبدالله بن صالح، عن نافع بن يزيد، عن زهرة بن معبد، عن سعيد بن المسيِّب، عن جابر بن عبدالله مرفوعًا.
قال البزار: «ولم يشاركْ عبدَالله بن صالح في روايته هذه عن نافع بن يزيد أحدٌ نعلمه».اهـ
وأما ما اشتمل عليه الحديث، من إثبات فضيلةِ الصحابة، فهو ثابتٌ في أحاديث أخرى.
(2) في (غ) «ملء».
(3) يأتي في كتاب النبوات، باب وجوب احترام أصحاب النبيِّ ?. [رواه مسلم برقم 2540].
(4) في (غ): «وتعينًا».
(5) في (ح): «ولم يجعل».
(6) في (ب) و (ح) و (غ): «اليقينيَّة».
(7) في (ب): «منهم».
(8) في (غ): «فإنما».
(9) في (غ): «يلزم».
(10) تعليق فقهي ونيس.
(11) في (ح): «موضع».
(12) في (أ) و (ت) و (غ): «هنالك».
(13) في (ح): «أفعل».
(14) في (أ): «فتجدوني».
(15) في (ح): «على أحوض».(1/369)
وقوله: «أَلَا لَيُذَادَنَّ»، كذا روايته (1) ها هنا (2) مِنْ غير خلاف، واختُلِفَ فيه في "الموطأ"؛ فرُوِيَ: «فَلَيُذَادَنَّ» بلام القسم، وروي: «فَلَا يُذَادَنَّ»، بـ«لا» النافية، وكلاهما صحيحٌ، فباللام على قَسَمٍ محذوف، تقديره: فوالله، لَيُذَادَنَّ، وب- «لا» يكونُ من باب قولهم: لَا أَرَيَنَّكَ ها هنا (3) ، أي: لا تَتَعَاطَ (4) أسبابَ الذَّوْدِ عن حوضي.
ومعنى «لَيُذَادَنَّ»: لَيُدْفَعَنَّ، والذَّوْدُ:
الدفع،، و«الدُّهْمُ» (5) : جمع أَدْهَم، وهو الأسودُ من الخيلِ (6) الذي يَضْرِبُ إلى الخُضْرة،، و«البُهْمُ»: جمعُ البهيم الذي لا لَوْنَ فيه سوى الدُّهْمة.
وقوله: «أُّنادِيهِمْ: أَلَا هَلُمَّ!»، أي: تعالَوْا، وفي «هَلُمَّ» لغتان: إلحاقُ علامةِ التثنية والجمع والتأنيث، وعدَمُ ذلك، فيقالُ: هَلُمَّ في المذكَّرِ والمؤنَّث، والإفرادِ والتثنيةِ والجمع (7) ، وبهذه اللغة جاء لفظُ هذا الحديث، وبها جاءَ القرآن (8) .
وقوله: فيقال: «إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ»، اختلَفَ العلماءُ في تأويله:
فالذي (9) صار إليه الباجيُّ وغيره - وهو الأشبَهُ بِمَسَاقِ الأحاديث (10) -: أنَّ هؤلاءِ الذين يقال لهم هذا القولُ ناسٌ نافقوا، ارتدُّرا من الصحابةِ وغيرهم، فَيُحْشَرون في أمةِ النبي ?، كما قد تقدَّم (11) من قوله: «وَتَبْقَى هَاذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا»، وعليهم سيما هذه الأمةِ مِنَ الغُرَّةِ والتحجيلِ، فإذا رآهم النبيُّ ?، عَرَفهم بالسِّيمَا، ومَنْ كان من أصحابه بأعيانهم فيناديهم: «أَلَا هَلُمَّ!»، فإذا انطلقوا نحوه، حِيلَ بينهم وبينه، وأُخِذَ بهم ذاتَ الشمال، فيقولُ النبيُّ ?: «يَا رَبِّ مني (12) وَمِنْ أُمَّتِي»، وفي لفظٍ آخر: «أَصْيحَابِي أَصْيحَابِي (13) » (14) ، =(1/504)=@ فيقال له إذْ ذاك: «إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، وَإنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ» (15) ، فإذْ ذاك تذْهَبُ عنهم الغُرَّةُ والتحجيلُ، ويُطْفَأُ نورُهُمْ، فَيَبْقَوْنَ في الظلماتِ، فَيُنْقَطَعُ بهم عن الورود وعن جَوَازِ الصراطِ؛ فحينئذٍ: يقولون للمؤمنين: {انظرونا نقتبس من نوركم} (16) ، فيقالُ لهم: {ارجعوا &(1/370)&$
__________
(1) في (ح): «روايتنا».
(2) في (غ): «هنا» بدل: «هاهنا».
(3) في (غ): «هنا» بدل: «هاهنا».
(4) في (ب) و(ح) و(غ): «تتعاطى».
(5) في (ح): «فالدهم».
(6) قوله: «من الخيل» سقط من (أ).
(7) من قوله: «والتأنيث...» إلى هنا سقط من (ب) و(ح)، و (غ)، بسبب انتقال النظر.
(8) في قوله تعالى: {قل هلم شهدائكم الذين يشهدون أن الله حَرَّم هذا} [الأنعام: 150]، وقوله: {قد يعلم الله المعوِّقين منكم والقائلين لإخوانهم هلمَّ إلينا ولا يأتون الباس إلا قليلا} [الأحزاب: 18].
(9) في (ب): «والذي».
(10) في (أ): «الحديث».
(11) في (ح): «عما تقدم».
(12) في (ب): «أمتي».
(13) قوله: «أصيحابي» الثانية سقط، من (ب) و(غ).
(14) في (ح): «أصحابي».
(15) أخرجه البخاري (6/386-387 و478 رقم3349و3447) كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلاً...}، وباب قول الله: (واذكر في الكتاب مريم).
(16) سورة الحديد، الآية: 13.(1/370)
وراءكم فالتمسوا نورًا} (1) ، مَكْرًا وتنكيلاً؛ ليتحقَّقوا مقدارَ ما فاتهم، فَيَعْظُمُ أَسَفُهُم وحَسْرَتُهُمْ، أعاذنا الله مِنْ أحوال المنافقين، وألحقنا بعبادِهِ المُخْلِصين.
وقال الداووديُّ وغيره: يحتملُ أن يكونَ هذا في أهلِ الكبائرِ والبدعِ الذين لم يَخْرُجُوا عن الإيمان ببدعتهم، وبعد ذلك يتلافاهُمُ الله برحمته، ويَشْفَعُ لهم النبيُّ ?. قال القاضي عياض: والأوَّل أظهر (2) .
وقوله: «فَسُحْقًا فَسُحْقًا»، أي: بُعْدًا، والمكانُ السحيقُ: البعيد، والتكرارُ للتاكيد (3) .
183 - وَفِي رِوَايَةٍ (4) قال: «إِنَّ حَوْضِي أَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ مِنْ عَدَنٍ، لَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ بِاللَّبَنِ، وَلَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النُّجُومِ، وَإِنِّي لَأَصُدُّ النَّاسَ كَمَا يَصُدُّ الرَّجُلُ إِبِلَ النَّاسِ عَنْ حَوْضِهِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتَعْرِفُنَا يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ: «نَعَمْ، لَكُمْ سِيمَاءُ لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الأُمَمِ، تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ».
وقوله: «إِنَّ حَوْضِي أَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ مِنْ عَدَنٍ» (5) ، يريدُ طولَهُ وعَرْضه، وقد جاء في الحديث الآخر: «زَوَايَاهُ (6) سَوَاءٌ (7) ». وسأتي الكلامُ على الحوضُ، إن شاء الله تعالى. =(1/505)=@
وقوله: «إنِّي لَأَصُدُّ النَّاسَ»، أي: لَأَمْنَعُ وأَطْرُدُ الناسَ، بمعنى: أنه يأمر بذلك، والمطرودون هنا هم الذين لا سيما لهم مِنْ غير هذه الأمة.
ويحتملُ: أن يكونَ هذا الصدُّ هو الذَّوْدَ الذي قال فيه في الحديث الآخر: «إنِّي لَأَذُوُد النَّاسَ عَنْ حَوْضِي بِعَصَايَ لِأَهْلِ الْيَمَنِ» (8) ؛ مبالغةً في إكرامهم، يعني به: السُّبَّاقَ للإسلامِ من أهل اليمن،، والله أعلم.
وقوله: «كَمَا يَصُدُّ الرَّجُلُ إِبِلَ (9) النَّاسِ عَنْ حَوْضِهِ» (10) ، وفي أخرى (11) : «الإِبِلَ الغَرِيبَةَ» (12) ، وهذا كقوله: «كَمَا يُذَادُ البَعِيرُ الضَّالُّ» (13) ، ووجهُ التشبيه: أن أصحابَ الإبل إذا وردوا المياه (14) بإبلهم، ازدَحَمتِ الإبلُ عند الورودِ، فيكونُ فيها الضالُّ (15) والغريبُ، فكلُّ أحدٍ من أصحابِ الإبلِ يدفعه عن إبله، حتى تَشْرَبَ إبلُهُ، فيكثُرُ ضاربوه &(1/371)&$
__________
(1) سورة الحديد، الآية: 13.
(2) تعليق عقدي ونيس.
(3) في (ح): «التأكيد».
(4) أخرجه مسلم (1/217رقم247) في الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء.
(5) في (غ): «إن حوضي أبعد من أيلة إلى عدن»، وهي رواية للحديث في «غير صحيح مسلم».
(6) في (أ): «وزواياه».
(7) أخرجه مسلم 4/1793 (2292)، في كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا ? وصفاته.
(8) يأتي في كتاب النبوات، باب في عظم حوض النبي ?.
(9) قوله: «إبل» ليس في (غ).
(10) قوله: " عن حوضه " سقط من (أ).
(11) في (أ): «وفي آخر».
(12) انظر الحديث في مسلم (1/218 رقم248) في كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة.
(13) في مسلم في الباب السابق (1/218 رقم249).
(14) في (ب): «للمياه»، وفي (ح): «والمياه».
(15) من قوله: «ووجه التشبيه...» إلى هنا سقط من (غ)، بسبب انتقال النظر.(1/371)
ودافعوه حتى لقد (1) صار هذا مَثَلاً شائعًا؛ قال (2) الحَجَّاج لأهلِ العراق: «لَأَحْزِمَنَّكُمْ حَزْمَ السَّلَمَةِ (3) ، ولَأَضْرِبَنَّكُمْ ضَرْبَ غَرَائِبِ الَإْبِلِ» (4) .
وقوله: «لَكُمْ سِيمَاءُ لَيْسَتْ لِأَحَدٍ غَيْرِكُمْ»، «السِّيمَاءُ» (5) : العَلَامةُ، يُمَدُّ (6) ويهمز، ويُقْصَر (7) ويترك همزه.
وهذا نصٌّ في أنَّ الغرَّةَ والتحجيلَ من خواصِّ هذه الأمَّة، ولا يعارضُهُ قوله ?: «هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الأَنْبِياءِ قَبْلِي» (8) ؛ لأنَّ الخصوصية بالغُرَّةِ (9) والتحجيلِ لا بالوضوءِ، وهما مِنَ الله تعالى تفضُّلٌ يختصُّ به (10) مَنْ يشاء (11) . =(1/506)=@
184 - وَعَنْ أَبِي حَازِمٍ (12) ، قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ، فَكَانَ يَمُدُّ يَدَهُ حَتَّى يَبْلُغَ إِبْطَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا هَذَا الْوُضُوءُ ؟ فَقَالَ: يَا بَنِي فَرُّوخَ، أَنْتُمْ هَاهُنَا؟! لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ هَاهُنَا، مَا تَوَضَّأْتُ هَذَا الْوُضُوءَ؛ سَمِعْتُ خَلِيلِي رَسُولَ اللهِ ? يَقُولُ: «تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوَضُوءُ».
وقولُ أبي هريرة - رضي الله عنه - : «يَا بَنِي فَرُّوخَ»؛ تقييدُهُ (13) بفتحِ الفاء والخاء (14) المعجمة (15) ، وهو رجلٌ من وَلَدِ إبراهيم بعد إسماعيلَ وإسحاق - صلى الله عليهم -، كَثُرَ نَسْله، والعَجَمُ (16) الذين (17) في وَسَطِ البلادِ مِنْ ولده؛ عنَى به أبو هريرة: الموالي، وكان خطابُهُ لأبي حازمٍ سلمانَ (18) الأعرجِ الأشجعيِّ الكوفيِّ مولى عَزَّةَ الأشجعيَّة، وليس بأبي حازم سَلَمَةَ بنِ دينار الفقيهِ الزاهدِ المدنيِّ مولى بني مَخْزُوم، وكلاهما خُرِّجَ عنه في الصحيح.
وإنكارُهُمْ (19) على أبي هريرة، واعتذارُهُ (20) عن إظهاره (21) ذلك الفعلَ، يَدُلُّ على انفرادِهِ بذلك الفعل (22) .
185 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (23) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? قَالَ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟»، قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ؛ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ».
وقوله: «إِسْبَاغُ الوُضُوءِ عِنْدَ (24) المَكَارِهِ»؛ أي: تكميلُهُ وإيعابُهُ مع شِدَّةِ البَرْد وألمِ الجسم ونحوه.
«وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ (25) » بِبُعْد (26) الدار، وبكثرةِ التَّكْرار.
وقوله: «وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ»، قال الباجيُّ: هذا في المشتركين (27) =(1/507)=@ من الصلوات، وأما غيرها: فلم يكنْ مِنْ عملِ الناس (28) .
وقوله: «فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ»، أصله: الحَبْسُ على الشيء؛ (29) كأنه حبَسَ نَفْسَهُ &(1/372)&$
__________
(1) في (ح): «لو».
(2) في (أ) و(ب) و (غ): «فقال».
(3) في (ب): «لأجزمنكم جزم السلمة»بالجيم، وجاء في حاشيتها: «الجزم: هو القطع».
(4) هذه قطعةٌ من خطبة الحَجَّاج المشهورة التي قالها على منبر المسجد الجامع بالكوفة أول مَقْدِمِه أميرًا على العراق مَنْ قِبَلِ الخليفةِ عبد الملك بن مروان، وكان مطلع خطبته:
أنا ابن جلا وطَلَّاعُ الثنايا ... مَتَى أَضَع العمامة تَعْرِفُونِي
يا أهل الكوفة، إني أَرَى رؤوسًا قد أَيْنَعَتْ وحان قطافها، وإني لصاحبها؛ كأنِّي انظر إلى الدماء بين العمائم واللِّحى... إلخ». انظر كلمة الحجاج التي ذكره الشارح في: "البيان والتبيين" (1/204، 366، 412)، و"غريب ابن قتيبة" (3/694)، 700، 709)، و"غريب ابن الجوزي" (1/495)، (2/99)، و"النائق" (4/130 – 131)، و"المستقصي في الأمثال" (1/215). وانظر: (2/162 منه)، و"جمهرة خطب العرب" (2/290، 309)، و"ثمار القلوب" (1/349)، و"صبح الأعشى" (1/263)، و"تاريخ دمشق" (9/333)، (12/ 131/ 134/ 137)، و"النهاية" (3/244)، و"اللسان" (1/603).
والرواية التي ذكرها الشارح تجدها في: "المستقصي" (1/215)، و"تاريخ دمشق" (12/131)، وفي غيرهما يروي: «لأعصبنكم، عصب السمكة... إلخ».
ومعنى: «لأخر منكم»:
ومعنى «لأعصبنكم»:
ومعنى «السلمة»:
ومعنى غرائب الإبل:
(5) في (ب): «والسيميا».
(6) في (ب): «تُمَدّ».
(7) في (ح): «وتقصير».
(8) أخرجه ابن ماجه (1/145 رقم420)، كتاب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء مرة ومرتين وثلاثًا، والدارقطني (1/81)، من طريق عبدالله بن عرادة الشيباني، عن زيد بن الحواري، عن معاوية بن قُرَّة، عن عُبَيْد بن عُمَيْر، عن أُبَيِّ بن كَعْب؛ أن رسول الله ? دعا بماء فتوضَّأ، مرة مرة، فقال: «هذا وظيفةُ الوضوء»، أو قال: «وضوءٌ من لم يتوضَّأه، لم يقبل اللهُ له صلاةً»، ثم توضَّأ مرتين مرتين، ثم قال: «هذا وضوءٌ من توضَّأه، أعطاه الله كِفْلين من الأجر، ثم توضَّأ ثلاثًا ثلاثًا»، فقال: «هذا وضوئي ووضوءُ المرسلين من قبلي».
وفي سنده: عبدالله بن عرادة؛ قال البخاري: «منكر الحديث».
وزيد بن الحواري العمي: ضعفه النسائي، وقال أبو زرعة: واهي الحديث، وقد اختُلِفَ فيه على زيد العمي، فرواه عنه ابنه عبدالرحيم، من وجهٍ آخر:
فأخرجه ابن ماجه (1/145 رقم 419)، كتاب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء مرة، ومرتين، وثلاثًا، وأبو يعلى (9/448 رقم5598)، والدارقطني (1/79-80،80)، والبيهقي (1/80).
جميعهم مِنْ طريق عبدالرحيم بن زيد العَمِّيِّ، عن أبيه، عن معاوية بن قُرَّة، عن ابن عمر، مرفوعًا، بمعناه، وقال فيه: «ثم قال عند فراغه: أشهدْ أنْ لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، فتح له ثمانيةَ أبوابِ الجنةِ يدخلُ من أيها شاء».
ورواه الطبراني في "الأوسط" (6/239 رقم6288)، من طريق مرحوم بن عبدالعزيز، عن عبدالرحيم بن زيد العمي، عن أبيه، عن معاوية بن قُرَّة، عن أبيه، عن جده، مرفوعًا.
وقال: هكذا رواه مرحوم، عن عبدالرحمن بن زيد، عن أبيه، عن معاوية بن قرة، عن أبيه، عن جَدَّه.
ورواه الحجين وغيره، عن عبد الرحيم بن زيد، عن أبيه، عن معاوية بن قرة، عن ابن عمر.
ورواه عبدالله بن عرادة الشيباني: عن زيد العَمِّيِّ، عن معاوية بن قُرَّة، عن عبيد بن عمير، عن أبي بن كعب. اهـ.
قال الحافظُ في "التلخيص" (1/140-141): «ومداره على عبدالرحيم بن زيد العَمِّيِّ، عن أبيه، وقد اختُلِفَ عليه فيه، وهو متروكٌ، وأبوه ضعيف»، وقال الدارقطني في "العلل": رواه أبو إسرائيلَ الملائيُّ، عن زيد العَمِّيِّ، عن نافع، عن ابن عمر، فوهم، والصواب قول من قال: عن معاوية بن قُرَّة، عن عُبَيدْ بن عُمَيْر، عن أُبَيِّ بن كعب.
وهذه روايةُ عبدالله بن عرادة الشيبانيِّ، وهي عند ابن ماجه أيضًا، ومعاوية بن قرة لم يُدْرِكِ ابن عمر، وعبدالله بن عرادة - وإن كانت روايته متصلة - فهو متروك. اهـ.
ونقل ابن أبي حاتم في "العلل" (1/45)، عن أبيه قوله: عبدالرحيم بن زيد: متروك الحديث، وزيد العمي: ضعيف الحديث، ولا يصحُّ هذا الحديثُ عن النبي ?.
ونقل عن أبي زرعة، قوله: هو عندي حديثٌ واهٍ، ومعاويةُ بن قُرَّة لم يلحق ابن عمر. اهـ.
وقد ضعَّفه ابن تيمية في "الاختيارات" (11)، والحافظ في "الفتح" (1/188، 190) فقال: حديث ضعيف أخرجه ابن ماجه، وله طرق أخرى كلُّها ضعيفة.
وانظر للمزيد "الإرواء" للألباني (1/126).
(9) في (ح): «والغُرَّة».
(10) في (أ): «بهما».
(11) تعليق فقهي ونيس.
(12) أخرجه مسلم(1/219رقم250)في الطهارة، باب تبلغ الحلية حيثُ يبلُغُ الوضوءُ.
(13) في (غ): «تفسيره».
(14) في (أ): «تقييده بفتح الخاء المعجمة»، وفي (غ): «فتح الخاء، والخاء المعجمة».
(15) في (أ) و (ح) و (غ): «والخاء المعجمة من فوق».
(16) في (أ) و(ب): «فالعجم».
(17) في (ب) و(ح): «الذي».
(18) في (ح): «سالم».
(19) في (أ): «وإنكاره).
(20) في (غ): «وإعذاره».
(21) في (ب): «إظهار».0
(22) تعليق فقهي ونيس.
(23) أخرجه مسلم (1/219رقم251) في الطهارة، باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره.
(24) عند «هي روايةُ مالك في "الموطَّأ"، كتاب قصر الصلاة في السفر، باب انتظار الصلاة والمشي إليها (1/161 رقم55).
(25) في (أ): «المسجد».
(26) في (غ): «نبعد».
(27) في (ب) و (ح): «المستكثرين».
(28) تعليق فقهي ونيس.
(29) في (غ): «عن الشيء».(1/372)
على هذه الطاعة.
ويحتملُ: أنه (1) أفضلُ الرباط؛ كما قال: «الجِهَادُ جِهَادُ النَّفْسِ» (2) ، و«الحَجُّ عَرَفَةُ» (3) .
ويحتملُ: أنه الرباطُ المتيسِّرُ المُمْكِنُ، وتكرارُهُ تعظيمٌ لشأنه، والله أعلم (4) .
(7) بَابُ السِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَالتَّيَمُّنِ فِي الطُّهُورِ
183 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (5) ، عَنِ النَّبِيِّ ?، قَالَ: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ».
وَمِنْ بَابِ السِّوَاكِ
قوله ?: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ»؛ أي: لَأَوْجَبْتُ ذلك عليهم؛ عبَّر بالأمرِ عن الوجوب (6) ؛ لأنه الظاهرُ منه، وهل المندوبُ مأمورٌ به أَوْ لا؟ =(1/508)=@ اختَلَفَ في ذلك أهلُ الأصول، والصحيحُ: أنه مأمورٌ به؛ لأنه قد اتفَقَ على أنه مطلوبٌ مقتضًى، كما قد حكاه أبو المعالي (7) .
وهذا الحديثُ: نَصٌّ في أنَّ السواكَ ليس بواجب، خلافًا لداودَ، وهو حُجَّةٌ عليه (8) .
وقوله ?: «مَا لَكُمْ تَدْخُلُوَن عَلَيّ قُلحًا؟! اسْتَاكُوا» (9) ؛ على جهة الندب، ولم يختلفِ الناسُ في أنَّ السواكَ مشروعٌ (10) عند الوضوء، وعند (11) الصلاة.
وفيه: حُجَّةٌ لمن قال: إنَّ النبيَّ ? كان يجتهدُ في الأحكامِ على ما يُذْكَرُ في الأصول (12) . &(1/373)&$
__________
(1) في (ب): «أنه».
(2) أخرجه البيهقي في "الزهد الكبير" (ص165)، والخطيب في "تاريخه" (13/ 523 -524)، كلاهما من طريق يحيى بن يعلى، عن ليث، عن عطاء بن أبي رَبَاح، عن جابر - رضي الله عنه - قال: قَدِمَ على رسولِ الله ? قومٌ غُزَاة، فقال ?: «قَدِمْتُمْ خيرَ مَقْدَمٍ مِنْ جهادِ الأصغرِ إلى جهادِ الأكبر»، قيل: وما جهاد الأكبر؟ قال: «مجاهدة العبدِ هواه».
قال البيهقي عقب روايته: وهذا إسناد فيه ضعف. اهـ.
وقال الزيلعي في تخريج أحاديث "الكشاف" (2/395): « غريب جدًّا».
وقال الحافظ في "الكاف الشاف" (....): «هو من رواية عيسى بن إبراهيم، عن يحيى بن يعلى، عن ليث بن أبي سليم، والثلاثة ضعفاء». اهـ.
وقال الزيلعي أيضًا:»وروى النسائي في كتاب الكنى: أخبرني أبو مسعود محمد بن زياد المقدسي: سمعت إبراهيم بن أبي عبلة يقول لأناس جاؤا من الغزو... فذكره.اهـ.
وقال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (11/197): «لا أصل له، ولم يروه أحدٌ من أهل المعرفة بأقوال النبي ? وجهاد الكفار من أعظم الأعمال، بل هو أفضل ما تطوع به الإنسان...». وانظر "السلسلة الضعيفة" للشيخ الألباني (2460).
(3) أخرجه أحمد (4/309، 309-310، 310، 335)، وأبو داود (2/485-486 رقم1949)، كتاب المناسك، باب من لم يدرك عرفة، والترمذي (3/237 رقم 889-890) كتاب الحجِّ، باب ما جاء فيمَنْ أدرَكَ الإمامَ بِجَمْعٍ فقد أدرك الحج، وابن ماجه (2/1003 رقم3015)، كتاب المناسك، باب مَنْ أتى عرفةَ قبل الفجر ليلةَ جَمْع، والنسائي (5/264-265)، كتاب المناسك، باب فِيمَنْ لم يدركْ صلاةَ الصبحِ مع الإمامِ بالمزدلفة.
جميعهم مِنْ طريق سفيان، عن بُكَيْر بن عطاء، عن عبدالرحمن بن يعمر الديلي، قال: أتيتُ النبيَّ ? وهو بعرفة... فذكر الحديثَ، وفيه: «الحج عرفة».
قال أبو عيسى: «وقد روى شعبة، عن بكير بن عطاء، نحو حديث الثوري.
قال: وسمعت الجارود يقولُ: سمعتُ وكيعًا أنه ذكَرَ هذا الحديث، فقال: «هذا الحديثُ أمُّ المناسك».
وقال ابن ماجه: «قال محمد بن يحيى: ما أرى للثوري حديثًا أشرَفَ منه».
وقال الحاكم: «صحيح الإسناد»، ووافقه الذهبي.
وقال الشيخ الألباني في "الإرواء" (1064): «وهو كما قالا».
(4) قوله: «والله أعلم» من (ب) فقط.
(5) أخرجه البخاري (2/374رقم887) في الجمعة، باب السواك يوم الجمعة، ومسلم (1/220رقم253)في الطهارة، باب السواك.
(6) في (غ): «عبر عن الأمر بالوجوب».
(7) تعليق أصول ونيس.
(8) تعليق فقهي ونيس.
(9) أخرجه أحمد (1/214)، عن إسماعيل بن عمر أبو المنذر، عن سفيان، عن أبي عليٍّ الزراد، عن جعفر بن تمام بن العباس، عن أبيه، قال: أتوا النبي ? - أو أتى - فقال: «ما لي أراكم تأتوني قُلْحًا؟ استاكوا...» الحديث.
وأخرجه الطبراني في "الكبير" (2/64 رقم1301)، من طريق قَبِيصة بن عُقْبة، عن سفيان، عن أبي علي الصيقل، عن جعفر بياع الأنماط، عن جعفر بن تمام، به.
قال الشيخ الألباني في "الضعيفة" (1748): «وهذا إسناد ضعيف مرسل، تمام بن العباس، ذكره ابن حبان في "التابعين" من الثقات، وأبو علي الزراد: ترجمه الحافظ في "التعجيل"، وقال: قال أبو علي بن السكن: مجهول.
قلت: وقد اختلف الرواة عليه في إسناده اختلافًا كثيرًا....اهـ.
وأخرجه أحمد (3/442)، عن معاوية بن هشام، عن سفيان، عن أبي علي الصيقل، عن تمام بن قثم، أو قثم بن تمام، عن أبيه... فذكره.
وأخرجه البزار في "البحر الزخار"(4/129-130 رقم1302)، والحاكم(1/146) من طريق عمر بن عبدالرحمن الأبار، عن منصور، عن أبي علي الصقيل، عن جعفر بن تمام، عن أبيه، عن جده العباس بن عبدالمطلب.
قال الحافظ في "اللسان" (8/92): تفرَّد بذكر العباس فيه عمر بن عبدالرحمن الأبار.
وأخرجه الطبراني في "الكبير" (2/64 رقم1302و1303) من طريق شيبان وجرير، عن منصور، عن أبي علي الصيقل، عن جعفر بن تمام بن العباس، عن أبيه... فذكره.
وقد أعلَّ الحافظ هذا الحديث، وحكم عليه بالاضطراب، فانظر: "تعجيل المنفعة" (1/263-364)، و"لسان الميزان" (8/92).
وقال الشيخ الألباني في "الضعيفة"(4/234): مضطرب اتفاقًا.
وقال (3/665): وفي إسناده جهالة واضطراب.
(10) في (غ): «ولم يختلف الناس في السواك هل هو مشروع».
(11) في (ب) و(ح)، و(غ): «أو عند».
(12) تعليق فقهي ونيس.(1/373)
187 - وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِيهِ (1) ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ. قُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ يَبْدَأُ النَّبِيُّ ? إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ ؟ قَالَتْ: بِالسِّوَاكِ.
وقولُ عائشة - رضي الله عنها - إِنَّهُ ? كَانَ يَبْدَأُ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ بِالسِّوَاكِ؛ يدلُّ على استحبابِ (2) تعاهُدِ السواك؛ لما يُكْرَهُ من تغيٌّرِ (3) رائحةِ الفمِ بالأبخرة والأطعمةِ وغيرها، وعلى أنه يُتجنَّبُ (4) استعمالُ السواكِ في المساجدِ والمَحَافِلِ وحَضْرةِ الناس، ولم يُرْوَ عنه ? أنه تسوَّكَ في المسجد، ولا في محْفِلٍ من الناس؛ لأنه مِنْ باب إزالةِ القَذَرِ والوَسَخ، ولا يليقُ بالمساجد، ولا بمحاضر الناس (5) . ولا يليق (6) بذوي المروءات فِعْلُ ذلك في الملأ مِنَ الناس.
ويحتملُ: أن يكونَ ابتداءُ النبيِّ ? عند دخولِ بيتِهِ بالسِّوَاك ؛ لأنه كان يبدأُ بصلاةِ النافلة، فَقَلَّ ما كان يتنفَّلُ في المسجد.
188 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ (7) ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ? إِذَا قَامَ لِيَتَهَجَّدَ، يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ.
189- وَعَنِ ابْنَ عَبَّاسٍ (8) ؛ أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ نَبِيِّ اللهِ ? ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقَامَ نَبِيُّ اللهِ ? مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، فَخَرَجَ فَنَظَرَ فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ تَلَا هَاذِهِ الآيَةَ فِي آلِ عِمْرَانَ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلبَابِ} حَتَّى بَلَغَ: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (9) ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْبَيْتِ فَتَسَوَّكَ وَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، ثُمَّ اضْطَجَعَ، ثُمَّ قَامَ فَخَرَجَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَ تَلَا هَذِهِ الآيَةَ، ثُمَّ رَجَعَ فَتَسَوَّكَ فَتَوَضَّأَ. ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى.
وقوله (10) : «كَانَ إِذَا قَامَ لِيَتَهَجَّدَ»، أي: ليصلِّي بالليلِ امتثالاً لقوله تعالى: {ومن =(1/509)=@ الليل فتهجد به نافلة لك} (11) ، وتهجَّدَ: من الأضداد، يقال: تهجَّد بمعنى نام، وتهجَّد (12) بمعنى قام.
وقولها (13) : «يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ»، قيل: هو أن يستاكَ عَرْضًا، وكذلك: المَوْص،، وقال الهرويُّ: يَغْسِله، وكلُّ شيء غسلْتَهُ: فقد شُصْتَهُ ومُصْتَهُ،، وقال ابن الأعرابيِّ: الشَّوْص: الدَّلْك، والمَوْص: الغَسْل،، وقال وكيعٌ: الشَّوْص: بالطُّول، والمَوْصُ (14) : بالعَرْض،، وقال ابنُ دُرَيْدٍ: الشَّوْص: الاستياكُ من سُفْل (15) إلى عُلْوٍ، ومنه الشُّوصَةُ: رِيحٌ يَرْفَعُ (16) القلبَ عن موضعه،، وفي «الصِّحَاح»: الشَّوْص: الغَسْلُ والتنظيف. =(1/510)=@
190 - وَعَنْ عَائِشَةَ (17) ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ? يُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ، فِي تَنَعُّلِهِ، وَفِي تَرَجُّلِهِ، وَطُهُورِهِ.
وقولها: «كَانَ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ»، كان ذلك منه تبرُّكًا باسمِ اليمينِ؛ لإضافة الخير إليها؛ كما قال: {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين} (18) ، {وناديناه من جانب الطور الأيمن} (19) ، ولما فيه مِنْ اليُمْنِ والبَرَكَةَ،، وهو مِنْ باب التفاؤل، ونقيضُهُ الشِّمَال.
ويؤخذُ من هذا الحديث: احترامُ اليمينِ، وإكرامُهَا، فلا تستعملُ في إزالةِ شيءٍ من الأقذار، ولا في شيءٍ من خَسِيسِ الأعمال، وقد نَهَى ? عن الاستنجاءِ ومَسِّ الذكرِ باليمين (20) . &(1/374)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/220رقم253) في الطهارة، باب السواك.
(2) في (أ): «استحبابه».
(3) في (أ): «من تغيير».
(4) في (غ): «يجتنب».
(5) في (ب): «ولا محاضر».
(6) قوله: " يليق " سقط من (أ).
(7) أخرجه البخاري (1/356رقم245)في الوضوء، باب السواك، ومسلم (1/220رقم255) في الطهارة، باب السواك.
(8) أخرجه البخاري (8/235رقم4569)، في التفسير، باب: {إن في خلق السماوات والأرض...} الآية، وذكر أطرافه في (1/212رقم117)، في العلم، باب السمر في العلم، ومسلم (1/221رقم256)، في الطهارة، باب السواك.
(9) سورة آل عمران ، الآيتان: 190، 191.
(10) في (ب): «وقولها».
(11) الآية: 79. سورة الإسراء.
(12) قوله: «بمعنى نام وتهجد» سقط من (ح).
(13) كذا في جميع النسخ، والصواب: «وقوله»؛ لأنه من حديثِ حذيفة - رضي الله عنه - .
(14) قوله: «والموص» في (أ): «والسواك».
(15) في (أ): «من أسفل».
(16) في (ح) و (غ): «ترفع».
(17) أخرجه البخاري (1/269رقم 168) في الوضوء، باب التيمُّن في الوضوء والغسل، ومسلم (1/226رقم 268-67) في الطهارة، باب التيمُّن في الطهور وغيره.
(18) سورة الواقعة، الآية: 57.
(19) سورة مريم، الآية: 52.
(20) يأتي في باب ما يستنجَى به، والنَّهْيِ عن الِاستنجاء باليمين.(1/374)
(8) باب خصال الفطرة والتوقيت فيها
191 - عَنْ عَائِشَةَ (1) ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ، وَقَصُّ الأَظْفَارِ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ، وَنَتْفُ الإِبِطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ»، قَالَ مُصْعَبُ بْنُ شَيْبَةَ: وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ.
قَالَ وَكِيعٌ: انْتِقَاصُ الْمَاءِ، يَعْنِي: الِاسْتِنْجَاءَ.
ومن باب خصال الفطرة
قوله: «عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ»، المرادُ بالفِطْرةِ هنا: السُّنَّةُ (2) ، قاله الخطابيُّ، وقد تقدَّم القولُ فيها في الإسراء.
وهذه الخصالُ هي التي ابتلى اللهُ بها (3) إبراهيمَ ?، فأتمهنَّ، فجعله الله إمامًا (4) ، قاله ابن عباس (5) . وهذه الخصالُ مجتمعةٌ في أنَّها محافظةٌ على =(1/511)=@ حُسْنِ الهيئة والنظافة، وكلاهما يحصُلُ به (6) البقاءُ على أصلِ كمالِ الخِلْقة التي خُلِقَ الإنسانُ عليها، وبقاءُ هذه الأمور وتَرْكُ إزالتها تشوِّه الإنسانَ وتقبِّحه (7) ، بحيث يُسْتَقْذَرُ ويجتنبُ، فَيَخْرُجُ عما تَقْتَضيه الفطرةُ الأولى، فسمِّيتْ هذه الخصالُ: &(1/375)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/223رقم 261) في الطهارة، باب خصال الفِطْرة.
(2) تعليق فقهي ونيس.
(3) في (ب): «ابتلي بها».
(4) يشير إلى قوله تعالى: {وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما} [البقرة: 124].
(5) أخرجه عبدالرزاق في "تفسيره" (1/57) عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: {وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات}، قال: ابتلاه الله بالطهارة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد؛ في الرأس: السواك، والاستنشاق، والمضمضة، وقَصُّ الشارب، وفَرْقُ الرأس. وفي الجسد خمسة: تقليم الأظافر، وحلق العانة، والختان، والاستنجاء عند الغائط والبول، ونَتْف الإبط.
ومنًّ طريق عبدالرزاق: أخرجه الطبري في "تفسيره" (3/9 رقم1910)، والحاكم (2/266)، والبيهقي (1/149).
قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي. وقال الحافظ في "الفتح" (10/337): «سند صحيح». وأورده السيوطي في "الدر المنثور" (1/273)، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(6) قوله: «به» في (غ): «منه».
(7) في (أ): «يشوه الإنسان ويقبحه».(1/375)
فطرةً؛ لهذا (1) المعنى، والله أعلم.
ولا تباعُدَ في أن يقول: هي عَشْرٌ (2) وهي خَمْسٌ ؛ لاحتمالِ أن يكون أَعَلِمَ بالخَمْسِ أولَّاً، ثم زيدَ عليها؛ قاله عياض (3) ، (4) .
ويحتملُ: أن تكونَ (5) الخمسُ (6) المذكورةُ في حديثِ أبي هريرة هي أوكَدَ مِنْ غيرها، فقصَدَها (7) بالذكر؛ لمزيَّتها (8) على غيرها مِنْ خصال الفِطْرة.
و«مِنْ» في قوله: «عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ» للتبعيض؛ ولذلك لم يَذْكُرْ فيها الخِتَانَ، ولعلَّه هو الذي نسيه مصعب.
و«قَصُّ الشَّارِبِ»: أن يأخُذَ منه (9) ما يطولُ عن إطارِ الشَّفَةِ بحيثُ لا تشوِّش (10) على (11) الآكِلِ، ولا يجتمعُ (12) فيه الوَسَخ. ...
«والإِحْفَاءُ وَالجَزُّ في الشارب»: هو ذلك القَصُّ المذكور، وليس بالاستئصالِ عند مالك – رحمه الله – وجماعةٍ من العلماء، وهو عنده: مُثْلَةٌ يؤدَّب مَنْ فَعَله؛ إذْ قد وُجِدَ منُ يُقْتَدَى به من الناسِ لا يُحْفُونَ جميعَهُ، ولا يستأصلون ذلك، وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ؛ أنه كان إذا حزَبَهُ (13) أمرٌ، فَتَلَ شاربه (14) ، ولو كان يستأصلُهُ، لم يكنْ له ما يُفْتَلُ.
وذهَبَ الكوفيُّون وغيرهم: إلى الاستئصالِ؛ تمسكًا بظاهر اللفظ. وذهَبَ بعضُ العلماء: إلى التخييرِ في ذلك (15) .
وأما «إعفاءُ اللِّحْيَةِ»: فهو (16) توفيرها وتكثيرها؛ قال أبوعُبَيْد: يقال: عفا الشيءُ: إذا (17) كَثُرَ وزاد، وأعفيتُهُ أنا وعفا: دَرَسَ، وهو مِنَ الأضداد،، قال غيره: يقالُ: عَفَوْتُ الشَّعْرَ، وأعفيتُهُ: لغتان؛ فلا يجوزُ حَلْقُها، ولا نَتْفُها، ولا قَصُّ الكثير منها،، فأما أخذُ ما تطايَرَ منها وما يُشَوِّهُ ويدعو إلى الشهرةِ طُولاً =(1/512)=@ وعَرْضًا: فحَسَنٌ عند مالك وغيره من السلفِ، وكان ابنُ عمر – رضي الله عنهما – يأخذ مِنْ طُولها ما زاد على القَبْضة (18) (19) .
و «الَبَراجِمُ»: مفاصلُ الأصابع، وقد تقدَّم الكلامُ عليها، وهي إن لم (20) تتعاهَدْ (21) بالغَسْل أسرَعَ إليها الوَسَخُ.
و «اْنِتَقاُص الَماِء»؛ قال أبو عُبَيْدٍ: انتتقاصُ البولِ بالماء: إذا غَسَلَ مذاكيره به، وقيل: هو الانتضاحُ، وقال وكيع: هو الاستنجاءُ بالماء. &(1/376)&$
__________
(1) قوله: «لهذا» في (ح): «بهذا».
(2) في (غ): «عشرة».
(3) في (ح): «قاله ابن عباس».
(4) تعليق فقهي ونيس.
(5) في (ح) و (غ): «يكون».
(6) في (غ): «الخمسة».
(7) في (ح): «فقصدناها».
(8) قوله: «لمزيتها» في (ح) غير واضحة.
(9) قوله: «منه» سقط من (ب).
(10) في (ب): «لا يتشوش».
(11) في (غ): «عن».
(12) في (ح): «ويجتمع».
(13) في (ح): «حزنه».
(14) أخرجه الطبراني في "الكبير" (1/66 رقم54) في الطهارة، باب خصال الفطرة، من طريق إسحاق بن عيسى الطباع، قال: رأيتُ مالك بن أنس وافر الشارب، فسألته عن ذلك؟ فقال: حدثني زيد بن أسلم، عن عامر بن عبدالله بن الزبير: أن عمر بن الخطاب كان إذا غَضِبَ فتَلَ شاربه ونَفَخ.
وصحَّحه الشيخ الألباني في «آداب الزفاف» (ص209)، لكنْ قال الهيثمي في "المجمع" (5/299): «عامر بن عبدالله بن الزبير لم يدرك عمر».
(15) تعليق فقهي ونيس.
(16) في (غ): «فهي».
(17) قوله: «إذا» من (ح) فقط.
(18) أخرجه البخاري (10/349 رقم5892) كتاب اللباس، باب تقليم الأظفار.
(19) تعليق فقهي ونيس.
(20) في (أ): «وهي وإن لم».
(21) في (غ): «يتعاهد».(1/376)
وخرَجَ نتفُ الإبطِ وحَلْقُ العانة على المتيسَّر المعتاد (1) في ذلك، ولو عكَسَ فحلَقَ الإِبِطَ، ونتَفَ العانة، جاز؛ لحصولِ النظافة بكل ذلك (2) ، وقد قيل: لا يجوزُ في العانة إلا الحَلْقُ؛ لأنَّ نتفها يؤدِّي إلى استرخائها، ذكره أبو بكر بن العربي (3) (4) .
192 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (5) ، عَنِ النَّبِيِّ ?؛ أَنَّهُ قَالَ: «الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الِاخْتِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ».
و«الِاسْتِحْدَادُ»: استعمال الحديدةِ في الحَلْق.
و«تَقْلِيمُ الأَظْفَاِر»: قصُّها، والقُلَامَةُ: ما يُزَالُ منها. =(1/513)=@
وأمَّا «الِختَانُ»: فَسُنَّةٌ منتشرةٌ في العربِ، معمولٌ بها مِنْ لدنْ إبراهيم ?؛ فإنه أول من اختَتَنَ (6) ، وهو عند مالكٍ وعامَّةِ العلماءِ سنةٌ مؤكَّدة، وشعارٌ من شعائرِ الإسلامِ، إلا أنَّه لم يَرِدْ من الشرعِ ذَمُّ تاركه، ولا توعَّده بعقاب، فلا يكونُ واجبًا خلافًا للشافعيِّ (7) ، وهو مقتضَى قولِ سُحْنون مِنْ أصحابنا (8) (9) .
واستدلَّ ابنُ سُرَيْجٍ على وجوبه: بالإجماعِ على تحريمِ النظرِ إلى العورة، وقال: لولا أن الختان فرضٌ لما أبيح النظر إليها من المختُون (10) .
وأجيب عن هذا (11) : بأن مثلَ هذا قد (12) يباحُ لمصلحةِ الجِسْم؛ كنظر الطبيب؛ على ما قد ثبَتَ عن جماعةٍ مِنْ السلف مِنْ إباحة ذلك، على ما حكاه أبو عُمَرَ، ولم يذكُرْ في إباحةِ ذلك خلافًا، والطَّبُّ ليس بواجبٍ إجماعًا، فما فيه مصلحةٌ دينيةٌ أَوْلَى بذلك (13) .
193 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ (14) ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ، أَحْفُوا الشَّوَارِبَ، وَأَوْفُوا اللِّحَى».
وقوله: «أَحْفُوا الشَّوَارِبَ»، بألفِ القطعِ رباعيًّا، وهو المشهورُ فيه، وهو – في أصلِ اللغةِ للمبالغة (15) –: في استقصاءِ ذلك الشيءِ؛ ومنه: أَحْفَى في المسألة، وفي الكلام: إذا أكثَرَ من ذلك، وبلَغَ غايته، وقد قال (16) ابن دُرَيْد: يقال: حَفَا شَارِبَهُ، يَحْفُوهُ، حَفْوًا: إذا استأصَلَ جَزَّهُ، قال: ومنه: «احْفُوا الشَّوَارِبَ»؛ فعلى هذا (17) : يكونُ ثلاثيًّا، وتكونُ (18) ألفه ألفَ وصلٍ تبتدأُ (19) مضمومةً بضمِّ (20) ثالثِ الفعل، وقد قدَّمنا أن هذا الظاهرَ غيرُ مُرادٍ بما تقدَّم. =(1/514)=@ &(1/377)&$
__________
(1) «قوله: «المعتاد» من (أ) فقط، وفي (أ): «الميسَّر».
(2) تعليق فقهي ونيس.
(3) تعليق فقهي ونيس.
(4) من قوله: «وقد قيل...» إلى هنا سقط من (أ).
(5) أخرجه البخاري (10/334رقم5889)، في اللباس، باب قص الشارب، ومسلم (1/ 222رقم257-50).
(6) أخرجه مالك في "الموطأ" (2/922) عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسِّيب، أنه قال: «كان إبراهيمُ ? أَوَّلَ الناسِ ضيَّف الضَّيْفَ، وأوَّلَ الناسِ اختتَنَ...»؛ هكذا رواه مالك مرسلاً.
وأورده ابن عبدالبر في "التمهيد" (23/137) موقوفًا على أبي هريرة، وقال: «مِثْلُ هذا لا يكون رأيًا، وقد تابَعَ مالكًا على توقيفِ هذا الحديثِ جماعةٌ عن يحيى بن سعيد، منهم: يحيى بن سعيد القَطَّان، وعليُّ بنُ مُسْهِر». اهـ.
(7) تعليق فقهي ونيس.
(8) تعليق فقهي ونيس.
(9) في (غ): «وهو من أصحابنا».
(10) تعليق فقهي ونيس.
(11) قوله: «عن هذا» سقط من (ب) و(ح)، و(غ).
(12) قوله: «قد» سقط من (أ)، و (ح) و (غ).
(13) تعليق فقهي ونيس.
(14) أخرجه البخاري (10/349رقم5892) في اللباس، باب تقليم الأظفار، ومسلم (1/222رقم 259-54) في الطهارة، باب خصال الفطرة.
(15) في (ب): «للمبالغة».
(16) في (غ): «وقال».
(17) في (أ) و (ح) و (غ): «هذه».
(18) في (ح): «ويكون».
(19) في (غ): «يبتدأ».
(20) في (أ) و (ب): «لضم».(1/377)
194 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «جُزُّوا الشَّوَارِبَ، وَأَرْخُوا اللِّحَى؛ خَالِفُوا الْمَجُوسَ».
وقوله: «جُزُّوا الشَّوَارِبَ»، كذا الروايةُ الصحيحةُ عند الكافَّة، ووقع: «خُذُوا الشَّوَارِبَ» (2) ، وكأنه تصحيفٌ. ووقَعَ لابن ماهان: «ارْجُوا اللحى»، بالجيم، وكأن هذا تصحيف، وتخريجُهُ على أنه: «أراد أَرْجُوا» من الإرجاءِ؛ فسهَّل الهمزةَ فيه .
195 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (3) ، قَالَ: وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمِ الأَظْفَارِ، وَنَتْفِ الإِبِطِ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ، أَنْ لَا تُتْرَكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً.
وقوله: «خَالَفُوا المُشْرِكِيَن وَالمَجُوَس»، دليلٌ على اجتنابِ التشبُّه بهم.
وقوله في حديث أنس - رضي الله عنه - : « وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ... إِلَى آخِرِهِ»، هذا تحديدُ أكثرِ المُدَّة، والمستَحَبُّ تَفَقُّدُ ذلك من الجُمُعةِ إلى الجمعة، وإلا فلا تحديدَ فيه للعلماء، إلا أنه إذا كَثُرَ ذلك، أُزِيَل (4) .
وهذا (5) الحديثُ يرويه جعفرُ بن سليمان: قال العقيليُّ - رحمه الله تعالى -: في حديثه نَظَر، وقال أبو عمر فيه: ليس بِحُجَّةٍ؛ لسوء حفظه، وكثرةِ غلطه.
قال الشيخ: وفي قولهما نظر (6) ، (7) .ُّ =(1/515)=@
( 9 ) بَابُ مَا يُسْتَنْجَى بِهِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الاِسْتِنْجَاءِ بِالْيَمِينِ
196 - عَنْ سَلْمَانَ (8) ، قَالَ: قِيلَ لَهُ: قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ، قَالَ: فَقَالَ: أَجَلْ؛ لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بِبَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ (9) : وَنَهَانَا عَنِ الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ.
وَمِنْ بَابِ الِاسْتِنْجَاءِ
قوله: «قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيِّكُمْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ، فَقَالَ: أَجَلْ»:
«الِخَراءَةُ» (10) : هو بكسر الخاء ممدودٌ مهموز (11) ، وهو (12) اسمُ فعلِ الحَدَثِ، وأما الحدَثُ نفسُهُ: فبغير تاءٍ، ممدودٌ، وتفتحُ خاؤه وتُكْسَر، ويقال: بفتحها وسكونِ الراءِ والقَصْرُ مِنْ غير مَدٍّ. &(1/378)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/222رقم 260) في الطهارة، باب خصال الفطرة.
(2) في (ب): «ووقع: جزوا الشوارب».
(3) أخرجه مسلم (1/222رقم258) في الطهارة، باب خصال الفطرة.
(4) تعليق فقهي ونيس.
(5) في (ب): «فهذا».
(6) وقال النووي في "شرح مسلم": « قد وَثَّقَ كثيرٌ من الأئمَّة المتقدِّمين جعفر بن سليمان، ويكفي في توثيقِهِ احتجاجُ مسلم به، وقد تابعه غيره». اهـ.
وقال ابن منده – بعد تخريجه من حديث جعفر بن سليمان – : «وهذا إسناد صحيح أخرجه مسلم وتركه البخاري من هذا الوجه». انظر "الإمام" لابن دقيق العيد (../..) بتحقيق د. سعد الحميِّد، وانظر "ميزان الاعتدال" (1/408).
(7) من قوله: «قال الشيخ...» إلى هنا ليس في (ح).
(8) أخرجه مسلم (1/223رقم262)في الطهارة، باب الاستطابة.
(9) أخرجه مسلم (262)، بلفظ: «ونهى عن الرَّوْثِ، وَالْعِظَامِ»، والعظام هي: الرِّمَّة، من حديث أبي هريرة، أخرجه الحميدي رقم (988)، وأحمد (2/247 ،250)، وأبو داود(1/18 رقم8) كتاب الطهارة، باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، وابن ماجه (1/114 رقم313) كتاب الطهارة، باب الاستنجاء بالحجارة والنهي عن الروث والرِّمَّة، والنسائي (1/38) كتاب الطهارة، باب النهي عن الاستطابة بالروث، وابن خزيمة رقم (80) من طريق محمد بن عَجْلان، عن أبي صالح، عن أبي هريرة؛ أن رسولَ الله ? قال: «إنما أنا لَكُمْ مِثْلُ الوالِدِ أعلِّمكم...» الحديث، وفيه: «ونَهَى عن الرَّوْثِ والرِّمَّة».
حسَّنه الشيخ الألباني في تعليقه على "المشكاة" رقم (347).
(10) قوله: «فقال: أجل الخراءة» سقط من (ب) و (ح) و (غ).
(11) في (أ): «مهموز ممدود».
(12) قوله: " وهو " سقط من (أ).(1/378)
وقوله: «أَجَلْ»، أي: نعم، قال الأخفش: إلا أنه أحسَنُ من «نَعَمْ» في الخبر، «ونَعَمْ» أحسَنُ منه في الاستفهام، وهما لتصديقِ ما قبلهما مطلقًا، نفيًا كان أو إيجابًا، فأما (1) «بلى»: فهو جوابٌ بعد النفيِ، عاريًا من حرفِ الاستفهامِ أو مقرونًا به، قال الجوهريُّ: «بَلَى»: إيجابٌ لما يقالُ لك؛ لأنها تَرُدُّ النفي (2) ، وربَّما ناقضتها (3) «نَعَمْ»؛ فإذا قال: «ليس لَكَ وديعةٌ»، فقولك: «نعم» تصديقٌ له، «وبَلَى» تكذيبٌ له.
وقوله: «نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الِقْبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ»، دليلٌ لمن ذهب إلى منعِ الاستقبالِ والاستدبارِ مطلقًا، وهو أحمَدُ وأبو ثَوْرٍ وأبو حنيفةَ في المشهورِ عنه.
وزادَ النَّخَعِيُّ، وابنُ سِيرين: مَنْعَ (4) استقبالِ القبلة المتقدِّمة واستدبارِهَا، وكأنَّ هؤلاءِ لم يبلغهم حديثُ ابن عمر الآتي (5) ، أو لم يَصْلُحْ عندهم للتخصيص؛ لأنه فُعِلَ في خَلْوة.
وذهب ربيعة، وداود: إلى جوازِ ذلك مطلقًا؛ متمسِّكين بحديث ابن عمر، وبما رواه الترمذي (6) عن جابر – رضي الله عنهم – قال: «نَهَى رَسُولُ اللهِ ? أَنْ نَسْتَقْبِلَ القِبْلَةَ بِبَوْلٍ، فَرَأَيْتُهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِعَامٍ يَسْتَقْبِلُهَا» (7) ، قال: وقال فيه البخاري: هو صحيحٌ (8) . =(1/516)=@
وذهب الشافعيُّ: إلى التفريق بين القُرَى والصحاري؛ تعويلاً على أن حديث ابن عمر (9) مخصِّصٌ لأحاديث النهي.
وأما مذهبُ مالك: فهو أنه إذا كان ساترٌ وكُنُفٌ ملجئةٌ إلى ذلك، جاز وإن كان الساترُ وحده، فروايتان (10) .
وسببُ هذا الاختلافِ: اختلافُ هذه الأحاديث، وبناءُ بعضها على بعض، وقد أَشَرْنَا إلى &(1/379)&$
__________
(1) في (غ): «وأما».
(2) في (ح) و (غ): «ترك النفي».
(3) في (غ): «نصبها».
(4) في (غ): «مع».
(5) ضِمْنَ أحاديث الباب التالي.
(6) في (غ): «الثوري».
(7) أخرجه أحمد (3/360)، وأبو داود (1/21 رقم13) كاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك، وابن ماجه (1/117 رقم325) كتاب الطهارة وسننها، باب الرخصة في ذلك في الكنيف وإباحته دون الصحاري، والترمذي (1/15 رقم9) كتاب الطهارة، باب ما جاء من الرخصة في ذلك، وابن الجارود رقم (31)، وابن خزيمة رقم (58)، وابن حبان (4/268 – 269 رقم 1420 – كما في الإحسان»، جميعهم من طريق محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن مجاهد، عن جابر - رضي الله عنه - قال: « نهَى نبيُّ الله ? أن نستقبلَ القبلةَ ببَوْلٍ، فرأيتُهُ قبلَ أن يُقْبَضَ بعامٍ يستقبلها»، وسنده حسن؛ فقد صرَّح ابن إسحاق بالتحديثِ عند أحمد، وأبي داود، وابن الجارود، وغيرهم.
وقال الترمذي عقب إخراجه: حسن غريب.
(8) "ترتيب العلل الكبير" (1/14).
(9) يأتي في الباب التالي.
(10) تعليق فقهي ونيس.(1/379)
ذلك (1) .
وقد تقدَّم القولُ على قوله: «وَأَنْ نَسْتَنْجِيَ (2) بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ».
والضابطُ فيما يستنجى به عندنا: كلُّ طاهرٍ جامدٍ (3) مُنَقٍّ، ليس بمطعوم ولا ذي حُرْمة، ولا تَخْفَى قيوده (4) .
وقوله: «بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ» (5) : الرَّجِيعُ»: العَذِرَةُ، والأرواثُ، ولا يستنجى بها؛ لنجاستها؛ ولذلك قال ? لعبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - حيث أتاه بالحجَرَيْنِ والرَّوْثة: «إِنَّهَا رِجْسٌ»، ذكره البخاري (6) .
وقد جاء أيضًا مِنْ حديثه، في كتاب (7) أبي داود: ما يدلُّ على أنَّه إنما نَهَى عن الاستنجاءِ بها وبالعظم؛ لكونهما (8) زادًا للجِنِّ؛ قال: قَدِمَ وَفْدُ الجن على النبيِّ ? فقالوا: «يا مُحَمَّدُ، انْهُ أُمَّتَكَ أَنْ يَسْتَنْجُوا بِعَظْمٍ أَوْ رَوْثَةٍ أَوْ حُمَمَةٍ؛ فَإِنَّ اللهَ جَاعِل لَنَا فِيهَا رِزْقًا» (9) ، وكذلك جاء في البخاريِّ، من حديث أبي هريرة، قال (10) : فَقُلْتُ: مَا بالُ العَظْمِ والرَّوْثَةِ؟ قال: «هُمَا مِنْ طَعَامِ الِجنَّ، وَإِنَّهُ أَتَانِي وَفْدُ جِنِّ نَصِيبِينَ، وَنِعْمَ الْجِنُّ، فَسَألُونِي الزَّادَ، فَدَعَوْتُ اللهَ أَلاَّ يَمُرُّوا بِعَظْمٍ وَلَا رَوْثَةٍ إلَّا وَجَدُوا عَلَيْهَا طَعَامًا» (11) ، وفي بعض الحديث: «وَأَمَّا الرَّوْثُ (12) ، فَعَلَفُ دَوَابِّهِمْ» (13) . =(1/517)=@
ويؤخذُ مِنْ هذا الحديثِ: احترامُ أطعمةِ بني آدمَ، وتنزيهُهَا عن استعمالها في أمثالِ (14) هذه القاذورات (15) . ووجهُ هذا الأخذ: أنَّه إذا منَعَ من الاستنجاءِ بالعَظْمِ والرَّوْث؛ لأنها زادُ الجِنَّ وطعامُهُمْ – فأحرى وأولى زادُ الإنسِ وطعامُهُمْ.
و«الرِّمَّة»: العَظْمُ البالي، وقد أطلق عليه أيضًا: الحائل (16) : أي: قد أتتْ عليه أحوالٌ فحال، ويمكنُ جريانُ العِلَّةِ المتقدِّمة (17) في الرِّمَّةِ من حيث هو عظمٌ، فيجدون عليها طعامًا، كما قد صَحَّ.
وقيل: لأنها تتفتَّت؛ فلا تثبُتُ عند الاستنجاء بها، ولا يتأتَّى بها قَلْعُ ما هنالك.
وقيل: لأنها تصير مثلَ الزجاجِ من حيثُ ملوستُهَا؛ فلا تَقْلَعُ شيئًا. &(1/380)&$
__________
(1) تعليق فقهي ونيس.
(2) في (أ): «تستنجي».
(3) قوله : «جامد» ليس في (ب) و (ح) و (غ).
(4) تعليق فقهي ونيس.
(5) في (غ) : «أو عظم».
(6) في "صحيحه" (1/256 رقم156) في الوضوء، باب لا يستنجى بروث.
(7) قوله: " كتاب " سقط من (أ).
(8) في (ب) و (ح): «لكونها»، وفي(غ): «بكونهما».
(9) أخرجه أبو داود (1/36-37 رقم39) كتاب الطهارة، باب ما ينهى عنه أن يستنجى به، عن حيوة بن شُرَيْح الحِمْصي، عن ابن عَيَّاش، عن يحيى بن أبي عمرو السيباني، عن عبدالله بن الديلمي، عن عبدالله بن مسعود، قال: قَدِمَ وفدُ الجِنَّ على رسولِ اللهِ ?، فقالوا: يا محمَّد، انْهَ أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو حممة؛ فإنَّ الله تعالى جعَلَ لنا فيها رزقًا، قال: فنهَى رسولُ الله ? عن ذلك.
ومن طريق أبي داود: أخرجه البيهقي (1/109)، والبغوي في "شرح السنة" (1/365-366 رقم180).
وفي سنده: إسماعيل بن عياش،وهو – وإن كان صدوقًا في الشاميين، وشيخُهُ هنا منهم – إلا أنه مدلِّس وقد عنعن، وباقي رجاله ثقات. وله شواهد آخر يصح بها، والله أعلم.
(10) قوله: " قال " سقط من (ب).
(11) أخرجه البخاري (7/171 رقم3860) في مناقب الأنصار، باب ذكر الجِنِّ.
(12) في (أ): ((الروثة)).
(13) أخرجه مسلم (1/332 رقم450) في الصلاة، باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن.
(14) في (غ): «مثل».
(15) في (أ): «القذارات».
(16) في (أ): «الحائل أيضًا»، وقوله: «أيضًا» سقط من (غ).
(17) يعني التي تقدمت في عدم الاستنجاء بالروث والعظم، وهو أنهما زادٌ للجِنِّ.(1/380)
«والْحُمَمُ»: الفَحَمُ، وقد علِّل (1) بأنه زادُ الجن، وهو أيضًا لا صلابةَ لأكثره، فيتفتَّتُ عند الاستنجاء، ويلوِّثُ الجسد ويُسَخِّمُهُ، والدين مبنيٌّ على النظافة.
تنبيه: إنْ وقَعَ الاستنجاءُ والإنقاءُ بالطاهرِ المُنَقِّي المنهيِّ عن الاستنجاء به، فإنه يجزئه عندنا، وهل يعيدُ الصلاةَ في الوقتِ أو لا ؟ قولان، وكذلك مسألةُ من استنجَى بيمينه، فإنه أساء وأجزأه.
وقال أهلُ الظاهر: لا يجزئُهُ لاقتضاءِ النهي (2) فسادَ المنهيِّ عنه (3) .
وعند الجمهورِ (4) : لايقتضيه (5) .
وأيضًا: فإنَّ الجمهورَ صَرَفوا هذا النَّهْيَ =(1/518)=@ إلى غير ذاتِ المنهيِّ عنه، وهو احترامُ المطعومِ واليمين، والمطلوبُ الذي هو الإنقاءُ قد حصَلَ، فَيُجْزِىءُ عنه (6) .
197 - وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ (7) ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «لَا يُمْسِكَنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ يَبُولُ، وَلا يَتَمَسَّحْ مِنَ الْخَلَاءِ بِيَمِينِهِ، وَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ».
ونهيُهُ في حديثِ أبي قتادة عن إمساكِ الذَّكَرِ باليمين، وعن التمسُّح في (8) الخلاءِ باليمين، يلزمُ منهما تعذُّرٌ (9) ، اختلَفَ علماؤنا في كيفيَّة التخلُّص منه:
فقال المازَرِيُّ (10) : يأخذُ ذكَرَهُ بشمالِهِ، ثم يمسَحُ به حَجَرًا لِيسَلَمَ على مقتضى الحديثين.
قال الشيخ – رحمه الله –: وهذا إنْ أمكنه حَجَرٌ ثابتٌ، أو أمكنَهُ أن يسترخي فيتمسَّح بالأرض.
فإذا لم (11) يُمْكِنْهُ شيءٌ من ذلك؛ فقال (12) الخطابيُّ: يَجْلِسُ على الأرضِ، ويُمْسِكُ بِرِجْليه الشيءَ الذي يتمسَّحُ به، ويتناوَلُ ذَكَرَهُ بشماله.
قال الشيخ – رحمه الله –: وقد (13) يكونُ بموضعٍ لا يتأتَّى له فيه الجلوسُ، فقال عياضٌ – رحمه الله –: أَوْلَى ذلك: أن يأخُذَ ذَكَرَهُ بشماله، ثم يَأْخُذَ الحجَرَ بيمينه، فَيُمْسِكَهُ أمامه، ويتناوَلَ بالشمالِ تحريكَ رأسِ ذَكَره، ويَمْسَحَهُ بذلك، دون أن يستعملَ اليُمْنَى (14) في غير إمساك ما يتمسَّحُ (15) به.
قال الشيخ: وهذه الكيفيَّةُ أحسنها؛ لِقِلَّةِ تكلُّفها (16) ، ولتأتِّيها (17) ، ولسلامتها عن ارتكابِ منهيٍّ عنه؛ إذ لم يُمْسِكْ ذَكَره باليمين (18) ولا تمسَّح به، وإنما (19) أمسَكَ ما يتمسَّحُ به (20) ، (21) . &(1/381)&$
__________
(1) في (ح): «وعلل».
(2) في (ح): «المنهي».
(3) تعليق فقهي ونيس.
(4) تعليق أصولي ونيس.
(5) يعني: أن النهي عند الجمهور لا يقتضي الفساد، وانظر هذه المسألة في "كتاب النهي يقتضي الفساد بين العلائي وابن تيميَّة".
(6) تعليق فقهي ونيس.
(7) أخرجه البخاري (1/253رقم153) في الوضوء، باب النهي عن الاستنجاء باليمين، ومسلم (1/225رقم267)في الطهارة، باب النهي عن الاستنجاء باليمين.
(8) في (أ): «من».
(9) في (أ): «يلزم منه تعذُّر»، وفي (غ): «يلزم من هذا تقذُّر».
(10) تعليق فقهي ونيس.
(11) في (أ): «فأما ما إذا لم»، وفي (ب): «فإن لم».
(12) في (ب): «قال».
(13) في (أ): «قد» بلا واو.
(14) في (ب) و (غ): «اليمين».
(15) في (ح) : «يمسح».
(16) في (ح): «تكليفها».
(17) في (غ): «وتأتيها».
(18) في (أ): «بيمينه».
(19) تعليق فقهي ونيس.
(20) قوله: ((وإنما أمسك ما يتمسح به)) سقط من (أ).
(21) تعليق فقهي ونيس.(1/381)
وقوله: «وَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ»؛ هذا التأديبُ مبالغةٌ في النظافة؛ إذْ قد يخرُجُ مع النَّفًسِ (1) بُصَاقٌ، أو مُخَاطٌ، أو بخارٌ رديءٌ فَيُكْسِبه رائحةً كريهة، فيتقَّزز (2) الغيرُ عن (3) شربه، أو الشاربُ نَفْسُهُ، وهذا من باب النهي عن النفخِ في الشراب، ومن بابِ =(1/519)=@ النهيِ عن اختناثِ الأسقية، وتزيدُ هذه مصالحَ أُخَرَ، يأتي ذكرها إنْ شاء الله تعالى في مواضعها.
198 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (4) ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ? يَتَبَرَّزُ لِحَاجَتِهِ، فَآتِيهِ بِالْمَاءِ، فَيَتَغَسَّلُ بِهِ.
وقولُ أنس - رضي الله عنه - : «كان النبي (5) ? يَتَبَرَّزُ لِحَاجَتِهِ»، «يَتَبَرَّزُ»: يخرُجُ إلى البَرَازِ (6) من الأرضِ بحيثُ يبعُدُ عمَّن (7) كان معه (8) ، وقد كان يأتي الْمُغَمَّسَ لحاجته (9) ، وهو من المدينةِ على نحو المِيلَيْنِ.
وقوله: « فَآتَيهِ (10) بِالمَاءِ»، دليلٌ على استعمالِ الخادمِ فيما يختفي به عن غيره، وعلى استعمالِ الماءِ في إزالةِ النَّجْوِ (11) عن هذَيْنِ المحلَّيْنِ، وأن الماء ليس من قبيلِ المطعومِ فيحتَرَمَ في هذا؛ خلافًا لمن شَذَّ من الفقهاء، ولم يَرَ الاستنجاءَ بالماءِ العَذْب؛ لأنه زعم أنه (12) طعامٌ (13) ، وخلافًا لما قال سعيدُ بن المسيِّب في الاستنجاءِ بالماء (14) : إنما ذَلِكَ وُضُوءُ النِّسَاء (15) ، (16) .
ولا يُشَكُّ (17) في أنَّ الماء أولَى من الحجارة (18) ، ولأجل هذا أنزَلَ اللهُ في أهل قُبَاء: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا} (19) ، وقال (20) أبو داود، عن (21) أبي هريرة: كانوا يَسْتَنْجُون بالماء، فنزلَتْ هذه الآيةُ فيهم (22) .
وقد شَذَّ ابنُ حَبِيب من أصحابنا، فقال: «لا يجوزُ استعمالُ الأحجارِ مع وجودِ الماء»؛ وهذا ليس شئٍ؛ إذْ قد صَحَّ في البخاريِّ (23) من حديثِ أبي هريرة - رضي الله عنه - ؛ «أنَّ النبيَّ ? استَعْمَلَ الحِجَارَةَ مع وجودِ الماء في الإداوةِ مَعَ أبي هُرَيْرَةَ يَتْبَعَهَ بها»،، ولِبُعْدِ (24) قياسِ إزالةِ النَّجَاسَةِ - والمقصودُ به النظافةُ- على التيمُّم – وهو محض العبادة – ، والله تعالى أعلم (25) ، (26) . =(1/520)=@
وقوله: «فَيَتَغَسَّلُ بِهِ (27) »؛ كذا صحَّ بالتاءِ والتشديد، وهو يَدُلُّ على المبالغةِ في غَسْلِ تلك المواضع. &(1/382)&$
__________
(1) في (ح): «من النفس».
(2) في (ح) و (غ): «فيتقذر».
(3) في (ح): «وعن».
(4) أخرجه البخاري (1/321رقم217) في الوضوء، باب ما جاء في غسل البول، وذكر أطرافه في (1/250رقم150) في الوضوء باب الاستنجاء بالماء، ومسلم (1/227رقم271-71) في الطهارة، باب الاستنجاء بالماء من التبرز.
(5) قوله: ((النبي)) سقط من (ب) و (ح).
(6) في (ح): «يتبرَّز أي: خرج للبراز». وتراجع نسخة (ح).
(7) في (ع): «عما».
(8) زاد بعد هذا في (ح): «وقد كان معه».
(9) أخرجه أبو يعلى (9/476 رقم5626)، والطبراني في "الكبير" (12/345 رقم 13638)، وفي "الأوسط" (5/143 رقم4903)، كلاهما من طريق سعيد بن أبي مريم، عن نافع بن عمر الجمحي، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر، قال: كان رسولُ الله ? يذهبُ لحاجتِهِ إلى المغمَّس، قال نافع: نحو ميلين مِنْ مكة. وسنده صحيح، وقال الطبراني:»لم يروِ هذا الحديث عن عمرو بن دينار، إلا نافع بن عمر، تفرد به: ابن أبي مريم».
وقال الهيثمي في "المجمع" (1/481):»رواه أبو يعلى، والطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، ورجاله ثقات من أهل الصحيح».
(10) في (أ) و (ح) و (غ): «فأتيته»، والمثبت من (ب) والتلخيص، وصحيح مسلم.
(11) النَّجْوُ: ما يَخْرُجُ من البطنِ مِنْ ريحٍ وغائط. "اللسان" (15/306).
(12) قوله «أنه» من (غ) فقط.
(13) تعليق فقهي ونيس.
(14) قوله: «بالماء» ليس في (غ).
(15) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/33) كتاب الطهارة، باب جامع الوضوء، وابن أبي شيبة (1/154/الهندية) كتاب الطهارة، باب مَنْ كان لا يستنجي بالماء، ويجتزئُ بالحجارة. كلاهما من طريق يحيى بن سعيد، أنه سعيد بن المسيِّب، يسألُ عن الوضوءِ من الغائطِ بالماء؟ فقال سعيد: إنما ذلك وضوءُ النساء.
وسنده صحيح. انظر "الأوسط" لابن المنذر (1/346-347).
(16) تعليق فقهي ونيس.
(17) في (ب)و (غ): «ولا شك».
(18) تعليق فقهي ونيس.
(19) سورة التوبة، الآية: 108.
(20) في (ح) و (غ): «قال» بدون واو.
(21) في (ح): «وعن».
(22) أخرجه أبو داود (1/38-39 رقم44) كتاب الطهارة، باب في الاستنجاء بالماء، باب الاستنجاء بالماء، وابن ماجه (1/128 رقم 357) كتاب الطهارة وسننها، باب الاستنجاء بالماء، والترمذي (5/262 رقم3100) كتاب التفسير، باب ومن سورة التوبة.
جميعهم من طريق معاوية بن هشام، عن يونس بن الحارث، عن إبراهيم بن أبي ميمونة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله ?، قال: نزلَتْ هذه الآيةُ في أهل قباء: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين}، قال: كانوا يستنجون بالماء، فنزلَتْ هذه الآيةُ فيهم.
قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه.
وضعفه الحافظ في «التلخيص» (1/199).
وقال الشيخ الألباني في "الإرواء" (1/85): وهذا سند ضعيف، وله علتان:
الأولى: ضَعْفُ يونس بن الحارث.
الثانية: جهالةُ إبراهيم بن أبي ميمونة. اهـ.
وله شواهد: منها: ما أخرجه ابن ماجه (1/127 رقم355) كتاب الطهارة، باب الاستنجاء بالماء، وابن الجارود رقم (40)، والدارقطني (1/62)، والحاكم (1/155)، والبيهقي (1/105)، جميعهم مِنْ طريق عتبة بن أبي حَكِيمٍ، عن طلحة بن نافع، قال: حدثني أبو أيوب الأنصاري، وجابر بن عبدالله، وأنس بن مالك؛ أن هذه الآية نزلت: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين}، قال رسول الله ?: «يا معشر الأنصار، إنَّ الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما طهوركم؟» قالوا: نتوضَّأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، ونستنجي بالماء، قال: «فهو ذاك، فعليكموه».
قال البوصيري في "الزوائد" (1/150): «هذا إسناد ضعيف؛ عتبة بن أبي حكيم ضعيف، وطلحة لم يدرك أبا أيوب، وقال الدارقطني: عتبة بن أبي حكيم ليس بقوي. والحديث قال عنه الحافظ في "التلخيص" (1/200): وإسناده ضعيف.
ومنها: ما أخرجه أحمد (3/422)، وابن خزيمة رقم (83)، والطبراني في "الأوسط" (6/89 رقم5885)، وفي "الصغير" (2/86 رقم828)، و"الكبير" (17/140 رقم348)، والحاكم (1/155)، جميعهم من طريق أبي أُوَيْس، عن شُرَحْبِيل بن سعد، عن عُوَيْم بن ساعدة، قال: قال رسولُ الله ? لأهل قباء... فذكر الحديث بمعناه.
وسنده ضعيف:
أبو أويس: هو عبدالله بن عبدالله بن أويس، ضعَّفوه وشرحبيل بن سعد: صدوق اختلط بأخرة، وقال الهيثمي في "المجمع" (1/ 498): «رواه أحمد، والطبراني في الثلاثة، وفيه شرحبيل بن سعد، ضعَّفه مالك، وابن معين، وأبو زُرْعة، ووثَّقه ابن حبان.
ومنها: ما أخرجه ابن أبي شيبة (1/141 رقم1630) كتاب الطهارة، باب من كان يقول: إذا خرَجَ من الغائطِ، فليستَنْجِ بالماء، وأحمد (6/6)، وابن جرير في "تفسيره" (14/483، 484، 489 رقم17228، 17229، 17240).
جميعهم: من طريق مالك بن مِغْوَل، عن سَيَّار أبي الحكم، عن شَهْر بن حوشب، عن محمد بن عبدالله بن سَلَام، قال: لما قدم رسولُ الله ? المدينة، قال: «إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، أفلا تخبروني؟»، قال: فقالوا: يا رسولَ الله، إنا لنجده مكتوبًا علينا في التوراة: الاستنجاء بالماء.
قال ابن أبي حاتم في "العلل" (1/42-43): سمعت أبا زرعة يقولُ في حديث رواه الفريابي، عن مالك بن مِغْول، عن سَيَّار أبي الحكم، عن شَهْر بن حَوْشَب،عن محمد بن عبدالله بن سَلَام - فذكر الحديث- ورواه سلمة بن رجاء، عن مالك بن مِغْول، عن سيار، عن شهر، عن محمد بن عبدالله بن سلام، قال: قال أبي: قَدِمَ علينا رسولُ الله ?. ورواه أبو خالد الأحمر، عن داود بن أبي هند، عن شَهْر، عن النبي ? مرسلاً؛ فسمعتُ أبا زرعة يقول: الصحيح عندنا - والله أعلم - عن محمد بن عبدالله بن سلام قط، ليس فيه: عن أبيه.اهـ.
وهناك وجه آخر مِنَ الاختلافِ في هذا الخبر، فانظرْهُ في تعليقِ محمود شاكر على "تفسير الطبري" (14/485-486).
ومنها: ما أخرجه الحاكم (1/187)، والطبراني في "الكبير"(11/56 رقم11065) من طريق محمد بن إسحاق، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس، مرفوعًا.
وسنده ضعيف؛ محمد بن إسحاق مدلِّس وقد عنعن، لكنَّ الحديث حسنٌ بمجموع طرقه.
(23) (1/355 رقم 155) كتاب الوضوء، باب الاستنجاء بالحجارة، و(7/171 رقم3860) كتاب مناقب الأنصار، باب ذكر الجن ......
(24) في (ب): «فتتبعه، ولبُعدِ».
(25) في (غ): «والله تعالى أعلم بغيبه».
(26) تعليق فقهي ونيس.
(27) في (غ): «فيغسل به».(1/382)
وقد روَى أبو داود هذا الحديثَ، وزاد فيه: «ثُمَّ مَسَحَ يَدَهُ عَلَى الأَرْضِ» (1) ، وهي زيادةٌ حسنةٌ تدلُّ على أنه لا بدَّ من إزالةِ رائحةِ النجاسةِ في غَسْلها إذا أمكَنَ ذلك (2) ، (3) ، والله أعلم.
واختلَفَ العلماءُ في الِاستنجاءِ:
فقال أبو حنيفة: الِاستنجاءُ؛ ليس بفَرْضٍ، وإزالةُ النجاسةِ فَرْضٌ.
وقال الجمهورُ: هو من بابِ إزالةِ النجاسة، إلا أنهم اختَلَفُوا في حُكْمِ إزالتها على ثلاثةِ أقوال: هل هي فريضةٌ مطلقًا، أو سنةٌ مطلقًا، أو هي واجبةٌ بشرطِ الذِّكْرِ والقدرةِ؟ وهكذا (4) اختلافُ أصحابِ مالكٍ عنه (5) .
( 10 ) بَابُ ما جَاءَ فِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَة وَاسْتِدْبَارِهَا
بِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ، وَالنَّهْيِ عَنِ التَّخَلِّي فِي الطُّرُقِ والظِّلَالِ
199 - عَنْ أَبِي أَيُّوبَ (6) ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ? قَالَ: «إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ، فَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ، وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا، بِبَوْلٍ وَلَا غَائِطٍ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا».
قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: فَقَدِمْنَا الشَّامَ، فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ بُنِيَتْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ فَنَنْحَرِفُ عَنْهَا، وَنَسْتَغْفِرُ اللهَ.
وَمِنْ بَابِ مَا جَاءَ فِي اسْتِقْبَالِ القِبْلَةِ بِبِوْلٍ أَوْ غَائِطٍ
قوله (7) : «وَلَاكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا»، هذا الحديثُ قيل لأهلِ المدينةِ ومَنْ (8) وراءها مِنْ أهلِ الشامِ والمَغْرب؛ لأنَّهم إذا شرَّقوا أو غرَّبوا، لم يستقبلوا القبلة، ولم يَسْتَدْبِروها، فأمَّا (9) مَنْ كانتِ الكَعْبةُ في شرقِ بلادِهِ أو غربها، فلا يشِّرق ولا يغرِّب؛ &(1/383)&$
__________
(1) أخرجه إسحاق بن راهويه في "مسنده"(1/208 رقم164)، وأحمد (2/311)، وأبو داود (1/39 رقم45) كتاب الطهارة، باب دلك اليد بالأرض بعد الاستنجاء، وعنه البيهقي (1/106-107)، والبغوي في "شرح السنة" (1/389-390 رقم196)، وأخرجه النسائي (1/45) كتاب الطهارة، باب دلك اليد بالأرض بعد الاستنجاء، وابن حبان (4/251 رقم 1405/الإحسان)، جميعهم: من طريق شَرِيك، عن إبراهيم بن جَرِير، عن أبي زُرْعة، عن أبي هريرة، قال: كان النبي ? إذا أتى الخلاء، أتيته بماء في تَوْرٍ أو رَكْوة، فاستنجى به، ثم مسَحَ يدَيْهِ بالأرض- وفي لفظ: ومسح يده اليسرى - ثم غسلها، ثم أتيته بِتَوْرٍ آخر فتوضَّأ به.
وفي سنده: شريك، وهو ابن عبدالله النخعي، صدوق يخطئ كثيرًا.
ومع ذلك فقد خولف في إسناده:
فأخرجه الدارمي (1/174) كتاب الطهارة، باب فيمن يمسح يده بالتراب بعد الاستنجاء، وابن ماجه (1/129 رقم359) كتاب الطهارة، باب من دلك يده بالأرض بعد الاستنجاء، والنسائي (1/45) كتاب الطهارة، باب دلك اليد بالأرض بعد الاستنجاء، وابن خزيمة رقم (89). جميعهم من طريق أبان بن عبدالله البجلي: قال ابن حبان: كان ممن فَحُشَ خطؤه، وانفرد بالمناكير، وقال الذهبي: صدوقٌ له مناكير، وقال النسائي: ليس بالقوي.
وإبراهيم بن جَرِيرٍ، لم يسمع من أبيه، على ما قاله أبو حاتم، وأبو داود، وابن معين. لكن رجَّح النسائي هذه الرواية، فقال عَقِبَ إخراجه لهذا الحديث: «هذا أشبه بالصواب من حديث شَرِيك». اهـ.
وقد رُوِيَ الحديثُ عن أبان، من وجهٍ آخر:
فأخرجه الدارمي (1/173) كتاب الطهارة، باب فيمن يمسحُ يده بالتراب بعد الاستنجاء، وأبو يعلى (10/520 رقم6136)، كلاهما من طريق أبان بن عبدالله البَجَلي، عن مولى لأبي هريرة، عن أبي هريرة، فذكره.
وسواء كان الراجحُ في الحديث أنه من رواية أبي هريرة، أو جرير، فهو ضعيفٌ من كلا الطريقين.
وقد وقع في المطبوع من"سنن أبي داود" خطأ، حيث وقع في إسناده زيادة: المغيرة بين إبراهيم بن جرير، وأبي زرعة. فانظر "تحفة الأشراف" (10/437).
(2) قوله : «ذلك» ليس في (غ).
(3) تعليق فقهي ونيس.
(4) في (أ) و (ب): «وهذا».
(5) تعليق فقهي ونيس.
(6) أخرجه البخاري (1/498رقم394) في الصلاة، باب قِبْلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق... وذكر طرفه في (1/245رقم144) في الوضوء، باب لا تستقبل القبلة بغائط أو بول إلا عند البناء، جدار أو نحوه، ومسلم (1/224 رقم 264) في الطهارة، باب الاستطابة.
(7) في (ب): «وقوله».
(8) في (غ): «وبمن».
(9) في (غ): «وأما».(1/383)
إكرامًا للقبلة.
واختلَفَ أصحابنا في تعليلِ هذا الحُكْمِ:
فقيل: إنَّه معلَّلٌ بِحُرْمةِ القِبْلة. =(1/521)=@
وقيل: بِحُرْمَةِ المصلِّين من الملائكة.
والصحيحُ الأول؛ بدليلِ ما رواه الدارقطني (1) مرسلاً عن طاوسٍ مرفوعًا: «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْبَرَازَ، فَلْيُكْرِمْ قِبُلَةَ اللهِ؛ فَلَا يَسْتَقْبِلْهَا (2) وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا» (3) .
200 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ (4) ، قَالَ: رَقِيتُ عَلَى بَيْتِ أُخْتِي حَفْصَةَ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ? قَاعِدًا لِحَاجَتِهِ، مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ، مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ. فِي رِوَايَةٍ: عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلاً بَيْتَ الْمَقْدِسِ.
وقولُ أبي أَيُّوب - رضي الله عنه - : «فَنَنْحَرِفُ عَنْهَا، وَنَسْتَغْفِرُ اللهَ (5) »، دليلٌ على أنَّه لم يبلغه حديثُ ابنِ عمر (6) ، أو لم يره مخصِّصًا، وحمَلَ ما رواه على العموم.
وقولُ ابن عمر رضي الله عنهما: «رَقِيتُ عَلَى بَيْتِ أُخْتِي حَفْصَةَ»، هذا الرُّقِيُّ من ابن عمر الظاهرُ منه: أنه لم يكنْ عن (7) قَصْدِ الِاستكشافِ، وإنما كان لحاجةٍ غيرِ ذلك.
ويَحْتملُ: أن يكونَ لَيِطَّلِعَ على كيفيَّةِ جلوس النبيِّ ? للحَدَثِ؛ على تقديرِ أن يكونَ قد استشعَرَ ذلك، وأنه تحفَّظ مِنْ أن يَطَّلِعَ على ما لا يجوزُ له، وفي هذا الثاني بُعْدٌ.
وكونُهُ ? (8) على لَبِنَتَيْنِ؛ يدلُّ لمالك على قوله: «إذا اجتمَعَ المِرْحَاضُ المُلْجِىءُ والسَّاتِرُ، جاز ذلك (9) ».
واستقبالُهُ بيتَ المَقْدِسِ يَدُلُّ على خلافِ ما ذهَبَ إليه النَّخَعِيُّ وابن سيرين؛ فإنهما مَنَعَا ذلك (10) ، وما رُوِيَ من النهيِ عن استقبالِ شيءٍ من القبلتَيْنِ بالغائطِ: لا يصحُّ؛ لأنه مِنْ رواية عبدالله بن نافعٍ مولى ابن عمر، وهو ضعيفٌ (11) .
وقد ذهَبَ =(1/522)=@ بعضُ من منَعَ استقبالَ القبلةِ واستدبارَهَا مطلقًا: إلى أنَّ حديثَ ابنِ عمر لا يَصْلُحُ لتخصيصِ حديثِ أبي أيُّوب رضي الله عنهما؛ لأنه فُعِلَ في خَلْوة، وهو محتملٌ للخصوص، وحديثُ أبي أيوب قَوْلٌ قُعِّدَتْ به القاعدة، فبقاؤُهُ على عمومِهِ أولى:
والجوابُ عن ذلك: أن نقولَ: أما فعله ?، فأقلُّ مراتبه: أن يُحْمَلَ على الجوازِ؛ بدليلِ مُطْلَقِ اقتداءِ الصحابة رضي الله عنهم بفعله، وبدليلِ قولِهِ تعالى (12) : {لقد كان لكم في &(1/384)&$
__________
(1) أخرجه الدارقطني (1/57)، والبيهقي (1/111)، كلاهما من طريق زمعة بن صالح، عن سلمان بن وَهْرَام، قال: سمعت طاوسًا، قال: قال رسول الله ?: «إذا أتى أحدكم البَرَازَ، فليكرمنَّ قبلةَ الله؛ فلا يستقبلها، ولا يستدبرها، ثم ليستَطِبْ بثلاثةِ أحجارٍ، أو ثلاثةِ أعوادٍ، أو ثلاثِ حَثَيَاتٍ من تراب، ثم ليقلِ: الحمدُ لله الذي أخرَجَ عني ما يُؤْذِيني، وأمسَكَ عليَّ ما ينفعني».
وأخرجه الدارقطني (1/57)، من طريق زمعة بن صالح، عن سَلَمة بن وَهْرَام، عن طاوس، عن ابن عباس، مرفوعًا.
ثم قال: قال زمعة: فحدَّثت به ابن طاوس، فقال: أخبرني أبي، عن ابن عباس بهذا، سواء، لم يسنده غير المضري، وهو كذَّاب متروك، وغيره يرويه عن أبي عاصم، عن زمعة، عن سلمة بن وَهْرَام، عن طاوس، مرسلاً. ليس فيه: عن ابن عباس، وكذلك رواه عبدالرزَّاق، وابن وهب، ووكيع، وغيرهم، عن زمعة، ورواه ابن عيينة، عن سلمة بن وهرام، عن طاوس قوله. وقد سألت سلمة، عن قول زمعة أنه عن النبي ?؟ فلم يعرفه.
وقال الزيلعي في نصب الراية (2/103-104): قال عبدالحق في «أحكامه»: وقد أُسْنِدَ هذا عن ابن عباسٍ، ولا يصح؛ أسنده أحمد بن الحسن المضري، وهو متروك.
قال ابن القطان في كتابه: «والمرسل أيضًا ضعيف؛ فإنه دائر على زمعة بن صالح، وقد ضعَّفه أحمد، وابن معين، وأبو حاتم». اهـ.
وسلمة بن وهرام، قال فيه أحمد: روى عنه زمعة أحاديث مناكير، أخشى أن يكون حديثه ضعيفًا."تهذيب الكمال" (11/329).
(2) في (أ): «ولا يستقبلها»؛ وفي (غ): «فلا تستقبلها».
(3) تعليق فقهي ونيس.
(4) أخرجه البخاري (1/250رقم148)في الوضوء، باب التبرُّز في البيوت، وذكر أطرافه في (1/246رقم145) في الوضوء، باب من تبرَّز على لبنتين، ومسلم (1/ 224،225رقم266-61،62) في الطهارة، باب الاستطابة.
(5) في (أ): «وينحرف عنها، ويستغفر الله».
(6) هو الحديث الآتي بعد هذا.
(7) في (أ): «على».
(8) في (غ): «وكون النبي ?».
(9) أي: جاز استقبال القبلة أو استدبارها. وانظر كلام الإمام مالك في "" ()، و
(10) تعليق فقهي ونيس.
(11) حديث ابن عمر: أخرجه ابن عدي في "الكامل" (4/166)، من طريق عبدالله ابن نافع مولى ابن عمر، عن أبيه؛ أن عبدالرحمن بن عمرو العجلاني حدَّث ابن عمر، عن أبيه؛ أن رسولَ الله ? نَهَى أن يستقبلَ شيئًا من القبلتَيْنِ بالغائطِ والبَوْل.
وفي سنده: عبدالله بن نافع: قال البخاري: «منكر الحديث، وضعفه ابن معين»، وقال ابن المديني: «روى أحاديث منكرة».
وله شاهدٌ من حديث مَعْقِلٍ الأسديِّ.
أخرجه ابن أبي شيبة (1/139، 139-140 رقم1603،1610) كتاب الطهارة، باب في استقبال القبلة بالغائط والبول، وعنه ابن ماجه (1/319 – 320 رقم 319) كتاب الطهارة وسننها، باب النهي عن استقبال القبلة بالغائط والبول، وأخرجه أحمد (4/210)، وأبو داود (1/20 رقم 10) كتاب الطهارة، باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، وعنه البيهقي (1/91-92).
جميعهم: من طريق عمرو بن يحيى المازني، عن أبي زيد، عن معقل بن أبي معقل الأسدي، قال: نَهَى رسولُ الله ? أن نستقبل القبلتين ببول أو غائط.
وفي سنده: أبو زيد، هو مولى بني ثعلبة: لم يرو عنه غير عمرو بن يحيى.
قال ابن المديني: «ليس بالمعروف».
وقال الذهبي وابن حجر: «مجهول».
والحديث قال عنه الحافظ في "الفتح" (1/246): «وهو حديث ضعيف؛ لأنَّ فيه راويًا مجهول الحال».اهـ.
(12) في (غ): «قول الله سبحانه».(1/384)
رسول الله أسوة حسنة} (1) ، وبدليل قولِهِ ? لعائشةَ رضي الله عنها – حين سألتها المرأةُ عن قُبْلَةِ الصائم –: «أَلَا أَخْبَرْتِيهَا (2) أَنَّي أَفْعَلُ ذَلِكِ؟!» (3) ، وقالت عائشةُ: فعلتُهُ أنا ورسولُ الله ? فاغتسَلْنَا (4) ، تعني: التقاءَ الخِتَانَيْنِ، وقَبِلَ ذلك الصحابةُ، وعَمِلُوا عليه.
وأما كونُ هذا الفعلِ في خَلْوة: فلا يصلُحُ مانعًا من الاقتداء؛ لأنَّ الحدَثَ كلَّه كذلك يُفْعَلُ، ويُمْنَعُ أن يُفْعَلَ في الملأ، ومع ذلك فقد نُقِلَ وتحدِّث به، سيما وأهلُ بيته كانوا يَنْقُلُون ما يفعله في بيتِهِ من الأمور المشروعة (5) .
وأما دعوى الخصوصِ: فلو سمعها النبيُّ ? لَغَضِبَ على مُدَّعِيهَا، كما قد غَضِبَ على مَنِ ادعَى تخصيصَهُ بجوازِ القُبْلَة، فإنه غَضِبَ عليه، وأنكَرَ ذلك، وقال: «وَاللهِ، إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلِه، وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِهِ» (6) ، وكيف يجوزُ تَوهُّمُ هذا؛ وقد تبيَّن =(1/523)=@ أن ذلك إنما شُرِعَ إكرامًا لِلْقِبْلة (7) ، وهو أعلمُ بحرمتها، وأحقُّ بتعظيمها؟! وكيف يستهينُ بِحُرْمِة ما حرَّم الله؟! هذا ما لا يصدُرُ توهُّمُهُ إلا مِنْ جاهلٍ بما يقولْ، أو غافلٍ عمَّا كان يحترمه (8) الرسولْ ?.
201 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (9) ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? قَالَ: «اتَّقُوا اللاَّعِنَيْنِ»، قَالُوا: وَمَا اللاَّعِنَانِ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: «الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ فِي ظِلِّهِمْ».
وقوله: «اتَّقُوا اللَّاعِنَيْنِ (10) ، قالوا: وَمَا اللَّاعِنَانِ؟»، يروى هكذا، وصحيحُ روايتنا: «اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ» (11) ، قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ؟»، بالتشديد على المبالغة، وكلاهما صحيح، وقد تقدَّم أنَّ (12) اللعنَ: الطردُ والبُعْد (13) ، وقد فسَّرهما: بالتخلِّي في الطُّرُق، والظِّلَال.
وجاءَ في الترمذيِّ (14) من حديثِ معاذٍ - رضي الله عنه - مرفوعًا: «اتَّقُوا المَلَاعِنَ الثَّلَاثَ: البَرَازَ في المَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ (15) الطَّرِيقِ، وَالظَّلَّ بِخُرْأةٍ».
وسُمِّيَتْ هذه مَلَاعِنَ لأنها تجلبُ اللعنَ على فاعلها العاديَّ والشرعيَّ؛ لأنه ضرَرٌ عظيمٌ بالمسلمين؛ إذْ يعرِّضهم للتنجيس، ويمنعهم مِنْ حقوقهم في الماءِ، والاستظلالِ (16) ، وغير ذلك (17) . &(1/385)&$
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية: 21.
(2) في (ح): «أخرتيها».
(3) الحديث عن أم سلمة لا عن عائشة رضي الله عنهما؛ فقد أخرج مالك في "الموطأ" (1/291-292) عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: «أن رجلاً قبَّل امرأته وهو صائم، في رمضان، فوجَدَ من ذلك وَجْدًا شديدًا، فأرسل امرأته تسأل له عن ذلك، فدخلَتْ على أم سلمة.... زوج النبي ?، فذكرتْ ذلك لها، فأخبرتها أم سلمة أن رسول الله ? يقبِّل وهو صائم، فرجعَتْ فأخبرتْ زوجها بذلك، فزاده ذلك شرًّا، وقال: لسنا مثل رسول الله ?؛ اللهُ يُحِلُّ لرسول الله ? ما شاء، ثم رجعتْ امرأتُهُ إلى أم سلمة، فوجَدَتْ عندها رسول الله ?، فقال رسول الله ?: «ما لهذه المرأة؟ فأخبرتْهُ أم سلمة، فقال رسول الله ?: ألا أخبرتيها أني أفعلُ ذلك؟! فقالتْ: قد أخبَرْتُهَا، فذهبتْ إلى زوجها، فأخبرته، فزاده ذلك شرًّا، وقال: لسنا مثل رسول الله ?؛ الله يحل لرسوله ? ما شاء؛ فغضب رسول الله ? ، وقال: والله! إني لأتقاكم لله، وأعلمكم بحدوده».
قال ابن عبدالبر في "الاستذكار" (10/54): «هذا الحديثُ مرسَلٌ عند جميعِ رواة "الموطأ" عن مالك».
ومن طريق مالك: أخرجه الشافعيُّ في "الرسالة" فقرة (1109)، وقال: «وقد سمعتُ من يصلُ هذا الحديث، ولا يحضرني ذِكْرُ من وصله».اهـ.
وقد وصله عبدالرزاق (4/184 رقم 8412)، وعنه أحمد (5/434)، وابن حزم في "المحلَّى" (6/207)، وانظر كلام الشارح على أحاديث باب ما جاء في القبلة للصائم، من كتاب الصوم.
(4) أخرجه أحمد (6/161)، وابن ماجه (1/199 رقم608) في الطهارة، باب ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان، والترمذي (1/180-181 رقم108) كتاب الطهارة، باب ما جاء إذا التقى الختانان، وجب الغُسْل، وابن حبان (3/452، 458-459 رقم1176، 1185/الإحسان)، والدارقطني (1/111).
جميعهم: من طريق الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي ?، قالت: إذا جاوَزَ الختانُ الختان، فقد وجَبَ الغسل، فعلته أنا ورسولُ الله ? فاغتسلنا.
والوليد بن مسلم: صرَّح بالتحديثِ عند أحمد، وابن ماجه، فانتفتْ شبهة تدليسه.
وقال الترمذي عقب إخراجه: حسن صحيح، ورُوِيَ هذا الحديث عن عائشة، عن النبي ? من غير وجه. وصحَّحه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "سنن الترمذي".
وقد توبع الوليد بن مسلم، على روايته؛ تابعه عبدالله بن كَثِيرٍ الدمشقي، كما عند ابن حبان(3/451، 456، 459 رقم1175، 1181، 1186) كما في الإحسان.
والوليد بن مَزْيَد: كما أخرجه ابن الجارود(93)،والدارقطني(1/111-112)، والطحاوي (1/55)، والبيهقي (1/164). لكنْ قال الدارقطني عقب إخراجه: «رفعه الوليد بن مسلم، والوليد بن مَزْيَد، ورواه بِشْر بن بَكْر، وأبو المغيرة، وعمرو بن أبي سلمة، ومحمد بن مصعب، وغيرهم، موقوفًا».
وقال الحافظ في "التلخيص" (1/232-233): «وصحَّحه أيضًا ابن حبان، وابن القطان، وأعلَّه البخاري بأنَّ الأوزاعيَّ أخطَأَ فيه، ورواه غيره عن عبدالرحمن بن القاسم مرسلاً، واستدَلَّ على ذلك بأنَّ أبا الزناد قال: سألتُ القاسم بن محمد، سمعتَ في هذا الباب شيئًا؟ فقال: لا.
وأجاب من صحَّحه بأنه يحتملُ أن يكونَ القاسمُ كان نسيه، ثم تذكَّر فحدَّث به ابنه، أو كان حدَّث به ابنه، ثم نَسِيَ، ولا يخلو الجوابُ عن نظر».اهـ.
وقد نقل الشيخ أحمد شاكر في «تعليقه على الترمذي»، كلام الحافظ، ثم قال: والجوابُ صحيحٌ؛ لأنَّ الأوزاعيَّ إمامٌ حجة، ونسيان القاسم محتملٌ، وقد تأيَّد حفظُ الأوزاعيِّ برواية غيره له، والله أعلم.
والحديث صحَّحه الألباني في "الإرواء" (80)، وقال: «وقد أُعِلَّ بما لا يقدح، لاسيَّما وله الطرقُ الأخرى، ثم قال: ويتلخَّص من مجموع هذه الطرق أن السيدة عائشة رضي الله عنها كانتْ تارةً ترفعُ الحديث، وتارةً توقفه، وكلٌّ روى ما سمع منها، والكلُّ صحيح: الرفع والوقف، ولا منافاة بينهما».اهـ.
(5) في (أ): «المشروعية»، وفي (غ): «الشرعية».
(6) يأتي في كتاب الصوم، باب ما جاء في القُبْلَةِ للصائم.
(7) يعني: كيف يجوز توهُّم اختصاص النبي ? باستقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة، مع أن ذلك شرع إكراماً للقبلة - على الراجح من قولي العلماء – والنبي ? أعظم إكراما، وأشد احتراما للقبلة من غيره؟! هذا ما لا يتوهَّمه أحد!
(8) في (غ): «كما كان يخبر به».
(9) أخرجه مسلم (1/226رقم269) في الطهارة، باب النهي عن التخلي في الطرق والظلال.
(10) في (ب): «اللعانين».
(11) قوله: «اتقوا» من (ب) فقط، وقوله: «اللعانين» في (ب): «اللاعنَيْن».
(12) في (ح): «وقد تقدم القول أن».
(13) تقدَّم معنى «اللعن» في كتماب الإيمان، باب كفران العشير، وكفر دون كفر، وسيتكرر كثيرا كما في كتاب الصلاة، باب جواز الإشارة بالسلام في الصلاة.
(14) لم يخرجه الترمذي، وإنما أخرجه أبو داود (1/28 رقم26) كتاب الطهارة، باب المواضع التي نهى النبيُّ ? عن البولِ فيها، وابن ماجه(1/119 رقم328) كتاب الطهارة وسننها، باب النهي عن الخلاء على قارعة الطريق، والحاكم (1/167)، وعنه البيهقي.
جميعهم: من طريق حيوة بن شريح، عن أبي سعيد الحميري، عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله ?: «اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعةِ الطريق، والظِّلِّ».
قال الحافظ في "التلخيص" (1/184-185): وصحَّحه ابن السكن والحاكم، وفيه نظر؛ لأن أبا سعيد لم يسمعْ من معاذ، ولا يُعْرَفُ هذا الحديث بغير هذا الإسناد؛ قاله ابن القطان.اهـ.
ولكنْ للحديث شواهدُ يرتقي بها إلى درجة الحسن، انظرها في "الإرواء" (1/100-102).
(15) في (غ): «وفي قارعة».
(16) في (غ): «والاستظلالي».
(17) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" (3/304)، و "سبل السلام" (75 – 76)، و "نيل الأوطار" (1/104).(1/385)
ويُفْهَمُ من هذا (1) : تحريمُ التخلِّي في كلِّ موضعٍ كان للمسلمين إليه حاجةٌ، كمجتمعاتهم، وشَجَرِهم المُثْمِر، وإنْ لم يكن (2) لها ظلالٌ (3) ، وغيرُ ذلك (4) . =(1/524)=@
( 11 ) باب ما جاء في البول قائمًا
202 - عَنْ أَبِي وَائِلٍ (5) ، قَالَ: كَانَ أَبُو مُوسَى يُشَدِّدُ فِي الْبَوْلِ، وَيَبُولُ فِي قَارُورَةٍ، وَيَقُولُ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا إِذَا أَصَابَ جِلْدَ أَحَدِهِمْ بَوْلٌ، قَرَضَهُ بِالْمَقَارِيضِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لَوَدِدْتُ أَنَّ صَاحِبَكُمْ لَا يُشَدِّدُ هَذَا التَّشْدِيدَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَنَا وَرَسُولُ اللهِ ? نَتَمَاشَى، فَأَتَى سُبَاطَةُ قَوْمٍ خَلْفَ حَائِطٍ، فَقَامَ كَمَا يَقُومُ أَحَدُكُمْ، فَبَالَ، فَانْتَبَذْتُ مِنْهُ، فَأَشَارَ إِلَيَّ فَجِئْتُ، فَقُمْتُ عِنْدَ عَقِبِهِ حَتَّى فَرَغَ، زَادَ فِي رِوَايَةٍ: فَتَوَضَّأَ فَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ.
وَمِنْ بَابِ مَا جَاءَ فِي البَوْلِ قَائِمًا
قولُ أبي موسى: «إِنَّ بنِي إِسْرَائِيل كَانُوا إِذَا أَصَابَ جِلْدَ أَحَدهِمِ بَوْلٌ قَرَضَهُ»، يعني: الجُلُودَ التي كانوا يلبسونها، وقد سمعتُ بعض (6) أشياخي مَنْ يَحْمِلُ هذا على ظاهره، ويقولُ: إنَّ ذلك (7) كان مِنَ الإصرِ الذي (8) حُمِّلُوهُ، والله تعالى أعلم.
و«قرضَهُ»: قَطَعه، و«السُّبَاطة»: المزبلة.
وقولُ حذيفة - رضي الله عنه - : «فَانْتَبَذْتُ مِنْهُ»، أي: صرتُ منه بعيدًا.
واختلَفَ العلماءُ في البول قائمًا:
فمنعه قوم مطلقًا، منهم عائشةُ، وابن مسعود رضي الله عنهما. وقد رَدَّ سعد بن إبراهيم شهادةَ مَنْ بال قائمًا؛ متمسِّكين في ذلك بما رُوِيَ عن النبي ?؛ أنه قال لعمر - رضي الله عنه - ، وقد رآه يبولُ قائمًا: «يَا عُمَرُ، لَا تَبُلْ قَائِمًا»، قَالَ (9) : فَمَا بُلْتُ قَائِمًا بَعْدُ (10) ، وبقولِ عائشةَ – رضي الله عنها –: «مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ النَّبِيَّ ? (11) كَانَ يَبُولُ قَائِمًا، فَلَا تُصَدِّقُوهُ؛ وَمَا كَانَ يَبُولُ إِلَّا قَاعِدًا» (12) .
وذهب الجمهورُ: إلى جوازِ ذلك؛ &(1/386)&$
__________
(1) في (أ): «من ذلك».
(2) في (غ): «تكن».
(3) في (أ): «ظل».
(4) تعليق فقهي ونيس.
(5) أخرجه البخاري (1/329رقم226) في الوضوء، باب البول عند سُبَاطَةِ قوم، وذكر أطرافه في (1/328رقم224) في الوضوء، باب البول قائمًا وقاعدًا، ومسلم (1/228رقم 273-73،74) في الطهارة، باب المسح على الخفين.
(6) في (أ): «من بعض».
(7) في (ب): «إن هذا».
(8) في (ب): «الذين».
(9) قوله: «قال» سقط من (غ).
(10) أخرجه عبدالرزاق (8/467 رقم15924)، عن ابن جريج، عن عبدالكريم بن أبي أمية، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر قال: رآني رسولُ الله ? وأنا أبولُ قائمًا: «يا عمر، فقال: «لا تَبُلْ قائمًا»، فما بُلْتُ قائمًا بعدُ.
ومن طريق عبدالرزاق: أخرجه ابن ماجه (1/112 رقم308) كتاب الطهارة، باب في البول قاعدًا، والحاكم (1/158)، وَتَّمام (1/203 رقم148- كما في "الروض"، والبيهقي (1/102).
قال الترمذي (1/17-18): «وحديثُ عمر إنما رُوِيَ من حديث عبدالكريم بن أبي المخارق... وإنما رفع هذا الحديثَ عبدُالكريم بن أبي المخارق، وهو ضعيفٌ عند أهل الحديث: ضعفه أيوب السختياني، وتكلَّم فيه».اهـ.
وقال البوصيري في "الزوائد" (1/131): «هذا إسناد ضعيف، عبدالكريم متفقٌ على تضعيفه، وقد تفرَّد بهذا الخبر، وعارضه خبر عبيد الله بن عمر العُمَري الثقةِ المأمون، المجمع على تثبته - أي: رواه موقوفًا ولم يرفعه – ولا يغتر بتصحيح ابن حبان هذا الخبر، عن طريق هشام بن يوسف، عن ابن جُرَيْج، عن نافع، عن ابن عمر، فإنه قال بعده: أخافُ أن يكون ابنُ جريج لم يسمعه من نافع، وقد صح ظنُّه؛ فإن ابن جريج إنما سمعه من ابن أبي المخارق، كما ثبت في رواية ابن ماجه هذه، والحاكم في "المستدرك"، واعتذر عن تخريجه بأنه إنما أخرجه في المتابعات، وحديث عبيدالله العمري: أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنَّفه"، والبزار في "مسنده"». اهـ. ورواية ابن حبان في "الإحسان" (4/271) (1423). وحديث العمري: أخرجه ابن أبي شيبة (1/116 رقم1324) كتاب الطهارة، باب من كره البول قائمًا، والبزار في "مسنده" (1/130 رقم244/كشف الأستار) من طرق عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، قال: ما بُلْتُ قائمًا منذ أسلمْتُ.
قال الشيخ الألباني في "الضعيفة" (2/338-339): «ثم وقفتُ على حديث عبيدالله العمري... فإذا هو لا يعارضُ حديثَ الترجمة - كما ادعى البوصيري - فإنَّه رواه عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، قال: ما بُلْتُ قائمًا منذ أسلَمْتُ»، وإسناده صحيح.
والأولى: المعارضةُ بأثر عبدالله بن دينار المتقدِّم عن ابن عمر، على اعتبار أنه هو الذي روى الحديثَ عنه – كما هو ظاهر –، ثم بما روى ابن أبي شيبة أيضًا قبيل الموضع المشار إلى صفحته آنفًا - (1/115 رقم1310) باب من رخص في البول قائمًا - من طريق أخرى عن زيد، قال: رأيتُ عمر بال قائمًا. وزيد هذا هو ابن وهب الكوفي، وهو ثقة كسائر من دونه؛ فالإسناد صحيح أيضًا. ولعل هذا وقع من عمر - رضي الله عنه - بعد قوله المتقدِّم، وبعد ما تبيَّن له أنه لا شيء في البول قائمًا». اهـ.
وأما أثر عبد الله بن دينار الذي أشار إليه الشيخ الألبانيُّ، فقد أخرجه البيهقي - كما ذكر- (1/102)، وقال: «وهذا يضعِّف حديث عبدالكريم، وقد روينا البول قائمًا عن عمر، وعلي، وسهل بن سعد، وأنس بن مالك». اهـ.
(11) في (ب): «رسول الله ?».
(12) أخرجه ابن ماجه (1/112 رقم307) كتاب الطهارة، باب في البول قاعدًا، والترمذي (1/17 رقم12) كتاب الطهارة، باب ما جاء في النهي عن البول قائمًا، والنسائي (1/26) كتاب الطهارة، باب البول في البيت جالسًا، وأبو يعلى (8/223-224 رقم4790). جميعهم: من طريق شَريك، عن المقدام بن شُرَيْح، عن أبيه، عن عائشة، قالت: من حدَّثكم أنَّ رسول الله ? كان يبولُ قائمًا، فلا تصدِّقوه؛ ما كان يبولُ إلا قاعدًا.
وفي سنده: شَرِيك، وهو ابن عبدالله النخعي القاضي، سيئ الحفظ، لكنَّه لم ينفرد به، فقد تابعه سفيان الثوري كما أخرجه أحمد (6/136، 192، 213)، وأبو عوانة (1/198)، والحاكم (1/181)، وعنه البيهقي (1/101).
قال الترمذي عقبه: حديث عائشة أحسن شيء في الباب وأصح.اهـ.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
وصحَّحه الشيخ الألباني في "الصحيحة" (201).(1/386)
إذا أُمِنَ مما يؤدِّي إليه: مِنْ تطايُرِ البولِ، وانكشافِ العَوْرة؛ مستدلِّين بحديثِ حذيفةَ هذا، منفصلين عن حديثِ عمر؛ فإنَّ في إسناده عبدَ الكريمِ بنَ أبي المُخَارِقِ، وهو ضعيفٌ، وعلى تقديرِ تسليمِ صحَّته (1) : فكأن (2) ذلك لما يؤدِّي (3) إليهِ منَ التطايرِ =(1/525)=@ والانكشاف، وعن حديث عائشة رضي الله عنها: بأنها (4) أخبرَتْ عمَّا أدركته (5) من النبي ?، ولا شكَّ في أنَّ بوله قاعدًا كان أكثَرَ أحواله، ولا يلزمُ من قولها تكذيبُ حذيفة؛ إذْ هو العَالِمُ العَلَمُ (6) المرجوعُ إليه في قبولِ (7) الأحاديثِ بإجماعِ الصحابة.
وقد انفصَلَ المانعون عن حديث حذيفة: باحتمالِ أنْ يكون فَعَلَهُ لِجُرْحٍ بِمَأْبِضِهِ (8) ،، أو لنجاسةِ السُّبَاطَة، فلم (9) يمكنْهُ القعودُ فيها،، أو لأنَّه كان بين الناسِ ولم يمكنْهُ التباعُدُ،، أو (10) لأنَّ البولَ حَفَزَهُ، فبال قائمًا؛ لئلا يخرُجَ منه حَدَثٌ، كما قد (11) جاء عنه أنه قال للذي كان معه: «تَنَحَّ عَنِّي؛ فَإِنَّ كُلَّ بَائِلِةٍ تُفِيخُ» (12) .
والجواب: أنَّ هذه الأوجُهَ – وإن كانت محتملةً –، إلا أنَّ حذيفة - رضي الله عنه - كان مشاهدًا لحالتِهِ كلِّها، واستدَلَّ بهذا الفعلِ على جوازِ البولِ قائمًا، وعلى تركِ التعمُّقِ في التحرُّزِ من النجاسة، فلو كان هناك شيءٌ مِنْ تلك الاحتمالاتِ، لَمَا استدَلَّ به، ولَنَقَلَ ذلك المعنَى، والله أعلم.
وكونُ النبيِّ ? لم يتوارَ على خلافِ عادته (13) ؛ لأنَّ البولَ حَفَزه، والله أعلم (14) .
ومع ذلك: فارتادَ لبولِهِ السُّبَاطَةَ خلفَ الحائطِ، ويقال: إنَّه استقَبَل الجدار، واستَتَرَ من المارِّين (15) خلفه بِحُذَيْفة؛ ولذلك دعاه، فقامَ عند عقبه حتى فَرَغَ، والله تعالى أعلم (16) . =(1/526)=@ &(1/387)&$
__________
(1) قوله: «تسليم صحته» في (أ): «صحة تسليمه».
(2) في (غ): «مكان».
(3) في (أ) و (غ): «ودّى»، وفي (ب): " أدى "، والمثبت من (ح).
(4) في غير (أ): «فإنها».
(5) في (أ): «رأته».
(6) قوله: «العَلَمُ» ليس في (غ).
(7) في (غ): «قول».
(8) أخرجه الحاكم (1/182)، والبيهقي (1/101) من طريق يحيى بن عبدالله الهمداني، عن حماد بن غسان الجعفي، عن مَعْن بن عيسى، عن مالك بن أنس، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة؛ أن النبيَّ ? بال قائمًا مَنْ جُرْحٍ كان بمأبضه.
قال الحاكم: هذا حديثٌ صحيحٌ تفرَّد به حماد بن غسان، ورواته كلُّهم ثقات. فتعقَّبه الذهبي بقوله: قلت: حماد ضعفه الدارقطني.
وقال البيهقي: لا يثبت.
ونقل الحافظ في "الفتح" (1/330) تضعيف الدارقطني، والبيهقي، وأقرهما.
وضعفه الشيخ الألباني في "الإرواء" (58).
(9) في (ب): «ولم».
(10) قوله: «أو» من (أ) فقط.
(11) قوله: " قد " سقط من (ح).
(12) في (أ) و(ح): «تفخُّ»، والمثبت من (ب) وفي (غ) لم تتضح وجاء في حاشيتها: «ذكره ابن الأثير في "النهاية" له، مادة الباء، وعزاه إلى أبي موسى للأصبهاني. وقوله: تفيخ، بالخاء المعجمة، أي: أحدث بالريح من: أفاخ».اهـ.
وقال ابن الأثير في "النهاية" (1/163): «يعني: أن من يبولُ يخرُجُ منه الريحُ، وأَنَّثَ البائل ذهابًا إلى النفس».اهـ. وقد عزا ابن الأثير هذا الخبر إلى أبي موسى الأصبهاني.
(13) في (ح): «مادته».
(14) في (ح): «الله والله أعلم».
(15) في (ح): «الخارجين».
(16) تعليق فقهي ونيس.(1/387)
( 12 ) بَابُ الْمَسْحِ عَلَى الخُفَّيْنِ، وَالتَّوْقِيتِ فِيهِ
203 - عَنْ هَمَّامٍ (1) ، قَالَ: بَالَ جَرِيرٌ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، فَقِيلَ: أَتَفْعَلُ هَاذَا ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ ? بَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ.
قَالَ إبْرَاهِيمُ: كَانَ يُعْجِبُهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ؛ لِأَنَّ إِسْلَامَ جَرِيرٍ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ.
ومن باب المسح على الخفين والتوقيت فيه
أنكَرَ (2) طائفةٌ (3) من أهلِ البدعِ: المَسْحَ على الخُفَّيْنِ في السَّفَر والحَضَر، كالخوارج (4) ؛ لأنَّهم لم يجدوه في القرآن، على أَصْلهم في ردِّ (5) أخبار الآحاد، وأنكرتْهُ الشيعةُ (6) ؛ لما رُوِيَ عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنه كان لا يَمْسَحُ (7) .
وأنكره (8) غيرُ هؤلاءِ؛ زاعمين أنَّ التمسُّكَ بآيةِ الوضوءِ (9) أولى؛ إمَّا لأنها ناسخةٌ لما تقدَّمها من جواز المَسْحِ الثابتِ بالسنة (10) ، وإما لأنَّها أرجحُ من أخبارِ الآحاد (11) .
وأما جمهورُ العلماء مِنَ السلفِ وأئمَّةِ الفتوَى: فالمسحُ عندهم جائز؛ قال (12) الحسن: حدَّثني سبعونَ من أصحابِ رسول الله ? أنه مسَحَ على الخُفَّيْنِ (13) ، ثم إنه قد ورَدَ من الأحاديثِ الصحيحةِ والمشهورةِ (14) ما يفيدُ مجموعُهَا القَطْعَ بأنَّ النبيَّ ? مسح على الخفين.
وقد روي عن مالك إنكارُ المسح على الخفين (15) (16) :
وليس ذلك بصحيحٍ مطلقًا، وإنما الذي صحَّ عنه مِنْ رواية ابن وهب في هذا؛ أنه قال: لا أَمْسَحُ في حضرٍ ولا سفر، نقلها (17) أبو محمد بن أبي زَيْدٍ في "نوادره"، وغيرُهُ؛ &(1/388)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (1/494رقم387) في الصلاة، باب الصلاة في الخِفَاف، ومسلم (1/227،228رقم272-72) في الطهارة، باب المسح على الخُفَّيْن.
(2) في (غ): «أنكرت».
(3) في (أ): «طوائف».
(4) تعليق فقهي ونيس.
(5) في (ب): «على أصلهم وردهم».
(6) انظر: إنكار الخوارج والشيعة والروافض للمسح على الخفين في "مقالات الإسلاميين" (1/470)، و"منهاج السنة" (1/26، 33)، و"السنة" لمحمد بن نصر المروزي (ص؟؟).
(7) أخرجه ابن أبي شيبة (1/169 رقم1946) كتاب الطهارة، باب من كان لا يرى المسح، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه، قال: قال عليٌّ: سبَقَ الكتابُ الخفين.
وسنده ضعيف؛ لانقطاعه؛ محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، والد جعفر، لم يدرك جده عليًّا - رضي الله عنه - .
وقد قال ابن المديني عن حاتم: «روى عن جعفر، عن أبيه أحاديثَ مراسيل». اهـ.
والأثر قال عنه البيهقي(1/272): «لم يُرْوَ ذلك عنه بإسنادٍ موصولٍ يثبت مثله».اهـ.
(8) في (ح): «وأنكر».
(9) المراد بـ«آية الوضوء» آية سورة المائدة، رقم 6.
(10) قوله: «الثابت بالسنة» ليس في (غ).
(11) تعليق فقهي ونيس.
(12) في (أ) و (غ): «وقال».
(13) أخرجه ابن المنذر في "الأوسط" (1/433).
(14) في (غ): «الصحيحة المشهورة».
(15) نقل ابن رشد وتلميذه القاضي عياض وغيرهما من أئمة المالكية، أن: الإمام مالكًا قد روي عنه في المسح على الخفين ثلاثة أقوال، قال ابن رشد: «كان مالك في أولز زنانه يرى المسح في السفر والحضر، ثم رجع فقال: يمسح المسافر ولا يمسح المقيم، ثم قال: لا يمسح المسافر ولا المقيم»، ثم نقلا أن الذي مات عليه هو قوله بالمسح للمسافر والمقيم، ورجوعه عما كان عليه، وهذا ما يفهم أيضا من كلام الشارح رحمه الله. «البيان والتحصيل» (1/83 – 84)، و«الإكمال».
هذا، وقد جاءت عنه إجازة المسح للمسافر دون المقيم: في «المدَّونة» (1/41)، وذكر شيخ الإسلام في منهاج السنة (4/151) أ ن هذا هو المشهور عنه، كما روى عنه عَدَمَ المسح في السفر والحضر: ابن وهب، روى عنه رجوعه عن ذلك وأن آخر أقواله: القول بالمسح في السفر الحضر: روى عنه ذلك - غير ابن نافع.
(16) تعليق فقهي ونيس.
(17) في (ب): «نقله».(1/388)
فظاهرُ هذا (1) : أنه اتقاه في نفسه.
وقد روى ابنُ نافع في "المبسوط" (2) عن مالك ما يزيلُ كلَّ إشكال؛ أنَّه قال له عند موته: «المَسْحُ على الخُفَّيْنِ في الحضر والسفر صحيحٌ، يقينٌ (3) ، ثابتٌ، لا شكَّ فيه، إلا أنِّي كنتُ آخُذُ في خاصَّة نفسي بالطُّهُور، =(1/527)=@ ولا أرى من مَسَحَ مقصِّرًا فيما يجبُ عليه» (4) وعلى هذا حمَلَ (5) أحمدُ بنُ حنبل قولَ مالك، قال (6) : كما روي عن عمر أنه أَمَرَهُمْ أن يَمْسَحوا أخفافهم (7) ، وخلَعَ هو وتوضَّأ، وقال: «حُبِّبَ إِلَيَّ الْوُضُوءُ» (8) ، ونحوه عن أبي أيوب (9) .
قال الشيخ رحمه الله: وعلى هذا يُحْمَلُ ما روي عن عليٍّ - رضي الله عنه - .
قال أحمدُ بنُ حنبل: «فمن ترَكَ ذلك على نحو ما تركه (10) عُمَرُ، وأبو أيوبَ، ومالك، لم أنكرْهُ عليه، وصلَّينا خلفه ولم نَعِبْهُ (11) ، إلا أن (12) يَتْرُكَ ذلك ولا يراه؛ كما صَنَعَ أهلُ البِدَعِ، فلا يصلَّى (13) خلفه» (14) (15) .
فأما مَنْ أنكر المَسْحَ في الحضر - وهي أيضًا رواية عن مالك - فلأنَّ أكثر أحاديثِ المسح إنما هي في السفر، والصحيحُ جوازُ المسحِ فيه؛ إذْ هو ثابتٌ عن النبي ? مِنْ قوله وفعله، وحديث السُّبَاطَةِ مما يدُّل عليه؛ حيثُ كانتِ السُّبَاطَةُ خلفَ الحائطِ، بل قد روي في ذلك الحديثُ عن حذيفة - رضي الله عنه - ، قال: كُنْتَ مَعَ النبي ? بالمدينةِ... وذكَرَ الحديث (16) .
وقد روى أبو داود، عن بلال - رضي الله عنه - ؛ أن النبي ? دخل الأسوافَ (17) لحاجتِهِ، ثم خرَجَ، فتوضَّأ (18) ، ومسَحَ على خفيه (19) . والأَسْوَافُ(2): موضعٌ بالمدينة، وسيأتي حديث (20) عليٍّ - رضي الله عنه - في توقيتِ المسافرِ والمقيم (21) .
وقولُ النخعي (22) : «كَانَ يُعْجِبُهُم»؛ يعني: أصحابَ عبد الله (23) ، وقد جاء في =(1/528)=@ روايةٍ مفسَّرًا هكذا.
وإنما أعجبهم ذلك (24) ؛ لأنَّه إنما رأى النبيَّ ? بعد أن أسلَمَ، وأسلَمَ بعد نزولِ المائدة، فمسَحَ النبيُّ ? بعد نزولِ المائدة (25) ، فلا تكونُ آيةُ الوضوءِ التي في المائدةِ ناسخةً للسُّنَّةِ الثابتةِ في ذلك (26) ، ولا مرجَّحَةً عليها؛ خلافًا لمن ذهَبَ إلى ذلك (27) . &(1/389)&$
__________
(1) في (أ): «وظاهره»، وفي (غ): «وظاهر».
(2) قوله: «نافع في المبسوط عن» سقط من (غ).
(3) قوله: «يقين» ليس في (غ).
(4) قال ابن رشد: بعد أن ذكر ما روي عن مالك في هذه المسألة-: «والصحيح من مذهب مالك – رحمه الله – الذي عليه أصحابه: إجازة المسح في السفر الحضر؛ فهو مذهبه في "موطَّئه"، فيه، فقلنا له: يا أبا عبد الله، قد أقمتَ بُرْهَةً من عمنرك ترى المسح على الخفين، وتفني به، ثم رجعتَ عنه، فما الذي ترى في ذلك الآن، ونثبت عليه؟ فقال: يا بن نافع...» ثم ذكر ما نقله عن الشارح، قال: «وأرى المسح قويًّا، والصلاة تامَّة»، قال ابن رشد: «ومثل هذا في نوازل أصبغ من قوله وروايته عن ابن وهب». ونقل مثله القاضي عياض عن ابن نافع في كتابه «المبسوط». انظر: «البيان والتحصيل» (1/83 – 84)، و«الإكمال» ().
(5) في (ب): «حمله».
(6) قوله: «قال» ليس في (غ).
(7) في (أ): «خفافهم».
(8) أخرجه ابن المنذر في "الأوسط" (1/439).
(9) أخرجه ابن أبي شيبة (1/161 رقم1854) كتاب الطهارة، باب في المسح على الخفين، وابن المنذر في "الأوسط" (1/439)، والبيهقي (1/293)، جميعهم: من طريق منصور، عن ابن سِيرِينَ، عن أفلح مولى أبي أيوب، عن أبي أيوب؛ أنه كان يأمر بالمَسْح على الخفين، وكان هو يغسلُ قدمَيْهِ، فقيل له في ذلك: كيف تأمُرُ بالمسح وأنتَ تَغْسِلُ؟ فقال: بئس؛ مالي إنْ كان مهنأه لكم، مأثمه عليَّ، قد رأيتُ رسول الله ? يفعله ويأمُرُ به، ولكنْ حُبِّبَ إليَّ الوضوء.
وصحَّحه الحافظ في "الفتح" (1/305).
(10) في (ب): «ترك».
(11) في (أ): «يعبه»، وفي (غ) أعجم أولها باثنين من تحت وواحدة فوقية.
(12) في (أ): «إلى أن».
(13) في (غ): «نصلي».
(14) نقل القاضي كلام الإمام أحمد مختصراً كما فعل الشارح، ومن قبلهما ذكره عنه أبو عمر بن عبد البر بأطول منهما وأوضح، قال: وذكَرَ الأثرمُ، قال: سمعتُ أحمد بن حنبل، وقيل: له: ما تقولُ فيما رُوِيَ عن أبي هريرة، وأبي أيوب، وعائشة في إنكار المسح على الخفين؟ فقال: إنَّما روي عن أبي أيوب أنه قال: «حُبِّبَ إليَّ الغَسْل»، فإنْ ذهب ذاهبٌ إلى قول أبي أيوب الأنصاري: «حبِّب إليَّ الغَسْل»، لم أعبه، قال: إلا أن يترك رجلٌ المسحَ ولا يراه، كما صنَعَ أهلُ البدع؛ فهذا لا يصلَّي خلفه، ثم قال: نحن لا نذهبُ إلىِ أبي أيوب، ونرى المسحَ أفضَل، ثم قال: ومن تأوَّل تأويلًا سائغًا لا يخالفُ فيه السلفَ، صلَّينا خلفه، وإنْ كنا نرى غيره ثم قال: لو أنَّ رجلًا لم يَرَ الوضوء من الدمِ ونحنُ نراه، كنَّا لا نصلِّي خلفه، إذًا كنا لا نصلِّي خلف سعيد بن المسيِّب ومالكٍ ومَنْ سهَّل في الوضوء من الدم.
قال أبو عمر: لا أعلم أحدًا من الصحابة جاء إنكارُ المسحِ على الخفين ممن لا يختلفُ عليه فيه إلا عائشة، وكذلك لا أعلمُ أحدًا من فقهاء المسلمين رُوِيَ عنه إنكارُ ذلك إلا مالكًا، والرواياتُ الصحاح عنه بخلاف ذلك، وموطَّؤه يشهد للمسح على الخفين في الحضر والسفر؛ وعلى ذلك جميعُ أصحابه وجماعة أهل السنة وإنْ كان من أصحابنا من يتسحبُّ الغَسْلَ ويفضِّله على المسح من غير إنكارٍ لمسح؛ على معنى ما روى عن أبي أيوب الأنصاري؛ أنه قال أحبُّ إليَّ الغَسْل. «الاستذكار» (1/218)، و«الإكمال»
(15) تعليق فقهي ونيس.
(16) هو عند مسلم (1/228 رقم273) كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين، دون قوله: «بالمدينة».
قال الحافظ في "الفتح" (1/328): «وزاد عيسى بن يونس فيه عن الأعمش؛ أنَّ ذلك كان بالمدينة. أخرجه ابن عبدالبر في "التمهيد" (11/145) بإسناد صحيح.اهـ.
(17) في (ح) و (غ) تصحَّفت إلى: " الأسواق "، قال ابن الأثير في "النهاية" (2/422): «هو اسم لحرمِ المدينةِ الذي حرَّمه رسولُ الله?. وقد تكرَّر في الحديث». وكذا في "لسان العرب" (9/166) مادة «سوف».
(18) في (غ): «يتوضأ».
(19) لم يخرجه أبو داود، وإنما أخرجه النسائي (1/81-82) كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين، وابن خزيمة (185)، والحاكم (1/151)، وعنه البيهقي (1/274-275).
جميعهم: من طرقٍ عن عبدالله بن نافع، عن داود بن قيس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أسامة بن زيد، قال: دخَلَ رسولُ الله ? وبلالٌ الأسوافَ، فذهَبَ لحاجته، ثم خرَجَ، قال أسامة: فسألتُ بلالاً: ما صنع؟ فقال بلال: ذهَبَ النبيُّ ? لحاجته، ثم توضَّأ، فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، ومسح على الخفين، ثم صلَّى.
وهذا سند رجاله ثقات، إلا أن عبدالله بن نافع في حفظه لين، لكنَّه لم ينفردْ به؛ فقد تابعه أبو نعيم الفضل بن دُكَيْن، عند الحاكم (1/151).
قال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم؛ فقد احتج بداود بن قيس.
وقال ابن خزيمة: الأسواف: حائط بالمدينة.
(20) في (أ): «في حديث».
(21) هو الحديث الثاني بعد هذا الحديث.
(22) تعليق فقهي ونيس.
(23) لعله يعني: عبدالله بن مسعود.
(24) قوله: «ذلك» ليس في (ب).
(25) ذكر ابن عبد البر بسنده، حديث جرير، أنَّه بال ثم توضَّأ، ومسح على الخفين، فقيل له في ذلك؟ فقال: أما ينبغي أن أمسَحَ وقد رأيتُ رسول الله ? يمسح؟! قالوا: إنما كان ذلك قبل نزول المائدة، قال: ما أسلمتُ إلا بعد نزول المائدة – وقد أخرج هذه الزيادة الترمذي (1/157)- قال أبو عمر: قال أهل السير: كان إسلام جرير في آخر سنة عشر، وقيل: في ألو سنة إحدى عشرة، وفيها مات رسولُ الله ?، «الاستذكار» (1/217)، وانظر: ا "البيان والتحصيل" (1/83).
(26) قوله: «الثابتة في ذلك» ليس في (ح).
(27) تعليق فقهي ونيس.(1/389)
204 - وَعَنِ الْمُغِيرَةِ (1) ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ? ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي مَسِيرٍ، فَقَالَ لِي: «أَمَعَكَ مَاءٌ ؟»، قُلْتُ: نَعَمْ، فَنَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَمَشَى حَتَّى تَوَارَى فِي سَوَادِ اللَّيْلِ، ثُمَّ جَاءَ، فَأَفْرَغْتُ عَلَيْهِ مِنَ الإِدَاوَةِ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ - وَفِي رِوَايَةٍ: شَامِيَّةٌ ضَيِّقَةُ الْكُمَّيْنِ - فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُخْرِجَ ذِرَاعَيْهِ مِنْهَا، حَتَّى أَخْرَجَهُمَا مِنْ أَسْفَلِ الْجُبَّةِ، فَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ أَهْوَيْتُ لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ، فَقَالَ: "دَعْهُمَا؛ فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ"، وَمَسَحَ عَلَيْهِمَا.
وقوله في حديث المغيرة: «ذَاتَ لَيْلَةٍ»، أى: ليلةٍ من الليالي، وهي منصوبة (2) على الظرف (3) ؛ كما تقول: ذاتَ مَرةَّ، أى: مرةً من المرات، ويقال للمذكَّر: ذا صباحٍ، وذا مساءٍ؛ كما قال الشاعر (4) (5) :
عَزَمْتُ عَلَى إِقَامَةِ ذِي صَبَاحٍ لِأَمْرٍ مَّا يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ وكان هذا المسيرُ في غزوةِ تَبُوك، كما في "الموطأ" (6) .
و«المَسِير»: السير، وقد يكونُ: الطريقَ الذي يسار فيه (7) .
و«تَوَارَى» (8) : غاب.
و«الإِدَاوَة»: الإناءُ من الجلد، وفي طريق آخر: «بِمِطْهَرَة».
وفيه: حجةٌ للجماعةِ في جواز صَبِّ الماءِ على المتوضِّئ، وقد رُوِيَ عن عمر وابنه – رضي الله عنهما – كراهةُ ذلك، وقد روي عنهما خلافُ ذلك؛ فروي عن عمر: «أنَّ ابنَ عبَّاسٍ صَبَّ على يَدَيْهِ الوَضُوءَ» (9) ، وقال ابن عمر: «لا أُبَالِي، أَعَانَنِي رَجُلٌ عَلَى وُضُوئِي ورُكُوعي وسُجُودي» (10) ، وهو الصحيح (11) .
وفيه: دليلٌ على جوازِ الاقتصار على فروضِ الوضوء دون السنن، إذا =(1/529)=@ أرهقَتْ (12) إلى ذلك ضرورةٌ، ويحتمل: أن يكونَ النبيُّ ? فعلها، حديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - : أنه ? اقتصَرَ على الفروض (13) ، وقد قدَّمنا قوله للأعرابيِّ: «تَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللهُ» (14) (15) .
وفيه: دليلٌ على أنَّ يَسِيرَ التفريقِ في الطهارة لا يُفْسِدها، قال أبو محمَّدٍ عبدُ الوَهَّابِ (16) (17) : «لا يُخْتَلفُ أنَّ التفريقَ غيرَ المتفاحِشِ لا يُفْسِدُ
الوضوءَ، واختُلِفَ في الكثيرِ المتفاحِشِ:
فروي عن ابن وَهْب (18) ؛ أنه يُفْسِده في العَمْدِ والسهو، وهو أحدُ قولي الشافعيِّ، وحُكِيَ عن ابن عبد الحكم (19) ؛ أنه لا يُفْسِده في الوجهَيْن؛ وبه قال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ في قولٍ آخر (20) ، وعند ابن القاسم (21) : أنه يُفْسِده مع العمد أو التفريط، ولا يُفْسِده مع السهو» (22) .
وقال (23) أبو الفضلِ عياضٌ (24) : «إنَّ مشهورَ المذهبِ: أنَّ الموالاةَ سنةٌ» (25) وهذا هو الصحيحُ؛ بناءً على ما تقدَّم من أن الفرائض محصورةٌ &(1/390)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (10/268، 269رقم 5799) في اللباس، باب لبس جبة الصوف في الغزو، وذكر أطرافه في (1/285، 286رقم182) في الوضوء، باب الرجل يوضِّئ صاحبه، ومسلم (1/230رقم 274-79) في الطهارة، باب المسح على الخفين.
(2) في (ب): «وهو منصوب».
(3) «في (ح): «على الظرفيَّة».
(4) قوله: «الشاعر» مكانه بياض في (أ)، وفي (ح): «شعر».
(5) البيت من الوافر، وهو لأنس بن مدركة الخَثْعمي في "الحيوان" (3/81)، و"المفصل" (ص124)، و"خزانة الأدب" (3/78)، ولرجل من خثعم في "شرح أبيات سيبويه" (1/388)، ولبعض الخثعميين في "همع الهوامع" "الكتاب" (1/277)، و"المقتضب" (4/345)، و"البيان والتبيين" (1/387)، (1/150)، و"مجمع الأمثال" (2/196)، و"المستقصى في أمثال العرب" (2/240)ن والبيت من الأمثال الشعرية كما في كتب الأمثال المذكورة.
ومعنى البيت:
والشاهد فيه:
(6) في الطهارة، باب ما جاء في المسح على الخفين (1/35 رقم41)، وانظر: "التمهيد"(11/119)، و"الاستذكار" (2/223). وأخرجه البخاري (8/125 رقم 4421) في المغازي باب رقم (81).
(7) إن كان بمعنى السير، فهو مصدر ميمي، وإن كان بمعنى الطريق، فهو اسم مكان. انظر:
(8) في (أ): «وتوارى».
(9) سيأتي في كتاب الطلاق، باب إيلاءِ الرجل من نسائه، وتأديبهنَّ باعتزالهنَّ مدة.
(10) عزاه الحافظ في "الفتح" (1/286) إلى أبي جعفر الطبري.
(11) تعليق فقهي ونيس.
(12) في (غ): «أزهقت».
(13) تقدم (ص ).
(14) تقدَّم الحديث وتخريجه في كتاب الطهارة، باب في صفة الوضوء.
(15) تعليق فقهي ونيس.
(16) هو القاضي عبد الوهاب المالكي.
(17) تعليق فقهي ونيس.
(18) تعليق فقهي ونيس.
(19) تعليق فقهي ونيس.
(20) في (أ) تصحفت إلى: «أقر».
(21) تعليق فقهي ونيس.
(22) انظر كلام القاضي عبد الوهاب في : «»
(23) في (غ): «قال» بلا واو.
(24) تعليق فقهي ونيس.
(25) انظر «الإكمال» ().(1/390)
في الآية، وليس في الآية ما يدلُّ على الموالاة، وإنما أُخِذّتْ من فعلِ النبيِّ ?، وإذْ لم يرو (1) عنه قطُّ أنه فرَّق تفريقًا متفاحشًا (2) .
واختُلِفَ في الفرقِ بين اليسيرِ والكثير (3) ؛ فقيل: ذلك يرجعُ إلى الاجتهاد؛ إذْ ليس (4) فيه حَدٌّ، وقيل: جَفَافُ الوضوءِ هو الكثير (5) .
وفيه: دليلٌ على أنَّ الصُّوف لا يَنْجُسُ بالموت؛ لأنَّ الجُبَّةَ كانتْ من عملِ الشام، والشامُ إذْ ذاك بلادُ الكُفْر والشرك (6) من مجوسٍ (7) وغيرهم، وأكثَرُ مآكلهم ميتةٌ، ولم يَسْأَلْ عن ذلك ? ولا توقَّف فيه (8) .
وفيه: دليلٌ على لباسِ الضيق والتشميرِ للأسفار.
205 - وَعَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ (9) ، قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ فَقَالَتْ: عَلَيْكَ بِابْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَسَلْهُ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ?، فَسَأَلْنَاهُ؟ فَقَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللهِ ? ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ (10) .
وقوله: «دَعْهُمَا (11) ؛ فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا وَهُمَا طَاهِرَتَانِ»، حمل الجمهورُ هذه =(1/530)=@ الطهارةَ على العُرْفية، وهي طهارةُ الحَدَث، وخَصُّوها بالماءِ؛ لأنَّه الأصلُ، والطهارةُ به هي الغالبة (12) (13) .
ورأى أَصْبَغُ (14) : أنَّ طهارةَ التيمُّم تدخُلُ تحت مطلقِ قوله: «وَهُمَا طَاهِرَتَانِ»، وقيل عنه: إنه بناه على أن التيمُّم يرفع الحَدَث.
وذهب داود: (15) إلى أن المراد بالطهارةِ ها (16) هنا: هي الطهارةُ من النَّجَسِ فقط، فإذا كانتْ رجلاه طاهرتَيْنِ من النجاسةِ، جاز المَسْحُ على الخُفَّيْنِ.
وسبَبُ الخلافِ: الاشتراكُ في اسمِ الطهارة (17) .
( 13 ) باب المسح على الناصية والعمامة والخمار
206 - عَنِ الْمُغِيرَةِ (18) ، قَالَ: تَخَلَّفَ رَسُولُ اللهِ ? وَتَخَلَّفْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ، قَالَ: «أَمَعَكَ مَاءٌ؟»، فَأَتَيْتُهُ بِمِطْهَرَةٍ، فَغَسَلَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ، ثُمَّ ذَهَبَ يَحْسِرُ عَنْ ذِرَاعَيْهِ فَضَاقَ كُمُّ الْجُبَّةِ، فَأَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ تَحْتِ الْجُبَّةِ، وَأَلْقَى الْجُبَّةَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، وَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ، وَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ، وَعَلَى الْعِمَامَةِ، وَعَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ رَكِبَ وَرَكِبْتُ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَوْمِ وَقَدْ قَامُوا فِي الصَّلَاةِ، يُصَلِّي بِهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَقَدْ رَكَعَ بِهِمْ رَكْعَةً، فَلَمَّا أَحَسَّ بِالنَّبِيِّ ?، ذَهَبَ يَتَأَخَّرُ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ، فَصَلَّى بِهِمْ، فَلَمَّا سَلَّمَ، قَامَ النَّبِيُّ ? وَقُمْتُ، فَرَكَعْنَا الرَّكْعَةَ الَّتِي سَبَقَتْنَا.
وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَفْزَعَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَكْثَرُوا التَّسْبِيحَ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ ? صَلَاتَهُ، أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ: «أَحْسَنْتُمْ»، «أَوْ قَدْ أَصَبْتُمْ»؛ يَغْبِطُهُمْ أَنْ صَلَّوُا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا.
وَمِنْ بَابِ المَسْحِ عَلَى النَّاصِيَةِ وَالْعِمَامَةِ وَالْخِمَارِ
وقوله في الرواية الأخرى: «وَمَسَحَ بِنَاصِيتَهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ»؛ تمسَّك أبوحنيفة (19) ، وأشهَبُ (20) مِنْ أصحابنا، بهذا الحديثِ: على إجزاءِ مَسْحِ الناصيةِ فقطْ، ولا حُجَّةَ لهما فيه؛ فإنَّ النبيَّ ? لم يقتصرْ عليه، وأنه مسَحَ على الناصيةِ وعلى =(1/532)=@ كلَّ العمامة.
واحتجَّ به الشافعيُّ (21) وأحمدُ بنُ حنبل (22) : على جوازِ المَسْحِ على العمامة، وأنه &(1/392)&$
__________
(1) في (أ): «إذ لم يرو» بلا واو، وفي (ب): «وإذ لم ترو».
(2) تعليق فقهي ونيس.
(3) في (أ): " الكثير واليسير ".
(4) قوله : «إذ ليس» في (ح): «وليس».
(5) تعليق فقهي ونيس.
(6) في (أ): «بلاد الكفر والشرك».
(7) في (أ): «مجوش».
(8) تعليق فقهي ونيس.
(9) أخرجه مسلم (1/232رقم276) في الطهارة، باب التوقيتِ في المسحِ على الخفين. وانظر شرحه في الباب الذي بعد هذا.
(10) جاء هذا الحديث في "التلخيص" آخر الباب السابق، ولم يتكلَّم الشارح عليه هناك، وأخَّر شرحه له إلى هذا الموضع، فتبعناه في ذلك، علمًا بأن "متن التلخيص" كاملا في هذه الطبعة من وضعنا، وليس من وضع الشارح رحمه الله، وقد سبق بيان ذلك في المقدمة، فارجع إليها إن شئت.
(11) في (أ): «دعها».
(12) ولأدلة أخرى أن النبي ? توضَّأ ثم مسح على خفيه،
(13) تعليق فقهي ونيس.
(14) تعليق فقهي ونيس.
(15) تعليق فقهي ونيس.
(16) قوله: " ها " سقط من (ب)، و (ح) و (غ).
(17) تعليق فقهي ونيس.
(18) أخرجه مسلم (1/230رقم274-81) في الطهارة، باب المسح على الناصية والعمامة، والبخاري (1/285-286) في الوضوء، باب الرجل يوضِّئ صاحبه.
(19) في (ح): «تمسك به أبو حنيفة».
(20) تعليق فقهي ونيس.
(21) تعليق فقهي ونيس.
(22) تعليق فقهي ونيس.(1/391)
يجزئ، ولا حجةَ لهما فيه؛ لأنه ? لم يقتصرْ عليها، بل مسَحَ معها (1) الناصية. واشترَطَ بعضُ مَنْ أجاز المسحَ على العمامةِ أن يكونَ لُبْسُهَا على طهارة كالخُفَّيْنِ، وزاد بعضهم: أن تكونَ (2) بِحَنَكٍ؛ ليكون في نزعها مشقَّة.
وذهب مالكٌ وجُلُّ أصحابه: إلى أنَّ مسحَ الرأسِ على حائلٍ لا يجوز؛ تمسُّكًا بظاهر قوله تعالى: {امسحوا (3) برؤساكم} (4) ، وهذا يقتضي المباشرةَ؛ كقوله في التيمُّم: {فامسحوا (5) بوجوهكم} (6) ، إلا أن تدعو إلى ذلك ضرورةُ مَرَضٍ أو خوفٍ على النفس (7) ؛ فحينئذٍ: يجوزُ المسحُ على الحائل (8) ، كالحالِ (9) في الجبائرِ والعصائبِ.
وحمَلَ بعضُ أصحابنا هذا الحديثَ: على أنه ? كان به مَرَضٌ منعه من كَشْفِ رأسِهِ كلِّه، أو توقَّعَهُ توقُّعًا صحيحًا، وهذه طريقةٌ حسنةٌ؛ فإنه تمسَّك (10) بظاهر الكتاب، وتأوَّل هذه الواقعةَ المعيَّنة (11) ، ويتأيَّد تأويلُهُ (12) بأمرَيْن:
أحدهما: أنَّ هذه الواقعةَ كانتْ في السفر، وهو مَظِنَّةُ الأعذارِ والأمراضِ.
والثاني: أنه مَسَحَ من رأسه (13) الموضعَ الذي لم يألمه (14) ، أو لم يتوقَّع فيه شيئًا.
ومَسْحُهُ ? جميعَ العمامةِ: دليلٌ لمالك على وجوب مَسْحِ عموم الرأس؛ إذْ قد نزَّل العمامةَ عند الضرورةِ منزلةَ الرأسِ، فمسَحَ جميعَهَا، كما فعَلَ =(1/533)=@ في الخُفَّيْنِ، والله تعالى أعلم.
ومبادرةُ أصحاب النبيِّ ? إلى تقديمِ عبدالرحمن – عند تأخُّر (15) النبيِّ ? عن الوقت الذي كان يُوقِعُ الصلاةَ (16) فيه (17) –: دليلٌ على محافظتهم على أوَّلِ الوقت (18) ، وبه احتجَّ الشافعيُّ وغيره على هذا، ويَحْتملُ: أن يكونوا يئسوا مِنْ وصوله إليهم في الوقتِ؛ بتقديرهم (19) أنه أخَذَ في طريق أخرى (20) ، أو أنه نَزَلَ (21) ، أَلَا تَرَى فَزَعَهُمْ حين أدركَهُمُ النبيُّ ? (22) يصلُّون؟! فدل &(1/393)&$
__________
(1) في (غ): «معهما».
(2) في (غ): «يكون».
(3) في (أ): «فامسحوا»، وهو وَهَمٌ.
(4) سورة المائدة، الآية: 6.
(5) في (ب) و(ح) و(غ): «وامسحوا»، وهو وَهَمٌ.
(6) سورة النساء، الآية: 43.
(7) قوله: " على النفس " سقط من (أ).
(8) في (ح): «الجبائر».
(9) في (أ): «كالحائل».
(10) في (ح): «تأول».
(11) تعليق فقهي ونيس.
(12) قوله: «ويتأيد تأويله» سقط من (ح).
(13) قوله: «من رأسه» ليس في (ح).
(14) قوله: «لم يألمه» لم تتضح في (غ).
(15) في (غ): «تأخير»
(16) زاد بعدها: «النبي ?» وفي (ح): «فيه الصلاة».
(17) قوله: " فيه " سقط من (أ) و(ب).
(18) في (أ): «أوائل الأوقات».
(19) في (أ): «بتقريرهم».
(20) في (أ): " آخر ".
(21) في (أ): «وأنه نزل»، وفي (غ): «أو أنه عرَّس».
(22) قوله: «النبي ?» ليس في (أ).(1/392)
على أنهم لم يبادروا أوَّلَ (1) الوقت، ولا أخَّروها آخِرَهُ، والأشبه: أنهم انتظرُوهُ إلى الوقتِ المعهود؛ بدليلِ قوله: «يَغْبِطُهُمْ (2) أَنْ صَلَّوُا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا»، فلمَّا خرجَ ذلك الوقتُ، تأوَّلوا أنه صلَّى،، أو أنه أخَذَ طريقًا أخرى (3) ،، أو أنه نَزَل (4) ، فقدَّموا عبدَ الرحمن،، وفيه أبوابٌ من الفقه لا تَخْفَى على متأمِّلٍ (5) .
وقولُهُ في حديث علي - رضي الله عنه - : «جَعَلَ رَسُولُ اللهِ ? ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ»، نَصٌّ في اشتراطِ (6) التوقيتِ في المَسْح؛ وبه أخَذَ أبو حنيفة، والثوريُّ، وأصحابُ الحديث، والشافعيُّ، ومالكٌ (7) في أحدِ قَوْلَيْهِمَا.
ومشهورُ مذهبِ مالك: أنه (8) لا توقيتَ فيه، وهو قولُ الأوزاعيِّ، والليثِ، والقولُ =(1/531)=@ الآخرُ للشافعيِّ (9) ،، وأقوَى ما يتمسَّك به لمشهور (10) مذهبِ مالك: حديثُ عُقْبة بن عامر - رضي الله عنه - – الذي خرَّجه الدارقطنيُّ، وصحَّحه – قال: خَرَجْتُ من الشامِ إلى المدينةِ يَوْمَ الجمعة، فَدَخَلْتُ المدينةَ يومَ الجمعةِ (11) ، وَدَخْلتُ على عمر، فقال لي: مَتَى أَوْلَجْتَ خُفَّيْكَ فِي رِجْلَيْكَ؟ قلتُ: يَوْمَ الجمعةِ، قال (12) : فَهَلْ نَزَعْتَهُمَا؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: &(1/391)&$
__________
(1) في (ح): «إلى أول».
(2) في (ح): «تخبطهم».
(3) في (أ) و (ب): «طريقًا آخر»، وفي (غ): «في طريق أخرى».
(4) قوله : «نزل» في (غ): «عرّس».
(5) تعليق فقهي ونيس.
(6) في (ح): «أشراط».
(7) في (ح): «والشافعي ومالك وأحمد».
(8) في (ب): «أن».
(9) تعليق فقهي ونيس.
(10) في (ب): «وأقوى ما تمسك به مشهور».
(11) قوله: «فدخلت المدينة يوم الجمعة» سقط من (ح)؛ بسبب انتقال النظر.
(12) في (ب): «فقال».(1/393)
أَصَبْتَ السُّنَّةَ (1) . ومثل هذا يَشِيعُ (2) ، ولم يُنْكِرْهُ أحدٌ، مع أنه قال فيه:
«أَصَبْتَ السُّنَّةَ»، وهذا (3) ملحقٌ بالْمُسْنَدِ المرفوع.
وأما حديثُ أُبَيِّ بنِ عِمَارَةَ (4) - الذي قال فيه: «امْسَحْ مَا شِئْتَ، وَ«مَا (5) بَدَا لَكَ» (6) - فقال فيه أبو داود: ليس بالقويِّ.
ومآلُ هذا: أنَّ حديثَ عقبة يعارضُ حديثَ عليٍّ، غير أنَّ حديثَ عقبةَ وافقَهُ عملُ الصحابة؛ فهو أولى عنده (7) ، والله تعالى أعلم.
و «المِطْهَرَةُ»: الإناءُ الذي يتطهَّر به.
و«يَحْسِرُ (8) عَنْ ذِرَاعَيْهِ»: يَكْشِف عنهما.
و«النَّاصِيَةُ»: مُقَدَّمُ شَعْرِ الرأس.
207 - وَعَنْ بِلالٍ (9) ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْخِمَارِ.
وقوله في حديثِ بلال: «مَسَحَ عَلَى الخُفَّيْنِ وَالْخِمَارِ (10) »، الخِمَارُ (11) هنا: هي =(1/534)=@ العِمَامَةُ، سُمَّيَتْ بذلك؛ لتخميرِهَا الرأسَ، شبَّهها بِخِمَارِ المرأة.
ولم يَخْتلفْ من أجازَ المَسْحَ على العمامةِ في مَنْعِ مسحِ المرأةِ على خمارها، إلا شيءٌ رُوِيَ عن أم سلمة (12) ، وعن أنس (13) - رضي الله عنهما - في مَسْحِهِ على القَلَنْسُوَةِ.
وفرق ما بين العِمَامَةِ والخِمَار عندهم: أنَّ العمامةَ يَشُقُّ نزعها، لا سيَّما إن (14) كانتْ بِحَنَك، ولورود الرخصةِ فيها عندهم، ولم ترد (15) في الخمارِ للمرأةِ (16) ، والله أعلم (17) . &(1/394)&$
__________
(1) أخرجه الطحاوي (1/80)، والدارقطني (1 / 196)، الحاكم (1/180-181)، وعنه البيهقي (1/280):
جميعهم: من طرق عن بِشْر بن بَكْر، عن موسى بن علي بن رَبَاح، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر؛ أنه قال: خرجتُ من الشام الى المدينة، فخرجتُ يومَ الجمعة، و دخلتُ المدينة يوم الجمعة، فدخلت على عمر بن الخطاب، فقال: متى أولجتَ خُفَّيْكَ في رجليك؟ قلت: يوم الجمعة، قال: وهل نزعتهما؟ قلتُ: لا، قال: أصبتَ السنة.
قال ابن المنذر: ومنهم من روى أنه قال: أصبتَ، ولم يقلِ: السُّنَّة.
وقال الدارقطني: وهو صحيحُ الإسناد.
ثم نقل عن ابن المنذر؛ أنه قال: هذا حديثٌ غريب.
وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرِّجاه. ووافقه الذهبي.
وأخرجه الطحاوي (1/80)، والدارقطني (1/195)، والبيهقي (1/280)، وابن حزم في "المحلى" (2/93):
جميعهم: من طريق ابن وهب، عن ابن لهيعة، والليث بن سعد، وعمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن الحكم البلوي، عن علي بن رباح، عن عقبة، مثله.
قال الدارقطني: وقال يونس - وهو ابن عبد الأعلى -: فقال: أصبتَ، ولم يقل: السنة.
وأخرجه الطحاوي (1/80)، والدارقطني (1/195-196)، والحاكم (1/181)، والبيهقي (1/280):
جميعهم: من طريق يحيي بن بكير، عن المفضَّل بن فَضَالة، عن يزيد بن أبي حبيب،به وفيه: أصبتَ السنةَ.
وأخرجه ابن ماجه (1/185رقم 558) كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في المسح بغير توقيت، من طريق حيوة بن شريح، عن يزيد بن أبي حبيب، به.
وأخرجه ابن أبي شيبه (1/168رقم 1937) كتاب الطهارة، باب من كان لا يوقِّت في المسح شيئاً، عن حَمَّاد بن خالد، عن معاوية بن صالح، عن عِيَاض بن عبدالله القرشي، عن يزيد بن أبي حَبِيب،به، بمعناه، وفيه: قال عمر: قد أحسنتَ.
وأخرجه الدارقطني (1/199) من طريق وَهْب بن جرير، عن أبيه، قال: سمعتُ يحيي بن أيوب، عن يزيد بن أبي حَبِيب،عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر، عن عمر، بهذا، وقال: أصبتَ السنةَ، ولم يذكر بين يزيد وعلي بن رباح أحدًا.
قال الدارقطني في "العلل" (2/110-111): رواه موسى بن علي بن رباح، عن أبيه، عن عقبة بن عامر،أنه مسح من الجمعة إلي الجمعة على خفيه.
وتابعه مفضَّل بن فَضَالة، وابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن الحكم البلوي، عن على بن رباح، فقالا فيه: أصبتَ السنةَ.
وخالفهم عمرو بن الحارث، ويحيى بن أيوب، والليث بن سعد، فقالوا فيه: فقال عمر: أصبتَ، ولم يقولوا: السنة؛ كما قال من تقدَّمهم، وهو المحفوظ، والله أعلم.
ورواه جرير بن حازم، عن يحيى بن أيوب ،عن يزيد بن أبي حَبِيبٍ، عن على بن رباح، عن عقبة، وأسقطَ من الإسناد: عبدَ الله بن الحكم البلوي، وقال فيه: أصبتَ السنةَ،كما قال ابن لهيعه والمفضَّل.اهـ. وانظر تحفة الأشراف (8/90).
وقال البيهقي (1/280): وقد روينا عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - التوقيتَ؛ فإمَّا أن يكون رجع إليه حين جاءه التثبُّت عن النبي ? في التوقيت، وإما أن يكون قوله الذى يوافقُ السنة المشهورة أولى.اهـ.
(2) في (ح): «تشيع».
(3) في (ب) و(ح): " و (غ): «هو».
(4) قوله: «ابن» سقط من (ح)، وقوله: «عمارة» جاء في (أ) بضم العين، وفي حاشية (ب) بكسر العين، وهما وجهان، والأصح: كسر العين، قال ابن حجر في «التقريب» (ص 96): «أُبَيُّ بن عمارة: بكسر العين على الأصح، مدني، سكن مصرن له صحبة، وفي إسناد حديثه اضطراب «ق».
(5) في (غ): «ما» بلا واو.
(6) فأخرجه أبو داود (1/109-110رقم 158) كتاب الطهارة ، باب التوقيت في المسح، من طريق يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن رزين، عن محمد بن يزيد، عن أيوب بن قطن، عن أُبي بن عمارة، قال يحيى بن أيوب - وكان قد صلَّى مع رسول الله ? القبلتين - قال: «يا رسول الله، أمسح على الخفين؟ قال: نعم، قال: يومًا؟ قال: يومًا ، قال: ويومين؟ قال: ويومين، قال: وثلاثة؟ قال: نعم وما شئت».
قال أبو داود: رواه ابن أبي مريم المصري، عن يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن رزين، عن محمد بن يزيد بن أبي زياد، عن عبادة بن نُسَيٍّ، عن أُبي بن عِمَارة، قال فيه: حتى بلغ سبعًا، قال رسول الله ?: «نعم ما بدا لك». اهـ.
ومن هذا الوجه الذي أشار إليه أبو داود: أخرجه الطحاوي (1/79) من طريق ابن أبي مريم، به.
وأخرجه ابن ماجه (1/184-185رقم 557) كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في المسح بغير توقيت، والطحاوي (1/79) والدارقطني (1/198)، والحاكم (1/170)، والبيهقي (1/278-279) جميعهم من طريق يحيى بن أيوب، عن عبدالرحمن بن رزين، عن محمد بن يزيد، عن أيوب بن قَطَن، عن عبادة بن نُسَيٍّ، عن أُبَيِّ بن عِمَارة، فذكره.
قال أبو داود: وقد اختلف في إسناده، وليس هو بالقوي.اهـ
وقال الدارقطني في «سننه»، عقب إخراجه: هذا الإسناد لا يثبُتُ، وقد اختلف فيه على يحيى بن أيوب اختلافًا كثيرًا... وعبد الرحمن، ومحمد بن يزيد، وأيوب بن قطن: مجهولون كلهم.اهـ.
وقال الحاكم: وهذا إسناد مصري، لم ينسب واحد منهم إلى جرح، وإلى هذا ذهب مالك بن أنس، ولم يخرَّجاه. فتعقَّبه الذهبي: بل مجهول.
وقال الزيلعي في «نصب الراية» (1/178): وقال ابن القَطَّان في كتابه: محمد بن يزيد، هو: ابن أبي زياد، صاحبُ حديث الصُّور، قال فيه أبو حاتم: مجهول. ويحيى بن أيوب: مختلف فيه، وهو ممن عِيبَ على مسلمٍ إخراجُ حديثه.
قال: والاختلاف الذي أشار إليه أبو داود، والدارقطني، هو: أن يحيى بن أيوب رواه عن عبد الرحمن بن رزين، عن محمد بن يزيد، عن أُبَيِّ بن عِمَارة، فهذا قول ثان، ويروى عنه عن عبد الرحمن بن رزين، عن محمد بن يزيد، عن أيوب بن قَطَن، عن عبادة بن نُسَيٍّ، عن أُبَيِّ بن عِمَارة، فهذا قول ثالث، ويروى عنه كذلك مرسلاً، لا يذكر فيه أُبي بن عِمَارة، فهذا قول رابع.
وقال الشيخ تقي الدين في " الإمام": قال أبو زرعة: سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: حديث أُبَيِّ بن عِمَارة ليس بمعروف الإسناد.اهـ.
وقال ابن عبد البر في " الاستذكار" (2/248): وهو حديث لا يثبت، وليس له إسناد قائم.اهـ.
(7) يعني: عند الإمام مالك - في مشهور مذهبه - وكذلك عند الأوزاعي، والليث، وعند الشافعي في أحد قوليه.
لكن القول الراجح في ذلك: هو التأقيت الذي ورد في حديث علي، فهو نصٌ صحيح صريح محكَمٌ بيِّن مفصَّل؛ وممَّن ذهب إلى التوقيت في المسخ : من ذكرهم الشارح، وهم أبو حنيفة، والثوري، وأصحاب الحديث، والشافعي ومالك في أحد قوليهما......... ومنهم أيضاً: ............................. واستدلُّوا......................... وردُّوا على ما احتج به من لا يرى التقيت بأن .....................
(8) في (ب): «وتحسُر».
(9) أخرجه مسلم (1/231 رقم 275) في الطهارة، باب المسح على الناصية والعمامة.
(10) في (ب) و (غ): «مسح على الخمار والخفين».
(11) قوله: «الخمار» سقط من (ح).
(12) أخرجه ابن أبي شيبة (1/29 رقم223) كتاب الطهارة، باب من كان يرى المسحَ على العِمَامة، عن ابن نمير، عن سفيان، عن سماك، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة؛ أنها كانت تَمْسَحُ على الخمار.
ومن طريقه ابن المنذر في "الأوسط" (1/468 رقم398).
ورجاله ثقات، وأم الحسن: خَْيرة، مولاة أم سلمة، قال الحافظ في "التقريب" (8578): «مقبولة».
(13) أخرجه عبدالرزاق (1/190 رقم745) كتاب الطهارة، باب المسح على القلنسوة، والبيهقي (1/285) كلاهما من طريق سفيان، عن الأعمش، عن سعيد بن عبدالله بن ضرار، قال: رأيت أنس بن مالك أتى الخلاء، ثم خرج وعليه قلنسوة بيضاء مزرورة، فمسح على القلنسوة، وعلى جوربَيْن أسودَيْن مرعزَيْن.
وسعيد بن عبدالله بن ضرار: قال عنه أبو حاتم: ليس هو بقوي.
وقد حكم البخاري في "تاريخه" (3/488) على رواية سعيد عن أنس، بالانقطاع.
قال البيهقي: ورفعه بعض الضعفاء، وليس بشيء.
(14) في (ح): «إذا».
(15) في (ح) و (غ): «ولم يرد».
(16) قوله: «للمرأة» سقط من (أ).
(17) تعليق فقهي ونيس.(1/394)
( 14 ) بَابُ فِعْلِ الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ،
وَغَسْلِ اليَدَيْنِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ، وَأَنَّ النَّوْمَ لَيْسَ بِحَدَثٍ
208 - عَنْ بُرَيْدَةَ (1) ، أَنَّ النَّبِيَّ ? صَلَّى الصَّلَوَاتِ يَوْمَ الْفَتْحِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَقَدْ صَنَعْتَ الْيَوْمَ شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَصْنَعُهُ؟ فَقَالَ: «عَمْدًا صَنَعْتُهُ يَا عُمَرُ».
وَمِنْ بَابِ فِعْلِ الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ
قوله: «عَمْدًا فَعَلْتُهُ يَا عُمَرُ»، أي: قصدًا؛ ليبيَّن (2) للناسِ أنه يجوزُ أن يصلَّى بوضوءٍ واحدٍ صلواتٍ، وهذا أمرٌ لا خلافَ فيه، وغاية (3) ما ذهب إليه بعضُ الناس: أنَّ الوضوءَ لكلِّ صلاةٍ كان فرضًا خاصًّا بالنبي ?، وأنه نُسِخَ ذلك بفعله هذا (4) .
قال الشيخ - رحمه الله -: ولا يصحُّ أنه كان فرضًا على النبيِّ ?، وإنما كان يفعلُهُ ابتغاءً لفضيلةِ التجديد، كما جاء (5) في حديثِ أنسٍ أنه قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ? يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ طَاهِرًا أَوْ غَيْرَ (6) طَاهِرٍ، قيل لأنس: كيف كنتُمْ تَصْنَعُونَ أنتم؟ قال: كُنَّا نتوضَّأ وُضُوءًا وَاحِدًا»؛ أخرجَهُ (7) الترمذي، وقال: إنه صحيح (8) . =(1/335)=@
209- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (9) ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ? قَالَ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ».
وقوله: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ (10) فلَاَ يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الِإْنَاءِ»:
تمسَّك داودُ، والطبريُّ: بظاهر هذا الخبر (11) ؛ فأوجَبَا غَسْلَ اليدين على مَنْ قام من النومِ – ليلاً أو نهارًا (12) – للوضوء (13) ، وحكَمَا بأنَّ الماء يَنْجُسُ إنْ لم يغسلْ يديه قبل أن يُدْخِلهما فيه.
وخَصَّه ابنُ حنبل، وبعضُ أهل الظاهر (14) : بنومِ الليلِ خاصَّةً؛ لأنَّهما فَهِمَا مِنْ لفظ «البَيَاتِ» (15) نومَ الليلِ (16) ، ولما (17) رواه أبو داودَ في هذا الحديثِ حيثُ قال: «إِذَا (18) اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ...»، وذكر الحديثَ (19) .
وذهَبَ الجمهور (20) : إلى أنَّ ذلك على جهةِ الِاستحبابِ؛ بدليلِ تعليلِهِ في آخِرِهِ بقوله: «فَإِنَّهُ (21) لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ (22) ».
ومعنى ذلك: أنَّ يدَ النائمِ تجولُ في مَغَابِنِهِ (23) ، ومواضعِ استجمارِهِ، وأعراقِهِ؛ فقد يتعلَّق باليد &(1/395)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/232 رقم 277) في الطهارة، باب جواز الصلوات كلها بوضوء واحد.
(2) في (أ) و (ح): «لتبين».
(3) في (ب): «وغايته».
(4) تعليق فقهي ونيس.
(5) قوله: «جاء» سقط من (ح).
(6) في (ب) و (ح): «وغير».
(7) في (أ) و (ح): «خرَّجه».
(8) أخرجه الترمذي (1/86 رقم58) كتاب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء لكل صلاة، عن محمد بن حُمَيْدٍ الرازي، عن سَلَمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن حميد، عن أنس: «أن النبيَّ ? كان يتوضَّأ لكلِّ صلاة، طاهرًا أو غير طاهر، قال: قلت لأنس: فكيف كنتم تصنعون أنتم؟ قال: كنا نتوضأ وضوءًا واحدًا».
قال الترمذي عقب روايته: «وحديث حميد عن أنس: حديث حسن غريب من هذا الوجه، والمشهور عند أهل الحديث: حديث عمرو بن عامر الأنصاري، عن أنس، وقد كان بعضُ أهلِ العلم يرى الوضوءَ لكلِّ صلاة استحبابًا لا على الوجوب». اهـ.
وقال عقب الحديث رقم (60): «وحديث حميد عن أنس: حديث جيد غريب حسن».اهـ.
وقال في "العلل الكبير" (ص38): «سألتُ محمَّدًا عن هذا الحديث؟ فقال: لا أدري ما سلمة هذا؟ كان إسحاق يتكلم فيه، وما أروي عنه، ولم يعرف محمدٌ هذا من حديث حميد».اهـ.
وقال المباركفوري في "تحفة الأحوذي" (1/191): «تفرَّد به محمد بن إسحاق، وهو مدلِّس، ورواه عن حميد معنعنًا». اهـ.
وحُمَيْد: هو ابن أبي حُمَيْد الطويل، مدلِّس أيضًا، ولم يصرِّح بالتحديث.
ومحمد بن حميد الرازي: قال البخاري: حديثه فيه نظر، وقال النسائي: ليس بثقة، وفي "التقريب" (5834): حافظ ضعيف، وكان ابن معين حسن الرأي فيه.
وسلمة بن الفضل: قال البخاري: عنده مناكير، وهَّنه عليٌّ، قال عليٌّ: ما خرجنا من الري حتى رمينا بحديثه، وقال أبو حاتم: محلُّه الصدق، في حديثه إنكار، لا يمكنُ أن أطلق لساني فيه بأكثَرَ من هذا، يُكْتَبُ حديثه ولا يحتجُّ به، وضعَّفه النسائي، وفي "التقريب" (2505): صدوق كثير الخطأ.
وأما قول الشارح عن الترمذي: أنه قال عن هذا الحديث: «إنه صحيح» – فلم أجده، والله أعلم.
(9) أخرجه البخاري (1/263 رقم 162) في الوضوء، باب الاستجمار وترًا، وذكر طرفه في (1/262 رقم 161) في الوضوء، باب الاستنثار في الوضوء، ومسلم (1/233 رقم 278-87) في الطهارة، باب كراهية غمس المتوضِّئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثًا.
(10) قوله: «من نومه» سقط من (أ).
(11) تعليق فقهي ونيس.
(12) في (ب): «أو نهار».
(13) قوله: «للوضوء» سقط من (أ).
(14) تعليق فقهي ونيس.
(15) في (ب): «الثقات»، وفي (ح): «البيان»..
(16) إذ البيتوتة: دخولُكَ في الليل، قال الزجاج: كلُّ من أدركه الليلُ فقد بات، وقال ابن سِيدَهْ: بات يفعلُ كذا: إذا فعلَهُ ليلاً، كما يقال: ظَلَّ يفعلُهُ: إذا فعله نهارًا. انظر "اللسان" (2/16).
(17) في (ح): «لما».
(18) في (أ): «فإذا».
(19) أخرجه أبو داود (1/76 رقم103، 104) كتاب الطهارة، باب في الرجل يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلهما، وأحمد (2/253) من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي رزين وأبي صالح، عن أبي هريرة.
وأخرجه ابن ماجه (1/138-139 رقم393) كتاب الطهارة، باب الرجل يستيقظ من منامه...، والترمذي (1/36 رقم24) كتاب الطهارة، باب ما جاء إذا استيقظ أحدكم من منامه، كلاهما من طريق الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة، به.
وقد توبع الوليد بن مسلم على روايته. فأخرجه النسائي (1/215 رقم441) كتاب الغسل والتيمم، باب الأمر بالوضوء من النوم، من طريق إسماعيل بن عبدالله، عن الأوزاعي، به. وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح».
(20) تعليق فقهي ونيس.
(21) قوله: «فإنه» سقط من (أ).
(22) قوله: «يده» ليس في (ب).
(23) المغابن: بواطنُ الأفخاذِ والآباطِ، ومعاطفُ الجِلْد. انظر"اللسان" (13/310).(1/395)
منها شيءٌ، فيؤدِّي إلى إفسادِ الماء، على قولِ مَنْ يرى أنَّ قليلَ النجاسةِ ينجِّس (1) قليلَ الماءِ، أو إلى (2) عيافتِهِ على قولِ مَنْ يرى أنها لا تنجِّسه إلا أن تغيِّره (3) .
210 - وَعَنْ أَنَسٍ (4) ، قَالَ: أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، والنَّبِيُّ ? يُنَاجِي رَجُلاً، فلَمْ يَزَلْ يُنَاجِيهِ حَتَّى نَامَ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ جَاءَ فَصَلَّى بِهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ وَضُوءًا.
211 – وَعَنْهُ (5) ، قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ? يَنَامُونَ، ثُمَّ يُصَلُّونَ، وَلَا يَتَوَضَّؤُونَ.
واحتجَّ أصحابُ الشافعِّي (6) : بهذا الحديثِ على الفَرْقِ بين ورودِ النجاسةِ على الماء، وبين (7) ورودِ الماءِ على النجاسة، ولا يصحُّ لهم ذلك؛ حتى يَصِحَّ لهم أنَّ هذا الحديثَ يفيدُ (8) أنَّ قليلَ النجاسةِ ينجِّس الماء وإنْ لم تغيِّره (9) ، وذلك ممنوعٌ؛ فإنَّه يحتملُ أن يكونَ نهيُهُ عن ذلك؛ لأنه (10) يصيرُ الماءُ مما يُعَافُ، لا أنه ينجسُ، والله تعالى أعلم.
ومِنْ هذا الحديث فهم أَشْهَبُ أن حُكْمَ غَسْلِ اليدِ في الوضوءِ الاستحبابُ للشاكِّ في نظافة يده، وقد قدَّمنا مأخذ ابن القاسم (11) . =(1/536)=@
وقوله: «أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ والنَّبِيُّ ? يُنَاجِي رَجُلًا»، أي: يحادثه سِرًّا.
وقوله: «حَتَّى نَامَ أَصْحَابُهُ»، يعني: أنهم ناموا جلوسًا، وقد روى أبو داود عنه (12) ، قال: «كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ? يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ الآخِرَةَ حَتَّى تَخْفِقَ رُؤُوسُهُمْ، ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّؤُونَ» (13) ؛ وهذا يدلُّ على أنَّ النوم ليس بحَدَثٍ (14) ؛ إذْ لو كان حَدَثًا – كما ذَهَبَ إليه المُزَنِيُّ (15) ، وابن القاسم فيما حكاه (16) عنه أبو الفَرَج (17) –: لاستوى قليلُهُ وكثيره – كالبَوْلِ، والغائط – وهذا النومُ (18) – في هذه الأحاديثِ – هو الخفيفُ المعبَّر عنه بالسِّنَةِ (19) التي ذكَرَ الله تعالى في قوله (20) : {لا تأخذه سنة ولا نوم} (21) ، والذي قال فيه بعضُ شعراء العرب:
وَسْنَانُ أَقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ فِي عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ (22)
وقال المفضَّل: «السِّنَةُ في الرأس، والنُّعَاسُ (23) في العَيْن، والنومُ في القَلْب» (24) ، وهذا أصلُ الوضع، وقد يُتَجَوَّزُ، فيقالُ على الجميعِ: نَوْمٌ؛ كما جاء في الحديثِ: «إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ، وَلَا يَنَامُ قَلْبِي» (25) ، وكما قد أُطْلِقَ النومُ في حديثِ أنسٍ هذا على &(1/396)&$
__________
(1) في (أ): «تنجس».
(2) في (ح) و(غ): «وإلى».
(3) في (غ): «يغيره».
(4) أخرجه البخاري (11/85 رقم 6294) في الاستئذان، باب طول النَّجْوَى، وذكر أطرافه في (2/124 رقم 642) في الأذان، باب الإمام تعرض له الحاجة بعد الإقامة، ومسلم (1/284 رقم 376-124) في الحيض، باب الدليل على أن نوم الجالس لا ينقُضُ الوضوء.
(5) أخرجه مسلم (1/284 رقم 376-125)في الحيض، باب الدليل على أن نوم الجالسِ لا يَنْقُضُ الوضوء.
(6) تعليق فقهي ونيس.
(7) قوله: «بين» سقط من (ب).
(8) في (أ): «بعيد».
(9) في (غ): «لم يغيره».
(10) في (أ): «لا».
(11) تعليق فقهي ونيس.
(12) أي: عن أنس - رضي الله عنه - .
(13) أخرجه أبو داود (1/137-138 رقم 200) كتاب الطهارة، باب في الوضوء من النوم، والترمذي (1/113 رقم78) كتاب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء من النوم، من حديث أنس - رضي الله عنه - ؛ قال الترمذي: «هذا حديثٌ حسن صحيح».اهـ. وقال الحافظ في "الفتح" (1/314): رواه محمد بن نصر في «قيام الليل»، وإسناده صحيح، وأصله عند مسلم.اهـ.
(14) تعليق فقهي ونيس.
(15) قوله: «إليه المزني» في (أ) و(غ): «المزني إليه».
(16) في (ب) و(ح) و(غ): «فيما حكى».
(17) تعليق فقهي ونيس.
(18) في (أ): «وهذا النوع».
(19) في (غ): «بالستة».
(20) قوله: «في قوله» ليس في (أ).
(21) سورة البقرة، الآية: 255.
(22) البيت من الكامل، وهو لعَدِيِّ بن الرِّقَاع العاملي، في «ديوانه» (ص 122)، و«الكامل» للمبِّرد (1/80)، و«تهذيب اللغة» (2/105)، (13/78)، و«المحكم» (6/374)، و«الحماسة البصرية» (2/84)، و«الحماسة المغربية» (2/1093)، و«أمالي القالي» (1/232)، و«معاهد التنصيص» (1/336)، و«الأغاني» (9/354، 355)، و«محاضرات الأدباء» (2/323)، و«معجم البلدان» (2/94)، و«المستظرف» (2/35)، و«ديوان المعاني» (1/235)، و«اللسان» (6/233)، (10/128)، (13/449)، و«التاج» (مادة: نعس – رنق – وسن)، بلا نسبة في «جمهرة اللغة» (ص 863)، و«غريب الخطابي» (1/178).
والبيت من قصيدة لعديٍّ بمدَّتها (سبعة وثلاثون بيتًا) يمدح بها الوليد بن عبد الملك، وقبل الشاهد قوله:
لولا الحياءُ وأنَّ رأسي قد عَسَا ... فيه المَشِيبُ لَزُرْتُ أمَّ القاسِمِ
وكأنَّها وَسْطَ النساءِ أعَارَهَا ... عَيْنَيْهِ أَجْوَرُ مِنْ جآذِرِ جَاسِمِ
وقوله: «وسنان» أي: نعسان، و«أقصده»: بلغ منه وَجَهَدهُ، أي: لم يخطئه، وأصل الكلمة من قولهم: رماه فأقْصَدَهُ، أي: قتله، و«رنَّق النوم في عينيه»، أي: خالطهما ودار فيهما، قال أبو عمرو الشيباني:
(23) قوله: «في الرأس والنعاس» سقط من (ح).
(24) انظر مقولة المفضَّل في «غريب الحديث للخطابي» (1/178، 437)،
(25) أخرجه البخاري (3/33 رقم1147) كتاب التهجُّد، باب قيام النبي ? بالليل في رمضان وغيره، و(4/251 رقم2013) كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، و(6/579 رقم3569) كتاب المناقب، باب كان النبيُّ ? تنامُ عينه ولا ينامُ قلبه.(1/396)
السِّنَة.
وذهبَ الجمهورُ: إلى أن المستثقَلَ من النومِ ناقضٌ للوضوء (1) ؛ من حيثُ كان مَظِنَّةً للحَدَثِ؛ كما جاء في حديثِ ابن عبَّاس – رضي الله عنهما–: «إِنَّمَا الوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا، فَإِنَّهُ إِذَا اضْطَجَعَ، اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ» (2) ، وفي حديث عليٍّ - رضي الله عنه - : «وِكَاءُ السَّهِ (3) الْعَيْنَانِ؛ فَمَنْ =(1/537)=@ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ» (4) .
وقد حُكِيَ إجماعُ العلماء (5) : على أنَّ ما أزالَ العقلَ من الجنونِ والإغماءِ (6) ناقضٌ للوضوء، والنومُ المستَثْقَلُ يزيلُ العقل، فيكونُ مثلهما.
وقد شِذَّ أبو موسى الأشعريُّ (7) ، وسعيد بن المسيِّب (8) ، فكانا ينامان مضطَجِعَيْنِ، ثم لا يتوضَّآن (9) ، وقد تُؤُوِّلُ ذلك عليهما: بأنَّه كان خفيفًا.
وما دون الاستثقالِ اختُلِفَ فيه على تفصيلٍ يُعْرَفُ في الفقه،
والله أعلم (10) (11) .
( 15 ) بَابٌ إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاءِ،
أُرِيقَ الْمَاءُ، وَغُسِلَ الْإِنَاءُ سَبْعَ مَرَّاتٍ
212 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (12) ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ، فَلْيُرِقْهُ، ثُمَّ لِيَغْسِلْهُ سَبْعَ مِرَارٍ».
وَفِي لَفْظٍ آخَر: «طُهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ: أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ».
وَمِنْ بَابٍ إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاءِ
قولُهُ: «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ، فَلْيرِقْهُ، ثُمَّ لِيَغْسِلْهُ». في &(1/397)&$
__________
(1) قوله: " للوضوء " سقط من (أ).
(2) أخرجه أحمد (1/256)، وعبد بن حميد (رقم659)، وأبو داود (1/139 رقم202) كتاب الطهارة، باب في الوضوء من النوم، والترمذي (1/111 رقم77) كتاب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء من النوم، وفي "العلل الكبير" رقم (43)، والدارقطني (1/159-160)، والبيهقي (1/121).
جميعهم: من طريق أبي خالد الدالاني، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس؛ أنه رأى النبيَّ ? نام وهو ساجدٌ حتَّى غَطَّ أو نفَخَ، ثم قام يصلِّي، قلت: يا رسولَ الله، إنَّك قد نِمْتَ؟ قال: «إنَّ الوضوءَ لا يجبُ إلا على مَنْ نام مضطجعًا؛ فإنه إذا نام استرخت مفاصله».
قال أبو داود: قوله: الوضوءُ على مَنْ نام مضطجعًا، هو حديثٌ منكر، لم يروه إلا يزيدُ أبو خالد الدالاني، عن قتادة، وروى أوله جماعةٌ عن ابن عباس، ولم يذكروا شيئًا من هذا، وقال: كان النبي ? محفوظًا، وقالتْ عائشة رضي الله عنها: قال النبي ?: «تنام عيناي، ولا ينام قلبي»، وقال شعبة: إنما سمع قتادة من أبي العالية أربعة أحاديث... فذكرها، ولم يذكر هذا منها - وذكرتْ حديث يزيد الدالاني لأحمد بن حنبل، فانتهرني استعظامًا له، وقال: ما ليزيدَ الدالانيِّ يدخلُ على أصحاب قتادة؟! ولم يعبأ بالحديث.اهـ.
وقال الترمذي: وقد روى حديث ابن عباس سعيدُ بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن ابن عباس قوله، ولم يذكُرْ فيه أبا العالية، ولم يرفعه. اهـ.
وقال في "العلل الكبير" عَقِبَ إخراجه: سألت محمَّدًا عن هذا الحديث؟ فقال: هذا لا شيء، رواه سعيدُ بنُ أبي عَروبة، عن قتادة، عن ابن عباس، قوله. ولم يذكر فيه أبا العالية، ولا أعرف لأبي خالد الدالاني سماعًا من قتادة.
قلت: أبو خالد: كيف هو؟ قال: صدوق، وإنما يهم في الشي.اهـ.
وقال الدارقطني عقب إخراجه: تفرد به أبو خالد، عن قتادة، ولا يصح.اهـ.
والحديث ضعفه أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي (1/112).
(3) في (ح): «السَّنة»، والسَّهُ: حلقةُ الدُّبُر، معناه: أنَّ الإنسانَ إذا كان مستيقظًا كانتِ استُهُ كالمشدودةِ الْمَوْكِيِّ عليها، فإذا نام، انحل وِكَاؤها. "اللسان" (13/503).
(4) أخرجه أحمد (1/111)، وأبو داود (1/140 رقم203) كتاب الطهارة، باب في الوضوء من النوم، وابن ماجه (1/161 رقم477) كتاب الطهارة، باب الوضوء من النوم، والدارقطني (1/161)، والبيهقي(1/118).
جميعهم: من طريق بقيَّة بن الوليد، عن الوَضِينِ بن عطاء، عن محفوظِ بنِ عَلْقمة، عن عبدالرحمن بن عائذ الأزدي، عن علي بن أبي طالب، عن النبي ?، قال: «إنما العَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ؛ فمن نام، فليتوضَّأ».
قال ابن أبي حاتم في "العلل" (1/47): سألتُ أبي عن حديث رواه بقيَّة، عن الوضين بن عطاء، عن محفوظ بن عَلْقمة، عن ابن عائذ، عن علي، عن النبي ?، وعن حديث أبي بكر بن أبي مريم، عن عطيَّة بن قيس، عن معاوية، عن النبي ?: «العينُ وكاه السه»، فقال: ليسا بقويَّيْنِ.
وسئل أبو زرعة عن حديث ابن عائذ، عن علي، بهذا الحديث؟ فقال: ابن عائذ، عن علي، مرسل. اهـ.
والحديث حسَّنه الألباني في "الإرواء"، تبعًا للمنذري، وابن الصلاح، والنووي، وقال: وفي بعض رجاله كلام لا ينزلُ به حديثُهُ عن رتبة الحسن، وبقيَّة إنما يخشى من عنعنته، وقد صرَّح بالتحديث في رواية أحمد، فزالت شبهة تدليسه.اهـ.
(5) تعليق فقهي ونيس.
(6) في (غ): «من الإغماء والجنون والإغماء».
(7) أخرجه ابن أبي شيبة (1/124 رقم1415) كتاب الطهارة، باب من قال: ليس على من نام ساجدًا أو قاعدًا وضوء، عن يحيى بن سعيد، عن طارق بيَّاع النوى، عن مَنِيعَةَ بنت وقَّاص، عن أبيها؛ أن أبا موسى كان ينامُ بينهنَّ حتى يَغَطَّ فننبِّهه، فيقول: هل سمعتموني أحدثْتُ؟ فنقولُ: لا، فيقومُ فيصلِّي.
وفي سنده: طارق بيَّاع النوى، أورده ابن أبي حاتم (4/487)، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً. ومنيعة ابنة وقاص، لم أجد لها ترجمة، لكنَّ الأثر صحيحٌ لغيره:
فقد أخرجه ابن المنذر في "الأوسط" (1/154) عن محمد بن نصر، عن إسحاق بن راهويه، عن الفضل بن موسى، عن حسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن قيس بن عباد، قال: رأيتُ أبا موسى صلَّى الظهر، ثم استلقى...، فذكره بمعناه.
وسنده صحيح.
وصححه الحافظ في "الفتح" (1/315).
(8) علَّقه ابن المنذر في "الأوسط" (1/155)، وصحَّحه الحافظ في "الفتح" (1/315).
(9) في (ب): «ولا يتوضآن».
(10) قوله: " والله أعلم " سقط من (أ) و(ح)، و (غ).
(11) تعليق فقهي ونيس.
(12) أخرجه البخاري (1/274 رقم 172) في الوضوء، باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان، ومسلم (1/234 رقم 279-89،91) في الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب.(1/397)
«الصحاحِ»: «ولَغَ الكلبُ في الإناء، يَلَغُ وُلُوغًا: إذا شَرِبَ ما فيه بطرفِ لسانِهِ، ويُولَغُ: إذا أولَغَهُ صاحبُهُ؛ قال الشاعر:
مَا مَرَّ يَوْمٌ إِلَّا وَعِنْدَهُمَا لَحْمُ رِجَالٍ أَوْ يُولَغَانِ دَمَا (1) =(1/538)=@
وحكى أبو زيد: ولَغَ الكلبُ بشرابنا، وفي شَرَابِنَا، ومن شَرابِنا، ويقالُ (2) : ليس شيءٌ من الطيورِ يَلَغُ غَيْر الذباب (3) ».
وقد تمسَّك الشافعيُّ (4) – رحمه الله –: بظاهرِ الأمرِ بالغَسْلِ والإراقةِ، وبقوله: «طُهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ (5) أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعًا (6) »، على أنَّ الكلبَ نجسٌ، وعلى أنَّ ذلك الماءَ والإناءَ نَجِسان بسببِ لُعَابه، ومع ذلك فلا بدَّ عنده مِنْ غَسْلِ الإناءِ سبعًا.
وذهب أبو حنيفة (7) : إلى القولِ بأنَّ ذلك للنجاسةِ، ويكفي غَسْلُ الإناءِ (8) مرةًَ واحدة.
والمشهورُ مِنْ مذهب مالك (9) : أنَّ ذلك للتَّعَبُّدِ لا للنجاسة، وهو قولُ الأوزاعيِّ وأهلِ الظاهر (10) ، (11) ؛ بدليلِ دخولِ العَدَدِ السبع، ولو كان للنجاسةِ، لاكتفى فيه بالمرَّةِ الواحدة،، وبدليلِ جوازِ أكلِ ما صاده الكَلْبُ من غير غَسْلٍ.
وذهب بعض أصحابنا (12) : إلى أن ذلك لكونِ الكلبِ مستقذرًا منهيًّا عن مخالطته، وقَصَرَ هذا الحكم على الكلب المنهيِّ عن اتخاذه، وهذا ليس بشيء؛ لأنه استنبَطَ من اللفظِ ما خصَّصه مِنْ غير دليلٍ منفصلٍ عنه.
وذهب أبو الوليد بنُ رُشْدٍ (13) (14) : إلى أنَّ ذلك مُعَلَّلٌ بما يتقى من (15) أن يكونَ الكَلْبُ كَلَبًا، واستدلَّ على هذا بأنَّ هذا العدَدَ «السبع» قد جاء في مواضعَ من الشرعِ على جهة الطبِّ والتداوي؛ كما قال: «مَنْ تَصَبَّحَ كُلَّ يَوْمٍ بِسَبْعِ (16) تَمَرَاتٍ مِنْ عَجْوَةِ المَدِينَةِ، لَمْ يَضُرَّهُ ذَلكَ اليَوْمَ سُمٌّ» (17) ، ولقوله ? في مرضه: «أَهْرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ» (18) ، ومثل هذا كثيرٌ، وقد أُورِدَ عليه (19) : أنَّ الكَلْبَ لا يقرَبُ الماءَ، وانفصَلَ عن (20) ذلك حفيدُهُ صاحبُ "كفاية المقتصد" (21) : بأنَّ ذلك لا يكونُ إلا في حالِ تمكُّنِ ذلك الداءِ به (22) ، وأما =(1/539)=@ في مبادئِهِ فَيقرَبُ الماءَ ويشربه.
وأولى هذه الأقوال كلِّها (23) : ما صَارَ إليه مالكٌ من أنَّه تعبُّدٌ لا للنجاسة، وأنه عامٌّ (24) في جنس الكلاب، وفي جنسِ &(1/398)&$
__________
(1) البيت من المنسرح، وهو لابن قيس الرُّقَيَّات في «ديوانه» (ص154)، و«العين» (8/450)، و«شرح شعر زهير» لثعلب (ص82) ، و«جمهرة اللغة» (ص962)، و«اللسان» (8/460)، و«التاج العروس» ()، و«الفصول والغايات» (ص 408)، و«الحيوان» (7/154)، و«الأغاني» (5/97)، ولابن هَرْمة أو لأبي زبيد الطائي في «ملحق ديوان ابن هرمة» (ص 241)، و«اللسان» (8/460)، ولأبي زبيد الطائي في "محلق ديوانه" (ص149)، وبلا نسبة في "مقاييس اللغة" (6/144)، و"المحكم" (6/64)، و"أساس البلاغة" (4/689)، و"خزانة الأدب" (6/324).
والصواب: أن هذا البيت لابن قيس الرقيات من قصيدة له يمدح بها عبد العزيز بن مروان، وقبل الشاهد، في وصف أسد وشِِبْلَيْهِ:
يَفُوتُ شِبْلَيْنِ عند مُرْضِعَةٍ قد نَاهَذَا لِلْفِطَام أو فُطِمَا
و"يقوت": يُطْعِم، و"الشبلان" : مثنّى شِبْل، وهو ولد الأسد، و"ناهذا": جاوزا، وقوله: "أو يُولَغَانه وما " أي: صُبَّ لهما ما يَشْرَبان من الدم، ويروي: «أو يَالَغَانِ دَمَا»، قال في «العين» (8/450): «الوَلْغُ: شربُ السباع بألسنتها، وبعض العرب يقول: يَالَغُ، أرادوا تبيان الواو؛ فجعلوا مكاناه ألفًا»، ثم أنشد بيت ابن قيس الرقيات، ووقع فيه : "قيس بن الرقيات" ، وهو خطأ، إنما هو: ابن قيس.
(2) في (غ): «وقال».
(3) انظر: «الصحاح» (4/1329).
(4) تعليق فقهي ونيس.
(5) في (ح): «ولغ الكلب فيه».
(6) قوله: «سبعًا» سقط من (أ) و(ح) و (غ).
(7) تعليق فقهي ونيس.
(8) في ح): «الماء»، وفي (أ): «الإناء منه».
(9) تعليق فقهي ونيس.
(10) في (غ): «وهو قول أهل الظاهر».
(11) تعليق فقهي ونيس.
(12) تعليق فقهي ونيس.
(13) تعليق فقهي ونيس.
(14) هو ابن رشد الجَدّ – لا الحفيد – صاحب البيان والتحصيل، وصاحب المقدمات، هو......... يترجم لابن رشد الحفيد!
(15) قوله: " من " سقط من (أ).
(16) (في (أ) و (ب): «سبع».
(17) يأتي في كتاب الأطعمة، باب بَرَكَةِ عجوةِ المدينة، وأنها دواء.
(18) أخرجه البخاري (1/302 رقم198)في الوضوء، باب الغسل والوضوء في المخضب والقدح والخشب والحجارة، و(10/167 رقم5714)في الطب، باب اللدود.
(19) في (ح): " وقد أورد على هذا ".
(20) في (أ): «على».
(21) تعليق فقهي ونيس.
(22) قوله: «به» في (أ): «فيه»، وسقط من (غ).
(23) قوله: «كلها» سقط من (غ).
(24) في (غ): «علم».(1/398)
الأواني (1) .
وينبني على هذا الاختلافِ في التعليل: الاختلافُ في فروعٍ كثيرةٍ تُعْرَفُ في الفقه.
وقوله: «أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ»، هذه الزيادةُ ليستْ من (2) رواية مالك، ولذلك (3) لم يَقْلْ بها (4) ، وقد قال بها جماعةٌ من العلماء (5) ، وقد رواه أبو داود (6) وقال: «السَّابِعَةُ بِالتُّرَابِ».
213 - وَعَنِ ابْنِ الْمُغَفَّلِ (7) ، قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ ? بِقَتْلِ الْكِلَابِ، ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلابِ؟!»، ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ، وَكَلْبِ الْغَنَمِ، وَقَالَ: «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الإِنَاءِ، فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ فِي التُّرَابِ».
وفي حديث عبد الله بن مغفَّل، عن النبي ?، قال (8) : «وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ (9) فِي التُّرَابِ (10) »، وبهذه الثامنةِ قال أحمد (11) ، فهذه الزيادةُ مضطربةٌ (12) ؛ ولذلك (13) لم يأخذ بها (14) مالكٌ، ولا أَحَدٌ من أصحابه.
وأمرُهُ ? بقتلِ الكلابِ، إنما كان لمَّا كَثُرَتْ وكَثُرَ ضررها،، ثُمَّ لما قُتِلَ أكثرُهَا، وذهَبَ ضررها، أنكَرَ قتلها، فقال: «مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلَابِ؟!».
ويحتملُ (15) : أن يكونَ ذلك ليقطعَ عنهم عادةَ إِلْفِهِمْ لها؛ إذْ كانوا قد أَلِفْوهَا ولابَسُوهَا كثيرًا.
وقوله: «وَأَرْخَصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ وَالْغَنَمِ»، يعني: في اتخاذِهِ، وغيرُهَا لا يتخذُ وإنْ لم يُقْتَلْ، وهو الذي من اتخذه نقصَ مِنْ عمله كلَّ يومٍ قيراطٌ (16) ، وذلك (17) لما يَرُوعُ ويُؤْذِي، وسيأتي لهذا مزيدُ بيانٍ إنْ شاء الله تعالى (18) (19) . =(1/540)=@ &(1/399)&$
__________
(1) في (أ): «في الكلاب والأواني».
(2) في (أ): «في».
(3) في (أ) و (ب) و(غ): «فلذلك».
(4) قوله: «بها» ليس في (غ).
(5) قال الحافظ في "الفتح" (1/275-276): واختلف الرواة عن ابن سِيرِينَ في محل غَسْلة التتريبِ، فلمسلمٍ وغيره من طريقِ هشامِ بن حسَّان عنه: «أُولَاهُنَّ»، وهي روايةُ الأكثر عن ابن سيرين، وكذا في رواية أبي رافعٍ المذكورة، واختُلِفَ عن قتادة، عن ابن سيرين، فقال سعيد بن بشر عنه: «أولاهن» أيضًا؛ أخرجه الدارقطني، وقال أبان عن قتادة: «السابعة»؛ أخرجه أبو داود، وللشافعي عن أيوب عن ابن سيرين: «أولاهن، أو أخراهن»، وفي رواية السدي عند البزار: «إحداهن»... ثم قال الحافظ: ورواية: «أولاهن» أرجحُ من حيث الأكثريةُ والأحفظيَّة، ومن حيث المعنى أيضًا.اهـ.
(6) تخرَّج هذه الرواية عند أبي داود.
(7) أخرجه مسلم (1/235 280-93) في الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب.
(8) قوله: «عن النبي ? قال» من (ح) فقط.
(9) في (غ): «غيره والثامنة» بدل قوله: «عفروه الثامنة».
(10) في (ح): «بالتراب».
(11) تعليق فقهي ونيس.
(12) ووجه الاضطرابِ ما ذكر القاضي في "الإكمال" (54/أ) قال: وقد اضطرب فيه – أي: التعفير - فقد روي عن أبي هريرة: «أولاهن بالتراب»، وروي عنه: «أولهن أو أخراهن»، وروي: «أخراهن بالتراب».اهـ. وانظر الجمع بين هذه الروايات في "الفتح" (1/275-278).
(13) في (أ): «ولهذا».
(14) قوله: «لم يأخذ بها» في (ح): «لم يأخذها»ن وقوله: «لم يأخذها مالك ولا أ حد من أصحابه» في (غ): «لم يقل بها، وقد قال بها جماعة من العلماء».
(15) قوله: «ويحتمل» في (أ) غير واضحة..
(16) يأتي حديثه في البيوع، باب ما جاء في قتل الكلابِ واقتنائها.
(17) قوله: «ذلك» ليس في (غ).
(18) تعليق فقهي ونيس.
(19) قوله: «الله تعالى» ليس في (أ).(1/399)
( 16 ) بَابُ النَّهْيِ أَنْ يُبَالَ فِي المِاءِ الرَّاكِدِ
وَمَا جَاءَ فِي صَبِّ المَاءِ عَلَى البَوْلِ فِي المَسْجِدِ
214 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) ، عَنِ النَّبِيِّ ?، قَالَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ».
وَمِنْ بَابِ النَّهْيِ عَنِ الْبَوْلِ فِي المَاءِ الرَّاكِدِ
قولُهُ: «لَا يَبُولَنَّ (2) أَحَدُكُمْ فِي الماءِ الدَّائِمِ»، يعني به: الذي لا يجري، وقد جاءَ في لفظ آخر: «الرَّاكِد»، أي (3) : الساكن.
وقوله: «ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ»، الروايةُ الصحيحة: «يَغْتَسِلُ» برفع اللام، ولا يجوزُ نصبها؛ إذ لا تُنْصَبُ (4) بإضمار «أَنْ» بعد «ثُمّ».
وبعضُ الناسِ قيَّده: «ثُمَّ (5) يَغْتَسِلْ» مجزومةَ اللامِ (6) على العطفِ على: «لَا يَبُولَنَّ»، وهذا ليس بشيء؛ إذْ لو أراد ذلك، لقال: ثُمَّ لَا يَغْتَسِلَنَّ (7) ؛ لأنَّه إذْ ذاك يكونُ عطفَ فِعْلٍ على فعل (8) ، لا عَطْفَ جملةٍ على جملة؛ وحينئذٍ: يكونُ الأصلُ مساواةَ (9) الفِعْلَيْنِ في النهي عنهما (10) ، وتأكيدِهِمَا بالنونِ الشديدة؛ =(1/541)=@ فإنَّ المحلَّ الذي توارَدَا (11) عليه هو شيءٌ واحد، وهو الماءُ، فَعُدُولُهُ عن (12) «ثُمَّ لَا يَغْتَسِلَنَّ (13) »، إلى «ثُمَّ يَغْتَسِلُ»، دليلٌ على أنه لم يُرِدِ العطفَ.
وإنما جاء: «ثُمَّ يَغْتَسِلُ» على التنبيهِ على مآلِ الحال، ومعناه: أنه (14) إذا بال فيه قد يحتاجُ إليه، فيمتنعُ عليه استعمالُهُ، لما وقَعَ (15) فيه من البولِ، وهذا مِثْلُ قوله ?: «لَا يَضْرِبُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ ضَرْبَ الْأَمَةِ، ثُمَّ يُضَاجِعُهَا» (16) ، برفع «يضاجعُهَا»، ولم يروه أحدٌ بالجزمِ، ولا يتخيَّله فيه؛ لأنَّ المفهومَ منه: أنه (17) إنما نهاه عن ضربها؛ لأنه يحتاجُ إلى مضاجعتها في ثاني حال، فتمتنعُ (18) عليه؛ لِمَا أساء مِنْ معاشرتها، فيتعذَّرُ عليه المقصودُ؛ لأجلِ الضَّرْب، وتقديرُ اللفظِ: ثم هو يضاجِعُهَا، وثُمَّ هو يغتسلُ (19) . &(1/400)&$
__________
(1) الحديث رقم (أخرجه البخاري (1/346 رقم 239) في الوضوء، باب البول في الماء الدائم، ومسلم (1/235 رقم 282-95) في الطهارة، باب النهي عن البول في الماء الراكد.
(2) في (غ): «لا يبول».
(3) قوله: " أي " سقط من (ب).
(4) في (أ) و (غ): «تنصب»، وفي (ح): «يجوز» بدل «تنصب».
(5) قوله: «ثم» ليس في (أ).
(6) قوله: «اللام» سقط من (ح).
(7) في (أ): «لا يغتسل».
(8) قوله: «على فعل» سقط من (ح).
(9) في (ح): «مساو».
(10) قوله: «عنهما» سقط من (ح).
(11) في (ح) و (غ): «توارد».
(12) قوله: «عن» ليس في (ح).
(13) في (أ) و(ح): «ثم لا يغتسل».
(14) في (غ): «لأنه».
(15) في (ح) و (غ): «أوقع».
(16) أخرجه البخاري (8/705 رقم 4942) كتاب التفسير، باب سورة: {والشمس وضحاها}، و(9/302 رقم5204) كتاب النكاح، باب ما يكره من ضرب النساء، و(10/463 رقم6042) كتاب الأدب، باب قول الله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا لا يسخر قومٌ من قوم...}، ومسلم (4/2191 رقم2855/49) كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النارُ يدخلها الجَبَّارون، والجنةُ يدخلها الضعفاء، وانظر كلام الشارح على هذا الحديث في
(17) قوله: «أنه» سقط من (أ).
(18) في (غ): «فيمتنع».
(19) من قوله: «وتقدير...» إلى هنا سقط من (أ).(1/400)
وهذا الحديثُ حجةٌ لمن رأى أنَّ قليلَ النجاسةِ ينجِّسُ قليلَ الماء، وإنْ لم يغيِّره (1) ، وهو أحدُ أقوالِ مالك.
ومشهورُ مذهبه – في رواية المدنيِّين –: أنه طهور؛ لكنَّه مكروهٌ مع وجود غيره.
ويصحُّ أن يحمل هذا الحديثُ على أنه إذا أبيحَ البولُ فيه، أدَّى إلى تغيُّره؛ فحُمِيَتِ الذريعةُ بالنهي عن البَوْل (2) .
ومذهبُ (3) السلفِ والخلفِ: أنه لا فَرْقَ بين النهي عن البول فيه، وبين صَبِّ بولٍ فيه، ولا بين البولِ والغائطِ، وسائرِ النجاساتِ كلِّها.
وذهَبَ (4) مَنْ أذهبَهُ اللهُ عن فَهْمِ الشريعة، وأبقاه (5) في درجةِ العَوَامِّ، وهو داودُ من المتقدِّمين، وابنُ حَزْمٍ من المتأخِّرين المجترئين (6) : إلى أن ذلك مقصورٌ على البول فيه خاصة (7) ، فلو صَبَّ فيه بولاً أو عذِرَةً، جاز، ولم يَضُرَّ ذلك الماءَ، وكذلك لو بال خارجَ الماء، فجرَى إلى الماء، لم يضرَّه عندهما، ولم يتناوَلْهُ النهي (8) .
ومن التزَمَ هذه الفضائح، وجَمَدَ هذا الجمود، فحقيقٌ أَلاَّ يُعَدَّ من العلماء، بل ولا في الوجود، ولقد أحسَنَ القاضي أبوبكر - رضي الله عنه - (9) حيث قال: «إنَّ (10) =(1/542)=@ أهلَ الظاهرِ ليسوا مِنَ العلماء، ولا مِنَ الفقهاء، فلا يُعْتَدُّ بخلافهم، بل هم مِنْ جملةِ العوامِّ»؛ وعلى هذا جُلُّ الفقهاء والأصوليين،، ومَنِ اعتد بخلافهم، إنما ذلك لأنَّ مِنْ (11) مذهبه أنه يعتبر خلافَ العوامِّ (12) فلا ينعقدُ الإجماعُ مع وجودِ خلافهم، والحق: أنه لا يعتبَرُ إلا خلافُ مَنْ له أهليَّةُ النظرِ والاجتهاد، على ما يذكر في الأصول.
215 – وَعَنْهُ (13) ، قَالَ: قاَلَ رَسُولُ اللهِ ?: «لَا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ»، فَقَالَ: كَيْفَ يَفْعَلُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ؟ قَالَ: يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلاً.
وقولُ أبي هريرة لما قِيَل له: كيف يفعلُ (14) ؟ قال: «يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلاً» (15) ، يعني: أن يتناول منه (16) ، فيغتسلُ (17) خارجَهُ، ولا ينغمسُ (18) فيه (19) ، وهذا كما قال مالكٌ، حيث سُئِلَ عن نحو هذا، فقال: «يحتالُ»؛ وهذا كلُّه محمولٌ على غير المستَبْحِرِ.
وأما إذا كان &(1/401)&$
__________
(1) في (أ) و (ب) و (ح): «تغيره».
(2) تعليق فقهي ونيس.
(3) في (ح): «ويذهب».
(4) في (أ): «يوذهب».
(5) في (أ): «ولقاه».
(6) قوله: «المجترئين» سقط من (ب).
(7) في (أ): «بخاصة».
(8) تعليق فقهي ونيس.
(9) تعليق فقهي ونيس.
(10) قوله: «إن» ليس في (أ).
(11) قوله: «من» ليس في (غ).
(12) في (ح): «مذهب العوام».
(13) أخرجه مسلم (1/236 رقم 283) في الطهارة، باب النهي عن الاغتسال في الماء الراكد.
(14) في (أ» و (ب): «نفعل».
(15) في (أ): «تتناوله».
(16) في (أ): «معنى أن تتناول منه».
(17) في (أ) و (ب) و(غ): «فتغتسل».
(18) في (أ): «ولا تنغمس».(1/401)
كثيرًا مستَبْحِرًا بحيثُ لا يتغيرَّ، فلا بأس به؛ إذْ لم يتناوله الخَبَرُ،، والإجماع (1) ، (2) على أنَّ الماء إذا كان بحيثُ لا تسري حركةُ المغتسِلِ فيه (3) أو المتوضِّىءِ إلى جميعِ أطرافِهِ، فإنه لا تضرُّه النجاسةُ إذا لم تغيِّره، وهو أقصى ما فرِّق به (4) بين القليلِ والكثير (5) في المياه، والله تعالى أعلم (6) .
216 - وَعَنْ أَنَسِ بْنَ مَالِكٍ (7) ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللهِ ?، إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ?،: مَهْ مَهْ، قَالَ: قَالَ رسُولُ اللهِ ?: «لَا تُزْرِمُوهُ، دَعُوهُ»، فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ ? دَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ هَاذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ؛ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ، وَالصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ» – أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ? – قَالَ: فَأَمَرَ رَجُلاً مِنَ الْقَوْمِ، فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فَشَنَّهُ عَلَيْهِ.
وقوله: «مَهْ مَهْ»، هي اسمٌ من أسماء الأفعال، بمعنى كُفَّ، وهي ساكنةُ الهاء، ويقال: «بَهْ بَهْ» بالباء بدل الميم، فإنْ وَصَلْتَ (8) ، نَوَّنْتَ: مَهٍ مَهٍ، ويقالُ: مَهْمَهْتُ (9) به، أي: زجرتُهُ.
و «لَا تُزْرِمُوهُ»: بتقديم الزاي، أي: لا تقطعوا عليه بولَهُ، يقال: زَرِمَ بَوْلُهُ، =(1/543)=@ بكسر الراء، أي: انقطَعَ، وأزرَمَهُ غيره إِزْرَامًا، وفي (10) الحديث: «لا تُزْرِمُوا ابْنِي (11) »، أي: لا تقطعوا عليه بوله (12) .
ويحتملُ أن يكون أمرَهُ بتركِهِ (13) ؛ لئلا تنتشر النجاسةُ وتكثر،، ولئلا يضرَّه قطعُهُ،، ولِيَرْفُقَ به.
وقد فرَّقتِ الشافعيةُ (14) بين ورودِ الماء على النجاسة، وورودِ النجاسة على الماء – تمسُّكًا بهذا الحديث، وبقوله ?: «إِذَا كَانَ المَاءُ قُلَّتَيْنِ، لَمْ يَحْمِلِ الخَبَثَ (15) » (16) – فقالوا: «إذا كان الماءُ دون القلتَيْنِ (17) ، فحلَّته نجاسةٌ – تنجَّس، وإن لم تُغَيِّره، وإنْ ورد ذلك القَدْرُ فأقلُّ (18) على النجاسةِ، فأذهَبَ عينها، بقي الماءُ على طهارته، وأزالَ النجاسةَ»:
وهذه مناقضةٌ؛ إذِ المخالَطَةُ قد حصَلَتْ في الصورتَيْن، وتفريقُهُمْ بورودِ (19) الماء على النجاسة وورودِهَا عليه: فَرْقٌ صوريٌّ ليس فيه من الفقه شيء، وليس البابُ من (20) باب التعبُّدات، بل هو (21) من بابِ عقليَّة المعاني، فإنه من بابِ إزالةِ النجاسةِ وأحكامها، ثم هذا كلُّه منهم يردُّه قوله ?: «المَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ (22) ، إِلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ (23) » (24) . &(1/402)&$
__________
(1) في (ب): «وللإجماع».
(2) تعليق فقهي ونيس.
(3) قوله: «فيه» سقط من (ح)، وفي (أ) و (غ): «منه».
(4) قوله: «به» سقط من (ح).
(5) في (غ): «الكثير والقليل».
(6) في (غ): «والله أعلم بغيبة وأحكم».
(7) أخرجه البخاري (10/449 رقم 6025) في الأدب، باب الرفق في الأمر كله، وذكر أطرافه في (1/322 رقم 219) في الوضوء، باب ترك النبي ? والناس الأعرابيَّ حتى فرَغَ من بوله في المسجد، ومسلم (1/236، 237 رقم 285) في الطهارة، باب وجوب غَسْلِ البول وغيره من النجاسات إذا حَصَلَتْ في المسجد، وأن الأرضَ تطهُرُ بالماء... .
(8) في (ح): " وصلته ".
(9) في (غ): «مهمهته».
(10) في (أ) و(ب): «في».
(11) قوله: «ابني» سقط من (ح).
(12) من قوله: «يقال: زَرِمَ بوله...» إلى هنا ليس في (غ).
(13) في [غير (غ)]: «ويحتمل أمره بتركه أن يكون».
(14) تعليق فقهي ونيس.
(15) في (غ): «خبثًا».
(16) أخرجه أحمد (2/12، 26، 38)، وأبو داود(1/52 رقم64)كتاب الطهارة، باب ما ينجِّس الماء، والترمذي (1/97 رقم67) كتاب الطهارة، باب منه، وابن ماجه (1/172 رقم517) كتاب الطهارة، باب مقدار الماء الذي لا ينجس، والطحاوي (1/15، 16)، والدارقطني (1/19، 21)، والبيهقي (1/261)، جميعهم: من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيدالله بن عبدالله بن عمر، عن أبيه، قال: سمعتُ النبيَّ ? يُسْأَلُ عن الماءِ يكونُ بأرضِ الفلاة، وما ينوبه من الدوابِّ والسباع؟ فقال النبيُّ ?: «إذا كان الماءُ قُلَّتَيْنِ، لم يحملِ الخبَثَ»، وسنده حسن؛ فقد صرَّح محمد بن إسحاق بالتحديث عند الدارقطني، فانتفتْ شبهة تدليسه.
وأخرجه الدارمي (1/187) كتاب الصلاة والطهارة، باب قدر الماء الذي لا ينجس، والنسائي (1/175) كتاب المياه، باب التوقيت في الماء، وابن خزيمة رقم (92)، والطحاوي (1/15)، و"المشكل" رقم (2644)، جميعهم: من طريق أبي أسامة حَمَّاد بن أسامة، عن الوليد بن كَثِيرٍ المخزوميِّ، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيدالله بن عبدالله بن عمر... فذكَرَهُ.
وأخرجه أبو داود (1/51 رقم63) كتاب الطهارة، باب ما ينجِّس الماء، والنسائي (1/46) كتاب الطهارة، باب التوقيت في الماء، وابن الجارود رقم(45)، وابن حبان(4/57رقم1249)،كما في الإحسان،والدارقطني(1/13 -14، 15، 18)، والبيهقي (1/260،260-261)، وصحَّحه الحاكم (1/132).
جميعهم: من طريق حَمَّاد بن أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبدالله بن عبدالله بن عمر... فذكره.
قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجَّا جميعًا بجميع رواته، ولم يخرجاه، وأظنهما - والله أعلم - لم يخرِّجاه لخلاف فيه على أبي أسامة، على الوليد بن كثير».اهـ.
وأخرجه الشافعي في "مسنده" (1/21/ترتيب السندي)، عن الثقة، وابنُ الجارود رقم (44)، وابن حبان (4/63 رقم1253/الإحسان)، والدارقطني (1/15، 16-17)، والحاكم (1/133)، والبيهقي (1/260)، جميعهم: من طريق أبي أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن عبَّاد بن جعفر، عن عبدالله بن عبدالله بن عمر... فذكره.
قال الحاكم: هكذا رواه الشافعي عن الثقة، وهو أبو أسامة بلا شك فيه.
ثم أخرجه الحاكم من طريق الشافعي.
وأخرجه الدارقطني (1/18)، والحاكم (1/133)، وعنه البيهقي (1/261)، كلاهما من طريق أبي أسامة، عن محمد بن جعفر، ومحمد بن عباد بن جعفر، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر... فذكره.
قال الحاكم: «وإنما قرنه أبو أسامة - يعني: محمَّد بن عباد - إلى محمد بن جعفر، ثم حدَّث به مرة عن هذا، ومرة عن ذاك».اهـ.
قال الحافظ في "التلخيص" (1/19-20): وقال ابن منده: إسناده على شرط مسلم، ومداره على الوليد بن كَثِير، فقيل: عنه، عن محمد بن جعفر بن الزبير، وقيل: عنه، عن محمد بن عباد بن جعفر، وتارة: عن عبيدالله بن عبدالله بن عمر، وتارة: عن عبدالله بن عبدالله بن عمر، والجواب: أن هذا ليس اضطرابًا قادحًا؛ فإنه – على تقدير أن يكون الجميعُ محفوظًا – انتقالٌ من ثقة إلى ثقة، وعند التحقيق: الصواب أنه عن الوليد بن كثير، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن عبدالله بن عبدالله بن عمر، المكبَّر، وعن محمَّد بن جعفر بن الزبير، عن عبيدالله بن عبدالله بن عمر المصغَّر، ومن رواه على غير هذا الوجه فقد وهم، وقد رواه جماعة، عن أبي أسامة، عن الوليد بن كثير على الوجهين».اهـ.
ولم ينفرد به الوليد بن كِثِير، بل تابعه محمد بن إسحاق – كما مضى – وزاده تأييدًا روايةُ حماد بن سلمة الآتية: فأخرجه أحمد (2/23)، وابن ماجه (1/172 رقم518) كتاب الطهارة، باب مقدار الماء الذي لا ينجس، من طريق وكيع.
وأخرجه عبد بن حميد (8/8) من طريق أبي الوليد.
وأخرجه الدارقطني (1/22) من طريق يزيد بن هارون.
وأخرجه الدارقطني أيضًا (1/22)، والحاكم (1/134)، والبيهقي (1/262) من طريق إبراهيم بن الحَجَّاج، وهُدْبة بن خالد.
والدارقطني (1/22) من طريق كامل بن طلحة.
سِتَّتهم عن حماد بن سلمة، عن عاصم بن المنذر بن الزُّبَيْرِ بن العوَّام، عن عبيدالله بن عبدالله بن عمر، عن أبيه، مرفوعًا، إلا أنه قال: «إذا كان الماء قدر قُلَّتَيْنِ أو ثلاث...».
وأخرجه دون قوله: أو ثلاث:
أبو داود (1/52-53 رقم65) كتاب الطهارة، باب ما ينجِّس الماء، والطحاوي (1/16)، والدارقطني (1/23)، والبيهقي (1/262) من طريق موسى بن إسماعيل.
وأخرجه ابن الجارود رقم (46)، والدارقطني (1/23) من طريق عفان.
وأخرجه الدارقطني (1/23) من طريق يعقوب بن إسحاق، وبِشْر بن السَّرِيّ، والعلاء بن عبدالجبار المكي، وعبيدالله بن محمد العيشي، والطيالسي رقم (1954).
سبعتهم عن حماد بن سلمة، به. ... ... ...
وقال البيهقي (1/262): «ورواية الجماعة الذين لم يشكوا أولى».اهـ.
وقال الحافظ في "التلخيص" (1/20): «وسئل ابن معين عن هذه الطريق؟ فقال: إسناد جيد، قيل له: فإن ابن علية لم يرفعه؟ فقال: وإن لم يحفظه ابن علية، فالحديث جيد الإسناد».اهـ.
ورواية ابن عليَّة التي سئل عنها ابن معين، أخرجها ابن أبي شيبة (1/133 رقم1529) كتاب الطهارة، باب الماء إذا كان قلتين أو أكثر، والدارقطني (1/22).
وانظر ما قاله الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي (1/98-99).
وصحَّحه الشيخ الألباني في "الإرواء" (رقم23).
(17) في (أ): «قلتين».
(18) قوله: «فأقل» ليس في (غ).
(19) في (غ): «بين ورود».
(20) قوله: «من» سقط من (أ) و(ب)، و(غ).
(21) قوله: «هو» من (ب) فقط.
(22) قوله: «شيء» ليس في (ح).
(23) في (ح): «لونه أو ريحه أو طعمه»، وانظر: "طرح التثريب"(2/141) فقد نقل العراقي كلامَ الشارح هذا، ثم تعقَّبه هناك.
(24) بهذا اللفظ الذي ساقه الشَّارح، أخرجه ابن ماجه (1/174 رقم521) كتاب الطهارة، باب الحياض، والطبراني في "الكبير" (8/104 رقم7503)، والدارقطني (1/28-28)، والبيهقي (1/259).
جميعهم: من طريق رِشْدِين بن سعد، عن معاوية بن صالح، عن راشد بن سعد، عن أبي أمامة الباهلي، قال: قال رسولُ الله ?: «إِنَّ الماءَ لا ينجِّسه شيءٌ، إلا ما غلَبَ على رِيحِهِ وطعمه ولونه».
وروي مرسلاً:
أخرجه الطحاوي (1/16)، والدارقطني (1/28) من طريق الأحوص بن حَكِيم، عن راشد بن سعد، مرسلاً.
قال ابن أبي حاتم في "العلل"(1/44): سألت أبي عن حديث رواه عيسى بن يونس، عن الأحوص بن حَكِيم، عن راشد بن سعد، قال: قال رسول الله ?: «لا ينجس الماء، إلا ما غلَبَ عليه طعمه ولونه»؟ فقال أبي: يوصله رِشْدين بن سعد، يقول: عن أبي أمامة،عن النبي ?، ورشدين: ليس بقويٍّ، والصحيح: مرسل.اهـ.
وقال البيهقي (1/260): «والحديث غير قوي، إلا أنا لا نعلم في نجاسة الماء إذا تغيَّر بالنجاسة خلافًا».اهـ.
وقد رُوِيَ الحديثُ من وجهٍ آخر، ليس فيه ذكر الزيادة:
وهو ما أخرجه ابن أبي شيبة (1/131 رقم1505) كتاب الطهارة، باب الماء طهورٌ لا ينجِّسه شيء، وأحمد (3/31)، وأبو داود (1/53-54 رقم66) كتاب الطهارة، باب ما جاء أنَّ الماء لا ينجِّسه شيء، والنسائي (1/174) كتاب المياه، باب ذكر بئر بضاعة، وابن الجارود رقم (47)، والدارقطني (1/30)، والبيهقي (1/4-5).
جميعهم: من طريق أبي أسامة، عن الوليد بن كَثِير، عن محمَّد بن كَعْب، عن عبيدالله بن عبدالله بن رافع بن خَدِيجٍ، عن أبي سعيد الخدري؛ أنه قيلَ لرسولِ الله ?: أنتوضَّأ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ، وهي بئرٌ يُطْرَحُ فيها الحِيَضُ ولحمُ الكلابِ والنتن؟ فقال رسول الله ?: «الماءُ طَهُورٌ لا ينجِّسه شيء»، قال الترمذي: «هذا حديث حسن. وقد جوَّد أبو أسامة هذا الحديثَ، فلم يرو أحدٌ حديثَ أبي سعيد في بئر بضاعة أحسَنَ مما روى أبو أسامة. وقد روي هذا الحديث مِنْ غير وجه عن أبي سعيد».
وقال الحافظ في "التلخيص" (1/13): «وصحَّحه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبو محمد بن حزم، ونقل ابن الجوزي أن الدارقطني قال: إنه ليس بثابت، ولم نر ذلك في "العلل" له، ولا "السنن"، وقد ذكر في "العلل" الاختلافَ فيه على ابنِ إسحاقَ وغيره، وقال في آخرِ الكلامِ عليه: وأحسنها إسنادًا روايةُ الوليد بن كَثِير، عن محمد بن كعب، يعني: عن عبيدالله بن عبدالرحمن بن رافع، عن أبي سعيد،وأعلَّه ابن القطان بجهالة راويه عن أبي سعيد، و اختلاف الرواة في اسمه، واسم أبيه»اهـ.
وقال الشيخ الألباني في "الإرواء" (14): «ورجال إسناده ثقات رجال الشيخين، غير عبيدالله بن عبدالله بن رافع، وقال بعضهم: عبدالرحمن بن رافع، وهو وهم كما قال البخاري، وعبيدالله هذا مجهولُ الحال، لم يوثِّقه أحد غير ابن حبان، وقد روى عنه جماعة،وقال الحافظ: مستور. وأبو أسامة اسمه: حمَّاد بن أسامة، وهو ثقة ثبت، وقد خُولِفَ في إسناده، كما أشار إلى ذلك كلامُ الترمذيِّ المتقدم».اهـ.
وللحديث شواهد كثيرة، فانظرها في "تلخيص الحبير" و"الإرواء".(1/402)
وقوله: «إِنَّ هَاذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيٍْء مِنْ هَاذَا الْبَوْلِ وَلاَ الْقَذَرِ»، حجةٌ لمالكٍ (1) في منعِ إدخال الميِّت المسجدَ، وتنزيهِهَا عن الأقذار جملةً، فلا يُقَصُّ فيها شعر، ولا ظُفُر، ولا يتسوَّكُ فيها؛ لأنه مِنْ بابِ إزالةِ القَذَر، ولا يتوضَّأ فيها، ولا يؤْكَلُ فيها طعامٌ مُنْتِنُ الرائحة،،، إلى غيرِ ذلك مما في هذا المعنى. =(1/544)=@
وقوله: «إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ، وَالصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةِ القُرْآنِ»، حجةٌ لمالك: في أنَّ المساجدَ لا يفعلُ فيها شيءٌ من أمور الدنيا، إلا أن تدعو ضرورةٌ أو حاجةٌ إلى ذلك، فيتقدَّرُ بقدرِ الحاجةِ (2) فقطْ؛ كنومِ الغَرِيبِ فيه وأكلِهِ.
وقوله: «فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فَشَنَّهُ عَلَيْهِ»، يروى بالشين وبالسين (3) ، أي: صبَّه، وفرَّق بعضهم بينهما فقال: السين مهملة: صَبٌّ (4) في سهولة، ومعجمة: صَبٌّ(4) في تفريق، ومنه حديث عمر - رضي الله عنه - : «كَانَ يَسُنُّ (5) المَاءَ عَلَى وَجْهِهِ، وَلَا يَشُنُّهُ» (6) ، وفيه: حجةٌ للجمهور: على أنَّ النجاسةَ (7) لا يطهِّرها الجفوف بل الماءُ، خلافًا لأبي حنيفة (8) . &(1/403)&$
__________
(1) تعليق فقهي ونيس.
(2) قوله: «إلى ذلك فيتقدر بقدر الحاجة» سقط من (أ).
(3) في (أ): «يروى بالشين والسين»، وفي (ح): «يروى بالسين وبالشين».
(4) في (غ): «حبب».
(5) في (ب): «ينش».
(6) ذكره ابن الأثير في "النهاية"(2/413)، وقال: أي كان يصبه ولا يفرقه عليه.
(7) في (أ): «إزالة النجاسة».
(8) تعليق فقهي ونيس.(1/403)
ملحوظة:
الصفحات (162، 163، 164، 165) محذوفة من الورق الذي نقابل عليه وغير مثبتة في "وورد".
( 17 ) بَابُ نَضْحِ بَوْلِ الرَّضِيعِ
217- عَنْ عَائِشَةَ (1) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? كَانَ يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ، فَيُبَرِّكُ عَلَيْهِمْ، وَيُحَنِّكُهُمْ، فَأُتِيَ بِصَبِيٍّ، فَبَالَ عَلَيْهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ، فَأَتْبَعَهُ بَوْلَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ: بِصَبِيٍّ يَرْضَعُ.
218- وَعَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ (2) ؛ أَنَّهَا أَتَتْ رَسُولَ اللهِ ? بِابْنٍ لَهَا لَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَأْكُلَ الطَّعَامَ، فَبَالَ فِي حَجْرِ رَسُولِ اللهِ ?، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ ? بِمَاءٍ، فَنَضَحَهُ عَلَى ثَوْبِهِ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ غَسْلاً.
بَابُ نَضْحِ بَوْلِ الرَّضِيعِ
وقوله (3) : «كَانَ يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ، فَيُبَرِّكُ عَلَيْهِمْ، وَيُحَنِّكُهُمْ»:
«يُبَرِّكُ عَلَيْهِمْ»: يدعو =(1/545)=@ لهم بالبَرَكَةِ، «ويحنكهم»: يمضغُ التَّمْرَ، ثم يَدْلُكُه (4) بِحَنَكِ الصبيِّ، وكلُّ ذلك تبرُّكٌ بالنبيِّ ?.
ويؤخذُ منه: التبرُّكُ بأهلِ الفضل، واغتنام أدعيتهِمْ للصبيانِ عند ولادتهم (5) .
وقوله: «فَأُتِيَ بِصَبِيٍّ فَبَالَ عَلَيْهِ»، تعسَّف بعضُهم وقال: إنَّ الضميرَ عائدٌ على (6) الصبيِّ نفسِهِ، وهذا – وإنْ كان هذا (7) اللفظُ صالحًا له (8) – غير أنَّ في حديث أم قيس: «فَبَالَ فِي حَجْرِ رَسُولِ الله ?»؛ فبطَلَ ذلك التأويلُ.
وقوله (9) : «فَدَعَا بِمَاءٍ، فَأَتْبَعَهُ بَوْلَهُ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ»، يعني: رَشَّهُ عليه، وقد روي: «فَصَبَّهُ عَلَيْهِ، وَنَضَحَهُ»، وكلُّها بمعنًى واحدٍ.
واستَدَلَّ (10) بهذا الحديثِ – على طهارةِ بولِ الصبيِّ الذي لم يأكلِ الطعامَ، الذكرِ دون الأنثى -: الشافعيُّ، وأحمدُ، والحسَنُ، وابنُ وَهْب، ورواها الوليدُ بنُ مسلم، عن مالك، وحُكِيَ ذلك عن أبي حنيفة، وقتادة.
وتمسَّكوا أيضًا: بما رواه النسائيُّ، عن أبي السمح (11) مرفوعًا: «يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الجَارِيَةِ، وَيُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الغُلَامِ» (12) ، وهو صحيح.
ومشهورُّ مذهبِ مالكٍ وأبي حنيفة (13) ، (14) : القولُ بنجاسةِ بولِ الذَّكَرِ والأنثى، &(1/404)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (11/151 رقم 6355) في الدعوات، باب الدعاء للصبيان بالبركة ومَسْحِ رؤوسهم، وذكر أطرافه في (1/325 رقم222) في الوضوء، باب بول الصبيان، ومسلم (1/237 رقم 286-101، 102) في الطهارة، باب حكم بول الطفل الرضيعِ وكيفيةِ غَسْله.
(2) أخرجه البخاري (10/171 رقم 5718) في الطب، باب ذات الجَنْب، وذكر أطرافه في: (10/148 رقم 5692) في الطب، باب السعوط بالقسط الهندي والبحري، ومسلم (1/238 رقم 287-103، 104) في الطهارة، باب حكم بول الطفل الرضيع وكيفيَّة غسله.
(3) هذا الحديث ورد تحت باب نضحِ بول الرضيع في "التلخيص"، ولكنَّ الشارح رحمه الله تعالى لم يبوِّب له بابا في "المفهم" كعادته.
(4) في (ب): «يدلك».
(5) تعليق عقدي ونيس.
(6) في (غ): «إلى».
(7) في (غ): «هكذا».
(8) قوله: «له»ليس في (ح) و (غ).
(9) في حديث عائشة لا في حديث أم قيس - رضي الله عنه - .
(10) في (أ) و(ب) و(غ): " استدل "، بدون واو.
(11) (7) في (أ): «والسبح».
(12) أخرجه أبو داود (1/262 رقم376) كتاب الطهارة، باب بول الصبي يصيب الثوب، وعنه البيهقي (2/415).
وأخرجه ابن ماجه (1/175 رقم526) كتاب الطهارة، باب ما جاء في بول الصبي الذي لم يطعم، والنسائي (1/158) كتاب الطهارة، باب بول الجارية، وابن خزيمة رقم (283)، والحاكم (1/166).
جميعهم: مَنْ طريق عبدالرحمن بن مهدي، عن يحيى بن الوليد، عن مُحِلِّ بنِ خليفة، عن أبي السمح، قال: كنتُ خادمَ النبيِّ ?، وجيء بالحسنِ أو الحُسَيْن، فبال على صدره، فأرادوا أن يَغْسِلوه، فقال رسولُ الله ?: «رُشَّهُ؛ فإنَّه يغسلُ بولُ الجارية، ويرش من بولِ الغلام». صحَّحه الحاكم، ووافقه الذهبي.
وقال الحافظ في "التلخيص" (1/61): «قال البزار وأبو زرعة: ليس لأبي السمح غيره، ولا أعرف اسمه، وقال غيره: يقال: اسمه إياد، وقال البخاري: حديث حسن».اهـ.
وصحَّحه الألباني في تعليقه على "المشكاة" (رقم502).
(13) قوله: «وأبي حنيفة» ليس في (ح).
(14) تعليق فقهي ونيس.(1/404)
وهو قول الكوفيين؛ تمسُّكًا (1) بقوله ?: «اسْتَنْزِهُوا (2) مِنَ الْبَوْلِ؛ فَإِنَّ =(1/546)=@ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ» (3) ، وبقوله في حديث القبرَيْن: «كَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ» (4) ، وهو عمومٌ.
وقد روي عن مالكٍ: القولُ بطهارة بولِ الذكرِ والأنثَى جميعًا (5) ، وهو شاذٌّ في النقل والنظر؛ وذلك أنَّ (6) مُستنَدَهُ قياسُ الأنثى على الذكر، وقد فرَّق النصُّ الصحيحُ بينهما؛ فالقياسُ فاسدُ الوضعِ (7) .
قال الشيخ رحمه الله : والعجَبُ ممَّن يستدِلُّ برشِّ بولِ الصبيِّ، أو بالأمرِ بِنَضْحِهِ على طهارتِهِ، وليس فيه ما يَدُلُّ على ذلك! وغايةُ دلالتِهِ: على التخفيف في نوعِ طهارته (8) ؛ إذْ قد رُخِّصَ في نَضْحه ورشِّه، وعُفِيَ عن غَسْله تخفيفًا، وخُصَّ بهذا التخفيف الذِّكَرُ دون الأنثى؛ لملازمتهم حَمْلَ (9) الذُّكْرَان؛ لفرطِ فَرَحهم بهم، ومحبَّتهم لهم، والله أعلم (10) . =(1/547)=@
( 18 ) بَابُ غَسْلِ الْمَنِيِّ مِنَ الثَّوْبِ، وَغَسْلِ دَمِ الْحَيْضِ
219- عَنْ عَلْقَمَةَ وَالأَسْوَدِ (11) ؛ أَنَّ رَجُلاً نَزَلَ بِعَائِشَةَ، فَأَصْبَحَ يَغْسِلُ ثَوْبَهُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّمَا كَانَ يُجْزِئُكَ – أَنْ – رَأَيْتَهُ أَنْ تَغْسِلَ مَكَانَهُ، فَإِنْ لَمْ تَرَ، نَضَحْتَ حَوْلَهُ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللهِ ? فَرْكًا، فَيُصَلِّي فِيهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَتْ: هَلْ رَأَيْتَ فِيهِمَا – يَعنِي: فِي ثَوْبَيْكَ – شَيْئًا؟ قُلْتُ: لَا، قَالَتْ: فَلَوْ رَأَيْتَ شَيْئًا، غَسَلْتَهُ؛ لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنِّي لَأَحُكُّهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللهِ ? يَابِسًا بِظُفُرِي.
220- وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ (12) ، قَالَ: أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? كَانَ يَغْسِلُ الْمَنِيَّ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى أَثَرِ الْغَسْلِ فِيهِ.
وَمِنْ بَابِ غَسْلِ الْمَنيِّ
قولها: «إِنَّمَا كَانَ يُجْزِئُكَ أَنْ رَأَيْتَهُ أَنْ تَغْسِلَ مَكَانَهُ»:
«يُجْزِئُكَ»: يكفيك، &(1/405)&$
__________
(1) في (ح): «تمسكوا».
(2) في (ح): «تنزهوا».
(3) رُوِيَ من حديثِ جماعة من الصحابة، منها:
1 - حديث أبي هريرة:
أخرجه ابن أبي شيبة (1/115 رقم1306) كتاب الطهارة، باب في التوقِّي من البول، وأحمد (2/326 و388و389)، وابن ماجه (1/125 رقم348) كتاب الطهارة، باب التشديد في البول، والدارقطني (1/128)، والحاكم (1/183)، والبيهقي (2/412)، جميعهم: من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي ? قال: «أكثَرُ عذابِ القَبْرِ من البَوْلِ».
قال الدارقطني: «صحيح».
وقال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين، ولا أعرف له علة»، ووافقه الذهبي، وقال البوصيري في "الزوائد" (1/146): «هذا إسناد صحيح، ورجاله عن آخرهم محتجٌّ بهم في الصحيحين»، وحكى الترمذي في "العلل الكبير" (ص42)، عن البخاري، أنه قال: هذا حديث صحيح.
وصحَّحه الشيخ الألباني في "الإرواء" (280).
ولكنْ أعلَّه أبو حاتم بأنَّ رفعه باطل، كما حكاه ابنه في "العلل" (1/366)، إلا أنه لم يبيِّن وجه إعلاله، والله أعلم.
ورُوِيَ من وجه آخر، أخرجه الدارقطني (1/128) من طريق محمد بن الصَّبَّاح السَّمَّان البصري، عن أزهر بن سعد السمان، عن ابن عون، عن محمد بن سيرين، به.
قال الدارقطني: «الصواب مرسل».
وقال الشيخ الألباني في "الإرواء" (1/311): «وهذا سند رجاله ثقات غير محمد ابن الصباح هذا، أورده الذهبي في "الميزان"، فقال: بصري. عن أزهر السمان، لا يعرف، وخبره منكر»، وكأنه يعني هذا.اهـ.
2 - حديث ابن عباس:
أخرجه عبد بن حميد (رقم 642)، والدارقطني (1/128)، والحاكم (1/183-184)، والبزار (1/129رقم 243) والطبراني في "الكبير" (11/69-70رقم 11120).
جميعهم: من طريق إسرائيل، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن رسولَ الله ? قال: «أنَّ عامَّةَ عذابِ القبر من البول؛ فتنزَّهوا من البول»، وفي سنده: أبو يحيى القتات: قال أحمد: روى عنه إسرائيلُ أحاديثَ كثيرةً مناكير جدٍّا.
وقال ابن المديني: قيل ليحيى بن سعيد القطان: روى عن إسرائيل، عن أبي يحيى القتات ثلاثمائة؟ قال: لم يؤت منه أُتِيَ منهما جميعاً، وقال النسائي: ليس بالقوي، وأما ابن معين: فمرة ضعَّفه، ومرة وثَّقه، وفي «التقريب»: لين الحديث.
وقال الهيثمي في «المجمع» (1/490): وفيه أبو يحيى القَتَّات، وثَّقه يحيى بن معين في رواية، وضعَّفه الباقون.اهـ.
وقال الألباني في " الإرواء" (1/312): وسكَتَ عليه الحاكم، ثم الذهبي، وقال الدارقطني عقب الحديث: لابأس به.
قلت: وكأنه يعني: في الشواهد؛ ويشهد له حديثه الآخر، وهو أتم منه.اهـ.
ثم ساق حديث ابن عباس عند البخاري ومسلم: وفيه: «أما أحدهما: فكان لا يتنزه من البول»، وسيأتي.
3 - حديث أنس بن مالك:
أخرجه الدارقطني (1/127) من طريق أبي جعفر الرازي، عن قتادة، عن أنس، قال: قال رسول الله ?: «تنزَّهوا من البَوْل؛ فإنَّ عامَّةَ عذابِ القبر منه».
قال الدارقطني: المحفوظ مرسل.
قال ابن أبي حاتم في "العلل"(1/26): سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه حِبَّانُ ابن هلال، وحِرْمِيٌّ، وإبراهيم بن الحَجَّاج، عن حَمَّاد بن سَلَمة، عن ثُمَامة بن أنس، عن أنس؛ أن النبي ? قال: استنزهوا من البول؛ فإنَّ عامَّةَ عذابِ القبرِ من البَوْل.
قال أبو محمد: قال أبي: حدَّثنا أبو سَلَمة، عن حَمَّاد، عن ثمامة، عن النبيِّ ?: مرسل، وهذا أشبه عندي.
وقال أبو زرعة: المحفوظ عن حماد، عن ثمامة، عن أنس، وقصَّر أبو سلمة. اهـ.
فتبيَّن من ذلك: أن أبا حاتم ذهب إلى إعلالِ الحديثِ بالإرسال، وأنَّ أبا زرعةَ ذهب إلى أنه موصول.
قال الألباني في " الإرواء " (1/310) - بعد أنْ حكى ما سبَقَ نقله عن أبي حاتم وأبي زرعة -: والمحفوظُ الموصولُ؛ كما قال ابن أبي حاتم، عن أبي زرعة، وسنده صحيح. اهـ.
(4) يأتي في باب الاستبراء من البَوْلِ والتستُّر، ضمن كتاب الطهارة.
(5) قوله: «جميعًا» سقط من (أ) و(ح)، و (غ).
(6) قوله: «أن» ليس في (غ).
(7) تعليق فقهي ونيس.
(8) زاد في (غ): «ما يدل على ذلك، وغاية دلالته»، وهو تكرار، بسبب انتقال النظر.
(9) قوله: «حمل» ليس في (أ).
(10) تعليق فقهي ونيس.
(11) أخرجه البخاري (1/332 رقم 229) في الوضوء، باب غسل المنيِّ وفَرْكِهِ، وغسل ما يصيبُ من المرأة ، ومسلم (1/238، 239 رقم 288-105، 290) في الطهارة، باب حكم المني.
(12) أخرجه البخاري (1/332 رقم 230) في الوضوء، باب غَسْلِ المني وفَرْكِهِ وغسل ما يصيب من المرأة، ومسلم (1/239 رقم 289-108) في الطهارة، باب حكم المني.(1/405)
و«أَنْ رَأَيْتَهُ» بفتح الهمزة روايتنا، ووجهُهَا: أنها مفعولة بإسقاطِ حرفِ الجرِّ، تقديره: لأَنْ رأيتَهْ، أو: مِنْ أجلِ، وهي مع الفعلِ بتأويلِ المصدر، وكذلك: «أَنْ تَغْسِلَ مَكَانَهُ»، مفتوحةٌ أيضًا على تأويلِ المصدر، وهو الفاعلُ بـ«يُجْزِئُكَ».
وهذا من عائشة رضي الله عنها يدلُّ: على أن المنيَّ نَجِسٌ (1) ، وأنَّه لا يجزئُ فيه إلا غَسْلُهُ، فإنَّها قالت: «إِنَّمَا» وهي من حروف الحَصْر؛ ويؤيِّد هذا ويوضِّحه قولها: «فَإِنْ لَمْ تَرَ نَضَحْتَ حَوْلَهُ»؛ فإنَّ النَّضْحَ إنما (2) مشروعيتُهُ حيثُ تحقَّقتِ (3) النجاسةُ، وشُكَّ في الإصابة (4) ؛ كما قال عمرُ بنُ =(1/548)=@ الخطَّاب - رضي الله عنه - ، حيث أصبَحَ يغسلُ جنابةً من ثوبه، فقال: «أَغْسِلُ مَا رَأَيْتُ، وَأَنْضَحُ مَا لَمْ أَرَ» (5) ، وهذا مذهبُ السلفِ وجمهورِ العلماء.
وذهب الشافعيُّ وكثيرٌ من المحدِّثين (6) : إلى أنه طاهر (7) ؛ متمسِّكين بقول عائشة رضي الله عنها: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ الله ? فَرْكًا، فَيُصَلِّي فِيهِ»، وبقولها: «وَلَقَدْ (8) رَأَيْتُنِي وَإِنِّي لَأَحُكُّهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللهِ ? يابسًا بظفري»، وهذا لا حجةَ فيه؛ لوجهين:
أحدهما: أنها إنما ذكَرَتْ ذلك مُحْتَجَّةً به على فُتياها، بأنه لا يجزئ فيه إلا الغَسْلُ فيما رئي (9) منه، والنضحُ فيما لم يُرَ، ولا تَتَقَرَّرُ (10) حُجَّتًهَا إلا بأن تكونَ فَرَكَتْهُ وحكَّته بالماء، وإلا ناقضَ دليلُهَا فُتياها.
وثانيهما: أنها قد نصَّت في الطريقِ الآخر: «أنَّ رسولَ اللهِ ? كان يَغْسِلُ المَنِيَّ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ (11) فِي ذَلك الثَّوْبِ، وأنا أَنْظُرُ إلى أَثَرِ الغَسْلِ فِيهِ».
لا يقالُ: «كان غَسْلُهُ إيَّاه مبالغةً في النظافة»:
لأنَّا نقول: الظاهرُ من غَسْله للصلاةِ، وانتظارِ جفافِهِ، وخروجه إليها، وفي ثوبِهِ بُقَعُ الماء أن ذلك إنما كان لأجلِ (12) نجاستِهِ.
وأيضًا: فإنَّ مناسبةَ الغَسْلِ للنجاسةِ أصليَّة؛ إذْ هي المأمورُ بِغَسْلها، فَحَمْلُ الغسلِ على قَصْدِ النجاسة أولى؛ أَلَا تَرَى أنَّ الشافعية استدلُّوا على نجاسةِ الكَلْبِ بالأمرِ بِغَسْلِ الإناء منه، ولم يعرِّجوا على احتمالِ كونِهِ للنظافة، فكذلك (13) ، (14) نقولُ نحنُ في =(1/549)=@ غَسْلِ المنِّي.
ثم نقولُ: هبْ أنَّ هذا الغَسْلَ يحتملُ أن يكونَ للنجاسة، ويحتملُ أن &(1/406)&$
__________
(1) تعليق فقهي ونيس.
(2) قوله: «إنما» سقط من (أ).
(3) في (ا): «تجففت».
(4) قوله: «وشك في الإصابة» ليس في (غ).
(5) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/50) كتاب الطهارة، باب إعادة الجنب الصلاة، وغَسْلِهِ إذا صلَّى ولم يذكُرْ، وغَسْلِهِ ثوبَهُ، عن هشام بن عُرْوة، عن أبيه، عن يحيى بن عبدالرحمن بن حاطب، أنه اعتمَرَ مع عمر بن الخطاب، في رَكْبٍ فيهم عمرو بن العاص، وأنَّ عمر بن الخطاب عَرَّسَ ببعض الطريق، قريبًا من بعض المياه، فاحتلم عمر... فذكر الحديث، وفيه: «بل أغسلُ ما رأيت وأنضح ما لم أر».
ويحيى بن عبدالرحمن بن حاطب لم يدركْ عمر بن الخطاب.
قال أبو حاتم: «ولد في خلافة عثمان».
وقال ابن معين: «يحيى بن عبدالرحمن بن حاطب، بعضهم يقول: سمعتُ عمر، وهذا باطل، إنما هو: عن أبيه، سمع عمر».
(6) في (غ): «وكثير من العلماء المحدثين».
(7) تعليق فقهي ونيس.
(8) في (ب): «لقد».
(9) في (ح): «رأى».
(10) في (ح): «تتقدر».
(11) في (ب) و(غ): «للصلاة».
(12) في (غ): «كان ذلك لأجل».
(13) في (غ): «وكذلك».
(14) تعليق فقهي ونيس.(1/406)
يكون للنظافة؛ وحينئذٍ يكونُ مُجْمَلاً لا يُسْتدلُّ به لا على طهارته، ولا على نجاسته، لكنَّا عندنا (1) ما يدلُّ على نجاسته (2) ، وهو أنه يَمُرُّ في مَمَرِّ البَوْل، ثم يخرج، فينجَّس (3) بالمرورِ في المَحَلِّ النجس، وهذا لا جوابَ عنه على أصلِ الشافعيَّةِ عند الإنصاف (4) .
فإن قالوا: «بولُ النبيِّ ? وسائرِ فَضَلاتِهِ طاهرٌ طَيِّبٌ» (5) :
قلنا: لم يصحَّ عند حد علمائِنَا في هذا شيءٌ، والأصلُ: أن النبيَّ ? واحدٌ من البشر، وهو مُسَاوٍ لسائرِ المكلَّفين (6) في الأحكام، إلا ما ثبَتَ فيه دليلُ خصوصيَّته (7) .
سلَّمنا ذلك، لكنْ فغيرُهُ (8) يكونُ منيُّهُ نجسًا بالمرور على ما ذكرنا (9) .
فإنْ قالوا: «المني أصلٌ لخلقِ الإنسانِ (10) ؛ فيكونُ طاهرًا كالتراب»:
قَلَبْناه عليهم، وقلنا (11) : المنيُّ أصلٌ لخلقِ الإنسانِ؛ فيكونُ نَجِسًا كالعَلَقة.
فإنْ قالوا: «فكيف يكونُ نَجِسًا وقد خُلِقَ منه الأنبياءُ والأولياء؟»:
قلنا: وكيف يكونُ طاهرًا وقد خُلِقَ منه الكَفَرَةُ والضُّلَّالُ والأشقياء، فبالذي ينفصلونَ به نَنْفَصِل!!
221- وَعَنْ أَسْمَاءَ (12) ، قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ ?، فَقَالَتْ: إِحْدَانَا يُصِيبُ ثَوْبَهَا مِنْ دَمِ الْحَيْضَةِ، كَيْفَ تَصْنَعُ بِهِ ؟ قَالَ: « تَحُتُّهُ، ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ تَنْضَحُهُ، ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ».
وقوله ?: «تَحُتُّهُ، ثُمَّ تَقْرُصُهُ (13) »، روِّيناه مشدَّدًا ومخفَّفًا، والحَتُّ (14) : الحَكُّ،، والقَرْصُ والتقريصُ (15) : هو تقطيعُهُ (16) بأطرافِ الأصابعِ؛ ليتحلَّل بذلك، ويخرُجَ من الثوبِ.
وقوله: «ثُمَّ تَنْضَحُهُ»، ذهب بعضُ الناس: إلى أنَّ النَّضْحَ =(1/550)=@ هنا معناه: الغَسْل (17) ، وتأوَّله على ذلك، ولا حاجةَ إلى هذا (18) التأويل، بل إنما معناه: الرَّشُّ، وأما غَسْلُ الدمِ، فقد علَّمها إياه؛ حيث قال لها (19) : «تَحُتُّهُ، ثُمَّ تَقْرُصُهُ (20) بِالمَاءِ»، وأما النضح: فهو فيما شكَّت فيه من الثوبِ (21) ، كما قالتْ عائشةُ في المني؛ ولذلك جمعنا بين حديثِ عائشةَ رضي الله عنها في غسل المنيِّ، وبين حديث أسماء رضي الله عنها في غَسْلِ دم الحَيْضة؛ &(1/407)&$
__________
(1) في (غ): «عرفنا».
(2) تعليق فقهي ونيس.
(3) في (ح): «فينجس».
(4) تعليق فقهي ونيس.
(5) في (أ): «طيب طاهر».
(6) في (غ): «المتكلفين».
(7) تعليق فقهي ونيس.
(8) في (غ): «كغيره».
(9) في (أ): «ذكرناه».
(10) في (غ): «أصل الخلق خلق الإنسان».
(11) في (ح): «فقلنا».
(12) أخرجه البخاري (1/330رقم 227) في الوضوء، باب غسل الدم، ومسلم (1/240 رقم 291-110) في الطهارة، باب نجاسة الدم وكيفية غسله.
(13) في (أ): «تقرضه».
(14) في (ح): «والحث».
(15) في (أ) و(غ): «والتقريض».
(16) في (غ): «وهو تقطيعك»، وفي (ب): «تقصيعه».
(17) تعليق فقهي ونيس.
(18) في (أ)و(ب) و (غ): «لهذا».
(19) في (غ): «له».
(20) في (ح) و (غ): «تقرضه».
(21) تعليق فقهي ونيس.(1/407)
حتى يتبيَّن أنَّ الكيفيَّةَ المأمورَ بها في غَسْلهما (1) واحدةٌ، وأنَّهما متساويتان (2) في النجاسةِ.
ويدلُّ هذا الحديثُ: على أنَّ قليلَ دمِ الحيضِ (3) وكثيرَهُ سواءٌ في وجوبِ غَسْلِ جميعه، من حيثُ لم يفرِّقْ بينهما (4) في محلِّ البيان، ولو كان حُكْمُهُمَا مختلفًا، لفصَّله ?؛ لأنَّ تأخيرَ البيانِ عن وقتِ الحاجة لا يجوزُ إجماعًا، وهذا (5) مشهورُ مذهبِ مالك، وقد (6) قال مالكٌ رحمه الله: قد سمَّاه الله أذًى، وهو يَخْرُجُ من مَخْرَجِ البول.
( 19 ) بَابٌ فِي الاِسْتِبْرَاءِ مِنَ الْبَوْلِ، وَالتَّسَتُّرِ، وَمَا يَقُولُ إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ
222- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (7) ، قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللهِ ? عَلَى قَبْرَيْنِ، فَقَالَ: «أَمَا إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ: أَمَّا أَحَدُهُمَا، فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ،، وَأَمَّا الآخَرُ، فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ»، قَالَ: فَدَعَا بِعَسِيبٍ رَطْبٍ، فَشَقَّهُ بِاثْنَيْنِ. ثُمَّ غَرَسَ عَلَى هَذَا وَاحِدًا، وَعَلَى هَذَا وَاحِدًا. ثُمَّ قَالَ: « لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا، مَا لَمْ يَيْبَسَا».
وَفِي رِوَايَةٍ: « وَكَانَ الآخَرُ لا يَسْتَنْزِهُ عَنِ الْبَوْلِ أَوْ مِنَ الْبَوْلِ».
وَمِنْ بَابِ الاِسْتِبْرَاءِ مِنَ الْبَوْلِ
قوله: «وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ»، أي: عندكم، وهو عند اللهِ كبيرٌ، كما جاء &(1/408)&$
__________
(1) في (غ): «غسلها».
(2) في (أ): «متساويات».
(3) في (غ): «الحيضة».
(4) في (ب): «بينها».
(5) في (ح): «وهو».
(6) قوله: «قد» ليس في (غ).
(7) أخرجه البخاري (1/317 رقم 216 ) في الوضوء، باب من الكبائر ألَّا يستتر من بوله، ومسلم (1/240،241 رقم 292 –111والذي يليه ) في الطهارة، باب الدليل على نجاسة البولِ ووجوبِ الاستبراء منه.(1/408)
في البخاري: «وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ»، أي (1) : عند الله، وهذا مِثْلُ قوله تعالى: {وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم}، وقد تقدَّم الكلامُ على النَّمَّامِ (2) في «الإيمان» (3) .
و«النميمةُ» (4) : هي القَالَةُ (5) التي تُرْفَعُ عن قائلها؛ ليتضرَّر بها قائلها. =(1/551)=@
وقوله: «وَأَمَّا الآخَرُ، فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ»، أي: لا يجعلُ بينه وبين بولِهِ سُتْرَةً حتى يتحفَّظ منه؛ كما قال في الرواية الأخرى: «لَا يَسْتَنْزِهُ عَنِ الَبْولِ»، أي: لا يتباعدُ منه؛ وهذا يدلُّ على أن القليلَ من البولِ ومِنْ سائرِ النجاساتِ والكثيرَ منه (6) سواءٌ (7) ، وهو مذهبُ مالكٍ وعامَّةِ الفقهاء، ولم يخفِّفوا في شيءٍ من ذلك إلا في اليسيرِ مِنْ دمِ (8) غيرِ الحَيْضِ (9) خاصةً (10) .
واختلَفَ أصحابُنَا في مقدارِ اليسير:
فقيل: هو قدرُ الدِّرْهَمِ البَغْلِيِّ (11) مدور (12) .
وقيل: قدرُ الخِنْصَر وجعَلَ أبو حنيفة (13) : قَدْرَ الدرهمِ مِنْ كلِّ نجاسةٍ معفوًّا عنه (14) ؛ قياسًا على المَخْرَجَيْنِ، وقال الثوري (15) : كانوا يرخِّصون في القليلِ مِنَ البول، ورخَّص الكوفُّيون: في مثل رُؤُوسِ الإِبرِ من البول (16) .
وفيه: دليلٌ على أنَّ إزالةَ النجاسةِ واجبةٌ متعيِّنة (17) (18) ، وكذلك في قوله:«اسْتَنْزِهُوا مِنَ البَوْلِ؛ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ القَبْرِ مِنْهُ» (19) .
وقد تخيَّل الشافعيُّ في لفظِ البَوْلِ العمومَ (20) ؛ فتمسَّك به في نجاسةِ جميعِ الأبوالِ، وإنْ كان بولَ ما يؤكَلُ لحمه (21) ، (22) . وقد لا يسلَّم له أنَّ الاسم المفرَدَ للعمومِ، ولو سلِّم ذلك، فذلك إذا لم تَقْترِنْ (23) به قَرِينةُ عَهْدٍ، وقد اقترنَتْ به ها هنا، ولَئِنْ سُلِّمَ له ذلك، فدليلُ تخصيصِهِ (24) ، (25) : حديثُ إباحةِ شُرْبِ أبوالِ الإبلِ للعُرَنِيِّينَ (26) ، وإباحةِ الصلاةِ في مَرَابِضِ الغنمِ (27) ، وطوافِهِ ? على بعيرٍ، وسيأتي (28) .
وقوله: «فَدَعَا بِعَسِيبٍ رَطْبٍ»، «العَسِيبُ» من النخل: كالقضيبِ (29) مما سِواهَا، و«الرَّطْب»: الأخضر.
وقوله: «لَعَلَّه يُخَفَّفُ عَنْهُمَا، مَا لَمْ يَيْبَسَا»، اختلَفَ العلماءُ في تأويل هذا =(1/552)=@ الفعلِ:
فمنهم من قال: أوحي إليه أنه يخفَّف عنهما ما داما رَطْبَيْنِ، وهذا فيه &(1/409)&$
__________
(1) قوله: «أي» سقط من (أ).
(2) في (أ): «التمام».
(3) في باب من استرعي رعية، فلم يجتهد ولم ينصح لهم، لم يدخل الجنة، ومن نَمَّ الحديث، لم يدخل الجنة.
(4) سورة النور، الآية: 15.
(5) في (ح) و(غ): «المقالة».
(6) قوله: «منه» ليس في (ح).
(7) 50 سعد.
(8) 50 سعد.
(9) في (أ): «من غير دم الحيض».
(10) 50 سعد.
(11) في (ب): «التفلى».
(12) قوله: «مدور» ليس في (ح).
(13) من قوله: «قدر الدرهم...» إلى هنا سقط من (أ)، بسبب انتقال النظر.
(14) في (أ): «معفو عنها».
(15) في (غ): «النوري».
(16) تعليق فقهي ونيس.
(17) تعليق فقهي ونيس.
(18) 50 سعد.
(19) سبق تخريجهن في كتاب الطهارة، باب نَضْحِ بول الرضيع.
(20) 50 سعد.
(21) تعليق فقهي ونيس.
(22) 50 سعد.
(23) في (ح): «يقترن».
(24) في (ب): «تخصيصه».
(25) 50 سعد.
(26) يأتي في كتاب القسامة، باب القصاص في العين وحكم المرتد.
(27) يأتي في كتاب الطهارة، في باب الوضوء من لحوم الإبل، والمضمضة من اللبن.
(28) في كتاب الحج، باب الطواف على الراحلة لِعُذْر.
(29) في (أ): «كما الغصيب».(1/409)
بُعْدٌ؛ لقوله: «لَعَلَّهُ»، ولو أُوحِيَ إليه، لما احتاجَ للترجِّي (1) .
وقيل: لأنهما ما داما رطبَيْنِ يسبِّحان؛ فإنَّ رطوبَتَهُمَا حياتُهُمَا، وأُخِذَ مِنْ هذا التأويلِ جوازُ القراءةِ والذِّكْرِ على القبور (2) ، (3) ، (4) .
وقيل: لأنَّ النبيَّ ? شفَعَ لهما، ودعا بأن يُخَفَّفَ عنهما، ما داما (5) رَطْبَيْنِ، وقد دلَّ على هذا حديثُ جابرٍ الذي يأتي في آخِرِ الكتابِ في حديثِ القَبْرَيْنِ، قال فيه: «فَأَحْبَبْتُ بِشَفَاعَتِي (6) أَنْ يُرَفِّهَ (7) ذَلِكَ عَنْهُمَا (8) ، مَا دَامَ القَضِيبَانِ رَطْبَيْنِ» (9) ، فإنْ كانتِ القضيَّةُ واحدةً - وهو الظاهرُ - فلا مَزِيدَ على هذا في البيان.
223- وَعَنْ أَنَسٍ (10) ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ? إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ - وَفِي رِوَايَةٍ: الْكَنِيفَ - قَالَ: « اللَّهُمَّ، إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ».
وقوله: «إذا دَخَلَ الخَلَاءَ»، أصلُ «الخلاء»: الخَلْوة، وهي الخُلُوُّ، كَنَى به عن الحَدَث؛ لأنه يُفْعَلُ في خَلْوةٍ. و«الكنيفُ»: الساتر.
وقوله: «إِذَا دَخَلَ»، أي: إذا (11) أراد أن يَدْخُلَ، وقد جاء هذا أيضًا في البخاريِّ هكذا: «إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ» (12) (13) ، ويخرَّج من هذا: كراهةُ (14) ذِكْرِ الله تعالى، وقراءةِ القرآنِ، في هذه المواضعِ المعتادةِ للحَدَث (15) ، (16) .
فلو (17) لم يَتَعَوَّذْ عند الدخول ناسيًا، فهل يَتَعَوَّذُ بعد الدخولِ أم لا؟:
فعن مالك في ذلك: قولان (18) .
وكَرِهَهُ جماعةٌ من السلف؛ كابن عباسٍ (19) ، وعطاءٍ، والشعبيِّ.
وأجاز ذِكْرَ الله تعالى في الكَنِيفِ وعلى كلِّ حال: جماعةٌ؛ كعبدالله بن عمرٍو (20) ، وابن سِيرِينَ، والنَّخَعِيِّ (21) ، متمسِّكين بقول عائشة رضي الله عنها: كَانَ رَسُولُ اللهِ ? يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ (22) (23) . =(1/553)=@
وكذلك اختلَفُوا في دخولِ الخلاءِ بالخاتَمِ فيه اسْمُ الله تعالى (24) (25) .
وقوله: «أَعُوذُ»، أي: ألوذُ وألتجئُ، وقد تقدَّم (26) . &(1/410)&$
__________
(1) في (غ): «إلى الترجي».
(2) هذا الفعلُ من البِدَعِ المحدثةِ في دين الله، وهذا التأويلُ المأخوذُ من الحديث لا يصلُحُ دليلاً؛ لبعده، وعَدَمِ صراحته، ولو كان صحيحًا، لفعلَهُ النبيُّ ? والصحابةُ والتابعون لهم بإحسان، ولمَّا لم ينقل إلينا بسند صحيح أو ضعيف، دل على أنهم لم يفعلوه، ولمَّا لم يفعلوه، دَلَّ على أنَّه بدعة؛ فإنَّ من أحد شيئا في أمور الدين والقربات ولم أخذ عن النبي ? وصحابته – فهو مردود على صاحبه؛ لأنه بدعة ضلالة!
(3) تعليق فقهي ونيس.
(4) 50 سعد.
(5) في (غ): «ما كانا».
(6) في (ب) «فأحببت بشفاعتي»، وفي (ح): «وأحببت بشفاعتي»، وفي (غ): «فأجيبت شفاعتي».
(7) في (غ): «يرفع».
(8) في (ب): «عنهما ذلك».
(9) يأتي في كتاب النبوات، باب ذكر بعض كراماتِ رسولِ الله ? في حال هِجْرته وفي غيرها.
(10) أخرجه البخاري (1/242 رقم 142) في الوضوء، باب ما يقول عند الخلاء، ومسلم (1/283 رقم 375) في الحيض، باب ما يقول إذا أراد دخول الخلاء.
(11) قوله: «إذا» ليس في (ح).
(12) "صحيح البخاري" (142).
(13) من قوله: «وقد جاء هذا...» إلى هنا ليس في (ح).
(14) في (أ): «كراهية».
(15) 50 سعد.
(16) تعليق فقهي ونيس.
(17) في (أ): «فإن».
(18) 50 سعد.
(19) أخرجه ابن أبي شيبة (1/108 رقم1220) كتاب الطهارة، باب الرجل يذكُرُ الله وهو على الخلاءِ، أو وهو يجامع، وابن المنذر في "الأوسط"(1/340) كلاهما من طريق جرير، عن قابوس، عن أبي ظَبْيَانَ، عن ابن عباس، قال: يُكْرَهُ أن يَذْكُرَ اللهَ وهو جالسٌ على الخلاء، والرجلُ يواقعُ امراته؛ لأنه ذو الجلال يَجِلُّ عن ذلك.
وقابوس بن أبي ظَبْيَان: قال أبو حاتم: يكتب حديثه، ولا يحتجُّ به، وقال النسائي: ليس بالقوي؛ ضعيف، وقال جرير بن عبدالحميد: أتيناه بعد فساد، وقال مرة: نفق قابوس ! نَفَقَ قابوس! وقال ابن حبان: كان رديء الحفظِ يتفرَّد عن أبيه بما لا أصل له، ربَّما رفع المراسيل، وأسند الموقوف، وفي "التقريب": فيه لين.
(20) في (ح): «كعبدالله بن عمر»، والمثبت من بقية النسخ، وهو الصواب، كما "الإكمال" ( ... ).
(21) وأيضًا هو قول مالك بن أَنَسٍ؛ كما في «الإكمال» ( ... ).
(22) يأتي في باب المؤمن لا ينجس، وذكر الله تعالى على كل حال وما يتوضأ له.
(23) وكذلك احتجوا بظاهر حديث الباب، وبقوله تعالى: {من كان يريد العزة فإن العزة لله جميعًا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} [فاطر: 10] انظر: "الإكمال" ( ... ).
(24) 50 سعد.
(25) تعليق فقهي ونيس.
(26) في كتاب؟؟؟؟، باب؟؟؟؟، وسيأتي أيضا في كتاب الصلاة، باب جواز الإشارة بالسلام في الصلاة، ولعن الشيطان.(1/410)
وقوله: «مِنَ الخُبْثِ والْخَبَائِثِ»، رُوِّيناه: ساكنَ الباءِ ومضمومَهَا (1) :
قال ابنُ الأعرابيِّ: الخُبْثُ (2) ، في كلام العرب: المكروهُ، وهو ضِدُّ الطيِّب (3) ، قال أبو الهيثم (4) : الْخُبث بالضم: جمعُ خَبِيثٍ، وهو الذَّكَرُ من الشياطين، والخبائثُ: جَمْعُ الخبيثة، وهي الأنثَى منهم، يعني: أنه تعوَّذ من ذكورهمْ وإناثهم، ونحوَهُ قال الخطابيُّ (5) ،، وقال الداووديُّ: الخُبُثُ (6) : الشيطان (7) ، والخبائثُ: المعاصي (8) .
وأما بسكونِ الباء: فقيل فيه: إنه المكروهُ مطلقًا (9) ، وقيل: إنه الكُفْر، والخبائثُ: الشياطينُ؛ قاله ابن الأنباريِّ (10) ، وقيل: الخبائث: البَوْلُ والغائط (11) ؛ كما قال: «لَا تُدَافِعُوا الأَخْبَثَيْنِ – الغَائِطَ وَالبَوْلَ – فِي الصَّلَاةِ» (12) .
وقد روى أبو داود (13) في «المراسيل»، عن الحسن: أنه ? كان إذا أرادَ الخلاءَ، قال: «اللَّهُمَّ، إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الخَبِيثِ (14) المُخْبِثِ، الرِّجْسِ النِّجْسِ (15) ، الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»، فأتى بـ«الخَبِيثِ» للجنس، وأكَّده بـ«المُخْبِث»، والعربُ تقولُ: خَبِيثٌ مُخْبِثٌ، ومَخْبَثَان (16) : إذا بالغَتْ في ذلك (17) (18) . =(1/554)=@ &(1/411)&$
__________
(1) هذان وجهان مشهوران في رواية الحديث، أما الخُبُث – على رواية الضم- فلا إشكال فهيا، فالخبث: جمع خبيث، وهو الشطيان الذكر، أو الشيطان مطلقا على ما سيأتي في كلام الشارح وغيره.
وأما الخُبْث – على رواية الإسكان – فقد نقل القاضي عياض أن أكثر روايات الشيوخ على هذه الرواية؛ لكنْ خَطَّأ أبو سليمان الخطابي هذه الرواية، فقال في "إصلاح غلط المحدثين" له (ص 48 – 49): "أصحاب الحديث يروونه: الخُبْْث ساكنة الباء، وكذلك رواه أبو عبيد في كتابه [يعني: "غريب الحديث" (2/192)]، وفسَّره، فقال: أما الخُبْثُ: فإنه يعني الشَّرَّ، وأما الخبائث: فإنها الشياطين، قال أبو سليمان: وإنما هو الخُبْثُ: فإنه يعني الشَّرَّ، وأما الخبائث: فإنها الشياطين، قال أبو سليمان، وإنما هو الخُبُث،ن مضموم الباء: جمع خبيث، والمراد به: ذكور الشياطين، وأما الخبائث: الإناث: فهو جمع خبيثة، أستيعذ بالله من مَرَدَة الجنِّ ذكورهم وإناثهم، فأما الخُبْث، ساكنة الباء، فمصدر خَبُثَ الشيء يَخْبُثُ خُبْثًا، وقد يجعل اسما، قال ابن الأعرابي: أصل الخُبْث في كلام العرب: المكروه... إلخ".
قلت: تغليط الخطابي في رواية الإسكان: ليس بغلط، فإن الإسكان قد صحَّت به الرواية، وله وجوه صحيحة من الدراية.
أما الرواية: فقد قال النووي: " قد صرح جماعة من أهل المعرفة بأن الباء هنا ساكنة، منهم الإمام أبو عبيد إمام هذا الفن، والعمدةُ فيه". اهـ. وأيضًا: فقد تقدَّم نقل كلام القاضي أن الإسكان هو أكثر روايات الشيوخ.
وأما الرواية: فقد وقَفْتُ على تخريجين لرواية الإسكان:
الأول: ما أجاب به النووي أن الإ سكان جائز على سبيل التخفيف؛ كما يقال: كَتْبٌ، وَرُسْلٌ، وعُنْقٌ، وأُذْن، ونظائره، فهذا ونظائره جائز تسكينه تخفيفا بلا خلاف عند أهل اللغة والتصريف والنحو، وتخفيف هذا الباب – باب فعل، بضمتين – معروفٌ في أبوبا التصريف لا يمكن إنكاره،، موجب وهذا القول: أن الخُبْث، ساكنة الباء: جمع خبيث، فهو جمع لا مفرد.
التخريج الثاني: ما ذكره الحافظ ابن حجر؛ فقد قال – بعد ذكره التوجيه الأول ، على أنه جمع – قال: "وإنْ كان [الخُبْثُ] بمعنى المفرد [يعني: أنه مصدر لـ"خَبُثَ"]، فمعناه – كما قال من المِلَل: فهو الكفر وإن كان من الطعام: فهو الحرام، وإنْ كان من الشراب: فهو الضارُّ، وعلى هذا : فالمراد بالخبائث : المعاصي، أو مطلق الأفعال المذمومة، ليحصل التناسب".اهـ. فهذا ت خريج لهذه الرواية على أنها مفرد لا جمع، ويكون معنى "الخُبْث": الشر، كما قال أبو عبيد، أو الكفر، كما قال ابن الأنباري، أو المكروه مطلقا؛ كما قال ابن الأعرابي، وسيأتي هذا في كلام الشارح.
وقد جمع القاضي بين معنيي هذين التخريجين، فقال في "الإكمال" ( ): لا يَبْعُدُ أن يستعيذ من الكفر ومن الشياطين ومن سائر الأخلاق الخبيثة والأفعال المذمومة، وهي الخبائث، وجاء بلفظ الخُبْث لمجانسة الخبائث، والله أعلم، ولأنَّه لمَّا كان الموضع خبيثًا في نفسه، استعاذ من كل ما جاء على لفظه"اهـ.
انظر: "إصلاح غلط المحِّدثين" للخطابي (ص48 – 49)، و"غريب أبي عبيد" (2/191 – 192)، و"شرح النووي على مسلم" (4/71)، و"تهذيب الأسماء واللغات" (3/82)، و"مشارق الأنوار" (1/228 - 299)، و"الإكمال" ( )، و"فتح الباري" (243).
(2) جميع النسخ: «الخبيث»، والتصويب من جميع مصادر التخريج.
(3) تقدم في التعليق السابق نقل كلام ابن الأعرابي بطوله عن أصل معنى "الخبث" في أثناء كلام الحافظ ابن حجر، وانظر أيضا في : "شرح النووي على مسلم" (4/71)، و"تهذيب الأسماء واللغات" (3/82)، و"عمدة القاري" (2/270)، و"شرح السيوطي لسنن النسائي" (1/21)، و"إصلاح غلط المحدِّثين" (ص49)، و"اللسان" (2/144)، و"التاج" (5/236).
(4) نقوله عنه الأزهري في "تهذيب اللغة" (7/146)، وقال: «هذا الذي قاله أبو الهيثم أشبه عندي بالصواب من قول أبي عبيد"، وقد ذكرنا قول أبي عبيد قبل قليل، وقد نقل كلام أبي الهيثم أيضا: الهروي في "الغريبين" (2/527)، وانظر: الإكمال" ( ).
(5) في "إصلاح غلط المحدِّثين" (ص49)، وانظر: "الإكمال" ( )، و"المشارق" (1/228)، و"المبدع" (1/79).
(6) في (ح): «الخبيث».
(7) في (أ) و(ح) و(غ): «الشيطان».
(8) انظر: "الإكمال" ( )، و"مشارق الأنوار" (1/228)، و"تهذيب الأسماء واللغات" (3/82).
(9) وهذا قول ابن الأعرابي، وقد سبق توثيق قوله.
(10) في كتابه "الزاهر في معاني كلمات الناس" (2/139)، وانظر: "غريب أبي عبيد" (2/192)، و"تهذيب الأسماء واللغات" (3/82).
(11) انظر: "الإكمال" ( ).
(12) أخرجه ابن أبي شيبة (2/187 رقم7935) كتاب الصلاة، باب في مدافعة الغائط والبول في الصلاة، وعنه ابن ماجه (1/202 رقم618) كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في النهي للحاقن أن يصلي.
وأخرجه أحمد (2/442و471)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (5/246 رقم2000)، وابن حبان (5/428 رقم2072/الإحسان)، والبيهقي (3/72).
جميعهم من طريق يزيد بن عبدالرحمن بن الأسود الأودي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تدافعوا الأخبثين: الغائط والبول في الصلاة».
وفي سنده: يزيد بن عبدالرحمن الودي: روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في الثقات، ووثقه العجلي. وصحح له الترمذي. ... ... ... ...
والحديث صححه الألباني في "صحيح الجامع" (رقم7769).
(13) أخرجه أبو داود في "المراسيل" (ص72)، عن موسى بن إسماعيل، عن حَمَّاد، عن هشام بن حَسَّان، عن الحسن؛ أنَّ النبيَّ ? كان إذا دخَلَ الخلاء، قال: «اللهمَّ، إنِّي أعوذُ بك من الخبيثِ المُخْبِثِ، الرِّجْسِ النِّجْسِ، الشيطانِ الرجيمِ».
وسنده ضعيف؛ لإرساله، قد تُكُلِّمَ في رواية هشام بن حَسَّان، عن الحسن، فقال ابن المديني: حديثه عن الحسن عامَّتها يدورُ على حوشب، وقال جريرُ بنُ حازم: قاعدتُّ الحسَنَ سبعَ سنين ما رأيتُ هِشَامًا عنده قطُّ، وكان شعبةُ يتقي حديثه عن الحسن، وقال أبو داود: أربعةٌ كانوا لا يرون الروايةَ عن هشام عن الحسن: يحيى بن سعيد، وابن عُلَيَّة، ويزيد بن زُرَيْع، ووُهَيْب.
ورواه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (ص11 رقم18)، باب ما يقولُ إذا دخل الخلاء، من طريق إسماعيل بن مسلم، عن الحسن وقتادة، عن أنس بن مالك، مثله. وإسناده ضعيف؛ إسماعيل بن مسلم هو المكي، متفق على تضعيفه.
وفي الباب: عن ابن عمر، عن ابن السني (ص 13 رقم25)، وعن أبي أمامة، عند ابن ماجه (1/109 رقم299) كتاب الطهارة، باب ما يقول الرجلُ إذا دخَلَ الخلاء.
وعن حذيفة موقوفًا، عند ابن أبي شيبة (1/11 رقم5). وأسانيدها ضعيفة.
(14) في (ح): «الخبث»، والمثبت من بقية النسخ، ومن «مراسيل أبي داود».
(15) قوله: «الرِّجْس النِّجْس» بكسر الراء والنون، والجيم فيها؛ لأنه من باب الإتباع؛ كذا قال الفرِّاء، ونقله عنه جماعة، وتابعوه عليه، قال أ بو عبيد في "غريب الحديث" (2/191 – 192): «زعم الفراء أنهم إذا بدؤوا بالنَّجَسِ، ولم يذكروا الرِّجْس – فتحوا النون والجيم، وإذا بدؤوا بالرِّجْسِ، ثم أتبعوه النَّجَسَ، كسروا النون". اهـ. وانظر قول الفراء أيضا في "تهذيب اللغة" (10/593)، و"الصحاح" (3/981)، و"النهاية" (2/200)، و"المبدع" لابن مفلح (1/79)، و"المطلع" للبعلي (ص12)، و«اللسان» (6/95).
والرِّجس: القَذَر، وقد يعبَّر به عن الحرام، والفعل القبيح، والعذاب، واللعنة، والمراد في هذا الحديث الأول، وأمَّا النَّجْس، فهو اسم فاعل من نَجِسَ الشيءُ يَنْجَسُ نَجَسًا، فهو نَجَسٌ، ونَجِسٌ، ونَجْسٌ ، ونِجْسٌ. انظر: "تهذيب اللغة"، و"الصحاح"، و"اللسان"، و"المبدع"، و"المطلع".
(16) يقال: أَخْبَثَ الرجُلُ يُخْبِثُ إِخْبَاثًا، أي: اتخذ أصحابًا خبثاءَ، فهو خَبِيثٌ مُخْبثٌ ومَخْبَثَان، والمَخْبَثَة: المفسدة، وفي حديث سعيد بن المسيِّب، قال: كذَبَ مَخْبَثَان»، قال ابن الأثير : المَخْبَثَانُ: الخَبيثُ، ويقال للرجل والمرأة جميعًا، وكأنَّه يدلُّ على المبالغة. انظر: «العين» (1/203)، (2/249)، و "الجمهرة" (1/258)، و"المحكم" (5/166)، و"تهذيب اللغة" (7/147)، و"النهاية" (2/6)، و"اللسان" (2/143)، و"التاج" (5/232).
(17) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/191 – 192) و"الزاهر" لابن الأنباري (2/139 – 140). و"غريب الحديث" لابن الجوزي (1/261)، و"النهاية" (2/6)، و"اللسان" (2/142)، (6/226).
(18) ذكر أبوبكر بن الأنباري رحمه الله في معنى "خبيث مخبث" ثلاثة أقوال:
الأول: الخبيث: ذو الخُبْث في نفسه، والمُخْبِث: الذي أصحابه وأعوانه خبثاء، ومثله قولهم: فلانٌ قويٌّ مُقْوٍ؛ فالقويُّ: ذو القوة في نفسه، والمُقْوِي: الذي دوابُّهُ قويَّة، ومثله أيضًا قولهم: ضعيفٌ مُضْعِف؛ فالضعيف: ذو الضعف في نفسه، والمُضْعِف: الذي دوابُّه ضعاف.
الثاني: أن يكون معنى الخبيث ما ذكرناه، والمُخْبِث: الذي يُخْبِثُ غيره، أي: يعلِّمه الخُبْث ويفسده.
وقد ذكَرَ هذَيْن القولَيْن : أبو عُبَيْد في "غريب الحديث" له (2/192)، وكأنَّه ا ختار القول الأوَّل وقدَّمه.
الثالث: أن يكون معنى الخبيث ما ذكرناه، والمُخْبِث: بمعنى الخبيث لا زيادة لمعناه على معناه، إلا زيادة إلا طناب والمبالغة، ويجري هذا مجرى قول العرب: هو جَادٌّ مُجِدٌّ، وهو خَرَّابٌ ضَرُوب، المعنى في الحرمين واحد. اهـ. بتصُّرف من "الزاهر" (2/139 – 140).(1/411)
( 20 ) بَابُ مَا يَحِلُّ مِنَ الحَائِضِ
224- عَنْ عَائِشَةَ (1) ، قَالَتْ: كَانَتْ إِحْدَانَا، إِذَا كَانَتْ حَائِضًا، أَمَرَهَا رَسُولُ اللهِ ? أَنْ تَأْتَزِرَ فِي فَوْرِ حَيْضَتِهَا، ثُمَّ يُبَاشِرُهَا، قَالَتْ: أَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ? يَمْلِكُ إِرْبَهُ؟!
225- وَعَنْ مَيْمُونَةَ (2) ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ? يُبَاشِرُ نِسَاءَهُ فَوْقَ الإِزَارِ، وَهُنَّ حُيَّضٌ.
وَمِنْ بَابِ مَا يَحِلُّ مِنَ الحَائِضِ
قوله: «أَمَرَهَا أَنْ تَأْتَزِرَ فِي فَوْرِ حَيْضَتِهَا».
«الائتزارُ»: شدُّ الإزارِ على الوَسَط إلى الرُّكْبة، وقال ابنُ القَصَّار: من السُّرَّة إلى الركبة، وهذا منه ? مبالغةٌ في التحرُّز من النجاسة، وإلا فالحمايةُ تَحْصُلُ بخرقةٍ تحتشي (3) بها.
و «فَوْرُ الحَيْضَةِ»: معظمُ صَبِّها، من فَوَرَانِ القِدْرِ والبَحْر، وهو غَلَيَانهما.
قال ابن عَرَفة: و«المَحِيضُ» و«الحَيْض»: اجتماعُ الدمِ إلى ذلك المكان، وبه سمِّي الحَوْضُ؛ لاجتماعِ الماء فيه، يقال: حاضَتِ المرأةُ، وتحيَّضَتْ حَيْضًا ومَحَاضًا ومَحِيضًا: إذا سال الدمُ منها في أوقاتٍ معلومةٍ، فإذا سال في غيرها، قيل: استُحِيضَتْ، فهي مستحاضةٌ، قال: ويقال: حاضَتِ المرأةُ، وتحيَّضَتْ، ودَرَسَتْ، وعَرَكَتْ، وطمثِت».
قال غيره (4) : و«نَفِسْتِ»، بفتح النون وكسر الفاء، وحكي في النونِ الضمُّ، وقيل: في قوله تعالى: {وامرأته قائمةً فضحكت} (5) ؛ أي (6) : حاضتْ (7) ، وقيل: سُمِّيَ الحَيْضُ حَيْضًا؛ من قولهم: حاضَتِ السَّمُرَةُ: إذا خرَجَ منها ماءٌ أحمَرُ.
ملحوظة:
كان هنا سطر انتقل إلى الشرح في ص 186 من الورق الذي نقابل عليه فنقلناه في مكانها كما هو مشار إليه في التصحيح ولم نلتزم بما جاء في المطبوع.
قال الشيخ: ويحتملُ أنْ يكون قولهم: «حاضَتِ السَّمُرَةُ (8) »، تشبيهًا بحيض المرأة، والله تعالى أعلم.
وقوله: «ثُمَّ يُبَاشِرُهَا»، أي: تلتقي بَشَرَتاهما، والبَشَرة: ظاهرُ الجلد، والأَدَمَةُ: باطنُهُ، ويعني بذلك: الاستمتاعَ بما فوقَ الإزار والمضاجعةَ؛ كما قال ? للذي سأله عمَّا يحلُّ له مِنِ امرأتِهِ الحائضِ (9) ، فقال: «لِتَشُدَّ عَلَيْهَا إِزَارَهَا، =(1/555)=@ ثُمَّ شَأْنَكَ بِأَعْلَاهَا (10) » (11) ، وهذا مبالغةٌ في الحمايةِ، وأمَّا المحرَّمُ لِنَفْسِهِ فهو الفَرْجُ؛ وإلى هذا (12) ذهَبَ جمهورُ العلماء من السلف وغيرهم (13) (14) . &(1/412)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (1/403 رقم 302) في الحيض، باب مباشرة الحائض، وذكر طرفه في (1/403 رقم 300) في نفس الكتاب والباب، ومسلم (1/242 رقم 293-2) في الحيض، باب مباشرة الحائض فوق الإزار.
(2) 2) أخرجه البخاري (1/405 رقم 303) في الحيض، باب مباشرة الحائض، ومسلم (1/243 رقم 294) في الحيض، باب مباشرة الحائض فوق الإزار.
(3) في (ح): «تحتبس».
(4) يعني: غير ابن عرفة.
(5) سورة هود، الآية: 71.
(6) في (أ) و(ح): " إنه ".
(7) أخرجه ابن جرير في "تفسيره" (15/392 رقم18320) عن سعيد بن عمرو السكوني، عن بقية بن الوليد، عن علي بن هارون، عن عمرو بن الأزهر، عن ليث، عن مجاهد، في قوله: { فضحكت }، قال: حاضت، وكانت ابنة بضع وتسعين سنة، قال: وكان إبراهيم ابن مائة سنة. وهذا سند تالف، فيه عمرو بن الأزهر العتكي: كذاب يضع الحديث.
وأخرجه عبدالرزاق في "تفسيره" (2/306) عن سلمة، عن إبراهيم بن الحكم، قال: حدثني أبي، عن عكرمة، في قوله: {فضحكت}، قال: فحاضت.
وسنده ضعيف؛ إبراهيم بن الحكم، هو ابن أبان العدني: قال البخاري: سكتوا عنه، وقال النسائي: ليس بثقة، ولا يُكْتَبُ حديثه، وقال أبو زرعة: ليس بالقوي، وهو عندي ضعيف، وفي "التقريب": ضعيف، وصل مراسيل. وفي "الميزان": تركوه، وقَلَّ من ممشاه.
وأورده السيوطي في"الدر المنثور"(4/451) من رواية ابن عباس، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
وقال ابن منظور في "لسان العرب" (10/460): قال الفراء: وأما قولهم: فضحكت: حاضت، فلم أسمعه من ثقة.
قال أبو عمرو: وسمعتُ أبا موسى الحامضَ يسأل أبا العبَّاس عن قوله: {فضحكت}، أي: حاضت، وقال: إنه قد جاء في التفسير، فقال: ليس في كلام العرب.اهـ.
وقال ابن جرير في "تفسيره" (15/394): وأولى الأقوال التي ذكرتُ في ذلك بالصواب: قولُ مَنْ قال: معنى قوله: {فضحكت}: فعجبت مِنْ غفلةِ قومِ لوط عمَّا أحاطَ بهم من عذابِ اللهِ وغفلتهم عنه، وإنما قلنا: هذا القولُ أولَى بالصواب؛ لأنه ذكر عقيب قولهم لإبراهيم: {قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط}، فإذا كان ذلك كذلك، وكان لا وجه للضحك والتعجُّب من قولهم لإبراهيم: {لا تخف}، كان الضحكُ والتعجُّب إنما هو من أمرِ قومِ لوط.اهـ. وهو اختيارُ ابن كثير في "تفسيره" (4/265).
(8) من قوله: «إذا خرج منها ماء...» إلى هنا سقط من (ح).
(9) قوله: «الحائض» سقط من (أ).
(10) في (ح): «فأعلاها».
(11) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/57) كتاب الطهارة، باب ما يحلُّ للرجل من امرأته وهي حائض، عن زيد بن أسلم؛ أنَّ رجلاً سأل رسولَ الله ?، فقال: ما يحلُّ لي من امرأتي وهي حائض؟ فقال رسولُ الله ?: «لِتَشُدَّ عليها إزارَهَا، ثم شَأْنَكَ بأعلاها».
قال ابن عبدالبر في "التمهيد" (5/260): لا أعلمُ أحدًا روى هذا الحديث مسندًا بهذا اللفظ: أنَّ رجلاً سألَ رسولَ الله ? هكذا، ومعناه صحيحٌ ثابت.اهـ.
(12) قوله: «وإلى هذا»: في (أ): «ولهذا».
(13) 50 سعد.
(14) تعليق فقهي ونيس.(1/412)
وقولها: «وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ؟!»، قيَّدناه بكسر الهمزة وإسكان الراء، وبفتح الهمزة وفتح الراء (1) ، وكلاهما له معنًى صحيحٌ (2) .
وإنْ كان الخَطَّابيُّ قد أنكَرَ الأوَّلَ على المحدِّثين، ووجَّه الأوَّل: أنَّ الإِرْبَ هو (3) العضو، والآرابُ: الأعضاءُ، فكنَّتْ (4) به عن شهوةِ (5) الفَرْج؛ إذْ هو عضوٌ من الأعضاء (6) :
وهذا تكلُّفٌ، بل في "الصحاح": «أنَّ الإِرْبَ: العُضْو، والدهاءُ، والحاجةُ أيضًا، وفيه لغاتٌ: إِرْبٌ، وإِرْبَةٌ وَأَرَبٌ، ومَأْرُبَةٌ، ويقالُ: هو ذو إِرْبٍ (7) ، أي: ذو عَقْلٍ» (8) :
فقولها: «يَمْلِكُ إِرْبَهُ» (9) بالروايتين، يعني: حاجتَهُ للنساء.
226- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ (10) ، قَالَتْ: بَيْنَمَا أَنَا مُضْطَجِعَةٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ ? فِي الْخَمِيلَةِ، إِذْ حِضْتُ، فَانْسَلَلْتُ، فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِي، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ?: « أَنَفِسْتِ؟»، قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَعَانِي، فَاضْطَجَعْتُ مَعَهُ فِي الْخَمِيلَةِ، قَالَتْ: وَكَانَتْ هِيَ وَرَسُولُ اللهِ ? يَغْتَسِلونَ فِي الإِنَاءِ الْوَاحِدِ مِنَ الْجَنَابَةِ.
وقولُ عائشة (11) فِي الخَمِيلَةِ»، أي (12) : القطيفة؛ قاله ابن دُرَيْد (13) ، وقال الخليل: «الخميلةُ: ثوبٌ له خَمْلٌ، أي هُدْب» (14) . =(1/556)=@
وقولها: «فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حَيْضَتِي»، بفتح الحاء؛ كذا قيَّدناه (15) ، تعني (16) به (17) : الدم، وقد قيَّده بعضُ الناسِ بكسر الحاء، يعني به (18) : الهيئةَ والحالة، كما تقولُ العرب: هو حَسَنُ القِعْدَة والجِلْسَة.
وكذا قاله الخطابيُّ في قوله ?: «إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ» (19) : إنَّ (20) صوابَهُ بكسر الحاء، وعاب على المحدِّثين الفتح، وعَيْبُهُ معابٌ (21) ؛ لأن الهيئةَ هنا غيرُ مرادة، وإنما هو الدمُ في الموضَعْين.
وقوله: «أَنَفِسْتِ؟» قيَّدناه بضم النون وفتحها، قال الهرويُّ وغيره: «يقال (22) نُفِسَتِ المرأةُ ونَفِسَتْ (23) : إذا ولَدَتْ، فإذا (24) حاضَتْ، قيل: نَفِسَتْ، بفتح النون لا غير»؛ فعلى هذا: يكونُ ضمُّ النونِ هنا خطأً؛ فإنَّ المرادَ به (25) هنا: الحَيْضُ قطعًا، لكنْ حكى أبو حاتمٍ عن الأصمعيِّ الوجهَيْنِ في الحَيْضِ والولادة، وذكَرَ ذلك غيرُ واحد، فعلى هذا تَصِحُّ الروايتان،، وأصلُ ذلك كلِّه: من خروجِ الدمِ، وهو المسمَّى: نَفْسًا (26) ؛ كما قال:
تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظُّبَاتِ (27) نُفُوسُنا وَلَيْسَتْ (28) عَلَى غَيْرِ الظُّبَاتِ (29) تَسِيلُ (30) . =(1/557)=@
227- وَعَنْ عَائِشَةَ (31) ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ? يُخْرِجُ إِلَيَّ رَأْسَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ مُجَاوِرٌ، فَأَغْسِلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ.
وقولها: «كَانَ رَسُولُ اللهِ (32) ? يُخْرِجُ إِلَيَّ رَأْسَهُ مِنَ المَسْجِدِ، وَهُوَ مُجَاوِرٌ»، أي: مُعْتَكِفٌ، وكذا جاء في رواية أخرى. &(1/413)&$
__________
(1) في (غ): «وبفتح الراء».
(2) قوله: «صحيح» من (ح) فقط.
(3) في (غ): «هو أن الإرب».
(4) في (ب): «وكنَّت».
(5) في (غ): «شهرة».
(6) انظر كلام الخطابي في "إصلاح غلط المحدِّثين" له (ص54 – 55).
(7) في (ح): «إوب».
(8) انتهى كلام ا لجوهري في "الصحاح" (1/86 – 87)، وقد نقله الشارح باختصار وتصرُّف.
(9) في (أ): «إربه» ضبطت بفتح الهمزة وكسرها.
(10) أخرجه البخاري (1/422 رقم 322) في الحيض، باب النوم مع الحائض وهي في ثيابها، وذكر أطرافه في (1/402 رقم 298) في الحيض، باب من سمَّى النفاسَ حيضًا، ومسلم (1/243 رقم 296) في الحيض، باب الاضطجاع مع الحائض في لحافٍ واحد.
(11) كذا في جميع النسخ التي بين أيدينا النسخ، والحديث عن أم سلمة.
(12) قوله: «أي» ليس في (أ).
(13) في "جمهرة اللغة" (/620).
(14) انظر هذا القول غير مغروٍّ للخليل في: "النهاية" (2/81)، و"اللسان" (11/222)، وانظر: "العين" (4/273 – 274).
(15) في (أ) و(ح): "قرأناه ".
(16) في (غ): «يعني».
(17) في (ح): "بها ".
(18) من قوله: «الدم، وقد قديه...» إلى هنا سقط من (أ).
(19) يأتي قريبًا في أحاديث الباب من حديث عائشة رضي الله عنها.
(20) في (ب): "أي".
(21) في (غ): «معلب».
(22) قوله: "يقال" سقط من (ب)و(ح)، و(غ).
(23) قوله: «ونفست» ليس في (ب).
(24) في (ح): «وإذا».
(25) قوله: «به» سقط من (ب).
(26) في (ح): «بالنفس».
(27) في (أ): «حد السيوف».
(28) في (ح) و (غ): «وليس».
(29) في (أ): «الضُّبَابَ».
(30) البيت من الطويل، وهو للسموءل بن عادياء اليهودي في "ديوانه" (ص91)، و"البيان والتبيين" (1/590)، و"معاهد التنصيص" (1/383)، و"أمالي القالي" (1/269)، و"حماسة أبي تمام" (1/29)، و"الحماسة المغربية" (1/595)، و"العقد الفريد" (1/98، 202)، (5/349)، و"المستظرف" (1/293)، و"اللسان" (6/234)، ولعبد ا لملك بن عبد الرحيم الحارثي في "محاضرات ديوان الحماسبة" للمزروقي (ص117)، و"شرح ديوان الحماسة" للتبريزي (1/59)، وبلا نسبة في "المُطْلِع" (1/38)، و"تهذيب الأسماء واللغات" (3/345).
وقد رصَّح الدكتور محمد رضوان الداية في تحقيقه "الحماسة المغربية" أن قصيدة هذا البيت لعبد الملك الحاري لا للسموءل بن عادياء او غيره فانظر: (1/590 – 594).
ويروى البيت: "على حد السويف ... عل غير السيوف"، ويروى : "على حد الظبات... على غير السيوف"، وقبل الشاهد قوله:
وما قل مَنْ كانت بقاياه مثلَنَا ... شَبَابٌ تَسَامَتْ للعُلَا وكُهُولُ
وإنا لَقَوْمٌ لا نرى القَتْلَ سُبَّةً ... إذا ما رأتْهُ عامرٌ وسَلُولُ
يقرِّبُ حُبُّ الموتِ آجالَنَا لنا ... وتكرهُه آجَالُهُمْ فَتَطُولُ
وما مات مِنَّا سَيِّدٌ أَنْفِهِ ... ولا طُلَّ مِنَّا حيثُ كان قتيلُ
وقوله: «نفوسنا» جمع نَفْس، قال في "اللسان" (6/234): «قال ابن خالويه: النَّفْس: الرُّوح، والنفس: ما يكون به التمييز، والنفس: الدم، والنفس: الأخ، والنفس: بمعنى عند، والنفس : قَدْر دَبْغة، قال ابن بَرِّيٍّ...»، وذكر شواهد لما قاله ابن خالويه، ثم قال: «وأمَّا النَّفْسُ: الدمُ، فشاهده قول السموءل...»، وذكره، قال: «وإنما سمِّي الدَّمُ نَفْسًا؛ لأن النَّفْس تَخْرُجُ بخروجه» اهـ.
و«الظبات»: جمع ظُبَة، وهي حَدُّ السيف، قيل: أراد بالظبات: اسيوف كلَّلها، فأضاف الحدَّ إليها، أي: أنهم لشجاعتهم وشرفهم لا يُقْتَلُون إلا بالسيوف، ولا يقتلون بالعِصِيِّ ولا بالحجارة كما يقتل رعاع الناس. نقلاً عن حاشية "ديوان الحماسة" (1/29).
(31) أخرجه البخاري (1/401 رقم 295 ) في الحيض، باب غسل الحائض رأسَ زوجها وترجيلِهِ، ومسلم (1/244 رقم 297-8) في الحيض، باب جوازِ غَسْلِ الحائضِ رأسَ زوجها وترجيلِهِ.
(32) قوله: «رسول الله» ليس في (أ) و (غ).(1/413)
228- وَعَنْهَا (1) ، قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ?: «نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنَ الْمَسْجِدِ»، قَالَتْ: فَقُلْتُ: إِنِّي حَائِضٌ، فَقَالَ: «إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ».
وقوله: «نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنَ المَسْجِدِ»، «الْخُمْرَةُ»: حصيرٌ يُنْسَجُ من خُوصٍ يُسْجَدُ عليه، سُمِّيَ بذلك؛ لأنه يخمِّر الوجهَ، أي: يستُرُهُ، وهو أصلُ هذا الحرف.
وقد اختُلِفَ في هذا المجرورِ الذي هو: «مِنَ المَسْجِدِ» بماذا يتعلَّق؟:
فعلَّقته (2) طائفة بـ«ناوليني»، واستدلُّوا به (3) على جوازِ دخولِ الحائضِ المسجدَ؛ للحاجةِ تَعْرِضُ لها، إذا لم يكنْ على جسدها نجاسةٌ، وأنها لا تُمْنَعُ (4) من المسجدِ إلا مخافةَ ما يكونُ منها (5) ؛ وإلى هذا نحا محمَّد بن مَسْلَمة من أصحابنا، وبعضُ المتأخِّرين: إذا استَثْفَرَتْ (6) ، ومتى خرَجَ منها شيء في الثفر، لم تدخلْهُ؛ تنزيهًا للمسجد عن النجاسة (7) (8) .
وعلَّقته (9) طائفةٌ أخرى بقولها: «قال لي رسولُ اللهِ ? مِنَ المسجِدِ «نَاوِلِينِي الخُمْرَةَ» على التقديم والتأخير؛ وعليه المشهورُ من مذاهبِ (10) العلماء (11) ، أنها =(1/558)=@ لا تدخُلُ المسجدَ لا مقيمةً ولا عابرةً (12) (13) ؛ لقوله ?: «لَا أُحِلُّ المَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ»؛ خرَّجه أبو داود (14) ، وبأنَّ حَدَثَهَا أفحشُ من حدث الجنابة، وقد اتُّفِقَ على أنَّ الجُنُبَ لا يلبَثُ فيه، وإنما اختلفوا في جوازِ عبورِهِ فيه (15) ، والمشهورُ من مذاهب العلماء: مَنْعُهُ، والحائضُ أولى بالمنع.
قال الشيخ رحمه الله: ويحتملُ: أن يريدَ (16) بالمسجِدِ هنا: مسجدَ بيتِهِ الذي كان يتنفَّل فيه (17) .
229- وَعَنْهَا (18) ، قَالَتْ: كُنْتُ أَشْرَبُ وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ ?، فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ، فَيَشْرَبُ، وَأَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ ?، فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ.
وقولها: «أَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ»، أي: العظمَ الذي عليه اللحمُ، وجمعه: عِرَاقٌ، و«أتعرَّقه»: آكُلُ ما عليه من اللحم.
وهذه الأحاديثُ متفقةٌ على الدلالةِ على أنَّ &(1/414)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/244، 245رقم 298-11)في الحيض، باب جواز غَسْلِ الحائضِ رأسَ زوجها، وترجيلِهِ، وطهارةِ سؤرها، والاتكاءِ في حجرها، وقراءةِ القرآنِ فيه.
(2) في (ب): «فعلقه».
(3) قوله: «به» ليس في (ح)، وفي (ب) ليست موجودة في مكانها، وكتبت فوق قوله: «على».
(4) في (أ) و(ح): «لا تمتنع».
(5) 50 سعد.
(6) في (أ): «استقرت»، وفي (ح): «اسثنفرت».
(7) تعليق فقهي ونيس.
(8) 50 سعد.
(9) في (ب): «وعلقت».
(10) في (ح): «مذهب».
(11) 50 سعد.
(12) 50 سعد.
(13) تعليق فقهي ونيس.
(14) أخرجه إسحاق بن راهويه في "مسنده" (3/1032 رقم1783)، والبخاري في "تاريخه" (2/67)، وأبو داود (1/157-159 رقم232)، وعنه البيهقي (2/442).
وأخرجه ابن خزيمة رقم (1327)، جميعهم: من طريق أفلت بن خَلِيفة، عن جَسْرة بنت دجاجة، قالت: سمعتُ عائشةَ رضي الله عنها تقولُ: جاء رسول الله ? ووجوهُ بيوتِ أصحابِهِ شارعةٌ في المسجد، فقال: «وجِّهوا هذه البيوتَ عن المسجد...» الحديثَ، وفيه: «فإنِّي لا أُحِلُّ المسجدَ لحائضٍ ولا جنب»، زاد بعضهم في روايته: « إلا لمحمَّدٍ وآلِ محمَّد».
وقد أعَلَّ البخاريُّ هذا الحديث في "تاريخه" (2/67-68) فقال: وقال عروة وعبَّاد بن عبدالله، عن عائشة، عن النبي ?: «سُدُّوا هذه الأبوابَ إلا بابَ أبي بكر»، وهذا أصح.اهـ.
وقال البيهقي (2/443): وهذا إن صحَّ فمحمولٌ في الجنب على المَكْثِ فيه دون المرور؛ بدليل الكتاب.اهـ.
والحديث ضعَّفه الألباني في "الإرواء" (124، 193)، وقال: وقد ضعَّف الحديثَ جماعةٌ، منهم البيهقي، وابن حزم، وعبدالحق الإشبيلي، بل قال ابن حزم: إنه باطل.اهـ.
وقد اختُلِفَ في إسناده؛ فأخرجه ابن ماجه (1/212 رقم645) كتاب الطهارة، باب ما جاء في اجتناب الحائض المسجد، وابن أبي حاتم في "العلل" (1/99)، والطبراني في "الكبير" (23/373-374 رقم883)، والبيهقي (7/65)، جميعهم من طريق ابن أبي غنية، عن أبي الخطاب الهَجَرِيّ، عن محدوجٍ الذهلي، عن جَسْرة، قالت: أخبرتني أم سلمةَ، قالتْ: دخَلَ رسولُ الله ? صرحةَ هذا المسجدِ، فنادى بأعلَى صوته: «إنَّ المسجدَ لا يحلُّ لجنب لا حائض»، زاد بعضهم: «إلا للنبيِّ وأزواجِهِ، وفاطمةَ بنتِ محمَّد، وعليٍّ، ألا بَيَّنْتُ لكم أن تَضِلُّوا».
وفي سنده: أبو الخطاب الهجري، ومحدوج: مجاهيل.
وقال ابن أبي حاتم في "العلل" (1/99): قال أبو زرعة: يقولون: عن جسرة، عن أم سلمة، وصحيح عن عائشة.
قال أبو محمد - ابن أبي حاتم -: قد روى أفلتُ بن خليفة، عن جَسْرة، عن عائشة، عن النبي ? هذا الحديثَ، غير أنه لم يذكُرْ فيه: «إلا للنبيِّ ولأزواجِهِ»، وإنما يدل لا يصلح لجنب ولا حائض فقط. اهـ.
وقال البيهقيُّ عقبَ إخراجه: قال البخاري، رحمه الله: محدوج الذهلي، عن جسرة، قاله ابن أبي غنية، عن أبي الخطاب: فيه نظر. قال البيهقي: قد روي هذا من وجهٍ آخر عن جسرة، وفيه ضعف. اهـ.
وقال الألباني: في " الإرواء " (1/211-212): وللحديث بعضُ الشواهد، لكن بأسانيدَ واهيةٍ لا تقومُ بها حجة، ولا يأخذُ الحديثُ بها قوةً. اهـ.
(15) 50 سعد.
(16) في (غ): «تريد».
(17) تعليق فقهي ونيس.
(18) أخرجه مسلم (1/245،246 رقم 300) في الحيض، باب جوازِ غسلِ الحائضِ رأسَ زوجها، وترجيلِهِ وطهارةِ سؤرها، والاتكاءِ في حجرها، وقراءةِ القرآن فيه.(1/414)
الحائضَ لا يَنْجُسُ منها شيءٌ، ولا يُجْتَنَبُ منها إلا موضعُ الأذى فَحَسْبُ (1) ، والله تعالى أعلم (2) .
230- وَعَنْهَا (3) ؛ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ? يَتَّكِئُ فِي حِجْرِي، فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَأَنَا حَائِضٌ.
وقولها: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ? يَتَّكِئُ فِي حِجْرِي، فَيَقْرَأُ القُرْآنَ، وَأَنَا حَائِضٌ»، =(1/559)=@ كذا صوابُهُ عند الرواة كلِّهم هنا، وفي البخاري، ووقع للعُذْري: «في حُجْرَتِي» بضم الحاء وبالتاء باثنتين من فوق، وهو وَهَمٌ.
وقد استدَلَّ [به] (4) بعضُ العلماء: على جواز قراءةِ الحائضِ القرآنَ، وحَمْلِهَا المصحفَ.
وفيه بُعْدٌ؛ لكنْ جوازُ قراءةِ الحائضِ للقرآنِ (5) عن (6) ظهر قلب، أو نَظَرًا في المصحفِ مِنْ غير أن تمسَّه (7) ، هي (8) إحدى الروايتَيْنِ عن مالك، وهي أحسنهما (9) ؛ تمسُّكًا بعمومِ الأوامرِ بالقراءة، وبأصلِ ندبيَّةِ (10) مشروعيَّتها (11) .
ولا يصحُّ ما يُذْكَرُ في منعها (12) القراءةَ، من نَهْيِهِ ? الحائضَ عَنْ قراءةِ القرآن (13) ، وقياسُهَا على الجُنُبِ: ليس بصحيحٍ؛ فإنَّ أمرها يطولُ، وليستْ متمكِّنةً مِنْ رفعِ حَدَثها؛ فافتَرَقَا (14) .
ويؤخذُ مِنْ قراءتِهِ ? القرآنَ في حَجْرِ الحائضِ: جوازُ استنادِ المريضِ للحائضِ (15) في صلاتِهِ (16) ؛ إذا كانتْ أثوابُهَا طاهرةً، وهو أحدُ (17) القولَيْنِ عندنا (18) .
وصحيحُ الرواية: «وَأَنَا حَائِضٌ» بغير هاء، ووقع عند الصَّدَفي (19) : «حَائِضةٌ»، والأوَّل (20) أفصح، وهذه جائزةٌ؛ لأنها جاريةٌ على الفِعْل، كما قال الأعشى (21) :
أَيَا جَارتَنَا (22) بِينِي فَإِنَّكِ طَالِقَةْ (23) &(1/415)&$
__________
(1) 50 سعد.
(2) تعليق فقهي ونيس.
(3) أخرجه البخاري (1/401 رقم 297) في الحيض، باب قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض، ومسلم (1/246 رقم 301) في الحيض، باب جواز غسل الحائض رأسَ زوجها، وترجيلِهِ، وطهارةِ سؤرها، والاتكاءِ في حجرها ... .
(4) زيادة من عندي، لإقامة السياق.
(5) في (أ): «الحائض القرآن للحائض».
(6) في (ح): «على».
(7) في (ب) و(ح) و(غ): «في المصحف ولا تمسه».
(8) في (ح): «وهي».
(9) في (ح) و(غ): «أحسنها».
(10) في (ب): بأصل «بدئية».
(11) في (أ): «مشروعيتهما».
(12) في (أ): «منعهما».
(13) أخرجه ابن ماجه (1/195رقم 595)، وأبو الحسن القَطَّان في "زوائده على ابن ماجه" (1/196رقم 596) كتاب الطهارة، باب ما جاء في قراءة القرآن على غير طهارة، والترمذي (1/236 رقم 131) كتاب الطهارة، باب في ما جاء في الجنب والحائض أنهما لا يقرآن القرآن، وفي "العلل الكبير" (ص 58-59)، والعقيلي في "الضعفاء الكبير " (1/90)، وابن عدي (1/298) (4/73)، والدارقطني (1/117)، والبيهقي (1/89) جميعهم من طريق إسماعيل بن عَيَّاش، عن موسى بن عُقْبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي ?، قال: «لا تقرأُ الحائضُ ولا الجنبُ شيئاً من القرآن».
قال الترمذي عَقِبَ إخراجِهِ: حديث ابن عمر: لا نعرفُهُ إلا من حديث إسماعيل بن عيَّاش... وسمعتُ محمد بن إسماعيلَ يقول: إن إسماعيل بن عيَّاش يروى عن أهلِ الحجاز وأهلِ العراق أحاديثَ مناكير. كأنه ضعَّف روايته عنهم فيما ينفردُ به، وقال: إنما حديثُ إسماعيلَ بن عياش عن أهل الشام.اهـ.
قال الألباني في "الإرواء" (192) بعد أن حكم بضعف الحديث: وهذا من روايته عن أهل الحجاز، فهي ضعيفة.اهـ.
وقال العقيلي في "الضعفاء" (1/90): حدَّثنا عبد الله بن أحمد، قال: عَرَضْتُ على أبي حديثاً حدَّثناه الفضل بن زياد الطستي... فذكره؟ قال أبي: هذا باطل، أنكره على إسماعيل بن عياش، يعنى أنه وَهمٌ من إسماعيل بن عياش.اهـ.
وقال ابن عدي (1/298): وهذا الحديثُ بهذا الإسناد لا يرويه غيرُ ابن عيَّاش، وعامةُ من رواه عن ابن عياش، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر.اهـ.
ونقل ابن أبي حاتم في "العلل" (1/49) عن أبيه قولَهُ: هذا خطأ، إنما هو عن ابن عمر قوله.اهـ.
وللحديثِ طرقٌ أخرى عن موسى بن عُقْبة، وقد أشار إليها البيهقيُّ بقوله (1/89): وقد روي عن غيره عن موسى بن عقبة، وليس بصحيح.اهـ.
منها: ما أخرجه الدارقطني (1/117) من طريق عبد الملك بن مَسْلَمة، عن المغيرة بن عبد الرحمن، عن موسى بن عُقْبة، به، دون ذكر الحائض، وقال: عبد الملك هذا كان بمصر، وهذا غريبٌ عن مغيرة بن عبد الرحمن، وهو ثقة.اهـ.
قال الحافظ في "التلخيص" (1/240): فيها عبد الملك بن مَسْلمة، وهو ضعيف.اهـ.
وللحديث شواهدُ، وكلُّها ضعيفةٌ؛ فانظرها في "الإرواء".
(14) تعليق فقهي ونيس.
(15) في (ح): «إلى الحائض».
(16) 50 سعد.
(17) قوله: «وهو أحد» في (غ): «في أحد».
(18) تعليق فقهي ونيس.
(19) في (ب): «للصدفي».
(20) في (غ): «فالأولى».
(21) قوله: «الأعشى» سقط من (أ) و(ح) و(غ).
(22) في (ب): «أجارتا»، وهي رواية أخرى للبيت كما يأتيك في مصادر التخريج.
(23) هذا صدر بيت من الطويل، والبيت بتمامه:
أيا جَارَتَا بيني فإنَّكِ طَالِقْةْ ... كذاك أمورُ الناس غادٍ وطََارِقَهْ
والبيت مطلع أبيات ستة يقولها الأعشى لامرأته الهزَّانَيَّة حيث طلَّقها، انظر: "ديوانه" (ص269)، و"أدب الكاتب" (ص 230)، و"العين" (5/101)، و"تهذيب اللغة" (11/177)، و"الصحاح" (4/1519)، و"غريب الحديث" للخطابي (1/405)، و"الإنصاف في مسائل الخلاف" (2/760)، و"تاريخ مدينة دمشق" (61/334)، و"الأغاني" (9/143)، و"المصباح المنير" (2/376)، و"اللسان" (4/154)، (10/225، 226)، و"التاج" (مادة جور).
وأكثر ما يروى البيت: «أجارتنا»، وفي بعض المصادر: «أجارتنا».
وبعد البيت قوله – وهذه الأبيات يكثر دورانها في كتب الفقه-: (هناك تعليق مشابه في الصفحة المرفقة).(1/415)
وكما قال تعالى: {ولسليمان الريح عاصفة} (1) ، وللنحاةِ (2) في الأولِ وجهان (3) : =(1/560)=@
أحدهما: أنَّ «حائض» و«طالق» و«مُرْضِع» مما لا شَرِكَةَ فيه للمذكَّر (4) ؛ فاستغنَى عن العَلَامة.
والثاني - وهو الصحيح -: أنَّ ذلك على طريقِ النَّسَب، أي: ذاتُ حيضٍ ورَضَاعٍ وطلاقٍ؛ كما قال تعالى: {السماء منفطر به} (5) ، أي: ذاتُ انفطارٍ.
231- وَعَنْ أَنَسٍ (6) ؛ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِيهِمْ، لَمْ يُؤَاكِلُوهَا، وَلَمْ يُجَامِعُوهنَّ فِي الْبُيُوتِ، فَسَأَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ? النَّبِيَّ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ: {يسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض...} إِلَى آخِرِ الآيَةِ (7) ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ»، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْيَهُودَ، فَقَالُوا: مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ، فَجَاءَ أُسَيْدُ بْنُ الحُضَيْرٍ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ، فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الْيَهُودَ تَقُولُ: كَذَا وَكَذَا؛ أَفَلا نُجَامِعُهُنَّ؟ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ ? حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ قَدْ وَجَدَ عَلَيْهِمَا، فَخَرَجَا فَاسْتَقْبَلَتْهُمَا هَدِيَّةٌ مِنْ لَبَنٍ إِلَى النَّبِيِّ ?، فَأَرْسَلَ فِي آثَارِهِمَا، فَسَقَاهُمَا، فَعَرَفَا أَنْ لَمْ يَجِدْ عَلَيْهِمَا.
وتغيُّرُ وجهِ رسولِ الله ? – من قول أُسَيْدِ بنِ الْحُضَيْرِ وعبَّادِ بنِ بِشْر – إنما كان ليبيِّن أنَّ الحاملَ على مشروعيَّةِ (8) الأحكامِ إنما هو أمرُ اللهِ ونهيُهُ، لا مخالفةُ أحدٍ ولا موافقتُهُ، كما ظَنَّا، ثمَّ لمَّا خرجا مِنْ عنده وتركاه على تلك الحالة (9) ، خاف عليهما أن يَحْزَنَا، وأن يتكدَّر (10) حالهما، فاستدرَكَ ذلك واستمالهما، وأزالَ عنهما ما أصابهما؛ بأنْ أرسَلَ إليهما فسقاهما اللبَنَ؛ رأفةً ورحمةً منه لهما، على مقتضَى خُلُقِهِ الكريم (11) ، كما قال تعالى: {وبالمؤمنين رؤوفًا رحيما} (12) (13) . =(1/561)=@ &(1/416)&$
__________
(1) سورة لأنبياء، الآية: 81.
(2) في (غ): «وللنجاة».
(3) في (غ): «وجهين»، وهو خطأ.
(4) في (ب): «مما لا يشركه فيه الذكر».
(5) سورة المزمل، الآية: 18.
(6) أخرجه مسلم (1/246 رقم 302) في الحيض، باب جواز غَسْلِ الحائض رأسَ زوجها وترجيلِهِ وطهارةِ سؤرها، والاتكاءِ في حجرها وقراءةِ القرآن فيه.
(7) سورة البقرة، الآية: 222.
(8) في (أ): «مشرعية».
(9) في (غ): «تلك الحال».
(10) في (غ): «تتكدر».
(11) في (غ): «الكريمة».
(12) سورة التوبة، الآية: 128.
(13) في حاشية (ب): «بلغ مقابلة».(1/416)
( 21 ) بَابٌ فِي الْوَضُوءِ مِنَ الْمَذْيِ، وَغَسْلِ الذَّكَرِ مِنْهُ
232- عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - ، قَالَ: كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً، فَكُنْتُ أَسْتَحْيِي أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ ?؛ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ، فَسَأَلَهُ؟ فَقَالَ: «يَغْسِلُ ذَكَرَهُ، وَيَتَوَضَّأُ»، وَفِي رِوَايَةٍ: فقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «تَوَضَّأْ، وَانْضَحْ فَرْجَكَ».
وَمِنْ بَابِ الْوُضُوءِ مِنَ المَذْيِ (1)
قولُ عليٍّ - رضي الله عنه - : «كنت رجلاً مذاءً»، أي: كثيرَ المَذْيِ، كما جاء عنه في كتابِ أبي داود (2) ، قال: «كُنْتُ أَلْقَى مِنَ المّذْيِ شِدَّةً، فَكُنْتُ (3) أَغْتَسِلُ مِنْهُ حَتَّى تَشَقَّقَ ظَهْرِي».
و«المذي»: ماءٌ أبيضُ رقيقٌ يخرُجُ عند الملاعبةِ والتَّذْكَار، أكثَرُ خروجه من العَزَبِ (4) ، وهو نَجِسٌ باتفاق العلماء (5) ، (6) إلا ما يحكى (7) عن أحمدَ بنِ حنبل من أنه طاهرٌ كالمنيِّ عنده، وهو خلافٌ شاذٌّ (8) ، وقد تقدَّم القولُ في نجاسة المنيِّ، ويقالُ فيه (9) : مَذْيٌ؛ بسكون الذال وتخفيف الياء (10) ، ومَذِيٌّ؛ بكسر الذال وتشديد الياء، ويقال: مَذَى وأَمذَى، لغتان.
وقوله: «فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ»، هو المقدادُ بنُ عمرو بنِ ثَعْلَبة الكنديُّ - رضي الله عنه - ، وإنما نُسِبَ للأسودِ؛ لأنه كان في حَجْرِهِ، وكان قد تبنَّاه، وقيل: حالَفَهُ، وجاء في رواية أخرى: «أَرْسَلْنَا المِقْدَادَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ?، فَسَأَلَهُ عَنِ المَذْيِ يَخْرُجُ مِنَ الْإِنْسَانِ، كَيْفَ يَفْعَلُ بِهِ (11) ؟»؛ وهذا يدلُّ على أنه لم يحضُرْ مجلسَ السؤالِ.
ويتوجَّه على هذا إشكالٌ، وهو أن يقال: «كيف اكتفَى بِخَبَرِ الواحدِ المفيدِ لغلبةِ الظنِّ، مع تمكُّنه من الوصولِ إلى اليقينِ بالمشافهة؟! ويلزمُ منه جوازُ الِاجتهادِ مع القُدْرة على النصِّ!!»:
والجوابُ: أنْ نقولَ: يحتملُ أن يكونَ مع أمرِهِ =(1/562)=@ &(1/417)&$
__________
(1) في (ح): «ومن باب وضوء الجنب إذا أراد النوم»، وهذه ترجمة الباب بعد هذا.
(2) أخرجه الطيالسي رقم (145)، وعنه البزار (3/48 رقم803/كما في البحر الزخار)، والبيهقي (1/167).
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/89 رقم985، 986) كتاب الطهارة، باب في الرجل يجامع امرأته دون الفرج، وأحمد (1/109، 125، 145)، وأبو داود (1/142 رقم206) كتاب الطهارة، باب في المذي، والبزار (3/48 رقم802/البحر الزخار)، والنسائي (1/111، 111-112) كتاب الطهارة، باب الغسل من المني، وابن خزيمة رقم(20)، والطحاوي (1/46)، وابن حبان (3/385، 388، 391 رقم1102، 1107/الإحسان). جميعهم: من طريق الركين بن الربيع، عن حُصَين بن قَبِيصة، عن علي - رضي الله عنه - ، قال: كنت رجلاً مَذَّاءً، فجعلتُ أغتسلُ حتى تشقَّق ظهري... الحديث، وفيه: «إذا رأيتَ المَذْيَ فاغسلْ ذَكَرَكَ وتوضَّأ وضوءَكَ للصلاة، فإذا أفضخْتَ الماء فاغتسلْ».
وصحَّحه الألباني في "الإرواء" (125).
(3) في (غ): «وكنت».
(4) في (أ): «الأعزب».
(5) تعليق فقهي ونيس.
(6) 50 سعد.
(7) في (ح): «حكى».
(8) تعليق فقهي ونيس.
(9) في (ح): «منه».
(10) قوله: «وتخفيف الياء» سقط من (ب).
(11) الرواية عند مسلم (1/247)، وقد سبق تخريج الحديث.(1/417)
وإرسالِهِ حضَرَ مجلسَ السؤالِ والجواب، ولو سلَّمنا عدمَ ذلك، قلنا: إنَّ العمَلَ بخبرِ الواحدِ جائزٌ مع إمكان الوصولِ إلى اليقين (1) ، إذا كان في الوصولِ إلى اليقينِ كُلْفَةٌ ومشقَّة؛ فإنَّ الصحابةَ – رضوان الله عليهم – كانوا يتناوبون (2) حضورَ مجلسِ رسولِ الله ? لسماعِ ما يَطْرَأُ فيه، ويحدِّثُ مَنْ حضَرَ لمن غاب، والنبيُّ ? كان يوجِّه ولاتَهُ وأمراءَهُ؛ ليعلِّموا الناسَ العلمَ آحادًا، مع تمكُّنِهِ من إرسالِ عددِ التواتر، أو أمرِهِ أن يرتحلَ إليه عددُ التواترِ لِيَسْمَعُوا منه، ولم يفعلْ ذلك؛ إسقاطًا للمشقَّة، ومجانبةً للتعنيتِ والكُلْفة؛ ولذلك قال تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين} (3) ، والطائفةُ لا يحصُلُ العلمُ بخبرهم؛ إذِ الفرقةُ أقلُّها ثلاثةٌ (4) ، والطائفةُ منهم واحدٌ أو اثنان.
ولا يلزمُ على ذلك تجويزُ الِاجتهادِ مع وجودِ النَّصِّ (5) ؛ لأنَّهم - رضي الله عنهم - لم يجتهدوا إلا حيثُ فَقَدُوا النصوصَ القاطعةَ والمظنونة؛ وذلك لأنَّ الظنَّ الحاصلَ من نصوصِ أخبارِ الآحادِ أقوَى من الظنِّ الحاصل عن الاجتهاد؛ وبيان ذلك: أنَّ الوَهَمَ إنَّما يتطرَّقُ إلى أخبارِ الآحادِ من جهة الطريق، وهي جهةٌ واحدةٌ، ويتطرَّقُ إلى الاجتهادِ مِنْ جهاتٍ متعدِّدة؛ فانفصَلَا، والله أعلم.
وقوله: «يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ»، ظاهرُ هذا: أنه يَغْسِلُ جميعَ ذَكَره؛ لأنَّ الاسمَ للجملة، وهو رأيُ المغاربةِ من أصحابنا (6) ، وهل ذلك للعبادةِ فيفتقرَ إلى نيةٍ، أو لقطعِ أصلِ المذي (7) فلا يَحْتَاجَ ؟:
قولان لأبي العبَّاس الأبياني، وأبي محمَّد بن أبي زيد (8) .
وذهب بعضُ العراقيين من أصحابنا (9) : إلى أنَّه يَغْسِلُ منه (10) موضعَ النجاسةِ فقطْ (11) ، ولم يختلفِ العلماءُ أنَّ المَذْيَ إذا خرَجَ على الوجهِ المعتادِ أنه يَنْقُضُ الوضوءَ (12) (13) .
وقوله في الرواية الأخرى: «تَوَضَّأْ، وَانْضَحْ فَرْجَكَ»، النَّضْحُ هنا: هو &(1/418)&$
__________
(1) 50 سعد.
(2) في (ح): «يتنابون».
(3) سورة التوبة، الآية: 122.
(4) في (أ): «الثلاثة».
(5) 50 سعد.
(6) 50 سعد.
(7) في (أ): «المني» وتراجع في (أ).
(8) 50 سعد.
(9) تعليق فقهي ونيس.
(10) قوله: «منه» سقط من (ب) و(ح) و(غ).
(11) 50 سعد.
(12) 50 سعد.
(13) تعليق فقهي ونيس.(1/418)
الغَسْلُ =(1/563)=@ المذكورُ في الرواية المتقدِّمة، والواوُ غير مرتِّبة (1) ، وَيَحْتمِلُ: أن يريد به: أن يَرُشَّ ذَكَره بعد غسلِهِ ووضوئِهِ؛ لينقطعَ (2) أصلُ المذي أو يقلَّ، والله أعلم.
( 22 ) بَابُ وُضُوءِ الْجُنُبِ
إِذَا أَرَادَ النَّوْمَ، أَوْ مُعَاوَدَةَ أَهْلِهِ
233- عَنْ عَائِشَةَ (3) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ – وَهُوَ جُنُبٌ – تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَنَامَ، تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ... .
234- وَعَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ (4) ؛ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ فِي الْجَنَابَةِ ؟ أَكَانَ يَغْتَسِلُ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ أَمْ يَنَامُ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ ؟ قَالَتْ: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ. رُبَّمَا اغْتَسَلَ فَنَامَ وَرُبَّمَا تَوَضَّأَ فَنَامَ. قُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الأَمْرِ سَعَةً.
وَمِنْ بَابِ وُضُوءِ الجُنُبِ إِذَا أَرَادَ النَّوْمَ
قول عائشة: «إِنَّهُ ? كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ – وَهُوَ جُنُبٌ – تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ»؛ يدلُّ على بطلانِ قولِ من قال: إنه الوضوءُ اللغوي.
وقوله: «لِيَتَوَضَّأْ، ثُمَّ لِيَنَمْ»، حجةٌ لمن قال بوجوبِ وضوءِ الجنبِ عند نومه (5) ، =(1/564)=@ وهو قولُ كثيرٍ من أهلِ الظاهر، وهو مرويٌّ عن مالك، وروي عنه: أنه مندوبٌ إليه، وعليه الجمهورُ، وهو الصحيحُ (6) ؛ إذ قد روى الترمذيُّ (7) ، عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي ? كان ينامُ وهو جنبٌ لا يَمَسُّ ماءً وقد روتْ عنه أنه كان يتوضَّأ قبل أن ينام، فكان وضوؤُهُ كغُسْله؛ فإنَّه كان ربَّما يغتسلُ قبل النوم، وربَّما يغتسلُ بعد النومِ كما قد روَتْ عنه؛ وغُسْلُ الجنبِ قبل النومِ ليس بواجبٍ إجماعًا بل مندوبٌ إليه، فيكونُ الوضوءُ كذلك.
ثم هل معنَى ذلك حُكْمٌ غيرُ معلَّلٍ (8) فيقتصرُ به على محلِّه (9) ، أو هو معلَّل؟ (10) فمِنْ أصحابنا مَنْ قال (11) : هو معلَّلٌ بما عساه ينشط فيغتسل، ومنهم مَنْ علَّله بأنه ليبيت على إحدى الطهارتَيْنِ، وعلى هذا التعليلِ الثاني تتوضَّأ الحائضُ (12) ، ولا تتوضَّأُ على التعليلِ الأول. &(1/419)&$
__________
(1) تعليق من المغني وغيره من كتب النحو وأصول الفقه على أن الواجب لا تفيد ترتيبًا ولا تعقيبًا ولا تراضيًا، بل لا تفيد سوى مطلق الجمع، وهذا مذهب سيبويه!
(2) في (ح): «ليقطع».
(3) أخرجه البخاري (1/392 رقم 286) في الغسل، باب كينونة الجنب في البيت إذا توضأ قبل أن يغتسل، ومسلم (1/248 رقم 305-21، 22) في الحيض، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له وغسل الفرج إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يجامع.
(4) أخرجه مسلم (1/249 رقم 307) في الحيض، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له....
(5) 50 سعد.
(6) تعليق فقهي ونيس.
(7) أخرجه إسحاق بن راهويه في "مسنده"(3/851-855 رقم1512-1518)، وأحمد (6/43، 106، 109، 146، 171)، وأبو داود (1/154 رقم228) كتاب الطهارة، باب في الجنب يؤخر الغسل، وعنه البغوي في "الشرح السنة" (2/35 رقم 268) وأخرجه ابن ماجه (1/192 رقم 581، 582، 583). كتاب الطهارة باب الجنب ينام كهيئة لا يمس ماء، والترمذي(1/202 رقم118، 119) كتاب الطهارة، باب في الجنب ينام قبل أن يغتسل، والنسائي في "الكبرى"(5/332 رقم9052و9053و9054). جميعهم من طريق أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله ? ينام وهو جنب، من غير أن يمس ماء.
قال أبو داود عقب روايته: حدثنا الحسن بن علي الواسطي، قال: سمعت يزيد بن هارون، يقول: هذا الحديث وهم، يعني: حديث أبي إسحاق.اهـ.
وقال الترمذي: وقد روى غير واحد عن الأسود، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه كان يتوضأ قبل أن ينام. وهذا أصح من حديث أبي إسحاق، عن الأسود. وقد روى عن أبي إسحاق هذاالحديث: شعبة، والثوري، وغير واحد. ويرون أن هذاغلط من أبي إسحاق.اهـ.
وقال أبو حاتم في "العلل" (1/49): قال شعبة: قد سمعت حديث أبي إسحاق: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينام جنبًا، ولكني أتقيه.اهـ.
ونقل الحافظ في "التلخيص" (1/245) عن أحمد أنه قال: إنه ليس بصحيح. ثم قال: وأخرج مسلم الحديث دون قوله: ولم يمسَّ ماء. وكأنه حذفها عمدًا؛ لأنه علَّلها في كتاب التمييز.
وقال مهنّا عن أحمد بن صالح: لا يحل أن يروى هذا الحديث. وفي "علل الأثرم": لو لم يخالف أبا إسحاق في هذا إلا إبراهيم وحده لكفى، فكيف وقد وافقه عبدالرحمن بن الأسود. وكذلك روى عروة وأبو سلمة عن عائشة.اهـ.
وانظر كلام ابن القيم في "تهذيب السنن"، مع "عون المعبود" (1/379-381) فإنه مهم ونفيس.
(8) المثبت من (ح)، أما في (أ): «ثم هل ذلك غير معلل»، وفي (ب) و(غ): «ثم هل ذلك حكم غير معلل».
(9) في (أ): «غير محله».
(10) 50 سعد.
(11) تعليق فقهي ونيس.
(12) 50 سعد.(1/419)
وأما وضوءُ الجُنُبِ عند الأكلِ (1) ؛ فظاهرُ مَسَاقِ حديثِ عائشة رضي الله عنها يقتضي أنْ يكونَ ذلك الوضوءُ هو وضوءَ الصلاةِ؛ فإنَّها جمعَتْ بين الأكلِ والنومِ في الوضوءِ (2) .
ملحوظة:
(235 – 234) كذا ترتيب الأحاديث.
235- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ (3) ؛ أَنَّ عُمَرَ اسْتَفْتَى النَّبِيَّ ?. فَقَالَ: هَلْ يَنَامُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ ؟ قَالَ: «نَعَمْ. لِيَتَوَضَّأْ، ثُمَّ لِيَنَمْ، حَتَّى يَغْتَسِلَ إِذَا شَاءَ».
وقد =(1/565)=@ حُكِيَ أنَّ ابن عمر رضي الله عنهما كان يأخُذُ بذلك عند الأكل (4) ، والجمهورُ على خلافِهِ، وأنَّ معنى وضوئِهِ عند الأكل: غَسْلُ يدَيْه، ثم يأكلُ أو يشرَبُ (5) ، وذلك لما يخافُ أن يكونَ أصابهما (6) أذى.
وقد روى النَّسائيُّ (7) عن عائشةَ هذا مفسَّرًا، فقالت (8) : «كَانَ رَسُولُ اللهِ ? إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ تَوَضَّأَ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ قَالَتْ: غَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ».
236- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (9) ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ? قَامَ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ نَامَ.
وقول ابن عباس رضي الله عنهما: «إنَّ النَّبِيَّ ? قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَقَضَى حَاجَتَهُ»، المرادُ بالحاجةِ هاهنا (10) : الحَدَثُ؛ لأنَّه هو الذي يمكنُ أن يَطَّلِعَ عليه ابنُ عبَّاس، وأيضًا فهو الذي يقامُ له، ويحتملُ أن تكونَ (11) حاجتهُ إلى أهله، ويخبر بذلك ابنُ عبَّاس عمَّن أخبره بذلك (12) مِنْ زوجاتِ النبيِّ ?، ويقصدُ بذلك (13) : بيانَ أنَّ الجنبَ لا يجبُ عليه أن يتوضَّأ للنومِ الوضوءَ الشرعيَّ، والله تعالى أعلم.
237- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (14) ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُعَاوِدَ، فَلْيَتَوَضَّأْ بَيْنَهُمَا وُضُوءًا».
وقوله: «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ (15) أَهْلَهُ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُعَاوِدَ، فَلْيَتَوَضَّأْ بَيْنَهُمَا وُضُوءًا»:
ذهَبَ بعضُ أهل الظاهر: إلى أنَّ هذا الوضوءَ هنا هو الوضوءُ العرفيُّ، وأنه =(1/566)=@ واجبٌ، واستحبَّه أحمدُ وغيره (16) (17) .
وذهب الفقهاءُ وأكثَرُ أهلِ العلم (18) : إلى أنه غَسْلُ الفَرْجِ فقطْ؛ مبالغةً في النظافةِ، واجتنابًا لاستدخالِ (19) النجاسة، ويُسْتدلُّ على ذلك بأمرين:
أحدهما: أنه قد روى هذا الحديثَ لَيْثُ بن أبي سُلَيْم من (20) حديث عمر - رضي الله عنه - ، وقال فيه: «فَلْيَغْسِلْ فَرْجَهُ» مكان: «فَلْيَتَوَضَّأْ بَيْنَهُمَا وُضُوءًا» (21) . &(1/420)&$
__________
(1) 50 سعد.
(2) تعليق فقهي ونيس.
(3) أخرجه البخاري (1/392 رقم 287) في الغسل، باب نوم الجنب، ومسلم (1/249 رقم 306 –24) في الحيض، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له وغسل الفرج.
(4) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/48) كتاب الطهارة، باب وضوء الجنب إذا أراد أن ينام، أو يطعم، قبل أن يغتسل، عن نافع: أن عبدالله بن عمر كان إذا أراد أن ينام أو يطعم، وهو جنب، غسل وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح برأسه، ثم طعم، أو نام.
ومن طريق مالك أخرجه البيهقي (1/200).
وأخرجه عبدالرزاق (1/278-279، 279، 279-280 رقم1074، 1075، 1077)، وابن أبي شيبة (1/62 رقم660) كتاب الطهارة، باب في الجنب يريد أن يأكل أو ينام. كلاهما من طرق عن نافع، عن ابن عمر.
وإسناده صحيح.
(5) قوله: «ثم يأكل أو يشرب» سقط من (أ) و(ح) و (غ).
(6) في (أ): «أصابها».
(7) أخرجه عبدالرزاق (1/278و281 رقم1073و1085)، وابن أبي شيبة (1/ 62 رقم658) كتاب الطهارة، باب في الجنب يريد أن يأكل أو ينام، وعنه ابن ماجة (1/195 رقم593) كتاب الطهارة، باب من قال: يجزئه غسل يديه، وأخرجه أحمد (6/118-119 و279)، وأبو داود (1/151 رقم223) كتاب الطهارة، باب الجنب يأكل، وعنه البيهقي (1/203).
وأخرجه النسائي (1/139) كتاب الطهارة، باب اقتصار الجنب على غسل يديه إذا أراد أن يأكل أو يشرب، وأبو يعلى (8/71-72 رقم4595)، وعنه ابن حبان (4/20 رقم1218/الإحسان).
جميعهم من طريق ابن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن ينام وهو جنب، لم ينم حتى يتوضأ، وإذا أراد أن يأكل وهو جنب غسل يديه وأكل.
قال الدارقطني (1/126): صحيح. وصححه الألباني في "الصحيحة" (390).
(8) في (أ): «فقال».
(9) أخرجه البخاري (1/249 رقم 307-26) في الدعوات، باب الدعاء إذا انتبه من الليل، وذكر أطرافه في (1/212 رقم 117) في العلم، باب السمر في العلم، ومسلم (1/248 رقم 304) في الحيض، باب غسل الوجه واليدين إذا استيقظ من النوم، وفي (1/525 رقم 763-181) في صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه.
(10) في (ب) و(ح) و(غ): «هنا».
(11) في (أ): «يكون».
(12) قوله: «عن أخبره بذلك» ليس في (غ) وقوله: «بذلك» ليس في (ب).
(13) تعليق فقهي ونيس.
(14) أخرجه مسلم (1/249 رقم 308) في الحيض، باب جواز نوم الجنب، واستحباب الوضوء له وغسل الفرج إذا أراد أن يأكل.... ...
(15) في (ح): «أحدهم».
(16) تعليق فقهي ونيس.
(17) 50 سعد.
(18) تعليق فقهي ونيس.
(19) في (ح): «لا يستدخال».
(20) في (أ): «في».
(21) أخرجه الترمذي في "العلل الكبير" (ص61)، وابن حبان في "الثقات" (5/571)، والبيهقي (7/192).
جميعهم: من طريق ليث بن أبي سليم، عن عاصم، عن أبي المستهل، عن عمر - رضي الله عنه - : أن النبي (في الأصل أن نبي الله) ? قال: « إذا أتى أحدكم أهله، وأراد أن يعود فليغسل فرجه».
قال الترمذي: سألت محمدًا عن هذا الحديث، فقال: هو خطأ ولا أدري من: أبو المستهل، وإنما روى عاصم، عن أبي عثمان، عن سلمان بن ربيعة، عن عمر قوله. وهو الصحيح. وروى عاصم، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد، عن النبي ?.اهـ.
وقال ابن أبي حاتم في "العلل" (1/3): قال أبي: هذا يرون أنه عاصم عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أشبه.اهـ.
وقال الدارقطني في "العلل" (2/240-241): كذا رواه ليث بن أبي سليم، عن عاصم، عن أبي المستهل، عن عمر. ووهم فيه.
ورواه الثقات الحفاظ، عن عاصم، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد الخدري، منهم: شعبة، والثوري، وابن المبارك، وجرير، وإسماعيل بن زكريا، وعبدالواحد بن زياد، وابن عيينة، ومروان الفزاري، وغيرهم. وقولهم أولى بالصواب من قول ليث... ورواه قتادة، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد أيضًا، إلا أنه لم يرفعه.
قاله سعيد بن بشير، عن قتادة.اهـ.
والحديث ضعفه البيهقي (7/192) بقوله: وليث بن أبي سليم لا يحتج به.اهـ.
وضعفه الألباني في "الضعيفة" (2199).(1/420)
وثانيهما (1) : أنَّ الوطء ليس مِنْ قَبِيلِ ما شُرِعَ له الوضوءُ، فإنَّه بأصل مشروعيته للقُرَبِ والعباداتِ، والوطء بابه الملاذ (2) والشهوات، وهو (3) مِنْ جِنْسِ المباحات، ولو كان ذلك مشروعًا لِأَجْلِ الوطءِ لَشُرِعَ في الوطءِ المبتدأ؛ فإنَّه من نوعِ المعاد، وإنَّما ذلك لما يتلطَّخ به (4) الذَّكَرُ من نجاسة ماءِ الفَرْجِ والمنِّي؛ فإنه مما يكره ويستثقل عادةً وشرعًا، والله تعالى أعلم.
238- وَعَنْ أَنَسٍ (5) ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ? كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ.
وقول أنس - رضي الله عنه - : «كَانَ رَسُولُ اللهِ ? يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ»؛ هذا يحتملُ أن يكونَ من النبيِّ ? عند قدومه مِنْ سَفَر، أو عند تمامِ الدورانِ عليهنَّ وابتداءِ دَوْرٍ آخر، فدار (6) عليهنَّ ليلةً، أو يكونُ ذلك عن إذنِ صاحبةِ اليومِ، أو يكونُ ذلك خصوصًا به، وإلا فوطءُ المرأةِ في يومِ ضَرَّتها ممنوعٌ منه (7) (8) ، وقد ظَهَرَتْ خصائصُهُ =(1/567)=@ في هذا البابِ كثيرًا، هذا (9) مع أنه ? لم يكنِ القَسْمُ عليه (10) بينهنَّ واجبًا (11) (12) ؛ لقوله تعالى: {ترجي من تشاء منهن وتؤي إليك من تشاء} (13) ، لكنَّه ? كان قد التزمَهُ لهنَّ؛ تطييبًا لأنفسهنَّ، ولتقتدي أُمَّتُهُ بفعله، والله تعالى أعلم.
ويجوزُ الجمعُ بين الزوجاتِ والسراري في (14) غُسْلٍ واحد (15) ، وعليه جماعةُ السلفِ والخلف، وإنْ كان الغُسْلُ بعد كلِّ وطء أكمَلَ وأفضل (16) ؛ لما رواه النسائيُّ (17) ، عن أبي رافع، قال: «طَافَ رَسُولُ اللهِ ? عَلَى نِسَائِهِ، فَجَعَلَ يَغْتَسِلُ عِنْدَ &(1/421)&$
__________
(1) في (أ): «وثانيها».
(2) في (ب): «بابه للملاذ» وفي (ح): «بابه فإنه للملاذ». وفي (غ): «بأنه الملاذ».
(3) في (ح): «وهي».
(4) قوله: «به» ليس في (غ).
(5) أخرجه البخاري (1/377 رقم 268) في الغسل، باب إذا جامع ثم عاد ومن دار على نسائه في غسل واحد، ومسلم (1/249 رقم 309) في الحيض، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له....
(6) قوله: " فدار " سقط من (أ).
(7) تعليق فقهي ونيس.
(8) 50 سعد.
(9) قوله: " هذا " سقط من (ح).
(10) في (غ): «عليه القسم».
(11) تعليق فقهي ونيس.
(12) 50 سعد.
(13) سورة الأحزاب، الآية: 51.
(14) قوله: «في» ليس في (غ) ومكانه بياض.
(15) 50 سعد.
(16) تعليق فقهي ونيس.
(17) أخرجه ابن أبي شيبة (1/136 رقم1562) كتاب الطهارة، باب الرجل يطوف على نسائه ليلة، وأحمد (6/8 و9-10 و391)، وأبو داود (1/149 رقم219) كتاب الطهارة، باب الوضوء لمن أراد أن يعود، وعنه البيهقي (1/204).
وأخرجه ابن ماجه (1/194 رقم590) كتاب الطهارة، باب فيمن يغتسل عند كل واحدة غسلاً، والنسائي في "الكبرى" (5/329 رقم9035) كتاب عشرة النساء، باب طواف الرجل على نسائه، والإغتسال عند كل واحدة، والطحاوي (1/129)، والطبراني في "الكبير" (1/326 رقم973)، والبيهقي (7/192).
جميعهم: من طريق حماد بن سلمة،عن عبدالرحمن بن أبي رافع، عن عمته سلمى،عن أبي رافع: أن النبي ? طاف ذات يوم على نسائه، يغتسل عند هذه، وعند هذه، قال: فقلت: يا رسول الله ! ألا جعلته (في الأصل تجعله) غسلاً واحدًا؟ قال: «هذا أزكى وأطيب وأطهر».
وفي سنده: عبدالرحمن بن أبي رافع: لم يرو عنه غير حماد بن سلمة، قال ابن معين: صالح. وفي "التقريب": مقبول. وعمته سلمى: روى عنها جمع. وفي "التقريب" مقبولة.
وقال الحافظ في "التلخيص" (1/247): وهذا الحديث طعن فيه أبو داود، فقال: حديث أنس أصح من هذا.اهـ.
والحديث حسنه الألباني في "تمام الْمنّة" (ص122)، و"آداب الزفاف" (ص108)، وقال: وقوَّاه الحافظ.اهـ.
ولعل الشيخ رحمه الله اعتمد سكوت الحافظ في "الفتح"، وإلا فالحافظ لم ينص على تقويته هناك. انظر"الفتح" (1/376).(1/421)
هَاذِهِ وَعِنْدَ هَاذِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ جَعَلْتَهُ غُسْلاً وَاحِدًا؟ قَالَ: «هَذَا أَزْكَى وَأَطْيَبُ وَأَطْهَرُ».
( 23 ) بَابُ وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى المَرْأَةِ
إِذَا رَأَتْ فِي المَنَام مِثْلَ مَا يَرَى الرَّجُلُ
239- عَنْ أَمِّ سَلَمَةَ (1) ، قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى النَّبِيِّ ?، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ»، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ ؟ فَقَالَ: «تَرِبَتْ يَدَاكِ، فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا؟!».
وَمِنْ بَابِ وُجُوبِ الغُسْلِ عَلَى المَرْأَةِ
إِذَا رَأَتْ فِي المَنَام مِثْلَ مَا يَرَى الرَّجُلُ
قولُ أم سُلَيْم رضي الله عنها (2) : «إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ»، أي: لا يأمرُ بالحياءِ فيه، ولا يمتنعُ مِنْ ذِكْره، وأصلُ الحياء: انقباضٌ واحتشامٌ يجدُهُ الإنسانُ عندما يُطَّلَعُ منه على =(1/568)=@ مُسْتَقْبَحٍ (3) ، وهو في حقِّ الله تعالى عبارةٌ عن الِامتناعِ عن مثلِ ذلك الفعلِ المستحيا منه (4) . &(1/422)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/251رقم 313-32) في الحيض، باب وجوب الغُسْلِ على المرأةِ بخروج المنيِّ منها.
(2) في (أ): «أم سلمة».
(3) في (أ): «على عورة».
(4) الصوابُ في هذا: إثباتُ هذه الصفةِ لله عزَّ وجلَّ على حقيقتها كما يليقُ بجلال ربِّنا وعظمتِهِ، مِنْ غير تأويلٍ ولا تشبيه. (انظر الأوراق الملحقة).(1/422)
وقوله: «تَرِبَتْ يَدَاكِ»، أي: افتقَرَتْ؛ قال الهرويُّ: «تَرِبَ الرجلُ: إذا افتقَرَ، وأَتْرَبَ: إذا استغنَى» (1) ، وفي "الصحاح": «تَرِبَ الشيءُ بالكسر: أصابَهُ التراب (2) ، ومنه: تَرِبَ الرجلُ: افتقَرَ (3) ؛ كأنَّه لَصِقَ بالترابِ، قال: وأترَبَ الرجلُ: استغْنَى (4) ؛ كأنه صار مالُهُ من الكثرةِ بِقَدرِ الترابِ» (5) .
وتأوَّل مالكٌ قوله ? لعائشة رضي الله عنها (6) : «تَرِبَتْ يَدَاكِ»، بمعنى الاستغناءِ، وكذلك قال عيسى بن دينار (7) ، وقال ابنُ نافع: معناه: ضَعُفَ عقُلكِ، وقال الأصمعيُّ: معناه: الحَضُّ على تعلُّم مثل هذا؛ كما يقال: انْجُ! ثَكِلَتْكَ أمُّكَ،، وقيل: «تَرِبَتْ يَدَاك»: أصابها الترابُ، ولم يُرِدِ الفقرَ.
والصحيحُ: أنَّ هذا اللفظَ وشبهه يَجْرِي على ألسنةِ العَرَبِ مِنْ غير قصدِ الدعاءِ به (8) ؛ وهذا مذهبُ أبي عُبَيْدٍ في هذه الكلمات وما شابهها (9) .
وقد أحسَنَ البديعُ (10) في بعض (11) رسائله، وأوضَحَ هذا المعنى، فقال: «وقَدْ يُوحِشُ اللَّفْظُ وَكُّلُهُ وُدّْ، وَيُكْرَهُ الشَّيْءِ وَمَا (12) مِنْ فِعْلِهِ بُدّْ، هذه العَرَبُ تقولُ (13) : «لا أَبَا لك! (14) » لِلشَّيْءِ إِذَا أَهَمّْ (15) ، و«قاتله الله!»،(إلى هنا انتهت المقابلة» وَلَا يُريُدونَ بِهِ الذَّمّْ، وَ«وَيْلُ أُمِّه (16) !»، لِلْأَمْرِ إِذَا تَمّْ، وَلِلْأَلْبَابِ في هَاذَا البَابِ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى القَوْلِ (17) وَقَائِلِهِ؛ فَإِنْ كَانَ وَلِيًّا فَهُوَ الْوَلَاءُ وَإِنْ خَشُنْ، وَإِنْ كَانَ عَدُوًّا فَهُوَ الْبَلَاءُ وَإِنْ حَسُنْ».
قال الشيخ رحمه الله: وعلى تقديرِ كونِهِ دعاءً على أصله، مقصودًا للنبيِّ ? على بُعْدِهِ، فقد قال ?: «اللَّهُمَّ مِنء دَعَوْتُ عَلَيْهِ أَوْ سَبَبْتُهُ أَوْ لَعَنْتُهُ -يعني: مِنَ =(1/569)=@ المُسْلِمين - فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهث زَكَاةً وَرَحْمَةً وقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ القِيَامَةِ» (18) (19) .
وإنكارُ أمِّ سَلَمةَ وعائشةَ (20) على أم سُلَيْم - رضي الله عنهنَّ- قضيةَ احتلامِ النساء: تدلُّ (21) على قِلَّةِ وقوعِهِ من (22) النساء. &(1/423)&$
__________
(1) "الغريبين" لأبي عُبَيْد أحمد بن محمد الهروي (1/251)، وانظر: "غريب الحديث" لأبي عُبَيْد القاسم بن سَلَّام الهروي (1/ 258 – 259).
(2) زاد في (ح) بعد هذا : «ومنه: ترب الشيء بالكسر: أصابه التراب».
(3) في (ح) زيادة «إذا» قبل «افقتر»، وليست في بقية النسخ ولها «الصحاح».
(4) في (ح) زيادة «إذا» قبل «استغنى»ن وليست في بقية النسخ ولا "الصحاح".
(5) "الصحاح" (1/90 – 91).
(6) كذا في النسخ، والتي قيل لها هذا في هذا الحديث: هي أم سلمة، رضي الله عنها.
(7) ضعَّف هذا القول أبو عبيد القاسم، قال: «وقد قال بعض الناس: إن قوله: تَرِبَتْ يداك، يريد به: استَغْنَتْ يداك، من الغِنَى، وهذا خطأ لا يجوز في الكلام، إنما ذهب إلى المُتْرِب، وهو الغنيُّ، فغَلِطَ، ولو أراد هذا التأويل، لقال: أَتْرَبَتْ يداك؛ لأنه يقال: أَتْرَبَ الرجلُ: إذا كَثُرَ ماله، فهو مُتْرِبٌ، وإذا أرادوا الفقر، قالوا: تَرِبَ يَتْرَبُ". اهـ. من "غريب الحديث" (1/259).
(8) في (أ): «للدعاء بها»، وفي (ب) و (غ): «للدعاء به».
(9) في (أ): «و ما شابههما».
(10) هو بديع الزمان الهمذاني صاحب المقامات.
(11) قوله: «بعض» سقط من (أ).
(12) قوله: «وما» في (أ): «وليس».
(13) في (ب): «هذا العربي يقول».
(14) في (أ): «لا أب لك».
(15) في (ب): «إذا هم».
(16) في (غ) : «أبيه».
(17) في (ب): «اللفظ».
(18) يأتي في كتاب البر والصلة، باب لم يبعث النبي ? لَعَّانًا، وإنما بُعِثَ رحمةً، وما جاء من أن دعاءَهُ على المسلم أو سَبَّهُ له: طهورٌ وزكاةٌ، ورحمة، .. كلام أبي عبيد على «تربت يداك» المفهم نقل عنه مرة بعزو ومرة بغير عزو إليه إلي، بل على أنه قوله لا قول أبي عبيد (ص 214 – 215 – كتاب الطهارة).
(19) هذا الذي قاله الشارح ذكره أبو عبيد بن سَلَّام عن بعض الناس ولم يرتضه. "غريب الحديث" (1/ 258 – 259).
(20) إنكار عائشة في صحيح مسلم بعد هذا الحديث رقم (314).
(21) في (غ): «يدل».
(22) في (أ): «في».(1/423)
240- وَفِي رِوَايَةٍ (1) : «فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ؟! إِنَّ مَاءَ الرَّجُلِ غَلِيظٌ أَبْيَضُ، وَمَاءَ الْمَرْأَةِ رَقِيقٌ أَصْفَرُ؛ فَمِنْ أَيِّهِمَا عَلَا، أَوْ سَبَقَ، يَكُونُ مِنْهُ الشَّبَهُ».
وقوله: «فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبُه؟!»، يروى بكسر الشين وسكون الباء، وبفَتْحِ الشين والباء، لغتان، كما يقال: مِثْلٌ، ومَثَلٌ، ومعنى ذلك مفسَّرٌ في حديث عائشةَ وثَوْبان رضي الله عنهما، وما ذكَرَهُ من صفة الماءَيْنِ إنما هو في غالبِ الأمرِ واعتدالِ الحال، وإلا فقد تَخْتلِفُ أحوالُهُمَا للعوارض.
وقوله: «فَمِنْ أَيِّهِمَا عَلَا، أَوْ سَبَقَ يَكُونُ مِنْهُ الشَّبَهُ (2) »، أي (3) : فمن (4) أجل علو أو سبق أحدهما يكونُ الشبَهُ. ويحتملُ: أن يقال: إن «من» زائدة على قول بعض الكوفيين: أنها تزاد في الواجب بتقدير فأيهما (5) علا (6) . ويحتمل أن يكون (7) «أو» شَكًّا من أحد الرواة. ويحتملُ: أن يكون (8) تنويعًا، أَيْ: أَيَّ نوعٍ كان منهما، كان منه الشبه؛ كما قال الشاعر:
فَقَالُوا لَنَا ثِنْتَانِ لَا بِدَّ مِنْهُمَا ... صُدُورُ رِمَاحٍ أُشْرِعَتْ أَوْ سَلَاسِلُ (9)
أي: أحدُ النوعَيْنِ لَا بُدَّ منه. و«سبق»، أي: بادر بالخروج، وقد جاءَ في غيرِ كتابِ مسلمٍ: «سَبَقَ إلى الرَّحِمِ» (10) . ويحتملُ: أن يكون بمعنى: غلب، من قولهم: =(1/570)=@ سابقني فلان فسبقته؛ أي: غلبته، ومنه قوله تعالى: {وما نحن بمسبوقين} (11) ؛ أي: بمغلوبين (12) ، ويكون معناه: يكثر (13) .
241- وَعَنْ عَائِشَةَ (14) ؛ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ ?: هَلْ تَغْتَسِلُ الْمَرْأَةُ إِذَا احْتَلَمَتْ، وَأَبْصَرَتِ الْمَاءَ ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ»، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: تَرِبَتْ يَدَاكِ، وَأُلَّتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: « دَعِيهَا، وَهَلْ يَكُونُ الشَّبَهُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ ذَلِكِ؟! إِذَا عَلا مَاؤُهَا مَاءَ الرَّجُلِ، أَشْبَهَ الْوَلَدُ أَخْوَالَهُ، وَإِذَا عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَهَا، أَشْبَهَ أَعْمَامَهُ».
وقوله في الرواية الأخرى: «إِذَا عَلَا مَاؤُهَا مَاءَ الرَّجُلِ، أَشْبَهَ الوَلَدُ أَخْوَالَهُ، وَإِذَا عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَهَا، أَشْبَهَ الوَلَدُ أَعْمَامَهُ»، مقتضى هذا: أنَّ العُلُوَّ يقتضي الشبه، وقد جعل العلوَّ في حديثِ ثوبانَ الآتي (15) يقتضي الذكورةَ والأنوثةَ.
فعلى مقتضى الحديثَيْن: يلزمُ اقترانُ الشبهِ للأعمامِ والذكورةِ إنْ علا مَنِيُّ الرجل، وكذلك يلزم (16) - إذا علا مَنِيُّ - المرأة اقترانُ الشبهِ للأخوالِ والأنوثةِ (17) ؛ لأنهما معلولَا عِلَّةٍ واحدةٍ.
وليس الأمرُ كذلك؛ بل الوجودُ (18) بخلافِ ذلك؛ لأنا نجدُ الشبَهَ للأخوالِ والذكورةِ، والشبهَ للأعمامِ والأنوثةِ، فتعيَّن تأويلُ أحد الحديثَيْن، والذي يتعيَّن تأويله: العلوُّ الذي في حديثِ ثوبان، فيقالُ: إنَّ ذلك العلوَّ معناه: سَبْقُ الماءِ &(1/424)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/250 رقم 311) في الحيض، باب وجوبِ الغُسْلِ على المرأة بخروج المنيِّ منها.
(2) في (أ): «أشبه».
(3) قوله: «أي» ليس في (غ).
(4) في (ب): «من».
(5) في (ب) و(ح) و(غ): «أيهما».
(6) قوله: «علا» سقط من (ب) و(ح) و(غ).
(7) في (غ): «تكون».
(8) في (أ) و (غ): «تكون».
(9) البيت لجعفر بن عُلبة الحارتي ديوان الحماسة (1/9).
(10) ذكره ابن وهب، كما في "التمهيد" (8/336).
(11) سورة الواقعة، الآية: 60.
(12) في (ب): «مغلوبين».
(13) في (أ): «كثر».
(14) أخرجه مسلم (1/251 رقم 314-33) في الحيض، الباب السابق.
(15) في أول الباب التالي.
(16) في (أ): «يلزمه».
(17) في (أ) و(ح): «الأنوثية».
(18) في (غ): «الموجود».(1/424)
إلى الرحمِ (1) . ووجهُهُ: أنَّ العلوَّ لمَّا كان معناه الغلبةَ، كما فسَّرناه، وكان السابقُ غاليًا في ابتدائِهِ (2) بالخروجِ، قيل عليه: علا؛ ويؤيِّد هذا التأويلَ: أنه قد روي في غير كتاب مسلم: «إِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ المَرْأَةِ، أَذْكَرَا (3) ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ المَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ، آنَثَا (4) » (5) (6) . =(1/571)=@
وقد بنى القاضي (7) أبو بكر بن العربي على اختلاف (8) هذه الأحاديثِ بناءً، فقال: «إنَّ للماءَيْنِ أربعةَ أحوالِ (9) (10) :
الأول: أن يَخْرُجَ ماءُ الرَّجُلِ أوَّلاً.
والثاني: أن يخرجَ ماءُ المرأة أوَّلاً.
والثالث: أن يخرجَ ماءُ الرجل أوَّلاً، ويكونَ أكثر.
الرابع: أن يخرجَ ماءُ المرأة أوَّلاً، ويكونَ أكثر.
ويتمُّ التقسيمُ: بأنْ يخرُجَ ماءُ الرجلِ أوَّلاً، ثم يخرُجَ ماءُ المرأةِ بعده فيكونُ أكثر، أو بالعكس؛ فإذا خرَجَ ماءُ الرجل أولاً، (11) وكان أكثَرَ، جاء الولدُ ذَكَرًا بحكمِ السَّبْق، وأشبَهَ الولدُ أعمامَهُ بحكمِ الكَثْرة، وإنْ خرَجَ ماءُ المرأة أولاً، وكان أكثَرَ، جاء الولدُ أنثَى بحكمِ السَّبْق، وأشبَهَ أخوالَهُ بحكم الغَلَبة، وإنْ خرَجَ ماءُ الرجلِ أولاً، لكنْ (12) لمَّا خرَجَ ماءُ المرأةِ بعده (13) كان أكثَرَ، كان الولدُ ذَكَرًا بحكم السَّبْقِ، وأشبَهَ أخوالَهُ بحكمِ غلبةِ ماء المرأة، وإنْ (14) سبَقَ ماءُ المرأةِ، لكنْ لمَّا خرَجَ ماءُ الرجلِ كان (15) أعلى مِنْ ماء المرأة، كان الولدُ أُنْثَى بحكمِ سبق ماء المرأة، وأشبه أعمامَهُ بحكمِ غلبةِ ماءِ الرجل».
قال: «وبانتظامِ هذه الأقسام (16) ، يستتبُّ (17) الكلام، ويرتفع التعارضُ (18) عن هذه الأحاديث» (19) .
وقوله في حديث عائشة رضي الله عنها: «تَرِبَتْ يَدَاكِ، وأُلَّتْ»، بضم الهمزة وتشديد اللام، أي: أصيبتْ بالأُلَّة، وهي الحَرْبَةُ، يقال: أَلَّةُ يَؤُلُّهُ ألَاًّ (20) ، أي: طَعَنَهُ بها. &(1/425)&$
__________
(1) في (ح): «الرحم والذكورة».
(2) في (غ): «غالبا وابتدائه».
(3) في (غ): «أذكر».
(4) كذا في (ح) بالمد، وفي (أ): «أنثا».
(5) أخرجه البخاري (6/362-363 رقم3329) كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم وذريته، (7/272 رقم 3938) كتاب مناقب الأنصار، باب... و(8/165 رقم4480) كتاب التفسير، باب قوله: {من كان عدوًا لجبريل}، من حديث أنس، عن عبدالله بن سَلَام.
(6) هذا الجمع الذي جمعه القرطبي بين حديث ثوبان وبين حديث عائشة وغيره من الأحاديث، بتأويل حديث ثوبان: نقله القرطبي المفسِّر في "تفسيره" (16/50)، ولم يعزه له بل قال: "قال علماؤنا"، ونقله عنه الزرقاني في "شرحه على الموطأ" (1/153)، وأورد عليه اعتراضاً وأجاب عنه، قال: "ويُشكِلُ"، ويجوز أن يقال: الذكورة والأنوثة شَبهٌ أيضًا باعتبار الجنسيَّة؛ فتكون كثرته مقتضيةً للشبه في الصورة، وسَبْقُهُ مقتضيًا للشبه الجنسيَّة»اهـ.
قلتُ: وبما يشبه جمع الشارح هنا: جمع ابن القيم بين هذه الأحاديث، فقال عن حديث ثوبان:
(7) قوله: « القاضي» سقط من (أ).
(8) قوله: «اختلاف» سقط من (أ).
(9) تعليق فقهي ونيس.
(10) 50 سعد.
(11) قوله: «أولا» ليس في (غ).
(12) في (ب): «ولكن».
(13) قوله: «بعده» ليس في (ح).
(14) في (ح): «فإن».
(15) في (أ) و(ح): «كان»، وفي (ح) زاد بعد «كان» كلمة تشبه «أكثر من».
(16) في (ح): «هذا التقسيم».
(17) في (أ): «يستنب»، وفي (ح): «يستبب».
(18) في (ح): «وقد يقع التعارض».
(19) ذكره ابن العربي، في "القبس، في شرح موطأ مالك بن انس" (1/154 - 1559 وانظره باختصار في "أحكام القرآن" 04/96 - 97)، وقد نقله عنه القرطبي المفسِّر في "تفسيره" (16/51)ن والقرافي في "الذخيرة" (1/295).
(20) قوله: «ألا» ليس في (غ).(1/425)
وهذه الأحاديثُ كلُّها: تدلُّ على أنَّ الغُسْلَ إنما هو في الاحتلامِ من رؤيةِ الماء لا مِنْ رؤيةِ الفِعْل (1) .
وعلى أنَّ الولد يكونُ من مجموعِ ماءِ الرجلِ والمرأةِ معًا (2) ، خلافًا لِمَنْ ذهَبَ إلى أنَّ الولد (3) إنما هو مِنْ ماءِ المرأةِ، وأن ماءَ الرجلِ له عاقدٌ كالإِنْفَحَّةِ لِلَّبَنِ (4) (5) (6) ، والله أعلم. =(1/572)=@
( 24 ) بَابٌ الْوَلَدُ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ وَمَاءِ المَرْأَةِ
242- عَنْ ثَوْبَانَ (7) مَوْلَى رَسُولِ اللهِ ?، قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ?، فَجَاءَ حِبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ؛ فَدَفَعْتُهُ دَفْعَةً كَادَ يُصْرَعُ مِنْهَا!! فَقَالَ: لِمَ تَدْفَعُنِي ؟ فَقُلْتُ: أَلَا تَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ؟! فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: إِنَّمَا نَدْعُوهُ بِاسْمِهِ الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ أَهْلُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «إِنَّ اسْمِي مُحَمَّدٌ الَّذِي سَمَّانِي بِهِ أَهْلِي»، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: جِئْتُ أَسْأَلُكَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ?: «أَيَنْفَعُكَ شَيْءٌ إِنْ حَدَّثْتُكَ؟»، قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ، فَنَكَتَ رَسُولُ اللهِ ? بِعُودٍ مَعَهُ، فَقَالَ: «سَلْ»، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ»، قَالَ: فَمَنْ أَوَّلُ النَّاسِ إِجَازَةً ؟ قَالَ: «فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ»، قَالَ الْيَهُودِيُّ: فَمَا تُحْفَتُهُمْ حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ؟ قَالَ: «زِيَادَةُ كَبِدِ النُّونِ»، قَالَ: فَمَا غَدَاؤُهُمْ عَلَى إِثْرِهَا ؟ قَالَ: «يُنْحَرُ لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنَّةِ الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ مِنْ أَطْرَافِهَا»، قَالَ: فَمَا شَرَابُهُمْ عَلَيْهِ ؟ قَالَ: « مِنْ عَيْنٍ فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً»، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: وَجِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ شَيْءٍ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ إِلَّا نَبِيٌّ، أَوْ رَجُلٌ، أَوْ رَجُلَانِ، قَالَ: «يَنْفَعُكَ إِنْ حَدَّثْتُكَ؟»، قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ، قَالَ: جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنِ الْوَلَدِ ؟ قَالَ: «مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ، وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ، فَإِذَا اجْتَمَعَا، فَعَلَا مَنِيُّ الرَّجُلِ مَنِيَّ الْمَرْأَةِ، أَذْكَرَا بِإِذْنِ اللهِ، وَإِذَا عَلَا مَنِيُّ الْمَرْأَةِ مَنِيَّ الرَّجُلِ، آنَثَا بِإِذْنِ اللهِ»، قَالَ الْيَهُودِيُّ: لَقَدْ صَدَقْتَ، وَإِنَّكَ لَنَبِيٌّ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَذَهَبَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «لَقَدْ سَأَلَنِي هَذَا عَنِ الَّذِي سَأَلَنِي عَنْهُ، وَمَا لِي عِلْمٌ بِشَيْءٍ مِنْهُ، حَتَّى أَتَانِيَ اللهُ بِهِ».
وَمِنْ بَابٍ الْوَلَدُ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ وَالمَرْأَةِ
«الحَبْرُ»: العالمُ، يقالُ (8) بفتح الحاء وكسرها، فأمَّا «الحِبْرُ» للمداد (9) : فبالكسر لا غيرُ.
ونَكْتُ (10) النبيِّ ? الأرضَ بعودٍ معه: هو ضربُهُ فيها، وهذا العُودُ هو المسمَّى: بالمِخْصَرَةِ (11) ، وهو الذي جرَتْ عوائدُ رؤساءِ العرب وكبرائِهِمْ باستعمالها، بحيث تصلُ بها كلامَهَا، ويشغلُ بها يَدَيْهِ (12) من العبث، وإنما يفعلُ ذلك النَّكْتَ (13) المتفكَّرُ.
وقوله: «أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ؟»، هذا يدلُّ على أنَّ معنى هذا التبديلِ: إزالةُ هذه الأرضِ، والإتيانُ بأرضٍ أخرى، لا كما قاله كثيرٌ من الناس: أنها تبدَّلُ صفاتُهَا وأحوالُهَا؛ فَتُسَوَّى آكامُهَا، وتُغَيَّرُ صفاتُهَا، وتُمَدُّ مَدَّ الأديم، ولو كان هذا، لَمَا أشكَلَ كونُ الناسِ فيها عند تبديلها، ولَمَا جُمِعُوا (14) على الصراطِ حينئذٍ (15) .
وقد دلَّ على صحةِ الظاهرِ المتقدِّمِ: حديثُ عائشة رضي الله عنها؛ إذ سألتْ عن =(1/573)=@ هذا رسولَ الله ?؟ فقال &(1/426)&$
__________
(1) تعليق فقهي ونيس.
(2) في (ح): «ماء الرجل وماء المرأة معًا»، وقوله: «معًا» ليس في (غ).
(3) في (أ): «إلى أن ذلك».
(4) في (ب): «كالأنفحة البن».
(5) تعليق فقهي ونيس.
(6) ذكر مثل الزرقاني في "شرح الموطأ" (1/154)، وأضاف: «وفيه استعمال القياس؛ لأن معناه: من كان منه إنزال الماء عند الجماع، أمكن منه إنزال الماء عند الاحتلام فأثبت الإنزال عند الجماع بدليل وهو الشبه، وقاس عليه الإنزال باحتلام؛ ذكره الحافظ وليّ الدين». اهـ.
(7) أخرجه مسلم (1/252 رقم 315) في الحيض، باب بيان صفة منيِّ الرجلِ والمرأة، وأنَّ الولد مخلوقٌ من مائهما.
(8) قوله: «يقال» ليس في (غ).
(9) في (ب): «المداد».
(10) في (أ): «ونكث».
(11) المخصرة: شيءٌ يأخذُهُ الرجلُ بيده ليتوكَّأ عليه، مثل العصا ونحوها."اللسان" (4/242).
(12) في (غ): «وتشغل به يديهما.
(13) قوله: «النكت» سقط من (أ).
(14) في (أ): «اجتمعوا».
(15) في (ح): «الحميد».(1/426)
مجيبًا لها (1) : «عَلَى الصِّرَاطِ» (2) .
والأرضُ المبدَّلةُ (3) : هي الأرضُ التي ذكَرَهَا في حديثِ سهلِ بنِ سَعْد حيثُ قال: «يُحْشَرُ النَّاسُ (4) عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ (5) كَقُرْصِ النَّقِيِّ (6) ، لَيْسَ فِيهَا عَلَمٌ لِأَحَدٍ (7) » (8) ، وهذا الحشر هو جمعُهُمْ فيها بعد أَنْ كانوا على الصراطِ، والله أعلم.
وقال العُكَاظِيُّ: تُمَدُّ الأرضُ مَدَّ الأديم، ثم يزجُرُ (9) اللهُ الخَلْقَ زَجْرَةً، فإذا هم في الأرضِ الثانية، في مِثْلِ مواضعهم من الأرض الأولى، والله أعلمُ بكيفيَّة ذلك!!
و«الجَسْر» - بفتح الجيم وكسرها -: ما يُعْبَرُ عليه، وهو الصراطُ هنا. و«دون»، بمعنى: فوق؛ كما قال في حديث عائشة رضي الله عنها: «على الصراط» (10) .
و«التُّحْفَةُ»: ما يتحفُ به الإنسانُ من الفواكِهِ والطُّرَفِ، محاسنةً وملاطفةً.
و«زِيَادَةُ الكَبِدِ»: قطعةٌ منه؛ كالإصبع.
و«النُّون»: الحُوت (11) ، وقد جاء مفسَّرًا في حديث أبي سعيد: «قال اليهوديُّ: أَلَا أُخْبِرُكَ (12) بِإِدَامِهِمْ؟ قَالَ: «بَلَى»، قَالَ (13) : إِدَامُهُمْ بَالَلامُل (14) وَنُونٌ، قَالُوا: وما هذا (15) ؟ قَالَ: «ثَوْرٌ وَنُونٌ يَأْكُلُ مِنْ زِيَادَةِ كَبِدِهِمَا سَبْعُونَ أَلْفًا» (16) ، وفي "الصحاح": «النُّونُ: الحُوت، وجمعه: أَنْوَانٌ، ونِينَانٌ، وذو (17) النونِ: لَقَبُ يونس - عليه السلام - » (18) .
وقوله: «فما غَدَاؤُهُمْ» (19) ، بفتح الغين وبالدال المهملة، وللسمرقندي: غذاؤُهُم بكسر الغين وبالذال المعجمة، والأظهر أنه تصحيفٌ. =(1/574)=@
وقوله: «تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً»، أي: سَلِسَةَ السَّبِيلِ، سهلةَ الْمَشْرَعِ، يقال: شرابٌ سَلْسَلٌ، وسَلسَالٌ (20) ، وسَلْسَبِيلٌ.
عن مجاهد (21) : وقيلَ عنه: شديدُ الْجِرْيةِ (22) (23) ؛ قال الشاعر: &(1/427)&$
__________
(1) قوله: «لها» ليس في (أ).
(2) يأتي الحديث وكلام الشارح عليه في كتاب التفسير، باب ومن سورة إبراهيم.
(3) في (أ): «المبدل بها».
(4) في (أ): «تحشرون»، وفي (غ): «يحشرون».
(5) عفراء، أي: بيضاء إلى حمرة: انظر.....
(6) قوله: «كقرص النقي» سقط من (ب) و(ح) و (غ).
قال الحافظ في "الفتح" (11/375) بفتح النون وكسر القاف، أي: الدقيقِ النَّقِيِّ من الغش والنخال؛ قاله الخطابي.
(7) ليس فيها علمٌ لأحد، أي: ليس بها علامة سكنى أو بناء أو أثر. انظر :
(8) يأتي الحديثُ وكلامُ الشارع عليه في كتاب التفسير، باب ومن سورة إبراهيم.
(9) في (أ): «زجر».
(10) يأتي وكلام الشارح عليه في كتاب التفسير، باب ومن سورة إبراهيم.
(11) في (ح): «والحوت».
(12) في (غ): «أخرك».
(13) قوله: «قال» سقط من (غ).
(14) البَالَامُ: في معناها أقوال، أصحُّها ما اختاره القاضي عياض والشارح وغيرهما، من المحققين، وهو أنها لفظةٌ عبرانَّية تكلم بها اليهودي على لغته، ومعناها: ثَوْرٌن والمارد: الثور الذي كان يأكل من أطراف الحنة كما في حديث الباب (وهو حديث ثوبان)، ولو كانت الكلمة عربية، لمَا أشْكَلَتْ على الصحابة رضوان الله عليهم، ولعرفوها، ولم يحتاجوا إلى سؤاله عنها. انظر "الإكمال" ( )، وما سيأتي في كتاب التفسير.
(15) في (غ): «ما هذا» بدون واو.
(16) يأتي الحديثُ وكلامُ الشارح عليه في كتاب التفسير، باب ومن سورة إبراهيم.
(17) في (أ): «وذا».
(18) "الصحاح" (6/2210).
(19) في (أ): «غذاؤهم».
(20) قوله: «وسلسالٌ» سقط من (غ).
(21) أخرجه الطبري في تفسيره (24/108) عن أبي كُرَيْب، عن أبي أسامة، عن شِبْل، عن ابن أبي نَجِيحٍ، عن مجاهد، قال: سَلِسَةَ الجَرْية.
وسنده صحيح. وشبل: هو ابن عباد المكي.
وأورده السيوطي في "الدر المنثور" (8/376)، وزاد نسبته إلى عَبْد بن حُمَيْد.
(22) أخرجه عبدالرزاق في "تفسيره" (2/338)، وعلقه البخاري (6/317/كما في الفتح) كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، و(8/684) كتاب التفسير، سورة {هل أتى على الإنسان}.
ووصله الحافظ في "تغليق التغليق" (3/500)، وأخرجه الطبري في "تفسيره" (24/108)، جميعهم من طريق سفيان الثوري، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، في قوله تعالى: {تسمى سلسبيلا}، قال: شديدَ الجَرْية.
وإسناده صحيح.
وأورده السيوطي في "الدر المنثور" (8/375)، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وهناد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي.
(23) في (غ): «الخمرية».(1/427)
............................ ... كَأْسًا يُصَفَّقُ (1) بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ (2) (3)
وقال قتادةُ: عينٌ تَنْبُعُ من تحتِ العرشِ من جنةِ عَدْنٍ إلى الجنان.
وقوله (4) : «لَقَدْ صَدَقْتَ، وَإِنَّكَ لَنَبِيٌّ»، يدلُّ على أنَّ مُجَرَّدَ التصديقِ من غير التزامِ الشريعةِ ولا دخولٍ فيها - لا ينفَعُ؛ إذ لم يُحْكَمْ له بالإسلام (5) (6) . =(1/575)=@ &(1/428)&$
__________
(1) في (غ): «تصفق).
(2) هذا عجز بيت من الكامل، والبيت بتمامه:
يَسْقُونَ مَنْ وَرَدَ البَرِيصَ عَلَيْهِمْ ... كَأْسًا يُصَفَّقُ بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ
وهو لحسان بن ثابت - رضي الله عنه - .
(3) في (أ) و(ب) و(ح): «تسفق» بالسين، وفي (أ) و(ب): «السلسبيل»، وفي (ح): «السلسل»، وجاء في حاشية (أ) بدل «كأسًا تسفق»: «بَرَدَى تسفق».
(4) في (ب): «قوله».
(5) تعليق فقهي ونيس.
(6) 50 سعد.(1/428)
( 25 ) بَابٌ فِي صِفَةِ غُسْلِهِ - عليه السلام - مِنَ الجَنَابَةِ
243- عَنْ عَائِشَةَ (1) ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ? إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، يَبْدَأُ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ - وَفِي رِوَايَةٍ: كَفَّيْهِ - ثَلاثًا، ثُمَّ يُفْرِغُ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ، فَيَغْسِلُ فَرْجَهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْمَاءَ، فَيُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي أُصُولِ الشَّعْرِ، حَتَّى إِذَا رَأَى أَنْ قَدِ اسْتَبْرَأَ، حَفَنَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ.
وَمِنْ بَابِ صِفَةِ غُسْلِهِ ? مِنَ الجَنَابَةِ
قوله: «ثُمَّ يَأْخُذُ المَاءَ، فَيُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي أُصُولِ الشَّعْرِ قبل الماء (2) »، قيل (3) : إنما فَعَل ذلك ليسهُلَ دخولُ الماء إلى أصولِ الشعر (4) ، وقيل: ليتأنَّسَ بذلك حتى لا يجدَ بعده (5) مِنْ صبِّ الماء الكثير نُفرة (6) .
وقوله: «حَتَّى إِذَا رَأَى أَنْ قَدِ اسْتَبْرَأَ، حَفَنَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ»:
«استبرَأَ»: أي: استقصَى (7) وبالغ؛ مِنْ قولهم: استَبْرَأَ الخَبَرُ.
"و«حَفَنَ»: أخَذَ وصَبَّ.
و«الحَفَنَاتُ» (8) : جمع حَفْنَة، وهي مِلْءُ الكَفَّيْن من طعامٍ أو نحوه، وأصلُهَا من الشيء اليابسِ كالدقيقِ والرَّمْلِ ونحوه، ويقال: حَفَنْتُ لهُ حَفْنَةً، أي: أعطيتُهُ قليلاً؛ قاله في "الصحاح" (9) .
ولا يُفْهَمُ من هذه الثلاثِ حَفَنَاتٍ: أنه غسَلَ رأسَهُ ثلاثَ مرَّات؛ لأنَّ التكرارَ في الغُسْلِ غيرُ مشروع (10) ، (11) ؛ لما في ذلك مِنَ المشقَّة، وإنما كان ذلك العددُ؛ لأنه بدَأَ بجانبِ رأسِهِ الأيمنِ، ثم الأيسَرِ، ثم على وَسَطِ رأسه، كما جاء في حديثِ =(1/576)=@ عائشةَ رضي الله عنها الآتي بعد هذا، وكما وَقَع في البخاريِّ أيضًا مِنْ حديثها (12) .
وقوله: «ثُمَّ أَفَاضَ المَاءَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ»:
استدلَّ (13) به: مَنْ لم يَشْترطِ التدلك (14) ، وهو الشافعيُّ (15) .
ولا حُجَّةَ له (16) فيه؛ لأنَّ «أَفَاضَ» إنما معناه: غَسَلَ، كما جاء (17) في حديثِ ميمونةَ الآتي بعد هذا، و«الغَسْلُ»: هو صَبُّ الماءِ على المغسولِ &(1/429)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (1/360 رقم 248) في الغسل، باب الوضوء قبل الغسل، ومسلم (1/253 رقم 316-35) في الحيض، باب صفة غسل الجنابة.
(2) قوله: «قبل الماء» من (ب) فقط.
(3) في (غ): «قبل الماء من (ب) فقط.
(4) من قوله: «قيل إنما فعل...» إلى هنا سقط من (أ).
(5) قوله: «بعده» سقط من (أ).
(6) 50 سعد.
(7) في (ح): «أي: استقصى».
(8) في غير (أ): «الحفنات» بغير واو.
(9) "الصحاح" (5/2102).
(10) تعليق فقهي ونيس.
(11) 50 سعد.
(12) متفق عليه كما سبق وليس فيه ذكر وسط الرأس.
(13) في (ح): «اشترط».
(14) 50 سعد.
(15) تعليق فقهي ونيس.
(16) قوله: «له» سقط من (ح) فقط.
(17) قوله: «جاء» سقط من (ب).(1/429)
ودَلْكُهُ (1) ، على ما نقله أصحابنا (2) ، والذي وقفْتُ عليه مِنْ نقل بعضِ اللغويِّين: أنَّ الغَسْلَ: إجادةُ التطهير، وهو يُفِيدُ: أن مجرَّد الإفاضةِ أو الغَمْس (3) لا يُكْتفى به في مسمَّى الغسْل، بل لا بدَّ مع ذلك مِنْ مبالغة؛ إما بالدَّلْك، أو ما (4) يتنزَّلُ منزلتَهُ، وقد تواردَتِ الأحاديثُ عن النبي ? بأنه (5) كان يغسلُ أعضاءَ وضوئِهِ، ويَدْلِكها بيديه، ولا فَرْقَ بين الغُسْلِ والوضوءِ في هذا.
وقد رُوِيَ من حديث عائشة رضي الله عنها: «أنَّ النبيَّ ? عَلَّمَهَا كَيْفِيَّةَ الغُسْلِ، وَأَمَرَهَا أَنْ تتِدلك (6) »، وهذا (7) ذكره ابن حَزْم (8) ، وضعَّفه (9) ، وسيأتي في حديثِ أسماءَ بنتِ شَكَلٍ (10) رضي الله عنها ما يدلُّ على التدلك.
244- وَعَنْ مَيْمُونَةَ (11) ، قَالَتْ: أَدْنَيْتُ لِرَسُولِ اللهِ ? غُسْلَهُ مِنَ الْجَنَابَةِ، فَغَسَلَ كَفَّيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ، ثُمَّ أَفْرَغَ بِهِا عَلَى فَرْجِهِ، وَغَسَلَهُ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ ضَرَبَ بِشِمَالِهِ الأَرْضَ، فَدَلَكَهَا دَلْكًا شَدِيدًا، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ مِلْءَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى عَنْ مَقَامِهِ ذَلِكَ، فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ بِالْمِنْدِيلِ، فَرَدَّهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ أُتِيَ بِمِنْدِيلٍ، فَلَمْ يَمَسَّهُ، وَجَعَلَ يَقُولُ بِالْمَاءِ هَكَذَا، يَعْنِي: يَنْفُضُهُ.
وَفِي أُخْرَى: وَصْفُ الْوُضُوءِ كُلِّهِ، يَذْكُرُ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ.
وقولهُ هنا: «ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ»، وفي حديث ميمونة: «ثُمَّ تَنَحَّى عَنْ مَقَامِهِ، فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ»، استحبَّ بعضُ العلماء: أن يؤخِّر غَسْلَ رِجْليه على ظاهر هذه الأحاديثِ (12) ؛ وذلك ليكونَ الافتتاحُ والاختتامُ بأعضاءِ الوضوء (13) .
وقد رُوِيَ عن مالك (14) :«ليس العملُ على تأخيرِ غَسْلِ الرِّجْلين، وِليُتمَّ وضوءَهُ في أولِ غُسْله، فإنْ أخَّرهما، =(1/577)=@ أعاد وضوءَهُ عند الفراغ»؛ وكأنَّه رأى أنَّ ما وقَعَ هنا كان لما ناله مِنْ تلك البقعة.
وروي عنه: أنه وَاسِعٌ.
والأظهَرُ: الاستحبابُ؛ لدوامِ النبيِّ ? على فعل ذلك.
وفي حديثِ ميمونةَ رضي الله عنها: «أَتَيْتُهُ (15) بِالْمِنْدِيلِ، فَرَدَّهُ»، يتمسَّكُ به مَنْ كره التَّمَنْدُلَ (16) (17) بعد الوضوءِ والغُسْلِ (18) ، وبه (19) قال ابنُ عمر (20) ، وابنُ أبي ليلى، وإليه مالَ أصحابُ الشافعيِّ رحمه الله، وقالوا: هو أثرُ عِبَادَةٍ، فتكرهُ (21) إزالته؛ كدمِ الشهيد، وخَلُوفِ فمِ الصائم.
ولا حُجَّةَ في الحديث؛ لاحتمالِ أن يكون ردُّه إياه (22) ؛ لشيء رَآهُ بالمنديل (23) ، أو لاستعجالِهِ للصلاة، أو تواضعًا، أو مجانبةً لعادة (24) المترفِّهين.
وأما القياس: فلا نسلِّمه؛ لأنا نمنع (25) الحكم في الأصل (26) ؛ إذِ الشهيدُ يحرُمُ غَسْلُ دمه، ولا يُكْرَه (27) ، ولا يُكْرَهُ (28) إزالةُ الخَلُوفِ بالسِّوَاك، ورويِ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه يَكْرَهُ التمندُلَ في الوضوءِ دون &(1/430)&$
__________
(1) في (غ): «وذلك».
(2) تعليق فقهي ونيس.
(3) في (ب) و(ح): «لإفاضة والغمس».
(4) في (غ): «أو بما».
(5) في (ح) و(غ): «فإنه».
(6) في (أ) و (ح): «تدلك».
(7) قوله: «وهذا» سقط من (أ).
(8) تعليق فقهي ونيس.
(9) أورده ابن حزم في "المحلَّى" (2/30-32)، وأعلَّه بأنه من طريق عِكْرمة بن عَمَّار، عن عبدالله بن عبيد بن عُمَيْر، عن عائشة، وهو مرسل؛ لأن عبدالله بن عبيدالله بن عمير لم يدرك عائشة.
(10) يأتي في باب صفة غسل المرأة من الحيض.
(11) أخرجه البخاري (1/382 رقم 274) في الغُسْل، باب من توضَّأ في الجنابة، ثم غسل سائر جسده ولم يُعِد غَسْلَ مواضع الوضوء مرة أخرى، وذكر أطرافه في (1/361 رقم 249) في الغسل، باب الوضوء قبل الغسل، ومسلم (1/254 رقم 317-37، 38) في الحيض، باب صفة غسل الجنابة.
(12) 50 سعد.
(13) تعليق فقهي ونيس.
(14) تعليق فقهي ونيس.
(15) قوله: «أتيته» في (أ): «أتي»، وفي (ب) و (ح): «أنه أتي».
(16) في (غ): «المنديل».
(17) تعليق فقهي ونيس.
(18) 50 سعد.
(19) قوله: «وبه» في (غ): «منه».
(20) ........ لم نجده.
(21) في (أ) و (غ): «فيكره».
(22) في (ح): «إياها».
(23) في (ح): «في المنديل».
(24) في (ب): «مجانبته لحالة».
(25) في (ح): «لا نمنع».
(26) في (ب): «من الأصل»، وفي حاشية (أ): «بلغ مقابلة بأصله».
(27) قوله: «لا يكره» سقط من (ح) وفي (غ): «لا نكره» ولم تنقط في (ب).
(28) في (أ) و (ب): «ولا نكره».(1/430)
الغُسْل (1) .
والصحيحُ: أنَّ ذلك واسعٌ؛ كما ذهَبَ إليه مالكٌ؛ تمسُّكًا بعدمِ الناقلِ عن الأصل (2) .
وأيضًا: فقد روي عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ النبيَّ ? كانتْ له خِرْقَةٌ يُنَشَّفُ (3) بها بعد الوضوءِ (4) ، ومن (5) حديثِ معاذ - رضي الله عنه - : «أنَّ النبيَّ ? كان يَمْسَحُ وَجْهَهُ مِنْ وَضُوئِهِ بِطَرَفِ ثَوْبِهِ» (6) ، ذكرهما (7) الترمذيُّ، وقال: لا يصحُّ في الباب شيء.
وقولها عنه (8) : «وَجَعَلَ يَقُولُ بِالمَاءِ هَكَذَا»، تعني (9) : ينفضُهُ، رَدٌّ على مَنْ كره =(1/578)=@ التمندُلَ، وقال: «لأنَّ الوضوءَ يُوزَنُ (10) » (11) ؛ إذْ لو كان كما قال، لَمَا نفضَهُ عنه؛ لأن النَّفْضَ كالمَسْحِ في إتلافِ ذلك الماء.
وقولها: «إِنَّ النَّبِيَّ ? تَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ فِي الغُسْلِ»، متمسَّكٌ به لأبي حنيفةَ (12) في إيجابِهِ المضمضةَ والاستنشاقَ في الوضوءِ والغسل (13) (14) ، وقد تكلَّمنا على ذلك في الوُضُوء، ولا متمسَّكَ له فيه ها هُنَا؛ للاتفاقِ على أن هذا الوُضُوءَ في أولِ الغُسْلِ ليس بواجبٍ بل مندوبٌ،، ولأنَّ المأمورَ به في الغُسْلِ ظاهرُ جِلْدِ الإنسانِ لا باطنُهُ؛ لقوله ?: «فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ، وَأَنْفُقوا البَشَرَةَ» (15) ، والبَشَرَةُ (16) : ظاهرُ جِلْدِ الإنسانِ المُبَاشِر.
245- وَعَنْ عَائِشَةَ (17) ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ? إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، دَعَا بِشَيْءٍ نَحْوَ الْحِلَابِ، فَأَخَذَ بِكَفِّهِ، بَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الأَيْمَنِ، ثُمَّ الأَيْسَرِ، ثُمَّ أَخَذَ بِكَفَّيْهِ، فَقَالَ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ.
الْحِلَابِ: إنَاءٌ ضَخْمٌ يُحْلَبُ فِيهِ.
وقولُ عائشة رضي الله عنها: «دَعَا بِشَيْءٍ نَحْوَ الْحِلَابِ»، روايتنا فيه: الحِلَاب، بكسر الحاء المهملة لا يصحُّ غيرها؛ قال الخطابيُّ: «هو إناءٌ يَسَعُ (18) قَدْرَ حَلْبةٍ» (19) ، وقال غيره: إناءٌ ضَخْمٌ يُحْلَبُ فيه، ويقال له: الْمِحْلَبُ أيضًا، بكسر الميم؛ قال الشاعر: &(1/431)&$
__________
(1) أخرجه عبدالرزاق (1/182 رقم709)، وعنه ابن المنذر في "الأوسط" (1/418)، وأخرجه ابن أبي شيبة (1/138 رقم1594) كتاب الطهارة، باب من كره المنديل، كلاهما من طريق قابوس بن أبي ظَبْيَان، عن أبيه، عن ابن عباس؛ أنه كَرِهَ أن يمسح بالمنديلِ من الوضوء، ولم يَكْرَهْهُ إذا اغتسَلَ من الجنابة.
وقابوس: فيه لين؛ قال أبو حاتم وغيره: لا يحتج به. انظر "التقريب" و"الكاشف".
(2) تعليق فقهي ونيس.
(3) في (ب): «يشف»، ولم تعجم الياء.
(4) أخرجه الترمذي (1/74 رقم 53) كتاب الطهارة، باب التمندل بعد الوضوء، وابن عدي (3/251)، والدارقطني (1/110)، والحاكم (1/154)، وعنه البيهقي (1/185).
جميعهم من طريق زيد بن الحُبَاب، عن أبي معاذ، عن الزهريِّ، عن عُرْوة، عن عائشة، قالت: كان لرسول ِ الله ? خرقة يُنَشف بها بعد الوضوء.
قال الترمذي: حديث عائشة ليس بالقائم، ولا يصحُّ عن النبي ? في هذا الباب شيء، وأبو معاذ يقولون: هو سليمانُ بنُ أرقم، وهو ضعيفٌ عند أهلِ الحديث.اهـ.
وقال ابن عديٍّ: وأبو معاذ هذا: هو سليمان بن أرقم.اهـ.
قال الدارقطني: وهو متروك.
وذهب الحاكم: إلى أنَّ أبا معاذ: هو الفضلُ بنُ ميسرة، بصري، روى عنه يحيى ابن سعيد، وأثنى عليه، وأقره الذهبي.
قال الألباني في الصحيحة (5/134): وفيه نظر، بيَّنه قولُ الترمذي عقبه: .... فذكر ما تقدَّم عن الترمذي، ثم قال: وهذا هو الصوابُ أنَّ أبا معاذ هذا هو سليمان بن أرقم، وليس هو كما قال الحاكم: الفضل بن ميسرة؛ ويؤيد ذلك أمران:
الأول: أن ابن أرقم هو الذي ذكروا في ترجمته أنه رَوَى عن الزهري، وعنه زيد بن الحُبَاب، لم يذكروا ذلك في ترجمة ابن ميسرة.
والآخر: أن ابن عديٍّ إنما أورده في ترجمة سليمان بن أرقم؛ ولذلك جزم البيهقيُّ بأنه هو، وقال: وهو متروك.اهـ.
والحديث ضعَّفه البغوي في "شرح السنة" (2/15).
(5) في (غ): «وفي».
(6) أخرجه الترمذي (1/75) رقم54 كتاب الطهارة، باب التمندل بعد الوضوء، والبيهقي (1/236) كلاهما من طريق رِشْدين بن سعد، عن عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، عن عُتْبة بن حُمَيْد، عن عبادة بن نُسَيٍّ، عن عبد الرحمن بن غَنْم، عن معاذ بن جبل، قال: " رأيتُ النبيَّ ? إذا توضَّأ، مسَحَ وجهه بطرف ثوبه».
قال الترمذي: هذا حديث غريب، وإسناده ضعيف، ورِشْدِينُ بن سعد، وعبد الرحمن بن زياد بن أَنْعُمٍ الإفريقيُّ: يُضَعَّفان في الحديث. اهـ.
وقال البيهقي: وإسناده ليس بالقوي.اهـ.
ولحديث عائشة، ومعاذ بن جبل، شاهد من حديث أبي بكر الصديق: أخرجه البيهقي (1/185) وابن علِيَّك النيسابوري في "الفوائد" (239/1) -كما ذكره الألباني في الصحيحة (5/134) - كلاهما من طريق أبي الضياء محمد بن القاسم، عن أبي زيد النحوي، عن أبي عمرو بن العلاء، عن أنس بن مالك، عن أبي بكر الصديق؛ أن النبي ? كانتْ له خِرْقَةٌ يتنشَّف بها بعد الوضوء.
قال الألباني في الصحيحة (5/134): وهذا إسنادٌ ضعيفٌ جِدًّا. وأعلَّه أبو حاتم في "العلل" (1/19) بالوقف على أنس، وقال: ولا يحتملُ أن يكون مسندًا.
(7) في (غ): «ذكرها».
(8) قوله: «عنه» سقط من (أ) و(ح)، و(غ).
(9) في (غ): «يعني).
(10) قوله: «يوزن» في (غ): «نور».
(11) أخرجه ابن أبي شيبة (1/139رقم 1599) كتاب الطهارة، باب من كره المنديل، عن أبي أسامة، عن الصَّلْت بن بهرام، عن عبد الكريم، عن سعيد بن المسيِّب؛ أنه كرهه، وقال: هو يوزن. وإسناد صحيح.
أبو أسامة: حماد بن أسامة، وعبد الكريم هو ابن مالك الجزري.
وقال الترمذي (1/77): روي ذلك عن سعيد بن المسيب والزهري.
حدَّثنا محمد بن حُمَيْد الرازي، حدَّثنا جرير، قال: حدَّثنيه علي بن مجاهد عَنِّي، وهو عندي ثقة، عن ثَعْلَبة، عن الزهري، قال: إنما كره المنديل بعد الوضوء؛ لأنَّ الوضوء يوزن.
ومحمد بن حميد، قال فيه الحافظ في "التقريب": حافظٌ ضعيف، وقال في علي بن مجاهد: متروك، وليس في شيوخ أحمد أضعف منه.
وعلَّق الشيخ أحمد شاكر رحمه الله على هذا الأثر بقوله: هذا تعليلٌ غيرُ صحيح؛ فإنَّ ميزان الأعمال يوم القيامة ليس كموازين الدنيا، ولا هو مما يدخُلُ تحت الحِسِّ في هذه الحياة، وإنما هو من أمورِ الغَيْبِ الذي نؤمنُ به كما ورد. اهـ.
(12) في (أ) و(ب) و(ح): «يتمسَّك به لأبي حنيفة».
(13) تعليق فقهي ونيس.
(14) 50 سعد.
(15) أخرجه أبو داود (1/171-172رقم 248) كتاب الطهارة، باب في الغسل من الجنابة، وابن ماجه (1/196رقم 597) كتاب الطهارة وسننها، باب تحت كلِّ شعرة جنابةٌ، والترمذي (1/178رقم 106) كتاب الطهارة، باب ما جاء أنَّ تحت كل شعرة جنابةً، والعقيلي في " الضعفاء" (1/216)، وابن عدي في " الكامل " (2/193) وعنه البيهقي (1/179).
وأخرجهَ تمَّام (1/253-254رقم 208، 209،210كما في الروض البَسَّام)، وأبو نعيم في "الحلية" (2/388)، والبيهقي (1/175).
جميعهم من طريق الحارث بن وَجِيهٍ، عن مالك بن دينار، عن محمد بن سِيرِينَ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ?: أن تحت كلِّ شعرة جنابةً؛ فاغسلوا الشعر، وأنقوا البشرة».
قال أبو داود عقب روايته: الحارث بن وجيه حديثه منكر، وهو ضعيف.اهـ.
وقال الترمذي: حديث الحارث بن وجيه حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديثه، وهو شيخ ليس بذاك. وقد روى عنه غيرُ واحدٍ من الأئمة، وقد تفرَّد بهذا الحديث عن مالك بن دينار. اهـ.
وقال العقيلي: لا يتابع عليه، وله غير حديث منكر. ثم نقل عن البخاري قوله: الحارث بن وجيه الراسبي: فيه بعضُ المناكير.
وقال ابن عدي: وهذان الحديثان بأسانيدهما - وذكر حديثاً آخر - عن مالك لا يحدِّث عن مالك غيرُ الحارث بن وَجِيه، وللحارث بن وجيه - غيرَ ما ذكَرْتُ من الروايات - شيءٌ يسير ، ولا أعلم له رواية إلا عن مالك بن دينار. اهـ.
وقال أبو نعيم: تفرَّد به الحارث عن مالك. اهـ.
وقال البيهقي: تفرَّد به موصولاً الحارث بن وجيه، والحارث بن وجيه تكلَّموا فيه.
ثم نقل عن ابن معين قوله عن الحارث: ليس حديثه بشيء، ثم قال: وأنكره غيره أيضًا من أهل العلم بالحديث: البخاري، وأبو داود السجستاني، وغيرهما، وإنما يروى عن الحسن عن النبي ? مرسلاً، وعن الحسن، عن أبي هريرة موقوفًا. اهـ.
ونقل ابن أبي حاتم في "العلل" (1/29) عن أبيه، قوله: هذا حديث منكر، والحارث: ضعيف الحديث. اهـ.
(16) في (ب): «البشرة» بلا واو.
(17) أخرجه البخاري (1/369 رقم 258) في الغسل، باب من بدأ بالحِلَاب أو الطِّيب عند الغسل، ومسلم (1/255رقم 318) في الغسل، باب صفة غسل الجنابة.
(18) في (ح): «واسع».
(19) "معالم السنن" للخطابي ( )، و"غريب الحديث له (1/162)، ونصُّه فيه: "الحِلَابُ: إناءٌ يَسَعُ حَلْبَةَ ناقةٍ، وهو المِحْلَب بكسر الميم،، فأمَّا المَحْلَب بفتح الميم: فهو الحَبُّ الطيب الريح". اهـ.(1/431)
صَاحِ هَلْ رَيْتَ (1) أَوْ سَمِعْتَ بِرَاعٍ ... ... رَدَّ فِي الضَّرْعِ مَا قَرَى في الحِلَابِ (2) ؟!
=(1/579)=@
وقد وَهِم: من ظنَّه من الطِّيب، والذي هو من الطِّيب هو الْمَحلبَ، بفتح الميم واللام.
وكذلك وَهِمَ: مَنْ قال فيه: «الجُلَّاب» بالجيم المضمومة؛ قال (3) الهرويُّ: «وفسَّرهُ الأزهريُّ: بأنه هُنَا ماءُ الوَرْد، وقال (4) : وهو (5) فارسيٌّ معرَّبٌ» (6) .
(26) بَابُ قَدْرِ المَاءِ الَّذِي يُغْتَسَلُ بِهِ وَيُتَوَضَّأُ بِهِ،
وَاغْتِسَالِ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ مِنْ إِنَاءٍ وَاِحِدٍ، وَاغْتِسَالِهِ بِفَضْلِهَا
246- عَنْ عَائِشَةَ (7) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? كَانَ يَغْتَسِلُ مِنْ إِنَاءٍ - هُوَ الْفَرَقُ - مِنَ الْجَنَابَةِ، قَالَ سُفْيَانُ: الْفَرَقُ: ثَلَاثَةُ آصُعٍ.
وَمِنْ بَابِ قَدْرِ المَاءِ
قوله: «مِنْ إِنَاءٍ، هُوَ الفَرَقُ»، يقالُ (8) : بفتح الراء وسكونها؛ حكاهما ابن دُرَيْد، وتقديرُهُ بثلاثة آصُعٍ، هو (9) قولُ الجمهورِ (10) (11) ، وقال أبو الهيثم: هو إناءٌ يأخذُ ستةَ عشَرَ رِطْلاً، وقال (12) غيره: هو إناءٌ ضَخْمٌ من مكاييلِ (13) العراق، وقيل: هو مكيالُ أهلِ المدينة. &(1/432)&$
__________
(1) في (أ) و (ح): «رايت»ن والمثبت من (ب)، وهو الصواب روايةً ودراية:
أما الرواية: فإنها «رَيْتَ» بحذف الهمزة، كما في مصادر التخريج.
وأما الدراية: فإنَّ البيت من بحر الخفيف، و لا يستقيم وزنه بهَمْز «رَيْت».
وقد ورد البيت في "تهذيب اللغة" في موضعين، الموضع الأول جاء على الخطأ: «رايت» بالهمز في (5/84)، والموضع الثاني أتى على الصواب : «رَيْتَ" بترك الهمز في (15/319).
وكذلك ورد البيت في "محكم ابن سيده" في موضعين، الأول في (2/118): "صاح يا صاح هل سمعتَ براعٍ"، وهي إحدى الروايات، والثاني في (3/267): "صاح هل رايتَ أو سمعتَ براعٍ"، وهو خطأ كما ترى.
(2) البيت من الخفيف، وقد استشهد به الشارح هنا على معنى "الحلاب"، وأنه إناءٌ يُحْلَبُ فيه، كالمْحَلب، وجمع الحِلَاب والمِحْلَب: مَحَالِبُ، ويروى: «في العلاب» بالعين المهملة، ولا شاهد فهيا هنا، والعِلَاب وكذلك العُلَب: جمع عُلْبَة، وهي قَدَحٌ ضخم من جلود الإبل يُحْلَبُ فيه، وقييل: من خشب، وقيل: من جلْد وخشب، وقيل: العِلَاب: جِفَانٌ تجلب فيها الناقة. انظر: «المحكم» (2/118)، و«اللسان» (1/628).
وقد ذكر الشارح هذا البيت في المقِّدمة، باب وجوب الأخذ عن الثقات، والتحذير من الكذب على رسول الله ? واستشهد به هناك على ترك همز الماضي من «رأى»، أي: عند إسناده على ضمائر الرفع المتحركة؛ تقول في أرَأَيْتَك أَرَيْتَ، وفي أَرَأَيْتَكَ: أَرَيْتَكَ،، وهكذا.
(3) في (أ): «قاله».
(4) في (ح) و (غ): «قال» بدون واو.
(5) في (أ): «وهو».
(6) "الغريبين" للهروي (1/351)، و"تهذيب اللغة" للأزهري (11/91)، ويبدو أن الشارح نقل كلام الأزهري بواسطة "الغريبين" للهروي، ولم يقف على هذا الموضع من "تهذيب الأزهري". وذكر الزمخشري في "الفائق" (1/307) مثل قول الأزهري، ولم يعزه لأحد، وقد قال ابن الجوزي في "غريبه" (1/233): «وكان رسولُ الله إِذا اغتسَلَ، دعا بإناءٍ نَحْوِ الحِلَابِ»، قال الأزهريُّ: الذي يُحْلَبُ فيه اللبنُ يقال له: حِلَابٌ، ومِحْلَبٌ بكسر الميم، فأما المَحْلَبُ بفتحها: فشيءٌ يُجْعَلُ حبُّه في العطر، قلتُ: وقد غَلِطَ في هذا جماعة فظنَّ قومٌ أنَّ «الحلاب» طيبن ورواه قومٌ بالجيم وتشديد اللام، وهو خطأٌ فاحش، وذكره الأزهريُّ في باب الجيم كذلك، وقال: أراه أرادَ ماءَ الورد، قلتك وما ضبطَهُ أحدٌ بالجيم، والذي في الصحيح بالحاء، والجيمُ غلَطٌ». اهـ.
وتكلَّم ابن الأثير عن هذه الكلمة، ورواياتها في البخاري ومسلم، ومعانيها، فأجاد، قال: "الحِلَابُ والمِحْلَب: الإناءُ الذي يُجْلَبُ فيه اللبن ومنه الحديث: «كان إذا اغتسَلَ، بدَأَ بشيءٍ مِثْلِ الحِلَاب، فأخذ بكفه فبدَأَ بِشِقِّ رأسِهِ الأَيْمَنِ، ثم الأيسَرِ»، وقد رُوِيَتْ بالجيم، وتقدَّم ذكرها. قال الأزهريُّ: قال أصحابُ المعاني: إنه الحِلَابُ، وهو ما تُحْلَب فيه الغَنَمُ، كالمِحْلَبِ سَواءً، فصُحِّف، يَعْنون أنه كان يَغْتَسِلُ في ذلك الحِلَاب، أي: يَضَعُ فيه الماءَ الذي يَغْتَسِلُ منه، واختار الجلَّابَ بالجيم، وفسَّره بماء الوَرْد.
وفي هذا الحديث في: "كتاب البخاري" إشكالٌ، رُبَّما ظُنَّ أنه تأوَّلَهُ على الطِّيبِ، فقال: «باب مَنْ بَدأ بالحِلَابِ والطِّيبِ عند الغسلِ»، وفي بعض النسخ: «أو الطيِّب»، ولم يذكُرْ في البابِ غيرَ هذا الحديثِ: «أنه كان إذا اغتسَلَ، دعا بشيءٍ مِثْلِ الحِلَاب»، وأما مُسْلِمٌ: فجمعَ الأحاديثَ الواردةَ في هذا المعنَى في موضعٍ واحدٍ، وهذا الحديثُ منها، وذلك مِنْ فِعْله يَدُلُّكَ على أنه أراد الآنيَةَ والمقادير، والله أعلم.
ويحتملُ: أن يكونَ البخاريُّ ما أراد إلَّا الجُلَّاب بالجيم، ولهذا تَرْجَمَ البابَ به وبالطِّيبِ، ولكنَّ الذي يُرْوَى: في كتابه إنما هو بالحاء، وهو بما أَشْبَهُ؛ لأنَّ الطيبَ لمن يَغْتَسِلُ بعد الغُسْلِ أليقُ منه قبله وأولى؛ لأنه إذا بدَأَ به، ثم اغتسَلَ، أذهبَهُ الماءُ».اهـ. كلام ابن الأثير من "النهاية" (1/421 - 422)، وانظر: "اللسان" (1/274).
(7) أخرجه البخاري (1/363 رقم 250) في الغُسْل، باب غُسْلِ الرجل مع امرأته، ومسلم (1/255رقم 319/40، 41) في الحيض، باب القدر المستحَبِّ من الماء في غُسْلِ الجنابة وغُسْلِ الرجل والمرأة في إناءٍ واحد في حالة واحدة، وغُسْلِ أحدهما بفضل الآخر.
(8) قوله: «يقال» سقط من (أ).
(9) في (ح): «وهو».
(10) تعليق فقهي ونيس.
(11) 50 سعد.
(12) في (أ) و(ح) و(غ): «قال»، بلا واو.
(13) في (أ) و(ح) و (غ): «مكايل».(1/432)
وقولُ سفيان: «ثَلَاثَةُ آصُعٍ» يُرْوَى هكذا، ويُروى: «أَصْوُعٍ»، وكلاهما صحيحُ الرواية (1) ، وهو جمعُ صاع، ويقالُ: صُوَاعٌ وصُوعٌ، وهو (2) جمعُ قِلَّة، وأصله أَصْوُعٌ، بواو مضمومةٍ، كَدَارٍ وَأَدْوُرٍ (3) ، غير أنَّ من العرب مَنْ يستثقلُ الضمةَ هنا على =(1/580)=@ الواوِ، فيبدلها همزةً، فيقولُ: أَصْؤُعٌ، كما يقول (4) : أَدْؤُرٌ، وهو مكيالُ أهل المدينةِ المعرُوفِ فيهم، وهو يَسَعُ أربعةَ أمدادٍ، بِمُدِّ النبي ?.
والمَكُّوك، بفتح الميم وتشديد الكاف: هو (5) مِكَيالٌ، وهو ثلاثُ كَيْلَجَاتٍ، والكَيْلَجة: مَنًا وسبعةُ أثمانِ مَنًا، والمَنَا: رِطْلان، والرِّطْلُ: اثنتا عَشْرةَ (6) أُوقِيَّةً، والأوقيةُ: إستارٌ وثلثا إستارٍ، والإستارُ: أربعةُ مثاقيلَ ونصفٌ، والمِثْقَالُ: دِرْهَمٌ وثلاثةُ أسباعِ درهمٍ، والدرهمُ: ستةُ دوانقَ (7) ، والدَّانقُ: قيراطان، والقيراطُ: طسوجان، والطسوجُ: حبتان، والحبة: سُدُسُ ثُمُنِ درهمٍ، وهو جزءٌ من (8) ثمانيةٍ وأربعين جزءًا من درهمٍ. والجمع مكاكيك، كلُّه من "الصحاح"، وفي غيرها، وتجمع (9) أيضًا (10) : مكاكيّ، وهو مكيال لأهل العراق، يسع صاعًا ونصف صاع بالمدني (11) .
قال الشيخ رحمه الله: والصحيحُ: أن المَكُّوكَ في حديث أنس المرادُ به المُدُّ؛ بدليلِ الروايةِ الأخرى فيه أيضًا: «كَانَ النَّبِيُّ ? يَتَوَضَّأُ بِالمُدِّ، وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ» (12) .
تنبيه: اعلمْ أنَّ اختلافَ هذه المقاديرِ، وهذه الأواني، يدلُّ (13) على أنه ? لم يكنْ يراعي مِقْدارًا مؤقَّتًا، ولا إناءً مخصوصًا، لا في الوضوءِ ولا في الغُسْلِ، وأنَّ كلَّ ذلك بحسَبِ الإمكانِ والحاجة (14) (15) ، أَلَا تَرَى أنه تارةً اغتسَلَ بالفَرَقِ أو مِنْهُ، وأخرى بالصاعِ، وأخرَى بثلاثةِ أمداد.
والحاصلُ: أن المطلوبَ إسباغُ الوضوءِ والغُسْلِ من غير إسرافٍ في الماءِ، وأنَّ ذلك بحسبِ أحوالِ المُغْتَسِلين.
وقد ذهب ابن شَعْبَانَ (16) : إلى أنه لا يجزئُ في &(1/433)&$
__________
(1) في (أ) و(ب) و(غ): «صحيح في الرواية».
(2) في (غ): «وهذه».
(3) في (ح): " ودور ".
(4) في (أ): «يقال».
(5) في (ح): «وهو».
(6) في (ح): «اثنا عشر».
(7) في (ح): «دوانيق».
(8) في (ح): «وهو من جزء من».
(9) في (غ): «ويجمع».
(10) قوله: «أيضًا» سقط من (ح).
(11) في (ب): «بالمديني».
(12) صحيح مسلم 325.
(13) في (ح): «تدل».
(14) تعليق فقهي ونيس.
(15) 50 سعد.
(16) 50 سعد.(1/433)
ذلك أقلُّ من مُدٍّ في الوضوء، وصاعٍ في الغُسْل (1) ،، وحديثُ الثلاثةِ الأمدادِ (2) يَرُدُّ عليه.
والصحيحُ الأول.
247- وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (3) ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، أَنَا وَأَخُوهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَسَأَلَهَا عَنْ غُسْلِ النَّبِيِّ ? مِنَ الْجَنَابَةِ ؟ فَدَعَتْ بِإِنَاءٍ قَدْرِ الصَّاعِ، فَاغْتَسَلَتْ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا سِتْرٌ، فَأَفْرَغَتْ عَلَى رَأْسِهَا ثَلَاثًا، قَالَ: وَكَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ ? يَأْخُذْنَ مِنْ رُؤُوسِهِنَّ حَتَّى تَكُونَ كَالْوَفْرَةِ.
وقوله: «فَاغْتَسَلْتُ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا سِتْرٌ»؛ ظاهرُ هذا الحديث: أنهما أدركا عَمَلَهَا =(1/581)=@ في رأسها وأعلى جسدها مما يحلُّ لذي المَحْرَمِ أن يطلعَ عليه، مِنْ ذواتِ مَحَارِمِهِ (4) (5) ، وأبو سَلَمة ابن أختها (6) نَسَبًا، والآخَرُ أخوها رَضَاعةً، وتحققا بالسَّمَاعِ كيفيَّةَ غُسْلِ ما لم يشاهداه مِنْ سائر الجسد (7) ، ولولا ذلك لاكْتَفَتْ بتعليمها بالقَوْلِ، ولم تحتجْ (8) إلى ذلك الفعلِ، وقد شوهد غُسْلُ النبيِّ ? من وراء الثوب، وطؤطئ عن رأسِهِ حتى ظهر لمن أراد رؤيتَهُ.
وإخبارُهُ عن كيفيِّةِ شعورِ أزواجِ النبيِّ ? يدلُّ على رؤيتِهِ شَعْرَهَا، وهذا لم يختلفْ في جوازِهِ لذي المَحْرَمِ (9) ، إلا ما يحكى (10) عن ابن عبَّاس من كراهةِ ذلك (11) (12) .
وقوله (13) : «حَتَّى تَكُونَ كَالوَفْرَةِ»، الوفرةُ: أسبغُ من الْجُمَّة، واللِّمَّةُ: ما أَلَمَّ (14) بالمنكبين؛ قاله الأصمعي، وقال غيره: الوَفْرة: أقلُّها، وهي التي لا تجاوزُ الأذنين، والجُمَّةُ أكثر منها (15) ، والَلّمَّةُ: ما طال مِنَ الشَّعْر، وقال أبو حاتم: الوَفْرة: ما غطَّى الأذنين. والمعروفُ أنَّ نساء العربِ إنما كُنَّ يتخذْنَ القرونَ والذوائب، ولعلَّ أزواجَ النبيِّ ? فعلْنَ هذا بعد موته ?؛ تَرْكًا للزِّينة، وتخفيفًا للمُؤْنة (16) (17) .
248- وَعَنْهَا (18) ؛ أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِيَ وَالنَّبِيُّ ? فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ، يَسَعُ ثَلَاثَةَ أَمْدَادٍ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ.
249- وَعَنْهَا (19) ، أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ ? مِنْ إِنَاءٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَاحِدٍ، فَيُبَادِرُنِي حَتَّى أَقُولَ: دَعْ لِي، دَعْ لِي، قَالَتْ: وَهُمَا جُنُبَانِ.
250- وَعَنْ مَيْمُونَةَ (20) ؛ أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِيَ وَالنَّبِيُّ ? فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ،، وَمِثْلُهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ.
وقولُ عائشة رضي الله عنها: «إِنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِيَ وَالنَّبِيُّ ? مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، يَسَعُ ثَلَاثَةَ أَمْدَادٍ»، تعني: متفرِّقين (21) ، أو سمَّت الصاعَ: مُدًّا، كما قالتْ في الفَرَقِ الذي كان يَسَعُ ثلاثةَ آصُعٍ، وكأنَّها قصَدَتْ بذلك التقريبَ؛ ولذلك قال فيه: «أو قريبًا من =(1/582)=@ &(1/434)&$
__________
(1) 50 سعد.
(2) في (أ): «أمداد».
(3) أخرجه البخاري (1/364 رقم 251) في الغسل، باب الغسل بالصاع ونحوه، ومسلم (1/256رقم 320) في الحيض، باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة وغسل الرجل والمرأة في إناء واحد في حالة واحدة وغسل أحدهما بفضل الآخر.
(4) 50 سعد.
(5) تعليق فقهي ونيس.
(6) في (أ) و (ح): «أخيها».
(7) في (ح): «جسدها».
(8) في (غ): «ولم يحتج».
(9) تعليق فقهي ونيس.
(10) في (ب): «حكي».
(11) أخرجه ابن جرير في "تفسيره" (19/160)، والبيهقي (7/94) كلاهما من طريق عبدالله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: {ولا يبدين زينتهن...} إلى قوله: {على عورات النساء}، قال: الزينة التي يبدينها لهؤلاء: قرطاها وقلادتها، وسوارها. أما خلخالها ومعضدها ونحرها وشعرها، فإنه لا تبديه إلا لزوجها».
وسنده ضعيف، أبو صالح: هو عبدالله بن صالح: صدوق كثير الغلط.
والحديث أورده السيوطي في "الدر المنثور" (6/182)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(12) تعليق فقهي ونيس.
(13) في (ب): «قوله» بلا واو.
(14) في (ب): «يلم».
(15) من قوله: «واللمة ما ألم بالمنكبين...» إلى هنا سقط من (ح).
(16) تعليق فقهي ونيس.
(17) 50 سعد.
(18) أخرجه البخاري (1/371 رقم 261) في الغسل، باب هل يدخل الجنب يده في الإناء قبل أن يغسلها إذا لم يكن على يده قذر غير الجنابة، وذكر أطرافه في (1/363 رقم250) في الغسل، باب غسل الرجل مع امرأته، ومسلم (1/256 رقم 321/ 44 و46) في الحيض، باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة وغسل الرجل والمرأة في إناء واحد... .
(19) انظر تخريج الحديث السابق.
(20) أخرجه البخاري (1/366 رقم 253) في الغسل، باب الغسل بالصاع ونحوه، ومسلم (1/257رقم 322) في الحيض، باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة وغسل الرجل والمرأة في إناء واحد في حالة واحدة وغسل أحدهما بفضل الآخر.
حديث أم سلمة: أخرجه البخاري (1/422 رقم 322) في الحيض، باب النوم مع الحائض وهي في ثيابها، وذكر أطرافه في (1/402 رقم 298) في باب من سمى النفاس حيضًا، ومسلم (1/357رقم 324) في الحيض، باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة وغسل الرجل والمرأة في إناء واحد....
(21) في (ب) و(ح) و(غ): «مفترقين».(1/434)
ذلك»، وإنما احتَجْنَا إلى هذا (1) التأويلِ؛ لأنه لا يتأتَّى أن يغتسلَ اثنان مِنْ ثلاثة أمدادٍ؛ لقلَّتها، والله أعلم.
وهذا يدلُّ على استحبابِ التقليلِ مع الإسباغ، وهو مذهبُ كافَّة أهلِ العلمِ والسُّنةَّ (2) ؛ خلافًا للإباضيَّةِ والخوارجِ (3) (4) .
واتفق العلماءُ: على جوازِ اغتسالِ الرجلِ وحليلتِهِ وَوُضُوئهما معًا من إناءٍ واحدٍ، إلا شيئًا رُوِيَ في كراهيةِ (5) ذلك عن أبي هريرة (6) (7) (8) ، وحديثُ ابن عُمَرَ (9) وعائشةَ وغيرِهِمَا يردُّهُ.
وإِنَّمَا الاختلافُ في وضوئِهِ أو غُسْلِهِ من فضلها:
فجمهورُ السلف، وأئمَّةُ الفتوى على جوازه.
وروي عن ابن المسيِّب والحسن: كراهةُ فَضْلِ وضوئها (10) .
وكره أحمدُ فضلَ وضوئهما وغُسْلهما (11) (12) .
وشرَطَ ابنُ عمر: إذا كانتْ (13) حائضًا أو جنبًا (14) (15) .
وذهب الأوزاعيُّ: إلى جوازِ تطهُّر كلِّ واحد منهما بفضلِ صاحبِهِ ما لم يكن (16) أحدهما جُنُبًا، أو المرأةُ (17) حائضًا (18) .
وسببُ هذا الخلافِ (19) : اختلافُهُمْ في تصحيحِ أحاديثِ النَّهْيِ الواردةِ في ذلك، ومن صحَّحها اختلفوا أيضًا في الأرجَحِ منها، أو مما يعارضُهَا، كحديثِ ميمونة أنه ?: «كَانَ يَغْتَسِلُ بِفَضْلِهَا» (20) ، وكحديثِ ابن عبَّاس الذي خرَّجه الترمذيُّ وصحَّحه، قال فيه: اغتسَلَ بعضُ أزواجِ النبي ? في جَفْنَةٍ، فأراد =(1/583)=@ النبيُّ ? أن يتوضَّأَ منه (21) ، فقالتْ: إِنِّي كُنْتُ جُنُبًا، فَقَالَ: «إِنَّ المَاءَ لَا يُجْنِبُ» (22) .
ولا شَكَّ في أنَّ هذه الأحاديثَ أصحُّ وأشهَرُ عند المحدِّثين، فيكونُ العملُ بها أولى، وأيضًا فقد اتفقوا على جوازِ غُسْلهما معًا (23) (24) ، مع أنَّ كلَّ واحد منهما (25) يغتسلُ (26) بما يُفْضِلُهُ صاحِبُهُ عن غَرْفه. &(1/435)&$
__________
(1) قوله: «هذا» سقط من (أ).
(2) تعليق فقهي ونيس.
(3) تعليق فقهي ونيس.
(4) 50 سعد.
(5) في (ب) و(غ): «كراهة».
(6) أخرجه ابن أبي شيبة (1/41 رقم384) كتاب الطهارة، باب من كره ذلك، وابن المنذر في "الأوسط" (1/291) كلاهما من طريق يزيد بن هارون، عن التيميِِّ، عن أبي سَهْلة، عن أبي هريرة؛ أنه نَهَى أن تغتسلَ المرأةُ والرجلُ من إناءٍ واحدٍ.
(7) تعليق فقهي ونيس.
(8) 50 سعد.
(9) أخرجه البخاري في الوضوء، باب وضوء الرجلِ مع امرأته، وفَضْلِ وضوء المرأة (1/298 رقم193).
(10) في (أ): «كراهة وضوئهما»، وفي (غ): «فضل وضوها».
(11) في (ب) و(ح)و (غ): «وضوئها وغسلها».
(12) تعليق فقهي ونيس.
(13) في (أ): «كان».
(14) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/52) كتاب الطهارة، باب جامع غسل الجنابة، عن نافع: أن عبدالله بن عمر كان يقول: لا بأس أن يغتسل بفضل المرأة، مالم تكن حائضًا أو جنبًا.
ومن طريق مالك: أخرجه عبدالرزاق (1/109 رقم394)، وابن المنذر في "الأوسط" (1/293-294).
وأخرجه الدارمي (1/245) كتاب الصلاة والطهارة، باب مباشرة الحائض، عن أحمد بن خالد، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، به. وإسناده صحيح.
(15) تعليق فقهي ونيس.
(16) من قوله: " حائضًا أو جنبًا..." إلى هنا سقط من (أ).
(17) في (غ): «والمرأة».
(18) تعليق فقهي ونيس.
(19) في (ح): «الاختلاف».
(20) يأتي بعد هذا الحديث.
(21) في (غ): «منها».
(22) أخرجه عبدالرزاق (1/109 رقم396)، وعنه أحمد (1/284)، وابن الجارود رقم (49)، والطبري في "تهذيب الآثار" (2/693 رقم31)، والطحاوي (1/26)، والبيهقي (1/267).
وأخرجه أحمد (1/235 و308)، والنسائي (1/173)، وابن الجارود (رقم48)، وابن خزيمة (رقم109)، وابن حبان (4/48 رقم1242/الإحسان)، والحاكم (1/195)، والبيهقي (1/188)، من طريق سفيان، عن سماك، عن عكرمة، به.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/132 رقم1514) كتاب الطهارة، باب من قال: الماء طهور لا ينجسه شيء، وابن ماجه (1/132 رقم370) كتاب الطهارة، باب الرخصة بفضل وضوء المرأة، وأبو داود (1/55-56 رقم68) كتاب الطهارة، باب الماء لا يجنب، والترمذي (1/94 رقم65) كتاب الطهارة، باب ما جاء في الرخصة في ذلك، وأبو يعلى (4/301 رقم2411)، وعنه ابن حبان(4/47 رقم1241/الإحسان).
وأخرجه ابن حبان (4/56-57 رقم1248/الإحسان)، والبيهقي (1/189 و267). جميعهم من طريق أبي الأحوص سلام بن سليم، عن سماك، به.
وأخرجه الطيالسي (1/42/منحه)، وعنه ابن ماجهَ (1/132 رقم372) كتاب الطهارة، باب الرخصة بفضل وضوء المرأة، والدارقطني (1/53)، وأخرجه أحمد (1/337). جميعهم من طريق شريك، عن سماك، به.
وأخرجه ابن خزيمة (رقم91)، والحاكم (1/159) من طريق شعبة، عن سماك، به.
قال الترمذي عقب إخراجه: «هذا حديث حسن صحيح».
(23) سبق قريبًا ونيس.
(24) 50 سعد.
(25) قوله: «منهما» سقط من (ح).
(26) في (ح): «فغتسل».(1/435)
251- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ (1) ، قَالَ: أَكْبَرُ عِلْمِي، وَالَّذِي يَخْطِرُ عَلَى بَالِي: أَنَّ أَبَا الشَّعْثَاءِ أَخْبَرَنِي؛ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? كَانَ يَغْتَسِلُ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ.
252- وَعَنْ أَنَسٍ (2) ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ? يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ، وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ، إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: " يَغْتَسِلُ بِخَمْسِ مَكَاكِيكَ، وَيَتَوَضَّأُ بِمَكُّوكٍ».
وقولُ عمرو بن دينار: «أَكْبَرُ (3) عِلْمِي، وَالَّذِي يَخْطِرُ عَلَى بَالِي (4) : أَنَّ أَبَا الشَّعْثَاِء أَخْبَرَني»:
ذهَبَ بعضهم: إلى أنَّ هذا مما يُسْقِطُ التمسُّكَ بالحديثِ؛ لأنَّه شَكَّ في الإسناد.
والصحيحُ فيما يظهَرُ لي: أنه ليس بمُسْقِطٍ له مِنْ وجهين:
أحدهما: أنَّ هذا غالبُ ظنٍّ لاشكٌّ، وأخبارُ الآحادِ إنما (5) تفيدُ غلبةَ الظنِّ، غيرَ أنَّ الظنَّ على مراتبَ في القوةِ والضعفِ، وذلك مُوِجبٌ للترجيح؛ فهذا الحديثُ – وإنْ لم يسقطه (6) – فإنْ عارضَهُ ما جزَمَ الراوي فيه بالروايةِ، كان المجزومُ به أولى.
والوجه الثاني: أنَّ حديثَ ابنِ عبَّاس قد رواه الترمذيُّ مِنْ طريق (7) أخرى (8) وصحَّحه، كما قدَّمناه (9) ، ومعناه: معنَى حديثِ عمرٍو، وليس فيه شيءٌ مِنْ ذلك التردُّد؛ فصحَّ ما ذكرناه، والله تعالى أعلم. =(1/584)=@
( 27 ) بَابُ كَمْ يُصَبُّ عَلَى الرَّأْسِ،
وَالتَّخْفِيفِ فِي تَرْكِ نَقْضِ الضَّفْرِ
253- عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ (10) ، قَالَ: تَمَارَوْا فِي الْغُسْلِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ?، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَمَّا أَنَا، فَإِنِّي أَغْسِلُ رَأْسِي كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «أَمَّا أَنَا، فَإِنِّي أُفِيضُ عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ أَكُفٍّ».
254- وَمِثْلُهُ عَنْ جَابِرٍ (11) ، وَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ: إِنَّ شَعْرِي كَثِيرٌ، قَالَ جَابِرٌ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا بْنَ أَخِي، كَانَ شَعْرُ رَسُولِ اللهِ ? أَكْثَرَ مِنْ شَعْرِكَ وَأَطْيَبَ.
وَمِنْ بَابِ كَمْ يُصَبُّ عَلَى الرَّأْسِ
قولُ أم سلمة (12) : «أَفَأَنْقُضُهُ لِلْحَيْضَةِ وَالجَنَابَةِ؟»، صحيحُ الرواية: «أَفَأَنْقُضُهُ» بالقاف، وقد وقَعَ لبعض مشايخنا: «أَفَأَنْفُضُهُ» (13) بالفاء، ولا بُعْدَ فيه مِنْ جهة المعنى.
وقوله =(1/585)=@ ? لا يَدلُ على صحةِ ما ذهَبَ إليه مالكٌ وغيره، من الرخصةِ في تَرْكِ (14) نَقْضِ الضَّفْرِ مطلقًا للرجالِ والنساء (15) .
وقد منعه بعضُهُمْ (16) ، منهم عبدُ اللهِ بنُ عَمْرٍو (17) .
وقد أجازه (18) بعضُهُمْ للنساء خاصَّة؛ متمسِّكًا في ذلك بحديثِ ثُوْبان مرفوعًا: &(1/436)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/257رقم 323) في الحيض، باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة وغسل الرجل والمرأة في إناء واحد في حالة واحدة وغسل أحدهما بفضل الآخر.
وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح في الطهارة، ولم يخرجاه، ولا يحفظ له علّة». ووافقه الذهبي. وقال الحافظ في "الفتح" (1/300):»وقد أعلّه قوم بسماك بن حرب؛ لأنه كان يقبل التلقين، لكن رواه عنه شعبة، وهو لا يحمل عن مشايخه إلا صحيح حديثهم».اهـ. وصححه الألباني في تعليقه على "المشكاة" (رقم457).
(2) أخرجه مسلم (1/258رقم 325/51) في الحيض، باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة... .
(3) في (ب) و(غ): «أكثر».
(4) في (ب) و(ح) و(غ): «يخطر ببالي».
(5) قوله: «إنما» سقط من (ح). في (غ): «أيضًا» بدل «إنما».
(6) في (ح): «وإن لم يسقط».
(7) في (أ): «طرق».
(8) في (ب) و (ح): «أخر».
(9) قوله: «كما قدمناه» سقط من (أ).
(10) أخرجه البخاري (1/367 رقم 254) في الغسل، باب من أفاض على رأسه ثلاثًا، ومسلم (1/258رقم 327/54) في الحيض، باب استحباب إفاضة الماء على الرأس وغيره ثلاثًا.
(11) أخرجه البخاري (1/365 رقم 252) في الغسل، باب الغسل بالصاع ونحوه، ومسلم (1/259رقم 329) في الحيض، باب استحباب إفاضة الماء على الرأس وغيره ثلاثًا.
(12) في (أ): «عائشة».
(13) قوله: «أفأنفضه» سقط من (ب) و(ح)، و(غ).
(14) قوله: «ترك» سقط من (ب) و(ح)، و(غ).
(15) تعليق فقهي ونيس.
(16) في (أ): «بعض».
(17) في غير (ب): «ابن عمر»، والمثبت من (ب)، وهو الصواب، ويأتي حديثه قريبًا آخر الباب.
(18) في (غ): «وقد أجاز».(1/436)
«أَمَّا الرَّجُلُ فَلْيَنْشُرْ (1) رَأْسَهُ فَلْيَغْسِلْهُ، وَأَمَّا المَرْأَةُ فَلَا عَلَيْهَا أَلَّا تَنْقُضَهُ؛ لِتَغْرِفْ عَلَى رَأْسِهَا ثَلَاثَ غَرَفَاتٍ بِكَفَّيْهَا»، خرَّجه أبو داود (2) .
وهذا نَصٌّ في التفرقةِ؛ غيرَ أنَّ هذا الحديث مِنْ حديثِ إسماعيلَ بن عَيَّاش، واختُلِفَ في حديثه؛ غيرَ أنَّ الذي صار إليه يحيى بن مَعِينٍ وغيره: أنَّ حديثَهُ عن أهل الحجازِ متروكٌ على كلِّ حال، وحديثَهُ عن الشاميين صحيحٌ، وهذا الحديثُ من حديثه عن الشاميين، فهو صحيحٌ على قول يحيى بن معين (3) ، وهذا (4) فيه نَظَرٌ؛ فإنْ كان ما قاله يحيى: فالفَرْقُ واضح، وإنْ لم يكنْ: فعدمُ (5) الفَرْقِ هو القياسُ؛ لأنَّ النساءَ شقائقُ الرجال، كما صار إليه ا لجمهور (6) .
تنبيه: لا يُفْهَمُ من التخفيفِ في تَرْكِ حَلِّ الضفرِ التخفيفُ في إيصالِ الماءِ إلى داخلِ الضفر (7) ؛ لما يأتي في حديثِ أسماءَ بنتِ شَكَلٍ (8) ، ولما صحَّ مِنْ حديث علي - رضي الله عنه - مرفوعًا: «مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعْرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يَغْسِلْهَا، فُعِلَ بِهِ (9) كَذَا وَكَذَا مِنَ النَّارِ»؛ قال (10) عليٌّ - رضي الله عنه - : «فَمِنْ ثَمَّ عاديتُ رأسي»، وكان يَحْلِقُهُ (11) .
255- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ (12) ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي، أَفَأَنْقُضُهُ لِلْحَيْضَةِ وَالْجَنَابَةِ ؟ قَالَ: «لَا، إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِيَ عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ».
256- وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ (13) ، قَالَ: بَلَغَ عَائِشَةَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو يَأْمُرُ النِّسَاءَ، إِذَا اغْتَسَلْنَ، أَنْ يَنْقُضْنَ رُؤُوسَهُنَّ، فَقَالَتْ: يَا عَجَبًا لِابْنِ عَمْرٍو هَذَا! يَأْمُرُ النِّسَاءَ، إِذَا اغْتَسَلْنَ، أَنْ يَنْقُضْنَ رُؤُوسَهُنَّ؛ أَفَلا يَأْمُرُهُنَّ أَنْ يَحْلِقْنَ رُؤُوسَهُنَّ! لَقَدْ كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ ? مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، فما أَزِيدُ عَلَى أَنْ أُفْرِغَ عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ إِفْرَاغَاتٍ.
وقوله: «إنما يكفيك»؛ حُجَّةٌ لمن يرى أن الواجبَ في الغُسْلِ العمومُ =(1/586)=@ فقطْ (14) ، وقد قدَّمنا القولَ في عدد الغَرَفَاتِ، وفي اشتراطِ التدلك.
و«الحَثَيَاتُ»: جمعُ حَثْية، وهي الغَرْفة، وهي هنا باليدَيْن، ويقالُ: حَثَا يَحْثُو، ويَحْثِين حَثْوَةً، وحَثْيَةً (15) ، &(1/437)&$
__________
(1) في (غ): «فلينشز».
(2) في «سننه» (1/175-176 رقم255) كتاب الطهارة، باب في المرأة: هل تنقُضُ شعرها عند الغسل، عن محمد بن عوف، قال: قرأتُ في أصل إسماعيل بن عياش: قال ابنُ عوف: وحدَّثنا محمد بن إسماعيل، عن أبيه، حدثني ضَمْضَم بن زُرْعة، عن شُرَيْح بن عُبَيْد، قال: أفتاني جُبَيْرُ بنُ نُفَيْر عن الغُسْلِ من الجنابة؛ أن ثوبان حدَّثهم أنهم استفتوا النبيَّ ? عن ذلك؟ فقال: «أما الرجلُ فلينشُرْ رأسه فليغسله حتى يبلُغَ أصولَ الشعر، وأما المرأةُ فلا عليها ألَّا تنقضَهُ؛ لِتَغْرِفْ على رأسها ثلاثَ غَرَفَاتٍ بكفيها».
وفي سنده: محمد بن إسماعيل بن عياش: قال أبو حاتم: لم يسمع من أبيه شيئًا، حملوه على أن يحدِّث فحدَّث. ...
وقال أبو داود: لم يكنْ بذاك، قد رأيته، ودخلْتُ حمص غير مَرَّةٍ وهو حي، وسألتُ عمرو بن عثمان عنه؟ فدفعه.
وفي "التقريب": عابوا عليه أنه حدَّث عن أبيه بغير سماع.
وضمضم بن زرعة: مختلفٌ فيه، فقد وثَّقه ابن معين وابن نمير، وضعَّفه أبو حاتم، وذكره ابن الجوزي في "الضعفاء"، وفي "التقريب": صدوقٌ يَهِمُ.
والحديثُ أورده الزيلعيُّ في "نصب الراية" (1/80)، قال: «وإسماعيلُ بن عيَّاش وابنه فيهما مقال».اهـ.
وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (رقم 1343).
(3) قوله: «ابن معين» سقط من (أ) و(ب)، و(غ).
(4) في (غ): «وهنا».
(5) في (ع): «فبعدم».
(6) تعليق فقهي ونيس.
(7) تعليق فقهي ونيس.
(8) يأتي في الباب بعد هذا.
(9) في غير (ب): «بها».
(11) أخرجه الطيالسي (رقم 175)، وابن أبي شيبة (1/96رقم 1067) كتاب الطهارة، باب مَنْ كان يقول: بالغْ في غَسْلِ الشَّعْر، وعنه ابن ماجه (1/196رقم 599) كتاب الطهارة، باب تحت كلِّ شعرة جنابة.
وأخرجه أحمد (1/94، 101) وأبو داود (1/173رقم 249) كتاب الطهارة، باب في الغُسْلِ من الجنابة، والبزار (3/55-56رقم 813/ البحر الزخار)، والطبري "تهذيب الآثار " (ص 276، 276-277/مسند علي)، وابن عدي "الكامل" (5/365)، وأبو نعيم "الحلية " (4/200)، والبيهقي (1/175، 227).
جميعهم: من طريق حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن زاذان، عن علي - رضي الله عنه - ، قال: سمعتُ النبيَّ ? يقول: «من ترَكَ موضعَ شعرةٍ من جَسَده من جنابة لم يغسلها، فُعِلَ به كذا وكذا من النار».
قال علي: فمن ثم عاديتُ شعري. وكان يَجُزُّهُ.
قال البزَّار عقب روايته: «وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن علي، عن النبي ? إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد».اهـ.
وقال ابن عدي: «وعطاء بن السائب اختلَطَ في آخر عمره، فمن سمع منه قديمًا مثل الثوري وشعبة، فحديثه مستقيم، ومن سمع منه بعد الاختلاط، فأحاديثه فيها بعض النكرة».اهـ.
وقال ابن عدي: «هذا حديث غريب تفرَّد به حماد، عن عطاء».
وقال الدارقطني في "العلل" (3/207-208): «يرويه عطاء بن السائب، عن زاذان، عن علي. حدَّث به عنه حماد بن سلمة، وشعبة، وحفص بن عمر. ورواه عبدالله بن رشيد، عن حفص بن غِيَاث، عن الأعمش وليث، عن زاذان، عن علي.
ورُوِيَ عن حماد بن زيد، عن عطاء، عن زاذان، عن علي، موقوفًا.
ورفعه عفان، عن حماد بن سلمة وشعبة، عن عطاء، وعطاء تغيَّر حفظه، والمحفوظ عن عفان، عن حماد، قال: سمعته يذكر عن عطاء بن السائب فصحَّفه الراوى، فقال: شعبة». اهـ.
وقال الحافظ في "التلخيص" (1/249): «وإسناده صحيح؛ فإنه من رواية عطاء بن السائب، وقد سمع منه حماد بن سلمة قبل الاختلاط...لكن قيل: إن الصواب وقفه على علي».اهـ.
وممن صحَّح هذا الحديث: أحمد شاكر في تعليقه على المسند (2/100رقم 727)، وقال: حماد بن سلمة سمع من عطاء قبل اختلاطه،على الراجح في ذلك. قال يعقوب بن سفيان: هو ثقةٌ حجةٌ، وما روى عنه سفيان وشعبة وحماد بن سلمة، سماع هؤلاء سماع قديم، وكان عطاء تغيَّر بِآَخَرَهٍ.اهـ.
وقال الألباني في "الضعيفة" (930): الحق الوقفُ عن تصحيحه وتضعيفه، حتى يتبيَّن الحال فيه.
ثم قال: فإنه ليس لدينا ما يصحُّ أن يعتمد عليه في ترجيحِ أنه حدَّث به قبل الاختلاط، وجزم الحافظُ ابن حجر رحمه الله بأن كون حمَّاد بن سَلَمة قد سمع منه قبل الاختلاطِ لا يصحُّ أن يكونَ مرجِّحًا؛ ذلك لأن حمادًا هذا قد سمع منه بعد الاختلاطِ أيضًا، كما ذكر ذلك الحافظُ نفسه في "التهذيب"... إلى آخر ما قال.اهـ.
بقي أن يقال: إن حماد بن زيد روى هذا الحديثَ عن عطاء بن السائب، فوقفه على علي - رضي الله عنه - من قوله، كما ذكر ذلك الدارقطني فيما نقلناه قريبًا، وحماد بن زيد ممَّن اتفقوا على أنه روى عن عطاء قبل اختلاطه.
(12) أخرجه مسلم (1/259رقم 330) في الحيض، باب حكم ضفائر المغتسلة.
(13) أخرجه مسلم (1/260رقم 331) في الحيض، باب حكم ضفائر المغتسلة.
(14) تعليق فقهي ونيس.
(15) في غير (ب): «وحثا يحثو ويحثي حثية وحثوةً».(1/437)
وحَثْوًا (1) وحَثْيًا، ومنه: «احْثُوا التُّرَابَ فِي وُجُوهِ المَدَّاحِينَ» (2) ، وهي «الإفراغاتُ» أيضًا في الحديثِ الآخر. =(1/587)=@
( 28 ) بَابُ صِفَةِ غُسْلِ المَرْأَةِ مِنَ الحَيْضِ
257- عَنْ عَائِشَةَ (3) ؛ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ شَكَلٍ سَأَلَتِ النَّبِيَّ ? عَنْ غُسْلِ الْمَحِيضِ ؟ فَقَالَ: «تَأْخُذُ إِحْدَاكُنَّ مَاءَهَا وَسِدْرَتَهَا، فَتَطَهَّرُ، فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا، فَتَدْلُكُهُ دَلْكًا شَدِيدًا، حَتَّى تَبْلُغَ شُؤُونَ رَأْسِهَا، ثُمَّ تَصُبُّ عَلَيْهَا الْمَاءَ، ثُمَّ تَأْخُذُ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً، فَتَطَهَّرُ بِهَا»، فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: وَكَيْفَ تَطَهَّرُ بِهَا ؟ فَقَالَ: « سُبْحَانَ اللهِ! تَطَهَّرِينَ بِهَا!!»، فَقَالَتْ عَائِشَةُ - كَأَنَّهَا تُخْفِي ذَلِكَ -: تَتَبَّعِي أَثَرَ الدَّمِ،، وَسَأَلَتْهُ عَنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ؟ فَقَالَ: «تَأْخُذُ مَاءً، فَتَطَهَّرُ، فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ، أَوْ تُبْلِغُ الطُّهُورَ، ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا فَتَدْلُكُهُ، حَتَّى تَبْلُغَ شُؤُونَ رَأْسِهَا، ثُمَّ تُفِيضُ عَلَيْهَا الْمَاءَ»، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ! لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ،، وَفِي أُخْرَى: «فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ».
وَمِنْ بَابِ صِفَةِ غُسْلِ المَرْأَةِ مِنَ الحَيْضِ
قوله: «تَأْخُذُ إِحْدَاكُنَّ مَاءَهَا وَسِدْرَتَهَا»، السِّدْرُ هنا (4) : هو الغَاسُولُ المعروفُ، وهو المتخَذُ من وَرَقِ شَجَرِ النَّبِقِ، وهو السِّدْرُ، وهذا التطهُّرُ – الذي أمرها (5) باستعمالِ السِّدْرِ فيه –: هو لإزالةِ ما عليها مِنْ نجاسةِ الحيضِ، والغُسْلُ الثاني هو لِلحَيْض.
وقوله: «فَتَدْلُكُه دَلْكًا شَدِيدًا»، حجةٌ لمن رأى التدلك (6) .
فإنْ قيل: «إنما &(1/438)&$
__________
(1) قوله: «وحثوًا» سقط من و(ح)، وفي (ب): «وحثيًا».
(2) يأتي في كتاب البر والصلة، باب كراهية المدح.
(3) أخرجه البخاري (1/414 رقم 314) في الحيض، باب دَلْكِ المرأةِ نفسَهَا إذا تطهَّرت من الحيض، ومسلم (1/260رقم 332/60) في الحيض، باب استحبابِ استعمال المغتسلة من الحيضِ فِرْصَةً من مِسْك في موضع الدم.
(4) في (أ): «هاهنا».
(5) في (ب) و(ح) و(غ). : «أمر».
(6) سبق قريبًا ونيس.(1/438)
أَمَرَ بهذا في الرأس؛ لِيَعُمَّ جميعَ الشعر»:
قلنا: وكذلك يقالُ (1) في جميع البدن. فإنْ قيل: «لو كان حُكْمُ جميعِ البدن (2) حُكْمَ جميعِ (3) الرأس في هذا، لبيَّنه فيه، كما بيَّنه في الرأس»:
قلنا: لا يُحْتَاجُ إلى ذلك، وقد بيَّنه في عضو واحد، وقد فَهِمَ أنه قد (4) فُهِمَ عنه: أنَّ الأعضاءَ كلَّها في حكمِ العضو الواحدِ في عمومِ الغَسْل، وإجادتِهِ وإسباغِهِ، فاكتفَى بذلك، والله تعالى أعلم.
و «الشُّؤُونُ»: هو أصلُ (5) فرق الرأس وملتقاها، ومنها تجيءُ الدموعُ، وَذَكَرَهَا مبالغةً في شدةِ الدلك، وإيصالِ الماءِ إلى ما يَخْفَى من الرأس.
وقوله: «ثُمَّ تَأْخُذُ فِرْصَةً مُمَسَّكةً، أَوْ مِنْ مِسْكٍ»، «الفِرْصَةُ»: صحيحُ الروايةِ =(1/588)=@ فيها: بكسرِ الفاء وفتحِ الصَّاد المهملة، وهي القطعةُ من الشيء، وهي مأخوذةٌ من الفَرْص، وهو: القَطْع، والْمِفْرَصُ والْمِفْرَاص: الذي تقطع (6) به الفِضَّة، وقد يكونُ الفَرْصُ الشقَّ. يقال: فَرَصْتُ النَّعْلَ، أي: شَقَقْتُ أذنيها.
وأما «مُمَسَّكَة»: فروايتنا فيها (7) «مُمَسَّكَة» (8) ، بضمِّ الميم الأولى (9) ، وفتح الثانية، وتشديدِ السين، ومعناه: مُطَيَّبَةٌ بالمِسْك، مبالغةً في نفيِ ما يُكْره مِنْ رِيحِ الدم؛ وعلى هذا تصحُّ روايةُ الخُشَنيِّ عن الطبري: «فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ» بكسر الميم، وعلى هذا الذي ذكرناه أكثَرُ الشارحين.
وقد أنكَرَ ابنُ قتيبةَ هذا كلَّه، وقال: إنما هو «قُرْضَةٌ» بضمِّ القافِ (10) وبالضادِ المعجمة، وقال: «لم يكنْ للقومِ وُسْعٌ في المالِ (11) بحيثُ يستعملون الطِّيبَ في مِثْلِ هذا، وإنما هو «مَسْكٌ» بفتح الميم، ومعناه: الإمساكُ، فإنْ قالوا: إنما سُمِعَ رباعيًّا، والمصدرُ: إِمْسَاك. قيل: قد (12) سُمِعَ أيضًا ثلاثيًّا، فيكونُ مصدره: مَسْكًا» (13) .
قال الشيخ رحمه الله: لقد أحسَنَ من قال في ابنِ قُتَيْبَةَ: «هَجُومٌ وَلاَّجٌ على ما لا يُحْسِنُ»؛ ها هو قد أنكَرَ ما صحَّ من الرواية في «فِرْصَة»، وجَهِلَ ما صحَّح نقلَهُ أئمةُ اللغة، واختار ما لا يَلْتئِمُ الكلامُ معه؛ فإنه لا يصحُّ أن يقال: «خُذْ قطعةً من إمساك»، وسَوَّى بين الصحابة كلِّهم في الفقر وسوء الحال، بحيثُ لا يقدرون على استعمالِ مِسْكٍ عند التطهُّر &(1/439)&$
__________
(1) قوله: «يقال» سقط من (أ).
(2) في (ح): «لو كان جميع حكم البدن»، وفي (غ): «لو كان حكم البدن».
(3) قوله: «جميع» سقط من (ب) و(ح)، و(غ).
(4) قوله: «فَهِم أنه قد» سقط من (ب) و(ح)، و(غ).
(5) في (أ) و(ح): «والشؤون مواصل».
(6) في (غ): «يقطع».
(7) في (غ) «فيه».
(8) قوله: «ممسكة» سقط من (ب) و(ح)، و(غ).
(9) في (غ): «الأول».
(10) في (ب) و(ح): «فُرْضَة، بضم الفاء».
(11) في (ب): «في الحال».
(12) قوله: «قد» سقط من (ب) و(ح) و(غ).
(13) نقل هذا الكلام بلفظة عن ابن قتيبة:(1/439)
والتنظُّف، مع أنَّ المعلومَ من أحوالِ أهلِ الحجاز واليمنِ مبالغتهم في استعمالِ الطيِّب من المسكِ وغيرِهِ، وإكثارُهُمْ من ذلك، واعتيادُهُمْ له (1) ، فلا يلتفَتُ إلى إنكاره (2) ، ولا يعرَّجُ على قوله. =(1/589)=@
وأما «فِرْصَةً مِنْ مَسْكٍ»، فالمشهورُ فيه: أنه بفتح الميم، ويرادُ به الجِلْد، أي: قطعةً منه، قال الخطابيُّ: تقديره: قطعة من جِلْد عليها صُوف، وقال أبو الحسن بن سِرَاج في «مُمَسَّكة»: مجلَّدة (3) ، أي: قطعة صوفٍ لها جلدٌ، وهو المَسْكُ؛ ليكونَ أضبَطَ لها، وأمكَنَ لمسحِ أثرِ الدمِ به، قال: وهذا مِثْلُ قوله: «فِرْصَةَ (4) مِسْكٍ».
وقال القتبي: معنى «مُمَسَّكَة»: محتملةٌ يُحتشَى بها، أي: خذي قطعةً من صوفٍ أو قطنٍ، فاحتمليها وأمسكيها لتدفَعَ (5) الدَّمَ، وأظنُّه إنما قالها (6) : «ممْسكَةً» بضم الميم (7) الأولى وتسكينِ الثانية، وتخفيفِ السين مفتوحة، وقيل (8) فيها: «مُمسِكَة» بكسر السين، اسمَ فاعلٍ من أَمْسَكَ، كما قال في الحديثِ الآخر: «أَنْعَتُ لَكِ الكُرْسُفَ؛ فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الدَّمَ» (9) ، أي: القطنَ، والأقربُ والأليقُ (10) القولُ الأوَّل، والله أعلم (11) . [وقوله في الحديث: سبحان الله معناه التعجب في هذا المقام من سؤالها فإنَّ هذا مما لا يخفى على أحد حتى يكرر السؤال عنه، وفيه معنى الاستحياء من هذا السؤال ما فيه من إظهار خلل المرأة في حيضتها، وذكر فرجها، وكثيرا ما يستريح المتعجب والمستحيي إلى أمثال هذا اللفظ مرة: سبحان الله، ومرة: لا إله إلا الله ولهذا جاء في بعض روايات هذا الحديث فأعرض بوجهه واستتر بيده حياءً من هذا الخطاب، واسم المرأة السائلة عن الغسل من المحيض فقال: «خذي فرصة من مسك فتطهري» أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية وكان يقال لها خطيبة النساء»] (12)
( 29 ) بَابٌ فِي الفَرْقِ بَيْنَ
دَمِ الْحَيْضِ وَالِاسْتَحاضَةِ وغُسْلِ الْمُسْتَحَاضَةِ
258- عَنْ عَائِشَةَ (13) ، قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ ?، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ؛ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ ؟ فَقَالَ: «لَا إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ، وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ؛ فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ، فَدَعِي الصَّلَاةَ، فَإِذَا أَدْبَرَتْ، فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي».
وَمِنْ بَابِ الفَرْقِ بَيْنَ دَمِ الحَيْضِ والِاسْتِحَاضَةِ
قوله: «إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ»، دليلٌ لنا على العراقِّيين في أنَّ الدمَ السائلَ من =(1/590)=@ الجَسَدِ لا ينقُضُ الوضوءَ؛ فإنه قال بعد هذا (14) : «فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي»، وهذا &(1/440)&$
__________
(1) في (أ): «واعتمادهم له».
(2) قوله: «إلى إنكاره» في (ب) و (ح): «لإنكاره».
(3) قوله: «مجلدة» سقط من (ب).
(4) في (غ): «قرضه».
(5) في (ح): «لترفع»
(6) في (ح): «قال لها».
(7) قوله: «الميم» سقط من (ح).
(8) في (ب) تشبه أن تكون: «دليل».
(9) أخرجه ابن أبي شيبة(1/120 رقم1364) كتاب الطهارة، باب المستحاضة كيف تصنع؟ وعنه ابن ماجه (1/205-206 رقم627) كتاب الطهارة، باب ما جاء في البكر إذا ابتُدِئَتْ مستحاضةً، أو كان لها أيامُ حيضٍ فنسيتها.
وأخرجه أحمد (6/381، 439)، والبخاري في "الأدب المفرد" (2/264 رقم797/كما في فضل الله الصمد) باب قول الرجل: يا هنتاه، والدارقطني (1/214)، جميعهم: من طريق شَرِيكِ بن عبدالله القاضي، عن عبدالله بن محمد بن عقيل، عن إبراهيم بن محمد بن طَلْحة، عن عمِّه عِمْران بن طَلْحة، عن أمه حَمْنة بنت جَحْش؛ أنها استُحِيضَتْ على عهد رسول الله ? فائت رسول الله ?، فقالت: يا رسول الله، إني استحضت حيضة منكرةً شديدة ، فقال لها: «احتشي كُرْسُفًا...»، الحديث.
وشريك بن عبدالله: صدوقٌ يخطئ كثيرًا، وتغيَّر حفظه، إلا أنه لم ينفرد به؛ فقد تابعه زهير بن محمد، وابن جريح: فيما أخرجه أحمد (6/439)، وأبو داود (1/199-200 رقم287) كتاب الطهارة، باب من قال: إذا أقبلتِ الحيضةُ تدَعُ الصلاة، وعنه البيهقي (1/339)، والبغوي (2/148-149 رقم326).
وأخرجه الترمذي (1/221-225 رقم128) كتاب الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة أنها تجمَعُ بين الصلاتَيْنِ بِغسل واحد، والطحاوي في "مشكل الآثار" (7/142-143 رقم2717)، والدارقطني (1/214)، والحاكم (1/172)، وعنه البيهقي (1/338). جميعهم: من طريق زهير بن محمد، به.
وأخرجه عبدالرزاق (1/306-307 رقم1174) وعنه ابن ماجه (1/203-204 رقم622) كتاب الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة التي قد عدَّت أيام إقرائها قبل أن يستمرَّ بها الدم، من طريق ابن جريج، به.
وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح... وسألتُ محمَّدًا عن هذا الحديث؟ فقال: هو حديث حسن صحيح، وهكذا قال أحمد بن حنبل: هو حديث حسن صحيح».اهـ.
وما نقله الترمذي من تصحيح البخاري، فهو مخالفٌ لما ذكره عنه في "العلل الكبير" (ص58): قال: قال محمد: حديثُ حمنة بنت جحش في المستحاضة، هو حديث حسن، إلا أن إبراهيم بن محمد بن طلحة هو قديم، لا أدري سمع منه عبدالله ابن محمد بن عقيل أم لا؟ اهـ.
وقد أجاب الشيخ أحمد شاكر عن هذه العِلَّة في «تعليقه على الترمذي» (1/226-227) فقال: «فإنها علة لا تقومُ لها قائمة؛ لأنَّ ابن عقيلٍ تابعيٌّ سمع كثيرًا من الصحابة، ومات بين سنتي 140 و145، ويقال: سنة 142، وإبراهيم بن محمد بن طلحة مات سنة 110 فهما متعاصران، وابن عقيل سمع ممن هم أقدمُ موتًا من إبراهيم هذا».اهـ.
لكن في الحديث علَّة أخرى، وهي حال عبدالله بن محمد بن عقيل، فقد اختلفت فيه أقوال أهل العلم، والراجح من حاله: أنه صدوق، في حديثه لين، ويقال: تغير بأخرة.
قال أحمد: منكر الحديث، وقال ابن معين: لا يحتج به، وفي رواية: ضعيف الحديث، وضعفه النسائي، وقال أبو حاتم: لين الحديث، ليس بالقوي، ولا مممن يحتج بحديثه، وقال ابن المديني عن ابن عيينة: رأيته يحدث نفسه، فحملته على أنه قد تغيَّر.
قال ابن أبي حاتم في "العلل" (1/51): سألت أبي عن حديث رواه ابن عقيل، عن إبراهيم بن محمد، عن عمران بن طلحة، عن أمه حمنة بنت جحش في الحيض؟ فوهَّنه ولم يقوّ إسناده.اهـ.
وقال ابن عبدالهادي في "التنقيح" (1/607): وروى هذا الحديث أيضًا الدارقطني، وقال: تفرد به ابن عقيل، وليس بقوي.
وقال الخطابي: وقد ترك بعضُ العلماءِ القولَ بهذا الحديث؛ لأنَّ ابن عقيل راويه ليس بذاك.اهـ.
وقال الحاكم: قد اتفق الشيخان على إخراج حديث الاستحاضة من حديث الزهري وهشام بن عروة عن عائشة؛ أن فاطمةَ بنت حُبَيْش سألتِ النبيَّ ?...، وليس فيه هذه الألفاظُ التي في حديث حمنة بنت جحش، ورواية عبدالله بن محمد بن عقيل وهو من أشراف قريش وأكثرهم رواية، غير أنهما لم يحتجا به. ووافقه الذهبي.
والحديث حسَّنه الألباني في "الإرواء" (188)، وضعَّفه في "ضعيف الأدب المفرد" (ص74) وأعلَّه بشريك !
(10) في (أ): " والأقرب الأليق ".
(11) قوله: " والله أعلم " سقط من (أ)، وجاء في حاشية (ب): " بلغ مقابلة ".
(12) ما بين المعقوفتين من (أ) فقط.
(13) أخرجه البخاري (1/331-332 رقم 228) في الوضوء، باب غسل الدم، ومسلم (1/262رقم 333) في الحيض، باب المستحاضة وغُسلها وصلاتها.
(14) في (ب): «فإنه قال بعدها».(1/440)
أصحُّ من رواية من روى: «فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي» (1) باتفاقِ أهل الصحيح، وهو قولُ عامَّة الفقهاء.
ويعني بقوله: «ذَلِكِ عِرْقٌ»، أي: عرقٌ انقطَعَ فسال، أي: هو دمُ عِلَّةٍ، ويدلُّ أيضًا على أن المستحاضةَ حكمُهَا حكمُ الطاهرِ مطلقًا فيما تفعلُ من العباداتِ وغيرها، فيطؤها زوجُهَا، خلافًا لمن مَنَعَ ذلك، وهو عائشةُ (2) وبعضُ السلف.
وقوله: «فَإِذَا أَقْبَلَتِ الحيضَةُ، فَدَعِي الصَّلَاةَ»، يدلُّ على أنَّ هذه المرأةَ مُمَيزٍّةٌ (3) ، فإنه ? أحالها على ما تَعْرِفُ من تغيُّر الدم، وقد نصَّ على هذا في هذا الحديثِ أبو داود، فقال: «إذا كَانَ دمُ الحيض، فإنه دَمٌ أسودُ يعرف، فإذا كان ذلك، فأَمْسِكِي عن الصلاةِ، وإذا كان الآَخَرُ فتوضَّئي وصلِّي» (4) .
وبهذا تمسَّك مالكٌ في أن المستحاضة إنما تَعْمَلُ على التمييز (5) ، فإن عدمته صلت أبدًا، ولم تعتبر بعادة (6) ؛ خلافًا للشافعي (7) ، ولا تتحيض في علم الله من كل شهر، خلافًا لأحمد وغيره (8) ، وهو رد على أبي حنيفة حيث لم يعتبر التمييز (9) .
و قوله في حديث فاطمة: «فَإِذَا أَدْبَرَتِ الْحَيْضَةُ، فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي»، لم يختلفِ الرواةُ عن مالك في هذا اللفظِ، وقد فسَّره سفيانُ فقال: معناه إذا رَأَتِ الدمَ بعدما تغتسلُ، تغسلُ الدمَ فقطْ، وقد رواه جماعةٌ وقالوا (10) فيه: «فَاغْسِلِي عَنْكِ =(1/591)=@ الدَّمَ ثُمَّ اغْتَسِلِي» (11) ، وهذا رَدٌّ على من يقول: إنَّ المستحاضةَ تغتسلُ لكلِّ صلاة، وهو قولُ ابن عُلَيَّةَ، وجماعةٍ من السلف (12) ، وعلى مَنْ رأى عليها الجَمْعَ بين صلاتَيِ النهارِ بغُسْلٍ واحد، وصلاتَيِ الليلِ بغسل (13) ، وتغتسلُ للصبحِ (14) ، وروي هذا &(1/441)&$
__________
(1) وهي رواية هشام بن عروة، عن أبيه، أوردها البخاريُّ في باب غسل الدم بعد أنْ ساق الحديثَ عن محمَّد، قال: حدَّثنا أبو معاوية، قال: حدَّثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة... فذكر الحديث، ثم قال: قال - أي: هشام بن عروة- : وقال أبي: «ثُمَّ توضَّئي لكلِّ صلاة، حتى يجيء ذلك الوقتُ».
قال الحافظ في "الفتح" (1/332): ادَّعى بعضُهُمْ أنَّ هذا معلَّق، وليس بصواب، بل هو بالإسنادِ المذكور عن محمد، عن أبي معاوية، عن هشام، وقد بيَّن ذلك الترمذي في روايته. وادعى آخر أن قوله:»ثم توضئي» من كلام عروة موقوفًا عليه، وفيه نظر؛ لأنه لو كان كلامه لقال: ثم تتوضأ بصيغة الإخبار، فلما أتى بصيغة الأمر شاكله الأمر الذي في المرفوع وهو قوله: «فاغسلي».
وانظر "الفتح" (1/409) ففيه تتمة كلام.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3/537 رقم16954) كتاب النكاح، باب في المستحاضة من كره أن يأتيها زوجها، والدارقطني (1/219) كلاهما من طريق وكيع، عن سفيان، عن غيلان بن جامع، عن عبدالملك بن ميسرة، عن الشعبي، عن قمير امرأة مسروق، عن عائشة، قالت: المستحاضة لا يأتيها زوجها.
وأخرجه الدارمي (1/208) كتاب الصلاة والطهارة، باب من قال: لا يجامع المستحاضة زوجها، عن الحكم بن المبارك، عن حجاج الأعور، عن شعبة، عن عبدالملك بن ميسرة، به.
وقد اختُلف في هذا الحديث، وبيَّن ذلك البيهقي في "سننه" (1/329) فروى بسنده عن عبدالله بن أحمد بن حنبل، قال: سألت أبي عن وطئ المستحاضة، فقال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن غيلان، عن عبدالملك بن ميسرة، عن الشعبي، عن قمير، عن عائشة، قالت: المستحاضة لا يغشاها زوجها. قال أبي: ورأيت في كتاب الأشجعي كما رواه وكيع. وقد رواه غندر، عن شعبة، عن عبدالملك بن ميسرة، عن الشعبي أنه قال: المستحاضة لا يغشاها زوجها.اهـ.
وأثر الشعبي الذي أورده الإمام أحمد: أخرجه ابن أبي شيبة(3/537 رقم16957).
ثم قال البيهقي: وقد رواه معاذ بن معاذ، عن شعبة، ففصل قول الشعبي من قول عائشة. ثم رواه بسنده عن عبيدالله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة، عن عبدالملك بن ميسرة، عن الشعبي، عن قمير امرأة مسروق، عن عائشة، قالت: المستحاضة تدع الصلاة أيام حيضها، ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة، قال: وقال الشعبي: لا تصوم ولا يغشاها زوجها.
قال البيهقي: فعاد الكلام في غشيانها إلى قول الشعبي، كما قال أحمد بن حنبل، وتركناه بما مضى من الدلالة على إباحة وطئها إذا تولى حيضها واغتسلت.اهـ.
لكن قال ابن التركماني - متعقبًا على قول البيهقي: فعاد الكلام في غشيانها إلى قول الشعبي - قلت: يحتمل أن الشعبي سمع ذلك من قمير عن عائشة، فرواه مرة كذلك، ومرة أخرى أفتى به، وقد مرَّ لذلك نظائر، وهذا أولى من تخطئة من ذكره عن عائشة.اهـ.
(3) في (غ): «كبيرة».
(4) أخرجه أبو داود (1/197، 213 رقم286، 304) كتاب الطهارة، باب من قال: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، وباب من قال: توضأ لكل صلاة، وعنه البيهقي (1/325-326).
وأخرجه النسائي (1/123 و185) كتاب الحيض والنفاس، باب الفرق بين دم الحيض والاستحاضة، والطحاوي في "مشكل الآثار" (7/154 رقم2729)، والدارقطني (1/206-207 و207)، والحاكم (1/174)، وابن حزم في "المحلى" (2/163-164)، والبيهقي (1/325). جميعهم من طريق محمد بن أبي عدي، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن فاطمة بنت حبيش، أنها كانت تستحاض فقال لها النبي ?: «إذا كان دم الحيضة، فإنه أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي، فإنما هو عرق».
قال أبو داود عقب روايته: وقال ابن المثنى: حدثنا به ابن أبي عدي من كتابه هكذا، ثم حدثنا به بعدُ حفظًا، قال: حدثنا محمد بن عمرو، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: أن فاطمة كانت تستحاض... فذكر معناه.اهـ.
وكذا قال النسائي، وزاد: قد روى هذا الحديث غير واحد لم يذكر أحد منهم ما ذكره ابن أبي عدي.اهـ.
وروى البيهقي بسنده عن عبدالله بن أحمد، قال: سمعت أبي يقول: كان ابن أبي عدي حدثنا به عن عائشة، ثم تركه.اهـ.
وقال ابن أبي حاتم في "العلل" (1/49-50): سألت أبي عن حديث رواه محمد بن أبي عدي، عن محمد بن عمرو، عن ابن شهاب الزهري، عن عروة، عن فاطمة: أن النبي ? قال لها: إذا رأيت الدم الأسود فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الأحمر فتوضئي؟ فقال أبي: لم يتابع محمد بن عمرو على هذه الرواية، وهو منكر.اهـ.
ونقل ابن التركماني (1/326) عن ابن القطان، قوله: هو في رأيي منقطع.اهـ.
والحديث حسنه الألباني في "الإرواء" (204) وقال متعقبًا على تصحيح الحاكم وموافقة الذهبي له: «وإنما هو حسن فقط؛ لأن فيه محمد بن عمرو وهو ابن علقمة، وإنما أخرج له البخاري مقرونًا ومسلم متابعة، وفي حفظه ضعف يسير، يجعل حديثه في رتبة الحسن لا الصحيح، ومع ذلك فقد صحح الحديث ابن حبان أيضًا، وابن حزم، والنووي، وأعلَّه غيرهم بما لا يقدح».اهـ.
(5) تعليق فقهي ونيس.
(6) في (أ): «بعبادة».
(7) تعليق فقهي ونيس.
(8) تعليق فقهي ونيس.
(9) تعليق فقهي ونيس.
(10) في (ب): «فقالوا».
(11) أخرجه بهذا اللفظ الدارقطني (1/206) من طريق الحسين بن إسماعيل، عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبي معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش... الحديث، وفيه: «فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم اغتسلي». وهذا سند رجاله ثقات.
الحسين بن إسماعيل: ترجمه الخطيب في "تاريخه" (8/19-20) وقال: وكان فاضلاً صادقًا دينًا.
ويعقوب بن إبراهيم، الدورقي: ثقة كما في "التقريب" (7812)، وباقي رجاله هم رجال إسناده عند البخاري، كما تقدم تخريجه في أول الباب.
(12) تعليق فقهي ونيس.
(14) تعليق فقهي ونيس.(1/441)
عن عليٍّ - رضي الله عنه - (1) ، وعلى مَنْ رأى عليها الغُسْلَ مِنْ ظُهْرٍ إلى ظُهْر (2) ، وهو مذهبُ سعيد بن المسيِّب، والحسنِ، وعطاءٍ، وغيرهم (3) . وقد روي عن سعيدٍ خلافُهُ (4) .
259- وَعَنْهَا (5) ؛ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ جَحْشٍ خَتَنَةَ رَسُولِ اللهِ ?، وَتَحْتَ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - اسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ، فَاسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللهِ ? فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «إِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، وَلَكِنَّ هَذَا عِرْقٌ، فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي»، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ فِي مِرْكَنٍ فِي حُجْرَةِ أُخْتِهَا زَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ، حَتَّى تَعْلُوَ حُمْرَةُ الدَّمِ الْمَاءَ.
وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «امْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُكِ، ثُمَّ اغْتَسِلِي»، فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ.
وقوله: «إِنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ جَحْشٍ»، قال الدارقطنيُّ، عن أبي إسحاق الحربي: الصحيحُ قولُ من قال: إنه (6) حبيب، بلا هاء، واسمها: حبيبة، قال الدارقطني: قول أبي إسحاق صحيح. قال غيره: وقد رُوِيَ عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها: أن أم حبيب... الحديثَ، وهي خَتَنَةُ رسولِ اللهِ ?، وقد قال فيه كثيرٌ من رواة "الموطأ": زينبُ بنتُ جَحْش التي كانتْ تحتَ عبدِ الرحمنِ بنِ عَوْف. قال أبو عمر بْنُ عبد البر: هكذا روايةُ يحيى وغيرِهِ، لم يختلفوا في ذلك عن مالك، وهو وَهَمٌ من مالك؛ فإنَّ زينَبَ بنتَ جحشٍ هي أمُّ المؤمنين، لم يتزوَّجها قطُّ عبدُ الرحمنِ بنُ عوف (7) ، إنما تزوَّجها أوَّلاً زيدُ بنُ حارثة، ثم تزوَّجها رسولُ الله ?، والتي كانتْ تحتَ عبدالرحمنِ بنِ عَوْف هي أمُّ حبيبة، كما جاء في «كتاب مسلم» على ما ذكرناه (8) .
وقال أبو عمرَ بنُ عبدِالبَرِّ (9) : إنَّ بناتِ جحشٍ الثلاثَ: زينبُ، وأمُّ حبيبةَ، وحَمْنَةُ زوجُ (10) طلحةَ بنِ عبيدالله، كنَّ يُسْتَحَضْنَ كلُّهنَّ، وقيل: إنه لم تُستحض (11) منهنَّ إلا أمَّ حبيبة، وذكَرَ القاضي يونسُ بنُ مُغِيثٍ في كتابه (12) "المُوعَب، في شرح الموطأ" مثل هذا، وأن اسم كل واحدة منهن زينب، ولقبت إحداهن بحمنة، وكنيت الأخرى بأم حبيبة، وإذا صح هذا فقد برأ الله مالكًا عن الوَهَمِ. =(1/592)=@
وقوله: «وَلَاكِنْ هَذَا عِرْقٌ؛ فَاغْتَسِلِي»، قد يتمسَّك به من يوجبُ الغُسْلَ على المستحاضةِ مِنْ حيثُ أمرها بالغسل (13) ، وعلَّله بكونه دَمَ عِرْقٍ، وهذا لا حجةَ فيه؛ لما بُيِّنَ في الروايةِ الأخرى: أنَّ هذا الغُسْلَ إنما هو للحيضة، فإنه قال فيها: «امْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُكِ، ثُمَّ اغْتَسِلِي»، وهذا اللفظُ قد يتمسَّك به من يقول: إنها تَعْتَبِرُ عادتَهَا (14) ، وهذا لا حجةَ فيه؛ لأنَّه يحتملُ أن يكونَ النبيُّ ? أحالها على &(1/442)&$
__________
(1) أخرجه الطحاوي (1/101) قال: ثنا ابن أبي داود، ثنا أبو مَعْمَر، ثنا عبدالوارث، ثنا محمَّد بن جُحَادة، عن إسماعيلَ بنِ رَجَاء، عن سعيدِ بنِ جُبَيْر، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءتْهُ امرأةٌ مستحاضةٌ تسأله، فلم يفتها، وقال لها: سلي غيري...، قال: ثم سألتُ عليَّ بنَ أبي طالبٍ - رضي الله عنه - ، فقال: تلك رَكْزَةٌ مِنَ الشيطان، أو قُرْحَةٌ في الرَّحِمِ، اغتسلي عند كلِّ صلاتَيْنِ مرةً وصلِّي.
وسنده صحيح.
أبو معمر: هو عبدالله بن عمرو بن أبي الحَجَّاج التميمي، أبو معمر المقعد المنقري.
(2) في (ب): «من طهر إلى طهر» بالطاء المهملة.
(3) تعليق فقهي ونيس.
(4) تعليق فقهي ونيس.
(5) أخرجه البخاري (11/426 رقم327) في الحيض ، باب عرق الاستحاضة، ومسلم (1/263رقم 334/64 و66) في الحيض، باب المستحاضة وغُسلها وصلاتها.
(6) في (ب): «أم».
(7) قوله: «ابن عوف» من (ب) فقط.
(8) في (أ): «ما ذكرنا».
(9) قوله: «ابن عبدالبر» سقط من (ب) و(ح).
(10) في (ب): «زوجهَ».
(11) في (ب) و(غ): «يستحض».
(12) في (غ): «كتاب».
(13) تعليق فقهي ونيس.
(14) تعليق فقهي ونيس.(1/442)
تقدير الحيضةِ التي عرَفَتْ أوَّلها بتغيُّرِ (1) الدمِ، ثم تمادَى بها بحيثُ لم تعرفْ إدبارَهُ فردَّها (2) إلى اعتبارِ حالتها في عَدَدِ أيامها المتقدِّمة، قبل أن تصيبها (3) الاستحاضةُ، وفارَقَ حالُ أم حبيبةَ حالَ فاطمةَ بنتِ أبي حُبَيْش؛ فإنَّ فاطمةَ كانتْ تعرفُ حيضتها بتغيُّرِ الدمِ، في إقباله وإدباره، وأمُّ حبيبةَ كانت تعرفُ إقبالَهُ لا غير، والله تعالى أعلم (4) .
وقوله: «فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ فِي مِرْكَنٍ»، «المِرْكَنُ»: الإجَّانَةُ، وهي القَصْرِيَّةُ التي تغسل فيها الثياب، كانت تقعد فيها فتصب (5) عليها الماء من غيرها، فيستنقع فيها فتعلو (6) حمرة الدم السائل منها الماء (7) ، ثم تخرج (8) منها، فتغسل ما أصاب رجليها من ذلك الماء المتغير بالدم.
وقوله: «فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ»، قال الليثُ (9) : لم يقلِ ابنُ شِهَاب: إنَّ النبيَّ ? أمَرَ أمَّ حبيبة أن تغتسلَ عند كلِّ صلاة، ولكنَّه شيء فعلته. وقد رواه =(1/593)=@ ابنُ إسحاق، عن الزهري، وفيه: «فأمَرَهَا رسولُ الله ? أن تغتسلَ لكلِّ صلاة»، ولم يتابعْ أصحابُ الزهريِّ ابنَ إسحاقَ على هذا (10) .
وأما قولُ مسلم في الأصل في حديثِ حمَّاد بن زيد: «حرفٌ تركنا ذكره»، هذا الحرف هو قوله: «اغسلي عنك الدم وتوضئي»، ذكره النسائي (11) ، وقال: لا نعلمُ أحدًا أقال: «وتوضئي» (12) ، في الحديث غير حماد، يعني (13) والله تعالى أعلم في حديث هشام.
وقد روى أبو داود وغيرُهُ ذِكْرَ الوضوءِ من رواية عديِّ بنِ ثابت، وحبيبِ بنِ أبي ثابت، وأيوبَ بنِ أبي مِسْكين، قال أبو داود: وكلُّها ضعيف (14) .
ولم ير مالكٌ عليها الوضوءَ، وليس في حديثِهِ، ولكن استحبَّه لها في قولِهِ الآخرِ؛ إمَّا لروايةِ غيرِهِ للحديث، أو لتدخُلَ الصلاة بطهارةٍ جديدةٍ، كما قال في سَلَسِ &(1/443)&$
__________
(1) في (ب): «فتغير».
(2) في (غ): «يصيبها».
(3) في (ح): «فردّ».
(4) قوله: «والله تعالى أعلم» سقط من (أ).
(5) في (ب): «فيصب».
(6) في (ب): «فتعلوه».
(7) قوله: " الماء " سقط من (ب) و(ح)، وقوله: «منها الماء» سقط من (غ).
(8) في (أ): «يخرج».
(9) تعليق فقهي ونيس.
(10) أخرجه الدارمي (1/198و200) كتاب الصلاة والطهارة، باب في غسل المستحاضة، وأبو داود (1/204 رقم292) كتاب الطهارة، باب من روى أن المستحاضة تغتسل لكل صلاة، وعنه البيهقي (1/350)، وابن حزم في "المحلى" (2/212)، كلاهما من طريق محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرها بالغسل لكل صلاة.
قال أبو داود عقب روايته: ورواه أبو الوليد الطيالسي، ولم أسمعه منه، عن سليمان بن كثير، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، فذكره. قال: ورواه عبدالصمد، عن سليمان بن كثير، قال: «توضئي لكل صلاة». وهذا وَهْم من عبدالصمد ، والقول فيه: قول أبي الوليد.اهـ.
ورواية أبي الوليد الطيالسي أعلَّها كذلك البيهقي في "سننه"(1/350) فقال: ورواية أبي الوليد أيضًا غير محفوظة، فقد رواه مسلم بن إبراهيم، عن سليمان بن كثير، كما رواه سائر الناس عن الزهري.اهـ.
وهي عند البيهقي (1/350) من طريق سليمان بن كثير، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: استحيضت أخت زينب بنت جحش سبع سنين، فكانت تملأ مركنًا لها ماء، ثم تدخله حتى تعلو الماء حمرة الدم، فاستفتت رسول الله ? فقال لها: «إنه ليس بحيضة ولكنه عرق، فاغتسلي وصلي». ثم قال: ليس فيه الأمر بالغسل لكل صلاة، وهذا أولى لموافقته سائر الروايات عن الزهري.
ورواية محمد بن إسحاق، عن الزهري، غلط؛ لمخالفتها سائر الروايات عن الزهري، ومخالفتها الرواية الصحيحة عن عراك بن مالك، عن عروة، عن عائشة.اهـ.
ثم أسند البيهقي (1/350) رواية عراك بن مالك، وفيها: فقال لها: «امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي»، قال: فكانت تغتسل عند كل صلاة من عند نفسها. ثم قال: ففي هذه الروايتين الصحيحتين: بيان أن النبي ? لم يأمرها بالغسل عند كل صلاة، وأنها كانت تفعل ذلك من عند نفسها، فكيف يكون الأمر بالغسل عند كل صلاة ثابتًا من حديث عروة؟!
وقال الحافظ في "الفتح" (1/427): وأما ما وقع عند أبي داود من رواية سليمان ابن كثير، وابن إسحاق عن الزهري في هذا الحديث: «فأمرها بالغسل لكل صلاة»، فقد طعن الحفاظ في هذه الزيادة؛ لأن الأثبات من أصحاب الزهري لم يذكروها، وقد صرح الليث كما تقدم عند مسلم بأن الزهري لم يذكرها.اهـ.
وقال الشافعي في "الأم" (1/62): إنما أمرها رسول الله ? أن تغتسل وتصلي، وليس فيه أنه أمرها أن تغتسل لكل صلاة...، ولا شك إن شاء الله تعالى أن غسلها كان تطوعًا غير ما أمرت به، وذلك واسع لها.اهـ.
وقد رويت أحاديث أخرى في أمرها بالغسل عند كل صلاة، وكلها لا تخلو من مقال. فانظرها في "السنن الكبرى" للبيهقي (1/349-352).
(11) في "سننه" (1/123-124) كتاب الحيض والنفاس، باب الفرق بين دم الحيض والاستحاضة.
ثم قال: لا أعلم أحدًا ذكر في هذا الحديث: «وتوضئي» غير حماد بن زيد، وقد روى غير واحد عن هشام ولم يذكر فيه: وتوضئي.اهـ.
قال الحافظ في "الفتح" (1/409): وأومأ مسلم أيضًا إلى ذلك وليس كذلك، فقد رواه الدارمي من طريق حماد بن سلمة، والسراج من طريق يحيى بن سليم، كلاهما عن هشام.اهـ.
(12) قوله: «قال وتوضئي». سقط من (غ).
(13) قوله: «يعني» سقط من (ح).
(14) انظر "سنن أبي داود (1/208-211 رقم297و298و299) كتاب الطهارة، باب من قال: تغتسل من طُهر إلى طُهر.
أما حديث عدي بن ثابت:
فأخرجه الدارمي (1/202) كتاب الصلاة، باب في غسل المستحاضة، وأبو داود (1/208-209 رقم297) كتاب الطهارة، باب من قال: تغتسل من طهر إلى طهر، وابن ماجه (1/204 رقم625) كتاب الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة التي قد عدت أيام إقرائها...، والترمذي (1/220 رقم126و127) كتاب الطهارة، باب ما جاء أن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة، والطحاوي (1/102)، والبيهقي (1/347).
جميعهم: من طريق شريك، عن أبي اليقظان، عن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل وتصلي، والوضوء عند كل صلاة.
قال أبو داود - كما في "تحفة الأشراف" (3/133 رقم3542)-: هو حديث ضعيف.اهـ.
وقال الترمذي: هذا حديث قد تفرَّد به شريك، عن أبي اليقظان. وسألت محمدًا عن هذا الحديث، فقلت: عديّ بن ثابت، عن أبيه، عن جده، جدُّ عديّ: ما اسمه؟ فلم يعرف محمد اسمه. وذكرت لمحمد قول يحيى بن معين: أن اسمه: دينار، فلم يعبأ به.اهـ.
وشريك: صدوق يخطئ كثيرًا، تغيَّر حفظه منذ ولى القضاء بالكوفة.
وأبو اليقظان: هو عثمان بن عمير، ضعفه أحمد، وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث، كان شعبة لا يرضاه، وذكر أنه حضره فروى عن شيخ، فقال له شعبة: كم سنك؟ فقال: كذا، فإذا قد مات الشيخ وهو ابن سنتين. وقال ابن حبان في "المجروحين" (2/95): كان ممن اختلط حتى لا يدري ما يحدث به، فلا يجوز الاحتجاج بخبره الذي وافق الثقات، ولا الذي انفرد به عن الأثبات؛ لاختلاط البعض بالبعض.
وفي "التقريب": ضعيف اختلط، وكان يدلس، ويغلوّ في التشيع.
وجدُّ عدي بن ثابت لم يُعرف، وتضاربت فيه الأقوال جدًّا:
قال المزي في "تهذيبه" (4/386) قال أبو بكر البرقاني: قلت لأبي الحسن الدارقطني: شريك، عن أبي اليقظان، عن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، كيف هذا الإسناد؟ قال: ضعيف. قلت: من جهة من؟ قال: أبو اليقظان ضعيف. قلت: فيترك؟ قال: لا، بل يخرج، رواه الناس قديمًا.
قلت له: عدي بن ثابت ابن مَن؟ قال: قد قيل: ابن دينار. وقيل: إنه يعني جده، أبا أمه، وهو عبدالله بن يزيد الخطمي، ولا يصح من هذا كله شيء. قلت: فيصح أن جده أبا أمه عبدالله بن يزيد الخطمي؟ قال: كذا زعم يحيى بن معين.اهـ.
قال الحافظ في "تهذيبه" (1/270): وكذا قال أبو حاتم الرازي، واللالكائي، وغير واحد.اهـ.
وقد تقدم أن البخاري لم يعبأ بقول ابن معين: أن اسمه دينار.
وقال الذهبي في "الميزان" (1/369): فعلى كل تقدير، والد عدي بن ثابت مجهول الحال؛ لأنه ما روى عنه سوى ولده.اهـ.
ووافقه ابن حجر، كما في "التقريب".
وقال الحافظ في"النكت الظراف"(3/134): الراجح أن اسم جدِّ عديّ: ثابت، وهو ابن قيس بن الخطيم، وعدي كان ينسب إلى جدِّه، وهو عدي بن أبان بن ثابت.اهـ.
والحديث صححه الألباني في "الإرواء" (207) وقال - بعد أن نقل عن الترمذي قوله: هذا حديث تفرد به شريك عن أبي اليقظان -: وهما ضعيفان، ولكن الحديث صحيح؛ لأن له شواهد.اهـ.
وقد رُوي هذا الحديث من وجه آخر:
فأخرجه ابن أبي شيبة (1/120 رقم1365) كتاب الطهارة، باب المستحاضة كيف تصنع، والطحاوي (1/102)، والبيهقي (1/347).
جميعهم من طريق شريك، عن أبي اليقظان، عن عدي، عن علي مثله.
وسنده كسابقه.
وأما حديث حبيب بن أبي ثابت: فقد اختلف في رفعه ووقفه:
فأخرجه ابن أبي شيبة (1/118 رقم1345) كتاب الطهارة، باب المستحاضة كيف تصنع، وعنه ابن ماجهَ (1/204 رقم623) كتاب الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة التي قد عدت أيام أقرائها....
وأخرجه إسحاق بن راهويه (2/97 رقم564)، وأحمد (6/204)، وأبو داود (1/209 رقم298) كتاب الطهارة، باب من قال: تغتسل من طهر إلى طهر،وعنه البيهقي (1/344)، وفي "المعرفة" (2/165)، وأخرجه الدارقطني (1/212).
جميعهم من طريق وكيع.
وأخرجه أحمد (6/42و262)، والدارقطني (1/211) من طريق علي بن هاشم.
وأخرجه الطحاوي (1/102) من طريق يحيى بن عيسى.
وأخرجه ابن الأعرابي في "معجمه" (6/302 رقم1084)، والدارقطني (1/212) من طريق عبدالله بن داود.
وأخرجه الدارقطني (1/211و212) من طريق قرة بن عيسى،ومحمد بن ربيعة.
ستتهم عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي ?... الحديث، وفيه: «ثم اغتسلي وتوضئي لكل صلاة، ثم صلِّي وإن قطر الدم على الحصير».
في رواية عبدالله بن داود: «تصلي المستحاضة وإن قطر الدم على الحصير».
وأخرجه الدارقطني (1/213) من طريق حفص بن غياث، وأبي أسامة، عن الأعمش، عن حبيب، عن عروة، عن عائشة: في المستحاضة تصلي وإن قطر الدم على حصيرها. هكذا موقوفًا.
قال أبو داود (1/210-211): ودلَّ على ضعف حديث الأعمش، عن حبيب هذا الحديث، أوقفه حفص بن غياث عن الأعمش، وأنكر حفص بن غياث أن يكون حديث حبيب مرفوعًا، وأوقفه أيضًا أسباط عن الأعمش، موقوف على عائشة.
ورواه ابن داود عن الأعمش مرفوعًا أوله، وأنكر أن يكون فيه الوضوء عند كل صلاة، ودلَّ على ضعف حديث حبيب هذا: أن رواية الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: فكانت تغتسل لكل صلاة في حديث المستحاضة.اهـ.
وحكى النسائي في "سننه" (1/105) عن يحيى بن سعيد القطان قوله: وحديث حبيب، عن عروة، عن عائشة: تصلّي وإن قطر الدم على الحصير لا شيء.اهـ.
وقال الدارقطني (1/211): ووقفه حفص بن غياث، وأبو أسامة، وأسباط بن محمد، وهم أثبات.اهـ.
ثم روى بسنده (1/213) عن عبدالرحمن بن بشر بن الحكم، قال: جئنا من عند عبداله بن داود الخريبي، إلى يحيى بن سعيد القطان، فقال: من أين جئتم؟ قلنا: من عند عبدالله بن داود، فقال: ما حدثكم؟ قلنا: حدثنا عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة... الحديث. فقال يحيى: أما إن سفيان الثوري كان أعلم الناس بهذا، زعم أن حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة بن الزبير شيئًا.اهـ. وهو قول علي بن المديني والبخاري، كما في "السنن الكبرى" للبيهقي (1/345)، و"العلل الكبير" للترمذي (ص50).
والحديث ضعفه الحافظ في "تلخيص الحبير" (1/297).
وصححه الألباني في "الإرواء" (109) وقال: ورجاله كلهم ثقات، وقد صرح ابن ماجهَ والدارقطني في روايتهما: أن عروة هو ابن الزبير، ولكن حبيبًا لم يسمع منه، فهو منقطع، لكن تابعه هشام بن عروة عند البخاري وغيره، فالحديث صحيح لكن بدون هذه الزيادة - وهي: وإن قطر الدم على الحصير -.اهـ.
وحديث البخاري الذي أشار إليه الألباني، هو حديث عائشة المتقدم في أول الباب فإن في آخره عند البخاري، قال - أي هشام بن عروة -: قال أبي:»ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت».
وسبق نقل كلام الحافظ في "الفتح" في ردّ دعوى أن هذه اللفظة معلقة، أو موقوفة على عروة.
وأما حديث أيوب أبي العلاء:
أخرجه الطبراني في "الصغير" (2/292)، والبيهقي (1/346) كلاهما من طريق يزيد بن هارون، عن أبي العلاء، عن ابن شبرمة، عن امرأة مسروق، عن عائشة، فذكرته.
وسنده ضعيف كما قال أبو داود.
وقال الطبراني عقب روايته: لم يروه عن ابن شبرمة إلا أيوب أبو العلاء، تفرد به يزيد بن هارون.اهـ.(1/443)
البَوْل.
وأوجَبَ عليها الوضوءَ: أبو حنيفةَ والشافعيُّ وأصحابُهمَا، والليثُ، والأوزاعيُّ، ولمالكٍ أيضًا نحوُهُ (1) .
وكلُّهم مجمعون على أنه (2) لا غُسْلَ عليها غيرَ مرَّةٍ واحدةٍ عند إدبارِ حَيْضتها (3) ، لكنِ اختُلِفَ في الغُسْلِ إذا انقطَعَ عنها دمُ استحاضتها. واختلَفَ فيه قولُ مالك (4) ، رحمه الله. =(1/594)=@
بَابٌ
260- عَنْ مُعَاذَةَ (5) ، قَالَتْ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ، وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ ؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ قُلْتُ: لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ، وَلَكِنِّي أَسْأَلُ، قَالَتْ: كُنَّا يُصِيبُنَا ذَلِكِ، فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ.
وَمِنْ بَابِ لَا تَقْضِي الْحَائِضُ الصَّلَاةَ
قولُ عائشة رضي الله عنها: «أَحَرُورِيَّةٌ (6) أَنْتِ ؟»، إنكارٌ عليها أن تكونَ سمعَتْ شيئًا مِنْ رأيِ (7) الخوارجِ في ذلك، وذلك أنَّ طائفةً منهم يَرَوْنَ على الحائضِ قضاءَ الصلاةِ؛ إذْ لم تَسْقُطْ عنها في كتابِ الله تعالى، على أَصْلِهم في رَدِّ السُّنَّة، على خلافٍ (8) بينهم في المسألة (9) ، وقد أجمَعَ المسلمون على خلافهم، وأنه لا صلاةَ تَلْزمها، ولا قضاءَ عليها (10) .
وفي كتاب أبي داود: أنَّ سَمُرَةَ كان يأمرُ النساءَ بقضاءِ صلاةِ الحيضِ؛ فأنكَرَتْ ذلك أُمُّ سَلَمة (11) .
وكان قومٌ من قدماء السلفِ: يأْمُرون الحائضَ أن تتوضَّأ عند أوقاتِ الصلوات، وتَذْكُرَ الله، وتستقبلَ القبلةَ جالسةً؛ قال مكحولٌ: كان ذلك مِنْ هدي نساءِ المسلمين، واستحبَّه غيرُهُ.
قال غيره: هو أَمْرٌ متروكٌ عند جماعةٍ من العلماء، مكروهٌ ممَّن فعله. =(1/595)=@ &(1/444)&$
__________
(1) تعليق فقهي ونيس.
(2) في (ب) و(ح): «أنها».
(3) تعليق فقهي ونيس.
(4) تعليق فقهي ونيس.
(5) أخرجه البخاري (1/421رقم321) في الحيض، باب لا تقضي الحائض الصلاة، ومسلم (1/265رقم 335) في الحيض، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة.
(6) نسبة إلى حَرُوراء، وهي قريةٌ بظاهر الكوفة على مِيلَيْنِ منها، نزل بها الخوارجُ الذين خرجوا على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، وبها كان أوَّل تحكيمهم واجتماعهم حين خالفوا عليه. انظر "معجم البلدان" (2/245).
(7) في (أ): «الصلاة الحائض».
(8) (أ): «اختلاف».
(9) تعليق فقهي ونيس.
(10) تعليق فقهي ونيس.
(11) أخرجه أبو داود (1/219 رقم312) كتاب الطهارة، باب ما جاء في وقت النفساء، والحاكم (1/175) وعنه البيهقي (1/341)، كلاهما: من طريق عبدالله بن المبارك، عن يونس بن نافع، عن كَثِيرِ بن زياد، قال: حدثتني مَسَّةُ الأزدية، قالت: حَجَجْتُ، فدخلْتُ على أم سلمة، فقلتُ: يا أمَّ سلمة، إن سمرةَ بن جندب يأمرُ النساء يَقْضِينَ صلاةَ الحيض، فقالت: لا يَقْضِينَ، كانت المرأة من نساء النبي ? تقعد في النفاس أربعين ليلة، لا يأمرها النبيُّ ? بقضاء صلاة النفاس.
قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ولا أعرف في معناه غير هذا، ووافقه الذهبي.
ورُوي الحديثُ من طريق أخرى، ليس فيه قصة سمرة بن جندب: أخرجه ابن أبي شيبة (4/28 رقم17449) كتاب النكاح، باب ما قالوا في النفساء كم تجلس حتى يغشاها زوجها، وأحمد (6/300، 302 ، 304، 309-310)، والدارمي (1/229) كتاب الصلاة، باب في المرأة الحائض تصلِّي في ثوبها إذا طهرت، وأبو داود (1/217- 218 رقم311) كتاب الطهارة، باب ما جاء في وقت النفساء، وابن ماجه (1/213 رقم648) كتاب الطهارة، باب في النفساء كم تجلس، والترمذي (1/256 رقم139) كتاب الطهارة، باب ما جاء في كم تمكث النفساء، وابن حبان في "المجروحين" (2/224-225)، والطبراني في "الكبير" (23/370-372 رقم878)، والدارقطني (1/221)، والحاكم (1/175)، والبيهقي (1/341)، جميعهم: من طريق علي بن عبد الأعلى، به.
قال الترمذي عقب روايته: هذا حديثٌ غريبٌ لا نعرفه إلا مِنْ حديث أبي سهل، عن مَسَّة الأزدية، عن أم سلمة.
واسم أبي سهل: كَثِيرُ بن زياد.
قال محمد بن إسماعيل البخاري: علي بن عبد الأعلى ثقةٌ، وأبو سهل ثقة، ولم يعرف محمد هذا الحديثَ إلا من حديث أبي سهل.اهـ.
وقال ابن الملقِّن في "خلاصة البدر المنير" (1/83): وكذا صحَّحه ابن السكن أيضًا، وخالف ابن حزم، وابن القطَّان، فضعَّفاه، والحقُّ صحته؛ قال الخطابي: أثنى البخاري على هذا الحديث.اهـ.
ونقل صاحب "عون المعبود" (1/501) عن ابن الملقِّن في "البدر المنير" قوله: ولا نسلِّم جهالة عينها، وجهالةُ حالها مرتفعةٌ؛ فإنه روَى عنها جماعة...، وقد أثنى على حديثها البخاري، وصحَّح الحاكم إسناده، فأقل أحواله أن يكون حسنًا.اهـ. وحسنه الألباني في "الإرواء" (201).
وقد قال الحافظ في "التقريب": مسَّة: مقبولة.
وللحديث شواهدُ أخرى، قد استُوفي الكلام عليها في رسالة "كشف الالتباس، عن أحكام النفاس"لعبدالله بن يوسف الجديع. وانظرها أيضًا في "تلخيص الحبير" (1/303).(1/444)
( 30 ) بَابُ سُتْرَةِ المُغْتَسِلِ، وَالنَّهْيِ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْعَوْرَةِ
261- عَن أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ (1) ، قَالَتْ: ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ? عَامَ الْفَتْحِ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ، وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ بِثَوْبٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ أَخَذَ ثَوْبَهُ فَالْتَحَفَ بِهِ، ثُمَّ صَلَّى ثَمَانَ رَكَعَاتٍ سُبْحَةَ الضُّحَى.
262- وَعَنْ مَيْمُونَةَ (2) ، قَالَتْ: وَضَعْتُ لِلنَّبِيِّ ? مَاءً، وَسَتَرْتُهُ، فَاغْتَسَلَ.
وَمِنْ بَابِ سُتْرَةِ المُغْتَسِلِ
قوله: «لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَلَا المَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ المَرْأَةِ»:
لا خلافَ: في تحريمِ النظرِ إلى العورةِ مِنَ الناس بعضِهِمْ إلى بعض، ووجوبِ سَتْرها عنهم (3) ، إلا الرَّجُلَ مع زوجتِهِ أو أمتِهِ (4) (5) ، واختُلِفَ: في كشفها في الانفراد، وحيثُ لا يراه أحدٌ (6) (7) .
ولا خلافَ: أن السوءَتَيْنِ من الرجلِ والمرأةِ عورةٌ (8) ، واختُلِفَ: فيما عدا ذلك من السُّرَّةِ إلى الركبة (9) مِنَ الرجلِ، هل هو عورةٌ أم لا (10) ؟ ولا خلافَ: أنَّ إبداءَهُ لغيرِ ضرورةٍ قصدًا ليس مِنْ مكارم الأخلاق، ولا خلافَ: أنَّ ذلك مِنَ المرأةِ عورةٌ على النساءِ والرجال (11) (12) ، وأنَّ الحُرَّةَ عورةٌ، ما عدا وجهَهَا وكفَّيْهَا على غير ذوي المحارمِ من (13) =(1/596)=@ الرجال (14) ، وسائرُ جسدها على (15) المحارِمِ، ما عدا رأسَهَا وشَعْرَهَا (16) وذراعَيْهَا وما فوقَ نحرها.
واختُلِفَ في حكمها مع النساء:
فقيل: جَسَدُهَا كلُّه عورةٌ؛ فلا يرى النساءُ منها إلا ما يراه ذو المَحْرَمِ (17) .
وقيل: حكمُ النساءِ مع النساءِ حكمُ الرجالِ مع الرجالِ، إلا مع نساءِ أهلِ الذِّمَّة؛ فقيل: حكمهنَّ في النظر إلى أجسادِ المسلماتِ (18) حُكْمُ (19) الرجال؛ لقوله تعالى: {أو نسائهن} (20) ، على خلافٍ بين المفسِّرين في معناه.
263- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (21) ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? قَالَ: «لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَلَا الْمَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ، وَلَا يُفْضِي الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَلَا تُفْضِي الْمَرْأَةُ إِلَى الْمَرْأَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ».
264- وَعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ (22) ، قَالَ: أَقْبَلْتُ بِحَجَرٍ، أَحْمِلُهُ، ثَقِيلٍ. وَعَلَيَّ إِزَارٌ خَفِيفٌ، قَالَ: فَانْحَلَّ إِزَارِي، وَمَعِيَ الْحَجَرُ، لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَضَعَهُ حَتَّى بَلَغْتُ بِهِ إِلَى مَوْضِعِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «ارْجِعْ إِلَى ثَوْبِكَ، فَخُذْهُ، وَلَا تَمْشُوا عُرَاةً».
وحكمُ المرأةِ فيما تراه من الرجل (23) : حُكْمُ الرجلِ فيما يراه مِنْ ذوي محارمِهِ من النساء.
وقد قيل: حكمُ المرأةِ فيما تراه من الرجلِ كَحُكْمِ (24) &(1/445)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (1/387 رقم 280) في الغسل، باب التستُّر في الغسل عند الناس، ومسلم (1/265رقم 336/70، 71) في الحيض، باب تستُّر المغتسلِ بثوبٍ ونحوه.
(2) أخرجه البخاري (1/375 رقم 266) في الغسل، باب من أفرَغَ بيمينه على شماله في الغُسْل، وذكر أطرافه في (1/361 رقم249) في الغسل، باب الوضوء قبل الغُسْل، ومسلم (1/266رقم 337) في الحيض، باب تستُّر المغتسلِ بثوب ونحوه.
(3) 50 سعد.
(4) 50 سعد.
(5) تعليق فقهي ونيس.
(6) تعليق فقهي ونيس.
(7) 50 سعد.
(8) 50 سعد.
(9) في (ب) و(ح): «من الركبة إلى السرة».
(10) تعليق فقهي ونيس.
(11) تعليق فقهي ونيس.
(12) 50 سعد.
(13) في (أ) و(ب) و(غ): «عن».
(14) تعليق فقهي ونيس.
(15) في (غ): «عن».
(16) في (ح): «شعرها ورأسها».
(17) في (أ): «المحارم».
(18) في (أ): «المسلمة».
(19) في (ب): «كحكم».
(20) سورة النور: الآية: 31.
(21) أخرجه مسلم (1/266رقم 338) في الحيض، باب تحريم النظر إلى العورات.
(22) أخرجه مسلم (1/268رقم 341) في الحيض، باب الاعتناء بحفظ العورة.
(23) في (ح): «الرجال»
(24) في (ب): (حكم».(1/445)
الرجلِ فيما يراه من المرأة.
والأوَّلُ أصح (1) (2) .
وأمَّا الأَمَةُ: فالعَوْرَةُ منها ما تحتَ ثَدْيَيْهَا، ولها أن تُبْدِيَ رأسها ومِعْصَميها (3) .
وقيل: حكمها حكمُ الرجال.
وقيل: يُكْرَهُ لها كشفُ مِعْصَميها ورأسِهَا وصدرِهَا (4) .
وكان عمر يَضْرِبُ الإماءَ على تغطيةِ رُؤُوسِهِنَّ، ويقول: «لا تتشبَّهْنَ (5) بالحرائر» (6) .
وحُكْمُ الحرائر في الصلاة: سَتْرُ جميعِ أجسادِهِنَّ إلا الوجهَ والكفَّيْنِ؛ هذا قولُ مالكٍ، والشافعيِّ، والأوزاعيِّ، وأبي ثورٍ، وكافَّةِ السلفِ وأهلِ العلم.
وقال أحمدُ بنُ حنبل: لا يُرَى منها شيءٌ ولا ظُفُرُهَا، ونحوه (7) قولُ أبي بكرِ بنِ عبدالرحمن.
وأجمعوا: أنها إنْ (8) صلَّت مكشوفةَ الرأسِ كلِّه أنَّ عليها إعادةَ الصلاة.
واختَلَفُوا في بعضه:
فقال الشافعيُّ، وأبو ثور: تعيدُ.
وقال أبو حنيفة: إن انكشَفَ أقلُّ مِنْ ثلثه، لم تُعِدْ، وكذلك أقلُّ من ربع بطنها، أو فخذها.
وقال أبو يوسف: لا تعيدُ في أقلَّ من النصف.
وقال مالكٌ: تعيدُ في القليلِ والكثيرِ مِنْ ذلك في =(1/597)=@ الوقت.
واختُلِفَ عندنا (9) : في الأمة تصلِّي مكشوفةَ البطنِ، هل يجزئها أو لا بدَّ مِنْ سترها جسدَهَا ؟ وقال أبو بكر بن عبدالرحمن: كلُّ شيءٍ من الأَمَةِ عورةٌ حتى ظُفُرُهَا.
قال الشيخ رحمه الله: العورةُ في أصلِ الوَضْعِ: هي ما يُسْتَحْيَا من الاطلاعِ عليه، ويلزمُ منه عارٌ. &(1/446)&$
__________
(1) 50 سعد.
(2) تعليق فقهي ونيس.
(3) في (ب) و (غ): «ومعصمها».
(4) في (أ): «كشف رأسها وصدرها».
(5) في (غ): «لا يتشبهن».
(6) أخرجه عبدالرزاق (3/136 رقم5064) عن معمر، وابن أبي شيبة (2/41 رقم6235) كتاب الصلاة، باب الأمة تصلِّي بغير خمار، عن وكيع، عن شعبة. كلاهما - معمر، وشعبة - عن قتادة، عن أنس، قال: رأى عمر أَمَةً لنا متقنِّعةً فضربها، وقال: لا تَشَبَّهِي بالحرائرِ.
صحَّحه الحافظ في "الدراية" (1/124)، وقال الألباني في "جلباب المرأة" (ص99): وهو على شرط الشيخين.
وأخرجه ابن أبي شيبة (2/41 رقم6238) الموضن السابق، عن عبدالأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن أنس، بنحوه. وصححه الألباني أيضًا.
(7) في (غ): «ونحوها».
(8) في (غ): «إذا».
(9) في (ب): «عنده».(1/446)
وقوله: «لَا يُفْضِي الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَلَا المَرْأَةُ إِلَى المَرْأَةِ»، أي: لا يخلوان كذلك؛ ليباشر أحدُهُمَا عورةَ الآخَرِ ويَلْمَسَهَا، ولَمْسُهَا مُحَرَّمٌ (1) ؛ كالنظر إليها.
وأمَّا إذا كانا مستورَيِ العورةِ بحائلٍ بينهما: فذلك مِنَ النساء محرَّمٌ؛ على القول بِأَنَّ جسدَ المرأةِ على المرأةِ كلُّه عورةٌ.
وحكمُهَا – على القولِ الآخر – وحُكْمُ الرجالِ: الكراهيَةُ؛ وهذا (2) لعمومِ النهيِ عنه، وصلاحيةِ إطلاقِ لفظِ العورةِ (3) على ما ذُكِرَ مما اختُلِفَ فيه. =(1/598)=@
بَابٌ
265- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ (4) ، قَالَ: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللهِ ? ذَاتَ يَوْمٍ خَلْفَهُ، فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا، لَا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، وَكَانَ أَحَبَّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ? لِحَاجَتِهِ، هَدَفٌ، أَوْ حَائِشُ نَخْلٍ، يَعْنِي: حَائِطَ نَخْلٍ.
وَمِنْ بَابِ مَا يُسْتَرُ بِهِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ
قوله: «هَدَفٌ، أَوْ حَائِشُ نَخْلِ»، «الهَدَفُ»: ما ارتفَعَ من الأرض، وكلُّ مرتفعٍ هدَفُ، و«حائشُ النخلِ»: مجتمِعُهُ، وهو الحَشُّ والحُشُّ أيضًا. &(1/447)&$
__________
(1) في (ب): «يحرم».
(2) في (ب): «فهذا».
(3) في (ح): «العموم».
(4) أخرجه مسلم (1/268رقم 342) في الحيض، باب يُسْتَتَرُ به لقضاءِ الحاجة.(1/447)
( 31 ) بَابُ مَا جَاءَ فِي الرَّجُلِ يَطَأُ، ثُمَّ لا يُنْزِلُ
266- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (1) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَخَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، فَقَالَ: « لَعَلَّنَا أَعْجَلْنَاكَ ؟!»، قَالَ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: «إِذَا أُعْجِلْت-َ أُوْ أَقْحِطْتَ، فَلَا غُسْلَ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ الْوُضُوءُ»، وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ».
267- وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ (2) ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ? عَنِ الرَّجُلِ يُصِيبُ مِنَ الْمَرْأَةِ، ثُمَّ يُكْسِلُ ؟ فَقَالَ: « يَغْسِلُ مَا أَصَابَهُ مِنَ الْمَرْأَةِ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ، وَيُصَلِّي».
268- قَالَ أَبُو الْعَلَاءِ بْنُ الشِّخِّيرِ (3) : كَانَ رَسُولُ اللهِ ? يَنْسَخُ حَدِيثُهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، كَمَا يَنْسَخُ الْقُرْآنُ بَعْضُهُ بَعْضًا، قَالَ أَبُو إسْحَاقَ: هَذَا مَنْسُوخٌ.
وَمِنْ بَابِ الرَّجُلِ يَطَأ، ثُمَّ لَا يُنْزِلُ
قوله: «إِذَا أُعْجِلْتَ أَوْ أُقْحِطْتَ»، الروايةُ بضم همزة: «أُقحِطْتَ» وكسرِ الحاء، مبنيًّا لما لم (4) يُسَمَّ فاعله، ولعلَّه إتباعٌ لـ«أُعْجِلْتَ»؛ فإنَّه لا يقالُ في هذا إلا: أَقْحَطَ =(1/599)=@ الرجلُ: إذا لم يُنْزِل، بالفتح، كما يقال: أَقْحَطَ القومُ: إذا أصابهم القَحْطُ، وهذا منه؛ وأصلُهُ مِنْ: قَحَطَ المطرُ، بالفتح، يَقْحَطُ قُحُوطًا: إذا احتَبَس، وقد حكى الفرَّاء: قَحِطَ المطرُ بالكسر (5) ، يَقْحَطُ، ويقال: أُقْحِطَ الناسُ وأَقْحَطُوا بالضم والفتح، وقَحَطُوا وقُحِطُوا كذلك، وهو هنا: عبارةٌ عن الإكسالِ، وهو عدَمُ الإنزال.
وفي «الأفعال»: كَسِلَ بكسر السين: فَتَرَ، وأكسَلَ في الجماع: ضَعُفَ عن الإنزالِ» (6) ، وقد روى غيره: يُكْسِلُ (7) ثلاثيًّا ورباعيًّا (8) .
وقوله: «فَلَا غُسْلَ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ الْوُضُوءُ»، كان هذا الحكمُ في أولِ الإسلامِ ثم نُسِخَ بعدُ؛ قاله الترمذيُّ وغيره (9) .
وقد أشار إلى ذلكَ أبو العلاءِ بن الشِّخِّير، وأبو إسحاق، قال ابن القَصَّار: أجمعَ التابعون ومَنْ – بعدهم بعد خلافِ مَنْ تقدَّم – على الأَخْذِ بحديثِ: «إِذَا الْتَقَى الْخَتَانَانِ...»، وإذا صحَّ الإجماعُ بعد الخلاف، كان مُسْقِطًا للخلاف (10) .
قال القاضي (11) عياض: «لا يُعْلَمُ مَنْ قال به بعد خلافِ الصحابةِ، إلا ما حُكِيَ عن الأعمش، ثم بعده داودُ الأصبهانيُّ (12) ، وقد روي أن عمر - رضي الله عنه - &(1/448)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (1/284 رقم 180) في الوضوء، باب من لم ير الوضوء إلا من المَخْرَجَيْنِ من القبل والدبر، ومسلم (1/269رقم 345/83) في الحيض، باب إنما الماء من الماء.
(2) أخرجه البخاري (1/398 رقم 293) في الغسل، باب غسل ما يُصِيبُ مِنْ فرج المرأة، ومسلم (1/270رقم 346) في الحيض، باب إنما الماء من الماء.
(3) أخرجه مسلم (1/269رقم 344) في الحيض، باب إنما الماء من الماء.
(4) قوله: «لم» سقط من (أ). ............ يراجع
(5) قوله: «بالكسر» سقط من (ح).
(6) «الأفعال» لابن القوطيَّة (ص 67)، وانظر: «الأفعال» للسرقسطي (2/144)، و«الأفعال» لابن القطاع (3/8).
(7) في (أ): «بكَسِلَ».
(8) انظر: «الأفعال» للسرقسطي (2/144)؛ فقد ذكر أن كَسِلَ كَسَلًا، بمعنى: فَتَرَن وكذلك أَكْسَلَ إكسالًا، ويقال أيضًا: كَسِلَ في الجماعِ، بمعنى: ضَعُفَ عن إنزال الماء، وكذلك أَكْسَلَ إكسالًا.
(9) قال الترمذي في "سننه" (1/185): «وإنما كان الماء من الماء في أول الإسلام، ثم نُسِخَ بعد ذلك، وهكذا روَى غيرُ واحد من أصحاب النبي ?، منهم: أبيُّ بن كعب، ورافع بن خَدِيج. والعملُ على هذا عند أكثر أهل العلم؛ على أنه إذا جامع الرجلُ امرأته في الفرج، وجب عليهما الغسل وإن لم يُنْزِلا».اهـ.
(10) رد الحافظ في "الفتح" (1/398-399) دعوى ابن القصَّار بأن الخلاف ارتفع بين التابعين في هذه المسألة. فانظره، وانظر كلام الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي (1/188) في هذه المسألة، فهو مهمٌّ ومفيد.
(11) قوله: " القاضي " سقط من (أ) و(ح) و(غ).
(12) زاد في "الإكمال": «وخالفه كثير من أصحابه، وقالوا بمذهب الجماعة».(1/448)
حمَلَ الناسَ على تركِ الأخذِ بحديث: «المَاءُ مِنَ المَاءِ»؛ لمَّا اختلفوا فيه» (1) (2) (3) .
قال الشيخ رحمه الله: وقد رجَعَ المخالفون فيه مِنَ الصحابةِ عن ذلك، حين سمعوا حديثَيْ (4) عائشة؛ فلا يلتفتُ إلى شيء مِنَ الخلافِ المتقدِّمِ ولا المتأخِّرِ في هذه المسألة؛ للَّذِي (5) الذي تقرَّر فيها من الأحاديثِ الآتيةِ، والعملِ الصحيح.
وقوله: «إِنَّمَا المَاءُ مِنَ المَاءِ»، حمله ابن عبَّاس رضي الله عنهما على أنَّ ذلك في الاحتلامِ فتأوَّله (6) (7) ، وذهب غيره من الصحابةِ وغيرهم: إلى (8) أنَّ ذلك منسوخٌ كما تقدَّم وكما يأتي بَعْدُ (9) . =(1/600)=@
269- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (10) ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ ? قَالَ: «إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ، ثُمَّ جَهَدَهَا، فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ، وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ».
وقوله: «إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ»، قال الهَرَوِيُّ (11) : بين رِجْلَيْهَا وشُفْرَيْهَا، وقال الخَطَّابي (12) : بين إِسْكَتَيْهَا وفَخِذيها، قال أبو الفضلِ عياضٌ: «والأولى أنَّ الشُّعَب: نواحي الفَرْجِ الأربعُ، والشُّعَبُ: النواحي، وهذا مثلُ قوله: «إِذَا الْتَقَى الخِتَانَانِ، وَتَوَارَتِ الحَشَفَةُ» (13) ؛ لأنها لا تتوارَى حتى تَغِيبَ (14) بين الشُّعَب» (15) . &(1/449)&$
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (1/85 رقم947) كتاب الطهارة، باب من قال: إذا التقى الختانان، فقد وجب الغسل، وعنه عبد الله بن أحمد في "زوائده" (5/115).
وأخرجه أحمد (5/115)، والطحاوي (1/58-59)، و"مشكل الآثار" (10/122-123 رقم3965)، والطبراني في "الكبير" (5/43 رقم4537).
جميعهم من طريق محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حَبِيب، عن مَعْمَرِ بنِ أبي حَبِيبَةَ، عن عُبَيْدِ بنِ رفاعة بن رافع، عن أبيه، قال: إنِّي لجالسٌ عن يمينِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ ? إذ جاء رجلٌ فقال: يا أميرَ المؤمنين، هذا زيدُ بنُ ثابتٍ يفتي الناسَ في الغسل من الجنابة برأيه، فقال عمر: اعجَلْ عَلَيَّ به، فجاء زيدٌ، فقال عمر: بَلَغْ من أمرك أنَّك تفتي الناسَ بالغُسْلِ من الجنابة في مسجدِ رسولِ الله ? برأيك، فقال له زيد: أَمَا والله يا أميرَ المؤمنين، ما أفتيتُ برأيي، ولكنِّي سمعتُ من أعمامي شيئًا، فقلتُ به، فقال: مِنْ أي أعمامك؟ فقال: من أُبيِّ بن كعب، وأبي أيوب، ورفاعة بن رافع، فالتفتَ إليَّ عمر، فقال: ما يقولُ هذا الفتى؟ قلتُ: إنْ كنا لنفعله على عهد رسول الله ? ثم لا نغتسل، قال: أفسألتم النبيَّ ? عن ذلك؟ فقلت: لا، فقال: عليَّ بالناس، فأصفق الناس: أنَّ الماء لا يكونُ إلا من الماء، إلا ما كان من عليٍّ ومعاذٍ عليهما السلام، فقالا: إذا جاوز الخِتَانُ الخِتَانَ، فقد وجَبَ الغُسْلُ، فقال أمير المؤمنين: لا أجدُ أحدًا أعلمَ بهذا من أمر رسول الله ? من أزواجه، فأرسَلَ إلى حفصة، فقالت: لا عِلْمَ لي، فأرسلَ إلى عائشة، فقالت: إذا جاوز الخِتَانُ الخِتَانَ، فقد وجب الغسل، فتحطَّم عمر، وقال: لئن أُخْبِرْتُ بأحدٍ يفعله، ثم لا يغتسلُ، لَأُنْهِكَنَّهُ عقوبةً.
وفي سنده: محمد بن إسحاق، وهو مدلِّس وقد عنعن، لكنْ تابعه الليث بن سعد، كما عند الطبراني في "الكبير" (5/42-43 رقم4536)، لكنه من رواية عبدالله بن صالح، عنه، وهو صدوق كثير الغلط.
وتابعه أيضًا ابن لهيعة، كما عند الطحاوي (1/58).
وله طريق آخر عند الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/59)، قال: حدَّثنا روح بن الفرج، حدثنا يحيى بن عبدالله بن بكير، حدثني الليث، حدثني معمر بن أبي حبيبة، عن عبيدالله بن عدي بن الخيار، فذكره بنحوه مختصرًا. وهذا الإسناد رجاله كلهم ثقات.
تنبيه: معمر بن أبي حبيبة هكذا في النسخ التي أحلنا عليها، وهو كذلك في "الجرح والتعديل" (8/254). لكنْ قال ابن دقيق العيد في "الإمام" (3/24-25): «معمر بن أبي حُيَيَّة بضم الحاء، وبعدها ياءان آخر الحروف مفتوحتان إحداهما مشددة، قال الأمير: ومن قال فيه: ابن أبي حبيبة فقد غلط».
(2) انظر كلام القاضي في "الإكمال" (2/196)، كتاب الحيض، باب إنما الماء من الماء.
(3) تعقَّب الحافظُ في "الفتح"(1/399) كلامَ عياضٍ هذا، فقال: «وهو معترضٌ أيضًا؛ فقد ثبَتَ ذلك عن أبي سَلَمة بن عبدالرحمن، وهو في "سنن أبي داود" بإسناد صحيح، وعن هشام بن عروة عند عبد الرزَّاق بإسناد صحيح، وقال عبد الرزَّاق أيضًا، عن ابن جُرَيْج، عن عطاء؛ أنه قال: لا تَطِيبُ نفسي إذا لم أُنْزِلْ حتى أغتسلَ من أجلِ اختلافِ الناس، لأخذنا بالعروة الوثقى، وقال الشافعي في "اختلاف الحديث": حديث "الماء من الماء" ثابتٌ لكنَّه منسوخ... إلى أن قال: فخالفنا بعض أهل ناحيتنا- يعني من الحجازيين - فقالوا: لا يجبُ الغسلُ حتى ينزل.اهـ. فعرف بهذا أن الخلافَ كان مشهورًا بين التابعين ومَنْ بعدهم، لكنَّ الجمهور على إيجابِ الغسلِ، وهو الصواب، والله أعلم».
(4) في (غ): «حديث».
(5) في (ح): «الذي».
(6) في (غ): «يناوله».
(7) أخرجه الترمذي (1/186 رقم112) كتاب الطهارة، باب ما جاء: أن الماء من الماء، والطحاوي (1/56)، والطبراني في "الكبير" (11/242 رقم11812). جميعهم: من طريق شَرِيك، عن أبي الجَحَّاف، عن عِكْرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنه - : قوله: «الماء من الماء» إنما ذلك في الاحتلام، إذا رأى أنه يجامع، ثم لم ينزل، فلا غسل عليه.
قال الترمذي: سمعت الجارود يقول: سمعتُ وكيعًا يقول: لم نجدْ هذا الحديثَ إلا عند شريك.اهـ.
وقال الحافظ في "التلخيص" (1/233): وفي إسناده لين؛ لأنَّه من رواية شريك، عن أبي الجحاف.اهـ.
وأبو الجحاف: هو دواد بن أبي عوف، قال في "التقريب": صدوقٌ شيعيٌّ ربما أخطأ.
وشريك: هو ابن عبد الله النخعي: صدوق يخطئ كثيرًا، وتغيَّر حفظه منذ ولي القضاء، كما في "التقريب".
(8) قوله: «إلى» سقط من (ح).
(9) تعليق فقهي ونيس.
(10) أخرجه البخاري (1/295 رقم 291) في الغسل، باب إذا التقى الختانان، ومسلم (1/271رقم 348) في الحيض، باب نسخ الماء من الماء، ووجوب الغسل بالتقاء الختانين.
(11) تعليق فقهي ونيس.
(12) تعليق فقهي ونيس.
(13) أخرجه عبدالله بن وهب في "مسنده" كما في "نصب الراية" (1/84)، عن الحارث بن نبهان، عن محمد بن عبيدالله، عن عمرو بن شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جده: أنَّ النبي ? سُئِلَ: ما يوجبُ الغسل؟ فقال: «إذا التقى الختانان، وغابت الحشفة، وجب الغسل، أنزل أو لم يُنْزِلْ».
قال عبدالحق الإشبيلي في "الأحكام الوسطى"(1/191): وإسناده ضعيف جدًّا.اهـ.
قال الزيلعي: وكأنه يشير إلى الحارث بن نبهان.اهـ.
والحارث بن نبهان: متروك، كما في "التقريب".
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/86 رقم956) كتاب الطهارة، باب من قال: إذا التقى الختانان، فقد وجب الغسل.
وعنه ابن ماجه (1/200 رقم611) كتاب الطهارة، باب ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان، وأخرجه أحمد (2/178)، كلاهما: من طريق أبي معاوية، عن حجاج، به.
قال البوصيري في "الزوائد" (1/225): هذا إسناد ضعيف؛ لضعف حجاج، وهو ابن أرطأة، وتدليسِهِ، وقد رواه بالعنعنة.اهـ.
وقد تُوبِعَ حَجَّاج؛ فأخرجه الطبراني في"الأوسط"(4/380 رقم4489)، عن عبدالله ابن عمر الصَّفَّار، عن يحيى بن غيلان، عن عبيد الله بن بزيع، عن أبي حنيفة، به.
وسنده ضعيف، ويحيى بن غيلان وعبدالله بن بزيع: ضعيفان، ويُغني عن هذا الحديث، ما روته عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: «إذا جاوَزَ الختانُ الختانَ...».
وانظر طرقه في "الإرواء" (رقم 80).
(14) في (غ): «يغيب».
(15) انظر "الإكمال" (2/197)، كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء، ووجوب الغسل بالتقاء الختانين.(1/449)
وقوله: «ثُمَّ جَهَدَهَا»، قال الخطابيُّ (1) : حَفَزَهَا، وقال: الجَهْدُ: من أسماء النكاح (2) .
قال الشيخ رحمه الله: وعلى هذا يكون معنى (3) «جَهَدَهَا»: نَكَحها (4) ، قال بعضهم: بلَغَ مشقَّتها؛ يقال: جَهَدتُّهُ وأجهدتُّهُ: بَلَغْتُ مشقَّته، وقال أبو الفضلِ عياضٌ: «الأولى =(1/601)=@ أن يكونَ «جَهَدَ»، أي: بَلَغَ جَهْدَهُ فيها، وهي إشارةٌ إلى الفعل» (5) .
270- وَعَنْ أَبِي مُوسَى (6) ، قَالَ: اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ رَهْطٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، فَقَالَ الأَنْصَارُ: لَا يَجِبُ الْغُسْلُ إِلَّا مِنَ الدَّفْقِ أَوْ مِنَ الْمَاءِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: بَلْ إِذَا خَالَطَ، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ، قَالَ: قَالَ أَبُو مُوسَى: فَأَنَا أَشْفِيكُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَقُمْتُ فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَأُذِنَ لِي، فَقُلْتُ: يَا أُمَّاهْ ! - أَوْ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ - إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكِ عَنْ شَيْءٍ، وَإِنِّي أَسْتَحْيِيكِ؟ فَقَالَتْ: لَا تَسْتَحْيِي أَنْ تَسْأَلَنِي عَمَّا كُنْتَ سَائِلاً عَنْهُ أُمَّكَ الَّتِي وَلَدَتْكَ؛ فَإِنَّمَا أَنَا أُمُّكَ، قُلْتُ: مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ؟ قَالَتْ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ! قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ، وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ».
271- وَعَنْ عَائِشَةَ (7) ؛ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ? عَنِ الرَّجُلِ يُجَامِعُ أَهْلَهُ، ثُمَّ يُكْسِلُ، هَلْ عَلَيْهِمَا الْغُسْلُ ؟ وَعَائِشَةُ جَالِسَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: « إِنِّي لَأَفْعَلُ ذَلِكَ، أَنَا وَهَذِهِ، ثُمَّ نَغْتَسِلُ».
وقوله (8) : «مِنَ الدَّفْقِ أَوْ مِنَ المَاءِ»، هو على الشكِّ من أحد الرواة، والدَّفْقُ: الصَّبُّ، وهو الاندفاقُ والتدفُّق (9) . وماءٌ دافقٌ، أي: مدفوق، كَسِرٍّ كاتمٍ، أي: مكتوم.
ويقال: دُفِقَ الماءُ، مبنيًّا على ما لم يُسَمَّ فاعله، ولا يقالُ: مبنيًّا للفاعل.
قال الشيخ رحمه الله: وهذه الأحاديثُ، أعني: حديث (10) أبي هريرة، وحديثي عائشة رضي الله عنهما لا يبقى معها متمسَّكٌ للأعمشِ وداودَ ... ، الله أعلم. =(1/602)=@ &(1/450)&$
__________
(1) تعليق فقهي ونيس.
(2) انظر: "الإكمال" (2/198)، كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء، ووجوب الغسل بالتقاء الختانين.
(3) قوله: «يكون معنى» في (أ): «ينبغي أن يكون».
(4) في (ب) و(ح): «وعلى هذا يكون معنى جهدها نكحها».
(5) انظر: "الإكمال" (2/198)، كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء، ووجوب الغسل بالتقاء الختانين. والعبارة فيه هكذا: «والأولى هنا أن يكون «جَهَدَا» أي بلغ جَهْدَهُ في مله فيها، والجَهْدُ: الطاقة والاجتهاد، وهي إشارةٌ إلى الحركة وتمكُّن صورة العمل، وهو نحو من قول من قال: حفزها، أيك كدَّها بحركته، وإلا فأيُّ مشقة تبلغ بها في ذلك؟!». اهـ.
(6) أخرجه مسلم (1/271رقم 349) في الحيض، باب نسخ الماء من الماء، ووجوب الغسل بالتقاء الخِتَانَيْنِ.
(7) أخرجه مسلم (1/272رقم 350) في الحيض، باب نسخ الماء من الماء، ووجوب الغسل بالتقاء الخِتَانَيْنِ.
(8) في (غ): «قوله»، بلا واو.
(9) في (غ): «والتدفيق».
(10) في (أ): «بحديث».(1/450)
( 32 ) بَابُ الْأَمْرِ بِالوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ وَنَسْخِهِ
272- عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ (1) ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ? يَقُولُ: «الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ».
273- وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ? (2) ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «تَوَضَّؤُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ».
274- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (3) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ، ثُمَّ صَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
275- وَعَنْهُ (4) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? جَمَعَ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَأُتِيَ بِهَدِيَّةٍ، خُبْزٍ وَلَحْمٍ؛ فَأَكَلَ ثَلَاثَ لُقَمٍ، ثُمَّ صَلَّى بِالنَّاسِ، وَمَا مَسَّ مَاءً.
وَمِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ (5) مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ
قوله: «تَوَضَّؤُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ»، هذا الوضوءُ هنا هو (6) الوضوءُ الشرعيُّ (7) العرفيُّ عند جمهورِ العلماء، وكان الحكمُ كذلك (8) ثم نُسِخَ (9) ، كما قال جابرُ بنُ عبد الله رضي الله عنهما: «كان آخِرُ الأمرَيْنِ من رسولِ الله ? تَرْكَ الوضوءِ مما مسَّت النارُ» (10) . وعلى هذا تدلُّ (11) الأحاديثُ الآتيةُ بعدُ، وعليه استقرَّ عملُ الخلفاءِ، ومعظمِ الصحابة، وجمهورِ مَنْ بعدهم.
وذهبَ أهلُ الظاهر، والحسنُ البصريُّ، والزهريُّ: إلى العمل بقوله: «تَوَضَّؤُوا (12) مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ»، وأن ذلك ليس بمنسوخ.
وذهب أحمد، وإسحاق، وأبو ثور إلى إيجابِ الوضوءِ مِنْ أكلِ لحمِ (13) الجزورِ لا غير.
وذهبتْ طائفةٌ: إلى أنَّ ذلك الوضوءَ إنما هو الوضوءُ اللغويُّ، وهو غَسْلُ اليدِ والفمِ من الدَّسَمِ والزَّفَرِ؛ كما فعلَ النبيُّ ? حيثُ شَرِبَ اللبن، ثم تَمَضْمَضَ (14) ، وقال: «إِنَّ لَهُ دَسَمًا» (15) ، وأن الأمرَ بذلك على جهةِ الاستحباب؛ وممن ذهب إلى هذا ابن قُتَيْبَةَ، ذكره في "غريبه" (16) .
والصحيح الأول (17) ، فليعتمدْ عليه (18) (19) . =(1/603)=@
276- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ (20) ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ? يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَدُعِيَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَقَامَ وَطَرَحَ السِّكِّينَ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
وقوله: «يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ»، أي: يقطع بالسِّكِّين.
277- وَعَنِ العَبَّاسِ (21) ، ومَيْمُونَةَ: نَحوَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا.
ملحوظة:
الحديث 277 السابق كان نهاية الصفحة الورقية التي نقابل عليها، وهو كونه في الشرح وليس المتن.
278- وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ (22) ، قَالَ: أَشْهَدُ لَكُنْتُ أَشْوِي لِرَسُولِ اللهِ ? بَطْنَ الشَّاةِ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
وقوله في الأصل (23) : &(1/451)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/272رقم 351) في الحيض، باب الوضوء مما مسَّت النار.
(2) أخرجه مسلم (1/273رقم 353) الكتاب والباب السابقَيْن.
(3) أخرجه البخاري (1/310 رقم 207) في الوضوء، باب من لم يتوضَّأ من لحم الشاة والسويق، ومسلم (1/273رقم 354/91) في الحيض، باب نسخ الوضوء مما مسَّت النار.
(4) أخرجه مسلم (1/275رقم 359) في الحيض، باب نسخ الوضوء مما مسَّت النار.
(5) في (غ): «ومن باب الوضوء».
(6) قوله: «هو» سقط من (ح).
(7) قوله: «الوضوء الشرعي»: في (غ): «المقصود الشرعيُّ».
(8) في (أ): «ذلك».
(9) تعليق فقهي ونيس.
(10) أخرجه أبو داود (1/133 رقم192) كتاب الطهارة، باب في ترك الوضوء مما مسَّت النار، والنسائي (1/108) كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء مما غيَّرت النار، وابن الجارود (رقم24)، وابن خزيمة (رقم43)، وعنه ابن حبان (3/416-417 رقم1134/الإحسان).
وأخرجه الطحاوي (1/66-67)، وابن حزم في "المحلَّى" (1/243)، والبيهقي (1/155-156).
جميعهم: من طريق شُعَيْب بن أبي حَمْزة، عن محمد بن المنكدر، قال: سمعتُ جابر بن عبدالله يقول: كان آخِرُ الأمرَيْنِ من رسول الله ? تركَ الوضوء مما مسَّت النار.
قال الترمذي في "سننه" (1/119-120): «والعملُ على هذا عند أكثر أهلِ العلم من أصحاب النبيِّ ? والتابعين ومن بعدهم؛ مثل: سفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق: رأوا تَرْكَ الوضوءِ مما مسَّت النار، وهذا آخرُ الأمرَيْنِ من رسول الله ?».
وقد علَّل بعض العلماء هذا الحديث بعدَّة علل:
الأولى: قال الحافظ في "التلخيص" (1/205): «قال الشافعي في "سنن حرملة": لم يسمع ابن المنكدر هذا الحديثَ من جابر إنما سمعه من عبد الله بن محمد بن عَقِيل، وقال البخاري في "الأوسط": ثنا علي بن المديني، قال: قلت لسفيان: إن أبا علقمة الفروي روى عن ابن المنكدر، عن جابر؛ أن النبي ? أكل لحمًا ولم يتوضَّأ، فقال: أحسبني سمعت ابن المنكدر قال: أخبرني من سمع جابرًا».اهـ.
الثانية: قال ابن أبي حاتم في "العلل" (1/64 رقم168): «سألت أبي عن حديث رواه علي بن عياش، عن شُعَيْب بن أبي حَمْزة، عن محمَّد بن المنكدر، عن جابر، قال: كان آخر الأمرين... الحديث؟ فسمعتُ أبي يقول: هذا حديثٌ مضطربُ المتن، إنما هو: أنَّ النبيَّ ? أكل كتفًا ولم يتوضَّأ.. كذا رواه الثقات عن محمد بن المنكدر، عن جابر، ويحتملُ أن يكونَ شعيب حدَّث به من حفظه، فوهم فيه».اهـ.
الثالثة: قال أبو داود وابن حبَّان نحو ما قاله أبو حاتم، وزادا: أن الحديث مختصرٌ من حديث آخر لجابر.
قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي (1/117، 122): «والذي دفعهم إلى هذه الشبهة في التعليل: أن سفيان بن عيينة، شك في سماع ابن المنكدر هذا الحديث من جابر، كما روى أحمد (3/307) عن سفيان: سمعت ابن المنكدر غير مرة يقول: عن جابر.. وكأني سمعته مرة يقول: أخبرني من سمع جابرًا.. فظننته سمعه من ابن عَقِيل، وابن المنكدر، وعبدالله بن محمد بن عقيل، عن جابر؛ أن النبيَّ ? أكل لحمًا، ثم صلَّى ولم يتوضَّأ، فهذا الإسناد يُفْهَمُ منه أن سفيانًا سمعه من ابن المنكدر، وابن عَقِيل كليهما عن جابر، ثم شك في أن ابن المنكدر سمعه من جابر، ولكن غيره لم يشك، واليقين مقدَّم على الشك».اهـ.
الرابعة: أما قول أبي حاتم: فردَّه الشيخ أحمد شاكر بقوله: «شعيب بن أبي حمزة الذي رواه عن ابن المنكدر ثقةٌ متفقٌ عليه، حافظ، أثنى عليه الأئمَّة، كما قال الخليلي. وعلي بن عياش الذي رواه عن شعيب، ثقة حجة، كما قال الدارقطني.. ونسبة الوهمِ إلى هذَيْن الراويَيْنِ، أو إلى أحدهما، يحتاج إلى دليلٍ صريح، أقوى من روايتهما، وهيهات أن يوجد».اهـ.
وأما دعوى الاختصار، فقد قال ابن التركماني في "الجوهر النقي" (1/156): «دعوى الاختصار في غاية البعد».اهـ.
وقال ابن حزم (1/243): «القطع بأن ذلك الحديث مختصر من هذا قول بالظن، والظن أكذب الحديث، بل هما حديثان كما وردا».اهـ.
(11) في (ح): «تأويل»، وفي (غ): «ترك».
(12) في (غ): «توضَّأ».
(13) في (غ): «لحوم».
(14) في غير (ب): «مضمض».
(15) يأتي في الباب بعد هذا.
(16) «غريب الحديث» لابن قتيبة (1/155 – 157)، وقد قال بقول ابن قتيبة: الزمخشريُّ في «الفائق» (1/179)، وابن الأثير في «النهاية» (1/228).
(17) في (أ): «والأول الصحيح».
(18) تعليق فقهي ونيس.
(19) قوله: «عليه» سقط من (ب). وعلى ذلك فهنا أربعة أقوال في المراد بالوضوء في قوله: «توضؤوا مما مست النار»؛ الأول: أن المراد الوضوء الشرعي، وهو ضوء الصلاة، لكنه منسوخ، وهذا قول الجمهور، وعليه العلم، الثاني: أن المراد الوضوء الشرعي، وهو غير منسوخ، الثالث: أن المراد الوضوء الشرعي، وهو غير منسوخ، لكنه مختصٌّ بالوضوء من أكل لحم الجزور لا غير، الرابع: أن المراد الوضوء اللغوي، وهو غَسْلُ اليدين والفم، دون الوضوء الشرعي.
(20) أخرجه البخاري (1/311 رقم 208) في الوضوء، باب من لم يتوضَّأ من لحم الشاة والسويق، ومسلم (1/273رقم 355) في الحيض، باب نسخ الوضوء مما مسَّت النار.
(21) أخرجه البخاري، حديث ابن عباس سبق في (99/273)، وحديث ميمونة أخرجه البخاري (1/312 رقم 210) في الوضوء، باب من مضمض من السويق ولم يتوضأ، ومسلم (1/274رقم 356) في الحيض، باب نسخ الوضوء مما مست النار.
(22) أخرجه مسلم (1/274رقم 357) في الحيض، باب نسخ الوضوء مما مسَّت النار.
(23) يعني: في "صحيح مسلم" إذْ لم يذكر القرطبي هذه اللفظة في "تلخيصه".(1/451)
«أَثْوَارُ أَقِطٍ»، قال الهروي: «الأثوارُ: جمع ثَوْر، وهي القطعةُ من الأَقِطِ» (1) ، قال الشيخ رحمه الله: والأقطُ: طعامٌ يصنع من اللبن.
وفيه: دليلٌ على جوازِ أكلِ اللحمِ بالسِّكِّين =(1/604)=@ عند الحاجة إلى ذلك؛ مِنْ شدة اللحم، أو كِبَرِ العُضْوِ والبَضْعة، قال عياض: «وتكره (2) المداومةُ على استعمالِ ذلك؛ لأنه مِنْ سُنَّةِ الأعاجم» (3) .
( 33 ) بَابُ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ، والْمَضْمَضَةِ مِنَ اللَّبَنِ
279- عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ (4) ؛ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ?: أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ ؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ، فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ، فَلا تَتَوَضَّأْ»، قَالَ: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ؟ قَالَ: «نَعَمْ، فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ»، قَالَ: أَأُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: أُصَلِّي فِي مَبَارِكِ الإِبِلِ ؟ قَالَ: «لا».
وَمِنْ بَابِ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ
هذا الوضوءُ المأمورُ به من لحومِ الإبلِ، المباحُ مِنْ لحوم الغنم، هو اللغويُّ؛ &(1/452)&$
__________
(1) "الغريبين" للهروي (1/302)، وانظر: "غريب الحديث" لأبيع عبيد (1/276)، و"الفائق" (1/179)، و"النهاية" (1/228)، و"اللسان" (4/111).
قال الزمخشري: «ثَوْر أقط، هو القطعة منه؛ لأن الشيء إذا قطع عن الشيء، ثار عنه وزال، والأقط: مَخِيضٌ يطبخ ثم يترك حتى يمصل».
(2) في (أ) و(غ): «ويكره».
(3) "الإكمال" (2/203)، كتاب الحيض، باب نسخ الوضوء ممَّا مست النار.
(4) أخرجه مسلم (1/275رقم 360) في الحيض، باب الوضوء من لحوم الإبل.(1/452)
ولذلك (1) فرَّق بينهما؛ لما في لحومِ الإبلِ من الزُّفُورة والزَّهَم،، وعلى تقديرِ كونه وضوءًا شرعيًّا، فهو (2) منسوخٌ بما تقدَّم، وقد ذكرنا (3) مَنْ تمسَّك بهذا الحديث.
وإباحةُ الصلاةِ في مرابضِ الغنمِ: دليلٌ لمالك على طهارةِ فَضْلةِ ما يؤكَلُ لحمه؛ لأنَّ مَرَابضها: مواضعُ ربوضَهَا وإقامتها، ولا تخلو عن أبوالها وأرواثها (توثيق فقهي مع تعليق مناسب).
وأمَّا نهيُهُ عن =(1/605)=@ الصلاةِ في معاطنِ الإبلِ: فليس لنجاسةِ فَضَلاتها (تعليق فقهي ونيس)، بل لأمرٍ آخر؛ إما لِنَتْنِ معاطنها، أو لأنَّها لا تخلو غالبًا عن نجاسةِ مَنْ يستترُ (4) بها عند قضاءِ الحاجة، أو لئلا (5) يتعرَّض لِنِفَارِهَا في صلاته، أو لِمَا جاء أنَّها من الشياطين (6) ، وهذه كلُّها ممَّا ينبغي للمصلِّي (7) أن يجتنبها (8) .
ومع هذه الاحتمالاتِ لا يصلُحُ هذا الحديثُ للاستدلالِ به على نجاسةِ فضلاتها، وقد أباح النبيُّ ? لِلْعُرَنِيِّينَ شربَ ألبانِ الإبل وأبوالِها (9) ، ولا يلتفتُ إلى قولِ (10) من قال: إنَّ ذلك لموضعِ (11) الضرورة؛ لأنَّا لا نسلِّمها (12) ؛ إذِ الأدويةُ في ذلك الْمَرَضِ الذى أصابهم كثيرةٌ، ولو كان ذلك (13) للضرورةِ، لاستكْشَفَ عن حالِ الضرورة، ولسأَلَ عن أدويةٍ أُخَرَ حتى يتحقَّق عدمها، ولو كانتْ نجسةً، لكان التداوي بها ممنوعًا أيضًا بالأصالة، كالخَمْر؛ أَلَا تَرَاهُ لما (14) سُئِلَ ? عن التداوي بالخمر (15) فقال: «إِنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ، وَلَكنَّهَا دَاءٌ» (16) ، ولم يلتفتْ للحالة (17) النادرةِ التي تُبَاحُ فيه؛ كإزالة الغُصَصِ بِجُرْعَةٍ منها عند عدمِ مائعٍ آخر.
وحاصلُهُ: أن إخراجَ الأمورِ عن أصولها، وإلحاقَهَا بالنوادرِ (18) لا يلتفتُ إليه؛ لأنه خلافُ الأصل.
280- وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (19) ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ? شَرِبَ لَبَنًا، فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَمَضْمَضَ، وَقَالَ: «إِنَّ لَهُ دَسَمًا».
وقوله: «إنَّ لَهُ دَسَمًا»، قيَّدناه بفتح السين وسكونها، والفتحُ أَوْلَى به؛ لأنَّه الاسمُ مِثْلُ الحَسَبِ والنَّفَضِ (20) ، وهو عبارةٌ عن زَفَرِ الدُّهْن؛ يقال منه: دَسِمَ الشيءُ بالكسر، يَدْسَمُ بالفتح، وتدسيمُ (21) الشيء: جعلُ الدَّسَمِ عليه، &(1/453)&$
__________
(1) في (غ): «وذلك».
(2) في (غ): «فهذا».
(3) في (غ): «ذكره».
(4) في (ب): «يتستر»، وفي (ح): «تستر».
(5) في (ب): «ولئلا».
(6) أخرجه ابن أبي شيبة (1/337 رقم3877) كتاب الصلاة، باب الصلاة في أعطان الإبل، وعنه ابن حبان (4/601 رقم1702/الإحسان).
وأخرجه عبدالرزاق (1/409 رقم1602)، والشافعي (1/184 رقم199/شفاء العيّ)، وعنه البيهقيُّ (2/449)، والبغوي (504).
وأخرجه أحمد (4/85و86) و(5/54-56)، وابن ماجه (1/253 رقم769) كتاب المساجد، باب الصلاة في أعطان الإبلِ ومَرَاحِ الغنم، والنسائي (2/56) كتاب المساجد، باب نهي النبي ? عن الصلاة في أعطان الإبل، والطحاوي (1/384)، والبيهقي (2/449)، جميعهم: مِنْ طريق الحسن، عن عبدالله بن مغفَّل، قال: قال رسولُ الله ?: «صَلُّوا في مَرَابِضِ الغَنَمِ، ولا تُصَلُّوا في أعطانِ الإبلِ؛ فإنَّها خُلِقَتْ من الشياطين».
ورجاله ثقات، ولكنْ في سنده: الحسن البصري، وهو مدلِّس، وقد عنعن.
وقد قال الإمام أحمد: إنه سمع من عبدالله بن مغفَّل، لكنَّه لم يصرِّح هنا بالسماع.
(7) في (ح): «المصلي».
(8) في (ب): «يتجنبها».
(9) يأتي في القسامة والقصاص والديات، باب القصاص في العين وحُكْمِ المرتدِّ.
(10) قوله: «إلى قول» في (غ): «لقول».
(11) في (ب): «لوضع».
(12) في (غ): «لا نسلِّم بها».
(13) في (ح): «كذلك».
(14) في (ح): «أنه».
(15) في (غ): «بخمر».
(16) يأتي في كتاب الأشربة، باب النهي عن اتخاذ الخمر خلاًّ....
(17) في (ح): «إلى الحاجة».
(18) في (ب): «بالشواذ»، ولكنْ أشير إليها في الحاشية بأن في نسخة: "النوادر".
(19) أخرجه البخاري (1/313 رقم 211) في الوضوء، باب هل يُمضمض من اللبن، ومسلم (1/274رقم 358/95) في الحيض، باب نسخ الوضوء مما مست النار.
(20) النَّفَض: ما يتساقطُ من الورق والثمر. انظر "اللسان" (7/240).
(21) في (ح): «ويَدسُم».(1/453)
ويقال أيضًا: دَسَمَ المطرُ الأرضَ: بَلَّهَا ولم يبالغْ.
قال عياض (1) : «وأما المضمضة من اللبن: فَسُنَّةٌ للقائمِ إلى الصلاة، ومستَحَبٌّ لغيره، وكذلك مِنْ سائر =(1/606)=@ الطعام، وهو مِنْ ناحية (2) السِّوَاك، ولا سيِّما فيما له دَسَمٌ أو سُهُوكَةٌ (3) ، أو تعلَّق بفيه طعمٌ يشغلُ (4) المصلِّي.
وقد اختلَفَ العلماءُ في غَسْل اليد قبل الطعامِ وبعده، ومذهبُ مالك (5) : تركُ ذلك، إلا أن يكونَ في اليَدِ قَذَرٌ، فإنْ كان للطعامِ رائحةٌ كالسمك، غُسِلَتِ اليدُ بَعْدُ (6) ، ولا تغسلُ (7) قبلُ؛ لما ذُكِرَ» (8) .
قال الشيخ رحمه الله: وقد روى أبو داود؛ أنَّ النبيَّ ? شَرِبَ لبنًا ولم يتمضمض، ولم يتوضَّأ (9) ، وصلَّى (10) ؛ وهذا يدلُّ على أنه ليس من السُّنَنِ المؤكَّدة الراتبة (11) ، والله أعلم (12) .
( 34 ) بَابٌ فِي الَّذِي يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ
281- عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ (13) ، عَنْ عَمِّهِ: شُكِيَ إِلَى النَّبِيِّ ?: الرَّجُلُ، يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: «لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا».
وَمِنء بَابِ الَّذِي يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ حَدَثٌ
قوله (14) : «إِنَّه يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: لَا (15) يَنْصَرِفُ»، بظاهرِ هذا قال الحسنُ البصريُّ، قال: إنْ كان في الصلاةِ لم يَفْسُدْ (16) ، وإن كان في غيرِهَا أفسَدَهَا (17) ، =(1/607)=@ &(1/454)&$
__________
(1) تعليق فقهي ونيس.
(2) في (ح) رسمت هكذا: «ماحية».
(3) في (ح): «نهوكة».
(4) في (غ): «تشغل».
(5) تعليق فقهي ونيس.
(6) في (غ): «بعده».
(7) في (غ): «ولا يغسل».
(8) انظر كلام القاضي عياض في "الإكمال" (باب الوضوء مما مست النار).
(9) في (غ): «ولم يتوضأ يتمضمض، ولم يتوضأ»، وكتب فوق «يتوضأ» الأولى (صح).
(10) أخرجه أبو داود (1/135 رقم197) كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك، عن عثمان بن أبي شيبة، عن زيد بن الحُبَاب، عن مطيع بن راشد، عن توبة العنبري؛ أنه سمع أنس بن مالك يقولُ: إنَّ رسول الله? شَرِبَ لبنًا، فلم يمضمضْ، ولم يتوضَّأ، وصلَّى.
ومن طريقه البيهقي (1/160)، وفي سنده: مطيع بن راشد، لم يرو عنه إلا زيد ابن الحُبَاب، وقال: دلَّني شعبة على هذا الشيخ. قال عنه الذهبي: لا يعرف.
وفي "التقريب" مقبول. وحسَّن إسناده الحافظ في "الفتح" (1/313).
(11) تعليق فقهي ونيس.
(12) قوله: «والله أعلم» سقط من (أ) و(ح)، و(غ).
(13) أخرجه البخاري (1/237 رقم 137) في الوضوء، باب لا يتوضَّأ من الشك حتى يستيقن، ومسلم (1/276رقم361) في الحيض، باب الدليل على أن من تيقَّن الطهارةَ، ثم شَكَّ في الحدثِ، فله أن يصلِّي بطهارته تلك.
(14) في (ح): «وقوله».
(15) في (ح): «فلا».
(16) في (أ) و(ح): «لم يفسد».
(17) في (ب) و(ح) و(غ) : «أفسد».(1/454)
وقد رُوِيَ مثله عن مالك.
وذهَبَ أكثَرُ أهل العلم: إلى أنَّ الشكَّ غيرُ مؤثِّر في الطهارة، وأنه باقٍ على طهارته ما لم يتيقَّن حَدَثًا؛ وذهب إليه الشافعيُّ، وأبو حنيفةَ، وأحمدُ بنُ حَنْبَل، وهي روايةُ ابنِ وَهْب والأسلميِّ عن مالك، إلا أن في رواية ابن وَهْب أنه استَحَبَّ منه الوضوءَ، وذهَبَ مالكٌ في المشهور عنه: إلى أنه يُفْسِده.
282- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا، فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ، أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا – فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا».
وسببُ الخلاف: تقابُلُ يقينَيِ الطهارةِ والصلاةِ، وخَصَّ بعضُ أصحابنا (2) هذا الحديثَ بالمستنكح (3) ؛ لأنه قال فيه: «شُكِيَ (4) إِلَيْهِ»، وهذا لا يكونُ إلا ممَّن تكرَّر عليه ذلك (5) كثيرًا.
وقال (6) ابن حَبِيبٍ: هذا الشكُّ المذكور في الحديثين (7) في الرِّيحِ دون غيره من الأحداثِ، والله أعلم (8) . =(1/608)=@
( 35 ) بَابُ مَا جَاءَ فِي جُلُودِ الْمَيتَةِ إِذَا دُبِغَتْ
283- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (9) ، قَالَ: تُصُدِّقَ عَلَى مَوْلَاةٍ لِمَيْمُونَةَ بِشَاةٍ، فَمَاتَتْ، فَمَرَّ بِهَا رَسُولُ اللهِ ?، فَقَالَ: « هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا، فَدَبَغْتُمُوهُ، فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ!»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهَا مَيْتَةٌ! فَقَالَ: «إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا»، وَفِي رِوَايَةٍ: «أَلَا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا، فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ!!».
284- وَعَنْهُ (10) ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ? يَقُولُ: « إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ، فَقَدْ طَهُرَ».
285- وَعَنِ ابْنِ وَعْلَةَ السَّبَئِيِّ (11) ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ، قُلْتُ: إِنَّا نَكُونُ بِالْمَغْرِبِ، وَمَعَنَا الْبَرْبَرُ وَالْمَجُوسُ، نُؤْتَى بِالْكَبْشِ قَدْ ذَبَحُوهُ، وَنَحْنُ لَا نَأْكُلُ ذَبَائِحَهُمْ، وَيَأْتُونَا بِالسِّقَاءِ يَجْعَلُونَ فِيهِ الْوَدَكَ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ سَأَلْنَا رَسُولَ اللهِ ? عَنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ: «دِبَاغُهُ طَهُورُهُ».
وَمِنْ بَابِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَتْ
«الإهابُ»: الجِلْد، ويجمعْ (12) : الأُهُبُ والأَهَبُ (13) ؛ قاله الهرويُّ وغيره (14) .
واختلَفَ الناسُ في جِلْد الميتة:
فقال أحمد بن حنبل: لا ينتفعُ به.
وأجازَ ابنُ شِهَابٍ: &(1/455)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/276رقم362) في الحيض، باب الدليل على أن من تيقَّن الطهارة، ثم شكَّ في الحدث، فله أن يصلي بطهارته تلك.
(2) في (غ): «بعض العلماء».
(3) كأنَّ المرادَ بالمستنكحِ هنا: مَنْ كان به وسواسٌ بحيث يخيَّل إليه كثرةُ خروج الريح منه. انظر "الفتح" (1/238).
(4) في (غ): «شكا».
(5) قوله: «تكرَّر عليه ذلك» في (ح): «يكون ذلك عليه».
(6) في غير (غ): «قال» بدون واو.
(7) في غير (ح): «الحديث».
(8) قوله: «والله أعلم» سقط من (أ) و(ح).
(9) أخرجه البخاري (3/355 رقم1492) في الزكاة، باب الصدقة على موالي أزواج النبي ?، ومسلم (1/276-277 رقم363/100، ورقم 364) في الحيض، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ.
(10) أخرجه مسلم (1/277 رقم366) في الحيض، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ.
(11) أخرجه مسلم(1/278رقم366) في الحيض، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ.
(12) في (ح): «والجمع»، والمثبت من بقية النسخ، وفي «الغريبين» للهروي: «يجمع على».
(13) في (ب): «الأهبة»، وفي (ح): «الإهاب».
(14) انظر: «الغريبين» (1/118).(1/455)
الانتفاع به.
والجمهورُ: على منعِ الانتفاعِ به قبل الدباغ.
ويختلفون (1) في الجِلْدِ الذي يُؤَثِّرُ فيه الدباغُ:
فعند أبي يوسف وداود: يؤثِّر في سائرِ الجلودِ حتى الخنزير.
ومذهَبُنا ومذهبُ أبي حنيفةَ والشافعيِّ: هكذا، إلا أننا وأبا حنيفة نستثني الخنزيرَ، ويزيدُ الشافعيُّ فيستثي الكَلْبَ.
واستثنى الأوزاعيُّ، وأبو ثور: جِلْدَ ما لا يؤكلُ لحمه.
واتفَقَ كلُّ من رأى الدباغَ مؤثِّرًا: أنه يؤثِّر في إثباتِ الطهارةِ الكاملةِ سوَى مالك – في إحدى الروايتَيْن عنه – فإنه منَعَ أنْ يؤثِّر الطهارةَ الكاملةَ، وإنما يؤثِّر (2) في اليابساتِ، وفي الماءِ وحدَهُ من بين سائرِ المائعات، وأبقى (3) الماءَ في خاصَّة نفسه (4) .
وسببُ الخلافِ في هذا الباب هو هل (5) يخصَّص عمومُ القرآنِ بالسنة أم لا؟ اختلَفَ فيه الأصوليُّون. =(1/609)=@
و قوله: «إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا»، خرَجَ على الغالبِ مما ترادُ (6) اللحومُ له؛ وإلَّا فقد حَرُمَ حملها في الصلاة، وبَيْعُها (7) ، واستعمالها، وغيرُ ذلك مما يَحْرُمُ من سائر (8) النجاسات، والله أعلم (9) . &(1/456)&$
__________
(1) في غير (ح): «ومختلفون».
(2) في (ب): «تؤثر».
(3) في (أ): «وأتقى».
(4) في (ح): «في نفسه خاصة».
(5) في (ح) و(غ): «هل هو».
(6) في (غ): «يراد».
(7) قوله: «وبيعها» سقط من (غ).
(8) قوله: «سائر» سقط من(أ) و(ب) و(غ).
(9) قوله: «والله أعلم» من (غ) فقط.(1/456)
( 36 ) بَابُ مَا جَاءَ فِي التَّيَمُّمِ
286- عَنْ عَائِشَةَ (1) ، قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ? فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ، أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ، انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي، فَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ ? عَلَى الْتِمَاسِهِ، وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالُوا: أَلَا تَرَى إِلَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ؟! أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللهِ ? وَبِالنَّاسِ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ!! وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ. فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللهِ ? وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللهِ ? وَالنَّاسَ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ!! قَالَتْ: فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعُنُ بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي، فَلَا يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللهِ ? عَلَى فَخِذِي، فَنَامَ رَسُولُ اللهِ ? حَتَّى أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَتَيَمَّمُوا، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ - وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ -: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ، فَوَجَدْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ.
287- وَعَنْهَا (2) ؛ أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلَادَةً، فَهَلَكَتْ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ ? نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي طَلَبِهَا، فَأَدْرَكَتْهُمُ الصَّلَاةُ فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ، فَلَمَّا أَتَوُا النَّبِيَّ ?، شَكَوْا ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ: جَزَاكِ اللهُ خَيْرًا؛ فَوَاللهِ! مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ قَطُّ إِلَّا جَعَلَ اللهُ لَكِ مِنْهُ مَخْرَجًا، وَجَعَلَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ بَرَكَةً.
وَمِنْ بَابِ مَا جَاءَ فِي التَّيَمُّمِ
«التيمُّم» في اللغة: هو القصدُ إلى الشيءِ، ومنه قولُ الشاعر:
تَيَمَّمَتِ (3) العَيْنَ الَّتِي (4) عِنْدَ ضَارِجٍ ....................... (5) =(1/610)=@
أى: قَصَدَتْ، وهو (6) في الشرع: القصدُ إلى الأرضِ، لفعلِ عبادةٍ مخصوصةٍ، على ما يأتي (7) .
و «البَيْدَاءُ» و«ذاتُ الجيش»: موضعان قريبان مِنَ المدينة.
وقولها: «انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي»، أضافتِ العِقْدَ لنفسها؛ لأنَّه في حَوْزتها، وإلا فقد جاء في الروايةِ الآتية: «أنها استعارَتْهُ مِنْ أَسْمَاءَ.
وكونُ النبيِّ ? أقام بالناسِ على التماسِهِ على حالةِ عدمِ الماء، يدلُّ على حُرْمة الأموالِ الحلالِ (8) ، وأنها لا تضاع.
وفي هذا الحديثِ: أبوابٌ من الفقه مَنْ تأمَّلها، أدركَهَا على قُرْب.
وقوله: «فَأَنْزَلَ اللهُ آَيَة التَّيَمُّمِ»، نسَبَ الآيةَ للذي (9) نَزَلَتْ فيه، وهو التيمُّم، وأمَّا الوضوءُ: فقد كان معروفًا معمولاً (10) به عندهم.
وقولها: «فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ، فَوَجَدْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ»، جاء في «البخارىِّ» في هذا الحديثِ؛ أنَّ رسولَ اللهِ ? وَجَده، وفي روايةٍ؛ أنه بعَثَ رَجُلَيْنِ (11) . وفي أخرى: أنه بَعَثَ أناسًا (12) .
وهذا كلُّه لا تناقُضَ فيه، وهو صحيحُ المعنى؛ وذلك =(1/611)=@ أنه بَعَثَ أُسَيْدَ بن الحُضَيْر في أناسٍ، فطلبوا، فلم يجدوا شيئًا في &(1/457)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (1/431 رقم334) في التيمم، باب منه، ومسلم (1/279 رقم367/108 و109) في الحيض، باب التيمم.
(2) انظر تخريج الحديث السابق.
(3) في (ح): «تيمم».
(4) في (ب): «الذي».
(5) هذا صدر بيت من الكامل، والبيت بتمامه مع بيت قبله:
ولما رَأَتْ أنَّ الشريعة هَمُّهَا ... وأنَّ بَيَاضًا في فَرَائِضها دامِي
تَيَمَّمَتِ العينَ التي عند ضَارِجٍ ... يِفَيءُ عليها الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طَامِي
وهو لامرئ المقيس في ملحق «ديوانه» (ص475)، و«أدب الكاتب» (1/24) و"جمهرة أشعار العرب" (1/32)، و"أساس البلاغة" (3/486)، و"معجم البلدان" (3/450) و"معجم ما استعجم" (3/853)، و"تفسير القرطبي" (5/232)، و"تفسير ابن كثير" (1/505)، و"تفسير الشوكاني" (1/471)، و"الأغاني" (8/207)، و"خزانة الأدب" (1/327)، و"اللسان" (2/314)، و(7/187)، و"التاج" (مادة ضرج – عرمض) والبيت بلا نسبة في "مقاييس اللغة" (4/435)، و"جمهرة اللغة" (ص1102). ويروى: «يفيء عليها الطَّلْح".
وقد رُوِيَ أنَّ قومًا من اليمن وفدوا على النبي ? فقالوا. يا رسول الله، أحيانا اللهث ببيتَيْنِ من شعر امرئِ القيس بن حُجْر، فقال: وكيف ذلك؟ قالوا: أقبلنا نريدُكَ، فضلَلْنَا الطريقَ، فبقينا ثلاثًا بغير ماءٍ، فاستظلَلَْنا بالطَّلْحِ والسَّمُرِ، فأقبل راكبٌ متلثِّمٌ بعمامة، وتمثَّل رجلٌ ببيتَيْنِ، وهما» وذكر البيتين، قال: «فقال الراكب: مضنْ يقولُ هذا الشعر؟ قال: امرؤُ القيس بن حُجْر، قال: والله ما كذَبَ، هذا ضارجٌ عندكم، قال: فَجَثَوْنَا على الركبِ إلى ماء كما ذكَرَ، وعليه العَرْمَضُ يفيءُ عليه الطلح، فشربنا ريَّنا، وحملنا ما يكفينا ويشغلنا الطريقَ، فقال النبي ?: ذاك رجلٌ مذكورٌ في الدنيا شريفٌ فيها، منيٌّ في الآخرةِ خاملٌ فيها، يجيءُ يوم القيامة معه لواءُ الشعراءِ إلى النار». انظر: "معجم البلدان"، و"معجم ما استعجم"، و"اللسان".
وقوله: «ولما رأتْ أنَّ الشريعة همها»، «الشريعة»: موردُ الماءِ الذي تشرع فيه الدوابُّ، و«همُّها»: طلبها، والضميرُ في «رأتْ» للخُمُرِ، يريدُ: أنَّ الحُمُرَ لمَّا أرادَتْ شريعةَ الماءِ، وخافتْ على أنفسها مِنَ الرماة، وأن تَدْمَى فرائصها مِنْ سهامهم، عَدَلَتْ إلى ضَارِجٍ؛ لِعَدَمِ الرماةِ على العَيْنِ التي فيه، وموضعٌ في بلاد بني عبس، و«العَرْمَض»: الطُّحْلُب، و«طامي»: مرتفع.
(6) في (أ): «وهي».
(7) قال الموفَّق ابن قدامة في «المغني» (باب التيمم): «التيمُّم، في اللغة: القَصْد؛ قال الله تعالى: {ولا تتيموا الخبيث منه تنفقون} [البقرة: 267]، وقال امرؤ القيس»، وذكر البيت، قال: «وقول الله تعالى: {فتيمموا صعيدا طيبا} [المائدة: 6]، أي: اقصدوه، ثم نُقِلَ في عُرْفِ الفقهاء: إلى مسح الوجه واليدين بشيءٍ من الصعيد، وهو جائز بالكتاب والسنة والإجماع...»
(8) قوله: «الحلال» سقط من (أ).
(9) في (ح): «التي».
(10) في (غ): «ومعمولًا».
(11) "صحيح البخاري" (236)، وفيه بعث رجلًا.
(12) متفق عليه. البخاري رقم (3773)، مسلم (367).(1/457)
وِجْهتهم (1) ، فلمَّا رجعوا، أَثَارُوا البعيرَ، فوجدوه تحته.
وكونُ الأناسِ المبعوثين صَلَّوْا بغير وضوءٍ ولا تيمُّم، دليلٌ على من صَارَ إلى أنه إذا عَدِمهما (2) ، لم يصلِّ، وهي مسألةٌ اختلَفَ العلماءُ فيها على أربعةِ أقوال:
الأول (3) : لا صلاةَ عليه ولا قضاء؛ قاله مالكٌ، وابنُ نافع، والثوريُّ، والأوزاعيُّ، وابنُ أبي ليلى (4) ، وأهلُ ا لرأي (5) .
الثاني: يصلِّي ويقضي؛ قاله ابنُ القاسمِ، والشافعيُّ.
الثالث: يصلِّي ولا يعيد؛ قاله أشهب.
الرابع: يقضي ولا يصلِّي (6) .
وسببُ الخلافِ في هذه المسألة: هل الطهارةُ شرطٌ (7) في الوجوبِ أو في الأداءِ؟ ولا حُجَّة في التمسُّكِ (8) بهذا الحديثِ على شيءٍ من هذه المسألة؛ لأنَّ كونَ المبعوثين صَلَّوْا كذلك (9) رَأْيٌ رَأَوْهُ، ولم يبلغنا أنَّ النبيَّ ? أقرَّهم على شيء من ذلك.
وأيضًا فإنه قال: «فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ»، فنفَى الوضوءَ خاصَّة، &(1/458)&$
__________
(1) في (ب): «جهتهم».
(2) في (غ): «عدمها».
(3) في (ح) و(غ): «الأولى».
(4) قوله: «وابن أبي ليلى» سقط من (ب) و(ح) و(غ).
(5) قوله: «وأهل الرأي» سقط من (أ).
(6) في (غ): «يصلي ولا يقضي».
(7) قوله: «شرط» سقط من (غ).
(8) قوله: «في المتمسك»، في (ح): «للمتمسك».
(9) قوله: «كذلك» سقط من (أ).(1/458)
ولم يتعرَّض للتيمُّم؛ فلعلَّهم (1) فعلوا كما فعَلَ عَمَّار - رضي الله عنه - (2) تمرَّغوا في التراب، والله أعلم. =(1/612)=@
( 37 ) بَابُ تَيَمُّمِ الجُنُبِ، وَالتَّيَمُّمِ لِرَدِّ السَّلَامِ
288- عَنْ شَقِيقٍ (3) ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ عَبْدِ اللهِ وَأَبِي مُوسَى، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً أَجْنَبَ، فَلَمْ يَجِدِ الْمَاءَ شَهْرًا، كَيْفَ يَصْنَعُ بِالصَّلاةِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: لَا يَتَيَمَّمُ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ شَهْرًا، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: فَكَيْفَ بِهَذِهِ الآيَةِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: {فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيدًا طيبا} فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: لَوْ رُخِّصَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الآيَةِ، لأَوْشَكَ، إِذَا بَرَدَ عَلَيْهِمُ الْمَاءُ، أَنْ يَتَيَمَّمُوا بِالصَّعِيدِ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى لِعَبْدِ اللهِ: أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ عَمَّارٍ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ ? فِي حَاجَةٍ فَأَجْنَبْتُ، فَلَمْ أَجِدِ الْمَاءَ، فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ ?، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا»، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ، وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ، وَوَجْهَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: أَوَلَمْ تَرَ عُمَرَ لَمْ يَقْنَعْ بِقَوْلِ عَمَّارٍ ؟ وَفِي رِوَايَةٍ: وَضَرَبَ بِيَدَيْهِ الأَرْضِ، فَنَفَضَ يَدَيْهِ، فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ.
وَمِنْ بَابِ تَيَمُّمِ الجُنُبِ
قوله: «لَوْ أَنَّ رَجُلاً أَجْنَبَ»، قال الفرَّاء: يقالُ (4) : أجنَبَ الرجلُ وجَنُبَ من الجَنَابة، قال غيره: يقال: جُنُبٌ للواحد والاثنين والجميع (5) ، والمذكَّر والمؤنَّث، قال ابن فارس: وقد قيلَ في الجَمْع: أجنابٌ، والجنابة: البُعْد؛ ومنه قوله:
فَلَا تَحْرِمَنِّي (6) نائِلاً عَنْ جَنَابَةٍ .. ....................... (7)
أي: بعدٍ (8) . قال الأزهريُّ: وسمِّي: جُنُبًا؛ لأنه نُهِيَ أن يقربَ مواضعَ الصلاةِ ما لم يتطهَّر فيجتنبها (9) . وقال الشافعيُّ: إنما سمِّي: جنبًا من المخالطة. ومِنْ كلامِ العرب: أجنَبَ الرجُلُ: إذا خالَطَ امرأتَهُ. وهذا ضِدُّ المعنى الأول، كأنه من القُرْبِ منها.
وكان مذهبُ عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : أنَّ الجُنُبَ لا يتيمَّم؛ لأنه (10) ليس داخلًا في &(1/459)&$
__________
(1) في (أ): «ولعلهم».
(2) هو الحديث الآتي.
(3) أخرجه البخاري (1/455-456 رقم347) في التيمم، باب التيمم ضربة، وذكر أطرافه في (1/443 رقم 338) في التيمم، باب التيمم هل ينفخ فيها؟، ومسلم (1/280 رقم368/110 و112 و113) في الحيض، باب التيمم.
(4) قوله: «يقال» سقط من (أ).
(5) في (غ): «والجمع».
(6) في (ب): «تحرميني».
(7) هذا صدر بيت من الطويل، والبيت بتمامه:
فَلَا تَحْرِمَنِّي نائلًا عن جَنَابَةٍ ... فإِنِّي امْرُؤٌ وَسْطَ القِبَابِ غَرِيبُ
وهو للعلقمة بن عَبَدَة، وقد تقدَّم تخريجه والكلام على معناه في كتاب الإيمان، باب كيف بدأ الإسلام، وكيف يعود؟
(8) قوله: «أي بعد» سقط من (أ).
(9) في (غ): «فتجنبها».
(10) في (ب) و(ح): « لا لأنه».(1/459)
عمومِ: {فلم تجدوا ماءً} (1) ؛ أَلَا تراه قد سلَّم ذلك لأبي موسى رضي الله عنهما ونحا إلى مَنْعِ الذريعة، وكأنَّه (2) كان يعتقدُ تخصيصَ العمومِ بالذَّرِيعة؛ ولا بُعْدَ في القولِ به (3) على ضَعْفه.
وأمَّا عمرُ بنُ الخطَّاب - رضي الله عنه - فكان يرى أنَّ الآيةَ لا تتناوَلُ الجنبَ رأسًا؛ فمنعه التيمُّم لذلك، وتوقَّف في حديثِ عَمَّار لكونِهِ لم يذكرْهُ (4) حين ذكَّره به. وقد =(1/613)=@ صَحَّ عن عمر (5) وابن مسعود (6) رضي الله عنهما: أنهما رجعا إلى أن الجَنْبَ يتيمَّم، وهو الصحيحُ؛ لأنَّ الآيةَ بعمومها متناولةٌ له، ولحديثِ (7) عَمَّار، وحديثِ عمْرَانَ بنِ حُصَيْن رضي الله عنهم حيث قال رسولُ الله ? للرجل الذي قال له: أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلَا مَاءٌ، فقال له: «عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ؛ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ» (8) ، وهذا نصٌّ رافعٌ للخلاف.
واختُلِفَ في الصعيد ما هو؟:
فرُوِيَ عن الخليل: أنه وجهُ الأرضِ؛ ويدلُّ عليه (9) قولُ ذي الرُّمَّة:
كأنَّهُ بِالضُّحَى تَرْمِي (10) الصَّعِيدَ بِهِ ... دَبَّابَةٌ (11) فِي عِظَامِ الرَّأْسِ خُرْطُومُ (12)
فعلى هذا: فيجوزُ التيمُّم بكلِّ ما كان منْ جنسِ الأرضِ باقيًا على أصلِ أرضيَّتها؛ وهو مذهبُ مالك، وأبي حنيفة (13) .
وقد صار عليٌّ - رضي الله عنه-: إلى أنه الترابُ خاصَّةً، وهو قولُ الشافعيِّ وأبي يوسف، وقَولةٌ شاذَّةٌ عن مالك (14) . وقد استدل أصحاب هذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم: «وجعلت تربتها لنا &(1/460)&$
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 6.
(2) قوله: «كأنه» سقط من (ح).
(3) في (أ): «ولا بعد بالقول فيه».
(4) في (غ): «يذكر».
(5) لم أجده.
(6) أخرجه عبد الرزاق (1/241-242 رقم923)، وابن أبي شيبة (1/145 رقم 1669) كتاب الطهارة، باب من قال: لا يتيمم حتى يجد الماء.
كلاهما عن سفيان بن عيينة، عن أبي سنان، عن الضحاك قال: رجع عبدالله عن قوله في التيمم. الضحاك: هو ابن مزاحم، ولم يدرك ابن مسعود , وأبو سنان: هو ضرار بن مرة الشيباني.
والأثر أشار إليه الحافظ في"الفتح" (1/457)، وقال: أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد فيه انقطاع.اهـ.
(7) في (أ) و(غ): «وبحديث».
(8) أخرجه البخاري (1/447-448، 457 رقم344، 348) في التيمم، باب الصعيد الطيب وضوء المسلم، و (6/580 رقم3571) في المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام.
(9) في (أ):»عليه يدل» بدل:»ويدل عليه».
(10) في (غ):»يرمي».
(11) في (أ) و(ب):»ذبابة».
(12) البيت من البسيط، وهو لذي الرُّمَّة غَيْلَان بن عُقْبة يقول في وصف ظَبْيٍ صغير، انظر: "ديوانه" (ص389)، و"سيرة ابن هشام" (2/142)، و"أساس البلاغة" (2/181)، و"خزانة الأدب" (4/318)، و"تفسير الطبري" (5/109)، و"تفسير القرطبي" (5/236)، و(10/349)، و"شرح الزرقاني على الموطأ" (1/167)
(13) توثيقي فقهي.
(14) توثيقي فقهي.(1/460)
طهورًا»، ولا حجة فيه؛ لأن التراب فيه جزء مما يتناوله وجه الأرض، فهو مساوٍ لجميع أجزائها، وإنما ذكر التراب لأنه الأكثر، وصار هذا مثل قوله تعالى: {فيها فاكهة ونخل ورمان} (1) ، والله أعلم.
وقوله: «لَأَوْشَكَ»؛ أي: لأشرع (2) ، وقد تقدَّم.
وقوله - صلى الله عيه وسلم-: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا»، خاطبه بـ«إنما»؛ ليحصر (3) له القَدْرَ =(1/614)=@ الواجب، وهو أن يَضْربَ الأرضَ بيَدَيْه، ثم يمسحَ وجهه، ثم يضرِبَ ضربةً أخرىن فيمسَحَ كفَّيْه. ولم يُخْتَلَفْ أنَّ الوجه كلَّه لابدَّ من إيعابه (4) .
289- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى (5) ؛ أَنَّ رَجُلاً أَتَىن عُمَرَ فَقَالَ: إِنِّي أَجْنَبْتُن فَلَمْ أَجِدْ مَاءً، فَقَالَ: لا تُصَلِّ. فَقَالَ عَمَّارٌ: أَمَا تَذْكُرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ أَنَا وَأَنْتَ فِي سَرِيَّةٍ، فَأَجْنَبْنَا، وَلَمْ نَجِدْ مَاءً، فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ، وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فِي التُّرَابِ وَصَلَّيْتُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا ولم ينكر عمر على عمار إنكار قاطع برد الخبر، ولا لأن عمارًا غير ثقة، بل منزلة عمار وعظم شأنه ومكانته كل ذلك معلومٌ، وإنما كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ الأَرْضَ، ثُمَّ تَنْفُخَ، ثُمَّ تَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَكَ وَكَفَّيْكَ؟!»، فَقَالَ عُمَرُ: اتَّقِ اللهَ، يَا عَمَّارُ ! قَالَ: إِنْ شِئْتَ لَمْ أُحَدِّثْ بِهِ. فَقَالَ عُمَرُ: نُوَلِّيكَ مَا تَوَلَّيْتَ، وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ عَمَّارٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ شِئْتَ ! لِمَا جَعَلَ اللهُ عَلَيَّ مِنْ حَقِّكَ، لَا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا.
واختلَفُوا: هلِ الواجبُ أن يبلُغَ به إلى (6) المِرْفَقَيْنِ، أم يقتصرُ على الكوعين؟ أم يستحب الإيصال إلى المرفقَيْنِ، فإنِ اقتصَرَ على الكُوعَيْنِ أجزأه، وهذا (7) مذهبُ ابن القاسم (8) .
ومَسْحُهُ الشِّمَالَ على اليمينِ مراعاةٌ لحالِ اليمين حتَّى تكونَ (9) هي المبدوءَ بها. وكونُهُ في هذه الروايةِ أخر الوجه في الذكر، وكونُهُ في الثانيةِ قَدَّمَهُ؛ يدلُّ على عدمِ ترتيب &(1/461)&$
__________
(1) سورة الرحمن، الآية: 68.
(2) في (ب) و(ح): «لأسرع».
(3) في (أ) و(غ):»لينحصر».
(4) توثيق فقهي.
(5) أخرجه البخاري (1/443 رقم 338) في التيمم، باب: التيمم هل ينفخ فيها؟ مسلم (1/280 رقم 368/112 ز113) في الحيض، باب: التيمم.
(6) قوله:»إلى» سقط من (أ).
(7) في (ح):»وهو».
(8) توثيق فقهي
(9) في (غ):»يكون».(1/461)
الواو.
ولم ينكرْ عمر على عَمَّار - رضي الله عنهما- إنكارَ قاطعٍ برَدِّ الخبر، ولا لأنَّ (1) عمارًا غيرُ ثقة (2) ، بل منزلةُ عمارٍ وعِظَمُ شأنه ومكانته كلُّ ذلك معلومٌ، وإنما كان ذلك من عمر - رضي الله عنه - ؛ لأنَّه لما نسبه إليه و (3) لم يذكرهُ توقف عمر، ولذلك قال له: «نوليك من ذلك ما توليت (4) »؛ أي: ماتحملت عهدته مما ذكرتَهُ، حدَّث (5) به إن شئت.
وقولُ عمَّار: «إِنْ شِئْتَ، لَمْ أُحَدِّثْ»، ليس لضعفِ الحديث، ولا لأنَّ (6) عَمَّارًا شَكَّ فيما رأى ورَوَى، وإنما ذلك للزومِ الطاعة، وقد صرَّحَ بهِ.
وقوله: «فَنَفَضَ يَدَيْهِ، فَنَفَخَ فِيهِمَا»، حُجَّةٌ لمن أجاز نفضَ اليدَيْن =(1/615)=@ من التراب؛ وهو قولُ مالكٍ والشافعيِّ (7) دون استقصاءٍ لما فيهما، لكنْ لخشيةِ ما يَضُرُّ به مِنْ ذلك من تلويثِ وجهِهِ أو شيءٍ يُؤْذيه.
290- وَعَنْ أَبِي الْجَهْمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ الأَنْصَارِيِّ (8) ، قَالَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِ، حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ، فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ.
291- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ (9) ؛ أَنَّ رَجُلاً مَرَّ، وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَبُولُ، فَسَلَّمَ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث أبي الجَهْم: «أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ نَحْوِ (10) بِئْرِ جمل (11) »، هو (12) موضعٌ معروفٌ بقربِ المدينة. =(1/616)=@
وقد استدلَّ البخاريُّ بهذا الحديثِ على جواز التيمم في الحضر لمن خافَ فواتَ الوقت (13) . وهذا الحديثُ يؤخذُ منه: أنَّ حضورَ سببِ الشيءِ كحضور وقته (14) ؛ وذلك أنه لمَّا سلَّم هذا الرجلُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ، تعيَّن عليه - صلى الله عليه وسلم – الرد (15) ، خاف الفوت، فتيمَّم، ويكونُ هذا حجةً لأحد القولَيْنِ عندنا، أنَّ من خرَجَ إلى جنازةٍ متوضِّئًا فانتقَضَ وضوؤُهُ أنه يتيمَّم (16) ، وقد روى أبو داود (17) من حديث المهاجِرِ بنِ قُنْفُذِ: أنه سلَّم على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم ـ (18) ، وهو يبولُ، فلم يَرُدّ عليه حتى توضَّأ، ثم اعتذَرَ إليه، فقال: &(1/462)&$
__________
(1) في (ح):»ولا أن».
(2) في (ب):»ليس بثقة».
(3) في (غ): «لم» بلا واو.
(4) في (ب): «نوليك ما توليت من ذلك».
(5) في (أ): «فَحدِث».
(6) في (ح): «ولا أن».
(7) توثيق فقهي.
(8) أخرجه البخاري (1/441 رقم 337) في التيمم، باب التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء وخاف فوات الصلاة، ومسلم (1/281 رقم 369) في الحيض، باب التيمم.
(9) أخرجه البخاري مسلم (1/281 رقم 370) في الحيض، باب التيمم.
(10) قوله: «بئر» سقط من (أ) و(ح).
(11) في (أ): «ج بيل».
(12) قوله: «هو» سقط من (أ).
(13) توثيق فقهي.
(14) تعليق أصولي.
(15) في (ح): «الرد - صلى الله عليه وسلم - ».
(16) تعليق فقهي.
(17) أخرجه أحمد (1/345) و(5/80)، وأبو داود (1/23 رقم 17) كتاب: الطهارة، باب أيردّ السلام وهو يبول، وابن ماجه (1/126 رقم 350) كتاب الطهارة، باب الرجل يسلم عليه وهو يبول، والنسائي (1/37) كتاب: الطهارة، باب: رد السلام بعد الوضوء، وابن أبي عاصم "الآحاد والمثاني" (2/9 رقم 673 و 6749)، وابن خزيمة (رقم 206)، وعنه ابن حبان (3/86 رقم 806/الإحسان)، وأخرجه الطحاوي (1/27 و 85) وابن حبان (3/82 رقم 803/الإحسان)، والطبراني في "الكبير" (20/329- 330 رقم 781). جميعهم من طريق معاذ بن هشام الدستوائي، عن أبيه.
وأخرجه الدارمي (2/278) كتاب: الاستئذان، باب: إذا سلم على الرجل وهو يبول، وابن أبي عاصم "الآحاد والمثاني" (2/9 رقم 674)، والطبراني في "الكبير" (20/329 رقم 780). جميعهم من طريق معاذ بن هاشم الدستوائي، عن أبيه.
وأخرجه الحاكم (1/167)، وعنه البيهقي من طريق شعبة.
ثلاثتهم – سعيد بن أبي عروبة، وهشام الدستوائي، وشعبة-، عن قتادة عن الحسن، عن الحضين أبي ساسان، عن المهاجر بن قنفذ - رضي الله عنه - ، قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول – وعند بعضهم: وهو يتوضأ-، فسلَّمت عليه، فلم يردَّ عليَّ حتى توضأ، ثم اعتذر إليه، فقال: «إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر».
لكن رُوي الحديث من وجه آخر:
فأخرجه ابن أبي شيبة ص514 (5/249 رقم 25726) كتاب: الأدب، باب: ما قالوا في الرجل يُسلَّم عليه وهو يبول، عن زيد بن الحباب، عن جرير بن حازم، وأحمد (5/80- 81) عن عفان، والطبراني في «الكبير» 020/329 رقم 779) من طريق أسد بن موسى.
كلاهما – عفان وأسد بن موسى-، عن حماد بن سلمة، عن حميد كلاهما – جرير بن حازم وحميد-، عن الحسن، عن المهاجر، به.
في رواية الطبراني: عن حميد وغيره.
لكن المقدَّم رواية قتادة، عن الحسن؛ لأن الحسن مدلس، ولم يصرح بالسماع من المهاجر، فرواية قتادة أولى.
وأما عن عنعنعة الحسن، عن الحضين، فقد بيَّن الشيخ الألباني في "الصحيحة" (2/488): أن الظاهر أن المراد من تدليسه إنما هو ما كان من روايته عن الصحابة دون غيرهم. فانظر كلامه هناك.
وقد صحح هذا الحديث في "الصحيحة" (834).
(18) من قوله: «وخاف الفوت...إلى هنا سقط من (ح).(1/462)
«إَنِّي كَرِهْتُ (1) أَنْ أَذْكُرَ اللهَ إِلَّا عَلَى طَهَارَةٍ»، وهذا تتميم (2) معنى حديثِ ابن عمر الآتي (3) وحديث أبي الجهم هذا. ذكر القاضي أبو الفضل عِيَاضٌ رحمه الله: أنَّ =(1/617)=@ مسلمًا ذَكَرَهُ مقطوعًا، قال: وفي كتابِهِ أحاديثُ يسيرةٌ مقطوعةٌ متفِّرقةٌ في (4) أربعةَ عشَرَ موضعًا (5) هذا منها.
وفيه حجةٌ لمن قال: إنَّ التيمُّم يرفعُ الحدَثَ، وهو ظاهرُ قولِ مالكٍ في "الموطأ"، ومشهورُ مذهبه: أنه مبيحٌ لا رافعٌ (6) .
وقَالَ الزهريُّ، وابن المسيِّب، والحسن: يرفعُ الحدَثَ الأصغَرَ (7) .
وقال أبو سلمة: يرفَعُ الحدثَيْنِ جميعًا (8) (9) .
*************
( 38 ) بَاب المُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ
وَذِكْرُ اللهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ، وَمَا يُتَوَضَّأُ لَهُ
292- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (10) ؛ أَنَّهُ لَقِيَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ جُنُبٌ، فَانْسَلَّ فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ، فَتَفَقَّدَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمَّا جَاءَهُ، قَالَ: « أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَقِيتَنِي وَأَنَا جُنُبٌ؛ فَكَرِهْتُ أَنْ أُجَالِسَكَ حَتَّى أَغْتَسِلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «سُبْحَانَ اللهِ! إِنَّ الْمُؤْمِنَ لا يَنْجُسُ».
293- وَعَنْ عَائِشَةَ (11) ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَمَنْ بَاب المُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ
يقال: نجِسَ الشيءُ بالكسر، ينجَس بالفتح، ونَجُس بالضم، يَنْجُسُ ويُقْتَبَسُ منه: أن مَنْ صَدَقَ عليه اسمُ المؤمنِ لا يَنْجُسُ حَيًّا كَان أَو ميِّتًا (12) ، وأَمَّا &(1/463)&$
__________
(1) في (ح): «إني كرمت».
(2) في (ح): «يتمم».
(3) في (أ): «لأتي في الأصل».
(4) قوله: «في» سقط من (غ).
(5) هذا بحسب جمع أبي علي الغساني الجياني في كتابه "تقييد المهمل"، وقد جمعها الحافظ الرشيد العطار في كتابه "غرر الفوائد المجموعة"، وجمع معها مثيلاتها، وأجاب عنها بما لا تجده في غيره، وقد طبع الكتاب بتحقيق د. سعد بن عبد الله الحميد، فانظره إن شئت.
(6) توثيق فقهي.
(7) توثيق فقهي.
(8) توثيق فقهي.
(9) من قوله: «وقال الزهري...» إلى هنا سقط من (أ).
(10) أخرجه البخاري (1/390 رقم 283) في الغسل، باب: عَرَقِ الجنب وأنَّ المسلم لا ينجُسُ، ومسلم (1/282 رقم 371) في الحيض، باب: الدليل على أن المسلم لا ينجس.
(11) أخرجه البخاري تعليقًا (2/114 رقم....) في الأذان، باب: هل يتتبع المؤذن فاه ههنا وههنا... ومسلم (1/282 رقم 373) في الحيض، باب: ذكر الله تعالى في حال الجناية وغيرها.
(12) في (ح): «لا ينجس حيًّا ولا ميتًا».(1/463)
طهارةُ الآدميّ مطلقًا: فلا تنتزعُ (1) منه بوجهٍ، وقد اختُلِفَ في المسألتين، وسيأتي البحثُ فيهما في ((الجنائز)) (2) . =(1/618)=@
294- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (3) ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَ مِنَ الْغَائِطِ، وَأُتِيَ بِطَعَامٍ، فَقِيلَ: أَلاَ تَوَضَّأُ ؟ قَالَ: « لِمَ ؟! أَأُصَلِّي؛ فَأَتَوَضَّأَ؟!». فِي رِوَايَةٍ: «مَا أَرَدْتُ صَلاةً، فَأَتَوَضَّأََ!».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «أَأُصَلِّي؛ فَأَتَوَضَّأُ؟!»، إنكارٌ على مَنْ عَرَضَ عليه غسل اليد (4) قبل الطعام؛ وبه استدَلَّ مالكٌ على كراهةِ ذلك، وقال: إنه مِنْ فعلِ الأعاجم، وقال مثلَهُ الثوريُّ، وقال: لم يكنْ مِنْ فعلِ السلف (5) .
وحمله غيرهما (6) على إنكارِ كونِهِ واجبًا، محتجًّا بحديثٍ رواه أبو داود وغيره عنه - صلى الله عليه وسلم - : «الوُضُوءُ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ بَرَكَةٌ».
وينتزعُ من هذا الحديث: أنَّ الوضوءَ (7) بأصلِ مشروعيَّته إنما هو واجبٌ للصلاةِ وما في معناها، مثلُ الطوافِ؛ لكنْ إذا حملنا الوضوءَ على العرفِّي (8) (9) ، والله أعلم. =(1/619)=@ &(1/464)&$
كَمُلَ (1) كِتَابُ الطَّهَارَة يِتْلُوهُ كَشْفُ مُشْكِلِ الصَّلَاةِ (2)
__________
(1) قوله: «كمل» في (ب): "آخر"، وفي (غ): «تم».
(2) في (أ): «كمل كتاب الطهارة، يتوله كشف مشكل كتاب الصلاة»، وفي (ب): «آخر كتاب الطهارة، يتلو كشف مشكل كتاب الصلاة»، وفي (غ): «تم كتاب الطهارة بحمد الله، ويتلوه كشف مشكل الصلاة».
__________
(1) في (ح): «فلا منزع»، وفي (غ): «فلا ينزع».
(2) انظر: كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على الميت في المسجد.
(3) توثيق فقهي.
(4) أخرجه الطيالسي (رقم 655)، وأحمد (5/441)، وأبو داود (4/136 رقم 3761) كتاب: الأطعمة، باب: في غسل اليد قبل الطعام، والترمذي (4/248 رقم 1846) كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في الوضوء قبل الطعام وبعده، وفي "الشمائل" (رقم 188)، والحاكم (4/106- 107)، والبيهقي (7/275- 276).
جميعهم من طريق قيس بن الربيع، عن أبي هاشم، عن زاذان، عن سلمان، قال: قرأتُ في التوراة، أن بركة الطعام الوضوء بعده، فذكرتُ ذلك للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بما قرأتُ في التوراة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده».
قال أبو داود: وهو ضعيف.اهـ.
وقال الترمذي: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث قيس بن الربيع، وقيس بن الربيع يضعَّف في الحديث. وأبو هاشم الرماني اسمه: يحيى بن دينار.اهـ.
ونقل ابن أبي حاتم في "العلل" (2/10) عن أبيه: هذا حديث منكر، لو كان هذا الحديث صحيحًا، كان حديثًا، وأبو هاشم الرماني: ليس هو، ويشبه هذا الحديثُ أحاديثَ أبي خالد الواسطي عمرو بن خالد، عنده من هذا النحو أحاديث موضوعة عن أبي هاشم.اهـ.
قال الألباني في "الضعيفة" (1/310) بعد أن حكم عليه بالضعف: وعمرو بن خالد هذا كذَّاب؛ فإن كان الحديث حديثه، فهو موضوع.اهـ.
وقال ابن القيم في "تهذيب السنن، حاشية عون المعبود" (10/223- 243): وقال الخلال في "الجامع": عن مهنا، قال: سألت أحمد عن حديث قيس بن الربيع... فقال لي أبو عبد الله: هو منكر.أهـ.
(5) توثيق فقهي.
(6) توثيق فقهي.
(7) في (أ): «الوضوء العرفي».
(8) جواب الشرط محذوف تقديره: فلا ينتزَعُ منه هذا الحكم.
(9) توثيق فقهي.(1/464)
المفهم
لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم
الجزء الثاني
[ينقص الملف التنسيقات النهائية فليست مكتملة]
كتاب الصلاة
( 1 ) باب ما جاء في الأذان والإقامة
1- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ (1) ، قال:كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ، فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلَوَاتِ، وَلَيْسَ يُنَادِي بِهَا أَحَدٌ، فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ: فَقَالَ بَعْضُهُمِ: اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَرْنًا مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَوَلا تَبْعَثُونَ رَجُلاً يُنَادِي بِالصَّلاةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ: «يَا بِلالُ ! قُمْ، فَنَادِ بِالصَّلاةِ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم (2)
صلى الله على سيدنا محمد (3)
كتاب الصلاة
ومن باب ما جاء في الأذان والإقامة
الأذان: هو الإعلام، ومنه قوله تعالى: {وأذان من الله ورسوله} (4) .
قوله (5) : «يَتَحَيَّنُونَ» يعني: يقدِّرون أحيانها (6) ؛ ليأتوا إليها فيها (7) . والحينُ: الوقت والزمان.
وتشاوُرُهُمْ في هذا: دليلٌ على مراعاتِهِمُ المصالحَ والعمَلَ بها (8) ، وذلك أنهم لما شَقَّ عليهم التحيُّنُ بالتبكير، فيفوتُهُمْ عملهم، أو بالتأخيرِ فتفوتُهُمْ =(2/5)=@ الصلاة، نظروا في ذلك، فقال كلُّ واحد منهم ما تيسَّر له مِنَ القول، فقال عُمُر: «أَوَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلاً يُنَادِي بِالصَّلاَةَ؟»، يعني: يعرِّف بها؛ فإنَّ كيفيَّةَ الأذانِ لم تكنْ معروفةً عنده قبل. وعند (9) ذلكَ قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : «قُمْ يَا بِلَالُ، فَنَادِ بِالصَّلَاةِ»، أي: أذِّن.
وهنا أحاديثُ يُتَوَهَّمُ في الجمع بينها إشكالٌ، منها: أنَّ أوَّل مَنْ أري (10) الأذانَ في النوم: عبدُ اللهِ بنُ زيد، فلمَّا ذكَرَ ذلك لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، أمَرَ بلالاً بالأذان، فذكَرَ عُمَرُ أنه رأى مِثْلَ ذلك (11) ، وقد ذَكَر أَصحابُ المسنداتِ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ الأذانَ ليلةَ الإسراءِ (12) .
وهذا كلُّه لا إشكالَ فيه إذا تُؤُمِّلَ؛ فإنَّ الجمعَ &(2/3)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (2/77 رقم 604) كتاب الأذان، باب بدء الأذان، ومسلم (1/285 رقم377) في الصلاة، بدء الأذان .
(2) قوله: «بسم الله الرحمن الرحيم» ليس في (ب).
(3) قوله: «صلى الله على سيدنا محمد» (أ) فقط .
(4) سورة التوبة، الآية: 3.
(5) في (ب): «قوله».
(6) في (غ): «أحيانًا».
(7) توثيق لغوي: من المعاجم.
(8) توثيق لغوي: من المعاجم.
(9) في (غ): «وغير».
(10) في (غ): «رأى».
(11) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (4/43)، والدارمي(1190 ، 1191)، والبخاري في خلف أفعال العباد (ص56-57 رقم180)، وأبو داود (1/337-338 رقم499) في كتاب الصلاة، باب كيف الأذان، والترمذي (1/358-359 رقم189) في كتاب الصلاة، باب ما جاء في بدء الأذان، وابن ماجه (1/232-233 رقم706) في كتاب الأذان، باب بدء الأذان، وابن خزيمة (1/193 رقم371)، وابن حبان (4/572-573 رقم1679/ الإحسان)، وقال الترمذي: «حسن صحيح»، وصحَّحه ابن خزيمة وابن حبان كما سبق، ونقل ابنُ خزيمة عن محمد بن يحيى الذهلي قوله: «ليس في أخبار عبد الله بن زيد في قصةِ الأذانِ خبرٌ أصحُّ من هذا»، ونقل صاحب "نصب الراية" (1/259) عن الترمذي قوله في "العلل الكبير": «سألتُ محمدَ بنَ إسماعيل - يعني: البخاري - عن هذا الحديث، فقال: هو عندي صحيح».اهـ.
(12) ورد ذلك في عدةِ أحاديثَ، لكنْ لا يثبُتُ منها شيءٌ كما فصَّله الحافظُ ابن حَجَر في "الفتح" (2/78)، وأصرحُهَا في المرادِ من كلامِ الشارح ما أخرجه البزار في"مسنده" (2/146- 147 رقم508 طريق زياد بن المنذر، عن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده، عن علي قال: لما أراد الله أن يعلِّم رسوله الأذان، أتاه جبريل صلى الله عليهما بدابة يقال لها: البراق ...، فذكر عروجه إلى السماء، وسماع الأذان من أحد الملائكة، وصلاته عليه الصلاة والسلام بأهل السماء وفيهم آدم ونوح، ولكن في سنده زياد بن المنذر أبو الجارود الأعمى، الكوفي، وهو رافضي كذاب.انظر "التقريب"(2113).ولذلك قال الحافظ ابن حجر في الموضع السابق من "الفتح" تعليقًا على حديث الباب هنا: «وحديث ابن عمر المذكور في هذا الباب ظاهر في أن الأذان إنما شرع بعد الهجرة ؛ فإنه نفى النداء بالصلاة قبل ذلك مطلقًا».ا.هـ.(2/3)
ممكنٌ، وبيانُهُ: أنهم تفاوضوا في الأذان، ويَحتملُ: أن يكونَ عبدُ الله وعمر غائبَيْن، ثم إنهما قَدِمَا، فوجدا المفاوضةَ، فقال عبد الله ما قال، وتلاه عمر، ولمَّا رأى عمر قبولَ الرؤيا وصحَّتها، قال: أَلَا تُنَادُونَ للِصِّلَاةِ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبلال (1) :«قُمْ» (2) .
وأما ما وقع في المسندات: فلا يلزمُ من سماعه له (3) أن يكونَ مشروعًا في حقِّه (4) ، والأقربُ: أن الرواةَ لا يستوفون القصص كما وقعَتْ، فروَى بعضٌ ما لم يَرْوِ (5) غيره، وبمجموع الأحاديثِ يَتِمُّ الغرض (6) .
وقوله: «قُمْ يَا بِلَالُ (7) فَنَادِ بِالصَّلَاةِ»: حجةٌ لمشروعيَّةِ الأذانِ والقيامِ فيه، =(2/6)=@ وأنه لا يجوزُ (8) أذانُ (9) القاعدِ عند عامَّةِ (10) العلماء، إلا أبا ثَوْر، وبه (11) قال أبو الفَرَجِ مِنْ أصحابنا، وأجازه مالكٌ وغيره، لِعِلَّةٍ به (12) إذا أذَّن لنفسه (13) .
ويحصُلُ من الأذانِ إعلامٌ بثلاثةِ أشياء (14) : بدخولِ الوَقْت، وبالدعاءِ إلى الجماعةِ ومكانِ صلاتها، وبإظهارِ شعَارِ الإسلام. وقد اختُلِفَ في حُكْمه:
فقال داودُ والأوزاعيُّ (15) - وهو ظاهرُ قولِ مالكٍ في "الموطأ"-: بوجوبِهِ في المساجِدِ والجماعاتِ، وقيل: إنه فرض على الكفاية؛ وبه قال بعضُ أصحابنا وأصحابِ الشافعيِّ، وذهَبَ الجمهورُ: إلى أنَّه سنةٌ مؤكَّدةٌ في مساجد الجماعاتِ والعشائرِ، وهو المشهورُ من مذهبِ مالكٍ وغيره (16) .
وسبب الاختلاف: اختلافهم في قول - صلى الله عليه وسلم - لبلالٍ: «قُمْ يَا بِلَالُ، فَنَادِ بِالصَّلَاةِ»؛ هل هو محمولٌ على ظاهره مِنَ الوجوبِ، أو (17) هو مصروف عن ذلك.
بالقرائن (18) ؟ أعني: قرائنَ التعليمِ (19) . وأمَّا مَنْ صار إلى أنه على الكفايةِ فيراعي ما يحصُلُ منه من الفوائدِ الثلاثِ (20) المتقدِّمةِ الذِّكْر (21) .
2- وَعَنْ أَنَسٍ (22) ، قال:ذَكَرُوا أَنْ يُعْلِمُوا وَقْتَ الصَّلاةِ بِشَيْءٍ يَعْرِفُونَهُ. فَذَكَرُوا أَنْ يُنَوِّرُوا نَارًا، أَوْ يَضْرِبُوا نَاقُوسًا. فَأُمِرَ بِلالٌ أَنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ وَيُوتِرَ الإِقَامَةَ. قَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ أَيُّوبَ (23) ، فَقَالَ: إِلا الإِقَامَةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «أُمِرَ بِلالٌ أَنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ»، أي: يثنِّيه، و على هذا جمهورُ أئمَّةِ الفتوى. وقد روي فيه عن بعضِ السلفِ خلافٌ شاذٌّ - في إفرادِهِ (24) (25) وتثنيته - يأتي إن شاء الله (26) .
وقوله : «وَيُوتِرُ (27) الإِقَامَةَ»، أي: يفردها، وهو مذهب مالك والشافعي، لم =(2/7)=@ &(2/4)&$
__________
(1) قوله: «لبلال» ليس في (أ).
(2) وقد تعقَّب الحافظ ابن حجر قولَ القرطبيِّ هذا، فقال في "الفتح" (2/81): «قلت: وسياق حديث عبدالله بن زيد يخالفُ ذلك ؛ فإنَّ فيه: أنه لما قَصَّ رؤياه على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال له: «ألقها على بلالٍ، فليؤذِّنَّ به»، قال: فسمع عمرُ الصوتَ، فخرَجَ، فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: لقد رأيتُ مثلَ الذي رأى، فدلَّ على أن عمر لم يكنْ حاضرًا لما قَصَّ عبد الله بن زيد رؤياه ، والظاهرُ: أنَّ إشارةَ عمر بإرسالِ رجلٍ ينادي للصلاة كانتْ عَقِبَ المشاورةِ فيما يفعلونه، وأنَّ رؤيا عبدالله بن زيد كانتْ بعد ذلك، والله أعلم.
(3) قوله: «له) (غ) فقط.
(4) وتعقبه ابن حجر أيضًا بقوله (2/79): وأما قول القرطبي: «لا يلزم من كونه سمعه ليلة الإسراء أن يكون مشروعًا في حقه، ففيه نظر؛ لقوله في أوله: لما أراد الله أن يعلِّم رسوله الأذان».
(5) في (غ): «لم يروه».
(6) توثيق مصطلح حديث وتعليق.
(7) نهاية تعليق أصولي.
(8) توثيق فقهي.
(9) في (ح): «ان» سقطت الألف والذال من قوله: «أذان».
(10) قوله: «عامة» من (أ) فقط .
(11) قوله: «به»، وقوله: «وبه» ليس في (أ).
(12) قوله: «به»، وقوله: «وبه» ليس في (أ).
(15) توثيق فقهي.
(17) في (ح): «أم».
(19) توثيق فقهي.
(20) في (ح) و(أ): «الثلاثة».
(21) بهامش (أ) تعليق بجانب هذا الموضع، ونصه: «تتميم»: روى ابن جريج عن عطاء، عن ابن عباس بجانب هذا الموضع، ونصه: «تتميم: روى ابن جريج عن عطاء، عن ابن عباس قال: كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤذن يُطَرِّب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الأذان سهل سمح، فإن كان أذانك سهلاً سمحًا، وإلا فلا تؤذن». أخرجه الدارقطني في " سننه ". وروى عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال لمؤذنه: «إذا أذّنت فترسّل، وإذا أقمت فاحْذِمْ». والترسُّل: التمهل وترك العجلة بخلاف التمطيط الذي هو الإفراط في مدّ الحروف . قال الأزهري: المترسِّل هو الذي يتمهّل في تأذينه ويبيِّن كلامه تبينًا يفهمه من سمعه، وهو من قولك: جاء فلان على رِسْلِه، أي: على هيبته غير عجل ولا مُتْعِبٍ لنفسه . وقوله: «فاحْذِمْ ": الْحَذمُ - بالحاء المهملة والذال المعجمة - هو الإسراع في الإقامة وترك التطويل. وأصل الحذم في الشيء: الإسراع فيه، كذلك ذكره الهروي في الحاء المهملة، وذكره الزمخشري في الخاء المعجمة، وقال: هو اختيار أبي عبيد».
(22) أخرجه البخاري (2/77، 82، 83 رقم 603 ، 605، 606 ، 607) في كتاب الأذان، باب بدء الأذان، وباب الأذان مثنى مثنى، وباب الإقامة واحدة إلا قول: «قد قامت الصلاة»، و(6/495 رقم3457) في كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، ومسلم (1/286 رقم378/2، 3) في الصلاة، باب الأمر بشفع الأذان وإيتار الإقامة .
(23) ابن عُلَيَّةَ اسمه إسماعيل بن إبراهيم، وهو الراوي لهذا الحديث عن خالد الحذَّاء، عن أبي قلابة، عن أنس . وأيوب هو ابن أبي تميمة السِّخْتياني .
(25) في (ح): «في إفراد».
(26) قوله:«إن شاء الله) (ب) فقط.
(27) في (أ): «يوتر».(2/4)
يختلفوا إلا في قوله: «قد قامت الصلاة»، فمالك يفردها في المشهور عنه (1) . وهو عملُ أهل (2) المدينة. والشافعيُّ يثِّنيها، وهو عملُ أهلِ مكة. وقد روي مثلُ ذلك عن مالك، وهو الذي أراد أيُّوبُ بقوله: «إِلاَّ الإِقَامَةَ»، أي: إنَّ قوله: «قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ» مثنى، فاستثناه من كلمات الإقامةِ. وذهبَ الكوفيُّون والثوري: إلى أن يَشْفَعوا الإقامةَ كلَّها. وهو قولُ بعضِ السلف، وقد ورَدَ تَشفيعُ الإقامةِ من حديثِ أبي محذورة، والصحيحُ مِنْ حديثه هو الإفرادُ (3) (4) .
واختلَفَ الفقهاءُ في حكم الإقامة:
فعند مالكٍ، والشافعيَّ، وجمهورِ الفقهاء: أنها (5) سنةٌ مؤكَّدة، وأنه لا إعادةَ على تاركها.
وعند الأوزاعيِّ، وعطاءٍ ومجاهدٍ، وابنِ أبي ليلى: أنها واجبةٌ، و على مَنْ تَرَكَهَا الإعادةُ، وبه قال أهلُ الظاهر، ورُوِيَ عندنا أيضًا: أنَّ من تركها عَمْدًا، أعادَ الصلاة، وليس ذلك لوجوبها؛ إذْ لو كان ذلك (6) لاستوَى (7) سَهْوُهَا وعمدُهَا، وإنما ذلك للاستخفافِ بالسُّنَن.
3- وَعَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ (8) ؛ أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عَلَّمَهُ هَذَا الأَذَانَ: «اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ. أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ. أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ». ثُمَّ يَعُودُ فَيَقُولُ: «أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ - مَرَّتَيْن -، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ - مَرَّتَيْن -. حَيَّ على الصَّلاةِ - مَرَّتَيْنِ -، حَيَّ على الْفَلاحِ - مَرَّتَيْنِ -، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ. لا إِلهَ إِلا اللهُ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذكَرَ مسلمٌ في تعليمِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الأذانَ (9) لأبي مَحْذُورة: التكبير أوَّلاً مرتَيْن. كذا في أكثرِ الأصولِ ورواياتِ جماعاتِ (10) الشيوخ. ووقع في (11) بعض طرق الفارسيِّ (12) : التكبيرُ أربَعَ مَرَّاتٍ (13) .
ومذهبُ مالكٍ رحمه الله: تثنيةُ الأذان كله، غير أنه يرجِّع (14) ، وهو نقلُ أهلِ المدينةِ المتواتر عن أذانِ بلالٍ، وهو آخِرُ أذانه، والذي توفِّي عليه النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ومذهبُ الشافعيِّ: الترجيعُ، وهو عمَلُِ أهل مكة.
وقوله: «ثُمَّ يَعُودُ فَيَقُولُ (15) : أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»، هذا (16) هو الترجيعُ =(2/8)=@ الذي قال به مالكٌ والشافعيُّ وجمهورُ العلماء، على مقتضَى حديثِ أبي محذورةَ، واستمرار عملِ أهلِ (17) المدينةِ، وتواتُر نَقْلهم، عن أذانِ بلال.
وذهَبَ الكوفُّيون: إلى تركِ الترجيعِ على ما في (18) حديثِ عبدِ اللهِ بنِ زَيْد أولَ الأذان، وما استَقَّر عليه العملُ (19) ، وهو آخِرُ الفعلَيْنِ أولى.
وذهبَ أهلُ الحديثِ، وأحمدُ (20) ، وإسحاقُ، &(2/5)&$
__________
(1) قوله: «عنه) (ح) و(غ).
(2) قوله: «أهل» ليس من (أ).
(3) حديث أبي محذورة هو الآتي بعد هذا الحديث، وقد أخرجه مسلم من طريق هشام الدستوائي، عن عامر الأحول، عن مكحول، عن عبدالله بن محيريز، عن أبي محذورة، بذكر الأذان فقط دون الإقامة، وكذا رواه النسائي في سننه (2/4-5 رقم631) في الأذان، باب كيف الأذان، من طريق هشام، به .
وأخرجه الإمام أحمد في "المسند" (3/409) و(6/401)، وأبو داود في "سننه" (1/342 رقم502) في الصلاة، باب كيف الأذان، والترمذي (1/367 رقم192) في أبواب الأذان من كتاب الصلاة، باب ما جاء في الترجيع في الأذان، والنسائي في الموضع السابق برقم (630)، وابن ماجه (1/235 رقم709) في الأذان، باب الترجيع في الأذان، وابن خزيمة في "صحيحه" (1/192 رقم 377)، وابن حبان في "صحيحه" كما في الإحسان (4/577 رقم1681)، جميعهم من طريق همام بن يحيى، عن عامر الأحول، به، وزاد فيه ذكر الإقامة، وأنها سبع عشرة كلمة شفع مثنّاة، وعدّها بعضهم في روايته فقال: «والإقامة: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله».
قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح»، وصححه ابن خزيمة وابن حبان، ورأيا أنه لا اختلاف بينه وبين الأحاديث التي فيها إفراد الإقامة، فقال ابن خزيمة: «باب الترجيع في الأذان مع تثنية الإقامة، وهذا من جنس اختلاف المباح، فمباح أن يؤذن المؤذن فيرجَّع في الأذان ويثني الإقامة، ومباح أن يثني الأذان ويفرد الإقامة ؛ إذ قد صح كلا الأمرين من النبي - صلى الله عليه وسلم - . فأما تثنية الأذان والإقامة فلم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر بهما». وقال ابن حبان: «ذكر الأمر بالترجيع في الأذان والتثنية في الإقامة؛ إذ هما من اختلاف المباح».
هذا هو الصحيح من لفظ حديث أبي محذورة، لا كما زعم المؤلف رحمه الله من أن الصحيح من حديثه هو الإفراد، وانظر تفصيل علل طرق حديث أبي محذورة هذا التي فيها الإفراد في كتابه "الأذان" للأخ أسامة القوصي (ص43-58).
(5) في (ح): «بانها».
(6) قوله: «ذلك " ليس في (ح).
(7) في (غ): «لا يستوي».
(8) أخرجه مسلم (1/287 رقم379) في الصلاة، باب صفة الأذان .
(9) قوله: «الأذان» سقط من (غ).
(10) في (ب) و(غ): «جماعة». ...
(11) قوله: «في» في (أ): «من».
(12) وهو من الرواة لصحيح مسلم، واسمه: عبد الغافر بن محمد الفَسَوي، أبو الحُسَيْن النيسابوري، يروي صحيح مسلم عن أبي أحمد محمد بن عيسى الجُلُودي، عن أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سُفْيان، عن الإمامِ مسلمِ، وسبَقَ تفصيلُ ذلك في المقدِّمة .
(13) وهذا هو الصحيحُ كما فصَّل القولَ فيه أسامة القوصي في كتاب "الأذان" (ص43-45).
(14) تعريف الترجيع.
(15) في (أ) و(ب): «ثم تعود فتقول».
(16) في (ح): «فهذا».
(17) قوله: «أهل» سقط من (أ).
(18) في (ب):«على ما جاء في».
(19) قوله: «عن أذان بلاب ....» إلى قوله هنا سقط من (ح).
(20) في (ب) و(ح) و(غ): «أحمد»، بلا واو.(2/5)
والطبريُّ، وداودُ: إلى التخييرِ في الأحاديثِ - على أصلهم إذا صحَّت، ولم يُعْرفْ (1) المتقدِّم من المتأخِّر (2) -: أنها للتوسعةِ والتخيير، وقد ذُكِرَ نحو هذا عن مالك (3) . =(2/9)=@
*************
( 2 ) بَابُ الأَذَانُ أَمَانٌ مِنَ الغَارَةِ، وَمَا جَاءَ فِي اتِّخَاذِ مُؤذِّنَيْنِ
4- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (4) ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُغِيرُ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ، وَكَانَ يَسْتَمِعُ الأَذَانَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ، وَإِلاَّ أَغَارَ، فَسَمِعَ رَجُلاً يَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :«على الْفِطْرَةِ»، ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «خَرَجْتَ مِنَ النَّارِ»، فَنَظَرُوا فَإِذَا هُوَ رَاعِي مِعْزًى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الأذان أمان من الغارة
الغارة والإغارة: كلاهما مصدر، غير أن الغارة مصدر غَارَ، والإغارة مصدر أَغَار، وكلاهما [مصدر معروف] (5) ، وهي عبارة عن الهجم على العدو صبحًا، من غير إعلام لهم.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - :«على الفطرة»؛ يريد فطرة الإسلام.
وقوله حين سمعه يتشهد: «خرجتَ من النار»؛يريد بتوحيده وصحة إيمانه.
وقوله: «فإذا هو راعي مِعْزًى» حجة في [جواز] (6) أذان المنفرد البادي، بل على كونه مستحبًا في حقه، وهذا مثل حديث أبي سعيد:«إذا كنت في غنمك أو &(2/6)&$
__________
(1) في (ح): «ولم يعلم».
(2) في (غ): «المتؤ خر».
(4) أخرجه البخاري (2/89 رقم610) في كتاب الأذان، باب ما يحقن بالأذان من الدماء، ومسلم (1/288 رقم382) في الصلاة، باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر إذا سمع فيهم الأذان .
(5) في (أ): «وكلاهما مصروف»، وفي (ب): «وكلاهما معروف»، والمثبت من (ح).
(6) مابين المعكوفين ليس في (أ). [محذوف في الأصل**(2/6)
باديتك فارفع صوتك بالنداء». =(2/10)=@
5- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ (1) ، قال:كَانَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُؤَذِّنَانِ. بِلالٌ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الأَعْمَى.
وقوله: «كَانَ لِرسَوُلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُؤَذِّنَانِ» (2) ، يعني: في وقتٍ واحد، وإلا فقد كان له غيرهما؛ أَذَّنَ له أبو مَحْذُورة (3) بمكة (4) ،ورتَّبه لأذانها. وسَعْدُ القَرَظِ أذَّن للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثلاثَ مرات، وقال له: «إِذَا لَمْ تَرَ بِلَالاً، فَأَذِّنْ» (5) ، وأذَّن له الصُّدَائي وقال: «إن أخا صُدًاء أذّن، ومن أذّن فهو يقيم» (6) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 3 ) باب إذا سَمِعَ المؤذن قال مثل ما قال، وفضل ذلك،
وما يقول بعد الأذان
6- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (7) ؛ أَنَّهُ سَمِعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:«إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللهَ لِي الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ، لا تَنْبَغِي إِلا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ. فَمَنْ سَأَلَ الله لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيهُ الشَّفَاعَةُ».
7- وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (8) ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :«إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ أَحَدُكُمُ: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ. قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، ثُمَّ قَالَ: حَيَّ على الصَّلاةِ. قَالَ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ، ثُمَّ قَالَ: حَيَّ على الْفَلاحِ، قَالَ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ، ثُمَّ قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ. قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ قَالَ: لا إِلهَ إِلا اللهُ. قَالَ: لا إِلهَ إِلا اللهُ. مِنْ قَلْبِهِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ».
8- وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ (9) ؛ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ؛ أَنَّهُ قَالَ:«مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً وَبِالإِسْلامِ دِينًا. غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبُهُ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب إذا سمعتم الأذان (10)
قوله: «إَذَا سَمِعْتُمُ المُؤَذِّنَ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ»: حكى الطحاوي إنه &(2/7)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/287 رقم380) في الصلاة، باب استحباب اتخاذ مؤذنين للمسجد الواحد.
(2) في هذا الباب في "التلخيص" حديثان: حديث أنس ويتلوه حديث ابن عمر: «كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤذنان»، فقدَّم المصنِّف في "المفهم" الكلام على حديث ابن عمر وأخّر الكلام عن حديث أنس.
(3) في (ب): «ابن أبي محذورة».
(4) أخرجه أحمد (3/408 ، 409)، وابن ماجه (1/234-235 رقم708) في الأذان، باب الترجيع في الأذان، والنسائي (2/5-6) في الأذان، باب كيف الأذان، وأصل الحديث في مسلم، وتقدم برقم (3 كتاب الصلاة، وليست فيه هذه الزيادة: أنه رتّبه للأذان بمكة.
(5) هو سعد بن عائذ الأنصاري، المؤذن، ويقال له: سعد القَرَظ ؛ لأنه كان يتّجر في القرظ، وحديثه المشار إليه أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (6/40-41 رقم5452) بإسناد ضعيف ؛ لضعف أولاد سعد، ولم أجد طريقًا صحيحة تدل على أن سعدًا هذا أذّن للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإن كان مشهورًا في كتب السير والتراجم، ومن ذلك ما ذكره الحافظ في "الإصابة" (3/54-55) فراجعه إن شئت .
(6) أخرجه أحمد (4/169)، وأبو داود (1/352 رقم514) ف يالصلاة، باب في الرجل يؤذن ويقيم آخر، والترمذي (1/383-384 رقم199) لإي الصلاة، باب ما جاء أن من أذن فهو يقيم، وهو حديث ضعيف ؛ قال الترمذي: «إنما نعرفه من حديث الإفريقي، وهو ضعيف عند أهل الحديث ؛ ضعفه يحيى بن سعيد القطان وغيره، قال أحمد: لا أكتب حديث الإفريقي».
(7) أخرجه مسلم (1/288 رقم384) في الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم يسأل الله له الوسيلة .
(8) أخرجه مسلم (1/289 رقم385) في الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم يسأل الله له الوسيلة .
(9) أخرجه مسلم (1/290 رقم386) في الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم يسأل الله له الوسيلة .
(10) في (ب) زيادة: «فقولوا».(2/7)
اختُلِفَ في حكمه، فقيل: واجبٌ، وقيل: مندوبٌ إليه. والصحيحُ: أنه مندوب، وهو الذي عليه الجمهور. ثم هل يقوله عند سماع كل مؤذن؟ أم لأولي مؤذن فقط؟ =(2/11)=@
واختُلف في الحدّ الذي يحكي فيه المؤذن: هل إلى [التشهدين] (1) الأخيرين؟ أم لآخر الأذان؟ فنُقل القولان عن مالك، ولكنه في القول الآخر: إذا حيعل المؤذن فيقول السامع: لا حول ولا قوة إلا بالله، كما جاء في "الأم" (2) ، وكما رواه أبو داود عن معاوية (3) (4) .
واختلف في المصلِّي: هل يحكي المؤذِّن وهو في الصلاة (5) ؟ فقيل: يَحْكِيهِ في الفريضة والنافلة، وقيل: لايَحْكِيهِ فيهما، وهو مذهبُ أصحابِ أبي حنيفة، وقيل: يحكى (6) في النافلة خاصَّةً، وبه قال الشافعي، والثلاثةُ الأقوالِ في مذهبنا (7) . قال المطرِّز في كتاب "اليواقيت" وفي غيره: «إنَّ الأفعال التي (8) أُخِذَتْ من أسمائها سبعةٌ»، وهي: «بَسْمَلَ»: إذا (9) قال: بسم الله الرحمن الرحيم (10) ، و«سَبْحَلَ»: إذا قال: سبحان الله، و«حَوْقَلَ»: إذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، و«حَيْعَلَ»: إذا قال: حَيَّ على الفلاح، ويجيءُ على القياس: «الحَيْصَلَة»: إذا قال: حَيَّ على الصلاة، ولم يذكره (11) عن غيره (12) . و«حمدل»: إذا قال: الحمد لله، و«هلل»: إذا قال: لا إله إلا الله، و«جعفل»: إذا قال: جعلت فداك (13) . زاد الثعالبي: «الطَّيْقَلَة»: إذا قال: أطالَ الله بقاءَكَ، و«الدَّمْعَزَة»: إذا قال: أدامَ اللهُ عِزَّكَ (14) .
قال ابن الأنباري رحمه الله: ومعنى : "حَيَّ " في كلام العرب: هَلُمَّ وأقبِلْ (15) .
قال (16) الشيخ - رضي الله عنه - : يقال بلفظ واحد، للواحد والجميع (17) ، وهي من أسماء الأفعال، وفتحت الياء من «حَيَّ»: لسكونها وسكون الياء التي قبلها، كما قالوا: لَيتَ (18) .
وفيها لغات: يقال: «حَيَّ، وحَيَّهَلاً، وحَيَّهَلاَ (19) غير مُنَوَّن، وحَيَّهَلْ (20) - ساكنة اللام (21) -، ومنه: قولُ عبد الله بن مسعود: «إذا ذُكِرَ الصالحون فَحَيَّهَلاَ (22) =(2/12)=@ بِعُمَرَ» (23) ، أي: فأقبلوا على ذِكْرِ عمر - رضي الله عنه - . وقد تقدَّم ذكر الفلاح (24) . &(2/8)&$
__________
(1) في (أ): «التشهد من».
(2) يعني"صحيح مسلم"،والحديث المشار إليه هو حديث عمر الآتي بعد هذا برقم(305).
(3) لم أجده عند أبي داود من حديث معاوية، وإنما هو عند النسائي في "سننه" (2/25 رقم677) في الذان، باب القول إذا قال المؤذن: حي على الصلاة، حي على الفلاح وابن خزيمة في "صحيحه" (1/216-217 رقم414 ، 416)، من طريق علقمة بن وقاص قال: إني عند معاوية، إذا أذّن مؤذنه، فقال معاوية كما قال المؤذن، حتى إذا قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما قال: حيّ على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا باللَّه، وقال بعد ذلك ما قال المؤذن، ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول مثل ذلك .
وقد علّق البخاري هذا الحديث في "صحيحه" مختصرًا، وفي سنده واهٍ مبهم . انظر "صحيح البخاري" (2/90-91 رقم612 ، 613) كتاب الأذان، باب ما يقول إذا سمع المنادي، وانظر كلام الحافظ ابن حجر عن هذه الرواية في "فتح الباري" (2/91-92).
(4) بهامش نسخة (أ)- تعليقًا على هذا الموضع - ما نصه: «تتميم: معنى: لا حول ولا قوة إلا بالله: إظهار الفقر إلى الله تعالى بطلب المعونة على ما يحاوله من الأمور، وهو حقيقة العبودية. ويحكى عن ابن مسعود أنه قال: معناه: لا حَوْلَ عن معصية الله إلا بعصمته، ولا قوة على طاعته إلا بمعونته . وإنما قال ذلك ... الصلاة والسلام ...، فلما دعاه المؤذن إلى الصلاة، قال: لا حول ولا قوة على إجابتك والمجيء إلى الصلاة إلا بالله تعالى . والمنبني من هذه الكلمة عند أكثر العلماء: الْحَوْقَلة، بتقديم القاف على اللام، وذكرها الجوهري: الْحَوْلَقة بتقديم اللام على القاف، وأثبتها في فصل الحاء من حروف ... كذا حكاه صاحب "الشافي»، ثم قال: ف على الأول تكون الحاء من الحول، والقاف من القوة، واللام من الله تعالى، و على الثاني تكون الحاء من الحول، واللام من الحول، والقاف من القوة، قال: والأول أولى . صح.
(5) قوله: «هل يمكن المؤذن وهو في الصلاة» سقط من (غ).
(6) في (ح): «يحكيه».
(7) نهاية تعليق فقهي.
(8) في (أ): «الذي». ... ...
(9) في (ح): «إذا».
(10) في (أ): «إذا قال بسم الله».
(11) في (غ): «يذكر».
(12) قوله: «عن غيره» ليس في (أ).
(13) توثيق قول المطرز لغوي صرفي.
(14) توثيق قول الثعالبي لغوي وصرفي.
(15) توثيق قول ابن الأنباري لغوي.
(16) في (أ) «قلت» بدل: «قال الشيخ».
(17) في (ح): «بلفظ الواحد والجميع».
(18) توثيق كلام المصنف لغوي نحوي.
(19) في (أ): «حَيَّهَلاَ و حَيَّهَلاً»، وفي (غ): «وحيهل وحيهلا»، وقوله: «وحَيَّهَلاً» سقط من (ح).
(20) وقوله: «وحَيَّهَلْ» سقط من (غ).
(21) انظر ص
(22) في (ب): «فحيَّهَلاً» منوَّنة .
(23) أخرجه الإمام أحمد في "فضائل الصحابة" (1/263 رقم340)، وسنده صحيح .
(24) انظر ص.(2/8)
وقيل (1) : قياسُ المطرِّز «الحَيْصَلَة» على «الحَيْعَلَة» غيرُ صحيح، بل الحيعلة تنطلق على حَيَّ على الفلاح، و على حَيَّ على الصلاة، وإنما هي (2) من قوله: حي على كذا فقط؛ ولو كان على قياسه في الحيعلة، لكان الذي يقال في حي على الفلاح : الحيفلة (3) ، وهذا لم يقل، والبابُ مسموع (4) .
وقوله: «واسْالُوا (5) الله لِيَ الوَسِيلَةَ» قد فسَّرها في هذا الحديث (6) بأنها منزلةٌ في الجنة؛ قال أهل اللغة: الوَسِيلة: المَنْزِلة، وهي مشتقَّةٌ من توسَّلَ الرجلُ: إذا تقرَّبَ (7) .
وقوله:«وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ» (8) ، قال هذا (9) - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبان (10) له بأنه (11) صاحبها؛ إذْ قد أخبر أنه يقومُ مقامًا لا يقومُهُ أحدٌ غيره، ويَحْمَدُ الله (12) بمحامدَ لم يُلْهَمْهَا أحدٌ غيره، ولكنْ مع ذلك فلابدَّ مِنَ الدعاءِ فيها؛ فإن الله يزيده بكثرة دعاء أمته رفعة كما زاده بصلاتهم، ثم إنه يرجع ذلك عليهم بنيل الأجور (13) ، ووجوب شفاعته - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله: «حلَّت»: وجَبَتْ، يقال: حَلَّ يَحِلُّ: وجب، وحَلَّ يَحُلُّ: نَزَل (14) ، وكأنها لازمة، ولم تنفصلْ عنه ولذلك عَدَّاه بـ: على (15) . =(2/13)=@
تنبيه: واعلَمْ أنَّ الأذانَ على قِلَّةِ ألفاظِهِ مشتملٌ على مسائل العقيدة؛ وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - بدأ بالأكبريَّة، وهي تتضمَّنُ وجودَ اللهِ تعالى، ووجوبَهُ، وكمالَهُ، ثم ثنَّى بالتوحيد، ثم ثلَّث برسالةِ رسولِهِ، ثم ناداهم لِمَا أراد من &(2/9)&$
__________
(1) توثيق القول لغوي وصرفي.
(2) قوله: «عن غيره» ليس في (أ).
(3) في (أ): «الحيعلة»، ويشبه أن تكون هكذا في (ب)، وفي (ح): «الحيقلة»، والمثبت من "الإكمال" وشرح الأبي (2/139).
(4) توثيق القول لغوي وصرفي.
(5) في (أ): «وسلوا»، وفي (ب) و(ج): «واسلوا».
(6) في (أ): «في الحديث».
(7) توثيق لغوي.
(8) قوله: «هو» ليس في (غ).
(9) في (غ): «قال بهذا».
(10) في (غ): «يبين».
(11) مابين المعكوفين من (ح) فقط .
(12) في (ب): «ويحمده».
(13) في (غ): «الأجر».
(14) في (غ): «ويَحُلَّ حَلَّ».
(15) توثيق لغوي.(2/9)
طاعته (1) ، ثم ضمَّن (2) ذلك بالفلاح، وهو البقاءُ الدائم، فأشعَرَ بأنَّ ثمَّ جزاءً، ثم أعاد ما أعاد توكيدًا. =(2/14)=@
( 4 ) باب في فضل الأذان، وما يُصيب الشيطان عنده
9- عَنْ مُعَاوِيَةَ (3) ، قال:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مِنْ (4) بَابِ فَضْلِ الأَذَانِ
قوله: «الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ (5) أَعْنَاقًا»، اختلف في تأويله:
فقيل (6) : معناه أطولُ الناس تَشَوُّفًا إلى رحمة الله وثوابِهِ؛ لأنَّ المتشوِّف يُطيلُ عنقهِ لمِاَ يتشوَّف إليه (7) .
وقال النَّضْرُ بن شُمَيْل: إذا ألجَمَ الناسَ العَرَقُ، طالَتْ أعناقهم؛ لئلَّا يغشاهُمْ ذلك الكَرْبُ (8) .
وقيل: معناه أنهم رُؤَساء، والعَرَبُ تصفُ السادةَ بِطُولِ الأعناقِ (9) ؛ قال الشاعر :
طِوَالُ أَنْصِيَةِ (10) الأَعْنَاقِ واللُّمَمِ (11)
__________
(1) في (أ): «طاعاته».
(2) في (غ): «تضمّن».
(3) أخرجه مسلم (1/290 رقم387) في الصلاة، باب فضل الأذان وهرب الشيطان عند سماعه.
(4) في (غ): «ومن».
(5) قوله: «الناس» سقط في (ح).
(6) في (ب): «بفعل».
(7) توثيق شرح الحديث.
(8) توثيق لغوي لقول النضر من كتبه.
(9) توثيق شرح الحديث. والصحيح [توثيق لغوي].
(10) بيَّن معناه في (أ)، فكتب فوقها: «رقاب».
(11) أورده في "لسان العرب" (15/237)، ونسب لليلى الأخيلية، ولفظه بتمامه هناك:
يُشَبَّهُونَ مُلُوكًا فِي تَجِلَّتِهِمْ ... وَطُولِ أَنْصِيَةِ الأَعْنَاق وَاللَّمَمِ &(2/10)&$(2/10)
(1)
وقيل: أكثر أتباعًا (2) .
وقال ابنُ الأعرابي: أكثَرُ أعمالاً (3) .
وفي الحديث: «يخْرُجُ (4) مِنَ النَّارِ عُنُقٌ» (5) ، ويقال: لفلانٍ عُنُقٌ من الخير، أي: قطعة منه (6) (7) ، والعَنَقُ - بفتح العين والنون (8) -: ضَرْبٌ من السِّيْر (9) ، ومنه: «لاَ يَزَالُ الرَّجُلُ مُعْنقًا مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا (10) ») (11) . =(2/15)=@
وقد احتجَّ بهذا الحديث مَنْ رأى أنَّ فضيلة (12) الأذانِ أكثَرُ مِنْ فضيلة الإمامة، واعتذَرَ (13) عن كونِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لم يؤذِّن؛ لما يشتملُ عليه الأذانُ من الشهادةِ بالرسالة.
وقيل: إنما ترَكَ الأذانَ؛ لما فيه مِنَ الحيعلة (14) ، وهي أمرٌ، فكان لا يَسَعُ أحدًا (15) ممَّن سمعه (16) التأخُّرُ (17) ، وإنْ كان له حاجةٌ وضرورةٌ (18) .
وقيل: لأنَّه كان النبيُّ (19) - صلى الله عليه وسلم - في شُغُلٍ عنه بأمور المسلمين، وهذا هو الصحيح، وقد صرَّح بذلك عمر - رضي الله عنه - ، فقال (20) : «لولا الخِلِّيفَى (21) - أي: الخلافة – لأذَّنت» (22) (23) .
10- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (24) ؛ أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ، أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ لَهُ ضُرَاطٌ حتى لا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قُضِيَ التَّأْذِينُ، أَقْبَلَ حتى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلاةِ أَدْبَرَ، حتى إِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ حتى يَخْطُرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ؛ يَقُولُ لَهُ: اذْكُرْ كَذَا وَاذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ مِنْ قَبْلُ، حتى يَظَلَّ الرَّجُلُ مَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و قوله في "الأم": «أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ لَهُ حُصَاصٌ» (25) ، هو الضُّراط كما فسره [في هذه] (26) الرواية.
وقيل: إنه شدةُ العدو ، قالهما (27) (28) أبو عبيد. وقال عاصم بن أبي النَّجود: إذا ضرب بأذنيه، ومصع (29) بذنبه وعدا، فذلك الْحُصاص (30) ، وهذا يصح حمله على ظاهره؛ إذ هو جسم مُغْتَذٍ يصح منه خروج الريح، وقيل: إنه عبارة عن شدة الغيظ والنّفار (31) ، وذلك لما يسمع من ظهور الإسلام، ودخولهم فيه، وامتثالهم أوامره، كما يعتريه يوم عرفة لما رأى من اجتماع الناس على البر والتقوى، ولما يتنزل (32) عليهم من الرحمة. &(2/11)&$
__________
(1) تخريج الشعر.
(2) في (ب): «أكثر الناس أتباعًا».
(3) توثيق لغوي لقول ابن الأعرابي من كتبه.
(4) في (أ): «تخرج».
(5) أخرجه أحمد(2/336)، والترمذي (4/701-702 رقم2579) في صفة جهنم، باب ما جاء في صفة النار، كلاهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:«يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان يبصر بهما، و (أذنان) يسمع بهما، ولسان ينطق به فيقول: إني وُكِّلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من ادّعى مع الله إلهًا آخر، والمصوّرين».
رقال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب صحيح».
وذكره الشيخ اللباني في "الصحيحة"(512) وقال: «إسناد صحيح على شرط الشيخين».
(6) قوله: «منه» ليس في (ب).
(7) توثيق لغوي.
(8) في (أ): «بفتح النون» فقط، وفي (ح): «بفتح العين» فقط .
(9) توثيق لغوي.
(10) قوله: «حرامًا» ليس في (ح) و(غ).
(11) أخرجه أبو داود (4/463-464 رقم4270) في الفتن والملاحم، باب في تعظيم قتل المؤمن، من طريق خالد بن دِهْقَان، عن عبدالله بن أبي زكريا، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . ومن طريق خالد أيضًا، عن هانئ بن كلثوم، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وسنده صحيح، ولا يعكِّر عليه قول الحافظ ابن حجر في "التقريب" (1636) عن خالد ابن دِهْقان: «مقبول»، فهو ثقة ؛ وثَّقه أبو مُسْهِر، ودُحَيْم، وأبو زُرْعة الدمشقيُّ، وابنُ خلفون، والذهبي، وذكره ابن حبَّان في "الثقات"، وأخرج حديثَهُ في "صحيحه" كما في "تهذيب الكمال" وحاشيته (8/55-56).
ويشهَدُ له ما أخرجه البخاريُّ في "صحيحه" (12/187 رقم6862) في الديات، باب قول الله تعالى: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم } [النساء: 93]، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لن يزاَل المُؤْمِنُ في فُسْحَةٍ مِنْ دينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دمًا حَرَامًا».
(12) في (ب): «من رأى فضيلة».
(13) في (ب): «واعتذروا».
(14) في (أ): «الحيلة».
(15) في (أ): «أحد».
(16) في (ب) و(ح) و(غ): «فكان لا يستخف أحد ممن سمعه».
(17) في (ح): «التأخير».
(18) في (أ): «ضرورة».
(19) قوله: «النبي» ليس في (غ).
(20) في (غ): «وقال».
(21) تعريف لغوي.
(22) أخرجه عبدالرزاق في المصنِّف (1/486 رقم1869)، وابن أبي شيبة (1/203 رقم 2334)، ثلاثتهم من طريق قيس بن أبي حازم، عن عمر . وسنده صحيح .
(23) ؟؟؟؟.
(24) أخرجه البخاري (2/84 رقم608) في الأذان، باب فضل التأذين، و(3/89 رقم1222) في كتاب العمل في الصلاة، باب يفكر الرجل الشيء في الصلاة، و(3/103 ، 104 رقم1231 ، 1232) في كتاب السهو، باب إذا لم يدر كم صلى - ثلاثًا أو أربعًا - سجد سجدتين وهو جالس، وباب السهو في الفرض والتطوع، و(6/337 رقم3285) في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، ومسلم (1/291 رقم389/19) في الصلاة، باب فضل الأذان وهرب الشيطان عند سماعه.
(25) بهامش نسخة (ب) تعليقًا على هذا الموضع ما نصه: «الحصاص بالمهملات».
(26) في (أ): «بهذه».
(27) توثيق لغوي من كلام أبي عبيد.
(28) في (أ) و(غ): «وقالهما».
(29) بين معناها في (أ) فكتب فوقها: «حرّك».
(30) توثيق كلام عاصم بن أبي النجود.
(31) توثيق لغوي.
(32) في (ح): «ينزل».(2/11)
وقوله: «حتى إذا ثُوِّب بالصلاة أدبر»، أي: أقيمت (1) . وأصله: أنه رجع إلى ما يشبه (2) الأذان، أو لأن الإقامة يُرجع إليها وتُكرر على ما تقدم (3) ، وأصله: من ثاب إلى الشيء إذا رجع (4) ، ومنه قيل لقول المؤذن: «الصلاة خير من النوم» تثويب (5) . وقال =(2/16)=@ الخطابي: التثويب: الإعلام بالشيء ووقوعه (6) . وأصله: أن الرجل إذا جاءفَزِعًا لوّح بثوبه (7) (8) .
وقوله: «حتى يَخْطُرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ»، قال الباجي: يمرّ فيحول بين المرء وما يريد من نفسه؛ من إقباله على صلاته وإخلاصه (9) ، وهو على رواية أكثرهم بضم الطاء، وعن أبي بحر: يخطِر (10) - بكسرها -؛ من قولهم: خطر البعير بذنبه: إذا حرّكه (11) ، فكأنه يريد حركته بوسوسة النفس وشغل السِّرّ (12) .
وقوله: «حتى يظل الرجل (13) (14) ما يدري كم صلى»، هذه الرواية التي أثبتناها (15) هي الواضحة، وهي : يَظَلّ (16) بالظاء الْمُشَالَة (17) ؛ بمعنى: يصير (18) ، كما قال تعالى : {ظلّ وجهه مسودًّا} (19) ، وقيل: معناه: يبقى ويدوم (20) ، وأنشدوا عليه (21) :
ظَلِلْتُ ردائي فوق رأسي قاعدًا (22) (23)
وحكى الدَّاوُدي: أنه رُوي: يضل – بالضاد (24) -؛ بمعنى: ينسى ويذهب وهمه (25) (26) ؛ قال الله عز وجل : {أن تضل إحداهما} (27) .
وقوله: «إن يَدْرِي كَمْ صَلَّى» (28) بالكسر، بمعنى (29) : ما يدري، ويُروى: «أن يدري» بفتحها، وهي رواية أبي عمر بن عبد البر (30) . وقال: هي رواية أكثرهم. قال: ومعناها: لا يدرى (31) . وكذا ضبطها الأصيلي. وفي كتاب البخاري: «أن» بالفتح (32) ، وليست هذه الرواية بشيء إلا مع رواية الضاد، فتكون «أن» مع الفعل بتأويل المصدر، ومفعول ضل (33) : «إن» (34) بإسقاط حرف الجر (35) ، أي: يضل عن درايته، وينسى عدد (36) ركعاته، وهذا أيضًا فيه بُعد. =(2/17)=@ &(2/12)&$
__________
(1) توثيق شرح حديثي.
(2) في (غ): «يشير» وتراجع في (غ).
(3) توثيق شرح حديثي.
(4) توثيق لغوي وشرح حديثي.
(5) توثيق لغوي وشرح حديثي.
(6) توثيق كلام الخطابي.
(7) "غريب الحديث" للخطابي (1/715)
(8) توثيق لغوي شرح حديثي.
(9) توثيق كلام الباجي.
(10) لم تتضح الكلمة جيدًا في(ح)، فأشبه أن يكون: «يحضر»، وقد سقطت الكلمة من(ب).
(11) توثيق قول أبي بكر
(12) في (ح): «النفس».
(13) قوله: «الرجل» مكرر في (أ).
(14) في (غ): «لا».
(15) في (أ): «أنشاها».
(16) في (أ): «تظل».
(17) قوله: «المشالة)) ليس في (ب).
(18) توثيق لغوي وتوضيح.
(19) سورة النحل، الآية: 58 .
(20) توثيق لغوي وتوضيح.
(21) قوله: «عليه» ليس في (أ).
(22) هذا صدر بيت لامرئ القيس:
أَعُدُّ الْحَصَى مَا تَنْقَضِي عَبَرَاتِي
الديواني تحقيق حسن السندوبي ط2 دار إحياء العل، م – بير، ت 1416هـ - 1996م.
(23) تخريج البيت.
(24) تخريج الرواية.
(25) قوله: «وهمه» ليس في (ح).
(26) توثيق لغوي.
(27) سورة البقرة، الآية : 282.
(28) هذا اللفظ الذي أورده المصنف هنا هو لفظ "الموطأ" (1/69-70 رقم6) في الصلاة، باب ما جاء في النداء للصلاة، ونحوه إحدى روايات مسلم، لكن وقع هناك: «كيف» بدل: «كم».
(29) في (ح): «معنى».
(31) انظر "التمهيد" (18/319).
(32) تخريج الرواية.
(33) في (أ): «صلى».
(34) كذا في النسخ ما عدا في (غ) في تشبه أتى وهو الأنسب للسَّياق.
(35) أي: بإسقاطه قبل «أن»، وحذف – أو إسقاط- حرف الجر قبل «أن) و«أنَّ» قياسيٌّ سائغٌ في العربية. انظر: [تعليق لغوي نحوي].
(36) في (ح): «عدة».(2/12)
( 5 ) بَابُ رَفْعِ اليَديْنِ فِي الصَّلَاةِ، وَمَتَى يَرْفَعُهُمَا؟ وَإِلَى أَيْنَ؟
11- عَنْ ابْنِ عُمَرَ (1) ، قال:كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، إِذَا قَامَ لِلصَّلاةِ، رَفَعَ يَدَيْهِ حتى يَكُونَا بِحَذْوِ مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ كَبَّرَ. فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَإِذَا رَفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلا يَفْعَلُهُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنْ بَابِ رَفْعِ اليَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ
قوله: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتح الصلاة رفع (2) يديه» (3) ، زعم بعض من لقيناه من الفقهاء أن «كان» مهما، أطلقت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزمها (4) الدوام والكثرة، قال: بحكم (5) عرفهم، والشأن في نقل هذا العرف، وإلا فأصلها أن تصْدُقَ على من فعل الشيء مرة واحدة، ونحن على الأصل حتى نُنقل (6) عنه (7) .
واختلف العلماء في رفع اليدين في الصلاة، هل يرفعهما، أو لا يرفعهما في شيء من الصلاة؟ أو يرفعهما مرة واحدة عند الافتتاح؟ ثلاثة أقوال عند مالك. =(2/18)=@ مشهور مذهبه الثالث، وهو مذهب الكوفيين (8) ؛ على حديث عبدالله بن مسعود والبراء رضي الله عنهما: أنه عليه - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه عند الإحرام مرة، ثم لا يزيد عليها. وفي أخرى: «ثم لا يعود». خرّجهما (9) أبو داود، ولا يصح شيء منهما (10) ، ذكر عللهما أبو محمد عبد الحق (11) . &(2/13)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (2/218 ، 219 ، 221 ، 222 رقم735 ، 736 ، 738 ، 739) في الأذان، باب رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء، وباب رفع اليدين إذاكبر وإذا ركع وإذا رفع، وباب إلى أين يرفع يديه، وباب رفع اليدين إذا قام من الركعتين، ومسلم (1/292 رقم390/22) في الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام والركوع، وفي الرفع من الركوع وأنه لا يفعله إذا رفع من السجود .
(2) في (ح): «ورفع».
(3) بداية تعليق أصولي.
(4) في (ح): «يلزمها».
(5) في (غ): «لحكم».
(6) نهاية تعليق أصولي.
(7) في (غ): «ينقل».
(9) في (ب) و(ح): «خرجها».
(10) في (غ): «منها».
(11) أما حديث عبدالله بن مسعود فأخرجه الإمام أحمد في "المسند" (1/388 ، 441)، وأبو داود (1/477-479 رقم748 ، 751) في الصلاة، باب من لم يذكر الرفع عند الركوع، والترمذي (2/40-41 رقم257) في الصلاة، باب ما جاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرفع إلا في أول مرة، والنسائي (2/182 ، 195) في افتتاح الصلاة، باب ترك ذلك، وباب الرخصة في ترك ذلك، جميعهم من طريق سفيان الثوري، عن عاصم بن كليب، عن عبدالرحمن بن الأسود، عن علقمة، عن ابن مسعود، به، ولفظه لموضع الشاهد: «فلم يرفع يديه إلا مرة»، وفي لفظ: «فرفع يديه في أول مرة»، وفي لفظ: «فرفع يديه مرة واحدة».
وأما اللفظ الذي ذكره المصنف هنا فهو لحديث البراء الآتي . وحسن الترمذي هذا الحديث، ثم قال: «قال عبدالله بن المبارك: قد ثبت حديث من يرفع يديه - وذكر حديث الزهري، عن سالم، عن أبيه -، ولم يثبت حديث ابن مسعود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرفع يديه إلا في أول مرة».
وقال البخاري في "جزء رفع اليدين" (ص113-114): «وقال أحمد بن حنبل عن يحيى ابن آدم: نظرت في كتاب عبدالله بن إدريس، عن عاصم بن كليب ليس فيه: «ثم لم يعد»، فهذا أصح ؛ لأن الكتاب أحفظ عند أهل العلم ؛ لأن الرجل يحدّث بشيء، ثم يرجع إلى الكتاب فيكون كما في الكتاب».
وقال أبو داود: «هذا مختصر من حديث طويل، وليس هو بصحيح على هذا اللفظ».
وقال أبو حاتم، كما في "العلل" لابنه (1/96 رقم258): «هذا خطأ ؛ يقال: وهم فيه الثوري، وروى هذا الحديث عن عاصم جماعة، فقالوا كلهم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - افتتح فرفع يديه، ثم ركع، فطبق وجعلها بين ركبتيه، ولم يقل أحد ما رواه الثوري.
وهذا الحديث الذي ذكره أبو حاتم هو: ما أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (1/418)، والبخاري في "جزء رفع اليدين" (ص33)، وأبو داود (1/477 رقم 747) في الصلاة، باب افتتاح الصلاة، والنسائي (2/184- 185) في التطبيق، جميعهم من طريق عبد الله بن إدريس، عن عاصم بن كليب، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن علقمة، أن عبد الله قال: علّمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة، فقام فكبّر ورفع يديه، ثم ركع، فطبّق يديه، فجعلهما بين ركبتيه،فبلغ ذلك سعدًا، فقال: صدق أخري، قد كنا نفعل ذلك، ثم أمرنا بهذا، وأخذ بركبتيه.
قال البخاري: «هذا هو المحغفوظ عند أهل النظر من حديث عبد الله بن مسعود».
وأما حديث البراء فأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (2/71 رقم2531)، والحميدي في "مسند" (2/316 رقم 724)، وأبو داود في "سننه" (1/478 رقم 749 ، 750) في الصلاة، باب من لم يذكر الرفع عند الركوع، وابن حبان في "المجروحين" (3/100)، والدارقطني في "سننه" (1/293- 294 رقم 21 ، 24)، أما عبد الرزاق والحميدي وابن حبان فمن طريق سفيان بن عيينة، واما أبو داود فمن طريق شريك بن عبد الله وابن عيينة، وأما الدارقطني فمن طريق إساعيل بن زكريا ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، جميعهم عن يزيد بن أبي زياد، به.
ولفظ الحميدي: رأيت رسول الله إذا افتتح الصلاة رفع يديه. قال سفيان: وقدم الكوفة – يعني: يزيد بن أبي زياد-، فسمعته يحدَّث به، فزاد فيه: ثم لا يعود، فظننت أنهم لقّنوه، وكان بمكة يومئذ أحفظ منه يوم رأيته بالكوفة، وقالوا لي: إنه قد تغير حفظه – أو: ساء حفظه-.اهـ.
وقال أبو داود: (وروى هذا الحديث هشيم وخالد وابن إدريس عن يزيد، لم يذكروا: ثم لا يعود».
وقال ابن حبان: «وكان يزيد صدوقًا، إلا لما كبر ساء حفظه وتغير، فكان يتلقن ما لقن، فوقع المناكير في حديثه في تلقين غيره إياه وإجابته فيما ليس من حديثه لسوء حفظه، فسماع من سمع منه قبل دخوله الكوفة في أول عمره سماع صحيح، وسماع من سمع منه في آخر قدومه الكوفة بعد تغير حفظه وتلقَّنه ما يلَّقن سماع ليس بشيء...»، ثم ذكر الحديث، ثم قال: هذا خبر عوّل عليه أهل العراق في نفي رفع اليدين في الصلاة عند الركوع وعند رفع الرأس منه، ولس في الخبر: «ثم لم يُعد». وهذه الزيادة لقّنها أهل الكوفة يزيد بن أبي زياد في آخر عمره فتلقّن كما قال سفيان بن عيينة: إنه سمعه قديمًا بمكة يحدث بهذا الحديث بإسقاط هذه اللفظة.
وأخرج الدارقطني في الموضع السابق الحديث بهذه الزيادة: «ثم لم يُعد»، ثم أخرجه من طريق آخر بدونها، مث قال: «وهذا هو الصواب»، وإنما لُقِّن يزيد في آخر عمره: «ثم لم يعد» فتلقَّنه، وكان قد اختلط، ثم أخرجه من طريق علي بن عاصم، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن يزيد بن أبي زياد يذكر الزيادة، ثم قال: «قال علي: فلما قدمت الكوفة قيل لي: إن يزيد حيّ، فأتيته، فحدثني بهذا الحديث، فقال: حدثني عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قام إلى الصلاة فكبر ورفع يديه حتى ساوى بهما أذنيه، فقلت له: أخبرني ابن أبي ليلى أنك قلت: ثم لم يعد، قال: لا أحفظ هذا، فعاودته، فقال: ما أحفظه».
وروى البيهقي في "سننه" (2/76) عن عثمان بن سعيد الدامي قال: «سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث، فقال: «لا يصح عنه هذا الحديث. قال: وسمعت يحيى بن معين يضعف يزيد بن أبي زياد. قال أبو سعيد الدارمي: ومما يحقق قول سفيان بن عيينة – أنهم لقنوه هذه الكلمة-: أن سفيان الثوري وزهير بن معاوية وهشيمًا وغيرهم من أهل العلم لم يجيئوا بها، إنما جاء بها من سمع منه بآخرة».(2/13)
والأول (1) : هو آخر (2) أقواله وأصحها، والمعروف من عمل الصحابة، ومذهب كافة (3) العلماء، إلا مَن ذُكر، وهو أنه يرفعهما عند الافتتاح، وعند الركوع، والرفع منه، وإذا قام من اثنتين (4) ، وهو الذي يشهد له الصحيح من الأحاديث. والثاني: أضعف الأقوال وأشذّها، وهو: ألا يرفع، ذكره ابن شعبان، وابن خُوازمَنْداد (5) ، وابن القصار.
تنبيه: هذا الرفُع من هيئات الصلاة وفضائلها في تلك المواضعِ، وذهَبَ داودُ إلى وجوبِهِ عند تكبيرةِ الإحرام، وقال بعضهم: إنه واجبٌ كلُّه (6) .
12- وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ (7) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ حتى يُحَاذِيَ بِهِمَا أُذُنَيْهِ. وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ حتى يُحَاذِيَ بِهِمَا أُذُنَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، فَقَالَ:«سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ.
وَفِي رِوَايَةٍ: حتى يُحَاذِيَ بِهِمَا فُرُوعَ أُذُنَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «حتى يحاذي بهما أذنيه»، وفي أخرى: «منكبيه»، وفي أخرى: «فروع أذنيه»، وفي غير كتاب مسلم: «فوق (8) أذنيه مدًّا (9) مع رأسه»، وفي أخرى: =(2/19)=@ «إلى صدره» (10) . وبحسب اختلاف هذه الروايات.
اختلف (11) العلماء في المختار من ذلك. فذهب (12) عامة أئمة الفتوى: إلى اختيار رفعهما حذو منكبيه، وهو أصحّ قوليْ مالك وأشهرهما، والرواية عنه: إلى صدره.
وذهب ابن حبيب إلى رفعهما حذو أذنيه، وقد جمع بعض المشايخ بين هذه الأحاديث وبين الروايتين عن مالك، فقال: تكون رسغاه (13) مقابلةً أ على صدره، وكفّاه حذو منكبيه، وأطراف أصابعه حذو أذنيه. وتبقى رواية: «فوق رأسه» (14) ، لا تدخل (15) في هذا الجمع. وقال بعضهم: هو على التوسعة، وهو الضحيح. وقد ذهب الطحاوي إلى أن اختلاف الأحاديث لاختلاف الأحوال.
واختلف أصحابنا في صفة رفعهما، فقيل: قائمتين كما جاء: «يمدهما مدًّا»، وهو مذهب العراقيين من أصحابنا. وقيل: منتصبتين؛ بطونهما إلى الأرض وظهورهما مما يلي السماء. وذهب بعضهم إلى نصبهما قائمتين، لكن تكون أطراف الأصابع منحنية قليلاً (16) . &(2/14)&$
__________
(1) في (أ): «والأولى».
(2) في (ح): «أحد».
(3) في (غ): «ومذهب عمل كافة».
(4) في (ب) تشبه أن تكون: «الثنتين».
(5) يراجع الاسم.
(7) أخرجه البخاري (2/219 رقم737) في الأذان، باب رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع، ومسلم (1/293 رقم391 ) في الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام والركوع، وفي الرفع من الركوع، وإنه لا يفعله إذا رفع من السجود.
(8) في (ح): «قول».
(9) في (ح): «مرًا»، وسقطت الكلمة من (غ).
(10) لم أجد الحديث بهذااللفظ الذي ذكره المصنِّف، وإنما أخرج أبو داود في "سننه" (1/479 رقم753) في الصلاة، باب من لم يذكر الرفع عند الركوع، والترمذي (2/5-6 رقم240) في الصلاة، باب ما جاء في نشر الأصابع عند التكبير، والنسائي (2/124 رقم883) في الافتتاح، باب رفع اليدين مدًّا، والبيهقي (2/27)، أما أبو داود والنسائي فمن طريق يحيى القطان، وأما الترمذي فمن طريق عبيدالله بن عبدالمجيد الحنفي، وأما البيهقي فمن طريق أبي داود الطيالسي وأبي عامر العقدي، جميعهم عن محمد بن عبدالرحمن بن أبي ذئب، عن سعيد بن سمعان، عن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذاقام إلى الصلاة رفع يديه مدًّا. وسنده صحيح .
ورواه الترمذي والبيهقي أيضًا من طريق يحيى بن يمان، عن ابن أبي ذئب بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كبر للصلاة نشر أصابعه .
قال الترمذي عن الرواية الأولى: «هذا أصحّ من رواية يحيى بن اليمان، وأخطأ يحيى بن اليمان في هذا الحديث»، ونقل عن شيخه الدارمي أنه قال مثل ذلك .
(11) في (ح): «اختلاف».
(12) في (ح): «فمذهب».
(13) تراجع المخطوطة وإلا فعلق.
(14) وتقدم أني لم أعثر على رواية بهذا اللفظ، فلا ينبغي أن تثير إشكالاً حتى تثبت .
(15) في (ح): «ولا تدخل».
(16) ؟؟؟(2/14)
وماحكمة ذلك؟ اختلف فيه، فقيل فيه أقوال، أنسبها مطابقة قوله: «الله أكبر» لفعله.
ثم اختلف في وقت رفعهما، فحاء في بعض الروايات: «كان إذا كبر رفع يديه»، وفي بعضها: «إذا افتتح الصلاة»، و«إذا قام إلى الصلاة»، وهذا يشعر باستصحابها ومقارنتها.
13- وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ (1) ؛ أَنَّهُ رَأَى النبي - صلى الله عليه وسلم - رَفَعَ يَدَيْهِ حِينَ دَخَلَ فِي الصَّلاةِ، كَبَّرَ وَضَعَهُمَا حِيَالَ أُذُنَيْهِ، ثُمَّ الْتَحَفَ بِثَوْبِهِ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى على الْيُسْرَى. فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ أَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنَ الثَّوْبِ، ثُمَّ رَفَعَهُمَا، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ، فَلَمَّا قَالَ:«سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» رَفَعَ يَدَيْهِ. فَلَمَّا سَجَدَ، سَجَدَ بَيْنَ كَفَّيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث وائل بن حجر - رضي الله عنه - : «وصفّهما حيال أذنيه» (2) . حيال (3) وحذاء وإزاء بمعنى واحد (4) .
وقوله: «ثم التحف بثوبه»؛ يدّل على أن العمل اليسير في الصلاة =(2/20)=@ لا يفسدها، خلافًا لما حكى العبدي من متأخري أئمة العراقيين: أن العمل فيها عمدًا مفسد (5) للصلاة. قال: ويستوي في ذلك قليله وكثيره. والالْتحاف: والاشتمال (6) والتلفف، كله بمعنى واحد (7) .
وقوله: «ثم وضع يده اليمنى على اليسرى»: اختُلف فيه على ثلاثة أقوال: فروى مُطَرِّف وابن الماجشون عن مالك أنه قال: يَقْبِضُ باليمنى (8) على المعصم والكوع من يده اليسرى تحت صدره تمسكًا (9) بهذا الحديث. وروى ابن القاسم: أنه يسدلهما (10) ، وكره له ما تقدم، ورأى أنه من الاعتماد على اليد في الصلاة المنهي عنه في كتاب أبي داود (11) . وروى أشهب التخيير فيهما والإباحة.
وقوله: «أخرج يديه من الثوب» يدل على أنه يخرجهما ويرفعهما،[ كما صار إليه مالك ] (12) . &(2/15)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/301 رقم401) في الصلاة، باب وضع يده اليمنى على اليسرى بعد تكبيرة الإحرام.
(2) كذا في جميع الأصول، والذي في "صحيح مسلم" بتحقيق عبد الباقي و"صحيح مسلم" مع شرح الأُبِّي (2/157): «وصف همّام: حيال أذنيه»، وهو الصواب فيما يظهر، وهمّام هو ابن يحيى أحد رواة هذا الحديث، يبيِّن بصنيعه هذا صفة رفع اليدين، ومما يدلّ على أنه هو الصواب: أن الإمام أحمد روى هذا الحديث في "مسنده" (4/317) كذلك: «وصف همام: حيال أذنيه» وفي «سنن البيهقي» (2/71): قال أبو عثمان: وصقف همام حيال أذنيه، وأبو عثمان هذا هو عفّان بن مسلم الراوي عن همام هذا الحديث، وفي "جامع الأصول" لابن الأثير (5/305 رقم3388): «وصف همام - أحد الرواة -: حيال أذنيه».
(3) في (ب): «وحيال».
(4) تعريف لغوي لـ: حيال، حذاء، إزاء، وتوثيق أن المعنى فيهم واحد.
(5) في (ح) و(غ): «مفسدًا».
(6) في (ح) في (غ): «الاشتمال» بدون واو .
(7) تعريف لغوي لـ: الالتحاف، والاشتمال والتلفف وتوثيق أن المعنى فيهم واحد.
(8) في (ح): «اليمنى».
(9) في (أ): «متمسكًا».
(10) تعريف الإسدال.
(11) أخرجه أبو داود في"سننه" (1/604-605رقم992) في الصلاة، باب كراهية الاعتماد على اليد في الصلاة، من طريق أحمد بن محمد بن شبُّوية، والبيهقي في "سننه" (2/135 طريق أحمد بن يوسف السلمي، كلاهما عن عبدالرزاق، عن معمر، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يعتمد الرجل على يديه في الصلاة .
وسنده صحيح، لكنه قد يُعلّ باختلاف الرواة على عبدالرزاق في متنه . فابن شبويه والسلمي روياه عنه هكذا .
ورواه الإمام أحمد في "المسند" (2/147) عن عبدالرزاق بلفظ: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجلس الرجل في الصلاة وهو يعتمد على يديه .
ومن طريق الإمام أحمد أخرجه أبو داود في الموضع السابق، والحاكم في "المستدرك" (1/230)، إلا أنه قال: «يده اليسرى»، ثم قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي .
وهذا اللفظ موافق لما في "مصنف عبدالرزاق" (2/197 رقم3054 رواية إسحاق بن إبراهيم الدبري عن عبدالرزاق، ولفظه: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يديه .
ومن طريق الدبري رواه الحاكم في الموضع السابق .
وأخرجه أبو داود في الموضع السابق من طريق محمد بن رافع بلفظ: نهى أن يصلي الرجل وهو معتمد على يده، ثم قال أبو داود: وذكره في باب الرفع من السجود .
ثم أخرجه أبو داود أيضًا من طريق محمد بن عبدالملك الغزّال، عن عبدالرزاق بلفظ: نهى أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة .
وقد ذهب البيهقي - عقب ذكره لهذه الألفاظ - إلى ترجيح رواية الإمام أحمد، فقال: «فهذا حديث قد اختُلف في متنه على عبدالرزاق ...»، ثم ساقه من رواية الإمام أحمد، ثم قال:«وهذا أبين الروايات، ورواية غير ابن عبدالملك لا تخالفه وإن كان أبين منها، ورواية ابن عبدالملك وهم، والذي يدل على أن رواية أحمد بن حنبل هي المراد بالحديث: أن هشام بن يوسف رواه عن معمر كذلك ...»، ثم ساقه من طريقه .
(12) قوله: «كما صار إليه مالك» ليس في (أ).(2/15)
وقوله: وسجد بين كفيه "؛ إنما فعل ذلك ليتمكن من التجنيح (1) الذي كان يفعله في سجوده، كما روي عنه أنه كان يجنِّح حتى يُرى بياض إبطيه (2) . =(2/21)=@
***********
( 6 ) باب التكبير في الصلاة
14- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (3) ، قال:كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُولُ:«سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ:«رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ» ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي سَاجِدًا، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الصَّلاةِ كُلِّهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب التكبير في الصلاة
[قوله] (4) : «ثم كبر (5) )؛ حجة في وجوب التكبير للإحرام وتعيينه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - للذي علمه الصلاة:«إذا قمت إلى الصلاة فكبر» (6) . واختلف في حكم التحريم، فعامة أهل العلم على وجوبه، إلا ما روي عن الزهري وابن المسيب والحسن والحكم والأوزاعي وقتادة في (7) أنه سنة، وأنه يجزئ الدخول في الصلاة بالنية، وعامة أهل العلم (8) على أنه لا يجزئ إلا بلفظ التكبير، إلا أبا حنيفة وأصحابه فانهم يجيزون الدخول بكل لفظ فيه تعظيم لله (9) - عز وجل - ، وأجاز الشافعي: «الله الأكبر»، وأجاز أبو يوسف: «الله الكبير»، ومالك لا يجيز إلا اللفظ المعيّن: «الله أكبر» المعهود (10) في عرف اللغة والشرع لا سواه. والأولى ما صار إليه مالك؛ لما صحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث علي بن أبي طالب: أن &(2/16)&$
__________
(1) تعريف «التجنيح».
(2) سيأتي حديث التجنيح في كتاب الصلاة برقم (97 ، 98).
(3) أخرجه البخاري (2/282 ، 290 رقم795 ، 803) في الأذان، باب ما يقول الإمام ومن خلفه إذا رفع رأسه من الركوع، وباب يهوي بالتكبير حين يسجد، ومسلم (1/293 ، 294 رقم392) في الصلاة، باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة إلا رفعه من الركوع فيقول فيه: سمع الله لمن حمده .
(4) في (أ): «وقوله».
(5) في (ح): «ثم يكبر».
(6) وهو الحديث الآتي برقم (317).
(7) قوله: «في " سقط من (ح).
(8) قوله: «العلم " سقط من (ح)، وبموضعه إشارة إلحاق، ولم يكتب بالهامش شيء، فَلعلّه لم يظهر في التصوير .
(9) في (أ): «الله».
(10) في (ح): «المعروف».(2/16)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تحريم الصلاة التكبير، وتحليلها التسليم» (1) ، والألف واللام في التكبير والتسليم حوالة على معهود تكبيره - صلى الله عليه وسلم - وتسليمه (2) ، ولم يرو عنه قط أنه قال في التكبير ولا في التسليم (3) غير لفظين معينين وهما: الله أكبر ، والسلام (4) عليكم (5) . =(2/22)=@
15- وَعَنْهُ؛ أَنَّهُ كَانَ يُصَلي لَهْم فَيُكَبِّرُ فِي الصَّلاةِ كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: وَاللهِ إِنِّي لأَشْبَهُكُمْ صَلاةً بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «يُكَبِّرُ كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ ، وأن (6) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك»؛ هذا هو الأمر الثابت من فعله - صلى الله عليه وسلم - والذي استقرّ عليه عمل المسلمين (7) . وقد كان بعض السلف يرى: أنه لا تكبير في الصلاة غير تكبيرة الإحرام.
وقال بعضهم: ليس بسنة إلا للجماعة؛ ليشعر الإمام بحركاته مَنْ وراءه. ومذهب أحمد بن حنبل: وجوب جميع التكبير في الصلاة، وعامة العلماء على أنه سنة، بدليل قوله للذي علمه الصلاة:«فتوضا (8) كما أمرك الله، ثم استقبل القبلة، ثم كبر» (9) ، ولم يذكر له إلا فرائض الصلاة.
وفي (10) قوله: «كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ» (11) ما يدل على مقارنة التكبير للفعل، وعليه يدل قوله: «سمع الله لمن حمده» (12) حين يرفع صلبه من الركوع، وقوله: «ثم يكبر حين يهوي ساجدًا»(2)، وهو قول عامة أهل العلم، واستثنى مالك من ذلك التكبير بعد القيام من اثنتين، فلا يكبر حتى يستوي قائمًا، وهو مذهب عمر بن عبد العزيز. قال مالك: وإن كبر هنا في نهوضه فهو في سعة. &(2/17)&$
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (1/123 ، 129)، وأبو داود (1/49-50 رقم61) في الطهارة، باب فرض الوضوء، و(1/411 رقم618) في الصلاة، باب الإمام يحدث بعد ما رفع رأسه، والترمذي (1/8 رقم 3) في الطهارة، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور، وابن ماجه (1/101 رقم275) في الطهارة، باب مفتاح الصلاة الطهور، جميعهم من طريق عبدالله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن الحنفية، عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم».
قال الترمذي: «هذا الحديث أصح شيء في الباب وأحسن، وعبدالله بن محمد بن عقيل هو صدوق، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: كان أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم والحميدي يحتجّون بحديث عبدالله بن محمد بن عقيل. قال محمد - أي البخاري -: وهو مقارب الحديث».
(2) قوله: «تسليمة» سقط في (غ).
(3) قوله: «والألف والام ...." إلى هنا ليس في (ح).
(4) في (أ): «السلام " بدون الواو .
(5) سيأتي شرح بعض ألفاظ هذا الحديث في الحديث الآتي برقم (313).
(6) في (غ): «فإن».
(7) في (غ): «فإن».
(8) زاد قبلها في (غ): «إذا قمت إلى الصلاة».
(9) هو جزء من حديث المسيء صلاته، وسيأتي تخريجه برقم (317 "التلخيص».
(10) في (غ): كأنه ضرب على «في».
(11) قوله: «ما» سقط من (غ).
(12) هذان اللفظان في الحديث المتقدم قبل هذا برقم (312)، ومن عادة المصنِّف رحمه الله إغفال الترتيب أحيانًا .(2/17)
وقوله: «يَهْوِي» هو بفتح الياء، وكسر الواو (1) ، وماضيه: «هَوَى»، بفتح الواو، ومعناه: يسقط إلى الأرض ساجدًا. وأما: «أَهْوَى الرباعي، فمضارعه: «يُهْوِي» بضم الياء وكسر الواو، فمعناه: أقبل على الشيء ليأخذه بيده، يقال: أهويت للشيء (2) : إذا أردت أخذه بيدك. وأما: «هَوِي" بفتح الهاء، وكسر الواو، فمعناه: أحَبّ، ومضارعه: «يَهْوَى» بفتح الياء والواو، ذكره الجوهري في "الصحاح" (3) (4) . =(2/23)=@
( 7 ) بَابُ مَا جَاءَ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ وَبَيَانِ أَرْكَانِهَا
16- عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ (5) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:«لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ».
زَادَ فِي رِوَايَةٍ:«فَصَاعِدًا».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب القراءة في الصلاة
قوله: «لَا صَلَاةَ» ظاهرهٌ: نفيُ الإجزاءِ في كلِّ صلاةٍ لا يُقْرأَ فيها بأمِّ القرآن؛ وهو مذهبُ مالكٍ والشافعيِّ والجمهور، ورأَى أبو حنيفة: أنَّها (6) لا تتعيَّن، وأنَّ غيرها مِنْ آيِ القرآنِ وسُوَرِهِ تُجْزئُ، فيتعيَّن عليه (7) حمل: «لَا صَلَاةَ» على نفي الكمالِ، أو على الإجمالِ بينهما (8) ؛ كما صار القاضي إليه. ومذهَبُ الجمهور: هو الصحيحُ؛ لأن نفي الإجزاءِ هو السابقُ للفهمِ؛ كما تقولُ العربُ: لا رَجُلَ في الدارِ، فإنَّه يقتضي هذا نَفْيَ أصلِ الجنسِ الكاملِ والناقصِ (9) ، ولا يُصَارُ لنفي الوصفِ إلا بدليلٍ من خارج (10) .
واختلَفَ العلماءُ في القراءةِ في الصلاة:
فذهَبَ جمهورُهُمْ: إلى وجوبِ قراءةِ أمِّ (11) القرآنِ للإمامِ، والفَذِّ (12) في كلِّ ركعة؛ وهو مشهورُ قولِ مالك.
وعنه أيضًا: أنها واجبةٌ في جُلِّ الصلاة؛ وهو قولُ إسحاق.
عنه: أنها تجبُ في ركعةٍ واحدةٍ، وقاله المُغِيرَةُ والحسَنُ.
وعنه: أنَّ القراءةَ لا تجبُ في شيءٍ من الصلاةِ؛ وهو أشدُّ الروايات.
وحُكِيَ عنه: أنها تجبُ في نصف الصلاةِ؛ وإليه ذهَبَ الأوزاعيُّ. =(2/24)=@
وذهب الأوزاعيُّ (13) أيضًا (14) أبو ثور (15) ، وغيرهما: إلى أنها تجبُ على &(2/18)&$
__________
(1) قوله: «وكسر الواو» سقط من (غ).
(2) في (غ): «الشيء».
(3) توثيق لغوي من "صحاح الجوهري".
(4) قوله: «وقوله: يهوى... إلى قوله: «في الصحاح» ليس في (أ)، وبهامش (ب) ما نصه: «بلغ مقابلة».
(5) أخرجه البخاري (2/236-237 رقم756) في الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر، ومسلم (1/295-296 رقم394) في الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وأنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكن تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها .
(6) أي الفاتحة . ...
(7) في (أ): «عنده».
(8) أي: بين الصحة والكمال . ... ...
(9) توثيق نحوي.
(10) يعني: ولا دليل هناك في هذه المسألة، فتجب قراءةُ أُمِّ القرآن – وهي الفاتحة- في الصلاة؛ لن المفهوم في الحديث نَفْيُ الإجزاء والصحة، لا نَفْيُ الكمال.
(11) قوله: «أم " سقط من (ح).
(12) علق عليها بهامش (أ) بما نصه: «الفذّ: ألفرد، أي المنفرد».
(13) قوله: «وذهب الأوزاعي» سقط من (ح)، وفي موضعه إشارة إلحاق، ولم يظهر شيء في التصوير .
(14) قوله: «أيضًا» سقط من (غ).
(15) في جميع النسخ: «وأبو أيوب»، والتصويب من "الإكمال" (1/...) للقاضي عياض، حيث نقل المصنِّف هذا الكلام منه .(2/18)
الإمامِ، والفَذِّ، والمأمومِ على كلِّ حال؛ وهو أحد قولَيِ الشافعيِّ.
وقوله (1) : «فَصَاعَدًا»، معناه: فزائدًا، ويلزمُ مِنْ ظاهرِ هذا اللفظ: أنْ تكونَ الزيادةُ (2) على أمِّ القرآن - التي هي السورة- واجبةً، ولا قائلَ أعلَمُهُ يقولُ بوجوبِ قراءةِ السورةِ زيادةً على أم القرآن؛ وإنما الخلافُ في وجوب (3) أمِّ القرآنِ خاصَّةً. وقد أجمعوا: على أنْ لا صلاةَ إلا بقراءةٍ في الركعتَيْن الأُولَيَيْنِ؛ إلا ما قاله الشافعيُّ فيمن نسِيَ القراءةَ في الصلاةِ (4) كلَّها: إنها تجزئُهُ لعذرِ النِّسْيان، وهذا شاذٌّ، وقد رجَعَ عنه، وإلا (5) ما شَذَّ من قول مالك.
17- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (6) ، عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: «مَنْ صَلَّى صَلاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ، فَهِيَ خِدَاجٌ» ثَلاثًا، غَيْرُ تَمَامٍ. فَقِيلَ لأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الإِمَامِ. فَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «قَالَ اللهُ - عز وجل - : قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي. وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ اللهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي. وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي. وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ.
18- وَعَنْهُ (7) ، قال:فِي كُلِّ صَّلَاةٍ قِرَاءَةٌ، فَمَا أَسْمَعَنَا النبي - صلى الله عليه وسلم - أَسْمَعْنَاكُمْ، وَمَا أَخْفَى مِنَّا أَخْفَيْنَا مِنْكُمْ؛ مَنْ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَقَدْ أَجْزَأَتْ عَنْهُ، وَمَنْ زَادَ فَهُوَ أَفْضَلُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «مَنْ صَلَّى صَلاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ، فَهِيَ خِدَاجٌ»، قال الَهَروِيُّ: «الخَدَاجُ»: النقصان؛ يقال: خَدَجَتِ الناقةُ: إذا ألقتْ ولدها قبلَ أوانِ النِّتَاج، وإنْ كان تامَّ الخَلْق (8) . وأَخْدَجَتْهُ: إذا ولدتْهُ ناقصًا وإنْ كان لتمامِ الولادة (9) (10) .
فقوله (11) : «خداج»، أي: ذاتُ خِدَاجٍ، فحذَفَ «ذاتٍ»، وأقام «الخداجَ» مُقَامَهُ، وهذا مذهبُ الخليلِ في الخِدَاجِ (12) ، وأبي حاتمٍ (13) ، والأصمعيِّ (14) . وأما الأخفشُ: فعكَسَ، وجعَلَ الإخداجَ (15) قَبْلَ الوقتِ وإِنْ كان تامَّ الخلق (16) (17) .
وسمِّيتَ الفاتحةُ: أمَّ الكتابِ (18) ؛ لأنها أصلُهُ، أي: هي متضِّمنةٌ لجميعِ (19) علومِهِ، =(2/25)=@ فهي منها وراجعةٌ إليها؛ ومنه (20) سمِّيت الأمُّ: أُمًّا؛ لأنها أصلَ النَّسْلِ، والأرضُ أُمًّا (21) في قوله (22) : &(2/19)&$
__________
(1) في (ح): «قوله».
(2) في (أ): «يكون الزايد».
(3) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(4) في (أ): «في صلاته القراءة».
(5) في (ح): «إلا».
(6) أخرجه مسلم (1/296 رقم395) في الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة ... .
(7) أخرجه البخاري (2/251 رقم772) في الأذان، باب القراءة في الفجر، ومسلم (1/297 رقم396) في الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة .
(8) يقال في ذلك: خَدَجتِ الناقةُ وكلُّ ذات خُفٍّ وظلْفٍ وحافر، تَخْدِجُ من باب ضرب، والاسم: الخِدَاج، فهي خادجٌ، وخَدُوج، وجمعها: خُدُوج، وخِدَاج، وخَدَائج، والولد خَدِيٌ، وبه سمِّي الرجلُ خدِيجًا، والمرأة خديجة. انظر: «الصحاح" (1/308- 309)، و"الجمهرة" (1/443)، و"اللسان" (2/248- 249).
(9) ويقال في ذلك: أَخْدَجَتِ الناقةُ تُخْدِجُ فهي مُخْدِجٌ، ومَخْدِجَةٌ، والولد: خَدُوجٌ، وخَدْجٌ، ومُخَدجٌ، ومَخْدوجٌ، وخَدِيج، ومنه قول علي - رضي الله عنه - في صفة ذي الثُّدَيَّة: «إنَّه مُخْدَجُ اليَد»، أي: ناقصها. انظر: «الصحاح" (1/308- 309)، و"الجمهرة" (1/443)، و"اللسان" (2/248- 249) .
(10) انتهى كلام الهروي، وهذا الفرق بين خدج وأخدج نقله الفيومي عن أبي زيد الأنصاري، وذكره ابن قتيبة في "غريب الحديث" له، انظر: «المصباح المنير" (1/165)، و"غريب ابن الجوزي" (1/267)، و"جمهرة اللغة" (1/443)، و"اللسان" (2/248- 249)، وذكروا فروقًا أخرى بين خدج وأخدج، وقيل: هما لغتان؛ إذا ألقته وقد استبان حملها. انظر: و"المصباح المنير" (1/165)، و"اللسان" (2/248- 249).
(11) في (أ) تشبه أن تكون: «فهوله».
(12) توثيق معنى الخداج والإخداج عند الخليل.
(13) وأبي حاتم والأصمعي.
(14) وأبي حاتم والأصمعي.
(15) في (ح): «الخداج»، والصواب ما أثبتُهُ.
(16) في (غ): «الخلقة».
(17) والأخفش.
(18) في (ح) كتب فوقها: «القرآن».
(19) في (ب) و(ح): «محيطة بجميع»، وفي (غ): «أي: محيطة بجميع». [تراجع النسخة المخطوطة].
(20) في (ب) و(ح): «ومنها».
(21) توثيق معنى أم.
(22) في (ح): «في قوله شعر».(2/19)
فَالْأَرْضُ مَعْقِلُنَا وَكَانَتْ أُمَّنَا ... فِيهَا مَقَابِرُنَا (1) وَفيهَا نُولَدُ (2)
ومنه : {فأمّه هاوية} (3) ، و{هن أم الكتاب} (4) (5) ، ولا معنى لكراهةِ (6) مَنْ كره تسميتها بأمِّ القرآن، مع وجود ذلك في الحديث.
وقوله: «قَسَمْتُ الصَّلاَةَ»، يعني: أمَّ القرآن، سمَّاها صلاةً؛ لأن َّالصلاةَ لا تَتِمُّ - أو لا تَصَحُّ - إلا بها (7) ، ومعنى القِسْمة هنا: من جهةِ المعاني؛ لأنَّ نصفها الأولَّ: في حَمْدِ اللهِ وتمجيدِهِ، والثناءِ عليه وتوحيدِهِ. والنصف الثاني: في اعترافِ العبدِ (8) بعجزِهِ وحاجتِهِ إليه، وسؤالِهِ في تثبيتِهِ لهدايته، ومعونتِهِ على ذلك (9) ، وهذا التقسيمُ حُجَّةٌ على أنَّ {بسم الله الرحمن الرحيم} ليستْ من الفاتحة، خلافًا للشافعيِّ، وسيأتي (10) .
وقوله تعالى: «حَمِدَنِي عَبْدِي»، أي: أثنى عليَّ بصفاتِ كمالي وجلالي (11) (12) ، و«مَجَّدَني»: شرَّفني، أي: اعتقَدَ شرفي ونَطقَ به (13) ، و«المَجْدُ»: نهايةُ الشَّرَفِ (14) ، وهو الكثيرُ صفاتِ الكمالِ، والمجدُ: الكثرةُ (15) ، ومنه قالوا (16) (17) :
في (18) كلِّ شَجَرٍ نارٌ، واستَمْجَدَ الْمَرْخُ (19) والعَفَارُ (20) ، =(2/26)=@ أي: كَثُرَ نارهما.
وقوله : «وربما قال (21) (22) : فوّض إليّ عبدي»، أي: يقولُ هذا، ويقول هذا، غير أنَّ فوّض أقل ما يقوله (23) وليس شكًّا (24) وهو مطابق لقوله: {مالك يوم الدين}؛ لأنه تعالى المنفرد (25) في ذلك اليوم بالملك؛ ولا تبقى (26) دعوى لمدّع (27) . و{الدين}: الجزاء والحساب والطاعة والعادة (28) والملك.
وقوله : {نعبد}، أي: نخضع ونتذلل.
و{نستعين}: نسألك (29) العون. &(2/20)&$
__________
(1) في حاشية (ب): «ففيها مقابرنا».
(2) البيت من الكامل، وهو لأميَّة بن أبي الصلت في "ديوانه" (ص23)، و"الحيوان" للجاحظ (3/364)، (5/437)، و"المخصَّص" (13/180)، و"تأويل مشكل القرآن" (ص104)، و"الفصول في الأصول" للجَصَّاص (1/375)، و"تفسير القرطبي" (1/112)، (20/167)، و"تفسير الثعلبي" (1/127)، و"فتح القدير" للشوكاني (5/487)، وبلا نسبة في «المذكَّر والمؤنَّث» للأنباري (ص187)، و"أحكام القرآن" للجصاص (1/27).
وفي و"المخصَّص": «فيها معايشنا ومنها نولد»، وقال ابن قتيبة في و"تأويل مشكل القرآن" (ص104): «كانت العرب تسمِّي الأرضَ أَمًّا؛ لأنَّها مبتَدَأُ الخَلْق، وإليها مَرْجِعهم، ومنها أقواتُهُمْ، وفيها كِفَايَتُهُمْ» وأنشد البيت ثم قال: «وقال – يعني: أمية أيضًا- يذكرها من البسيط:
مَنْهَا خُلِقْنَا وكانَتْ أُمَّنَا خُلِقَتْ ... ونَحْنُ أبناؤُهَا لو أنَّنا شُكُرُ
هي القَرارُ فما نَبِغي بها بدلاً ... ما أرقَم الأرضَ إلا أنَّنا كُفُرُ
(3) سورة القارعة، الآية: 9، وقد قال ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" (ص104): «وقال الله تعالى في الكافر: {فأمَّه هاوية} لمَّا كانت الأمُّ كافلة الولدِ وغاذيتَهُ، ومأواه ومربِّيَتَهُ، وكانت النار للكافر كذلك – جعلها أُمَّةُ».اهـ.
(4) توثيق – تراجع كتب التفاسير.
(5) سورة آل عمران، الآية: 7.
(6) في (ب) و(غ): «كراهية».
(7) توثيق شرح حديثي.
(8) في (ح): «العهد».
(9) في (ح): «ومعونته على ذلك، والقسم على ذلك».
(10) توثيق وإحالة.
(11) في (غ): «جلالي وكمالي».
(12) توثيق لغوي وشرح حديثي.
(13) توثيق لغوي وشرح حديثي.
(14) في (ح): «ونهاية المجد الشرف».
(15) توثيق لغوي وشرح حديثي.
(16) في (ح): «قوله».
(17) "لسان العرب" 3/396.
(18) قوله: «في " لم تتضح جيدًا في (ح)، فأشبهت: «أولى».
(19) في (أ) أوضح معنى: «المرخ والعفار»، فكتب فوق: «المرخ»: «شجرة»، وفوق «العفار»:«شجر»، وفي (غ) وضح معناهما في الحاشية. «المرخ»: شجر سريع الوري. «العفار»: شجر يتخذ منه الزناد.
(20) تخريج لغوي فيه كتب الأمثال.
(21) تعريف «فوض».
(22) قوله: «قال» ليس في (أ).
(23) توثيق شرح حديثي.
(24) في (ح) و(غ): «اقل ما يقوله تعالى».
(25) في (غ): «هو المتفرد» وتراجع في (غ) ل/139ب.
(26) في (ب) و(ح) و(غ): «إذ لا تبقى».
(27) توثيق لغوي – مع مراجعة التفاسير.
(28) في (ح) و(غ): «والعبادة».
(29) في (أ): «نسأله».(2/20)
{اهدنا}: أرشدنا وثبتنا على الهداية.
و{الصراط المستقيم}: الذي لا اعوجاج فيه (1) .
و«المنعم عليهم هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون».
و{المغضوب عليهم}: هم اليهود. و«الضلاّل»: النصارى، كذا روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) .
وإنما قال الله هنا: «هذا (3) بيني وبين عبدي»؛ لأنها تضمّنت تذلل العبد لله، وطلبه الاستعانة منه، وذلك يتضمّن تعظيم الله تعالى وقدرته على ما طُلب منه.
وقوله فيما بقي من السورة: «هَذَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ»؛ لأن العبد دعا لنفسه. وقال مالك - في قوله:«فهؤلاء لعبدي»-: هي إشارة إلى أنها آيات =(2/27)=@ لا آيتان؛ وذلك أن المسلمين قد اتفقوا على أن الفاتحة سبع آيات، فإذا كانت ثلاث آيات عند قوله : {مالك يوم الدين}، بقيت أربع آيات (4) : آية (5) : {إياك نعبد وإياك نستعين} (6) ، تبقى ثلاث آيات، فتصحّ الإشارة إليها بهؤلاء (7) . وقد عدّ البصريون (8) والشاميون والمدنيون {صراط الذين أنعمت عليهم} آية (9) ، وعليه تصح القسمة والإشارة، والله أعلم.
وقوله: «اقرأ بها في نفسك» اختلف العلماء في قراءة المأموم خلف &(2/21)&$
__________
(1) توثيق لغوي – مع مراجعة التفاسير.
(2) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (4/378-379)، والترمذي (5/187 رقم954) في كتاب التفسير، باب ومن سورة فاتحة الكتاب، وابن حبان في "صحيحه" كما في الإحسان (14/139-140 رقم6246) و(16/183-184 رقم7206)، ثلاثتهم من طريق شعبة، عن سماك بن حرب، عن عباد بن حبيش، عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - في قصة إسلامه، وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:«إن المغضوب عليهم: اليهود، وإن الضالين: النصارى».
وسنده ضعيف، فيه عباد بن حبيش لم يوثقه سوى ابن حبان، وجهّله ابن القطان، وقال الذهبي: «لا يعرف». انظر "الثقات" لابن حبان (5/142)، و"الميزان" للذهبي (2/365 رقم4112)، و"التهذيب" (5/91 رقم152).
ولكن معنى الحديث مما اتفق عليه المفسرون؛كما كنت بينته في تعليقي على"سنن سعيد بن منصور "(2/537-542 رقم179)، وقد قال السهيلي: «وشاهد ذلك قوله تعالى في اليهود: {فباؤوا بغضب على غضب}، وفي النصارى : {قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا}"اهـ.
وقال ابن أبي حاتم في "تفسيره"(1/23): «ولا أعلم بين المفسرين في هذا الحرف اختلافًا».
(3) قوله: «هذا» سقط من (غ).
(4) زاد في (غ) بعد هذا: «مالك يوم الدين».
(5) قوله: «آية " من (أ) فقط، وهي موجودة في (ب) بعد قوله: «نستعين .
(6) في (ب) بعد قوله: «نستعين" زيادة قوله: «آية " وسبق التنبيه على أن موضعها قبل ذكر الآية.
(7) توثيق هذا من مظانه.
(8) في (ح): «المصريون».
(9) توثيق هذا من مظانه.(2/21)
الإمام. فذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن المأموم لا يترك قراءة أم القرآن (1) على حال، وإليه ذهب الشافعي تمسكًا بقول أبي هريرة، وبعموم قوله:«لا صلاة». وذهب مالك وابن المسيب في جماعة من التابعين وغيرهم وفقهاء أهل الحجاز والشام إلى أنه لا يقرأ معه فيما جهر به (2) وإن لم يسمعه، ويقرأ (3) فيما أسر فيه الإمام تمسكًا بقوله تعالى : {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} (4) ، وبقول أبي هريرة - رضي الله عنه - : «فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - »، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - :«إذا قرأ الإمام فأنصتوا» (5) . وذهب أكثر هؤلاء إلى أنَّ القراءةَ فيما يُسِرُّ فيه (6) الإمامُ غيرُ واجبةٍ، إلا داودَ وأحمَدَ بنَ حنبلٍ وأصحابَ الحديث؛ فإنَّهم أوجبوا قراءةَ الفاتحةِ إنْ أسَرَّ (7) الإمامُ، وذهب الكوفيُّون: إلى تركِ قراءةِ المأمومِ خَلْفَ الإمامِ على كلِّ حال. =(2/28)=@
19- وَعَنْهُ (8) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ على رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَرَدَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - السَّلَامَ، فَقَالَ: «ارْجِعْ فَصَلِّ؛ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ»، فَرَجَعَ الرَّجُلُ فَصَلَّى كَمَا كَانَ يُصَلِّى، ثُمَّ جَاءَ إِلَى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «وَعَلَيْكَ السَّلامُ»، ثُمَّ قَالَ: «ارْجِعْ فَصَلِّ؛ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ»، حتى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ! مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا، عَلِّمْنِي، قَالَ: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ، فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حتى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حتى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حتى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حتى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلِّهَا»، زَادَ فِي رِوَايَةٍ:«إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ، فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، فَكَبِّرْ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - للذي علمه الصلاة: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ، &(2/22)&$
__________
(1) في (ح): «قراءة القرآن».
(2) في (ب): «فيه».
(3) في (ح): «ويقرأ معه».
(4) سورة الأعراف، الآية: 204.
(5) سيأتي تخريجه برقم (323 أحاديث "التلخيص».
(6) في (غ): «به».
(7) في (ب) و(ح): «إذا».
(8) أخرجه البخاري (2/237 ، 276 رقم757 ، 793) في الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلاة كلها في الحضر والسفر، وباب أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتم ركوعه بالإعادة، و(11/36 رقم6251 ، 6252) في الاستئذان، باب من رد فقال: عليك السلام، و(11/549 رقم6667) لإي الأيمان والنذور، باب إذا حنث ناسيًا في الأيمان، ومسلم (1/298 رقم397) في الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة .(2/22)
فَكَبِّرْ»: هذا الحديث ومساقه يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - قصد إلى ذكر فرائض الصلاة لا غير؛ لأن جميع ما ذكره فيه (1) فرض، وما لم يذكره ليس من فرائضها، هذا قول كافة أصحابنا وغيرهم. وهذا ينتقض عليهم بالنية والسلام؛ إذ (2) لم يذكرهما.
وقوله: «مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ»؛ متمَسَّك أبي حنيفة، فإنه أخذ (3) بعمومه. ويقال له: إن ما تيسر هو الفاتحة؛ لأن الله تعالى قد يسَّرها على ألسنة الناس، صغارهم وكبارهم، ذكورهم وإناثهم، أحرارهم وعبيدهم. ويتأيد هذا التأويل بقوله: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» (4) .
وقوله: «ثُمَّ ارْكَعْ حتى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا»، وقال في السجود كذلك، واختلَفَ أصحابنا في وجوبِ الطمأنينة، والأصلُ المتقدِّم (5) يرفعُ هذا الخلافَ، بل ينبغي عليه أن تكونَ واجبة ً على كلِّ حال؛ وهذا يدلُّ على اختلافهم في ذلك الأصل. =(2/29)=@
وقوله: «ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلِّهَا»، يدلُّ على وجوبِ القراءة ِفي كلِّ ركعة، وهو المشهور (6) على ما تقدم. &(2/23)&$
__________
(1) في (أ): «فيها».
(2) في (ع): «إذا».
(3) في (ب) و(ح): «يأخذ». ...
(4) تقدم الحديث برقم (314 ).
(5) يعني به قوله في بداية شرح هذا الحديث: «هذا الحديث ومساقه يدل على أنه u قصد إلى ذكر فرائض الصلاة ... " إلى آخر كلامه .
(6) في (ب): «المفهوم».(2/23)
وقوله: «ثُمَّ ارْفَعْ حتى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا»: وهذا يدلُّ على وجوب الفصل بين السجدتَيْنِ (1) ، وفي رواية: «ثُمَّ ارْفَعْ حتى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا»؛ وهذا يدلُّ على وجوب الفصلِ بين السجدتين، وهل يجبُ لذاتِهِ؛ فلابدُّ منه، أو للفَصْلِ، فيحصُلُ الفصلُ بأقلِّ ما يحصُلُ منه، ويكونُ تمامُهُ سُنَّةً؟ اختُلِفَ فيه.
20- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ (2) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الظُّهْرَ، فَجَعَلَ رَجُلٌ يَقْرَأُ خَلْفَهُ بِـ{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَ على}، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ:«أَيُّكُمْ قَرَأَ؟»، أَوْ «أَيُّكُمُ الْقَارِئُ؟»، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا، فَقَالَ:«قَدْ ظَنَنْتُ أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا»، أي: خالطنيها (3) ، ويروى : «نَازَعَنِيهَا»، أي: كأنه يَنْزَعُ (4) ذلك مِنْ لسانه، وهو مِثْلُ حديثه الآخر: «مَا لِي أُنَازَعُ القُرْآنَ؟!» (5) ، ولا حجة فيه لمنكري (6) القراءةِ؛ لأنَّ النبي َّ - صلى الله عليه وسلم - إنما أنكر المخالجة (7) (8) ، لا القراءةَ. =(2/30)=@
*************
( 8 ) باب ترك قراءة {بسم الله الرحمن الرحيم} في الصلاة
21- عَنْ أَنَسِ بْنُ مَالِكٍ (9) ، قال:صَلَّيْتُ خَلْفَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِالْحَمْد لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا يَذْكُرُونَ: {بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ، وَلا فِي آخِرِهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي باب ترك قراءة : {بسم الله الرحمن الرحيم} في الصلاة (10)
اختلف الفقهاء في ذلك. فمن قال: هي (11) من الفاتحة - كالشافعي وأصحاب الرأى - قرأها فيها، ومن لم ير ذلك كالجمهور، فهل تقرأ (12) في الصلاة أو لا؟ وإذا قُرئت فهل يُجهر بها مع الحمد أو يُسرّ؟ فمشهور مذهب مالك: أنه لا يقرؤها &(2/24)&$
__________
(1) في (ب) و(ح): «ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، وهذا يدل على وجوب الفصل بين السجدتين»، والمثبت من (أ).
(2) أخرجه مسلم(1/299رقم398) في الصلاة، باب نهي المأموم عن جهره بالقراءة ...
(3) توثيق لغوي لـ: «خالجنيها».
(4) في (ب) و(ح): «نزع».
(5) تقدم تخريجه (ص ...) في شرح الحديث رقم (315).
(6) في (ب): «لمنكر».
(7) في (ب) و(ح) و(غ): «المخالفة».
(8) توثيق لغوي «المخالجة».
(9) أخرجه البخاري (2/226 رقم733) في الأذان، باب ما يقول بعد التكبير ؛ دون قوله: «ولا يذكرون: بسم الله الرحمن الرحيم ....»، ومسلم (1/299 رقم399) في الصلاة، باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة .
(10) قوله: «في الصلاة» سقط من (غ): «أولى السور».
(11) قوله: «هي» ليس في (غ).
(12) في (غ): «يقرأ».(2/24)
في الفرائض ويجوز له أن يقرأها في النوافل تمسكًا بالحديث وعنه رواية، أخرى: أنها تُقرأ أول السورة (1) في النوافل، ولا تُقرأ أول أم (2) القرآن. وروى عنه ابن نافع ابتداء القراءة بها في الصلاة الفرض والنفل، ولا تترك بحال.
وأما هل يجهر بها؟ فالشافعي يجهر بها مع الجهر (3) ، وأما الكوفيون فيسرُّونها على كل حال. والصحيح: أن البسملة ليست آية من القرآن إلا في النمل خاصة؛ فإنها آية هناك (4) مع ما قبلها بلا خلاف. وأما في أوائل السور وفي أول الفاتحة فليست كذلك؛ لعدم القطع بذلك. ومن ادّعى القطع في ذلك (5) عُورض بنقيض دعواه. وقد اتفقت (6) الأمة على أنه لا يُكَفَّر نافي ذلك ولا مثبته، والمسألة مستوفاة في الأصول والخلاف. =(2/31)=@
وقوله: «لا يَذْكُرُونَ»، يعني: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر. وهذا يدل على اعتنائه وشدة تهممه (7) بها (8) . و: «لا يذكرون»: لا يقرؤونها بحال، وإلى هذا استند مالك في مشهور قوله، وإلى العمل المتصل عندهم بالصلاة وأحوالها.
************
باب
22- عَنْ أَنَسٍ (9) ، قال:بَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ- بَيْنَ أَظْهُرِنَا، إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا. فَقُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ:«أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ: بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟» فَقُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ:«فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ. هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ، فَيُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ، فَأَقُولُ: رَبِّ إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي. فَيَقُولُ: مَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَتْ بَعْدَكَ». زَادَ فِي رِوَايَةٍ: بَيْنَ أَظْهُرِنَا فِي الْمَسْجِدِ. وَفِيهَا:«مَا أَحْدَثَ بَعْدَكَ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن حديث أنس أيضًا قوله: «أغفى إغفاءة»، أي: أخذته سِنَةٌ، وهي: النوم الذي في العين (10) ، وهذه &(2/25)&$
__________
(1) في (ب) و(ح): «السور».
(2) قوله: «أم " سقط من (ح).
(3) أي: في الصلاة الجهريّة .
(4) في (ح): «كلها».
(5) في (أ): «بذلك».
(6) في (ح): «اجمعت».
(7) قوله: «تهممه " لم يتضح في (ب) لتعرضها للإصلاح، فأشبهت: «تعمقه».
(8) قوله: «بها» ليس في (أ).
(9) أخرجه البخاري (11/463 رقم6580) في الرقائق، باب في الحوض، ومسلم (1/300 رقم400/53) في الصلاة، باب حجة من قال البسملة آية من أول كل سورة سوى براءة، و(4/1800 رقم 2303 ، 2304) في الفضائل، باب إثبات حوض نبينا - صلى الله عليه وسلم - وصفاته، بمعناه مختصرًا .
(10) توثيق لغوي وتخريج حديثي.(2/25)
الحالة التي كان يُوحَى إليه - صلى الله عليه وسلم - فيها غالبًا. =(2/32)=@
وقوله: «آنِفًا»، أي: الساعة.
وقوله: «الْكَوْثَرُ»؛ جاء تفسيره هنا: نهر في الجنة، وفي غير هذا الحديث: معنى الكوثر (1) : هو الخير الكثير (2) ، قال: وذلك النهر منه.
وقوله (3) : «يُخْتَلَجُ (4) الْعَبْدُ مِنْهُمْ»، أي: يستخرج، وينتزع (5) . =(2/33)=@
[من هنا مفقود صفحتين ص59، 60 من الأصل المطبوع وعليه فلم يقرأ ولم يقابل ولم تثبت فروقه ولم يعمل به أهل اللغة ولا الفقه]
( 9 ) باب التَّشَهُّد في الصلاة
23- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ (6) ، قال:كُنَّا نَقُولُ فِي الصَّلاةِ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : السَّلامُ على اللهِ السَّلامُ على فُلانٍ. فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ-:«إِنَّ اللهَ هُوَ السَّلامُ. فَإِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاةِ فَلْيَقُلِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النبي وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنَا وَ على عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، فَإِذَا قَالَهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ».
وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ عَلَّمَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - التَّشَهُّدَ كَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَذَكَرَ مِثْلَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب التشهد في الصلاة
اختار جمهور الفقهاء وأصحاب الحديث هذا (7) التشهد، واختار الشافعي تشهد ابن عباس الآتي (8) ، واختار مالك تشهد عمر بن الخطاب (9) لكونه علَّمه الناس &(2/26)&$
__________
(1) قوله: «معنى الكوثر» سقط من (غ).
(2) توثيق لغوي وتخريج حديثي.
(3) في (غ): «قوله» بلا واو.
(4) في (غ(: «فيختلج».
(5) توثيق لغوي وتخريج حديثي.
(6) أخرجه البخاري (2/311 ، 320 رقم835) في الأذان، باب التشهد في الآخرة، وباب ما يتخيَّر من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب، و(3/76 رقم1202) في العمل في الصلاة، باب من سمَّى قومًا أو سلَّم في الصلاة على غير مواجهة وهو لا يعلم، و (11/ 12 ، 55 رقم6230 ، 6265) في الاستئذان، باب السلام اسم من أسماء الله تعالى، وباب الأخذ باليد، و(11/131 رقم6328) في الدعوات، باب الدعاء في الصلاة، و (13/365 رقم7381) في التوحيد، باب قول الله تعالى : { السلام المؤمن }، ومسلم (1/301 رقم402) في الصلاة، باب التشهد في الصلاة .
(7) قوله: «هذا " ليس في (ح).
(8) سيأتي بعد هذا الحديث برقم (322).
(9) وهو ما أخرجه مالك في "الموطأ" (1/90-91 رقم53) في الصلاة، باب التشهد في الصلاة، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عبدالرحمن بن عبدٍ القاري، أنه سمع عمر بن الخطاب - وهو على المنبر - يعلم الناس التشهد يقول: قولوا: «التحيات لله، الزكيات لله، الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا و على عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله».
قال الزيلعي في "نصب الراية (1/422): «وهذا إسناد صحيح»، وهو كما قال، وصححه الشيخ الألباني في "صفة الصلاة" (ص 164).(2/26)
على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحضرة الصحابة والناس، ولم يُنْكَرْ ذلك فصار ذلك (1) إجماعًا منهم، على أصل مالك في هذا الباب.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - :«إن الله هو السلام»، السلام من أسمائه الحسنى، وهو السالم (2) من النقائص وشِمَاتِ الحَدَث. وقيل: المسلِّم عباده. وقيل: المسلِّم عليهم في الجنة، كما قال : {سلام عليكم طبتم} (3) . ومعناه (4) في قوله: «السلام عليك أيها النبي»، وفي«سلام الصلاة»: السلامة والنجاة، فيكون مصدرًا كاللذاذا واللذاذة، كما قال تعالى : {فسلام لك من أصحاب اليمين} (5) .
24- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (6) ، قال:كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ. فَكَانَ يَقُولُ:«التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النبي وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنَا وَ على عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل: «السلام عليك»، أي: الانقياد لك، والتسليم لك، قال:
{فلا وربك لا يؤمنون} إلى قوله : {تسليمًا} (7) .
وقد سبق القول في «التحيات».
و«الطيبات»: الأقوال الصالحة؛ كالأذكار والدعوات وما شكاكل ذلك؛ كما قال تعالى : {إليه يصعد الكلم الطيّب} (8) .
وقوله: «لله» في هذا الموضع تنبيه على الإخلاص في العبادات، أي: =(2/34)=@ ذلك كله من الصلوات والأعمال [لا تفعل] (9) إلا لله. ويجوز أن يراد به الاعتراف بأن مَلْكَ ذلك كله لله تعالى.
وقوله:«على عباد الله الصالحين»: فيه دليل على أن جميع التكثير للعموم، و على صحة القول بالعموم من غير توقف ولا تأخُّر (10) ، وقد نبّه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك حيث قال:«أصابت كل عبد صالح»، فأدخل فيه الكُلَّ حتى الملائكة.
وقوله:«ثم ليتخيّر بعدُ من المسألة ما شاء»: حجة للجمهور على أبي &(2/27)&$
__________
(1) قوله: «ذلك " ليس في (ح).
(2) في (ح): «السلام».
(3) سورة الزمر، الآية: 73.
(4) في (ح): «وقيل معناه».
(5) سورة الواقعة، الآية: 9.
(6) أخرجه مسلم (1/302 رقم403) في الصلاة، باب التشهد في الصلاة .
(7) سورة النساء، الآية: 65.
(8) سورة فاطر، الآية: 10.
(9) في (أ): «لا يفعل».
(10) في (ح): «ولا تأخير».(2/27)
حنيفة حيث يقول (1) : لا يدعو في الصلاة إلا بما جاء في القرآن، وحجة (2) على الشافعي حيث أوجب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل صلاة [ بعد التشهد الأخير ] (3) . والصحيح عند الجمهور: أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - [ واجبة ] (4) في الجملة، مندوب إليها في الصلاة وغيرها، متأكِّدة النَّدْبِيَّة في الصلاة، حتى إن بعض أصحابنا يطلقون عليها أنها سنة؛ لأن قول - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي علمه الصلاة -:«فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك» (5) ، ولم يذكر
25- وَعَنْ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الرَّقَاشِيِّ (6) ، قال:صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ صَلاةً، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الْقَعْدَةِ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أُقِرَّتِ الصَّلاةُ بِالْبِرِّ وَالزَّكَاةِ؟ قَالَ: فَلَمَّا قَضَى أَبُو مُوسَى الصَّلاةَ وَسَلَّمَ، انْصَرَفَ، فَقَالَ: أَيُّكُمُ الْقَائِلُ كَلِمَةَ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: فَأَرَمَّ الْقَوْمُ.ثُمَّ قَالَ: أَيُّكُمُ الْقَائِلُ كَلِمَةَ كَذَا وَكَذَا؟ فَأَرَمَّ الْقَوْمُ. فَقَالَ: لَعَلَّكَ يَا حِطَّانُ قُلْتَهَا؟ قَالَ: مَا قُلْتُهَا، وَلَقَدْ رَهِبْتُ أَنْ تَبْكَعَنِي بِهَا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَنَا قُلْتُهَا، وَلَمْ أُرِدْ بِهَا إِلا الْخَيْرَ. فَقَالَ أَبُو مُوسَى: مَا تَعْلَمُونَ كَيْفَ تَقُولُونَ فِي صَلاتِكُمْ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَنَا، فَبَيَّنَ لَنَا سُنَّتَنَا، وَعَلَّمَنَا صَلاتَنَا، فَقَالَ:«إِذَا صَلَّيْتُمْ فَأَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، ثُمَّ لْيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذْ قَالَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فَقُولُوا: آمِينَ، يُجِبْكُمُ اللهُ، فَإِذَا كَبَّرَ وَرَكَعَ فَكَبِّرُوا وَارْكَعُوا، فَإِنَّ الإِمَامَ يَرْكَعُ قَبْلَكُمْ وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ» فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :«فَتِلْكَ بِتِلْكَ، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، يَسْمَعُ اللهُ لَكُمْ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ على لِسَانِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - : سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَإِذَا كَبَّرَ وَسَجَدَ فَكَبِّرُوا وَاسْجُدُوا، فَإِنَّ الإِمَامَ يَسْجُدُ قَبْلَكُمْ وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ». فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :«فَتِلْكَ بِتِلْكَ. وَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْقَعْدَةِ فَلْيَكُنْ مِنْ أَوَّلِ قَوْلِ أَحَدِكُمُ: التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النبي وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنَا وَ على عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ».
وَفِي رِوَايَةٍ:«وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه (7) الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما تقدم.
ثم اختلف العلماء في حكم التشهدين، فهما غير واجبين عند مالك والجمهور، بل مندوبان، وذهب فقهاء أصحاب الحديث إلى وجوبهما، وذهب الشافعي إلى وجوبه في الآخرة، وروي عن مالك مثله، والصحيح الأول على الطريقة المتقدمة (8) [ منه ] (9) .
وسُمي التشهد تشهدًا؛ مأخوذًا (10) من لفظ الشهادتين بالوحدانية لله، وبالرسالة لرسوله. =(2/35)=@
وقوله في حديث حطَّان: «أُقِرَّت الصلاة بالبر والزكاة "، أي: قُرِنَتْ، والباء بمعنى " مع "، أي: قُرِنَتْ مع البر والزكاة، فصارت [معهما] (11) مستوية في [أحكامهما] (12) وتأكيدهما. ويحتمل أن يراد بالبر هنا: «الْمبَّرة "، وبالزكاة: «الطهارة "، ويكون المعنى: أن من داوم (13) على الصلاة بَرّ (14) وتطهر من الآثام، والله أعلم. &(2/28)&$
__________
(1) في (ب): «حيث قال».
(2) في (ح): «وحجته».
(3) مابين المعكوفين سقط من (أ)، وفي (ح): «الآخر " بدل: «الأخير».
(4) في (أ): «واجب».
(5) أخرجه أبو داود (1/534-536 رقم856) لإي الصلاة، باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، من طريق عبدالله بن مسلمة القعنبي، عن أنس بن عياض، عن عبيدالله بن عمر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، به، وهي زيادة زادها أنس بن عياض في حديث المسيء صلاته، ولم أجد من تابعه عليها، ورواه جمع من الحفاظ عن عبيدالله بن عمر، فلم يذكروا هذه الزيادة، ومن هؤلاء الحفاظ: يحيى بن سعيد القطان وعبدالله بن نمير وأبو أسامة حماد بن أسامة، ورواياتهم في "ألصحيحن»، ولأجل تفرد أنس بن عياض بها - والله أعلم - أعرض عن إخراجها البخاري ومسلم .
وقد وردت هذه الزيادة في حديث رفاعة بن رافع الذي أخرجه أبو داود في الموضع السابق من "سننه"(1/536-538 رقم857-861)،والترمذي (2/100-102رقم302) في الصلاة، باب ما جاء في وصف الصلاة، والنسائي (2/193، 225-226 رقم1053 ، 1136) في =
= التطبيق، باب الرخصة في ترك الذكر في الركوع، وباب الرخصة في ترك الذكر في السجود، والحاكم في "المستدرك"(1/241-243)، وهو في قصة المسيء صلاته أيضًا، وفيه يقول - صلى الله عليه وسلم - :«فإذا فعلت ذلك فقد تمّت صلاتك ،وإن انتقصت منه شيئًا انتقصت من صلاتك».
قال الترمذي: «حديث رفاعة بن رافع حديث حسن»، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ودفع الاختلاف الذي يمكن إعلاله به .
(6) أخرجه مسلم (1/303 رقم404) في الصلاة، باب التشهد في الصلاة .
(7) في (ح): «فيها».
(8) أي على جعل حديث المسيء صلاته أصلاً، فما لم يُذكر فيه فليس بواجب .
(9) مابين المعكوفين من (ب) فقط .
(10) في (ب) و(ح): «مأخوذ».
(11) في (أ): «معها».
(12) في (أ): «أحكامها».
(13) في (ح): «دوام».
(14) قوله: «بر " ليس في (ح).(2/28)
وقوله: «فأرَمَّ القوم " بفتح الراء، وتشديد الميم، وهو المعروف، ويروى:«فَأزَمَ (1) القوم - بالزاي المنقوطة -، ومعناهما واحد، وهو: السكوت، أي: لم ينطقوا بشيء ولا حرَّكوا مَرَمّاتهم، وهي شفاههم، والشفةُ: هي الْمِرَمَّة (2) والْمِقمَّة، وبالزاي من الزَّمّ (3) ، أي: لم يفتحوها (4) بكلمة. =(2/36)=@
وقوله: «لقد رهبت أن تَبْكَعَني بها "، قال:معناه: خفتُ أن تستقبلني بها، يقال: بَكَعْت الرجل [بَكْعًا] (5) : إذا استقبلته بما يكره، وهو نحو: التبكيت. و " رهبت ": خفت. والرهب: الخوف.
وقوله: "ما تعلمون كيف تقولون " ظاهره النفي (6) ، ويحتمل الاستفتاح (7) ، وحُذِفَت (8) الهمزة تخفيفًا. كما تحذف (9) مع الاستفهام.
وقوله: «[فأقيموا] (10) صفوفكم»: أَمْرٌ بإقامة الصفوف، وهو من سنن الصلاة بلا خلاف؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر:«فإن تسوية الصف من تمام الصلاة» (11) .
وقوله:«فإذا كبر فكبروا»؛ يقتضي أن تكبير المأموم لا يكون إلا بعد تكبير (12) الإمام؛ لأنه جاء بـ" فاء " التعقيب، وهذا مذهب كافة العلماء. ولا خلاف أن المأموم لا يسبقه بالتكبير والسلام، إلا عند الشافعي ومن لا يرى ارتباط صلاة المأموم بصلاة الإمام، والحديث حجة عليهم. واختلفوا إذا ساواه في التكبير [أو السلام] (13) ، فلأصحابنا قولان (14) : الإجزاء وعدمه، واتفقوا على أنه [ لا يجوز] (15) أن يسابقه بكل أفعاله، وسائر أقواله، ولا يقارنه فيها (16) ، وأن السنة اتباعه فيها (17) . =(2/37)=@
وقوله:«فتلك بتلك»؛ هذا إشارة إلى أن حق الإمام السبق، فإذا فرغ تلاه المأموم معقبًا. والباء في " تلك (18) " للإلصاق والتعقيب.
وقد قيل: ليس عليه أن ينتظره حتى يفرغ، بل يكفي شروع الإمام في أول الفعل، والصحيح الأول؛ للحديث. وقد روي عن مالك قول ثالث: أنه فرّق، فقال: تجوز مُسَاوَقَةُ المأموم الإمام - المساوقة: المقارنة - إلا في القيام (19) من الركعتين، فلا يقوم حتى يستوي الإمام قائمًا ويكبر. و على القول الآخر: له أن يقوم بقيامه.
وقيل في " تلك &(2/29)&$
__________
(1) ضبطت في (أ) بتشديد الميم وهو خطأ، والصواب التخفيف، كما في النهاية (1/ 46) و(2/267).
(2) كذا ضبطت في (أ) بكسر الميم الأولى، وهو الصواب، كما في "النهاية" (2/263)، وفي نسخة (ب) بفتح الميم، وهو خطأ .
(3) كذا ضبطت في (أ)، ولم تضبط في (ب) و(ح)، ولابد أن يكون المصنِّف أراد هذا الضبط، لكن يكون معناه على هذا: «الكِبْر»، كما في "ألنهاية" (2/314). وأما إذا أردنا السكوت كما هنا، فإنما هو من " الأَزْم " كما في "النهاية" أيضًا (1/46)، ولذا ضبطت العبارة في الحديث: «فأَزَمَ القوم " بالتخفيف .
(4) في (ح): «لم يفتحها».
(5) في (أ): «بعكًا».
(6) في (ب)يشبه أن تكون: «النهي».
(7) في (ب): «الاستفهام».
(8) في (ب): «فحذمت».
(9) في (ب): «حذفت».
(10) في (أ): «أقيموا».
(11) سيأتي تخريجه برقم (348 أحاديث "التلخيص".
(12) في (ب): «تكبيرة».
(13) في (أ): «والسلام».
(14) في (ح): «فيه قولان».
(15) في (أ): «لا يجزيه».
(16) في (ب): «فيه».
(17) في حاشية (ب): «بلغ مقابلة».
(18) في (ب): «في قوله بتلك»، وفي (ح): «والباء في تلك».
(19) في (ب): «فقال: تجوز مشاركة المأموم والإمام إلا في القيام»، وفي (ح): «فقال: تجوز مشاركة الإمام»، ثم كلمة غير واضحة يشبه ان تكون: «قائمًا»، ثم يستقيم الكلام: «إلا في القيام».(2/29)
بتلك ": أن معناه: أن الحالة من اقتدائكم به.
وقوله:«سمع الله لكم»، أي: يستجيب.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :«سمع الله لمن حمده»: خبر عن الله تعالى باستجابة من حَمِدَه ودعاه، ويجوز أن يراد به الدعاء، فيكون معناه: اللهم استجب؛ كما نقول: صلى الله على محمد.
وقوله:«ربنا ولك الحمد»: اختلفت روايات الحديث في إثبات الواو الحمد وحذفها. واختلف اختيار العلماء فيها. فمزة اختار ماللث إثبات الواو؛ لأن قوله: «ربنا "، إجابةُ قوله: «سمع الله لمن حمده "، أي: ربَّنا استجب دعاءَنا، واسمع حمدَنا، ولك الحمد على هذا.
وأيضًا فإن الواو زيادة حرف، ولكل حرف حَظٌّ من الثواب. واختار مرّة حذف الواو، إذ الحمد هو المقصود.
قلت: والظاهر أن الموجب للاختلاف في الاختيار (1) : الاختلاف في ترجيح ا لآثار. =(2/38)=@
وقوله: «وإذا قرأ فأنصتوا " حجة لمالك ومن قال بقوله: إن المأموم لا يقرأ مع الإمام إذا جهر. قال الدارقطني (2) : «هذه اللفظة لم يتابع سليمان التَّيْمي فيها (3) عن قتادة، وخالفه الْحُفَّاظ فلم يذكروها (4) - قال -: وإجماعهم على مخالفته يدل (5) على وهمه ". &(2/30)&$
__________
(1) في (ب): «للاختلاف والاختيار».
(2) في "التتبع" (ص170-171)، وقد تصرّف المصنِّف هنا في نقل عبارته .
(3) في (ب): «عليها».
(4) قوله: «فلم يذكروها " سقط من (ح).
(5) في (ح): «تدل».
.(2/30)
قلت: وقد أشار مسلم في كتابه إلى تصحيح هذه الزيادة (1) ، وهي ثابتة في الأصل في رواية الْجُلودي عن إبراهيم بن سفيان.
وقد تقدم في أوَّل كتابنا قول إبراهيم بن سفيان (2) لمسلم: لِمَ لَمْ تخرج في كتابك:«وإذا قرأ فأنصتوا» (3) ، أليست بصحيحة؟ فقال: «ليس كل الصحيح (4) خرَّجت هنا، وإنما خرَّجت ما أجمعوا عليه "، فهذا تصريح بصحتها، إلا أنها ليست عنده مما أجمعوا على صحته.
وقوله: «وإذا قال: ولا الضالين فقولوا: آمين يجبكم الله "، " آمين ": اسم من أسماء الأفعال، ومعناها: اللهم استجب، وهي مبنيَّة على السكون، وفيها لغتان: المدّ والقصر. =(2/39)=@ &(2/31)&$
__________
(1) انظر "سنن البيهقي" (2/155-156) فقد أطال الكلام عن علة هذا الحديث وذكر من وافق الدارقطني من الأئمة، وتعقيبه في ذلك ابن التركماني في "الجوهر النقي».
(2) الصواب أن الذي قال لمسلم هذا الكلام هو أبو بكر ابن أخت أبي النضر في محاورة جرت بينهما عقب إخراج مسلم لهذا الحديث، وأبو إسحاق إبراهيم بن سفيان هو الناقل لتلك المحاورة . انظر "صحيح مسلم" (1/304).
(3) يعني من حديث أبي هريرة، وأما من حديث أبي موسى فإن مسلمًا قد أخرجها .
(4) في (ح): «كل صحيح».(2/31)
***********
( 10 ) بَابُ الصَّلاةِ على النِّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -
26- عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ (1) ، قال:أَتَانَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ فِي مَجْلِسِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ لَهُ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ: أَمَرَنَا اللهُ أَنَّ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حتى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ، وَ على آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ على آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ على مُحَمَّدٍ وَ على آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ على آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَالسَّلَامُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنْ بَابِ الصَّلَاةِ على النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -
قوله (2) : «أَمَرَنَا اللهُ أَنَّ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟» هذا سؤالُ من أشكَلَ عليه كيفيةُ ما فُهِمَ جملته (3) (4) ، وذلك أنه عَرَفَ الصلاةَ وتحقَّقها من لسانه، إلا أنه لم يَعْرِفْ كيفيتها، فأجيب بذلك.
وفي قوله: «أَمَرَنَا» دليلٌ على أنَّ المندوبَ يدخُلُ تحت الأمرِ، وقد تقدَّم (5) اشتقاقُ الصلاة، وهي مِنَّا دعاءٌ، ومن الله رحمةٌ (6) ، ومِنَ الملائكةِ ثناءٌ (7) ،وقد قيل: إنَّ صلاةَ اللهِ تعالى على نبيِّه: هي ثناؤُهُ عليه عند ملائكتِهِ (8) .
27- وَعَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى (9) ، قال: لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، قَالَ: أَلَا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً؟! خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقُلْنَا: قَدْ عَرَفْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ:«قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ، وَ على آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ على آلِ إِبْرَاهِيمَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ، بَارِكْ على مُحَمَّدٍ، وَ على آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ على آلِ إِبْرَاهِيمَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ، وَ على آلِ مُحَمَّدٍ»: اختُلِفَ في آله (10) مَنْ هم؟ فقيل: أتباعُهُ، وقيل: أمَّتُهُ، وقيل: آلُ بيته، وقيل: أتباعُهُ مِنْ رهطِهِ وعشيرتِهِ، وقيل: آلُ الرجلِ: نفسُهُ (11) ؛ ولهذا كان الحسَنُ يقول: «اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ» (12) .
واختلَفَ النحويُّون: هل (13) يضافُ الآلُ إلى الْمُضْمَرِ، أم (14) لا يضافُ إلا إلى &(2/32)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/305 رقم405/65) في الصلاة، باب الصلاة على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بعد التشهُّد .
(2) قوله: «قوله» ليس في (ب).
(3) تعليق نحوي جواز تذكير الفعل وتأنيثه إذا أسند لمفرد حقيقي التأنيث .... إلخ.
(4) في (ب): «جملة».
(5) تقدم في
(6) في (غ): «وهي هنا دعاء من الله ورحمة».
(7) توثيق لغوي وشرح حديثي معنى الصلاة.
(8) توثيق: قيل إن صلاة الله... ملائكته لغوي وحديثي.
(9) أخرجه البخاري (6/408 رقم3370) في الأنبياء، باب منه، و(8/532 رقم4797) في التفسير، باب : {إن الله وملائكته يصلون على النبي...} الآية [:]، و(11/ 152 رقم6357) في الدعوات، باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومسلم (1/305 رقم406) في الصلاة، باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد التشهُّد .
(10) توثيق لغوي وشرح حديثي «آلة».
(11) توثيق لغوي وشرح حديثي «آله».
(12) تخريج حديث «آثر الحسن».
(13) مساواة «أم» عند الفقهاء لـ«هل».
(14) مساواة «أم» عند الفقهاء لـ«هل».(2/32)
الظاهرِ (1) ؟ فذهب النَّحَّاسُ (2) ، والزُّبَيْديُّ، والكسِائي: إلى أنه لا يقالُ إلا: «اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ، وَ على آلِ مُحَمَّدٍ»، ولا يقالُ: وآلِهِ (3) . قالوا: والصوابُ: وأهلِهِ (4) ، وذهبَتْ طائفةٌ أخرى: إلى أن ذلك يقال - منهم ابن السِّيْد (5) - وهو الصوابُ؛ لأنَّ السماعَ الصحيحَ يَعْضُدُهُ؛ فإنَّه قد جاء في قولِ عبدُ المطلَّبِ (6) : =(2/40)=@
لَا همَّ إِنَّ العَبْدَ يَمْـ ... رَحْلَهُ فَامْنَعْ حِلَالَكْ
وَانْصُرْ على آلِ الصَّلِيـ ... ـبِ وَعَا بِديِه اليَوْمَ آلَكْ (7)
وقال نُدْبة (8) :
أَنَا الفَارِسُ الحَامِيِ حَقِيقَةَ والِدِي ... وَآلِي كَمَا تَحْمِي (9) حَقِيقَةَ آلِكَا (10)
وغير ذلك مِنْ كلامِ العربِ، وهو كثيرٌ.
28- وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ (11) ؛ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ:«قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ، وَ على آلِ مُحَمَّدٍ، وَ على أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ على آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ على مُحَمَّدٍ وَ على أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ على آلِ إِبْرَاهِيمَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ».
29- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (12) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:«مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ عَشْرًا».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله (13) : «وبَارِكْ» مِنَ البَرَكَةِ، وهي هنا: الزيادةُ من الخَيْر والكرامة، وأصلها: من البُرُوكِ، وهو الثبوتُ على الشيء، ومنه: بَرَكَتِ الإبلُ، ويجوزُ أن تكونَ البَرَكَةُ هنا (14) بمعنى: التطهيرِ والتزكيةِ (15) ؛ كما قال تعالى : {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} (16) ، ثم اختلَفَ (17) أربابُ المعاني في فائدة قوله: «كَمَا (18) صَلَّيْتَ على آلِ إِبْرَاهِيمَ» (19) ، على تأويلاتٍ كثيرةٍ.
أظهرها: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سألَ ذلك لنفسِهِ وأهلِ بيته؛ ليُتِمَّ (20) النعمةَ عليهم والبركَةَ، كما أتَمَّها على إبراهيمَ وآلِهِ.
وقيل: بل سأل ذلك لأُمَّتِهِ ليثابوا على ذلك.
وقيل: ليُبْقي له ذلك دائمًا إلى يوم الدِّين، ويَجْعَلَ (21) له به لسانَ صِدْقٍ في الآخِرين؛ كما جعله لإبراهيم.
وقيل: كان ذلك قبل أن يُعرَّفَ - صلى الله عليه وسلم - بأنه أفضَلُ ولدِ آدم.
وقيل: بل سأل أن يصلِّي عليه صلاةً يتخذُهُ بها خليلاً؛ كما اتخَذَ إبراهيم (22) ، وقد &(2/33)&$
__________
(1) تعليق لغوي نحوي.
(2) توثيق أقوال النحاس والزبيدي والكسائي في مسألة (الآل).
(3) في (ح): «له وآله».
(4) توثيق أقوال النحاس والزبيدي والكسائي في مسألة (الآل).
(5) توثيق قول ابن السيد.
(6) أخرجه الحاكم في "المستدرك" من حديث ابن عباس (2/535)، وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي بقوله: «صحيح».
(7) تخريج البيتين.
(8) في (ح): «فذمة»، وفي (ب): «بعرفة نديمة». وفي (غ): «هدبة». وأورده القرطبي في "تفسيره" (1/425) تحقيق/عبد الرزاق المهدي دون قوله: «والدي».
(9) في (غ): «يحمى».
(10) تخريج بيت ندبة.
(11) أخرجه البخاري (6/407 رقم3369) في الأنبياء، باب منه، و(11/169 رقم6360) في الدعوات، باب هل يصلي على غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ ومسلم (1/306 رقم407) في الصلاة، باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد التشهد .
(12) أخرجه مسلم (1/306رقم408) في الصلاة، باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد التشهد.
(13) توثيق لغوي معنى البركة.
(14) قوله: «هنا " ليس في (ب).
(15) توثيق لغوي معنى البركة.
(16) سورة هود، الآية: 73.
(17) في (أ): «اختلفت».
(18) قوله: «كما " سقط من (ح).
(19) تخريج هذه الرواية، فليست في البخاري أو مسلم أو التلخيص مع وجود روايات أخرى في مسلم والتلخيص بمعنى هذه الرواية.
(20) في (ب): «لتتم».
(21) في (غ): «وجعل».
(22) في (ب): «إبراهيم خليلاً»، وكذا كان في (أ) ثم كأنه ضرب عليها .(2/33)
أجابه الله فاتّخذه (1) خليلاً؛ كما جاء في "الصحيح": «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً (2) ، =(2/41)=@ لكِنَّ (3) صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ الرَّحْمَن» (4) ، وقد جاء أنه حبيبُ الرحمنِ؛ ذكره الترمذيُّ (5) ؛ فهو الخليلُ والحبيبُ (6) .
وقد اختلَفَ العلماءُ أيُّهما أشرَفُ، أَوْ هما سواءٌ؟ واخُتِلفَ هل يُدْعَى للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بغيرِ الصلاةِ والسلامِ، فيقالَ مثلاً: «اللهمَّ، ارحَمْ محمَّدًا، واغفِرْ (7) لمحمَّد، أَوْ لا يقالُ ذلك؟ فذهَبَ أبو عمر بن عبد الَبرِّ: إلى مَنْع ذلك، وأجازَ ذلك أبو محمَّد بن أبي زَيْد، والصحيحُ جوازه؛ فقد جاء ذلك في أحاديث كثيرةٍ (8) .
واختُلِفَ: هل يُصَلَّى على غيرِ الأنبياء، فيقالَ: «اللهمَّ، صَلِّ على فلانٍ»: كره (9) ذلك مالك؛ لأنه لم يكنْ مِنْ عَمَلِ مَنْ مضى، بل ذُكِرَ عن مالكٍ روايةٌ شاذَّةٌ: أنه لا يُصَلَّى على أحدٍ من الأنبياءِ سوى محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ، وهي مُتَأَوَّلةٌ (10) عليه: بأنا لم نُتَعَبَّدْ بالصلاةِ على غيره مِنَ الأنبياء.
وذهبَتْ طائفةٌ: إلى جوازِ ذلك على المؤمنين؛ لقولِهِ تعالى: {هو الذي يُصلِّي عليكم} (11) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «اللَّهُمَّ صَلّ على آلِ أَبِي أَوْفَى» (12) .
وانفصَل (13) الفريق الآخَرُ: بأنَّ هذا صَدَرَ من الله ورسوله ، ولهما أَنْ يقولا ما أرادا، بخلافِ غيرهما الذي هو محكومٌ عليه.
والذي أراه: ما صارَ إليه مالكٌ؛ لقوله تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا} (14) .
وينضافُ إلى ذلك: أنَّ أهلَ البدعِ قد اتخذوا ذلك شعارًا في الدعاءِ لأئمَّتهم وأمرائهم، ولا يجوز التشبُّهُ بأهلِ البِدَعِ، والله أعلم. &(2/34)&$
__________
(1) في (ح): «واتخذه»، وقوله: «فاتخذه خليلاً»، سقط من (غ).
(2) قوله: «خليلاً»، سقط من (غ).
(3) في (ح): «ولكن».
(4) متفق عليه، وسيأتي تخريجه برقم (428 أحاديث التلخيص .
(5) أخرجه الترمذي (5/548-549 رقم3616) في المناقب، باب فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، من طريق زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث طويل، وفيه يقول - صلى الله عليه وسلم - :«أنا حبيب الله ولا فخر». ورواية زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام منكرة ؛ ولذلك ضعف الترمذي الحديث بقوله:«هذا حديث غريب».
(6) تعليق لغوي: الخليل والحبيب.
(7) في (ب): «أو اغفر».
(8) ها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" (10/438 رقم6010) في كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، من حديث أبي هريرة قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا . فلما سلّم النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأعرابي: لقد حجرت واسعًا . يريد رحمة الله .
(9) في (غ): «فكره».
(10) في (ح): «ماولة».
(11) سورة الأحزاب، الآية: 43.
(12) وهو حديث متفق عليه سيأتي تخريجه في آخر كتاب الزكاة برقم (100 أحاديث "التلخيص".
(13) تراجع هذه اللفظة في المخطوطات ويتم التعليق عليها من كتب اللغة.
(14) سورة النور، الآية: 63.(2/34)
وقوله: «وَالسَّلَامُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ» (1) ، روِّيناه مبنيًّا للفاعلِ وللمفعولِ (2) ؛ فللفاعلِ (3) : هم العالمون، وللمفعولِ: هم الْمُعَلَّمُونَ من جهتِهِ - صلى الله عليه وسلم - بالتشهُّدِ وغيره (4) ؛ ويعني (5) بذلك: قولَهُ في التشهُّد: «السَّلَامُ عَلَيْكَ (6) أَيَّهَا النَّبِيِّ وَرَحَمْةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ) ) (7) . =(2/42)=@
صفحة فارغة =(2/43)=@
************
( 11 ) باب التَّحْمِيد والتَّأْمِين
30- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (8) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:«إِذَا قَالَ الإِمَامُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ. فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
31- وَعَنْهُ (9) ؛ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:«إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:«آمِينَ».
وَفِي رِوَايَةٍ:«قَالَ إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ آمِينَ وَالْمَلائِكَةُ فِي السَّمَاءِ آمِينَ، فَوَافَقَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». وَفِي أُخرَى:«إِذَا قَالَ الْقَارِئُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فَقَالَ مَنْ خَلْفَهُ: آمِينَ، فَوَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ أَهْلِ السَّمَاءِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب التحميد والتأمين
قوله: «إِذَا قَالَ الإِمَامُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: اللهم (10) رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ»: ظاهر هذا (11) يقتضي أن الإمام لا يقول: ربنا ولك الحمد (12) ، وهو مشهور مذهب مالك. وذهب الجمهور ومالك (13) في رواية ثانية: إلى أن الإمام يقولها.
وكذلك الخلاف في التأمين. وقد تمسك الجمهور في التأمين بقوله:«إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا»، وما في معنى هذا. وقد اتفقوا على أن الفَذَّ يُؤَمِّن مطلقًا.
والإمام والمأموم فيما يُسِرَّان فيه يؤمِّنان سرًّا (14) ، وحيث قلنا: إن الإمام يؤمن، فهل يؤمن &(2/35)&$
__________
(1) هذا اللفظ من الحديث الأوَّل في الباب، وهو حديث أبي مَسْعُودٍ البدريِّ.
(2) في (ح): «والمفعول».
(3) في (ح): «فالفاعل».
(4) توثيق لغوي وشرح حديثي.
(5) في (غ): «يعني» بلا واو.
(6) في (ح): «عليكم».
(7) قوله: «ويعني بذلك...» إلى هنا ليس في (أ).
(8) أخرجه البخاري (2/208 ، 216 ، 283 رقم722 ، 734 ، 796) في الأذان، باب إقامة الصف من تمام الصلاة، وباب إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة، وباب فضل "اللهم ربنا ولك الحمد»، و(6/312 رقم3228) في بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: «آمين " ولملائكة في السماء ...، ومسلم (1/306 رقم409) في الصلاة، باب التسميع والتحميد والتأمين .
(9) أخرجه البخاري (2/262 رقم780) في الأنبياء، باب جهر الإمام بالتأمين، و(11/ 200 رقم6402) في الدعوات، باب التأمين، ومسلم (1/307 رقم410) في الصلاة، باب التسميع والتحميد والتأمين .
(10) قوله: «اللهم» ليس في (ح) و(غ)، ولا في أصل التلخيص، وهو موجود في (أ) و(ب) ونسخ "صحيح مسلم".
(11) في (ح): «هذا الحديث».
(12) ينبغي موافقة الذي في ألفاظه في المتن مع الشرح؛ فعبارة المتن غير متفقة مع هذه الأخيرة في الشرح وهما: «ربنا لك الحمد». المتن و: «ربنا ولك الحمد» الشرح ؛ بزيارة واو. بينما جلعها في: (قوله..): «اللهم ربا لك الحمد، فيحتاج حُسن اختيار توافق المخطوطات مع التدقيق في بعضها.
(13) قوله: «مالك» ليس في (أ).(2/35)
سرًّا أو جهرًا؟ فذهب الشافعي وفقهاء الحديث إلى الجهر بها، وذهب مالك والكوفيون إلى الإسرار بها.
وقوله: «مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلائِكَةِ (1) »)، قيل (2) : يعني في (3) وقت تأمينهم ومشاركتهم في التأمين، ويَعْضُدُه قوله: «وقالت الملائكة في السماء آمين» (4) .
وقيل: من وافق الملائكة في الصفة؛ من الإخلاص، والخشوع. وهذا بعيد.
وقيل: من وافق الملائكة في استجابة الدعاء غفر له.
وقيل: في الدعاء، أي: في لفظ الدعاء، والوجه الأول =(2/44)=@ أظهر، ثم هؤلاء الملائكة هل (5) هم الْحَفَظَةُ أو غيرُهم؟ اختُلف فيه، والثاني أولى؛ لقوله: «قالت (6) الملائكة في السماء: آمين» (7) .
وقوله: «إذا قال الإمام: {ولا الضالين}، فقولوا: آمين» (8) ؛ دليل على تعيُّن (9) قراءة الفاتحة للإمام، و على أن المأموم ليس عليه أن يقرأها فيما جهر به إمامه. =(2/45)=@ &(2/36)&$
__________
(1) في (ب) زيادة: «غفر له».
(2) قوله: «قيل " من (أ) فقط .
(3) قوله: «في " ليس في (ب).
(4) كذا جاء في جميع النسخ، ولكن قوله: «قالت " ليس في هذه الرواية رقم (329) ولا في شيء مما بين أيدينا في روايات مسلم .
(5) قوله: «هل " ليس في (ح).
(6) في (غ): «وقالت».
(7) مابين المعكوفين ليس في (أ).
(8) لفظ رواية مسلم هنا:«إذا أمَّن الإمام فأمّنوا»، كما سبق، وأما هذا اللفظ الذي ذكره المصنف هنا فهو لفظ لمسلم في موضع آخر، وهو الحديث الآتي برقم (333 أحاديث "التلخيص»، ولم يشرحه المصنف هناك اكتفاء بشرحه له هنا .
(9) في (ب): «تعيين».(2/36)
**************
( 12 ) بَابُ إِنُّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ
32- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (1) ؛ قال:سَقَطَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عَنْ فَرَسٍ، فَجُحِشَ شِقُّهُ الأَيْمَنُ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ نَعُودُهُ، فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَصَلَّى بِنَا قَاعِدًا، فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا، فَلَمَّا قَضَى الصَّلاةَ قَالَ:«إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلَّوُّا قُعُودًا أَجْمَعُونَ».
33- وَعَنْ عَائِشَةَ (2) نَحْوَهُ؛ إلا أنَّ فِيهِ: إنَّهَمْ صَلَّوْا بِصَلاتِهِ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اجْلِسُوا فَجَلَسُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ:«إِنَّمَا...» وَذَكَرَهُ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنْ بَابِ إِنَّمَا جُعِلَ الإِْمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ
قوله: «فجُحِشَ شِقُّهُ الأَيْمَنُ»، الجَحْشُ: الخَدْشُ (3) ، وقيل: فوقه، والشِّقُّ: الجانب (4) .
وقوله: «فَصلَّى جَالِسًا، وَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ جُلُوسًا»، وفي الحديث الآخر (5) :«إِنَّهُمْ (6) صَلَّوْا قَيَامًا، فَأَشَارَ إِليْهِمْ: أَنْ اجْلِسُوا» ، وجه الجمع: أنه كان منهم مَنْ صلَّى جالسًا، فأَخْبَرَ عنه أنسٌ، وكان منهم (7) مَنْ صَلَّى قائمًا، فأخبرَتْ عنه عائشةُ.
واختُلِفَ: هل كان هذا (8) في صلاةِ الفَرْضِ أو النَّفْلِ؟ والظاهرُ: أنه كان في صلاة الفرضِ؛ لقوله: «فَحَضَرتَ الصَّلَاةُ»، وهي للعهد ظاهرًا (9) ، ولِمَا تقرَّر من عادتهم: أنهم ما كانوا يجتمعون للنوافل (10) .
وقد أشار ابنُ القاسم إلى أنَّ ذلك كان في النافلة.
ثم اختلَفَ العلماءُ في الاقِتداءِ بالإمامِ الجالسِ على ثلاثةِ أقوال: =(2/46)=@ &(2/37)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (1/487 رقم378) في الصلاة، باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب، و(2/173، 216، 290 رقم 689، 732، 733، 805) في الأذان، باب إنما جعل الإمام ليؤتمّ به، وباب إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة، وباب يهوي بالتكبير حين يسجد، و(2/584 رقم1114) في تقصير الصلاة، باب صلاة القاعد، و(4/120 رقم 1911) في الصوم، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :«إذا رأيتم الهلال فصوموا»، و(5/116 رقم 2469) في المظالم، باب إماطة الأذى، و(9/300 رقم 5201) في النكاح، باب قول الله تعالى : { الرجال قوامون على النساء...}، و(9/425 رقم5289) في الطلاق، باب قول الله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم ...}، و(11/568 رقم6684) في الأيمان والنذور، باب من حلف أن ألَّا يدخُلَ على أهله شهرًا، وكان الشهر تسعًا وعشرين، ومسلم (1/308 رقم411/77) في الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام .
(2) أخرجه البخاري (2/173 رقم688) في الأذان، باب إنما جعل الإمام ليؤتم به، و(2/584 رقم1113) في تقصير الصلاة، باب صلاة القاعد، و(3/108 رقم1236) في السهو، باب الإشارة في الصلاة، و(10/120 رقم5658) في المرضى، باب إذا عاد مريضًا فحضرت الصلاة، ومسلم (1/309 رقم412/82) في الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام .
(3) توثيق لغوي.
(4) توثيق لغوي.
(5) يعني: عائشة رضي الله عنها.
(6) تراجع النسخ والمخطوطات «إنهم».
(7) في (ح): «فيهم».
(8) قوله: «هذا» ليس في (ح).
(9) في (ب): «ظاهر».
(10) في (غ): «بالنوافل».(2/37)
أولها: قولُ أحمد بن حنبل ومَنْ تابعه، وهو: أنه تَجُوزُ (1) صلاةُ الصحيحِ جالسًا خَلْفَ المريضِ جالسًا؛ متمسِّكًا بهذا الحديث (2) .
وثانيها: قولُ الشافعيِّ، وأبي حنيفةَ، وأبي يوسف، وزُفَرَ، والأوزاعيِّ، وأبي ثورٍ، وداودَ، وهو (3) : أنه يَجُوزُ أن يقتدي القائمُ بالقاعدِ في الفريضةِ وغيرِهَا، وقد رواها الوليدُ بن مُسْلِم عن مالك، متمسِّكين بحديثِ عائشةَ الآتي (4) ، وبأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان الإمامَ، وأنَّ حديثَ أنسٍ متقدِّمٌ، وهو منسوخٌ بصلاة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي توفيِ فيه (5) ، وبأنَّ كلَّ واحدٍ عليه أن يصلِّي كما يَقْدِر عليه (6) .
وثالثها: قولُ مالكٍ في المشهور عنه وعن أصحابه: أنَّه لا يجوزُ أن يَؤُمَّ أحدٌ جالسًا (7) - وإنْ كان مريضًا- بقومٍ أصحَّاءَ قيامٍ ولَا قعودٍ، وإليهِ ذهب محمَّد بن الحسن، متمسِّكين بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لا يَؤُمَّنَّ أَحْدٌ بَعْدِي قَاعِدًا»، وهذا الحديث (8) ذكره الدارقطنيُّ (9) من حديثِ جابرِ بن يزيد (10) الْجُعْفِيُّ – وهو متروكٌ -، عن الشَّعْبي: &(2/38)&$
__________
(1) في (غ): «يجوز».
(2) توثيق.
(3) قوله: «وهو» ليس في (ب) و(غ).
(4) في الباب التالي.
(5) في (ح): «عليه».
(6) في (ح): «عليها».
(7) في (غ): «أن يَؤُمَّ جالس».
(8) في (أ): «وهذا حديث».
(9) في "سننه" (1/398) وقال: «لم يروه غير جابر الْجُعْفي عن الشعبي، وهو متروك - يعني الجعفي -، والحديث مرسل لا تقوم به حجة " اهـ.
ورواه البيهقي في "سننه" (3/80)، وأعله بذكره الكلام الدارقطني السابق، ونقله عن الشافعي أنه قال: «قد علم الذي احتج بهذا أن ليست فيه حجة، وأنه لا يثبت ؛ لأنه مرسل، ولأنه عن رجل يرغب الناس عن الرواية عنه»، وفي "معرفة السنن والآثار"(4/146) ذكر كلامَ الشافعيِّ والدارقطنيِّ، ثم قال: «وهو مختلفٌ فيه على جابر الجعفي، فروي عن ابن عيينة عن جابر كما قال الشافعي، ورواه إبراهيم بن طُهْمان عن جابر، عن الحكم، قال: كتَبَ عمر: لا يَؤُمَّنَّ أحدٌ جالسًا بعد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا مرسل موقوف، وراويه عن الحكم ضعيف».
(10) في (غ): «زيد».(2/38)
أنَّ رسول - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك، وهو مرسلٌ،، وقد رواه مُجَاِلدٌ عن الشَّعْبي، ومجالدٌ ضعيف (1) .
وفي حديثِ أنس (2) : دليلٌ لمالكٍ وعامَّةِ الفقهاء على ارتباطِ صلاةِ المأمومِ بصلاة الإمام، وتَرْكِ مخالفتِهِ له في نيَّةٍ أو غيرها، وسيأتي. =(2/47)=@
34- وَعَنْ جَابِرٍ (3) ، قال:اشْتَكَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ، وَهُوَ قَاعِدٌ، وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ. قَالَ: فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا فَرَآنَا قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْنَا فَقَعَدْنَا، فَصَلَّيْنَا بِصَلاتِهِ قُعُودًا، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ:«إِنْ كِدْتُمْ آنِفًا تَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ، يَقُومُونَ على مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ، فَلا تَفْعَلُوا. ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ، إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَصَلَّوْا قِيَامًا، وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَصَلَّوْا قُعُودًا».
35- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (4) ، قال:كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُنَا، يَقُولُ:«لا تُبَادِرُوا الإِمَامَ، إِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَالَ: {وَلا الضَّالِّينَ} فَقُولُوا: آمِينَ، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ـ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ». وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ:«وَلا تَرْفَعُوا قَبْلَهُ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «إِنْ كِدْتُمْ آنِفًا تَفْعَلُونَ (5) فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ، يَقُومُونَ على مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ»؛ تنبيهٌ على تعليل (6) مَنْعِ القيامِ بما يؤدِّي إليه من التشبُّهِ بأفعالِ المتكبِّرين؛ فَمُنِعَ (7) على هذا التعليل أن يقومَ الرجالُ أو المماليكُ على رؤوسِ الملوكِ أو الأمراءِ أو الرؤساءِ أو العلماءِ؛ لما يؤدِّي إليه. =(2/48)=@
************
( 13 ) باب استخلاف الإمام إذا مرض، وجواز ائتمام القائم بالقاعد
36- عَنْ عَائِشَةِ (8) ؛ قَالَتْ: ثَقُلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:«أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا: لا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ ! قَالَ:«ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ» فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، قَالَ:«أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا: لا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ ! قَالَ:«ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ» فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ قَالَ:«أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا: لا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ ! فَقَالَ:«ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ» فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ:«أَصَلَّى النَّاسُ؟» فَقُلْنَا: لا وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَتْ: وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِصَلاةِ الْعِشَاءِ الآخِرَةِ. قَالَتْ: فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ. فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ رَجُلاً رَقِيقًا: يَا عُمَرُ ! صَلِّ بِالنَّاسِ. قَالَ: فَقَالَ: أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ. قَالَتْ: فَصَلَّى بِهِمْ أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الأَيَّامَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، أَحَدُهُمَا الْعَبَّاسُ، لِصَلاةِ الظُّهْرِ، وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنْ لا يَتَأَخَّرَ، وَقَالَ لَهُمَا: «أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِهِ» فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ قَائِمٌ بِصَلاةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وَالنَّاسُ بِصَلاةِ أَبِي بَكْرٍ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَاعِدٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرَّجُلُ الَّذِي لَم تُسْمِهِ هُوَ عَلِيٌّ - رضي الله عنه - .
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ: أَوَّلُ مَا اشْتَكَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ فَاسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِهَا - يَعْني بَيت عَائشَة - فَأَذِنَّ لَهُ. قَالَتْ: فَخَرَجَ وَيَدٌ لَهُ على الْفَضْلِ بْنِ العَبَّاسٍ وَيَدٌ لَهُ على رَجُلٍ آخَرَ، وَهُوَ يَخُطُّ. بِرِجْلَيْهِ فِي الأَرْضِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب استخلاف الإمام
«الْمِخْضَب»: مثل الإجَّانة (9) (10) ، والْمِرْكَن (11) (12) ، وهي القصريَّة (13) ، و«لِيَنُوء»: ليقوم وينهض (14) ، و «عُكُوفٌ»: ملتزمون المسجد مجتمعون (15) .
واستدعاء الماء بعد الإغماء، يدل على أن الإغماء ينقض الطهارة؛ كما هو متفق عليه، وهذا على أن يكون الغسل هنا يراد به الوضوء، والله أعلم. &(2/39)&$
__________
(1) ويُشْكِلُ على هذا قولُ الدارقطني: «لم يروه غيرُ جابرٍ الجعفيِّ عن الشعبي»، لكنء يؤيِّده: أن الزيلعي في "نصب الراية" (2/50) نقل عن عبد الحق الإشبيلي قوله: «ورواه عن الجعفي مجالد، وهو أيضًا ضعيف».
(2) يعني حديث الباب .
(3) أخرجه مسلم (1/309 رقم413) في الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام .
(4) أخرجه البخاري (2/208، 216 رقم722، 734) في الأذان، باب إقامة الصف من تمام الصلاة، وباب إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة، ومسلم (1/309، 310 رقم414 - 415) في الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، وباب النهي عن مبادرة الإمام بالتكبير وغيره، واللفظ للرواية في الموضع الثاني .
(5) كذا في (ب) و(ح) و(غ): «تفعلون»، وهو مواقف لمتن «التلخيص»، ولما جاء في «صحيح مسلم» مع شرح الأبي (2/169)ن وجاء في (أ) فقط: «لَتَفْعَلون»، وهو موافق لما في «صحيح مسلم» بتحقيق عبد الباقي (1/309 رقم 413).
(6) في (ب): «أن تعليل».
(7) قوله: «فَمُنِعَ» في (أ): «فيحرم».
(8) أخرجه البخاري (1/302 رقم198) في الوضوء، باب الغسل والوضوء في المخضب والقدح والخشب والحجارة، و(2/151 ، 152 ، 164 ، 166 ، 172 ، 203 ، 204 ، 206 رقم664 ، 665 ، 679، 683 ، 687، 712، 713، 716) في الأذان، باب حد المريض أن يشهد الجماعة، وباب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة، وباب من قام إلى جنب الإمام لعلّة، وباب إنما جعل الإمام ليؤتم به، وباب من أسمع الناس تكبير الإمام، وباب الرجل يأتم بالإمام، ويأتم الناس بالمأموم، وباب إذا بكى الإمام في الصلاة، و(5/216 رقم2588) في الهبة، باب هبة الرجل لامرأته والمرأة لزوجها، و(6/210 رقم 3099) في فرض الخمس، باب ما جاء في بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و(6/417 رقم3384) في أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: { لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين، و(8/140 ، 141 رقم4442 ، 4445) في المغازي، باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، و(10/167 رقم5714) في الطب، باب منه، و(13/276 رقم7303) في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع، ومسلم (1/311-312 رقم418) في الصلاة، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما من يصلي بالناس ... .
(9) تعريف لغوي أفضل.
(10) وهي وعاء تغسل فيها الثياب . انظر: «النهاية في غريب الحديث" (2/39).
(11) تعريف لغوي أفضل.
(12) هو شِبْهُ تَوْرٍ من أَدَم يُتّخذ للماء . "لسان العرب" (13/186).
(14) توثيق لغوي.
(15) توثيق لغوي وحديثي.(2/39)
وقوله: «وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلاً رَقِيقًا»، أي: رقيق القلب، كثير الخشية، =(2/49)=@ سريع الدَّمْعة، وهو الأَسِيف (1) أيضًا في الحديث الآخر (2) ، فإن الأسف: الحزن، وحالة الحزين غالبًا الرِّقَّة (3) . والأَسيف في غير هذا: العبد، والأَسِيف أيضًا: الغضبان (4) .
وقول أبي بكر لعمر: صلّ بالناس، بعد أن أمره البنيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة، دليل على أن للمسْتَخْلَف أن يَسْتَخْلِف. =(2/50)=@ &(2/40)&$
__________
(1) توثيق لتعريف: «...رقيقًا».
(2) وهو الآتي برقم (334 م) عقب الحديث رقم (335).
(3) توثيق لغوي «الأسف».
(4) توثيق لغوي: الأسيف.(2/40)
وقوله: «يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ» (1) ، التَّهَادِي: هو المشي الثقيل (2) مع التمايل يمينًا وشمالاً (3) .
واختلف العلماء فيمن كان الإمام؟ هل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو أبوبكر؟ وسببه: اختلاف الأحاديث المرويَّة في ذلك.
ففي حديث عائشة ما ينص (4) على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان الإمام، وأن أبا بكر كان يقتدي بصلاة رسول الله (5) - صلى الله عليه وسلم - ، ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر. وروى الترمذي عن جابر: أن آخر صلاة صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثوب واحد مُتَوشِّحًا به (6) خلف أبي بكر،وصححه (7) . وكذلك اختلفت الروايات، هل قعد النبي - صلى الله عليه وسلم - عن يسار أبي بكر، أو عن يمينه؟ وليس في الصحيح ذكر لأحدهما (8) . وقد ذهب بعض المتأخرين إلى الجمع بين الحديثين: بأن ذلك كان في صلاتين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إمامًا في إحداهما، مأمومًا في الأخرى، وهو محتمل لو كان هنالك (9) نقل يعضُده. وحديث سهل بن سعد (10) حُجَّة في الاستخلاف وجوازه، وهو أصل في الباب، وهو دليل على داود والشافعي في منعه الاستخلاف، و على أن الصلاة تصح بإمامين لغير (11) عذر، وأجازها الطبري والبخاري وبعض الشافعية استدلالاً بهذا (12) الحديث.
واستئذانه - صلى الله عليه وسلم - نساءَه أن يُمَرَّضَ في بيت عائشة تطييب لنفوسهن. واختلف في &(2/41)&$
__________
(1) هذا لفظ إحدى روايات مسلم لهذا الحديث، وسيأتي في الحديث بعده برقم (334 م) عقب الحديث رقم (335).
(2) في (غ): «القليل».
(3) توثيق لغوي: التهادي.
(4) في (غ): «يدل».
(5) في (ب): «يقتدي برسول الله».
(6) قوله: «به " ليس في (ح).
(7) ليس هو من حديث جابر بهذا اللفظ الذي ذكره المصنِّف، وإنما من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه خلف أبي بكر قاعدًا في ثوب متوشحًا به .
أخرجه الترمذي (2/197-198 رقم363) في الصلاة، باب منه، من طريق عبدالله بن أبي زياد، عن شبابة بن سوّار، عن محمد بن طلحة، عن حميد، عن ثابت، عن أنس، به. قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح . وهكذا رواه يحيى بن أيوب، عن حميد، عن ثابت، عن أنس , وقد رواه غير واحد عن حميد، عن أنس، ولم يذكروا فيه: «عن ثابت»، ومن ذكر فيه: «عن ثابت " فهو أصح».
وقد أخرجه الإمام أحمد (3/159، 216، 233، 243 طريق إسماعيل بن جعفر وسفيان الثوري وعبدالوهاب بن عطاء وعلي بن عاصم، والنسائي في "سننه" (2/79) في الإمامة، باب صلاة الإمام خلف رجل من رعيته، جميعهم عن حميد، عن أنس، به هكذا دون ذكر لثابت في سنده، والظاهر أن الذي أسقطه حميد الطويل ؛ فإنه مدلس، ولذا رجح الترمذي الرواية الأخرى .
وأما زعم المصنف بأن هذا الحديث من رواية جابر، فالظاهر أن الذي أوقعه في ذلك: مجيء حديث لجابر بلفظ: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في ثوب واحد متوشِّحًا به .
أخرجه مسلم (1/369 رقم518) في الصلاة، باب الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه، ولم يخرجه الترمذي .
وقد قيل: عن جابر، حدثني أبو سعيد الخدري، وهو الحديث الآتي من أحاديث "التلخيص" برقم (416).
(8) بل أخرج مسلم: انه جلس عن يساره، وهو الحديث الآتي قريبًا برقم (334 م) عقب الحديث رقم (335).
(9) في (ح) و(غ): «هناك».
(10) وهو الآتي قريبًا برقم (336).
(11) في (ح): «بغير».
(12) في (ب): «بهذ».(2/41)
الزوج المريض إذا لم يقدر على الدوران على نسائه، هل اختصاصه بكونه عند واحدة منهن راجع إلى اختياره، أو هو حق لهن فيقرع بينهن في ذلك؟
*************
( 14 ) بَابٌ الْعَمَلُ الْقلِيلُ في الصَّلَاةِ لَا يَضُرُّهَا
38- عَنْ أَنَسٍ (1) بْنِ مَالِكٍ (2) ؛ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ فِي وَجَعِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، حتى إِذَا كَانَ يَوْمُ الإِثْنَيْنِ (3) ، وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلاةِ، كَشَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سِتْرَ الْحُجْرَةِ، فَنَظَرَ إِلَيْنَا وَهُوَ قَائِمٌ كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ، ثُمَّ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ضَاحِكًا، قَالَ: فَبُهِتْنَا وَنَحْنُ فِي الصَّلَاةِ، مِنْ فَرَحٍ بِخُرُوجِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ على عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ، وَظَنَّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَارِجٌ لِلصَّلَاةِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ أَنْ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ، قَالَ: ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَرْخَى السِّتْرَ، قَالَ: فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ.
وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَمَّا وَضَحَ لَنَا وَجْهُ نَبِيِّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، مَا نَظَرْنَا مَنْظَرًا قَطُّ كَانَ أَعْجَبَ إِلَيْنَا مِنْ وَجْهِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ وَضَحَ لَنَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنْ بَابٍ الْعَمَلُ الْقَلِيلِ في الصَّلَاةِ لَا يَضُرُّهَا
قوله: «كَأَنَّ (4) وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ» هذه عبارةٌ عمَّا راعهم مِنْ جماله (5) ، جمال وحُسْنِ بَشَرته، ومائِيَّةِ (6) وجهه (7) ؛ كما قال في الحديث الآخر: «كَأَنَّ وجهه مُذْهَبةٌ» (8) (9) .
وقوله: «فَلَمَّا وَضَحَ لَنَا وَجْهُهُ»، أي: ظهر (10) . =(2/53)=@
وقوله: «فَهَمَمْنَا أَنْ نَفْتَتِنَ (11) (12) في صَلَاتِنَا» (13) ، أي: نُذْهَلَ فيها من الفرح بما ظهَرَ &(2/42)&$
__________
(1) في "التلخيص" هذا الحديث متأخِّر عن حديث عائشة الآتي، بل إنَ حديث عائشةَ تابعٌ للباب السابق، ولكنْ هكذا رتَّب المصنِّف شرحَ الأحاديثِ في "المفهم"!
(2) أخرجه البخاري (2/164، 235 رقم680، 681، 754) في كتاب الأذان، باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة، وباب هل يلتفت لأمر ينزل به، أو يرى شيئًا أو بصاقًا في القبلة، و(3/77 رقم1205) في كتاب العمل في الصلاة، باب من رجع القهقرى في صلاته أو تقدم بأمر ينزل به، و(8/143 رقم4448) في كتاب المغازي، باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، ومسلم (1/315 رقم419) في الصلاة، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما من يصلي بالناس، ... .
(3) تعليق حرفي جواز فصل همزة إثنين والإثنين لليوم وقطعها.
(4) في (ح): «وقوله: وكأن» وفي (غ): «وقوله كأن».
(5) في (ح): «حاله».
(6) في (ح): «ومياية» أو: «وميانة».
(7) توثيق لغوي وشرح حديثي: «كأن...مصحفٍ».
(8) وهو الحديث الآتي في كتاب الزكاة، باب: حث الإمام الناس على الصدقة إذا عنت فاقة.
(9) تعريف مذهبة.
(10) توثيق لغوي لـ«وضح».
(11) يراعى الضبط من البخاري.
(12) في (ب): «فهممنا نفتتن»، وفي (ح): «فههمنا نفتن» [تراجع النسخ].
(13) هذا لفظُ رواية البخاري،وأما لفظ رواية مسلم: «فبهتنا ونحنُ في الصلاة» كما هو في "التلخيص".(2/42)
من استقلالِهِ (1) (2) وبروزه لهم (3) ؛ كما قال أبو طلحة (4) : «لقد (5) أصابتني في مالي فِتْنَةٌ» (6) ؛ حين شغله النظَرُ عن الصلاةِ حتى سها فيها.
وقوله: «فَتَّبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - »؛ فَرَحًا بما رأى مِنِ اجتماعهم في مغيبه على إمامهم وإقامة شريعتهم،، ويحتملُ أنْ يكونَ ضحِكُهُ (7) تأنيسًا لهم، وحسن عشرة، والله أعلم.
وقوله: «نَكَصَ أَبُو بَكْر على عَقِبَيْهِ»، أي: تأخَّر (8) ؛ كما في الحديث الآخر: «رَجَعَ القَهْقَرَى (9) ») (10) . =(2/54)=@
37- وَعَنْهَا (11) قَالَتْ: لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، جَاءَ بَلالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ»، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ!! إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ، وَإِنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ، لَا يُسْمِعِ النَّاسَ، فَلَوْ أَمَرْتَ عُمَرَ!! قَالَ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ»، فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ: قُولِي لَهُ!! إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ، وَإِنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ، لَا يُسْمِعِ النَّاسَ، فَلَوْ أَمَرْتَ عُمَرَ!! فَقَالَتْ لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «إِنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ»، قَالَتْ: فَأَمَرُوا أَبَا بَكْرٍ، فَصَلِى بِالنَّاسِ، قَالَتْ: فَلَمَّا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَجَدَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَقَامَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، وَرِجْلَاهُ تَخُطَّانِ (12) فِي الأَرْضِ، قَالَتْ: فَلَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ، سَمِعَ أَبُو بَكْرٍ حِسَّهُ (13) ، ذَهَبَ يَتَأَخَّرُ (14) ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَقِمْ مَكَانَكَ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حتى جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: فَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي بِالنَّاسِ جَالِسًا، وَأَبُو بَكْرٍ قَائِمًا، يَقْتَدِي أَبُو بَكْرٍ بِصَلَاةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وَيَقْتَدِي النَّاسُ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَتْ: فَقُلْتُ يا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ، لَا يَمْلِكُ دَمْعَهُ، فَلَوْ أَمَرْتَ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ!! قَالَتْ: وَاللهِ، مَا بِي إِلَّا كَرَاهِيَةُ أَنْ يَتَشَاءَمَ النَّاسُ بِأَوَّلِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «إِنَّكُنَّ لأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ (15) يُوسُفَ»، يعني في (16) تردادِهِنَّ وتظاهرِهِنَّ =(2/51)=@ بالإغواءِ والإلحاح، حتى يَصِلْنَ إلى أغراضهنَّ؛ كتظاهرِ امرأةِ العزيز ونسائِهَا على يُوسُفَ ليَصْرِفْنَهُ عن رأيه في الاستعصامِ، «وصَوَاحِبَات» جمع صَوَاحِبَ، وهو (17) جمعٌ شاذٌ (18) . =(2/52)=@
**************
( 15 ) بَابُ إِذَا نَابَ الْإِمَامَ شَيْءٌ،
فَلْيُسَبِّحِ الرِّجَالُ، وَلْيُصَفِّق النِّسَاءُ
39- عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ (19) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ، فَحَانَتِ الصَّلاةُ، فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: أَتُصَلِّي بِالنَّاسِ فَأُقِيمُ (20) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ. قَالَ: فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالنَّاسُ فِي الصَّلاةِ فَتَخَلَّصَ حتى وَقَفَ فِي الصَّفِّ، فَصَفَّقَ النَّاسُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لا يَلْتَفِتُ فِي الصَّلاةِ، فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ التَّصْفِيقَ الْتَفَتَ فَرَأَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنِ امْكُثْ مَكَانَكَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ على مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ حتى اسْتَوَى فِي الصَّفِّ، وَتَقَدَّمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقَالَ:«يَا أَبَا بَكْرٍ ! مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إِذْ أَمَرْتُكَ؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا كَانَ لابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :«مَا لِي رَأَيْتُكُمْ أَكْثَرْتُمُ التَّصْفِيقَ؟ مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ، فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ الْتُفِتَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا التَّصْفِيحُ لِلنِّسَاءِ».
وَفِي رِوَايَةٍ: فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَخَرَقَ الصُّفُوفَ حتى قَامَ عِنْدَ الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجَعَ الْقَهْقَرَى.
40- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (21) ، قال:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :«التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ، فِي الصَلاةِ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنْ بَابِ مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي الصَّلَاةِ
قوله - صلى الله عليه وسلم - : «إِنَّمَا التَّصْفِيقُ للنِّسِاءِ»، ويروى: «التصفيح»، وهما بمعنى واحد، &(2/43)&$
__________
(1) تعريف: «استقلاله».
(2) في (ح): «استقباله».
(3) توثيق لغوي لـ: «نفتن».
(4) سقط من (أ).
(5) في (ح): «فقد».
(6) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/98-99 رقم69،70) في الصلاة، باب النظر في الصلاة إلى ما يشغلك عنها، من طريق عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم؛ أن أبا طلحة ...، فذكر الحديث هكذا مرسلاً .
قال ابن عبد البر في "التمهيد" (17/389): «هذا الحديث لا أعلمه يروى من غير هذا الوجه، وهو منقطع».
(7) في (ح): «ضحك».
(8) توثيق لغوي لـ«نكص».
(9) تعريف «القهقهرى».
(10) وهو حديث سهل بن سعد الآتي في أوَّل الباب التالي.
(11) أي: عن عائشة رضي الله عنها، وهذا بناءٌ على أنَّ هذا الحديث عَقِبَ الحديثِ قبل السابق المتقدِّم، وروايةٍ أخرى له، وتقدَّم تخريجه هناك؛ حيث إنه تابعٌ للباب السابق كما في "التلخيص»، ولكنْ هكذا رتَّب المصنِّف شرحَ الأحاديثِ في "المفهم"؛ فالتزمنا بترتيبه .
(12) تعريف لغوي: تخطان.
(13) تراجع الروايات.
(14) تراجع الروايات.
(15) في (ح): «صواحب».
(16) في (ح): «من».
(17) في (غ): «وهي».
(18) توثيق لغوي وصرفي وشرح حديثي لـ«صواحبات يوسف».
(19) أخرجه البخاري (2/167 رقم684) في الأذان، باب من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول، فتأخر الأول أو لم يتأخر جازت صلاته، و(3/75، 77، 87 رقم1201، 1204، 1218) في كتاب العمل في الصلاة، باب ما يجوز من التسبيح والحمد في الصلاة للرجال، وباب التصفيق للنساء، وباب رفع الأيدي في الصلاة لأمر ينزل به، و(3/107 رقم1234) في كتاب السهو، باب الإشارة في الصلاة، و(5/297، 300 رقم2690، 2693) في كتاب الصلح، باب ما جاء في الإصلاح بين الناس، وباب قول الإمام لأصحابه: اذهبوا بنا نصلح ...، و(13/182 رقم7190) في كتاب الأحكام، باب الإمام يأتي قومًا فيصلح بينهم، ومسلم (1/316 رقم421) في الصلاة، باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام ولم يخافوا مفسدة بالتقديم .
(20) توثيق الروايتين في «فأقيم» الرفع والنصب.
(21) أخرجه البخاري (3/77 رقم1203) في العمل في الصلاة، باب التصفيق للنساء، ومسلم (1/318 رقم422) في الصلاة، باب تسبيح الرجل وتصفيق المرأة إذا نابها شيء في الصلاة.(2/43)
قاله أبو علي البغدادي (1) ، وهو أن يضرب بإصبعين من اليد اليمنى في باطن الكف اليسرى، وهو صفحها، وصفح كل شيء: جانبه (2) ، وصفحتا السيف: جانباه (3) .
وقيل: التصفيح: الضرب بظاهر إحداهما على الأخرى. والتصفيق: الضرب بباطن إحداهما على باطن الأخرى (4) .
وقيل: التصفيح: بإصبعين للتنبيه، وبالقاف =(2/55)=@ بالجميع للّهو واللعب (5) .
واختلف في حكمه في الصلاة، فقيل: لا يجوز أن يفعله في الصلاة، لا الرجال ولا النساء، وإنما هو التسبيح للجميع؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - (6) : «من نابه شيء في صلاته فليسبح، فإنه إذا سبح التفت إليه»، وهذا مشهور مذهب مالك وأصحابه. وتأوّلوا: أن قوله - صلى الله عليه وسلم - :«إنما التصفيق للنساء»؛ أن ذلك ذمّ للتصفيق، ومعناه: أنه من شأن النساء لا الرجال. وقيل: هو جائز للنساء دون الرجال تمسُّكًا بظاهر الحديث، وبحديث أبي هريرة (7) ، وهو مذهب الشافعي والأوزاعي، وحُكي (8) عن مالك أيضًا. وعللوا اختصاص النساء بالتصفيق؛ لأن أصواتهن عورة، ولذلك منعن من &(2/44)&$
__________
(1) أبو علي البغدادي، هو التالي: إسماعيل بن القاسم في «الموارد».
(2) في (غ): «جانباه».
(3) توثيق لغوي.
(4) توثيق لغوي وشرح حديثي.
(5) ؟؟؟؟
(6) أي في حديث الباب هذا.
(7) هو الآتي بعد هذا الحديث.
(8) في (ح): «ويحكى».(2/44)
الأذان، ومن الجهر بالإقامة والقراءة، وهو معنى مناسب شهد الشرع له بالاعتبار. وهذا القول الثاني هو الصحيح نظرًا وخبرًا، وفي هذه الأحاديث أبواب كثيرة من الفقه لا تخفى على متأمل فطن (1) . =(2/56)=@
************
( 16 ) بَابُ الْأَمْرَ بِتَحْسِينِ الصَّلَاةِ، وَالنَّهْيِ عَنْ مُسَابَقَة الإِمَامِ
41- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (2) ، قال:صَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقَالَ:«يَا فُلانُ، أَلَا تُحْسِنُ صَلاتَكَ؟! أَلَا يَنْظُرُ الْمُصَلِّي إِذَا صَلَّى كَيْفَ يُصَلِّي؟! فَإِنَّمَا يُصَلِّي لِنَفْسِهِ، إِنِّي وَاللهِ لَأُبْصِرُ مِنْ وَرَائِي كَمَا أُبْصِرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ».
42- وَعَنْهُ (3) ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:«هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَا هُنَا؟! فَوَاللهِ، مَا يَخْفَى عَلَيَّ رُكُوعُكُمْ وَلا سُجُودُكُمْ، إِنِّي لأَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي!!».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِتَحْسِينِ (4) الصَّلَاةِ
قوله: «إِنِّي لَأُبْصُرِ مِنْ وَرَائِي كَمَا أُبْصِرُ مِنْ (5) بَيْنِ يَدَيَّ». مذهبُ (6) أهل السنة من الأشعرية (7) وغيرهم: أنَّ هذا الإبصارَ يجوزُ أن يكونَ إدراكًا خاصًّا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - محقَّقًا، انخرقَتْ له فيه العادةُ (8) ، وخُلِقَ له وراءه،، أو يكونَ (9) الإدراكُ العينيُّ انخرقَتْ له العادةَ (10) ، فكان يَرَى به مِنْ غير مقابلةٍ؛ فإنَّ (11) أهلَ السنةِ لا يشترطون في الرؤية عَقْلاً بِنْيَةً (12) مخصوصةً، ولا مقابلةً، ولا قربًا، ولا شيئًا مما تشترطُهُ (13) المعتزلة وأهلُ البدعِ، وأنَّ تلك الأمورَ إنما هي شروطٌ عاديَّةٌ، يجوزُ حصولُ الإدراكِ مع عدمها؛ ولذلك حكَمُوا بجوازِ رؤيةِ الله تعالى في الدارِ الآخرةِ، مع إحالةِ تلك الأمور كلَّها.
ولمَاَّ ذَهَبَ أَهلُ البدعِ إلى (14) أنَّ تلك الشروطَ عقليةٌ، استحالَ عندهم رؤيةُ الله تعالى، &(2/45)&$
__________
(1) في (ب) زيادة: «والله أعلم».
(2) أخرجه مسلم (1/319 رقم423) في الصلاة، باب الأمر بتحسين الصلاة وإتمامها والخشوع فيها . وانظر الحديث الآتي بعده .
(3) أخرجه البخاري (1/514 رقم418) في الصلاة، بابُ عظةِ الإمامِ الناسَ في إتمامِ الصلاةِ وذِكْرِ القبلة، و(2 /325 رقم741) في كتابِ الأذان، باب الخشوعِ في الصلاة، ومسلم (1/319 رقم424) في الصلاة، باب الأمر بتحسين الصلاة وإتمامِهَا والخشوعِ فيها .
(4) قوله: «بتحسين " طرأ عليها تعديل في (ح)، فأشبهت: «بتخصيص».
(5) قوله: «من) (ب) فقط و"صحيح مسلم".
(6) قوله: «مذهب...» إلخ نقله العراقي في "تقريب الأسانيد" (2/336) عن الشارح، وسأقابل النص هنا على ما في "التقريب".
(7) سبق التنبيه في مقدِّمةِ التحقيقِ على معتقد الشارح – عفا الله عنه-، فاعتبارُهُ الأشعريةَ هنا من أهل السنة من زَلاَّته رحمه الله، وإنْ كان يمكنُ إطلاقُ العبارة في مقابلِ الرافضةِ أو المعتزلة، لكنْ من عُرِفَ معتقدُهُ كالقرطبي، عُلِمَ أنه يعني هذا الإطلاقَ لموافقتِهِ لهم في معتقدهم أجمَعَ لكنَّ قوله هنا: (وغيرهم» يدلَّ على أنه يريد من أثبت الرؤية مخالفًا للمعتزلة والرافضية. [لكن أهل السنة يشترطون صحة النص ويطوعون العقل بعد ذلك للنص. هذه قاعدتهم الكلية، أما مقابلة المبتدعة بآراء فلا يصلح].
(8) في (ح): «انخرقت العادة». [راجع]
(9) في "التقريب": أن «أن يكون» ولعله تصحيف.
(10) قوله: «وخلق له وراءه...» إلى هنا سقط من (غ).
(11) في (ح): «قال».
(12) قوله: «بنية» في "التقريب": «هيئته».
(13) في (ح) و"التقريب": «يشترطه».
(14) قوله: «إلى " ليس في (ب).(2/45)
فَأَنْكَرُوها، وخالفوا قواطعَ الشريعةِ التي وَرَدَتْ بإثباتِ الرؤية، وخالفوا ما أجمَعَ (1) =(2/57)=@ عليه الصحابةُ والتابعون (2) .
ويؤِّيدُ: هذا قولُ عائشة رضي الله عنها في هذا (3) : «زيَادَةٌ زادَهُ (4) اللهُ إياها في حُجَّتِهِ (5) ، وقال بقيُّ بن مَخْلَد (6) : كان - صلى الله عليه وسلم - يَرَى في الظلامِ كما يَرَى (7) في الضَّوْء (8) ، وقال مجاهد: كان - صلى الله عليه وسلم - يَرَى مِنْ خلفه كما يَرَى مِنْ بين يديه (9) (10) .
وذهَبَ بعضُ أهل العلم: إلى أنَّ قوله: «إِنِّي لَأُبْصِرُ وَلَأَرَى (11) »، راجعٌ إلى العلم، وأنَّ معناه (12) : إنِّي لَأْعلَمُ (13) ، وهذا تأويلٌ لا حاجةَ إليه، بل حَمْلُ ذلك على ظاهره أولى، ويكونُ ذلك زيادةً في كرامات النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي فضائلِهِ؛ لأن ذلك جارٍ على أصول أهل الحقِّ كما قدَّمناه (14) (15) ، والله تعالى أعلم.
43- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (16) ؛ أَنَّ نَبِيَّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:«أَتِمُّوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، فَوَاللهِ، إِنِّي لأَرَاكُمْ مِنْ بَعْدِ ظَهْرِي، إِذَا مَا رَكَعْتُمْ وَإِذَا مَا سَجَدْتُّمْ».
44- وَعَنْهُ (17) ، قال:صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ، أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي إِمَامُكُمْ؛ فَلا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ، وَلا بِالسُّجُودِ، وَلا بِالْقِيَامِ، وَلا بِالانْصِرَافِ؛ فَإِنِّي أَرَاكُمْ أَمَامِي وَمِنْ خَلْفِي»، ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا رَأَيْتَ؟ قَالَ: «رَأَيْتُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله:«مِنْ بَعْدِ (18) ظَهْرِي»، أو: «مِنْ بَعْدِي»، أي: مِنْ خلفي كما تقدم (19) .
وقوله: «فَلا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ، وَلا بِالسُّجُودِ، وَلا بِالْقِيَامِ، وَلا بِالانْصِرَافِ». اختُلِفَ إذا سابَقَ المأمومُ إمامَهُ، هل تفسُدُ صلاتُهُ أم لا؟
فذهب الجمهور: إلى أنها لا تفسُدُ.
وذهب ابنُ عمر (20) ، وأهلُ الظاهرِ: إلى أنَّها تفسُدُ.
ومذهبُ مالكٍ: فيه تفصيلٌ يطولُ ذكره في هذا الكتاب، وهو مذكورٌ في كتبِ الفقه، وقد تقدم بعضه (21) (22) .
وأمَّا نهيُهُ - صلى الله عليه وسلم - عن سبقهم إيَّاه بالانصراف: فقد ذهب الحسن والزهريُّ: إلى أنَّ حقَّ المأمومِ ألا ينصرفَ حتى &(2/46)&$
__________
(1) في (غ): «ما أجمعوا».
(2) تعليق لغوي عقدي على تفاصيل كلامه الذي بدأ في الصفحة السابقة بقوله: «مذهب أهل السنة..».
(3) قوله: «هذا " ليس في (ح).
(4) في (ح): «زادها».
(5) لم نجد قول عائشة هذا .
(6) في (ح): «وقال يعني ابن خالد».
(7) في (ح): «ما يرى».
(8) قوله: «كان عليه السلام يرى في الظلام كما يرى في الضوء " ورَدَ من حديث عائشةَ وابن عباس رضي الله عنهم .
أما حديث عائشة، فأخرجه ابن عدي في "الكامل" (4/219)، وتمَّام في فوائده" (4/238 رقم1430/الروض البسام)، والخطيب في "تاريخه" (4/271-272)، ثلاثتهم من طريق زهير بن عباد، عن عبدالله بن المغيرة، عن الم على بن هلال، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرى في الظلمة كما يرى في الضوء.
وقد سقط من"الكامل" لابن عدي ذكر الم على بن هلال، وهو آفة هذا الحديث، فقد اتفق النُّقَّادُ على تكذيبه؛ كما قال الحافظ ابن حجر في"التقريب"(6855)؛ فالحديث موضوع لأجله.
وقد أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" (6/74-75 طريق ابن عدي، وقال: وهذا إسناد ضعيف.
وأخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/173-174 رقم266 طريق ابن عدي أيضًا، وقال: «لا يصحُّ»، وأعلَّه بعبدالله بن محمد بن المغيرة، وذكر أنَّ العقيلي قال فيه: «يحدِّث بما لا أصل له».
وأما حديث ابن عباس، فأخرجه البيهقيُّ في الموضع السابق من "الدلائل" من طريق مغيرة ابن مسلم، عن عطاء، عن ابن عباس، به، نحو لفظ حديث عائشة .
وقال البيهقي عنه: «ليس بالقوي».
وذكر الشيخ ناصر الدين الألباني هذا الحديث في "السلسلة الضعيفة" (341)، وقال عنه: «موضوع»، وقال عن طريق ابن عباس هذه: «وهذا إسنادٌ مظلمٌ؛ فإنَّ مَنْ دون المغيرة هذا لم أجد لهم ترجمة».
(9) أخرجه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (19/412) بسند صحيح إلى مجاهد، وهو ضعيفٌ لإرساله، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (6/331) إلى سفيان بن عيينة، والفريابي، والحميدي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، والمنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في "الدلائل»، وانظر تخريجه مفصَّلاً في تحقيق لـ"سنن سعيد بن منصور" في تفسير قوله تعالى : {وتقلبك في الساجدين } [الشعراء: 219] .
(10) إلى هنا انتهى ما نقله العراقي في "تقريب الأسانيد" إلا أن قول مجاهد ورد في "التقريب" قبل قول بقي بن مخلد، لا بعده كما هنا، نقلاً عن ابن عبد البر، وهذا نصه: «وروى ابن عبد البر في "التمهيد»، عن مجاهد في تفسير قوله تعالى: {وتقلبك في الساجدين} [الشعراء: 219]، قال: ...» نذكر قول مجاهد، ومن بعده قول بقي بن مخلد، ولم أقف على هذا في "التمهيد".
(11) قوله: «ولأرى» في (غ): «وإني».
(12) قوله: «وأن معناه» في (ب): «ومعناه».
(13) توثيق لغوي وشرح حديثي.
(14) تعليق لغوي عقدي«على تفاصيل عبارته».
(15) تقدم في....
(16) أخرجه البخاري (2/207، 208، 211 رقم725) في الأذان، باب تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها، وباب إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف، وباب إلصاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف، ومسلم (1/320 رقم425) في الصلاة، باب تحسين الصلاة وإتمامها والخشوع فيها .
(17) أخرجه مسلم (1/320 رقم426) في الصلاة، باب تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود ونحوهما . وانظر الحديث السابق وتخريجه .
(18) قوله: «بعد " سقط من (ح).
(19) تقدم في ص89 (المتن)، 91 (الشرح).
(20) روي عن ابن عمر بسند ضعيف ؛ لإبهام الراوي عن ابن عمر . فقد أخرجه ابن المنذر في "الأوسط" (4/190-191 رقم2010 طريق وهيب بن خالد، عن أيوب السختياني، عن قيس بن عباية، عن رجل من الأنصار، ذكر قصة له مع ابن عمر، وفيه أن ابن عمر قال له: «ولا صلاة لمن خالف الإمام».
ثم أخرجه ابن المنذر أيضًا برقم (2011، 2012 طريق أبي النعمان محمد بن الفضل وأبي الربيع الزهراني، كليهما عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي نعامة محمد بن قيس، به، إلا أن أبا النعمان أسقط الرجل المبهم من الإسناد، فجعل الحديث من رواية أبي نعامة عن ابن عمر .
(21) تقدم بعضه في ...
(22) قوله: «وقد تقدم بعض» ليس في (أ)، وفي (ب) [تراجع ب]: «قد تقدمَّ لفظه»، والمثبت من (ح).(2/46)
ينصرفَ الإمامُ (1) ؛ أخذًا =(2/58)=@ بظاهرِ هذا الحديثِ، والجمهورُ على خلافهما؛ لأنَّ الاقتداءَ بالإمامِ قد تَمَّ بالسلامِ من الصلاة، ورأَوْا أن ذلك كان خاصًّا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأن ذلك مِنْ باب قوله تعالى: {وإذا كانوا معه على أمرٍ جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه} (2) ؛ فإنه قد كان يحتاجُ إلى مكالمتِهِمْ في أمورِ الدين، ومراعاةِ المصالحِ والآراءِ، والله أعلم.
ويحتملُ: أن يرِيدَ بالانصرافِ المذكورِ: التسليمَ؛ فإنَّه يقالُ: انصرَفَ من الصلاةِ، أي: سلَّم منها (3) ، والله أعلم (4) .
*************
( 17 ) بَابُ النَّهْي عَنْ رَفْعِ الرَّأْسِ قَبْلَ الْإِمَامِ، وَعَنْ رَفْعِ البَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ، وَالْأَمْرِ بِالسُّكُونِ فِيهَا
45- عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ (5) ، قال:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :«أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ».
وَفِي رِوَايَةٍ:«صُورَتَهُ صُورَةِ حِمَارٍ»، وَفِي أُخرَى: «وَجْهَهُ وَجْهَ حِمَارٍ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنْ بَابُ النَّهْيِ عَنْ رَفْعِ الرَّأْسِ قَبْلَ الْإِمَامِ
قوله: «أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللهُ صورته صورة حِمَارٍ - وَجْهَهُ وَجْهَ حِمَارٍ-»؛ هذه الروايات متقاربة إذا أريد بالصورة الوجه (6) ، =(2/59)=@ فإن أريد بها (7) الصفة انصرفت (8) إلى الصفة الباطنة؛ من البلادة (9) . ومقصود هذا الحديث: الوعيد بمسخ الصورة الظاهرة أو الباطنة على مسابقة الإمام بالرفع (10) ، وهذا يدل على أن الرفع من الركوع والسجود مقصود لنفسه، وأنه ركن (11) مستقل كالركوع والسجود. &(2/47)&$
__________
(1) في (غ): «المأموم».
(2) سورة النور، الآية: 62.
(3) توثيق لغوي.
(4) في حاشية (ب): «بلغ مقابلة».
(5) أخرجه البخاري (2/182 رقم691) في الأذان، باب إثم من رفع رأسه قبل الإمام، ومسلم (1/320 رقم427) في الصلاة، باب تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود ونحوهما .
(6) في (غ): «انصرف».
(7) في (أ): «به».
(8) تعليق لغوي وشرح حديثي.
(9) تعليق لغوي وشرح حديثي.
(10) تعليق شرح حديثي.
(11) قوله: «دكن» سقط من (غ).(2/47)
وقوله في الحديث الآخر: «فإنما ناصيته بيد شيطان» (1) ، يعني أنه قد تمكّن منه لجَهْلِهِ (2) ، فهو يُصرِّفه كيف يشاء كما يُفعل بمن مُلكت ناصيته.
46- وَعَنْهُ (3) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ رَفْعِهِمْ أَبْصَارَهُمْ عِنْدَ الدُّعَاءِ فِي الصَّلاةِ إِلَى السَّمَاءِ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «لَيَنْتَهِيَنَّ (4) أَقْوَامٌ عَنْ رَفْعِهِمْ أَبْصَارَهُمْ...» الحديث.وهذا أيضًا وعيد بإعماء (5) من رفع رأسه إلى السماء في الصلاة،ولا فرق بين أن يكون عند الدعاء أو عند غيره؛ لأن الوعيد إنما تعلق به من حيث إنه إذا رفع بصره إلى السماء أعرض عن القبلة، وخرج عن سَمْتِها وعن هيئة الصلاة (6) ، وقد نقل بعض العلماء الإجماع على النهي عن ذلك في الصلاة. وحكى الطبري كراهية (7) رفع البصر في الدعاء إلى السماء في غير الصلاة (8) ، وحَكَي عن شريح أنه قال لمن رآه يفعله: اكفف يدك (9) (10) ، وانخفض بصرك؛ فانك لن تراه، ولن تناله. وأجازه (11) الأكثر؛ لأن السماء قبلة الدعاء؛ كما أن الكعبة قبلة الصلاة (12) . وقد رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجهه (13) ويديه إلى السماء عند الدعاء (14) ، فلا ينكر ذلك. =(2/60)=@
47- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ (15) ، قال:خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «مَا لِي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ؟ اسْكُنُوا فِي الصَّلاةِ»،قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا فَرَآنَا حِلَقًا فَقَالَ:«مَا لِي أَرَاكُمْ عِزِينَ» قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ:«أَلا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا» فَقُلْنَا: يَارَسُولَ اللهِ!وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ:«يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الأُوَلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ».
48- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ (16) ، قَالَ: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قُلْنَا: السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ، السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْجَانِبَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :«عَلامَ تُومِئُونَ (17) بِأَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ؟ وإِنَّمَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ على فَخِذِهِ ثُمَّ يُسَلِّمُ على أَخِيهِ مَنْ على يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ». وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ:«مَا شَأْنُكُمْ؟ تُشِيرُونَ بِأَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ، إِذَا سَلَّمَ أَحَدُكُمْ فَلْيَلْتَفِتْ إِلَى صَاحِبِهِ وَلا يُومِئْ (18) بِيَدِهِ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله حين رآهم يشيرون بأيديهم إذا سلموا من الصلاة: «مَا لِي أَرَاكُمْ...» الحديث؛ كانوا يشيرون عند السلام من الصلاة بأيديهم (19) يمينًا وشمالاً وتشبيه أيديهم بأذناب الخيل الشُّمس (20) تشبيه واقع؛ فإنها تحرِّك أذنابها يمينًا وشمالاً (21) ، فلما رآهم على تلك الحالة (22) ، أمرهم بالسكون في الصلاة. وهذا دليل على أبي حنيفة في أن حكم الصلاة باقٍ على المصلي، إلى أن يسلِّم، ويلزم منه أنه إن &(2/48)&$
__________
(1) أخرجه الإمام مالك في "الموطأ" (1/92 رقم57) في الصلاة، باب ما يفعل من رفع رأسه قبل الإمام، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن مليح بن عبدالله السعدي، عن أبي هريرة قال: الذي يرفع رأسه ويخفضه قبل الإمام، فإنما ناصيته بيد شيطان . ... ...
وسنده ضعيف لأجل الراوي عن أبي هريرة: مليح بن عبدالله السعدي؛ ذكره البخاري في "تاريخه" (8/10 رقم 1954) وسكت عنه، وذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (8/367 رقم1679) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان في "الثقات" (5/450)، وفات الحافظ ابن حجر ذكره في "تعجيل المنفعة" وهو على شرطه، فيستدرك .
وقد رواه حفص بن عمر العدني عن مالك مرفوعًا، وأعله الحافظ ابن عبدالبر في "التمهيد" (13/59) بأنه لم يتابع عليه عن مالك .
وأخرجه عبدالرزاق في "المصنف" (2/373-374 رقم3753) عن شيخه سفيان بن عيينة، عن محمد بن عمرو، به مثل رواية الإمام مالك . هكذا رواه هذان الإمامان عن أبي هريرة موقوفًا عليه .
وخالفهما عبدالعزيز بن محمد الدراوردي ومحمد بن عجلان، فرويا الحديث عن محمد بن عمرو، عن مليح، عن أبي هريرة مرفوعًا .
وأما رواية عبدالعزيز بن محمد فأخرجها البزار في "مسنده" (1/233 رقم475/كشف الأستار)، وقال: «لا نعلم روى مليح عن أبي هريرة إلا هذا».
أما رواية محمد بن عجلان فأخرجها الطبراني في "المعجم الأوسط" (7/348 رقم7692)، ثم أخرج بعده حديثًا آخر، وكلا الحديثين من رواية أبي سعد الأشهلي عن ابن عجلان ثم قال: «لم يرو هذين الحديثين عن محمد بن عجلان إلا أبو سعد محمد بن سعد الأشهلي».
قلت: رفع الحديث خطأ إما من عبد العزيز ومحمد، أو ممن دونهما، وعبد العزيز ومحمد متكلم في حفظهما، والراجح أن حديثهما من قبيل الحسن إذا لم يخالفا، وهما قد خالفا ههنا إمامين جبلين في الحفظ، هذا مع احتمال أن يكون الخطأ ممن دونهما، وكيفما كان، فالصواب وقف الحديث على أبي هريرة، وهذا ما رجحه ابن عبدالبر في "التمهيد" (13/59) حيث قال: «ورواه الدراوردي عن محمد بن عمرو، عن مليح، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعًا، ولا يصح إلا موقوفًا بهذا الإسناد».اهـ.
(2) في (أ) و(ح): «بجهله».
(3) أخرجه مسلم (1/321 رقم429) في الصلاة، باب النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة .
(4) في (غ): «لنتهنَّ».
(5) تعليق وتوثيق لغوي وحديثي؛ فإنه ؟؟؟ "لتخطفنَّ": بالوعيد بالإعماء.
(6) في (ح): «هيئة الصلاة».
(7) في (ح): «كراهة».
(8) ولا يفهم منه جوازه في الصلاة .
(9) في (غ): «يديك».
(10) أما خفض البصر فمحلّ خلاف، وأما كفّ اليد ؛ فلعله رآه يرفع يديه في الصلاة غير موضع الرفع، وإلا فرفعهما في قنوت النوازل وقنوت الوتر مشروع .
(11) في (ح): «وأجازها».
(12) يحقق ويراجع عند الشيخ سعد... ويوجد بالأصل ورقتان تابعتان لهذا الموضع.
(13) في (ح): «ووجهه».
(14) أما رفع اليدين في الدعاء خارج الصلاة فقد جاء في أحاديث كثيرة عدّها بعض العلماء في المتواتر، ومنها حديث أنس الآتي برقم (...) في الاستسقاء، وهو مخرج في "الصحيحين".
وأما رفع اليدين في الصلاة ؛ فهو ثابت في القنوت ؛ في الوتر وفي النوازل . فمن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد في"المسند" (3/137)، والبيهقي في "سننه" (3/211)، كلاهما من طريق عفان بن مسلم، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس بن مالك في قصة القُرَّاء وقتلهم، قال ثابت: فقال لي أنس: لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما صلى الغداة رفع يديه يدعو عليهم ، يعني على الذين قتلوهم . وسنده صحيح . ثم أخرج البيهقي عقبه (3/212 طريق أبي عثمان النهدي قال: رأيت عمر - رضي الله عنه - يمدّ يديه في القنوت .
وأخرجه من طرق عن أبي عثمان، ثم قال: «وهذا عن عمر - رضي الله عنه - صحيح».
وأما رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - وجهه في الدعاء إلى السماء، فلم أجد حديثًا ينصّ على هذا صراحة، إلا أن يكون أخذًا من فهمٍ لبعض الأدلة، ومنها حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الآتي في الجهاد باب: الإمام مخير في الأسارى، وذكر وقعة يوم بدر، وتحليل الغنيمة. في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه يوم بدر حتى سقط رداؤه من على منكبه .
(15) أخرجه مسلم (1/322 رقم430) في الصلاة، باب الأمر بالسكون في الصلاة والنهي عن الإشارة باليدين ورفعهما عند السلام وإتمام الصفوف الأول... . وانظر الحديث الآتي .
(16) أخرجه مسلم (1/322 رقم431/120 ، 121) في الصلاة، باب الأمر بالسكون في الصلاة. ... ...
(17) تعريف لغوي: تومئون.
(18) تعريف لغوي: يومئ.
(19) قوله: «بأيديهم» ليس في (أ). ... ...
(20) تعريف لغوي.
(21) توثيق لغوي وشرح حديثي.
(22) في (أ): «الحال» وغيَّرها في الحاشية إلى «الحالة».(2/48)
أحدث في تلك الحالة - أعني في حالة الجلوس الأخير (1) للسلام - أعاد الصلاة. =(2/61)=@
وقوله: «مَا لِي أَرَاكُمْ عِزِينَ»، أي (2) : جماعات في تفرقة، والواحدة (3) : عِزَةٌ (4) - مخفف الزاي - أمرهم بالائتلاف والاجتماع والاصطفاف كصفوف الملائكة، وهذا يدل على استحباب تسوية الصفوف، وقد أمر (5) - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وقال:«إنه من تمام الصلاة»؛ كما يأتي (6) إن شاء الله (7) .
**************
( 18 ) بَابُ الْأَمْرِ بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ، وَمَنْ يَلِي الْإِمَامَ
49- عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ (8) ، قال:كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلاةِ، وَيَقُولُ: «اسْتَوُوا، وَلا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، وَلِيَلِنِي (9) مِنْكُمْ أُولُو الأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»، قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: فَأَنْتُمُ الْيَوْمَ أَشَدُّ اخْتِلَافًا.
زَادَ مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «وَإِيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الأَسْوَاقِ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ
وقوله: «وَلِيَلِنِي (10) مِنْكُمْ أُولُو الأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ».
«الأحلَامُ» &(2/49)&$
__________
(1) في (غ): «الآخر».
(2) قوله: «أي " من (أ) فقط .
(3) المثبت من (ب)، وفي (أ): «والواحد»، وفي (غ) و(خ): «والواحدة».
(4) وهي الحلقة المجتمعة من الناس ؛ كما في "النهاية" (3/233).
(5) في (ح): «أمر النبي».
(6) وهو الحديث الآتي برقم (347).
(7) قوله: «كما يأتي إن شاء الله»، من (ب) فقط.
(8) أخرجه مسلم (1/323 رقم432) في الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها ... .
(9) تراجع الروايات: «وَلْيَلِنِي»، «لِيَلِيَني».
(10) تراجع الروايات: «وَلْيَلِنِي»، «لِيَلِيَني».(2/49)
و«النُّهَى»: بمعنى واحد، وهي: العقولُ، واحدها: نُهْيَةٌ (1) ؛ لأنَّ العقلَ (2) ينهى صاحبَهُ عن الرذائل (3) . وإنما خَصَّ - صلى الله عليه وسلم - هذا النوعَ بالتقدُّمِ (4) ؛ لأنه الذي يتأتى منهم (5) التبليغ، وأن يَسْتخلِفَ منهم إن احتاجَ إليهم، وفي التنبيهِ على سَهْوٍ إنْ طرَأَ، ولأنَّهم أحق بالتقدُّم (6) ممن سواهم؛ لفضيلةِ العِلْمِ والعقل. =(2/62)=@
وقوله: «وَإِيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الأَسْوَاقِ»؛ قال أبو عبيد: «هَوْشَات» (7) . والَهْوشَةُ: الفتنةُ والهَيْجُ والاختلاط (8) ؛ يقال: هَوِشَ القومُ: إذا اختلَطُوا، ومنه: «مَنْ أصابَ مالاً مِنْ نَهَاوِشَ (9) أذهبَهُ اللهُ في نَهَابِرَ (10) » (11) قال أبو عُبَيْد: «هو كلُّ مالٍ أُخِذَ من غير حِلِّهِ، وهو شبيهٌ بما ذكرنا من الهَوْشَات» (12) ، وقال بعض أهل العلم (13) : «الصواب: من تهاوش بالتاء، أي: من تخاليط» (14) . =(2/63)=@
و«القِدَاحُ (15) : السهامُ حين تُنْحَتُ وتُبْرَى، واحدها: قِدْحٌ» (16) .
50- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (17) ، قال:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :«سَوُّوا صُفُوفَكُمْ؛ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ».
51- ومِن حَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ (18) : «...مِنْ حُسْنِ الصَّلَاةِ».
52- وَعَنِ النُّعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ (19) ، قال:كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُسَوِّي صُفُوفَنَا، حتى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاحَ، حتى رَأَى أَنَّا قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ، ثُمَّ خَرَجَ يَوْمًا، فَقَامَ حتى كَادَ يُكَبِّرُ، فَرَأَى رَجُلاً بَادِيًا صَدْرُهُ مِنَ الصَّفِّ، فَقَالَ:«عِبَادَ اللهِ، لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ!».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «حتى كَادَ يُكَبِّرُ، فَرَأَى رَجُلاً بَادِيًا صَدْرُهُ مِنَ الصَّفِّ، فَقَالَ:«عِبَادَ اللهِ، لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ... الحديث» دليلٌ على مذهبِ الجماعةِ في جوازِ الكلامِ بين الإقامةِ والصلاةِ (20) للإمام، أو لحاجةٍ تنزلُ به - مِنْ أمرِ الصلاةِ وغيرها - بعد تمامِ الإقامةِ (21) ، خلافًا لأبي حنيفة في أنَّه قال (22) : يجبُ عليه التكبيرُ إذا قال: «قد قامَتِ الصلاةُ»، وقد اختلَفَ العلماءُ في جوازِ الكلامِ حينئذٍ وكراهتِهِ.
وقوله: «أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ!»، أي: يفترقون ليأخذَ كُلُّ واحدٍ وجهًا غيرَ الذي أخَذَ صاحبه، ويُبَيِّنُهُ: أن تقدُّمَ البعضِ على غيرِهِ مظنَّةُ الكِبْرِ المفسِدِ للقلوب، والداعي للتقاطُع.
ويحتمل: ليخالفنَّ بين وجوههم في الجزاء، فيجازِي مُسَوِّيَ الصفِّ بخير، والخارجَ عنه بشرٍّ، والله أعلم (23) .
53- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (24) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ، لاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ، لاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ، لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ»؛ «النداء»: الأذانُ بالصلاة.
«وَالصَّفِّ الأَوَّلِ» اختُلِفَ فيه: هل هو الذي يلي الإمامَ، أو هو المبكِّر؟ والصحيحُ: أنه الذي يلي الإمامَ، فإنْ كان بين الإمامِ وبين الناسِ حُجُبٌ حائلةٌ، &(2/50)&$
__________
(1) في (ب) و(ح): «نهى»، والمثبت من (أ) هو الصواب، وانظر "النهاية لابن الأثير (5/139).
(2) قوله: «لأن العقل» في غير (غ): «لأنه».
(3) توثيق لغوي وشرح حديثي.
(4) في (غ): «بالتقديم».
(5) في (ب): «منه».
(6) في (أ): «بالتقديم».
(7) في (ح): «هو شاذٌّ»، ويشبه أن تكونَ كذلك في (أ)، والمثبت من (ب)، و"غريب الحديث" لأبي عبيد (2/209).
(8) في (غ): «والاختلاف».
(9) ويروى: «تهاوش»، و: «مهاوش»، وهو الأشهر . انظر "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/210)، و"النهاية" لابن الأثير (5/282)، و"لسان العرب"(6/366).
(10) النَّهَابِر: المهالك، كما في "النهاية" (5/133). والحديثُ أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب"(1/271-272 رقم441، 442)، والرامهرمزي في "الأمثال" (ص256)، وكلاهما من طريق عمرو بن الحصين، عن محمد بن عبدالله بن علاثة، عن أبي سلمة الحمصي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أصاب مالاً من نَهَاوِشَ، أذهبَهُ الله في نَهَابِرَ»؛ قال السخاوي في "المقاصد" (ص397): «وكذا هو في ترجمة عمرو بن الحصين من "الميزان»، ولكن عمرو متروك، وأبو سلمة - واسمه سليمان بن مسلم وهو كاتب يحيى بن جابر قاضي حمص - لا صحبة له، فهو مع ضعفه مرسلٌ، وقد عزاه الديلمي ليحيى بن جابر هذا، وهو أيضًا ليس بصحابي، وقال التقي السبكي: إنه لا يصح».اهـ. وقال الشيخ الألباني في "الضعيفة" رقم (41): «وهذا إسناد ساقط».
(11) قوله: «أذهبه الله في نهابر» ليس في (أ).
(12) "غريب الحديث" لأبي عبيد (4/86).
(13) لعله يقصد ابن دريد، انظر: «الجمهرة" (2/883، 1124)، وقد نقل الخطابي في «غريبه» معنى كلام ابن دريد، ولم يعزه إلى أحد بل قال: «قال بعض أهل العلم»، وفي "كشف الخاء" (2/295) قال عن رواية «تهاوُش»: «وأخط من ضم الواو». ومقتضى هذا النقل الذي عند الشارح: أن يكون «تَهَاوِش» بكسر الواو، وجمع تَهْوَاش؛ لأن معناه: التخاليط، فيما ذكر الشارح، وهو جمع «تخليط»، لكنَّ الذي عند ابن دريد – إنْ صح نقلُ الشارح عنه- يقضي بأن يكون «تَهَاوُش» بضم الواو، مصدر تَهَاوشَ، بمعنى: اختلطوا في الفتن واضطربوا، قال ابن دريد: «الهَوْش: القوم المجتمعون في حرب أو صخب وهم متهامشون أي: مختلطون، وجاؤوا بالهَوْش، والبَوْشِ: إذا جاؤوا بالجمع الكثير، وبذلك سمِّي ما ينتهب في ؟؟؟ هَوَاشَا، وفي الحديث: من أصاب مالاً من تَهَاوُشٍ، أذهبهُ الله في نَهَابِرَ» أي: في هلاك، وأصحاب الحديث يقولون: نَهَاوش، بالنون، وهو خطأ». «الجمهرة» (2/882)، وقد نقل الخطابي فقي «غريبه» كلام ابن دريد، ولم يعزه إلى أحد بل قال: «قال بعض أهل اللغة»، وفي «كشف الخفا» (2/295). قال عن رواية «تهاوُش»: «وأخطأ من ضم الواو». ومؤدّى ما في كتب اللغة والغريب أن هذه الكلمة أربع روايات: يروى: من هَهَاوِشَ، ومِنْ نَهَاوِشَ، ومن تَهَاوِشَ، ومن تَهَاوُش: أمَّا «مِنْ تَهَاوش» بكسر الواو وضمها، فقد سبق الكلام عليهما.
وأمَّا «من مَهَاوِشَ»: فكأنَّه جمع مَهْوش أو مَهْوَاش، من الهوش: الجمع والخلط، والميم زائدة، والمَهَاوش: هي الفتن والتخاليط – لما عند الشارع، وقيل: هي كل مالٍ أصيب ن غير حلِّه ولا يُدْرَى ما وجهُهُ؛ كالغَصْب والسرقة ونحو ذلك، والهُوَاش: ما جمعَ ما مال حرامً وحلال، وهو شبيه بقول ابن مسعود - رضي الله عنه - : «إياكم وهَوْشَات الأسواق» والهَوْشة: الفتنة والهَيْجُ والاختلاط، وفي "اللسان" المَهَاوِش: مكاسب السوء.
وأما «من نَهَاوِشَ»: فقد قال عنها في «النهاية» (5/137): «هي المظالم، من قولهم: نَهَشَةُ: إذا جَهَدَهُ، فهو منهوش، ويجوز أن يكون من الهَوْش: الخَلْط، ويُقْضَى بزيادة النون، ويكون نظير قولهم: تَبَاذير، وتخاريب، من التبذير، والخَرَاب».اهـ. وقال ابن الأعرابي: «ويروي من نهاوش، وهو أن يُنْهَش من كل مكان»، وفي "اللسان" (مادة: نهب): «نهاوش، أي: مِنْ غير حِلِّه، كما تَنْهَشُ الحية من ههنا وههنا»، وقد قال أبو عبيد عن هذه الرواية في "غريب الحديث" له (4/86): «وبعض الناس يرويها: مِنْ نَهَاوِشَ، بالنون، ولا أعرف هذا، والمحفوظ عندنا بالميم»، أما ابن الجوزي فيرى في "غريبه" (2/504)، أن رواية بعضهم لها بالنون غَلَطٌ لا يصح، وقد سبق النقل عن ابن دريد بتخطيء رواية النون، والصواب: أنها رواية صحيحة؛ إذ رواه أكثر المحدِّثين، وبعضهم روى الكلمة بالميم، وهم قليل؛ أفاده العسكري في «تصحيفات المحدِّثين» (1/227- 230). وانظر أيضًا:... توثيق مهم.
(14) تعريف لغوي.
(15) في (غ): «القداح» بلا واو.
(16) توثيق لغوي.
(17) أخرجه البخاري (2/209رقم723) في الأذان، باب إقامة الصف من تمام الصلاة، ومسلم (1/324رقم433) في الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول....
(18) أخرجه مسلم في الموضع السابق برقم (435)، ولفظه:«أقيموا الصفِّ في الصلاة؛ فإنَّ إقامةَ الصفِّ من حسن الصلاة».
(19) أخرجه البخاري (2/206 رقم717) في الأذان، باب تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها، ومسلم (1/324 رقم436) في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها ... .
(20) في (غ): «بين الصلاة والإقامة».
(21) في (ح) يشبه أن تكون: «بعد إتمام الصلاة»، وهو وهم.
(22) قوله: «قال " من (أ) فقط .
(23) قوله: «وقوله: أو ليخالفن الله ....» إلى هنا جميعه سقط من (ب) و(ح) و(غ)، وأثبتناه من (أ)، لكنَّه جاء فيها في أثناء شرح الحديث الآتي بعد هذا رقم (350) قبل قوله: «وقوله: لاستهموا عليه: فيه إثبات ..." إلخ .
(24) أخرجه البخاري (2/96، 139، 208 رقم615، 654، 721) في الأذان، باب الاستهام في الأذان، وباب فضل التهجير إلى الظهر، وباب الصف الأول، و(5/293 رقم2689) في كتاب الشهادات، باب القرعة في المشكلات، ومسلم (1/325 رقم438) كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها ... .(2/50)
كما أُحْدثَ (1) مِنْ مقاصيرِ (2) (3) الجوامعِ، فالصفُّ الأوَّل: هو (4) الذي يلي المقصورةَ (5) (6) .
وقوله: «لَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ»، فيه إثباتُ القُرْعة مع تساوي الحقوق (7) ، وأما (8) =(2/64)=@ تشاحُّهم (9) في النداء مع جواز أذان الجماعة في زمن (10) (11) واحد: فيمكنُ أن يكونَ أرادَ أن يؤذِّنَ واحد بعد آخر (12) ؛ لئلا يَخْفَى صوتُ أحدهم.
ويمكنُ التشاحُّ (13) في أذان المغربِ (14) إذا قلنا بضيق وقتها؛ فإنَّه لا يؤذِّن لها إذ ذاك إلا مؤذِّن واحد.
وقد نحا الداوديُّ: إلى أنَّ هذا الاسْتِهَامَ في أذانِ الجمعة، أي: لو عَلِمُوا ما فيه، لتَسابقوا إليه، ولاقترعوا عليه أيُّهم يؤذِّنه.
وهذا الضميرُ الذي في (15) : «عليه» اختُلِفَ فيه على ماذا يعودُ؟
فقال أبو عمر بن عبد البر (16) : إنه يعودُ على الصفِّ الأول، وهو أقربُ مذكور، قال: وهذا وجهُ الكلام.
وقيل (17) : إنه يعودُ على معنى الكلامِ المتقدم؛ فإنه مذكور ومَقُول (18) ، ومثل هذا قوله تعالى : {ومن يفعل ذلك يلق أثاما} (19) ، أي: ومَنْ يفعل المذكورَ قَبْلُ (20) ، وهذا (21) أولَى من الأوَّل؛ لأنه إن رجعَ إلى «الصفِّ»، بقي «النداءُ» ضائعًا لا فائدة له (22) .
وقوله: «لَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ»، أي: لتقارعوا (23) .
و«التَّهْجِيرِ»: التبكيرُ (24) للصلواتِ، &(2/51)&$
__________
(1) في (ح): «استحدث».
(2) في (غ): «مقاصر».
(3) مقاصرِ ومقاصر... في الهامش.
(4) قوله: «هو) (ح) فقط.
(5) في (أ) بعد قوله: «المقصورة» زيادة في شرح قوله - صلى الله عليه وسلم - :«أو ليخالفن الله بين وجوهكم» في الحديث السابق، فقدَّمناها هناك في موضعها، وقد أشرنا إلى ذلك هناك.
(6) تعريف لغوي المقصورة.
(7) تعليق وتوثيق.
(8) قال الشيخ - رضي الله عنه - .
(9) تعريف لغوي: تشاحهم... التشاح.
(10) في (ح): «زمان».
(11) تعليق وتوثيق.
(12) في (غ): «واحد بعده وآخر».
(13) تعريف لغوي: تشاحهم... التشاح.
(14) في (ح): «المؤذن».
(15) قوله: «في» ليس في (أ).
(16) توثيق فقهي أبو حمزة.
(17) توثيق فقهي.
(18) في (غ): «ومنقول»، وهذا مِنْ إجراء الضمير مجرى اسم الإشارة، في عوده مفردًا مذكَّرًا على أكثر من شيء واحدٍ مثنًّى أو مجموعًا، مذكَّرًا أو مؤنثًا، على تأويل: المذكور أو المقول أو نحو ذلك، ورابع:... .
(19) سورة الفرقان، الآية: 68.
(20) ومثله قوله تعالى: {عوان بين ذلك} [البقر: 68]، أي: بين المذكور، وحمل على ذلك قول رؤبة من الرجز:
فيها خُطُوطٌ من سَوَادٍ وبَلَقْ ... كأنَّه في الجلدِ توليعُ البَهَقْ
والمراد: كأنو ذلك المذكور، إجراءً للضمير مجرى اسم الإشارة للمفرد المذكر في عوده على أكثر من شيء واحد وقد سبق التعليق على هذه المسألة ونقلنا هناك – ولننقله هنا- أن أبا عبيدة سأل رؤبة: لم قلت: كأنَّه، إن أردت الخُطُوط، فقل: كأنها، وإن أردت السواد والبلق، فقل: كأنهما، قال: أردتُّ ذلك كلَّه ويلك! [فليراجع التعليق وليُخلْ عليه مع الإشارة إلى اسم المسألة في اللغة! وانظر: «الدر المصون" الشاهد رقم (539، 1664، 2507)، وانظر الحمل على المعنى في "الخصائص" (2/411- 415).
(21) قوله: «قبل وهذا» في (غ): «قيل هذا».
(22) الحمل على المعنى بإفراد المثنى: يثبت في الفهارس والتعليقات والتوثيقات.
(23) توثيق لغوي.
(24) في (ح): «والتهجير والتبكير».(2/51)
قاله (1) الهروي (2) (3) .
وقيل: المراد به هنا (4) المحافظةُ على الجمعةِ والظهرِ؟ فإنها (5) التي تُفْعَلُ في وقت الهاجرة؛ وهي شدةُ الَحرِّ نصفَ النهار (6) ، ويقالُ: هَجرَّ القومُ وأَهْجَرُوا: صاروا في الهاجرة (7) .
و«عَتَمَةُ اللَّيْل»: ظلمتُهُ، وكانت الأعرابُ تحلبُ عند شدة الظلمةِ حَلْبَةً وتسمِّيها: العَتَمَة (8) ؛ فكأنَّ لفظَ «العَتَمَة» صار مشتركًا بين خسيسٍ وهي الْحَلْبَةُ، وبين نفيسٍ وهي الصلاةُ، فنُهِيَ عن إطلاق لفظ «العتمة» على الصلاة؛ ليُرْفَعَ الاشتراكُ، وحيثُ أُمِنَ الاشتراك، جاز الإطلاق.
وقيل: إنما نُهِيَ عن ذلكِ؛ ليُتَأَدَّبَ في الإطلاق، وليُقْتَدَى بما في كتاب الله تعالى مِنْ ذلك ؛ وليُجتنَبَ إطلاقُ الأعراب؛ فإنَّهم عَدَلوا عَمَّا في كتاب الله =(2/65)=@ تعالى من ذلك (9) (10) ، ومثل ذلك يمكن أن يقال في قوله - صلى الله عليه وسلم - : «لَا يَغْلِبَنَّكُمَ الأَعْرَابُ على اسْمِ صَلَاتِكُمُ المَغْرِبِ، وَتَقُولُ الأَعْرَابُ: هِيَ الْعِشَاءُ» (11) .
قال الشيخ رحمه الله (12) : ويمكنُ أن يقالَ: إن النهيَ المذكورَ ليس عن إطلاقِ ذلك اللفظِ لأجل ذلك، بل لأجلِ غَلَبَةِ ما تطلقُهُ الأعرابُ من ذلك؛ لأنه إذا غلَبَ إطلاقهم، واقتُدِيَ بهم في ذلك الإطلاق- تُرِكَ ما في كتابِ الله وما في سنةِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ تسميةِ العشاءِ والمغربِ؛ وعلى هذا: فلا يمتنعُ إطلاقُ لفظِ العَتَمَةِ والمغربِ عليهما (13) (14) إذا لم تكنْ غَلَبَةً، والله أعلم.
54- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (15) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا، فَقَالَ لَهُمْ: «تَقَدَّمُوا فَأْتَمُّوا بِي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ. لا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حتى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «تَقَدَّمُوا فَأْتَمُّوا بِي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ»، يتمسَّكُ بظاهره الشَّعبِيُّ على قوله: إنَّ كلُّ صفٍّ منهم إمامٌ لمن وراءه، وعامةُ الفقهاء لا يقولون بهذا (16) ؛ لأن ذلك الكلاَم مجملٌ؛ لأنَّه محتملُ (17) لأَنْ يرادَ به الاقتداءُ في فِعْلِ الصلاة، ولأنْ يرادَ به في نقلِ أفعالِهِ وأقوالِهِ وسُنَنِهِ (18) كي يبلِّغوها (19) غيرَهُمْ، وللشعبيِّ (20) : مَنْعُ (21) دعوى الإجمال، والتمسُّكُ بالظاهر منه.
وقوله: «لا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حتى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ»؛ قيل: هذا في المنافقين (22) .
ويحتمل: أن يراد (23) به: أن الله يؤخِّرهم عن رُتْبَةِ العلماءِ المأخوذِ عنهم، أَوْ عن رتبةِ (24) السابقين. =(2/66)=@ &(2/52)&$
__________
(1) في (ب): «قال».
(2) موارد المصنف.
(3) في "الغريبين" (6/1913).
(4) في غير (ب): «هنا به».
(5) في (غ): «والظهر؛ لأنها هي».
(6) توثيق لغوي وشرح حديث.
(7) توثيق لغوي.
(8) توثيق لغوي.
(9) توثيق فقهي.
(10) قوله: «وليجتنب..» إلى هنا، ليس في (أ).
(11) هو حديث ابن عمر الآتي في كتاب: الصلاة، من الباب الذي يلي باب تأخير العشاء الآخرة.
(12) في (أ): قلت.
(13) تحتاج هذه العبارة تعليقًا، فظاهر العبارة على الصواب: «فلا يمتنع.. العتمة والعشاء عليهما» فلعله سبق قلم المصنف.
(14) في (أ): «عليها».
(15) أخرجه مسلم (1/325 رقم438) في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها.
(16) توثيق فقهي الشعبي وعامة الفقهاء.
(17) قوله: «لأنه محتمل " سقط من (ح).
(18) في (ح) و(غ): «وسنته».
(19) في (ح) و(غ): «يبلغونها».
(20) تعليق أصولي ينظر كتاب: «المنهاج" للباجي.
(21) في (ب) و(ح): «والشعبي مَنَعَ».
(22) توثيق شرح حديثي.
(23) في (أ): «أن يريد».
(24) في (غ): «عنهم أو روتبة».(2/52)
*************
( 19 ) بَابٌ فِي صُفُوفِ النِّساءِ، وخُرُوجِهِنَّ إِلَى المَسَاجِدِ
55- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) ، قال:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا».
56- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ (2) ، قال:لَقَدْ رَأَيْتُ الرِّجَالَ عَاقِدِي أُزُرِهِمْ فِي أَعْنَاقِهِمْ - مِثْلَ الصِّبْيَانِ مِنْ ضِيقِ الأُزُرِ- خَلْفَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ! لا تَرْفَعْنَ رُؤُوسَكُنَّ حتى يَرْفَعَ الرِّجَالُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنْ بَابِ صُفُوفِ النِّسَاءِ
قوله: «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا»؛ يعي: أكثرها أجرًا، و على ذلك فقوله (3) : «وَشَرُّهَا آخِرُهَا»، يعني: أقلها أجرًا (4) ؛ لا أَنَّ (5) ذلك ذمٌّ لآخرها؛ فإنِّه يلزمُ أن تحرَّمَ الصلاةَ فيه، وليس كذلك بالاتفاقِ، وكذلك القولُ في صفوفِ النساء، وإنما كان ذلك؛ لأنَّ الصفَّ الأوَّل من صفوفِ الرجال يُسْتحقُّ بكمال الأوصافِ، ويختصُّ بكمالِ الضبطِ على الإمامِ والاقتداءِ والتبليغ، وكلُّ ذلك معدومٌ في النساء؛ فاقتضَى ذلك تأخيرَهُنَّ.
وقد استدلَّ بهذا الحديثِ بعضُ العلماء: على أنَّ المرأةَ لا تكونُ إمامًا، لا للنساءِ (6) ، ولا للرجالِ (7) (8) ، وقد تقدم ذلك (9) .
فأمَّا الصفُّ الأولُ من صفوف النساء: فإنما كان شرًّا من آخرها؛ لما فيه من مقاربةِ أنفاسِ الرجالِ للنساء؛ فقد يُخَافُ أن تشوِّشَ (10) المرأةُ على الرجلِ، والرجلُ على المرأة. =(2/67)=@ &(2/53)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/326 رقم440) كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها ...
(2) أخرجه البخاري (1/ 473 رقم362) في الصلاة، باب إذا كان الثوب ضيقًا، و(2/298 رقم814) في كتاب الأذان، باب عقد الثياب وشدها، و(3/86 رقم1215) في كتاب العمل في الصلاة، باب إذا قيل للمصلِّي: تقدَّم، أو انتظر، فانتظر، ومسلم (1/326 رقم441) في الصلاة، باب أمرِ النساءِ المصلِّيات وراء الرجال ألَّا يرفعْنَ رؤوسهن من السجود حتى يرفع الرجال .
(3) في (ح): «وقوله».
(4) توثيق شرح حديثي.
(5) في (ب): «لأنَّ».
(6) في (ح): «إمامًا للنساء».
(7) في (ب): «ولا لرجال».
(8) توثيق فقهي.
(9) تقد في ...
(10) تعريف لغوي وفقهي.(2/53)
57- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ (1) ، قال:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ إِلَيْهَا»، قَالَ: فَقَالَ بِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: وَاللهِ! لَنَمْنَعُهُنَّ، قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ، فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَقَالَ: أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَتَقُولُ: وَاللهِ! لَنَمْنَعُهُنَّ-؟!.
وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِاللَّيْلِ».
58- وَعَنْ زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةَ - امْرَأَةِ عَبْدِ اللهِ (2) -؛ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْعِشَاءَ، فَلا تَطَيَّبْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ».
وَفِي لَفْظٍ آخَر:«إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْمَسْجِدَ، فَلَا تَمَسَّ طِيبًا».
59- وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ (3) - مَرْفُوعًا -: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا، فَلَا تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الآخِرَةَ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في "الأم" (4) : «إِنَّ ابْنَ (5) عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ لَهُ (6) : لَا نَدَعُهُنَّ (7) فيتخذنه دَغَلاً» (8) ، أي: خِدَاعًا. وأصلُ الدَّغَلِ: الشَّجَرُ الملتفُّ الذي يكونُ فيه (9) أهلُ الفساد (10) . قال الليث: يقال: أَدْغَلْتُ في الأمر: إذا أدخلْتَ (11) فيه ما يُخالفُهُ، قال: وإذا دخَلَ الرجلُ مَدْخَلاً مُرِيبًا، قيل: دغَلَ (12) فيه (13) .
وقوله (14) : «فَزَبَرَهُ ابْنُ عُمَرَ»، معناه: انتهره (15) ؛ وقال صاحبُ الأفعال: «زَبَرْتُ الكتابَ: كَتَبْتُه، والشيءَ (16) : قَطَعْتُهُ، والرَّجُلَ: انتهَرْتُهُ، والبئرَ (17) : طَوَيتُهَا بالحجارةِ» (18) .
وانتهارُ ابنِ عمر، وضربُهُ: تأديبٌ (19) للمعترِضِ (20) على السننِ، و على العَالِمِ.
وجاء في "الأم" (21) مَرَّةً: أن الذي قابَلَ ابنَ عمر بالمنعِ: بلالٌ (22) ، ومَرَّة: واقدٌ، وكلاهما صحيحٌ؛ كان لابنِ عمر ابنان: بلالٌ وواقدٌ، وكلاهما قابلَهُ بالمنع، وكلاهما أدَّبه ابنُ عمر (23) . =(2/68)=@
60- وَعَنْ عَائِشَةِ (24) ؛ قَالَتْ : لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ .
وقول عائشة رضي الله عنها: «لَوْ رَأَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ...» الحديثَ، تريدُ: ما اتخذْنَ من حُسْنِ الملابسِ (25) والطِّيبِ والزِّينة، وإنما كان النساءُ يَخْرُجْنَ في المروطِ (26) والشِّمَال (27) . =(2/69)=@ &(2/54)&$
__________
(1) أخرجه البخاري(2/347رقم865) في الأذان، باب خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس، و(2/382رقم 899، 900) في كتاب الجمعة، باب منه، و(9/337 رقم5283) في كتاب النكاح، باب استئذان المرأة زوجها في الخروج إلى المسجد وغيره، ومسلم (1/327 رقم 442) في الصلاة، باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترِتَّب عليه فتنة، وأنها لا تخرُجُ متطيِّبة.
(2) يعني: ابن مسعود، والحديث أخرجه مسلم (1/328 رقم443) في الصلاة، باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتَّب عليه فتنة، وأنها لا تخرُجُ متطيِّبة .
(3) أخرجه مسلم (1/328 رقم444) في الكتاب والباب السابقين .
(4) يعني: «صحيح مسلم»، وإنما عبَّر بهذا التعبير؛ لأنَّ هذا اللفظ الذي ساقه في الشرح لم يأت به في "التلخيص»، فانظره في الموضع المحال عليه في التخريج .
(5) قوله: «ابن» سقط من (أ).
(6) قوله: «له» سقط من (غ).
(7) في (ح): «لا تدعهن».
(8) في "صحيح مسلم": «لا ندعهنَّ يخرجن فيتخذنه دغلاً».
(9) في (ب): «التي تكون فيه»، وفي (ح): «الذي فيه».
(10) توثيق أن الدغل: الخداع، وأصل الدغل.
(11) في (ح): «دخلت».
(12) في (ح): «دخل».
(13) توثيق قول الليث.
(14) في "الأم" "صحيح مسلم»، إذ هذه العبارة لم يذكرها القرطبي في متن "التلخيص".
(15) توثيق لغوي لمعنى انتهره – لعلَّه يضاف من المعاجم إلى جانب كتب الأفعال.
(16) في (ح): «وللشيء».
(17) في (ب): «والقبر».
(18) "الأفعال" لابن القوطية (ص287)، وانظر: «الأفعال" للسرقسطي (3/467 - 468)، و"الأفعال" لابن القطاع (2/92).
(19) في (ح): «وانتهار ابن عمر تأديبًا»، وفي (غ): «وانتهار ابن عمر وتأديبه».
(20) في (أ): «المعترض».
(21) انظر الموضع السابق من "صحيح مسلم".
(22) في (ح) يشبه أن تكون: «الأول».
(23) تعليق على المراد بابن ابن عمر المعترض! راجع "الفتح" وغيره.
(24) أخرجه البخاري (2/349 رقم869) في الأذان ، باب انتظار الناس قيام الإمام العالم، مسلم (1/329 رقم445) في كتاب الصلاة ، باب خروج النساء إلى المساجد ... .
(25) في (غ): «من ملابس الحسنة». [تراجع (غ)]
(26) تعريف للمروط لغوي.
(27) الشِّمَال: جمع شَمْلَة، وهي: كساء يُتَغَطَّى به ويُتَلَفَّفُ فيه . "النهاية"(2/501)، ولعلَّ الأولى بمراد عائشة رضي الله عنها: أن تكون أرداتْ: لو رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - تمادي النساء وعَدَمَ تقيُّدهنَّ باللباس الشرعيِّ والحِشْمةِ الشرعيةِ، لَمَنَعَ المتمادياتِ والخارجاتِ عن الحشمةِ الشرعيَّة، فهي لم تقصد به نسخ أصل الحكم، وهو جواز خروجهنَّ إلى المساجد؛ لأن الله تعالى منزَّلَ الشرعية: عليمٌ بما سيكون إلى يوم القيامة.(2/54)
************
( 20 ) بَابٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110]
61- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (1) ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110]، قَالَ: نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُتَوَارٍ بِمَكَّةَ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ، رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ، سَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ اللهُ لِنَبِيِّهِ: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ}؛ فَيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ قِرَاءَتَكَ، {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} عَنْ أَصْحَابِكَ، أَسْمِعْهُمُ الْقُرْآنَ، وَلا تَجْهَرْ ذَلِكَ الْجَهْرَ، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} ، قَالَ: يَقُولُ: بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} (2)
اختلف في سببِ نزول هذه الآية:
فقال ابن عبَّاس (3) : ما نَصَّهُ مُسْلِمٌ، وأنَّ الصلاة هي الصلاة الشرعيَّة (4) . وقالتْ عائشة (5) : ما ذكره أيضًا مسلم: إنها نزلت في الدعاء (6) ، أي: لا تجهر بالدعاء ولا تخفض به، وإليه مال الطبري (7) . وقيل (8) : نزلت في أبي بكر وعمر؛ إذْ كان أبو بكر يُسِرُّ بالقراءةِ (9) ، ويقولُ (10) : أناجي ربِّي، وعمر يجهر، ويقولُ: أطردٌ الشيطان، وأُوقِظُ الوَسْنَان، وأُرْضِي الرحمن، فنزلَتِ الآية (11) ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: «ارفَعْ شيئًا»، ولعمر: «اخْفِضْ شيئًا» (12) . =(2/70)=@ &(2/55)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (8/404 رقم4722) في تفسير سورة الإسراء من كتاب التفسير، باب {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها }، و(13/463، 500، 518 رقم7490، 7525، 7547) في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى : {أنزله بعلمه والملائكة يشهدون} [النساء: 166]، وباب قول الله تعالى : {وأسروا قولكم أو اجهروا به} [الملك: 13]، وباب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام»، ومسلم (1/329 رقم798) في الصلاة، باب التوسُّط في القراءة في الصلاة الجهريَّة بين الجهر والإسرار إذا خاف من الجهر مفسدة .
(2) سورة الإسراء، الآية: 110.
(3) توثيق.
(4) توثيق تخريج: موضعه من "صحيح مسلم".
(5) توثيق.
(6) توثيق تخريج حديثي: موضع من "صحيح مسلم".
(7) توثيق.
(8) توثيق.
(9) في (ح): «بالقرآن».
(10) توثيق من مصنفات الطبري.
(11) توثيق: وقيل: نزلت في أبي بكر وعمر.. فنزلت الآية.
(12) أخرجه أبو داود (2/81-82 رقم1329) في الصلاة، باب في رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل، والترمذي (2/309-310 رقم447) في الصلاة، باب ما جاء في قراءة الليل، وابن خزيمة في "صحيحه" (2/189-190 رقم1161)، والحاكم (1/301)، جميعهم من طريق يحيى بن إسحاق السيلحيني، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن عبدالله بن رباح الأنصاري، عن أبي قتادة؛ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر ... الحديث .
وضعَّفه الترمذي بقوله: «حديث غريب، وإنما أسنده يحيى بن إسحاق، عن حماد بن سلمة، وأكثر الناس إنما رووا هذا الحديثَ عن ثابت، عن عبدالله بن رباح مرسلاً».
وأما الحاكم: فإنه صحَّحه، ووافقه الذهبي .(2/55)
**************
( 21 ) بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ
62- عَنْ أَبِي قَتَادَةَ (1) ، قال:كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي بِنَا، فَيَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وَيُسْمِعُنَا الآيَةَ أَحْيَانًا، وَكَانَ يُطَوِّلُ الرَّكْعَةَ الأُولَى مِنَ الظُّهْرِ، وَيُقَصِّرُ الثَّانِيَةَ، وَكَذَلِكَ فِي الصُّبْحِ، وَفِي رِوَايَةٍ: وَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ.
63- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (2) ؛ أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلاةِ الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ ثَلاثِينَ آيَةً، وَفِي الأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً، أَوْ قَالَ: نِصْفَ ذَلِكَ. وَفِي الْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ قِرَاءَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً، وَفِي الأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ نِصْفِ ذَلِكَ.
64- وَعَنْهُ (3) ؛ لَقَدْ كَانَتْ صَلاةُ الظُّهْرِ تُقَامُ، فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْبَقِيعِ، فَيَقْضِي حَاجَتَهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ، ثُمَّ يَأْتِي رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى مِمَّا يُطَوِّلُهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنْ بَابِ الْقَرِاءَةِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ
حديثُ أبي قتادةَ: حُجَّةٌ لمالكٍ على صحة مذهبِهِ في اشتراطِ قراءةِ الفاتحة في كلِّ ركعة، و على قراءةِ سورتَيْنِ مع الفاتحة في الركعتَيْنِ الأوليَيْنِ، وأنَّ (4) ما بقي من الصلاة لا يقرَأُ فيه (5) إلا بالفاتحةِ خاصَّة.
وقد تمسَّك الشافعيُّ- في أنه يقرأ فيما بقي (6) بسورةٍ مع الفاتحة - بحديث أبي سعيد الآتي بعد هذا، ووجهُ تمسُّكِهِ قولُهُ: «إِنَّهُ قَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ قَدْرَ ثَلَاثِينَ (7) آيَةً، وفِي الأُخْرَيَيْنِ (8) قَدْرَ نِصْفِ ذَلِكَ»، والفاتحةُ إنما هي سبعُ آياتٍ لا خَمْسَ عَشْرَةَ، فكان يزيدُ سَورةً، وهذا لا حجةَ فيه؛ فإنه تقديرٌ وتخمينٌ من أبي سعيد، ولعلَّه - صلى الله عليه وسلم - .
كان يمدّ (9) في قراءةِ الفاتحة حتى تُقَدِّرَ (10) =(2/71)=@ بذلك، وهذا الاحتمالُ غيرُ مدفوع؛ وقد جاءَ عنه: «أنه كان يرتِّلُ السورةَ حتى تكونَ &(2/56)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (2/243، 246، 260، 261 رقم759، 762، 776، 778، 779) في الأذان، باب القراءة في الظهر، وباب القراءة في العصر، وباب: يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب، وباب إذا أسمع الإمام الآية و...، ومسلم (1/333 رقم451) في الصلاة، باب القراءة في الظهر والعصر .
(2) أخرجه مسلم (1/334 رقم452) في كتاب الصلاة، باب القراءة في الظهر والعصر.
(3) أخرجه مسلم (1/335 رقم454) في كتاب الصلاة، باب القراءة في الظهر والعصر.
(4) في (ح): «وأما». ... ...
(5) في (ح): «فيها».
(6) في (ح): «يقرأ ما بقي».
(7) قوله: «ثلاثين " لم يتضح في (ح) فأشبه: «ثنتين».
(8) في (ح): «الأخيرتين».
(9) في (غ): «يُسِرُّ».
(10) في (ح) و(غ): «يقدر».(2/56)
أطوَلَ مِن أَطْوَلَ منها» (1) ؛ وهذا يشهَدُ بصحَّةِ هذا التأويلِ، وحديثُ أبي قتادة نَصٌّ؛ فهو أوْلى.
وما ورَدَ في "كتاب مسلم" وغيره - مِنَ الإطالةِ فيما استقَرَّ فيه التقصيرُ، أو من التقصيرِ فيما استقرَّتْ فيه الإطالةُ؛ كقراءتِهِ في الفجرِ بالمعوذَتَيْنِ؛ كما رواه النسائيُّ (2) ،
وكقراءةِ «الأعرافِ» (3) ، أو «المرسلاتِ» (4) في الَمغْرِبِ (5) -: فمتروكٌ: أما التطويل فبإنكارِهِ على معاذ (6) ، وبأمرِهِ الأئمَّةَ بالتخفيف (7) ؛ ولعلَّ ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - حيثُ لم يكن خلفه مَنْ يَشُقُّ عليه القيامُ، وعَلِمَ ذلك، أو كان منه ذلك متقدِّمًا حتى خفَّف =(2/72)=@ وأمَرَ (8) الأئمَّةَ بالتخفيف؛ كما قال جابر بن سَمُرة: «وَكَانَ (9) صَلَاتُهُ بَعْدُ تَخْفِيفًا (10) .
ويَحْتَمِلُ: أن يكونَ فعَلَ ذلك في أوقات؛ ليبيِّنَ جوازَ ذلك.
أو يكون ذلك بِحَسَبِ اختلافِ الأوقاتِ مِنَ السَّعَةِ والضِّيق.
وقد استقرَّ عمَلُ أهلِ (11) المدينةِ: على استحبابِ إطالةِ القراءةِ في الصُّبْحِ قدرًا لا يَضُرُّ بمن (12) خلفه؛ يقرَأُ فيها بطوال المُفَصَّل - ويليها في ذلك الظُّهْرُ والجمعة- وتخفيفِ القراءةِ (13) في المغرب، وتوسيطِها (14) في العصرِ والعشاء، وقد قيلَ في العصر: إنها تُخفّفُ كالمغربِ.
وتطويلُهُ - صلى الله عليه وسلم - في الركعة الأولى، إنما كان (15) ليدركَ الناسُ الركعةَ الأولى؛ رواه أبو داود (16) ، عن أبي قَتَادة (17) ، &(2/57)&$
__________
(1) وهو حديث حفصة رضي الله عنها الآتي برقم (614).
(2) هو حديث صحيح أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (4/144)، والنسائي في "سننه" (8/253 رقم5437) في كتاب الاستعاذة، وفي "عمل اليوم والليلة" (6/222 رقم10725/ الكبرى)، وابن خزيمة في "صحيحه" (1/266-267 رقم534)، ثلاثتهم من طريق الوليد بن مسلم، عدا النسائي في "عمل اليوم والليلة" فمن طريق عبدالله بن المبارك، كلاهما - الوليد وابن المبارك - عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، عن القاسم أبي عبدالرحمن الدمشقي، عن عقبة بن عامر، به، وهذا سند حسنٌ رجاله كلُّهم ثقات، عدا القاسم أبي عبد الرحمن، فصدوق، لكنَّه توبع.
فقد أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (6/146 رقم30201) في كتاب فضائل القرآن، باب في المعوذِّتين، والنسائي (2/158 رقم952) في الافتتاح، باب القراءة في الصبح بالمعوذتين، و(8/252 رقم5434) في الاستعاذة، وابن خزيمة في "صحيحه" (1/268 رقم536)، وابن حبان في "صحيحه" (5/125-126 رقم 1818/الإحسان)، والحاكم في "المستدرك" (1/240)، جميعهم من طريق سفيان الثوري، عن معاوية بن صالح، عن عبدالرحمن بن جُبَيْر بن نُفَيْر، عن أبيه جبير بن نفير، عن عقبة، به. وقد صحَّحه الحاكم على شرط الشيخَيْن، ووافقه الذهبي .
وقال ابن خزيمة: «أصحابنا يقولون: الثوري أخطَأَ في هذا الحديث، وأنا أقول: غير مستنكرٍ لسفيان أن يروي هذا عن معاوية وعن غيره». اهـ .
وفي الحديث اختلاف عن معاوية بن صالح لا يؤِّثر في الحكم على الحديث إنْ شاء الله كما ذهب إليه أبو حاتم الرازي، فانظر "العلل" لابنه (1/60-61).
(3) أخرجه البخاري (2/246 رقم764) في الأذان، باب القراءة في المغرب، والنسائي (2/169-170 رقم989، 990) في الافتتاح، باب القراءة في المغرب بـ{المص}، كلاهما من طريق ابن أبي مُلَيْكة، عن عروة بن الزبير، عن مروان بن الحكم، قال: قال لي زيد بن ثابت: ما لك تقرأ في المغرب بقصارٍ، وقد سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بطُولَي الطُّوليين ؟
زاد النسائي في روايته أن ابن أبي مليكة قال لعروة: يا أبا عبدالله، ما أطولُ الطولَيَيْنِ؟ قال: الأعراف.
وفي الرواية الأخرى عند النسائي: جاء الحديث من رواية عروة عن زيد مباشرةً، وحمل الحافظ في "الفتح"(2/247) ذلك على أنَّ عروة سمعه من مروان، ثم لقي زيدًا، فأخبره .
ثم أخرجه النسائي أيضًا برقم (991) طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ في صلاة المغرب بسورةِ الأعرافِ فرَّقها في ركعتين .
(4) قوله: «أو المرسلات» في (ب) و(غ): «والمرسلات».
(5) حديث قراءة المرسلات في المغرب، سيأتي في كتاب الصلاة، باب: القراءة في المغرب والعشاء.
(6) وهو الحديث الآتي في كتاب: الصلاة، باب: القراءة في المغرب والعشاء.
(7) ورَدَ ذلك في عدة أحاديث ستأتي في كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بالتخفيف في تمام .
(8) في (ح): «والأمر».
(9) في (ب): «وكانت».
(10) هو الحديث الآتي قريبًا في الباب التالي، باب: القراءة في الصبح.
(11) قوله: «أهل» ليس في (أ).
(12) في (ح): «من».
(13) قوله: «وتخفيف القراءة» معطوفٌ في قوله: «إطالة القراءئة»، أي: أن أهل المدينة استقر عملهم أيضًا على تخفيف القراءة في المغرب...إلخ.
(14) في (غ): «وتوسطها».
(15) في (ب): «حتى لا يسمع وقع قدم إنما كان»، وهذه الزيادة موضعها يأتي بعد .
(16) في (غ): «أبو ذاوذ».
(17) أخرجه أبو داود (1/504 رقم800) في الصلاة، باب ما جاء في القراءة في الظهر، من طريق عبدالرزاق، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبدالله بن أبي قتادة، عن أبيه .
وقد أخرجه عبدالرزَّاق في "المصنَّف" (2/104 رقم2675).
وصحَّحه ابن خزيمة (1/36 رقم 1580).(2/57)
وعن ابن أبي أوفى: «أنه - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَقُومُ في الركعةِ الأُوَلى حتى لا يَسْمَعَ وَقْعَ (1) قَدَمٍ» (2) ، يعني: حتى (3) يتكامَلَ (4) الناسُ ويجتمعوا؛ و على هذا: =(2/73)=@ يُحْمَلُ حديثُ أبي سعيد: «أنه كاَنَ يُطَوِّلُ الرَّكْعَةَ (5) الأُوَلى مِنَ الظُّهْرِ، بَحْيثُ (6) يَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى البَقِيعِ، فَيَقْضِي حَاجَتهُ، ثُمَّ يَأْتِي - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِيهَا»؛ وذلك - والله أعلم- لتوالي (7) دخولِ الناس.
ولا حجةَ للشافعيِّ- في هذا الحديث- على (8) تطويل الإمام لأجل الداخل؛ لأنَّ ما ذُكِرَ ليس تعليلاً لتطويلِ الأولى، وإنَّما هي حِكْمَتُةُ (9) ، ولا يعلَّل بالحِكْمة؛ لخفائها، أو لعدمِ انضباطها. وأيضًا: فلم يكنْ يدخُلُ في الصلاة مريدًا تقصيرَ تلك الركعةِ، ثم يطوِّلها لأجلِ الداخل، وإنما كان يدخُلُ فيها لِيَفْعَلَ الصلاةَ على سُنَّتِهَا (10) من تطويلِ الأولى؛ فافترَقَ الأصلُ والفرعُ؛ فامتنَعَ الإلحاق. =(2/74)=@ &(2/58)&$
__________
(1) في (ح): «وقوع».
(2) أخرجه الإمام أحمد (4/356)، وأبو داود (1/505 رقم (802) في الصلاة، باب ما جاء في القراءة في الظهر، والبيهقي (2/66)، ثلاثتهم من طريق محمد بن جُحَادة، عن رجل، عن ابن أبي أَوْفَى، به .
وسنده ضعيفٌ لإبهامِ الراوي عن ابن أبي أوفى .
وقد أخرجه البيهقيُّ في الموضع السابق من طريق يحيى الحِمّاني، عن أبي إسحاق الحميسي، عن محمد بن جُحَادة، عن طَرَفة الحضرمي، عن ابن أبي أوفى، به .
هكذا رواه الحِمَّاني، وسَمَّى المبهم، ولكن الحمّاني - واسمه: يحيى بن عبدالحميد - متهم، ومع ذلك فَطَرفَةُ هذا مجهولٌ؛ فيبقى الحديثُ على ضعفه .
(3) قوله: «حتى» ليست في (ح).
(4) في (غ): «تكامل».
(5) في (ب): «في الركعة».
(6) قوله: «بحيث» في (أ): «حتى».
(7) في (ب): «ليتوالى»، وفي (ح): «لتاولى».
(8) في (ب): «في».
(9) في (أ): «حكمة».
(10) في (ح): «هيئتها».(2/58)
************
( 22 ) بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الصُّبْحِ
65- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ السَّائِبِ (1) ، قال:صَلَّى لَنَا النبي - صلى الله عليه وسلم - الصُّبْحَ بِمَكَّةَ، فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ، حتى جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ، أَخَذَتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - سَعْلَةٌ، فَرَكَعَ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَحَذَفَ، فَرَكَعَ.
66- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ (2) ، قال:إِنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}، وَكَانَ صَلَاتُهُ بَعْدُ تَخْفِيفًا.
67- وَعَنْهُ (3) ، قال:كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِـ{اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}، وَفِي الْعَصْرِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَفِي الصُّبْحِ أَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِـ{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَ على}، وَفِي الصُّبْحِ بِأَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ.
68- وَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِي (4) ، قال:كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي صَلاةِ الفَجْرِ مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ.
( 23 ) بَابُ الْقِراءَةِ ِفي الْمَغْرِبِ والْعِشَاءِ
69- وَعَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ (5) ؛ أَنَّهْا سَمِعَتِ ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ يَقْرَأُ: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا}، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، لَقَدْ ذَكَّرْتَنِي بِقِرَاءَتِكَ هَذِهِ السُّورَةَ، إِنَّهَا - لآخِرُ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ، وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ مَا صَلَّى بَعْدُ حتى قَبَضَهُ اللهُ.
70- وَعَنْ جُبَيْرِ ابْنِ مُطْعِمٍ (6) ، قال:سَمِعْتُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ بِالطُّورِ فِي الْمَغْرِبِ.
71- وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ (7) ، قال:سَمْعتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ فِي الْعِشَاءَ بِـ{التِّينِ وَالزَّيْتُونِ}، فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا مِنْهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ فِي سَفَرٍ.
72- وَعَنْ جَابِرٍ (8) ، قال:كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ يَأْتِي فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ، فَصَلَّى لَيْلَةً مَعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - الْعِشَاءَ، ثُمَّ أَتَى قَوْمَهُ فَأَمَّهُمْ - فِي رِوَايَةٍ: فَصَلَّى بِهِمْ تِلْكَ الصَّلَاةَ - فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَانْحَرَفَ رَجُلٌ فَسَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ وَانْصَرَفَ، فَقَالُوا لَهُ: أَنَافَقْتَ يَا فُلَانُ؟! فَقَالَ: لا وَاللهِ، وَلَآتِيَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَأُخْبِرَنَّهُ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا أَصْحَابُ نَوَاضِحَ، نَعْمَلُ بِالنَّهَارِ، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى مَعَكَ الْعِشَاءَ، ثُمَّ أَتَى فَافْتَتَحَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ؟! فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على مُعَاذٍ، فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟! اقْرَأْ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}،{وَالضُّحَى}، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}، و{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَ على}، وَنَحْوَ هَذَا» (9) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنْ بَابِ الْقِرَاءَةِ في الْمَغْرِبِ والْعِشَاءِ
قولُهُ في حديث جابر: «كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ يَأْتِي فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ». =(2/75)=@
وفي رواية: «فَيُصَلِّي بِهِمْ تِلْكَ الصَّلَاةَ».
تمسَّك الشافعيُّ وأحمدُ (10) في صلاة المفَترِضِ خلف المتنفِّلِ بهذا الحديث.
وخالفهما مالكٌ وربيعةُ والكوفيُّون، ورَأَوْا أنه لا حُجَّةَ لهما فيه؛ لوجهين:
أحدهما: أنه (11) يَحْتملُ أن يكونَ معاذٌ اعتقَدَ في صلاتِهِ خلف النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الفضيلةَ، وفي صلاتِهِ بقومِهِ (12) الفريضة، وليس هذا الاحتمالُ بأولَى مِمَّا صاروا إليه؛ فَلَحِقَ بالمجملاتِ؛ فلا يكونُ فيه حُجَّةٌ (13) .
والثاني: أنَّ في "مسند البزار"، عن عمرو بن يحيى المازني، عن معاذ بن رِفَاعَةَ (14) ، عن رَجُلٍ من بني سُلَيْمٍ (15) يقالُ له: سَلْمٌ؛ أنه أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: يا رسولَ الله، إِنَّا نَظَلُّ (16) فِي أعمالِنا، فَنَأْتِي حِينَ نُمْسِي، فَيَأْتِي (17) مُعَاذٌ فَيُطَوِّلُ علينا؟ فَقَال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : «يَا مُعَاذُ؟ لَا تَكُنْ فَتَّانًا، إِمَّا أَنْ تُخفِّف بِقَوْمِكَ، أَوْ تَجْعَلَ صَلَاتَكَ مَعِي (18) » (19) ؛ &(2/59)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/336 رقم455) في الصلاة، باب القراءة في الصبح، وعلقه البخاري (2/255) في الأذان، باب الجمع بين السورتين في الركعة .
(2) أخرجه مسلم(1/337 رقم458) في الصلاة، باب القراءة في الصبح .
(3) أخرجه مسلم (1/337 -338 رقم459، 460) في الصلاة، باب القراءة في الصبح.
(4) أخرجه البخاري (2/22، 26، 49، 73 رقم541، 547، 568، 599) في كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت الظهر عند الزوال، وباب وقت العصر، وباب ما يكره من النوم قبل العشاء...، وباب ما يكره من السَّمرِ بعد العشاء، و(2/251رقم771) في كتاب الأذان، باب القراءة في الفجر، ومسلم (1/338رقم461) في الصلاة، باب القراءة في الصبح .
(5) أخرجه البخاري (2/246 رقم 763) في كتاب الأذان، باب القراءة في المغرب، و(8/130 رقم 4429) في كتاب المغازي، باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، ومسلم (1/338رقم462) في الصلاة، باب القراءة في الصبح .
(6) أخرجه البخاري (2/247 رقم 765) في كتاب الأذان، باب الجهر في المغرب، و(6/168 رقم 3050) في كتاب الجهاد، باب نداء المشركين، و(7/323 رقم 4023) في كتاب المغازي، باب منه، و(8/603 رقم4854) في كتاب التفسير، باب منه ، ومسلم (1/338رقم463) في الصلاة، باب القراءة في الصبح .
(7) أخرجه البخاري (2/250، 251 رقم 767، 769) في كتاب الأذان، باب الجهر في العشاء، وباب القراءة في العشاء، و(8/713 رقم 4952) في تفسير سورة { والتين } من كتاب التفسير، باب منه، و(13/518 رقم7546) في كتاب التوحيد، قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :«الماهر بالقرآن مع سفرة الكرام البررة»، و: «زيِّنوا أصواتَكُمْ بالقرآن»، ومسلم (1/339رقم464) في كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء .
(8) أخرجه البخاري (2/192، 200، 203 رقم 700، 701، 705، 711) في كتاب الأذان، باب إذا طول الإمام وكان للرجل حاجة فخرج فصلى، وباب من شكا إمامه إذا صلى ثم أمّ قومًا، و(10/515 رقم6106) في كتاب الأدب، باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولاً أو جاهلاً، ومسلم (1/339رقم465) في كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء.
(9) لفظ الحديث في "صحيح مسلم":«يَا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ ؟ اقْرَأْ بِكَذَا واقْرَأْ بِكَذَا». قال سفيان: فقلت لعمرو: إن أبا الزبير حدثنا عن جابر أنه قال: «اقرأ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا }، {وَالضُّحَى }، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى } و{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَ على }»، فقال عمرو: نَحْوَ هَذَا .
(10) توثيق فقهي.
(11) قوله: «أنه» سقط من (غ).
(12) في (ح): «الفضيلة وبصلاته لقومه».
(13) يعني: لا يكون حجةً بما تقرَّر من أنَّ الدليل إذا تطَّرق إليه الاحتمال، بطل به الاستدلال إذ لا يصح الاحتجاج بالمجمل حتى يأتي ما يزيل إجماله فيصارُ إليه، وسيأتي الجواب عن كلام الشارح من كلام الحافظ العراقي توثيق من كتب أصول الفقه.
(14) في (ح): «جبل " بدل: «رفاعة»، وحاول الناسخ إصلاحها فلم تتضح .
(15) في تخريج الحديث من بني سلمة.
(16) في (غ): «نظر».
(17) في (ب): «فيأُمُّنَى».
(18) قوله: «إما أن تخفف..» إلى هنا في مصادر التخريج: «إما أن تصلَّي معي، وإما أن تخفِّف على قومك»؛ بالتقديم والتأخير.
(19) لم أجده بهذا السياق في "كشف الأستار»، وإنما أخرجه أحمد (5/74)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (3/110)، والطحاوي (1/409)، والطبراني في "الكبير" (7/76 رقم 6391)، جميعهم من طريق عمرو بن يحيى، عن معاذ بن رفاعة الزُّرَقِيِّ ؛ أنَّ رجلاً من بني سَلِمَةَ يقال له: سُلَيْم، أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا رسولَ الله، إنَّ معاذ بن جبل يأتينا بعد ما ننام ...» الحديث، وفيه: قال رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - : «يا معاذ، لا تكنْ فَتَّانًا، إِمَّا أنْ تصلِّي معي، وإما أن تخفِّف على قومك». زاد بعضهم: فخرج سُلَيْمٌ يوم أحد، فكان من الشهداء .
قال ابن حزم في "المحلى" (4/230): «هذا خبر لا يصحُّ؛ لأنه منقطع ؛ لأن معاذ بن رفاعة لم يدرك النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ولا أدرك هذا الذي شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمعاذ».اهـ. ...
وقال الهيثمي في "المجمع" (2/218): «رواه أحمد، ومعاذ بن رفاعة لم يدركِ الرجل الذي مِنْ بني سَلِمة ؛ لأنه استشهدَ بِأُحُد، ومعاذ تابعي، والله أعلم، ورجال أحمد ثقات . ورواه الطبراني في "الكبير»، عن معاذ بن رفاعة: أنَّ رجلاً من بني سلمة». اهـ.
وأما ما عزاه المصنِّف إلى البزَّار، فقد أخرجه البزَّار كما في "كشف الأستار" (1/256- 257)، عن محمَّد بن معمر، عن أبي بكر الحنفيِّ عبدالكبير بن عبدالحميد، عن أسامة بن زيد، قال: سمعتُ معاذَ بنَ عبدالله بن خُبَيْب، قال: سمعتُ جابر بن عبدالله الأنصاري، قال: كان معاذٌ يتخلَّف عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكان إذا جاء، أَمَّ قومه... الحديث، وفيه: ثم أرسلَ إلى معاذ: «لا تكنْ فَتَّانًا تفتن الناس، ارجعْ إليهمن فصَلِّ بهم قبل أن يناموا»، ثم قال سُلَيْم: سننظر يا معاذ غدًا إذا التقينا العدوِّ، كيف تكونُ وأكونُ أنا وأنت . قال: فمَرَّ سليم يوم أحد شاهرًا سيفه، فقال: يا معاذ، تقدّم، فلم يتقدم معاذ، وتقدَّم سليم، فقاتل حتى قتل، فكان إذا ذُكر عند معاذ يقول: إنَّ سُلَيْم صدق الله، وكذب معاذ .
قال البزار: «لجابر حديث في الصحيح غير هذا، لا نعلمه بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد».اهـ.
قال الهيثمي في "المجمع" (2/322): «رواه البَزَّار ورجالُهُ رجالُ الصحيح خلا معاذ بن عبدالله بن خبيب، وهو ثقة لا كلام فيه». اهـ.
قلت: سنده ضعيف ؛ فأسامة بن زيد الليثي: صدوق يهم، في "سنن سعيد بن منصور" (1/153)، وفي متنه من النكارة: وصف معاذ بن جبل - رضي الله عنه - بالْجُبْنِ .(2/59)
وظاهرُ هذا يدلُّ أنه (1) كان يصلِّي الفريضةَ مع قومه (2) .
ومتمسَّكُ المانعين: قوله - صلى الله عليه وسلم - : «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤتِمِ بِهِ، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ» (3) ، ولا اختلاف أعظمُ من اختلافِ النيات (4) ، والله تعالى أعلم.
وأما قطعُ الرَّجُلِ الصلاةَ: فلعذرٍ صَحَّ له (5) ، وهو أنه ضَعُفَ عن صلاةِ معاذ؛ لما لحقه مِنْ شدَّة ألمِ العمل، ولأجلِ ذلك أنكَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على معاذٍ حتى نسبه إلى =(2/76)=@ الفِتْنة.
ولا حجة للشافعي في هذا الحديث (6) ، على جوازِ الخروجِ عن إمامة الإمام ابتداءً مِنْ غير عذر؛ لأنَّ هذا كان عن عُذْر، وأما صلاةُ هذا (7) الرجل وحده، ومعاذٌ في صلاته: فيستدل به على جواز ذلك لعذر، وأما لغير عذر، فممنوعٌ؛ بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - : «أَصَلَاتَانِ مَعًا؟!» (8) ؛ منكرًا على من فعل ذلك (9) . &(2/60)&$
__________
(1) في (ح):«على أنه».
(2) قول الشارح: «وليس هذا الاحتمال بأولى مما صاروا إليه...» إلى هنا نقله العراقي في «طرح التثريب» (2/244- 245)، وأجاب عنه – مؤيدًا جواز صلاة المفترض خلف المتنفِّل، ومحتجًّا بقصة معاذ – قال: قد قدَّمنا أن هذا لاحديث رواه أحمد في «مسنده»، وقال فيه: «إمَّا أن تصلِّي معي، وإما أن تخفِّف على قومك»، والجواب: أنه لا يظنُّ بمعاذ أنه يترُكُ فضيلةَ صلاةِ الفرض مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لو لم يقع نَهْيٌ من النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فكيف وقد قال في الحديث الصحيح: «إذا أقيمت ِ الصلاةُ، فلا صلاةَ المكتوبةُ»؛ فلم يكنْ معاذٌ ليخالفَ أمره ويصلِّي نافلةً بعد إقامة الصلاة، والله أعلم.
وأما هذا الحديث الذي عند أحمد والبزار: فمراده: إمَّا أن تصلِّي معي مقتصرًا على ذلك، ولا تَؤمَّ قومك، وكا قوله: أو تجعل صلاتك معي، وهذا هو المرادُ، وإلا فهو كان يصلِّي معه؛ فتعيَن أن يكون المراد: تقتصر على صلاتِكَ معي، وليس فيه كونُ الفرِ هي التي كانتْ مع قومه، وغذا كان هذا محتملاً للتأويل، وقولُ جبرٍ: «هي له تطوُّعٌ»، لا يحتملُ التأويلَ، وجابر ممن كان يصلِّي مع معاذ؛ فوجب المصيرُ إليه».اهـ.
وانظر: «فتح الباري" (/)، و"عمدة القاري" (/).
(3) الحديث أخرجه البخاري (2/ ... ، برقم 689) في الأذان، باب: إقامة الصف من تمام الصلاة، ومسلم (1/ ... برقم 414)، في الصلاة، باب: ائتمام المأموم بالإمام، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(4) لم أجد الورقة المرفقة (ب)
(5) في (ح): «فلعذر له».
(6) قوله: «الحديث» ليس في (أ).
(7) قوله: «هذا» ليس في (أ).
(8) أخرجه الإمام مالك في "الموطأ" (1/128 رقم31) في الصلاة، باب ما جاء في ركعتي الفجر، عن شَريكِ بن عبدالله بن أبي نَمِرٍ، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن؛ أنه قال: سَمِعَ قَوْمٌ الإقامةَ فقاموا يصلُّون، فخرَجَ عليهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال:«أصلاتان معًا؟! أصلاتان معًا»، وذلك في صلاة الصبح ؛ في الركعتين اللتين قبل الصبح .
وأخرجه ابن عبدالبر في "التمهيد" (22/67 طريق الوليد بن مسلم، عن مالك، عن شريك، عن أنس، هكذا موصولاً، ولكنها روايةٌ شاذَّة ؛ قال ابن عبدالبر: «لم تختلف الرواة عن مالك في إرسال هذا الحديث فيما علمتُ، إلا ما رواه الوليد بن مسلم».
وأخرجه البخاري في "التاريخ الصغير" (2/183 طريق إسماعيل بن جعفر، عن شريك، مرسلاً مثل رواية مالك، ثم قال البخاري: «وهذا أصحُّ مع إرساله».
وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (1/186)، و"الصغير" (2/183)، وابن خزيمة في "صحيحه" (2/170 رقم1126)، كلاهما من طريق علي بن حُجْر، عن محمد بن عَمَّار، عن شَرِيكِ بن عبدالله بن أبي نَمِرٍ، عن أنس، به .
وأخرجه ابن خزيمة في الموضع نفسه من طريق إبراهيم بن طُهْمان، عن شريك، به مثل سابقه .
وقد استغرب ابن خزيمة هذه الرواية، فقال: «حدَّثنا علي بن حُجْر السعدي بخبر غريب غريب»، ثم ساقه، ثم قال: «روى هذا الخبر مالك بن أنس، وإسماعيل بن جعفر، عن شريك بن أبي نمر، عن أبي سلمة، مرسلاً، وروى إبراهيم بن طُهْمان عن شريك، كلا الخبرين، عن أنس، وعن أبي سلمة جميعًا».اهـ.
وذكر أبو حاتم الرازي روايتي محمد بن عَمَّار، وإبراهيم بن طهمان، كما في "العلل" لابنه (1/134 رقم369)، ثم قال: «قد خالفهما مالكٌ والثوريُّ والدراورديُّ، عن شريك بن أبي نمر، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي ... مرسل، وهذا أشبه وأصح».اهـ.
ولكن يشهد له أحاديث أخرجها مسلم، وأخرج البخاري بعضها، وستأتي في باب: «إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة».
(9) قوله: «ذلك» ليس في (أ).(2/60)
وقوله: «أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ؟»، أي: أتفتنُ الناسَ، وتَصْرِفهم عن دينهم؟! وقد تقدَّم أصلُ الفتنة (1) .
ويَحْتملُ: أن يكونَ معناه: تعذِّبُ الناسَ - يا معاذ (2) - بالتطويلِ؟ كما قال تعالى : {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} (3) ، أي: عذَّبوهم، في قولِ المفسِّرين (4) .
و«النواضحُ»: الإبلُ التي يُسْتَقَى عليها (5) (6) (7) . =(2/77)=@
*************
( 24 ) بَابُ أَمْرِ الْأَئِمَّةِ بِالتَّخْفِيفِ فِي تَمَامٍ
73- عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ (8) ، قال:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ أَجْلِ فُلانٍ؛ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - غَضِبَ فِي مَوْعِظَةٍ قَطُّ أَشَدَّ مِمَّا غَضِبَ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ؛ فَأَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيُوجِزْ؛ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ».
74- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (9) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:«إِذَا أَمَّ أَحَدُكُمُ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ؛ فَإِنَّ فِيهِمُ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَالْمَرِيضَ؛ فَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ فَلْيُصَلِّ كَيْفَ شَاءَ».
75- وَعَنْ عُثْمَانَ بْنُ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيُّ (10) ؛ أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ:«أُمَّ قَوْمَكَ»، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ ! إِنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي شَيْئًا. قَالَ:«ادْنُهْ» فَأجَلَّسَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ فِي صَدْرِي بَيْنَ ثَدْيَيَّ، ثُمَّ قَالَ: «تَحَوَّلْ» فَوَضَعَهَا فِي ظَهْرِي بَيْنَ كَتِفَيَّ، ثُمَّ قَالَ:«أُمَّ قَوْمَكَ، فَمَنْ أَمَّ قَوْمًا فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ، وَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ، وَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَإِنَّ فِيهِمْ ذَا الْحَاجَةِ، فَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ وَحْدَهُ فَلْيُصَلِّ كَيْفَ شَاءَ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنْ بَابِ أَمْرِ الْأَئِمَّةِ بِالتَّخْفِيفِ
وكونُهُ (11) - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ أبي مسعود غَضِبَ وحكَمَ في حالِ غضبه، لا يعارضه قوله - صلى الله عليه وسلم - : «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» (12) ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - معصومٌ في حالِ الغضبِ والرضا، بخلافِ غيره. =(2/78)=@ &(2/61)&$
__________
(1) تقدم في...
(2) قوله: «يا معاذ» ليس في (ب).
(3) سورة البروج، الآية: 10.
(4) توثيق معنى الآية.
(5) توثيق لغوي.
(6) قوله: «والنواضح: الإبل التي يستقي عليها» ليس في (أ).
(7) زاد في (غ) بعد هذا: «والله الموفِّق للصواب».
(8) أخرجه البخاري (1/186 رقم90) في كتاب العلم، باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره، و(2/197، 200 رقم702، 704) في كتاب الأذان، باب تخفيف الإمام في القيام، وإتمام الركوع والسجود، وباب من شكا إمامه إذا طوَّل، و(10/517 رقم6110) في كتاب الأحكام، باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان، ومسلم (1/340 رقم466) في الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام .
(9) أخرجه البخاري (2/199 رقم703) في الأذان، باب إذا صلَّى لنفسه فليطوِّل ما شاء، ومسلم(1/341 رقم467) في الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام .
(10) أخرجه مسلم (1/341-342 رقم468) في كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام .
(11) في (ح) و(غ): «قوله»، ويشبه أن تكون هكذا في (ب).
(12) سيأتي في كتاب الأقضية، باب لا يقضي القاضي وهو على حال تشوش عليه .(2/61)
وقولُ عثمانَ بنِ أبي العاص: «إنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي»، حين قال له: «أُمَّ قَوْمَكَ».
يحتملُ: أن يكون خَشِيَ على نفسِهِ كِبْرًا أو عُجْبًا (1) (2) ؛ حيث قُدِّمَ على قومه.
ويحتملُ: أن يكون ذلك خَجَلاً وضَعْفًا عن القيامِ بذلك، ففعَل النبي - صلى الله عليه وسلم - به ذلك؛ ليزولَ عنه ما وَجَدَ في نفسه مِنْ ذلك ببركةِ يَدِ (3) (4) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
***************
بَابٌ
76- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (5) ، قال:مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ وَلَا أَتَمَّ صَلَاةً مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - .
77- وَعَنْهُ (6) ، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :«إِنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ، أُرِيدُ إِطَالَتَهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأُخَفِّفُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ بِهِ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «فَأُخَفِّفُ مِنْ شِدِّةِ وَجْدِ أمِّهِ بِهِ»، يعني: حُزْنَهَا (7) وشفقتها عليه (8) .
وفيه: دليلٌ على جوازِ الإسراعِ في الصلاة، وإنْ كان قد شَرَعَ في تطويلها؛ لأجل حاجةِ المأموم.
ولا حُجَّةَ فيه للشافعيِّ على جواز (9) انتظارِ الإمامِ مَنْ سمع حِسَّهُ داخلاً؛ لأنَّ هذه الزيادةَ عملٌ في الصلاة، بخلافِ الحديث. =(2/79)=@ &(2/62)&$
__________
(1) في (أ): «وعجبًا».
(2) تعريف لغوي للعجب.
(3) تراجع مسألة التبرك بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعضائه.
(4) قوله: «يد " سقط من (ح).
(5) أخرجه البخاري (2/201 رقم708) في الأذان، باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي، ومسلم (1/342 رقم469/190) في كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام .
(6) أخرجه البخاري (2/202 رقم709، 710) في الأذان، باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي، ومسلم (1/343 رقم470) في الكتاب والباب السابقين .
(7) في (ح): يعني «حرقتها»، وفي (غ): «يعني به خوفها».
(8) توثيق لغوي لمعنى الوجد.
(9) في (ح): «عن جواز».(2/62)
*************
( 25 ) باب في اعتدال الصلاة وتقارب أركانها
78- عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ (1) ، قال:رَمَقْتُ الصَّلاةَ مَعَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فَوَجَدْتُ قِيَامَهُ فَرَكْعَتَهُ، فَاعْتِدَالَهُ بَعْدَ رُكُوعِهِ، فَسَجْدَتَهُ، فَجَلْسَتَهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، فَجَلْسَتَهُ، وَجَلْسَتَهُ مَا بَيْنَ التَّسْلِيمِ وَالانْصِرَافِ قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب اعتدال أركان الصلاة
قوله في حديث البراء: «قريبًا من السواء (2) »؛ يدل على أن بعض تلك الأركان أطول من بعض، إلا أنها غير متباعدة، وهذا واضح في كل الأركان، إلا في القيام؛ فإنه قد ثبت أنه كان يطوِّله، ويقرأ فيه بالستين إلى المائة، ويذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته، ثم يتوضأ، ثم يرجع فيجده قائمًا في الركعة الأولى (3) ، فيحتمل أن يكون ذلك الطول كان في أوّل أمره، ثم كان التخفيف بعدُ؛ كما قال جابر بن سمرة (4) : ثم كانت صلاته بعد تخفيفًا. وقد قيل: إن هذه الرواية =(2/80)=@ التي وقع فيها ذكر القيام وهمٌ (5) ، إسقاطه كما رواه البخاري &(2/63)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (2/276، 288، 300 رقم792، 801، 802) في الأذان، باب حد إتمام الركوع والاعتدال فيه والطمأنينة، وباب الطمأنينة حين يرفع رأسه من الركوع، وباب المكث بين السجدتين، ومسلم (1/343 رقم471) في الصلاة، باب اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها في تمام .
(2) في (أ): «ذلك».
(3) وهو حديث أبي سعيد الخدري المتقدم برقم (361).
(4) في حديثه المتقدم برقم (363).
(5) قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/288، 289): « وحكى ابن دقيق العيد عن بعض العلماء: أنه نسب هذه الرواية إلى الوهم، ثم استبعده ؛ لأن توهيم الراوي الثقة على خلاف الأصل . ثم قال في آخر كلامه: فلينظر ذلك من الروايات، ويحقق الاتحاد أو الاختلاف من مخارج الحديث . اهـ. وقد جمعت طرقه فوجدت مداره على ابن أبي ليلى عن البراء، لكن الرواية التي فيها زيادة ذكر القيام من طريق هلال بن أبي حميد عنه، ولم يذكره الْحَكَم عنه، وليس بينهما اختلاف في سوى ذلك، إلا ما زاده بعض الرواة عن شعبة، عن الحكم من قوله: «ما خلا القيام والقعود»، وإذا جمع بين الروايتين ظهر من الأخذ بالزيادة فيه أن المراد بالقيام المستثنى: القيام للقراءة، وكذا القعود، والمراد به: القعود للتشهد كما تقدم » انتهى كلام الحافظ رحمه الله .(2/63)
ومسلم أيضًا في رواية أخرى من حديث البراء، ولم يذكر فيها القيام (1) ، وزاد البخاري فيه: «ما خلال القيام والقعود» (2) ، والطريقة الأولى أحسن وأسلم.
79- وَعَنْ أَنَسٍ (3) ، قال:مَا صَلَّيْتُ خَلْفَ أَحَدٍ أَوْجَزَ صَلاةً مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي تَمَامٍ. كَانَتْ صَلاةُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُتَقَارِبَةً، وَكَانَتْ صَلاةُ أَبِي بَكْرٍ مُتَقَارِبَةً، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَدَّ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَالَ:«سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» قَامَ حتى نَقُولَ: قَدْ أَوْهَمَ. ثُمَّ يَسْجُدُ، وَيَقْعُدُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: حتى نَقُولَ: قَدْ أَوْهَمَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث أنس: «حتى نقول قد أَوْهَم»، كذا صوابه بفتح الهمزة والهاء، فعل ماض مبني للفاعل، ومعناه: ترك (4) . قال ثعلب: يقال (5) : أوهمت الشيء: إذا تركته كله، أُوهِمُ (6) ، وَوَهِمْتُ في الحساب وغيره إذا غلطت (7) . أَوهِمُ، ووهمت إلى الشيء؛ إذا ذهب وهَمُكَ إليه وأنت تريدُ غيره، أَهمُ (8) وَهْمًا (9) . والله أعلم (10) . =(2/81)=@
*************
( 26 ) بَابُ اتِّباعِ الْإِمَامِ والْعَمَلِ بَعْدَهُ
80- عَنِ الْبَرَاءِ (11) ؛ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ، لَمْ أَرَ أَحَدًا يَحْنِي ظَهْرَهُ حتى يَضَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَبْهَتَهُ على الأَرْضِ، ثُمَّ يَخِرُّ مَنْ وَرَاءَهُ سُجَّدًا.
وَفِي لَفْظٍ آخَر: كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ؛ فَإِذَا رَكَعَ رَكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فَقَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، لَمْ نَزَلْ قِيَامًا حتى نَرَاهُ قَدْ وَضَعَ وَجْهَهُ فِي الأَرْضِ، ثُمَّ نَتَّبِعُهُ.
*************
( 27 ) بَابُ مَا يَقُولُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ
81- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (12) ، قال:كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، قَالَ: «رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ- وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ-: اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع
قوله (13) في حديث أبي سعيد: «مِلْءَ (14) السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ (15) »). &(2/64)&$
__________
(1) تقدم تخريج حديث البراء بجميع طرقه من "الصحيحين»، وقد تقدم النقل عن الحافظ ابن حجر أن الذي زاد القيام هو هلال بن أبي حميد، وأما الحكم بن عتيبة فلم يذكر القيام.
(2) وهذه الزيادة في الطريق رقم (792) عنده .
(3) أخرجه مسلم (1/344 رقم473) في الصلاة، باب اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها في تمام .
(4) توثيق تعريف المصنف لـ«أوهم».
(5) في (أ): «يقال».
(6) في (ب): «وأوهم».
(7) في (أ) غلتَّ، وفي (ب): غلطت فيه.
(8) في (أ): «أوهم».
(9) توثيق قول ثعلب.
(10) قوله: «والله أعلم) (غ) فقط.
(11) أخرجه البخاري (2/181، 232، 295 رقم690، 747، 811) في الأذان، باب متى يسجد من خلف الإمام؟ وباب رفع البصر إلى الإمام في الصلاة، وباب السجود على سبعة أعظم، ومسلم (1/345 رقم474) في الصلاة، باب متابعة الإمام والعمل بعده .
(12) أخرجه مسلم (1/347 رقم477) في الصلاة، باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع .
(13) قوله: «قوله " ليس في (ب).
(14) كذا في (ح)، وفي بقية النسخ ورسمت الهمزة هكذا: «ملئ».
(15) في (ح): «وملء ما شئت من شيء».(2/64)
قال الخَطَّابِي: هو تمثيلٌ وتقريبٌ، والمرادُ: تكثيرُ العدد، حتى لو قُدِّر ذلك أجسامًا، ملَأَ ذلك كلَّه (1) ، وقال (2) غيره: المرادُ بذلك: التعظيمُ؛ كما يقال: هذه الكلمةُ تَمْلَأَ طِبَاقَ (3) (4) الأرض (5) ، وقيل: المرادُ بذلك: أجرُهَا وثوابَهَا (6) ، والله أعلم. =(2/82)=@
و «بَعْدُ»: ظرفٌ قُطِعَ عن الإضافةِ مع إرادة (7) المضافِ، وهو السمواتُ والأرضُ، فبني على الضَّمِّ؛ لأنه أشبَهَ حرفَ الغاية؛ الذي هو «مُنْذُ».
والمراد بقوله: «مِنْ شَيْءٍ»: العرشُ، والكرسيُّ، ونحوهما، مما في (8) مقدور (9) الله تعالى، والله أعلم.
وقوله: «أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالَمْجدِ»، أي: يا أهلَ الثناء، فهو منادًى مضافٌ؛ حُذِف حرفُ ندائه.
وروايةُ الجمهور: «الْمجَدْ» (10) - بالميم والجيم- إلا ابن ماهان؛ فإنه رواها: «الَحْمد».
فأما «الْمجد» (11) ؛ فهو نهايةُ الشَّرَف وكثرته، والماجدُ: هو الذي يُعِدُّ لنفسه آباءً أشرافًا، ومآثِرَ حسنةً كثيرة، ومنه قالتِ العربُ: في كلِّ شجرٍ نارْ، واسْتَمْجَدَ المَرْخُ والعَفَارْ (12) ، أي: كثر في هذَيْن النوعَيْن من الشجر.
وقد تقدَّم معنى «الحَمْد» في أول الكتاب (13) .
وقوله: «أَحَقُّ مَا قَالَ العَبْدُ»، أي: أوجَبُ وأثبتُ وأولى، وهو مرفوعٌ بالابتداء، وخبره: «اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ...» إلى آخره، «وكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ»؛ معترضٌ بين المبتدأ وخَبَرِهِ (14) . والعبد: جنس العباد العارفين (15) بالله تعالى هذه الكلمات؛ لما تضمنته من تحقيق التوحيد وتمام التفويض، وصحة التبرّي من الحول والقوة. =(2/83)=@
وقوله: «وَلَا يَنْفَعُ (16) ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ»، رواه الجمهور بفتح الجيم في اللفظين، وهو هنا (17) بمعنى: البَخْت والحظ،، ولفظُ «الجَدِّ» (18) ينطلقُ على البختِ، والغِنَى، والعَظَمةِ، والسلطانِ، وأبِ الأب. ومعناه: لا ينفعُ من رُزِقَ مالاً وولدًا أَو جاهًا دنيويًا شيءٌ (19) مِنْ ذلك عندك، وهذا كما قال تعالى : {يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون ( إلا من أتى الله بقلب سليم} (20) . وحُكِيَ عن الشيباني في &(2/65)&$
__________
(1) توثيق قول الخطابي.
(2) في غير (ب): «قال» بدون واو.
(3) في (غ): «أطباق».
(4) تعريف «طباقا»...
(5) توثيق: «قال غيره».
(6) توثيق: «وقيل».
(7) في (أ): «الإرادة».
(8) قوله: «مما» سقط من (غ).
(9) في (أ): «مقدورة».
(10) قوله: «يا أهل...» على هنا، سقط من (أ)، بسبب انتقال النظر.
(11) في (غ): «الجمد»
(12) انظر "لسان العرب" (3/53).
(13) في صدر المقدِّمة، باب شرح ما تصمَّنته خطبة الكتاب وصدره من المعاني والغريب.
(14) قوله: «وخبره» في (غ): «والخبر»، ومن قوله: «اللهم لا مانع ...» إلى هنا سقط من (ح)؛ بسبب انتقال النظر.
(15) في (غ) و(ح): «العارفون».
(16) في (ح): «لا ينفع».
(17) قوله: «هنا» في (أ): «هاهنا».
(18) في (ح): «ولفظ الحديث».
(19) في (أ): «بشيء».
(20) سورة الشعراء: الآيتان 88، 89.(2/65)
الحرفين: كسر الجيم، وقال: معناه: لا يَنْفَعُ ذا الاجتهادِ والعملِ منك اجتهادُهُ وعمله؛ قال الطبريُّ: «وهذا خلافُ ما عَرَفَهُ أهلُ النقل، ولا يُعلم (1) مَنْ قاله غيره»، وضعَّفه، قال غيره: والمعنى الذي أشار إليه الشيبانيُّ صحيحٌ، ومراده: أن العملَ لا يُنْجِيِ صاحبه، وإنما النجاةُ بفضلِ اللهِ ورحمتهِ؛ كما جاء في الحديث: «لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ...»، الحديث (2) .
82- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى (3) ، عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءُ السَّمَواتِ وَمِلْءَ الأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَمَاءِ الْبَارِدِ، اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الْوَسَخِ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث ابن أبي (4) أوفى: «اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَمَاءِ الْبَارِدِ»: استعارة للمبالغة في التنظُّف (5) من الذنوب، و«ماءُ الَبارِدِ»: مِنْ باب (6) إضافةِ الشيءِ إلى صفتِهِ، وقد تقدَّم ذكرها. =(2/84)=@
***************
( 28 ) باب النهي عن القراءة في الركوع والسجود
83- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (7) ، قال: كَشَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - السِّتَارَةَ، وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ:«أَيُّهَا النَّاسُ ! إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ، أَلا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ».
وَفِي رِوَايَةٍ: كَشَفَ السِّتْرَ وَرَأْسُهُ مَعْصُوبٌ، فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ» ثَلاثَ مَرَّاتٍ: «إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلا الرُّؤْيَا الصَّالِحَة يَرَاهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ، أَوْ تُرَى لَهُ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله:«أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء (8) »). مذهب الجمهور: كراهة القراءة والدعاء في الركوع، وقال الشافعي &(2/66)&$
__________
(1) في (ح) تشبه: «نعلم».
(2) متفق عليه، وسيأتي كتاب في الزهد، باب الاجتهاد في العبادة، والدوام على ذلك، ولن ينيجي أحدًا منكم عملُهُ .
(3) أخرجه مسلم (1/346 رقم476) في الصلاة، باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع .
(4) قوله: «أبي» ليس في (أ).
(5) في (ب) و(ح): «التنظيف».
(6) قوله: «باب» ضرب عليه في (غ).
(7) أخرجه مسلم (1/348 رقم479) في الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود .
(8) في (ب) و(ح) و(غ): «فيه في الدعاء».(2/66)
والكوفيون: يقول في الركوع: سبحان ربي العظيم، وفي السجود: سبحان ربيّ والأ على؛ اتّباعًا لحديث عقبة (1) ، وكلهم على استحباب ذلك، وذهب بعضهم إلى وجوب ذلك في الركوع والسجود (2) ، وذهب إسحاق وأهل الظاهر إلى وجوب الذكر فيهما دون تعيين، وأنه يعيد الصلاة من تركه. وفي "المبسوطة" (3) عن يحيى بن يحيى، وعيسى بن دينار من أئمتنا، فيمن لم يذكر الله في ركوعه ولا سجوده: =(2/85)=@ أنه يعيد الصلاة أبدًا. وقد تأوّل المتأخرون من أصحابنا ذلك عليهما تأويلات (4) بعيدة.
وقوله (5) : «فَقَمَنٌ»- بفتح القاف والميم-، ومعناه: حقيقٌ وجديرٌ، ويقال: «قَمِنٌ» بكسر الميم، و «قَمينٌ»؛ فالفتحُ (6) مصدرٌ، وغيره نَعْتٌ يُثنّى ويجمَعُ.
و«مُبَشِّرَاتُ النُّبُوَّة»: أول ما يبدو (7) منها، مأخوذ من تباشير الصبح وبشائره، &(2/67)&$
__________
(1) وهو ما أخرجه الطيالسي (ص 135 رقم1000)، وأحمد (4/155)، والدارمي (1/ 299) في الصلاة، باب ما يقال في الركوع، وأبو داود (1/542 رقم869 في الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، وابن خزيمة (1/303، 304 رقم 600، 601، 670)، والطحاوي (1/235)، وابن حبان كما في "الإحسان" (5/225 رقم1898)، والحاكم (1/225) و(2/477-478)، أما الطيالسي وأبو داود وابن حبان فمن طريق عبدالله بن المبارك، وأما أحمد والدارمي فمن طريق أبي عبدالرحمن عبدالله بن يزيد المقرئ، وأما ابن خزيمة والحاكم فمن طريقهما - أي: ابن المبارك والمقرئ -، وأما الطحاوي فمن طريق المقرئ وعبدالله بن وهب، ثلاثتهم عن موسى بن أيوب الغافقي، عن إياس بن عامر، قال: سمعت عقبة بن عامر الجهني يقول: لما نزلت : { فسبح باسم ربك العظيم }، قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :«اجعلوها في ركوعكم»، فلما نزلت { سبح اسم ربك الأ على }، قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :«اجعلوها في سجودكم».
وسنده أقل أحواله أنه حسن لذاته ؛ فموسى بن أيوب روى عنه جمع من الأئمة، ووثقه ابن معين وأبو داود وغيرهما، كما في "تهذيب الكمال" (29/32). وعمّه إياس بن عامر الغافقي المصري صحح ابن خزيمة وابن حبان والحاكم حديثه هذا، وقال ابن حبان عقب إخراجه للحديث في "صحيحه" (5/225-226): «عمّ موسى بن أيوب اسمه: إياس بن عامر من ثقات المصريين»، وذكره أيضًا في "الثقات" (4/33، 35)، وقال العجلي في "الثقات" (ص239 رقم131): «لا بأس به»، وقال ابن حجر في "التقريب" (594): «صدوق».
وضعفه الشيخ الألباني في "الإرواء" رقم (334) لجهالة إياس بن عامر والراجح من هذه إن شاء الله ما قدمته والله أعلم، ويشهد له حديث حذيفة في "صحيح مسلم»، وسيأتي برقم (650).
(2) قوله: «والسجود» ليس في (أ).
(3) في (غ): «المبسوط».
(4) في (أ) و(ح) و(غ): «بتأويلات»، والمثبت من (ب).
(5) في (ب): «قوله».
(6) في (ح): «بالفتح». ...
(7) في (ب): «تبدو».(2/67)
وهو أول ما يبدو منه. وهذا كما تقدم من قول (1) عائشة: «أول ما بدىء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصادقة (2) في النوم» (3) .
84- وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (4) ، قال:نَهَانِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلا أَقُولُ: نَهَاكُمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول علي - صلى الله عليه وسلم - : «نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ....، ولا أقول: نهاكم»: لا يدل على خصوصيته بهذا الحكم، وإنما أخبر بكيفية توجُّه صيغة النهي الذي سمعه، فكأن صيغة النهي التي سمع: «لا تقرأ القرآن في الركوع»، فحافظ حالة التبليغ على =(2/86)=@ كيفية ما سمع حالة التحمل، وهذا من باب نقل الحديث بلفظه كما سمع. ولا شك أن مثل هذا اللفظ مقصور على المخاطب من حيث اللغة، ولا يُعَدَّى إلى غيره إلا بدليل من خارج، إما عام؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم - : «حكمي على الواحد كحكمي (5) على الجميع (6) ») (7) ، أو خاص (8) في ذلك الحكم؛ كقوله (9) :«نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا» (10) .
( 29) بَاب ُمَا يُقَاُل فيِ الرُّكُوعِ والسُّجُودِ
85- عَنْ عَائِشَةَ (11) ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي»؛ يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ»:
«سُبْحَانَك»: اسمٌ عَلَمٌ لمصدرِ «سَبَّح»، وقعَ مَوْقِعه، فنصَبَ نَصْبَهُ، وهو لا ينصرفُ؛ للتعريفِ والألفِ والنونِ الزائدتَيْن؛ &(2/68)&$
__________
(1) في أصل (غ): «كما تقدم الله من قول ؟؟؟، ثم ضرب على لفظ الجلالة».
(2) في (ب) و(ح): «الصالحة»، والصواب ما هو مثبت من (أ)، وانظر التخريج.
(3) تقدم في الإيمان برقم (125).
(4) أخرجه مسلم (1/349 رقم480/211) في الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود .
(5) في (غ): «حكمي».
(6) في (ح): «كحكمي على الاثنين».
(7) أورده السخاوي في "المقاصد الحسنة" (416)، ولفظه:«حكمي على الواحد حكمي على الجماعة»، وقال: «ليس له أصل كما قاله العراقي في تخريجه، وسئل عنه المزي والذهبي: فأنكراه». اهـ.
وقال الشوكاني في "الفوائد المجموعة" (ص 200): «... وقد ذكره أهل الأصول في كتبهم الأصولية، واستدلوا به فأخطأوا، وفي معناه مما له أصل:«إنما مبايعتي لامرأة، كمبايعتي لمائة امرأة»، وهو في الترمذي». اهـ.
وأصرح من هذا: ما أخرجه مالك (2/982-983) في كتاب البيعة، باب ما جاء في البيعة، عن محمد بن المنكدر، عن أميمة بنت رقيقة، أنها قالت: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نسوة تبايعه على الإسلام .... الحديث، وفيه: «إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة - أو مثل قولي لامرأة واحدة -».
ومن طريق مالك أخرجه: أحمد (6/357)، وابن حبان كما في الإحسان (10/417 رقم4553)، والطبراني (24/186-187 رقم471)، والبيهقي (8/146).
وأخرجه الطيالسي (ص 225 رقم1621)، والحميدي (1/163 رقم341)، وأحمد (6/357)، وابن ماجه (2/959 رقم2874) كتاب الجهاد، باب بيعة النساء، والترمذي (4/129 رقم1597) كتاب السير، باب ما جاء في بيعة النساء، والنسائي (7/149) كتاب البيعة، باب بيعة النساء، والحاكم (4/71) جميعهم من طريق محمد بن المنكدر، به .
قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح، لانعرفه إلا من حديث محمدبن المنكدر».اهـ.، وصححه الحافظ ابن كثير في "تفسيره"(8/122)،والشيخ الألباني في "الصحيحة" (2/63 رقم529).
(8) في (ح): «وإما خاص».
(9) في (غ) رسمت هكذا: «كقومًا».
(10) وهو حديث ابن عباس المتقدم برقم (380).
(11) أخرجه البخاري (2/281، 299 رقم794، 817) في الأذان، باب الدعاء في الركوع، وباب التسبيح والدعاء في السجود، و(8/19 رقم4293)في المغازي، باب منه، و(8/733 رقم4967 ، 4968) في تفسير سورة النصر من كتاب التفسير، باب منه، ومسلم (1/350 رقم484) في الصلاة، باب ما يقال في الركوع .(2/68)
كعُثْمان، ومعناه: البراءةُ لله مِنْ كلِّ نقصٍ وسوءِ،، وهو في الغالبِ مما لا يَنفصِلُ عن الإضافة، وقد جاء منفصلاً عنها - في - قول الأعشى - شاذًّا (1) :
أَقُولُ لَمَّا جَاءَني فَخْرُهُ ... سُْبحَانَ مِنْ عَلْقَمَة الفَاخِرِ (2) !
=(2/87)=@ وقد أشرَبَهُ (3) في هذا البيت معنى (4) التعجُّبِ؛ فكأنه قال: تعجُّبًا مِنْ علقمةَ؛ هذا قولُ حُذَّاقِ النحويين (5) وأئمَّتِهِمْ.
وقد ذهَبَ بعضهم: إلى أنَّ «سُبْحَان» جمع سِبَاحٍ، مِنْ: سَبَح يَسْبَحُ في الأرضِ: إذا ذهَبَ فيها سَبْحًا وسُبْحانًا، وهذا كَحِسابٍ وحُسْبَان.
وقيل: جمعُ سَبِيحٍ للمبالغةِ مِنَ التسبيح، مثلُ: خَبِيرٍ، وعليمٍ، ويُجْمَعُ: سُبْحَان؛ كقَضِيبٍ، وقُضْبان.
وهذان القولانِ باطلان؛ بدليلِ عدمِ صرفِهِ؛ كما ذكرناه مِنْ بيت الأعشى.
86-وَعَنْهَا (6) ، قَالَتِ: افْتَقَدْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، فَتَحَسَّسْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ، فَإِذَا هُوَ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ يَقُولُ: «سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ؛ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ»، فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! إِنِّي لَفِي شَأْنٍ، وَإِنَّكَ لَفِي آخَرَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «وَبِحَمْدكَ»، متعلِّقٌ بفعلٍ محذوفٍ دَلَّ عليه التسبيحُ، أي: بحمدكَ سبَّحْتُكَ، أي: بتفضُّلِكَ وهدايتِكَ؛ هذا قولهم، وكأنَّهم لاحظوا أنَّ الحمدَ هنا بمعنى الشُّكُر.
قال الشيخُ رحمه الله (7) : ويظهَرُ لي وجهٌ آخر، وهو إبقاءُ معنى الحمدِ على &(2/69)&$
__________
(1) البيت من السريع، وهو للأعشى في "ديوان" (ص155)، و"الكتاب" لسيبويه (1/324)، و"تهذيب التهذيب" (4/196)، و"جمهرة اللغة" (ص278)، و"المحكم" لابن سيده (3/211)، و"أساس البلاغة" (ص282)، و"غريب الحديث" للخطابي (1/685)، و"الخصائص" (2/435)، و"الزاهر" للأنباري (1/49)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/135)، و"شرح المفصَّل" (1/37، 120)، و"شرح شواهد المغني" (2/905)، و"خزانة الأدب" (1/185)، (7/234، 235، 237، 238)، و"اللسان" (2/471)، و"التاج" (4/578)، والبيت بلا نسبة في "مجالس ثعلب" (1/261)، و"المقتضب" (3/218)، و"الخصائص" (2/197)، و"المفردات" للراغب (ص221)، و"المقرَّب" لابن عصفور (1/1499، و"همع الهوامع" (1/115، 523)، و"خزانة الأدب" (3/388)، (6/286).
والشاهد في البيت مجيء قوله: «سبحان» غير مضاف، وهو شاذٌّ؛ لأن «سبحان» ملازم للإضافة، والمعنى: سبحان الله من فخر علقمة، أي: تنزيًهًا لله مما أتى به علقمة من الافتخار، يقوله على وجه النكير لذلك. انظر: «تفسير الطبري" (1/211)، وفي هذا البيت أقوال أخرى غير ما ذكره الشارح انظرها في مصادر تخريجه!
(2) انظر البيت في "لسان العرب" (2/471).
(3) قوله: «أشربه» في (أ): «أشير به».
(4) قوله: «معنى» في (أ): «إلى معنى».
(5) قوله: «حذاق النحويين» في (ح): «بعض النحويين». [تراجع النسخة ح]
(6) أخرجه مسلم (1/351 رقم485) في الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود .
(7) في (أ): «قلت».(2/69)
أصلِهِ - كما قررَّناه (1) أوَّلَ الكتاب (2) - وتكونُ الباءُ باءَ السبب، ويكونُ معناه: بسببِ أنَّك موصوفٌ بصفاتِ الكمالِ والجلال؛ سَبَّحَكَ الْمُسَبِّحون، وعَظَّمَكَ الْمُعَظِّمون، والله تعالى أعلم (3) .
وقوله: «يَتَأَوَّلُ القُرْآنَ»، معناه: يَمْتَثِلُ ما آلَ إليه معنى القرآنِ في قوله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح...} (4) ، وسيأتي الكلامُ عليها إن شاء الله تعالى (5) . =(2/88)=@
وقولها (6) : «بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ»، أي: بأبي أنتَ وأُمِّي مَفْدِيٌّ مِنَ المكاره، وهو كلامٌ يستعملونَهُ في محلِّ الْمَحَبِّةِ والمبالغةِ في الإكرامِ والاحترام، وقد صرَّحوا بذلك المعنى المقدَّر، فقالوا: «فَدَاكَ أبي وأمي»، «وجَعَلَني الله فَدَاكَ»، ويقولونه بكسرِ الفاءِ والمَدِّ والهمز، وبفتح الفاء والقصر.
87- وَعَنْهَا، قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ، فَالْتَمَسْتُهُ، فَوَقَعَتْ يَدِي على بَطْنِ قَدَمِهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ، وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ على نَفْسِكَ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ...» الحديث.
«اللَّهُمَّ» هي: «الله»، زِيدَ (7) عليها الميمُ عوضًا مِنْ حرف النداء؛ ولذلك لا يُجْمَعُ بينهما إلا في الشاذِّ؛ في قوله:
وَمَا عَلَيْكِ أَنْ تَقُولِي كُلَّمَا (8) ... سَبَّحْتِ أَوْ هَلَّلْتِ: يَا أَللَّهُمَا (9)
وقال آخر (10) :
إِنَّي إَذَا مَا حَدَثٌ أَلَمَّا ... أَقُولُ: يَا اللَّهُمَّ يَا اللَّهُمَّا (11)
هذا قولُ جمهور النحويين.
وقد قيل: معنى اللَّهُمَّ: يَا أَلله، أُمَّنَا بخيرٍ، فأُبِدلَ مِنْ همزة «أُمَّنَا» ميمٌ، وأُدْغِمَتْ في ميمِ أُمَّنَا، وهذا تحكُّمٌ (12) لا يشهدُ له دليلْ، ولا صحيحُ تعليلْ.
قال القاضي (13) - رضي الله عنه - : «رِضَا اللهِ» (14) وسَخَطُهُ، ومُعافاتُهُ، وعقوبتُهُ من صفاتِ أفعاله، فاستعاذَ (15) من المكروه منهما إلى الْمَحبوب، ومن الشر إلى الخير.
قال الشيخُ رحمه الله (16) : ثم ترقَى عن الأفعالِ إلى مُنْشِئ الأفعال، فقال: «وَبِكَ مِنْكَ»، =(2/89)=@ مشاهدةً للحق، وغَيْبَةً عن الخلق. وهذا محضُ المعرفةِ الذي لا (17) يُعَبِّر عنه قول، ولا تَضبِطُهُ صفة.
وقوله: «لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ»، أي: لا أطيقه، أي: لا أنتهي إلى غايته، &(2/70)&$
__________
(1) في (ح): «قررنا».
(2) انظر: صدر مقدِّمة الشارح في المجلد الأوَّل.
(3) زاد في (غ) بعد هذا: «بغيبه وأحكم».
(4) يعني: إلى آخر السورة،و والمراد: سورة النصر بكمالها.
(5) في آخر الكتاب، آخر كتاب التفسير، باب: ومِنْ سورة النصر.
(6) في (ب): «وقوله».
(7) في (أ): «زيدت».
(8) لم تتضح الكلمة جيدًا في مصورة (ح)، فأشبه أن تكون العبارة: «تقولي عنها».
(9) هذان بيتان من الرجز المشطور، وهذا الرجز مما لا يعرف قائله، وقد ورد بلا نسبة في "كتاب اللامات" (ص90)، و"تهذيب اللغة" (6/225)، و"أسرار العربية" (ص233)، و"الإنصاف، في مسائل الخلاف" (1/342، 345)، و"الزاهر، في معاني كلمات الناس" (1/51)، و"رصف المباني" (ص306)، و"خزانة الأدب" (2/296)، و"همع الهوامع" (3/287)، و"اللسان" (13/470»، و"جلاء الأفهام" لابن القيم (ص238)، و"المحررَّ الوجيز" لابن عطيَّة (1/417)، و"تفسير الطبريؤ" (3/221)، و"تفسير القرطبي" (4/53)، و"تفسير الثعالبي" (3/42).
ورواية الشارح: «يَا أَللَّهُمَا" بقطع الهمزة، وبتخفيف الميم لكثرة الاستعمال كما قال الزجاج. انظر: «اللسان" (13/370)، وهذه الروايةُ جَاءتْ أيضًا في بعض مصادر التخريج. وفي بعضها الآخر: «يَا اللَّهُمَّ مَا» بِوَصْلِ الهمزة، وتشديد الميم في آخر لفظ الجلالة، مع زيادة «مَا» بد «يا اللهم»، وقد استشهد الرضُّى بهذا الرجز على هذه اليزادة قليلاً.
والشاهد في البيت في قوله: «يَا أَللَّهُمَا» حيث جمع بين حرف النداء والميم في آخر الاسم الكريم، وهذا شاذٌّ وضرورة عند البصريين؛ لأن الميم عوض من حرف النداء، ولا يجمع بين العوض والمعوِّض منه إلا في ضرورة الشرع.
وقد ذهب إلى ذلك شيخُ المحقِّقين ابنُ مالك؛ فهو يقول في الخلاصة (الألفية):
والأَكْثَرُ اللَّهُمَّ بالتعويضِ ... وشَذَّ يا اللَّهُمَّ في قَرِيضِ
وقد زاد الكوفيُّون بعد هذين البيتين اللذين كرهما الشارح؛ كما في «خزانة ا الأدب»:
أُرْدُُ علينا شَيْخَنَا مُسَلَّمَا
من حَيْثُمَا وكَيْفَمَا وَأَيْنَمَا
فإِنَّنا مِنْ خَيْرِهِ لَنْ نُعْدَمَا
(10) ذكره ابن منظور أيضًا في الموضع السابق (13/471) هكذا:
إني إذا ما مُعْظَمٌ أَلَمَّا ... أقول: يا اللَّهُمَّ يا اللَّمَّا
ونسبه لقطرب . [يوجد هنا تخريج لبيت الشعر في ورقة أخرى مرفقة وهي ليست موجودة ضائعة]
(11) قوله: «وقال آخر ...» إلى هنا ليس في (ب) و(و) و(غ).
(12) في (ب): «الحكم».
(13) يعني: عياضًا، رحمه الله .
(14) قوله: «رضا الله» ليس في (أ).
(15) في (غ): «واستعاذ».
(16) في (أ): «قلت»، وقد نقل السيوطي كلام الشارح هنا بكماله حتى قوله: «سبحان من رضي في معرفته بالعجز عن معرفته». انظر: «شرح سنن النسائي» (1/103)
(17) في (غ) ضرب على قوله: «لا».(2/70)
ولَا أُحيِطُ بمعرفتهِ؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم - مُخْبِرًا عن حالِهِ فِي المقامِ المحمودِ حين يَخِرُّ تحت العَرْشِ بالسجود، قال: «فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا، إِلَّا أَنْ يُلْهِمَنِيهَا (1) ») (2) . وروي عن مالك: «لَا أُحْصِي نِعْمَتَكَ وَإِحْسَانَكَ والثَّنَاءَ عَلَيْكَ، وَإِنْ اجْتَهَدتُّ في ذَلِكَ».
والأَوَّل أولى؛ لما ذكرناه؛ ولقولِهِ في الحديثِ نفسه: «أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ على نَفْسِكَ»، ومعنى ذلك: اعترافٌ بالعجزِ عندما ظهَرَ له - مِنْ صفاتِ جلالِهِ تعالى وكمالِه ِوصَمَدِيَّتِه، وقُدُّوسِيَّتِهِ وعظمته، وكبريائِهِ، وجبروتِه- ما لا يُنْتَهَى إلى عَدِّه، ولا يوصلُ إلى حَدِّه، ولا يحصِّله عقل، ولا يحيطُ به فِكْر. وعند الانتهاءِ إلى هذا المقام، انتهَتْ معرفةُ الأنام؛ ولذلك قال الصِّدِّيقُ الأكبر:
أَلْعَجْزُ عَنْ دَرَكِ الإِدْرَاكِ إدْرَاكُ....... (3) . وروي عن بعض العارفين في تسبيحه: سبحانَ مَنْ رَضِيَ فَي معرفَتهِ، بالعجزِ (4) عن معرفَتهِ.
88- وَعَنْهَا (5) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: «سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، رَبُّ الْمَلائِكَةِ وَالرُّوحِ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، رَبُّ الْمَلائِكَةِ وَالرُّوحِ»، يقال: سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ - بضمِّ =(2/90)=@ السين والقاف وفَتْحِهِمَا (6) - مرفوعان على خبرِ المبتدأِ المُضْمَرِ، تقديرُهُ: أنتَ سُبُّوحُ قدُّوسُ، وقد قيلا (7) بالنصبِ فيهما على إضمارِ فعل، أي: أعظِّمُ، أو: أَذْكُرُ، أو: أَعْبُدُ (8) ، وعُدِلَا عن التسبيحِ، والتقديس (9) للمبالغة.
وقد تقدَّم معنى: «سبحان» (10) .
وأما «القُدُّوسُ»: فهو من القُدُسِ (11) ؛ وهي الطهارة، والقَدَسُ: السَّطْلُ الذي يُستقَى به، ومنه: البيتُ الْمُقَدَّسُ، أي: الْمُطَهَّر.
و: «رَبُّ المَلَائِكَةِ»، أي: مالكُهُمْ وخالقُهُمْ ورابُّهم (12) ، أي: مصلحُ أحوالهم.
وقد تقدَّم الكلامُ في «المَلَائِكَةِ» (13) .
«والرُّوحُ» هنا: جبريلُ - صلى الله عليه وسلم - ؛ كما قال : {نزل به الروح الأمين ( على قلبك} (14) ، وخَصَّهُ بالذِّكْرِ - وإنْ كان من الملائكة تشريفًا وتخصيصًا؛ كما قال تعالى : {من كان (15) عدوًّا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال (16) } (17) ، فخصَّهما بالذكر تشريفًا لهما. &(2/71)&$
__________
(1) في (ب): «يلهمنيها الله».
(2) هو حديثُ أنس المتقدِّمُ في كتاب الإيمان، باب شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن أُدْخِلَ النارَ من الموحدِّين.
(3) هذا صدر بَيْت من البسيط، وقد نُسبَ إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في "إحياء علوم الدين" (4/252، 305)، و"المقصد الأسنى" للغزالي (ص54)، و"التبصير في الدين" للإسفراييني (ص160)، و"طبقات الشافعيَّة" للسبكي (9/45، 829، و"غمز عيون البصائر" لا بن نجيم (2/203)، و"القوانين الفقهيَّة" لابن جزي (ص285)، و"البحر المحيط" للزركشي (1/368)، و"فيض القدير" (6/181)، و"روح المعاني" (9/124)، (17/202)، وهو بلا نسبة في "التفسير الكبيير" للرازي (25/92)، و"مرقاة المفاتيح" (1/404)، و(5/192).
وورد هذا الصدر مع عَجُزٍ له في "روح المعاني" (17/202)، ناسبًّا الصدر إلى أبي بكر، والعجز إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - ، والبيت بتمامه:
أَلَعْجُز عَنْ دَرَكِ الإدراكِ إدراكُ ... والبحثُ عن سِرِّ ذاتِ الله إشراكُ
وجاء هذا ابيتُ مع بيت بعده في ديوان علي - رضي الله عنه - ، وهما:
أَلَعْجُز عَن دَركِ الإدراكِ إدراكُ ... والبحثُ عن سِرِّ ذاتِ السِّرِّ إشراكُ
وفي سرائرِ هِمَّاتِ الوَرَى هِمَمٌ ... عن دَرْكِهَا عَجَزَتْ جِنٌّ وأملاكُ
وقد رَمَى ابنُ عربيٍّ الصوفيُّ مَنْ قال هذه المقالةَ مِنْ أصحابه، بالجهل، ورَدَّ عليه شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّةَ في "مجموع الفتاوى" (2/216)، فقال: «... وهذا الكلامُ مشهورٌ نسبته إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فجعله جاهلاً - وإنْ كان هذا اللفظُ لم يحفظْ عن أبي بكر، ولا هو مأثورٌ عنه في شيء من النقول المعتمدة، وإنما ذكَرَ ابنُ أبي الدنيا في كتابِ "الشكر" نحوًا من ذلك عن بعض التابعين غير مسمًّى، وإنما يُرْسلُ عنه إرسالاً مِن جهةِ مَنْ يكثُرُ الخطأُ في مراسيلهم ...».
(4) ورد هذا القول بنحوه منسوبًا أيضًا إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في «إحياء علوم الدين" (1/101، (4/305)، و"درء التعارض" لشيخ الإسلام ابن تيميَّة (8/511)، و"نَفْح الطِّيب" للتِّلِمْسَاني (5/286).
وجاء في الموضع اأول من "الإحياء»، وفي "نفح الطيب" بلفظ: «الحمد لله الذي لم يجعلْ للخَلْق سبيلاً إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته»، وفي الموضع الثاني من "الإحياء»، وفي "درء التعارض" بلفظ: «سبحان من لم يجلع للخلق طريقًا إلى معرفته، إلا بالعجز عن معرفته».
(5) أخرجه مسلم (1/353 رقم487) في الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود .
(6) في (أ): «وبفتحهما».
(7) يعني لفظتيْ: «سُبُّوح» و« قُدُّوس» في الحديث.
(8) هكذا نرى ضَبْطَ هذه الأفعال، على أنَّها أفعالٌ مضارعةٌ مسندةٌ للمتكلِّم، لكنَّ قوله: «اعبُدْ» هذكا ضُبِطَ في (أ)، ولعلَّه سهوٌ من الناسخ.
(9) المثبت من (ح)، وفي (أ) و(ب) و(غ): «والقدس»، وعليها إشارة في (ب)، وهناك عبارة في الهامش لم تتضح في التصوير يبدو أنها تصويب .
(10) في أوَّل هذا الباب.
(11) قوله: «فهو من القدس " سقط من (ح).
(12) قوله: «ورابّهم» في (ب): «ورازقهم».
(13) في كتاب: الإيمان، باب:
(14) سورة الشعراء، الآيتان: 193-194.
(15) في (أ): «قل من كان».
(16) المثبت من (ح) وفي باقي النسخ: «ميكايل» وهو وجه من القراءات حيث قرأ به نافع وقنبل وأبو جعفر "الميسر في القراءات الأربع عشرة" ص15.
(17) سورة البقرة ، الآية: 98.(2/71)
89- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ؛ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ».
وقوله: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ»: هذا قربٌ بالرُّتْبَةِ والكرامةِ، لا بالمَسَافةِ والمِسَاحة؛ إذ (2) هو مُنَزَّهٌ عن المكانِ والزمان (3) (4) .
90- وَعَنْهُ (5) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: «اللَّهُمَّ، اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ، دِقَّهُ وَجِلَّهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وَعَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «اللَّهُمَّ، اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ...» الحديثَ، فيه: دليلٌ على نسبةِ الذنوبِ =(2/91)=@ إليه (6) ،
وقد اختلَفَ الناسُ في ذلك:
فمنهم مَنْ يقول: الأنبياءُ كلُّهم معصومون من الكبائرِ والصغائر.
وذهبَتْ شِرْذمةٌ من الروافض: إلى تجويز كلِّ (7) ذلك عليهم، إلا ما يناقضُ مدلولَ المُعْجِزة؛ كالكَذِبِ والكُفْر.
وذهب المقتصدون: إلى أنَّهم معصومون عن الكبائرِ إجماعًا سابقًا خلافَ الروافض، ولا يُعْتَدُّ (8) بخلافهم؛ إذْ قد حكَمَ (9) بِكُفْرهم كثيرٌ من العلماء. وللكلامِ في هذه المسألةِ تصانيفُ قد دُوِّنَتْ (10) فيها.
**************
( 30 ) بَابُ التَّرْغيِبِ فِي كُثْرَةِ السُّجُودِ، وَ على كَمْ يَسْجُدُ ،
وَفِيمَنْ صَلَّى مَعْقُوصَ الشَّعْرِ
91- عَنْ مَعْدَانِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيِّ (11) ، قال:لَقِيتُ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللهُ بِهِ الْجَنَّةَ، أَوْ قَالَ: قُلْتُ: بِأَحَبِّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ. فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَال: «عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ فَإِنَّكَ لا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلا رَفَعَكَ اللهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً» قَالَ مَعْدَانُ: ثُمَّ لَقِيتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: لِي مِثْلَ مَا قَالَ ثَوْبَانُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله (12) في حديث ثوبان - وقد سئل عن أحَبِّ الأعمالِ إلى الله -، فقال: «عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ...» الحديث، دليلٌ على أنَّ كثرةَ السجودِ أفضلُ من طُولِ القيام، وهي مسألةٌ اختلَفَ العلماءُ فيها.
فذهبَتْ طائفةٌ: إلى ظاهرِ هذا الحديثِ.
وذهبَتْ طائفةٌ &(2/72)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/350 رقم482) في الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود .
(2) قوله: «إذ» سقط في (غ).
(3) في (أ): «عن الزمان والمكان».
(4) هذا مِنْ تأويلاتِ الشارح - عفا الله عنا وعنه - التي سبَقَ التنبيهُ عليها في المقدِّمة وفي عدة مواضع . والصوابُ أن نصوصَ الصفاتِ تُمَرُّ كما جاءتْ، فنثبِتُ أنه سبحانه يَقْرُبُ من عبده متى شاء كيف شاء، ولا نأتي بهذا النفي المفصَّل: «منزَّهٌ عن الزمان والمكان " وغيره، إلا إذا دلَّ عليه الدليلُ الشرعيّ. [يراجع هذا التعليق العقدي]
(5) أخرجه مسلم (1/350 رقم483) في الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود .
(6) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(7) قوله: «كل " ليس في (ح).
(8) قوله: «ولا يعتد» في (أ) و(غ): «إذ لا يعتد».
(9) قوله: «حكم» في (غ): «يحكم».
(10) قوله: «دوّنت» في (غ): «مدونة».
(11) أخرجه مسلم (1/353 رقم488) في الصلاة، باب فضل السجود والحث عليه .
(12) في (ح): «قوله».(2/72)
أخرى: إلى أنَّ طُولِ القيام أفضلُ؛ متمسِّكين بقوله - صلى الله عليه وسلم - : «أَفضَلُ =(2/92)=@ الصَّلَاةِ طُولُ القُنُوتِ» (1) ، وفَسَّروا (2) القنوتَ بالقيامِ كما قال تعالى : {وقوموا لله قانتين} (3) . ذَكَرَ هذه المسألةَ والخلافَ فيها الترمذيُّ (4) ، والصحيحُ مِنْ فعل النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يطوِّلُ في قيامِ صلاةِ الليلِ (5) ، ودام (6) على ذلك إلى حِينِ مَوْتِهِ (7) (8) ، فدَلَّ على أنَّ طُولَ القيامِ أفضلُ. ويَحْتمِلٌ أن يُقال: إنَّ ذلك يَرْجِعُ إلى حالِ المصلِّي؛ فربَّ مُصَلٍّ يحصل له في حال القيام من الحضور والتدبر والخشوع ما لا يحصل له في السجود، ورب مصلٍّ يحصل له في السجود من ذلك ما لا يحصل له في القيام (9) ، فيكون الأفضل في حقه: الحال التي حصل له فيها ذلك المعنى الذي هو روح الصلاة، والله أعلم.
92- وَعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الأَسْلَمِيِّ (10) ، قال:كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي: «سَلْ» فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟» قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: «فَأَعِنِّي علىنَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث ربيعة: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟»؛ رُوِّيناه بإسكانِ الواو من "أَوْ"، ونصبِ "غيرَ"، أي: أو: سلْ غير ذلك؛ كأنه حَضَّه على سؤالِ شيءٍ آخَرَ غير مرافقته؛ =(2/93)=@ لأنه فَهِمَ منه أنه يطلُبُ المساواةَ (11) معه في درجتِهِ، وذلك ما لا ينبغي (12) لغيره، فلمَّا قال الرجلُ: «هو ذاك» (13) ؛ قال له: «أَعِنِّي على نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ»، أي: الصلاةِ؛ ليزدادَ من القربِ ورفعةِ الدرجات، حتى يَقْرُبَ مِنْ منزلته، وإن لم يُساوِهِ فيها. ولا يعترض هذا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه حذيفة ليلة الأحزاب: «ألا رجل يأتيني بخبر القوم؛ جعله الله معي يوم القيامة» (14) ؛ لأن هذا مثل قوله تعالى : {فأولئك مع (15) الذين أنعم الله عليهم} (16) الآية؛ لأن هذه الْمَعِيَّة هي النجاة من النار، والفوز بالجنة، إلا أن أهل الجنة على مراتبهم ومنازلهم بحسب أعمالهم &(2/73)&$
__________
(1) هو حديث جابر الآتي برقم (638).
(2) قوله: «فسروا» في مكانه بياض في (غ).
(3) سورة البقرة، الآية: 238.
(4) في "جامعه" (2/233) في الصلاة، باب ما جاء في كثرة الركوع والسجود وفضله .
(5) كما سيأتي في الباب رقم (110)؛ باب ترتيل القراءة، والجهر في صلاة الليل وتطويلها .
(6) في (ح): «وداوم».
(7) في (ب): «حين توفي».
(8) قوله: «ودام على ذلك إلى حين موته " كما تدل عليه الأحاديث الآتية في الباب رقم (102 كتاب الصلاة، باب في صلاة النفل قائمًا وقاعدًا .
(9) قوله: «ورب مصلٍّ..» إلى هنا ليس في (أ).
(10) أخرجه مسلم (1/353 رقم489) في الصلاة، باب فضل السجود والحث عليه .
(11) في (أ): «المواساة».
(12) في (ب): «مما لا ينبغي».
(13) المثبت من (أ) وفي بقية النسخ: «ذلك».
(14) هو حديث حذيفة الآتي برقم (1309)؛ في كتاب الجهاد، باب في التحصين بالقلع والخنادق عند الضعف عن مقاومة العدو، وطرف من غزوة الأحزاب .
(15) قوله: «مع» سقط من (غ).
(16) سورة النساء، الآية: 69.(2/73)
وأحوالهم. وقد دلّ على هذا نصًّا (1) : قوله - صلى الله عليه وسلم - : «المرء مع من أحب وله ما اكتسب» (2) .
93- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (3) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:«أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ على سَبْعَةِ أَعْظُمٍ الْجَبْهَةِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْفِهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ وَلا نَكْفِتَ الثِّيَابَ وَلا الشَّعْرَ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله (4) : «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة - وأشار بيده على أنفه-»؛ هذا (5) يدل على أن الجبهة الأصل (6) في السجود، وأن الأنف تبع. وقد اختلف العلماء فيمن اقتصر على أحدهما دون الآخر على ثلاثة أقوال: الإجزاء ونَفْيُهُ والتفرقة؛ فإن اقتصر على الجبهة أجزأه، وإن اقتصر على الأنف لم يُجْزِه، وهو مشهور مذهبنا. وقد سَوَّى في هذا الحديث في الأمر بكيفية السجود بين الوجه، واليدين، والركبتين، والقدمين، فدلّ هذا الظاهر على أن من أخَلَّ بعضو من تلك الأعضاء مع تمكُّنِه من ذلك لم يفعل السجود (7) المأمور به.
وقوله: «ولا نكفتَ الشعر ولا الثياب»: الكَفْتُ: الضَّمُّ، وكذلك الكَفُّ =(2/94)=@ أيضًا، ومنه : {ألم نجعل الأرض كفاتًا} (8) . وظاهر هذا الحديث يقتضي: أن الكَفْتَ المنهيَّ عنه إنما هو في حال الصلاة، وذلك لأنه شغل في الصلاة لم تُرْهِقْ (9) (10) إليه حاجة، أو لأنه يرفع شعره وثوبه عن (11) مباشرة الأرض في السجود فيكون كبرًا. وذهب الداودي (12) : إلى أن ذلك لمن فعله في الصلاة (13) . قال عياض: ودليل الآثار وفعل الصحابة يخالفه.
94- وَعَنْهُ (14) ؛ أَنَّهُ رَأَى عَبْدَاللهِ بْنَ الْحَارِثِ يُصَلِّي وَرَأْسُهُ مَعْقُوصٌ مِنْ وَرَائِه،ِ فَقَامَ فَجَعَلَ يَحُلُّهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: مَا لَكَ وَرَأْسِي فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:«إِنَّمَا مَثَلُ هَذَا مَثَلُ الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مَكْتُوفٌ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"والشعر الْمَعْقُوص": هو المضفور المربوط، وحلُّ عبدِالله بن عباس عَقِيصَةَ (15) عبدالله بن الحارث في الصلاة دليل على تغليظ المنع من ذلك. ولم يأمره بالإعادة، وهو مجمع عليه؛ على ما حكاه الطبري (16) . وقد حكى ابن المنذر (17) فيه الإعادة عن الحسن البصري وحده (18) ، وذلك - والله أعلم - لما جاء: أن الشعر يسجد معه، ولهذا مَثَّلَهُ بالذي يصلي وهو مكتوف. =(2/95)=@ &(2/74)&$
__________
(1) في (ب) و(ح): «أيضًا».
(2) الحديث في الصحيحين كما سيأتي في آخر كتاب البر والصلة برقم (2571)، لكن بلفظ: «المرء مع من أحب»، وليست فيه هذه الزيادة: «وله اكتسب». وأما بهذا السياق الذي ذكره المصنِّف، فهو عند الترمذي (4/514 رقم2386) في الزهد، باب ما جاء أن المرء مع من أحب، من طريق أبي هشام الرفاعي، عن حفص بن غياث، عن أشعث، عن الحسن، عن أنس، به .
وسنده ضعيف، فالراوي عن الحسن البصري هو أشعث بن سَوَّار، وهو ضعيف كما في "التقريب" (524)، وأبو هشام الرافعي هو محمد بنه يزيد بن محمد بن كثير، وليس بالقوي كما في "التقريب" (6402).
وقد أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (3/226 طريق مبارك بن فضالة، عن الحسن، به، فقال: «ولك ما احتسبت»، وهذه مخالفة للرواية السابقة، وهي أولى بالقبول منها، إلا أن الحسن البصري مدلِّس، ولم يصرح بالسماع، وأما مبارك بن فضالة، فقد صرح بالسماع.
(3) أخرجه البخاري (2/295، 279، 297، 299 رقم 809، 810، 812، 815 ، 816) في كتاب الأذان، باب السجود على سبعة أعظم، وباب السجود على الأنف، وباب لا يكف شعرًا، وباب لا يكف ثوبه في الصلاة، ومسلم (1/354 رقم490) في الصلاة، باب أعضاء السجود والنهي عن كف شعر والثوب وعقص الشعر الرأس في الصلاة.
(4) في (غ): «قوله» بلا واو.
(5) في (ح): «وهذا». ... ... ...
(6) في (ح): «أصل».
(7) قوله: «السجود» سقط من (غ).
(8) سورة المرسلات، الآية: 25.
(9) في (غ): «لم تدع».
(10) أي: لم تُلْجِئ إليه الحاجة . انظر "لسان العرب" (10/129).
(11) في (ح): «من».
(12) في (ب): «الراوي».
(13) في (غ): «للصلاة» بدلاً من: «في الصلاة». [يراجع الاختيار فالذي في شرح النووي «للصلاة» وكذا شرح العيني على أبي داود كتبه أبو حمزة].
(14) أخرجه مسلم (1/355 رقم492) في الصلاة، باب الاعتدال في السجود ووضع الكفين على الأرض ورفع المرفقين عن الجنبين ورفع البطن عن الفخذين في السجود .
(15) في (ح): «ضفيرة».
(16) أي: ابن جرير، كما في "شرح النووي (4/208).
(17) في "الأوسط" (3/184) حيث قال: «واختلفوا فيما يجب على من فعل ذلك، فكان الشافعي وعطاء يقولان: لا إعادة عليه، وكذلك أحفظ عن كل من لقيته من أهل العلم، غير الحسن البصري فإنه كره ذلك وقال: عليه إعادة تلك الصلاة».
(18) قوله: «وحده " سقط من (ح).(2/74)
**************
( 31 ) باب كيفية السجود
95- عَنْ أَنَسٍ (1) ، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ، وَلا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب كيفية السجود
قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس - رضي الله عنه - : «ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب»؛ انبساط: مصدر على غير (2) مصدر (3) يَبْسُطُ (4) ، لكن لما كان «انْبَسَطَ» (5) من «بَسَطَ»؛ جاء المصدر عليه؛ كقوله : {والله أنبتكم من الأرض نباتًا} (6) ، كأنه قال: أنبتكم، فَنَبَتُّمْ نباتًا.
96- وَعَنِ الْبَرَاءِ (7) ، قال:قَالَ: رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سَجَدْتَ فَضَعْ كَفَّيْكَ، وَارْفَعْ مِرْفَقَيْكَ».
97- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ (8) ، قال:«كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا سَجَدَ يُجَنِّحُ فِي سُجُودِهِ حتى يُرَى وَضَحُ إِبْطَيْهِ». وَفِي رِوَايَةٍ : كَانَ إذا سَجَدَ فَرَجَ يَدَيهِ عَنْ إبِطَيهِ، حتى إنِي لأرَى بَيَاضَ إبِطَيهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومثل هذا الحديث نهيه - صلى الله عليه وسلم - أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السَّبُعِ (9) ، ولا شك في كراهة هذه الهيئة، ولا في استحباب نقيضها، وهي التَّجنيح المذكور في الأحاديث بعد هذا من فعليه (10) - صلى الله عليه وسلم - ، وهو التَّفْرِيج والتَّخْوِيَة. والحكمة في كراهة (11) تلك (12) واستحباب هذه: أنه إذا جَنَّح كان اعتماده على يديه فيخفّ اعتماده على (13) وجهه، ولا يتأثر أنفه، ولا جبينه، ولا يتأذَّى بملاقاة الأرض، فلا يَتَشَوَّش (14) في الصلاة، بخلاف ما إذا بسط يديه فإنه يكون &(2/75)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (2/15 رقم 532) في مواقيت الصلاة، باب المصلي يناجي ربه عزَّ وجلَّ، ومسلم (1/355 رقم493) في الصلاة، باب الاعتدال في السجود ووضع الكفين على الأرض ورفع المرفقين عن الجنبين ورفع البطن عن الفخذين في السجود .
(2) قوله: «غير " سقط من (ح).
(3) لأن «انبساط» مصدر للفعل «انبسط» الخماسي، أما «يَبْسُطُ»، فهو فعل ثلاثي، مصدره: «بسطًا»، والمثبت من (غ)، وفي باقي النسخ: «على غيره صدر».
(4) راجع مخطوطات.
(5) في (غ): «انبساط».
(6) سورة نوح، الآية: 17.
(7) أخرجه مسلم (1/356 رقم494) في الصلاة، باب الاعتدال في السجود .
(8) عمرو بن الحارث ليس صحابيًّا، وصحابي هذا الحديث هو عبدالله بن مالك بن بُحَيْنة، وعمرو بن الحارث يروي عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، عن عبدالله بن مالك بن بحينة، وهذا لفظ روايته، واللفظ الآتي لرواية الليث بن سعد .
والحديث أخرجه البخاري (1/496 رقم 390) في كتاب الصلاة، باب يبدي ضبعيه ويجافي في السجود، و(2/294 رقم807) في كتاب الأذان، باب يبدي ضبعيه ويجافي في السجود، و(6/567 رقم3564) في كتاب المناقب، باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومسلم (1/356 رقم495) في الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة، وما يفتتح به ويختتم به .... .
(9) هو حديث عائشة الآتي قريبًا برقم (397).
(10) في (أ): «مِنْ فعليه».
(11) في (ب) و(ح): «كراهية».
(12) في (أ): «تلك المسألة».
(13) في (أ): «عن».
(14) في (ح): «يتشوش هو».(2/75)
اعتماده على وجهه، وحينئذٍ (1) يتأذى، ويُخاف عليه التشويش. ووقع في رواية السمرقندي: =(2/96)=@ «يَجْنَحُ»، مُخَفَّفًا، ولا معنى له، بل الصواب (2) التشديد.
98- وَعَنْ مَيْمُونَةَ (3) زَوْجِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا سَجَدَ خَوَّى بِيَدَيْهِ – يَعْنِي: جَنَّحَ - حتى يُرَى وَضَحُ إِبْطَيْهِ مِنْ وَرَائِهِ. وَإِذَا قَعَدَ اطْمَأَنَّ على فَخِذِهِ الْيُسْرَى. قَالَ وَكِيعٌ في - وَضَحُ الإِبْطَيْنِ-: يَعْنِي بَيَاضَهُمَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و "وضح الإبطين ": بياضهما. وهذا إنما كان يُبْصَرُ منه ذلك (4) إذا كان في ثوب يلتحف به (5) ، ويعقد طرفيه من خلفه (6) ، فإذا سجد جافى عضديه عن إبطيه فيرى وضحهما. ويحتمل أن يريد الراوي: موضع وضحهما لو لم يكن عليه ثوب، والله أعلم.
99-وعَنْ مَيْمُونَةَ (7) ، قَالَتْ: كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إِذَا سَجَدَ لَوْ شَاءَتْ بَهْمَةٌ أَنْ تَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول ميمونة: «كان - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد لو شاءت بَهْمَة أن تمرّ بين يديه»، كذا صحَّت الرواية محذوف جواب " لو " للعلم به. فكأنه قال: «لَمَرَّت ". والبهمة: من أولاد الغنم (8) ، يقال ذلك للذكر والأنثى، وجمعه (9) : بَهْم، قاله أبو عبيد في "غريبه". وقال ابن خالويه: وجمع البهم بِهَام. &(2/76)&$
__________
(1) في (ب): «فحينئذ».
(2) في (غ): «له والصواب».
(3) أخرجه مسلم (1/357 رقم497) ومسلم (1/356 رقم495) في الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة، وما يفتتح به ويختتم به ... .
(4) قوله: «ذلك» ليس في (غ).
(5) قوله: «به» ليس في (ب).
(6) قوله: «خلفه " سقط من (ب)، وفي (ح) سقط من (ب).
.
(7) أخرجه مسلم (1/357 رقم496) في الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة، وما يفتتح به ويختتم به ... .
(8) في (ح): «الضأن».
(9) في (غ): «وجمعها».(2/76)
وهذا الحديث يدل على شدة رفع بطنه عن الأرض وتجنيحه. وهذا كلُّه (1) حكم الرجال. فأما النساء، فحكمهن عند مالك حكم الرجال، إلا أنه يستحب لهن =(2/97)=@ الانضمام والاجتماع، وخيَّرهن الكوفي (2) في الانفراج والانضمام. وذهب بعض السلف إلى أن سُنَّتهن التربُّع (3) . وحكم الفرائض والنوافل في هذا سواء.
**************
( 32 ) بَابُ تَحْرِيمُ الصَّلَاةِ التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُها التَّسْلِيمُ
100- عَنْ عَائِشَةَ (4) ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ، وَالْقِرَاءَةَ {بالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وَكَانَ إِذَا رَكَعَ، لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ، وَلَمْ يُصَوِّبْهُ، وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ، وَكَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، لَمْ يَسْجُدْ حتى يَسْتَوِيَ قَائِمًا، وَكَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ،0 لَمْ يَسْجُدْ حتى يَسْتَوِيَ قاعدًا، وَكَانَ يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ، وَكَانَ يَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى، وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ، وَيَنْهَى أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ، وَكَانَ يَخْتِمُ الصَّلَاةَ بِالتَّسْلِيمِ، وَفِي رِوَايَةٍ: وكَانَ يَنْهَى عَنْ عَقِبِ الشَّيْطَانِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنْ بَابِ تَحْرِيُم الصَّلَاةِ التَّكْبِيُر، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ
هذه الترجمةُ هي نصُّ حديث عليٍّ الصحيحِ (5) الذي خرّجه أبو داود (6) ، وحديث عائشة موافق له بالفعل.
وفي حديث عائشة (7) : ردٌّ على أبي حنيفة؛ حيثُ لا يَشْتَرِطُ في الدخول في الصلاة التكبيرَ.
وفيه أيضًا: ردٌّ على الشافعيِّ؛ حيثُ يرى أنَّ =(2/98)=@ البَسْملةَ من الفاتحة، وأنَّها لابدَّ مِنْ قرِاءتها في الصلاة في أوَّل الفاتحة (8) ؛ لأنَّ عائشةَ قالتْ: «كَانَ (9) يَفْتَتَحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ، وَالْقِرَاءَةَ {بالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}»، وهذا إنما يتضح إذا خفضنا «القراءة»؛ عطفًا على «بالتكبير» (10) ، كما (11) اختاره بعضُ من لقيناه، وقد قيَّدته بالنصبِ؛ عطفًا على «الصلاة» عن غيره (12) ، ويكون فيه أيضًا حُجَّةٌ على الشافعيِّ، إلا أن الوجه الأول أوضحُ، فتأمّله.
و قولها: «لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ، وَلَمْ يُصَوِّبْهُ»، تعني: لم يرفعْ رأسَهُ بحيثُ يُرى له (13) شخصٌ (14) ، ولم يُنَزِّلْهُ، وهو من: صَابَ يَصُوبُ؛ إذا نَزَلَ.
وفيه حُجَّةٌ لمالك؛ &(2/77)&$
__________
(1) 7 ) في (أ) و(ب) و(ح): «كل».
(2) يعني أبا حنيفة رحمه الله .
(3) في (ح): «التربيع»، وفي (غ): «الربع».
(4) أخرجه مسلم (1/357 رقم498) في الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة، وما يفتتح به ويختتم به ... .
(5) قوله: «الصحيح» ليس في (ب).
(6) تقدم تخريجه في كتاب: الصلاة، باب: التكبير في الصلاة.
(7) في (ح): «وفي هذه الترجمة».
(8) في (ح): «من قراءتها في أول الصلاة».
(9) في (غ): «كانت».
(10) في (ح): «التكبير».
(11) في (ب): «كذا».
(12) يعني: عن غير هذا البعض الذي لقينا.
(13) قوله: «له» وفي (ح): «أنه».
(14) في (غ): «بحيث يرى الشخص».(2/77)
على مختاره من كيفيَّة الجلوسِ في الصلاة.
وفيه حجة ٌ على من لم يوجب الاعتدالَ في الرفع من السجود (1) .
وفيه: دليلٌ على مشروعيَّةِ التشهدَيْنِ في الصلاة:
وجمهورُ الفقهاءِ: على أنهما سُنَّتان، وليسا بواجبَيْنِ (2) .
إلَا أحمدَ بنَ حنبلٍ وطائفةً من أصحاب الحديث.
وقد رُوِيَ عن الشافعي: أن التشهد (3) الأخير واجب، وروى أبو مصعب نَحْوَ ذلك عن مالك.
ومستندُ الجمهورِ: كونُ (4) النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - سها عن الجلوسِ والتشهُّد (5) ، فاجتزَأَ عنه بسجودِ السهو (6) .
وقولها: «وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ (7) الشَّيْطَانِ»، وفي رواية: «عَنْ عَقِبِ الشَّيْطَانِ»؛ قال الهرويُّ، عن أبي عُبَيْد: «عَقِب الشيطانِ: هو أن يضع أَلْيَتَيْهِ (8) على عَقبَيْهِ بين السجدتَيْنِ، وهو الذي يجعله بعضُ الناس «الإقعاء» (9) ، وسيأتي في حديثِ ابن عباس (10) . =(2/99)=@ وروي عن الطبريِّ (11) : «عُقَب» بضم العين وفتح القاف، وهو جمع عُقْبَة، كُغْرفَةٍ وغُرَفٍ (12) ، والْمُحدِّثون يقولون: عَقِب، بفتح العين، وكسر القاف (13) .
وقولها (14) : «وكان يختم الصلاة بالتسليم ": حجّة على أبي حنيفة والأوزاعي والثوري؛ حيث لم يشترطوا في الخروج من الصلاة السلام (15) ، وحديث علي (16) جَلِيٌّ في المسألة كما قدمناه. &(2/78)&$
__________
(1) يعني: الحنفيَّة . [يوثق من كتب فقه الحنفية]
(2) في (ح): «بواجبتين».
(3) في (غ): «أن هذا التشهد».
(4) في (غ): «كان».
(5) في (ب): «في التشهد».
(6) كما سيأتي في حديث عبدالله بن بُحَيْنة في كتاب: الصلاة، باب: لأمر بسجود السهو، وما جاء فيمن سها عن الجلسة الوسطى، وهو حديث متفق عليه .
(7) في (أ): «عقية».
(8) في (غ): «إليته».
(9) «الغريبين» للهروي (4/1305)، و"غريب الحديث" لأبي عبيد (2/109)، وانظر: «الحقائق" (3/11)، و"غريب ابن الجوزي" (2/111)، و"النهاية" (3/268)، و"اللسان" (1/611)، و"المصباح المنير" (2/419)، وجمعُ العَقِبِ: أعقابٌ وأعقُبٌ، وقد زادوا في "الفائق" و"النهاية" و"اللسان" تفسيرًا آخر للنهي عن عقب الشيطان، قالوا: «وقيل: أن يترك عَقِبَيْه غير مغسولتين الوضوء».
(10) هو الحديث الآتي في كتاب: الصلاة، في الباب الذي يلي باب التطبيق في الركوع، وما ثبت من نسخته.
(11) في "الإكمال" للقاضي عياض (1/ل97/1): «وروينا من طريق الطبري»، فنقله الشارح هنا عنه مع بعض التصرُّف .
(12) قال في "المصباح المنير" (2/421)، «العُقْبَةُ: النَّوْبة، والجمع: عُقَبٌ، مثل: غُرْفَةٍ وغُرَف، وتعاقبوا على الراحلة: ركب كل واحدٍ عُقْبَةً».
(13) زاد في (ح) في هذا الموضع: «وهو جمع عقبها».
(14) قوله: «وقولها " سقط من (ح).
(15) في (ح) و(غ): «التسليم».
(16) يعني الذي سبقتِ الإشارةُ إليه أوَّل البابِ، وفيه: «وتحليلها التسليم».(2/78)
( 33 ) باب في سترة المصلي وأحكامها
101- عنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ (1) ؛ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي وَالدَّوَابُّ تَمُرُّ بَيْنَ أَيْدِينَا، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ:«مِثْلُ مُؤَخِرَةِ الرَّحْلِ تَكُونُ بَيْنَ يَدَيْ أَحَدِكُمْ، ثُمَّ لا يَضُرُّهُ مَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ».
وَفِي رِوَايَةٍ:«مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ».
102- وَعَنْ عَائِشَةَ (2) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ عَنْ سُتْرَةِ الْمُصَلِّي فَقَال:«كَمُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ».
103- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ (3) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ أَمَرَ بِالْحَرْبَةِ فَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيُصَلِّي إِلَيْهَا، وَالنَّاسُ وَرَاءَهُ. وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ. فَمِنْ ثَمَّ اتَّخَذَهَا الأُمَرَاءُ.
104- وَعَنْهُ (4) ، قال:كَانَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْرِضُ رَاحِلَتَهُ وَيُصَلِّي إِلَيْهَا.
وَفِي رِوَايَةٍ: أنهُ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى إِلَى بَعِيرٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب سترة المصلي
قوله: «مِثْلُ (5) مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ»؛ هو العود الذي يكون في آخر الرحل؛ بضم الميم، وكسر الخاء، قاله أبو عبيد. وحكى ثابت فيه (6) فتح الخاء، وأنكره ابن قتيبة، =(2/100)=@ وأنكر ابن مَكِّي أن يقال: مُقْدِم أو مُؤْخِر بالكسر إلا في العين خاصة، وغيره بالفتح. ورواه بعض الرواة : مؤَخّرة (7) بفتح الواو وشدّ الخاء.
وقدر السترة عند مالك: الذراع في غلظ الرمح التفاتًا لهذا الحديث، وإلى صلاته - صلى الله عليه وسلم - إلى العنزة (8) . وهي من فضائل الصلاة ومستحباتها عند مالك. وحكمتها: كَفُّ البصر والخاطر عما وراءها (9) . ثم فيها كَفٌّ عن دُنُوِّ (10) .ما يشغله من خاطر، ومنصرف مشوِّش (11) .
وانفرد أحمد بن حنبل بإجزاء الخط سترة؛لحديث رواه لم يصحّ عند غيره (12) . وكونه - صلى الله عليه وسلم - يعرض راحلته ويصلي إليها دليل على جواز التستِّر بما يثبت من الحيوان، وأنها ليست بنجسة البول ولا الرَّوْث. ولا يعارضه النهي عن الصلاة في معاطن الإبل (13) ؛ لأن المعاطن مواضع إقامتها عند الماء واستيطانها، وإذ ذاك تكره الصلاة فيها، إما لشدّة زفورتها (14) ونَتَنِها، وإما لأنهم كانوا يتخلّون بينها مستترين (15) بها. =(2/101)=@
105 - وَعَنْ عَوْن بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ (16) ، قال:أَتَيْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - بِمَكَّةَ وَهُوَ بِالأَبْطَحِ فِي قُبَّةٍ لَهُ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ. قَالَ: فَخَرَجَ بِلالٌ بِوَضُوئِهِ، فَمِنْ نَائِلٍ وَنَاضِحٍ. قَالَ: فَخَرَجَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ سَاقَيْهِ. قَالَ: فَتَوَضَّأَ. وَأَذَّنَ بِلالٌ. قَالَ: فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ فَاهُ هَا هُنَا وَهَا هُنَا، يَقُولُ يَمِينًا وَشِمَالاً. يَقُولُ: حَيَّ على الصَّلاةِ، حَيَّ على الْفَلاحِ. قَالَ: ثُمَّ رُكِزَتْ لَهُ عَنَزَةٌ، فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ الْحِمَارُ وَالْكَلْبُ، لا يُمْنَعُ. ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، حتى رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: فَرَأَيْتُ النَّاسَ يَبْتَدِرُونَ ذَلِكَ الْوَضُوءَ، فَمَنْ أَصَابَ مِنْهُ شَيْئًا تَمَسَّحَ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يُصِبْ مِنْهُ أَخَذَ مِنْ بَلَلِ يَدِ صَاحِبِهِ. ثُمَّ رَأَيْتُ بِلالاً أَخْرَجَ عَنَزَةً فَرَكَزَهَا، وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مُشَمِّرًا فَصَلَّى إِلَى الْعَنَزَةِ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ، وَرَأَيْتُ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيِ الْعَنَزَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث أبي جُحَيْفَةَ: «بالأبطح»؛ هو موضع خارج مكة، قريبًا منها. والأَدَمُ: الْجِلْدُ. والوَضَوء - بالفتح -: الماء (17) الذي يُتَوضَّأَ به، وبالضَّمِّ: الفعل. &(2/79)&$
__________
(1) أخرجه مسلم (1/358 رقم499) في الصلاة، باب سترة المصلي .
(2) أخرجه مسلم (1/359 رقم500) في كتاب الصلاة، باب سترة المصلي .
(3) أخرجه البخاري(1/573رقم494)في الصلاة،باب سترة الإمام سترة من خلفه، و(2/ 463 رقم972، 973) كتاب العيدين، باب الصلاة إلى الحربة يوم العيد، وباب حمل العنزة أو الحربة بين يدي الإمام يوم العيد، ومسلم (1/359 رقم501) في الصلاة، باب سترة المصلي.
(4) أخرجه البخاري (1/527، 580 رقم430، 507) في الصلاة، باب الصلاة في مواضع الإبل، وباب الصلاة إلى الراحلة والبعير والشجر والرّحل، ومسلم (1/359 رقم502) في الصلاة، باب سترة المصلي .
(5) قوله: «مثل» ليس في (غ).
(6) في (ح): «فيها».
(7) قوله: «عن دنو» ليس في (أ) وهي زيادة موجودة في "الإكمال" (1/ل97/أ).
(8) انظر الحديث الآتي قريبًا برقم (402).
(9) المثبت من (أ) وفي (ب): «وراءها بذلك»، وفي (ح) و(غ): «وراءها لذلك».
(10) قوله: «مؤخرة» ليس في (أ) وهو موجود أيضًا في "الإكمال".
(11) كذا جاءت العبارة في (أ) و(ح) ! وفي (ب): «ومنظر ومشوش " ! وفي "إكمال المعلم" (1/ل97/أ): «وتصرِّف منه يشوِّش عليه صلاته»، ويظهر أن هذا أصوب .
(12) هو حديث ضعيف أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (2/249) وغيرُه من طريق إسماعيل بن أمية، عن أبي محمد بن عمرو بن حريث، عن جدِّه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - :«إذا صلّى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئًا، فإن لم يجد شيئًا فلينصب عصًا، فإن لم يكن معه عصًا، فليخُطَّ خطًّا، ولا يضرّه ما مر بين يديه»، وللعلماء كلام طويل عن هذا الحديث، انظره في تعليق الشيخ أحمد شاكر على "المسند" (13/123-126 رقم7386)، وخلاصة ما أُعِلّ به الحديث :
1 - الاضطراب في اسم شيخ إسماعيل بن أمية وكنيته، وهل روايته عن أبيه ؟ أو عن جده ؟ أو عن أبي هريرة بلا واسطة ؟ وعدّه ابن الصلاح وغيره مثالاً للحديث المضطرب، واعترض عليه الحافظ ابن حجر في "النكت" (2/772-773)، فانظره إن شئت .
2- جهالة أبي محمد بن عمرو بن حريث شيخ إسماعيل كما في "التقريب" (7335).
وهذه هي العلة التي يمكن أن يُردَّ بها الحديث على فرض التسليم بأن الاضطراب غير مؤثر .
(13) كما في حديث جابر بن سمرة المتقدم في كتاب الطهارة، باب سترة المصلي برقم (285).
(14) في (ح): «زفورها».
(15) في (ب) و(ح): «مسترين»، والمثبت من (أ)و(غ)، وكذا نقله الحافظ ابن حجر في "الفتح" (1/580) عن المصنِّف .
(16) أخرجه البخاري (1/294 رقم187) في كتاب الوضوء، باب استعمال فضل وضوء الناس، و(1/485، 573، 575، 576 رقم376، 465، 499، 501) في كتاب الصلاة، باب الصلاة في الثوب الأحمر، وباب سترة الإمام سترة من خلفه، وباب الصلاة إلى العنزة، وباب السترة بمكة وغيرها، و(2/112، 113 رقم633، 634) في كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة، و(6/565، 567 رقم3553، 3566) في كتاب المناقب، باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و(10/256، 313 رقم5786، 5859) في كتاب اللباس، باب التّشمُّر في الثياب، وباب القبة الحمراء من أَدَم، ومسلم (1/360 رقم503) في الصلاة، باب سترة المصلي .
(17) قوله: «الماء» سقط من (غ).(2/79)
وقد قيل. هما لغتان فيهما. والنَّائِل (1) : الآخذ، والنَّاضِح: الْمُتمسِّح بالماء؛ كما قال في الرواية الأخرى مفسَّرًا به (2) .
وقوله: «فجعلت أتتبع فاه يمينًا وشمالاً؛ يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح»؛ حجّة على جواز استدارة المؤذِّن للإسماع، كما هو مذهب مالك. غير أن الشافعي منع من الاستدارة بجميع جسده، واختار ملازمة المؤذِّن القبلة، فإن استدار، فبوجهه كما جاء في ظاهر هذا (3) الحديث. والعَنَزَةُ: الْحَرْبَةُ. والْحَلَّةُ: كل ثوبين لم يكونا لفقين (4) ؛ كقميص (5) ورداء، أو إزار ورداء. =(2/102)=@
وقوله: «بين يديه"؛ يفسِّره (6) ما جاء في الرواية الأخرى : "بين يدي العَنَزة"؛ يريد: أمامها. وفي رواية: «يَمُرّ من ورائها المرأة والحمار" (7) ، لا يمنع، يعني: أمامها. ووراء من الأضداد؛ كما قال تعالى : {وكان وراءهم ملِك} (8) ، أي: أَمَامَهم.
واختُلف (9) هل سترة الإمام نفسها سترة لمن خلفه؟ أو هي سترة له خاصة، والإمام سترتهم (10) ؟ وسيأتي الكلام على ما يقطع الصلاة.
106- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (11) ، قال:أَقْبَلْتُ رَاكِبًا على أَتَانٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاحْتِلامَ، وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى. فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيِ الصَّفِّ، فَنَزَلْتُ فَأَرْسَلْتُ الأَتَانَ تَرْتَعُ، وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: بِمِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، يُصَلِّي لِلنَّاسِ، قَالَ: فَسَارَ الْحِمَارُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ، ثُمَّ نَزَلَ عَنْهُ، فَصَفَّ مَعَ النَّاسِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والأَتَان في حديث ابن عباس: أنثى الحمر، ويقال: حمار على الذكر والأنثى؛ كما يقال: فرس على الذكر (12) والأنثى.
وقوله: «ناهزت (13) "، يعني: قاربت. وهذا يصحح (14) قول الواقدي: &(2/80)&$
__________
(1) في (غ): «والنايل».
(2) قوله: «به» ليس في (غ).
(3) قوله: «هذا» ليس في (غ).
(4) في (غ) سقط: «لفقين»
(5) في (ب): «قميص».
(6) في (غ): «تفسيره».
(7) هي إحدى روايات هذا الحديث عند مسلم .
(8) سورة الكهف، الآية: 79.
(9) في (غ): «واختلفوا».
(10) في (غ): «يسترهم».
(11) أخرجه البخاري (1/171 رقم76) في العلم، باب متى يصح سماع الصغير ؟ و(1/ 571 رقم493) في كتاب الصلاة، باب سترة الإمام سترة من خلفه، و(2/345 رقم861) في كتاب الأذان، باب وضوء الصبيان ومتى يجب عليهم الغسل والطهور، و(4/71 رقم 1857) في كتاب جزاء الصيد، باب حجّ الصبيان، و(8/109-110رقم 4412) في كتاب المغازي، باب حجة الوداع، ومسلم (1/361 رقم504) في الصلاة، باب سترة المصلي .
(12) في (أ): «للذكر».
(13) في (ح): «ناهزت الاحتلام».
(14) في (ح): «تصحح».(2/80)
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي وابن عباس ابن ثلاث عشرة سنة (1) ، وقولَ (2) الزبير بن بكار: إنه ولد بالشعب قبل الهجرة بثلاث سنين (4).
وقد روى سعيد بن جبير أن ابن عباس قال: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن خمس عشرة سنة (3) . قال ابن حنبل: وهذا =(2/103)=@ الصواب. وهذا يردّ رواية من روى (4) : توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن (5) عشر سنين (6) .
وقوله: «تَرْتَع»، أي: ترعى، يقال: رتعت الإبل: إذا رَعَتْ. &(2/81)&$
__________
(1) انظر "سير أعلام النبلاء" (3/335-336).
(2) في (أ): «وقال».
(3) أخرجه الطيالسي (ص343 رقم2640)، والطبراني في "الكبير" (10/235 رقم 15078)، والحاكم (3/533)، ثلاثتهم من طريق شعبة، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، به، وزاد: «وقد خُتنت».
وسنده صحيح، ولذلك صححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي .
وأخرجه البخاري في "صحيحه" (11/88 رقم6299) في الاستئذان، باب الختان بعد الكبر، من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس: مثل من أنت حين قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال: أنا يومئذ مختون . قال: وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك .
(4) في (ب) و(غ): «من روى عنه».
(5) قوله: «خمس عشرة سنة ...» إلى هنا ليس في (ح).
(6) أخرجه الطيالسي (ص343 رقم2639)، وأحمد (1/287، 357 طريق شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن عشر سنين مختون وقد قرأت المحكم من القرآن . قال شعبة: قلت لأبي بشر: أي شيء المحكم من القرآن ؟ قال: المفصل .
وأخرجه أحمد أيضًا (1/253 طريق أبي عوانة، و(1/337 طريق هشيم، كليهما عن أبي بشر، به .
وقال الذهبي في "السير" (3/335 ، 336): «قال الواقدي: لا خلاف أنه ولد في الشِّعْب وبنو هاشم محصورون، فولد قبل خروجهم منه بيسير، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، ألا تراه يقول: وقد راهقنا الاحتلام ؟ وهذا أثبت مما نقله أبو بشر في سنّه . قال أحمد بن حنبل - فيما رواه ابنه عبدالله عنه -: حديث أبي بشر عندي واهٍ ؛ قد روى أبو إسحاق عن سعيد فقال: خمس عشرة». اهـ.
وحاول الحافظ ابن حجر الجمع بين الروايتين المتعارضين في ذلك، فقال في "الفتح" (11/90-91): «المحفوظ الصحيح أنه وُلد بالشعب، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، فيكون له عند الوفاة النبوية ثلاث عشرة سنة، وبذلك قطع أهل السير، وصححه ابن عبدالبر، وأورد بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال: «ولدت وبنو هاشم في الشعب»، وهذا لا ينافي قوله: «ناهزت الاحتلام»، أي قاربته، ولا قوله: «وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك "؛ لاحتمال أن يكون أدرك فختن قبل الوفاة النبوية، وبعد حجة الوداع . وأما قوله: «وأنا ابن عشر» فمحمول على إلغاء الكسر . وروى أحمد من طريق أخرى عن ابن عباس أنه كان حينئذ ابن خمس عشرة، ويمكن ردّه إلى رواية ثلاث عشرة بأن يكون ابن ثلاث عشرة وشىء، وولد في أثناء السنة، فجبر الكسرين، بأن يكون وُلد مثلاً في شوال، فله من السنة الأولى ثلاثة أشهر، فأطلق عليها سنة، وقبض النبي - صلى الله عليه وسلم - في ربيع، فله من السنة الأخيرة ثلاثة أخرى، وأكمل بينهما ثلاث عشرة، فمن قال: ثلاث عشرة ألغى الكسرين، ومن قال:
خمس عشرة جبرهما، والله اعلم ». اهـ.(2/81)
****************
( 34 ) بَابُ مَنْعِ المْصَلِّي مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ
والتَّغْليِظِ فِي المُرُورِ بَيْنَ يَدَيِ المُصَلِّي
107 - عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ (1) ، قال: بَيْنَمَا أَنَا مَعَ أَبِي سَعِيدٍ يُصَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ شَابٌّ مِنْ بَنِي أَبِي مُعَيْطٍ، أَرَادَ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَفَعَ فِي نَحْرِهِ، فَنَظَرَ فَلَمْ يَرَ مَسَاغًا إِلَّا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي سَعِيدٍ، فَعَادَ فَدَفَعَ فِي نَحْرِهِ أَشَدَّ مِنَ الدَّفْعَةِ الأُولَى، فَمَثَلَ قَائِمًا، فَنَالَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، ثُمَّ زَاحَمَ النَّاسَ، فَخَرَجَ، فَدَخَلَ على مَرْوَانَ، فَشَكَا إِلَيْهِ مَا لَقِيَ، قَالَ: وَدَخَلَ أَبُو سَعِيدٍ على مَرْوَانَ، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ، مَا لَكَ وَلِابْنِ أَخِيكَ؛ جَاءَ يَشْكُوكَ؟ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ - فَلْيَدْفَعْ فِي نَحْرِهِ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ».
108 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ (2) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:«إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلا يَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّ مَعَهُ الْقَرِينَ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله (3) في حديث أبي سعيد: «فَإِنْ أَبَى، فَلْيَدْفَعْ فِي نَحْرِهِ»، أي: بالإشارة =(2/104)=@ ولطيف (4) المنع.
«فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ»؛ معناه: يزيدُ في دفعه الثاني، ويشتدُّ في مدافعته، ويُغْلِظُ له؛ كما فَعَل أبو سعيد.
وأجمعوا على أنه: لا تلزمه (5) مقاتلتُهُ بالسلاح؛ لأنَّ ذلك مخالفٌ لما عُلِمَ منْ قاعدةِ الإقبالِ على الصلاة، والاشتغالِ بها، والسكونِ فيها، ولما عُلِمَ من تحريمِ دَمِ المسلمِ وعِظَمِ حرمته، ولا يُلْتَفَتُ لقول أَخْرَقَ متأخِّرٍ، لم يفهمْ سِرًّا مِنْ أسرار الشريعة، ولا قاعدةً مِنْ قواعدها (6) .
وقوله: «فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ»، أي: فِعْلُهُ فِعْلُ شيطان؛ إذْ أَبَى إلا التشويشَ على المصلِّي، ويحتمل: أن يكونَ معناه: أن الحامل على ذلك الفعلِ هو الشيطانُ؛ ويَدُلُّ عليه: قولُهُ في حديث ابن عمر: «فَإِنَّ (7) مَعَهُ الْقَرِينَ». =(2/105)=@ &(2/82)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (1/581 رقم509) في الصلاة، باب يَرُدُّ المصلِّي من مرَّ بين يديه، و(6/335 رقم3274) في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، ومسلم (1/362 رقم505) في الصلاة، باب منع المار بين يدي المصلي .
(2) أخرجه مسلم (1/363 رقم506) في الصلاة، باب منع المار بين يدي المصلي .
(3) قوله: «وقوله» سقط من (ب).
(4) في (ب): «ولطف».
(5) قوله: «لا تلزمه» في (ح) و(غ): «لا يلزمه» وفي (ب): «لا تجوز».
(6) الظاهر أنه يعني ابن حزم ، وهذا ظلمٌ لابن حزم رحمه الله، وهو اتهامُهُ بأنَّه لم يفهم أسرار الشريعة، ولا قواعدها والأخطاء بين البشر من سنة الله فيهم.
(7) في (غ): «إن».(2/82)
109 - وَعَنِ أَبِي جُهَيْمٍ الأَنْصَارِيِّ (1) ، قال:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ، لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ».
قَالَ أَبُو النَّضْرِ (2) : لا أَدْرِي، قَالَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث أبي جُهَيْم: «لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ (3) بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ»، يعني: من الإثم والتَّبِعَة-: «لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبِعَيِنَ»؛ وفي (4) "مسند البزار": «أَرْبعِينَ (5) خَرِيفًا» (6) ، ورواه ابن أبي شيبة: «لَكَانَ أَنْ يَقِفَ مِائَةَ عام خَيْرٌ لَهُ» (7) . وكلُّ هذا تغليظٌ يدلُّ على تحريمِ المرورِ بين يَدَيِ المصلِّي:
فإنْ كان بين (8) يدي المصلِّي سترةٌ، اختَصَّ المارُّ بالإثم،، وإنْ لم يكن، وكان المصلِي في موضعٍ لا يَأْمَنُ من المرورِ عليه، اشتَرَكَا في الإثمِ؛ هذا (9) قولُ أصحابنا. =(2/106)=@
***************
( 35 ) بَابُ دُنُوِّ المُصَلِّي مِنْ سُتْرَتِهِ، وَمَا جَاءَ
فِيمَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ
110- عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ (10) ، قال: «كَانَ بَيْنَ مُصَلَّى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَبَيْنَ الْجِدَارِ مَمَرُّ الشَّاةِ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «كَانَ بَيْنَ مُصَلَّى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَبَيْنَ الْجِدَارِ مَمَرُّ الشَّاةِ»، هذا يدلُّ على استحباب القُرْب من السُّتْرة، كما قد (11) جاء عنه نصًّا: «إِذَا صَلَّى أَحْدُكُمْ إِلى سُتْرَةٍ، &(2/83)&$
__________
(1) أخرجه البخاري (1/584 رقم510) في الصلاة، باب إثم المارِّ بين يدي المصلِّي، ومسلم (1/363 رقم507) في الصلاة، باب منع المارِّ بين يدي المصلِّي .
(2) هو سالم أبو النضر الراوي لهذا الحديث عن مجسر بن سعيد، عن أبي جُهَيْم .
(3) في (غ): «القاد».
(4) في (غ): «في» بلا واو.
(5) في (غ): «وأربعين».
(6) أخرجه البزار في "مسنده" كما في "نصب الراية" (2/79-80)، و"فتح الباري" (1/585)، من طريق أحمد بن عبدة، عن سفيان بن عيينة، عن سالم أبي النضر، عن بُسر بن سعيد، قال: أرسلني أبوجهيم إلى زيد بن خالد أسأله عن المارّ بين يدي المصلِّي، فقال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ...، فذكره هكذا مقلوبًا ؛ فجعَلَ المُرْسِلَ أبا جُهَيْم، والراوي زيد بن خالد، وقد خطَّأ الأئمةُ سفيان بن عيينة في ذلك، وحاول ابن القطَّان التوفيقَ بين الروايتين بتكلُّف، فانظر تفصيل ذلك في المرجعين السابقين و"الدراية" (1/178-189) إن شئت .
وأما زيادة: «خريفًا»، فإنما جاءِتْ في هذه الرواية من طريق أحمد بن عبدة، عن سفيان بن عيينة، وقد رواه سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والإمام أحمد، وهشام بن عمار، وغيرهم من الحفاظ، عن سفيان بن عيينة على الشك أيضًا؛ كما في "نصب الراية" و"الفتح»، قال ابن حجر:«فيبعد أن يكونَ الجزمُ والشكُّ وقعا معًا من راوٍ واحدٍ في حالة واحدة، إلا أن يقال: لعلَّه تذكَّر في الحال فجزم، وفيه ما فيه». اهـ.
(7) لم أجده في "المصنِّف»، لكنْ أخرجه من طريقه ابن ماجه (1/304 رقم946) في إقامة الصلاة، باب المرور بين يدي المصلِّي، فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا وكيع، عن عبيدالله بن عبدالرحمن بن وهب، عن عمّه، عن أبي هريرة، قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - :«لو يعلم أحدكم ماله في أن يَمُرَّ بين يدي أخيه معترضًا في الصلاة، كان لَأَنْ يقيمَ مِائةَ عامٍ خيرٌ له من الخُطْوَةِ التي خطاها»، قال البوصيري في "الزوائد" (1/320): «هذا إسنادٌ فيه مقال؛ عَمُّ عبيدالله بن عبدالرحمن بن مَوْهَب، اسمه: عبيدالله بن عبدالله، قال أحمد بن حنبل: عنده مناكير».
(8) في (ح): «من بين».
(9) في (ح): «وهذا».
(10) أخرجه البخاري (1/574 رقم596) في الصلاة، باب قدر كم ينبغي أن يكون بين المصلي والسترة ؟ و(13/304 رقم 7334) في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحض على اتفاق أهل العلم ...، مسلم (1/364 رقم508) في الصلاة، باب دنو المصلي من السترة .
(11) قوله: «قد» سقط من (غ).(2/83)
فَلْيَدْنُ مِنْهَا، لَا يَقْطَعُ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ صَلَاَتَهُ»؛ ذكره أبو داود (1) .
ولا يُعارَضُ حديثُ مَمَرِّ الشاةِ بحديثِ صلاةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ؛ إذْ جعل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين الجدار قَدْرَ ثلاثِ (2) أذرعٍ (3) ؛ إذ قد حمَلَ بعضُ شيوخنا حديث ممرّ الشاةِ على ما إذا كان قائمًا، وحديث ثلاثِ الأذرُعِ (4) على ما إذا ركَعَ أو سجد، ولم يَحُدَّ مالكٌ رحمه الله في ذلك حدًّا، إلا أنَّ ذلك بقدر ما يركَعُ فيه ويسجُدُ، ويتمكَّن مِنْ دَفْعِ من مَرَّ بين يديه. وقد قدَّره بعضُ الناسِ بقدرِ الشِّبْر، وآخرون بثلاث أذرع، وآخرون بقدر سِتِّ أذُرعٍ، وكلُّ ذلك تحكُّمات!
111- وَعَنْ سَلَمَةَ وَهُوَ ابْنُ الأَكْوَعِ (5) ؛ أَنَّهُ كَانَ يَتَحَرَّى مَوْضِعَ مَكَانِ الْمُصْحَفِ (6) يُسَبِّحُ فِيهِ، وَذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَحَرَّى ذَلِكَ الْمَكَانَ، وَكَانَ بَيْنَ الْمِنْبَرِ وَالْقِبْلَةِ قَدْرُ مَمَرِّ الشَّاةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث ابن الأَكْوَع: «كَانَ يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ الْأُسْطُوَانَةِ» (7) ؛ =(2/107)=@ "يتحرَّى ": يقصِدُ ويتعمّد (8) ، ومنه قوله تعالى: {فمن أسلم فأولئك تحرّوْا رشدًا} (9) ، أي: قَصَدُوا. و" الأُسْطُوانة: الساريةُ. ولا خلافَ في جوازِ الصلاةِ إليها، إلا أنه يجعلها على (10) حاجبِهِ الأيمنِ أو الأيْسَرِ، ولا يصمُدُ إليها صمدًا، كذلك قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك كان يفعَلُ، على ما رواه أبو داود (11) ، ولعلَّ هذا كان أوَّلَ الإسلامِ؛ لِقُرْبِ العهدِ بإِلْفِ عبادةِ الحجارةِ والأصنام، حتى تظهر المخالفة في استقبال السترة؛ لما كانوا عليه من استقبالهم تلك المعبودات.
فأمَّا الصلاةُ بين الأساطِينِ، فاختلَفَ العلماءُ ومالكٌ في إجازتِهِ وكراهتِهِ (12) ، إلا عند الضرورةِ. وعلَّةُ المنع: أنَّ الصفوفَ منقطعةٌ بالأساطينِ؛ ولأنه رُوِيَ أنه مصلَّى الجِنِّ المؤمنين (13) .
112- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ (14) ، قال:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :«إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَإِنَّهُ يَسْتُرُهُ إِذَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ صَلاتَهُ الْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ وَالْكَلْبُ الأَسْوَدُ»، قُلْتُ: يَا أَبَا ذَرٍّ ! مَا بَالُ الْكَلْبِ الأَسْوَدِ مِنَ الْكَلْبِ الأَحْمَرِ مِنَ الْكَلْبِ الأَصْفَرِ؟ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا سَأَلْتَنِي، فَقَالَ: «الْكَلْبُ الأَسْوَدُ شَيْطَانٌ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: «يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ وَالْكَلْبُ الأَسْوَدُ»، تمسَّك بظاهر هذا &(2/84)&$
__________
(1) أخرجه الطيالسي (ص191 رقم1342)، والحميدي (1/196 رقم401)، وابن أبي شيبة (1/250 رقم2874) في الصلاة، باب من كان يقول: إذا صليت إلى سترة فادن منها، وأحمد (4/2)، وأبو داود (1/446 رقم695) في الصلاة، باب الدنو من السترة، والنسائي (2/62) في القبلة، باب الأمر بالدنو من السترة، وابن خزيمة (2/10 رقم803)، وابن حبان كما في الإحسان (6/136 رقم3373)، والحاكم (1/251-252)، جميعهم من طريق سفيان بن عيينة، عن صفوان بن سليم، عن نافع بن جبير، عن سهل بن أبي حثمة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، به .
وسنده صحيح، وقد صححه ابن خزيمة وابن حبان، وصحه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وذكر العقيلي في الضعفاء (4/196) أنه ثابت، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (3/374 – 375) وفي سنده اختلاف غير مؤثر، فرواية سفيان هذه هي الراجحة، وقد أشار لهذا الاختلاف أبو داود في الموضع السابق من "سننه»، وكذا البيهقي في "سننه" (2/272)، ثم رجح رواية سفيان حيث قال: «قد أقام إسناده سفيان بن عيينة، وهو حافظ حجة، وقال ابن عبدالبر في "التمهيد" (4/195): «وهو حديث مختلف في إسناده، ولكنه حديث حسن».
(2) في (ح): «ثلاثة».
(3) أخرجه البخاري (1/579 رقم506) في الصلاة، باب منه، وفي (3/467 رقم 1599) في الحج، باب الصلاة في الكعبة، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .
(4) في (غ): «ثلاثة الأذرع»، وفي (ح): «ثلاثة أذرع»، وفي (ب): «ثلاث أذرع»، والمثبت من (أ).
(5) أخرجه البخاري (1/577 رقم 502) في كتاب الصلاة، باب الصلاة إلى الاسطوانة، مسلم (1/364 رقم509) في الصلاة، باب دنو المصلي من السترة .
(6) علّق عليه الشيخ محمد فؤاد عبدالباقي رحمه الله (1/364) بقوله: «هو المكان الذي يوضع فيه صندوق المصحف في المسجد النبوي الشريف . وذاك المصحف هو الذي سُمِّي: إمامًا من عهد عثمان رضي الله تعالى عنه . وكان في ذلك المكان اسطوانة تعرف باسطوانة المهاجرين . وكانت متوسطة في الروضة المكرمة». اهـ. وهو أوضح مما علّقه ابن حجر في "الفتح" (1/577) على الموضع نفسه .
(7) هذا لفظ الرواية الأخرى عند مسلم .
(8) في (غ): «ويعتمد».
(9) سورة الجن، الآية: 14.
(10) في (ب): «في».
(11) هو حديث ضعيف أخرجه أحمد (6/4)، وأبو داود (1/445 رقم693) في الصلاة، باب إذا صلى إلى سارية أو نحوها، أين يجعلهما منه ؟ كلاهما من طريق عليِّ بن عَيَّاش، عن الوليد بن كامل، عن المهلِّب بن حجر البهراني، عن ضُبَاعة بنت المِقْدام بن الأسود، عن أبيها، قال: ما رأيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي إلى عُودٍ ولا عمودٍ ولا شجرةٍ إلا جعلَهُ على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمُدُ إليه صَمْدًا . وذكر الزيلعي في "نصب الراية" (2/84) أن ابن السكن أخرجه في "سننه" من طريق بقية بن الوليد عن الوليد بن كامل، به، إلا أنه جعله من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقد تفَّرد به الوليد بن كامل، واضطرَبَ فيه، وبه أعله البيهقي في "السنن" (2/272)، وحكى عن البخاري أنه قال عنه: «عنده عجائب»، وقال عبدالحق في "الأحكام الوسطى" (1/344): «ليس إسناده بقوي»، وقال ابن حجر في الدراية (1/181 رقم 226):
والاضطراب فيه من الوليد، وهو مجهول»، وأطال ابن القطان في إعلاله، فانظر كلامه في "نصب الراية" (2/84).
(12) في (ح) و(غ): «وكراهيته».
(13) لم نجد من أخرجه، وقد نقل الحافظ في "الفتح" (1/578) هذا التعليل عن القرطبي، ولم يذكر من أخرجه .
(14) أخرجه مسلم (1/365 رقم510) في الصلاة، باب قدر ما يستر المصلي .(2/84)
طائفةٌ من أهل العلم، وقال ابنُ حنبل (1) : يقطعُ الصلاة الكلبُ الأسودُ، وفى قلبي مِنَ الحمارِ والمرأةِ شيءٌ وذهب الجمهور: إلى أنَّه لا يقطع الصلاةَ مرورُ شيءٍ بين يدي المصلي، لا هذه المذكورات ولا غيرها، متمسِّكين بقوله عليه - صلى الله عليه وسلم - : =(2/108)=@ «لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ» (2) ، ودافعين لتخصيصِهِ: بأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد صلَّى وبينه وبين القبلةِ عائشةُ (3) رضي الله عنها، وبمرور حمارِ ابنِ عَبَّاس رضي الله عنهما بين يَدَيْ بعضِ الصفِّ (4) ، فلم ينكرْ ذلك عليه أحدٌ، وبأنه - صلى الله عليه وسلم - لَمّا صلَّى بِمِنًى ورُكِزَتْ له العَنَزة، كان الحمارُ والكلبُ يَمُرَّان بين يديه لا يُمْنَعَانِ (5) . وظاهر هذا بينه وبين العَنَزة. وفي هذه المعارضة نظَرٌ طويل، إذا حُقِّق، ظهَرَ به: أنه لا يصلُحُ شيءٌ من هذه الأحاديثِ لمعارضةِ (6) الحديثِ الأوَّل.
وقوله: «الْكَلْبُ الأَسْوَدُ شَيْطَانٌ»، حمله بعضُ العُلَماء على ظاهره، وقال: إنَّ الشيطان يتصوَّر (7) بصورِ (8) الكلابِ السُّود، ولأجلِ ذلكِ قال - صلى الله عليه وسلم - : «اقْتُلُوا مِنْهَا (9) كُلَّ أَسْوَدَ بَهِيمٍ» (10) . وقيل: لمَّا كان الكلبُ الأسودُ أَشَدَّ ضررًا مِنْ غيره، وأشَدَّ ترويعًا، كان الْمُصَلِّي؛ إذا رآه اشتغل عن صلاته؛ فانقطعَتْ عليه لذلك، وكذلك (11) تأوَّل (12) الجمهورُ.
113- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (13) ، قال:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «يَقْطَعُ الصَّلاةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ، وَيَقِي ذَلِكَ مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: «يَقْطَعُ الصَّلاةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ»؛ فإنَّ ذلك مبالغةٌ في الخوفِ على قطعها وإفسادِهَا بالشغلِ بهذه المذكوراتِ»؛ وذلك أنَّ المرأة تَفْتِنُ، والحمارُ يَنْهَقُ، والكلبُ يَرَوِّع، فيتشوَّش الْمتفكِّرُ (14) في ذلك حتى تنقطع عليه الصلاة وتفسد. فلمَّا كانت (15) هذه الأمور آيلة إلى القطع، جعلها قاطعة؛ كما قال &(2/85)&$
__________
(1) في (ب): «أحمد بن حنبل».
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنَّف" (1/350 رقم2883) في الصلاة، باب من قال:«لا يقطع الصلاة شيء وادرؤا ما استطعتم»، وأبو داود (1/460 رقم719، 720) في الصلاة، باب من قال: «لا يقطع الصلاة شيء»، والدارقطني (1/368)، ثلاثتهم من طريق مجالد بن سعيد، عن أبي الوَدَّاك، قال: مرّ شاب من قريش بين يدي أبي سعيد الخدري وهو يصلي، فدفعه، ثم عاد، فدفعه - ثلاث مرات -، فلما انصرف قال: إن الصلاة لا يقطعها شيء، ولكن قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :«ادرؤا ما استطعتم فإنه شيطان».
وهو حديث منكر تفرد به مجالد بن سعيد وهو ضعيف من قبل حفظه، وخالف فيه الثقات، فإن الحديث مُخَرَّج في "الصحيحين" - كما تقدم برقم (404)- في قصة هذا الشاب مع أبي سعيد، وفيه أن أبا سعيد قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه، فليدفع في نحره، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان».
وقد أعله أيضًا أبو حاتم الرازي كما في "العلل" لابنه (1/76)، والحافظ ابن حجر في "الفتح" (1/588)، والشيخ الألباني في "تمام المنة" (ص306-307)، و"تخريج المشكاة (1/244).
وله طرق واهية لا ينجبر ضعف الحديث بها، انظرها في "نصب الراية" (2/76-78).
وقد حاول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تقوية هذا الحديث في تعليقه على "المحلى" لابن حزم (4/14-15) معتمدًا على حديث أخرجه الدارقطني (1/367 رقم3)، والبيهقي (2/277-278 طريق إدريس بن يحيى، عن بكر بن مضر، عن صخر بن عبدالله بن حرملة، أنه سمع عمر بن عبدالعزيز يقول عن أنس بن مالك ...، فذكر قصة لعياش بن أبي ربيعة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له:«لا يقطع الصلاة شيء». ... ... ... ...
وهو حديث معلول، فقد أخرجه الباغندي في "مسند عمر بن عبدالعزيز " (ص57 رقم10 طريق الوليد بن مسلم، عن بكر بن مضر، عن صخر بن عبدالله المدلجي، قال: سمعت عمر بن عبدالعزيز يحدث عن عياش بن أبي ربيعة ...، فذكره هكذا على أنه من
رواية عمر عن عياش، وعمر لم يسمع من عياش كما حققه الشيخ أحمد شاكر نفسه في نفس الموضع. والوليد بن مسلم ثقة حافظ، وإنما عيب عليه التدليس والتسوية، ولم يصرح في هذه الرواية بالسماع .
وأما إدريس بن يحيى، فقال عنه أبو زرعة: «رجل صالح من أفاضل المسلمين»، وقال ابن أبي حاتم: «صدوق». انظر "الجرح والتعديل" (2/265 رقم957).
فلولا عنعنة الوليد لرجحنا روايته على رواية إدريس، لكن مع وجود العنعنة يبقى الأمر محتملاً، فكيف يعتمد على رواية مثل هذه في إثبات نسخ الأحاديث الكثيرة الثابتة الصحيحة التي تدل على قطع الصلاة بمرور هذه المذكورات أمام المصلي كما صنع الشيخ أحمد شاكر ؟!!
(3) هو الحديث الآتي قريبًا برقم (411).
(4) كما في الحديث المتقدم برقم (403).
(5) هوحديث أبي جُحَيْفَة - رضي الله عنه - المتقدم برقم (402)، وهو متفق عليه .
(6) في (غ): «شيء من هذه المعارضة».
(7) في (أ): «الشياطين تتصور».
(8) في (ح): «بصورة».
(9) قوله: «منها» سقط من (غ).
(10) سيأتي حديث جابر في كتاب البيوع، باب ما جاء في قتل الكلاب واقتنائها رقم (...)، ولفظه:«عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين ؛ فإنه شيطان».
وأما اللفظ الذي ذكره المصنِّف، فأخرجه أحمد (4/85) و(5/56-57)، والدارمي (2/90) كتاب الصيد، باب في قتل الكلاب، وعبد بن حميد (ص81 رقم503)، وأبو داود (3/267 رقم2845) كتاب الصيد، باب في اتخاذ الكلب للصيد وغيره، وابن ماجه (2/1069 رقم3205) كتاب الصيد، باب النهي عن اقتناء الكلب إلا كلب صيد أو حرث أو ماشية، والترمذي (4/66، 67-68 رقم1486، 1489) كتاب الأحكام، باب ما جاء في قتل الكلاب، وباب ما جاء في من أمسك كلبًا ما ينقص من أجره ؟ والنسائي (7/185 رقم4280) كتاب الصيد والذبائح، صفة الكلاب التي أمر بقتلها، وابن حبان، كما في الإحسان (12/473 رقم5657) جميعهم من طريق الحسن، عن عبدالله بن مُغَفَّل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :«لولا أن الكلاب أمة من الأمم، لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها الأسود البيهم».
قال الترمذي: «حديث عبدالله بن مغفل حديث حسن صحيح».
وقال عقب الحديث رقم (1489): «هذا حديث حسن، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن الحسن، عن عبدالله بن مغفل، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ».
وقد وقع التصريح بسماع الحسن من عبدالله بن مغفل عند أحمد وابن حبان .
(11) في (ب): «وكذا» وفي (غ): «ولذلك».
(12) في (ح): «تأويل».
(13) أخرجه مسلم(1/365-366رقم511) في كتاب الصلاة، باب قدر ما يستر المصلي.
(14) في (أ): «المفكر»، وفي (غ): «فيتشوَّع».
(15) قوله: «فلما كانت» مكرر في (أ).(2/85)
للمادح:«قطعت عنق أخيك»" (1) ، أي: فعلت به فعلاً يخاف هلاكه منه؛ كمن قطع عنقه.
وقد ذهب =(2/109)=@ ابن عباس (2) وعطاء: إلى أنَّ المرأةَ التي تقطَعُ الصلاةَ إنما هي الحائضُ؛
لَمِا تَسْتصحِبُهُ من النجاسة.
*************
( 36 ) بَابُ اعْتِرَاضُ المَرْأَةِ بَيْنَ يَدِيِ المُصَلِّي لَا يَقْطَعُ الصَّلاَةَ
114- عَنْ عُرْوةَ (3) ، قال: قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: فَقُلْنَا: الْحِمَارُ، وَالْمَرْأَةُ، فَقَالَتْ: إِنَّ الْمَرْأَةَ لَدَابَّةُ سَوْءٍ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُعْتَرِضَةً، كَاعْتِرَاضِ الْجَنَازَةِ، وَهُوَ يُصَلِّي.
وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَتْ عَائِشَةُ: شَبَّهْتُمُونَا بِالْحَمِيرِ وَالْكِلَابِ؛ وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي، وَأَنَا على السَّرِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ مُضْطَجِعَةً، فَتَبْدُو لِيَ الْحَاجَةُ، فَأَكْرَهُ أَنْ أَجْلِسَ، فَأُوذِيَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَنْسَلُّ مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: لَقَدْ رَأَيْتُنِي مُضْطَجِعَةً على السَّرِيرِ، فَيَجِيءُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَيَتَوَسَّطُ السَّرِيرَ، فَيُصَلِّي، فَأَكْرَهُ أَنْ أَسْنَحَهُ، فَأَنْسَلُّ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيِ السَّرِيرِ، حتى أَنْسَلَّ مِنْ لِحَافِي.
وَفِي أُخْرَى: قَالَتْ: كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرِجْلَايَ فِي قِبْلَتِهِ؛ فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ، وَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا، قَالَتْ: وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقولُ عائشة رضي الله عنها: «فَأَكْرَهُ أَنْ أَسْنَحَهُ»، أي: أظهَرَ له؛ كما جاء في الرواية =(2/110)=@
الأخرى: «فَأَكْرَهُ أَنْ أَجْلِسَ، فَأُوذِيَهُ»، يقال: سَنَحَ لي الشيءُ: إذا اعترَضَ لي، ومنه: السَّانِحُ من الطيرِ ،في عِيَافَةِ العرب. &(2/86)&$
__________
(1) هو حديث أبي بكر - رضي الله عنه - الآتي برقم (2555) في كتاب البر والصلة، باب كراهية المدح، وفي حثو التراب في وجوه المدَّاحين .
(2) أخرجه الإمام أحمد (1/347)، وأبو داود (1/452-453 رقم703) في الصلاة، باب ما يقطع الصلاة، وابن ماجه (1/305 رقم949) في إقامة الصلاة والسنة فيها، والنسائي (2/64 رقم751) في القبلة، باب ذكر ما يقطع الصلاة وما لا يقطع، وابن خزيمة (2/22 رقم832)، وابن حبان كما في الإحسان (6/148 رقم2387)، جميعهم من طرق يحيى بن سعيد القطان، عن شعبة، عن قتادة، قال: حدثنا جابر بن زيد، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:«يقطع الصلاة الكلب والمرأة الحائض».
قال أبو داود: «وقفه سعيد وهشام وهمام». ... ... ... ... ...
وأخرجه البيهقي (2/274) وقال: «قال يحيى - هو القطان -: لم يرفع هذا الحديث أحد عن قتادة غير شعبة. قال يحيى: وأنا أَفْرَقُهُ . قال: ورواه ابن أبي عروبة وهشام عن قتادة – يعني: مرقوفًا -. قال يحيى: وبلغني أن هَمَّامًا يُدْخِلُ بين قتادة وجابر بن زيد: أبا الخليل. قال علي - وهو ابن المديني -: ولم يرفع همامٌ الحديثَ.
وقال الشيخ الألباني في تعليقه على ابن خزيمة: «الذي يظهر لي أن المراد بالحائض هنا إنما هي المرأة البالغة، فهو كالحديث الآخر:«لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار»؛ فإن التفريق بين المرأة الطاهرة وغير الطاهرة - أي الحائض - أمر عسير عادة، يبعد تكليف الناس بمثله، فتأمل». اهـ.
(3) أخرجه البخاري (1/491-492، 581، 587، 588-590، 593 رقم382، 384 ، 508، 511-515، 519) في الصلاة، باب الصلاة على الفراش، وباب الصلاة إلى السرير، وباب استقبال الرجل صاحبه أو غيره في صلاته وهو يصلي، وباب الصلاة خلف النائم، وباب التطوُّع خلف المرأة، وباب من قال لا يقطع الصلاة شيء، وباب هل يغمز الرجل امرأته عند السجود لكي يسجد، و(2/487 رقم997) في كتاب الوتر، باب إيقاظ النبي - صلى الله عليه وسلم - أهله بالوتر، و(3/80 رقم1209) في كتاب العمل في الصلاة، باب ما يجوز من العمل في الصلاة، و(11/67 رقم6276) في كتاب الاستئذان، باب السرير، ومسلم (1/366 رقم 512) في كتاب الصلاة، باب الاعتراض بين يدي المصلِّي.(2/86)