حسنٌ في مساقه، ساقه (1) روايه (2) مساق الْمُتثبِّت (3) . والأقرب أن بعض الرواة وَهِمَ في حديث المسور، فوضع ((ثمانين)) مكان ((أربعين)).
وقول علي: ((جلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين. وأبوبكر أربعين. وعمر ثمانين وكل سُنَّه))؛ دليل واضح على اعتقاد علي (4) - رضي الله عنه - صحة إمامة الخليفتين أبي بكر، وعمر، وأن حكمهما يقال عليه: سُنَّه؛ خلافًا للرافضة والشيعة، وهو أعظم حُجَّة عليهم؛ لأنَّه قول متبوعهم؛ الذى يتعصبون له، ويعتقدون فيه ما يتبرأ هو منه. وكيف لا تكون أقوال أبي بكر وعمر، وأفعالهما سنة وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ((اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)) (5) ؟!.
وقوله: ((وهذا أحبُّ إليّ))؛ ظاهره: أنَّه أشار إلى الأربعين التي أمر بالإمساك عليها. وقد روي: أن المعروف من مذهبه الثمانون. فيكون له في ذلك القولان، لكنه دام هو (6) على الثمانين لما كثر الإقدام على شرب الخمر.
وحاصل هذا الاختلاف في الأحاديث، وبين الصحابة راجع إلى أنه لم يتقدَّر في الخمر حدٌّ محدود. وإنما كان الأدب والتعزير، لكن استقر الأمر: أن أقصى ما بلغ فيه إلى الثمانين، فلا يزاد عليها بوجه. وقد نصَّ على هذا المعنى السائب بن يزيد فيما خرَّجه البخاري (7) قال: كنَّا نُؤتى بالشارب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإِمرة أبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر، فنقوم إليه بأيدينا، ونعالنا، وأرديتنا حتى كان آخر إمرة عمر، فجلد (8) أربعين، حتى إذا عَتَوا وفَسَقُوا جلد ثمانين. وعلى هذا: =(5/136)=@
__________
(1) في (ح): ((وساقه)).
(2) في (ك): ((رواية)).
(3) في (أ): ((المثبت)).
(4) قوله: ((اعتقاد علي)) سقط من (ك).
(5) حديث صحيح أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (31942 و37049)، وأحمد في "المسند" (23333 و23467)، وفي "فضائل الصحابة" (478)، والترمذي (3799)،وابن ماجه (97)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (8/209)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/480)، وابن أبي عاصم في "الاسنة” (1148-1149) والبزار في "كشف الأستار" (2828 و2829)، والطبراني في "الأوسط" (5503)، والحاكم في "المستدرك"(4454)، والبيهقي في "الكبرى" (16367 و16368)، والخطيب في "التاريخ" (4/346). كلهم من طريق سفيان الثوري، عن عبدالملك بن عمير، عن مولى لربعي بن خراش، عن ربعي بن خراش، عن حذيفة به. وفي بعض الروايات تسميةُ مولى ربعي: هلالاً.
وأخرجه أحمد في "المسند" (23293)،والحميدي في "المسند" (449)، والبزار في "كشف الأستار" (2827) من طريق سفيان بن عيينة، عن زائدة بن قدامة، عن عبدالملك بن عمير، عن ربعي، عن حذيفة به.
ورواه سفيان بن عيينة، عن عبدالملك بن عمير، عن ربعي، عن حذيفة به. فأسقط زائدة بن قدامة كذا أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (2/334)، والترمذي في "العلل" (689)، وابن أبي حاتم في "العلل" (2648)، والبيهقي (9836).
قال الترمذي:(( كان سفيان بن عيينة يروي هذا ولا يذكر فيه: عن زائدة في كل وقت)).
وذكر ابن أبي حاتم عن أبيه: أن سفيان كان يحدث به أيام الموسم عن عبدالملك بن عمير، لم يذكر زائدة، ثم قال: لم آخذه من عبدالملك إنما حدثناه زائدة، عن عبدالملك.
وقال سفيان: إذا ذكرت لهمزائدة لم تسألوني عنه.اهـ.
وبذلك يتبين أن رواية الثوري أصح، حيث جوَّد إسناده، وأثبت فيه رجلاً وسماه هلالاً، ولذا قال أبو حاتم (2/381) لما سأله ابنه: أيها أصح؟ قال ما قال الثوري، زاد رجلاً وجوَّد الحديث.اهـ.
وللحديث طريق آخر عن حذيفة: فأخرجه ابن سعد في "الطبقات" (2/334)، وأحمد في "المسند" (23334)، وفي "فضائل الصحابة" (479)، والبخاري في "الكنى" (433)، والترمذي (3663)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (2/85)، وابن حبان في "صحيحه" (6902)، والخلال في "السنة" (335)، وأبو القاسم الأصبهاني في "دلائل النبوة" (1/130)، والخطيب في "التاريخ" (7/402)، و(14/366) من طريق سالم المرادي أبي العلاء، عن عمرو بن هرم، عن ربعي بن خراش، عن حذيفة به. وهذا الحديث إسناده لا بأس به، سالم المرادي وثقه ابن حبان والطحاوي والعجلي، وضعفه ابن معين ،وقال أبو حاتم: يكتب حديثه. قلت: واتهم بالتشيع، وهذا مما يدل على عدالته لروايته لهذا الحديث.
وللحديث شاهد من حديث ابن مسعود: أخرجه عبدالله بن أحمد في "فضائل الصحابة" (294)، والحاكم في "المستدرك" (4456)، والطبراني في "الكبير" (8426) من طريق يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن أبي الزعراء، عن ابن مسعود به.
ويحيى بن سلمة هذا متروك الحديث، ولكن أخرجه الطبراني في "الأوسط" (7177) من طريق ابن المبارك عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن أبي الزعراء، عن ابن مسعود به. وهذا إسناد جيد، سلمة بن كهيل ثقة، وأوب الزعراء عبدالله بن هانئ الكندي تابعي صدوق وثقه ابن سعد وابن حبان والعجلي. وله شاهد أيضًا من حديث أبي الدراء: أخرجه الطبراني في "مسند الشاميين" (913). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/53): ((وفيه من لم أعرفهم)).
وله شاهد آخر ضعيف: أخرجه العقيلي في "الضعفاء" (1649) في ترجمة محمد بن عبدالله بن عمر بن القاسم، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر به. قال العقيلي: ((حديث منكر، لا أصل له من حديث مالك، وهذا يروى عن حذيفة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد جيد ثابت)).اهـ. وهو كما قال رحمه الله.
(6) قوله: ((هو)) سقط من (أ).
(7) في "صحيحه" (6779).
(8) في (ح): ((فحد)).(5/136)
فلا ينبغي أن يعدل عن الثمانين؛ لأنَّه الذي استقرَّ عليه آخر أمر الصحابة أجمعين.
وقول علي: ((ما كنت لأقيم على أحد حدًّا فيموت فأجد في نفسي إلا صاحب الخمر؛ لأنَّه إن مات وديته))؛ يدلُّ على أن ما كان فيه حدٌّ محدود فأقامه الإمام على وجهه، فمات المحدود بسببه؛ لم يلزم الإمام شيء، ولا عاقلته، ولا آل بيت المال. وهذا مجتمعٌ (1) عليه؛ لأنَّ الإمام قام بما وجب عليه، والميت قتيل الله. وأمَّا حدّ الخمر فقد ظهر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحدّ فيه حدًّا. فلما قصرته الصحابة ( على عدد محدود، وهو (2) الثمانون، وجد علي - رضي الله عنه - في نفسه من ذلك شيئًا، فصرَّح بالتزام (3) الدِّية إن وقع له موت المجلود (4) احتياطًا، وتوقيًّا، لكن ذلك (5) - والله أعلم - فيما زاد على الأربعين إلى الثمانين. وإمَّا الأربعون: فقد صرَّح (6) هو على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر جلداها (7) ، وسمى ذلك سنة. فكيف يخاف من ذلك؟
وهذا هو الذي فهمه الشافعي من فعل علي هذا، فقال: إن حدّ أربعين بالأيدي، والنعال، والثياب فمات؛ فالله قتله. وإن زِيدَ على الأربعين (8) بذاك (9) ، أو ضرب أربعين بسوط (10) فمات؛ فديته على عاقلة الإمام.
قلت: ويظهر لي من فعل (11) عمر - رضي الله عنه - خلافُ ذلك: إنه لما شُهِدَ على قُدامة بشُرب الخمر استشار (12) من حضره في جَلْدِه، فقال القوم: لا نرى أن تَجْلِدَه ما دام =(5/137)=@
__________
(1) في (ح): ((مجمع)).
(2) في (ك): ((هو)).
(3) في (أ): ((بالزام)).
(4) في (ك): ((المحدود)).
(5) قوله: ((ذلك)) سقط من (أ).
(6) في (ح) و(ك): ((نص)).
(7) في (ك): ((جلدها)).
(8) في (ك): ((أربعين)).
(9) أي: أن زِيدَ على الأربعين باليدي والنعال والثياب.
(10) في (ك): ((سوط)).
(11) قوله: ((فعل)) سقط من (ح).
(12) في (ح): ((استشاره)).(5/137)
وَجِعًا، فسكت عمر عن جلده أيامًا، ثم أصبح يومًا قد عزم على جلده، فاستشارهم. فقالوا: لا نرى أن تجلده ما دام وَجِعًا. فقال عمر - رضي الله عنه -: والله لأن يلقى الله تحت السياط أحبُّ إليَّ من أن ألقى الله وهي في عنقي. والله لأجلدنَّه. فجلده بسوط بين سوطين. وهذا يدلُّ: على أنَّه لا يلزم في ذلك دية لا على العاقلة، ولا في بيت المال؛ لأنَّ عمر سلك في حد الخمر مسلك الحدود المحدودة بالنصّ. وأمَّا جند عمر لقدامة على ما ذكروا له من وَجَعِه، فكأنه فهم أن وجعه لم يكن بحيث يبالى به، ولا يخاف منه. وكأنهم اعتذروا به ليتأخر ضربه شفقة عليه، وحُنُوًّا. وقد ظهر ذلك منهم لما أَتَوه بسوطٍ دقيق صغير. فقال لأسلم: أخذتك دقرارة أهلك (1) ؛ أي: حميتهم الحاملة على المخالفة.
واختلفوا فيمن مات من التعزير. فقال الشافعي: عَقْلُه على الإمام، وعليه الكفارة. وقيل: على بيت المال. وجمهور العلماء: على أنَّه لا شيء عليه.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((لا يجلد أحدٌ فوق عشرة أسواط إلا في حدٍّ من حدود الله))؛ أخذ بظاهر هذا الحديث أحمد بن حنبل، وأشهب من أصحاب مالك في بعض أقواله. وقال ابن أبي ذئب وابن أبي ليلى (2) : لا يضرب في الأدب أكثر من ثلاثة. وقال أشهب في مؤدِّب الصبيان. قال: وإن زاد اقتَّص منه. والجمهور: على أنَّه يُزاد في التعزير على العشرة. فمنهم من قصره على عدد بحيث لا يزاد عليه. فقال (3) =(5/138)=@
__________
(1) قال ابن الأثير: الدِّقْرارةُ: واحدة الدَّقارِير، وهي: الأباطيل وعاداتُ السوء، أراد أنَّ عادة السّوء التي هي عادةُ قَوْمك، وهي العُدُول عن الحقِّ والعَملُ بالباطل، قد نَزَعَتْك وعَرَضَت لك فَعَملْت بها. اهـ. "النهاية" (2/126).
(2) قوله: ((وابن أبي ليلى)) سقط من (ح).
(3) في (أ): ((قال)).(5/138)
أبو حنيفة: أربعين. وقاله الشافعي، وقال أيضًا: عشرين. وروي عن مالك: خمسة وسبعين سوطًا. واليه مال أصبغ بن الفرج (1) ، وقاله ابن أبي ليلى، وأبو يوسف. وقال محمد بن مسلمة: لا أرى أن يبلغ به الحدّ. وقد (2) روي عن عمر: ما يبلغ به ثمانون (3) . وعن ابن أبي ليلى وابن شبرمة: لا يبلغ به مائة. ومنهم من رأى ذلك موكولاً إلى رأي الإمام بحسب ما يراه أردع، وأليق بالجاني، وإن زاد على أقصى الحدود. وهو مشهور مذهب مالك، وأبي يوسف، وأبي ثور، والطحاوي، ومحمد بن الحسن. وقال: وان بلغ ألفًا. وقد روي عنه مثل قول أبي حنيفة. والصحيح عن عمر: أنَّه ضرب من نقش على خاتمه مائة (4) . وضرب صَبِيغًا (5) أكثر من الحدّ. وقد روي عن الشافعي: أنَّه يُضرب في الأدب أبدًا، وإن أتى على نفسه حتى يُقرَّ بالانابة. وقال الْمُزني من أصحاب الشافعي: تعزير كل ذنب مستنبط (6) من حدِّه لا يجاوز (7) .
قلت: والصحيح: القول (8) العمري، رالمذهب المالكي؛ لأنَّ المقصود بالتعزير الرَّدع، والزجر. ولا يحصل ذلك إلا باعنبار أحوال الجنايات والجناة. فأمَّا الحديث فخرج على أغلب ما يحتاج إليه في ذلك الزمان. والله تعالى أعلم.
ومن باب من أقيم عليه الحدَّ فهو كفارة له
قوله: ((أَخَذَ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أخذ على النساء))؛ يعني: أنَّه بايعهم على =(5/139)=@
__________
(1) قوله: ((بن الفرج)) سقط من (أ).
(2) قوله: ((وقد)) سقط من (ح).
(3) في (ح): ((ثمانين)).
أخرجه ابن أبي شيبة (28870) عن سفيان بن عيينة، عن حميد الأعرج، عن يحيى بن عبد الله بن صيفي: أن عمر كتب إلى أبي موسى: ألا تبلغ في تعزير أكثر من ثلاثين. وسنده ضعيف، يحيى بن صيفي لم يدرك عمر - رضي الله عنه -.
(4) لم أجده مسندًا، وإنما ذكره النووي في "شرح مسلم" (11/222)، وابن تيمية في "ألفتاوى" (28/345)، والزركشي في "شرح مختصر الخرقي" (6/408). وأشار إليها محقق الكتاب أنه لم يجد هذه القصة. وقد أشار إليها القاضي في كتاب "الروائتين" (2/346) فقال: إن معن بن زائدة زوّر على عمر كتابًا فجلده مائة.
(5) في (ك): ((ضُبيعًا)). وقصة صبيغ مع عمر تقدم تخريجها.
(6) في (ح): ((مستنبطًا)).
(7) في (ح): ((يجاوزه)).
(8) في (أ): ((قول)).(5/139)
التزام هذه الأمور المذكورة كما بايع النساء عليها. وإنَّما نبَّه بهذا على أن هذه (1) البيعة لما لم يكن فيها ذكر القتال استوى فيها الرِّجال والنساء؛ ولذلك كانت تسمى هذه البيعة ببيعة (2) النساء. وهذه البيعة كانت بالعقبة خارج مكة. وهي أول بيعة بايعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنقباء الأنصار، وذلك قبل الهجرة، وقبل فرض القتال.
وقوله: ((ولا يَعْضَهُ بعضنا بعضًا))؛ هكذا رواية الجماعة، وقيل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه السِّحر؛ أي: لا يسحر بعضنا بعضا. والعَضْهُ، والعَضِيهَة: السِّحر. والعاضِهُ: السَّاحر. والعاضِهَةُ: السَّاحرة.
والثاني: أنَّه النَّمِيمَة والكذب. والثالث: البُّهْتان.
قلت: وهذه الثلاثة متقاربة في المعنى؛ لأنَّ الكل كذبٌ وزور. ويقال لكلِّها عَضْهٌ، وعَضِيهةٌ. ويُصرف فعلها كما سبق. وقد روى العذري هذه اللفظة: ((ولا يَعْضِي بعضنا بعضًا))-بالياء مكان الهاء - على وزن: يقضي. ويكون من التعضية، وهي التفريق والتجزئة. ومنه قوله تعالى: {الذين جعلة القرآن عضين} (3) ، قال ابن عباس: فرَّقوه فآمنوا ببعضه، وكفروا ببعض. وعلى هذا: فيكون عضين: جمع عضه. يكون (4) منقوضًا؛ لأنَّ أصله: عِضَْوةٌ، فحذفوا الواو، ونقلوا حركتها إلى الساكن قبلها، كما فعلوه في عزة، فيكون معناه في الحديث: لا تكذب عليه فتبهته بأنواع من البهتان والكذب، فتفرقها (5) عليه في أوقات، وتنسبها إليه في حالات. ورواية الجماعة أوضح.
و((النُّقَباء)): جمع نقيب، كظريف، وظرفاء. وهو الذي ينقب عن أخبار أصحابه، وأحوالهم، فيرفعها للأمراء. وهم المسمُّون بالعرفاء أيضًا: جمع =(5/140)=@
__________
(1) قوله: ((هذه)) سقط من (ح) و(ك).
(2) في (ح) و(ك): ((بيعة)).
(3) ؛ الآية: 91. سورة الحجر.
(4) في (ح): ((فيكون)).
(5) في (أ): ((فيفرقها)).(5/140)
عريف، لتعرُّفهم بالأحوال، وتعريفهم بها. وقد تقدم الكلام في (1) ((النهبة)).
وقوله: ((ولا نقتل (2) أولادنا))؛ يعني بهم: البنات اللواتي كانوا يدفنونهم أحياء. وهي الموءودة. وكانوا يفعلون ذلك للأنفة الجاهلية وخوف الفقر، والإملاق. ولا يُعارض هذا قوله في الرواية الأخرى: ((ولا نقتل النَّفس التي حرَّم الله إلا بالحق))؛ لأنَّ هذه البيعة كانت فيها أمورٌ كثيرة منعهم منها، ونهاهم عنها؛ قد تقدم ذكر بعضها في كتاب الإمارة. وقد شمل ذلك كُلَّه بقوله: ((ولا نعصي))، وكذلك قال تعالى في حق النساء: {ولا يعصينك في معروف} (3) .
وقوله: ((فمَنْ وَفَى منكم))؛ بتخفيف الفاء. وقاله الأصيلي بتشديدها، ومعناهما واحد؛ أي: فعل ما أمر به، وانتهى عمَّا نُهِي عنه.
وقوله: ((فأجره على الله))؛ أي: إن الله تعالى ينجيه من عذابه وإهانته، ويوصله إلى جنته وكرامته.
وقوله: ((ومن أتى منكم حدًّا فأُقِيم عليه فهو كفارته))؛ هذا حجَّة واضحة لجمهور العلماء على أن الحدرد كفارات (4) . فمن قتل فاقتُصَّ منه لم يبق عليه طِلْبَةٌ في الآخرة؛ لأنَّ الكفارات (5) ماحيةٌ للذنوب (6) ، ومصَيِّرةٌ (7) لصاحبها كأن ذنبه لم يكن (8) . وقد ظهر ذلك في كفارة اليمين والظِّهار وغير ذلك. فإن بقي مع الكفارة شيء من آثار الذنب لم يصدق عليها ذلك الاسم. وقد سمعنا من بعض علماء مشايخنا: أن الكفارة إنَّما (9) تكفر حق الله تعالى، ويبقى على القاتل حق المقتول يطلبه به يوم القيامة. وتَطَّرِدُ هذه الطريقة في سائر حقوق الآدميين. =(5/141)=@
__________
(1) في (ح): ((على)).
(2) في (ح): ((ولا تقتلوا)).
(3) ؛ الآية: 12. سورة الممتحنة.
(4) في (ح): ((كفارة)).
(5) في (ح) و(ك): ((الكفارة)).
(6) في (ح) و(ك): ((للذنب)).
(7) في (ح): ((ومغيرة)).
(8) في (أ): ((يقع)).
(9) قوله: ((إنما)) سقط من (أ).(5/141)
قلت: وهذا ليس بصحيح؛ لأنَّه تخصيص لعمرم ذلك الحديث بغير دليل، وما ذكره من اختلاف الحقوق صحيحٌ، غير أنَّه لما أباح الله دم القاتل بسبب جريمته، وقتل، فقد فعل به مثل ما فعل من إيلام نفسه واستباحة دمه، فلم يبق عليه شيء. وهذا معنى القصاص.
وقوله: ((ومن ستر الله عليه، فأمره إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له))؛ يعني: إذا مات عليه (1) ولم يَتُب منه. فأمَّا لو تاب منه لكان كمن لم يُذنب؛ بنصوص القرآن والسُّنه كما قد (2) تقدم. وهذا تصريحٌ بأن ارتكاب الكبائر ليس بكفر؛ لأنَّ الكفر لا يغفر لمن مات عليه بالنصّ والإجماع. وهي (3) حجَّة لأهل السُّنة على الْمُكَفِّرة بالذنوب، وهم الخوارج، أهل (4) البدعة.
وقوله (5) : ((فإن غَشينا شيئًا من ذلك كان تضاء ذلك إلى الله تعالى))؛ أي: إن ارتكبنا شيئًا من ذلك، وفعلناه (6) ؛ كان حكمه لله (7) ؛ أي: إن شاء عذب، وإن شاء عفا. كما فسَّره في الرواية الثانية. =(5/142)=@
__________
(1) قوله: ((عليه)) سقط من (ك).
(2) قوله: ((قد)) سقط من (ح) و(ك).
(3) في (ح) و(ك): ((وهو)).
(4) في (ح): ((وأهل)).
(5) في (ك): ((قوله)).
(6) في (ك): ((فعلنا)).
(7) في (ح): ((إلى الله)).(5/142)
ومن باب الْجُبَار الذي (1) لا دية فيه
قوله: ((العجماه جرحها جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس))؛ هكذا جاء (2) هذا الحديث بمجموع هذه الأمور. فظاهره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكرها في وقت واحد متصلة مجموعة، ويكون (3) فيه حجَّة لمالك على أبي حنيفة: في أن الركاز ليس هو المعدن؛ إذ قد عدل عن لفظ المعدن إلى اسم آخر في مساقط واحد، وذكره (4) بعده. فلو كان الركاز هو المعدن لقال: والمعدن جُبار وفيه الخمس. وكان يكون أيسر، وأفصح، وأبعد عن الإشكال، بل لو ذكر لفظ المعدن نفسه بدل الرِّكاز فقال: وفي المعدن الخمس، لكان مستقبحًا عند الفصحاء، فإنَّه وضع الظاهر موضع المضمر من غير فائدة، ولا تفخيم، بل مع مايجرُّه من اللَّبس. وهذا النوع من الكلام ركيك، ويُجَلُّ كلام الشارع أن يحمل عليه. ويحتمل =(5/143)=@
__________
(1) قوله: ((الذي)) سقط من (ك).
(2) قوله: ((هكذا جاء)) سقط من (ح).
(3) في (ح) و(ك): ((فيكون)).
(4) في (ح): ((وذكر)).(5/143)
أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر هذه الأمور في أوقات مختلفة، فجمعها الرَّاوي، وساقها سياقة واحدة، وحينئذ لا يكون فيه حجَّة على ما ذكرناه، لكن الظاهر الأول، والله تعالى أعلم.
و((الْجُبار)): الذي لا قود فيه، ولا دية، ولا شيء. وهو بضم الجيم، على وزن: غُرَاب. و((العجماء))- ممدودة، مهموزة (1) -: اسم جنس لجميع البهائم، سُمِّيث بذلك لأنَّها لا تنطق. فظاهر قوله: ((العَجْمَاء جرحها جُبار))؛ أن ما انفردت البهيمة بإتلافه لم يكن فيه شيء، وهذا (2) مُجمعٌ عليه. فلو كانت (3) معها قائد، أو سائق، أو راكب فحملها أحدهم على شيء فأتلفته لزمه حكم الْمُتْلَف. فإن كانت جناية مضمونة بالقصاص، وكان الحمل عمدًا؛ كان فيه القصاص. ولا يختلف فيه؛ لأنَّ الدَّابة كالآلة. وإن كان عن غير قصد كانت فيه (4) الدية على العاقلة. وفي الأموال الغرامة في مال الحامل (5) قصدًا كان أو غير قصد. وهذا كلُّه لا يختلف فيه إن شاء المه تعالى.
واختلفوا فيما أصابته برجلها أو ذنبها. فلم يُضمِّن مالك، والليث، والأوزاعي صاحبها، وضَمَّنه الشافعي، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة. واختلفوا في الضَّارِيَة (6) . فجمهورهم: على أنَّها كغيرها. ومالك وبعض أصحابه يُضَمِّنُونَه.
واختلفوا فيما رعت المواشي. فضَمَّن مالك ربَّها ما أفسدته ليلاً دون ما أفسدته نهارًا. وبه قال الشافعي، والجمهور. ومعتمد التفرقة: أن على أرباب الحوائط والمراعي حفظها نهارًا؛ إذ غالب المواشي أنَّها تسرح فيه، ولا تنضبط، وعلى أرباب المواشي حفظها بالليل، فكان رعي النهار تمكين من أرباب الزروع للماشية من الرَّعي، ورَعْي الليل تسليط من أرباب المواشي على الرَّعي (7) . وقال أبو حنيفة: =(5/144)=@
__________
(1) قوله: ((ممدود مهموز)) جاء في (أ) بعد قوله: ((لجميع البهائم)).
(2) في (ح): ((هذا)).
(3) في (ح): ((فإن كانت))، وفي (ك): ((فإن كان)).
(4) في (أ): ((فيها)).
(5) في (ح) و(ك): ((الجاني)).
(6) في (أ): ((العارية)). وفي (ك): ((الضاربة)).
(7) في (أ): ((رعي)).(5/144)
لا ضمان فيما رعته المواشي ليلاً ولا نهارًا تمسُّكًا منه بالحديث. وهذا إنما يليق بأهل الظاهر لا بأبي حنيفة. وقال الليث، وسحنون: يضمن ما رعت نهارًا.
وقوله: ((والبئر جُبار))؛ يعني: إذا حفرها الإنسان في ملكه على الوجه الجائز. فلو حفرها في ملك غيره بغير إذنه، أو في طريق فهلك(فيها شيء؛ ضمنه عند مالك، والشافعي. فإن هلك فيها إنسان كانت ديته على الجاني. وكذلك لو حفرها لسارق فهلك فيها. وقال الليث: لا دية فيه (1) ولا ضمان. وكذلك الحكم في المعدن. فلو انهار المعدن على العملة؛ فإن كان ربُّ المعدن قد غرَّهم؛ كانت دياتهم على عاقلته، وإن لم يَفُرَّهُم فهلكوا فيه؛ لم يلزمه شيء، ولا عاقلته.
والركاز عند مالك هو: مايوجد من دفين الجاهلية. فخمسه لبيت مال المسلمين، وأربعة أخماسه لواجده. وهل هذا حُكم كل ركاز. أو يختلف ذلك بحسب نوعه وأرضه؛ فيه خلاف بين أصحابنا وغيرهم. وكله مذكور في كتبهم.
وقوله في حديث أنس: ((أن رجلاً كان (2) يُتهم بأمِّ ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ))؛ هذه مارية (3) أمّ إبراهيم، ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يزورها رجل قبطي، فتكلم المنافقون في ذلك، وشنَّعوا (4) ، فأظهر الله براءتها بما ظهر من حال الرَّجل، وهذا نحو (5) مِمَّا جرى لعائشة رضي الله عنها حتَّى برَّأها (6) الله تعالى، وأظهر من حال المرمي أنَّه حصور. كل ذلك مبالغةٌ في صيانة حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإظهار تكذيب (7) من تَفَوَّهَ بشيء من ذلك.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لعلي: ((اذهب فاضرب عنقه))؛ في هذا اللفظ إشكال، وهو: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كيف يأمر بضرب عنق هذا الرجل ولم يكن هناك موجبٌ للقتل، وقد ظهر ذلك حين انكشف حال الرَّجل؟ ويزول هذا الإشكال (8) : بأن هذا الحديث رواه =(5/145)=@
__________
(1) في (ح): ((فيها)).
(2) قوله: ((كان)) سقط من (ح).
(3) قوله: ((مارية)) سقط من (ح).
(4) في (أ) و(ح): ((شعنوا)).
(5) قوله: ((نحو)) سقط من (أ).
(6) في (ك): ((فبرأها)).
(7) في (ك): ((كذب)).
(8) قوله: ((الإشكال)) سقط من (ح).(5/145)
أبو بكر البزار (1) ، بمساق أكمل من هذا، وأوضح فقال فيه: عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: كثر على مارية في قبطي ابن عم لها كان يزورها، ويختلف إليها، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((خذ هذا السيف فانطلق، فإن وجدته عندها فاقتله))؛ قال: قلت: يا رسول الله! أكون(في أمرك كالسِّكة المحماة، لا يثنيني شيء، حتى أمضي لما أمرتني، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؛ فقال: ((بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب))، وذكر الحديث (2) بنحو (3) ما تقدم. فهذا يدلّ على أن أمره بقتله إنَّما كان بشرط أن يجده عندها على حالة تقتضي قتله. ولما فَهِمَ عنه (4) علي - رضي الله عنه - ذلك سأله، فبيَّن له بيانًا شافيًا، فزال ذلك الإشكال، والحمد لله ذي الجلال. ويحتمل أن يقال: إن ذلك خرج من النبي - صلى الله عليه وسلم - مخرج التغليظ والمبالغة في الزجر على موجب الغيرة الْجِبِلِّيَّة. والأول أليق وأسلم. والله بحقائق الأمور أعلم.
وفيه من الفقه: إعمال النظر، والاجتهاد، وترك الجمود على الظواهر، وأنَّه يجوز الاطلاع على العورة عند الضرررة، كتحمُّل شهادة الزنى، كما صار إليه مالك. =(5/146)=@
__________
(1) "كشف الستار" (634)، وسيأتي.
(2) رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (1/177) عن عبيد، ورواه البزار في "البحر الزخار" (2/237)،وأبو نعيم في "الحلية" (7/93)، والضياء في "المختارة" (2/353) من طريق أبي كريب، كلاهما - عبيد، وأبو كريب -، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن إبراهيم بن محمد بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده علي بن أبي طالب...، فذكره. وهذا إسناد حسن، وقد صرَّح ابن إسحاق بالتحديث في رواية البخاري ،وإبراهيم بن محمد بن علي بن أبي طالب وثقه العجلي (1/204 رقم34)، وذكره ابن حبان في الثقات (6/4)، وقال في التقريب: ((صدوق)).
وللحديث إسناد آخر تختلف فيه على سفيان الثوري. رواه البخاري في "التاريخ" (1/177) عن أبي نعيم، عن يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن يحيى، عن محمد بن عمر بن علي، عن علي بن أبي طالب مختصرًا.
ووراه أحمد (1/83 رقم628)، ومن طريقه الضياء في "المختارة" (2/356 رقم739) من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان، عن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب به مختصرًا. ورواه أبو نعيم في "الحلية” (7/92) من طريق عصام بن يزيد، عن سفيان، عن محمد بن عمر بن علي، عمن حدثه، عن علي به.
(3) في (أ): ((نحو)).
(4) قوله: ((عنه)) سقط من (ك).(5/146)
كتاب الأقضية
1 - ومن باب اليمين على المدَّعَى عليه (1)
قوله - صلى الله عليه وسلم - : «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُم، وَلَكنَّ (2) اليَمِينَ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ»، هذا الحديثُ رواه مسلمٌ والبخاريُّ مرفوعًا من حديث ابن جُرَيْج، عن ابن أبي مُلَيْكة، عن ابن عباس، قال: الأصيلي: لا يصحُّ رفعه، وإنَّما هو من (3) قولِ ابنِ عبَّاس، كذلك رواه أيوبُ ونافعٌ الجُمْحِيُّ عن ابن أبي مليكة.
قال الشيخ: إذا صحَّ رفعه بشهادةِ الإمامَيْن، فلا يضرُّهُ مَنْ وَقَفه، ولا يكونُ ذلك =(5/147)=@
__________
(1) قوله: «اليمين على المدَّعى عليه» سقط من النسخ.يراجع و(أ) و(ك) و(ف) و(ح) و(ق) و(ن).
(2) في (ف): «لكن» بلا واو.
(3) قوله: «من» سقط من (ق) و(ن).(5/147)
تعارُضًا، ولا اضطرابًا؛ فإنَّ الرَّاوي قد يَعْرِضُ له ما (1) يوجبُ السكوتَ عن الرَّفْع مِنْ نسيانٍ (2) ، أو اكتفاءٍ بعلمِ السَّامع، أو غيرِ (3) ذلك، والرَّافعُ عَدْلٌ، ثَبْتٌ، ولم يكذِّبه الآخِرُ؛ فلا يُلتَفَتُ إلى الوَقْفِ، إلا في الترجيحِ عند التعارُضِ، كما بَيَّنَّاهُ في الأصولِ.
وهذا الحديثُ أصلٌ من أصولِ الأحكامْ، وأعظمُ مَرْجِعٍ عند التنازعِ والخصامْ، يقتضى ألَّا يُحْكَمَ لأحدٍ بدعواه - وإنْ كان فاضلاً شريفًا - في حَقٍّ من الحقوق - وإنْ كان محتقَرًا يسيرًا - حَتَّى يستندَ المدَّعِيَ إلى ما يقوِّي دعواه، وإلا فالدَّعاوَى متكافئةٌ، والأصلُ: براءةُ الذممِ (4) من الحقوقِ؛ فلا بُدَّ مما يَدُلُّ على تعلُّقِ الحقِّ بالذِّمَّة، وتترجَّحُ (5) به الدعوَى.
وقوله: «لَادَّعَى نَاسٌ (6) دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ»؛ استدلَّ به بعضُ الناسِ على إبطالِ قولِ مالكٍ في التَّدْمِيَةِ (7) .
ووجهُ استدلالِهِ: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قد سوَّى بين الدماءِ والأموالِ في أنَّ المُدَّعِيَ لا يُسْمَعُ قوله فيهما (8) ، فإذا لم يُسْمَعْ (9) قولُ المُدَّعِي في مرضه: «لي عندَ فُلَانٍ دينارٌ أو (10) دِرْهَمٌ؛ كان أحرَى وأولى ألا (11) يُسْمَعَ قولُهُ: «دَمِّي عند فلانٍ»؛ لحرمةِ الدماءِ.
ولا حجَّةَ لهم فيه؛ لأنَّ مالكًا رحمه الله لم يُسْنِدِ القصاصَ (12) أو (13) الدِّيَةَ في التَّدْمِية لقولِ (14) المدَّعِي: «دمِّي عند فلانٍ»؛ بل للقسامةِ على القَتْلِ، والتَّدْمِيةُ لَوْثٌ يقوِّي جَنَبَةَ (15) المُدَّعِينَ حتى يبدؤوا (16) بالأيمانِ كسائرِ أنواعِ اللَّوْثِ التي تقدَّم ذكرها في كتابِ القَسَامة، وقد بيَّنَّا ذلك فيه (أ)؛ وعلى هذا: فنقولُ بموجَبِ الحديث؛ فتأمَّلْهُ.
وقوله: «وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى المُدَّعَى عليه»؛ المدَّعَى عليه: هو المطلوبُ منه، والمُدَّعِي: هو الطالبُ، وإنَّما كانتِ اليمينُ على المدَّعَى عليه (17) ؛ لأنَّ الأصلَ براءةُ ذمَّته (18) عمَّا طُلِبَ منه (19) ، وهو متمسِّكٌ به، لكنْ يمكنُ أن يقال: قد شَغَلَهَا بما طُلِبَ منه، فَيَدْفَعُ (20) ذلك الاحتمالَ عن نفسه باليمينِ إنْ شاء. وظاهرُ عمومِ هذا اللفظِ =(5/148)=@
__________
(1) في (ح): «بما».
(2) في (ن): «أسباب».
(3) في (ف): «وغير» بالواو.
(4) في (ق) و(ن): «الذمة».
(5) في (ن): «أسباب».
(6) في (أ): «الناس».
(7) في (ق): «الندمة».
(8) في (أ) و(ح) و(ف) و(ق) و(ن): «فيها».
(9) في (أ) و(ف): «ينفع».
(10) في (ن): «و» بدل «أو».
(11) في (ق): «لا» بدل «ألا».
(12) في (ح): «بالقصاص».
(13) في (ق): «و» بدل «أو».
(14) في (ن): «بقول».
(15) في (ق): «الدمية» كذا رسمت.
(16) في (ق): «جنية».
(17) في (ن): «تبدوا».
(18) في (ق): «الذمته».
(19) في (ن): «بقول».
(20) في (ح): «فدفع».(5/148)
يقتضي: أنَّ اليمينَ تتوجَّه على كل من ادُّعِيَ عليه؛ كانت هنالك (1) مخالَطَةٌ (2) أو لم تكنْ؛ وهو قولُ أكثر الفقهاء، وابن نافع، وابن لُبَابَةَ من أصحابنا.
وذهب مالكٌ وجُلُّ أصحابه: إلى أنَّ اليمينَ لا (3) تتوجَّهُ على المُدَّعَى عليه حتى تَثْبُتَ (4) بينهما خُلْطَةٌ. وهو مذهبُ الفقهاءِ السَّبْعة؛ وبه قضَى عليٌّ (5) - رضي الله عنه -؛ وإنما صار (6) هؤلاءِ إلى هذا؛ مراعاةً للمصلحة، ودفعًا للمفسدةِ الناشئةِ من ذلك؛ وذلك: أنَّ السُّفَهَاءَ يتبذَّلون الأفاضلَ والعلماءَ بتكثيرِ الأيمانِ عليهم مهما شاؤوا، حتى يَحْلِفَ الرَّجُلُ الجليلُ القَدْرِ في العلمِ والدِّينِ في اليومِ الواحدِ مرارًا، ويكونُ (7) ذلك الوضيعُ يَقْصِدُ ذلك (8) به؛ ليتخلَّصَ (9) منه بما (10) يَبْذُله له (11) . وَيَهُونُ على أهلِ الدِّينِ والفضلِ بَذْلِ الجزيلِ من المالِْ، في مقابلةِ دَفْعِ هذا الامتهانِ والابتذالْ.
ثم اختلَفَ مشايخنا في معنى الخُلْطة:
فقيل: معرفةُ المعاملةِ والمداينةِ معه بشاهدٍ أو شاهدين.
وقيل: أن يكونَ المُدَّعىَ عليه يشبهُ أن يعامِلَ المدَّعِيَ.
وقيل: يجزئُ من (12) ذلك الشُّبْهةُ.
وأجمع العلماء على استحلاف المُدَّعَى عليه في الأموال، واختلفوا في غير ذلك:
فذهب الشافعيُّ، وأحمد، وأبو ثور: إلى وجوبها على كلِّ مُدَّعًى عليه في حَدٍّ، أو طلاقٍ، أو نكاحٍ، أو عتقٍ؛ أخذًا بظاهرِ عمومِ الحديث، فإنْ نَكَلَ، حُلِّفَ المُدَِّعيَ، وثبتت (13) دعواه.
وقال أبو حنيفة، وأصحابُهُ: يحلفُ على النكاحِ، والطلاقِ، والعتقِ، وإنْ نَكَلَ، لزمه ذلك كلُّه (14) .
وقال الثوري، والشعبي، وأبو حنيفة: لا يُسْتحلفُ في الحدود، والسَّرِقة.
وقال نحوَهُ مالكٌ، قال: ولا يُسْتحلفُ في السَّرِقةِ إلا إذا كان مُتَّهَمًا، ولا (15) في الحدودِ، والنكاحِ، والطلاقِ (16) ، والعِتْقِ، إلا أن يقوم (17) شاهدٌ واحدٌ، فَيُسْتحلفُ (18) المدَّعَى عليه؛ لِقُوَّةِ شبهةِ الدَّعْوَى.
واختَلَفَ قولُهُ إذا نَكَلَ؛ =(5/149)=@
__________
(1) في (ح) و(ن) و(ق): «هناك».
(2) في (ن): «مخاطة».
(3) في (ف): «على» بدل «لا».
(4) في (ك): «تثبت»، والتاء الأولى مهملة في (ح) .
(5) ....
(6) في (ح): «صال» وفي (ك): «ال» وألحق بالهامش «صار» ووضع فوقها «خ»..
(7) في (أ): «ويكون» و(ك) و(ف).
(8) في (ح): «بذلك».
(9) في (أ): «ليتلخص».
(10) في (أ): «ما».
(11) قوله: «له» سقط من (ح) و(ق).
(12) في (ف): «في» بدل «من».
(13) في (ف): «وتثبت».
(14) قوله: «كله» سقط من (أ).
(15) في (ن): «لا» بلا واو.
(16) قوله: «والطلاق» سقط من (ق).
(17) في (ح): «يكون».
(18) في (أ) و(ف): «فيستحلف مالك».(5/149)
هل يُحْكَمُ عليه بما ادَّعِىَ عليه، أو يُسْجَنُ حتَّى يحلف، أو حتَّى يطولَ سِجنْه، وفي كتاب الدارقطني (1) مِنْ حديث عمرِو (2) بن شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال: «إِذَا ادَّعتِ اَلْمَرْأَةُ طَلاَقَ زَوْجِهَا، فَجَاءَتْ (3) عَلَى ذَلِكَ بِشَاهِدٍ عَدْلٍ- استُحْلِفَ زَوْجُهَا؛ فَإِنْ حَلَفَ بَطَلَتْ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ، وَإِنْ نَكَلَ؛ فَنُكُولُهُ بِمَنْزِلَةِ شَاهِدٍ آخَرَ، وَجَازَ طَلاَقُهُ». وهذا الحديثُ نَصٌّ في البابْ، لكنَّه يحتاجُ إلى قوائمَ وأطنابْ (4) .
وقوله: «البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي» هذا بيانُ حكمِ المُدَّعِي، وإنْ (5) لم يتعرَّضْ لبيانِ حُكْمِ المُدَّعَى عليه، وهو تعيينُ (6) اليمينِ عليه؛ لكنَّه قد بيَّن ذلك في حديث الحضرميِّ، الذي قال فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للمدَّعِي: «شَاهِدَاكَ أَوْ يِمينُهُ» (7) وقد تقدَّم في «الإيمان» (8) .
وقد ذكَرَ أبو عمرَ بنُ عبدالبر من حديثِ عمرِو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : «اَلبيِّنَة عَلَى المُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ؛ إِلاَّ فِي الْقَسَامَةِ» (9) ، وَهَذَا الحديث - وإن كان ضعيف السند (10) ؛ لأنه مِنْ حديث مسلمِ بنِ خالد الزَّنْجِيِّ، ولا يُحْتَجُّ به - فمعناه صحيحٌ، يشهدُ له قولُهُ - صلى الله عليه وسلم - : «شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ» (11) ، وقولُ ابن عَبَّاس في الطريقِ الأخرى (12) : «إنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بالْيَمِينِ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ.
وقوله: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بيمينٍ وَشَاهِدٍ»؛ ظاهره: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - حَكَمَ في =(5/150)=@
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (1/657 رقم2038) كتاب الطلاق، باب الرجل يجحد الطلاق، والدارقطني (4/64 رقم 166)، والخطيب في "تاريخه" (2/45). ثلاثتهم من طريق زهير بن محمد، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعبب عن أبيه، عن جَدِّه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال: «إذا ادَّعت المرأةُ طَلاَقَ زَوْجها، فجاءَتْ على ذلك بشاهدٍ عدلٍ - استُحْلِفَ زوجُهَا، فإنْ حلَفَ بطَلَتْ شهادةُ الشاهد، وإنْ نَكَلَ، فنكوله بمنزلةِ شاهدٍ آخَرَ، وجاز طلاقُهُ».
قال ابن أبي حاتم في "العلل" (1/432 رقم 1299): «سألتُ أبي عنه؟ فقال: هذا حديثٌ مُنْكَر».اهـ.
وقال الألبانيُّ في "الضعيفة" (5/239 رقم2211): «وعلَّته زُهَيْر بن محمد، وهو الخراسانيُّ، ضعيفَ مِنْ قِبَلِ حِفْظه، كما تقدَّم مرارًا، فقولُ البوصيريِّ - في "الزوائد" (2/128): هذا إسناد حسن، رجالُهُ ثقات-: مردودٌ، لا سيما وفيه أيضًا عنعنةُ ابن جُرَيْج.اهـ.
(2) في (ك): «الدارقطني عن عمرو».
(3) في (ك): «فأتت».
(4) في (ن): «أطناب» بلا واو.
(5) قوله: «إن» سقط من (ح) و(ك) و(ف) و(ق) و(ن).
(6) في (أ): «تعين» و(ك) و(ن).
(7) تقدم في باب إثم من اقتطع حق امرئ بيمينه، من كتاب الأيمان.
(8) تقدَّم في كتاب الإيمان، باب ** سبق تخريج هذا الحديث في كتاب الإيمان باب «إثم من اقتطع حق امرئ بيمينه، وتخريجه هناك يخالف تخريجه هنا فليجمع التخريجين معًا في الموضع الأول، وَلْيُحَلْ في هذا الموضع الثاني**
(9) هو في "التمهيد" لابن عبد البر (23/204)، والحديث أخرجه الترمذي (3/626 رقم1341) كتاب الأحكام، باب ما جاء أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، من طريق محمد بن عبيدالله العرزمي، عن عمرو بن شعيب، به، ولكن لم يقل: «واليمين على المدعى عليه». وقال الترمذي: «هذا حديث في إسناده مقال، ومحمد بن عبيدالله العرزمي يضعف في الحديث من قبل حفظه، ضعفه بن المبارك وغيره».
ورواه الدارقطني (4/218)، والبيهقي (8/123)، وابن عبدالبر (23/204) من طريق مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب به باللفظ المذكور، ومسلم بن خالد الزنجي ضعيف، قال ابن عبدالبر: «وهذا الحديث وإن كان في إسناده لين، فإن الآثار المتواترة في حديث هذا الباب تعضده».
قلت: يعني أحاديث القسامة، وقال الدارقطني عقب إخراجه: «ورواه عبدالرزاق، عن ابن جريج وحجاج عن ابن جريج عن عمرو مرسلاً». وقال الحافظ في "التلخيص"(4/74 رقم1977): «قال البخاري: ابن جريج لم يسمع من عمرو بن شعيب، فهذه علّة أخرى».
ورواه البيهقي (10/256) من طريق المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب به. قال الألباني في "الإرواء" (8/267): «والمثنى ضعيف».
ورواه الدارقطني (4/218)، والبيهقي (10/256) من طريق حجاج بن أرطاة وهو صدوق كثير الخطأ والتدليس.
(10) في (ق): «المسند» وكتب في الهامش «السند» وكتب فوقها (نسخه).
(11) متفق عليه، تقدم....
(12) في (ح): «الآخر».(5/150)
قضيةٍ معيَّنةٍ تُحُوكِمَ عنده فيها بيمينٍ وشاهد.
ويَحْتملُ أن يكونَ ذلك عبارةً عن تقعيدِ هذه القاعدة؛ فكأنه قال: أوجَبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الحكمَ باليمينِ والشاهد؛ ومِمَّا يَشْهَدُ لهذا التأويلِ: ما زاده أبو داود (1) في (2) حديث ابن عباس: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ فِي الحُقُوقِ. وهذا الذي يظهر مِنْ حديثِ أبي هريرة (3) الذي قال فيه: قَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِاليَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ. فعلى الظاهر الأولِ من حديث مسلم: لا يكونُ له عمومٌ؛ لأنَّها قضيَّةٌ في عَيْن، وعلى زيادة أبي داود، وظاهِرِ حديث أبي هريرةَ: يكونُ له عموم؛ ومع ذلك فهو مخصوصٌ بالأموالِ وما يتعلَّق بها.
قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب رحمه الله: «ذلك في الأموالِ وما يتعلَّقُ بها دونَ حقوقِ الأبدانِ؛ للإجماعِ على ذلك مِنْ كُلِّ قائلٍ (4) باليمين مع الشاهد»، قال: لأنَّ حقوقَ الأموالِ أخفَضُ من حقوقِ الأبدان؛ بِدَلَالةِ قَبُولِ شهادةِ النساءِ فيها، وقد اختلَفَ قولُ مالكٍ في جراح العَمْد؛ هل يجبُ القَوْدُ فيها بالشاهدِ (5) واليمينِ؟ فيه روايتان:
إحداهما (6) : أنه يجبُ به التخييرُ بين القَودِ والدِّيَةِ.
والأخرى: أنَّه لا يَجِبُ (7) به (8) ؛ لأنَّه مِنْ حقوقِ الأبدان»، قال: «وهو الصحيحُ، قال مالكٌ في "الموطَّأ" (9) : وإنما يكونُ ذلك في الأموالِ خاصَّةً، وقال الإمامُ أبو (10) عبدالله: يُقْبَلُ (11) ذلك في المالِ الْمَحْضِ من غير خلاف، ولا يُقْبَلُ في النكاحِ والطلاقِ المحضَيْنِ (12) من غير خلاف. وإن (13) كان مضمون الشهادةِ ما ليس بمال، ولكنَّه يُؤَدِّي إلى المالِ كالشهادةِ، والوصيَّةِ (14) ، والنكاحِ بعد الموتِ حتى لا يُطْلَبَ مِنْ ثبوتها إلا المال، إلى غيرِ ذَلك - ففي قبوله اختلافٌ. فمَنْ راعى المالَ قَبِلَهُ، كما يَقْبَلُ في المال، ومن راعى الحالَ لم يقبله. =(5/151)=@
__________
(1) رواه ابو داود (4/33 رقم 3609) كتاب الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد، ومن طريقه البيهقي (10/168) عن محمد بن يحيى وسلمة بن شبيب، عن عبدالرزاق، عن محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، به.
قال أبو داود: «قال سلمة في حديثه: قال عمرو: في الحقوق». فجعل هذا القول موقوفًا على عمرو بن دينار.
وقد رواه البيهقي (10/168) من طريق أبي حذيفة النهدي، عن محمد بن مسلم به، ولم يذكر هذاالقول. ويؤيد أنه من قول عمرو؛ ما رواه أحمد (1/323 رقم2970)، والبيهقي (8/167) من طريق عبدالله بن الحارث المخزومي، عن سيف بن سليمان، عن قيس بن سعد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد. قال عمرو: في الأموال.
(2) في (ف): «من» بدل «في».
(3) رواه ابو داود (4/34 رقم 3610 و3611) كتاب الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد، وابن ماجه (2/793 رقم2368) كتاب الأحكام، باب القضاء بالشاهد واليمين، والترمذي (3/627 رقم1343) كتاب الأحكام، باب ما جاء في اليمين والشاهد، وابن الجارود (1007)، والطحاوي (2/281) من طريق ربيعة بن أبي عبدالرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، فذكره.
قال الترمذي: «حسن غريب». وصححه أبو حاتم في "العلل" (1/469).
ورواه النسائي في "الكبرى" (3/491 رقم6014) كتاب القضاء، باب الحكم باليمين مع الشاهد، والبيهقي (10/169) من طريق محمد بن المبارك الصوري، قال: ثنا المغيرة بن عبدالرحمن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة بمثله.
وهذا إسناد حسن في المتابعات.
المغيرة بن عبدالرحمن الحزامي قال عنه أحمد وأبو داود: «ليس به بأس». ووثقه الذهبي. وقال النسائي: «ليس بالقوي»، وضعفه ابن معين. وقال ابن عدي: «عامة روايته عن أبي الزناد شيء يوافقه عليها الثقات، عن أبي الزناد، ومنه ما لا يوافق عليه». وقال ابن حجر: «ثقة له غرائب». "تهذيب الكمال" (28/389).
وروى البيهقي (10/169) عن أحمد بن حنبل قوله: «ليس في هذا الباب حديث أصح من هذا».
(4) في (ح): «من كل من قال».
(5) قوله: «بالشاهد» مطموس في (ح).
(6) في (ف): «أحدها».
(7) في (ك): «والأخرى أنه يجب».
(8) في (ف): «به شيء لأنه» وقوله: «به» سقط من (ق).
(9) (2/722).
(10) في (ق): «أبي».
(11) قوله: «يقبل» سقط من (ق) و(ن).
(12) في (ق): «المحض» وفي (ن): «والمحض».
(13) في (ن): «ولمن».
(14) في (أ) و(ق) و(ك) و(ف) و(ن): «بالوصية» بدل «والوصية».(5/151)
قال الشيخ رضي الله عنه: والعذرُ لمالك عن خروجِهِ عن ذلك الأصلِ - المجمَعِ عليه فيما (1) كان المقصودُ منه (2) المالَ فَقَطْ واضحٌ. وإمَّا الجِرَاحُ العَمْدِ: فليستْ (3) بمال، ولا تؤدِّي إليه، وإنما يدخُلُ (4) المالُ فيها برضا المجروحِ. ثم يلزمُهُ (5) عليه أن يَعْمَلَ بالشاهدِ واليمينِ في قتلِ النفسِ العَمْد؛ لأنَّه قد يرض (6) بها الأولياء ولا قائلَ به، ولا يلتفت (7) لتفريقِ مَنْ فرَّق مِنْ أصحابنا بين الجراحِ والنَّفْس، بأنَّ (8) مِنْ جنس الجراح (9) ما لا يكونُ فيه إلا المالُ؛ لأنَّا كذلك نَقُولُ في القتل، فإنَّ (10) مِنْ جِنْسِهِ (11) ما (12) لا يكونُ فيه إلا المالُ، وهو قَتْلُ الخطأ. فالصحيحُ مِنْ هذا: أنَّه لا يُحْكَمُ بالشاهدِ واليمينِ في الجراح بوجه.
ثُمَّ أحاديثُ هذا الباب كلُّها حجَّةٌ للجمهور على الكوفيِّين، والأوزاعيِّ، والنَّخَعِيِّ، وابنِ أبي ليلى، والزُّهْريِّ، والليثِ، والحَكَم، والشَّعْبيِّ، حيث نَفَوُا (13) الحكمَ بالشاهدِ واليمين، وَنَقَضُوا حُكْمَ مَنْ حَكَمَ به (14) ، وبدَّعوه، وقال (15) الحكم: «الشاهدُ واليمينُ بِدْعَةٌ، وأوَّلُ مَنْ حكَمَ به معاويةُ.
قال الشيخ رضي الله عنه: يا لَلْعَجَبْ! وَلضَيْعَةِ العلمِ والأَدَبْ! كيف ردَّ هؤلاءِ القومُ هذه الأحاديثَ (16) مع صحَّتها وشُهْرتها؟! وكيف اجترؤوا على تبديعِ مَنْ عَمِلَ بها حتَّى نقضوا حُكْمَهْ (17) ، واستَقْصَرُوا عِلْمَهْ (18) ؛ مع أنَّه قد عَمِلَ بذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم: أبو بكر، وعمر، وعلي، وأبي بن كعب، ومعاوية (19) ، وشُرَيْح، وعمر بن عبدالعزيز - وكتَبَ به إلى عُمَّاله -، وإيَاسُ بن معاوية، وأبو سَلَمَةَ بنُ عبدالرحمن، وأبو الزناد، وربيعةُ؛ ولذلك (20) قال مالك: وإنَّه لَيَكْفِي من ذلك ما مَضَى من السُّنة. أترى هؤلاءِ تُنْقَضْ أحكامُهُمْ، ويُحْكَمُ ببدعتهم؟!
قالوا: والذي حمَلَ هؤلاءِ المانعين على هذا اللَّجَاجْ ما اغترُّوا به من واهن الحِجَاجْ (21) ؛ وذلك أنَّهم وقع لهم: أنَّ الحكم باليمينِ مع الشاهدِ (22) زيادةٌ على نَصِّ (23) =(5/152)=@
__________
(1) في (أ): «فيها».
(2) في (ح) و(ك) و(ن) و(ق): «فيه».
(3) في (أ): «فليس».
(4) في (ح): «يأخذ».
(5) في (ق) و(ن): «يلزم»
(6) في (ق) و(ن): «رضي».
(7) في (أ): «فلا يلتفت».
(8) قوله: «بأن» سقط من (ن).
(9) في (ن): «النفس» بدل الجراح.
(10) في (ف): «في» بدل «من».
(11) في (ح): «حنسية».
(12) من قوله: «ما لا يكون فيه...» إلى هنا سقط من (ن).
(13) في (ق): «بقوا» وفي (ن): «يقول».
(14) في (ن): «فيه» بدل «به».
(15) في (أ) و(ق) و(ن) و(ك): «قال» بلا واو.
(16) في (ق) و(ن): «والأحاديث».
(17) في (ح): «حكمها».
(18) في (ن): «عمله».
(19) ...................
(20) في (ن): «وكذلك».
(21) في (أ): «اللجاج».
(22) في (أ): «باليمين والشاهد».
(23) قوله: «نص» سقط من (ك).(5/152)
قولِهِ تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} (1) ، ووجهُ تمسُّكهم: أنها حاصرةٌ للوجوهِ (2) التي يُسْتَحَقُّ (3) بها المالُ، نصٌّ في ذلك، فالزيادة (4) على ذلك نسخٌ. ونسخُ القاطعِ بخبرِ الواحدِ لا يجوزُ إجماعًا، والقضاءُ بالشاهدِ واليمينِ إنَّما جاء بِخَبَرِ الواحدِ فلا يُقْبَلُ.
والجوابُ: مَنْعُ كونِ الزيادةِ على النَّصِّ نسخًا؛ إذِ الجَمْعُ بين النصِّ والزيادةِ يَصِحُّ، وليس ذلك نَسْخًا لحكمٍ شرعيٍّ، كما بيَّنَّاه في الأصول ** مسألة أصولية توثيق **. سلَّمناه؛ لكنْ لا نُسَلِّمُ: أنَّ الآيةَ نَصٌّ في حصر ذلك؛ لأنَّ ذلك يَبْطُلُ بنكولِ المطلوب، ويمينِ الطالب؛ فإنَّ ذلك يُسْتحقُّ به المالُ إجماعًا؛ وهذا معنَى (5) ما أشار إليه مالكٌ في "الموطَّأ" ** توثيق **، وهو واضحٌ، ثمَّ نقولُ بموجَبِ الآية؛ إذ نصُّها الأمرُ بمَنْ يُسْتشهدُ في المعاملاتْ، لا (6) ما يُقْضَى (7) به عند الدَّعاوَى والخصوماتْ.
وَمِنْ بَابِ حُكْمُ الْحَاكِمِ فِي الظَّاهِرِ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الْبَاطِنِ
قوله - صلى الله عليه وسلم - : «إنَّمَا أَنَا بَشْرٌ»؛ تنبيهٌ على: أنَّ أصلَ البشرَّيةِ عدمُ العلم بالغَيْبِ، وبما يخفى مِنْ (8) البواطن؛ إلا مَنْ أطلعَهُ اللهُ تعالى على شيء من ذلك - وعلى جَوَازِ الغَلَطِ والسَّهْوِ عليهم (9) ؛ إلا من عصمه اللهُ تعالى من ذلك (10) .
وقد كان(اللهُ تعالى قادرًا أن يُطْلِعَ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - على بواطنِ كُلِّ مَنْ يتخاصَمُ (11) إليه؛ فيحكُمُ بخفيِّ ذلك، ويُخْبِرُ به، كما قد (12) اتفَقَ له في مواضع (13) ؛ كقصَّة (14) كتابِ (15) حاطب بن أبي بَلْتَعَةَ (16) ، وحديثِ فَضَالَةَ بن =(5/153)=@
__________
(1) ؛ الآية: 282. سورة البقرة.
(2) في (أ): «للوجود».
(3) في (ن): «تستحق».
(4) في (أ) و(ح) و(ف) و(ن): «فالزيادة».
(5) في (ن): «يعنى».
(6) في (ن): «ولا».
(7) في (ف): «يفضي».
(8) في (ف): «عن».
(9) قوله: «عليهم» سقط من ق).
(10) من قوله: «وعلى جواز الغلط ...» إلى هنا سقط من (ن).
(11) في (ح) و(ك) و(ف): «يتخاصم».
(12) قوله: «قد» سقط من (ك).
(13) في (ق) و(ن): «مواضع كثيرة».
(14) في (أ): «كقضية».
(15) قوله: «كتاب» سقط من (ن).
(16) ستأتي في باب قِصَّةِ حاطبِ بنِ أبي بَلْتعة، وفَضْلِ أهلِ بدر، وأصحابِ الشَّجَرة، من كتاب النبوَّات.(5/153)
عبيد، وذلك: أنه أراد قَتْلَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يطوفُ بالبيت، قال: «فلمَّا دَنَوْتُ منه قال: «أَفَضَالَةُ (1) ؟»، قلت: نَعَمْ، قال: «ما كُنْتُ تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَكَ؟» قلتُ: لا شَيْءَ، فَضَحِكَ، وأخبَرَنِي (2) بذلك، واستَغْفَرَ لي، ووضَعَ يَدَهُ على صَدْرِي، فَسَكَنَ قَلْبِي (3) ، وَغَيْرِ ذلك من الوقائع التي أخبَرَ بِهَا، فَوُجِدَت كما أخبَرَ، وكما قد اتفَقَ ذلك للخضر عليه السلام في قِصَّةِ السفينة، والغلامِ، والجدارِ، لكنْ إنَّما كان ذلك للأنبياءِ عليهم السلام مِنْ جملةِ (4) كراماتِهِمْ، ومعجزاتِهِمْ، ولم يجعلِ الله تعالى ذلك طريقًا عامًّا، ولا قاعدةً كليَّة، لا لهم، ولا لغيرهم؛ لاستمرارِ العادةِ بأنَّ ذلك لا يَقَعُ مِنْ غير الأنبياء، ولأنَّ وقوعَ (5) ذلك مِنَ الأنبياء عليهم السلام نادرٌ؛ وتلك سُنْةُ الله، {ولن تجد لسنة الله تبديلاً} (6) .
وقد شاهدتُّ بعضَ المُمَخْرِقين (7) ، وسمعنا منهم: أنهم يُعْرِضون عن القواعدِ الشرعية، ويَحْكمون بالخواطرِ القلبيَّة، ويقولُ: «الشاهدُ المتصلُ بي (8) ، أعدَلُ من الشاهِدِ المنفصلِ عني»؛ وهذه مَخْرَقَهْ أبرزَتْهَا زَنْدَقَة، يُقتل (9) صاحِبُهَا، ولا يستتابْ، من غير شَكٍّ ولا ارتيابْ؛ وهذا خيرُ البَشَرْ (10) ، يقولُ في مثلِ هذا الموطن: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرْ»؛ معترفًا بالقصورِ عن إدراكِ المغيَّبَاتْ، وعاملاً بما نَصَبَهُ اللهُ تعالى له مِنِ اعتبارِ الأيمانِ والبيِّناتْ.
وقوله: «يَأْتِينِي الْخَصْمُ»، أي: الخصومُ (11) ؛ فهو (12) ههنا (13) للجِنْس؛ ويقال للواحدِ، وللاثنَيْنِ (14) ، والجمع (15) ، والمذكَّرِ، والمؤنَّث (16) ، بلفظ واحد: خَصْمٌ. كما قال تعالى: {وهل أتاك نبؤ الخصم} (17) ، أي: الخصوم (18) ؛ فإنَّه قال بعد ذلك: {إذ تسوروا المحراب} (19) .
وقوله: «وَلَعَلَّ (20) بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ»، أي: أفصَحَ =(5/154)=@
__________
(1) في (ف): «فضالة».
(2) في (ف): «وأخبر لي».
(3) ذكره ابن هشام في "السيرة" (2/417).
(4) في (ن): «حكمة».
(5) في (ح) و(ق): «ولئن وقع».
(6) الآية () من سورة؟؟؟؟؟.
(7) في (ن): «المخرقين».
(8) في (ن): «في» بدل «بي».
(9) في (ن): «تقتل».
(10) في (ح): «النبي - صلى الله عليه وسلم - »، وليس في (أ).
(11) في (ك): «المخصوم».
(12) في (ف): «وهي».
(13) في (ح) و(ك): «ها هنا» وفي (ن): «هنا».
(14) في (ح) و(ك) و(ف): «والاثنين».
(15) في (أ) و(ف): «والجميع».
(16) في (ك): «والمؤنث والمذكر».
(17) ؛ الآية: 21. سورة ص.
(18) في (ك): «المخصوم».
(19) ؛ الآية: 21. سورة ص.
(20) في (ح): «فلعل».(5/154)
وأفطَنَ. قال (1) أبو زيد: لَحَنْتُ له - بالفتح - أَلْحَنُ لَحْنًا: إذا قلت له قولاً يفهمُهُ عنك، ويَخْفَى على غيره. ولَحِنَهُ هو عَنِّي (2) - بالكسر- يَلْحَنْهُ لَحْنًا؛ أي: فَهِمَهُ (3) . وأَلْحَنْتُه أنا إيَّاه، ولاحَنْتُ النَّاس؛ أي: خاطبتهم. قال (4) الشاعر:
وَلَقَدْ وَصَيْتُ (5) إِلَيْكُمُ (6) كَيْ (7) تَفْهَمُوا وَلَحَنْتُ لَحْنًا لَيْسَ بِالمُرْتَابِ (8)
وقال غيرُ أبي زيد:اللَّحنُ (9) ، بالتحريك: الفِطْنَة (10) . وقد لَحِنَ، بالكسر؛ قاله الجوهريُّ.
قال الشيخ: وعلى هذا: يقالُ فيه بمعنى الفطنة (11) : بفتح الماضي وكسره، وفي المصدر: بفتح (12) الحاء وإسكانها. ويقال: اللَّحن، على الخطأ (13) في القولِ، وعلى تلحينِ الشِّعْر، وعلى القَصْدِ إلى الشيء، والإشارةِ إليه.
قال الشيخ: وقد جاء هذا اللفظُ مفسَّرًا في الروايةِ الأخرى، فقال: «فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ»، أي: أكثَرَ بلاغةً، وإيضاحًا لحجَّته (14) .
وقوله: «فَأقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا (15) أَسْمَعُ مِنْهُ»، يتمسَّك (16) به مَنْ قال: إنَّ الحاكمَ لا يحكُمُ بعلمه في شيء مِنَ الأشياء إلا بما (17) يَعْلَمُهُ في مجلسِ حُكْمه (18) . ووجهُ تَمَسُّكِهِ: أنَّ كلامَهُ - صلى الله عليه وسلم - يفضي (19) إلى (20) أنَّه لا يَحْكُمُ إلا بما سَمِعَ في حالِ حُكْمه (21) . وقد رُوِيَ هذا الحرفُ (22) : «إِنَّمَا أَحْكُمُ بِمَا أَسْمَعُ»، و«إِنَّمَا» (23) للحصر؛ فكأنه (24) قال: لا أَحْكُمُ إلا بما أسمَعُ؛ =(5/155)=@
__________
(1) قوله: «قال» مكرر في (ق).
(2) قوله: «هو عنى» سقط من (ن).
(3) في (ن): «يفهمه».
(4) في (ح): «كما قال» وفي (ق): «وقال»..
(5) في (ك): «لحنت» وفي (أ) و(ن) و(ف) و(ح): «وصيت»..
(6) في (ق): «إليكموا» كما رسمت.
(7) في (ق): «كي» وكتب في الهامش «حتى» ووضع فوقها (نسخه).
(8) بيت من قصيدة للكلابي، ذكره الميداني في "مجمع الأمثال" (2/255).
(9) في (ن): «ألحن».
(10) في (ف): «العطية».
(11) في (ف): «العطية».
(12) قوله: «بفتح» لم يتضح في (ك).
(13) في (ن): «ألحن».
(14) في (ق): «للحمة».
(15) في (ح) و(ك): «ما».
(16) في (ح) و(ك): «يتمسك» في (ن): «فيتمسك».
(17) في (ك): «ما».
(18) من قوله: «إلا بما....» إلى هنا سقط من (أ) و(ف).
(19) في (أ) و(ح) و(ف) و(ق) و(ن): «يعطي». وفي حاشية (ك): «يعطي أنه» وفوقها (خ) وكتب في حاشية (ق): «يفضي إلى» ووضع فوقها (نخـ).
(20) قوله: «إلى» سقط من (ف) و(ح) و(ن).
(21) قوله: «في حال حكمه» سقط من (أ) و(ف).
(22) في (ح): «الحكم».
(23) في (ن): «إنما».
(24) في (ق): «فإنه».(5/155)
وقد اختُلِفَ في هذا (1) :
فقال (2) مالك في المشهور (3) عنه: إن الحاكمَ لا يحكُمُ بعلمه في شيء (4) ؛ وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو عُبَيْد، والشَّعْبيُّ، وروي عن شُرَيحْ، وذهبتْ طائفة: إلى (5) أنَّه يقضي بعلمه في كل شيء من الأموالِ والحدودِ وغيرِ ذلك مطلقًا؛ وبه قال أبو ثَوْر ومَنْ تبعه، وهو أحدُ قولَي الشافعيِّ.
وذهبَتْ (6) طوائفُ إلى التفريق:
فقالت طائفه: يقضي بما سَمِعَهُ في مجلسِ قضائِهِ خاصَّة، لا قبله، ولا في غيره؛ إذا لم تحضُرْ (7) مجلسَهُ (8) بيِّنةٌ، وفي الأموالِ خاصَّة. وبه قال الأوزاعيُّ، وجماعةٌ من أصحابِ مالك، وحكَوْهُ عنه. وقالتْ طائفة: يحكُمُ بما سمعه في مجلسِ قضائه، وفي غيرِهِ، لا قبلَ قضائه، ولا في غيرِ مِصْرِهِ، في الأموالِ خاصَّة؛ وبه قال أبو حنيفة.
وقالتْ طائفة: إنَّه يقضي بعلمِهِ في الأموالِ خاصَّةً سواءٌ (9) سمع ذلك في مجلسِ قضائِهِ وفي غيره، قَبْلَ ولايتِهِ أو بعدها؛ وبه قال أبو يوسف، ومحمد، وهو أحَدُ قولَيِ الشافعيِّ. وذهب بعضُ أصحابنا: إلى أنَّه يَقْضِي بعلمِهِ في الأموال، والقذفِ خاصَّةً، ولم يشترطْ مجلسَ القضاء.
واتفقوا: على أنَّه يحكُمُ بعلمه في الجَرْحِ والتعديل؛ لأنَّ ذلك ضروريٌّ في حقِّه.
والصحيح: الأوَّل؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث هلال بن أُمَيَّة، لَمَّا لاعَنَ زوجَتَهُ: «أَبْصِرُوُه؛ فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ - يعني: الولد (10) - عَلَى نَعْتِ كَذَا؛ فَهُوَ لِهلَالٍ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى نَعْتِ كَذَا، فَهُوَ لِشَرِيكٍ». فجاءَتْ به على النعتِ المكروه؛ فقال (11) : «لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُ هَذِهِ» (12) ؛ فلم يحكُمْ بعلمه؛ لعدم قيام البينة، وعند المخالِفِ: يجبُ أن يَرْجُمَهَا (13) إذا عَلِمَ ذلك. قاله عبد الوَهَّاب. فهذا ظاهرٌ قويٌّ في الحدود. وأمَّا في غيرها: فَيْدُلُّ عليه حديثُ خُزَيْمة (14) رضي الله عنه، حيثُ اشترى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من أعرابيِّ بَعِيرًا، فمشَى معه لِيُعْطِيَهُ ثمنه، فعرَضَ للأعرابيِّ مَنْ زاده في الثَّمَنِ، فأرادَ =(5/156)=@
__________
(1) قوله: «وقد اختلف في هذا» سقط من (أ) و(ف)، وجاء بدلاً منه: «ولهذا القول».
(2) في (أ) و(ف): «قال».
(3) في (ك): «فقال في المسهور».
(4) قوله: «في شيء» سقط من (ق) و(ن).
(5) في (ن): «وذهب إلى أنه».
(6) في (ح) و(ق) و(ك): «وذهب».
(7) في (أ) و(ك) و(ق) و(ن): «لم يحضر».
(8) قوله: «مجلسه» سقط من (ك).
(9) في (ف): «سوى» كذا رسمت وفي (ق): «سوى ما سمع».
(10) قوله: «يعنى الولد» سقط من (ح).
(11) في (أ): «فقال» و(ك) و(ف) و(ح).
(12) قوله: «هلال ابن أمية لما لاعن زوجته» هذا الحديث رواه مسلم (2/1134 رقم 1497 من حديث ابن عباس رضي الله عنهما والذي في مسلم وغيره أن ابن شداد بن الهاد قال لابن عباس رجمت هذه؟ فقال ابن عباس: لا. تلك امرأة كانت تظهر في الإسلام السوء.
وقد استقصيت طرق هذا الحديث فوجدتها نحو ما ذكرت.
وأما المرأة التي كانت تظهر في الإسلام السوء وقال فيها النبي ( قوله ذاك فقد روى ابن ماجه (2/855 رقم 2559) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا مرفوعًا «لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة لرجمت فلانة فقد ظهر الريبة في منطقها وهيئتها ومن يدخل عليها وقال البوصيري في مصباح الزجاجة: إسناده صحيح ورجاله ثقات.
(13) في (ك): «يرجمه».
(14) أخرجه أحمد (5/215)، وأبو داود (3607)، والنسائي في "الكبرى" (6243)، وفي "المجتبى" (4647)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2085)، والطحاوي في "شرح المعاني" (4/146)، والحاكم (2/21)، والبيهقي (7/66)، (10/145)، وابن الجوزي في "التحقيق" (2/389). كلُّهم من طرق عن الزهري، عن عمارة بن خُزَيْمة، عن عمِّه خُزَيْمة بن ثابت - رضي الله عنه – به؛ قال ابن كثير في "تحفة الطالب" (1/290): «إسناده صحيح حجَّة».
وأخرجه ابن أبي شَيْبة، ومِنْ طريقه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (4/115)، والطبراني في "الكبير" (3730)، وابن شاهين كما في "الإصابة" (3/215)، والحاكم (2/22)، والبيهقي (10/146) من طرق عن زيد بن الحُبَاب، عن محمد بن زُرَارة بن خُزَيْمة بن ثابت، حدَّثني عمارة بن خُزَيْمة، عن أبيه. ورواية الزهري أثبَتُ، محمَّد بن زرارة لم أَرَى من وثَّقه، وذكره ابن حبان في «الثقات».(5/156)
أن يَبيعَهُ، فقالَ له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : «قَدْ بِعْتَهُ مِنيِّ»، فأنكَرَ الأعرابيُّ، وقال (1) : مَنْ (2) يَشْهَدُ لَكَ؟ فاستدعَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ يَشْهَدُ (3) ، فشهد خزيمة. فهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحكم بعلمه حتى قامت الشهادة.
ولا ينفصل عن هذا بأن (4) النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما فعل هذا (5) لأن الحق كان له، ولا يشهد أحدٌ لنفسه، ولا يحكم لها، ولأنَّه (6) لا يُعطَى أحد بدعواه، ولأنه (7) قصد قطع حجَّة الأعرابي لما طلب منه الشهادة؛ لأنَّا نقول: إنَّما اعتبر ذلك كلَّه في حق غير النبي - صلى الله عليه وسلم - لإمكان ادِّعاء الباطل والكذب، وإرادة أخذ مال الغير، ودفعه عن حقِّه. وكل ذلك معدومٌ في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - قطعًا. ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - (8) للمناففين: «أَيَأْمَنُنِي الله تعالى (9) على خزائنه ولا تأمنوني، والله إني (10) لأمين من في السماء (11) » (12) .
وأمَّا قوله: «إنما فعله لقطْعِ حُجَّة الخَصَمْ»، فإنَّه باطل؛ إذ لا حجَّة له، ولا لغيره، على خلاف ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - . فإن هذا الأعرابي إن (13) كان مسلمًا؛ فقد علم صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - . وإن كان كافرًا؛ فلا مبالاة بقوله؛ إذ قد قام دليل على (14) صدقه، وعلمه العقلاء، كما لم يُبال بقول من كذَّبه من الكُفَّار، ولا بقول الذي اتهمه في القسمة؛ حيث قال: يا محمد! اعدل، فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله (15) .
ومِنْ أوضحِ ما يَدُلُّ على المطلوب، وأصحِّهِ: حديثُ أبي جَهْم (16) ؛ حيثُ بعثه رسولُ (17) الله - صلى الله عليه وسلم - (18) مصدِّقًا، فلاحاه رَجُلَانِ، فشجَّهما، فأتيا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يطلبان القِصَاصَ، فَبَذَل لهما مالاً، فَرَضِيَا به، فقال: «إِنِّي أخطُبُ الناس، وأذْكُرُ لهم ذلك، أفرضيتما؟» قالا: نعم. فخطب الناس ثم قال (19) : «أرضيتما؟» قالا (20) : لا. فهمَّ بهما (21) المهاجرون والأنصار، فمنعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثمَّ نزل فزادهما، فرضيا، ثم صعد =(5/157)=@
__________
(1) في (ق) و(ن): «قال» بلا واو.
(2) في (ق): «ومن».
(3) في (ح): «يشهد له».
(4) في (ح): «فإن».
(5) في (ك) و(ن) و(ق): «ذلك».
(6) في (ح): «ولا يحكم لها به لأنه».
(7) في (ن): «ولا» بدل «ولأنه».
(8) في (ن): «وكذلك قال النبي (».
(9) في (ق) و(ن): «الله عز وجل».
(10) في (ق): «لإني».
(11) في (ق): «السموات» وكتب في الهامش «في السماء» ووضع فوقها (نسخة).
(12) تقدم في باب يجب الرضا بما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما أعطى، ويكفر من نسب إليه جورًا، وذكر الخوارج، من كتاب الزكاة.
(13) في (ق) و(ن): «وإن».
(14) قوله: «على» سقط من (أ) و(ف) و(ق) و(ن).
(15) تقدم في كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم (1063).
(16) رواه عبدالرزاق (9/463 رقم18032)، ورواه أحمد (6/232)، وأبو داود (4/672 رقم4534) كتاب الديات، باب العامل يصاب على يديه خطأ، وابن ماجه (2/881 رقم2638) كتاب الديات، باب: الجارح يفتدى بالقود، والنسائي (8/35 رقم 4778) كتاب الديات، باب السلطان يصاب على يده، والبيهقي (8/49) من طريق عبدالرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة به.
قال ابن ماجه: «سمعت محمد بن يحيى يقول: تفرد بهذا معمر. لا أعلم رواه غيره».
قلت: لعله يقصد أن معمرًا انفرد بروايته عن الزهري، عن عروة، عن عائشة متصلاً، فقد رواه البيهقي (8/49) مختصرًا من طريق يونس بن يزيد الأيلي، عن الزهري قال: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل أبا جهم على صدقة فضرب رجلاً من بني ليث فشجَّه ذا المغلظتين، فسألوه القود فأرضاهم ولم يقد منه.
ورواه عبدالرزاق (9/463 رقم18033) عن معمر، عن عبدالله بن عبدالرحمن الأنصاري، عن عروة، مرسلاً، ولم يذكر فيه قصة المنبر.
ورواه عبدالرزاق أيضًا (9/463 رقم18034) عن ابن جريج، عن عبدالله بن عبيد بن عمير، مرسلاً، وذكر فيه قصة المنبر.
(17) في (ح): يشبه «فبعثه النبي (».
(18) قوله: «مصدقًا» سقط من (ق).
(19) في (ق): «قال لهما».
(20) في (ن): «واذكر لهم ذلك» بدل قوله «ثم قال أرضيتما قالا».
(21) في (ح) و(ن): «بهم».(5/157)
المنبر فقال: «أرضيتما؟» فقالا (1) : نعم.
وموضع الحجَّة: أنَّه لم (2) يحكم عليهما بعلمه لما جحدا (3) . وهو المطلوب. ذكره أبو داود من حديث عائشة. وهو صحيح. وذكر: أن المشجوج إنَّما كان رجلاً واحدًا (4) ، وقد (5) ذكر (6) غيره: أنهما (7) كانا اثنين. وحاصل هذا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحكم بعلمه تعليمًا لأمته، وسعيًا في سدِّ باب التُّهم، والظنون. والله تعالى أعلم.
وقوله في الرواية الأخرى: «فأحسب (8) أنَّه صادق»؛ دليل على العمل (9) بالظنون وبناء الأحكام عليها. وهو أمرٌ لم يختلف فيه في حق الحاكم والمفتي (10) .
وقوله: «فمن قَطعتُ له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه»؛ نصٌّ في أن حكم الحاكم على الظاهر لا يغيِّر حكم الباطن. وسواء كان ذلك في الدِّماء، والأموال، والفروج. وهو قول الكافة، إلا ما حكي عن أبي حنيفة من أن حكم الحاكم يغير حكم الباطن في الفروج خاصة. وزعم أنه لو شهد شاهدا زور على رجل بطلاق زوجته، وحكم الحاكم بشهادتهما، فإن فرجها يحل لمتزوجها ممن (11) يعلم: أن القضيِّة (12) باطل (13) ، وقد شنع عليه بإعراضه عن الحديث (14) الصحيح الصريح (15) ، وبأنه صان الأموال، ولم ير استباحتها بالأحكام الفاسدة في الباطن، ولم يصن الفروج عن ذلك. والفروج أحق أن (16) يحتاط لها وتصان.
وقوله: «فإنَّما أقطع له قطعة (17) من النار»؛ أي: ما يأخذه بغير حقه سببٌ يوصل آخذه إلى النَّار. وهو تمثيل يفهم منه شدة العذاب والتنكيل. =(5/158)=@
__________
(1) في (ك): «قالا».
(2) في (ق): مكانها إشارة لحن ولم تتضح في الهامش.
(3) في (ق): «جحدوا».
(4) قوله: «وذكر أن المشجوج إنما كان رجلا ًواحدًا» سقط من (أ).
(5) قوله: «قد» سقط من (أ).
(6) في (ك): «ذكره».
(7) في (ق) و(ن): «إنما». بدل «إنهما».
(8) في (ح) و(ك) و(ن) و(ق): «فأحسبه».
(9) قوله: «العمل» لم يتضح في (ح).
(10) قوله: «والمفتي» سقط من (ن).
(11) في (ق): «مما».
(12) في (ن): «القصة».
(13) في (ك) يشبه أن تكون «باطلة».
(14) في (ح) و(ك): «هذا الحديث».
(15) قوله: «الصريح» سقط من (ق) و(ن).
(16) في (ح): «بأن».
(17) في (ق) و(ن) «بقطعة» وكتب في هامش (ق): «قطعة» وكتب (نسخة).(5/158)
وقوله: «فليحملها أو يذرها»؛ لفظه: لفظ الأمر، ومعناه: التهديد، والوعيد.
وقول هند: «يا رسول الله! والله (1) ما كان على ظهر الأرض أهل خباءٍ»؛ أي: أهل بيت، كما قد (2) جاء مفسَّرًا في بعض طرقه، وسُمِّي البيت: خباءً؛ لأنَّه يخبَّأ ما فيه. والخباء في الأصل: مصدر. تقول: خبأتُ الشيء خَبَاءً، وخِبَاءً. ووصف هند في هذا الحديث حالها في الكفر، وما كانت عليه من بغض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبغض أهل بيته، وما آلت (3) إليه حالها لما أسلمت، تذكر لنعمة الله تعالى عليها بما أنقذها الله تعالى ** كذا في (أ) ** منه، وبما (4) أوصلها إليه، وتعظيم لحرمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولتنبسط فيما تريد(أن تسأل عنه، ولتزول آلام القلوب لما كان منها يوم أحد في شأن حمزة وغير ذلك.
وقولها (5) : «إن أبا سفيان رجل ممسك (6) »، وفي أخرى:« مسيك». وكلاهما بمعنى: شحيح، كما جاء (7) في الرواية الأخرى. ولم ترد (8) : أنه شحيح مطلقًا، فتذمُّه =(5/159)=@
__________
(1) قوله: «والله» ليس في (ك) و(ق).
(2) قوله: «قد» سقط من (ق).
(3) في (ق): «آل».
(4) في (ن): (وما».
(5) في (أ): «وقوله».
(6) في (ق): «عسيف».
(7) قوله: «جاء» سقط من (ك).
(8) في (ن): «يرد».(5/159)
بذلك؛ وإنما وصفت حاله معها، فإنَّه كان يقتر عليها، وعلى أولادها، كما قالت (1) : «لا يعطيني وبني ما يكفيني»، وهذا لا يدلّ على البخل مطلقًا، فقد يفعل الإنسان هذا مع أهل بيته، لأنه يرى غيرهم أحوج، وأولى ليعطي غيرهم. وعلى (2) هذا: فلا يجوز أن يُستدل بهذا (3) الحديث على أن أبا سفيان كان بخيلاً، فإنه لم يكن معروفًا بهذا.
و«مسيك (4) »: يروى بفتح الميم، وكسر السين، وتخفيفها (5) . وبكسر (6) الميم، وتشديد السين مكسورة. وكلاهما للمبالغة. الأول (7) : كعليم، وكبير (8) . والثاني: كسكِّير، وخِمِّير (9) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لهندٍ: «وأيضًا؛ والذي نفسي بيده»؛ أي (10) : سيتمكَّن (11) الإيمان من قلبك، ويزيد حبُّك لله ولرسوله (12) ، ويقوى رجوعك عن بغضه. وأصل «أيضًا»: أنه مصدر: آضَ إلى (13) كذا (14) ، يَئِيضُ، أيضًا، أي: رجع رجوعًا.
وقوله: «خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك، ويكفي بنيك»، هذا الأمر على جهة الإباحة؛ بدليل قوله في الرواية الأخرى: «لا جناح (15) عليك أن تنفقي =(5/160)=@
__________
(1) في (ك) و(ق): «قالته».
(2) في (ح): «فعلى».
(3) في (ن): «بها» بدل «بهذا».
(4) في (ن): «ومسيكًا».
(5) في (ق): «وتخفيفهما».
(6) في (ن): «وكسر».
(7) في (ح) و(ق) و(ن): «الأولى».
(8) في (ح): يشبه «خبير» وفي (ق) و(ن): «وخبير».
(9) في (ح): «كسكين وجمير».
(10) في (ق): «إنه» بدل «أي».
(11) في (أ): «يستمكن».
(12) في (أ) و(ق) و(ن): «ورسوله».
(13) قوله: «إلى» سقط من (ح) و(ك).
(14) قوله: «كذا» سقط من (ق) و(ن).
(15) كذا في جميع النسخ!ولفظ الحديث: «لا حرج»، والمعنى واحد.(5/160)
عليهم بالمعروف». ويعني بالمعروف: القدر الذي عرف بالعادة أنه كفاية، وهذه الإباحة وإن كانت مطلقة لفظًا فهي مقيدة معنى، فكأنه قال: إن صحَّ أو ثبت (1) ما ذكرت فخذي.
وفي هذا الحديث أبواب من الفقه:
فمنها: وجوب نفقة الزوجة والأولاد على أبيهم، وإن لأمهم طلب ذلك عند الحاكم، وسماع الدعوى على الغائب، والحكم عليه، وإن كان قريب الغَيْبَة؛ إذا دعت حاجة الوقت إلى ذلك. وهو قول الجمهور. وقال الكوفيون: لا يقضي عليه بشيء.
وفيه دليل: على أن النفقة ليست مقدَّرة بمقدار مخصوص؛ وإنما ذلك بحسب الكفاية المعتادة، خلافًا لمن ذهب: إلى أنَّها مقدَّرة.
وفيه دليل: على اعتبار العرف في الأحكام الشرعية خلافًا للشافعية وغيرهم من المنكرين له لفظًا، الآخذين به عملاً. وقد استنبط البخاري منه (2) : جواز حكم الحاكم بعلمه فيما اشتهر وعرف. فقال: باب حكم الحاكم بعلمه إذا لم يخف الظنون والتُّهم، وكان أمرًا مشهورًا (3) ، وقد تقدم.
وفيه دليل: على أن من تعذرعليه أخذ حقَّة من غريمه، ووصل من مال الغريم إلى شيء؛ كان له أخذه بأي وجه توصل إليه. واختلف فيما إذا ائتمنه الغريم، على مال فهل يأخذ منه حقَّه أم (4) لا؟ على قولين. حكاهما الداودي عن مالك. ومشهور مذهبه المنع. وبه قال أبو حنيفة تمسُّكًا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» (5) ، وإلى الإجازة ذهب الشافعي، وابن المنذر، =(5/161)=@
__________
(1) في (ن): «و» بدل «أو».
(2) في (ق) و(ن): «منه البخاري».
(3) "صحيح البخاري" (6/2617) كتاب الأحكام، بنحوه.
(4) في (أ) و(ف): «أو» بدل «أم».
(5) هذا جاء عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم؛ وهم:
1 - أبو هريرة - رضي الله عنه -: رواه أبو داود (3/290) (رقم 3535) كتاب البيوع، باب في الرجل يجد عين ماله عند رجل، والترمذي (3/564 رقم1264) كتاب البيوع، باب رقم (38)، وقال: حسن غريب. ومن طريقه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/592 رقم573)، ورواه الدارمي (2/264)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (4/360) تعليقًا، والطحاوي في "مشكل الآثار" (5/91 رقم1831 و1832)، والدارقطني (3/35)، والحاكم (2/46)، وقال: على شرط مسلم، ولم يخرجاه، والطبراني في "الأوسط" (4/55 رقم3595)، وتمام في "فوائده" كما في "الروض البسام" (2/321 رقم707)، والبيهقي (10/271). جميعهم من طريق طلق بن غنام، عن قيس بن الربيع وشريك بن عبدالله القاضي، عن أبي حصين عثمان بن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.(
قال ابن أبي حاتم في"العلل" (1/375): «طلق بن غنام روى حديثًا منكرًا عن شريك، وقيس عن أبي حصين، ولم يرو هذا الحديث غيره».
وقال البيهقي في "السنن" (10/271): «وحديث أبي حصين تفرد به عنه شريك القاضي، وقيس بن الربيع، وقيس ضعيف، وشريك يحتج به أكثر أهل العلم بالحديث، وإنما ذكره مسلم بن الحجاج في الشواهد. ثم نقل البيهقي عن الشافعي قال: وهذا الحديث لا يثبته أهل العلم بالحديث».
وقال ابن الجوزي في "العلل" (2/593): «هذا الحديث من جميع طرقه لا يصح، أما الطريق الأول فقال أحمد: شريك وقيس كانا كثير الخطأ في الحديث».
ونقل الحافظ في "التلخيص الحبير" (3/210) عن ابن الجوزي أنه نقل عن الإمام أحمد أنه قال: «قال هذا حديث باطل لا أعرفه من وجه يصح».
قلت: ولم أجد هذا في "العلل المتناهية.
وقال ابن القطان في "الوهم": قيس وشريك مختلف فيهما، وشريك مع ذلك مشهور بالتدليس، وهو لم يذكر السماع فيه.
وقال الشيخ الألبناني في "الإرواء" (5/381): صحيح، ثم قال في (383): وجملة القول: إن الحديث ثابت بمجموع هذه الطرق، فما نقل عن بعض المتقدمين أنه ليس بثابت فذلك باعتبار ما وقع له من طرق لا بمجموع ما وصل منها إلينا.
قلت: ستأتي على ذكر بقية الطرق وزيادة عليها. وقد حسنة في "الصحيحة" (423)، وقال: هو صحيح لغيره. وقال: شعيب الأنؤوط في "مشكل الآثار": إسناده حسن، شريك وقيس بن الربيع وإن كانا سيِّئي الحفظ يقوي كل منهما الآخر.
2 - أنس بن مالك - رضي الله عنه -: رواه الطبراني في "الصغير" (1/288 رقم475)، والدارقطني (3/35)، ومن طريقه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/592 رقم574)، والحاكم (2/46)، وابن عدي (1/362)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/132)، والبيهقي (10/271) من طريق أيوب بن سويد. ورواه الطبراني في "الكبير" (1/261 رقم760) من طريق ضمرة بن ربيعة الفلسطيني.
كلاهما - أيوب بن سويد، وضمرة بن ربيعة -، عن عبدالله بن شوذب، عن أبي التياح يزيد بن حميد، عن أنس به.
قال ابن عدي: «وهذا الحديث بهذا الإسناد لا يرويه عن ابن شوذب غير أيوب بن سويد وهو منكر بهذا الإسناد، وإنما يروى هذا المتن عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة».
وقال الطبراني في "الصغير" (1/288 رقم475): «لم يروه عن أبي التياح يزيد بن حميد إلا عبد الله بن شوذب، تفرد به أيوب، ولا يروى عن أنس إلا بهذا الإسناد».
قلت: للحديث إسناد آخر كما سبق من طريق ضمرة، عن ابن شوذب به.
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/144): «رواه الطبراني في الكبير والصغير، ورجال الكبير ثقات».
قلت: أيوب بن سويد الرملي قال عنه يحيى بن معين: كان يدَّعي أحاديث الناس، ليس بشيء. وقال البخاري: يتكلمون فيه. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال أبو حاتم: لين الحديث. وقال ابن حجر: صدوق يخطئ. وانظر "تهذيب الكمال" (3/474). وقال البيهقي في "السنن": أيوب ضعيف، وأما ضمرة بن ربيعو فهو ثقة مأمون، وقد تابع أيوبًا عليه، وبقية رجال الإسناد ثقات.
3 - أُبي بن كعب - رضي الله عنه -: رواه الدارقطني (3/35)، ومن طريقه ابن الجوزي في "العلل" (2/593 رقم975) من طريق محمد بن ميمون الزعفراني، عن حميد الطويل، عن يوسف بن يعقوب، عن رجل من قريش، عن أبي بن كعب به.
وهذا حديث ضهيف: 1 - لجهالة التابعي.
2 - يوسف بن يعقوب هذا قال عنه ابن الجوزي في "العلل": مجهول. قلت: لم أجد من اسمه يوسف بن يعقوب يروي عنه حميد الطويل، ولعله يوسف بن ماهك المكي الذي يروي عنه حميد، والذي يروي هذاالحديث عن رجل، عن أبيه كما سيأتي، ويكون الخطأ هنا من محمد بن ميمون الزعفراني كما سيأتي ترجمته.
3 - محمد بن ميمون الزعفراني اختلف فيه فقد وثقه ابن معين وأبو داود، وقال أبو حاتم والدارقطني: لا بأس به، وقال البخاري والنسائي: منكر الحديث، وقال أبو زرعة: كوفي ليِّن. وقال الحاكم أبو أحمد: حديثه ليس بالقائم. وقال ابن حبان: منكر الحديث جدًّا، لا يجوز الاحتجاج به إذا وافق الثقات بالأشياء المستقيمة، فكيف إذا انفرد بأوابد. وقال ابن عدي: ليس له كثير حديث. وقال ابن حجر: صدوق له أوهام. قلت: فلعل هذا من أوهامه.
4 - حديث رجل من الصحابة:
ورواه أحمد (3/414) عن محمد بن أبي عدي، وأبو داود (3/804 رقم3534)، ومن طريقه البيهقي (10/270)، والدولابي في "الكنى" (1/63) من طريق يزيد بن زريع.
كلاهما - ابن أبي عدي، وزيد بن زريع -، عن حميد الطويل، عن يوسف بن ماهك المكي قال: كنت أكتب لفلان نفقة أيتام كان وليهم، فغالطوه بألف درهم، فأداها إليهم فأدركت من مالهم مثلها، قال: قلت: اقبض الألف الذي ذهبوا به منك؟ فقال: لا. حدثني أبي أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك».
وهذا إسناد ضعيف؛ لجهالة التابعي، وبقية رجاله ثقات.
5 - أبو أمامة - رضي الله عنه -: رواه الطبراني في "الكبير" (8/127 رقم7580) من طريق أبي حفص الدمشقي، عن مكحول، عن أبي أمامة به.
قال البيهقي في "السنن"(10/271): «وهذا ضعيف؛ لأن مكحولاً يسمع من أبي أمامة شيئًا، وأبو حفص الدمشقي هذا مجهول».
6 - مرسل الحسن البصري رحمه الله.
رواه ابن أبي شيبة (4/450 رقم22939)، والطبري في "التفسير" (8/493 رقم9849)(5/161)
بناءً على أن ذلك ليس بخيانة، وإنَّما هو وصول إلى حقٍ.
وفيه دليل: على أن المرأة لا يجوز لها أن تأخذ من مال (1) زوجها شيئًا بغير إذنه، قَلَّ ذلك، أو كَثُرَ. وهذا لا يختلف فيه. ألا ترى: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قال لهند في الرواية الأخرى - لما قالت له: فهل عليّ جناحٌ أن أطعم من الذي له عيالنا؟- قال لها (2) : «لا»، ثم استثنى فقال: «إلا بالمعروف». فمنعها من (3) أن تأخذ من ماله شيئًا «إلا القدر الذي يجب لها (4) ».
3 - ومن باب الاعتصام بحبل الله (5)
قوله: «إن الله يرضى لكم ثلاثًا»؛ أي: شرع هذه الثلاثة، وأمر بها، وجعلها سببًا لكل ما عنده من الكرامة في الدنيا والآخرة.
وقوله: «ويكره لكم ثلاثًا»، وفي الرواية الأخرى: «سخط»؛ أي: نهى عنها وحرَّمها (6) ، وجعلها سبب إهانته، وعقوبته في الدنيا والآخرة. وهذا كما قاله تعالى: {ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم} (7) ، هذا (8) أولى مما (9) قيل فيه. وقد تقدم القول على الرضا والسَّخط، وعلى العبادة والشرك (10) في الإيمان (11) . =(5/162)=@
__________
(1) قوله «مال» سقط من (ن).
(2) قوله: «لها» سقط من (ح).
(3) قوله: «من» سقط من (ح) و(ن).
(4) قوله: «القدر الذي يجب لها» سقط من (ح) وكتب مكانه «بالمعروف».
(5) قوله: «ومن باب الاعتصام بحبل الله» بياض في (ن).
(6) قوله: «حرمها» سقط من (ق).
(7) سورة الزمر: الآية 17.
(8) في (ق) و(ن): «وهذا».
(9) في (أ) و(ح) و(ف) و(ق) و(ن): «ما» بدل «مما».
(10) في (ق): «والشكر».
(11) في (ح) و(ق) و(ن): «في كتاب الإيمان».(5/162)
وقوله: «وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا» الاعتصام بالشيء: هو (1) التمسُّك به، والتحرز بسببه من الآفات (2) . وأصل العصمة: المنع. تقول العرب: عصم فلانًا الطعام؛ أي: منعه من الجوع، وكنُّوا السَّويق بأبي عاصم لذلك، فالمعتصم (3) بالشيء يمتنع به (4) من أسباب الهلاك والشدائد.
و«حبل الله» هنا: شَرْعُهُ (5) الذي شَرَعَهُ، ودينه الذي ارتضاه (6) . قال قتادة: هو القرآن. وهو بمعنى القول الأول. والحبل ينصرف (7) على وجوه:
منها: العهد والوصل، وما يُنْجَى به من المخاوف.
ومنها: الأمان. وكلُّها متقارية المعنى (8) ؛ لأنَّ الحبل في الأصل: واحد الحبال التي (9) تُرْبَط (10) بها (11) الآلات، وتجمع بها (12) المتفرقات، ثمَّ استعير لكل ما يعول (13) عليه، ويتمسك به، ثمَّ كثر استعماله في العهد ونحوه. ومعنى هذا: أن الله تعالى أوجب علينا التمسُّك بكتابه، وسُنَّه نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، والرجوع إليهما عند الاختلاف.
وقوله: «ولا تفرَّقوا»؛ أي: اجتمعوا على الاعتصام بالكتاب والسُّنة اعتقادًا، وعملاً، فتتفق كلمتكم، وينتظم شتاتكم (14) ، فتَتمُّ لكم مصالح الدنيا والدِّين، وتسلمون (15) من الاختلاف (16) والافتراق الذى حصل لأهل الكتابين.
وفيه دليلٌ: على صحة الإجماع كما بيَّنَّاه في أصول الفقه.
وقوله: «وكره لكم: قيل وقال (17) »؛ كلاهما (18) مبنيٌّ على الفتح، فِعْل ماضٍ. هكذا الرواية التي لا يُعرف غيرها. ومعناه: أن الله تعالى حرَّم الخوض في الباطل، وفيما لا يعني من الأقوال، وحكايات أحوال الناس التي لا يسلم فاعلها من الغيبة، والنميمة (19) ، والبهتان، والكذب. و«من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كانت النار أولى به» (20) . =(5/163)=@
__________
(1) قوله: «هو» سقط من (ك).
(2) في (ن): «الأوقات».
(3) في (ك): «والمعتصم».
(4) قوله: «به» سقط من (ق) و(ن).
(5) في (أ) و(ح) و(ف) و(ق) و(ن): «هو شرعه».
(6) قوله: «الذي ارتضاه» سقط من (ق).
(7) في (أ): يشبه أن تكون «يتصرف» وفي (ك) و(ف): «يتصرف».
(8) في (ق) و(ن): «في المعنى».
(9) في (ك): «الذي».
(10) في (أ) و(ق) و(ن): «يربط».
(11) في (ح) و(ك) و(ق) و(ن): «به» بدل «بها».
(12) في (ح) و(ك) و(ق) و(ن): «به» بدل «بها».
(13) في (ق): «ما يقول» وكتب في الهامش «ما يعول».
(14) في (أ) و(ق): «شأنكم».
(15) في (أ): «وتسلموا».
(16) في (ح): «الافتتان».
(17) في (ح) و(ك) و(ق) و(ن): «قال وقيل».
(18) في (ك): «وكلاهما».
(19) قوله: «والنميمية» سقط من (أ).
(20) ذكره في "مجمع الزوائد" (10/302) من حديث أبي هريرة مرفوعًا، وقال: رواه الطبراني في "الأوسط"، وفيه جماعة لم أعرفهم، ثم ذكره من كلام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وقال: رواه الطبراني في "الأوسط"، وفيه دويد بن مجاشع لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات، ثم ذكره من حديث ابن عمر مرفوعًا، وقال: رواه الطبراني في "الأوسط"، وفيه ضعفاء ووثقوا. وانظر "كشف الخفاء" (2/274-275)، وعليه كلام طويل.(5/163)
قال القاضي عياض:« قيل» منصوبة، فعل (1) ما لم يسم (2) فاعله. و«قال (3) »: فعل ماض أيضًا. ويصحُّ أن يكونا اسمين، ويكونا مخفوضين. يعني: على رواية من رواه: «نهى عن قيل وقال (4) ».
قلت: هكذا وجدنا هذا الكلام في "الإكمال" (5) ، وهو كلام مُخْتلٌّ لأنهما لو كانا اسمين لَنُوِّنا؛ إذ لا مانع لهما من الصرف، ولكانا منصوبين نكرة (6) ؛ ولا موجب لِخَفْضهما، وأظنُّ أن هذا خللٌ وقع من بعض النُّسَّاخ (7) . ثم قال بعد هذا: والقيل، والقال، والقول: كلُّه بمعنى، وكذلك القالة (8) . وهذا كلُّه صحيحٌ؛ فإن مصدر «قال» يقال فيه ذلك كلُّه. لكن لا يصلح شيء منه هنا، فإنَّ الرواية كما أخبرتك (9) .
وقوله: «وكثرة السؤال»؛ يحتمل أوجهًا :
أحدها (10) : أن يريد به (11) كثرة سؤال الناس الأموال، والحوائج إلحاحًا (12) ، واستكثارًا.
وثانيها (13) : أن يكثر من المسائل الفقهية تنطُّعًا وتكلُّفًا فيما لم ينزل. وقد كان السَّلف يكرهون ذلك، ويرونه من التكلُّف (14) . وقال مالك في هذا الحديث: لا أدري أهو ما أنهاكم عنه (15) من كثرة المسائل، فقد (16) كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسائل (17) وعابها، أو هو: مسألة الناس أموالهم.
وثالثها: أن يكثر من السؤال عمَّا (18) لا يعنيه من أحوال النَّاس، بحيث يُؤدِي ذلك (19) إلى كشف عوراتهم، والإطلاع (20) على مساوئهم.
قال الشيخ رضي الله عنه: والوجه: حمل الحديث على عمومه، فيتناول (21) جميع تلك الوجوه كلِّها.
«وإضاعة (22) المال» هي (23) : إتلافه وإهلاكه، كما قد حكي عن بعض جُهَّال المتزهدة: =(5/164)=@
__________
(1) في (ق): «اسم» بدل «فعل».
(2) في (ف): «يسلم».
(3) في (أ): «وقيل».
(4) من قوله: «يعني على رواية....» إلى هنا سقط من (أ) و(ف).
(5) (5/569) في (ف): «في كتاب الإكمال».
(6) في (ف): «بكرة».
(7) من قوله: «قلت....» إلى هنا سقط من (ح) و(ك) و(ق) و(ن).
(8) في (ق): «المقالة».
(9) من قوله: «لكن لا يصلح....» إلى هنا سقط من (ح) و(ك) و(ق) و(ن).
(10) في (أ) و(ف): «يحتمل وجهين أحدهما».
(11) قوله: «به» سقط من (أ).
(12) في (ٌ): «إلحاحًا به» وكتب في الهامش «إلجاجًا» وكتب فوقها (نخـ).
(13) في (أ) و(ف): «وثانيهما».
(14) في (ف): «من التكليف».
(15) في (ن): «ما أهون عنكم من» بدل «ما أنهاكم عنه من».
(16) في (ن): «فلو».
(17) في (أ): «المسئلة».
(18) في (أ): «بما».
(19) في (ق) و(ن): «يود في ذلك» وكتب في هامش (ق): «يؤدي ذلك» وكتب فوقها (نسخه).
(20) في (ك): «واطلاع».
(21) في (ق): «فيتناوله».
(22) في (ق): «وإضاعت» كذا رسمت.
(23) قوله: «هي» سقط من (ك).(5/164)
أنَّه رمى مالاً كان عنده. وحرَّق آخر منهم كتب علم الحديث كانت عنده. وربما أمر بهذا بعض الشيوخ الْجُهَّال. وهذا محرَّم بإجماع الفقهاء. ويلحق بإتلاف عينه منع (1) صرفه في وجوهه من مصالح دنياه ودينه، كما يفعله أهل البُّخل، ودناءة الهمم؛ يدَّخرون المال، ويكثرونه (2) ، ولا ينفعون نفوسهم بإنفاق شيء منه، ولا يصونون به وجوههم، ولا أديانهم. فهذا الصنف هو المحروم (3) الخاسر؛ الذي قال فيه الشاعر (4) :
رزقت مالاً ولم ترزق منافعه إنَّ الشقيَّ هو المحروم ما رُزِقا
وأشدُّ من هذا كلِّه قبحًا وإثْمًا من يتلف ماله في معاصي الله تعالى (5) ، فيستعين بمال الله تعالى على معاصيه، ويخرجه في شهواته المحرمة (6) ، ولا يباليه، ويدخل في عموم النهي عن إضاعة المال القليل منه والكثير، لأن المال هنا: هو (7) كلُّ (8) ما يُتَمَوَّل؛ أي: يُتَملَّك؛ حتى لو رمى بثمن درهم في البحر مثلاً لكان ذلك محرمًا. وكذلك لو منعه من صرفه في وجهه الواجب، وكذلك لو أنفقه في معصية (9) . ولا خلاف في هذا إن شاء الله.
وقوله: «وحرَّم عليكم عقوق الأمهات»؛ العقوق: مصدر عق، يعق، عقوقًا؛ أي (10) : قطع وشقَّ. فكأنَّ (11) العاقَّ لوالديه (12) يقطع ما أمره (13) الله تعالى به من صلتهما (14) ، ويشق عصا طاعتهما (15) . ولا خلاف أن (16) عقوقهما (17) من أكبر (18) الكبائر. وخصَّ الأمهات هنا (19) بالذِّكر لتأكيد حرمتهن على الآباء؛ لأنَّ الأمَّ لها ثلاثة أرباع البرِّ،كما قد (20) بيَّنَّا وجه ذلك (21) في الإيمان.
و«وأد البنات»: هو دفنهن أحيا" كما =(5/165)=@
__________
(1) في (ح): «مع».
(2) في (ك) و(ق) و(ن): «ويكنزونه».
(3) قوله: «هو» سقط من (ف) و(ق) و(ن).
(4) ...
(5) في (أ) و(ف) و(ن): «عز وجل».
(6) في (ن): «المحرمية».
(7) قوله: «هو» سقط من (ف) و(ق) و(ن).
(8) قوله: «كل» سقط من (أ) و(ق).
(9) في (ح) و(ك): «معصية الله».
(10) في (ك): «إذا».
(11) في (ف): «وكأن».
(12) في (ن): «لولديه».
(13) في (ح): «ما أمر».
(14) في (ق) و(ن): «صلتها».
(15) في (ن): «طاعتها».
(16) في (ك) و(ق) و(ن): «في أن».
(17) في (ن): «عقوقها».
(18) قوله: «أكبر» سقط من (ح).
(19) قوله: «هنا» سقط من (ح).
(20) قوله: «قد» سقط من (أ) و(ق) و(ن).
(21) قوله: «ذلك» سقط من (ن).(5/165)
كانت الجاهلية تفعل بهن. وقد بيَّنَّا ذلك فيما تقدم.
وقوله: «ومنعًا وهات»، وفي الرواية الأخرى: «ولا وهات»؛ ومعناهما (1) واحد، وهو أن يمنع ما يجب عليه بذله، أو يطلب (2) شيئًا يحرم عليه طلبه. هذا إن حملنا «كره» على معنى: «حرَّم»، كما قد (3) بيَّنَّاه، حيث فَسَّر «كره»: بمعنى: «سخط». وعدل في لفظ هذا (4) الحديث عن لفظ «حرَّم» (5) الذي ذكره قبل هذا اللفظ (6) ؛ لأنَّ (7) تلك الأمور التي قرن بها لفظ «حرم» أفحش وأكبر من هذه الأمور التي قرن بها لفظ «كره». وقد قيل: إن الكراهة (8) هنا من باب التنزيه. وفيه بُعْدٌ لما بيَّنَّاه في إضاعة المال. والله أعلم (9) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ (10) فله أجر»؛ كذا وقع هذا (11) اللفظ في كتاب مسلم: «إذا حكم فاجتهد». =(5/166)=@
__________
(1) في (ن): «ومنعاهما».
(2) في (ح) و(ك) و(ن) و(ق): «ويطلب».
(3) قوله: «قد» سقط من (ح) و(ق).
(4) في (ن): «وفي هذا».
(5) زاد بعدها في (ق): «كما بيناه حيث».
(6) في (ح): «هذه اللفظة».
(7) في (ف): «لكن».
(8) في (ك): «كره».
(9) قوله: «والله أعلم» سقط من (ك).
(10) في (ق): «ثم أخطأ» وكتب في الهامش «فأخطأ» ووضع فوقها (نسخة) وفي (ن): «فأخطأ».
(11) في (ق): «في هذا».(5/166)
فبدأ بالحكم قبل الإجتهاد، والأمر بالعكس، فإنَّ الإجتهاد مقدَّمٌ على الحكم؛ إذ لا يجوز الحكم قبل الإجتهاد بالإجماع. ووجهُ مساق هذا اللفظ: أن (1) قوله: «إذا حكم»؛ معناه: إذا أراد أن يحكم، فعند ذلك يجتهد في النازلة، ويفيد هذا صحة ما قاله الأصوليون: إن المجتهد يجب عليه أن يجدد النَّظر (2) عند وقوع النازلة، ولا يعتمد على اجتهاده المتقدم، لإمكان أن يظهر له ثانيًا (3) خلاف ما ظهر له أولاً. اللهم إلا أن يكون ذاكرًا لأركان اجتهاده، مائلاً إليه، فلا يحتاج إلى استئناف نظر في إمارة أخرى.
وقوله: «فأصاب»؛ أي (4) : حكم فأصاب وجه الحكم. وهو أن يحكم بالحق لمستحقه في نفس الأمر عند الله تعالى. فهذا يكون له أجرٌ بحسب اجتهاده، وأجر بسبب (5) إصابة (6) ما هو المقصود لنفسه. والخطأ الذي يناقض هذا (7) هو: أن يجتهد في حجج الخصمين، فيظن (8) : أن الحق لأحدهما، وذلك بحسب ما سمع (9) من كلامه وحجَّته، فيقضي له (10) ، وليس كذلك عند الله تعالى. فهذا له أجر اجتهاده خاصَّة؛ إذ لا إصابة. وهذا المعنى هو الذي أراده (11) النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «فلعلَّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له على حسب ما أسمع»، وفي الأخرى: «فأحسب: أنَّه صادق، فاقضي له». وهذا (12) في الحاكم (13) بين الخصوم واضحٌ؛ لأن هنالك (14) حقًّا معيَّنا عند الله تعالى تنازعه الخصمان، لأن أحد الخصمين مبطل قطعًا؛ لأنَّهما تقاسما الصدق والكذب، فمتى صدق أحدهما كذب الآجر. والحاكم إنما يجتهد في تعيين الحق (15) ، فقد يصيبه وقد يخطئه. وعلى هذا: فلا ينبغي أن يختلف هنا في أنَّ المصيب واحدٌ، وأنَّ الحق في طرف واحد. وإنَّما ينبغي أن يختصَّ (16) الخلاف بالمجتهد في استخراج الأحكام من أدلَّة الشريعة (17) بناءً على الخلاف في (18) أن النوازل (19) غير المنصوص عليها؛ هل لله تعالى فيها أحكام معيَّنة أم لا؟ وللمسألة (20) غَورٌ، وفيها أبحاث استوفيناها في كتابنا في الأصول. =(5/167)=@
__________
(1) قوله: «أن» سقط من (ف).
(2) في (أ) و(ح) و(ف): «نظرًا» وفي (ق) و(ن): «يحدد نظرًا».
(3) في (ن): «أولا».
(4) قوله: «أي» سقط من (أ).
(5) في (ق): «بحسب».
(6) في (ح): «إصابته».
(7) قوله: «هذا» سقط من (ف).
(8) في (ق): «فيظن» وكتب في الهامش «فيضن» ووضع فوقها (نخـ».
(9) قوله: «ما سمع» سقط من (أ).
(10) في (ح): «به».
(11) في (ق): «أراد».
(12) في (ف): «فهذا».
(13) في (ق) و(ن): «الحكم».
(14) في (ق): «هناك».
(15) في (ن): «إنما يجتهده في نفس الحق».
(16) في (أ) و(ف): «يخص».
(17) في (ك): «الشرعية».
(18) قوله: «في» سقط من (ق) و(ن).
(19) في (أ): «النوافل».
(20) في (أ) يشبه أن تكون: «والمسألة».(5/167)
وأعظم فوائد هذا الحديث: أن الحاكم لا بدَّ أن يكون من أهل الإجتهاد، فإذا اجتهد وحكم فلا بدَّ له من الأجر؛ فإمَّا ضعفان مع (1) الإصابة (2) ، وإمَّا ضعف واحد مع الخطأ. فأمَّا لو كان جاهلاً، أو مقصرًا في اجتهاده فهو عاصٍ آثمٌ (3) في كل ما يحكم به. أمَّا (4) الجاهل: فلعدم أهليته. وأمَّا المقصِّر (5) : فلعدم استيفاء شرطه. وكلاهما حَكَمَ بغير حكم الله، بل بالباطل (6) ، والاختلاق على الله تعالى. وقد دلَّ على هذا أيضًا ما خرَّجه النسائي (7) من حديث بريدة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة. رجل عرف الحق فقضى به، فهو في الجنَّة. ورجل عرف الحق فلم يقضِ به، وجار في الحكم، فهو (8) في النار. ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل، فهو في النار».
فإذا تقرَّر ذلك فاعلم: أنَّ المجتهد ضربان:
أحدهما: المجتهد المطلق، وهو: المستقل باستنباط الأحكام من أدلَّتها. فهذا لا شكَّ في أنَّه إذا اجتهد مأجور، كما قدمناه، لكنه يُعزُّ وجوده، بل قد انعدم في هذه (9) الأزمان. فلو لم ينفذ إلا حكم (10) من كان كذلك لتعطلت الأحكام، وضاعت الحقوق.
وثانيهما: مجتهد في مذهب إمام. وهذا غالب قضاة العدل في هذا الزمان. وشرط هذا أن يحقق (11) أصول إمامه، وأدلَّته، وينزل أحكامه عليها فيما لم يجده منصوصًا من مذهب إمامه. وإمَّا ما وجده منصوصًا: فإن لم يختلف قول إمامه؛ عمل على ذلك النَّصَّ، وقد كُفِي مؤنة (12) البحث. والأولى به: تَعَرَّفُ (13) وجه ذلك الحكم. وأما إن اختلف قول إمامه: فهناك يجب عليه البحث في (14) تعيين (15) الأولى من القولين على أصول إمامه. =(5/168)=@
__________
(1) في (ح) و(ك): «على».
(2) في (ن): «الاجتهاد».
(3) في (ن): «ثم» بدل «آثم».
(4) في (ف): «وأما».
(5) في (ف): «القصور».
(6) في (ن): «بل الباطل».
(7) هذا الحديث رواه الترمذي (3/613 رقم1322) كتاب الأحكام، باب ما جاء في القاضي، ووكيع في "أخبار القضاة" (1/13)، وابن الأعرابي في "معجمه" (1/363 رقم335)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/117)، والطبراني في "الكبير" (2/20 رقم1154). كلهم من طريق الحسن بن بشر بن سلم.
ورواه الطحاوي في "مشكل الآثار" (1/43 رقم54)، والبيهقي (10/117) من طريق حاتم بن إسماعيل، ورواه الحاكم (4/90) من طريق علي بن حكيم، ووكيع في "أخبار القضاة" (1/13) من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد. كلهم عن شريك بن عبدالله النخعي، عن الأعمش. ورواه الطبراني في "الأوسط" (7/39 رقم6786) عن محمد بن هارون بن محمد بن بكار، عن أبيه، عن جده، عن يحيى بن حمزة. كلاهما - الأعمش، ويحيى بن حمزة -، عن سعد بن عبيدة.
شريك بن عبدالله النخعي سيء الحفظ وهو صدوق، يحيى بن حمزة ثقة رمي بالقدر، ومحمد بن بكار وابنه هارون كلاهما صدوق، ومحمد بن هارون بن محمد لم أجده إلا في ثقات ابن حبان (9/151). ورواه أبو داود (4/5 رقم7573) من طريق محمد بن حسان السمتي، وابن ماجه (2/776 رقم2315) من طريق إسماعيل بن توبة، ورواه النسائي في "الكبرى" (3/461 رقم5922)، والطحاوي (1/44 رقم55) من طريق سعيد بن سليمان الواسطي. والطحاوي في "مشكل الآثار" (1/44 رقم...)، والبيهقي (10/116) من طريق سعيد بن منصور، ووكيع في "أخبار القضاة" (1/13) من طريق علي بن عبدالله، والطبراني في "الأوسط" (4/63 رقم3616) من طريق إسماعيل بن إبراهيم القطيعي. جميعهم من طريق خلف بن خليفة، عن أبي القاسم الرماني. كلاهما - سعد بن عبيد، وأبو هاشم الرماني -، عن ابن بريدة، عن أبيه به.
وخلف بن خليفة قد اختلط، لكن طريق الأعمش ويحيى بن حمزة، عن سعد بن عبيدة يقوي طريق خلف عن أبي هاشم.
وجاءت بعض الروايات صرح فيها باسم ابن بريدة. رواه الطبراني في "الأوسط" (7/30 رقم6757) من طريق الحكم بن عتيبة. ورواه وكيع في "أخبار القضاة" (1/15)، والحاكم (4/90) من طريق عبدالله بن بكير الغنوي، عن حكيم بن جبير. قال الحاكم: «صحيح الإسناد»، وتعقبه الذهبي فقال: «ابن بكير منكر الحديث». رواه الطبراني في "الأوسط" (7/30 رقم6757)، ووكيع في "أخبار القضاة" (1/15) من طريق يونس بن خباب أبي حمزة. ثلاثتهم - الحكم، وحكيم، ويونس-، عن عبدالله بن بريدة، عن أبيه به.
ورواه الطبراني في "الكبير" (2/21 رقم1156). من طريق محمد بن أبان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه به.
ثم رواه وكيع (1/16) من طريق سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة، عن كعب، ولم يذكر بريدة. قال ابو داود: «وهذا أصح شيء فيه»؛ يعني حديث ابن بريدة: القضاة ثلاثة.
وللحديث شاهد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: رواه الترمذي (3/612 رقم1322)، وأبو يعلى (10/93 رقم5727)، ووكيع (1/17)، والطبراني (12/269 رقم3319)، وابن حبان (11/440 رقم5056) من طريق عبد الملك ابن أبي جميلة، عن عبدالله بن موهب: أن عثمان قال لابن عمر: اذهب فاقض بين الناس، قال: أو تعفينى يا أمير المؤمنين. قال: فما تكره من ذلك وأبوك كان يقضي؟ قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول..، فذكره.
قال الترمذي: «حديث ابن عمر حديث غريب، وليس إسناده عندي بمتصل».
وقال أبو حاتم في "العلل" (1/468): «عبد الملك بن أبي جميلة مجهول، وعبدالله هو ابن موهوب الرملي على ما أرى، وهو عن عثمان مرسل».
ورواه أحمد (1/66 رقم475)، ابن سعد في "الطبقات" (4/146)، وعبد بن حميد كما في "المطالب العالية" (2121)، والبزار كما في "مجمع الزوائد" (4/193) من طريق أبي سنان القسملي، عن يزيد بن موهب، وهو يزيد بن عبدالله بن موهب؛ كما قال الحافظ في "التعجيل": «أن عثمان قالا لابن عمر...، الحديث وهذا أيضًا منقطع».
ورواه وكيع في "أخبار القضاة" (1/15) من طريق إبراهيم بن الحكم بن ظهير، عن محمد بن الفرات الجرمي، ثم من طريق ابن وكيع، عن محمد بن فضل بن غزوان، عن أبيه. كلاهما - محمد بن الفرات، وغزوان -، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر به.
وكلا الإسنادين ضعيف؛ إبراهيم بن الحكم بن ظهير قال عنه أبو حاتم: كذاب. وضعفه الدارقطني وغيره. وسفيان بن وكيع ضعيف.
ورواه الطبراني في "الأوسط" (4/145 رقم3828) من طريق محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار قال: أراد عثمان ابن عمر على القضاء، فذكره. ومحمد بن مسلم الطائفي صدوق يخطئ، وعنه سعيد بن محمد بن العلاء السهمي ولم أجد من ترجمه.
وقد جاء هذا الحديث موقوفًا على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: رواه وكيع في "أخبار القضاة" (1/18)، والبغوي في "شرح السنة" (10/93)، والبيهقي (10/117) من طرق عن شعبة، عن قتادة، عن أبي العالية، عن علي به. ثم رواه وكيع (1/16) من طريق إبراهيم بن الحكم بن ظهير، عن أبيه، عن السدي، عن عبد خير، عن علي به. والإسناد الأول صحيح، والثاني ضعيف.
وقد صحح الألباني الحديث في "الإرواء" (8/235) يعني حديث بريدة بطرقه وشواهده، وحسنه الأرناؤوط في "مسند أحمد" رقم (475)، وصححه السلفي في "المعجم الكبير".
(8) في (ف): «فهذا».
(9) في (ق): «هذا».
(10) في (ق): «الأحكام» بدل «إلا حكم».
(11) في (أ) و(ك) و(ف) و(ق) و(ن): «يتحقق».
(12) في (ف): «مؤونة».
(13) في (ق): «يعرف».
(14) في (ق): «عن» بدل «في».
(15) في (ن): «نفس» بدل «تعيين».(5/168)
واختلف أصحابنا فيمن يحفظ أقوال إمامه فقط. هل يصلح للحكم عند الضرورة (1) أو لا؟ على قولين؟ فمن أجازه شرط فيه: أنَّه لا يخرج عن نصوص إمامه، أو نصوص من فهم عن إمامه، فإذا تعارضت عنده الأقوال لم يحكم بشيء منها أصلاً حتى يسأل عن الأرجح من له أهلية الترجيح. ولا يحكم بنظره أصلاً (2) ؛ إذ لا نظر له. ومتى فعل شيئًا من ذلك كان حكمه منقوضًا، وقوله مردودًا (3) . وقد كان أهل الأندلس يرجحون الأقوال بالناقلين لها من غير نظر في توجيه شيء منها. فيقولون: إن قول ابن القاسم ونقله أولى من نقل غيره وقوله، بناءً على أن ابن القاسم اقتصر على مالك، ولم يتفقَّه بغيره، ولطول ملازمته له. فإن (4) لم نجده (5) لابن القاسم قولاً كان قول أشهب أولى من قول ابن (6) عبدالحكم؛ لأنَّه أخذ عن (7) الشافعي، فخلَّط، وهكذا. وقد بلغني: أنهم كانوا بالأندلس يشترطون على القضاة في سجلاتهم مراعاة (8) ذلك الترتيب.
قال الشيخ: وهذه رتبة لا أخسَّ منها؛ إذ صاحبها معزولٌ عن رتبة الفقهاء، ومنخرط في زمرة الأغبياء؛ إذ لا يفهم معاني الأقوال، ولا يعرف فضل (9) ما بين الحلال والحرام (10) ، فحق هذا ألا يتعاطى منصب الأحكام، فإنَّه من جملة العوام. والمشهور: أنَّه لا يُسْتَقْضَى من عَرِي عن الإجتهاد المذكور، ولذلك قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: ولا يُستقضى إلا فقيه من أهل الإجتهاد. وهذا محمولٌ على ما تقدم، والله تعالى أعلم.
والإجتهاد المعني في هذا الباب هو: بذل الوسع في طلب الحكم الشرعي في النوازل على ما قلناه. =(5/169)=@
__________
(1) قوله: «عند الضرورة» سقط من (ح).
(2) قوله: «أصلا» سقط من (ق) و(ن).
(3) في (ن): «مردود».
(4) في (ف): «وإن».
(5) في (ك) و(ح): «نجد» وفي (أ) و(ف) و(ق) و(ن): «يجد».
(6) قوله: «ابن» سقط من (ن).
(7) في (ح): «من».
(8) في (ق): «مراعات» كذا رسمت.
(9) في (ف) و(ق) و(ح): «فصل».
(10) في (أ) و(ف) و(ك) و(ن): «الحرام والحلال».(5/169)
ومن باب لا يقضي القاضي وهو على حال تشوش عليه فكره
قوله: «لا يحكم أحدٌ بين اثنين وهو غضبان»؛ إنَّما كان الغضب مانعًا من الحكم؛ لأنَّه يشوِّش على الحاكم (1) فكره، ويخلُّ بفهمه، فيجب أن يُلحق به ما في معناه، كالجوع، والألم، والخوف، وما أشبه ذلك. وذلك بطريق الأولى، كالخوف، والمرض، فإنهما أولى بذلك من الغضب. وإما بطريق توسيع المناط، وذلك أن تَحذِف خصوصية ذكر الغضب، وتُعدِّيه إلى ما في معناه. وهذا النوع من القياس من أجلَى (2) أنواعه، ولذلك قال به جماعة الفقهاء، وكثير من نفاة القياس. وقد استوفينا ذلك في الأصول، ولا يعارض هذا الحديث بحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - للزبير (3) بإمساك الماء إلى أن يبلغ الجدُر. وقد غضب من قول الأنصاري: أن كان ابن عمتك؟! =(5/170)=@
__________
(1) في (ح) و(ك): «يشوش عليه».
(2) في (ك): «أجل».
(3) سيأتي في كتاب الفضائل، باب...(5/170)
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم من الهوى (1) ، والباطل، والخطأ في غضبه، ورضاه، وصحته، ومرضه. ولذلك قال: «اكتبوا عني في الغضب والرضا» (2) . ولذلك نفذت أحكامه، وعمل بحديثه الصادر منه (3) في حال شدَّة مرضه ونزعه، كما نفذ ذلك في حال (4) صحته ونشاطه.
وقوله: «من أحدث في أمرنا هذا (5) ما ليس منه (6) فهو ردٌّ»؛ أي: من اخترع في الشرع ما لا يشهد له أصل من أصوله فهو منسوخ (7) ، لا يعمل به، ولا يلتفت إليه؛ وفيه حجَّة: على أن النهي يدلُّ على الفساد. وهو قول جمهور الفقهاء. وذهب بعض أصحابنا، وأكثر المتكلمين: إلى (8) أنه لا يدل على الفساد، وإنما مدلوله المنع من إدخال المنهي عنه في الوجود فقط. وأما حكمه إذا وقع من فساد أو صحة: فالنَّهي (9) لا يدلُّ عليه، وينظر دليل ذلك من خارج النَّهي.
وقد اختلف حال المنهيات في الشرع؛ فبعضها يصحُّ إذا وقع، كالطلاق في الحيض. وبعضها لا يصحُّ، كبيع الملاقيح والمضامين (10) . وبعضها يختلف فيه أصحابنا والفقهاء، كالبيع وقت النداء. وللمسألة غَوْرٌ. وقد (11) بيَّنَّاه في الأصول.
وفتيا (12) القاسم بن محمد فيمن له مساكن، فأوصى بثلث كل مسكن منها، =(5/171)=@
__________
(1) قوله: «الهوى» سقط من (ك).
(2) تقدم تخريجه في باب ما أوصى به النبي - صلى الله عليه وسلم - .
رواه ابن أبي شيبة (5/345 رقم 26419) وعنه أبو داود (4/60 رقم 5646) ورواه أحمد (2/162 رقم 6510)، (2/192 رقم 6802) والدارمي (1/125) والحاكم (1/105 – 106) وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/300 رقم 389) كلهم من طريق يحيى القطان عن عبيد الله بن الأخنس قال أخبرنا الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمر قال كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله ( أريد حفظه فنهتني قريش فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله ( ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا فأمسكت عن الكتاب فذكرت ذك لرسول الله فقال: اكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق.
وهذا إسناد صحيح.
ورواه أحمد (2/207 رقم 6930)، (2/215 رقم 7020) وابن خزيمة (2280) وابن عبد البر (1/299) من طريق محمد بن إسحاق عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده قال قلت يا رسول الله أكتب كل ما أسمع منك؟ قال نعم.
(3) في (ق) و(ن): «عنه».
(4) في (ح): «قد نفذ في حال».
(5) قوله: «هذا» سقط من (ق).
(6) في (أ) و(ق): «فيه».
(7) في (ف) و(ق) و(ن): «مفسوخ».
(8) قوله: «إلى» سقط من (أ) و(ح) و(ف) و(ق) و(ن).
(9) في (ف): «فالمنهي».
(10) بيع الملاقيح: ما في البطون، وهي " الأجنَّة، والمضامين: بيع ما في أصلاب الفحول، وكانوا يبيعون الجنين في بطن الناقة، وما يضرب الفحل في عامه أو أعوام. "غريب الحديث" (1/208).
(11) في (أ) و(ف) و(ن): «قد» بلا واو.
(12) في (ف): «وفتيي» كذا رسمت. وفي (ح): «وفتى».(5/171)
بأنَّه (1) : يجمع ذلك كلُّه في مسكن واحد. فيه (2) إشكال؛ إذ هي مخالفة لما أوصى به الموصي. والأصل اتِّباع أقواله والعمل بظاهرها؛ فإنَّه كالمشرع (3) . ففتيا (4) القاسم ليس على ظاهرها، وإنما هي محمولة على ما إذا أراد أحد الفريقين من الورثة، أو الموصى لهم القسمة، وتمييز حقه، وكانت المساكن (5) متقاربة، بحيث يضم بعضها إلى بعض في القسمة، فحينئذ تقوَّم تلك (6) المساكن (7) قيمة (8) التعديل، وتقسم (9) بينهم، فيجمع نصيب الموصى لهم في موضع واحد يشتركون (10) فيه بحسب وصاياهم، ويبقى نصيب الورثة فيما عدا ذلك، بحسب مواريثهم.
فإن قيل: فقد استحالت (11) الوصية عن أصلها.
فالجواب: أن ذلك بحسب ما أدَّت إليه سُنَّه القسمة عند الدُّعاء إليها، فإن الموصي لو أوصى بثلث كل مسكن، ومنع من القَسْم لم يلتفت إلى منعه، وكان ذلك المنع مردودًا. وهو الذي استدلَّ على ردِّه القاسم بقوله - صلى الله عليه وسلم - : «من أحدث في أمرنا ما ليس منه (12) فهو ردٌّ» (13) ؛ فلو لم يطلب أحدٌ من الفريقين قسمة، أو كانت المساكن لا يُضمُّ بعضها إلى بعض لبعدها، وتباين اختلافها بقي كلُّ واحد منهم على نصيبه حسب (14) ما وُصِّي له به. وهذا كلُّه مذهب مالك.
وقوله: «ألا أخبركم بخير الشهداء»؛ الشهداء: جمع شهيد، كظرفاء: جمع ظريف، ويجمع أيضًا على: شهود، لكنه جمع شاهد، كحضور جمع حاضر، وخروج جمع خارج. ويعني بخير الشهداء: أكملهم في رتبة الشهادة، وأكثرهم ثوابًا عند الله تعالى.
وقوله: «الذي يأتي بشهادته قبل أن يًسأَلَها»؛ يعني به الشهادة التي يجب (15) أداؤها، وإن (16) لم يَسْاَلَها؛ كشهادة (17) بحق لم يحضر مستحقه، أو بشيء يخاف ضياعه، أو فوته، أو (18) بطلاق، أو عتق (19) على من (20) أقام على (21) تصرُّفه من الاستمتاع بالزوجة، واستخدام العبد، إلى غير ذلك، فيجب على من تحمَّل (22) شيئًا من ذلك أداء تلك الشهادة، ولا =(5/172)=@
__________
(1) في (ح) و(ك) و(ق) و(ن): «فإنه».
(2) في (ق): «وفيه».
(3) في (ق): «كالشرع» وكتب في الهامش «كالمشرع» وكتب فوقها (نخـ).
(4) في (ح): «ففتى».
(5) في (ق): «المساكين».
(6) قوله: «تلك» سقط من (أ).
(7) في (ق): «المساكين».
(8) في (ق): «فيه» بدل «قيمة».
(9) في (ق): «ويقسم».
(10) في (ح): «ويشتركون».
(11) في (أ): «استحالته».
(12) في (أ) و(ح) و(ق): «فيه».
(13) متفق عليه من حديث عائشة، وتقدم تخريجه.
(14) في (ك): «بحسب» وكتب تحتها «حسبما».
(15) في (ن): «تجب».
(16) قوله: «إن» سقط من (ك).
(17) في (ق) و(ن): «كشهادته».
(18) قوله: «أو» سقط من (ح) و(ك) و(ق) و(ن).
(19) في (ك) و(ف): «وعتق».
(20) في (أ): «على» و(ك) و(ف).
(21) في (ح): «من».
(22) في (ق) و(ن): «يحصل».(5/172)
يقف أداؤها على أن تُسْأَلَ (1) منه، فيضيع الحق، وقد قال تعالى: {وأقيموا الشهادة (2) لله} (3) ، ولا يعارض هذا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح: «ثم يأتي من (4) بعد ذلك قوم يشهدون ولا يُستشهدون» (5) ؛ لأن هذا محمولٌ على أحد وجهين:
أحدهما: أنه (6) يراد به: شاهد الزور؛ فإنَّه يشهد بما (7) لم يستشهد؛ أي: بما (8) لم يحمله (9) .
والثاني: أن يراد به الذى يحمله (10) الشَّرَهُ (11) على تنفيذ ما يشهد به فيبادر بالشهادة قبل أن يُسْأَلَها. فهذه شهادة مردودة، فإن ذلك يدلُّ على هوى غالب على الشاهد (12) . ولا خلاف عندنا في هذا (13) إن شاء الله تعالى. وما ذكرناه أحسن ما حمل عليه هذا الحديث.
وقد روي عن النَّخعي: أنَّه قال: المراد بالشهادة في هذا الحديث: اليمين. واستدلَّ عليه بقوله - صلى الله عليه وسلم - في بقيَّة الحديث: «تسبق (14) يمين أحدهم شهادته، وشهادته يمينه»، وفيه نظر. وسيأتي إن شاء الله تعالى.
فرع: لا إشكال في أن من وجبت عليه شهادة على أحد الأوجه (15) التي ذكرناها فلم يؤدها أنَّها جُرْحَةٌ، في الشَّاهد والشهادة. ولا فرق في هذا بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين. هذا قول ابن القاسم وغيره. وذهب بعضهم: إلى أن تلك الشهادة إن كانت بحق من حقوق الآدميين كان ذلك جُرْحَةٌ (16) في تلك (17) الشهادة نفسها خاصة، فلا (18) يصلح له أداؤها (19) بعد ذلك. =(5/173)=@
__________
(1) قوله: «تسأل» نقط الحرف الأول في (ك) باثنتين من فوق وتحت وفي (ف): «على من يسأل» وفي (ن): «على أن يسأل».
(2) من قوله: «ولا يقف أداؤها...» إلى هنا سقط من (ق).
(3) سورة الطلاق الآية: 2.
(4) قوله: «من» سقط من (ك).
(5) سيأتي في كتاب الفضائل، باب...
(6) في (ك): «أن».
(7) في (ح): «ما لم» بدل «بما لم».
(8) في (ح): «ما لم» بدل «بما لم».
(9) في (ق) و(ن): «يتحمله».
(10) في (ق): «يحمل».
(11) في (ن): «الشدة».
(12) في (ق): «على الشهادة».
(13) في (ق): «في ذلك».
(14) في (ف): «يسبق».
(15) في (ن): «في الأوجه».
(16) في (ح): «حرجة».
(17) في (ح): «حق» بدل «تلك».
(18) في (ف): «ولا».
(19) في (أ): «أداها».(5/173)
قال الشيخ: وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ (1) الذي يوجب جرحته: إنما هو فسقه بامتناعه من القيام بما وجب عليه من غير عُذْرٍ. والفسق يسلب (2) أهلية الشهادة مطلقًا. وهذا واضح.
5 - ومن باب تسويغ (3) الاجتهاد
قوله: «نادى فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - »؛ أي: أمر من ينادي فنادى، فنسب النداء إليه؛ لأنَّه أمر به.
وقوله: «ألا لا يصلين أحدٌ العصر إلا في بني قريظة»؛ كان هذا من النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هزم الله تعالى الأحزاب، ورجع هو وأصحابه إلى المدينة، فألقوا (4) السِّلاح، فجاءه (5) جبريل عليه السلام فقال له (6) : ألقيت السِّلاح؛ ولا والله ما ألقت الملائكة السِّلاح، فاخرخ إلى بني قريظة فإني منطلق إليهم، ومزلزلٌ (7) بهم حصونهم. فحينئذ نادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك النداء، فأخذ قومٌ من أصحابه بظاهر الأمر، وقالوا: لا نُصلِّي إلا حيث أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (8) وإن فاتنا الوقت. ونظر آخرون إلى المعنى، فقالوا: إن المقصود من ذلك الأمر الاستعجال، فصلُّوا قبل أن =(5/174)=@
__________
(1) في (ق): «فإن».
(2) في (ف): «سلب».
(3) في (ف): «توسيع».
(4) في (أ) و(ح) و(ق): «وألقوا». وفي (ف): «ألقوا».
(5) في (ك): «جاءه».
(6) قوله: «له» سقط من (ك).
(7) وفي (ف): «ونزلزل».
(8) قوله: «رسول الله - صلى الله عليه وسلم - » ليس في (أ).(5/174)
يَصِلُوا إلى بني قريظة. وعجَّلوا السَّير، فجمعوا بين المقصودين، فاقرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) كلاًّ منهم على ما ظهر له من اجتهاده، فكان فيه حجَّة لمن يقول: إنَّ كلَّ مجتهد مصيبٌ؛ إذ لو كان أحد الفريقين مخطئًا (2) لعيَّنه النبي - صلى الله عليه وسلم - . ويمكن أن يقال: لعله (3) إنما سكت عن تعيين المخطيء؛ لأنَّه غير آثم ،(بل مأجور، فاستغنى عن تعيينه، والله أعلم.
ومن باب اختلاف المجتهدين بالحكم لا ينكر (4)
وقوله: «فتحاكمتا (5) إلى داود فقضى به للكبرى»؛ قد أشكل هذا على كثير من الشارحين، حتى قال بعضهم: إن هذا لم يكن من داود عليه السلام **كذا في (أ)** حكمًا، وإنَّما كان فتيا. وهذا (6) فاسدٌ لنصِّه؛ على أنه قضى، ولأن فتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - وحكمه سواء؛ إذ( يجب (7) تنفيذ ذلك. وقالت طائفة أخرى: إن ذلك كان من شرع داود عليه السلام أن يحكم به للكبرى؛ يعني: من حيث هي كبرى. وهذا (8) أيضًا فاسدٌ؛ لأنَّ اللفظ ليس نصًّا في ذلك، ولأن الكُبَر والصغر طَرْدٌ محض عند الدعاوى، كالطول والقصر، والسّواد والبياض؛ إذ لا يوجب شيء من ذلك ترجيح (9) أحد المتداعيين، حتى يحكم له، أو عليه لأجل ذلك، وهذا مما يقطع به (10) من فهم ما جاءت به الشرائع، كما بيَّنَّاه في الأصول، والذي ينبغي أن يقال: إن داود عليه السلام إنما حكم به (11) للكبرى لسبب اقتضى عنده =(5/175)=@
__________
(1) في (ف): «كل».
(2) في (ق): «مخطيئا» كذا رسمت.
(3) في (ك): «إنه» بدل «لعله».
(4) من قوله: «ومن باب ... إلى هنا» ليس في (أ) و(ح) و(ك) و(ف) و(ق) و(ن).
(5) في (ح) و(ك): «متحاكما» وفي (ق): «فتحاكمتا» وألحق في الهامش «فتحاكما» ووضع فوقها «نسخة».
(6) في (أ) و(ف): «وهو».
(7) في (ق): «إذ قد يجب».
(8) في (ق): «فهذا».
(9) في (ف): «وترجيح».
(10) قوله: «به» سقط من (ح).
(11) قوله: «به» سقط من (ك).(5/175)
ترجيح قولها، ولم يذكر (1) في الحديث تعيِّينه (2) ؛ إذ لم تَدْعُ حاجةٌ إليه، فيمكن أن يقال: إن الولد كان في يد الكبرى، وعلم عجز الأخرى عن إقامة البيِّنة، فقضى به لها إبقاء لما كان على ما كان. وهذا تأويل حسن لا يمنعه اللفظ، وتشهد (3) له قاعدة الدعاوي الشرعية التي يبعد (4) اختلاف الشرائع فيها. فإن قيل: فإن كان داود عليه السلام قضى بسبب شرعي، فكيف ساغ لسليمان عليه السلام **كذا في (أ) ** نقض حكمه؟!
فالجواب: أن سليمان عليه السلام لم يتعرَّض لحكم أبيه بالنقض، وإنَّما احتال حيلة لطيفة، ظهر له بسببها صدق الصغرى. وهي: أنَّه لَمَّا قال: هات السكين أشقه (5) بينهما، فقالت الصغرى: لا. ظهر له من قرينة الشفقة في الصغرى، وعدم ذلك في الكبرى مع ما عساه انضاف إلى ذلك من القرائن (6) ما حصل له العلم بصدقها فحكم (7) لها. ولعله كان ممن سُوِّغ (8) له أن يحكم بعلمه، ولعل الكبرى اعترفت بأن الولد للصغرى عندما رأت من سليمان عليه السلام **كذا في (أ) ** الجزم (9) والجِدّ في ذلك، فقضى بالولد للصغرى. ويكون (10) هذا كما إذا (11) حكم الحاكم باليمين، فلما مضى ليحلف حضر من استخرج من المنكر ما أوجب إقراره، فإنَّه يحكم عليه بذلك الإقرار قبل اليمين، وبعدها، ولا يكون هذا (12) من باب نقض الحكم الأول، ولكن (13) من باب: تبدل الأحكام بحسب (14) تبدل الأسباب. والله أعلم.
وفي هذا الحديث: أن الأنبياء عليهم (15) الصلاة والسلام سُوِّغ (16) لهم الحكم بالإجتهاد، وهو (17) مذهب المحققين من الأصوليين، ولا يُلتفت لقول من يقول: إن الإجتهاد إنما سُوِّغ (18) عند فقد النَّصِّ، والأنبياء عليهم السلام لا يفقدون النصّ (19) ، فإنَّهم مُتَمِكِّنون (20) من استطلاع الوحي وانتظاره؛ لأنَّا نقول: إذا لم يأتهم الوحي في الواقعة صاروا كغيرهم في البحث عن معاني النصوص التي عندهم. والفرق بينهم وبين غيرهم من المجتهدين: أنَّهم معصومون عن الغلط والخطأ، وعن (21) التقصير في اجتهادهم، وغيرهم ليس كذلك. =(5/176)=@
__________
(1) في (ك): «يذكره».
(2) في (ك): «بعينه» ونقط الحرف الأول باثنتين من فوق . في (ك) وفي (ن): «تعينه».
(3) في (ك) و(ق) و(ن): «ويشهد».
(4) في (ن): «تبعد».
(5) في (ق) و(ن): «أشقها».
(6) في (ن): «ذلك إلا من القرائن».
(7) قوله: «فحكم» سقط من (ف).
(8) في (أ) و(ف) و(ق) و(ن): «يسوغ».
(9) في (ف) و(ن): «الحزم».
(10) قوله: «ويكون» سقط من (ن).
(11) قوله: «إذا» سقط من (ن).
(12) في (ح) و(ك) و(ف) و(ق) و(ن): «ذلك».
(13) في (أ) و(ف): «لكن» بلا واو.
(14) في (ق): «بحسب» وكتب في الهامش «بحكم» ووضع فوقها (نخـ).
(15) في (أ): «عليه».
(16) في (ق) و(ن): «يسوغ».
(17) في (ق) و(ن): «وهذا».
(18) في (ح): «يسوغ».
(19) في (ح): «النصوص».
(20) في (ح): «متمسكون».
(21) قوله: «عن» سقط من (ق).(5/176)
وفيه من الفقه: استعمال الحكَّام (1) الحيل التي تُستخرج (2) بها الحقوق، وذلك يكون عن قوة الذكاء، والفطنة، وممارسة أحوال الخليقة. وقد يكون في أهل التقوى فراسةٌ دينية، وتوسُّمات نورِّية، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وقولها: «لا (3) »؛ أي: لا تفعل. ثمَّ دعت له بقولها: «يرحمك الله» فينبغي للقارئ أن يقف على (4) «لا» وُقيفَةِ؛ حتى يتبيَّن للسامع: أن ما بعده كلام مستأنف؛ لأنَّه إذا وصل بما بعده توهَّم السَّامع: أنَّه دعاء عليه، وهو (5) دعاء له. وقد روي عن أبي بكر الصِّديق (6) - رضي الله عنه - أنه(قال لرجل سمعه يقول مثل ذلك القول: لا تقل هكذا، وقل: يرحمك الله (7) ، لا (8) .
قال الشيخ: وقد (9) يزول ذلك الإيهام (10) بزيادة «واو»، فيقال: لا، ويرحمك الله.
وفيه حجَّة لمن يقول: إن الأمّ تستلحق (11) ، وليس مشهور مذهب مالك، ولا يلحق الولد عند مالك (12) بإحداهما (13) إلا ببيِّنة. وقد تقدم القول في الاستلحاق (14) في النكاح. =(5/177)=@
__________
(1) في (ق): «الحاكم».
(2) في (ف) و(ق) و(ن): «يستخرج».
(3) قوله: «لا» سقط من (ح).
(4) في (ح) و(ق) و(ن): «على قوله».
(5) في (ح): «بل وهو».
(6) .......
(7) في (ق): «مثل ذلك القول لا تقل هكذا وقل يرحمك الله لا» وكتب في الهامش «مثل ذلك القول وقل يرحمك الله لا» وكتب فوقها (نسخه).
(8) قوله: «لا» سقط من (ك).
(9) قوله: «وقد» سقط من (ف) وقوله: «قد» سقط من (ق) و(ن).
(10) في (ق): «الإبهام».
(11) في (ف): «تستلحق الولد من غير معارض».
(12) في (أ): يشبه أن تكون «ذلك» بدل «مالك».
(13) في (ك): «بأحدهما».
(14) في (ح): «الاستحقاق».(5/177)
7 - ومن باب للحاكم أن يصلح بين الخصوم
العقار: أصول (1) الأموال من الأرض وما يتصل بها، وعقر الشيء: أصله - ومنه: عَُقْرُ الأرض - بفتح العين وضمها -.
وقوله (2) : «فقال الذى شَرَى الأرض: إنَّما بعتك الأرض وما فيها»؛ هكذا (3) للسمرقندى، ومعنى «شَرَى»: باع، كما قال تعالى: {وشَروه بثمن بخسٍ} (4) ؛ أي: باعوه. وقد تقدَّم: أن «شرى» من الأضداد. يقال: شريت الشيء: بعته (5) واشتريته. وقد رواه غير السمرقندي: «الذي اشترى الأرض»، وفيها (6) بُعْدٌ؛ لأنَّ المشتري هو الذي تقدَّم ذكره، وهو هنا البائع (7) ، ولا يصحُّ أن يقال عليه: مُشترٍ (8) ؛ إلا إن صحَّ في «اشترى (9) »: أنه من الأضداد، كما قلناه في «شَرَى». والاول هو المعروف.
وقوله: «فتحاكما إلى رجل»؛ ظاهره: أنهما حكَّماه في ذلك، وأنَّه لم يكن حاكمًا منصوبًا للناس، مع أنَّه يحتمل ذلك. وعلى ظاهره يكون فيه لمالك حجَّة (10) =(5/178)=@
__________
(1) في (ح) و(ك) و(ن) و(ق): «أصل».
(2) في (أ): «قوله» بلا واو و(ك) و(ف).
(3) قوله: «رأيه» سقط من (ف).
(4) سورة يوسف؛ الآية: 20.
(5) في (ح): «أي بعته» وقوله: «بعته» سقط من (ن).
(6) في (ق): «وفيه».
(7) في (ق): «للبائع».
(8) في (ق): «مشترد» كذا رسمت. وفي (ن): «مشتري».
(9) في (ن): «المشتري».
(10) في (ق) و(ن): «لمالك فيه حجة».(5/178)
على صحةى قوله إن المتداعيين إذا حَكَّما بينهما من له أهلية الحكم صحَّ، ولزمهما حكمه، ما لم يكن جورًا، سواء وافق ذلك الحكم رأي قاضي البلد، أو خالفه. وقال أبو حنيفة: إن وافق رأيه (1) رأي قاضي البلد نَفَذَ، وإلا فلا. واختلف قول الشافعي، فقال مثل قول مالك، وقال أيضًا: لا يلزم(حكمه، ويكون ذلك كالفتوى منه. وبه قال شريح.
وهذا (2) الرَّجل الْمُحكَّم لم (3) يحكم على أحد منهما؛ وإنما أصلح بينهما، بأن ينفقا (4) ذلك المال على أنفسهما وعلى ولديهما، ويتصدَّقا. وذلك أن هذا المال ضائع، إذا (5) لم يدَّعِه أحدٌ لنفسه. ولعلهم لم يكن لهم بيت مال، فظهر لهذا الرَّجل: أنهما أحق بذلك المال من غيرهما من المستحقين لزهدهما، وورعهما، ولحسن (6) حالهما، ولِمَا ارتجي من طيب نَسْلِهما، وصلاح ذريتهما (7) .
قال الشيخ (8) أبو (9) عبد الله المازري: واختلف عندنا فيمن ابتاع (10) أرضًا فوجد فيها شيئًا مدفونًا؛ فهل يكون ذلك للبائع أو للمشتري؛ فيه قولان.
قال لاشيخ (11) : ويعنى بذلك ما يكون من أنواع الأرض، كالحجارة، والعمد، والرُّخام، ولم يكن خِلْقَةً فيها (12) . وأمَّا ما يكون من غير أنواع الأرض، كالذهب والفضة، فإن كان من دفن الجاهلية كان ركازًا. وإن كان من دفن (13) المسلمين (14) فهي (15) لُقَطة. وإن (16) جُهِل ذلك كان مالاً ضائعًا. فإن (17) كان هناك (18) بيت مالٍ حفظ فيه. وإن لم =(5/179)=@
__________
(1) قوله: «رأيه» سقط من (ف).
(2) في (ك): «وقال» بدل «وهذا».
(3) قوله: «لم» سقط من (ق).
(4) في (ن): «ينقعا».
(5) في (أ) و(ن) و(ح): «إذ».
(6) في (ق) و(ن): «وحسن».
(7) في (ك): «دينهما».
(8) قوله: «الشيخ» سقط من (ح). وفي (ق) و(ن): «الإمام» بدل «الشيخ».
(9) في (ق): «أبي».
(10) في (أ) و(ك) و(ف) و(ق): «باع».
(11) قوله: «قلت» سقط من (ح).
(12) قوله: «فيها» تكرر في (ك).
(13) في (ق): «دفين».
(14) في (ك): «الإسلام».
(15) في (ح) و(ك) و(ف) و(ق) و(ن): «فهو».
(16) في (ق) و(ن): «فإن».
(17) في (ق) و(ن): «وإن».
(18) في (ح) و(ن): «هنالك».(5/179)
يكن؛ صرف في الفقراء (1) والمساكين. وفيمن (2) يستعين به على أمور الدِّين، وفيما أمكن من مصالح المسلمين. والله تعالى أعلم.
وقوله: «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الْخَصِم»؛ الألد: اسم فاعل (3) من: لدَّ في الخصومة، يَلَدُّ -بفتح العين - لَدًّا (4) : إذا اشتدَّ (5) في خصومته، فهو ألدُّ ،(والجمع: لُدٌّ. ومنه قوله تعالى: {قومًا لُدًّا} (6) ، وامرأة لَدَّاءٌ. وسمي الْخَصِم بذلك لإعماله لدَيْدَيهِ (7) في الخصومة، وهما جانبا الفم. وقيل: لأنك كلما (8) أخذت في جانب من الحجَّة أخذ في جانب آخر منها. وعلى (9) هذا: فالألد صفة. فكان حقَّه أن يكون تابعًا للخصم. فيقول (10) : الخصم الألد. لكنه لما كثر استعماله عومل معاملة الأسماء وحُذي به حَذْوَ قوله تعالى: {وغرابيب سود} (11) ؛ لأن الأصل أن يقال: أسودٌ غِرْبِيب. فلو جاء على الأصل لقال: وسودٌ (12) غرابيب. وهذا الخصم المذموم هو: الذي يعدل عن الحق في خصومته، ويُوَهِّيه (13) ، ويَعْضِدُ الباطلَ، ويُقَوِّيه. فأمَّا من اشتدت خصومته في حق (14) حتى يظهره، ويبديه، ويزيح الباطل، ويخفيه؛ فهي حالةُ القائمين بالحق، الناصرين له، الذين لا يزالون ظاهرين إلى يوم الدِّين. =(5/180)=@
__________
(1) في (ح): «للفقراء».
(2) في (ك): «ومن».
(3) قوله: «فاعل» سقط من (ح) و(ك) و(ق) و(ن).
(4) قوله: «لدا» سقط من (ح) و(ك) و(ق) و(ن).يراجع.
(5) في (ق): «إذا شد» وكتب في الهامش «اشتد» ووضع فوقها (بخـ).
(6) سورة مريم: الآية: 97.
(7) اللَّديدان: صفحتا العنق دون الأذنين. "لسان العرب" (3/390) وفي (ن): «لديده».
(8) في (أ): «إذا» وكأنه قد ضرب عليها.
(9) في (ق) و(ن): «فعلى».
(10) في (ق): «فنقول».
(11) سورة فاطر: الآية: 27.
(12) في (ق) و(ن): «سود» بلا واو.
(13) في (ق) و(ن): «ويوهنه».
(14) في (ق): «في حق» وكتب في الهامش «بيان حق».(5/180)
8 - ومن باب حكم اللقطة والضوال
قد تقدم القول (1) في اللقطة وإنشادها في كتاب الحجِّ. و«العِفَاص (2) »: الوعاء (3) . وأصله: جلدٌ يلبسه (4) رأس القارورة. يقال: عفصت القارورة: شددت عليها العِفاص. و«الوكاء»: الخيط (5) الذي يشدُّ به الوعاء. تقول: عفصتُ عفصًا: إذا شددت العِفاص، فإن جعلتَ العِفاص؛ قلت: أعفصته (6) . وتقول: أوكيت إيكاءً، والشيءَ مُوكى، كما تقول: أعطيت إعطاء، والشيء مُعطَى.
والكلام في اللقطة في مسائل:
الأولى: في حدِّها، وهي عندنا (7) : وجدان مالٍ معصوم (8) لمعصوم (9) معرَّض للضياع، فيدخل في المال كلُّ ما يُتمَّول من جمادٍ وحيوانٍ. ونعني (10) بالمعصوم: كل مال لمالكه حرمة شرعيَّة، فيدخل فيه مال المسلم، والذمِّي، والمعاهد، ويخرج عنه (11) مال الحربيِّ إذ لا حرمة له (12) . وأموال الجاهلية؛ إذ هي ركاز (13) ، ويدخل (14) فيه القليل من المال والكثير منه، سواء كان في عامر (15) من الأرض أو غامرها، مدفونًا أو غير مدفون. وتحرزنا بقولنا: «مُعرَّض للضياع» عمَّا يكون في حرز مُحترم، أو عليه حافظ (16) .
المسألة الثانية: في أقسام اللقطة، وهي: جمادٌ، وحيوان. والحيوان: إنسان وغير إنسان، والإنسان إمَّا صغير أو (17) كبير. فالصغير إن علم: أنه مملوك؛ فهو =(5/181)=@
__________
(1) في (ن): «الكلام».
(2) في (ك): «العفاص» بلا واو.
(3) في (ق) و(ن): «الوكاء».
(4) في (ق) و(ن): «يلبس».
(5) قوله: «الخيط» سقط من (ق) و(ن).
(6) في (ق): «عفصته» ومن هنا بداية سقط طويل في (ن).
(7) قوله: «عندنا» سقط من (ك).
(8) قوله: «معصوم» سقط من (ح) و(ك) و(ف).
(9) قوله: «لمعصوم» سقط من (ق).
(10) في (ف) و(ق): «ويعني».
(11) في (ك) و(ق): «منه».
(12) قوله: «له» سقط من (ق).
(13) في (ق): «ركازية».
(14) في (ح): «ويدخل فيه الكثير والقليل ويدخل».
(15) في (ح): «في غامر الأرض أو غامرها»، وفي (ك): «في عامر الأرض أو غامرها» وفي (أ): «في غامر من الأرض أو عامر» وفي (ف): «من غامر من الأرض أعامر».
(16) في (ك): «حائط».
(17) في (ح): «وإما».(5/181)
لُقطة. وإلا فهو اللقيط، ويجب حفظه، والقيام به على المسلمين؛ إذا كان ذلك في بلادهم وجوب كفاية، وله أحكام مذكورة في الفروع (1) . ولا يكون المملوك الكبير لُقطة إلا إذا (2) كان مِمَّن (3) لا يفهم. وإمَّا غير الإنسان: فإبل (4) ، وبقر، وغنم، وخيل، وبغال، وحمير (5) .
المسألة الثالثة: في بيان حكمها. فأمَّا الجماد: فاختلف في حكم التقاطه؛ فذهب الشافعي إلى استحباب ذلك مطلقًا، وعندنا فيه تفصيل. فقيل: لا يجب إلا أن يكون بين قوم غير مأمونين، والإمام عدل؛ فيجب أخذها بنيَّة الحفظ على من وثق بأمانة نفسه، فإن علم خيانة نفسه حرم الأخذ عليه، وإن ظن ذلك كره له (6) ، وإن (7) كانت بين مأمونين، ووثق بأمانة نفسه، فقيل: يستحب له أخذها (8) بنيَّة الحفظ. وروي عن ابن القاسم كراهه التقاطها؛ إلا أن يكون لها قدر وبال. وكذلك روى أشهب في الدنانير، فأمَّا الدرهم (9) وما لا بال له؛ فلا أحِبُ له أن يأخذه. وقد رويت (10) عن مالك الكراهة مطلقًا. وباقي ما يتعلّق بها من المسائل يأتي (11) مع البحث في الحديث.
وقوله: «اعرف عِفاصها ووكاءها»، وفي رواية: «وعددها»؛ هذا الأمر للملتقط بتعرف هذه الأمور الثلاثة يُفيد (12) إباحة حل وكائها، والوقوف على عينها، وعددها للملتقط. وفائدة ذلك: أنَّه إذا جاء من عرف أولئك الأوصاف دفعت له (13) ، كما قال: «فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها، وعددها، ووكاءها، فادفعها (14) إليه»؛ وظاهره: إشتراط معرفة مجموع تلك الأوصاف، وأنها تدفع له (15) بغير بيِّنة. وقد اختلف في المسألتين.
فأمَّا (16) المسألة الأولى: فقال ابن القاسم: لابدَّ من ذكر جميعها؛ يعني: =(5/182)=@
__________
(1) في (ح) و(ق): «كتب الفروع».
(2) في (ح) و(ك) و(ف): «إن» وفي (ق): «إذ».
(3) في (ق): «مما».
(4) في (ح): يشبه «كإبل».
(5) في (ك): «حمر».
(6) قوله: «له» سقط من (أ).
(7) في (أ) و(ح) و(ف): «وإذا».
(8) في (ق): «أخذه».
(9) في (ف) و(ق): «الدراهم».
(10) في (أ): «روى».
(11) في (ف): «تأتي».
(12) في (ك): «تفيد».
(13) في (ق): «إليه».
(14) في (أ): «دفعها».
(15) في (ك): «إليه».
(16) في (ق): «وأما».(5/182)
الوكاء، والعِفاص، والعدد. ولم يعتبر إصبغ العدد. وظاهر الحديث حجَّة لابن القاسم، ولاصبغ التمسك بالحديث الذي ليس فيه ذكر العدد. وحجَّة ابن القاسم أوضح؛ لأن من ذكر شيئًا حجَّة على من سكت عنه، ولأنَّه من باب حمل المطلق على المقيد، فإذا أتى بجميع أوصافها؛ فهل يُحَلَّف مع ذلك أو لا (1) ؟ قولان. النَّفي لابن القاسم. وتحليفه لأشهب.
ولا يلزمه (2) بينة عند مالك وأصحابه، وأحمد بن حنبل، وغيرهم. وقال أبو حنيفة، والشافعي: لا تدفع له (3) إلا إذا أقام بينة أنها له. والأول أولى؛ لنصّ الحديث على ذلك، ولأنَّه لو كان إقامة البيِّنة شرطًا في الدَّفع لما كان لذكر (4) العِفاص، والوكاء، والعدد معنًى؛ فإنَّه يستحقها بالبيِّنة على كل حال، ولما جاز سكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فإنه تأخير للبيان (5) عن وقت الحاجة. وقال إصبغ: إن عرف العِفاص وحده استُبرئ له، فإن جاء أحدٌ، وإلا أُعطيها. وقال ابن عبد الحكم: لو أصاب تسعة أعشار الصفة، وأخطأ العشر لم يعطها إلا أن يصف (6) العدد، فيصاب أقل. وقال أشهب: إن عرف منها وصفين، ولم يعرف الثالث دفعت إليه.
وقوله: «ثم عرِّفها (7) سنة»؛ تعريفها هو: أن ينشدها في مجتمعات الناس، وحيث يظن: أن ربَّها هنالك (8) ، أو قربه، فيعرفها تعريفًا لا يضرُّ به، ولا يُخُفِي أمرها. والتعريف واجبٌ؛ لأنَّه مأمورٌ به. ثمَّ (9) يختص الوجوب بسنة في المال الكثير؛ الذى لا يفسد، ولا ينقص منها. وهو قول فقهاء الأمصار. ولم يذهب أحدٌ منهم إلى زيادة على السُّنة إلا شيء روى عن عمر بن الخطاب (10) - رضي الله عنه -، فإنَّه قال: يعرفها ثلاثة أعوام (11) . وإلا ما تقدَّم من الخلاف في لقطة الحاجِّ.
فأما (12) الشيء (13) القليل التافه (14) ؛ الذى لا يتعلَّق (15) به نفس مالكه كالثمرة (16) ، والكِسرة، فلا تعريف فيه. وقد مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بتمرة في الطريق فقال: «لولا أني أخاف أن تكون من =(5/183)=@
__________
(1) في (ق): «أولي».
(2) في (ح) و(ك): «لا تلزمه» وفي (ف): «ولا تلزمه»..
(3) قوله: «تدفع» نقط الحرف الأول في (ك) باثنتين من فوق ومن تحت ووضع فوق «له» «إليه» ووضع فوقها (خ) وفي (ق): «لا يدفع إليه».
(4) في (ق): «لذلك» بدل «لذكر».
(5) في (ح): «البيان».
(6) في (ك): «يضيف».
(7) من قوله: «أعفصته وتقول أوكيت...» إلى هنا سقط من (ن).
(8) في (ق): «هناك».
(9) قوله: «ثمَّ» سقط من (ن).
(11) قال ابن حجر في "الفتح" (5/79): حكى ابن المنذر عن عمر أربعة أقوال :
1 - يعرفها ثلاثة أحوال. 2 - عامًا واحدًا. 3 - ثلاثة أشهر. 4 - ثلاثة أيام. ويحمل ذلك على عظم اللقطة وحقارتها. وزاد ابن حزم عن عمر قولاً خامسًا، وهو: أربعة أشهر.
(12) في (ف): «وأما».
(13) قوله: «الشيء» سقط من (أ).
(14) في (ق): «والتافه».
(15) في (ك) و(ف): «لا تتعلق».
(16) في (ك): «كالتمرة».(5/183)
الصَّدقة لأكلتها» (1) ، ولم يعرِّفها.
ولو كانت من القليل الذي تتعلَّق (2) به النفس غالبًا، فهل يُعرَّف (3) أو لا؟ وإذا (4) عُرِّف؛ فهل يُعرَّف سنة، أو يجزئ أقل من ذلك؛ كل ذلك مختلف فيه. فظاهر (5) رواية ابن القاسم: أنَّه يُعرَّف (6) سنة كالكثير. وهو قول الشافعي. وقال ابن القاسم في (7) الكتاب: يُعرِّفه (8) أيَّامًا. وبه قال ابن وهب، ولم يَحُدَّ الأيام، بل بحسب ما يظن أن مثلها يطلب فيها. وهذا كالحبل، والمخلاة (9) ، والدَّلو، والعصا، والسَّوط، والسِّقاء، والنَّعل (10) . وقال أشهب: إن لم يعرفها فأرجو أن يكون واسعًا. وقال بعض العلماء: لا يلزم تعريف شيء من ذلك، وألحقوه بالقسم الأول. وفيه بُعْدٌ؛ لأنَّ ما تشُّوف (11) النفسُ إليه فالغالب: أن صاحبه يطلبه، فلا بدَّ من تعريفه، لكنه (12) لا (13) ينتهي التعريف فيه إلى السَّنة (14) ؛ لأنَّ صاحبه (15) لا يستديم (16) طلبه فيها غالبًا (17) ، فحينئذ تضيع (18) استدامة التعريف. فإن قيل: فقد جاء في كتاب أبي داود من حديث جابر (19) : رخَّص (20) لنا (21) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (22) في السوط، والعصا، والحبل (23) ، وأشباهه، يلتقطه الرَّجل ينتفع به. وظاهره (24) : أنه لا يحتاج مثل (25) هذا إلى تعريف.
فالجواب: أن هذا لا يصحُّ رفعه؛ لأنَّه من رواية المغيرة بن زياد، عن (26) أبي الزبير، عن جابر. وقد رواه المغيرة بن مسلم عن أبي الزبير، عن جابر (27) ، قال: كانوا، ولم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - . والمغيرة بن مسلم أصلح حديثًا، وأصح من حديث المغيرة بن زياد (28) . هكذا (29) قاله أبو محمد عبد الحق.
قال الشيخ: مع أن حديث أبي الزبير عن جابر لا يؤخذ منه (30) إلا ما ذكر فيه سماعه منه؛ لأنَّه كان يُدلِّس في حديث جابر، ولم يذكر سماعه في هذا الحديث، سلمنا صحته، لكنه يحتمل أن تكون (31) هذه الإباحة بعد التعريف. ويعتضدُ هذا بما رواه =(5/184)=@
__________
(1) تقدم في باب تحريم الزكاة على النبي ( وآله من كتاب الزكاة.
(2) في (أ): «يتعلق».
(3) في (ف): «تعرف».
(4) في (ح): «فإذا».
(5) في (ق): «وظاهر».
(6) في (ك): «تعريف» بدل «أنه يعرف».
(7) قوله: «في» سقط من (ف).
(8) في (ق) و(ن): «يعرف».
(9) المخلاة: ما يجعل فيه الحشيش وما اشبهه. "مختار الصحاح" (1/79).
(10) في (ح) و(ك): «والنعال».
(11) في (ح) و(ف) و(ق) و(ك): «ما تتشوف» وفي (ن): «ما يتشوف».
(12) في (ح) و(ك) و(ق) و(ن): «ولكنه».
(13) في (ك): «لأن».
(14) في (ك): «إلى سنة».
(15) في (ق) و(ن): «صاحبها».
(16) قوله: «لا يستديم» لم يتضح في (ف).
(17) قوله: «غالبًا» سقط من (ق) و(ن).
(18) في (ق): «تضيع» وكتب في الهامش «يضيع» ووضع فوقها (نسخه» وفي (ن): «تضع».
(19) رواه أبو داود (2/339 رقم1717) كتاب اللقطة، باب التعريف باللقطة، وابن عدي (6/354)، والطبراني في "الأوسط" (9/107 رقم9262)، والبيهقي (6/195) من طريق سليمان بن عبدالرحمن، عن محمد بن شعيب، عن المغيرة بن زياد، عن أبي الزبير، عن جابر به.
وقد صرح أبو الزبير بالتحديث عن ابن عدي. لكن المغيرة بن زياد وهو أبو هاشم البجلي اختلف فيه، فقال فيه أحمد: مضطرب الحديث، منكر الحديث، أحاديثه مناكير. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عنه؟ فقالا: هو شيخ. قلت: يحتج به؟ قالا: لا. قال: وقال أبي: هو صالح صدوق ليس بذاك القوي، بابه مجالد. وأدخله البخاري في الضعفاء. فقال أبي: يحول اسمه من كتاب الضعفاء.
وقال أبو زرعة في موضع آخر في حديثه اضطراب. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالمتين عندهم.
ووثقه ابن معين والعجلي وابن عمار الموصلي ويعقوب. وقال يحيى بن معين: ليس به بأس، له حديث واحد منكر. وقال أبو داود صالح. وقال النسائي مرة أخرى: ليس به بأس. وقال ابن حجر في "التقريب": صدوق له أوهام.
وقال أبو داود عقب هذا الحديث: «رواه النعمان بن عبدالسلام، عن المغيرة أبي سلمة بإسناده، ورواه شبابة، عن مغيرة بن مسلم، عن أبي الزبير، عن جابر قال: كانوا، لم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ».
قلت: رواه ابن عدي (6/354)، ومن طريقه البيهقي (6/195) من طريق محمد بن شعيب، عن رجل قال: أخبرني المغيرة بن مسلم، عن أبي الزبير، عن جابر قال: كانوا...، فهذا الإسناد فيه مجهول، وهو الذي أسقطه محمد بن شعيب في روايته، ثم جعله من حديث المغيرة بن مسلم، عن أبي الزبير به.
قال البيهقي: «في رفع هذا الحديث شك، وفي إسناده ضعف».
قلت: وقد صح مثل هذا موقوفًا على أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعطاء، وإبراهيم، فقول أم سلمة رواه ابن أبي شيبة (4/420 رقم21637)، والبيهقي (6/195) من طريق طلحة بن يحيى القرشي، عن عبدالله بن فروج عنها، وطلحة صدوق يخطئ.
وقول عطاء رواه ابن أبي شيبة (4/420 رقم21640)، و(4/421 رقم21654) بإسنادين حسنين. وقول إبراهيم رواه ابن أبي شيبة (4/420 رقم21639) بإسناد صحيح.
(20) في (ن): «وحص».
(21) قوله: «لنا» سقط من (ح) و(ق) و(ن).
(22) في (ف): «النبي (».
(23) قوله: «والعصا والحبل» سقط من (ق) و(ن).
(24) في (ق): «فظاهره».
(25) في (ق) و(ن): «من» بدل «مثل».
(26) ألحق ناسخ (ق) في الهامش قوله «ابن» ووضع إشارة اللحق بعد قوله «عن».
(27) من قوله: «وقد رواه المغيرة...» إلى هنا سقط من (ق).
(28) في (ق): «ابن دينار» وكتب في الهامش «ابن زياد» ووضع فوقها (نسخه».
(29) في (ق): «هذا» بدل «هكذا».
(30) في (أ): «يوجد فيه» وفي (ن): «لا يوجد منه»..
(31) قوله: «تكون» نقط الحرف الأول في (ك) باثنتين من فوق وتحت.(5/184)
أبو محمد بن أبي حاتم (1) عن حكيمة (2) بنت غيلان عن أبيها (3) : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من التقط لقطة يسيرة، درهمًا، أو حبلا، أو شبه ذلك؛ فليعرفه ثلاثة أيام، فإن كان فوق ذلك فليعرِّفه ستة أيام». وأصح من هذا وأحسن (4) ما خرَّجه النسائي (5) عن عياض بن (6) حمار (7) المجاشعي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أخذ لقطة فليشهد ذوي عدل، وليحفظ عفاصها، ووكاءها، ولا يكتم، ولا يُغيِّب، فإن جاء صاحبها، فهو أحق بها، وإن (8) لم يجئْ صاحبها وإلا فهو (9) مال الله يؤتيه من يشاء»، وهذا عام في كل لُقطة.
وقوله: «فليشهد ذوي عدلٍ»؛ أمرٌ للملتقط (10) بأن يشهد على نفسه بأنه وجد كذا على جهة الإحتياط للُّقطة مخافة طارئ يطرأ (11) على الملتقط من موت، أو آفة، أو طروء (12) خاطر خيانةٍ.
وقوله: «ولا يكتم (13) ، ولا يُغيِّب»؛ يعني به: أنَّه يعرِّفها بأعمِّ أوصافها، ويستدعي (14) من الْمُدَّعي أخصَّ (15) أوصافها المميَّزة لها، كما تقدم.
وأمَّا ما رواه أبو داود (16) من حديث عليٍّ - رضي الله عنه -: أنَّه وجد دينارًا فرهنه في درهم لحمًا، وأنه أعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فاقرَّه، ولم يُنكر (17) عليه تصرَّفه في الدينار بالرَّهن. فلا حجَّة فيه لمن يستدلُّ به: على أن القليل من اللقطة (18) لا يُعرَّف؛ لأنَّ عليًّا - رضي الله عنه - إنما فعل ذلك في حال ضرورة؛ لأنه دخل بيته والحسن والحسين يبكيان من الجوع، فخرج (19) فوجد الدينار، ففعل ذلك حين لم يجد شيئًا آخر، وفي مثل هذه (20) الحال تحل الميتة، فأحرى التصرف في الوديعة، ثم إنَّه لم يُتلف عين الدينار، وإنَّما رهنه، فلمَّا جاء صاحبه، اِفْتَكَّهُ ودفعه إليه. وذكر في هذا الحديث: =(5/185)=@
__________
(1) لم أقف عليه في كتاب "الجرح والتعديل"، و"العلل"، ولعلَّ المؤلف أراد: محمد بن حبان أبا حاتم، فقد رواه في "الثقات" (3/54-55) بلفظه، ورواه أحمد (4/173)، والطبراني في "الكبير" (22/273)، وابن حبان في "الثقات" (3/54 – 55) والبيهقي (6/195) من طريق عمر بن عبدالله بن يعلى بن مرة، عن حكيمة بنت يعلى، عن أبيها به.
وعمر بن عبدالله بن يعلى ضعيف، وبه أعلَّه البيهقي في "الكبرى"، وابن حجر في "التلخيص" (3/74).
(2) في (ن): «حليمة».
(3) في (ح): «أمها».
(4) قوله: «وأحسن» سقط من (ح).
(5) رواه ابن أبي شيبة (4/419 رقم21635)، وابن ماجه (2/837 رقم2505)، والطبراني في "الكبير" (17/360) من طريق عبدالوهاب الثقفي. ورواه أحمد (4/161)، والنسائي في "الكبرى" (5808)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (8/164 رقم3137) من طريق هشيم.
ورواه الطيالسي (1081) وأحمد (4/266) وابن الجارود (671) والطحاوي في المشكل (8/161 رقم 3133) وابن حبان (11/256 رقم 8494) والطبراني (17/ 35 رقم 986) والبيهقي (6/187) من طريق شعبة.
ورواه أبوداود (2/335 رقم1709) من طريق وهيب. والنسائي في "الكبرى" (5809) من طريق حماد بن سلمة. والطحاوي في "المعاني" (4/136رقم6073)، وفي "المشكل" (8/163 رقم3136) من طريق عبدالعزيز بن المختار. جميعهم عن خالد الحذاء، عن أبي العلاء يزيد بن عبدالله بن الشخير، عن أخيه مطرف، عن عياض بن حمار المجاشعي به. وهذا إسناد صحيح.
(6) في (ن): «أن» بدل «من».
(7) في (ق): يشبه «حماد».
(8) في (أ): «فإن» بدل «وإن».
(9) قوله: «وإلا فهو» سقط من المطبوع من "سنن النسائي"، وهو أنسب لسياق الحديث.
(10) في (ف): «الملتقط».
(11) في (ق): «طار يطري» كذا رسمت.
(12) في (ق) و(ن): «طوق» بدل «طرود».
(13) في (أ): «ولا تكتم».
(14) في (ق)، و(ن): «وليستدعي».
(15) في (ك): «أعم» وكتب فوقها «أخص» ووضع بجانبها (خ).
(16) رواه أبو داود (2/337 رقم1716) كتاب اللقطة عن جعفر بن مسافر التنيسي، قال: حدثنا ابن أبي فديك، قال: حدثنا موسى بن يعقوب الزمعي، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد أخبره: أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -...، فذكره.
وهذا إسناد ضعيف: جعفر بن مسافر: صدوق ربما أخطأ. وموسى بن يعقوب بن عبدالله بن وهب بن زمعة: صدوق سيء الحفظ.
ورواه أبو داود أيضًا (1715) عن الهيثم بن خالد الجهني، عن وكيع، عن سعد بن أوس، عن بلال بن يحيى العبسي، عن علي - رضي الله عنه -، فذكره، ولم يذكر الرهن، وإنما قال: فقطع منه قيراطين فاشترى به لحمًا.
وهذا إسناد حسن إذا صح سماع بلال بن يحيى العبسي من علي - رضي الله عنه -.
ورواه أبو داود (1714) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، وفيه رجل مجهول.
(17) في (ح): «ولم ينكره».
(18) قوله: «من اللقطة» سقط من (ك).
(19) قوله: «فخرج» سقط من (ق) و(ن).
(20) في (ق): «هذا».(5/185)
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استدعى مدَّعِي الدينار، فسأله، فقال: سقط مني في السُّوق. فأمر عليًّا بافتكاكه، ثم دفعه إلى الرَّجل. من غير أن يسأل (1) عن وصف من أوصاف الدينار، فيحتمل أن يكون اكتفى منه (2) بقوله: أنَّه (3) ضاع مني في السُّوق، وقد كان عليٌّ وحده (4) في السُّوق؛ لأنَّ الدينار الواحد ليس فيه عدد، وقد لا يكون له (5) وعاء، ولا وكاء، والدنانير متساوية (6) الأشخاص غالبًا. ويحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - علم: أنه صاحبه بوحي، أو بقرائن (7) ، فلا حجَّة فيه على سقوط السؤال عن الأوصاف. والله تعالى أعلم.
وقد حصل من هذا: أن اللقطة لا بدَّ لها من تعريف؛ فإن كانت مما لها بال ومقدار عُرِّفت سنة. وإن كانت مما ليس لها ذلك المقدار؛ كان تعريفها بحسبها من غير حدٍّ بعدد مخصوص، ولا زمان مخصوص، بل على الإجتهاد. وأما الثمرة (8) ، والكِسرة: فلا تحتاج إلى تعريف (9) ؛ لأنها مزهودٌ فيها، ولا تتشوف نفس صاحبها إليها (10) . وهذا مذهب مالك وغيره. والله أعلم (11) .
وقوله: «فإن جاء صاحبها، وإلا فشأنُك بها - أو (12) :« فهي لك»، أو (13) : «فاستنفقها»، وفي حديث أبي: «وإلا فاستمتع بها» (14) . وفي كتاب الترمذي (15) : «ثمَّ كُلها». وفي كتاب النسائي (16) من حديث عياض بن حمار (17) : «وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء». أفادت هذه الروايات كلها: أن واجد اللقطة بعد التعريف أحق =(5/186)=@
__________
(1) في (ح) و(ك): «يسأله».
(2) قوله: «منه» سقط من (ق) و(ن).
(3) قوله: «أنه» سقط من (ف).
(4) في (ف) و(ن): «وجده».
(5) قوله: «له» سقط من (أ).
(6) في (ق) و(ن): «مساوية».
(7) في (ق): «قرائن».
(8) في (أ): «التمرة» و(ك) و(ف) و(ق).
(9) في (ك): «فلا يحتاج إلى تعريفها».
(10) في (ف): «إلها».
(11) قوله: «والله أعلم» سقط من (ك) و(ف) و(ح) و(ق) و(ن).
(12) في (ك): «أي».
(13) في (ح) و(ك): «أي».
(14) هذه الرواية من "صحيح مسلم".
(15) وهو في "صحيح مسلم" (1722) وهو في الترمذي (1373) جميعًا من طريق زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه -.
(16) أخرجه النسائي في "الكبرى" (5808)، وأبو داود (1709)، وابن ماجه (2505)، وأحمد (4/161 و166)، والطيالسي (1177)، وابن الجعد (1259)، وابن الجارود (671)، وغيرهم من طريق يزيد بن السّخِّير عن أخيه مطرِّف عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه به.
(17) في (ق): «حماد».(5/186)
بالنظر فيها من غيره، فلا ينتزعها منه السلطان ولا غيره. وهو قول أهل العلم. غير أن الأوزاعي قال: إن كان مالاً كثيرًا جعله في بيت المال.
واختلفوا إن كان غير مأمون؛ هل يتركها السلطان بيده، أو يأخذها منه؛ فعن الشافعي في ذلك قولان. قال القاضي عياض: ومقتضى مذهب مالك، وأصحابه: أن يأخذها منه إن كان غير مأمون. وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. فاذا أقرَّت بيده؛ فما الذي يفعل بها (1) ؟! الجمهور (2) : على أن له أن يمسكها عنده (3) ، ولا ضمان عليه؛ لأنَّها وديعة، كما جاء في بعض طرقه (4) : «ولتكن وديعة عندك». وله أن يصرفها(في مصالحه من أكل، وانتفاع (5) . وله أن يتصدَّق بها، ولا بدَّ في هذين من الضمان متى (6) جاء صاحبها. وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب (7) ، وابنه (8) ، وابن مسعود (9) ، وعائشة (10) ، وعطاء، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو حنيفة. غير أنه - أعني: أبا حنيفة - لم يُبْح أكلها إلا للفقير. وشذَّ داود فأسقط عنه الضمان بعد السَّنه.
وموجب الخلاف اختلاف تلك الروايات، وذلك: أن ظاهر قوله: «فهي لك»، وقوله: «ثم كُلها (11) »، وقوله: «وإلا فهو (12) مال الله يؤتيه من يشاء»: التمليك، وسقوط الضمان، وبه اغتَرَّ داود، لكن قد أزال ذلك (13) الظاهر، ودَحَضَه رواية العدل، الضابط (14) الحافظ، الإمام يحيى بن سعيد (15) عن يزيد - مولى المنبعث -: أنَّه سمع زيد بن خالد الجهني يقول: سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة؛ الذهب والورق؟ فقال: «اعرف وكاءها، =(5/187)=@
__________
(1) في (ح) و(ك) و(ف) و(ق) و(ن): «فيها».
(2) في (أ) و(ف) و(ق) و(ن): «فالجمهور».
(3) في (أ): «عندها».
(4) في "صحيح مسلم" (1722).
(5) في (ح) و(ن) و(ق): «أو انتفاع».
(6) في (ق): «إذا» بدل «متى».
(7) أخرجه عبدالرزاق (18630)، وابن أبي شيبة (21629) من طريق الثوري، عن ابن عبدالأعلى، عن سويد بن غفلة، عن عمر به.
(8) أخرجه عبدالرزاق (18623).
(9) أخرجه عبدالرزاق (18631)، وابن أبي شيبة (21623) من طريق عامر بن شقيق، عن أبي وائل، عن ابن مسعود به.
(10) أخرجه عبدالرزاق (18634) عن معمر والثوري، عن أبي إسحاق، عن امرأته قالت: جاءت إمرأة إلى عائشة فذكرته.
(11) في (ح): «ثم فكلها».
(12) في (ف): «فهي».
(13) في (ح): «قد زال إشكال ذلك» وفي (ق): «قد زال هذا» وفي (ن): «قد أزال هذا».
(14) في (أ): «والضابط».
(15) هو حديث الباب الآتي.(5/187)
وعِفاصها (1) ، ثمَّ عرِّفها سَنَة، فإن لم تُعرف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها (2) يومًا من الدَّهر، فأدِّها إليه». فهذه أحسن الروايات، وأنصُّها على المطلوب، وهي المبيِّنة لتلك الظواهر الحاكمة عليها. والعجب من داود كيف صُرف عنها وهي بين يديه؟ وأنَّى تغافلَ عنها؟ وهي حجَّة عليه (3) ؛ لكن (4) من حرم التوفيق استدبر الطريق.
وقوله: «ولتكن وديعة عندك» بعد قوله: «استنفقها»؛ معناه: ولتكن (5) في (6) ضمانك على حُكم الوديعة؛ يعني: إذا أنفقها الْمُودَعُ عنده فإنَّه يضمنها، وإلا: فإذا (7) أنفقها لم تبق عَيْنُها، فكيف تبقى وديعة إلا على ما ذكرناه (8) ؟ والله تعالى أعلم.
وقوله: «فضالةُ الغنم؟» فقال: «هي لك، أو لأخيك، أو للذنب»؛ أي: لا بدَّ لها من حال (9) من هذه الأحوال الثلائة. و«أو (10) » هذه للتقسيم والتنويع (11) . ويفيد هذا: الغنم إذا كانت في موضع يخاف عليها فيه الهلاك جاز لملتقطها أكلها، ولا ضمان عليه؛ إذ قد (12) سوّى بينه ويين الذئب، والذئب لا ضمان عليه، فالملتقط لا ضمان عليه (13) . وهو مذهب مالك وأصحابه، وقد ضمَّنه الشافعي، وأبو حنيفة تمسُّكًا ببقاء ملك ربِّها عليها، وبما (14) قد روي من حديث عمرو بن يثربي (15) (16) : أنَّه ( قال: «إن لقيتها لقحة تحمل شفرةً (17) وأزنادًا فلا تمسَّهًا (18) ». ولا حجَّة في شيء من ذلك؛ بدَّنا =(5/188)=@
__________
(1) في (ق) «عفاصها ووكاءها».
(2) في (ق) و(ن): «صاحبها» وكتب في هامش (ق) «طالبها» ووضع فوقها (نسخة).
(3) في (ق) و(ن): «عليها» وكتب في هامش (ق) «عليه» ووضع فوقها (نسخة).,
(4) في (ف): «ولكن».
(5) في (ح): «ولكن».
(6) في (ف): «من» بدل «في».
(7) في (ح) و(ك): «إذا».
(8) في (ح): «ذكرنا».
(9) قوله: «من حال» سقط من (ق) و(ن).
(10) في (ح): «ولو» وفي (ق): «أو» بلا واو.
(11) في (ق): «أو للتنويع».
(12) قوله: «قد» سقط من (ح).
(13) قوله: «فالملتقط لا ضمان عليه» سقط من (ك).
(14) في (ق) و(ن): «وربما» بدل «وبما».
(15) في (ق) و(ن): «يثربن».
(16) رواه أحمد (3/423)، و(5/113)، ويعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ" (1/332)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2/225 رقم979)، والبيهقي (6/97) من طريق أبي عامر العقدي، عن عبدالملك بن الحسن الجاري، حدثني عبدالرحمن بن أبي سعيد - يعني: الخدري -قال: سمعت عمارة بن حارثة الضمري يحدث عن عمرو بن يثربي...، فذكره، وفي أوله: «ولا يحل لأحد من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه...». ورواه زيد بن الحباب، عن عبدالملك بن الحسن به، أخرجه الدارقطني في "سننه" (89).
وعمارة بن حارثة الضمري ذكره ابن حبان في "الثقات"، وكذا في "التاريخ الكبير" (6/497)، وقال: «عن عمرو بن يثربي قاله العقدي، عن عبدالملك بن الحسن، عن عبدالرحمن بن أبي سعيد يعد في أهل الحجاز».
ورواه عبدالله بن أحمد في "زوائد المسند" (5/113)، والدارقطني في "سننه" (90) عن محمد بن عباد المكي، عن حاتم بن إسماعيل، عن عبدالملك بن الحسن الجاري، عن عمارة بن حارثة به ليس فيه: عبدالرحمن بن أبي سعيد. قال الدارقطني: «الأول أصح». يعني رواية عمارة بن حارثة وزيد بن الحباب.
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/171): رواه أحمد والطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، ورجال أحمد ثقات».
قلت: ولم أجده في "المعجمين"، والله أعلم.
وقال ابن حجر في "الدراية" (2/201): «أخرجه الدارقطني بإسنادٍ جيد».
(17) في (ق): «سفرة».
(18) في (ق) و(ن): «وأزنادًا فلا تمسكها» وكتب في هامش (ق) «وأزنادي فلا تمسها» ووضع فوقها (نسخه).(5/188)
قد اتفقنا على أن لواجدها (1) أخذها، وأكلها. والأصل: أنَّه لا يجوز التصرُّف في ملك الغير؛ فقد تركنا هذا (2) الأصل، فلا نتمسك (3) به في باب اللقطة؛ لأن الشرع قد سلَّط الملتقط عليها، ولما كانت هذه (4) مآلها الهلاك (5) إن تُركت ولا ضمان (6) ؛ كان (7) أكلها لواجدها أولى بغير ضمان؛ لأنَّه(انتفع بها رجل مسلم، ولا حجَّة أيضًا في الحديث لأنَّه من رواية عمارة بن حارثة، وليس بالمشهور بالرواية (8) ، ولو سُلِّم أنه صحيح فلا حجَّة فيه أيضًا؛ لأنَّ ذلك القول إنما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جوابًا لمن قال له (9) : أرأيت إن (10) لقيت غنم ابن عمي (11) فأخذت (12) منها (13) شاة فأجزرتها (14) ؛ أعلي في ذلك شيء؟ فأجابه بذلك. فلم يسأله عن ضالة الغنم، بل عن غنم ابن عمِّه، وذلك عندما قال النبي (15) - صلى الله عليه وسلم - : «لا يحل لامرئ من مال أخيه شيء إلا بطيب نفسٍ منه» (16) . فحينئذ سأله عن ذلك، فأجابه بذلك. ويلحق بالغنم عند مالك: ما لا يبقى من الأطعمة، ويخافُ عليه الفساد، وكان بموضع لا ينحفظ فيه، ولا يوجد من يشتريه، فله أكله، ولا ضمان. وضمَّنه الإمامان، كما قدمناه، فإن كان شيء من ذلك قريبًا من العمران، وأمن الهلاك عليه (17) فلا يجوز له أكله، ولا خلاف فيه، فإن شاء أخذها بنيَّة حفظها، وإن شاء تركها على ما تقدم (18) .
وقوله في ضالَّة الإبل: «ما لك ولها؟» إلى آخر الكلام، وغضبه حين قال ذلك يدلُّ على تحريم التعرُّض (19) لضالَّة الإبل؛ لأنَّها يؤمن عليها الهلاك لاستقلالها بمنافعها. وقد نصّ على ذلك بقوله في الرراية الأخرى: «دعها عنك». ومقتضاه: =(5/189)=@
__________
(1) في (ن): «لواخذها».
(2) في (ح) و(ك) و(ف) و(ق) و(ن): «ذلك».
(3) في (ف) و(ق) و(ن): «يتمسك».
(4) قوله: «هذه» سقط من (ح).
(5) في (ق): «للهلاك».
(6) في (أ): «فلا ضمان».
(7) في (ح): «فإن».
(8) في (ح) و(ك) و(ق) و(ن): «الرواية».
(9) قوله: «له» سقط من (ق) و(ن).
(10) في (ن): «لو» بدل «إن».
(11) في (ن): «ابن عمي» وكتب في الهامش «بان عمي».
(12) في (ق) و(ن): «وأخذت».
(13) قوله: «منها» سقط من (ح).
(14) في (ن): «فأحرزتها».
(15) من قوله: «بذلك فلم يسأله....» إلى هنا سقط من (ح) و(ك).
(16) هو بداية حديث عمرو بن يثربي السابق.
(17) في (ك): «عليها».
(18) في (ح): «كما تقدم».
(19) في (ق): «التعريض».(5/189)
المنع من التصرف فيها مطلقًا، وأن تترك (1) حيث هي. لكن هذا (2) إذا (3) لم تكن بأرض مَسْبَعَةً. وعلى هذا يدلُّ قوله - صلى الله عليه وسلم - : «ضالة المسلم حرق (4) النار» (5) . قال العلماء (6) : هكذا (7) كان في أول الإسلام، وعلى ذلك استمر زمن أبي بكر، وعمر، فلمَّا كان زمن عثمان وعليّ، وكثر فساد الناس، واستحلالهم: رأوا (8) التقاطها، وضمَّها (9) ، والتعريف بها، وهذا (10) كلُّه منهم وفاءً بمقصود هذا الحديث في لقطة الإبل؛ فإن مقصوده: أنها إذا أمن عليها (11) الهلاك، وبقيت (12) بحيث تتمكن مما تعيش به من الأكل والشرب حتى يجئ ربُّها، فيجدها سليمة، فحينئذ لا يتعرَّض لها أحدٌ، فلو تعذر شيء من ذلك، وخِيف عليها الهلاك أو السَّرق؛ التقطت، وحفظت؛ لأنَّها مال مسلم؛ فيجب حفظه، ولا تُؤكل (13) . ولو كانت بالمواضع المنقطعة عن العمران البعيدة؛ لأنَّ سَوْقها ممكن، ومؤونتها متيسرة بخلاف الغنم.
وهل تلحق بها البقر أو بالغنم (14) ؟ عندنا في ذلك قولان. فرأى مالك إلحاقها بالغنم لضعفها عن الإمتناع عند انفرادها. ورأى ابن القاسم: إلحاقها بالإبل إذا كانت بموضع (15) لا يخاف عليها فيه من السِّباع.
قال الشيخ: وكان هذا تفصيل أحوال (16) ، لا اختلاف أقوال. وقد بيَّنَّا: أن مثله جار (17) في الإبل، فالأولى (18) : إلحاقها بها.
وكذلك اختلف في التقاط الخيل، والبغال، والحمير. وظاهر قول ابن القاسم: أنها تلتقط. وقال أشهب، وابن كنانة: لا تلتقط (19) . =(5/190)=@
__________
(1) في (أ): «ترك». وفي (ن): «يترك».
(2) قوله: «لكن هذا» سقط من (ق) و(ن).
(3) في (ن): «إذ» بدل «إذا».
(4) في (ن): «حرف».
(5) هذا الحديث مروي عن اثنين من الصحابة :
الأول: حديث الجارود بن المعلى العبدي: ومداره على يزيد بن عبد الله بن الشخير أبي العلاء. وقد اختلف عنه على النحو التالي :
1 - يزيد بن عبدالله، عن أخيه مطرف، عن أبي مسلم الجذامي، عن الجارود.
رواه أحمد (5/80) عن أبي علية، والنسائي في "الكبرى" (3/414 رقم5792)، وعنه الطحاوي في "مشكل الآثار" (12/55 رقم4725)، إلا أنه سقط عند الطحاوي قوله: عن أبي مسلم، وهذه الطريق هي التي رجحها الدارقطني في "العلل" (5/1/ب).
2 - يزيد بن عبدالله، عن مطرف، عن الجارود: رواه عبدالرزاق (10/131 رقم 18603)، ومن طريقه أحمد (5/80)، والطبراني في "الكبير" (2/264 رقم2110)، والبيهقي (6/191). ورواه النسائي في "الكبرى" (3/414 رقم5793)، وعنه الطحاوي في "مشكل الآثار" (12/154 رقم4724) من طريق أبي أسامة. ورواه أحمد (5/80) عن أحمد الحداد، ثلاثتهم عن سفيان الثوري، عن خالد الحذاء، عن يزيد بن عبدالله، عن مطرف، عن الجارود به.
3 - يزيد بن عبدالله، عن أبي مسلم الجذامي، عن الجارود به. وله إلى يزيد أربعة طرق هي :
أ - قتادة عن يزيد به. رواه الطيالسي (1294)، وأحمد (5/80)، والنسائي في "الكبرى" (3/415 رقم5796)، والطبراني في "الكبير" (2/265 رقم2116)، والطحاوي في "المعاني" (4/133 رقم6058)، وفي "مشكل الآثار" (12/151 رقم 4721). وأبو يعلى (2/220 رقم919) (3/ 109) رقم (4539). وابن حبان «11/248 رقم (4887)، والبيهقي (6/90) من طريق أبان بن يزيد وهمام وهشام والمثنى بن سعيد، عن قتادة به، وخالفهما سعيد بن أبي عروبة فرواه قتادة، عن أبي مسلم، ولم يذكر يزيدًا كما عند الطبراني في "الكبير" (2/266 رقم2117).
ب - أيوب السختياني، عن يزيد، عن أبي مسلم، عن الجارود به.
رواه أحمد (5/80)، والنسائي في "الكبرى" (3/415 رقم5795 و5797)، وابن أبي عاصم (3/264 رقم1639)، والطبراني في "الكبير" (2/266 رقم2118)، والطحاوي في " في شرح معاني الآثار" (4/133 رقم6057)، وفي "مشكل الآثار" (12/151 رقم4720) من طريق حماد بن زيد، ورواه البيهقي (6/190) من طريق وهيب، كلاهما عن أيوب به.
وخالفهم جرير بن حازم عند النسائي في "الكبرى" (3/415 رقم5798) فرواه عن أيوب، عن أبي مسلم، لم يذكر يزيدًا.
جـ - خالد الحذاء، عن يزيد، عن أبي مسلم، عن الجارود.
رواه أحمد (5/80)، والنسائي في "الكبرى" (3/415 رقم5795) من طريق عبدالوهاب الثقفي، ورواه الدارمي (2/265)، والنسائي (3/414 رقم5794)، والطحاوي (12/153 رقم4723)، والطبراني (2/265 رقم2112)، والبيهقي (6/190) من طريق شعبة. كلاهما - الثقفي وشعبة -، عن خالد الحذاء، عن يزيد به.
وخالفهما خالد بن عبدالله الواسطي كما عند الطبراني في "الكبير" (2/265 رقم 2113) فرواه عن خالد الحذاء، عن مطرف، عن أبي مسلم، فاستبدل يزيدًا بمطرف.
د - سعيد بن إياس الجريري، عن يزيد، عن أبي مسلم، عن الجارود به. رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3/263 رقم1637 و1638)، والطبراني في "الكبير" (2/266 رقم2119 و2120 و2121 و2122 و2125) من طريق الجريري به.
وللحديث طريقان آخران عن الجارود :
الأول: عبدالله بن عمرو بن العاص، عن الجارود به. رواه ابن أبي عاصم (3/264 رقم1640)، والطبراني في "الأوسط" (2/264 رقم2109)، وفي (6/114 رقم5965) من طريق أبي معشر البراء، عن المثنى بن سعيد، عن قتادة، عن عبدالله بن بابيه، عن عبدالله بن عمرو، به. وقال الدارقطني في "العلل" (5/1/ب) عن هذه الطريق: «وهم فيه البراء».
الثاني: أبو قزعة، عن الجارود.
رواه عبد الرزاق (10/131 رقم18605) عن ابن جريج قال: سمعت أبا قزعة، فذكره. لكن هذا منقطع، فإن الجارود متقدم الوفاة مات سنة 21 في خلافة عمر مقتولاً، وأبو قزعة هو سويد بن حجير يروي عن صغار الصحابة مثل أنس بن مالك - رضي الله عنه -.
الثالث: حديث عبدالله بن الشخير صحابي، وهو والد مطرف.
رواه أحمد (4/25)، وأبو عبيد في "غريب الحديث" (1/24 و318)، وابن سعد (7/34)، وابن ماجه (2/836 رقم2502)، والنسائي في "الكبرى" (3/414 رقم5790)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (12/152 رقم4722)، وابن حبان (11/249 رقم4888)، والبيهقي (6/191)، والبغوي في "شرح السنة" (8/317 رقم2210) من طرق عن يحيى بن سعيد القطان، عن حميد الطويل، الحسن البصري.
ورواه الطبراني في "الكبير" (2/152 رقم1547)، وعنه أبو نعيم في "الحلية" (9/33) من طريق ابن مهدي، عن شعبة، عن قتادة. كلاهما - الحسن، وقتادة -، عن مطرف، عن أبيه بمثل حديث الجارود.
قال الحافظ "الفتح" (5/92) عن حديث الجارود: «رواه النسائي بإسناد صحيح». وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" عن حديث عبدالله بن الشخير: «إسناده صحيح، ورجاله ثقات». وصحح الألباني حديث الجارود في "السلسلة الصحيحة" رقم (620).
(6) في (أ): «للعلماء».
(7) في (ف): «هكذا».
(8) في (ق): «رواو» كذا رسمت.
(9) في (ق) و(ن): «وضمنها».
(10) في (ف): «هذا» بلا واو.
(11) قوله: «عليها» سقط من (ك).
(12) في (ن): «وتبيت».
(13) في (ك): «ولا يؤكل».
(14) في (ن): «وهل يلحق البقر أو الغنم».
(15) في (ح): «في موضع».
(16) في (ح): «لأحوال».
(17) في (ق): «مثل هذا جار» وفي (ن): «مثل هذا جاز».
(18) في (ن): «فاولاولي» كذا رسمت.
(19) في (ن): «لا يلتقط».(5/190)
و«حذاء الإبل»: خِفافُها (1) . وأصل الحذاء: ما يحتذي به الإنسان من نعل (2) أو غيره (3) . و«السِّقاء» ما يشرب (4) به، فيعني: أن الإبل لا يحتاج (5) إلى شيء مما يحتاج إليه غيرها من المواشي، فإنَّها تمشي حيث شاءت، وتأكل من الأشجار، وَتَرِدُ على الأنهار (6) .
9 - ومن باب الاستظهار في التعريف
استدلال (7) أُبيِّ بن كعب بحديث المائة الدينار حيث (8) سُئل عن التقاط السَّوط؛ يدلُّ على أن مذهبه التسوية بين قليل اللقطة وكثيرها (9) في وجوب التعريف بها سَنَةً، وأنَّه يستظهر بعد ذلك (10) بحولين، وهذا لم يقل به أحدٌ في الشيء اليسير. وقد قدمنا: أنَّه لم يأخذ (11) أحد من العلماء بتعريف ثلاثة أعوام إلا شيء روي عن عمر بن الخطاب (12) - رضي الله عنه -، والجمهور على أن التعريف فيما له بال سَنَةً؛ لأنَّ =(5/191)=@
__________
(1) في (ح) و(ك) و(ن) و(ق): «أخفافها».
(2) في (ح) و(ن) و(ق): «نعال».
(3) في (ك): «نعال أو غيرها».
(4) في (أ): «ما تشرب».
(5) في (ك): «تحتاج إلى ما يحتاج» وفي (ح) و(ق): «تحتاج».
(6) في (ك): «وترد الأنهار».
(7) في (ق): «استدلال» وكتب في الهامش «استقلال» وفي (ن): «استقلال».
(8) في (ف) و(ن) و(ق) و(ح): «حين».
(9) في (ن): «وكثرها».
(10) قوله: «وأنه يستظهر بعد ذلك» مكرر في (ح).
(11) في (ح) و(ق) و(ن): «يأخذه».
(12) تقدم....(5/191)
صاحبها إن كان حاضرًا تنبَّه لها، وتذكرها (1) ، وظهر (2) طلبه لها في هذه السَّنَة. وإن كان غائبًا أمكن عوده وطلبها (3) في هذه السَّنه (4) ، أو يسمع خبره فيها، فاذا لم يأت (5) بعد السَّنة؛ فالظاهر الغالب: أنَّه هلك، وأن هذا المال ضائع؛ فواجده أولى به، لما تقدم في الشيء الكثير، فأمَّا (6) في الشيء اليسير: فيمكن أن يكون صاحبه تركه استسهالاً (7) واستخفافًا، وأنَّه (8) غير محتاج إليه. وهذا في التمرة والكِسرة واضح، فلا يحتاج إلى تعريف. وألحق بعض أصحابنا أقل من الدرهم بذلك. وأبعد أبو حنيفة فقال: لا تعريف في أقل من ثمانية دراهم. وأبعد من هذا قول إسحاق: إن الدينار لا يحتاج إلى تعريف، تمسُّكًا بحديث علي المتقدم، وقد قدَّمنا: أنَّه لا حجَّة فيه.
وأمَّا أمره - صلى الله عليه وسلم - لأُبَيٍّ بزيادة التعريف على سَنَة (9) بسَنَةٍ أو سَنَتين (10) ، على اختلاف الرواية فذلك (11) مبالغة، واحتياط (12) على جهة الاستحباب كما تقدم، لا سيما مع استغناء الملتقط عن الانتفاع بها. قالوا: وكذلك كان أُبيّ (13) - رضي الله عنه - مستغنيًا عنها.
وقول شعبة: «فسمعته بعد عشر سنين يقول: عَرَّفَهَا عامًا واحدًا»؛ يعني: =(5/192)=@
__________
(1) في (ك): «وذكرها» وفي (ن): «وتذكر».
(2) في (ق): «فظهر».
(3) في (ح) و(ك) و(ق) و(ن): «وطلبه».
(4) قوله: «السنة» سقط من (ن).
(5) في (ف): «تأت».
(6) في (ف) و(ق): «وأما».
(7) في (ح): «استمهالاً».
(8) في (ف): «فأنه».
(9) قوله: «على سنة» سقط من (أ) و(ن) و(ق)، وفي (ح): «السنة أو سنتين».
(10) في (ق) و(ن): «أو بسنتين».
(11) في (ك): «بذلك».
(12) في (ق): «احتياطًا».
(13) قوله: «أبي رضي الله عنه» سقط من (ن).(5/192)
سلمة بن كُهَيْل؛ الذي روى عنه هذا الحديث. يعني (1) : أنَّه لقيه بعد أن سمع الحديث (2) منه بعشر سنين، فأعاد سلمة الحديث، فقال: عَرَّفَها عامًا واحدًا؛ يعني: في الاستظهار، وكان شعبة شكَّ في عدم (3) الاستظهار. هل هو (4) في سَنَه واحدة أو سنتين (5) ؟ فلقيه بعد ذلك بعشر سنين، فسأله، فأخبره: أنه كان عامًا واحدًا، فزال شَكُّهُ. والله تعالى أعلم.
10 - ومن باب النَّهي عن لقطة الحاج،
وعن أن يَحْلِب أحدٌ ماشية أحد إلا بإذنه
قد تقدم القول في لقطة الحاجِّ، والخلاف فيها.
وقوله (6) : «من آوى ضالَّة فهو ضالٌّ، ما لم يُعرِّفها (7) »؛ يعني: أنَّها إذا كانت مِمَّا تُعرَّف (8) فلم يعرفها كان ذلك دليلاً (9) : على أنَّه قصد الخيانة فيها، وأنَّه (10) إنَّما أخذها لنفسه، لا ليحفظها على صاحبها. وقد قلنا: أن (11) من أخذها وجب عليه أن يأخذها (12) =(5/193)=@
__________
(1) في (ح): «نعني».
(2) في (ح): «هذا الحديث» وقوله: «الحديث» سقط من (ن).
(3) في (ف) و(ح) و(ق) و(ن): «عدد».
(4) قوله: «هو» سقط من (ق).
(5) في (ق): «أو في سنتين».
(6) في (أ) و(ف): «قوله» بلا واو.
(7) ألحق ناسخ (ف) في الهامش: «آوى بمد الهمزة ويقال بقصرها وهما لغتان لازمًا كان أو متعدي والمد في المتعدي والقصر في اللازم لغة القرآن قال الله تعالى: {إذا آوى الفتية إلى الكهف} وقال تبارك وتعالى: {وآويناها إلى ربوة ذات قرار ومعين} وكتب صح وتتميم.
(8) في (ك): «يعرف» وفي (ح): «نعرف».
(9) قوله: «ذلك» سقط من (ق).
(10) قوله: «أنه» سقط من (ق) و(ن).
(11) في (ك): «أنه».
(12) في (ح): «يأخذ».(5/193)
بنيَّة حفظها على مالكها، وأداء الأمانة فيها، وإلا فهو ضالٌّ عن طريق الحق فيها، خائن، آثمٌ.
وقوله: «لا يحلبن أحدٌ ماشية أحدٍ إلا بإذنه»؛ إنَّما كان هذا لأن أصل الأملاك بقاؤها على ملك مُلاَّكِها (1) ، وتحريمها على غيرهم، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : «إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا» (2) ، وكما قد (3) تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم - : «إنَّه لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفسٍ منه» (4) ، إلى غير ذلك. وهذا أصل ضروري (5) معلومٌ من الشرائع كلها. وإنما خصَّ اللَّبن بالذكر لتساهل الناس في تناوله، ولا فرق بين اللَّبن والثمرة (6) وغيرها في ذلك، غير أن العلماء قد (7) اختلفوا فيهما (8) . فذهب الجمهور: إلى أنَّه لا يحل شيء من لبن الماشية، ولا من التمر (9) إلا إذا علم طيب نفس صاحبه (10) به، تمسُّكًا (11) بالأصل المذكور، وبهذا الحديث. وذهب بعض المحدثين: إلى أن ذلك يحل وإن لم يُعلم حال صاحبه؛ لأنَّ ذلك حقٌّ جعله الشرع له، تمسُّكًا بما رواه أبو داود (12) عن الحسن، عن سمرة: أن (13) النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أتى أحدكم على ماشية؛ فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه، فإن أذن له فليحلب (14) ، وليشرب، وإن لم يكن فيها فليصوِّت ثلاثًا؛ فإن أجاب (15) فليستأذنه، فإن أذن له، وإلاَّ فليحلب(2) وليشرب ولا يحمل». =(5/194)=@
__________
(1) في (ق) و(ن): «مالكها».
(2) تقدم من حديث جابر في كتاب الحج، ومن حديث أبي بكرة في كتاب القسامة.
(3) قوله: «قد» سقط من (ح) و(ك) و(ق) و(ن).
(4) تقدم في باب حكم اللقطة والضوال.
(5) في (ح): «عظيم ضروري».
(6) في (ن): «والتمرة».
(7) قوله: «قد» سقط من (ق).
(8) في (ف): «فيها».
(9) في (ك) و(ح) و(ق): «الثمر» وفي (ف): «الثمرة».
(10) قوله: «به» سقط من (ن).
(11) في (ق): «من صاحبها تمسكًا».
(12) رواه أبو داود (3/89 رقم2619) كتاب الجهاد، باب في ابن السبيل يأكل من التمر ويشرب من اللبن إذا مر به. ومن طريقه البيهقي (9/359). ورواه الترمذي (3/590 رقم296)، والطبراني في "الكبير" (7/211 رقم 6877) كلهم من طريق عبدالأعلى. ورواه الطبراني في"الكبير"(7/211 رقم 6878) من طريق سرار بن مجشر، عن كلاهما سعيد وهو بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة - رضي الله عنه - به.
قال الترمذي: «حديث حسن غريب، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم».
وقال البيهقي: «أحاديث الحسن عن سمرة لا يثبتها بعض الحفاظ، ويزعم أنها من كتاب غير حديث العقيقة الذي قد ذكر فيه السماع، وإن صح فهو محمول على حال الضرورة».
قال الحافظ في "الفتح" (5/89): «إسناده صحيح إلى الحسن، فمن صحح سماعه من سمرة صححه، ومن لا أعله بالانقطاع لكن له شواهد من أقواها حديث أبي سعيد مرفوعًا». فذكر مثله.
(13) في (ك): «عن».
(14) في (ك) و(ف): «فليحتلب» وفي (ق): «فليحلب» وكتب في الهامش «فليحتلب» ووضع فوقها (خ).
(15) في (ك): «أجابه».(5/194)
وذكر (1) الترمذي (2) عن يحيى بن سليم، عن عبيدالله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من دخل حائطًا فليأكل، ولا يتخذ خبئة (3) ». قال: هذا حديث غريب، لا (4) نعرفه إلا من حديث يحيى (5) بن سُليم. وذكر (6) (5) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه (7) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الثمر (8) المعلَّق فقال: «من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة (9) فلا شيء عليه» (10) . قال فيه: حديث حسن.
قال الشيخ رضي الله عنه: ولا حجَّة في شيء من هذه الأحاديث لأوجه:
أحدها (11) : أن التمسك بالقاعدة المعلومة أولى.
وثانيها: أن حديث النهي أصحُّ سندًا (12) ، فهو أرجح.
وثالثها: أن ذلك محمولٌ على ما إذا علم طيب نفوس أرباب الأموال (13) بالعادة أو بغيرها.
ورابعها: أن ذلك محمول على أوقات المجاعة والضرورة، كما كان ذلك في (14) أول الإسلام. والله تعالى أعلم.
فرع: لو اضطر فلم يجد ميتة وجب عليه إحياء رمقه من مال الغير. وهل يلزمه قيمة ما أكل أم لا (15) ؟ قولان في المذهب، والجمهور على وجوبها عليه إذا أمكنه ذلك، فإن وجد ميتة وطعامًا للغير؛ فإن أمن على نفسه من القطع والضرر أكل الطعام ويغرم قيمته. وقيل: لا يغرم (16) . وإن لم يأمن على نفسه أكل الميتة، قاله مالك.
غير أنه قد جرت عادة بعض الناس بالمسامحة في أكل بعض الثمر (17) ، كما قد =(5/195)=@
__________
(1) في (ك) و(ق) و(ن): «وذكره».
(2) رواه ابن ماجه (2/772 رقم2301)، والترمذي (3/583 رقم1287)، والبيهقي (9/359). كلهم من طريق يحيى بن سليم الطائفي، عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، به.
وهذا إسناد ضعيف: يحيى بن سليم الطائفي، قال عنه النسائي: «ليس به بأس، وهو منكر الحديث عن عبيدالله بن عمر». وقال الدولابي: «ليس بالقوي». وقال ابن حبان: «يخطئ». ووثقه يحيى بن معين وابن سعد. وقال أبو حاتم: «شيخ صالح محله الصدق، ولم يكن بالحافظ، يكتب حديثه، ولا يحتج به. وقال البخاري: يروي أحاديث عن عبيدالله يهم فيها. وقال يعقوب سفيان: «سُنِّي رجل صالح، وكتابه لا بأس به، وإذا حدث من كتابه فحديثه حسن، وإذا حدث حفظًا فتعرف وَينكر».
قلت: وقد روى يحيى القطان ومعتمر وأبو أسامة وابن نمير وعلي بن مسهر، عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر حديث لا يخلين أحدكم ماشية رجل بغير إذنه...» فهذا يؤكد وهم يحيى بن سليم عن عبيد الله في هذا الحديث، رضي الله عنهما، به.
قال الحافظ في "الفتح" (5/90): «وعلق الشافعي القول بذلك على صحة الحديث، قال البيهقي: يعني حديث ابن عمر مرفوعًا: إذا مرَّ أحدكم بحائط فليأكل ولا يتخذ خبيئة. أخرجه الترمذي واستغربه. قال البيهقي: لم يصح، وجاء من أوجه غير قوية». قال الحافظ: «قلت: والحق أن مجموعها لا يقصر عن درجة الصحيح، وقد احتجوا في كثير من الأحكام بما هو دونها».
(3) في (أ) و(ح) و(ف) و(ك): «خُبنة» وفي (ق) و(ن): «خبيه».
(4) في (ف): «ولا».
(5) قوله: «يحيى» سقط من (ك).
(6) في (ق): «وذكره».
(7) سبق تخريجه في باب حد السرقة وما يقطع فيه.
(8) في (أ): «التمر».
(9) في (ق) و(ن): «خبيه».
(10) ( سئل: «عن الثمر المعلق فقال: ما أصاب منه من ذي حاجة ...».
تقدم تخريجه في باب حد السرقة وما يقطع فيه ... فلينظر.
سبق في (5/76).
وفي الباب أحاديث منها:
* حديث عباد بن شرحبيل رضي الله عنه قال أصابنا عام مخمصة فأتيت المدينة فأتيت حائطًا من حيطانها فأخذت سنبلاً ففركته وأكلته وجعلته في كسائي فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي فأتيت النبي ( فأخبرته فقال للرجل ما أطعمته إذ كان جائعًا أو ساغبًا ولا علمته إذ كان جاهلاً فأمره النبي ( فردَّ إليه ثوبه وأمر له بوسق من طعام أو نصق وسق.
رواه ابن أبي شيبة (4/301 رقم 20313) ومن طريقه ابن ماجه (2/770 رقم 2298) ورواه أحمد (4/166) وأبو داود (3/89 رقم 2620، 2621) وابن ماجه (2/770 رقم 2298) والحاكم (4/133) من طريق شعبة. ورواه النسائي (8/240) من طريق سفيان بن حسين كلاهما عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية قال سمعت عباد بن شرحبيل فذكره.
* حديث عمير مولى أبي اللحم.
رواه الحاكم (4/132) بمعنى حديث عباد بن شرحبيل.
حديث مخول البهزي رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله الإبل نلقاها ونحن محتاجون وهي مصراة، قال: «تنادي يا صاحب الإبل ثلاثًا فإن أجابك وإلا فاحلب ثم دع للبن دواعيه».
رواه أبو نعيم في معرفة الصحابة (2/210/ أ مخطوط) والبيهقي (9/ 360) من حديث محمد بن سليمان المخزومي (مسمول) عن القاسم بن مخول البهزي عن أبيه به.
* حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله ( قال: لذا أتيت على راعي إبل فناديا راعي الإبل ثلاثًا فإن أجابك وإلا فاحلب واشرب من غير أن تفسد وإن أتيت على حائط البستان فناد يا صاحب الحائط ثلاثًا فإن أجابك وإلا فكل.
رواه أحمد (3/7) عن مؤمل به إسماعيل عن حماد بن سلمة.
ورواه أحمد 3/21) وابن ماجة 2/771 رقم 2300 وأبو يعلى (1244) وابن حبان (5281) والحاكم (4/132) والبيهقي (9/ 359) من طريق يزيد بن هارون.
ورواه أحمد (3/85) والطحاوي في شرح المعاني (4/240 رقم 6627) وفي مشكل الآثار (7/253) رقم (2824) من طريق علي بن عاصم.
ثلاثتهم عن الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد به، والجريري قد اختلط وسمع منه حماد بن سلمة قبل الاختلاط وأما يزيد فبعد الاختلاط.
ورواه ابن أبي شيبة (4/301) عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن الجريري به لكلن موقوفًا على أبي سعيد، وعبد الأعلى سمع من الجريري قبل الاختلاط أيضا.
وقد جاء عن أبي سعيد خلاف ذلك مرفوعًا وموقوفًا.
رواه أحمد (3/46) والطحاوي (4/241 رقم 6631) والمشكل 7/ 255 رقم 2826) والبيهقي (6/ 360) من طريق شريك بن عبد الله النخعي عن أبي علوان عبد الله بن عُصم عن أبي سعيد مرفوعًا، لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الخر أن يحملفيه بغير إذن أهلها فإنه خاتمهم عليها، فإذن سقاكم فاشربوا وإلا فلوا وإن كنتم مرحلين. وهذا إسناد ضعغيف شريك وأبو علوان كلاهما سيء الحفظ.
ورواه الطحاوي (4/241 رقم 6628) من طريق إسرائيل عن أبي علوان عن أبي سعيد موقوفًا.
(11) قوله: «أحدها» سقط من (ن).
(12) قوله: «سندًا» سقط من (ن).
(13) في (ق): «الأصول».
(14) قوله: «في» سقط من (ف).
(15) في (ح): «أم لا» وفي (ك) و(ف) و(ق) و(ن): «أو لا».
(16) في (ق): «لا يضمن».
(17) في (أ) و(ح) و(ك): «الثمرة». وفي (ن): «التمرة».(5/195)
اتفق في بعض بلادنا، وفي شرب بعض لبن الماشية، كما كان ذلك فى أهل الحجاز، فيكون استمرار العادة بذلك وترك النكير فيه دليلاً على إباحة ذلك، ولذلك شرب (1) النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأبو بكر - رضي الله عنه - من لبن غنم الراعي في طريق الهجرة، ويمكن أن تُحمل الأحاديث المتقدمة على العادة الجارية عندهم في اللبن والثمرة (2) .
وقوله: «أيحبُّ أحدكم أن تؤتى (3) مشربته، فتكسر خزانته، فينتقل طعامه». المشربة: سقيفة يختزن فيها الطعام. وقيل: هي كالغرفة، ويقال (4) : بضم الراء وفتحها.
فيه (5) من الفقه: استعمال القياس، وإباحة خزن الطعام واحتكاره إلى وقت الحاجة (6) ، خلافًا لغلاة المتزهدة القائلة: لا يجوز الإدِّخار مطلقًا.
و«يُنتقل (7) طعامُه»؛ معناه: يؤخذ وينقل (8) إلى موضع آخر. وهو (9) معنى: «يُنْتَثَل (10) » في الرواية الأخرى، إلا أنَّ النَّثْل: النثر بمرةٍ واحدة. يقال (11) : نَثَلَ ما في كنانته؛ أي: صبَّها.
وقوله: «فإنما تُخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم (12) »؛ ظاهر تشبيه ضرع الماشية بالخزانة (13) يقتضي: أن من حلب ماشية أحد (14) في خفية، وكان قيمة ما حلب نصابًا قُطِعَ، كما يُقطع مَنْ أخذه من خزانته، فيكون ضرع الماشية حرزًا. وقد قال به بعض العلماء. فأمَّا مالك: فلم (15) يقل به، إلا إذا كانت الغنم (16) في حرز.
وفيه من =(5/196)=@
__________
(1) في (ك): «كما شرب».
(2) في (ق): «والثمر». وفي (ن): «والتمرة».
(3) في (ن): «يؤتي».
(4) في (ك): «وتقال».
(5) في (ح): «بضم الراء وفيها».
(6) في (أ) و(ف): «الحاجة إليه».
(7) في (ق): «وينقل».
(8) في (ف): «وينتقل».
(9) في (ق) و(ن): «وهي».
(10) في (ح): «تنبثل».
(11) في (ق): «ويقال».
(12) قوله: «أطعمتهم» سقط من (ن).
(13) قوله: «بالخزانة» لم يتضح في (ق).
(14) قوله: «أحد» سقط من (ف).
(15) في (ق) و(ن): «لم».
(16) في (ك) كتب فوق «الغنم» بخط دقيق: «الماشية» وفي (ق) و(ن): «الماشية».(5/196)
الفقه: تسمية اللَّبن طعامًا. فمن حلف: ألا يأكل (1) طعامًا؛ فشرب لبنًا؛ حنث، إلا أن يكون له نيَّةٌ في نوع من الأطعمة.
وفيه حجَّة لمن منع بيع الشاة اللبون باللَّبن إذا كان في ضرعها لبن حاضر. وهو مذهب مالك والشافعي. فإن لم يكن فيها لبن حاضر أجازه مالك نقدًا، ومنعه إلى أجل. واختلف أصحابه، فحمله جلُّهم (2) على عمومه. وقال بعضهم: إنَّما هذا إذا قدَّم الشاة (3) ، فلو كانت هي المؤخرة جاز، وأجاز بيعها بالطعام نقدًا، وإلى أجل. وأجاز الأوزاعي شراءها باللبن وإن كان في ضرعها (4) لبن. ورأوه (5) لغوًا وتابعًا. ولم يجز الشافعي، ولا أبو حنيفة بيعها بطعام إلى أجلٍ (6) .
11 - ومن باب الأمر بالضيافة والحكم فيمن منعها
قوله (7) : «من كان يؤمن (8) بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته»؛ قد تقدم القول في حكم الضيافة، وأن الأمر بها عند الجمهور (9) على جهة الندب، لأنَّها من مكارم الأخلاق، إلا أن تتعين (10) في بعض الأوقات بحسب ضرورة أو حاجة، فتجب (11) حينئذ.
وقد أفاد هذا الحديث: أنها من أخلاق المؤمنين، ومما لا ينبغي لهم أن يتخلَّفوا عنها، لما يحصل عليها من الثواب في الآخرة، ولما يترتب ** كذا في (أ) ** عليها في الدنيا =(5/197)=@
__________
(1) في (ك) و(ق): «لا يأكل».
(2) في (ح): «بعضهم».
(3) في (ق): «الماشية».
(4) في (ق): «ضروعها».
(5) في (ح) و(ن) و(ق): «ورأه».
(6) زاد بعدها في (ق): «والله أعلم».
(7) في (ح): «وقوله».
(8) في (ق) و(ن): «من يؤمن» وكتب في هامش (ق): «من كان» ووضع فوقها (نخـ) وبجانبها (صح).
(9) قوله: «عند الجمهور» سقط من (أ).
(10) في (ن): «يتعين».
(11) في (ن): «فيجب».(5/197)
من إظهار العمل بمكارم الأخلاق، وحُسن الأحدوثة الطيبة (1) ، وطيب الثناء، وحصول الرَّاحة للضيف المتعوب بمشقَّات السَّفر، المحتاج إلى ما يخفف عليه ما هو فيه من المشقَّة، والحاجة.
ولم تزل الضيافة معمولاً بها في العرب من لدن إبراهيم ( ؛ لأنَّه أول من ضيَّف الضيف. وعادة مستمرة فيهم، حتى أنَّ من تركها يُذَمُّ (2) عُرْفًا، ويُبَخَّلُ ويُقَبَّحُ عليه عادة، فنحن وإن لم نقل: إنَّها واجبة شرعًا فهي متعيِّنة (3) لما يحصل منها من المصالح، ويندفع بها من المضار عادة وعُرفًا.
و«الجائزة»: العطية. يقال: أجزته جائزة، كما تقول (4) : أعطيته عطية. و«جائزته» هنا منصوبه، إما على إسقاط لفظ (5) حرف الجر، فكأنه قال: فليكرم ضيفه بجائزته (6) . وإما بأن (7) يُشْرِبَ «فليكرم» معنى «فليُعط»، فيكون مفعولا ثانيًا لـ «يكرم».
وقوله: «وما جائزته؟» استفهام عن مقدار الجائزة، لا عن حقيقتها، ولذلك أجابهم بقوله: «يومه وليلته»؛ أي: القيام بكرامته في يومه وليلته؛ أي: أقل ما يكون هذا (8) القدر، فإنَّه إذا فعل هذا حصلت له تلك الفوائد.
وقوله بعد ذلك: «والضيافة ثلاثة أيام»؛ يعنيك (9) به (10) الكاملة التي (11) إذا فعلها (12) المضيف فقد وصل إلى غاية الكمال، وإذا أقام (13) الضيف إليها لم يلحقه (14) ذمٌّ بالمقام (15) فيها؛ فإن العادة الجميلة جاريةٌ بذلك. وإمَّا ما (16) بعد ذلك فخارج عن هذا كله، وداخل في باب: إدخال المشاقِّ (17) والكُلَف على الْمُضيِّف (18) ، فإنَّه (19) يتأذى بذلك من أوجه متعددة. وهو المعني بقوله - صلى الله عليه وسلم - : «ولا يحل له أن يقيم عنده حتى يؤثمه»؛ أي: حتى (20) يشق عليه، ويثقل، لا سيما مع رقة الحال، وكثرة الكلف. وقيل: معنى =(5/198)=@
__________
(1) قوله: «الطيبة» سقط من (ح) و(ك) و(ف) و(ق) و(ن).
(2) في (ح): يشبه «يذمم».
(3) في (ن): «معينه».
(4) في (ق) و(ن): «يقال».
(5) قوله: «لفظ» سقط من (ح) و(ك) و(ق) و(ن).
(6) في (ن): «بجائزة».
(7) في (ن): «أن» بدل «بأن».
(8) في (ق) و(ن): «فقد» بدل «هذا».
(9) في (ح): «يشبه «فيعني».
(10) في (ح) و(ك) و(ق): «بها».
(11) في (ق) و(ن): «الذي».
(12) في (ق): «فعل».
(13) في (ق): «وإذا قام».
(14) في (ق) و(ن): «تلحقه».
(15) في (ق) و(ن): «المقام».
(16) قوله: «ما» ليس في (ك) و(ق) و(ن).
(17) في (ح) و(ك) و(ف) و(ق) و(ن): «المشقات».
(18) في (ك): «المصيف».
(19) في (ح): يشبه «فيعني».
(20) قوله: «حتى» سقط من (ق) و(ن).(5/198)
«يؤثمه»: يحرجه، فيقع في الأثم. وقد جاء ذلك مفسَّرًا في بعض الروايات (1) : «حتى يحرجه» (2) . فإن تحمَّل المضيِّف شيء (3) من ذلك؛ فهو صدقة منه على الضيف، فحقُّه أن يأنف منها، ولا يقبلها، لا سيما إن لم يكن أهلاً لها، فإنَّها تحرم عليه.
وقيل: معنى قوله: «جائزته يوم وليلة»؛ أن ذلك حق المجتاز (4) ، ومن أراد الإقامة فثلاثة أيام.
و«جائزته» هنا: مرفوعٌ (5) بالابتداء، وخبره: «يوم وليلة (6) ». وقيل: الجائزة غير الضيافة، يضيفه (7) ثلاثة أيام، ثم يعطيه ما يجوز به مسافة يوم وليلة. قال الهروي: والجيزة: قدر ما يجوز (8) به (9) المسافر من منهل إلى منهل. وما ذكرناه (10) أولى للمساق والمعنى.
وقوله: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت»؛ يعني (11) : أن المصدِّق بالثواب والعقاب الْمُترتبين على الكلام في الدَّار الآخرة لا يخلو من =(5/199)=@
__________
(1) بعدها في (ن) أربعة أسطر ونصف مضروب عليها.
(2) أخرجه البخاري في "صحيحه" (5784).
(3) في (ف): «شيئًا».
(4) في (ق): «المحتاج».
(5) في (ك) و(ق): «مرفوعة»، والمثبت من (ح).
(6) من قوله: «وجائزته....» إلى هنا سقط من (أ) و(ف).
(7) في (ك): «نقط الحرف الأول من هذه الكلمة باثنتين من أعلى ومن أسفل».
(8) في (ن): «تجوز».
(9) من قوله: «مسافة يوم....» إلى هنا سقط من (أ).
(10) في (ن): «ذكرنا».
(11) في (ق): «معنى».(5/199)
إحدى الحالتين. إما أن يتكلَّم بما يحصل له ثوابًا (1) وخيرًا (2) فيغنم، أو يسكت عن شيء يجلب له عقابًا وشرًّا (3) فيسلم. وعلى هذا: فيكون (4) ** كذا في (أ) ** «أو» للتنويع (5) والتقسيم. وقد أكثر الناس الكلام في تفصيل آفات الكلام، وهي أكثر من أن تدخل (6) تحت حصر ونظام. وحاصل ذلك: أن آفات اللسان أسرع الآفات للإنسان، وأعظمها في الهلاك والخسران. فالأصل: ملازمة الصمت إلى أن (7) تتحقق (8) السلامة من الآفات، والحصول على الخيرات، فحينئذ تخرج تلك الكلمة مخطومة وبأزمَّة التقوى مزمومة. والله الموفق (9) .
وقوله: «إن (10) نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا»؛ هذا أمر على جهة النَّدب للضيف بالقبول. فحقه ألا يُرَّد لما فيه مِمَّا يؤدي (11) إلى أذى المضيف بالامتناع من إجابة دعوته، وغمِّ قلبه بترك أكل طعامه، ولأنه ترك العمل بمكارم الأخلاق. وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : «إذا دعي أحدكم إلى طعامٍ فليجب عرسًا كان أو غيره» (12) .
وقوله: «فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف»؛ هذا مما استدلَّ به الليث =(5/200)=@
__________
(1) في (ف): «له به ثوابًا».
(2) في (ق) و(ن): «أو خيرا».
(3) في (ق) و(ن): «أو شرًا».
(4) في (ك) و(ف): «فتكون».
(5) في (ن): «التوسيع».
(6) في (ن): «يدخل».
(7) قوله: «إن» سقط من (ك).
(8) في (ق) و(ن): «يتحقق»
(9) في (ك): «وبالله التوفيق» وفي (ق): «والله أعلم».
(10) في (ف): «فإن».
(11) في (ف): «منا بودى».
(12) تقدم في باب إجابة دعوة النكاح من كتاب النكاح.(5/200)
على وجوب الضيافة. وهو ظاهرٌ في ذلك، غير أن هذا محمولٌ على ما كان (1) في أول الإسلام من (2) شدَّة الأمر، وقلَّة الأزواد، فقد كانت السَّرية يخرجها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا (3) يجد لها (4) إلا مِزْوَدَي تمر. فكان أمير السَّرية يقوتهم إيَّاه، كما قد (5) اتفق في جيش أبي عبيدة، وسيأتي.
فإذا (6) وجب التضييف كان للضيف طلب حقه شرعًا، وإن لم يكن (7) الحال هكذا فيحتمل (8) أن يكون هذا الحق المأمور بأخذه هو حقُّ ما تقتضيه (9) مكارم الأخلاق، وعادات (10) العرب، كما قررناه، فيكون هذا الأخذ على جهة الحضِّ والترغيب بإبداء ما في الضيافة من الثواب والخير (11) ، وحُسن الأحدوثة، ونفي الذمِّ، والبخل، لا على جهة الجبر والقهر؛ إذ الأصل أن لا يحلَّ (12) مالُ امرىء مسلم إلا بطيب قلبه (13) ، ويحتمل أن يراد بالقوم الممرور (14) بهم أهل الذمة، فينزل بهم الضيف، فيمنعونه ما قد جعل عليهم من التضييف، فهؤلاء يؤخذ منهم، ما جعل (15) عليهم من الضيافة على جهة الجبر (16) من غير ظلمٍ ولا تعدٍّ. وقد رأى مالك سقوط ما وجب عليهم من ذلك لما أحدث عليهم (17) من الظلم. والله تعالى أعلم.
12 - ومن باب الأمر بالمواساة وجمع الأزواد (18)
قوله: «جاء رجل على راحلته فجعل يضرب يمينًا وشمالاً»؛ كذا رواه ابن ماهان بالضاد المعجمة، وبالباء الموحدة (19) من تحتها، من الضرب في الأرض؛ الذي يراد به: الاضطراب والحركة، فكأنه كان يجيء بناقته، ويذهب بها فعل المجهود الطالب (20) . وفي كتاب أبي داود (21) : يضرب راحلته يمينًا وشمالاً. وقد رواه العذري فقال: «يُصرِّف يمينًا وشمالاً (22) » بالصاد المهملة والفاء، من الصَّرف، ولم يذكر المصروف =(5/201)=@
__________
(1) في (ق) و(ن): «كانوا».
(2) في (ق) و(ن): «و» بدل «من».
(3) في (ن): «ولم» بدل «ولا».
(4) في (ق): «النبي ( يخرج السرية ولا يجد لهم».
(5) قوله: «قد» سقط من (ن).
(6) في (ح) و(ك) و(ف) و(ق) و(ن): «وإذا».
(7) في (ك) و(ن): «تكن».
(8) في (ن): «فيحمل».
(9) في (ق): «يقتضيه».
(10) في (ح) و(ك): «وعادة».
(11) في (ح): «من الخير والثواب».
(12) في (ف): «الأصل لا يحل».
(13) في (ق): «من قلبه».
(14) في (أ): «المرور» بدل «الممرور».
(15) في (ق): «ما قد جعل».
(16) في (ن): «الخبر».
(17) قوله: «عليهم» سقط من (ح).
(18) زاد بعدها في (أ) و(ق) و(ح) و(ن): «إذا قلت» وفي (ف): «للأزواد إذا قلت».
(19) في (أ) و(ح) و(ك) و(ف) و(ن): «بواحدة» وكذا في (ق) في هامشها وبالموحدة» ووضع (نسخه».
(20) في (ق) و(ن): «والطالب».
(21) في "سننه" (1663)، وفيه: «فجعل يصرفها يمينًا وشمالاً».
(22) قوله: «يمينًا وشمالاً» سقط من (ح) و(ك).(5/201)
ما هو؟ وقد رواه السَّمرقندي، والصدفيُّ كذلك، وبيَّنوا (1) المصروف، فقالوا (2) : يصرف بصره يمينًا وشمالاً». يعني: كان (3) يقلب طرفه فيمن يعطيه ما يدفع عنه ضرورته. ولا تباعد بين هذه الروايات؛ إذ قد صدر من الرجل كل ذلك، ولما (4) رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - على تلك الحال أمر كل من كان عنده زيادة على قدر كفايته أن يبذله، ولا يمسكه، وكان ذلك الأمر (5) على جهة الوجوب لعموم الحاجة، وشدَّة الفاقة؛ ولذلك قال الصحابيُّ (6) : حتى (7) رئينا: أنَّه لا حق لأحد منا في فضل؛ أي: في زيادة على قدر الحاجة. وهكذا الحكم إلى يوم القيامة؛ مهما نزلت (8) حاجة، أو مجاعة، في السَّفر، أو في الحضر، وجبت المواساة (9) بما زاد على كفاية تلك (10) الحال، وحرم إمساك الفضل.
وقوله: «حتى رئينا»؛ هكذا وقعت هذه الرواية بضم الراء وكسر ما بعدها مبنيًا لما لم (11) يسم فاعله؛ أي: أظهر لنا. وفي بعض النسخ: «رأينا» مبنيًا للفاعل. وفي بعضها: حتى قلنا. من القول بمعنى الظن، كما قال الشاعر (12) :
متى تقول (13) القُلُصَ الرَّواسِمَايُدنِين أُمَّ قاسمٍ وقاسما (14)
وقوله: «فجمعنا أزوادنا»: هذه الرواية الواضحة المحفوظة. وقد وقع (15) =(5/202)=@
__________
(1) في (ق) و(ن): «وقد بينوا».
(2) في (ك): «فقالا».
(3) في (أ) و(ح) و(ف) و(ق) و(ن): «أنه كان».
(4) في (ق) و(ن): «فلما».
(5) في (ف): «للأمر».
(6) في (ق): «الصحابة».
(7) قوله: «حتى» سقط من (ك).
(8) في (ن): «نزل».
(9) في (ف): «المساواة».
(10) في (ن): «تلك» سقط من (ق) و(ن).
(11) قوله: «لم» بياض في (ن)
(12) البيت لهدبة بن خزم يُعرِّض بأخت زيادة بن زيد، لما عرَّض الثاني بأخت هدبة. "الأغاني" (10/260).
(13) في (ن): «يقول».
(14) في (ك): «أو قاسما».
(15) في (ق): «قطر يقطر».(5/202)
لبعضهم: «تزوادنا (1) » بالتاء باثنتين من فوقها، بفتح التاء وكسرها، وهو (2) اسم من الزاد؛ كالتِّسيار (3) ، والتمثال. ووقع (4) لبعضهم: «مزاودنا»، والأول أوجه، وأصح.
وقوله: «فحزرته (5) كربضة العَنْز»؛ أي: قدرته مثل جُثَّة العنز، فحقُّه على هذا أن يكون مضموم الراء؛ لأنَّه اسم. وكذلك حفظي عمَّن (6) أثق به. فيكون: «كظلمة» و«غرفة». وقد روي بكسر الراء، ذهب فيه (7) مذهب الهيئات، كالجلسة، و المشية. وقد روي بفتح الراء، وهي أبعدُها؛ لأنَّه حينئذ يكون مصدرًا، ولا يُحْزَر (8) المصدر، ولا يُقدَّر.
و«النُّطْفة»: القطرة، ومراده بها هاهنا (9) : القليل من الماء. يقال: نطف المطر (10) ينطف؛ أي: قطر (11) .
و« ندغفقه (12) دغفقة»؛ أي: نأخذ (13) منه ونصب على أيدينا صبًّا شديدًا.
و«الْجُرُبُ»: جمع (14) جراب، وهي الأوعية التي يجعل (15) فيها الزاد. وتسمى أيضًا: مزاوِد.
وهذا الحديث قد (16) اشتمل على معجزتين (17) من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الطعام والشراب. وقد وقع ذلك منه مرات كثيرة. وروي من طرق عديدة، ووقع منه في جموع كثيرة، ومشاهد عظيمة؛ فهي من معجزاته المتواترة، وكراماته المتظاهرة، وقد بيَّنَّا ذلك في كتابنا في "الردِّ على النصارى" (18) . =(5/203)=@
__________
(1) في (ف) و(ق) و(ن): «تزاودنا».
(2) في (ق) و(ن): «كالتيار».
(3) في (ق): «كالتيسار».
(4) في (ق) و(ن): «وقد وقع».
(5) في (ح): «فحزوته».
(6) في (ق): «على من» بدل «عمن».
(7) في (ق) و(ن): «وذهب به».
(8) في (ح): «لا يجزم».
(9) في (ح) و(ك) و(ن) و(ق) و(ف): «هنا».
(10) في (ح) و(ك): «الماء»، وفي (ك) كتب: «المطر» ثم طمست وكتب فوقها «الماء» وفي (ق): «نطفت الماء».
(11) في (ق): «قطر يقطر».
(12) في (أ): «ويدغفقه».
(13) في (أ): «يأخذ» وفي (ق): يشبه «تأخذ»..
(14) في (ح): «جمع» وكتب في الهامش «يجمع».
(15) في (ق) و(ن): «يجمع».
(16) في (ق) و(ن): «الحديث أيضا قد».
(17) في (ف): «معجزتي».
(18) زاد في (أ): بعد هذا: «يتلوه كتاب الضحايا».(5/203)
كتاب (1) الصيد (2)
الأصلُ في جواز الصيد على الجملة: الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة.
فأما الكتاب: فقوله تعالى: {يسألونك ماذا أُحل لهم (3) قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين} (4) ؛ أي: وصيد (5) ما علَّمتم، الآية. وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ** كذا في (أ) ** ليبلونكم الله بشيء من الصيد} (6) ، وقوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه (7) } (8) الآية.
وأما السُّنة: فصحيحها الأحاديث الآتية.
وأما الإجماع: فمعلومٌ.
والصيد: ذكاة في المتوحش طبعًا، غير المقدور عليه، المأكول نوعه. والنظر فيه: في الصائد، والمصيد، والآلة التي يصاد (9) بها. ولكل (10) منها شروط يأتي ذكرها أثناء النظر في الأحاديث إن شاء الله تعالى. =(5/204)=@
__________
(1) كتب قبلها في (أ): «بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد».
(2) في (أ) قدَّم كتاب الضحايا على كتاب الصيد.
(3) في (ح): «لكم».
(4) سورة المائدة: الآية (4).
(5) في (ق): «فصيد».
(6) سورة المائدة: الآية (94) كتب في (أ) و(ك) و(ح) و(ق) و(ن) بعدها كلمة: «الآية».
(7) زاد في (ح): «متاعًا لكم وللسيارة».
(8) الآية (96) من سورة المائدة.
(9) في (ق): «يصطاد».
(10) في (ق) و(ن): «فلكل».(5/204)
1 - ومن باب الصيد بالجوارح وشروطها
قوله: «إذا أرسلت كلبك المعلَّم»؛ تعليم الكلب وغيره مما يصاد به هو: تأديبه على الصيد، بحيث يأتمر إذا أمر، وينزجر إذا زُجِر (1) . ولا يختلف في هذين الشرطين في الكلاب وما في معناها من سباع الوحوش.
واختلف فيما يصاد به من الطير. فالمشهور: أن ذلك مشترطٌ فيها. وذكر ابن حبيب: أنه لا يشترط (2) فيها (3) أن تنزجر (4) إذا زُجِرَت (5) ؛ فإنَّه لا يتأتى ذلك فيها (6) غالبًا. فيكفي أنها إذا أمرت أطاعت.
قال الشيخ: والوجود يشهد للجمهور، بل الذي لا ينزجر (7) نادرٌ فيها، وقد شرط الشافعي، وجمهور من العلماء في التعليم أن يمسك على صاحبه، ولا يأكل منه شيئًا. ولم يشترطه مالك في المشهور عنه، وسيأتي. وقد ألحق الجمهور بالكلب كلَّ حيوان مُعَلَّم يتأتى به الاصطياد تمسُّكًا بالمعنى، وبما رواه الترمذي (8) عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيد البازي فقال: «ما أمسك عليك فَكُل»؛ على أن في إسناده مجالدًا، ولا يُعرف إلا من حديثه، وهو ضعيف. والمعتمد: النظر إلى المعنى، وذلك أن (9) كل ما يتأتى (10) من الكلب يتأتى (11) من الفهد مثلاً، فلا فارق إلا فيما لا مدخل له في التأثير، وهذا هو القياس في معنى الأصل، كقياس السيف على المِدْيَة؛ التي ذبح النبي - صلى الله عليه وسلم - بها، وقياس الأَمَة على العبد في سراية العتق.
وقد خالف في ذلك قوم، فقصروا (12) الإباحة على الكلاب خاصة. ومنهم من يستثني الكلب الأسود، وهو الحسن، =(5/205)=@
__________
(1) في (ق) و(ن): «انزجر».
(2) في (ح): «يشرط».
(3) قوله: «فيها» سقط من (ح) و(ك) و(ق) و(ن).
(4) في (ق) و(ن): «ينزجر».
(5) في (ح) و(ن) و(ق): «زجر».
(6) في (ح): «لأن ذلك لا يتأتى فيها».
(7) في (ح): «يزجر».
(8) أخرجه أحمد (4/257)، وأبو داود (3/271 رقم2851) كتاب الصيد، باب في الصيد، وعنه البيهقي (9/238). وأخرجه الترمذي (4/55 رقم1467) كتاب الصيد، باب ما جاء في صيد البزاة. ثلاثتهم من طريق مجالد، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم، قال: سألت رسول الله ( عن صيد البازي؟ فقال: «ما أمسك عليك فكُل».
«ما علَّمت من كلب أو باز، ثم أرسلته وذكرت اسم الله فكُل مما أمسك عليك»، قلت: وإن قتل؟ قال: «إذا قتله ولم يأكل منه شيئا فإنما أمسكه عليك».
قال الترمذي: «هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث مجالد عن الشعبي، والعمل على هذا عند أهل العلم، لا يرون بصيد البزاة والصقور بأسًا. وقال مجاهد: البزاة هو الطير الذي يصاد به من الجوارح التي قال الله تعالى: {وما علمتم من الجوارح}، فسِّر: الكلاب، والطير الذي يصاد به، وقد رخص بعض أهل العلم في صيد البازي وإن أكل منه، وقالوا: إنما تعليمه إجابته، وكرهه بعضهم، والفقهاء أكثرهم قالوا: نأكل وإن أكل منه».
قال أبو داود: «الباز إذا أكل فلا بأس به، والكلب إذا أكل كره، وإن شرب الدم فلا بأس به».
وقد أعلّ البيهقي الحديث في "سننه فقال": «ذكر البازي في هذه الرواية لم يأت به الحفاظ الذين قدمنا ذكرهم عن الشعبي وإنما أتى به مجالد».اهـ.
ومجالد: هو ابن سعيد، ليس بالقوي، وقد تغير في آخر عمره، كما في "التقريب" (6478).
(9) قوله: «أن» سقط من (ح).
(10) في (ن): «يأتي».
(11) في (ن): «يأتي».
(12) في (ح) و(ك): «وقصروا».(5/205)
والنخعي، وقتادة؛ لأنَّه شيطان كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) ، متمسكين بقوله: «مكلِّبين»، وبأنَّه ما (2) وقع في الصحيح إلا ذكر الكلاب، وهذا لا حجَّة لهم فيه؛ لأنَّ ذكر الكلاب في هذه المواضع (3) إنما كان لأنها الأغلب (4) والأكثر. وأيضًا فإن ذكرها (5) خصوصًا لا يدل على أن غيرها لا يصاد (6) بها (7) ؛ لأنَّ الكلب لقب، ولا مفهوم للقب عند جماهير المحققين من الأصوليين، ولم يصر إليه إلا الدَّقاق ** كذا في (أ) **، وليس هو فيه على توفيق، ولا وفاق. ولو صحَّ زعمه (8) ذلك لكفر من قال: عيسى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنَّه كان يلزم منه بحسب زعمه: أن محمدًا وغيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ليس رسولاً.
وفي قوله ( : «إذا أرسلت»؛ ما يدلُّ على أن الإرسال لا بدَّ أن يكون من جهة الصائد، ومقصودًا له؛ لأنَّ أفعل فعل الفاعل كأَخْرَج، وأَكْرم، ثم هو فعل عاقل، فلا بدَّ أن يكون مفعولاً لغرض صحيح، وفيه مسألتان (9) :
الأولى: أن يقصد الصائد عند الإرسال قصد التذكية والإباحة، وهذا لا يختلف فيه، فلو قصد مع ذلك اللهو؛ فكرهه مالك، وأجازه ابن عبدالحكم. وهو ظاهر قول الليث: ما رأيت حقًّا أشبه بباطل منه. يعني: الصيد. فأما لو فعله بغير نيَّة التذكية: فهر حرام؛ لأنَّه من باب الفساد وإتلاف نفس حيوان لغير (10) منفعة. وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الحيوان إلا لمأكلة (11) .
الثانية: لا بدَّ أن يكون انبعاثُ الكلب بإرسالٍ من يد الصائد، بحيث يكون زمامه بيده فيُخلِّي عنه، ويُغرِيه عليه، فينبعثُ، أو (12) يكون الجارح ساكنًا مع رؤيته الصيد (13) ، فلا يتحرَّك له إلا بإغراء الصائد. فهذا بمنزلة ما زمامه (14) بيده فأطلقه مُغريًا له على أحد القولين. فأما لو انبعث الجارح من تلقاء (15) نفسه من غير إرسال، =(5/206)=@
__________
(1) تقدم في "البيوع، باب ما جاء في قتل الكلاب واقتنائها.
(2) قوله: «ما» سقط من (ن).
(3) في (ح): «هذا الموضع».
(4) في (ك): «الأكلب».
(5) في (ح): «ذكره».
(6) في (ق): «يصطاد».
(7) قوله: «بها» سقط من (ح).
(8) قوله: «زعمه» سقط من (ح).
(9) في (أ): «مسلتان» هكذا رسمت.
(10) في (ك): «بغير».
(11) جاء هذا الحديث مرسلاً: أخرجه أبو داود في "المراسيل" (316 و345) من طريق عثمان بن عبدالرحمن، عن القاسم بن عبدالرحمن أبي عبدالرحمن الشامي: أن النبي ( أوصى رجلاً عشرًا قال... «ولا تقتل بهيمة ليس لك بها حاجة». وعثمان هذا مجهول.
وأخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (2384) من طريق ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن سليمان بن عبدالرحمن، عن القاسم مولى عبدالرحمن؛ أنه قال " استأذن رجل من أصحاب رسول الله ( في الغزو فأذن له، فقال... «ولا تقتل بهيمة ليس لك فيها حاجة».
وأخرجه مالك في "لموطأ" (965)، ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" (17910) عن يحيى بن سعيد: أن أبا بكر الصديق بعث جيوشًا إلى الشام فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان، وكان أمير ربع من تلك الأرباع، وفيه: أن أبا بكر قال ليزيد: إني موصيك بعشر...، وفيه: ولا تعقرن شاة ولا بعيرًا إلا لمأكلة.
وأخرجه سعيد بن منصور (2383) عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث: أن سعيد بن أبي هلال حدثه عن عبدالله بن عبيدة: أن أبا بكر الصديق لما أمر على الأجناد يزيد بن أبي سفيان، فذكره بنحوه. وهذا إسناد لا بأس به.
(12) في (ق): «و» بدل «أو».
(13) في (ق): «المصيد».
(14) من قوله: «بيده فيخلي....» إلى هنا سقط من (ح).
(15) قوله: «تلقاء» سقط من (ح).(5/206)
ولا إغراء (1) : فلا يجوز صيده، ولا يحل أكله؛ لأنَّه إنَّما (2) صاد لنفسه، وأمسك عليها، ولا صُنْعَ للصائد فيه، فلا يُنْسبُ إليه إرساله؛ لأنَّه لا يصدق عليه: «إذا أرسلت كلبك المعلم». ولا خلاف في هذا فيما علمت (3) .
وقوله: «وذكرت اسم الله (4) »، وفي الأخرى: «واذكر اسم الله» على ا لأمر. وظاهر هذا: أنه لا بدَّ من التسمية بالقول عند الإرسال، فلو لم توجد على أي وجه كان لم يؤكل الصيد. وهو مذهب أهل الظاهر وجماعة أهل الحديث، ويعضدهم ظاهر قوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} (5) .
وذهب (6) طائفة من أصحابنا، وغيرهم: إلى أنه يجوز أكل ما صاده (7) المسلم وذبحه، وإن ترك التسمية عمدًا. وحملوا الأمر بالتسمية على الندب، وكأنهم حملوا هذه الظواهر على ذكر اسم الله بالقلب، وهو لا يخلو عنه المسلم غالبًا، فإنَّه إذا نوى التذكية فقد ذكر الله تعالى بقلبه، فإن (8) معنى ذلك: القصد (9) إلى فعل (10) ما أباحه الله تعالى على الوجه الذى شرعه الله، وهذا كما قاله بعض العلماء في قوله ( : «ولا (11) وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» (12) ؛ أي: من لم (13) ينو، وأصل هذا: أن الذِّكر (14) إنما هو التنبه (15) بالقلب للمذكور، ثم سمي القول الدال على الذكر: ذكرًا، ثم اشتهر ذلك حتى صار السابق إلى الفهم من الذكر: القول اللِّساني. فأما الآية: فمحمولة على أن المراد بها ذبائح (16) المشركين، كما هو أشهر أقوال المفسرين وأحسنها. وذهب مالك في المشهور عنه إلى الفرق بين ترك التسمية عمدًا، أو سهوًا، فقال: لا يؤكل (17) مع العمد، ويؤكل (18) مع السهو. وهو قول كافة فقهاء الأمصار، وأحد قولي الشافعي.
ثم اختلف أصحاب مالك في تأويل قوله: =(5/207)=@
__________
(1) في (ق) و(ن): «من غير إغراء ولا إرسال».
(2) في (ح): «أكله لانما».
(3) في (ح) و(ك) و(ن) و(ق): «علمته».
(4) في (ق): «اسم الله عليه».
(5) الآية (121) من سورة الأنعام.
(6) في (ك) و(ن): «ذهبت».
(7) في (ك): «ما صاد».
(8) في (ق) و(ن): «فإنه».
(9) قوله: «القصد» لم يتضح في (ح).
(10) قوله: «فعل» سقط من (ن).
(11) في (أ) و(ق) و(ح) و(ك): «لا وضوء» بلا واو.
(12) هذا الحديث جاء عن عدَّة من الصحابة بطرق مختلف فيها، ولكن مجموع الطرق يقوي بعضها بعضًا ويشدُّه؛ فمنها:
حديث أبي هريرة مرفوعًا به: أخرجه أحمد (9418)، وأبو داود (101)، والترمذي في "العلل الكبير (1/111)، والطبراني في "الأوسط " (8076)، والدارقطني (1/79)، والحاكم (1/146)، والبيهقي (1/43)، والبيهقي (43).
ومنها حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه»، أخرجه ابن أبي شيبة (1/302)، وأحمد (11370 و11371)، والترمذي في "العلل الكبير" (1/112)، وابن ماجه (397)، والدارمي (1/176)، وعبد بن حميد في "المنتخب" (910)، وأبو يعلى في "المسند" (1060 و1221)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة (26)، والدارقطني (1/71) من طرق عن كثير بن زيد الأسلمي، رُبيح بن عبدالرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، عن جده، به.
قال البخاري: «رُبيح بن عبدالرحمن بن أبي سعيد: منكر الحديث».اهـ.
وكثيربن زيد الأسلمي لا بأس به في المتابعات والشواهد. ولذلك قال أحمد بن حنبل لما سئل عن التسمية في الوضوء: «لا أعلم فيه حديثًا يثبت، أقوى شيء فيه حديث كثير بن زيد، عن ربيح، وربيح رجل ليس بمعروف». اهـ.
ومنها حديث سعيد بن زيد: أخرجه الطيالسي (239 و240)، وابن أبي شيبة (1/3)، وأحمد (16651 و16652)، و(5/381)، و(6/382)، والترمذي (25 و26)، وفي "العلل الكبير" (ص31)، وابن ماجه (398)، والطحاوي (1/26)، والدارقطني (1/72)، والحاكم (4/60)، والبيهقي (1/43)، كلهم من طريق أبي ثفال المري، عن رباح بن عبدالرحمن بن حويطب، عن جدته، عن أبيها سعيد بن زيد به. وأبو ثفال فيه كلام، ورباح مختلف في جهالته، وهذا الحديث عند البخاري أحسن ما عنده كما في "العلل الكبير" للترمذي (ص31)، وأبو حاتم وأبو زرعة قالا: «ليس عندنا بذاك الصحيح»، كما في "العلل" لابن أبي حاتم (129)، وضعفه أحمد والبزار وابن القطان.
ومنها حديث سهل بن سعد: أخرجه ابن ماجه (400)، والطبراني في "الكبير" (6/5698)، والحاكم (1/269)، والبيهقي (2/379)، وفي سنده عبدالمهيمن بن عباس، وعنه الطبراني من طريق أُبي بن العباس، وفيه ضعف.
ومنها حديث أبي سبرة: أخرجه الطبراني في "الأوسط " (1119)، والدولابي في "الكنى" (1/36) من طريق عيسى بن سبرة بن أبي سبرة، عن أبيه، عن جده، وعيسى بن سبرة مجمع على ضعفه. وقال البخاري: «منكر الحديث».
ومنها حديث عائشة رضي الله عنها: ظان النبي ( إذا بدأ بالوضوء سَمَّى. أخرجه أبي يعلى (4687)، والبزار (261)، والدارقطني 1/72).
قال الهيثمي في "مجمع الزائد" (1/220): «مدار الحديث على حارثة بن محمد وقد أجمعوا على ضعفه».اهـ. وقد نقل ابن عبدالهادي بعضًا من الأحاديث المتقدمة في "شرح العلل" (ل17/أ)، ثم قال: «ولا يخلو كلَّ واحد منهما من مقال، لكن الأظهر أن الحديث في ذلك بمجموع طرقه حسن أو صحيح، قال الإمام أبو بكر بن أبي شيبة: ثبت لنا أن النبي ( قال: لا وضوء لمن لم يسمِّ، وقد اختار اشتراط التسمية على الوضوء من أصحابنا: أبو بكر الخلال، وصاحبه أبو بكر عبدالعزيز، وأبو إسحاق بن شتلا، والقاضي أبو يعلى، وابن عقيل، وصاحب النهاية، وابن الجوزي، وأبو البركات صاحب المحرَّر، وغيرهم. وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله».اهـ.
ونقل الحافظ ابن حجر في "نتائج الفكار" (1/237) عن ابن الصلاح أنه قال: «ثبت بمجموعها ما يثبت به الحديث الحسن». اهـ.
وقال ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/75): «والظاهرأن مجموع الأحاديث يحدث منها قوة تدل على أن له أصلاً».اهـ.
(13) قوله: «من لم» سقط من (أ).
(14) في (ن): «التذكر».
(15) في (ح) و(ن) و(ق): «النية».
(16) في (ق): «ذايح».
(17) في (ك) و(ح): «لا تؤكل».
(18) في (ح) و(ك) و(ن): «وتؤكل» ولم ينقط الحرف الأوف في (ح).(5/207)
«لا يؤكل»، فمنهم من قال (1) : تحريمًا، ومنهم من قال: كراهةً. ووجه الفرق: أن الناسي غير مكلَّف بما نسيه، ولا مؤاخذة (2) عليه، فلا يؤثر نسيانه بخلاف العامد (3) .
وقوله: «وإن قَتَلْن»؛ هذا (4) لا يختلف فيه أن قتل الجوارح (5) للصيد ذكاة إذا كان قتلها بِتَخْلِيب، أو تَنْيِيب، فأما لو قتلته (6) صدْمًا، أو نطحًا: فلا يؤكل عند ابن القاسم. وبه قال أبو حنيفة. وقال أشهب: يؤكل. وهو أحد قولي الشافعي. وسبب الخلاف: هل صدم الجارح له، أو (7) نطحه كالمعراض إذا أصاب بعرضه، أم لا؟ فشبهه ابن القاسم به؛ فمنع، وفرَّق الآخرون: بأن الجوارح حيوان، وقد أمسك على صاحبه، وقد قال الله تعالى: {فكلوا مما أمسكن **كذا في (أ) ** عليكم} (8) ، وليس كذلك المعراض؛ فإنَّه لا يقال فيه: أمسك عليك.
قال الشيخ: وهذا الفرق لفظي لا فقه فيه، فإن الْمِعْرَاض، وإن لم يُقل فيه: أمسك عليك (9) ؛ لكنه يقال فيه (10) : أمسك مُطلقًا؛ لأنَّه لما أصاب الصيد وقتله فقد أمسكه، والأفقه: قول ابن القاسم، والله أعلم.
فأما (11) لو مات الصيد فزعًا، أو دهشًا، ولم يكن للجوارح (12) فيه فعل: فلا يختلف (13) في أنه لا يؤكل فيما علمت.
وقوله: «فإن أدركته حيًّا فاذبحه»؛ هذا يدلُّ على أن المقدور عليه لا تكون (14) ذكاته العقر، بل الذبح، أو النحر (15) . وعلى هذا: فيجب على الصائد إذا أرسل الجوارح أن يجتهد في الجري مُهيِّئًا لآلة الذبح؛ فإنَّه إن فرَّط في شيء من ذلك حتى هلك الصيد بين يدي الجوارح لم يجز أكله؛ لأنَّه لما أمسكته الجوارح صار مقدورًا عليه. والصائد لو لم يُفرط كان متمكنًا من ذبحه، فإن أدركه الصائد منفوذ المقاتل فحكمه حكم المقتول؛ لأنَّه ميؤوس (16) من بقائه. إلا أن مالكًا استحب ذكاته مراعاة للخلاف. هذا هو مشهور قوله.
وقوله: «ما لم يشركها كلب ليس معها»، وفي أخرى: «فإن خالطها =(5/208)=@
__________
(1) قوله: «من قال» سقط من (ن).
(2) في (أ): «ولا يؤاخذ» وفي (ق): «ولا مؤاخذ»..
(3) زاد بعدها في (ق): «والله أعلم».
(4) في (ق) و(ن): «وهذا».
(5) في (ح) تشبه: «الجارح».
(6) في (ح) و(ك) و(ق) و(ن): «قتله».
(7) في (أ): «ونطحه» و(ك).
(8) الآية (4) من سورة المائدة.
(9) في (ق): «عليه» بدل «عليك».
(10) قوله: «فيه» سقط من (ك).
(11) في (ق) و(ن): «وأما».
(12) في (ح): «للجارح» وفي (ن): «الجوارح».
(13) في (ق) و(ن): «فلا ولم يختلف».
(14) في (ق) و(ن): «يكون».
(15) في (ق): «والنحر».
(16) في (ك): «مأيوس».(5/208)
كلاب (1) من غيرها فلا تأكل (2) »، وفي الأخرى (3) : «وإن وجدت مع كلبك كلبًا غيره وقد قتل، فلا تأكل، فإنك لا تدري أيهما قتله»؛ هذه الروايات وإن اختلفت ألفاظها فمعناها واحد. وهذا الاختلاف يدل: على أنهم كانوا ينقلون بالمعنى. وتفيد هذه الروايات: أن سبب إباحة الصيد الذي هو عَقْرُ الجارح (4) له لا بدَّ أن يكون متحققًا غير مشكوك فيه، ومع الشكِّ لا (5) يجوز الأكل. وهذا الكلب المخالط محمول على أنه غير مرسل من صائد آخر، وأنه إنما انبعث في طلب الصيد بطبعه ونفسه. ولا يختلف في هذا. فأما لو أرسله صائدٌ آخر على ذلك الصيد فاشترك الكلبان فيه: فإنَّه للصائدين؛ يكونان شريكين. فلو أنفذ أحد الكلبين مقاتله، ثم جاء الآخر، فهو للذى أنفذ مقاتله.
وقوله: «فإني أرمي بالمعراض». قال أبو عبيد: المعراض: سهم لا ريش فيه، ولا نصل. وقال (6) غيره: المعراض: خشبة (7) ثقيلة، أو عصا غليظة في طرفها حديدة، وقد تكون بغير حديدة، غير أنها يُحدَّدُ (8) طرفها. وهذا التفسير أولى من تفسير أبي عبيد، وأشهر.
وقوله: «إذا رميت بالمعراض فخزق (9) فكل، وإن أصاب بعرضه فلا تأكل»، وفي أخرى: «إن أصابه (10) بحده فكل، وإن أصابه(2) بعرضه فلا تأكل (11) فإنَّه وقيذٌ (12) »؛ ومعنى (13) خزق: خرق ونفذ. والعرض: خلاف الطول. والوقيذ (14) : الموقوذ (15) ؛ أي: المضروب بالعصا (16) حتى يموت. وبه فسر قوله تعالى: {والموقوذة} (17) . =(5/209)=@
__________
(1) في (ق): «كلب».
(2) في (ق): «يأكل».
(3) في (ق): «أخرى».
(4) في (ح) تشبه: «الجوارح».
(5) في (ح): «فلا».
(6) في (أ) و(ح) و(ك) و(ق) و(ن): «قال» بلا واو.
(7) في (ح): «من خشبة».
(8) في (ح): «تجدد»، وفي (ك): «محدد».
(9) في (ق): «فحزق».
(10) في (....): «أصاب». يراجع !
(11) من قوله: «وفي أخرى....» إلى هنا سقط من (ك).
(12) في (ق): «وقيذة» وكتب في الهامش «وقيذ» ووضع فوقها (نخـ».
(13) في (ح) و(ك) و(ق) و(ن): «معنى» بلا واو.
(14) في (ق): «والوقيذة».
(15) قوله: «الموقوذ» سقط من (ق) وفي (ن): «الموقوذة».
(16) في (ن): «بالعصي».
(17) الآية (3) من سورة المائدة.(5/209)
وبظاهر هذا (1) الحديث قال جمهور العلماء من السلف والخلف (2) . وقد شذَّ مكحول، والأوزاعي، فأباحا أكل ما أصاب المعراض بعرضه. وهو قول مردودٌ بالكتاب والسُّنَّة؛ لأنَّه (3) مخالف لنصوصهما (4) .
وقوله: «وإن رميت بسهمك فاذكر اسم الله»؛ هذا دليلٌ على جواز الصيد بمحدَّد (5) السلاح، وكذلك قوله في المعراض: «إذا أصاب بحدِّه فكل» (6) ، وكذلك قوله تعالى: {تناله ** كذا في (أ) ** أيديكم ورماحكم} (7) ، ولا خلاف فيه.
وقوله: «فإن غاب عنك يومًا، فلم (8) تجد فيه (9) إلا أثر سهمك فكل (10) »، ونحوه في حديث أبي ثعلبة، غير أنه زاد: «فكله بعد ثلاث ما لم ينتن» (11) . وإلى الأخذ بظاهر هذه الأحاديث صار مالك في أحد أقواله، وسوى بين السَّهم والكلب.
والقول الثاني: إنه لا يؤكل شيء من ذلك إذا غاب عنك.
والقول الثالث: الفرق بين السَّهم، فيؤكل، وبين الكلب فلا يؤكل. ووجهه: أن السهم يقتل على جهة واحدة فلا يُشكل، والجارح على جهات متعدِّدة فيُشكل (12) . والقول الثاني أضعفها.
وقوله: «ما لم يُنْتِن»؛ اختلف العلماء (13) في تعليل هذا المنع، فمنهم من قال: إذا أنتن لحق بالمستقذرات التي تمجُّها (14) الطِّباع، فيكره أكلها تنزيهًا (15) ، فلو أكلها لجاز، كما قد (16) أكل النبي - صلى الله عليه وسلم - الإهالة السنخة (17) (18) ، وهي المنتنة. ومنهم من قال: بل هو مُعلَّلٌ بما يخاف منه الضرر (19) على آكله. وعلى هذا التعليل يكون أصله (20) محرَّمًا؛ إن كان الخوف محققًا. وقيل: إن ذلك (21) النتن (22) يمكن أن يكون من (23) نهش ذوات السُّموم. قال (24) ابن شهاب: كُلْ مما (25) قتل (26) إلا أن يَنْعَطِن، فإذا انعَطَن فإنَّه نهشٌ (27) . وفسَّروا =(5/210)=@
__________
(1) قوله: «هذا» سقط من (ح).
(2) في (ق): «من الخلف والسلف».
(3) في (ح): «فإنه» وفي (ن): «لا» بدل «لأنه».
(4) في (ن): «لنصوصها».
(5) في (ن): «بمجرد».
(6) أخرجه مسلم (3/1529-1530 رقم1929/3و4) كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلَّمة.
(7) الآية (94) من سورة المائدة.
(8) في (ق) و(ن): «ولم».
(9) قوله: «فيه» سقط من (ق) و(ن).
(10) قوله: «فكل» سقط من (ق).
(11) أخرجه مسلم (1931 و1932).
(12) في (أ): «فلا يشكل».
(13) قوله: «العلماء» ليس في (أ) و(ك) و(ح) و(ن).
(14) في (ق): نقط الحرف الأول باثنتين من فوق إثنين من تحت.
(15) في (ك): «تنزهًا».
(16) قوله: «قد» سقط من (ق).
(17) قال ابن الأثير: «كل شيء من الأدهان مما يؤتدم به: إهالة، وقيل: هو ما أذيب من الألية والشحم، وقيل: الدسم الجامدة، والسَّنخة: المتغيرة الريح. "النهاية" (1/84).
(18) أخرجه البخاري (2069 و2508)، وأحمد (12360)، والترمذي (1215)، والنسائي (7/288)، وابن ماجه (2437)، وابن حبان (6349)، وغيرهم، من طرق عن هشام الدستوائي، عن قتادة، عن أنس؛ أنه مشى إلى النبي ( بخبز شعير وإهالة سنخة.
وأخرج البخاري في "صحيحه"(4100)، وأحمد (13646)، وعبد بن حميد (1319)، وأبو عوانة (4/358) من حديث أنس رضي الله عنه في قصة حفر الخندق، وفي آخره: وأتي رسول الله ( بخبز شعير عليه إهالة سنخة، فأكلوا منها. ولفظ البخاري: قال أنس: يؤتون بملء كفي من الشعير فيصنع لهم بإهالة سنخة، توضع بين يدي القوم، والقوم جياع، وهي بشعةٌ في الحلق، ولها ريح منتن.
(19) في (أ): «منه من الضرر» و(ك) و(ح).
(20) في (أ): «أكله» و(ك) و(ح) و(ق) و(ن).
(21) في (ق) و(ن): «إن كان كذلك».
(22) في (ح): «الشيء».
(23) قوله: «من» سقط من (ن».
(24) في (ق) و(ن): «فقال».
(25) في (ق) و(ن): «ما» بدل «مما».
(26) في (ن): «قيل» بدل «قتل».
(27) في (ن): «نهس».(5/210)
«ينعطن (1) » بأنَّه (2) إذا (3) مُدَّ تَمَرَّط. قال ابن الأعرابي: إهاب معطون، وهو الذي تَمَرَّط شعره.
وقوله: «وإن وجدته غريقًا في الماء، فلا تأكل (4) ، فإنك لا تدري الماء قتله، أو سهمك ؟» وهذا (5) محمله على الشك المحقق في السبب القاتل للصيد، والشك: تردد ** كذا في (أ) ** بين مُجوِّزين لا ترجيحَ لأحدهما على الآخر، فما كان كذلك لم يؤكل، وأما لو تحقق أن سهمه أنفذ مقاتله، ثم وقع في الماء، أو سقط من الهواء، أو ما شاكل ذلك، فإنَّه يؤكل. وهو مذهب الجمهور: مالك، والشافعي، وغيرهما. وقد روى ابن وهب عن مالك كراهة ذلك على ما حكاه ابن المنذر، وهي من جهة الورع، والله تعالى أعلم.
وقوله ( : «إلا أن يأكل (6) الكلب، فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه»؛ بهذا قال الجمهور من السلف وغيرهم، منهم: ابن عباس (7) ، والزهري، وأبو هريرة (8) (9) ، والشعبي، وسعيد بن جبير، والنخعي، وعطاء بن أبي (10) رباح، وعكرمة، وقتادة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، والنعمان. =(5/211)=@
__________
(1) في (ح): «يعطن».
(2) قوله: «بأنه» سقط من (ن).
(3) في (ن): «إذ» بدل «إذ».
(4) في (ق) و(ن): «فلا تأكله».
(5) في (ك) و(ف) و(ح): «هذا» بلا واو.
(6) في (ح): «أكل».
(7) أخرجه عبدالرزاق (4/474 رقم8521)، وابن جرير (6/92) عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، عن ابن عباس قال: إذا أكل الكلب من الصيد فلا تأكله.
وأخرجه ابن أبي شيبة (19573) عن جرير، عن المغيرة، عن إبراهيم النخعي، عن ابن عباس به.
وله أسانيد عدَّة عن ابن عباس ذكرها الطبري في "تفسيره" (6/93).
(8) في (ق) و(ن): «وأبو هريرة والزهري».
(9) أخرجه ابن أبي شيبة (19574) عن وكيع، عن المنهال الطائي، عن عمه، عن أبي هريرة به.
وأخرجه ابن جرير الطبري (6/96) من طريق يزيد بن هارون. وهو مذهب ابن مسعود قال في الكلب المعلَّم يأكل، قال: لا تأكل منه، فإنه لو كان معلَّما لا يأكل منه.
قلت: وقد أخرجه ابن جرير الطبري (6/95) من طريق عبدالأعلى، ويزيد بن هارون، وأبو معاوية، ثلاثتهم متفرقين عن داود بن أبي هند، عن عامر الشعبي، عن أبي هريرة قال: إذا أرسلت كلبك فأكل منه، فإن أكل ثلثيه وبقي ثلثه، فكل.
(10) قوله: «أبي» سقط من (ك).(5/211)
وذهبت (1) طائفة أخرى إلى جواز أكل ما أكل الكلب (2) منه. منهم: ابن عمر (3) ، وسعد (4) بن مالك (5) ، وسلمان (6) ، وبه قال مالك، متمسكين بحديث أبي ثعلبة الخشني الذي خرجه أبو داود (7) وغيره. قال فيه الرسول ( : «إذا أرسلت كلبك المعلَّم، وذكرت اسم الله (8) فكل، وإن أكل منه». وقد روي مثل حديث أبي ثعلبة عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده (9) . وروي أيضًا من طرق متعدِّدة عن عدي بن حاتم مثله (10) ، والأشهر عنه (11) : الحديث الأول، وقد رام بعض أصحابنا الجمع بين (12) حديثي: عدي بن حاتم، وأبي ثعلبة (13) ؛ بأن (14) حملوا حديث النَّهي على (15) التنزيه، والورع، وحديث الإباحة على الجواز. وقالوا: إن عديًّا كان موسَّعًا عليه، فأفتاه بالكف ورعًا، وأبو ثعلبة (16) كان محتاجًا فأفتاه بالجواز، والله تعالى أعلم. وقد دلَّ على صحة هذا التأويل قوله ( : «فإني أخاف أن (17) يكون إنما أمسك على نفسه (18) ».
وقد روي عن قوم من السَّلف التفرقة بين ما أكل منه الكلب فمنعوه، وبين ما أكل منه البازي فأجازوه. وبها قال النخعي، وحماد بن أبي سليمان، والثوري، وأصحابه. وحكي ذلك عن ابن عباس (19) ، وفيها ضعفٌ وبُعدٌ، والله تعالى أعلم. =(5/212)=@
__________
(1) في (ق): «وذهب».
(2) قوله: «الكلب» سقط من (ق) و(ن).
(3) أخرجه مالك في "الموطأ" (2/492 و493)، وابن أبي شيبة (19587) من طرق عن نافع عن ابن عمر به.
قال ابن حزم في "المحلى" (7/471): صح عن ابن عمر: كُلْ مما أكل منه كلبك المعلَّم وإن أكل.
(4) في (ن): «وسعيد» بدل «وسعد».
(5) أخرجه ابن أبي شيبة (4/240 رقم19582)، والبيهقي (9/237) من طريق بكير ابن عبدالله بن الأشج، عن حميد بن مالك قال: سألت سعد بن أبي وقاص، قلت: إن لنا كلابًا ضواريًا نرسلها على الصيد، فتأكل وتقطع؟ فقال: كل وإن لم يبق إلا بضعه. وسنده صحيح.
أخرج عبدالرزاق في "المصنف" (8518) عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن سلمان، فذكره، ثم قال: قال سعد بن أبي وقاص: كل وإن لم يبق إلا رأسه.
وأخرجه ابن جرير الطبري (6/95) من طريق شعبة، عن عبد ربه بن سعيد: سمعت بكير بن الأشج، عن سعيد بن المسيب، عن سعد.
(6) أخرجه عبد الرزاق (4/474 رقم 8518) وابن جرير (6/ 95)، والبيهقي (9/237) من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن سلمان قال: في الكلب المعلم يأكل مما يمسك؟ قال: كل وإن أكل ثلثيه.
وأخرجه ابن جرير الطبري (6/95) من طريق شعبة، عن قتادة به.
وله طريق أخرى، أخرجه ابن أبي شيبة (4/245) وابن جرير الطبري (6/95) من طريق داود بن أبي الفرات، عن محمد بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن سلمان قال: إذا أرسلت كلبك وبازك فكل وإن أكل ثلثه.
وسنده حسن، محمد بن زيد بن علي البصري، صدوق كما قال الذهبي في "الكاشف" (2/172 رقم4858).
وأخرجه ابن جرير الطبري (6/95) عن مجاهد بن موسى، ثنا يزيد، عن بكر المزني والقاسم، عن سلمان به.
(7) أخرجه أبو داود (3/271-272 رقم 2858) كتاب الصيد، باب في الصيد، عن داود بن عمرو، عن بسر بن عبيدالله، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله ( في صيد الكلب: «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله، فكل وإن أكل منه، وكل ما ردت عليك يداك». ومن طريقه البيهقي (9/237). وفي سنده: داود بن عمرو الأودي: وثقه ابن معين، وقال أحمد: شيخ، وقال العجلي: يكتب حديثه، وليس بالقوي."تهذيب الكمال" (8/432)، وفي "التقريب" (1803): صدوق يخطئ. وبداود هذا أعلّه ابن حزم في "المحلى" (7/471).
وقد أعلَّه البيهقي (9/238) بقوله: «حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه مخرَّج في الصحيحين من حديث ربيعة بن يزيد الدمشقي، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ثعلبة، وليس فيه ذكر الأكل، وحديث الشعبي عن عدي أصح من حديث داود بن عمرو الدمشقي، ومن حديث عمرو بن شعيب، والله أعلم».اهـ.
وقال الذهبي في "الميزان" (2913): حديث منكر. وقال الزيلعي في "نصب الراية" (4/312): قال في "التنقيح": إسناده حسن. وقال ابن كثير في "التفسير" (3/18): وقد روى أبو داود بإسناد جيد قوي، عن أبي ثعلبة الخشني...، فذكره.
(8) في (ق): «اسم الله عليه».
(9) أخرجه أحمد (2/184)، وأبو داود (3/275-276 رقم2857) كتاب الصيد، باب في الصيد، وعنه البيهق ي(9/237-238)، وأخرجه الدارقطني (4/293-294). ثلاثتهم من طريق حبيب المعلم. وأخرجه النسائي (7/191 رقم4296) كتاب الصيد والذبائح، باب الرخصة في ثمن كلب الصيد، من طريق أبي مالك عبيدالله بن الأخنس.
كلاهما حبيب المعلم، وعبدالله بن الأخنس، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن أبا ثعلبة الخشني أتى النبي ( فقال: يا رسول الله! إن لي كلابًا مكلبة، فأفتني في صيدها؟... فذكره بمعنى الحديث السابق.
وقد سبق إعلال البيهقي له.
وقال الزيلعي في "نصب الراية" (4/313): قال في "التنقيح": إسناده صحيح.اهـ.
(10) ذكره ابن حزم في "المحلى" (7/470) من طريق عبد الملك بن حبيب، ثنا أسد بن موسى، عن ابن أبي زائدة، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم قلت: يا رسول الله! إنا بأرض صيد ولنا كلاب نرسلها، فنأخذ الصيد؟ فقال عليه السلام : «كل مما أمسكن عليك، إلا أن يخالطها كلب من غيرها». قلت: يا رسول الله! وإن قتلت؟ قال: «وإن قتلت». قلت: «وإن أكلت؟ قال: «وإن أكلت».
ومن هذه الطريق ذكره ابن القيم في "حاشيته على ابن داود" (8/41)، وذكره أيضًا من هذه الطريق ابن كثير في "التفسير" (2/18).
قال ابن حزم بد روايته له (7/472): «من رواية عبد الملك بن حبيب الأندلسي، وقد روى الكذب المحض عن الثقات، عن أسد بن موسى، وهو منكر الحديث».
قلت: أمَّا أسد بن موسى فقد وثِّق وردَّ الذهبي على ابن حزم تضعيفه له في "الميزان" (1/207).
وللحديث طريق آخر ذكره ابن حزم في "المحلى" (7/471) من طريق سفيان الثوري، عن سماك بن حرب، عن مري بن قطري، عن عدي بن حاتم، قال: قال رسول الله ( : «ما كان من كلبٍ ضارٍ أمسك عليك فكل». قلت: وإن أكل؟ قال: «نعم».
وكذلك ذكره ابن القيم وابن كثير في الموضعين السابقين.
وأعلّه ابن حزم بسماك بن حرب، قال: «وهو يقبل التلقين عن مري بن قطري وهو مجهول». وكذا قال الذهبي في "الميزان" عن مري بن قطري.
(11) قوله: «عنه» بياض في (ح).
(12) في (أ): «فبين».
(13) في (أ): «وثعلبة»، وسقط قوله: «أبي».
(14) في (أ): «فإن».
(15) في (ق): «عن» بدل «على».
(16) في (أ): «وثعلبة»، وسقط قوله: «أبو».
(17) في (ق): «إنما يكون» وفي (ن): «إنما يكون أمسك».
(18) قوله: «إنما أمسك» لم يتضح في (ق).
(19) أخرجه عبدالرزاق (8514) عن أبي حنيفة، عن حماد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إذا أكل الكلب المعلَّم فلا تأكل، وأمَّا الصقر والبازي فإنه إذا أكل، كُل.
وأخرج الطبري في "تفسيره" (9/557) من طريق أبي إسحاق الشيباني، عن حماد بن إبراهيم، عن ابن عباس بنحوه.(5/212)
وقوله: «فإنك لا تدرى الماء قتله، أم (1) سهمك»؛ دليل على أن المشاركة (2) في قتل الصيد لا تضر إذا تحقق: أن سهمه، أو جارحه قتله، وكذلك إذا أصابه (3) السهم في الهواء، فسقط، أو تردَّى من جبل، لكن هذا إنما يتحقق إذا وجد السهم، أو الجارح قد أنفذ المقاتل (4) ، فحينئذ لا تضرُّ المشاركة، فلو لم يعلم ذلك حرم الأكل على نصَّ هذا الحديث؛ خلافًا للشافعي، فإنَّه قال: فيما رمي في الهواء، فسقط ميتًا، ولم (5) يُدْر مِمَّا مات: إنه (6) يؤكل. وقاله أبو ثور، وأصحاب الرأي. قال ابن المنذر: وروى ابن وهب عن مالك نحو قول هؤلاء.
قال الشيخ: والصحيح الأول، وهو المشهور من قول مالك. وهو قول (7) الجمهور. وهو الذي يظهر من هذا الحديث.
وقوله: «ما لم يُنتن»؛ هو رباعيّ مضموم الأول، من: أنتن الشيء: إذا =(5/213)=@
__________
(1) في (ك) و(ن) و(ق): «أو» بدل «أم».
(2) قوله: «المشاركة» لم يتضح في (ق).
(3) في (أ): «أصاب».
(4) في (ك): «مقاتله».
(5) في (أ): «منها لم» بدل «ميتًا ولم».
(6) في (ق): «فإنه».
(7) في (ح): «وقول».(5/213)
تغيرت رائحته (1) . وقال بعض اللغويين: يقال: أنتن اللحم: إذا تغير بعد طبخه. و «صَلَّ» و «أَصَلَّ»: إذا تغير وهو نيئ.
قال الشيخ: وهذا الحديث الصحيح يَرُدُّ (2) ما قاله هذا اللغوي، بل يقال: أنتن اللحم نيئًا ومطبوخًا. ويقال (3) في غير اللحم: أنتن أيضًا، كما يقال: أنتن الأنف.
- - - - -
3 - ومن باب النهي عن أكل كل (4) ذي ناب من السباع
قول أبي ثعلبة: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل كل ذي ناب من السباع»؛ ظاهر هذا النهي: التحريم، وقد جاء نصًّا في حديث أبي هريرة إذ قال: «ذي (5) ناب من السباع فأكله حرام». الناب: واحد الأنياب، وهي ما (6) يلي الرُّباعيات من =(5/214)=@
__________
(1) في (أ): «ريحه».
(2) في (ق): «وهذا الحديث نرده».
(3) في (ح): «وتقال».
(4) قوله: «كل» سقط من (ك) و(ن).
(5) في (أ): «قال: كل ذي» و(ك) و(ح) و(ن).
(6) في (ك): «مما».(5/214)
الأسنان (1) . ذهب الجمهور من السَّلف (2) وغيرهم إلى الأخذ بهذا الظاهر (3) في تحريم السباع، وهو قول الشافعي، وأبي حنيفة، ومالك في أحد قوليه، وهو الذي (4) صار إليه في "الموطأ"، وقال فيه: وهو (5) الأمر عندنا، وروى عنه العراقيون الكراهة، وهو ظاهر "المدوَّنة"، وبه قال جمهور أصحابه.
تنبيه: هذا الخلاف إنما هو في السباع العادية المفترسة كالأسد، والنمر، والذئب، والكلب. وأما (6) ما ليس كذلك فجُلِّ أقوال الناس فيه: الكراهة. وحيث صار أحدٌ من العلماء إلى تحريم شيء من هذا النوع؟ فإنما ذلك لأنه ظهر للقائل بالتحريم أنَّه عاد، وذلك كاختلافهم في الضَّبع، والثعلب، والهرِّ وشبهها. فرآها قوم من السباع فحكموا بتحريمها، وأجاز أكلها: الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وهو قول علي، وجماعة من الصحابة (7) ، وكرهها مالك. حكى ذلك (8) القاضي عياض.
تنبيه: إنما عدل القائلون بالكراهة عن ظاهر الحديث (9) المتقدم؛ لأنَّهم حب اعتقدوا معارضة بينه وبين قوله تعالى:{ قل لا أجد فيما أوحي إليّ (10) محرمًا على طاعمٍ يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دمًا مسفوحُا أو لحم خنزيرٍ} (11) الآية. ووجه ذلك أنهم حملوا قوله تعالى: {فيما أوحي إليّ}، على عموم وحي القرآن، والسُّنَّة، وقالوا (12) : إن هذه الآية نزلت على النبي ( ، وهو واقف بعرفة (13) في حجة الوداع، فهي متأخرة عن تلك الأحاديث، والحصر (14) فيها ظاهر، فالأخذ بها أولى؛ =(5/215)=@
__________
(1) في (ك): «الإنسان».
(2) قوله: «من السلف» سقط من (ح).
(3) في (ق) و(ن): «الأخذ بظاهر هذا الحديث في تحريم».
(4) قوله: «الذي» سقط من (ن).
(5) في (ق) و(ن): «هو» بلا واو.
(6) قوله: «أما» سقط من (ن).
(7) أخرجه عبدالرزاق (8684) عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان علي لا يرى بأكل الضبع بأسًا، ويجعلها صيدًا.
وقد اختلف في سماع مجاهد من عليّ، إلا أن علي بن المديني قال: قال يحيى: أما مجاهد عن علي فليس به بأس.اهـ. و"مقدمة الجرح والتعديل" (244).
أما ما حكاه المصنف عن جماعة الصحابة: فقد أخرجه عبدالرزاق (8683) عن ابن جريج قال: أخبرنا نافع: أن رجلاً أخبر ابن عمر: أن سعد بن أبي وقاص كان يأكل الضباع فلم ينكره عليه.
وأخرجه عبدالرزاق (8684) عن معمر، عن عمرو بن مسلم قال: سمعت عكرمة وسئل عنها؟ فقال: لقد رأيتها على مائدة ابن عباس.
وأما عن الثعلب فلم أقف لإحدٍ من الصحابة أجاز أكله، وإنما روى عبدالرزاق (4/529)عن طاووس، وقتادة، وعطاء إباحة أكله.
(8) في (ح): «حكى ذلك عنه».
(9) في (ق): «هذا الحديث».
(10) في (ن): «عليّ» بدل «إليّ».
(11) الآية (145) من سورة الأنعام.
(12) في (ق): «فقالوا».
(13) قوله: «بعرفة» سقط من (ح).
(14) في (ق): «والحظر».(5/215)
لأنها: إما ناسخة لما تقدمها، أو راجحة على تلك الأحاديث. أما (1) القائلون بالتحريم، فظهر لهم، وثبت عندهم أن سورة الأنعام: مكِّيَّة، نزلت قبل الهجرة، وأن هذه الآية قصد (2) بها الرد على الجاهلية في تحريمهم (3) البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحامي (4) ، ولم يكن في (5) ذلك الوقت مُحرَّم في الشريعة إلا ما ذكره في الآية، ثم بعد ذلك حرَّم أمورًا كثيرة؛ كالحمر الإنسية، والبغال، وغيرها (6) ، كما رواه الترمذي (7) عن جابر قال: حرَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحوم الحمر الأهلية، ولحوم البغال (8) ، وكلَّ ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطَّير. وذكر (9) أبو داود (10) عن جابر أيضًا قال: ذبحنا يوم خيبر الخيل، والبغال " والحمير، فنهانا (11) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البغال، والحمير، ولم ينهنا (12) عن الخيل.
قال الشيخ: والصحيح ما ذهب إليه الجمهور. والله أعلم بحقائق الأمور.
وقوله: «وعن (13) كل ذى مخلب من الطير»؛ هو معطوف على قوله: «نهى عن كل ذي ناب من السِّباع (14) ». وقد تقرَّر أن ذلك النهي محمولٌ على التحريم في السباع، =(5/216)=@
__________
(1) في (ك) و(ق) و(ن): «وأما».
(2) في (ح): يشبه أن تكون «يصد».
(3) في (ق) و(ن): «تحريم».
(4) في (ق): «والحام».
(5) قوله: «في» سقط من (ق).
(6) في (أ) و(ح): «وغيرهما».
(7) أخرجه أحمد (3/323)، والترمذي (4/61 رقم1478) كتاب الأطعمة، باب ما جاء في كراهية كل ذي ناب وذي مخلب.
وأخرج البخاري في "صحيحه" (5204) من حديث جابر قال: نهى النبي ( يوم خيبر عن لحوم الحمر، ورخَّص في لحوم الخيل.
(8) في (ك): «والبغال».
(9) في (أ): «وذهب».
(10) سيأتي في باب إباحة لحوم الخيل وحمر الوحش، وأما اللفظ الذي أورده المصنف فأخرجه أحمد (3/356 و362)، وأبو داود (4/151 رقم3789) كتاب الأطعمة، باب في أكل لحوم الخيل، كلاهما من طريق حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر قال: ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير، فنهانا رسول الله ( عن البغال والحمير، ولم ينهنا عن الخيل.
(11) في (ح): «فهنانا».
(12) في (ح): «فلم يهينا» وفي (ق): «ولم ينهانا».
(13) في (ح) و(ك): «عن» بلا واو.
(14) في (ق): «السماع».(5/216)
فيلزم منه تحريم كل ذي (1) مخلب من الطير؛ لأنَّ الواو تُشَرِّك بين المعطوف والمعطوف عليه في العامل ومعناه؛ لإنَّها جامعة. وقد صار إلى تحريم كل ذي مخلب من الطير طائفة؛ تمسُّكًا بهذا الظاهر. وممن قال بذلك: أبوحنيفة، والشافعي. وأمَّا مذهب مالك: فحكى عنه ابن أويس (2) كراهة أكل كل **كذا في (أ) ** ذي مخلب من الطير. وجل أصحابه، ومشهور مذهبه: على إباحة ذلك؛ متمسكين بقوله تعالى:: {قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرمًا} (3) الآية (4) . وقد تقدم الكلام عليها (5) ، والظاهر: التمسك بما قررناه من ذلك الحديث الظاهر (6) .
وتقييد الطير بـ «ذي المخلب (7) » يقتضي: منع أكل سباع الطير العادية: كالعقاب (8) ، والشاهين، والغراب، وما أشبهها (9) ، ولا (10) يتناول: الْخَطَّاف ولا (11) ما أشبهها.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ثعلبة في أواني أهل الكتاب: «إن وجدتم غير آنيتهم، فلا تأكلوا فيها»؛ إنما كان هذا لأنهم لا يتوقَّون النجاسات فيأكلون لحم الخنزير، وربما أكلوا الميتات، فإذا طبخوا (12) ذلك في القدور (13) تنجست، وربما سرت النجاسة في أجزاء قدور الفخار، فإذا طبخ (14) فيها بعد ذلك، وبعد أن غسلت توقع مخالطة تلك الأجزاء النجسة للمطبوخ (15) في القدر ثانية؛ فاقتضى الورع الكفّ عنها. وقد أشار إلى هذا ابن عباس (16) ؛ فإنه روي عنه أنه قال: إن كان الإناء من نحاس، أو حديد: غسل، وإن كان من فخار: أغلي فيه الماء، ثم غسل.
وقوله: «وإن (17) لم تجدوا غيرها فاغسلوه»؛ هذه إباحة عند الحاجة، لكن =(5/217)=@
__________
(1) قوله: «ذي» سقط من (ك).
(2) في (أ): «ابن أبي أويس» و(ك) و(ح) و(ق) و(ن).
(3) الآية (145) من سورة الأنعام.
(4) في (أ): «إلا».
(5) قوله: «عليها» سقط من (ن).
(6) في (ق): يشبه «الظاهره».
(7) في (ح): «مخلب».
(8) في (أ): «والعقاب».
(9) في (ن): «أشبههما».
(10) قوله: «ولا» سقط من (أ).
(11) قوله: «لا» سقط من (ك).
(12) في (ح): «أكلوا».
(13) في (ك): «القدر».
(14) في (أ): «ذبخ».
(15) في (أ): «بالمطبوخ».
(16) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (4/124) من طريق نعيم بن حماد، ثنا أبو أسامة، ثنا حماد بن السائب، ثنا إسحاق بن عبد الله بن الحارث قال: سمعت ابن عباس يقول: سمعت رسول الله ( يقول: «ذكاة كل مسك دباغه»، فقلت له: إنا نسافر مع هذه الأعاجم ومعهم قدور يطبخون فيها الميتة ولحم الخنازير؟ فقال: «ما كان من فخار فاغلوا فيها الماء، ثم اغسلوها، وما كان من النحاس فاغسلوه، فالماء طهور لكل شيء».
قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه». ووافقه الذهبي.
(17) في (ق): «فإن».(5/217)
بشرط الغسل؛ فإن الماء طهور، لكن ينبغي أن يكون الغسل على ما قاله ابن عباس كما حكيناه عنه آنفًا. وهذا فيما يطبخون فيه من أوانيهم، فأما ما (1) يستعملونه من غير أن يطبخوا فيه: فخفيف، إن لم تظن (2) فيه (3) نجاسة، وقد توضأ عمر رضي الله عنه من بيت نصراني في حُقِّ (4) نصرانية (5) . فأما لو كان الإناء من أواني الخمر، أو مما يجعل فيه شيء من النجاسات، فلا شك في المنع من استعماله؛ إلا (6) أن يغسل غسلاً بالغًا؛ فإن كان منها (7) ما يبعد انفصال النجاسة عنه، لم يجز استعماله ألبتة.
قال الشيخ رضي الله عنه: ويظهر لي على مقتضى هذا الحديث (8) ؛ أنه لا ينبغي للوَرِع أن يُقْدِم على أكل طعام أهل الكتاب، ما وجد منه بدًّا (9) ؛ بل هو أولى بالانكفاف عنه من الأواني. والله تعالى أعلم.
4 - ومن باب إباحة أكل ميتة البحر
العير: الإبل الْمُحَمَّلة.
قوله: «وزوَّدنا جرابًا من تمر لم يجد (10) لنا غيره»؛ اختلفت (11) ألفاظ الرواة في هذا المعنى؛ فمنها: ما ذكرناه. وفي رواية (12) : «فكنا نحمل أزوادنا على رقابنا» (13) . وفي أخرى: «ففني زادهم» (14) . وفي "الموطأ" (15) : «فكان مزودي تمر»، وفي أخرى (16) : «فكان يعطينا قبضة قبضة، ثم أعطانا تمرة تمرة»، وتلتئم (17) شتات هذه الروايات بأن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - زادهم ذلك المزود، أو المزودين إلى ما كان عندهم من زاد أنفسهم الذي كانوا يحملونه على رقابهم، ثم إنهم لما اشتدت بهم الحال جمع أبو عبيدة ما كان =(5/218)=@
__________
(1) قوله: «ما» سقط من (أ).
(2) في (ق): «نظن».
(3) قوله: «فيه» سقط من (ح).
(4) في (ح): «حُقِّ» وكتب في الهامش «جر» وكتب صواب.
(5) هذا الأثر علّقه البخاري في "صحيحه" (1/298) قال: وتوضأ عمر بالحميم من بين نصرانية.
وأخرجه الشافعي في "الأم" (1/8) عن ابن عيينة، عن زيد بن أسلم، عن أبيه: أن عمر بن الخطاب توضأ من ماء نصرانية في جرة نصراينة. ومن طريق الشافعي أخرجه ابن المنذر في “الأوسط" (1/314)، والبيهقي في "الكبرى” (1/32).
وأخرجه عبدالرزاق في "المصنَّف" (254) عن ابن عيينة، عن زيد بن أسلم، عن أبيه؛ أنه التمس لعمر وضوء فلم يجده إلا عند نصارنية فاستوهبها، وجاء به إلى عمر فأعجبه حسنه، فقال عمر: من أين هذا؟ فقال له: من عند هذه النصرانية، فتوضأ، ثم دخل عليها فقال لها: أسلمي، فكشفت عن رأسها، فإذا هو كأنه ثغامة بيضاء، فقالت: أبعد هذه السن ؟
وبنحو هذا اللفظ أخرجه الدارقطني في "سننه" (1/32) من طريق سفيان بن عيينة يه، وفي آخره قال عمر: اللهم اشهد.
وهذا إسناد ظاهره الصحة ولكنه منقطع؛ إذ لم يسمع ابن عيينة من زيد بن أسلم، فقد رواه الدارقطني في "سننه" (1/32) عن الحسين بن إسماعيل، ثنا أحمد بن إبراهيم البوشيخي، ثنا سفيان بن عيينة قال: حدثونا عن زيد بن أسلم، فذكره. ورواه البيهقي (1/32) من طريق سعدان بن نصر، ثنا سفيان بن عيينة قال: حدثونا عن زيد بن أسلم - ولم أسمعه -، عن أبيه، فذكره.
وصرَّح ابن عيينة عند الإسماعيلي كما في "فتح الباري" (1/299)، و"تغليق التعليق" (2/132) أنه سمعه من ابن زيد بن أسلم، وقال الحافظ في "الفتح": «أنه سمعه من عبدالله بن زيد بن أسلم؛ لأنه أكبرهم وأوثقهم»، قال: «ولهذا جزم بتعليقه البخاري».اهـ.
وفي "التعليق" قال: «وأولاد زيد بن أسلم هم: عبدالله، وعبدالرحمن، وأسامة، وهم ضعفاء، وأمثلهم عبدالله، والله أعلم من عني ابن عيينة منهم».اهـ.
(6) في (ح) و(ق): «إلى» بدل «إلا».
(7) في (ن): «مسها» بدل «منها».
(8) قوله: «الحديث» سقط من (ن).
(9) قوله: «بدأ» تراجع في (أ) لـ (244/ أ)
(10) في (ن): «نجد».
(11) في (ك): «اختلف».
(12) في (ق): «في» بلا واو.
(13) عند مسلم (3/1537 رقم1935/20).
(14) عند مسلم (3/1537 رقم1935/21).
(15) (2/930-931 رقم24) كتاب صفة النبي ( ، باب جامع ما جاء في الطعام والشراب.
(16) عند مسلم (3/1536 رقم1935/19).
(17) في (ك) و(ق) و(ن): «ويلتئم».(5/218)
عندهم إلى المزود الذي زادهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يُفرِّقُه عليهم (1) قبضة قبضة، إلى أن أشرف على النَّفاد (2) ، فكان يعطيهم إيَّاه تمرة تمرة إلى أن فني ذلك.
وَجَمْعُ أبي (3) عبيدة الأزواد، وقسمتها (4) بالسَّويَّة: إما أن يكون حكمًا حكم به لِمَا شاهد من ضرورة (5) الحال، ولِمَا خاف من تلف من لم يكن معه زاد، فظهر له: أنه قد وجب على من معه زاد أن يُحيي من ليس له (6) شيء، أو يكون ذلك عن رضا من كان له زادٌ رغبةً في الثواب، وفيما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأشعريين من أنهم إذا قل زادهم جمعوه فاقتسموه (7) بينهم بالسَّويَّة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (8) : «فهم مني، وأنا منهم» (9) ، وقد فعل ذلك (10) النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مرَّة. ولذلك قال بعض العلماء: إنه سنة.
و «الْخَبَط» بفتح الباء (11) : اسم لما يُخبط فيتساقط (12) من ورق الشجر. وبسكون الباء: المصدر. وتبليلهم الْخَبَط بالماء (13) ليلين للمضغ. وإنَّما صاروا لأكل الخبط عند فقد التمرة (14) الموزعة عليهم. وهذا كله يدلُّ على ما كانوا عليه من الجِدِّ، والاجتهاد، والصبر على الشدائد العظام، والمشقات الفادحة، إظهارًا للدِّين، وإطفاءً لكلمة المبطلين. رضي الله عنه م أجمعين.
وساحل البحر، وسيفه، وشطِّه، كل ذلك بمعنى واحد.
و « رفع لنا»؛ أي: ظهر لنا، واطَّلعنا عليه. وهو مبني لما لم يسم فاعله.
و « الكثيب» و «الظرب (15) »: الجبيل (16) الصغير، والكوم أصغر (17) منه. و «الضخم»: المرتفع الغليظ. =(5/219)=@
__________
(1) قوله: «عليهم» سقط من (ن).
(2) في (ح): «النفاذ».
(3) في (ق): «أبو عبيدة».
(4) في (ن): «وقسمها».
(5) في (ن): «صورة».
(6) في (ك): «له» وألحق في الهامش «معه» ووضع فوقها (خ). وفي (ق) و(ن): «معه».
(7) في (ق): «واقتسموه».
(8) من قوله: «في الأشعريين....» إلى هنا سقط من (ح).
(9) سيأتي في النبوات، باب في فضائل أبي موسى الأشعري والأشعريين.
(10) قوله: «ذلك» سقط من (ق) و(ن).
(11) في (ك): «الخاء والباء».
(12) في (أ): «فتساقط».
(13) قوله: «بالماء» سقط من (ح).
(14) قوله: «التمرة» مكرر في (أ) و(ح) و(ق).
(15) في (ح) و(ك): «والضرب».
(16) في (ك): «الجبل».
(17) في (أ): «الأصغر».(5/219)
وقوله: «تُدْعى العَنْبَر»؛ أي: تسمَّى (1) بالعنبر (2) ، ولعلها سميت بذلك لأنها الدابَّة التي تلقي العنبر، وكثيرًا (3) ما (4) يوجد العنبر (5) على سواحل البحر، وقد وجد عندنا منه على ساحل البحر بقادس (6) - موضع (7) بالأندلس (8) - قطعة كبيرة كالكويم (9) ، حصل لواجديه منه (10) أموال عظيمة.
وقول أبي عبيدة: «مَيْتَه»؛ أي (11) : هي مَيْتَة، فلا تُقرب لإنَّها حرام بنصِّ القرآن العام (12) ، ثم إنه (13) أضرب عمَّا وقع له من ذلك لما تحقق من الضرورة المبيحة له، ولذلك قال: «لا، بل نحن رسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد اضطررتم فكلوا»؛ وهذا يدلّ على جواز حمل العموم على ظاهره، والعمل به من غير بحث عن المخصِّصات، فإن أبا عبيدة حكم بتحريم ميتة البحر تمسُّكًا بعموم القرآن، ثم إنه استباحها بحكم الإضطرار، مع أن عموم القرآن في الميتة مخصَّصٌ بقوله ( (14) : «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» (15) ، ولم يكن عنده خبر من هذا المخصِّص، ولا عند أحد من أصحابه.
وقوله: «فأقمنا عليها (16) شهرًا حتى سَمِنَّا»؛ دليل لمالك، ولمن (17) يقول بقوله: على أن المضطرَّ يأكل من الميتة شبعه، ويتبسط في أكلها، فإنَّها قد أبيحت له، وارتفع تحريمها في تلك (18) الحال فاشبهت الذَّكيَّة (19) ، وخالفه في ذلك جماعة، منهم: الحسن، والنخعي، وقتادة (20) ، وابن حبيب، فقالوا (21) : لا يأكل منها حتى يضطرَّ إليها ثانية، ولا يأكل منها إلا ما يُقيم (22) رمقه. وقال عبد الملك: إن تغدَّى (23) حَرُمَت عليه =(5/220)=@
__________
(1) في (ن): «يسمى، تسمى» نقط الحرف الأول باثنتين من فوق وإثنتين من تحت.
(2) في (ح): «العنبر».
(3) في (ك): «وكثير».
(4) في (ق)، و(ن): «مما».
(5) قوله: «العنبر» سقط من (ق) و(ن).
(6) في (ح): «بقابس» وفي (ق): «بقاديس»..
(7) قوله: «موضع» سقط من (أ) و(ح) و(ق) و(ن).
(8) في (ق): «من الأندلس».
(9) في (ح) و(ك): «كالكوم» وفي (ن): «كالكريم»..
(10) قوله: «منه» سقط من (ح) وفي (أ) و(ق) و(ن): «فيه».
(11) قوله: «أي» سقط من (ح).
(12) قوله: «العام» سقط من (أ).
(13) قوله: «إنه» سقط من (ن).
(14) في (ح): «بقوله تعالى» وألحق في الهامش « ( » وكتب فوقها صوابه.
(15) تقدم في باب أول مسجد وضع في الأرض، من كتاب الصلاة.
(16) في (ن): «عليهم».
(17) في (ن): «ومن» بدل «ولمن».
(18) في (ق): «ذلك».
(19) في (ق) و(ن): «فيقدر».
(20) قوله: «وقتادة» سقط من (ك).
(21) في (ح): «فقال».
(22) في (ك): «يسد».
(23) في (ح) و(ق): «تغذى».(5/220)
يومه، وإن تعشى حرمت عليه ليلته. وهذا الذى قاله هؤلاء تعضده (1) القاعدة المقررة (2) ، وهي: أن كل ما أبيح لضرورة (3) فيتقدَّر (4) بقدرها، على أنَّه يمكن أن يقال في قضيَّة أبي عبيدة، وأكلهم من تلك الميتة شهرًا حتى سمنوا: إن ذلك القَدْر كان قدر ضرورتهم، وذلك أنهم كانوا قد أشرفوا على الهلاك من الجوع، والضعف، وسقطت قواهم، وهم مستقبلون سفرًا، وعَدَوًّا، فإن لم يفعلوا ذلك ضعفوا عن عدوهم، وانقطعوا عن سفرهم، وهذا كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه عند الفتح: «تقوَّوا لعدوكم، والفطر أقوى (5) لكم» (6) .
وقوله: «حتى سَمِنَّا»؛ يعني به (7) : تقوينا، وزال ضعفنا، كما قال في الرواية الأخرى: «حتى ثابت (8) إلينا أجسامنا»؛ أي: رجعت إلينا قوَّتنا. وإلا فما كانوا سِمَانًا قطُّ.
و «حجاج العين»؛ يقال: بفتح الحاء وكسرها، وهو الوقب أيضًا (9) . وهو غار العين الذي فيه حبَّتها. وأصل الوقب: الحفرة في الحجر.
و«الفِدَرُ»: جمع فِدْرَة: وهي القطعة من اللحم، والعجين، وشبههما (10) . وهي: «الثَّور» أيضًا، وجمعه: أثوار. والمراد بها هنا (11) : قطع العجين أو السويق، ولذلك (12) شبَّه قطع اللحم بها؛ إذ قال: كفدر (13) الثور.
فإن (14) قيل: كيف جاز لهم أن يأكلوا من هذه الميتة إلى شهر، ومعلوم: أن اللحم إذا أقام هذه المدَّة، بل أقل منها، أنه يُنتِن، ويشتدُّ نَتَنُه، فلا يحل الإقدام عليه، كما تقدم في الصيد؛ إذ قال: «كله ما لم يُنْتِن» (15) .
فالجواب: أن يقال: لعل ذلك (16) لم يَنْتَهِ نَتَنُه إلى حال يخاف منه الضرر لبرودة =(5/221)=@
__________
(1) في (ك) و(ق) و(ن): «يعضده».
(2) قوله: «المقررة» سقط من (ك).
(3) قوله: «لضرورة» سقط من (ح).
(4) في (ق) و(ن): «فيقدر».
(5) في (ح): «أولى».
(6) مسلم (2/789 رقم1120) كتاب الصيام، باب أجر المفطر في السفر إذا تولى العمل بلفظ: «إنكم مصبحو عدوكم، والفطر أقوى لكم فأفطروا».
(7) قوله: «به» سقط من (ح) و(ك).
(8) في (ن): «ثبات».
(9) قوله: «أيضًا» سقط من (ك).
(10) في (ح): «وشبهها».
(11) قوله: «هنا» سقط من (ق) و(ن).
(12) في (ق): «وكذلك».
(13) في (ح): «كقدر».
(14) في (ق): «وإن».
(15) الحديث أخرجه مسلم في "صحيحه" (2/1532 رقم1931)، وتقدَّم شرحه في أول كتاب الصيد.
(16) في (ح): «إنما فعل ذاك».(5/221)
الموضع، أو يقال: إنهم أكلوه (1) طريًّا، ثم مَلَّحُوه، وجعلوه وشائِق؛ أي: قدَّدوه قدائد، كما يُفعل باللحم. ويقال فيه: وشقت اللحم، فاتَّشق (2) ، والوَشيقَة: القديدة. وعلى هذا يدلّ قوله: «ونقتطع (3) منه الفدر»؛ أى: القطع الكبار.
وقوله: «وتزوَّدنا من لحمه رشائق»؛ أى: قدائد. وهذا اللفظ يدلّ أيضًا (4) : على أنه يتزوَّد من الميتة إذا خاف ألا يجد غيرها، فإن وجد غيرها، أو ارتجى وجوده لم يستصحبها. وهو (5) قول مالك، وغيره من العلماء.
وقوله: «كنا نَغْتَرف (6) من وَقْب عينها بالقلال الدُّهن»؛ دليل على أنهم كانوا يجيزون الانتفاع بشحوم الميتة، وبالزيت النجس، كما يقوله ابن القاسم، ويجنب (7) المساجد. وخالفه عبد الملك وغيره، فقالوا (8) : لا ينتفع بشيء من ذلك؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في سمن الفأرة: «إن كان مائعًا فلا تقربوه» (9) .
وقوله ( : «هو رزقٌ أخرجه الله لكم (10) »؛ تذكير لهم (11) بنعمة الله تعالى ليشكروه عليها.
وقوله ( : «فهل (12) عندكم شيء منه (13) تطعمونا (14) »؛ وأكله منه ليبيِّن لهم بالفعل جواز أكل ميتة البحر في غير الضرورة، وأنها لم تدخل في عموم الميتة المحرَّمة (15) في القرآن، كما قد بيَّن ذلك بقوله ( : «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته». =(5/222)=@
__________
(1) في (ك): «أكلوا».
(2) في (ق): «فاشتق».
(3) في (ق): «ويقطع».
(4) قوله: «أيضًا» سقط من (ق) و(ن).
(5) في (ن): زاد بعد «وهو» حرف (ل) فأصبحت (وهول».
(6) في (أ): «نقترف».
(7) في (ق): «ويجتنب».
(8) في (أ): «فقال».
(9) أخرجه عبدالرزاق في "المصنَّف"، وعنه أخرجه أحمد (7601) وأبو داود (3842)، وابن الجارود في "المنتقى" (871)، وابن المنذر في "الأوسط" (2/248)، وابن حبان في "صحيحه" (1393)، والدارقطني في "العلل " (7/287)، وابن حزم في "المحلى" (1/140)، والبيهقي (9/353)، وابن عبدالبر في "التمهيد" (9/37-38)، والبغوي في "شرح السنة" (812)، وابن الجوزي في "التحقيق" (2/188).
وأخرجه ابن أبي شيبة (8/280) عن عبد الأعلى السَّامي، وأخرجه أحمد في "المسند" (7177) عن محمد بن جعفر، والدارقطني في "العلل " (7/283) من طريق يزيد بن زريع، والبيهقي (9/353) من طريق عبدالواحد بن زياد. خمستهم: عبدالرزاق، والسَّامي، ومحمد بن جعفر، ويزيد وعبدالواحد، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله ( عن الفارة تقع في السمن؟ فقال: «إن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا فلا تقربوه».
وقد اختلف على معمر في سنده ومتنه:
أما في السند، فقد رواه عبدالرزاق في "المصنَّف" (278)، وعنه أبو داود (3842)، والنسائي في "المجتبى" (4260)، وفي "الكبرى" (4586)، والبيهقي (9/353) عن عبدالرحمن بن بوذيه، عن معمر، عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النبي ( .
وأما في المتن ففي رواية عبد الرزاق: «فلا تقربوه»، وفي رواية ابن زياد: «وإن كان ذائبًا أو مائعًا لم يؤكل». وفي رواية أخرى لابن زياد عن معمر: «وإن كان مائعًا فانتفعوا به، واستصبحوا». وفي رواية عبدالأعلى عن معمر: فأمر بها أن تؤخذ وما حولها فتطرح، ولم يذكر حكم المائع.
وقد حكم جمع من الأئمة على معمر بالخطأ في سنده ومتنه، منهم الترمذي في "سننه"(1798)، وابن أبي حاتم في "علله" (2/758-759)، وغيرهم، حيث نصُّوا على أن الصواب في إسناده هو رواية تلاميذ الزهري له عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله، عن ابن عباس، عن ميمونة.
وأما خطأ معمر في متنه، حيث تفرَّد بتفصيل لم يتابع عليه، فقال: إن كان جامدًا فخذوه، وغن كان مائعًا فلا تأكلوه.
انظر في ذلك "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (21/490 و502 و515 و517)، و"الفتاوى الكبرى" (1/31)، و"تهذيب سنن أبي داود" لابن القيم (10/318)، و"فتح الباري" (1/344).
وهناك رواية لإسحاق بن راهويه، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن عبيدالله، عن ابن عباس، عن ميمونة توافق رواية معمر هذه أخرجها ابن حبان في "صحيحه" (1392).
رواه ابن حبان (4/234 رقم 1392) من طريق إسحاق بن إبراهيم الحنظلي عن سفيان ابن عيينة عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة بنت الحارث أن رسول الله ( سئل عن الفأرة تموت في السمن فقال: إن كان جامدًا فألقوها وما حولها وكلوه وإن كان ذائبًا فلا تقربوه.
وهذا تفرد به إسحاق بن إبراهيم دون بقية أصحاب سفيان بين عيينة في هذا الحديث وقد رواه بقية أصحابه بلفظ: «ألقوها وما حولها فاخرجوه وكلوا سمنكم» ولم يذكروا التفصيل.
وأصل الحديث في الصحيح.
ورواه عبد الرزاق (1/84 رقم 278) عن معمر الزهري عن سعيد بن المسيب عن ابي هريرة به مرفوعًا ومن طريق عبد الرزاق رواه أحمد (2/265) وأبو داود (4/181 برقم 3842) كتاب الأطعمة باب في الفأرة تقع في السمن وابن حبان (4/237 برقم 1393) البيهقي (9/353).
وهذه الطريق صححها الذهلي في الزهريات وحكى الترمذي عقب الحديث (1798) عن البخاري أنه قال في رواية معمر هذه : هي خطأ وقال أبو حاتم في العلل (2/12) عن هذه الرواية إنها وهم والصحيح الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة عن النبي .اهـ.
(10) في (ح): «إليكم»، وفي (ك): «هو رزق الله أخرجه لكم».
(11) في (ح): «تذكيرهم» وتراجع.
(12) في (ق): «هل».
(13) قوله: «منه» سقط من (أ) و(ن).
(14) في (ح) و(ن): «فتطعمونا».
(15) في (ق) و(ن): «المحرمية».(5/222)
وفي هذا (1) للجمهور ردٌّ (2) على من قال بمنع ما طفا من ميتات البحر (3) . وهو: طاووس، وابن سيرين، وحماد بن زيد، وأصحاب الرأي - أبو حنيفة وأصحابه -. وروي عن جابر بن عبدالله أنه قال: يُؤكل ما وجد (4) في حافتي البحر، وما جَزَرَ عنه (5) ، ولا يُؤكل ما طفا (6) . ومثله روي (7) عن ابن عباس (8) ، وكأنهما قصرا (9) الإباحة على حديث أبي عبيدة المذكور. والصحيح: الإباحة في الجميع لقوله ( : «هو الطهور ماؤه، الحل (10) ميتته» (11) ، والله تعالى أعلم.
- - - - -
5 - ومن باب النَّهي عن لحوم الحمر الأهلية
قد (12) تقدم الكلام في (13) تحريم نكاح المتعة في كتاب النكاح. =(5/223)=@
__________
(1) في (ح) و(ق) و(ن): «وفي هذا الحديث».
(2) في (ق) و(ن): «رد للجمهور».
(3) في (ح) و(ق) و(ن): «الماء».
(4) في (ح) و(ك) و(ق) و(ن): «يوجد».
(5) في (ح): «عنه البحر».
(6) أخرجه عبد الرزاق (8662)، وابن أبي شيبة (19760)، والدارقطني (4/269)، والبيهقي (9/255)، وابن حزم في "المحلى" (7/394) من طريق أبي الزبير، عن جابر به.
وقد روي مرفوعًا، ولا يصح، قال البخاري: ليس بمحفوظ - يعني المرفوع -، ويروى عن جابر خلاف هذا، يعني موقوفًا. "علل الترمذي" (1/242). وقال أبو زرعة: الصحيح هو الموقوف "علل ابن أبي حاتم" (2/49). وقد ذكر البيهقي الروايان المرفوعة وأعلَّها "السنن الكبرى" (9/255).
(7) قوله: «روي» سقط من (ك).
(8) أخرجه عبد الرزاق (8659)، وابن أبي شيبة (4/248)، وابن حزم في "المحلى" (7/394) من طريق الأجلح، عن عبدالله بن أبي الهذيل، عن ابن عباس قال: لا تأكل طافيًا. وإسناده لا بأس به، الأجلح فيه كلام، وهو صدوق.
(9) في (ن): «قصدا».
(10) في (ن): «والحل».
(11) تقدم تخريجه قبل قليل.
(12) ي (ق): «وقد».
(13) في (ك): «على».(5/223)
وقوله: «حرَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحوم الحمر الأهلية»؛ وفي الروايات الأخر (1) : «نهى»، والأُولى نصٌّ في تحريمها. وهي مفسِّرة للنَّهي (2) الوارد في الروايات الأخر. وبالتحريم (3) للحوم الحمر (4) الأهلية قال جمهور العلماء سلفًا وخلفًا، وفي مذهب مالك قولٌ بالكراهة المغلظة، والصحيح: الأول؛ لما تقدم. لا يقالُ: كيف يُجْزِم (5) بتحريم أكلها مع اختلاف الصحابة في تعليل النهي الوارد فيها على أقوال؛ فمنهم من قال: نهى (6) عنها لأنَّها لم تُخَمَّس. ومنهم من قال: لأنها كانت حمولتهم. ومنهم من قال: لأنها كانت تأكل الْجَلَّة، كما ذكره أبو داود (7) . ومنهم من قال: لأنها رجس. وهذه كلها (8) ثابتة بطرق (9) صحيحة، وهي متقابلة، فلا تقوم (10) بواحد منها حجَّة. فكيف يجزم (11) بالتحريم، وإذا لم يجزم (12) بالتحريم فأقل درجات النهي أن يحمل على الكراهة؛ لأنَّا نجيب عن ذلك: بأن (13) الصحابيّ قد نصَّ على (14) التحريم كما ذكرناه آنفًا، وبأن أولى (15) العلل ما صرَّح به منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: «إن الله ورسوله ينهيانكم (16) عنها، فإنَّها (17) رجسٌ من (18) عمل الشيطان». والرِّجس: النَّجس. فلحومها نجسة؛ لأنَّها هي التي عاد عليها ضمير « إنها رجس». وهي التي أمر بإراقتها من القدور، وغسلها منها، وهذا حكم النجاسة. فظهر: أن هذه العلَّة أولى من كل ما قيل فيها.
وأما التعليل الذي ذكره أبو داود (19) من حديث غالب بن ابجر (20) ، وهو الذي قال فيه عن النبي (21) ( : «إنما حرمتها عليكم من أجل جَوَالِّ (22) القرية»؛ فحديث لا يصح؛ لأنَّه يرويه عن (23) عبد الله بن عمرو بن لويم (24) ، وهو مجهول، وقد رواه رجل يقال له: عبد الرحمن بن بشير (25) ، وهو أيضًا مجهولٌ على ما ذكره أبو محمد عبدالحق.
وأما =(5/224)=@
__________
(1) في (ق) و(ن): «الأخرى».
(2) في (ح) و(ق): «النهي».
(3) في (ق): «والتحريم».
(4) في (ك): «وبالتحريم للحمر».
(5) في (ن): «يحرم».
(6) قوله: «نهى» سقط من (ن).
(7) وهذا حديث مضطرب الإسناد جدًّا، مداره على عبيد بن الحسن أبي الحسن، وعنه كل من شعبة ومسعر ومنصور وأبي العميس، وهذا تفصيل طرقهم واضطرابها: **ينظر أبو داود تحقيق عواجه (4/301 – 302 رقم 3803) **
أولاً: طريق شعبة واختلف عليه. رواه أبو داود الطيالسي (1305)، ومن طريقه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2/361 رقم1134)، والطحاوي في "المعاني" (4/203 رقم6373)، والطبراني في "الكبير" (18/266 رقم667) عن شعبة، عن عبيد أبي الحسن، عن عبدالله بن معقل، عن عبدالله بن بشر (أو بسر)، عن ناس من مزينة، عن أبجر أو ابن أبجر، فذكره.
ورواه الطحاوي في "المعاني" (4/203 رقم 7372) من طريق روح بن عبادة، عن شعبة، عن عبيد بن الحسن، عن عبدالله بن معقل، عن عبدالرحمن بن بشر أو بشير عن رجال من مزينة من أصحاب النبي ( ، عن غالب بن أبجر به.
ورواه الطحاوي (4/203 رقم 7371) من طريق أبي نعيم، عن شعبة مثله، لكن قال: عبدالرحمن بن معقل.
ورواه ابن أبي شيبة (5/122 رقم24330)، وعنه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2/360 رقم1131) عن وكيع، عن شعبة، عن عبيد بن الحسن، عن بن معقل، عن إناس من أصحاب مزينة الطاهرة عن غالب بن أبجر به. فهذا الاختلاف على شعبة.
ثانيًا: طريق مسعر بن كدام. وقد اختلف عليه أيضًا.
رواه الطبراني (18/266 رقم 665) من طريق وكيع، عن مسعر، عن عبيد بن الحسن، عن ابن معقل المزني، عن إناس من مزينة الطاهرة، عن غالب، مثل رواية وكيع عن شعبة.
ورواه أبو داود (4/164 رقم3810)، والبيهقي (9/332)، والطحاوي (4/203 رقم6370)، والطبراني (18/266 رقم 666) من طرق عن أبي نعيم، عن مسعر، عن عبيد بن الحسن، عن ابن معقل، عن رجلين من مزينة أحدهما عن الآخر أحدهما عبد الله بن عمرو بن عويم، والآخر غالب بن أبجر، قال مسعر: أرى غالبًا الذي سأل النبي ( .
ورواه ابن أبي عاصم (2/361 رقم1133)، والطبراني (18/267 رقم 668) من طريق محمد بن أبي عمر العدني، عن ابن عيينة، عن مسعر، عن عبيد بن الحسن، عن عبدالله بن معقل: أن رجلين من مزينة أتيا النبي ( فقالا...، وفي رواية الطبراني: عن رجل، عن رجلين من مزينة به. فهذا هو الاختلاف على مسعر.
ثالثًا: منصور، وقد اختلف عليه أيضًا.
رواه أبو داود (3/356 رقم 3809) من طريق إسرائل، عن منصور، عن عبيد أبي الحسن، عن عبد الرحمن - قال أبو داود: هو بن معقل -، عن غالب بن أبجر به.
ورواه ابن أبي شيبة (5/122 رقم24329)، ومن طريقه ابن أبي عاصم (2/360 رقم1132)، والطبراني (18/267 رقم 670) عن شريك، عن منصور، عن عبيد بن الحسن، عن غالب به، لكن عند ابن أبي شيبة: غالب بن أبجر، وعند الآخرين: غالب بن ذريح.
ورواه الطبراني (18/267 رقم 669) من طريق زكريا بن يحيى زحموية، عن شريك، عن منصور، عن عبيد بن الحسن، عن غالب بن أبجر بن ذريح: أن رجلاً أتى النبي ( ، فذكره.
رابعًا: أبو العميس.
ورواه ابن أبي عاصم تعليقًا (2/361 )، والطبراني (18/265 رقم 664) من طريق عمرو بن حفص بن غياث، عن أبيه، عن أبي العميس، عن عبيد بن الحسن، عن عبد الله بن معقل، عن غالب بن أبجر به.
قال البيهقي (9/332) بعد ذكر الاختلاف في إسناده: «ومثل هذا لا يعارض به الأحاديث الصحيحة التي قد مضت مصرحة بتحريم لحوم الحمر الأهلية وبالله التوفيق».
ونقل محقق الطبراني عن النووي قال: «فهذا الحديث مضطرب مختلف الإسناد شديد الاختلاف، لو صح حمل على الأكل منها فى حال الإضطرار».
(8) قوله: «كلها» لم يتضح في (ح).
(9) في (ق): «بطريق».
(10) في (ق) و(ن): «يقوم».
(11) في (ن): «يحرم».
(12) في (ن): «يحرم».
(13) في (ن): «فإن».
(14) في (ك): «على ذلك».
(15) في (ن): «أول».
(16) في (ك): «ينهياكم»، وفي (ق) و(ن): «ينهاكم».
(17) في (ن): «وأنها».
(18) في (ق): «وأنها من عمل».
(19) يعني: الحديث الذي تقدم تخريجه.
(20) في (ن): «أبجة» وفي (ن): «انحر».
(21) في (ق): «عن رسول الله».
(22) كذا ضبطها ابن الأثير في "النهاية" (1/288)، وقال: «الجوالُّ بتشديد اللام: جمع جالَّة، كسامّة وسوامّ» وكتب ناسخا (أ) و(ك) على هذه الكلمة رمزًا لا أدري ما هو.
(23) قوله: «عن» ليس في (أ) و(ح) و(ق) و(ن).
(24) قوله: «لُوَيم»: صوبه ناسخ (أ) في الهامش: «عُدَيم»، ثم عاد فكتب فوقها: «ط»، يعني خطأ، وكتب فوق «لويم»: «صح».
(25) في (أ) و(ك) و(ق) و(ن): «بشر».(5/224)
ما عدا ذلك من العلل التي ذكرنا (1) فمتوهمة مقدَّرة، لا يشهد لها دليل. فصحَّ ما قلناه، والحمد لله. ثم نقول: ولا (2) بُعْد في تعليل تحريمها بعلل مختلفة، كل واحدة منها مستقلة بإفادة التحريم. وهو الصحيح من أحد القولين للأصوليين. وأمَّا تعليل من علَّلها بعدم التخميس فغير صحيح؛ لأنَّه: يجوز أكل الطعام والعلوفة من الغنيمة قبل القسمة (3) اتفاقًا، لاسيما في حالة (4) المجاعة، والحاجة.
وقد تقدم القول في الأَنَسيَّة، وأنها تقال (5) بفتح الهمزة والنون. وهي الأشهر عند المحققين من أهل التقييد. ويقال أيضًا: بكسر الهمزة وسكون النون. وكلاهما منسوب إلى الإنس.
وقوله: «أن أكفؤوا القدور»؛ الرواية المشهورة بوصل الألف، وفتح الفاء من: كفأت القدر إذا قلبتها، وقد روي بقطع الهمزة وكسر الفاء من: أكفأت. قال ابن السكيت (6) وابن قتيبة: هما لغتان بمعنى واحد. وقال الأصمعي: كفأت الإناء، =(5/225)=@
__________
(1) في (ح) و(ق) و(ن): «ذكرناها».
(2) في (ح) و(ق) و(ن): «لا» بلا واو.
(3) في (ح): «والعلوفة قبل التخميس».
(4) في (ح): «حال».
(5) في (ك): «وأنه يقال».
(6) في (ك): «السكين».(5/225)
وكلَّ شيء قلبته، ولا يقال: أكفأت، وقيل: كفأتُ القِدْر: كببتها فخرج (1) ما فيها، وأكفأتها: أملْتها.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في القدور: «أهريقوها، واكسروها»، كان الأمر بكسر هذه =(5/226)=@
__________
(1) في (ح) و(ك): «ليخرج»، وكتب في حاشية (ح): «فخرج».(5/226)
القدور إنما صدر منه بناءً على أن هذه القدور لا ينتفع بها مطلقًا، وأن الغسل لا يؤثر فيها لما يسري فيها من النجاسة (1) ، كما نقوله في أواني الخمر المضرَّاة (2) ، فلما قال له الرجل: «أنهريقها، ونغسلها»، فهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنها مِمَّا تَنْغَسل (3) ، فأباح له ذلك، فتبدَّل الحكم لتبَدُّل سببه. ولهذا في الشريعة نظائر. وهي تدل على أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يحكم بالإجتهاد فيما لم يُوح إليه فيه شيء. وقد تقدم التنبيه على هذا في في الحجِّ عند قول العباس: «إلا الإذخر». وفيه دليلٌ: على أن إزالة النجاسات إنما تكون بالماء، خلافًا لأبي حنيفة، وقد تقدم. =(5/227)=@
__________
(1) في (ح) و(ك): «النجاسات».
(2) الْمُضَرَّاة: الإناء الضاري: الذي ضُرِّي بالخمر، فإذا جعل فيه النبيذ صار مسكرًا، وأصله من الضراوة، وهي الدربة والعادة. "لسان العرب" (14/482).
(3) في (ح): «تغسل»، و في (ك): «ينغسل».(5/227)
- - - - -
ومن باب إباحة لحوم الخيل
قول جابر: «وأذن في لحوم الخيل»، وفي الرواية الأخرى: «أكلنا زمن خيبر الخيل»، وقول أسماء: «نحرنا فرسًا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكلناه»؛ كلها ظاهرةٌ في إباحة لحوم الخيل، وبذلك قال الجمهور (1) من الفقهاء، والمحدِّثين، والسَّلف كالحسن، وعطاء، وحمَّاد بن أبي سليمان، وسعيد بن جبير، والشافعي، والثوري، وأبي يوسف، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وابن المبارك. وذهبت طائفة إلى كراهتها. منهم: ابن عباس (2) ، ومجاهد، ومالك، والأوزاعي، وأبو حنيفة، ومحمد بن الحسن، وأبو عبيد: متمسكين بقول الله تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} (3) . وبتقرر الاستدلال بها من وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى ذكر الأنعام التي هي: البقر، والإبل، والغنم، في صدر الآية، ثم عدَّد جميع ما ينتفع به منها، ومن جملتها الأكل. ثمَّ ذكر بعدها: الخيل، والبغال، والحمير، وذكر منافعها، ولم يذكر فيها الأكل، فلو كان الأكل جائزًا لكان مذكورًا فيها؛ لأنَّ مقصود الآية التذكير بالنعم، وتعديد ما أنعم الله به علينا في هذه الحيوانات من الفوائد، ثم إن الأكل من أهمِّ الفوائد، فلو كان مشروعًا فيها لما أغفله مع القصد إلى تعديدها، وذكر الامتنان بآحادها.
الثاني: أن الله تعالى قد سوي بين الخيل، والبغال، والحمير في العطف والنَّسق، والبغال والحمير لا تؤكل بالاتفاق على ما تقدَّم (4) ، فالخيل لا تؤكل، ثم اعتذر (5) القائلون بالكراهة عن الحديث بأن (6) ذلك كان في حالة مجاعة وشدَّة حاجة، =(5/228)=@
__________
(1) في (أ): «جمهور».
(2) أخرجه ابن ابي شيبة (5/121)، وابن جرير الطبري (14/82) من طريق ابن أبي ليلى عن الممنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وأخرجه ابن ابي شيبة (5/121)، وابن جرير الطبري (14/82) من طريق هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن مولى نافع بن علقمة، عن ابن عباس.
وقال ابن حزم في "المحلى" (7/409): «وما نعلم عن أحد من السلف كراهة أكل لحوم الخيل إلا رواية عن ابن عباس لا تصح؛ لأنها عن مولى نافع بن علقمة وهو مجهول، لم يذكر اسمه، فلا يدرى من هو».
قلت: والإسناد الأول فيه محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى كانسيء الحفظ مضطرب الحديث، ولذا قال الحافظ في "الفتح"(9/650): «وأما ما نقل عن ابن عباس من كراهتها - أي لحوم الخيل-، فأخرجه ابن أبي شيبة وعبدالرزاق بسندين ضعيفين».
وأثر ابن عباس هذا ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (5/112)، وعزاه إلى ابن أبي شيب وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.
(3) الآية (8) من سورة النحل.
(4) في (ح): «على ما مرَّ»، وقوله: «بالاتفاق على ما تقدم» سقط من (ك).
(5) في (ح): «اعتذار».
(6) في (ك): «أن».(5/228)
فأباحها لهم، وكانت الخيل بالإباحة أولى من البغال، والحمير لخِفَّة الكراهة فيها، فكانت (1) بالإباحة أولى. ويستمر (2) من هذا: أن المضطرَّ مهما وجد شيئين أحدهما أغلظ في المنع، عدل إلى الأخف، واجتنب الأثقل، وكذلك يفعل في المحرمات؛ إذا كان أحدهما - مثلاً - مُتَّفقًا على تحريمه، والثاني مختلفًا فيه، فينبغي للمضطرِّ أن يأكل المختلف فيه. وقد شذَّت طائفة منهم، فقالت بتحريم لحوم الخيل. منهم: الحكم بن عتيبة (3) ، وفيه بُعْدٌ؛ لأنَّ الآية لا تدل عليه، والأحاديث تخالفه (4) . والله تعالى أعلم.
وقول جابر: «أكلنا يوم خيبر حمر الوحش»؛ يعني: أنهم صادوها، ولا خلاف في جواز كلها فيما علمته؛ لأنَّها من جملة الصَّيد الذي أباحه الله تعالى في كتابه، وعلى لسان رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - . =(5/229)=@
__________
(1) في (أ): «كانت».
(2) في (ح): «ويستفهم».
(3) في (ح): «عيينة».
(4) في (أ): «مخالفة».(5/229)
- - - - -
ومن باب أكل الضبِّ
وهو جُرْذونٌ كبير يكون بالصحراء (1) . و «الْمَحْنُوذ»: المشوي بالرَّضف، وهي الحجارة المحمَّاة، وهو الحنيذ أيضًا. وقيل: المشوي مطلقًا. يقال: حَنَذَتْه النار، والشمس؛ إذا شوته.
وقوله في الضبِّ: «لست بآكله، ولا محرِّمه (2) »، وقول خالد: «أحرامٌ الضبُّ يا رسول الله (3) ؟ فقال: لا»؛ دليل على أنه ليس بحرام. وهي تبطل قول من قال بتحريمه. حكاه المازري عن قومٍ، ولم يُعيِّنهم. وحكى ابن المنذر عن عليٍّ رضي الله عنه النهي عن أكله (4) . والجمهور من السلف والخلف على إباحته لما ذكرناه، وقد كرهه آخرون: فمنهم من كرهه استقذارًا، ومنهم من كرهه مخافة أن يكون مما مسخ. وقد جاء في هذه الأحاديث التنبيه على هذين التعليلين. وقد جاء =(5/230)=@
__________
(1) في (ح) و(ك): «في الصحراء».
(2) في (ح): «ولا محرمه».
(3) قوله: «يا رسول الله» سقط من (أ).
(4) .....(5/230)
في غير كتاب مسلم: أنه - صلى الله عليه وسلم - كرهه لرائحته، فقال: «إني تحضرني (1) من الله حاضرة» (2) ، يريد: الملائكة. فيكون هذا كنحو ما قال في الثوم: «إِنِّي أناجي من لا تناجي)) (3) .
قال الشيخ: ولا بُعْد في تعليل كراهة الضب بمجموعها.
وإنما كان يُسمَّى له الطعام إذا وُضع بين يديه ليقبل على ما يحب، ويترك ما لا يحب؛ فإنَّه - صلى الله عليه وسلم - ما كان يذمُّ ذواقًا، فإن أحبَّه أكله، وإن كرهه تركه، كما فعل بالضبِّ.
وقوله: «لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه»؛ أي: أكرهه. يقال: عِفْت الشيء أعافه عيفًا: إذا كرهته. وعِفْتُه أُعِيفُه عيافة (4) : من الزجر. وعافَ الطيرُ =(5/231)=@
__________
(1) في (ك): «يحضرني».
(2) رواه مالك في "الموطأ" (2/967) عن عبد الرحمن بن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي صعصعة، عن سليمان بن يسار: أنه قال: دخل رسول الله ( بيت ميمونة بنت الحارث، فإذا ضِبَاب فيها بيض، ومعه عبد الله بن عباس وخالد بن الوليد.
وهذا مرسل.
قال ابن عبدالبر في "التمهيد"(19 ص/235): «ولم يختلف الرواة للموطأ في إسناد هذا الحديث وإرساله على حسبما ذكرناه عن يحيى، وقد رواه بكير بن الأشج، عن سليمان بن يسار، عن ميمونة».
ثم قال أيضًا: «أما قوله في هذا الحديث فقال: إني تحضرني من الله حاضرة؛ فعناه إن صحت هذه اللفظة؛ لأنها لا توجد هذا الحديث، معناها: ما ظهر في حديث ابن عباس وخالد بن الوليد عن النبي ( أنه قال فيه: لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه».
(3) تقدم في باب النهي عن إتيان المساجد لمن أكل الثوم والبصل، من كتاب الصلاة.
(4) من قوله: «عيفًا....» إلى هنا سقط من (ح).(5/231)
يَعيفُ: إذا حام على الماء ليشرب.
وقوله: «بأرض قومي»؛ ظاهره: أنه لم يكن موجودًا فيها، وقد حكي عن بعض العلماء: أن الضبَّ موجودٌ عندهم بمكة؛ غير أنه قليل، وأنهم لا يأكلونه. والله تعالى أعلم.
وقول خالد: «فاجتررته، فأكلته ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر، فلم يمنعني»؛ هذا تقرير منه - صلى الله عليه وسلم - على جواز أكله، ولو كان حرامًا لم يقرَّ عليه، ولا أُكِلَ على مائدته، ولا بحضرته، فثبت: أنه حلال مطلقٌ لعينه. وإنَّما كرهه لأمور خارجةٍ عن عينه، كما نصَّ عليها فيما ذكرناه آنفا.
وقول يزيد بن الأصم: «دعانا عروسٌ بالمدينة، فقرَّب إلينا ثلاثة عشر ضبًّا»؛ دليل: على أن أكلهم للضباب كان فاشيًا عندهم، معمولاً به في الحاضرة، وفي البادية، ولذلك قال عمر t: إنه طعام عامة الرُّعاء، ولو كان عندي طعمته.
وإنكار ابن عباس على الذي نقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا آكله، ولا أنهى عنه، ولا أحرِّمه»؛ إنما كان لأنَّه فهم من القائل: أنه اعتقد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحكم في الضبِّ بشيء، ولذلك قال له: بئس ما قال الشيخ، ما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا محرِّمًا ومحلِّلاً. ثم بيَّن له بعد ذلك دليل أنَّه (1) - صلى الله عليه وسلم - أباحه، فذكر (2) الحديث. =(5/232)=@
__________
(1) في (ك): «الدليل على أنه».
(2) في (ح): «ودكر».(5/232)
و «الخوان»: ما يجعل عليه الطعام، يقال (1) بكسر الخاء وضمها، وجمعه: أَخْوِنَة وخُونٌ. ويُسمَّى بذلك إذا لم يكن عليه طعام، وإذا وضع عليه الطعام وسُمِّي (2) : مائدة.
وفيه (3) دليل: على جواز اتخاذ الأخونة، والأكل عليها؛ فإنَّه (4) - صلى الله عليه وسلم - قد كان له خوان، وأُكِل عليه بحضرته، على ما اقتضاه ظاهر هذا الحديث. وما روي: أنه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابهرضي الله عنهم لم تكن لهم موائد، وأنَّهم (5) كانوا يأكلون على السُّفَرِ، فذلك كان (6) غالب أحوالهم (7) . والله تعالى أعلم.
وقول ابن عباس: «أهدت خالتي أمُّ حُفيد (8) »؛ مصغر بغير هاء. كذا (9) صوابه؛ لأنَّه الأشهر. واسمها: هزيلة (10) . وهكذا ذكره أبو عمر في "الصحابة"، وهي رواية النَّسفي (11) في البخاري، وما عدا هذه الرواية (12) فاضطراب بين (13) الرواة. فمنهم من قال: حُفيدة. ومنهم من قال: أمّ حُفيدة. ومنهم من قال: أمّ حُميد (14) . وعند (15) بعض رواة البخارى: أمُّ حذيفة. والأول الصواب. والله تعالى أعلم.
و « الأَقِطُ»: اللَّبن المجبَّن (16) الْمُجَّفف. =(5/233)=@
__________
(1) في (ح): «يسمى».
(2) في (ك): «يسمى».
(3) في (ح): «فيه».
(4) في (أ): «بأنه».
(5) في (ك): «وإنما».
(6) قوله: «كان» سقط من (ح).
(7) أخرجه البخاري في "صحيحه"(5070) باب الخبز المرقق والأكل على الخوان والسفرة. عن أنس رضي الله عنه قال: ما علمت النبي ( أكل على سكرجة قط، ولا خبز له مرقق قط، ولا أكل على خوان قط. قيل لقتادة: فعلام كانوا يأكلون؟ قال: على السُّفر.
(8) في (أ): «جعيد».
(9) في (ق): «هكذا» وفي (ن): «هاها كذا».
(10) في (أ): «مزيلة» وفي (ن): «هذيلة».
(11) في (ن): «النسيقي».
(12) في (ن): «الروايات».
(13) في (ك): «من».
(14) في (ح): «أم حفيد».
(15) في (ق): «وعن».
(16) في (ح): «الجبن».(5/233)
- - - - -
باب ما جاء في أن الضب والفأر يُتوقع أن يكونا مما مسخ (1)
وقول الأعرابي: «إنِّي (2) في غائطٍ مَضَبَّة»، الغائط: المنخفض من الأرض، ومضبَّة؛ أي (3) : ذات ضِباب كثيرة (4) ، وهي بفتح الميم والضاد كقولهم أرض =(5/234)=@
__________
(1) من قوله: «باب ما جاء ... إلى هنا» ليس في (أ) و(ك) و(ح) و(ق) و(ن).
(2) قوله: «إني» سقط من (ح) و(ك).
(3) قوله: «أي» سقط من (ن).
(4) في (ح): «كثير».(5/234)
مَسْبَعة، ومأسدة؛ أي: كثيرةُ ذلك. قال سيبويه: مَفْعَلَة -بالهاء والفتح - للتكثير، وقد حكى غيره في مَضَبَّة: كسر الميم والضاد، والأول المعروف. و « السَّبْط»: واحد الأسباط، وهم كالقبائل في العرب.
وقوله ( : «إن الله تعالى لعن - أو: غضب - على سبط من بني إسرائيل، فمسخهم دوابَّ يَدِبُّون، ولا أدري لعل هذا منها»؛ هذا منه - صلى الله عليه وسلم - تَوقُّعٌ، وخوف لأن يكون الضَّبُّ من نسل ما نسخ (1) من الأمم. ومثله ما ذكره في الفأرة لما قال: «فُقِدت أمَّة من بني إسرائيل لا أدرى ما فَعَلت، ولا أراها إلا الفأر (2) »؛ كان هذا منه - صلى الله عليه وسلم - ظنًّا، وحدسا (3) قبل أن يوحى إليه: «إن الله تعالى لم يجعل لمسخٍ نسلاً» (4) . فلما أوحي إليه (5) بذلك زال عنه ذلك التخوُّف، وعلم أن الضَّبَّ، والفأر ليسا من نسل ما مُسِخ. وعند ذلك أخبرنا بقوله: «إن الله لم يجعل لمسخٍ نسلاً» (6) .
وقد تقدَّمت النصوص بإباحة (7) أكل الضَّبِّ، وأما الفأر: فلا يأكل (8) ، لا (9) لأنه مسخ، بل لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد (10) استخبثه، كما قد استخبث الوزغ، وأمر بقتله، وسَمَّاه: فويسقًا. وإذا ثبت ذلك فقد تناوله (11) قوله تعالى: {ويحلُّ (12) لهم الطيباتِ ويحرم عليهم الخبائث} (13) ، فيكون أكلها حرامًا.
وأما الْهِرَّ: فقد تناوله (14) عموم تحريم كل ذى ناب. فإنَّه من ذوات الأنياب على ما تقدم. وقد جاء فيه حديث =(5/235)=@
__________
(1) في (ك) و(ح) و(ق): «مُسخ».
(2) في (ح) و(ق): «الفأرة».
(3) في (ن): «وحديثًا».
(4) سيأتي تخريجه في باب الآجال محدودة والأرزاق مقسومة، من كتاب القدر.
(5) قوله: «إليه» سقط من (ن).
(6) زاد بعدها في (أ): «فلما أوصي إليه».
(7) في (ن): «بإجابة».
(8) في (ق) و(ن): «فلا يؤكل».
(9) قوله: «لا» سقط من (ح) و(ق) و(ن).
(10) قوله: «قد» سقط من (ك) و(ق).
(11) في (أ): «تأوله».
(12) في (أ): «يحل».
(13) الآية (157) من سورة الأعراف.
(14) من قوله: «قوله تعالى...» إلى هنا سقط من (ح).(5/235)
صحيح ذكره أبو داود (1) من حديث جابر بن عبدالله قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل الْهِرِّ، وأكل ثمنه.
وقول أبي هريرة: «آقرأ التوراة ؟» هو بمد همزة أَقرأُ؛ لأنَّها للإستفهام على جهة الإنكار على كعب لَمَّا كرَّر عليه السؤال بقوله: أنت سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ وقد بيَّنه في الرواية الأخرى حيث قال: «أَأُنْزِلَتْ عليَّ التوراة ؟!. وكان هذا من أبي هريرة تعريضًا بكعب، فإنَّه كان يقرأ التوراة، وكان أكثر أحاديثه منها. وأما أبو هريرة فما كان يُحَدِّثُ إلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . =(5/236)=@
__________
(1) أخرجه عبدالرزاق في "المصنَّف" (8749) ومن طريقه أخرجه أحمد في "المسند" (14166)، وعن أحمد بن حنبل أخرجه أبو داود في "سننه" (3/753 رقم3480) كتاب البيوع، و (4/161 رقم 3807)، وأخرجه عبد بن حميد (1044)، واليخاري في "التاريخ الكبير" (6/157)، والترمذي في "سننه" (3/578 رقم 1280) كتاب البيوع، وابن ماجه في "سننه" (2/1082 رقم3250) كتاب الصيد، والدارقطني في "سننه" (4/290)، والحاكم في "المستدرك" (2/34)، والبيهقي في "الكبرى" (6/10). كلهم من طريق عبدالرزاق، عن عمر بن زيد الصنعاني، عن أبي الزبير، عن جابر به.
قال الترمذي: «هذا حديث غريب، وعمر بن زيد لا نعرف كبيرَ أحدٍ روى عنه غير عبدالرزاق». وأورد ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/596)، وزاد: «وقال ابن حبان: عمر بن زيد ينفرد بالمناكير عن المشاهير حتى خرج عن حد الاحتجاج به».(5/236)
- - - - -
ومن باب أكل الجراد والأرنب
قوله: «غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات نأكل الجراد»؛ ظاهره جواز أكل الجراد مطلقًا، ولم يُختلف في جواز أكل الجراد على الجملة، لكن اختلف فيه؛ هل يحتاج إلى سبب يموت به أم لا يحتاج؟ فعامَّة الفقهاء: على أنه لا يحتاج إلى ذلك. فيجوز أكل الميت (1) منه. وإليه ذهب ابن عبدالحكم، ومطرِّف من أصحابنا. وذهب مالك: إلى أنَّه لا بدَّ (2) من سبب يموت به، كقطع رؤسه، أو أرجله (3) ، أو أجنحته إذا مات من ذلك، أو يشوى، أو يُصْلَق (4) . وقال اللَّيث: يُكره أكل ميت الجراد إلا ما أخذ حيًّا ثم مات، فإن أخذه ذكاته، وإليه ذهب سعيد بن المسيب، والجمهور تمسُّكًا بظاهر حديث ابن أبي أوفى المتقدم، وبما ذكره ابن المنذر: أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يتهادين الجراد فيما بينهن (5) . وبما ذكره الدارقطني (6) عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أحل لنا ميتتان: الحوت والجراد، ودمان: الكبد والطحال»، على أنه لا يصحُّ لأنه من رواية عبدالله، وعبدالرحمن ابني =(5/237)=@
__________
(1) في (ك): «الميتة».
(2) في (ح) و(ك): «لا بد له».
(3) في (ك): «ورأسه أو رجله».
(4) ويروى بالسين، وهما لغتان. انظر "النهاية" (3/48).(5/237)
زيد بن أسلم، ولا يحتج بحديثهما. ومن الجمهور من رأى: أنها (1) من صيد البحر، وعلى هذا فيجوز للمُحرِم صيدها، من غير جزاء، ويجوز أكل ما صاد المجوسي منه، وإليه ذهب النَّخعي، والشافعي، والنعمان، وأبو ثور. فأما (2) مالك والليث فرأيا: أن الجراد من حيوان البر فميتته محرَّمة؛ لأنَّها داخلة في عموم قوله: {حرمت عليكم الميتة} (3) ، ولم يصح عندهم: «أحلّت لنا ميتتان»، وقالا بموجب حديث (4) ابن أبي أوفى، ولما ذكره ابن المنذر بشرط الذكاة؛ إذ ليسا بنصَّين. وإذا كان كذلك فلا بُدَّ فيها (5) من ذكاة إلا أن ذكاة كل شيء بحسب ما يتأتى فيه. فرأى مالك: أنه لا بدَّ من فعلٍ يُفعل فيها حتى تموت (6) بسببه. ررأى اللَّيث: أن أخذها وتركها إلى أن تموت سببٌ يبيحها. ولم ير مالك ذلك لأنه لم يفعل فيها شيئًا. وقال أشهب: لا يؤكل الجراد إلا إذا قُطعت رؤسه، أو يُطرح حيًّا في نار، أو ماء. فأما قطع أرجله، وأجنحته فلا يكون ذلك ذكاة عنده؛ وإن مات بسببه، وعلى هذا: فلو صُلِقَ الحيُّ منه مع الميت فقال أشهب: يُطرح المجميع، وقال سحنون: يؤكل الأحياء، وتكون الموتى بمنزلة خشاش الأرض يموت (7) في القِدْر.
قال الشيخ: وهذا من سحنون ميل إلى أنه من الحيوان الذي ليس له نفسٌ سائلةٌ. ويلزم على هذا ألا ينجس بالموت، ولا ينجس ما مات فيه. وحينئذ يجوز أكله ميتًا. والله تعالى أعلم.
وقول أنس: «اسْتَنْفَجْنا أرنبًا»؛ هذا الحرف صحيح روايته ومشهورها عند أهل التقييد واللغة بالنون والفاء، لا يعرفرن غيره. ومعناه: اسْتَثَرنا الأرنب وأخرجناه من مكمنه. يقال: نفَجت الأرنب إذا وثبت. قال الهروي: أنفجتُ =(5/238)=@
__________
(1) في (ح): «أنه»، وفي (ك): «أنه».
(2) في (ح): «وأما».
(3) الآية (3) من سورة المائدة.
(4) في (ح): «حديثي».
(5) قوله: «فيها» سقط من (ك).
(6) في (ك): «حتى تموت».
(7) في (ح): «تموت».(5/238)
الأرنبَ (1) من جحره فنفج؛ أي: أثرتُه: فثار. وقد وقع للمازري: «فبعجنا» بالباء بواحدة من تحتها، والعين المهملة. وفسَّره: بشققنا، من: بعج (2) بطنه؛ إذا شقَّه، وهذا لا يصحُّ رواية ولا معنى، وإنما هو تصحيف، وكيف يَشُقُّون بطنها، ثم يسعون خلفها ؟!
و « السَّعي»: الجرى. و «اللُّغوب»: التعب (3) والإعياء. وجمهور السَّلف والخلف من الفقهاء، وغيرهم على العمل بحديث أنس هذا، في جواز أكل الأرنب. وقد حكي عن عبدالله بن عمرو بن العاصي تحريمه. وعن ابن أبي ليلى كراهته. وقد ذكر عبدالرزاق من حديث عبدالكريم أبي أمية (4) - وهو ضعيف - قال: سأل جريرُ بن أنس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأرنب فقال: «أُنبئت أنها تحيضُ، لا آكُلُها» (5) . وهو منتطع. وذكر النسائي (6) أيضًا عن موسى بن طلحة، قال: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بأرنب قد شواها رجل، وقال: يا رسول الله! إني رأيت بها دمًا. فتركها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يأكلها، وقال لمن عنده: «فإني لو اشتهيتها أكلتها». وهذا =(5/239)=@
__________
(1) من قوله: «الأرنب فأخرجناه....» إلى هنا سقط من (ح).
(2) في (أ): «نفخ».
(3) في (ح): «والتعب».
(4) في (ح) و(ك): «عبدالكريم بن أمية».
(5) الحديث أخرجه عبدالرزاق في "المصنَّف" (8699) عن إبراهيم بن عمر، عن عبدالكريم بن أبي أمية، عن الحكم بن عتيبة: أن رجلاً حدثه عن أبي مسعود الأنصاري: أن أعرابيًّا جاء بأرنب قد أصابها أو ذبحها بمروة، فقال: يا رسول الله! إني أصبتها وبها شيء من دم، أراها تحيض، فقال: «كلوا»، فقالوا: ما يمنعك منها؟ قال: إني صائم، قال النبي ( للأعرابي: «إن كنت صائمًا لا محالة، فصم ثلاثًا من كل شهر، واجعلهنَّ البيض».
قال عبدالكريم: وسأل جرير بن أوس الأسلمي النبيَّ ( عن الأرنب فقال: «لا آكلها أُنبئت أنها تحيض».
ومن طريق عبدالرزاق أخرجه ابن حزم في "المحلى" (7/433)، وهذا إسناد ضعيف، فيه: عبدالكريم بن أبي المخارق، وفيه رجل مجهول، وآخره مرسل.
وقد وقع اختلاف ضبط اسم جرير، فقال ابن حجر في "الإصابة" (1/78): «ذكر أبو محمد بن حزم من طريق عبدالكريم أبي أمية قال: سأل جزء بن أنس السلمي، فذكره. وقال أبو عمر: جُزي بجيم وراء مصغرًا». قال ابن حجر: «وليس إسناده بقائم يدور على عبدالكريم أبي أمية، وذكره أيضًا في جَزِي بفتح الجيم وكسر الزاي بعدها ياء تحتانية، وأظن أنه هو الذي ذكره ابن حزم».
(6) أخرجه النسائي في "المجتبى" (4/224 رقم2429)، وفي "الكبرى" (2/138 رقم2736) من طريق طلحة بن يحيى، عن موسى بن طلحة مرسلاً، كما قال المصنف. وقد اختلف فيه على موسى بن طلحة.
فرواه أبو عوانة، عن عبدالملك بن عمير، عن موسى بن طلحة، عن أبي هريرة.
أخرجه أحمد في "ألمسند" (8464)، والنسائي (4/219 و222)، وفي "الكبرى" (2/136 رقم2729)، وابن حبان في "صحيحه" (8/410 رقم3650). ورواه يحيى بن سام، عن موسى بن طلحة، عن أبي ذر.
ورواه حكيم بن جبير، عن موسى بن طلحة، عن يزيد بن الحونكية، عن أبي ذر.
ورواه أبو الأحوص، عن طلحة بن يحيى، عن موسى بن طلحة، عن طلحة.
قال الدارقطني في "العلل" (4/205): «والمحفوظ: عن موسى بن طلحة، عن ابن الحونكية، عن أبي ذر».(5/239)
مرسل. وليس في شيء من الأحاديث - وإن ضَعُفَت - ما يدلّ على تحريم الأرنب. وغاية هذين الخبرين أستقذارها مع جواز أكلها. فأمَّا من حَرَّم أكلها: فلا متمسك له فيما علمناه، والحديث الأول حُجَّة عليه.
- - - - -
ومن باب الأمر بتحسين الذبح والنهي عن صبر البهائم
قوله: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء»؛ أي: أَمَر به، وحضَّ عليه. وأصل كتب: ثبت (1) وجمع. ومنه قوله تعالى: {وكتب فى قلوبهم الإيمان} (2) ؛ أي: ثبَّته وجمعه. ومنه: كتبتُ البغلة؛ إذا جمعتَ حياها (3) . و «على» هنا بمعنى: «في»، كما قال تعالى: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} (4) ؛ أي: في ملكه. ويقال: كان كذا (5) على عهد فلان؛ أي: في عهده. حكاه القتبي.
و «الإحسان» هنا بمعنى: الإحكام، والإكمال، والتحسين في الأعمال المشروعة، فحقُّ من شرع في شيء منها أن يأتي به (6) على غاية كماله، ويحافظ على آدابه المصححة، والمكمِّلة، وإذا فعل ذلك قُبِل عمله، وكَثُر ثوابه.
و «القِتلة» بكسر القاف، هي الرواية، وهي: هيئة القتل.
و « القَتلة» بالفتح: مصدر قتل المحدود. وكذلك: الرِّكْبَة والْمِشْيَةُ: والْجِلْسَة (7) ، وما أشبهها (8) : الكسر للاسم (9) ، والفتح للمصدر. والذَّبح أصله: الشقُّ، والقطع. قال (10) : =(5/240)=@
__________
(1) في (ح): «أثبت».
(2) الآية (22) من سورة المجادلة.
(3) في (أ) كتب فوقها: «قصر»، إشارة إلى عدم المد.
(4) الآية (102) من سورة البقرة.
(5) قوله: «كذا» سقط من (ح).
(6) في (أ): «أي يأتي بها».
(7) قوله: «والجلسة» سقط من (ح) و(ك).
(8) في (ك): «أشبههما».
(9) في (ح): «الاسم».
(10) هو الشاعر منظور بن مرثد السدي. "لسان العرب" (2/438).(5/240)
كأنَّ بين فَلِّها والفَكِّفأرةَ مِسْكٍ ذُبِحتْ في (1) سُكِّ
وإحسان الذبح في البهائم: الرفق بالبهيمة، فلا يصرعها بعنف، ولا يجرُّها من موضع إلى موضع، وإحداد الآلة، وإحضار نيَّة الإباحة، والقُرْبَة (2) ، وتوجيهها إلى القبلة، والتَّسمية، والإجهاز، وقطع الودجين والحلقوم، وإراحتها، وتركها إلى أن تبرد، والإعتراف لله تعالى بالمنَّة، والشكر له على النعمة بأنه سخر لنا ما لو =(5/241)=@
__________
(1) قوله: «في» سقط من (ك).
(2) في (أ): «أو القربة».(5/241)
شاء لسلطه علينا، وأباح لنا ما لو شاء لحرَّمه علينا. وقال ربيعة: من إحسان الذبح: ألا تذبح بهيمة، وأخرى تنظر. وحكي جوازه عن مالك. والأوَّل أولى.
قوله ( : «إذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة»؛ يحمل على عمومه في كل شيء من التذكية، والقصاص، والحدود، وغيرها، وليجهز في ذلك، ولا يقصد التعذيب. ونهيه عن صبر البهائم مفسَّر في حديث ابن عباس حيث قال: «لا تتخذوا (1) شيئًا فيه الرُّوح غرضًا». وأصل الصَّبْرِ: الحبس. وقد تقدم في "الأيمان". وهذا النَّهي على ظاهره من التحريم. وقد دلَّ على ذلك: لَعْنُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِمَنْ فعل ذلك، كما في حديث ابن عمر.
و «خاطئة النبل (2) »؛ هي: التي لا تُصيب. وظاهره (3) : أن الذى جُعِل لصاحب الطير أن يأخذه السَّهم (4) . ويحتمل: أن يكون (5) الذي (6) جُعِل له جُعْلٌ (7) غيرُ ذلك على المخطئ كُلَّما (8) أخطأ، وكل ذلك قِمَارٌ لا يجوز.
و « الْخَذْفُ» =(5/242)=@
__________
(1) في (ق): «لا تحدثوا» وألحق في الهامش «لا تتخذوا» ووضع فوقها (نسخة).
(2) في (ن): «النيل».
(3) في (ن): «وظاهر».
(4) كتب فوقها في (أ): «خبر أن».(5/242)
بالخاء المعجمة بواحدة من فوقها: الرَّمي بالحجر. وبالحاء المهملة: الضرب بالعصا.
وقوله: «إنها لا تصيد صيدًا»؛ أي: لا يحلُّ ما يُصادُ بالبُنْدُق، ولا بالْحَجَرِ؛ لأنَّه ليس بمحددٍ (1) ، ولا سلاح.
وقوله: «لا تَنْكَأْ (2) عدوًّا»؛ المشهور في هذا الحرف (3) عند أكثر الرواة: الهمز، وكذلك قيدته ورويته، وهو من: نكأت القرحة، وفيه بُعْدٌ. وقد وقع في بعض النسخ لبعض الرواة: «لا تُنْكِي (4) » بغير همز، من: نكاية (5) العدو. وهو هنا أشبه، وأوجه، غير أن (6) صاحب العين قد حكى عن قوم من العرب: أنهم يقولون: نكأت العدوّ (7) . فعلى هذا تتمشى الرواية المشهورة.
وقول عبدالله للخاذف بعد التحذير: «لا أُكلِّمك أبدًا»؛ دليلٌ على هجران من خالف الشرع على علمٍ تأديبًا لهم، وزجرًا، حتى يرجعوا. والله تعالى أعلم. =(5/243)=@
__________
(5) في (ك): «نكانة».
(7) قال الخليل أحمد في كتابه "العين" (5/412): «ولغةٌ أخرى: نكأت أنكؤ نكأً».(5/243)
ومن باب لعن من ذبح لغير الله
قول (1) عليٍّ رضي الله عنه للسائل (2) : «ما كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُسِرُّ إليَّ شيئًا يكتمُه النَّاسَ»، وفي لفظ آخر: «ما خصَّنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيءٍ لم يَعُتمَّ به النَّاسَ»، (3) ، وتكذيب للفِرَق الغالية فيه (4) ، وهم: الشيعةُ، والإماميةُ، والرافضةُ، الزاعمين (5) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصَّى لعليٍّ، وولاه بالنَّصِّ، وأسرَّ إليه دونَ الناس كلهم بعلومٍ عظيمةٍ، وأمورٍ كثيرةٍ. وهذه كلها منهم أكاذيبُ (6) ، وتُرَّهات، وتمويهات، يشهد بفسادها نصوصُ متبوعهم، وما تقتضيه العاداتُ (7) من انتشار ما تدعو الحاجةُ العامَّةُ إليه (8) .
وغضبُ عليٍّ على ذلك دليلٌ على أنَّه لم يرتضِ (9) شيئًا مما قيل هنالك. وإنما استحقَّ لاعنُ أبويه لعنةَ الله لمقابلته نعمةَ الأبوين بالكُفران، وانتهائه إلى غاية العُقوق والعِضيان، كيف لا وقد قَرَن الله بِرَّهُما بعبادته وإن كانا كافرين بتوحِيده وشريعته.
وأما لعن مَن ذَبَح لغير الله؛ فإن كان كافرًا يذبحُ للأصنام فلا خفاءَ بحاله، وهي التي أُهِلَّ بها لغير الله، والتي قال الله تعالى فيها: {وَلا تأكُلُوا مما لم يذكر اسم الله عليه} (10) ، على ما تقدَّم. وأما إن كان مسلمًا فيتناوله عمومُ هذا اللعن، ثم لا تَحِل ذبيحتُه؛ لأنه لم يقصد بها الإباحة الشرعية، وقد تقدَّم أنها شرط =(5/244)=@
__________
(1) في (أ): «وقول».
(2) في (ح): «السائل».
(3) هذه رواية مسلم (3/1567 رقم1978/45) في باب تحريم الذبح لغير الله تعالى، ولعن فاعله، من كتاب الأضاحي.
(4) قوله: «فيه» سقط من (ح).
(5) في (ح): «الزاعمون».
(6) في (أ): «أكاذب».
(7) في (ح): «العادة».
(8) في (ك): «ما تدعو إليه الحاجةُ العامَّةُ».
(9) في (ك): «لا يرتضي».
(10) الآية (121) من سورة الأنعام.(5/244)
في الذكاة. ويُتَصوَّر ذبح المسلم لغير الله فيما إذا ذبح عابثًا، أو مُجرِّبًا لآلةِ الذبح، أو للَّهْوِ (1) ، ولم يقصد الإباحة (2) ، وما أشبه هذا. وقد تقدم الكلام على لعن من آوى محدثًا في الحج.
و «منار الأرض» هي النُّجوم، والحدود التي بها تتميَّز الأملاك. والمغيِّر لها: إن أضافها إلى ملكه فهو غاصبٌ، وإن لم يضفها إلى ملكه فهو متعدٍّ ظالِمٌ مفسدٌ لِمُلك (3) الغير. وقد قال ( : «من غصب شبرًا (4) من الأرض طوَّقه يوم القيامة (5) من سبع أرضين» (6) . وقد حمل أبو عبيد هذا الحديث على تغيير حدود الحرم، ولا معنى للتخصيص، بل هو عام في كل الحدود والنُّجوم. والله تعالى أعلم. =(5/245)=@
__________
(1) في (ح): «أو اللهو».
(2) ما ذكره المؤلف من الذبح عبثًا أو تجربة لآلة الذبح أو للهو بغير قصد الإباحة، يناول النهي العام عن اتخاذ ذرات الأرواح عرضًا، أما المقصود في هذا الحديث فهو من ذبح تقربًا لنبيٍّ، أو وليٍّ، أو غيره من الموات، أو تقربًا لجانٍّ، أو صنم، أو صليب ونحوه. والله أعلم.
(3) في (ح): «الملك».
(4) في (أ): «شيئًا».
(5) قوله: «يوم القيامة» سقط من (ح).
(6) تقدم في باب إثم من غصب شيئًا من الأرض.(5/245)
كتاب الأشربة
ومن باب تحريم الخمر
قولها (1) : «ألا يا حَمْزُ للشُّرُفِ النَّواءِ»؛ الرواية الصحيحة المشهورة في هذا =(5/246)=@
__________
(1) في (أ) و(ح): «قوله».(5/246)
اللفظ: «للشُّرُف» باللام وضم الراء. و «النواء» بكسر النون. فالشرف بضم الراء: جمع شارف على غير قياس، وذلك أن الشارف مؤنث؛ لأنَّه اسم للناقة الْمُسِّنة. وهو في أصله صفة لها، فكان حَقَّه أن يجمع على «فواعل»، أو «فُعَّل»؛ لأنَّهما مثالاً جمع فاعل إذا كان للمؤنث، لكنه لما كان مذكر اللفظ - أي ليس فيه علامة تأنيث - حملوه (1) على «بازل» الذي هو صفة للجمل المسنِّ، فجمعوه جَمْعَهُ، فقالوا: شُرُف. كما قالوا: بُزُل. واللام في الشُّرُف لام الجر، وهي متعلقة بفعل محذوف دلَّ عليه الحال؛ أى: انهض للشُّرُف، أو: قُم لها. تُحرِّضُه على نحرها، ولذلك قام حمزة فنحرها.
و «النواء»: السمان. يقال: نوت الناقة، تنوى: إذا سَمِنت (2) ، فهي ناوية، وجمعها: نواء، وهو أيضًا على غير قياس، كما تقدَّم. قال الخطابي: وقد روى هذا اللفظ أبو جعفر الطبري: « ذا الشَرَف النواء (3) بـ «ذا» التي بمعنى صاحب، ويفتح الراء والشين. قال: وفسَّره بالبعد.
قال الشيخ رضي الله عنه: وفي هذه الرواية ومعناها بُعْدٌ، والصواب: رواية الجماعة كما ذكرناه السَّاعة.
و «الصُّوَّاغ»: الصَّائِغ، وهو الذى يصوغُ الذهب والفضة، وهو للمبالغة. و « الأقتاب (4) »: جمع قتب، وهي (5) أداة (6) الرَّحل، وقد يكون في موضع آخر الأمعاء. و « اجتبَّ (7) أسنمتها (8) »؛ أي: شق عنها الجلد، وأخرج الشحم التى (9) فيها. و« بُقِرت (10) خواصرهما (11) »؛ أى: نُقِبَت. وهذا إنما فعل ذلك بعد أن نحرها على عادتهم (12) . وعلى هذا يدلُّ (13) الشعر المذكور بعد هذا. ويحتمل أن يكون فعل ذلك بها من غير نحر استعجالاً لإجابة الإغراء الذي (14) أغرته به المغنية، لا سيما وقد كانت الخمر أخذت منه.
وقوله: «فلم أملك عيني»؛ أن بكيت (15) ، يعني: مغلوبًا لشدَّة (16) الموجدة.
و « الشَّربُ» بفتح الشين وسكون الراء اسم للقوم يجتمعون للشُّرْب بضم الشين. و «القينة»: الْمُغَنِّيةُ. =(5/247)=@
__________
(1) في (ح): «حملوله».
(2) قوله: «إذا سمنت» سقط من (ك).
(3) قوله: «النواء» سقط من (ك).
(4) في (ن): «والأقتتاب».
(5) في (ك): «وهو».
(6) في (ق): «أذاة».
(7) في (ق): «واجبت».
(8) في (أ) و(ح): «أسنمتهما».
(9) في (ح): «الذي».
(10) في (ن): «ونفدت».
(11) في (ح) و(ك) و(ق) و(ن): «خواصرها».
(12) في (ح) و(ق) و(ن): «عاداتهم».
(13) في (ق): «يد الشعر» كذا رسمت.
(14) في (ك): «التي».
(15) في (ن): «ارتكبت» بدل «أن بكيت».
(16) في (ق): «بالشدة».(5/247)
وقوله: «ما رأيت كاليوم قطّ»؛ هذا كلام كثر عندهم، حتى صار كالمثل. والكاف فيه نعت (1) لـ « يوم» محذوف، تقديره: ما رأيت يومًا مثل اليوم. يهوله لما لقي فيه. ويحتمل أن يكون نعتًا لمصدر محذوف. أي: ما رأيت كرْبًا مثل كرْب اليوم، أو ما شاكل ذلك. ويدلُّ على الأول ما أنشده ابن شبَّة من الزيادة في شعر القَيْنة فقال:
ألا يا (2) حمز للشُّرفِ النَّواءِوهنَّ (3) مُعَقَّلاتٌ (4) بالفِنَاء
ضع السكين في اللَّبَّات مِنهاوضَرِّجْهُنَّ حًمْزةُ بالدِّماءِ
وعَجِّل من أَطايِبها لِشَرْبٍقَدِيرًا (5) من طَبِيخٍ أو شِواءِ
قال الشيخ: وعلى هذا: فيكون فيه (6) حجة على إباحة أكل ما ذبحه غير المالك تعديًّا، كالغاصب، والسارق. وهو قول جمهور العلماء: مالك، والشافعي، وأبي (7) حنيفة، والثوري، والأوزاعي. وخالف في ذلك: إسحاق، وداود، وعكرمة، فقالوا: لا يؤكل. وهو قول شاذٌّ، وحجَّة الجمهور: أن الذكاة وقعت من المتعدِّي (8) على شروطها الخاصة بها. وقيمة الذبيحة قد تعلَّقت بذمة المتعدِّي، فلا موجب (9) للمنع، وقد وقع (10) التفويت (11) . وقد روى ابن وهب حديثًا (12) يدلُّ (13) على جواز الأكل (14) ، فليُبحث عنه (15) ، ويُكتب (16) هنا ** يوجد هنا في (ك) بياض بمقدار كلمة ينظر **.
وقوله: «وجمعتُ حتَّى جمعتُ ما جمعت»؛ هكذا رواه (17) الطبري، والعذري، وابن ماهان بـ «حتى» التي هي للغاية (18) . وقد رواه السِّجزي، والسَّمرقندي: «حين» =(5/248)=@
__________
(1) في (ح): «انعت».
(2) قوله: «يا» سقط من (ن).
(3) في (ق): «وهي».
(4) في (ن): «معلقات».
(5) في (ح) و(ق) و(ن): «قديدًا».
(6) قوله: «فيه» سقط من (ح).
(7) في (ق): «أبو حنيفة».
(8) في (أ): «التعدي».
(9) كتب فوقها في (ك): «وجه». وفي (ق) و(ن): «فلا وجه».
(10) في (ح): «وقدقع» كذا رسمت.
(11) في (ن): «التفريب».
(12) أخرجه ابن وهب في "موطئه" كما ذكر ابن عبدالبر في "التمهيد" (16/130)، ومن طريق ابن وهب أخرجه الطبراني في "الكبير" (19/73) عن أسامة بن زيد، عن ابن شهاب، عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه؛ أنه كان له غنم ترعى بسلع، فتردت شاة منها، فنزلت الأمة فذبحتها، فسأل كعب رسول الله ( فلم ير بها بأسًا. وإسناده لا بأس به، أسامة بن زيد الليثي صدوق يهم.
(13) قوله: «يدل» سقط من (ح).
(14) زاد بعدها في (أ): «فليبحث عنه ويكتب هنا كذا وجدته في نسخة متصل بما بعده من غير بياض» وكتب فوقها «ينظر» ثم بياض بمقدار سطر أو سطرين.
(15) في (ق) و(ن): «عليه».
(16) في (ح): «وليكتب».
(17) في (ق) و(ن): «رواية».
(18) في (ن): «الغاية».(5/248)
مكان « حتى» والأول أوضح. وقد سقط «وجمعت» الأوَّل في بعض النسخ، وبسقوطه (1) وثبوت «حتى» يَحسُن الكلام، وقد ذكره الحميدي في "مختصره" بلفظ أحسن من هذا، فقال: «وأقبلت حين جمعت ما جمعت».
قال الشيخ: وهذا الحديث يدلُّ على أن شُرب الخمر كان إذ ذاك مباحًا، معمولاً به، معروفًا عندهم بحيث لا يُنكر، ولا يُغير، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرَّ عليه، وعليه يدلُّ قوله تعالى: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} (2) ، وقوله تعالى: {تتخذون منه سكرًا ورزقًا حسنًا} (3) . وهل (4) كان يباح لهم شرب القدر الذي يسكر؟؛ ظاهر هذا الحديث يدلّ عليه، فإنَّ (5) ما صدر عن (6) حمزة رضي الله عنه للنبي - صلى الله عليه وسلم - من القول الجافي المخالف لما يجب من احترام النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوقيره، وتعزيره، يدلُّ: على أن حمزة كان قد ذهب عقله بما يسكر، ولذلك قال الراوي: فعرف رسول الله ( : أنه ثَمِلٌ. ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُنكر على حمزة، ولا عنَّفه لا في حال سكره، ولا بعد ذلك. فكان ذلك دليلاً على إباحة ما يُسكر عندهم. وهذا خلاف ما قاله الأصوليون (7) وحكوه، فإنَّهم قالوا: إن (8) السكر حرام في كل شريعة قطعًا لأن الشرائع مصالح العباد قطعًا، لا مفاسدهم. وأصل المصالح العقل، كما أن أصل المفاسد ذهابه. فيجب المنع من كل ما يذهبه ويشوشه (9) . وما ذكروه واضح، ويمكن أن ينفصل عن حديث حمزة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك الإنكار على حمزة في حال سكره؛ لكونه لا يعقل، وعلى إثر ذلك نزل (10) تحريم الخمر. وأن (11) حمزة لم يقصد بشربه السُّكر، لكنه أسرع فيه فغلبه. والله تعالى أعلم.
ولم يقع في شيء من الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألزم حمزة غرامة الشَّارِفَّيْنَ، لكن روى هذا الحديث عمر (12) بن شبَّة (13) في كتابه (14) ، وزاد فيه من رواية أبي بكر بن عياش (15) : فغرمهما (16) النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حمزة، وهذه الرواية جارية على الأصول؛ إذ لا خلاف في أنَّ =(5/249)=@
__________
(1) في (ك): «وسقوطه».
(2) الآية (43) من سورة النساء.
(3) الآية (67) من سورة الأنعام.
(4) في (ن): «وهذا» بدل «وهل».
(5) في (ن): «وإن».
(6) في (ك) و(ق) و(ن): «من» بدل «عن».
(7) في (ق): «الأصوليون».
(8) قوله: «إن» سقط من (ك).
(9) في (ح): «أو يشوشه».
(10) في (ق): «تدل على» بدل «نزل».
(11) في (ك): «أو أن».
(12) في (ق) و(ن): «عن عمر».
(13) في (أ) و(ق) و(ن): «شيبة».
(14) هذا الحديث ذكره النووي في "شرح مسلم" (13/154)، وذكره ابن حجر في "فتح الباري" (6/201). ووقع في المطبوع من "فتح الباري": «ابن أبي شيبة»، وأظنُّه خطأ من الطابع أو الناسخ.
(15) في (ق) و(ن): «عباس» كذا رسمت.
(16) في (ح): «فغرمها».(5/249)
ما يُتْلِف السكران من الأموال لزمه (1) غرمه. وعلى تقدير ألاَّ تثبت (2) هذه (3) الزيادة (4) ؛ فعدم النقل لا يدلّ على عدم المنقول، ولو دلَّ على ذلك لأمكن أن يقال: إنما لم يحكم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغرامة لأن عليًّا رضي الله عنه لم يطلبها منه (5) ، أو لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تحمَّلها (6) عنه كما قال في صدقة العباس (7) . والله تعالى أعلم.
وقد احتج بهذا الحديث من لا يلزم طلاق السكران؛ من جهة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤاخذ حمزة بما صدر عنه (8) من قوله له (9) . وإليه ذهب: الْمُزني، والليث، وبعض أصحاب أبي حنيفة (10) . وتوقف فيها (11) : أحمد (12) بن حنبل. والجمهور من السَّلف (13) وكافة الفقهاء: على أن ذلك يلزمه؛ لأنَّ السكران بعد التحريم أدخل نفسه في السُّكر بمعصية الله تعالى فكان (14) مختارًا لما يكون منه فيه، ولم يكن حمزة كذلك، بل كان (15) شُرْبُه مباحًا كما قدَّمناه، فصار ذلك بمثابة من سكر من شُرب اللَّبن، أو غيره من المباحات، فإنَّه لا يلزمه شيء مما يجري منه من القول، ويكون كالْمُغمى عليه. والله أعلم.
وقوله: فنكص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عقبيه (16) القهقرى.«نكص»؛ أي: تأخر. و « القهقرى»: الرجوع إلى وراء، ووجهه إليك. قاله الأخفش. يقال منه: تقهقر =(5/250)=@
__________
(1) في (ك) و(ح) و(ق) و(ن): «يلزمه».
(2) في (ق) و(ن): «أن تثبت».
(3) قوله: «هذه» لم يتضح في (ح).
(4) في (أ) و(ق): «الرواية». وألحق في هامش (ق): «الزيادة» ووضع (خ)
(5) قوله: «منه» سقط من (ق) و(ن).
(6) في (أ): «يحملها».
(7) يعني قوله ( لما قيل: إن العبَّاس منع صدقته. قال: «هي عليَّ ومثلها». أخرجه البخاري (1468)، ومسلم (983) وغيرهما، وتقدَّم في.....
(8) في (ح): «منه».
(9) قوله: «له» سقط من (ح) و(ك).
(10) من قوله: «المزني....» إلى هنا سقط من (أ)، ويبدوا أن الناسخ بيض فراغًا ليكتب النص كاملاً فغفل عنه؛ إذ الموجود في حاشية (ك) عن قوله: وإليه ذهب، قال: «كذا الموجود في نسخ هذا الشرح، وفي شرح القاضي عياض ما هذا نصه: وبه قال الشافعي ومالك والكوفيون والثوري والأوزاعي وهو قول ابن المسيب في جماعة من السلف، وكافة العلماء كالحسن والنخعي وعطاء وغيرهم، وحكي عن عثمان وابن عباس وعمر بن عبدالعزيز والقاسم بن محمد وطاووس والليث وربيعة: أنه لا يلزم، وقاله إسحاق وأبو ثور والمزني، ووقف فيها ابن حنبل».اهـ. وهو كذلك في إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/439).
(11) في (ك): «فيه».
(12) قوله: «أحمد» ليس في (أ).
(13) في (ك): «السلف والخلف».
(14) قوله: «فكان» سقط من (ح).
(15) في (ح): «بل قد كان».
(16) في (ك) و(ح) و(ن): «عقبه».(5/250)
الرجل، يتقهقر؛ إذا فعل ذلك، وظاهر هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجع إلى خلفه ووجهه إلى حمزة مخافة أن يصدر من حمزة شيء (1) يُكْره، فإنَّه قد كان أذهب السكر عقله. وقيل في هذا: إنه خرج عنهم (2) مسرعًا. والأوَّل أولى.
وقوله: «فارتدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بردائه، ثم انطلق يمشي»؛ دليلٌ على المحافظة على حُسن الهيئات عند ملاقاة الناس، والتَّزَيُّن للمحافل على ما تقتضيه (3) عادات أهل المروءات، ولا يُعد ذلك رياءً ولا سمعةً.
وقوله: «فطفق يلوم حمزة»؛ أي: جعل (4) وأخذ. يقال: بفتح الفاء وكسرها، والكسر أكثر وأشهر (5) .
وقول أنس: «وما شرابهم إلا الفضيخ البسر والتمر (6) »؛ الفضيخ: هو أن يفضخ البسر، ويصبُّ عليه الماء حتَّى يغلي. قاله الحربي. وقال أبو عبيد: هو ما فضخ (7) من البسر من غير أن تمسَّه نار، فإنْ كان معه تمر فهو خليط.
قال الشيخ رضي الله عنه: وعلى هذا يدلّ قوله في أوَّل الرواية الأخرى: «وكانت عامة =(5/251)=@
__________
(1) في (ق) و(ن): «شيئا».
(2) قوله: «عنهم» سقط من (ح).
(3) في (ق): «يقتضيه».
(4) في (ح): «جعل يذمم»، وفي (ك): «جعل يلوم».
(5) في (ك): «أشهر وأكثر».
(6) قوله: «الفضيخ البسر والتمر» سقط من (ن).
(7) في (ك): «ما فضح».(5/251)
خمورهم (1) يومئذ خليط البسر والتمر». وهذه الأحاديث على كثرتها تبطل مذهب أبي حنيفة، والكوفيين القائلين بأن الخمر لا تكون (2) إلا من العنب. وما كان من غيره لا يُسمَّى خمرًا، ولا يتناوله اسم الخمر، وإنما يُسمى نبيذًا. وهذا مخالف للُّغة، والسُّنَّه. ألا ترى: أنه لما نزل تحريم الخمر فهمت الصحابة جميعهم من ذلك تحريم كل ما يُسكر نوعه؟ فسَوَّوا في التحريم بين المعتصر من العنب وغيره، ولم يتوقفوا في ذلك، ولا سألوا (3) عنه؛ لأنَّهم (4) لم يشكل عليهم شيء من ذلك، فإنَّ اللِّسان لسانهم، والقرآن نزل بلغتهم. ولو كان عندهم في ذلك شكٌّ، أو توهُّم لتوقفوا عن الإراقة حتى يستكشفوا، ويسألوا، لا سيما وكان النبيذ عندهم مالاً محترمًا منهيًّا عن إضاعته قبل التحريم، فلما فهموا التحريم نصًّا ترجَّح عندهم مقتضى الإراقة، والإتلاف، على مقتضى الصيانة والحفظ. ثم كان (5) هذا من جميعهم من غير خلاف من أحد منهم، فصار القائل بالتَّفريق سالكًا غير سبيلهم. ثم إنَّه قد ثبتت (6) أحاديث نصوصٌ في التسوية بين تلك الأشياء، وأن كلَّ (7) ذلك خمر على ما يأتي بعد هذا.
وقد خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس فقال (8) : ألا وإن الخمر نزل تحريمها يوم نزل، وهي من خمسة أشياء: من الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، والعسل. والخمر: ما خامر العقل (9) . وهذه الخطبة بمحضر الصحابة رضوان الله عليهم وهم أهل اللسان، ولم ينكر ذلك عليه أحد، وهو الذي جعل الله الحق على لسانه وقلبه (10) .
وإذا ثبت أن كل ذلك يقال عليه (11) : خمر؛ فيلزمه (12) تحريم قليله وكثيره، ولا يحل شيء منه تمسُّكًا بتحريم مُسمَّى الخمر، ولا مخصص، ولا مفصل يصحّ في ذلك. بل قد وردت الأحاديث الصحيحة والحسان بالنص على: أنَّ ما حَرُمَ كثيره حَرُمَ قليله (13) . روى الترمذي (14) من حديث جابر بن =(5/252)=@
__________
(1) في (ن): «جمهورهم».
(2) في (ق) و(ن): «لا يكون».
(3) في (ق): «ولا سألوه».
(4) في (ق) و(ن): «لأنه».
(5) في (ق): «كل» بدل «كان».
(6) في (ح): «ثبت».
(7) في (ك): «إن كان» وقوله: «كل» سقط من (ق).
(8) قوله: «فقال» سقط من (ق).
(9) رواه مسلم (4/2322 رقم3032) في التفسير، باب نزول تحريم الخمر. وسيأتي......
(10) يشير المصنف إلى قول النبي ( : «إن الله تعالى جعل الحقَّ على لسان عمرَ وقلبه». وتقدم تخريجه في.....
(11) قوله: «يقال عليه» سقط من (ح).
(12) في (ق) و(ن): «فيلزم».
(13) من قوله: «ولا يحل شيء منه...» إلى هنا سقط من (ن).
(14) ورواه أحمد (6/ 71) والدراقطني (4/255) وابن عدي (3/134) من طريق الربيع ابن صبيح.
ورواه الحسن بن عرفة في جزئه رقم (71) والدارقطني (4/255) والخطيب في التاريخ (6/229) والبيهقي (8/296) من طريق عبد الرحمن المحاربي، والدارقطني (4/254 – 255) من طرق عن عبد الله بن إدريس، والبيهقي (8/296) والخطيب (6/229)، من طريق ابن علية ثلاثتهم المحاربي وابن إدريس وابن علية عن ليث بن أبي سليم.
ثلاثتهم (مهدي بن ميمون والربيع بن صبيح وليث) عن أبي عثمان الأنصاري ورواه الدارقطني (4/250) من طريق عمران بن أبان عن أيوب بن سيار عن عبد الرحمن بن القاسم.
كلاهما (أبو عثمان الأنصاري وعبد الرحمن بن القاسم) عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا كل مسكر حرام وما أسكر منه الفَرَقُ فمك الكف منه حرام وفي رواية فالأوقية منه حرام وفيه رواية فالحسوة منه حرام.
أبو عثمان الأنصاري اختلف في اسمه قيل عمرو بن سالم وقيل ابن سليم وقيل ابن سليم وقيل ابن سعد وقيل اسمه عُمر . قال الحاكم أبو أحمد هو معروف بكنيته ولا أحق في اسمه واسم أبيه شيئًا، قال عنه أبو داود: هذا قاضي مرو ثقة اسمه عمرو بن سالم، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الذهبي في الميزان، لا يكاد يُدرى من هو. وقال ابن حجر: مقبول.
وأما إسناد الدارقطني ففيه عمران بن أبان وهو مجمع على ضعفه وأيوب بن سيار وهو أيضًا مجمع على ضعفه ونكارة أحاديثه فمثل هذا لا يصلح للمتابعة.
والحديث رواه أيضًا الدارقطني (4/255) عن ابن صاعد عن يحيى بن الورد عن أبيه عن عدي بن الفضل عن عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة به لكن قال الدارقطني قال ابن صاعد: هذا إنما يروى عن أبي عثمان عن القاسم.
وقد جاء هذا الحديث من طرق أخرى عن عائشة.
رواه الدارقطني (4/255) من طريق الواقدي عن محمد بن عبد الله بن مسلم وعبد الرحمن بن عبد العزيز عن الزهري ورواه ابن عدي (3/ 420) من طريق سفيان بن محمد الفزاري عن سفيان عن محمد بن المنكدر ورواه الخطيب في التاريخ 12/ 201 من طريق عاصم بن زمزم عن صالح بن محمد الترمذي عن عمر بن صهبان عن هشام بن عروة.
ثلاثتهم الزهري وابن المنكدر وهشام بن عروة عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا بلفظ ما أسكر كثيره فقليله حرام.
وهذه الأسانيد الثلاثة ضعيفة بل شديدة الضعف لا تصلح في المتابعات. ورواه الدارقطني 4/256 عن أبي الحسن المصري عن محمد بن عبد الرحيم الهروي عن سعيد بن منصور عن سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها به .
وهذا إسناد رجاله رجال الشيخين إلا شيخ الدارقطني وشيخ شيخه، فأما محمد بن عبد الرحيم الهروي فأغلب ظني أنه محمد بن عبد الرحيم بن أبي زهير القرشي العدوي فيكون تحرف العدوي إلى الهروي وذلك لأنه يروي عن سعيد بن منصور ولا يوجد غيره بهذا الإسم، وأما أبو الحسن المصري فلم أعرفه.
ورواه الدارقطني (4/255) من طريق يحيى بن الورد عن أبيه عن محمد بن طلحة عن حميد عن أنس عن عائشة به وهذا إسناد ليس بالقوي فيه عنعنة حميد عن أنس وهو مدلس وفيه محمد بن طلحة بن مصرف صدوق له أوهام، ويحيى بن الورد لم أجد ترجمته وقد سبق له إسناد آخر من طريق القاسم عن عائشة والظاهر أن هذا الاضطراب منه والله أعلم.
ورواه ابن عدي (4/316) من طريق أبي نعيم عبد الرحمن بن هانئ عن ابن جريج عن عطائ عن عائشة به، وأبو نعيم هذا صدوق له أغلاط، وابن جريج مدلس وقد عنعنه.
ورواه الدارقطني (4/255) من طريق أبي جعفر الرازي عن ليث بن أبي سليم عن ابن أبي مليكة عن عائشة به موقوفًا عليها وهذا إسناد ضعيف أيضًا.
الشاهد الثاني: حديث أنس رضي الله عنه
رواه أحمد (3/112)، وأبو يعلى (7/50 رقم 3966) من طريق عبد الله بن إدريس عن المختار ابن فلفل عن أنس مرفوعًا به.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/57) ورجال أحمد رجال الصحيح.
الشاهد الثالث:
حديث خوات بن جبير رضي الله عنه.
رواه الطبراني في الكبير (4/205 رقم 4149)، والعقيلي في الضعفاء (2/233) والدارقطني (4/254) من طريق عبد الله بن إسحاق الهاشمي عن أبيه عن صالح بن خوات بن صالح بن خوات ابن جبير عن أبيه خوات ورواه الحاكم (3/413) من طريق عبد الله بن صالح ابن إسحاق ابن صالح بن خوات بن جبير عن أبيه صالح عن أبيه إسحاق بن صالح .
كلاهما خوات بن صالح وإسحاق بن صالح عن أبيهما صالح بن خوات عن أبيه خوات بن جبير قال العقيلي في ترجمة عبد الله بن إسحاق الهاشمي: لا يتابع عليه بهذا الإسناد، وفي هذا أسانيد من غير هذا الوجه من وجه جيد.
الشاهد الرابع: حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه:
رواه الطبراني (5/139) رقم (4880) من طريق إسماعيل بن قيس بن سعد عن أبيه عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه مرفوعًا به.
قال الهيثمي: إسماعيل بن قيس ضعيف جدًّا.
الشاهد الخامس:
حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:
رواه الدارمي (2/113) والنسائي (8/301) وأبو يعلى (2/55 رقم 694)، والبزار في البحر الزخار (3/306 رقم 1099) والدارقطني (4/251) من طريق الوليد بن كثير بن سنان ورواه النسائي (8/301) وابن الجارود (863)، والشاطبي (1/164 رقم 104) والبيهقي (8/296) من طريق محمد بن جعفر بن أبي كثير.
ورواه البزار (3/306 برقم 1098) وابن حبان (12/192 رقم 5370) من طريق الدراوردي ورواه ابن أبي شيبة (5/68 رقم 23763) عن زيد بن الحباب.
ورواه أبو يعلى (2/55 رقم 695)، من طريق عبد الله بن جعفر.
ورواه الدارقطني (4/252) من طريق محمد بن عمر الواقدي.
جميعهم عن الضحاك بن عثمان عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه.
وهناك إسناد حسن:
الضحاك بن عثمان بن عبد الله بن خالد بن حزام وثقه أحمد وابن معين مصعب الزبير وأبو داود وابن سعد وابن بكير، وقال أبو زرعة ليس بقوي وقال أبو حاتم يكتب حديثه ولا يحتج وهو صدوق وقال العجلي: جائز الحديث وقال ابن نمير لا بأس به جائز الحديث وقال ابن عبد البر كان كثير الخطأ ليس بحجة وقال الذهبي في المغني لينه القطان وقال في الميزان: قال يعقوب ابن شيبة صدوق في حديثه ضعف وقال ابن حجر: صدوق يهم وباقي رجاله ثقات.
الشاهد السادس: حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
رواه الدارقطني (4/256) من طريقين عن أبي عوانة عن ليث بن أبي سليم عن طاوس وعطاء ومجاهد عن ابن عباس مرفوعًا، وإسناده ضعيف لضعف ليث وتدليسه.
الشاهد السابع: حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
رواه ابن عدي (7/55) والخطيب في التاريخ (3/327) والبيهقي (8/296) من طريق أبي معشر ورواه الطبراني في الأوسط كما في نصب الراية (4/304)، والبيهقي (8/296)، من طريق محمد بن إسحاق ورواه عبد الرزاق (9/221 رقم 17006)، وابن عدي (4/278)، من طريق عبد الله بن عمر العمري ورواه الطبراني في الكبير (12/291 رقم (12411) من طريق موسى بن عقبة.
ورواه ابن عدي (4/278)، من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر عن عمه عبيد الله بن عمر وخطأ ابن عدي هذا غير متن الحديث فقال: قد رواه عن عبيد الله جماعة: كل مسكر حرام،وعبد الرحمن هذا غيرَّ متن الحديث فقال: ما أسكر كثيره فقليله حرام فخالف من رواه عن عبيد الله.
خمستهم (أبو معشر وابن إسحاق وعبد الله بن عمر وعبيد الله بن عمر وموسى بن عقبة) عن نافع عن ابن عمر.
ورواه أحمد (2/91)، وإسحاق بن راهويه كما في نصب الراية (4/304)، والبيهقي (8/296) ورواه عبد الرزاق (9/221 رقم 17003)، وابن أبي شيبة (5/70 رقم 23778)، والنسائي في الكبرى (4/86 رقم 6821) من طريق صحيحة عن ابن سيرين عن ابن عمر.
ورواه ابن ماجة (2/1124 رقم 3392)، من طريق زكريا بن منظور عن أبي حازم عن ابن عمر وهذا إسناد ضعيف.
ورواه ابن عدي (391)، (6/393)، من طريق منصور بن يعقوب بن أبي نويرة عن أسامة ابن زيد بن أسلم وهذا إسناد ضعيف، وابن أبي الدنيا في ذم المسكر كما في الإرواء (8/42) من طريق محمد بن القاسم الأسدي عن مطيع أبي يحى الأنصاري عن أبي الزناد.
وهذا إسناد ضعيف جدًّا محمد بن القاسم هذا كذبوه.
كلاهما (أسامة بن زيد وأبو الزناد) عن زيد بن أسلم عن ابن عمر.
ثم رواه ابن عدي (6/250) من طريق الأسدي هذا عن مطيع أبي يحيى الأنصاري عن زيد بن أسلم عن نافع عن أبي الزناد عن ابن عمر فقلب الأسدي الإسناد وزاد فيه ونقص.
وحاصل حديث ابن عمر أنه حسن لتقوية طرق نافع وسالم وابن سيرين بعضها لبعض والله أعلم.
الشاهد الثامن: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
رواه أحمد (2/179 رقم 6674)، والنسائي (8/300) والبيهقي (8/296) من طريق يحيى القطان ورواه ابن ماجة (2/1125) رقم (3394)، من طريق أنس بن عياض كلاهما القطان وأنس عن عبيد الله بن عمر .
ورواه عبد الرزاق (9/221 رقم (17007) وأحمد (2/167 رقم 6557)، والبيهقي (8/296)، من طريق عبد الله بن عمر العمري أخي عبيد الله.
ورواه أحمد (2/179) عن ابن علية عن ليث بن أبي سليم.
ورواه الدارقطني (4/257 – 258) من طريق الأوزاعي.
ورواه الدارقطني (4/254 من طريق الوليد بن كثير عن عبيد الله بن عمر أبي سعيد الراني الكوفي ورواه الدارقطني (4/254) من طريق سعيد بن سالم عن أبي يونس العجلي.
جميعهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.؟
وهذا إسناد حسن.
الشاهد التاسع: حديث علي بن أبي طالب:
رواه الخطيب 9/94 من طريق إسماعيل بن أبي أويس، والبيهقي (8/296) من طريق شمر بن نمير كلاهما عن حسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده عن علي رضي الله عنه ورواه الدارقطني (4/250) من طريق عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده عن جد أبيه عمر بن علي عن علي رضي الله عنه.
وهذا إسناد ضعيف.(5/252)
عبدالله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما أسكر كثيره فقليله حرام». قال: هذا حديث حسن غريب (1) . وروى أبو داود (2) عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كلُّ مسكر حرام، وما أسكر منه الفَرَق، فملء الكفِّ منه حرام». وإسناده صحيح.
وأمَّا الأحاديث التي يتمسك (3) بها المخالف؛ فلا يصح شيء منها على ما قد بيَّن عللها المحدِّثون في كتبهم، وليس في الصحاح شيء منها، ثم العجب من المخالفين في هذه المسألة؛ فإنَّهم (4) قالوا: إن القليل من الخمر المعتصر من العنب حرام ككثيره (5) ، وهو مُجمع عليه، فإذا قيل لهم: فلم (6) حرم القليل من الخمر، وليس مُذهبًا (7) للعقل؟!، فلا بدَّ أن يقال: لأنه داعية إلى الكثير، أو للتَّعَبُّد (8) ، فحينئذ يقال لهم: كل ما (9) قدَّرتموه في قليل الخمر هو بعينه موجود في قليل النبيذ. فيحرم أيضًا؛ إذ لا فارق بينهما. إلا مجرَّد (10) الاسم إذا سُلّم ذلك. وهذا القياس أرفع أنواع القياس؛ لأنَّ الفرع فيه مساو للأصل في جميع أوصافه. وهذا كما نقوله في قياس الأمة على العبد في سراية العتق. ثم العجب من أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأصحابه، فإنَّهم يتوغلون في القياس، ويرجحونه على أخبار الآحاد، ومع ذلك فقد تركوا هذا القياس الجليَّ المعضود بالكتاب والسُّنة، وإجماع صدر (11) الأمَّة.
تفصيل: ذهب جمهور العلماء من السَّلف، وغيرهم: إلى أن كل ما يسكر نوعه حرم شربه، قليلاً كان أو كثيرًا، نَيِّئًا كان أو مطبوخًا (12) ، ولا فرق بين المستخرج من العنب، أو غيره كما قررناه. وأن من شرب شيئًا من ذلك حُدَّ. فأمَّا (13) المستخرج من العنب المسكر النِّيّء: فهو الذي انعقد الإجماع على تحريم كثيره وقليله، ولو =(5/253)=@
__________
(1) ي (ق) و(ن): «حسن صحيح غريب».
(2) أخرجه أبو داود (4/91 رقم3687) في الأشربة، باب النهي عن المسكر. والترمذي (4/259 رقم1866) في الأشربة، باب ما جاء ما أسكر كثيره فقليله حرام، كلاهما من طريق مهدي بن ميمون، حدثنا أبو عثمان، قال موسى: وهو عمرو بن مسلم الأنصاري، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنه ا قالت: سمعت رسول الله ( يقول: «كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام». هذا لفظ أبي داود.
وقال الترمذي: حديث حسن. وقال في الإسناد: عن أبي عثمان....
(3) في (ح) و(ك): «تمسك».
(4) في (ن): «بأنهم».
(5) في (ن): «كثيره».
(6) في (ك): «فلم» وكتب تحتها «لم» وفي (ن): «لم».
(7) في (ن): «كلما» كذا رسمت.
(8) في (ح): «وللتعبد».
(9) في (ق): «بمجرد».
(11) في (أ): «صدور».
(12) في (ح): «مصبوخًا».
(13) في (ق) و(ن): «وأما».(5/253)
النُّقطة منه. وأما ما عدا ذلك فالجمهور على تحريمه على ما ذكرناه.
وخالف الكوفيون في القليل مما عدا ما ذكره (1) وهو الذي لا يبلغ الإسكار. وفي المطبوخ من المستخرج من العنب: فذهب قومٌ من أهل البصرة إلى قصر التحريم على عصير العنب، ونقيع الزبيب النَّيِّء، فأما (2) المطبوخ منهما (3) والنَّيِّء والمطبوخ مما سواهما فحلال ما لم يقع الإسكار. وذهب أبو حنيفة إلى قصر التَّحريم على المعتصر من ثمرات النخيل والأعناب على تفصيل. فيرى: أنَّ سُلافَةَ (4) العنب يحرم قليلها وكثيرها إلا أن تطبخ (5) حتى ينقص ثُلثاها. وأمَّا نقيع الزبيب والتمر (6) : فيحل (7) مطبوخهما، وإن مسَّته النار مسًّا (8) قليلاً من غير اعتبار بحدٍّ. وأما النَّيِّء منه فحرام، ولكنه (9) مع تحريمه إيَّاه لا يوجب الحدَّ فيه. وهذا كله ما لم يقع الإسكار، فإنَّ وقع الاسكار استوى الجميع. هذه حكاية الإمام أبي عبدالله. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور على ما قررناه، والحمد لله.
وفي حديث أنس هذا أبواب من الفقه. منها: أن خبر الواحد كان معمولاً به عندهم، معلومًا لهم، ألا ترى أنهم لم يتوقفوا عند إخبار المخبر، بل بادروا إلى إتلاف الخمر، والامتناع مما كان لهم مباحًا (10) .
ومنها: أن (11) نداء المنادي عن الأمير يتنزل (12) في العمل به (13) منزلة سماع قوله.
ومنها: أن المحَّرم الأكل والشُّرب (14) لا ينتفع به، في شيء من الأشياء، لا من بيع، ولا من غيره.
وفيه: كسر أواني الخمر. وعليه تُخَرَّج (15) إحدى الروايتين عن مالك في كسرها؛ لما داخلها من الخمر، ولعسر غسلها، وفي الأخرى: إذا طبخ فيها الماء وغسلت جاز استعمالها. وعلى هذا: فإذا كانت الأواني مضرَّاة (16) بالخمر (17) لا ينتفع بها لشيء (18) من الأشياء؛ تكسر على كل حال، ولذلك شدَّد مالك في الزقاق، فإنَّ تَعَلَّق الرائحة بها عَسِير (19) الإنفكاك، بل لا تنفك (20) . =(5/254)=@
__________
(1) في (ك) و(ح) و(ق) و(ن): «ذكر».
(2) في (ك): «وأما».
(3) في (ق) و(ن): «منها».
(4) السُّلافة: أوّل ما يعتصر منه، وقيل: هو ما سال من غير عصر، وقيل: هو أول ما ينزل منه، وقيل: السُلافة: أوَّلُ كلِّ شيء. " " ( ).
(5) في (ك)، و(ق): «يطبخ».
(6) في (ق) و(ن): «التمر والزبيب».
(7) في (أ): «فيجعل».
(8) في (ن): «شيئا».
(9) في (ن): «لكنه» بلا واو.
(10) في (ك) و(ح) و(ق) و(ن): «مباحًا لهم».
(11) قوله: «أن» سقط من (ح).
(12) في (ق): «ينزل».
(13) قوله: «به» سقط من (ك) و(ق) و(ن).
(14) في (ك): «أو الشرب» وفي (ق): «أو الشر».
(15) في (ك): «يخرَّج» «تخرَّج» نقط الناسخ الحرف الأول باثنتين من فوق ومن تحت.
(16) في (ق) و(ن): «مصراة».
(17) في (ح): «الخمر».
(18) في (ن): «بشيء».
(19) في (ك) و(ق): «عسر».
(20) في (ك) و(ن): «لا ينفك».(5/254)
و «المهراس»: الحجر الذي يُهْرَس به (1) ، ويدق به.
وقول أنس: «لقد أنزل الله تعالى الآية التي حرَّم فيها الخمر»؛ يعني بها: قوله تعالى: {إنما (2) الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه (3) } (4) ، الآية (5) ، وهي نصٌّ في تحريم الخمر بمجموع كلماتها (6) ، لا بآحادها. وقد فَهِم منها التحريم (7) قطعًا (8) الصَّحابة، ولذلك قال عمر رضي الله عنه عند سماع (9) :{ فهل أنتم منتهون} (10) : انتهينا، انتهينا (11) . وقد سبق: أن الخمر: كل ما (12) يخامر العقل. والميسر: القِمار، وهو لعب يُؤكل به مال الغير بحيث لا يحصل له (13) به لا أجر، ولا شكر. ومنه: النرد، والشطرنج. حكي ذلك عن عثمان ومجاهد. والأنصاب: كل ما ينصب ليعبد من دون الله تعالى، ويذبح عنده، كما كانت الجاهلية تفعل، والأزلام: قداح يضربون بها عند العزم على الأمر، في بعضها: افعل. وفي بعضها: لا تفعل. وبعضها (14) لا شيء فيه. فإذا خرج هذا؛ أعادوا الضرب. وقيل: كان في أحدها (15) : أمرني ربي، وفي الأخرى: نهاني ربي. والرجس: النجس، وهو المستخبث شرعًا.
وقوله: {من عمل الشيطان}؛ أي: يَحْمِلُ عليه، ويُزَيِّنُه (16) . وقيل: هو الذي كان عمل مبادئ هذه الأمور بنفسه حتى اقتدي به فيها (17) . و{ العداوة والبغضاء}: معروفان. =(5/255)=@
__________
(1) قوله: «به» سقط من (ح) و(ك) و(ق) و(ن).
(2) في (أ) و(ك) و(ح) و(ق) و(ن): «يا أيها الذين آمنوا إنما».
(3) قوله: «فاجتنبوه» ليس في (ن).
(4) الآية (90) من سورة المائدة.
(5) قوله: «الآية» سقط من (ح) و(ك) و(ق) و(ن).
(6) في (أ): «كلماته».
(7) في (ن): «فهم التحريم منها».
(8) قوله: «قطعًا» سقط من (ق).
(9) في (أ): «عند سماع التحريم».
(10) الآية (91) من سورة المائدة.
(11) جزء من حديث صحيح أخرجه ابن أبي شيبة (8/112)، وأحمد (378)، وأبو داود (3670)، والترمذي (3049)، والنسائي (8/286-287)، والطبري (7/33)، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" (52)، والحاكم (4/143)، والبيهقي (8/285). كلهم من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن شرحبيل أبي ميسرة، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما نزل تحريم الخمر. قال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت هذه الآية التي في البقرة: {يسئلونك عن الخمر والميسر}، قال: فدعي عمر فقُرئت عليه. فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية التي في النساء: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى}، فكان منادي رسول الله ( إذا قام للصلاة قال: ألا لا يقرب الصلاة سكران، فدُعي عمر فقُرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية التي في المائدة، فدُعي عمر، فقرئت عليه، فلما بلغ: {فهل أنتم منتهون}، قال عمر: انتهينا انتهينا.
(12) في (ح) و(ق): «كلما».
(13) قوله: «له» سقط من (ن).
(14) قوله: «وبعضها» سقط من (أ).
(15) في (ك) و(ن): «أحدهما».
(16) في (ن): «وتزينه».
(17) قوله: «فيها» سقط من (ن).(5/255)
{ويصدَّكم عن ذكر الله و (1) عن الصلاة}: يصرفكم (2) عنها (3) ، فيُذهب العقل، ويُضيِّع الوقت.
ويُفهم من هذه الآية أيضًا: الحكم بتنجيس الخمر. وهو مذهب كافة علماء (4) السَّلف والخلف إلا شذوذًا. وإليه ذهب ربيعة، وحكي عن الليث، والمزني. ووجه التمسك بها على التَّنجيس (5) : أن الله تعالى قد أخبر عنها أنها رجس، والرجس: النجس القذر، فتنجس. وأيضًا: لما (6) غلَّظ تحريمها، وأخبر بالمفاسد النَّاشئة عنها اقتضى ذلك الزجر عنها مطلقًا، مبالغة في التحريم، كما فعل في الخنزير، والدم، وغير ذلك من الخبائث المحرمات. ويتحرَّر (7) القياس بأن يقال: مستخبث شرعًا مُحرم (8) شربه، فيكون نجسًا كالبول.
وفي الآية مباحث كثيرة، سنكتب فيها إن شاء الله تعالى جزءًا مفردًا (9) .
وقوله: «قال بعضهم: قُتِل فلان، قُتِل فلان، وهي في بطونهم»؛ هذا القول أصدره عن قائله إما غلبة خوف وشفقة، وإما غفلة عن المعنى. وبيان ذلك: أن الخمر كانت مباحة لهم، كما قد (10) صحَّ (11) أنهم كانوا يشربونها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يُقرّهم عليها. وهو (12) ظاهر قوله تعالى: {لا تقربو الصلاة وأنتم سكارى} (13) . ومن فعل ما أبيح له حتى مات على فعله لم يكن له، ولا عليه شيء، لا إثم (14) ، ولا مؤاخذة، ولا ذمٌّ، ولا أجر، ولا مدح؛ لأنَّ المباح مستوي الطرفين بالنسبة للشرع (15) كما يعرف في الأصول. وعلى هذا: فما ينبغي (16) أن يُتخوَّف ولا (17) يُسال عن حال من مات والخمر في بطنه وقت إباحتها، فإمَّا أن يكون ذلك القائل غفل عن دليل الإباحة، فلم يخطر (18) له، أو يكون لغلبة خوفه من الله تعالى، وشفقته على إخوانه المؤمنين توهَّم مؤاخذة، ومعاقبة لأجل شرب الخمر المتقدِّم، فإنَّ الشفيقَ بسوءِ الظنِّ مولعٌ، فرفع الله تعالى ذلك التوهُّم بقوله تعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصَّالحات جناحٌ فيما طعموا} (19) ؛ أي: فيما شربوا. وهذا مثل قوله تعالى في نَهْر طالوت: {فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني} (20) ؛ =(5/256)=@
__________
(1) قوله: «عن ذكر الله و» سقط من (أ) و(ن).
(2) في (ح): يشبه «صرفكم».
(3) في (ك) و(ق): «عنهما».
(4) في (ق): «العلماء».
(5) في (ح): «أن التنجيس».
(6) في (ح) و(ك) و(ق) و(ن): «فلما».
(7) في (ق): «يتحرز».
(8) في (ح) و(ن): «يحرم»، وفي (ك): «حرم».
(9) في (ح): «منفردًا».
(10) قوله: «قد» سقط من (ن).
(11) في (أ): «قيل» بدل «صح».
(12) قوله: «هو» سقط من (ن).
(13) الآية (43) من سورة النساء.
(14) في (ح): يشبه «ألم».
(15) في (أ) و(ك) و(ح) و(ق) و(ن): «إلى الشرع».
(16) في (أ) و(ك) و(ح) و(ق) و(ن): «فما كان ينبغي».
(17) قوله: «لا» سقط من (ن).
(18) في (ن): «يحضر».
(19) الآية (93) من سورة المائدة.
(20) الآية (249) من سورة البقرة.(5/256)
أي: ومن لم يشربه (1) . وأصل هذا اللفظ في الأكل. يُقال: طَعِمَ (2) الطَّعام، وشَرِب الشراب. لكن قد تجوَّز (3) في ذلك. وأحسن ما قيل في الآية: إن معنى قوله: {طعموا (4) }: شربوا الخمر قبل تحريمها ، { إذا ما اتقوا}: شربها بعده ، { وآمنوا}: بتحريمها ، { وعملوا الصالحات}: التي تَصدُّ (5) عنها، {ثم اتقوا}: داوموا (6) على اجتنابها ، { وآمنوا}: بالوعيد عليها ، { ثم اتقوا}: سوء (7) التأويل في تحريمها ، { وأحسنوا}، في اجتنابها مراقبةً لله (8) عز وجل **كذا في (أ) **. وقيل: إنَّ تكرار الإِتقاء في مقابلة دواعي النفس، وتكرار الإيمان تذكير بتحريمها، وتشديد الوعيد فيها (9) . و «الجناح (10) »: الإثم والمؤاخذة (11) .
- - - - -
2 - ومن باب الخمر من النخل والعنب والنهي عن اتخاذها خلاًّ
قوله - صلى الله عليه وسلم - : «الخمر من هاتين الشجرتين: العنبة (12) ، والنخلة»؛ حجَّة للجمهور على تسمية ما يُعتصر (13) من غير العنب: بالخمر إذا أسكر، كما قدَّمناه. ولا حجَّة (14) فيه لأبي حنيفة على قوله، حيث قصر الحكم بالتحريم على هاتين الشجرتين؛ لأنَّه قد جاء في أحاديث أخر ما يقتضي تحريم كل مسكر، كقوله (15) : «كل مسكر حرام» (16) ، =(5/257)=@
__________
(1) في (ق): «يشرب».
(2) في (ق): «أطعم».
(3) في (ن): «يجوز».
(4) في (ح): يشبه «فعمو».
(5) في (ق): «يصد».
(6) في (ن): «أداموا».
(7) في (ن): «سوا».
(8) في (ح) و(ك) و(ق): «مراقبة الله».
(9) في (أ) و(ن): «فيهما».
(10) في (ن): «والجاج».
(11) زاد بعدها: في (ق): «والله أعلم).
(12) في (ق): «من العنبة».
(13) في (ك) و(ق): «ما يُعصر».
(14) قوله: «حجة» لم يتضح في (ح).
(15) قوله: «الشجرتين» سقط من (ن).
(16) سيأتي في باب كل شراب مسكر خمر وحرام.(5/257)
و: «كل ما أسكر حرام» (1) ، وحديث معاذ حيث سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شراب العسل، والذرة، والشعير، فقال: «أنهى عن كل مسكر» (2) . وإنَّما خُصَّ في هذا الحديث هاتين (3) الشجرتين (4) بالذكر لأن أكثر الخمر منهما (5) ، أو (6) أعلى الخمر عند أهلها. والله أعلم. وهذا نحو قولهم: المال: الإبل؛ أي: أكثرها وأعمَّها.
وقوله في رواية: «الكَرْمَة والنخلة»؛ يشكل مع قوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تقولوا للعنب الكرم، فإنَّ الكرم قلب المؤمن» (7) ، ويزول الإشكال: بأن نقول (8) : إطلاق هذا كان قبل النهي، ثم بعد ذلك ورد النهي. أو يقال: إنه - صلى الله عليه وسلم - لم يدخل في هذا الخطاب، فإنَّه (9) قال فيه: «لا تقولوا»، فواجهنا به، والمخاطب (10) غير المخاطب، كما تقرَّر في الأصول.
وقول أنس: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخلط الثمر (11) والزهو، ثم يشرب»؛ ظاهرٌ =(5/258)=@
__________
(1) سيأتي في الباب القادم.
(2) سيأتي في الباب القادم، لكن من حديث أبي موسى الأشعري.
(3) في (ن): «لقوله».
(4) في (ح): «الحديث بين هاتين» وفي (ن): «في هذين الحديثين هاتين».
(5) في (ك): «منها».
(6) في (ن): «و» بدل «أو».
(7) سيأتي في باب النهي عن تسمية العنب كرمًا من كتاب الأدب.
(8) في (أ): «يقول».
(9) قوله: «فإنه» تكرر في (ك).
(10) في (ك): «والمحاطب».
(11) في (ك) و(ح) و(ق): «التمر».(5/258)
في تحريم خلطهما وشربه، وهو مذهبُ كافة فقهاء الأمصار، وجمهور العلماء، ومالك في أحد قوليه، وفي الثاني الكراهة، وهو مشهورُ مذهبه. وقد شذَّ أبو حنيفة، وأبو يوسف فقالا: لا بأس بخلط ذلك وشُربه. وقالا: ما حل مفردًا حلَّ مجموعًا. وهذه مخالفه للنصوص الشرعية، وقياسٌ فاسد الوضع، ثم هو منتقِضٌ بجواز نكاح (1) كلِّ واحدةٍ من الأختين مُنفرِدَةً، والجمع بينهما حرامٌ بالإجماع. وأعجب من ذلك تأويلُ أصحابهما للحديث، إذ قالوا: النَّهي (2) عن ذلك إنما هو من باب السَّرف بجمع إدامين. وهذا تغيير وتبديل، لا تأويل. ويشهد (3) ببطلانه نصوص أحاديث هذا الباب كلها. ثم إنهم جعلوا الشرابَ إدامًا فِعْل من ذَهَل عن الشرع والعادة، وتعامى، وكيف ينهى عن الجمع بين (4) إدامين وقد جُمعا على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقًّا بغير مَيْنٍ على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
واختلف القائلون بمنع الخلط في تعليل ذلك وعدمه (5) ، فالذي يليق بمذهب أهل الظاهر عدمُ التعليل. والجمهورُ يُعَلِّلونه: بخوف (6) إسراع الشدَّة المسكرة. وعلى هذا: يقصر النهي عن الخلط (7) على كل شيئين يُؤَثِّر كل واحدٍ منهما في الآخر إسراع =(5/259)=@
__________
(1) قوله: «نكاح» سقط من (ن).
(2) في (أ) و(ك) و(ح) و(ق) و(ن): «أن النهي».
(3) في (أ) و(ك) و(ق) و(ن): «يشهد» بلا واو.
(4) في (ح): يشبه «من».
(5) في (ق): «ذلك أو عدمه».
(6) في (ن): «بحرف».
(7) في (ق): «الخليط».(5/259)
الشِّدَّة إذا خلطا، وهذا هو الذي يُفهم من الأحاديث الواردة في هذا الباب؛ فإنها مصرَّحة بالنَّهي عن الخلط للانتباذ والشرب. وقد أبعد بعض أصحابنا فمنع الخلط وإن لم (1) يكن كذلك، حتى منع خلطهما للتخليل، وهذا إنما يليق بمن لم يعلِّل (2) النهي عن الخليطين بعلَّة، ويلزم عليه أن يجري النهي على (3) خلط العسل واللبن، وشراب الورد والبنفسج (4) ، والخلِّ والعسل (5) ، وغير ذلك. والصواب ما ذهب إليه مالك والجمهور. والله الموفق.
ونهيه - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ الخمر خلاًّ ظاهرٌ في تحريم ذلك. وبه قالت (6) طائفة من أهل العلم، وروي عن عمر (7) رضي الله عنه، وبه قال الزهري، وكرهه مالك، وقال أبو حنيفة: لا بأس بأن يتخذ (8) الخمر خلاًّ. وكيف يصحُّ له هذا مع هذا الحديث ومع سببه الذي خرج عليه، وهو: أن أنسًا روى (9) أن أبا طلحة سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أيتام ورثوا خمرًا: أنجعله خلاًّ؟ قال: «لا»، فهراقه (10) ، فلو كان هذا (11) جائزًا (12) لكان قد ضيَّع على الأيتام مالهم، ولوجب الضمان على من أراقها عليهم، وهو: أبو طلحة. وكل ذلك لم يلزم، فدلَّ ذلك على فساد ذلك القول.
وهذا الحديث أيضًا (13) يدلّ: على أن الخمر لا تُملك بوجه، وهو مذهب الشافعي. وقال بعض أصحابنا: إنَّها تُملك. وليس بصحيح؛ إذ لا تُقرُّ (14) تحت يد أحد من المسلمين، ولا يجوز له التصرُّف فيها إلا بالإراقة، ولا ينتفع بها. فأي معنى لقول من قال: إنه يملكها ؟! غير أنه يُطلق لفظ التمليك بالمجاز المحض. والله أعلم (15) .
فرع: لو تخلَّلت الخمر بأمرٍ من الله عز وجل (16) حلَّت. ولا خلاف في ذلك على ما حكاه القاضي عبدالوهاب. فأمَّا لو خلَّلها آدمي فقد أثم؛ لاقتحامه (17) النهي، ثم إنها تحل وتطهر، على الرواية الظاهرة عن مالك، وعنه رواية أخرى: أنها =(5/260)=@
__________
(1) قوله: «لم» سقط من (ن).
(2) في (ح): «بمذهب من لم يعلل».
(3) في (ح): «عن».
(4) في (ك): «البنفسج».
(5) في (ح) و(ك) و(ق): «والعسل والخل».
(6) في (ك) و(ق): «قال».
(7) أخرجه عبدالرزاق في "المصنف" (10/17) عن عبدالقدوس سمع مكحولاً يقول: قال عمر بن الخطاب: لا يحل خلٌّ من خمرٍ أفسدت حتى يكون الله هو الذي أفسدها.
وأخرجه عبدالرزاق (171)، وابن عبدالبر في "التمهيد" (1/262) جميعًا من طريق ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن القاسم بن محمد، عن أسلم مولى عمر، عن عمر به.
(8) في (ك): «تتخذ».
(9) هذا الحديث أخرجه ابن أبي شيبة (8/202)، وأحمد (89/12)، وأبو داود (3675)، وأبو يعلى (4051). وأخرجه الدارمي (2/118)، والدارقطني (4/265)، والبيهقي (6/37). كلهم من طريق السُّدي، عن أبي هبيرة يحيى بن عباد، عن أنس به. وأصل الحديث من نفس الطريق في "صحيح مسلم" (1983) مختصرًا.
(10) في (ح): «فأهراقه».
(11) قوله: «هذا» سقط من (ح).
(12) في (ن): «جائز».
(13) قوله: «أيضًا» سقط من (ح).
(14) في (ق): «لا يقر».
(15) قوله: «والله أعلم» سقط من (ق).
(16) في (ح) و(ق): «الله تعالى».
(17) في (ق): «لاقتحام».(5/260)
لا تحل تغليظًا على المقتحم. وقال الشافعي: إنها تحل (1) وهي على النجاسة. وهذا ضعيف لوجهين:
أحدهما: بأنه (2) منتقضٌ بما إذا (3) تخلَّلت من نفسها (4) .
والثاني: أن الموجب للتحريم والتنجيس وهو الشدَّة (5) ؛ قد زال، فيزول الحكم.
فإن قيل: هَبْكَ (6) أن الشدة قد زالت، لكن بقيت علَّة أخرى للتَّنجيس وهو مخالطة الوعاء النجس فإنَّه تنجس (7) بالخمر، فلما استحالت عينها للخلِّيِّة بقيت ممازجته للوعاء (8) النجس، فتنجست بما خالطها من نجاسة الوعاء.
فالجواب: أن الوعاء حين (9) استحالت الخمر خلاًّ طاهرٌ (10) لطهارة ما تعلق به فيه (11) ؛ إذ هو الآن جزء من الخل الذي في الوعاء. فإنَّ قيل: فيلزم على هذا أن يزول حكم النجاسة عن المحل بغير الماء، وليس (12) بأصلكم؟
فالجواب: إنا (13) وإن لم يكن ذلك (14) أصلنا، فقد (15) خرج عن ذلك الأصل الكلِّيِّ فروع: كالمخرجين، وذيل المرأة، والخف، والنعل إذا تعلقت بها أرواث الدواب، وكالسَّيف (16) الصقيل، وغير هذا مِمَّا استثني عن ذلك الأصل بحكم الدليل الخاصّ، فيمكن أن تَلْحق (17) هذه المسألة بتلك المواضع. والتحقيق في الجواب ما أشرنا إليه: من أن عين ما حكمنا بنجاسته لأجله قد طهر (18) ، فالمتعلق به (19) الآن طاهرٌ لا نجس، فالوعاء ليس بنجس. والله الموفق.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - للذي سأله عن الخمر فقال: إنما أصنعها (20) للدواء: «إنها ليس (21) بدواء، ولكنها داء)) دليل: على أنه (22) لا يجوز التداوي بالخمر، ولا بما حرمه =(5/261)=@
__________
(1) في (ح): «لا تحل».
(2) في (ك): «أنه» وفي (ن): «فأنه».
(3) في (ن): «إذ» بدل «إذا».
(4) في (ح): «تخللت بنفسها».
(5) في (ق): «الشدة المطربة». وقوله: «وهو الشدة» سقط من (ن).
(6) قوله: «هبك» سقط من (ح).
(7) في (ق): «ينجس».
(8) في (ح) و(ك): «ممازجة الوعاء».
(9) في (ك): «حيث» وسقط من (ن).
(10) في (ح): «طاهرًا».
(11) في (ق) و(ن): «منه».
(12) في (ن): «فليس».
(13) في (ق): «فإنا».
(14) قوله: «ذلك» سقط من (ق) و(ن).
(15) في (ق): «وقد».
(16) في (ح): يشبه «كالمسرف».
(17) في (ن): «يلحق».
(18) في (ن): «ظهر».
(19) قوله: «به» سقط من (ن).
(20) في (أ): «الخمر فإنما أصنعه» وفي (ق): «إنما أضعها».
(21) في (أ) و(ك) و(ح) و(ن): «ليست».
(22) قوله: «أنه» سقط من (ن).(5/261)
الله تعالى من النجاسات والميتات وغيرهما (1) آكلاً ولا شربًا. وبه قال كثير من أهل العلم. =(5/262)=@
__________
(1) في (أ) و(ق) و(ن): «غيرها».(5/262)
- - - - -
4 - ومن باب: النهي عن الانتباذ في المزفت والحنتم (1) وغيرهما ونسخ ذلك
قد تقدَّم تفسير هذه الأوعية المذكورة (2) في هذا الباب في كتاب الإيمان، وقد بقيت ألفاظ. فمنها: في (3) الأصل: قوله - صلى الله عليه وسلم - : «أنهاكم عن الدُّباء، والحنتم، والنقير، =(5/263)=@
__________
(1) في (ن): «والمحنتم».
(2) في (ق): «المذكور».
(3) في (ح): «أن».(5/263)
والمقيَّر، والحنتم: المزادة المجبوبة. كذا رواية الكافة. « والحنتم: المزادة (1) » بغير واو (2) ، وكأنه تفسير للحنتم، وليس بشيء؛ لأنَّ الحنتم الجرّ، والمزادة: السِّقاء. وقد رواه الهوزني (3) : «والحنتم والمزادة» بالواو، وكذا (4) وقع في كتاب أبي داود (5) . وقد جوَّده (6) النسائي (7) ، قال (8) : «والحنتم (9) ، وعن المزادة المجبوبة»، والمجبوبة بالجيم، وبالباء بواحدة (10) من تحتها، هي الرواية الصحيحة (11) ؛ أي: مقطوعة العنق. قال الهروي وثابت: هي التي قطع رأسها فصارت كهيئة الدّنِّ، وذلك أنَّها لا توكأ، فيعلم إذا غلى ما فيها. وقال (12) الخطابي: لأنها ليست لها عراقي (13) (14) فيتنفس (15) منها، فقد يتغيَّر شرابها ولا يشعر به. وأصل الجبِّ: القطع. وقد رواه بعضهم (16) : «المخنوثة» بالخاء المعجمة، =(5/264)=@
__________
(1) في (ق): «المزادة المجببة»
(2) في (أ): «أو كأنه» وفي (ح) و(ق): «واو كأنه».
(3) في (أ): «الهروي» وفي (ق): «الهوزني» وكتب في الهامش «الهروي» ووضع فوقها (خـ).
(4) في (ق): «وكذلك».
(5) (4/95 رقم3693) في الأشربة، باب في الأوعية.
(6) في (ح): «جوزه».
(7) كذا قال المؤلف نقلاً عن القاضي عياض في "الإكمال" (6/455)، وكذا نقله السيوطي في "الديباج" (5/54)، والشوكاني في "نيل الأوطار" (9/70)، و"سنن النسائي: في "المجتبى"(8/309 رقم 5646)، وفي "الكبرى" (3/224 رقم5156).
(8) في (أ) و(ك) و(ح) و(ق) و(ن): «فقال».
(9) في (ك): «الحنتم» بلا واو وقوله: «والحنتم» سقط من (ن).
(10) في (ك): «الموحدة».
(11) قوله: «هي الرواية الصحيحة» سقط من (ح) و(ك).
(12) في (أ) و(ن): «وقاله».
(13) في (ق) و(ن): «ليس لها عراق».
(14) كذا في جميع النسخ، وفي المطبوع من "حاشية الخطابي على أبي داود" (4/95): «عزلاء»، وهكذا هو عند عياض في "الإكمال" (6/456)، وكذا في "النهاية" (1/233)، وكذا في "لسان العرب" (1/249). قال في "لسان العرب" (11/443): «والعزلاء: مصب الماء من الرَّاوية والقربة في أسفلها حيث يستفرغ ما فيها من الماء».اهـ. وفي "حاشية عوامة لأبي داود" (4/258): «مصب الماء».
(15) في (ك) و(ق) و(ن): «فتتنفس» وفي (ح): «عراق فتنفسن» كذا رسمت.
(16) نقله المؤلف عن القاضي عياض في "الإكمال" (6/455)، وكذا نقله عن القاضي النووي في "شرح مسلم" (13/159)، والسيوطي في "الديباج" (5/54)، والشوكاني في "نيل الأوطار" (9/70). ولم أقف على تلك اللفظة.(5/264)
والنون، والثاء المثلثة. وكأنَّه عنده من الحديث الآخر: نهى عن اختناث الأسقية (1) . والصواب الأوَّل.
وقوله في تفسير النَّقير: هي النخلة تُنسج نَسْجًا بالجيم عند ابن الحذاء. وعند غيره: «تُنسحُ نَسْحًا» بالسين والحاء المهملتين. وهو الصواب. ومعناه: يقشر عنها قشرها. والنُّساحة -بضم النون -: ما تساقط من قشر الثمر. وتُنْقر نقرًا - بالنون فيهما -: رواية الجماعة. والله تعالى أعلم. وعند ابن الحذاء: بالباء بواحدة من تحتها؛ أي: تشق. و« المدر»: الطين. يقال: مدرت الحوض، أمدره: إذا أصلحته بالمدر. وهو الطِّين. و «البرام»: جمع بُرَّمة. وتجمع أيضًا: بُرُم. وهي قدور من حجارة. =(5/265)=@
__________
(1) سيأتي في باب النهي عن الشرب قائمًا.(5/265)
وحاصل أحاديث النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية: المنع للذي (1) يخاف من سرعة تغيُّر النبيذ وشربه، ولا يشعر الشارب بتغيُّره، وتفسد أيضًا ماليِّته. فهو من باب حماية ذرائع السكر، وإفساد المال، فلما تعذرت ظروف الأدم عليهم لقال الشيخها حين قالوا له: ليس كل الناس يجد سقاء وبأكل (2) الجرذان لها، كما قال في حديث وفد عبد القيس، وشق ذلك عليهم رفع ذلك عنهم بأن وسَّع عليهم، وأباح لهم (3) ما كان منعهم منه من تلك الأوعية، ونصَّ على المعنى الذي ينبغي أن يُتحرَّز منه، وهو المسكر، فقال: « نهيتكم عن النبيذ إلا في سقاءٍ، وإنَّ ظرفًا لا يُحلُّ شيئا ولا يُحرِّمه، وكل مسكر حرام». وفي اللفظ الآخر: «فاشربوا في الأسقية كلَّها، =(5/266)=@
__________
(1) في (ح): «الذي».
(2) في (أ): «ويأكل».
(3) قوله: «وأباح لهم» سقط من (ح).(5/266)
ولا تشربوا مسكرًا»؛ فثبت النسخ، وارتفع التضييق، والحمد لله. ومع وضوح هذا النسخ فقد كره مالك الانتباذ في الدُّباء، والمزفت مبالغة في الاتقاء والورع؛ لأنَّ هذين الوعاءين أمكن في المعنى الذي قرَّرناه، ولحديث عبدالله بن عمرو، الذي قال فيه: فارخص لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجرِّ غير المزفت (1) (2) . والله تعالى أعلم.
- - - - -
ومن باب كل مسكر خمرٌ (3) وحرامٌ
قوله: «وكان (4) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أُعطي جوامع الكلم وخواتمه (5) »؛ يعني بالجوامع: الكلمات البليغة، الوجيزة الجامعة للمعاني الكثيرة، وقد جاء هذا اللفظ =(5/267)=@
__________
(1) من قوله: «ولحديث عبدالله بت عمرو....» إلى هنا سقط من (أ).
(2) أخرجه مسلم في "صحيحه" (3/1585 رقم2000) كتاب الأشربة.
(3) قوله: «خمر» سقط من (ح). تراجع النسخ !
(4) في (ح) و(ك): «كان».
(5) في متن الحديث: «بخواتمه».(5/267)
ويراد به: القرآن في غير هذا الحديث. ويعني بخواتيم الكلام: أنه يختم كلامه بمقطع وجيز بليغ كما بدأه بمبدأ وجيز بليغ جامع. ويعني بجملة هذا الكلام - والله أعلم -: أن كلامه من مبدئه إلى خاتمته كله بليغ وجيز، ولذلك كانت العرب الفصحاء تقول له: ما رأينا الذي هو أفصح منك. فيقول: «وما يمنعني وقد أنزل القرآن بلساني؛ لسانٍ عربيٍّ مبينٍ» (1) .
وقوله: «أنهى عن كل مسكرٍ أسكر عن الصلاة»؛ أي: صَدَّ عنها بما فيه من السكر، كما أشار الله تعالى إليه حيث قال: {ويصدكم عن ذكر الله وعن الصَّلاة فهل أنتم منتهون} (2) .
وقوله ( : «أو مُسكرٌ هو ؟» الرواية التي لا يعرف غيرها هي: بفتح الهمزة، وفتح الواو، وعلى جهة الإستفهام عن صفة النبيذ المسئول عنه، وهو حجَّة على من يعلق التحريم على وجود الإسكار بالشارب من غير اعتبار وصف المشروب. وهم الحنفية. وهذا نصَ في أن المعتبر شرعًا إنما هو المعنى الذي في الخمر؛ الذي يُعبّر عنه (3) الفقهاء بالشَّدَّة المطربة والمسكرة. =(5/268)=@
__________
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في "المطر"، والرامهرمزي في "أمثال الحديث" (1/157)، وأبو عبيد في "غري الحديث" (...)، وأبو علي في القالي في "الأمالى" فيما ذكره الحسيني في "البيان والتعريف" (1/65)، كلهم من طريق موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن أبيه، عن جده، وموسى هذا منكر الحديث.
(2) الآية (91) من سورة المائدة.
(3) في (أ): «عند».(5/268)
وقوله: «إن على الله عهدًا (1) لمن شرب المسكر (2) »؛ أي (3) : التزم ذلك بقوله ووعيده (4) حسب ما سبق في علمه. وقد فسَّر «طينة الخبال» بأنها عُصَارة أهل النار. وفي حديث آخر: «صديد أهل النار» (5) . وسُمِّي (6) ذلك بطينة (7) الخبال لأنها تخبل عقل شاربها، وتفسد حاله. مأخوذ من الخبل في العقل، والله تعالى أعلم (8) .
وهذا الوعيد وإن كان مُعلَّقًا على مطلق الشرب فقد قيده في الحديث الآخر منها فقال: «من شرب الخمر في الدنيا (9) فمات وهو يدمنها، لم يتب، لم يشربها في الآخرة». وأما من تاب منها: فلم يدخل في هذا الوعيد إذا حسنت توبته.
وفيه ما يدلّ على أن التوبة (10) من الذنب مكفرة له. وهو الذي صرحت به آي (11) الكتاب، والسُّنَّة، كقوله تعالى:{وهو الذى يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات} (12) ، وكقوله (13) :{إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحًا (14) فأولئك يبدل (15) الله سيأتهم حسنات} (16) ، وغير ذلك من الآي. ولقوله (17) - صلى الله عليه وسلم - : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (18) ، وغير ذلك (19) . وهذا مقطوعٌ به في التوبة من الكفر، وهل هو مقطوعٌ به، أو مظنون في التوبة من غير الكفر؛ اختلف فيه أهل السُّنَّة. والذي أقوله (20) : إن من استقرأ الشريعة قرآنًا وسُنَّة (21) ، وتتتع ما فيهما من هذا المعنى علم على القطع واليقين: أن الله يقبل توبةَ الصَّادقين. =(5/269)=@
__________
(1) في (ك): «عهد».
(2) في (ق) و(ن): «مسكرًا).
(3) قوله: «أي» سقط من (ح).
(4) في (ك): «ووعده» وكتب في الهامش «ووعيده» وكتب تحتها (خ).
(5) أخرجه الطيالسي (2013)، وأحمد (4917)، وعبدالرزاق (17058)، والترمذي (1862)، وأبو يعلى (5686)، والطبراني (13441 و13445 و13448)، و"شرح السنة" (3016). كلهم من طرق عن عطاء بن السائب، عن عطاء بن السائب، عن عبدالله بن عبيد بن عمير، عن أبيه، عن ابن عمر به. وإسناده حسن رواه حماد بن زيد، وهمَّام بن منبه، ومعمر وجرير، عن عطاء به.
وللحديث شواهد من حديث ابن عباس أخرجه أبو داود (3680)، والطبراني (13015)، والبيهقي (8/288)، وفي "شعب الإيمان" (5581).
ومن حديث أسماء بنت يزيد أخرجه أحمد (6/460)، والطبراني (24/168). قال الهيثمي (5/69)، وفيه شهر بن حوشب، وهو ضعيف، وقد حسّن حديثه، وبقية رجاله ثقات.
(6) في (ق) و(ن): «ويسمي».
(7) في (أ): «طينه».
(8) في (أ): «والله أعلم».
(9) قوله: «الدنيا» سقط من (ن).
(12) الآية (25) من سورة الشورى.
(13) في (ك): «وقوله».
(14) في (أ): «ومن تاب وعمل صالحًا».
(16) الآية (70) من سورة الفرقان.
(18) هذا الحديث رواه ابن ماجه (2/1419 رقم4250) كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، والبيهقي في "الكبير" (10/150 رقم10281)، وأبو نعيم في "الحلية" (4/210) من حديث معمر، عن عبدالكريم الجزري، عن أبي عبيدة بن عبدالله بن مستورد، عن أبيه. وهذا منقطع بين أبي عبيدة وأبيه. وضعفه البيهقي. وقال الخطيب: لا يتابع وهيب بن خالد على رفعه. وقال أبو نعيم: غريب من حديث عبدالكريم لم يصله عن معمر إلا وهب. وهذا الحديث أصله حديث: الندم توبة؟ فقال نعم. واختلف في زياد هذا هل هو ابن الجراح أو ابن أبي مريم على تفصيل في ذلك ذكرته في "مختصر استدراك الذهبي على الحاكم" (6/2846) تابع الحديث (96)، وكذلك في "سنن سعيد بن منصور" حديث رقم (1269)، وقد أطال الكلام على حديث الندم توبة الخطيب في "موضح الأوهام" (1/247 -263).
فالحاصل: أن الرواية المحفوظة عن عبدالكريم هي عن زياد، عن ابن معقل، عن ابن مسعود مرفوعًا: «الندم توبة». رواه عبدالكريم عن جماعة من الثقات الأثبات.
وأما لفظ: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» فلم يروها عن عبدالكريم إلا معمر بن راشد. واختلف عليه، وكذا أبو نعيم كما سبق.
والحديث حسنه الألباني في "الضعيفة" (2/83). والظاهر أنه لم يقف على هذه العلَّة. وأما تحسيين الحافظ والأباني للحديث بشواهده فقد روى البيهقي هذه الشواهد (10/154) وضعفها كلها.
(19) من قوله: «من الآي....» إلى هنا سقط من (أ).
(20) في (ك): «أقول به».
(21) قوله: «قرآنًا وسنة» سقط من (ح).(5/269)
وقوله: «من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة»، أو: «حرمها في الآخرة»؛ ظاهره تأبيد التحريم، وإن دخل الجنة فشرب جميع أشربة الجنة من ماء وعسل ولبن، ولا يشرب الخمر، ومع ذلك: فلا يتألم لعدم شُرْبها، ولا يتنقص من فقدها، ولا يحسد من يشربها، فإنَّ الجنة محل مطهَّر منزه عن ذلك كلّه. وإنَّما يكون حال هذا مع فقد شُرب الخمر كحاله مع المنازل التي رفع بها غيره عليه مع علمه برفعتها، وبأن صاحبها أعلى منه درجة، وأفضل منه عند الله تعالى. ومع ذلك فلا يحسده (1) ، ولا يتألم بفقد شيء من ذلك استغناء بالذي أُعطي، وغبطة به، ولأن الله تعالى قد طهرهم من كل نقص وصفة مذمومة. ألا ترى قوله تعالى: {ونزعنا ما فى صدورهم من غلٍّ إخواننًا على سرر متقابلين} (2) ؟ وقال بهذا المعنى جماعة من العلماء. وقيل: يُنسى خمر الجنة. وقيل: لا يشتهيها. وكل ذلك محتمل. والأولى: الوجه الأول، والله تعالى أعلم.
وقيل: معنى الحديث: أن حرمانه الخمر إنما هو في الوقت الذي يعذب في النار، ويسقى من طينة الخبال، فإذا خرج من النار بالشفاعة، أو بالرحمة العامة المعبَّر عنها في الحديث بالقبضة (3) ؛ أدخل الجنة، ولم يُحرم شيئا منها، لا خمرًا، ولا حريرًا، ولا غيره. قال هذا القائل: فإنَّ حرمان شيء من لذات الجنة لمن كان في =(5/270)=@
__________
(1) في (أ): «فلا يحسد».
(2) الآية (47) من سورة الحجر.
(3) يعني حديث أبي سعيد الخدري، وفيه: فيقبض قبضةً من النار، فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط...، الحديث. وقد تقدَّم في كتاب الإيمان، باب شفاعة الملائكة والنبيين والمؤمنين.(5/270)
الجنة نوع عقوبة، ومؤاخذة فيها، والجنة ليست بدار عقوبة، ولا مؤاخذة فيها بوجه من الوجوه. والله تعالى أعلم. وكذلك القول في قوله - صلى الله عليه وسلم - : «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» (1) ، و «من شرب في آنية الذهب والفضة لم يشرب بها في الآخرة» (2) ؛ يجرى فيهما كل ما ذكرناه.
- - - - -
ومن باب كم المدة التي يشرب إليها (3) النبيذ
قوله: «كنا ننبذ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوَّل الليل فيشربه إذا أصبح يومه ذلك، والليلة التي تجيء، والغد، والليلة الأخرى والغد (4) إلى العصر»؛ هذا الحديث وما في معناه يدلّ على جواز الانتباذ وشُربه حلوًا، وعلى أكثر قدر المدَّة التي يشرب إليها، وهي جواز مقدرة في هذا الحديث بليلتين ويومين (5) ، غير أنَّه جعل غاية اليومين العصر، ثم سقاه الخادم. وفي الرواية الأخرى (6) : «المساء، ثم أمر به فاريق»، وظاهر هاتين (7) الروايتين: أنهما مرَّتان. فأما (8) الأولى: فإنَّه لم يظهر فيه (9) ما يقتضي إراقته، وإتلافه، لكن اتَّقاه =(5/271)=@
__________
(1) سيأتي في باب لباس الحرير، من كتاب اللباس.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة(5/103)، ومن طريقه مسلم(2/1636) من حديث البراء بن عازب قال: نهى رسول الله ( عن الشرب في الفضة، فإنه من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة. واللفظ لابن أبي شيبة. وليس فيه ذكر الذهب.
وأخرج النسائي في "الكبرى" (4/95 رقم5869) كتاب الأشربة، والحاكم (4/157) من حديث أبي هريرة: أن النبي ( قال: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة، ومن شرب في آنية الذهب والفضة لم يشرب بها في الآخرة»، ثم قال رسول الله ( : لباس أهل الجنة، وشراب أهل الجنة، وآنية أهل الجنة».
(3) في (ح): «فيها».
(4) قوله: «والغد» سقط من (ح)، وفي حاشية (ك): «إلى الغد».
(5) في (ك): «بيومين وليلتين».
(6) قوله: «الأخرى» سقط من (ح).
(7) في (أ): «هذين».
(8) في (ك): «أما».
(9) في (ح): «فلم يظهر فيها».(5/271)
في خاصَّة (1) نفسه أخذًا بغاية الورع، وسقاه الخادم؛ لأنَّه حلال جائز، كما قال في أجرة الحجَّام: «اعلفه ناضحك (2) » (3) ؛ يعني: رقيقك. وأما في المرة الأخرى: فتبين له فساده فأمر بإراقته، ولا يستبعد أن يفسد النبيذ فيما بين العصر والمغرب في آخر مُدَّته في شدة الحر. وقد ذكر أبو داود (4) من حديث أبي هريرة ما يبيِّن هذا المعنى؛ وذلك: أن أبا هريرة تحيَّن فِطر النبي - صلى الله عليه وسلم - بنبيذ صنعه له، فجاءه به وهو يَنِشُّ، فقال له (5) : «اضرب بهذا الحائط، فإنَّ هذا شراب (6) من لا يؤمن بالله واليوم الآخر».
وقول عائشة: «إنها كانت تنبذ له غدوة فيشربه عشاءً، وتنبذ له عشاءً فيشربه غدوة»؛ يدل على أقصر (7) زمان يشرب فيه، فإنَّه لا تخرج (8) حلاوة التمر، أو الزبيب (9) في أقل من ليلة، أو يومًا (10) . =(5/272)=@
__________
(1) قوله: «خاصة» سقط من (أ).
(2) في (ك): «ناضحك»، وعلى أكثر الروايات، وجاء في بعض الروايات: « نضاحك» كما هو عند مالك في "الموطأ".
(3) الحديث أخرجه الشافعي في "اختلاف الحديث" (1/277)، والحميدي (878)، وابن أبي شيبة (6/265)، وأحمد (5/436)، وابن ماجه (2166)، وأبو داود (3423)، والترمذي (1277)، وابن الجارود (583)، وابن حبان (11/558)، والطبراني (6/5471)، والطحاوي (4/131)، والبيهقي (9/337) من طرق عن الزهري، عن حرام بن محيصه، عن أبيه، عن النبي ( به. وقد احتلف فيه على الزهري اختلافًا لا يضرَّ صحة الحديث.
وللحديث شواهد من حديث جابر ورافع بن رفاعة:
أما حديث جابر فأخرجه الحميدي (1284)، وأحمد (14290)، وأبو يعلى (2114)، والطحاوي (4/130) من طريق ابن عيينة، عن أبي الزبير، عن جابر: أن النبي ( سُئل عن كسب الحجام، فقال: «أعلفه ناضحك».
وقد صرَّح أبو الزبير بالتحديث عند أحمد برقم (15079). وأما حديث رافع بن رفاعة فأخرجه أحمد (18998) من طريق طارق بن عبدالرحمن القرشي، عن رافع بن رفاعة به مطولاً، وإسناده ضعيف: طارق القرشي لم يوثقه غير ابن حبان والعجلي. وقال الذهبي: لا يكاد يعرف , ورافع بن رفاعة لا تصح له صحبة. والحديث بطرقه الأخرى، والله أعلم.
(4) رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (3/157)، وأوب داود (4/107 رقم3716)، وابن ماجه (2/1128 رقم3409)، والنسائي في "الكبرى" (3/217 و237)، وفي "المجتبى" (8/301 رقم5610)، و(8/325 رقم5704)، وأبو يعلى (7260)، والطبراني في "مسند الشاميين" (1221)، والبيهقي (8/303). كلهم من طرق عن زيد بن واقد، عن خالد بن عبدالله بن حسين، عن أبي هريرة به.
وخالد هذا لم يوثقه غير ابن حبان.
وللحديث شاهد من حديث أبي موسى:
أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (7259)، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/61)، وقال: «رواه أبو يعلى والبزار والطبراني، وفيه: موسى بن سليمان بن موسى، وثقه أبو حاتم وبقية رجاله ثقات».اهـ.
(5) قوله: «له» سقط من (ن).
(6) في (ق) و(ن): «فإنه شراب».
(7) في (ح) و(ق) و(ن): «أقصى».
(8) في (ق): «لا يخرج».
(9) في (ك): «والزبيب».
(10) في (أ) و(ق) و(ك) و(ح) و(ن): «أو يوم».(5/272)
والحاصل من هذه الأحاديث: أنه يجوز شرب النبيذ ما دام حلوًا؛ غير أنه إذا انتبذ (1) في (2) الحرِّ أسرع إليه التَّغَيُّر (3) في زمان الحرِّ دون زمان البرد. فليتَّق الشارب هذا، ويختبره قبل شربه إذا أقام يومين أو نحوهما برائحته، أو تغيره، أو ابتداء (4) نَشِيشِه (5) ، فإن رابه (6) شيء فعل كما فعل النبي ( .
وقول ابن عباس للسائلين: «أو مسلمون أنتم ؟» استفهام لهم عن دخولهم في الإسلام؛ لأنَّهم سألوا عن بيع الخمر، والتجارة فيها. وذلك الحكم كان معلومًا عند المسلمين، بحيث لا يجهله (7) من دخل في الدين، وامتد مقامه فيه. وكأن هؤلاء (8) السائلين كانوا حديثي عهد بالإسلام، أو كانوا من (9) الأعراب. وفتيا (10) ابن عباس بقوله: لا يصح (11) . إنما معناه: أن ذلك حرام لنصوص السُّنَّة بالتحريم، كقوله ( : «إن الذي حرَّم شربها حرم بيعها» (12) ، و «إن الله إذا حرَّم على قومٍ شيئًا حرَّم عليهم =(5/273)=@
__________
(1) في (أ) و(ك) و(ح) و(ق) و(ن): «إذا اشتد».
(2) قوله: «في» سقط من (ك) و(ح) و(ق) و(ن).
(3) في (ق): «التغيير».
(4) في (ح): «وابتداء».
(5) في (ق): «تنشيشه».
(6) في (ق) و(ن): «راى به».
(7) في (ك) و(ق): «لا يحله».
(8) في (ق): «هاولاي» كذا رسمت.
(9) في (ك): يشبه أن تكون «عند».
(10) في (ن): «وفتى».
(11) في (أ) و(ك) و(ق) و(ن): «لا يصلح».
(12) تقدم في باب تحريم الخمر والميتة، من كتاب البيوع.(5/273)
ثمنه» (1) . وهذا كله مفهوم من الأمر بإراقتها وباجتنابها فإنَّه إذا لم ينتفع بها (2) فأخذ المال عوضًا عنها أكلٌ للمال بالباطل (3) .
وإراقة النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نبذ في الحنتم والنقير كان ذلك - والله تعالى أعلم - قبل أن ينسخ ذلك كما تقدَّم.
وقوله في حديث سهل: «فأماثته»؛ هكذا الرواية بالهمزة (4) رباعيًّا (5) ، والثاء المثلثة، والتاء باثنتين من فوقها. ومعناه: عركته. ويقال ثلاثيًّا. قال الهروي: يقال: مُِثْتُ (6) الشيء، أَمِيثُه، وأمثْتُه (7) أُمِيثُه. والثلاثي حكاه ابن السِّكِّيت. وقد وقع في بعض نسخ مسلم: «أماتته (8) » بتاءين (9) كل واحدة منهما باثنتين فوق (10) . وهو (11) تصحيف، والله أعلم. و «العزلاء»: فم السقاء الأسفل.
- - - - -
باب كيفية التنبيذ الذي يجوز شربه **غير موجود في النسخ وليس في (أ) و(ك) و(ح) و(ن) و(ق)**
وقوله: «تَخُصُّه بها (12) »؛ كذا لجميع رواة مسلم. وإنما خَصَّته بذلك لقال الشيخه؟ فإنَّه كان لا يكفي أكثر من واحد. ويحتمل أن تكون (13) بدأته به رجاء بركته على عاداتهم (14) معه. وقد رواه ابن السَّكن (15) في كتاب البخاري (16) : «تتحفه به». وهو قريب المعنى من: «تخصُّه به»، فإنَّه من التُّحفة، وهي الطُّرفة. =(5/274)=@
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند (2221)، (2678)، (2964)، والبخاري في الكبير (2/147)، وأبو داود (3/758 رقم 3488) كتاب البيوع باب في ثمن الخمر والميتة والطبراني في الكبير (12887)، وابن حبان (4938)، والبيهقي (6/13 - 14) من طرق عن خالد الحذاء عن بركة أبي الوليد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان رسول الله ( قاعدًا في المسجد مستقبلاً الحجر قال فنظر إلى السماء فضحك ثم قال: لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وإن الله عز وجل حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه . وهذا إسناد صحيح.
(2) قوله: «بها» سقط من (ح).
(3) في (ح) و(ك): «من أكل المال بالباطل» وفي (ق) و(ن): «أكل المال».
(4) في (ح) و(ك): «بالهمز».
(5) قوله: «رباعيا» سقط من (ن).
(6) في (أ): «مثثت» وفي (ح) يشبه «مثثت» .
(7) في (ح): يشبه «أمثثته» وفي (ن): «وأميثه».
(8) في (ن): «أماثته».
(9) في (ك): «بتاءين مثناتين فوق».
(10) في (ح) و(ن): «فوقها» وفي (ق): «من فوقها».
(11) في (ق): «وهذا».
(12) في (ك): «به» وكتب الناسخ فوقها «بها».
(13) في (أ) و(ق) و(ن): «يكون».
(14) في (أ) و(ق) و(ن): «عادتهم».
(15) في (ق): «السكيت».
(16) نبّه البخاري في "فتح الباري" (9/251)، والقسطلاني في "إرشاد الساري" (8/77) على أنَّ رواية ابن السكن مثل رواية مسلم: «تخصُّه»، وأن رواية النسفي: «تتحفه به».(5/274)
- - - - -
9 - ومن باب استدعاء الشراب من الخادم
قوله: «الأُجُم» بضم الهمزة: الحِصْنُ (1) ، وجمعه آجام. قاله أبو عبيد، وكذلك: أُطُم، وآطام.
وقول هذه المرأة لرسول - صلى الله عليه وسلم - : «أعوذ بالله منك»؛ يدلّ: على أنها لم تعرفه، ولم تعرف ما يراد منها. ولذلك قالت لما أخبرت بمن (2) هو، وبما أريد (3) بها: «أنا كنت أشقى من ذلك».
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لها (4) : «قد أَعذتُكِ»؛ جواب لقولها، وموافقة لها على قصدها وذلك: أنه فهم منها كراهية (5) من قولها، ومن حالها؛ إذ كانت مُعْرِضةً عمَّن يُكلِّمُها، ولعلَّها لم تعجبه لا خَلْقًا، ولا خُلُقًا (6) . =(5/275)=@
__________
(1) في (ق): «الجص».
(2) في (ق): «من» بدل «بمن».
(3) في (ح): «وما أريد».
(4) قوله: «لها» سقط من (ك).
(5) في (ق): «كراهته».
(6) من قوله: «إذ كانت معرضة...» إلى هنا سقط من (ن).(5/275)
وقوله ( : «اسقنا ياسهل»؛ دليل على التَّبَسُّط (1) مع الصديق، واستدعاء ما عنده من طعام وشراب (2) ، وهذا لا خلاف فيه إذا كان الصديق ملاطفًا (3) ، طيب النفس، وعلم من حاله ذلك. وهذا (4) الذي قاله (5) الله تعالى فيهم (6) : {أو صديقكم} (7) .
وقول أنس: «لقد سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدحي هذا الشراب كلَّه: العسل، والنبيذ، واللبن، والماء»؛ فيه (8) دليل على استعمال الحلاوة، والأطعمة اللذيذة، وتناولها (9) . ولا يقال: إن ذلك يناقض الزهد، ويباعده (10) ، لكن إذا كان ذلك من وجهه، ومن غير سرف، ولا إكثار.
واستيهابُ (11) عمر بن عبدالعزيز القدح من سهل؛ إنما كان على جهة التَّبُّرك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يزل ذلك دأب الصحابة والتابعين وأتباعهم، والفضلاء في كلِّ عصر. فكان أصحابه (12) يتبرَّكون بوضوئه، وشرابه (13) ، وبعرقه (14) ، ويستشفون بِجُبَّته، ويتبركون بآثاره، ومواطنه، ويدعون، ويصلُّون عندها (15) . وهذا كلُّه عمل ** كذا في (أ)** بمقتضى الأمر بالتعزير (16) ، والتعظيم. ونتيجة الْحُبِّ الصحيح. رزقنا الله الحظَّ الأكبر من تعظيمه، ومحبَّته، وحشرنا في زمرته. =(5/276)=@
__________
(1) في (أ) و(ح) و(ك) و(ق) و(ن): «أويباعده».
(2) في (ك) و(ح) و(ق) و(ن): «أو شراب».
(3) في (ق): «مالطفًا».
(4) في (ق) و(ن): «وهو».
(5) في (أ) و(ح) و(ك) و(ق): «قال» بدل «قاله».
(6) في (ك) و(ح) و(ق) و(ن): «فيه».
(7) الآية (61) من سورة النور.
(8) في (ح): «وفيه».
(9) في (ق): «ويتناولها».
(10) في (أ) و(ن): «أويباعده».
(11) في (ح): يشبه «واستهاب».
(12) في (ق): «الصحابة».
(13) في (ح): «ولشرابه» وفي (ق) و(ن): «بوضوه وبشرابه».
(14) في (ن): «وبغرفه».
(15) التبرك بالآثار والمواطن والدعاء والصلاة عندها، من الأمور التي لم يقم دليل عليها، فيجب اجتابها والتحذير من فعل ذلك عندها، وأما التبرك بذاته ( فقد كان الصحابة يفعلونه، وكذلك ما مس بدنه الشريف من لباسٍ أو سيف أو عصا أو غير ذلك.
(16) في (ح): «بالتعريف» وفي (ن): «بالتعزيز».(5/276)
- - - - -
10 - ومن باب شرب اللبن من أيدي الرُّعاة
قوله في هذه الرواية: «أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة»؛ هذا كان في وقت هجرته، كما جاء في الرواية الأخرى: «قال أبو بكر: لما هاجرنا من مكة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة»، وذكر نحو ما تقدَّم. وقد وقع في هذا الحديث في آخر كتاب مسلم (1) (2) زيادة فيها وَهْمٌ، وذلك: أن أبا بكر سأل الراعي: لمن الغنم؟ فقال الراعي: إنها لرجل (3) من أهل المدينة. والصواب: «من أهل مكة». ورواه البخاري من رواية إسرائيل (4) : «لرجل من قريش» (5) . وفي رواية أخرى: «من أهل مكة أو المدينة» (6) على الشك.
قال الشيخ: وقيل: إنَّه ليس بوهم؛ لأنَّه أطلق على مكة مدينة، وهو (7) كذلك، فإنَّ كل بلدة (8) يصح أن يقال عليها: مدينة، كما قال الله تعالى (9) :{ وكان فى المدينة تسعة رهط} (10) ، وهي مدينة ثمود، وهي الحجر.
وأمَّا تسمية بلد مهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، فقد صار علمًا لها بحكم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سَمَّاها بذلك، وغلب ذلك عليها، وكره أن يقال: يثرب، كما تقدَّم في الحجِّ.
وقوله: «فشرب منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى رضيت»؛ أي: حتى رَويَ فرضيت =(5/277)=@
__________
(1) قوله: «مسلم» سقط من (ن).
(2) "صحيح مسلم" (4/2309 رقم 2009) كتاب الزهد والرقائق.
(3) في (ن): «الرجل».
(4) قوله: «إسرائيل» لم يتضح في (ك).
(5) "صحيح البخاري" (2439) كتاب اللُّقطة، و(3652) كتاب فضائل الصحابة.
(6) "صحيح البخاري" (3615) كتاب المناقب.
(7) في (ح) و(ك) و(ق) و(ن): «وهي».
(8) في (ق): «فإن قيل كل بلد» وفي (ن): «بلد».
(9) في (أ) و(ق): «كما قال تعالى».
(10) الآية (48) من سورة النمل.(5/277)
رَيَّه، وكأنَّه (1) شقَّ عليه ما كان فيه من الحاجة إلى اللَّبن، فلمَّا شرب وزال عنه ذلك رضي به. وفي رواية أخرى: «فأرضاني». والمعنى واحد. وقد يقال: كيف أقدم أبو بكر على حلب ما لم يؤذن له في حلبه؟ وكيف شرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك اللَّبن ولم يكن مالكه حاضرًا، ولا أذن (2) في ذلك، مع نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن مثل هذا (3) بقوله: «لا يحلبن أحدٌ ماشية أحد إلا بإذنه» (4) ؟ الحديث (5) .
وقد أجيب عن ذلك بأجوبة:
أحدها: إن ذلك اللَّبن كان تافهًا لا قيمة له، لا سيما مع بُعْدِه عن العمارة، فكأنه إن لم يَشْرَب وإلا تَلِفَ. فيكون هذا من باب قوله في الشَّاة: «هي لك، أو لأخيك (6) ، أو للذئب)) (7) .
قال الشيخ رضي الله عنه: وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ الحبَّة من مال الغير لا تحل إلا بطيب نفس (8) منه. وتشبيهها باللقطة فاسدٌ، فإنَّ اللَّبن في الضَّرع (9) محفوظ كالطَّعام في المشربة. ثم لم يكن على (10) بعد من العمران بدليل إدراك سراقة لهم حين سمع أخبارهم من مكة، وخرج من فوره (11) ، فأدركهم يومه ذلك (12) ، على ما تدلُّ (13) عليه (14) قصته (15) في كتب (16) السِّير، والله تعالى أعلم.
وثانيها: إن عادة العرب جارية بذلك، فعَمِلا على العادة، وذلك قبل ورود النهي المذكور عن ذلك.
وثالثها: إنه - صلى الله عليه وسلم - كان في حاجة وضرورة إلى ذلك، ولا خلاف في جواز مثل =(5/278)=@
__________
(1) في (ق) و(ن): «وكأن».
(2) في (ك): يشبه أن تكون «خذا».
(3) في (ق) و(ن): «أذن له في».
(4) تقدم في باب النهي عن لقطة الحاج، من كتاب الأقضية.
(5) قوله: «الحديث» سقط من (ح) و(ك) و(ق) و(ن).
(6) قوله: «لأخيك» لم يتضح في (ح).
(7) تقدم في باب اللقطة والضوال، من كتاب الأقضية.
(8) في (ق): «من نفس».
(9) في (ق): «الضروع».
(10) قوله: «على» سقط من (ق) و(ن).
(11) في (ن): «فورهم».
(12) قوله: «فأدركهم يومه ذلك» مكرر في (ح) وفي (ن): «يومهم ذلك».
(13) في (ق): «يدل».
(14) قوله: «عليه» سقط من (أ).
(15) في (أ) و(ح) و(ك) و(ق) و(ن): «قضيته».
(16) في (ق) و(ن): «كتاب».(5/278)
ذلك عند الضرورة إذا أمن على نفسه. وهل يلزمه قيمة ذلك أو لا؟ قولان لأهل العلم.
ورابعها: إن ذلك كان (1) مالاً لكافر، والأصل في أموالهم الإباحة.
قال الشيخ: وقد يمنع هذا الأصل، لا سيما على مذهب من يقول: إن الكافر (2) له شُبهة مُلك. وقد تقدَّم الخلاف في هذا في الجهاد (3) .
وخامسها: إنهما علما لِمَن هي، فإمَّا أن يكون قد أباح لهما (4) ذلك، أو علما من حاله أنه يطيب (5) قلبه بذلك. وهذا أشبهها (6) وأبعدها عن الاعتراض إن شاء الله تعالى.
و «إيلياء»: هي بيت المقدس، وهو ممدود بهمزة التأنيث، ولذلك (7) لاينصرف. ويقال: إيليا مقصورًا، ويقال: إليا على وزن عَلْيا؛ ثلاث لغات (8) .
وقول جبريل عليه السلام : «الحمد لله الذى هداك للفطرة»؛ يعني بها: فطرة دين الإسلام، كما قال تعالى: {فطرت الله التي فطر الناس عليها} (9) ، ثم قال: {ذلك الدين القيم}(2). وقيل (10) : جعل الله ذلك علامة لجبريل على هداية هذه =(5/279)=@
__________
(1) قوله: «كان» سقط من (ح).
(2) قوله: «الكافر» سقط من (ق) و(ن).
(3) قوله: «في الجهاد» سقط من (ح).
(4) في (ن): «لهم».
(5) في (أ): «تطيب».
(6) في (ن): «أشبههما».
(7) في (ق): «وذلك».
(8) من قوله: «ويقال إيليا...» إلى هنا سقط من (ك) و(ح) و(ق) و(ن).
(9) الآية (30) من سورة مريم.
(10) في (ق) و(ن): «وقد».(5/279)
الأمة؛ لأنَّ اللَّبن أول ما يغتذيه (1) الإنسان. وهو قوت خلي عن المفاسد، به قوام الأجسام (2) ، ولذلك آثره النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) على الخمر، كما ذكرناه في الإسراء. ودين الإسلام كذلك (4) ، هو أوَّل ما أخذ على بني آدم، وهم كالذَّرِّ، ثم هو قوت الأرواح، به قوامها، وحياتها الأبدية، وصار اللبن عبارة مطابقة لمعنى دين الإسلام من جميع جهاته، والخمر على النقيض من ذلك في جميع جهاتها (5) ، فكان العدول إليه لو كان ووقع (6) علامة على الغواية. وقد أعاذ الله من ذلك نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - طبعًا وشرعًا. والحمد لله تعالى. ويفهم من نسبة الغواية إلى الخمر تحريمه، لكن ليس بصريح، ولذلك لم يَكْتَفِ (7) النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل ذلك في التحريم حتَّى قَدِم المدينة فشربوها زمانًا، حتَّى أنزل الله التحريم.
- - - - -
11 - ومن باب الأمر بتغطية الإناء
قوله: «غطُّوا الإناء، وأوكُوا السقاء»؛ جميع أوامر (8) هذا الباب من باب الإرشاد إلى المصلحة الدنيوية، كقوله تعالى:{ وأشهدوا إذا تبايعتم} (9) . =(5/280)=@
__________
(1) في (ن): «يعتد به».
(2) في (ق): «الأجساد» وكأنه أصلحها، إلى «الأجسام».
(3) في (ك) و(ح): «آثره ( ».
(4) في (ن): «لذلك».
(5) في (ق): «جهاته».
(6) في (ح) و(ك): «وقع» بلا واو. وفي (ق): «لوقع».
(7) في (ن): «يكيف».
(8) في (ن): «أمور».
(9) الآية (282) من سورة البقرة.(5/280)
وليس الأمر الذي قُصِد به الإيجاب، وغايته أن يكون من باب الندب (1) ، بل قد جعله كثير من الأصوليين قسمًا منفردًا بنفسه عن الوجوب والندب.
و «إيكاء السِّقاء»: شَدُّهُ بالخيط. وهو الوكاء، ممدود مهموز، ولذلك يجب أن يكون «أوكئوا (2) » رباعيًّا مهموز اللام (3) .
و «الفويسقة»: الفأرة، سميت بذلك لخروجها من جحرها للفساد.
وقوله: «فإنَّ لم يجد أحدكم إلا أن يَعْرُض عودًا ويذكر اسم الله فليفعل»؛ هو بضم الراء، وكذا (4) قاله (5) الأصمعي، وقد رواه أبو عبيد بكسر الراء، والوجه الأول: أن (6) يجعل العود معروضًا على فم الإناء (7) ، ولا بدَّ من ذكر الله تعالى عند هذه الأفعال كُلِّها، كما جاء في الحديث (8) الآخر بعد هذا، فيذكر الله تعالى، وببركة اسمه (9) تندفع المفاسد، ويحصل تمام المصالح. فمطلق هذه الكلمات مردود إلى مُقَيَّدِها.
و «الشيطان» هنا للجنس بمعنى الشياطين. و «الفواشي»: كل ما فشا وانتشر من =(5/281)=@
__________
(1) في (ح) تشبه: «الذي».
(2) قوله: «أوكئوا» سقط من (ح) و(ك) و(ق) و(ن).
(3) في (ح): «الألف».
(4) في (ح) و(ك): «وكذلك».
(5) في (ح): «قال».
(6) في (ح) و(ك): «أي».
(7) في (ح): «الايكاء».
(8) في (ح): «في هذا الحديث».
(9) في (أ): «وببركة الله».(5/281)
المال: الإبل، والغنم، والبقر. قال ابن الأعرابي: يقال: أفشى، وأمشى، وأوشى، بمعنى واحد: إذا كثرت مواشيه.
و «فحمة ا لليل»: سواده. وقد تضمنت جملة هذه الأحاديث: أن الله تعالى قد أطلع نبيَّه في على ما يكون في هذه الأوقات من المضارِّ من جهة الشياطين، والفأر، والوباء. وقد أرشدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما يُتَّقى به ذلك، فليبادر الإنسان إلى فعل تلك الأمور ذاكرًا الله تعالى، مُمتثلاً أمر نبيَّه ( ، وشاكرًا لله تعالى على ما أرشدنا (1) إليه وأعلمنا به، ولنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - على تبليغه، ونصحه. فمن فعل ذلك لم يصبه من شيء من ذلك ضررٌ بحول الله وقوته، وبركة (2) امتثال أوامره - صلى الله عليه وسلم - وجازاه عنَّا أفضل ما جازى نبيًّا عن أمته، فلقد بلَّغ، ونصح. =(5/282)=@
__________
(1) في (أ): «ما أرشد».
(2) في (أ): «بركته».(5/282)
- - - - -
باب...
وقوله: «أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بقدح لبن من النقيع ليس مخمَّرًا»؛ اختلف في رواية هذا الحرف الذي هو « من النقيع»، فأكثر الرواة واللغويين على أنه بالنون والقاف. وقال الهروي: وهو (1) وادي العقيق على عشرين فرسخًا من المدينة، وهو الذي حماه عمر رضي الله عنه لنعم الصَّدقة. وقال الخطابي: هو القاع. قال (2) غيره: وأصله كل موضع يستنقع فيه الماء. وقد رواه أبو بحر سفيان (3) بن العاصي بالباء الموحدة (4) (5) . =(5/283)=@
__________
(1) في (ك): «هو».
(2) في (ح): «وقال».
(3) في (أ): «سليمان».
(4) في (ح): «بالباء الموحدة».
(5) وكذلك أخرجه أبو عوانه في "مستخرجه" (5/140 و141)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (2/103)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (5/127)، وابن عبدالبر في "التمهيد" (12/178)، وذكر الهيثمي في "مجمع الزوائد" (8/111) من حديث أبي هريرة، وعزاه لأبي يعلى، وقال: «رجاله رجال الصحيح، غير إبراهيم بن سليمان الدباس، وهو ثقة».اهـ.(5/283)
قال الخليل: البقيع بالباء: الأرض التي فيها شجر شتَّى. وأما بقيع الغرقد، وبقيع بطحان فبالباء الموحدة. ويحتمل أن يريد واحدًا منهما (1) على رواية أبي بحر، والله تعالى أعلم.
و « المخثر»: المغلى. والتخمير: التغطية.
وشربه - صلى الله عليه وسلم - من الإناء الذي لم برم يُخَمَّر دليلٌ على أن ما بات غير مخمَّر، ولا مُغطَّى أنه لا يحرم شربه، ولا يكره. وهذا يحقق ما قلناه: من (2) أن المقصود الإرشاد إلى المصلحة، والله تعالى أعلم. =(5/284)=@
__________
(1) في (ح): «أحدًا منهما»، وفي (ك): «واحدًا منهما».
(2) قوله: «من» سقط من (ك).(5/284)
- - - - -
ومن باب النهي عن الشرب قائمًا
لم يَصِرْ أحدٌ من العلماء فيما علمت إلى أن هذا النهي على التحريم، وإن كان جاريًا على أصول الظاهرية، إنَّما حمله بعض العلماء على الكراهة، والجمهور: على جواز الشرب قائمًا. فمن السلف: أبو بكر (1) ، وعمر (2) ، وعلي (3) رضي الله عنهم. وجمهور الفقهاء، ومالك متمسكين في ذلك بشرب النبي - صلى الله عليه وسلم - من زمزم قائمًا. وكأنهم رأوا هذا الفعل منه متأخرًا عن أحاديث النهي، فإنَّه كان في حجة الوداع، فهو ناسخٌ. ويُحَقِّقُ (4) ذلك حُكم الخلفاء الثلاثة بخلافها، ويبعدُ أن تخفى عليهم تلك الأحاديث مع كثرة علمهم، وشدذَة ملازمتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتشدُّدهم في الدين. وهذا وإن لم يصلح للنسخ فيصلح لترجيح أحد الحديثين على الآخر.
وأمَّا من قال بالكراهة: فيجمع بين الحديثين بأن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يبيِّن الجواز، والنَّهي يقتضي التنزيه؛ فالأولى: ترك ذلك على كل حال. وأما قول قتادة: «الأكلُ أَشَرُّ»: فَشَيءٌ لم يقل به أحدٌ من أهل العلم فيما علمت. وعلى ما حكاه النقلة والحفاظ، فهو رأيه، لا روايته. والأصل: الإباحة. والقياس خليٌّ عن الجامع. وقد ذهب بعض الناس: إلى أن النهي عن الشرب (5) قائمًا إنما (6) كان لئلا =(5/285)=@
__________
(1) ....
(2) ....
(3) ....
(4) في (ح) و(ك): «حقق».
(5) في (ح): «المشرب».
(6) في (ح): «إن».(5/285)
يستعجل القائم فَيَعُبُّ، فيأخذه الكُباد (1) ، أو يشرق، أو يأخذه وجع في الحلق، أو في المعدة؛ فينبغي ألا يشرب قائمًا، وحيث شرب النبي - صلى الله عليه وسلم - قائمًا أمن ذلك، أو دعته إلى ذلك ضرورة، أو حاجة، لا سيما وكان على زمزم، وهو موضع مزدحم الناس، أو لعلَّه فعل ذلك ليري الناس أنه ليس بصائم، أو لأن شرب ماء زمزم في مثل ذلك الوقت مندوبٌ إليه. والله تعالى أعلم.
وقوله: «لا يشربن أحدكم قائمًا، فمن نَسِي فليستقيء»؛ قال الإمام أبو عبدالله: لاخلاف بين أهل العلم: في أن من شرب قائمًا ناسيًا ليس عليه أن يستقيء. قال بعض الشيوخ: والأظهر: أن هذا موقوف على أبي هريرة.
ولا خلاف في جواز الأكل قائمًا، وإن كان قتادة قال: «أَشَرُّ وأخبث».
قال الشيخ: ويمكن أن يقال: إن القيء وإن لم يقل أحدٌ بأنَّه واجبٌ عليه، فلا بعد في أن يكون مأمورًا به على جهة التطبُّب. وهو يؤيد قول من قال: إن النهي عن ذلك مخافة مرض أو ضرر، فإنَّ القيء استفراغ مما يخاف ضرره.
ونهيه - صلى الله عليه وسلم - في عن اختناث الأسقية. قال الراوي: واختناثها أن يُقْلَبَ رأسُها =(5/286)=@
__________
(1) العبُّ: هو الشرب بلا تنفس. والكُباد: داء يعرض للكبد. "لسان العرب" (1/573).(5/286)
ويُشرب منه. قال ابن دريد: اختناث الأسقية: كسر أفواهها إلى خارج ليشرب منها. فأمَّا كسرها إلى داخل: فهو القمع.
قال الشيخ: وأصل هذه اللفظة: التَّكسر (1) والتثني. ومنه: المخنث وهو الذي (2) يتكسَّر في كلامه تكسُّر النساء، ويَنْثَنِي في مِشْيَته كمشيتهنَّ.
وقيل في هذا، وفي نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الشرب من فم السقاء: إن ذلك مخافة أن يتقزَّز منه بعض الناس فيستقذره. وقيل: لما يخاف من ضرر يكون هنالك، كما روي عن أبي سعيد: أن رجلا شرب من في سقاء فانساب جان في بطنه، فنهى =(5/287)=@
__________
(1) في (ك): «التكسير».
(2) قوله: «الذي» سقط من (أ).(5/287)
النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اختناث الأسقية، وأن يشرب من أفواهها. ذكره أبو بكر بن أبي شيبة (1) من رواية الزهري. وقد خرَّج الزبيري وغيره (2) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام إلى قربة، فخنثها، وشرب من فيها. وهذا - إن صحَّ – محمله (3) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم (4) (5) أنه لم يكن هنالك شيء يضر، وأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يستقذر منه شيء، بل كان كلُّ (6) ما يستقذر من غيره يستطاب منه، وتطيب (7) به الأشياء.
- - - - -
14 - ومن باب النهي عن التَّنَفُّس في الإناء
نهيه (8) - صلى الله عليه وسلم - عن التنفس في الإناء إنما هو لئلا يتنفس فيه فيتقذر الماء ببزاقٍ يخرج من الفم، أو بريح (9) كريهة تتعلَّق (10) بالماء، أو بالإناء، وعلى هذا: فإذا لم يتنفس في الإناء فليشرب في نفسٍ واحد ما شاء. قاله عمر بن عبدالعزيز. وأجازه جماعة؛ منهم: ابن المسيِّب، وعطاء بن أبي رباح، ومالك بن أنس. وكره ذلك قومٌ؛ منهم: ابن عباس (11) ، وطاووس، وعكرمة، وقالوا: هو شرب الشيطان. والقول الأول أظهر لقوله - صلى الله عليه وسلم - للذي قال (12) : إنه لا يروي من نفس واحدٍ: «أَبِنِ القَدَحَ عن فِيكَ، ثم تَنَفَّس» (13) . وظاهره: أنه أباح له الشرب في نفس واحدٍ إذا كان يَروى منه. =(5/288)=@
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (8/19) ومن طريقه الإسماعيلي كما في "فتح الباري" (10/90)، ومن طريق الإسماعيلي أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان (11/7 رقم5617) عن يزيد بن هارون، ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، عن أبي سعيد الخدري قال: فذكره.
وأخرجه البيهقي في "الكبرى" (7/285)، وفي "الشعب" (11/5) من طريق يزيد بن هارون، عن سماعيل المكي، عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة به.
قال البيهقي: وإسماعيل هذا غير قوي في الحديث... الخ.
وله شاهد من حديث ابن عباس أخرجه ابن ماجه (3419) من طريق زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اختناث الأسقية، وأن رجلاً بعد نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - قام من الليل إلى سقاءٍ فاختنثه، فخرجت عليه منه حية. وزمعة بن صالح ضعيف الحديث.
وقد أخرجه أحمد في "المسند"(7153 و10320)، والحاكم في "المستدرك" (4/140)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (5619) عن إسماعيل بن علية، عن أيوب؛ أنَّه قال - بعد روايته للحديث -: نبئت أن رجلاً شرب من فِيّ السقاء، فخرجت حيَّة. قال البيهقي: وقول أيوب تأكيدًا لرواية إسماعيل - يعني المتقدمة قبلُ -.
(2) رواه الحميدي، وهو عبدالله بن محمد الزبيري المقصود (354)، وأحمد (6/434)، وابن ماجه (2 رقم3423)، والترمذي(4/270 رقم1892)، وفي "الشمائل" (213)، ومن طريقه البغوي في "شرح السنة" (11/378 رقم3042)، ورواه الطبراني في "الكبير" (25/15)، وابن حبان (12/138 رقم5318). كلهم من حديث سفيان بن عيينة، عن يزيد بن جابر، عن عبدالرحمن بن أبي عمرة، عن جدته كبشة قالت: دخل رسول الله ( فشرب من قربة معلقة قائمًا فقمت فيها فقطعته.
وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. وقد وقع من سفيان فيه بعض التردد فأحيانًا كان يقول: كبشة وأحيانًا يقول: كُبيشة مصغرة، وأيضًا رواه عنه أحمد (6/434) بنفس الإسناد لكن لم يذكر عبدالرحمن بن أبي عمرة لكن عامة الرواة بما فيهم أحمد على إثباته في الإسناد.
وللحديث شواهد منها:
1 - حديث أم سليم:
رواه الطيالسي (1650)، والطبراني في "الكبير" (25/126 رقم307)، وابن الجارود (868)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/274 رقم6852) من طرق عن عبدالكريم الجزري، عن البراء بن زيد، وهو ابن بنت أنس بن مالك، عن أم سليم مثله.
ورواه أحمد (6/376 و431)، والدارمي (2/120)، والطحاوي (4/274 رقم 6853) من طريق عبدالكريم الجزري أيضًا، عن البراء بن زيد، ومدار هذا الحديث على البراء بن زيد. قال عنه الحافظ: مقبول.
2 - حديث أنس رضي الله عنه :
رواه أحمد (3/119)، والترمذي في "الشمائل" (215) من طريق عبدالكريم الجزري، عن البراء بن زيد بن ابنة أنس: أن النبي ( دخل على أم سليم....
3 - حديث عائشة رضي الله عنه ا:
رواه أحمد (6/161) قال: حدثنا: الهيثم بن جميل، قال: حدثنا محمد بن مسلم، قال: حدثنا عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنه ا: أن النبي ( دخل على امرأة من الأنصار وفي البيت قربة معلقة فاختنثها وشرب وهو قائم.
وهذا إسناد ضعيف لكنه يصلح في المتابعات والشواهد. محمد بن مسلم هو الطائفي صدوق يخطئ.
4 - حديث عبدالله بن أنيس الأنصاري، وليس بالجهني.
رواه ابو داود (4/111 رقم3721) عن نصر بن علي بن عبدالأعلى، عن عبيدالله بن عمر، والترمذي (4/270 رقم1891) عن يحيى بن موسى، عن عبدالرزاق، عن عبدالله بن عمر. ورواه الطبراني في "الكبير" تكملة الجزء (13/136 رقم337) من طريق عبدالرزاق به. كلاهما - عبيدالله وعبدالله بن عمر، عن عيسى بن عبدالله بن أنيس، عن أبيه، فذكره. وهذا إسناد ضعيف.
عيسى بن عبدالله بن أنيس لم يوثقه أحد غير ابن حبان، وقال الحافظ: مقبول. ونقل المزي في ترجمته عن أبي داود قال: وهذا لا يعرف عن عبيدالله بن عمر، والصحيح حديث عبدالرزاق، عن عبدالله بن عمر قال: أخبرني عيسى بن عبدالله، ولكن لم أجد الكلام في "السنن". وقال الترمذي: هذا حديث ليس إسناد بصحيح، وعبدالله بن عمر العمري يضعف في الحديث، ولا أدري سمع من عيسى أم لا. وبالجملة فهذه الأحاديث يشهد بعضها بعضًا ويقوي بعضها بعضًا.
(3) في (ن): «فحمله».
(4) قوله: «علم» سقط في (أ).
(5) قوله: «علم» سقط من (أ).
(6) قوله: «كل» سقط من (ح).
(7) في (ق): «ويطبب».
(8) في (أ) و(ح) و(ك) و(ق) و(ن): «ونهيه».
(9) في (ح): «أو ريح» وفي (ق) و(ن): «وبريح».
(10) في (أ) و(ك): «يتعلق» وي (ق) و(ن): «فتعلق».
(11) ....
(12) في (ح): «قال له».
(13) رواه مالك (2/925)، وابن أبي شيبة (5/106 رقم24168)، وأحمد (3/26 و32 و57)، وعبد بن حميد(980)، والدارمي (2/119) مطولاً، وفي (2/122) مختصرًا، والترمذي (4/268 رقم1887)، وابن حبان (12/144 رقم5327). جميعهم من طريق مالك، ورواه أحمد (3/68) عن يونس وسريج كلاهما عن فليح ابن سليمان.
مالك وفليح، عن أيوب بن حبيب مولى زهرة، عن أبي المثنى الجهني؛ أنه قال: كنت عند مروان بن الحكم فدخل عليه أبو سعيد الخدري، فقال له مروان بن الحكم: أسمعت من رسول الله ( ؛ أنه نهى عن النفخ في الشراب؟ فقال له أبو سعيد: نعم. فقال له رجل: يا رسول الله! إني لا أروى من نفس واحد، فقال له رسول ( : «فأَبِن القدح عن فيك، ثم تنفس». قال: «فإني أرى القذاة فيه. قال: «فأهرقها».
وهذا إسناد رجاله ثقات إلا أبا المثنى الجهني. قال إسحاق بن منصور الكوسج، عن يحيى بن معين: ثقة، نقل ذلك ابن أبي حاتم (9/444)، وقال علي بن المديني: مجهول لا أعرفه. وقال ابن حجر: مقبول. انظر "تهذيب الكمال" (34/250).
وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه رواه ابن أبي شيبة (5/105 رقم24159) عن داود بن عبدالله، عن عبدالعزيز بن محمد، عن الحارث بن أبي ذباب، عن عمه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ( : «إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء، فإذا أراد أن يعود فلينح الإناء، ثم ليعد إن كان يريد»، وهذا إسناد ضعيف لما يلي:
داود بن عبدالله بن أبي الكرم الجعفري ثقة له اوهام. وكذا الدراوردي صدوق يخطئ، والحارث بن عبدالله بن أبي ذباب قال عنه أبو حاتم: يروي عن الدراوردي أحاديث منكرة، ليس بالقوي. وقال أبو زرعة: ليس به بأس. وعمه يقال له الحارث، ويقال له عياض، وذكره ابن منده في الصحابة وسماه عياضًا.(5/288)
وقول أنس: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتنفس في الشراب ثلاثًا»، وفي رواية: «في الإناء» قد (1) حمل بعضهم هذا الحديث على ظاهره، وهو أن يتنفس في الإناء (2) ثلاثًا. وقال: فعل ذلك ليبيِّن به جواز ذلك. ومنهم من علل جواز ذلك في حقه - صلى الله عليه وسلم - بأنه لم يكن يُتَقَذَّرُ منه شيء، بل الذي يُتَقَذَّرُ من غيره يُستطاب منه (3) ، فإنَّهم كانوا إذا بزق، أو تنخع تدلكوا بذلك، وإذا توضأ اقتتلوا على فضل وضوئه (4) ، إلى غير ذلك مما في هذا المعنى.
قال الشيخ رضي الله عنه: وحمل هذا الحديث على هذا (5) ليس بصحيح؛ بدليل بقية الحديث، فإنَّه قال: «إنه (6) أروى، وأبرأ، وأمرأ، وهذه الثلاثة الأمور (7) إنما تحصل بأن يشرب في ثلاثة أنفاس خارج القدح، فأما إذا تنفس في الماء (8) وهو يشرب: فلا يأمن الشَّرَق، ويحصل تقذير الماء، وقد لا يروى إذا سقط من بزاقه شيء، أو خالطه من رائحة نفسه إن كانت هنالك رائحة كريهة. وعلى هذا المعنى حمل الحديث الجمهور. وهو الصواب إن شاء الله تعالى نظرًا إلى المعنى، ولبقية الحديث، ولقوله للرجل: «أَبِنِ القدح عن فيك». ولا شك: أن هذا من مكارم الأخلاق، ومن باب النظافة، وما كان (9) - صلى الله عليه وسلم - يأمر بشيء من مكارم الأخلاق ثم لا يفعله.
و « أروى» من الرِّي؛ أي: أكثر رَيَّا. و «أمرأ» و « أبرأ» قيل: إنهما بمعنى (10) =(5/289)=@
__________
(1) في (ح) و(ق) و(ن): «وقد».
(2) في (أ) و(ك): «في الماء».
(3) قوله: «منه» لم يتضح في (ق).
(4) أخرجه عبدالرزاق (9720)، ومن طريقه أخرجه أحمد (18928)، والبخاري (2731 و2732) كتاب الشروط، وابن حبان في "صحيحه" (4872)، والطبراني في "الكبير" (20/12)، والبيهقي في "الكبرى" (9/218)، وفي "شعب الإيمان" (2/199) عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يصدق كل واحد منهما حديثه حديث صاحبه...، فذكر قصة صلح الحديبية، وفيه: ثمَّ إن عروة جعل يرمق النبي ( بعينه. قال: فوالله ما تنخَّم رسول الله ( نخامة إلا وقعت في كفِّ رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم، وما يحدُّون النظر إليه تعظيمًا له... الحديث.
(5) في (أ) و(ك): «في الماء».
(6) قوله: «إنه» سقط من (ق) وفي (ن): «فإنه».
(7) في (ق): «أمور».
(8) في (ح): «الإناء».
(9) في (ن): «وما كان النبي ( ».
(10) في (ح): «معنى».(5/289)
واحد؛ أي: أحسن شربًا. والباء تبدل من الميم في مواضع. و « أمرأ» من قوله تعالى:{ هنيئًا مريئًا} (1) . يقال: استمرأت الطعام (2) : إذا استحسنته واستطبته (3) . وعلى هذا المعنى الذي صار إليه الجمهور يكون الشراب المذكور بمعنى: الشرب مصدرًا، لا بمعنى الشراب الذي هو المشروب. فتأمله، فإنَّه حسنٌ معنًى، وفصيحٌ (4) لغةً، فإنَّه يقال: شرب شُربًا وشرابًا بمعنى واحد.
وقول أنس: «وكن أُمَّهاتي»؛ هذا على لغة (5) قوله - صلى الله عليه وسلم - (6) : «يتعاقبون فيكم ملائكة (7) . و « يَحْثُثْنَنِي»؛ أي: يَحْضُضْنَنِي (8) . حثَّ، وحضَّ (9) ، ورغَّب بمعنى واحد. و«شِيبَ (10) »؛ أي: خلط بالماء ومزج ليبرد.
وإنما بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأعرابي لأنه كان عن يمينه، فبيَّن: أن ذلك سُنَّة، ولذلك قال: «الأيمن فالأيمن»؛ أي: أعط الأيمن، وابدأ به. وقيل وأيضًا (11) فإنه (12) قصد استسلافه (13) ، فإنَّه (14) كان من كبراء قومه، فلذلك (15) جلس عن يمينه. والأول أظهر، ولا يبعد قصد المعنى الثاني. =(5/290)=@
__________
(1) الآية (4) من سورة النساء.
(2) في (ن): ضرب على قوله «الطعام»، وكتب في الهامش «بان الطعام».
(3) في (ن): «واستطيبته».
(4) في (ك): «حسن ومعنى فصيح».
(5) في (ن): «على معنى».
(6) في (ك): «قوله تعالى» بدل «قوله ( ».
(7) تقدم في باب المحافظة على الصبح والعصر، من كتاب الصلاة .
(8) في (ك) و(ن): «ويحثثني أي يحضضني».
(9) في (ق) و(ن): «وخض».
(10) في (ن): «وسبب».
(11) قوله: «وأيضًا» سقط من (ن).
(12) في (ك): «وقيل أيضًا إنه».
(13) في (أ) و(ح) و(ك) و(ق) و(ن): «استئلافه» ولعله الصواب.
(14) في (ن): «وأيضًا فإنه».
(15) في (أ) و(ح) و(ك) و(ق) و(ن): «ولذلك».(5/290)
وقول أنس: «فهي سُنَّة، فهي سُنَّة»؛ يعني (1) : مناولة الشراب الأيمن فالأيمن. وهل تجري هذه السُّنَّة في غير الشراب، كالمأكول (2) ، والملبوس، وغيرهما من جميع الأشياء؟ قال المهلَّب وغيره: نعم. وقال مالك: إن ذلك في الشراب خاصة. قال (3) أبو عمر: ولا يصحُّ ذلك عن مالك.
قال القاضي عياض: ويشبه أن يكون معنى (4) قول مالك: إن (5) ذلك في الشراب خاصة: أنه (6) فيه جاءت السنة بتقديم الأيمن فالأيمن، وغيره إنما هو من باب الاجتهاد والقياس.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «الأيمنون الأيمنون»؛ هذا مبتدأ، وخبره محذوف؛ أي: الأيمنون أولى. والغلام الذي كان عن يمين النبي - صلى الله عليه وسلم - هو عبدالله بن عباس، وإنما استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - الغلام، ولم يستأذن الأعرابي في الحديث الآخر، وبدأ به قبل أبي بكر لما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - من حال الغلام: أن ذلك الاستئذان لا (7) يخجله ولا ينفره لرياضته، وحسن خلقه، ولِينه بخلاف الأعرابي؛ فإنَّ الجفاء والنُّفرة غالبة على الأعراب، فخاف عليه أن يصدر منه سوء أدب. والله تعالى أعلم.
وقول الغلام: «والله لا أوثر بنصيبي منك أحدًا»؛ قول (8) أبرزه ما كان عنده من تعظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومحبته، واغتنام بركته مع صغر سِنِّه. =(5/291)=@
__________
(1) قوله: «فهي سنه يعني» بياض في (ن).
(2) في (ك): «كالمأكوم».
(3) في (ق): «وقال».
(4) في (ن): «بمعنى».
(5) قوله: «معنى قول مالك أن» سقط من (ح).
(6) في (ن): «أن» بدل «أنه».
(7) قوله: «لا» سقط من (ك).
(8) في (ن): «وقول».(5/291)
وقوله: «فتلَّه في يده»؛ أي: ألقاه فيه (1) . قاله ابن الأنباري. قال: ومنه قوله ( : «أُتيت بمفاتيح خزائن الأرض فَتُلَّت في يدي» (2) ؛ أي: ألقيت. وقال ابن الأعرابي: معناه: فَصُبَّت (3) .
و «التل»: الصَّبُّ. يقال: تل، يتل- بكسر التاء-: إذا صَبَّ. وقال غيره (4) : التل (5) : الصَّرْعُ، والدَّفع. ومنه قوله تعالى:{وتلَّه (6) للجبين (7) } (8) ؛ أي: صرعه. =(5/292)=@
__________
(1) في (ق): «ألقاه في يده» وكتب في الهامش «فيه» ووضع فوقها (نسخه).
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (6/303) عن علي بن مسهر، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة به، وفيه: «أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فتلَّت في يدي». وإسناده صحيح. وأصل الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة بلفظ: «فوضعت في يدي».
(3) في (ق): «فصب».
(4) في (ح): «قال غيره» بلا واو.
(5) في (ح): «والتل».
(6) في (ن): «فتله».
(7) في (ح): «الجبين».
(8) الآية (103) من سورة الصافات.(5/292)
كتاب الأطعمة
باب التسمية
قول حذيفة: «كنا إذا حضرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) طعامًا (2) »؛ لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - »؛ هذا تأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - . وكذلك ينبغي أن يتأدب مع الفضلاء، والعظماء، والعلماء (3) ، فلا يبدأ بطعام، ولا شراب (4) ، ولا أمر من الأمور التي يشاركون فيها قبلهم.
وقوله: «فجاءت جارية كأنما تدفع»؛ فذهبت (5) الجارية في النساء كالغلام في الذكور، وهو ما دون البلوغ (6). و « تدفع»؛ أي: يدفعها دافع؛ يعني: أنها جاءت مسرعة (7) ، كما =(5/293)=@
__________
(1) في (ك) و(ن): «رسول الله ( ».
(2) قوله: «طعامًا» سقط من (ق).
(3) في (ق): «والعلماء والعظماء».
(4) في (ق) و(ن): «ولا بشراب».
(5) قوله: «فذهبت» ليس في (أ) و(ك) و(ح) و(ق) و(ف).
(6) في (ك): «البلوغ».
(7) في (ق): «بسرعة».(5/293)
قال في الرواية الأخرى: «كأنما تُطرد»، وكذلك فعل الأعرابي. وكل ذلك إزعاج (1) من الشيطان لهما؛ ليسبقا (2) إلى الطعام قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقبل التسمية فيصل إلى غرضه من الطعام. ولما اطَّلع (3) النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك أخذ بيديهما ويدي الشيطان منعًا لهم من ذلك.
ففيه ما يدلّ على مشروعية التسمية عند الطعام والشراب، وعلى بركتها (4) ، وعلى أن للشيطان يدًا، وأنه يصيب (5) من الطعام إذا لم يذكر الله تعالى عليه. وهل هذه الإصابة أكل كما قد (6) نصَّ عليه حيث قال: «فإنَّ الشيطان يأكل بشماله، ويشرب =(5/294)=@
__________
(1) في (ق): «إرغام».
(2) في (ن): «يستبتا».
(3) في (ق): «اطلع اللهُ النبي».
(4) في (ن): «بركتها».
(5) في (ن): «يدا تصيب».
(6) قوله: «قد» سقط من (أ) و(ن).(5/294)
بشماله» (1) ؛ وهو الظاهر. أو يكون شَمًّا (2) للطعام يحصل له به من التغذي (3) كنحو ما يحصل (4) لنا (5) به من الأكل. قد (6) قيل كل (7) ذلك، وهو محتمل، والقدرة صالحة. واستحلال الشيطان الطعام الذي لا يذكر اسم الله عليه إنما هو عبارة عن تناوله منه على نحو ما ذكرناه.
وقيل: هو استحسانه رفع البركة من ذلك الطعام. وروي عن وهب بن منبه أنه قال: هم أجناس؛ فخالص الجن لا يأكلون، ولا يشربون، ولا يتناكحون، هم ريح. ومنهم أجناس يفعلون ذلك كلَّه، ويتوالدون، ومنهم: السعالي، والغيلان، والقطاربة (8) .
- - - - -
2 - ومن باب الأمر بالأكل باليمين ومما يلي
قوله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بها»؛ هذا الأمر على جهة الندب؛ لأنَّه من باب تشريف اليمين على الشمال، وذلك لأنها أقوى في الغالب، وأسبق للأعمال (9) ، وأمكن في الأشغال (10) . ثم هي مشتقة من اليمن، والبركة. وقد شرف الله تعالى أهل الجنة بأن نسبهم إليها، كما ذمَّ أهل النار حين نسبهم إلى الشمال، فقال: {فأصحاب (11) الميمنة ** كذا في (أ) ** ما أصحاب الميمنة** كذا في (أ) **} (12) ، وقال: {وأمَّا إن كان من أصحاب اليمين - فسلامٌ لك من أصحاب اليمين} (13) ، وقال =(5/295)=@
__________
(1) سيأتي في باب الأمر بالأكل باليمين، والنهي عن الأكل بالشمال.
(2) في (ن): «شماله».
(3) في (ق): «المتغذى».
(4) قوله: «ما يحصل» سقط من (ن).
(5) في (أ) و(ح) و(ك) و(ق) و(ن): «لنا نحن به».
(6) في (ح): «فقد».
(7) قوله: «كل» سقط من (أ).
(8) السعالي: جمع سِعْلاة، وهم سحرة الجن. "غريب الحديث" (2/369). والقطرب: الذكر من السعالي وهم صغار الجن. "لسان العرب" (1/670).
(9) في (ح): «للأفعال».
(10) في (ق): «الأشتغال».
(11) في (ن): «وأصحاب».
(12) الآية (8) من سورة الواقعة زاد بعدها في (ح): {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين}.
(13) الآية (90-91) من سورة الواقعة.(5/295)
عكس هذا في أصحاب الشمال. وعلى الجملة: فاليمين وما نسب إليها، وما اشتق منها محمود لسانًا، وشرعًا، ودنيا، وآخرة. والشمال على النقيض من ذلك حتى (1) قد قال شاعر من العرب (2) :
أبيني أفي (3) يمنى يديك جعلتنيفأفرح أم صيرتني في شمالكا
وإذا كان هذا، فمن الآداب (4) المناسبة لمكارم الأخلاق، والسيرة الحسنة عند الفضلاء اختصاص اليمين بالأعمال الشريفة، والأحوال النظيفة، وإن احتيج في شيء منها إلى الاستعانة بالشمال فبحكم التبعية. وأما إزالة الأقذار، والأمور الخسيسة فبالشمال لما يناسبها من الحقارة، والإسترذال.
وقوله: «فإنَّ الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله»؛ ظاهره أن من أكل بشماله تشبَّه بالشيطان في ذلك الفعل؛ إذ الشيطان بشماله يأكل وبها (5) يشرب. ولقد أبعد وتعسَّف من أعاد الضمير من « شماله» على الأكل. =(5/296)=@
__________
(1) في (ب): «حين» بدل «حتى».
(2) في (ب): «الشاعر» بدل «شاعر من العرب».
(3) في (ح): «ففي» وفي (ن): «في».
(4) في (ك): «الأدب».
(5) في (ح): «وبشماله».(5/296)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - للذي (1) قال له: «كل بيمينك، فقال: لا أستطيع، فقال: لا استطعت»؛ دعاء منه عليه؛ لأنَّه لم يكن له في ترك الأكل باليمين عذر، وإنما قصد المخالفة، وكأنه كان منافقًا. والله تعالى أعلم. ولذلك قال الراوي: وما منعه إلا الكبر. وقد أجاب الله تعالى دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الرجل (2) ، حتى شُلَّت يمينه، فلم يرفعها (3) لفيه بعد ذلك اليوم.
وقول عمر بن أبي (4) سلمة: «كنت في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - »، هو (5) بفتح الحاء: الحضانة، وبالكسر (6) : الاسم. ومنه: حجر الثوب، والحجر: الحرام، بالكسر أيضًا.
وقوله (7) : «كانت (8) يدي تطيش في الصَّحفة»؛ أي: تخف وتسرع، وقد دلَّ عليه قوله في الرواية الأخرى: «فجعلت آخذ من لحم حول القصعة».
وقوله: «يا غلام! سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك»؛ فيه تعليم =(5/297)=@
__________
(1) في (ق): «الذي».
(2) في (ق): «للرجل».
(3) في (ن): «يرفعه».
(4) قوله: «أبي» سقط من (ن).
(5) في (ك) و(ق): «وهو».
(6) في (ن): «والكسر».
(7) في (ح) و(ك): «قوله».
(8) في (أ): «وكانت».(5/297)
الصبيان ما (1) يحتاجون إليه من أمور الدين وآدابه. وهذه الأوامر كلها على الندب؛ لأنَّها من المحاسن المكمِّلة، والمكارم المستحسنة. والأصل فيما (2) كان من هذا الباب: الترغيب، والنَّدب.
وقوله: «كل مما يليك»؛ سُنَّة متفق عليها، وخلافها مكروه شديد الاستقباح، لكن إذا كان الطعام نوعًا واحدًا. وسبب ذلك الاستقباح: أنَّ كل آكل كالحائز لما يليه من الطعام، فآخذ الغير له تعدٍّ عليه مع ما في ذلك من تقزز (3) النفوس ما خاضت فيه الأيدي والأصابع، ولما فيه من إظهار الحرص على الطعام، والنَّهم. ثم هو سوء أدب من غير فائدة إذا كان الطعام نوعًا واحدًا. وأما إذا اختلفت أنواع الطعام فقد أباح ذلك (4) العلماء؛ إذ ليس فيه شيء من تلك الأمور المستقبحة.
وكونه - صلى الله عليه وسلم - كان يأكل بثلاث أصابع: أدب حسن، وسنه جميلة؛ لأنَّها تشعر بعدم الشَّرَه في الطعام، وبالاقتصار على ما يحتاج إليه من غير زيادة عليه، وذلك أن الثلاثة (5) الأصابع يستقل بها الظريف الخبير (6) . وهذا فيما (7) يتأتى فيه ذلك من الأطعمة، وما لا (8) يتأتى ذلك فيه استعان عليه بما يحتاج إليه من أصابعه. ولعقه - صلى الله عليه وسلم - أصابعه الثلاثة، وأمره بذلك يدل على أنه سُنَّة مستحبة (9) . وقد كرهه بعض العامة، واستقذره، وقوله بالكراهة والاستقذار أولى من سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (10) ، ولو سكت الجهال قلَّ الخلاف. وفائدة اللَّعق احترام الطعام (11) ، =(5/298)=@
__________
(1) في (ن): «مما».
(2) في (ق): «فيما».
(3) في (ق): «تقذر».
(4) قوله: «ذلك» سقط من (ح).
(5) في (ح) و(ك) و(ق) و(ن): «الثلاث».
(6) في (ن): «الخير».
(7) قوله: «فيما» سقط من (أ).
(8) في (ك): «وأما ما لا».
(9) في (ح): «مستحسنه».
(10) أي: قول العامة أولى بالكراهة والاستقذار.
(11) في (أ): «للطعام».(5/298)
واغتنام للبركة (1) ، ألا ترى أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بلعق الأصابع والقصعة وقال: «فإنَّه لا يدري في أى طعامه البركة ؟» ومعناه - والله تعالى أعلم -: أن الله تعالى قد يخلق الشِّبع في الأكل (2) عند لعق الأصابع أو القصعة (3) ، فلا يترك شيء من ذلك احتقارًا له. ومثل هذا يفهم من قوله ( : «إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى، ثم ليأكلها، ولا يدعها للشيطان» (4) .
وقوله: «فلا يمسحها حتَّى يَلْعقها أو يُلْعقها»؛ هذا يدلّ على جواز (5) مسح اليد من الطعام بالمنديل قبل الغسل، لكن بعد لعقها. وهو محمول على ما إذا لم يكن في الطعام غمر، أمَّا (6) إذا كان فيه غمرٌ فينبغي أن يغسلها، لما جاء في الترمذي (7) من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «من نام وفي يده غمرٌ فأصابه شيء (8) فلا =(5/299)=@
__________
(1) في (ن): «البركة».
(2) قوله: «في الأكل» سقط من (ن).
(3) في (ك): «والقصعة».
(4) سيأتي في البا التالي.
(5) قوله: «جواز» سقط من (ق).
(6) في (ح) و(ك) و(ق) و(ن): «فأما».
(7) رواه أحمد (2/263 و537)، والدارمي (2/104)، والبخاري في" الأدب المفرد" (1220)، وأبو داود (4/188 رقم3852) كتاب الأطعمة، باب في غسل اليد من الطعام، وابن ماجه (2/1096 رقم3297) كتاب الأطعمة، باب من بات وفي يده ريح غمر. كلهم من طريق العمش. وقال: حسن غريب، لا نعرفه من حديث الأعمش إلا من هذا الوجه. كلاهما - سهيل بن أبي صالح، والأعمش -، عن أبي صالح، عن أبي هريرة به.
قلت: إسناد سهيل إسناد حسن وأما إسناد الأعمش ففيه محمد بن جعفر المدائني صدوق فيه لين، وفيه عنعنة الأعمش لكنها مندفعة برواية سهيل. ورواية الأعمش تقوي رواية سهيل. والله أعلم.
وقد فصلت الكلام في هذا الحديث في تحقيقي على "مختصر استدراكات الذهبي على الحاكم" (5/2579-2581 رقم874).
(8) في (ن): «بشيء».(5/299)
يلومن إلا نفسه»، قال: حديث حسن (1) غريب. وقد ذهب قومٌ إلى استحباب (2) غسل اليد قبل الطعام وبعده لما رواه (3) الترمذي (4) من حديث سلمان: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «بركة الطعام الوضوء قبله وبعده». وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر، وبعده ينفي اللمم» (5) . ولا يصحُّ شيء منهما (6) . وكرهه قبله كثير من أهل العلم. منهم (7) : سفيان، ومالك، والليث. وقال (8) مالك: هو من فعل الأعاجم. واستحبوه بعده. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه شرب لبنًا، فمضمض (9) ** كذا في (أ) **وقال: «إن له دسمًا»، وأمر بالمضمضة من اللبن (10) . وقد روي عن مالك: أنه كره ذلك، وقال (11) : وقد تأول على أن يتخذ ذلك سُنَّة (12) ، أو في طعام لا دسم فيه. والله تعالى أعلم.
وقوله: «يلعقها» ثلاثيًّا (13) ؛ أي: يلعقها بنفسه. والثاني رباعيًّا؛ أي: =(5/300)=@
__________
(1) قوله: «غريب» سقط من (ق).
(2) في (ح): «استحسان».
(3) في (ح): «روى».
(4) رواه أبو داود الطيالسي (655)، وأ؛مد (5/441)، وأبو داد (4/136 رقم 3761)، والترمذي (4/248 رقم1846)، وفي "الشمائل" (188)، والطبراني في "الكبير" (6/238 رقم6096)، والحاكم في "المستدرك" (4/106-107)، والبيهقي (7/275-276)، والبغوي في "شرح السنة" (11/282 رقم2833 و2834) كلهم من طريق قيس بن الربيع، عن أبي هاشم الرماني، عن زاذان، وهو أبو يحيى القتات، عن سلمان الفارسي به.
قال أبو داود: ضعيف. وقال الترمذي: «لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث قيس بن الربيع، وقيس بن الربيع يضعف في الحديث. وأبو هاشم الرماني اسمه: يحيى بن دينار». وقال الحاكم: «تفرد به قيس بن الربيع عن أبي هاشم، وانفراده على علو محله أكثر من أن يمكن تركها في هذا الكتاب». وتعقبه الذهبي بقوله: «مع ضعف قيس فيه إرسال».
وقال البيهقي: «قيس بن الربيع غير قوي، ولم يثبت في غسل اليد قبل الطعام حديث».
وقال أبو حاتم: «هذا حديث منكر، لو كان هذا الحديث صحيحًا كان حديثًا، وأبو هاشم الرماني ليس هو». قال: «ويشبه هذا الحديث أحاديث أبي خالد الواسطي، عمرو بن خالد عنده من هذا النحو أحاديث موضوعة عن أبي هاشم وعن حبيب ابن أبي ثابت».
(5) رواه الطبراني في "الأوسط" (7/164) من طريق نهشل بن سعيد، عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس رضي الله عنه ما بلفظ: «الوضوء قبل الطعام وبعده مما ينفي الفقر، وهو من سنن المرسلين».
ونهشل بن سعيد متروك، وبه أعلّه الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/23). وقال العراقي في "فيض القدير" (6/376): «نهشل ضعيف جدًّا، والضحاك لم يسمع من ابن عباس، وقال ولده الولي العراقي: سنده ضعيف لكن له شواهد، وهي وإن كانت ضعيفه لكنها تكسبه فضل قوة؛ منها خبر القضاعي في "مسند الشهاب" عن موسى الرضى، عن آبائه متصلاً...»، فذكره. ثم ذكر حديث سلمان المتقدم فقط.
وأما حديث موسى الرضي فأخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (310)، ويكفي فيه ما قاله الذهبي في "الميزان" (6/538) قال: «وفي مسند الشهاب بإسناد مظلم إلى سهل بن إبراهيم، عن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن جده متصلاً...»، فذكره.
والحديث ذكره الصنعاني في "ألموضوعات"، والشوكاني في "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة" (155)، وقال الألباني في "ضعيف الجامع: موضوع.
(6) في (ق): «منها».
(7) قوله: «منهم» سقط من (ح).
(8) في (ح) و(ك) و(ق): «قال» بلا واو.
(9) في (ق): «فتمضمض».
(10) ....... يُخرج
(11) قوله: «وقال» ليس في (أ) و(ح) و(ق) و(ن).
(12) في (ن): «بسنة».
(13) في (ق): «ثلاثًا».(5/300)
يجعل غيره يلعقها. وهذا كله يدلّ على استحباب لعق الأصابع إذا تعلَّق بها شيء من الطعام، كما قدَّمناه. لكنه في آخر الطعام، كما نص عليه، لا في أثنائه؛ لأنَّه يمس بأصابعه بزاق في فيه (1) إذا لعق أصابعه ثم يعيدها، فيصير كأنه يبصق في الطعام، وذلك مستقذر، مستقبح.
وقوله ( : «إن الشيطان يحضر أحدكم عند كلِّ شيء من شأنه»؛ فائدته أن يحضر الإنسان هذا المعنى عند إرادته فعلاً من الأفعال كائنًا ما كان، فيتعوذ بالله من الشيطان ويُسمِّي الله تعالى فإنَّه يكفي مضرَّة الشيطان، كما قد جاء في حديث الجماع؛ الذي ذكرناه في النكاح، وكما يأتي في الدعوات إن شاء الله تعالى.
وقوله: «فليمط عنها الأذى»؛ أي: يزيله.
وقوله: «ليأكلها (2) »؛ أمر على جهة الاحترام لتلك اللقمة، فإنَّها من نعم الله تعالى، لم تصل للأنسان حتى سخر الله (3) فيها (4) أهل السموات والأرض.
وقوله: «ولا يدعها للشيطان»؛ يعني: إنه إذا تركها، ولم يرفعها فقد مكَّن ** كذا في (أ) ** الشيطان منها؛ إذ قد تكبر عن أخذها، ونسي حق الله تعالى فيها، وأطاع الشيطان في ذلك، وصارت تلك اللقمة مناسبة للشيطان؛ إذ =(5/301)=@
__________
(1) في (أ) و(ك) و(ح) و(ن): «بزاقه في فمه» وفي (ق): «بزاقه في فيه».
(2) في (ك): «وليأكلها».
(3) لفظ الجلالة ليس في (ك).
(4) في (ح): «حتى سخر الله تعالى له فيها».(5/301)
قد تكبر عليها، وهو متكبر، فصارت طعامه. وهذا كله ذمٌّ لحال التارك، وتنبيه على تحصيل غرض الشيطان من ذلك.
- - - - -
5 - ومن باب إذا دعي إلى طعام
اللَّحَّام: الذي يبيع اللحم، وهو الجزَّار. وهذا على قياس قولهم: عطَّار، وتَمَّار، للذي (1) يبيع ذلك. و «خامس خمسة»؛ أي: أحد خمسة. هذا (2) الحديث، وما يأتي بعده يدلّ: على (3) ما كانوا عليه من شدَّة الحال وشظف العيش، وذلك للتمحيص في الدنيا، وليتوفر لهم أجر الآخرة. =(5/302)=@
__________
(1) في (ح) و(ق): «الذي».
(2) في (أ) و(ح) و(ك) و(ق) و(ن): «وهذا».
(3) قوله: «على» سقط من (ن).(5/302)
وهذا المتبع (1) لهم كان ذا حاجة، وفاقة، وجوع، واستئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - لصاحب (2) الدعوة في حق المتبع بيان لحاله، وتطييب لقلب المستأذن، ولو أمره بإدخاله معهم له لكان ذلك (3) ، فإنَّه - صلى الله عليه وسلم - (4) قد أمرهم بذلك، وقال: «من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، أو أربع (5) فليذهب بخامس» (6) ، والوقت كان وقت فاقة وشدِّة، وكانت المواساة واجبة إذ ذاك، والله أعلم. ومع ذلك فاستأذن صاحب المحل (7) تطييبًا لقلبه، وبيانًا للمشروعية في ذلك؛ إذ الأصل: ألا يتصرَّف (8) في ملك الغير (9) أحدٌ إلا بإذنه.
وقول أنس: «كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - جار فارسي طيب المرق»؛ دليل على جواز =(5/303)=@
__________
(1) في (ح): «المنيع».
(2) قوله: «لصاحب» سقط من (ك).
(3) في (أ) و(ح) و(ك) و(ق) و(ن): «معهم لكان له ذلك».
(4) في (ح) و(ق) و(ن): «قد كان أمرهم».
(5) في (أ) و(ح): «رابع».
(6) سيأتي في باب الحض على تشريك الفقير الجائع في طعام الواحد وإن كان دون الكفاية.
(7) في (ك): «المكان».
(8) في (ح) و(ق): «لا يتصرف».
(9) قوله: «الغير» ليس في (أ) و(ح) و(ن).(5/303)
تطييب الأطعمة، والإعتناء بها، ولا خلاف في جواز ذلك بين الأئمة، وامتناع الفارسي من الإذن لعائشة رضي الله عنها: أولى ما قيل فيه: إنه إنَّما كان صنع من الطعام ما يكفي النبي (1) - صلى الله عليه وسلم - وحده؛ للذي رأى عليه من الجوع، فكأنه رأى: أن مشاركة النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك يجحف (2) بالنبي - صلى الله عليه وسلم - . وامتناع النبي - صلى الله عليه وسلم - من إجابة الفارسي عند امتناعه من إذن عائشة: إنما كان - والله أعلم - لأن عائشة كان بها من الجوع مثل الذى كان بالنبي (3) - صلى الله عليه وسلم - ، فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستأثر عليها بالأكل دونها، وهذا تقتضيه (4) مكارم الأخلاق، وخصوصًا مع أهل بيت الرجل، ولذلك قال بعض ا لشعراء (5) :
وشِبَعُ الفتى لؤمٌ إذا جاع صاحبه
وقد نبَّه مالك رحمه الله على هذا المعنى حين سُئل عن الرجل يدعو الرجل يكرمه، قال: إذا أراد فليبعث بذلك إليه يأكله مع أهله. وفي هذين الحديثين أبواب من الفقه من تتبعها ظفر بها. =(5/304)=@
__________
(1) في (ن): «للبني».
(2) في (ن): «تجحف».
(3) قوله: «كان» سقط من (ن).
(4) في (ح) و(ق): «يقتضيه».
(5) عجز البيت لبشر بن المغيرة بن المهلب بن أبي صفرة، يشكي فيها حاله إلى عمه المهلّب بن أبي صفرة، وأبيه المغيره، وابنه يزيد، ومطلع القصيدة:
جفاني الأمير والمغيرة قد جفاوأمسى يزيدٌ لي قد ازوَرَّ جانبه
وكلُّهم قد نال شِبعًا لبطنهوشبع الفتى لؤمٌ إذا جاع صاحبه(5/304)
- - - - -
7 - ومن باب من اشتدَّ جوعه تعين ** كذا في (أ) ** عليه أن يرتاد لنفسه (1)
قوله (2) - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: «ما أخرجكما من بيوتكما ؟» قالا: الجوع. قال: «وأنا أخرجني الذي أخرجكما»؛ هذا (3) يدلّ على شدَّة حالهم في أوَّل أمرهم. وسبب ذلك: أن أهل المدينة كانوا في شظف من العيش عندما قدم عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - مع المهاجرين، وكان المهاجرون فرُّوا بأنفسهم، وتركوا أموالهم، وديارهم، فقَدِموا فقراء على أهل شدَّة، وحاجة، مع أن الأنصاررضي الله عنهم واسوهم فيما كان عندهم (4) ، وشركوهم فيما كان لهم، ومنحوهم، وهادوهم، غير أن ذلك ما كان يسدُّ خلاَّتهم، ولا يرفع فاقاتهم، مع إيثارهم الضراء على السراء، والفقر على الغنى. ولم يزل ذلك دأبهم إلى أن فتح الله عليهم وادي القرى، وخيبر، وغير ذلك؛ فردُّوا لهم منائحهم، واستغنوا بما فتح الله عليهم. ومع ذلك فلم يزل عيشهم شديدًا، وجهدهم جهيدًا حتَّى لقوا الله تعالى مؤثرين (5) ما (6) عندهم، صابرين على شدَّة عيشهم (7) ، معرضين عن الدنيا وزهرتها ولذاتها. مقبلين على الآخرة، ونعيمها، وكراماتها، فحماهم (8) الله ما رغبوا عنه، وأوصلهم إلى ما رغبوا فيه. حشرنا الله في زمرتهم، واستعملنا بسنَّتهم (9) .
وقوله: «قوموا»؛ أمرٌ بالقيام لطلب العيش عند الحاجة. وهو دليل ما =(5/305)=@
__________
(1) قوله: «لنفسه» سقط من (أ).
(2) في (ق): «وقوله».
(3) قوله: «هذا» سقط من (ح).
(4) قوله: «فيما كان عندهم» سقط من (ح) و(ك) و(ق) و(ن).
(5) في (ح): «مؤثرين على أنفسهم».
(6) في (ك) و(ق) و(ح) و(ن): «بما».
(7) في (ق): «عليهم» وكتب في الهامش «عيشهم».
(8) في (ق): «فحماهما».
(9) قوله: «بسنتهم» بياض في (ح).(5/305)
رسمناه في الترجمة، وهذا الرجل الأنصاري هو: أبو الهيثم بن التَّيهان على ما جاء مفسَّرًا في رواية آخرى (1) . واسمه: مالك بن التَّيهان. قاله أبو عمر (2) .
وقولها: «يستعذب لنا ماء»؛ أي: يطلب الماء العذب. وفيه دليلٌ على جواز الميل للمستطابات (3) طبعًا من الماء وغيره.
وقول الرجل: «الحمد لله، ما أحدٌ اليوم أكرم أضيافًا منِّي»؛ قولٌ صدق، ومقالٌ حق؛ إذ لم تقل الأرض، ولا أظلَّت السَّماء في ذلك الوقت أفضل من أضيافه؛ فإنَّهم: محمد رسول الله ( ، وخليفتاه: أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما. ولما تحقق الرجل عظيم هذه النعمة قابلها بغاية مقدور الشكر، فقال: الحمد لله!
و « العِذق»- بكسر العين -: الكباسة (4) ، وهي: العرجون. و «العذق (5) » - بفتح العين -: النخلة. وإنما قدَّم لهم هذا العرجون؛ لأنَّه الذي تيسَّر له بغير كلفة، لا سيما مع تحققه حاجتهم (6) ، ولأن فيه ألوانًا من التمر، والبسر (7) ، والرطب، ولأن الابتداء بما يتفكه به من الحلاوة أولى من حيث إنه أقوى للمعدة؛ لأنَّه أسرع هضمًا.
و «المدية»: السكين. و «الحلوب»- بفتح الحاء -: الشاة التي تحلب لبنًا كثيرًا. إنَّما نهاه عنها (8) ؛ لأنَّ ذبحها تضييعٌ للبنها (9) ، مع أن غير ذات اللبن تتنزل (10) منزلتها عند الضيف، ويحصل بها (11) المقصود. =(5/306)=@
__________
(1) أخرجه أبو عوانة في "مستخرجه" (8304) من طريق عيسى بن يونس، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة به.
وأخرجه الترمذي (2369)، والحاكم (4/131)، والطبراني (19/570)، وابن جرير (30/287)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (1/159)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (4283 و4284). كلهم من طريق عبدالملك بن عمير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
(2) قوله: «قاله ابو عمر» سقط من (ح) و(ك).
(3) في (ك): «للمستطاب».
(4) في (ق): «الكناسة».
(5) في (ح): «والعدف».
(6) في (ن): «حالتهم».
(7) في (أ): «البسر» بدون واو.
(8) في (ق): «عن ذلك» وكتب فوقها «عنها».
(9) في (ق): «لبنها».
(10) في (أ): «تنزل».
(11) في (ح): «به».(5/306)
وقوله: «فأكلوا من تلك الشاة (1) ، ومن ذلك العذق»؛ دليلٌ على جواز جمع طعامين (2) فأكثرعلى مائدة.
وقوله: «حتى شبعوا، ورووا»؛ دليل على جواز الشبع (3) من الحلال. وما جاء مما يدلُّ على كراهة الشبع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعن السلف: إنما ذلك في الشبع (4) المثقل للمعدة (5) ، المبطئ (6) بصاحبه (7) عن الصلوات، والأذكار، المضرُ بالانسان بالتخم، وغيرها؛ الذى يفضي بصاحبه إلى البطر، والأشر، والنوم، والكسل. فهذا هو المكروه. وقد يلحق بالْمُحرَّم إذا كثرت آفاته، وعمَّت بليَّاته.
و «القسطاس المستقيم» ما قاله مَنْ عليه الصلاة والتسليم: «ما ملأ آدمي وعاءً شرًّا من بطن، بحسب (8) ابن آدم أكلات يقمن صلبه؛ فإنَّ كان ولا بدَّ: فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه» (9) .
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لتُسألُنَّ عن نعيم هذا اليوم»؛ أى: سؤال عرض لا سؤال مناقشة، وسؤال إظهار التفضل (10) والمنن، لا سؤال (11) يقتضي (12) المعاتبة (13) ، والمحن.
و«النعيم»: كل ما يتنعم به؛ أي: يستطاب، ويتلذذ به. وإنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا استخراجًا للشكر على النعم (14) ، وتعظيمًا (15) لذلك. والله تعالى أعلم. =(5/307)=@
__________
(1) في (أ) و(ح): «ذلك الشاة». وفي (ن): «ذلك الشا».
(2) في (ق): «جمع بين الطعامين».
(3) في (ن): «الشبع يعني من الحلال».
(4) من قوله: «عن النبي ( ...» إلى هنا سقط من (ق).
(5) في (ح): «المعدة».
(6) في (ن): «المطبى» بدل «المبطئ».
(7) في (ح): «لصاحبه».
(8) في (ق): «فحسب». وفي (ن): «حسب».
(9) رواه ابن سعد في"الطبقات" (1/410)، وابن المبارك في "الزهد" (603)، وأحمد (4/132)، والترمذي (4/509 رقم2380)، والنسائي في "الكبرى" (4/177 رقم6769 و6770)، والطبراني (20/273 رقم644 و645 و646)، وابن حبان (2/449 رقم674)، والحاكم (4/121 و331)، والبيهقي في "الشعب" (5/28 رقم5648-5650). جميعهم من طريق يحيى بن جابر، عن المقدام بن معدي كرب، به.
وهو حديث صحيح وقد فصلت القول فيه مختصرًا استدراكات الذهبي على الحاكم (5/2599).
(10) في (ح): «إظهار للفضل».
(11) في (أ) و(ح): «لا سؤالاً».
(12) في (ن): «تقتضي».
(13) في (ن): «العاقبه».
(14) في (ق): «النعيم».
(15) في (ح): «وتعليما».(5/307)
- - - - -
8 - ومن باب جعل الله تعالى قليل (1) الطعام كثيرًا ببركة النبي - صلى الله عليه وسلم -
« الخمص»: الجوع، وأصله: من خمص البطن، وهو: ضموره، ولما كان الجوع يُضمِر البطن سُمِّي به. و «البهيمة» الصغيرة من الضأن، تصغير: بهمة. والجمع: بهم. و « الدَّاجن»: الملازم للبيت، ودجن في كذا (2) ؛ أي: أقام فيه (3) .
وقوله: «انكفأت (4) إلى أهلي»؛ أي (5) : انقلبت إليهم، وانصرفت.
و «الجراب»: وعاء من جلد.
وقوله: «إن جابرًا قد (6) صنع لكم سورًا»؛ أي: اتخذ طعامًا لدعوة الناس. كلمة فارسية. قاله الطبري وغيره. وقال غيرهما: هو الطعام نفسه بالفارسية.
وقوله: «حيَّهلا (7) بكم»؛ أي: أقبلوا وهلمُّوا. قال الهروي: «حي» كلمة على =(5/308)=@
__________
(1) في (ك) و(ق) و(ن): «ومن باب جعل قليل».
(2) في (ن): «ودجن بكذا».
(3) في (ن): «به».
(4) في (ح) و(ك) و(ق) و(ن): «وانكفأت».
(5) قوله: «أي» سقط من (ن).
(6) قوله: «قد» سقط من (ن).
(7) في (ق): «حي هلا» كذا رسمت.(5/308)
حدة، ومعناها: هلمّ، و «هلا (1) »: كلمة على حدة، فجُعِلا كلمة واحدة. قال غيره: وفيها لغات، يقال: حيَّ هَلْ، وهلَ، وَهلَى، وَهلَاَ، وحيَّ هلْ، وحي هل -بسكونهما -. وحكى أبو عبيدة (2) : حي أهلك (3) ، وهي التي يقال فيها: حي على بمعناها (4) . وهي عند أبي عبيدة بمعنى: عليك بكذا؛ أي: ادع به.
وقولها: «بك وبك»؛ عتب عتبت عليه، وكأنها قالت له: فعلت هذا برأيك، وسوء نظرك. تعني (5) : دعاءه (6) للناس كلهم، وظنَّت أنه لم يخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدر الطعام. ويحتمل أن يكون معناه (7) : بك تنزل الفضيحة، وبك يقع الخجل. ويحتمل أن يكون دعاء؛ أي: أوقع الله بك الفضيحة، أو الخجل، أو نحو (8) هذا.
وقوله: «فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقدم الناس»؛ هذا منه - صلى الله عليه وسلم - مخالفٌ للذي نقل من سيرته مع أصحابه: أنه كان لا يتقدمهم، ولا يوطأ عقبه؛ وإنما كان يمشي بين أصحابه، أو يقدمهم (9) . وإنَّما تقدمهم (10) في هذا الموضع لأنه هو (11) الذي دعاهم (12) ، فكان دليلهم إلى الموضع الذي دعاهم إليه.
وقوله: «وبارك فيها»؛ أي: دعا بالبركة، فاستجيب له على الفور، وظهرت معجزاته، وبركاته لما أكل من الصاع الشعير، والبَهمة (13) ذلك (14) العدد الكثير، ثم بقي الطعام على حاله كما كان أوَّل مرة. وعلى هذا (15) : لو كانوا مائة ألف لكفاهم.
و «غطيط القدر»: صوت فورانها (16) . =(5/309)=@
__________
(1) في (أ) و(ق) و(ن): «هلم وهل وهلا».
(2) في (ح) و(ن): «أبو عبيد».
(3) في (ح) و(ن) و(ق): «حي هلك» وفي (ك): «حيهلك».
(4) في (ح) و(ك) و(ن): «بمعنى».
(5) في (ق) و(ن): «يعني».
(6) في (ن): «دعاؤه».
(7) في (ن): «بمعناه».
(8) في (ق): «أي الخجل ونحو» وفي (ن): «ونحو».
(9) قوله: «أو يقدمهم» سقط من (ح).
(10) في (ق): «يقدمهم».
(11) قوله: «لأنه هو» سقط من (ق).
(12) قوله: «دعاهم فكان دليلهم إلى الموضع الذي» سقط من (ق).
(13) في (ق): «والبهيمة».
(14) في (ح): «هذا».
(15) في (أ): «وعلى ذلك».
(16) في (ن): «فوارها».(5/309)
وقوله في حديث أنس: «فأخرجت (1) أقراصًا من شعير، فلفته بالخمار ثم أرسلت بذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ». وفي الرواية الأخرى: « أن أبا طلحة أمر أمَّ سليم أن تصنع للنبي - صلى الله عليه وسلم - طعامًا لنفسه خاصة». وفي أخرى: «أن أبا طلحة قال لأم سليم: هل من شيء؟ فقالت: نعم، عندي كسر وتمرات، فإنَّ جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحده أشبعناه، وإن جاء أحدٌ معه قلَّ عنهم».
قال الشيخ رضي الله عنه: وهذه روايات مختلفة، فإن كان وقع ذلك مرَّات فلا إشكال، وإن كان مرة واحدة كان ذلك اضطرابًا، غير أنه يمكن الجمع بين تلك (2) الألفاظ، ويرتفع الاضطراب، لكن على تكلف وبُعد (3) .
وقوله: «فدسته تحت ثوبي»؛ كذا في كتاب مسلم عند سائر رواته. وفي (4) "الموطأ" (5) : «تحت يدي»؛ أي: إبطي. و «الدسّ»: وضع الشيء في خفية، ولطافة.
وقوله: «وردتني ببعضه» (6) ؛ يعني ** كذا في (أ) ** به: أنها جعلت الطرف الثاني من الخمار عليه كالرداء. =(5/310)=@
__________
(1) في (ح): «فأكثر».
(2) في (ق): «ذلك».
(3) رجَّح الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (6/589-591) تعدد القصة.
(4) في (ن): «في» بلا واو.
(5) (1657).
(6) وضع في (أ) بعد قوله: «ببعضه» إشارة لحق وكتب في الهامش: «وقد قيل إن لها في بعضه فائدة عن الخبز أي: ردت سورة جوعي ببعضه والذي داخل الكتاب أظهر والله أعلم».(5/310)
وقول أبي (1) طلحة لأم سليم: «قد جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس (2) وليس عندنا ما نطعمهم»؛ قولٌ على مقتضى العادة. وجواب أم سليم بقولها: «الله ورسوله أعلم» قولٌ أخرجه النظر إلى إمكان خرق (3) العادة، ورجاء بركة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالذي كان.
و «العكة»: وعاء صغير من جلد يجعل فيه السمن، والنحي (4) أكبر منه. و « أَدْمته» بمدِّ الألف وقصرها؛ أي: جعلت السمن في الخبز وهو الأدام (5) ، فصار الخبز مأدومًا.
وقوله: «ليتحلق عشرة عشرة (6) »؛ فيه دليل على استحباب اجتماع هذا العدد على جفنة واحدة (7) عند كثرة الناس، لكن هذا إذا لم تحمل الجفنة أكثر من ذلك، فلو كانت كجفنة الرَّكب لأكل عليها أكثر من هذا العدد.
وقوله: «فأكلوا حتى شبعوا»؛ دليل على جواز الشبع، خلافًا لمن كرهه =(5/311)=@
__________
(1) في (ق): «وقوله أبو».
(2) في (ك): «والناس وكتب في هامشها «بالناس» ووضع فوقها (خ).
(3) في (ح): «اخراق».
(4) قوله: «والنحي» لم يتضح في (ح).
(5) في (ك): «الأدم».
(6) قوله: «واحدة» سقط من (ن).
(7) من قوله: «ذلك فلو كانت...» إلى هنا سقط من (ق).(5/311)
مطلقًا. وهم قومٌ من المتصوفة (1) ، لكن الذي يكره منه ما يزيد على الاعتدال، وهو الأكل بكل البطن، حتى لا يترك للماء، ولا للنَّفس مساغًا. وقد ينتهي هذا إلى تجاوز الحد، فيحكم (2) عليه بالتحريم كما تقدَّم. وكونه - صلى الله عليه وسلم - أكل بعدهم؛ إنَّما كان (3) ذلك لأنه هو أطعمهم ببركة دعائه، فكان آخرهم أكلاً، كما قال في الشراب: «ساقي القوم آخرهم شربًا» (4) . وأيضًا: فليحصل على درجة الإيثار؛ فإنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان =(5/312)=@
__________
(1) في (ن): «الصوفيه».
(2) في (ق): «فتحكم».
(3) في (ح): «فعل».
(4) أخرجه مسلم (1/472 رقم681 ) كتبا المساجد من حديث أبي قتادة، وتقدم باب...(5/312)
أشدُهم جوعًا؛ لأنَّه كان قد شدَّ على بطنه بحجرين، ومع ذلك (1) فقدَّمهم عليه وآثرهم بالأكل قبله.
وشدُّ البطن بالحجر (2) يسكن (3) سورة الجوع، وذلك: أنه يلصق البطن بالأمعاء، والأمعاء بالبطن، فتلتصق المعدة بعضها بالبعض، فيقل الجوع. وقيل: إنما يفعل ذلك ليقوى من الضعف الذي يجده (4) بسبب الجوع. والأول أبين. وفيه أبواب من الفقه لا تخفى (5) . =(5/313)=@
__________
(1) قوله: «ذلك» سقط من (ق).
(2) في (ن): «بالحجرين».
(3) في (ق): «ليسكن» وفي (ن): «تسكين».
(4) في (ك) و(ق): «يجد».
(5) زاد بعدها في (ن): «والله أعلم».(5/313)
- - - - -
9 - ومن باب أكل الدُّبَّاء والقديد والتمر
« الدباء»: اليقطين. واحده: دباءة - ممدود - وقد حكى فيها (1) القصر: ابن السَّرَّاج (2) ، وليس معروفًا، وعليه فيكون (3) واحده دبأة.
وقول أنس: «وجعلت ألقيه إليه»؛ دليل على جواز مناولة بعض المجتمعين على الطعام لبعض شيئًا منه، ولا ينكر (4) على من فعل (5) ذلك؛ وإنما الذي يكره: أن يتناول شيئًا من أمام غيره، أو (6) يتناول من على مائدة (7) من مائدة أخرى، فقد كرهه ابن المبارك.
وتتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - الدباء من حوالي (8) القصعة: إنما كان ذلك لأن الطعام كان مختلفًا، فكان (9) يأكل ما يعجبه منه -وهو الدُّباء - ويترك ما لا يعجبه - وهو القديد -. وقد قدمنا جواز ذلك. =(5/314)=@
__________
(1) في (ك) و(ح) و(ق): «فيه».
(2) في (ح): «ابن سراج».
(3) في (أ): «فتكون».
(4) في (ن): «ولا يكره».
(5) في (ق): «من يفعل».
(6) في (ن): «و» بدل «أو».
(7) في (ن): «مائدته».
(8) في (ح): «حول».
(9) في (ق): «وكان».(5/314)
وقول أنس: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقعيًا، يأكل تمرًا»؛ الإقعاء: جلسة المستوفز (1) على أطراف آليتيه (2) . مأخوذ من إقعاء السبعُ. وقد تقدم في كتاب الصلاة. وهو معنى قوله في الرواية الأخرى:«وهو محتفز» بالزاي؛ أي: مستعجل، غير متمكِّن. وإنما كان يأكل كذلك لعدم نهمه (3) ، وقلَّة مبالاته بأكله؛ إذ لم تكن همته فيما يجعل في بطنه، وإنما كان (4) يأكل القليل من الطعام عند الحاجة، وعلى (5) جهة التواضع، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : «أما أنا فلا آكل متكئًا، ولكن آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد» (6) . =(5/315)=@
__________
(1) في (ح): «المتوفز».
(2) في (ك): «إلييه».
(3) في (ق): «نهمته».
(4) قوله: «كان» سقط من (ن).
(5) في (ك): «على» بلا واو.
(6) الشطر الأول من الحديبث أخرجه البخاري في "صحيحه" (5399)، وغيره من حديث علي بن الأقمر، عن أبي جحيفة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أما أنا فلا آكل متكئًا». وأخرجه أبو يعلى (4920)، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - "(197) من طريق أبي معشر، عن المقبري، عن عائشة مطولاً، وفيه: فكان رسول الله ( لا يأكل إلا متكئًا، يقول: آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد».
قال الهيثمي في "الزوائد"(9/19): إسناده حسن. قلت: لولا أبو معشر؛ فإنه ضعيف. قال البخاري والساجي: «منكر الحديث».(5/315)
وكان يجلس محتفزًا، وفسَّر ذلك عثمان بن أبي زائدة عن عمارة بن القعقاع، ورفع ركبته (1) إلى بطنه، والأكل متكئًا من فعل المتعظمين، وأصله ماخوذ عن الأعاجم (2) .
وقوله: «فقدَّمنا إليه طعامًا ووطبةً (3) »؛ كذا في كتاب أبي عيسى؛ بسكون الطاء، وباء بواحدة (4) .
قال الشيخ: وهي مؤنثة الوطب، وهي: قربة اللبن. وكأنه قدَّم له هذه القربة ليشرب منها.
وعند أبي بحر، وقرىء عليه (5) : ووطيئة (6) - بكسر الطاء، والهمزة المفتوحة - قال ابن دريد: الوطيئة (7) : التمر يستخرج نواه، ويعجن بالسمن. قال ثابت (8) : هو طعام للعرب يتخذ من تمر أراه كالحيس.
قال الشيخ: وقد فسَّر القتبي (9) الوطيئة (10) بغير هذا. قال في حديث: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تبوك (11) ، فأخرج لنا ثلاث أكل من وطيئة (12) (13) . قال: والوطيئة (14) : الغرارة، والأكل: اللقم.
وقوله: «أكلاً ذريعًا»؛ أي: كثيرًا. و «حثيثًا»: أي (15) : مستعجلاً. وحاصلهما (16) : أنَّه كان يأكل أكلاً لا تصنُّع فيه، ولا رياء، ولا كبر؛ فإذا احتاج إلى الإكثار أكل، وإذا حفزه أمرٌ استعجل، لكنه ما كان يخرج عن أدب (17) ، ولا يفعل شيئًا غير مستحسن - صلى الله عليه وسلم - . =(5/316)=@
__________
(1) في (أ): «ركبتيه».
(2) من قوله: «وكان يجلس محتفزًا...» إلى هنا سقط من (ح) و(ك).
(3) في (ق): «ووطية».
(4) في (ق): «وباء موحدة».
(5) قوله: «عليه» سقط من (ن).
(6) في (ق) و(ن): «ووطبة».
(7) في (ن): «الوطبة».
(8) قوله: «ثابت» ليس في (ك).
(9) في (ن): «القتيبي».
(10) في (ق) و(ن): «الوطبة».
(11) في (أ) و(ك) و(ح) و(ق) و(ن): «من تبوك».
(12) في (ح): «وطبة» وفي (ن): «وطبته».
(13) ذكره أهل اللغة منهم الزمخشري في "الفائق" (1/50): قال بعض بني عذرة: أتيته بتبوك، فذكره. وذكره صاحب النهاية (5/201).
(14) في (ح) و(ن): «والوطبة».
(15) قوله: «أي» سقط من (ن).
(16) في (ق): «وحاصله».
(17) في (ق): «الأدب».(5/316)
وكونه - صلى الله عليه وسلم - (1) يلقي النوى بين السَّبابة والوسطى؛ مبين: أنَّه يجوز تصريف الإصبعين لذلك، لئلا يظن: أنَّه لا يجوز تصريف السَّبابة إلا مع الإبهام؛ لأنَّه الأمكن، والذي جرت (2) به العادة. وإلقاؤه (3) النوى خارجًا عنهم تعليم لاجتناب إلقائها بين أيدي الآكلين؛ لأنَّ ذلك مِمَّا يستكره، ويستقذر. وقد تقدَّم التنبيه على سُنَّة مناولة الشراب على اليمين.
وفي هذه الأحاديت: جواز أكل الطيبات من الأطعمة، والحلاوة الحلال (4) ، وجمع ذلك في وقت واحد خلافًا (5) لمن كرهه من المتقشفين. وكان - صلى الله عليه وسلم - يأكل القثاء بالرُّطب، ويقول: «اكسر حرّ هذا ببرد هذا» (6) (7) .
وفيه دليل على جواز مراعاة صفات الأطعمة، وطبائعها (8) ، واستعمالها على الوجه الأليق بها (9) ، كما يقوله (10) الأطباء. والله تعالى أعلم. =(5/317)=@
__________
(1) في (ن): «كان يلقي».
(2) في (ك): «حرت».
(3) في (ك) و(ح) و(ق) و(ن): «وإلقاء».
(4) قوله: «الحلال» سقط من (ح).
(5) في (ق): يشبه «خلاف».
(6) رواه ابو داود (4/176 رقم3836) كتاب الأطعمة، باب في الجمع بين لونين في الأكل، عن سعيد بن نصير، ثنا أبو أسامة، ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنه ا. وهذا إسناد حسن: سعيد بن نصير قال عنه الذهبي والحافظ / صدوق. وبقية إسناد ثقات أجلاء.
وللحديث طرق أخرى ليس فيها زيادة: «نكسر حر هذا ببرد هذا»، رواه الحميدي (255)، والترمذي (1843)، والنسائي في"الكبرى" (4/166 رقم6722) من طرق عن هشام بن عروة بلفظ: أن النبي ( كان يأكل البطيخ بالرطب. وليست عندهم هذه الزيادة.
(7) كتب في هامش (أ): «وكذا في البخاري ومصنف أبي داود وغيرهما» ووضع فوقها «خـ».
(8) في (ح) و(ن): «وطباعها».
(9) قوله: «بها» سقط من (ك).
(10) في (ق): «تقوله».(5/317)
- - - - -
11 - ومن باب النهي عن القران في التمر
« الجهد»- بفتح الجيم -: المشقة، وبالضم (1) : الطاقة.
وقوله: «نهى عن الإقران»؛ هكذا وقعت هذه اللفظة لجميع رواة مسلم هنا، وليست بمعروفة؛ أعني: لفظة الإقران؛ فإنها وقعت (2) رباعيَّة من: أقرن، وصوابه: القران؛ لأنَّه من: قرن (3) ، يقرن -ثلاثيًّا -، كما جاء في الرواية الأخرى: أن يقرن. قال الفرَّاء: يقال: قرن بين الحج والعمرة، ولا يقال: أقرن. قال غيره: إنَّما يقال: أقرن (4) على الشيء: إذا قوي عليه، وأطاقه. ومنه قوله تعالى: {وما كنا له مقرنين} (5) ؛ أي: مطيقين.
قال الشيخ: غير أنه قد (6) جاء في الصَّحاح: أقرن (7) الدَّم في العرق، واستقرن (8) ؛ أي: كثر. فيحتمل أن يحمل الإقران المذكور في هذا الحديث على ذلك، فيكون معناه: أنه نهى عن الإكثار من أكل التمر إذا أكل مع غيره. ويرجع معناه إلى القران المذكور في الرواية الأخرى، والله تعالى أعلم.
وقد حمل أهل الظاهر هذا النهي على التحريم مطلقًا. وهو منهم جهل بمساق (9) الحديث وبالمعنى. وحمل الجمهور، والفقهاء، والأئمة هذا النهي على حالة المشاركة في الأكل والاجتماع عليه، بدليل فهم ابن عمر راوي الحديث ذلك المعنى، وهو أفهم للمقال، وأقعد بالحال، وبدليل قوله: إلا أن يستأذن الرجل =(5/318)=@
__________
(1) في (ح): «والضم».
(2) قوله: «فإنها وقعت» ألحقها في الهامش وكأنه ضرب عليها.
(3) في (ن): «أقرن».
(4) قوله: «أقرن» سقط من (ق).
(5) الآية (13) من سورة الزخرف.
(6) قوله: «قد» سقط من (ح) و(ك) و(ق).
(7) في (ح) و(ك) و(ق) و(ن): «وأقرن».
(8) للجوهري (6/2181).
(9) في (ن): «لمساق».(5/318)
أخاه. فإنَّ كان هذا من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو نصٌّ في المقصود، وإن كان من قول ابن عمر؛ فكما قلناه.
وقد علله (1) الجمهور بعلتين:
إحداهما (2) : أن ذلك يدلّ على كثرة الشَّرَه، والنَّهم. وبهذا عللته (3) عائشة رضي الله عنه ا حيث قالت: إنها نذالة (4) .
وثانيتهما (5) : إيثار الإنسان نفسه بأكثر **كذا في أ ** من حقه على (6) مشاركه في الأكل، وحكمهم في ذلك التساوي.
وقوله: «إلا أن يستاذن أخاه». قال الخطابي: إن ذلك النهي إنما كان في زمنهم لما كانوا عليه من الضيق والمواساة، فأمَّا اليوم: فلا يحتاجون إلى الاستئمار (7) .
قال الشيخ رضي الله عنه: وهذا فيه نظر وذلك أن الطعام إذا قُدِّم إلى قوم فقد تشاركوا فيه، وإذا (8) كان كذلك فليأكل كل واحد منهم على الوجه المعتاد على ما تقتضيه (9) المروءة، والنصفة من غير أن يقصد اغتنام زيادة على الآخر، فإنَّ فعل وكان الطعام شركة بحكم الملك؛ فقد أخذ ما ليس له، وإن كان إنما قدَّمه (10) لهم (11) غيرهم، فقد اختلف العلماء فيما يملكون منه. فإنَّ قلنا: إنهم يملكونه بوضعه بين أيديهم؛ فكالأول. وإن قلنا: إنهم إنما يملك كل واحد منهم ما رفع إلى فيه؛ فهذا سوء أدب، وشَرَه، =(5/319)=@
__________
(1) في (أ): «علل».
(2) في (ح): «احديها».
(3) في (ق) و(ن): «عللت».
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (24495): ثنا وكيع، عن حبيبة بنت عباد، عن أمها قالت: سألت عائشة عن القران بين التمرتين؟ فقالت: لو كان حلالاً كان دناءة.
(5) في (ك): يشبه أن تكون «وثانيهما» . وفي (ح) و(ق) و(ن): «وثانيهما».
(6) في (أ): «مع».
(7) في (ق): «الاستيمار» وكتب في الهامش «الاستيذان».
(8) في (ن): «قوم ففيه تشاركوا وإذا».
(9) في (ك): «يقتضيه».
(10) في (ن): «قدم».
(11) في (ك): «له».(5/319)
ودناءة. فعلى الوجه الأول: يكون محرَّمًا، وعلى الثاني: مكروها؛ لأنَّه يناقض مكارم الأخلاق، والله تعالى أعلم.
وقوله ( : «بيتٌ لا تمر فيه جياع أهله»؛ هذا إنما عنى به النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، ومن كان على حالهم، فمن (1) غالب قوتهم: التمر، وذلك: أنه إذا خلا البيت عن غالب القوت في ذلك الموضع كان عن غير الغالب أخلى (2) ، فيجوع أهله؛ إذ لا يجدون شيئًا. ويصدق هذا القول على كل بلد ليس فيه إلا صنف واحد، أو يكون الغالب فيه صنفًا واحدًا، فيقال على بلد ليس فيه إلا البر: بيت لا بز (3) فيه جياع أهله. ويفيد هذا التنبيه على مصلحة تحصيل القوت، وادِّخاره؛ فإنَّه أسكن للنفس غالبًا، وأبعد عن التشويش. =(5/320)=@
__________
(1) في (أ) و(ك) و(ح) و(ق): «ممن» وفي (ن): «عن».
(2) في (ق): «أصلى».
(3) في (أ): «تمر».(5/320)
- - - - -
12 - ومن باب بركة عجوة المدينة والكمأة
قوله: «من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح لم يضره ذلك اليوم سُمٌّ »، وفي أخرى: «من تصبَّح (1) بسبع تمرات عجوة لم يضرُّه ذلك اليوم سُمٌّ، ولا سحر»، ولم (2) يذكر: مما بين (3) لابتيها.
قد (4) تقدم القول (5) في اللابة، وأنها الحجارة السود التي حول المدينة. وأعاد الضمير على المدينة، ولم يجر لها ذكر في اللفظ، لكنه مما يدل (6) الحال، والمشاهدة عليه. ومطلق هاتين الروايتين مقيَّد بالأخرى، فحيث أطلق العجوة هنا إنما أراد به عجوة المدينة، وكذلك في حديث عائشة: لما أطلق العالية فمراده به (7) : المدينة وجهاتها. ومعنى تصبَّح (8) : أكل عند =(5/321)=@
__________
(1) في (ق) و(ن): «يصبح».
(2) في (أ): «ولا».
(3) قوله: «مما بين» سقط من (ك).
(4) في (ح): «وقد».
(5) في (ك): «الكلام».
(6) في (أ) و(ح) و(ك): «تدل» وفي «ق) و(ن): «يدل عليه الحال».
(7) قوله: «به» سقط من (ق).
(8) في (ق) و(ن): «يصبح».(5/321)
الصباح، كما جاء مفسَّرًا في الرواية الأخرى، وهذا على طريقة: تغدى، وتعشى، وتسحر: إذا أكل في تلك الأوقات.
وظاهر (1) هذه الأحاديث: خصوصية عجوة المدينة بدفع السُّم، وإبطال السحر. وهذا: كما توجد (2) بعض الأدوية مخصوصة ببعض المواضع، وببعض الأزمان. وهل (3) هذا من باب الخواص التي لا تدرك بقياس طبي (4) ، أو هو مما يرجع إلى قياس طبي (5) ؛ اختلف علماؤنا فيه (6) ، فمنهم من تكلَّفه وقال: إن السموم إنما تفتك (7) لإفراط برودتها، فإذا دام على التصبُّح بالعجوة تحكمت فيه الحرارة، واستعانت بها الحرارة الغريزية (8) ، فقابل ذلك برودة السُّم ما لم يستحكم، فبرأ صاحبه بإذن الله تعالى.
قال الشيخ: وهذا يرفع (9) خصوصية عجوة المدينة، بل خصوصية العجوة مطلقًا، بل خصوصية التمر، فإنَّ هناك من الأدوية الحارة ما هو أولى بذلك منه، كما هو (10) معروف عند أهله. والذي (11) ينبغي أن يقال: إن ذلك خاصة عجوة المدينة كما أخبر به الصادق - صلى الله عليه وسلم - .
ثم هل ذلك مخصوص بزمان نطقه - صلى الله عليه وسلم - أو (12) هو في كل زمان، كل ذلك محتمل، والذي يرفع هذا الاحتمال التجربة المتكررة، فإنَّ وجدنا ذلك كذلك في هذا الزمان؛ علمنا أنها (13) خاصة دائمة، وإن لم نجده مع كثرة التجربة؛ علمنا أن ذلك (14) مخصوص بزمان ذلك القول (15) . والله تعالى أعلم.
وأما تخصيصه بسبع فخاصية (16) لهذا العدد قطعًا، وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في =(5/322)=@
__________
(1) في (ق): «فظاهر».
(2) في (ق) و(ن): «يوجد».
(3) قوله: «هل» سقط من (ح).
(4) في (ق): «ظني».
(5) في (ق): «ظني».
(6) في (أ) و(ك) و(ح) و(ق) و(ن): «فيه علماؤنا».
(7) في (أ) و(ح) و(ك) و(ق): «تقتل» وفي (ن): «تقبل».
(8) في (ن): «الغريزة».
(9) في (ح): «يدقع».
(10) قوله: «هو» سقط من (ن).
(11) في (ق): «فالذي».
(12) في (ن): «و» بدل «أو».
(13) في (ح): «أنه».
(14) في (ق) و(ن): «علمنا أنه مخصوص».
(15) في (ق): يشبه «دون الفوت».
(16) في (ن): «فخاصة».(5/322)
مواطن (1) كثيرة؛ منها: قوله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه: «صبوا (2) عليَّ من سبع قرب» (3) ، ومنها: غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعًا (4) . ومنه: قوله للرَّجل المريض الذي وجهه للحارث بن كلدة وقال: «ليأخذ سبع تمرات، ويلدده (5) بهن» (6) .، ومنه رقاه (7) ، وتعويذه سبع مرات (8) . ومثله كثير. وقد جاء هذا العدد في غير الطب؛ كقوله تعالى: {سبع بقرات سمان}، {وسبعٌ عِجاف} (9) ، وسبع كسبع يوسف (10) ، و {سبع سنبلات}(2)، وكذلك السبعون، والسبعمائة قد (11) جاء في مواضع كثيرة. فما (12) جاء من هذا العدد مجيء (13) التداوي فذلك بخاصَّية (14) لا يعلمها إلا الله، ورسوله، ومن أطلعه الله تعالى عليها. وأما ما جاء لا في معرض التداوي. فقال بعض اللغويين: العرب تضع هذا العدد موضع الكثرة وإن لم تُرد عددًا بعينه، ولا حصرًا (15) . والله أعلم (16) .
و «الترياق (17) »: دواء مركب معلوم، ينفع من السُّموم، ويقال عليه: درياق، وطرياق، وترياق.
وقوله: «الكمأة من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل»؛ الكمء للمفرد، =(5/323)=@
__________
(1) في (ق): «من موطن».
(2) في (ح): «ومنها قوله تعالى الله عليه وسلم صبوا».
(3) هذا جزء من حديث عائشة رضي الله عنه ا في مرض النبي ( ، وهو مخرّج ف يالصحيحين، لكن هذه اللفظة جاءت عند الإمام أحمد (6/151)، وعند البخاري (1/302 رقم198) كتاب الوضوء باب الغسل والوضوء في المخضب والقدح والخشب والحجارة /فتح الباري.
(4) تقدم في باب إذا ولغ الكلب في الإناء...، من كتاب الطهارة.
(5) في (ح) و(ك) و(ن) و(ق): «وليلده» وفي (أ): «وليلدده» وكتب فوقها «معًا وصح».
(6) رواه أبو داود (4/207 رقم3875) كتاب الطب، باب في تمرة العجوة. قال: حدثنا إسحاق بن إسماعيل، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن سعد قال: مرضت مرضًا فأتاني رسول الله ( يعودني، فوضع يده بين ثديي حتى وجدت بردها على فؤادي، فقال: إنك رجل مفؤود، ائت الحارث بن كلدة أخا ثقيف، فإنه رجل يتطبب، فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة، فليجأهن بنواهن ثم لِيَلُدَّكَ بهن.
وهذا مرسل ورجاله ثقات.
إسحاق بن إسماعيل هو الطالقاني وهو ثقة لكنه اضطرب في روايته عن جرير فقط، وبقية رجال الإسناد رجال الصحيح، لكن قال أبو حاتم: مجاهد عن سعد مرسل، كما في "المراسيل" (204-206)، لكن قال يحيى القطان: مرسلات مجاهد أحب الى من مرسلات عطاء بكثير. انظر "التاريخ الكبير" (7/411 رقم1805)، و"الجرح والتعديل" (8/319 رقم1469)، وعن أبي داود مثله.
(7) قوله: «ومنه رقاه» سقط من (ح) و(ك) و(ق) و(ن).
(8) سيأتي في كتاب الرقي والطب، باب الرقية بأسماء الله والتعويذ.
(9) الآية (46) من سورة يوسف.
(10) سيأتي في كتاب التفسير، باب ومن سورة الدخان.
(11) في (ق) و(ن): «وقد».
(12) في (ق): «كما».
(13) في (ك): «يجيء» وفي (ح): لم تتضح.
(14) في (ن): «لخاصية».
(15) في (أ): «ولا حصر».
(16) قوله: «والله أعلم» ليس في (ق) و(ن).
(17) في (ك): «الترياق» بلا واو.(5/323)
والكمأة للجمع، على عكس شجرة وشجر. هكذا حكى أهل اللغة، وظاهر هذا اللفظ: أنها مما أنزل الله على بني إسرائيل (1) ؛ مما (2) خلقه الله تعالى لهم (3) في التيه، وذلك أنهم ** كذا في أ ** كانوا (4) ينزل (5) عليهم في أشجارهم مثل السكر. ويقال: هو الطرنجبين (6) ، وهو المنُّ في قول أكثر (7) المفسرين. وعلى ظاهر هذا الحديث تكون الكمأة أيضًا مما خلق (8) لهم في مواضع نزولهم. وقيل: الكمء من المن، بمعنى: يشبهه (9) من حيث: أن الكمأة تطلع من عند الله تعالى من غير كلفة منا (10) ببذر، ولا حرث، ولا سقي، كما كان (11) المنِّ (12) ينزل عليهم عفوًا من غير سبب منهم.
وقوله: «وماؤها شفاء للعين»؛ قال القاضي: قال بعض أهل العلم بالطب في معنى هذا الحديث: إما لتبريد (13) العين من بعض (14) ما يكون فيها من الحرارة فتستعمل بنفسها مفردة (15) ، وإما لغير ذلك فمركبة مع غيرها.
و « الكباث»: هو النضيج (16) من ثمر الأراك (17) . قاله الأصمعي. وقال غيره: الصواب: إن الكباث هو الذي لم ينضج، و «المرْد»: هو الذي نضج، واسود. وأنشد (18) :
وغيَّر ماء المرْد فاها (19) فلونه كلون النؤور (20) وهي أدماءُ سارها =(5/324)=@
__________
(1) من قوله: «الكمء للمفرد....» إلى هنا سقط من (ح).
(2) في (ق) و(ن): «أي مما».
(3) قوله: «الله تعالى» ليس في (أ).
(4) في (ن): «أنه كان».
(5) في (ح): «يتنزل».
(6) في (أ): «الطرجبين».
(7) في (أ): «أكثر قول».
(8) في (ق): «خلق الله لهم».
(9) في (ق): «تشبهه».
(10) في (ن): «سببا» بدل «منا».
(11) في (ك): «أن».
(12) من قوله: «بمعنى يشبهه....» إلى هنا سقط من (ح).
(13) في (ك): «لتبريد» وكتب فوقها «من تبريد» ووضع بجانبها (خ).
(14) في (ك): «لبعض».
(15) في (ق): «منفردة».
(16) في (ن): «النضج».
(17) في (ق): «الأدراك» كذا رسمت.
(18) أبي ذؤيب الهذلي، وفي جميع مصادر التخريج: وسوَّ ماء الورد. "العين" (2/210)، "لسان العرب" (2/244)، "معجم البلدان" (4/145).
(19) في (أ): «ماها».
(20) في (ح): «النؤو» وفي (ق) و(ن): «النور».(5/324)
أي: سائرها. وقد حكي هذا (1) أيضًا عن الأصمعي. وحكي عن ابن الأعرابي: أن الذي لم يسود هو الكباث، والأسود: هو البرير، وجماعه «المرد». وعن مصعب: أن المرد هو إذا ورَّد؛ فاذا اخضر فهو الكباث، فإذا اسود فهو البرير.
وقوله: «كأنك رعيت الغنم؟ قال: نعم. وهل من نبي إلا رعاها؟» (2) قد (3) تقدَّم الكلام على هذا، وحاصله راجع: إلى أن الله تعالى درَّب (4) الأنبياء على رعاية الغنم، وسياستها؛ ليكون ذلك تدريجًا إلى سياسة الأمم؛ إذ الراعي يقصد مصلحة الغنم، ويحملها على مراشدها، ويقوم بكلفها وسياستها. ومن تدرَّب على هذا وأحكمه؛ كان متمكنًا (5) من سياسة الخلق ورحمتهم، والرفق بهم. وكانت الغنم بهذا أولى لما خص به أهلها من السكينة، وطلب العافية، والتواضع. وهي صفات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : «السكينة في أهل الغنم، والفخر والخيلاء في أهل الإبل» (6) . =(5/325)=@
__________
(1) قوله: «هذا» سقط من (ق) و(ن).
(2) في (ن): «وقد».
(3) في (ح) و(ق): «وقد».
(4) في (ح): «قد درب».
(5) في (ك): «متمكبًا».
(6) سبق هذا الحديث في كتاب افيمان، باب الإيمان يمان والحكمة يمانية، لكنه لم يذكر فيه الرواية التي فيها ذكر الإبل. وهي في "صحيح مسلم" (1/72-73).(5/325)
وقوله: «نعم الإدام (1) الخل»؛ الإدام: كل ما يؤتدم به؛ أي: يؤكل به الخبز مما يطيبه، سواء كان مما يصطبغ به كالأمراق (2) ، والمائعات، أو مما لا يصطبغ به، كا لجا مدات: كاللحم، والبيض، والجبن (3) ، والزيتون، وغير ذلك. هذا معنى الإدام عند الجمهور من الفقهاء والعلماء سلفًا وخلفًا. وشذَّ أبوحنيفة وصاحبه أبو يوسف، فقالا في (4) البيض، واللحم المشوي، وشبه ذلك مما لا يصطبغ به: ليس شيء من ذلك بإدام. وينبني على هذا الخلاف الخلاف (5) فيمن حلف ألا (6) يأكل إدامًا (7) فأكل شيئًا من هذه الجامدات. فحنَّثه الجمهور، ولم يحنِّثه أبو حنيفة ولا صاحبه. والصحيح: ما صار إليه الجمهور، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - وقد وضع تمرة على كسرة وقال (8) : «هذه إدام هذا (9) » (10) ، وبدليل قوله أيضًا - وقد سُئل عن إدام أهل الجنة أول ما يدخلونها - فقال: «زيادة كبد النون (11) » (12) .
وقول جابر: «فدخلت الحجاب عليها»؛ ظاهره: أن هذا كان بعد نزول الحجاب، غير أنه ليس فيه: أنه رآها، فقد تستتر (13) بثوب آخر، أو بحجاب (14) آخر. =(5/326)=@
__________
(1) في (ح): «الأدم».
(2) في (ن): «الأمراق».
(3) في (أ) و(ق) و(ن): «الجبن والبيض».
(4) قوله: «في» سقط من (ن).
(5) في (ح) و(ق): «هذا الخلاف فيمن» وفي (ن): «وينبني على الخلاف فيمن».
(6) في (ن): «لا» بدل «ألا».
(7) في (ق): «ادمًا».
(8) قوله: «وقال» سقط من (ن).
(9) في (ك): «هذه إدام هذه».
(10) رواه أبو داود (3/575 رقم3260) كتاب الأيمان والنذور، باب الرجل يحلف أن لا يتأدم، و(4/173 رقم3830)، والترمذي في "الشمائل" (151 رقم184)، والطبراني في "الكبير" (22/286 رقم732)، والبيهقي (10/63). كلهم من طريق عمر بن حفص بن غياث، عن أبيه، عن محمد بن أبي يحيى الأسلمي، عن يزيد الأعور، عن يوسف بن عبدالله بن سلام بمثله.
وهذا إسناد ضعيف: يزيد بن أبي أمية الأعور لم يرو عنه إلا محمد بن أبي يحيى الأسلمي، ولذلك قال عنه الحافظ: مجهول. وباقي رجال الإسناد ثقات.
وقد توبع محمد بن أبي يحيى على هذا الحديث.
ورواه أبو داود (3/575 رقم3259)، قال: حدثنا محمد بن عيسى، ثنا يحيى بن العلاء، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن يوسف بن عبدالله بن سلام قال: رأيت النبي ( وضع تمرة على كسرة فقال: «هذه إدام هذه».
وهذا إسناد ضعيف جدًّا: يحيى بن العلاء البجلي قال عنه أحمد: كذاب يضع الحديث. وقال ابن معين: ليس بشيء، ليس بثقة. وقال النسائي والدارقطني: متروك. وقال البخاري: تكلم فيه وكيع وغيره. وقال عبدالرزاق عن وكيع قال: كان يكذب. فهذه متابعة لا يفرح بها فيظل الحديث ضعيفًا.
(11) في (ق): «كبد النون حوت».
(12) تقدم في الطهارة، باب الولد من ماء الرجل والمرأة، من حديث ثوبان رضي الله عنه :
(13) في (ح): «فقد تستر».
(14) في (ح): «والحجاب»، وفي (ك): «وبحجاب».(5/326)
ويحتمل أن يكون ذلك قبل نزول الحجاب.
وقوله: «فأتي بثلاثة أقرصة فوضعن (1) على بتي»؛ كذا ضبطه الصدفي، والأسدي بباء واحدة مفتوحة، وبعدها تاء باثنتين من فوقها مكسورة، مشدَّدة (2) ، وبعدها: ياء باثنتين من تحتها مشدَّدة (3) ، منوَّنة.
قال الشيخ: «والبت»: كساء من وبر أو صوف. قال الشاعر (4) :
من كان ذا بَتٍّ فهذا بَتِّي مُصَيِّفٌ مُقَيِّظٌ (5) مُشَتِّي
وكان الذي وضعت القرصة عليه منديل من صوف، وكذلك عند ابن ماهان، غير أنه فتح الثاء (6) ، وعند الطبري: «بُني» (7) بضم الباء، بعدها نون مكسورة مشددة، والياء المشدَّدة. قال الكناني: وهو الصواب، وهو: طبق من خوص. قال ابن وضاح: «بُني»: طبق، أو مائدة من خوص، أو حلفاء. ووقع في بعض النسخ: «على نبي (8) » بتقديم النون مفتوحة، وكسر الباء بواحدة بعدها. وقيل في تفسيره: أنَّه مائدة من خوص. قال ثعلب: النيئة (9) شيء مدوَّر يعمل من خوص وشريط.
وقسمة النبي - صلى الله عليه وسلم - الأقرصة الثلاثة نصفين يدلّ: على جواز فعل (10) مثل ذلك مع الضيف، بل يدلّ على كرم أخلاق فاعله، وإيثاره (11) الضيف عند قلَّة الطعام، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فإنَّ الذي قدم إليه كان غداؤه (12) ؛ فإنَّ أقرصتهم (13) صغار، لا سيما في مثل (14) ذلك الوقت، ومع ذلك فشرك فيه الغير وفاء بقوله - صلى الله عليه وسلم - : «طعام الواحد كافي لاثنين وطعام الاثنين كافي الثلاثة» (15) . =(5/327)=@
__________
(1) في (ق): «فوضعهن».
(2) في (ح): «مشدودة».
(3) قوله: «وبعدها ياء باثنتين وتحتها مشددة» مكرر في (أ).
(4) البيت لأعرابية، وكان الكسائي ينشده. "لسان العرب" (7/456).
(5) رسمت في (أ) و(ح): «مقيض».
(6) في (أ) و(ك) و(ق) و(ن): «التاء».
(7) قوله: «بني» لم يتضح في (ق).
(8) في (ق) و(ن): «نبتي».
(9) في (أ): تشبه أن تكون «التئية» وفي (ك): «النبيئة» وفي (ح): «البينة» وفي (ق) و(ن): «النبية».
(10) قوله: «فعل» سقط من (ق) و(ن).
(11) في (ق): «وإيثار».
(12) في (ق): «غداه» ولم يتضح في (ن).
(13) في (أ): «قرصتهم».
(14) قةلع: «مثل» سقط من (ق) و(ن).
(15) سيأتي في باب الحض على تشريك الفقير الجائع في طعام الواحد.(5/327)
- - - - -
باب كراهية النبي - صلى الله عليه وسلم - الثوم (1)
وقوله: «أحرام الثوم ؟»؛ هذا سؤال من يعتقد: - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ترك أكل شيء جرت العادة بأكله كان ذلك دليلاً على تحريمه ذلك (2) ، ولذلك أجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «لا»، وهو (3) رد **كذا في (أ) ** على من يقول من أهل الظاهر: إنه (4) حرام، يمنع (5) حضور الجماعات للصلاة. وقد تقدم الكلام على هذا في كتاب الصلاة.
وقوله: «ولكني أكرهه»؛ هذا يدل: على كراهة أكل الثوم وإن كان مطبوخًا. وقد تقدم قول عمر رضي الله عنه فمن (6) أكلهما فليمتهما طبخًا (7) . وإنما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكرههما (8) مطلقًا لخصوصيته (9) بمناجاة الملائكة، ولذلك قال في بعض الحديث: «فإني أناجي من لا تناجي» (10) .
وقول أبي أيوب: «فإني أكره ما تكره (11) »؛ فيه جواز الإمتناع من المباح، وإطلاق اسم الكراهة عليه، وإن لم يكن مطلوب الترك.
وإنما تحرج أبو أيوب من البقاء في العلو الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - تحته إعظامًا للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، واحتراما عن أن يعلوه، ولإمكان أن يسقط من العلو شيء عند حركتهم في العلو، فيؤذي النبي - صلى الله عليه وسلم - . =(5/328)=@
__________
(1) قوله: «باب كراهية النبي - صلى الله عليه وسلم - » ليس في (أ) و(ك) و(ح) و(ق) و(ن).
(2) قوله: «ذلك» سقط من (ح) و(ك) و(ق) و(ن).
(3) قوله: «مثل» سقط من (ق) و(ن).
(4) في (ق) و(ن): «من الظاهرية أنه».
(5) في (أ) و(ح) و(ن): «لِمَنْع» وضُبطت بكسر اللام وفتح الميم.
(6) في (ق): «فيمن».
(7) في كتاب الصلاة، باب النهي عن إتيان المسجد لمن أكل الثوم أو البصل.
(8) في (أ) و(ق): «يكرهُهَا».
(9) في (ح): «لخصوصية».
(10) سبق تخريجه في الباب السابق.
(11) في (ق): «ما يكره».(5/328)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «السُّفل أرفق بنا»؛ يعني بذلك (1) من جهة الصعود إلى العلو، وبما يلحق في تكرار ذلك من المشقة، ومع ذلك (2) فتجشمها (3) النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رأى صدق أبي أيوب في احترامه، وعزمه على أنه (4) لا يسكن العلو بوجه، فلو لم يجبه إلى ذلك لانتقل منه أبو أيوب إلى موضع آخر، وربما تكثر عليه المشقة، والحرج، فآثر موافقته على المشقة اللاحقة له في الصعود.
وقوله: «كان - صلى الله عليه وسلم - يؤتى»؛ قد فسَّره الراوي بقوله: يعني: يأتيه الوحي. ومعناه (5) : يؤتى بالوحي؛ أي: يجاء إليه به. والوحي: ما يبلّغه عن الله تعالى مما يبلغه جبريل عليه السلام. =(5/329)=@
__________
(1) قوله: «بذلك» سقط من (ق).
(2) قوله: «ومع ذلك» سقط من (ق).
(3) في (ق): «فتحسنها».
(4) في (ق) و(ن): «أن» بدل «أنه».
(5) في (ق) و(ن): «ومعنى».(5/329)
- - - - -
16 - ومن باب الأكل مع المحتاج بالإيثار
قول الرَّجل: «إني مجهودٌ»؛ أي: قد (1) أُصبنا بجهد. وهو هنا: المشفة، والجوع.
وقول أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - : «ليس عندنا إلا ماء»؛ يدلّ على شدة حالهم، وضيق عيشهم. وكان هذا - والله تعالى أعلم - في أول الأمر. وأما بعد ذلك لما فتحت خيبر، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحبس لأهله قوت سنتهم (2) . ويحتمل أن يكون بعد ذلك، وأن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كنَّ يتصدَّقن بما كان عندهن، ويؤثرن غيرهن بذلك ويبقين على ما يفتح =(5/330)=@
__________
(1) قوله: «قد» سقط من (ن).
(2) تقدم في كتاب الجهاد، باب ما يصرف فيه الفيء والخمس.(5/330)
الله تعالى، ولا يطلبن من النبي - صلى الله عليه وسلم - لسقوط (1) ذلك عنه بالذي دفع لهنَّ (2) .
وقوله: «عجب الله من صنيعكما بضيفكما (3) »؛ أي: رضي بذلك، وعظَّمه عند ملائكته، كما يباهي بأهل عرفة الملائكة. وهذا الحديث يدلّ: على فضل أبي طلحة، وأهل بيتهرضي الله عنهم، وأنَّهم المعنيون بقوله تعالى: {ويؤثروت على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} (4) . و « الخصاصة»: الجوع والفاقة.
وقول المقداد: «قد ذهبت (5) أسماعنا وأبصارنا»؛ أي: ضعفت حتى قاربت الذهاب.
وقوله: «فجعلنا نعرض أنفسنا»؛ أي: نتعرَّض (6) لهم ليطعمونا، وذلك لشدة ما كانوا عليه من الجوع، والضعف. =(5/331)=@
__________
(1) في (أ) و(ح) و(ك) و(ق) و(ن): «شيئا لسقوط».
(2) في (ق): «إليهن».
(3) قوله: «بضيفكما» سقط من (ن).
(4) الآية (9) من سورة الحشر.
(5) في (ن): «ذهب».
(6) في (ق): «فنعرض».(5/331)
وقوله: «فليس أحدٌ منهم يقبلنا»؛ أي: يطعمنا. وظاهر حالهم: أن ذلك الامتناع ممن تعرضوا (1) له إنَّما كان لأنهم ما وجدوا شيئًا يطعمونهم (2) إيَّاه، كما اتفق للنبي - صلى الله عليه وسلم - حيث طلب جميع بيوت نسائه، فلم يجد عندهم شيئًا؛ فإنَّ الوقت كان شديدًا عليهم.
وقوله: «فيسلِّم (3) تسليمًا لا يوقظ نائمًا، ويسمع اليقظان»؛ فيه دليل على مشروعية السَّلام عند دخول البيت. وقد استحبَّه مالك. وأن ذلك مما ينبغي أن يكون برفق، واعتدال.
و «الجرعة»: الشربة الواحدة - بضم الجيم - وبالفتح: المصدر المحدود.
وقوله: «وغلت في بطني»؛ أي: دخلت، فكل (4) من دخل في شيء فهو واغل فيه. ومنه قول الشاعر (5) :
فاليوم أشربُ (6) غير مُسْتَحْقب إثْمًا من الله ولا واغل
يقال (7) : وغَلْتُ، أُغِلَ، وغولا، ووغلاً. وهو ثلاثي. فأمَّا « أوغل»: رباعيًّا، فهو =(5/332)=@
__________
(1) في (ق): «يعرضوا».
(2) في (ن): «يطعموهم».
(3) في (ق) و(ن): «فسلم».
(4) في (ق) و(ن): «وكل».
(5) امرئ القيس. "لسان العرب" (10/426).
(6) في (ق) و(ن): «أسقي» وألحق في هامش (ق) «أشرب» ووضع فوقها (نخـ).
(7) في (ق): «قد يقال».(5/332)
بمعنى: السَّير الشديد، والإمعان فيه، قاله الأصمعي. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : «إن هذا (1) الدِّين متين، فأوغل فيه برفق» (2) ؛ أي: فسر فيه برفق.
و « الشَّملة»: كساء صغير يشتمل به؛ أي: يُلتحف به على كيفية (3) مخصوصة، قد (4) ذكرناها في الصلاة.
وقوله: «ثم أتى المسجد»؛ يعني به -والله أعلم -: مسجد بيته (5) ، أي: حيث كان (6) يصلِّي النوافل (7) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لما لم يجد شيئًا: «اللهم أطعم من أطعمني، وأسق من سقاني»؛ يدلّ على كرم أخلاقه، ونزاهة نفسه؛ إذ لم يسل عن نصيبه (8) ، ولم يُعرّج (9) على كل (10) ذلك، لكنَّه دعا الله تعالى.
و«سقاني» بمعنى يسقيني. و « من أطعمني» بمعنى: يطعمني. ولما فهم المقداد منه الدعاء، وطلب أن يفعل الله ذلك معه في الحال؛ عرف: أن الله تعالى يجيبه، ولا يرد دعوته، لا سيما عند شدَّة الحاجة، والفاقة. فقام لينظر له شيئًا تكون (11) به إجابة دعوته، فوجد الأعنز حفلاً؛ أي: ممتلئة (12) الضروع (13) باللبن. =(5/333)=@
__________
(1) قوله: «هذا» سقط من (ح).
(2) هذا الحديث جاء عن أربعة من الصحابة، وهم:
1 - أنس بن مالك رضي الله عنه . رواه أحمد(3/198-199): ثنا زيد بن الحباب، عن عمرو بن حمزة، عن خلف أبو، عن أنس به. وهذا إسناد ضعيف: عمرو بن جمزة القيسي قال عنه البخاري في "التاريخ" (6/325): لا يتابع في حديثه. وقال ابن خزيمة (3/189): لا أعرف عمرو بن حمزة بعدالة ولا جرح. وقا لابن عدي (5/143): مقدار ما يرويه غير محفوظ. وقال الدارقطني: ضعيف كذا في "الميزان" (3/255). وقال أبو زرعة العراقي: فيه نظر. وذكره ابن حبان في "الثقات". وخلف أبو الربيع فيه خلاف هل هما اثنان أم واحد، ورجح البخاري وأبو حاتم والمزي أنهما اثنان، والذي يروي عنه عمرو بن حمزة وثقه ابن حبان وابن شاهين. انظر "تهذيب الكمال: (8/296-298).
2 - جابر بن عبدالله رضي الله عنه ما. رواه البزار في "كشف الأستار" (1/57 رقم74)، ويحيى بن صاعد في "زوائده على زهد ابن المبارك" (ص416 رقم1179)، والحاكم في "علوم الحديث" (95-96)، والبيهقي في "السنن" (3/18)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (2/184 رقم1847 و1848)، وأبو الشيخ في "الأمثال" (42 رقم229)، والعسكري في "الأمثال" (1/545)، والخطابي في "العزله" (236) من طريق خلاد بن يحيى، عن أبي عقيل يحيى بن بن خالد بن المتوكل، عن محمد بن سوقة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر به.
وهذا إسناد ضعيف أيضًا.
أبو عقيل يحيى بن المتوكل ضعفه أحمد وابن معين وابن المديني والفلاس والجوزجاني وأبو حاتم والنسائي وابن حبان وغيرهم. وباقي رجال الإسناد ثقات، وذد اختلف على محمد بن سوقة في إسناده كما يلي:
3 - عائشة رضي الله عنه ا.
رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (3/401 رقم3885) من طريق علي بن معبد، عن عبيدالله بن عمرو، عن محمد بن سوقة، عن محمد بن المنكدر، عن عائشة به.
وهذا مرسل: ابن المنكدر لم يدرك عائشة كما سيأتي بعد قليل.
4 - مرسل محمد بن المنكدر: رواه ويحيى بن صاعد في "زوائده على زهد ابن المبارك" (ص415 رقم1178) عن الحسين بن الحسين المروزي، عن مروان بن معاوية، عن محمد بن سوقة، عن محمد بن المنكدر عن النبي ( مرسلاً. وهذا إسناد رجاله ثقات، فالراجح من هذه الروايات الثلاثة أنه مرسل.
قال البزار: «وهذا روي عن ابن المنكر مرسلاً، ورواه عبيدالله بن عمرو، عن محمد بن سوقة، عن محمد بن المنكدر، عن عائشة، وابن المنكدر لم يسمع من عائشة». وقال الحاكم في "علوم الحديث": «هذا حديث غريب الإسناد والمتن». وصصح البيهقي المرسل في "شعب الإيمان" (3/401).
5 - عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ما: رواه البيهقي في "الكبرى" (3/19)، وفي "شعب الإيمان" (3/402 رقم3886) من طريق عبدالله بن أبي صالح كتاب الليث، عن الليث، عن ابن عجلان، عن مولى لعمر بن عبدالعزيز، عن عبدالله بن عمرو به. وهذا إسناد ضعيف أيضًا لجهالة التابعي مولى عمر بن عبدالعزيز، وعبدالله بن صالح فيه كلام طويل في تعديله وتجريحه، وحاصله أنه صدوق كثير الغلط إذا حدَّث من حفظه، صحيح الكتاب إذا حدث منه.
(3) في (ن): «كتفيه».
(4) في (ق) و(ن): «وقد».
(5) في (ق): «نبيه».
(6) قوله: «كان» سقط من (ح).
(7) في (ق): «النافلة» وألحق في الهامش «النوافل» ووضع فوقها (نخـ).
(8) في (ح): «نصبه».
(9) في (ق) و(ن): «ولا عرج».
(10) قوله: «كل» سقط من (ك) و(ح) و(ق) و(ن).
(11) في (ق): «يكون».
(12) في (ق) و(ن): «مملية».
(13) في (ح): «الضرع».(5/333)
و «الرَّغوة» بضم الراء: ما يعلو اللبن عند الصب والحلب.
و «رَوِي» بكسر الواو، وتحريك الياء في الماضي، يروَي بفتح الواو وسكون الياء: في الشرب. فأما (1) « رَوَى» بفتح الواو في الماضي، وكسره (2) في المستقبل: فهو في رواية الأخبار. ويقال أيضًا بمعنى: الاستقاء (3) على الإبل. وهذا الحديث من دلائل نبوة (4) النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله: «فضحكت (5) حتى ألقيت إلى (6) الأرض»؛ كذا قيدناه مبنيًا لما لم يسم فاعله. وقد وجدناه في بعض النسخ: «ألقيت» مبنيا للفاعل؛ أي: ألقيت نفسي إلى الأرض من شدَّة الضحك. ولما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - منه ذلك كره ذلك، وقال له: «إحدى سوآتك يا مقداد»؛ أي: هذه الحالة حالة سيئة من جملة حالاتك التي =(5/334)=@
__________
(1) في (ق) «فأما ما».
(2) في (ح) و(ق) و(ن): «وكسرها».
(3) في (ن): «الاستسقاء».
(4) في (ح): «نبوته - صلى الله عليه وسلم - ».
(5) في (ق): يشبه «ضحكت».
(6) في (ن): «على» بدل «إلى».(5/334)
تسوء منكرًا لذلك؛ لأن كثرة الضحك يميت (1) القلب، كما قاله (2) - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر (3) . فلما أخبره المقداد بما جرى له، وبما أجاب الله من دعوته قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «ما هذه (4) إلا رحمة (5) من الله»؛ معترفًا بفضل الله تعالى، وشاكرًا لنعمته، ومقرًّا بمنته، فله (6) الحمد أولاً وآخرًا، وباطنًا (7) وظاهرًا.
- - - - -
وقوله: «مشعان طويل»؛ هو بضم الميم، وشين معجمة، وتشديد النون؛ أي: منتفش الشعر. يقال: اشعان الشعر، اشعينانا: إذا انتفش. و «سواد البطن» هو الكبد. وقيل: هو جميع الحشا. وفيه بُعد. « وايم (8) الله»: قسم بيمن الله، وبركته، وألفه ألف وصل، وفيه لغات (9) قد ذكرت، وهذا قول سيبويه. وقال الفراء: ألفه ألف قطع، وهي عنده: جمع (10) يمين. والذي قاله سيبويه أولى سماعًا، وقياسًا بدليل الحذف (11) الذي (12) دخل (13) الكلمة في اللغات التي رويت ** كذا في أ ** فيها.
و «حزَّ»: قطع. والحزة، بضم الحاء: القطعة. وفي هذا الحديث شاهدان بنبوة (14) النبي - صلى الله عليه وسلم - : أحدهما: في الكبد، والثاني: في الشاة. =(5/335)=@
__________
(1) في (ح) و(ق) و(ن): «تميت».
(2) في (ق): «قال».
(3) هذا الحديث جاء عن ثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم .
1- حديث أبي ذر الذي أشار إليه المصنِّف: رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (2/157 رقم1651)، وعنه أبو نعيم في "الحلية" (1/166)، وابن حبان في "صحيحه" (2/76 رقم361)، وفي "المجروحين" (3/130) من طريق إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني، عن أبيه، عن جده، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر رضي الله عنه في حديث طويل جدًّا. وهذا إسناد ضعيف جدًا.
إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني كذبه أبو حاتم وأبو زرعة، وضعفه أبو طاهر المديني. وقال الذهبي: متروك. وقال الطبراني: لم يرو هذا عن يحيى إلا ولده، وهم ثقات، وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن حجر في "اللسان "(7/325): «والصواب إبراهيم». انظر "لسان الميزان" (1/217)، و(7/325).
ورواه ابن عدي (7/244)، وابن حبان في "المجروحين" (3/129)، وأبو نعيم في "الحلية"(1/168)، والبيهقي (9/4) من طريق يحيى بن سعدي الشهيد، أو السعدي، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن أبي ذر.
وهذا إسناد ضعيف جدًّا أيضًا.
يحيى بن سعيد: قال ابن حبان في "المجروحين": «يروي عن ابن جريج المقلوبات، وعن غيره من الثقات الملزقات، لا يحل الاحتجاج به إذا انفرد، وقال ابن عدي: «وهذا حديث منكر من هذا الطريق عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير». وقال البيهقي وأبو نعيم: «تفرد به يحيى بن سعيد». وقال العقيلي: «لا يتابع عليه».
2 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه . وله إليه ثلاث طرق:
أ - رواه البخاري في "الأدب المفرد" (253)، وابن ماجه (2/1403 رقم4193) كتاب الزهد، باب الحزن والبكاء من طريق أبي بكر الحنفي، عن عبدالحميد بن جعفر، عن إبراهيم بن عبدالله بن حنين، عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: لا تكثروا الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب. وهذا إسناد صحيح.
أبو بكر هو عبدالكبير بن عبدالمجيد الحنفي: وثقه أحمد وأبو زرعة وابن سعد والعجلي والعقيلي وابن حجر وقال ابن معين: لا بأس به وهو صدوق. وقال أبو حاتم: لا بأس به صالح الحديث.
وعبدالحميد بن جعفر بن عبدالله بن الحكم الأنصاري وثقه ابن معين وأحمد ويعقوب بن سفيان وابن شاهين. وقال أبو حاتم: محله الصدق. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وهو ممن يكتب حديث. وقال الذهبي: صدوق. وقال ابن حجر: صدوق رمي بالقدر ربما وهم. وكان سفيان الثوري يضعفه من أجل القدر، وكذا يحيى بن سعيد القطان. وإبراهيم بن عبدالله بن حنين ثقة. والله أعلم.
ب - رواه أحمد (2/310)، والترمذي (4/478 رقم2305) كتاب الزهد، باب من اتقى المحارم فهو أعبد الناس، والطبراني في "الأوسط" (7/125 رقم7054) من طريق جعفر بن سليمان، عن أبي طارق، عن الحسن، عن أبي هريرة به مرفوعًا.
قال الترمذي: «هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث جعفر بن سليمان، والحسن لم يسمع عن أبي هريرة شيئًا، هكذا روي عن أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد، قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة، وروى أبو عبيدة الناجي عن الحسن هذا الحديث قوله، ولم يذكر فيه عن أبي هريرة عن النبي ( ».
قلت: وأبو طارق هذا مجهول كذا قال الذهبي وابن حجر، فإنه لم يرو عنه غير جعفر بن سليمان ولم يرو هو غير الحسن.
جـ - رواه البخاري في "الأدب المفرد" (252)، وابن ماجه (2/1410 رقم4217) كتاب الزهد، باب الورع والتقوى، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1/371 رقم639 و640)، و(1/98 رقم111)، وأبو نعيم في "الحلية" (10/365)، وفي "تاريخ أصبهان" (2/302) والبيهقي في الآداب ص 254. ص509 وفي الزهد ص (309 رقم 822) وفي الشعب (رقم11128)، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" (39 و40)، وأبو عبدالرحمن السلمي في "الأربعين" رقم (10)، والطبراني في "مسند الشاميين" رقم (385 و3403)، والمزي في "تهذيب الكمال" (27/278) من طريق أبي رجاء محرز بن عبدالله الجزري، عن برد بن سنان، عن مكحول، عن واثلة بن الأسقع، عن أبي هريرة رضي الله عنه ما.
محرز بن عبد الله أبو رجاء الجزري وثقه أبو حاتم. وقال أبو داود: ليس به بأس. وقال ابن حبان: كان يدلس عن مكحول، يعتبر بحديثه ما بين فيه السماع عن مكحول وغيره.
قلت: قد بيَّن الواسطة بينه وبين مكحول وإن لم يصرح بالسماع من برد بن سنان.
برد بن سنان الشامي وثقه ابن معين والنسائي وابن خراش ويزيد بن زريع. وقال ابن معين مرة أخرى: ليس به بأس. وقال أحمد: صالح الحديث. وقال النسائي مرة أخرى: ليس به بأس. وقال أبو زرعة وأبو حاتم: كان صدوقًا. زاد أبو حاتم: وكان قدريًّا. وقال علي بن المديني: ضعيف.
مكحول الشامي الفقيه ثقة إمام ثبت سماعه من أنس وأبي أمامة وواثلة بن الأسقع. قال ابن حبان: يروي عن أنس وابن عمر وواثلة وأبي أمامة، وكان من فقهاء الشام، وربما دلس. وقال الذهبي: هو صاحب تدليس. وقال ابن حجر: ثقة فقيه كثير الإرسال مشهور. وإنما نقلت كلام من رماه بالتدليس فقط وأما سماعه من واثلة فأثبته البخاري والترمذي وأبو مسهر.
وعلى كل حال فهذا الإسناد يقوى بالإسناد الأول عن أبي هرير، فيكون الحديث عن أبي هرير صحيحًا لغيره، والله أعلم.
3 - حديث انس بن مالك رضي الله عنه : رواه القضاعي في "مسند الشهاب" (1/372 رقم641) من طريق بقية، عن سعيد بن عمارة، عن الحارث، عن أنس، به.
وهذا إسناد ضعيف جدًّا. الحارث بن النعمان: ضعيف، وسعيد بن عمارة: ضعيف. وبقية: مدلس وقد عنعنه , وعمر بن حفص الوصالي: مقبول.
(4) في (ح): «هذا».
(5) في (ق) و(ن): «قال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه رحمة من الله».
(6) في (ق): «وله».
(7) قوله: «وباطنًا» سقط من (ق).
(8) في (ق): «ويم».
(9) في (ق): «لغتان».
(10) في (ن): «جميع».
(11) في (ح): «الحرف».
(12) في (أ): «التي».
(13) في (ق): «أدخل».
(14) في (ق): «بنوة».(5/335)
و « الصُّفة»: سقيفة المسجد، كانت منزلاً للغرباء المهاجرين، وكانوا ضيف الإسلام، وكانوا يحتطبون بالنهار، ويسوقون الماء لأبيات (1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويقرؤون القرآن بالليل، ويصلُّون. هكذا وصفهم البخاري وغيره.
وقوله: «من كان عنده (2) طعام اثنين فليذهب بثلاثة»؛ كذا (3) صحَّت الرواية فيه عن جميع رواة مسلم. والصواب: «بثالث»؛ لأن البخاري كذا (4) ذكره: بثالث (5) (6) ؛ ولأن بقية الحديث يدل (7) عليه؛ إذ (8) قال: «ومن كان عنده (9) طعام أربعة فليذهب بخامس، بسادس»؛ ولأنه إن حمل على ظاهره فسد المعنى، وذلك: أن الذي عنده طعام اثنين إذا أكله في خمسة لم يكف أحدًا منهم، فلا يرد جوعًا، ولا يمسك لأحدهم (10) رمقًا. فاقتصار الاثنين على طعامهما كان أصلح؛ لأنَّه (11) كان يرد جوعهما، ويمسك رمقهما، وذلك بخلاف الواحد فإنَّه يتحمل (12) الاثنان أكله (13) ، ولا يجحف بهما، ونحو (14) ذلك في تشريك الاثنين في طعام الأربعة لا (15) يجحف بهم، وكذلك الخامس بسادس =(5/336)=@
__________
(1) في (ق): «لبيت» وألحق في الهامش «لأبيات» ووضع فوقها (نسخه).
(2) في (ن): «عند» بدل «عنده».
(3) في (ك) و(ن) و(ق): «هكذا».
(4) قوله: «كذا» سقط من (ح) و(ك) و(ق) و(ن).
(5) في (ح): «ثالث».
(6) في "صحيحه" (3581). قال النووي (14/17): وللذي في مسلم أيضًا وجه، وهو محمول على موافقة البخاري وتقديره، فليذهب بمن يتم بثلاثة، أو بتمام ثلاثة.
(7) في (ك) و(ق) و(ن): «تدل».
(8) قوله: «إذ» سقط من (ق) و(ن).
(9) في (ح) و(ك) و(ق) و(ن): «معه».
(10) في (ق) و(ن): «لأحد منهم رمقا».
(11) في (ح): «لا» وتراجع.
(12) في (ق) و(ن): «يحتمل».
(13) قوله: «أكله» سقط من (ق).
(14) في (ن): «ويجوز».
(15) في (ن): «ولا».(5/336)
لمن كان عنده طعام أربعة. وفي (1) ذلك الوقت كانت المواساة واجبة لشدَّة الحال. والحكم كذلك مهما وقعت شدَّة بالمسلمين، والله تعالى الكافي والواقي (2) .
وقوله: «يا غنثر (3) ! فجدَّع (4) ، وسبَّ»؛ هو بضم الغين المعجمة (5) ، وفتح الثاء المثلثة وضمها. وهو: الجاهل. مأخوذ من الغثارة (6) ، وهي (7) : الجهل. وقيل: من الغثر (8) ، وهو: اللوم. وعلى هذين: فالنون فيه زائدة. قال: كراع الغنثر: ذباب (9) أزرق.
قال الشيخ: والحاصل: أنها كلمة ذمّ وتنقيص. وقد روى الخطابي هذا الحرف بالعين المهملة، والتاء (10) باثنتين (11) من فوقها، وقال (12) : هو (13) الذباب؛ تحقيرًا له. وقيل: هو الأزرق منه.
وقوله: «جدَّع (14) »؛ أي: دعا عليه بالجدع (15) ، وهو قطع الأنف. وقال (16) أبو عمرو (17) الشيباني: معناه: سبَّ. يقال: جادعته مجادعة (18) : ساببته.
قال الشيخ: وهذا (19) فيه بُعدٌ؛ لقوله: «جدَّع (20) وسبَّ»، فلو كان كما قال لكان تكرارًا لا فائدة له (21) . والأول أصوب.
وكل ذلك أبرزه من أبي بكر الصديق رضي الله عنه على عبدالرحمن ظن: أنه فرط في الأضياف، فلما تبين له: أنه لم يكن منه =(5/337)=@
__________
(1) في (ن): «في» بلا واو.
(2) في (ح) و(ك): «الواقي» بلا واو. وفي (ق): «الكافي الباقي وهو اعلم» وفي (ن): «الكافي الواقي وهو اعلم».
(3) في (ق): «يا غثر».
(4) في (ح): «فجذع» وفي (ن): «فجزع».
(5) في (أ) و(ق) و(ن): «معجمة».
(6) في (ن): «الغنثارة».
(7) في (ق) و(ن): «وهو».
(8) في (ق): «الغثرة».
(9) في (ك): «ذبان».
(10) في (ق): «وبالتاد».
(11) في (أ): «باثنين».
(12) في (ك): «وقيل».
(13) في (ح): «وهو».
(14) في (ح) و(ك) و(ق) و(ن): «جدع وسب».
(15) في (ح) و(ن): «بالجذع».
(16) في (ق) و(ن): «قال» بلا واو.
(17) في (ق) و(ن): «عمر» بدل «عمرو».
(18) في (ن): «مجاذعة».
(19) قوله: «ساببته قلت وهذا» مطموس في (ق).
(20) في (ن): «جذع».
(21) في (ق): «فيه» وكتب في الهامش «له» ووضع فوقها (نخـ).(5/337)
تفريط، وأنَّه إنما كان ذلك (1) امتناعًا من الأضياف: أدَّبهم بقوله لهم: «لا هنيئًا». وحلف لا يطعمه. وذلك: أن هؤلاء الأضياف تحكموا على ربِّ المنزل بالحضور معهم، وقالوا: لا نأكل حتى يحضر (2) أبو منزلنا، فنكدوا على أهل المنزل. ولا يلزم حضور ربِّ المنزل مع الضيف إذا أحضر ما يحتاجون إليه، فقد يكون في مهم من أشغاله لا يمكنه تركه، فهذا منهم جفاء. لكن (3) حملهم على ذلك: صدق رغبتهم في التبرُّك بمؤاكلته، وحضوره معهم. فأبوا (4) حتى يجيء، وانتظروه (5) ، فجاء فصدر منه ذلك، فتكدَّر الوقت، وتشوش الحال عليهم أجمعين. وكانت نزغة شيطان (6) ، فأزال الله تعالى ذلك النكد بما أبداه من الكرامة، والبركة في ذلك الطعام، فعاد ذلك النكد سرورًا، وانقلب الشيطان مدحورًا، وعند ذلك عاد أبو بكر رضي الله عنه إلى مكارم الأخلاق، فأحنث نفسه، وأكل مع أضيافه، وطيَّب قلوبهم، وحصل مقصودهم وفعل ذلك (7) لقوله ( : «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير» (8) كما تقدم (9) .
وقول أبي بكر لامرأته - وهي: أم رومان -: «يا أخت بني فراس (10) !» هو ابن غنم بن مالك بن كنانة، وهي من ولده.
وقولها في جواب أبي بكر: «لا، وقرَّة عيني (11) لهي الآن أكثر»؛ أي: ما نقصت شيئًا، بل زادت. فحذفت اختصارًا؛ قاله عياض.
قال الشيخ: والأولى أن يقول (12) : إنها أقسمت بما رأت من قرة عينها بكرامة الله =(5/338)=@
__________
(1) قوله: «ذلك» سقط من (ق) و(ن).
(2) في (ن): «تحضر».
(3) في (ح): «لكنهم».
(4) في (ك): «وأبوا» وفي (ن): «فأبوه».
(5) في (ق) و(ن): «فانتظروه».
(6) في (ق) و(ن): «من الشيطان».
(7) قوله: «وفعل ذلك» ليس في (ك).
(8) تقدم في باب من حلف على يمين فرأى خيرًا منها فليكفر.
(9) قوله: «كما تقدم» ليس في (أ).
(10) في (ق) و(ن): «فارس».
(11) تعليق على هذا الموضع... الحلف.
(12) في (ح) و(ك) و(ق) و(ن): «يقال».(5/338)
تعالى لزوجها، وافتتحت الكلام بـ «لا» الزائدة (1) . كقوله تعالى: {لا أقسم بيوم القيامة} (2) ، وما في معناه (3) ، وكقول الشاعر (4) :
فلا وأبيك ابنةَ (5) العامري لا يدَّعي (6) القومُ أني أَفِرّ (7)
و «قرَّة العين»: ما سر (8) به الإنسان، مأخوذ من القرّ، وهو: البرد، وقد تقدَّم ذلك.
وقوله (9) : «فعرَّفنا اثني (10) عشر رجلاً»؛ مشدَّد الراء من عرفنا؛ أي: جعلنا هم (11) عرفاء؛ أى: نقباء على قومهم، وسُمُّوا بالعرفاء: لأنَّهم: يعرفون الإمام بأحوال جماعاتهم. وسُمُّوا بالنقباء: لأنهم ينقبون عن أخبار أصحابهم. والله تعالى أعلم. =(5/339)=@
__________
(1) في (ك): «النافية» وكتب فوقها «الزائدة» ووضع (صح).
(2) الآية (1) من سورة القيامة.
(3) في (ق): «معناها».
(4) امرئ القيس. وقال الأصمعي: هو لربيعة بن جشم النمري. "فصل المقال" (1/383).
(5) في (أ): «يا أبنة» وسقط من (ن).
(6) في (ح): «لا يدعني».
(7) في (ق) و(ن): «أقر».
(8) في (ح) و(ك) و(ق) و(ن): «ما يسر».
(9) في (ق): «قوله» بلا واو.
(10) في (ق) و(ن): يشبه «اثنتي».
(11) قوله: «هم» سقط من (ق) و(ن).(5/339)
وقول أبي بكر: «ما لكم ألا (1) تقبلوا عنا قراكم»؛ قال عياض: بتخفيف اللام على التحضيض (2) واستفتاح الكلام عند الجمهور.
قال الشيخ رضي الله عنه: ويلزم على هذا ثبوت النون من «تقبلون (3) »؛ إذ لا موجب لحذفها مع الاستفتاح. و « ما لكم ؟»: استفهام إنكار. وعند ابن أبي جعفر بتشديدها على زيادة «لا»، كما (4) قال تعالى: {ما منعك (5) ألا تسجد إذ أمرتك} (6) ، و {مالك ألا تكون مع الساجدين} (7) .
وقول أبي بكر: «بَرُّوا وحنثت»؛ يعني بذلك: أضيافه؛ لأنَّهم (8) لم يأكلوا حتى أكل معهم، فبرُّوا في يمينهم (9) ، وحنث هو في يمينه، حيث أكل معهم.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «أنت أبَرُّهم، وأخيرهم»؛ أى: أحقهم بذلك في هذه القصة، =(5/340)=@
__________
(1) في (ق) و(ن): «لا تقبلو».
(2) في (أ): «التخصيص».
(3) في (ك): «يقبلون».
(4) قوله: «كما» سقط من (ن).
(5) قوله: «منعك» سقط من (ك).
(6) الآية (12) من سورة الأعراف.
(7) الآية (32) من سورة الحجر.
(8) في (ق): «لأنه».
(9) في (ح): «يمينه».(5/340)
ومطلقًا. وقد أتى بأخيرهم على الأصل المطرح (1) . وتأمل ما فيه من أبواب الفقه. =(5/341)=@
__________
(1) في (ح): «المطروح».(5/341)
20 - ومن باب المؤمن يأكل في معي (1) واحد
إنما قال ابن عمر للمسكين الذي أكل كثيرًا: «لا يدخلن عليكم هذا؛ لأنَّه شبهه بالكافر من حيث إنه كان (2) يأكل بالشره، والحرص، وإفراط الشهوة. وهكذا أكل الكافر. وأما المؤمن الذي يعلم أن مقصود الشرع من الأكل ما يسد الجوع، ويمسك الرَّمق، ويقوى به على عبادة الله تعالي، ويخاف من الحساب على الزائد على ذلك، فيقل أكله ضرورة. ولذلك (3) قال - صلى الله عليه وسلم - : «ما ملأ آدمي (4) وعاءً شرًّا من بطن، حسب ابن ادم أكلات يقمن صلبه، فإنَّ كان ولا بدَّ: فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه (5) » (6) . وعلى هذا فقد يكون (7) أكل المؤمن المذكور إذا نسب إلى =(5/342)=@
__________
(1) في (ح) و(ق) و(ن): «معا».
(2) قوله: «كان» سقط من (ح).
(3) في (ق): «وكذلك».
(4) في (ك): «ابن آدم».
(5) قوله: «وثلث لشرابه وثلث لنفسه» سقط من (ن).
(6) تقدم تخريجه في باب من اشتد جوعه.
(7) في (ن): «فقد فيكون».(5/342)
أكل الكافر المذكور سبعًا، فيصير الكافر كأنه (1) له سبعة أمعاء يأكل فيها، والمؤمن له معي (2) واحد. وهذا أحد تأويلات الحديث، وهو أحسنها عندي. وقيل: المراد بالسبعة أمعاء (3) : صفات سبع: الحرص، والشره، وبعد الأمل، والطَّمع، وسوء الطبع، والحسد، وحب السمن. وقيل: شهوات الطعام سبع: شهوة الطبع (4) ، وشهوة النفس، وشهوة العين، وشهوة الفم، وشهوة الأذن، وشهوة الأنف، وشهوة الجوع، وهي الضرورية التي بها (5) يأكل المؤمن. وقيل: إن ذلك في واحد مخصوص، وهو الذي ذكره في حديث أبي هريرة. واختلف في اسمه؛ فقيل: نضلة بن عمرو (6) الغفاري. وقيل: بصرة (7) بن أبي بصرة الغفاري. وقيل: ثمامة بن آثال. وقيل: جهجاه الغفاري.
وقوله: «ضافه ضيف»؛ أي: نزل وصار ضيفه. و «أضفته»: أنزلته. وضفت (8) الرجل: نزلت به. والضيف: اسم للواحد، والجميع (9) ، والمذكر، والمؤنث، يذهب به مذهب المصدر، كما يقال: زور، وعدل، ورضا. وقد جمع: أضيافًا، =(5/343)=@
__________
(1) في (ح) و(ك): «كأن» و(ق) و(ن).
(2) في (ك) و(ح): «معاء» وفي (ق): «معًا». وفي (ن): «وعاء واحدا».
(3) في (ق): «الأمعاء».
(4) قوله: «شهوة الطبع و» سقط من (ق) و(ن).
(5) قوله: «بها» سقط من (ح).
(6) في (ق) و(ن): «عمر».
(7) في (ن): «نصرة بن أبي نصرة».
(8) في (ك): «وضيفت».
(9) في (ق): «والجمع».(5/343)
وضيوفًا (1) ، وضيفانًا (2) .
و « الحلاب» هنا هو (3) : المحلوب، وهو اللبن. وقد يقال على المحلب: حلاب. وهو: الإناء الذي يحلب فيه، وقد تقدَّم في الطهارة.
قال الشيخ رضي الله عنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - : «المؤمن (4) يأكل في معى (5) واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء»؛ المقصود به: التمثيل، وذم كثرة الأكل، ومدح التقليل (6) منه.
وقوله: «ما عاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعامًا قط»؛ هذا من أحسن آداب الطعام، وأهمها، وذلك: أن الأطعمة كلها نعم الله تعالى، وعيب شيء من نعم الله تعالى مخالف للشكر (7) الذي أمر الله تعالى به عليها، وعلى هذا: فمن استطاب طعامًا فليأكل، ويشكر الله تعالى؛ إذ مكنه منه، وأوصل منفعته إليه. وإن كرهه؛ فليتركه (8) ، ويشكر الله تعالى؛ إذ مكنه منه، وأعفاه عنه، ثم قد يستطيبه، أو يحتاج إليه في وقت آخر فيأكله، فتتم عليه النعمة، ويَسْلَم مما يناقض الشكر. =(5/344)=@
__________
(1) من قوله: «يذهب به مذهب...» إلى هنا سقط من (ن).
(2) في (أ): «أضياف وضيوف وضيفان». وقوله: «وضيفانًا» سقط من (ح).
(3) قوله: «وهو» سقط من (أ).
(4) قوله: «المؤمن» ليس في (ق) و(ن).
(5) في (ح) و(ق) و(ن): «معا».
(6) في (ن): «ومع القليل منه».
(7) في (ق): «يخاف الشكر» وفي (ن): «مخالف الشكر».
(8) في (ق) و(ن): «فليترك».(5/344)
- - - - -
21 - ومن باب النَّهي عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة
قوله - صلى الله عليه وسلم - : «الذي (1) يأكل أو (2) يشرب في آنية الفضة (3) والذهب إنما (4) يجرجر في بطنه نار جهنم»؛ يروى برفع: نار، ونصبه. فمن رفع حمل « يجرجر)) على (5) : يصوِّت. والجرجرة (6) : الصوت الضعيف المتراجع، كصوت حركة اللِّجام في فم الفرس. يقال: جرجر (7) الفرس: إذا حرَّك فمه باللجام (8) . ومن نصبه حمله على معنى: يتجرع.
وهذا الحديث دليلٌ على تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب، ويلحق بهما ما في معناهما (9) مثل: التطيب، والتكحل، وما شابه ذلك. وبتحريم ذلك قال جمهور العلماء سلفًا وخلفًا. وروي عن بعض السلف إباحة ذلك. وهو خلاف شاذٌّ مطرح للأحاديث الصحيحة الكثيرة (10) في هذا (11) الباب.
ثم اختلف العلماء في تعليل المنع. فقيل: إن التحريم راجع إلى عينهما (12) . وهذا يشهد له قوله (13) - صلى الله عليه وسلم - : «هي لهم في الدنيا، ولنا في الآخرة». وقيل: ذلك معلل بكونهما رؤوس الأثمان (14) ، وقيم المتلفات؛ فاذا اتخذ منها (15) الأواني (16) قال الشيخ في أيدي الناس، فيجحف ذلك بهم. وهذا كما حُرّم فيها (17) ربا الفضل. وقد حسَّن الغزالي هذا المعنى، فقال: إنهما في الوجود (18) كالحكام الذين حقهم أن يتصرفوا في الأقطار ليظهروا (19) العدل، فلو منعوا من التصرُّف والخروج للناس (20) لأخل ذلك بهم، ولم يحصل عدل في الوجود (21) . وصياغة الأواني من الذهب والفضة حبس لهما عن =(5/345)=@
__________
(1) في (ق) و(ن): «للذي».
(2) في (ق) و(ن): «و» بدل «أو».
(3) في (ق) و(ن): «الذهب والفضة».
(4) في (ن): «كأنما».
(5) قوله: «على» سقط من (ن).
(6) في (ح): يشبه «فالحرجرة».
(7) في (ك): «خرجر».
(8) في (ح): «اللجام».
(9) في (ن): «بها ما في معناها».
(10) قوله: «للأحاديث الصحيحة الكثيرة» سقط من (ح).
(11) قوله: «هذا» سقط من (ق).
(12) في (ك) و(ن): «عينها».
(13) في (ك): «قوله تعالى» وألحق في الحاشية « ( » بخطٍ مغاير وكتب فوقها صوابه.
(14) في (ق): «الأيمان».
(15) في (ك): «منهما» و(ن).
(16) في (ق): «أواني».
(17) في (ك): «فيهما» و(ق) و(ن).
(18) في (ق): «الجود».
(19) في (ن): «ليطهروا».
(20) في (ح) و(ك): «إلى الناس».
(21) في (ق): «الجود».(5/345)
التصرُّف الذي ينتفع به الناس (1) . وقيل: إن ذلك معلل بالسَّرف، والتشبُّه بالأعاجم.
قال الشيخ رضي الله عنه: وهذا التعليل ليس بشيء؛ لأنَّه يلزم عليه أن يكون اتخاذ تلك الأواني، واستعمالها مكروهًا؛ لأنَّ غاية السَّرف والتشبه بالأعاجم أن يكون مكروها، والتهديد الذي اشتمل عليه الحديث المتقدِّم مفيدٌ (2) للتحريم لا للكراهة. وكل ما ذكرناه من التحريم إنما هو في الاستعمال، وأما (3) اتخاذ الأواني من الذهب والفضة من غير استعمال: فمذهبنا، ومذهب جمهور العلماء: أن ذلك لا يجوز. وذهبت طائفة من العلماء: إلى جواز اتخاذها دون استعمالها.
وفائدة هذا الخلاف بناء الخلاف عليه في قيمة ما أفسد منها، وجواز الإستئجار (4) على عملها (5) ، فمن جوَّز الإتخاذ، قوَّم الصياغة على مفسدها، وجوَّز أخذ (6) الأجرة عليها. ومن منع الإتخاذ (7) ؛ منع هذين الفرعين.
فأمَّا ما ضبب (8) من الأواني بذهب، أو فضة، أو كانت فيه (9) حلقة من ذهب أو فضة: فذهب الجمهور إلى كراهة استعمال ذلك، وأجازه أبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد، وإسحاق إذا لم يجعل فمه على التضبيب، أو الحلقة (10) . وروي أيضًا مثله عن بعض السلف. قالوا: وهو كالعلم في الثوب، والخاتم في اليد يشرب به. وقد استخف (11) بعض العلماء الحلقة دون التضبيب (12) . =(5/346)=@
__________
(1) في (ق): «الناس به».
(2) في (ق) و(ن): «مقيد».
(3) في (ق) و(ن): «وإنما».
(4) في (ق): «الاستعمال».
(5) في (ن): «حملها».
(6) قوله: «أخذ» ليس في (أ) و(ك) و(ح).
(7) في (أ) و(ك) و(ح): «اتخاذها».
(8) في (ك): «طبب».
(9) قوله: «فيه» سقط من (ن).
(10) في (ح): «والحلقة».
(11) في (ق) و(ن): «استحب».
(12) في (أ): «التضبب».(5/346)
بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد النبي وأزواجه وذريته وآله وسلم (1) .
كتاب الضحايا
1 - ومن باب التسمية على الأضحية، وفي وقتها، وأين (2) تذبح
قال الأصمعي: في الأضحية أربع لغات: أضحيَّةٌ، وإضحيَّة، والجمع: أضاحي (3) . وضحيَّة، على وزن فعيلة، والجمع ضحايا. وأضحاةٌ، والجمع أضحى، =(5/347)=@
__________
(1) من قوله: «بسم الله الرحمن الرحيم ... إلى هنا» سقط من (أ) وليس في (ك) و(ن) و(ق) و(ح) و(ف).
(2) في (ق): «وفي أين».
(3) في (ق): «الأضاحي».(5/347)
كما يقال: أرطاةٌ، وأرطى. وبها يُسَمَّي (1) يوم الأضحى، وفي (2) الصحاح: ضحوة النهار بعد طلوع الشمس، ثم بعده: الضحى، وهو (3) حين تشرق الشمس، مقصورة، مؤنثة، وتذكَّر. فمن أنَّث ذهب إلى أنها (4) جمع ضحوة، ومن ذَكَّر ذهب إلى أنه اسم على فعل، مثل: نُغَرٍ (5) ، وصُرَدٍ، قال: وهو ظرف غير متمكِّن، مثل: سحر. تقول: لقيته (6) ضحًى وضحى (7) ؛ إذا أردت به ضحى يومك لم تنوِّنه (8) .
قال الشيخ: قياسه: ضحى على سحر قد أخذ عليه فيه ابن بزِّي. وهي مؤاخذة صحيحة؛ لأنَّ الظروف التي لا تنصرف إذا عينت هي: سحر - كما ذكر - وغدوة، وبكرة لا غير، فسحر (9) : إذا أريد به يوم بعينه لم ينصرف (10) للتعريف، والعدل. وفي: غدوة وبكرة للتعريف والتأنيث. فأمَّا بكير، وعشاء، وعتمة، وضحوة، وعشية، وضحى ونحوها فإنها منصرفة على كل حال. فإنَّ أريد بها وقت بعينه كانت نكرات اللفظ معرَّفة (11) بالمعنى على غير وجه التعريف. هكذا ذكره أبو (12) الحسن بن خروف، وغيره.
وقوله ( : «من كان ذبح أضحيته (13) قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى»؛ هذا اللفظ بظاهره يفيد حكمين:
أحدهما: وجوب الأضحية من حيث إنه أمر بالإعادة.
وثانيهما: أن (14) وقت الذبح (15) : عند الفراغ من صلاة الإمام. وقد اختلف في الحكمين، فلنذكرهما (16) .
فأما الأول: فالجمهور من السلف والخلف على أنها سنة مؤكدة. وهو مشهور مذهب مالك؛ متمسِّكين في ذلك بمداومة (17) النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم على فعلها، وأنه لم يرد نصٌّ في وجوبها، بل ولا ظاهر صحيح، سليم عن =(5/348)=@
__________
(1) في (ح) و(ك) و(ق) و(ن): «سمي».
(2) في (أ) و(ف): «في» بلا واو.
(3) في (ك) و(ح): «وهي».
(4) في (ق): «أنه».
(5) في (ق) و(ن): «بعر».
(6) في (ف): «ألفيته».
(7) في (ق): «ضحًا».
(8) في (ك): «تؤنثه» وفي (ن): «تنوبه».
(9) في (ن): «فسحوا».
(10) في (ح): «يتصرف».
(11) في (ق): «معروفة».
(12) قوله: «أبو» سقط من (ق) و(ن).
(13) في (ق) و(ن): «ضحيته».
(14) قوله: «أن» سقط من (ك).
(15) في (ق): «للذبح».
(16) في (ق): «فنذكرهما».
(17) في (ق): «متمسكين في مداومة(5/348)
القوادح. وقد روى الترمذي عن ابن عمر (1) : أنه (2) قال: أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة عشر سنين يضحي. وسُئل ابن عمر عن الأضحية: أواجبة هي؟ فقال: ضحَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وضحى المسلمون (3) . قال الترمذي: إنهما حديثان حسنان. قال: والعمل على هذا عند أهل العلم: أن الأضحية ليست بواجبة، ولكنها سنة من سنن النبي ( ، وما روي عن بعض السلف مِنْ تركه (4) الأضحية مع تمكنه منها (5) ، فذلك محمول على أنهم إنما تركوها مخافة أن يعتقد: أنها واجبة (6) . وقال ابن عبدالحكم: سألت مالكًا عن الأضحية: أواجبة (7) هي؟ فقال: إنها سنة. ثم قال: قال رسول الله ( : «أمرت بالأضحى، وهو (8) لكم سنة» (9) .
قال الشيخ: فأفتى، واستدلَّ؛ وهذا يدلّ على صحة هذا الحديث عند مالك؛ إذ قد استدلَّ به، ولا يجوز الاستدلال بما لا يصح. وقد ذهب إلى وجوب الأضحية طائفة، منهم: الأوزاعي، والليث، وأبو حنيفة؛ غير أنه اشترط في الوجوب أن يملك المضحي نصابًا. وقد روي القول بالوجوب عن مالك، وبعض أصحابه. وقد تُمُسِّك للقائلون (10) بالوجوب بقول الله تعالى (11) : {فصل لربِّك وأنحر} (12) ، وبما رواه أبو داود (13) وغيره من حديث مخنف (14) بن سليم (15) ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا أيها الناس! إن (16) على كلِّ أهل (17) بيت في كلِّ (18) عام =(5/349)=@
__________
(1) رواه أحمد (2/38 رقم4955)، والترمذي (4/92/1507) كتاب الأضاحي، باب الدليل على الأضحية سنة. كلاهما من طريق يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن حجاج بن أرطاة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه ما.
قال الترمذي: هذا حديث حسن.
قلت: هذا إسناد ضعيف: حجاج بن أرطاة صدوق كثير الخطأ والتدليس، ولم يصرح بالسماع. وقد عاب الذهبي على الترمذي ترخصه في تحسين أو تصحيح حديث حجاج فقال: قد يترخص الترمذي ويصحح لابن أرطاة، وليس بجيد.
(2) قوله: «أنه» سقط من (ف).
(3) رواه ابن ماجه (2/1044 رقم3124) كتاب الأضاحي، باب الأضاحي واجبة هي أم لا؟ من طريق إسماعيل بن عياش. ورواه الترمذي (4/92 رقم1506) باب الدليل على أن الأضحية سنة، من طريق هشيم بن بشر.
كلاهما: إسماعيل بن عياش، وهشيم، عن حجاج بن أرطاة قال: حدثنا جبلة بن سحيم: أن رجلاً سأل ابن عمر، فذكره.
قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
قلت: هذا إسناد ضعيف.
حجاج بن أرطاة صدوق كثير الخطأ والتدليس فهو وإن كان صرّح بالتحديث لكنه يخطئ في حديثه.وهشيم أيضًا مدلس ولم يصرح بالسماع من حجاج، وإسماعيل بن عياش يخلط في الرواية عن غير أهل بلده، وحجاج ليس من أهل بلده، وقد اتضح تخليطه حيث رواه عن عبدالله بن عون، عن محمد بن سيرين قال: سألت ابن عمر رضي الله عنه ما، فذكر مثله. كذا رواه ابن ماجه في نفس الموضع السابق.
وقد جاء عن ابن عمر موقوفًا رواه عبدالرزاق (4/381 تابع رقم8137) عن الثوري، عن جابر وهو الجعفي، عن عبدالله بن يزيد، عن ابن عمر قال: ليس الأضاحي بشيء، أو قال: ليس بواجب من شاء ضحى ومن شاء لم يضح. وهذا إسناد ضعيف لضعف جابر الجعفي.
وروى البيهقي (9/265) من طريق شعبة، عن عقيل بن طلحة، عن أبي الخصيب رجل من بني قيس بن ثعلبة، قال: شهدت بن عمر رضي الله عنه ما وسأله رجل عن شيء من أمر الأضحى؟ فقال: أكره، أو اجتنب العوراء البين عورها، والعرجاء البين عرجها، والمريضة البين مرضها، والمهزولة البين هزالها. ثم قال له ابن عمر: لعلك تحسب حتمًا؟ قلت: لا، ولكنه أجر وخير وسنة. قال: نعم.
(4) في (ف): «السلف منها وتركه».
(5) قوله: «منها» سقط من (ف).
(6) العبارة في (أ): «وما روي عن بعض السلف أنهم إنهم تركوها مخافة أن يعتقد أنها واجبة، وترك الأضحية مع تمكينهم منها، فذلك محمول على أنها ليست بواجبة» والمثبت من (ح) و(ك).
(7) قوله: «هي» سقط من (ح).
(8) في (أ): «وهو» وفي (ك) و(ح): «وهي» وفي (ق): «وهو» وألحق في الهامش «وهي» وكتب فوقها (نخـ).
(9) تقدم تخريجه في كتاب الصلاة، باب...
(10) في (ك) و(ح) و(ف) و(ق) و(ن): «القائلون» وفي (أ): «للقائلين» .
(11) في (ق): «بقوله تعالى».
(12) الآية (2) من سورة الكوثر.
(13) هذا الحديث رواه ابن أبي شيبة (5/119 رقم24303)، وأحمد (4/215)، و(5/76)، وأبو داود (3/226 رقم2788) كتاب الضحايا، باب ما جاء في إيجاب الأضاحي، وابن ماجه (2/1045 رقم3125)، باب الأضاحي واجبة هي أم لا، والترمذي (4/99 رقم1518) كتاب الأضاحي، باب بدون ترجمة والنسائي (7/167) كتاب الفرع والعتيرة، باب 1، والطبراني في "الكبير" (20/310)، والبيهقي (9/312). كلهم من طريق عبدالله بن عون، عن أبي رملة قال: أخبرنا مخنف بن سليم قال: بينا نحن وقوف مع النبي ( بعرفة فقال: «يا أيها الناس..، الحديث. وهذا إسناد ضعيف: أبو رملة واسمه عامر، قال عنه الذهبي: فيه جهالة. وقال ابن حجر: لا يعرف. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ولا نعرف هذا الحديث إلا من هذا الوجه من حديث ابن عون.
قلت: جاء هذا الحديث من طريق آخر لكنه ضعيف أيضًا. رواه عبدالرزاق (4/386 رقم8159)، ومن طريقه الطبراني في "الكبير" (20/311) من طريق ابن جريج، عن عبدالكريم، وهو ابن أبي المخارق - كما نص عليه في ط"تعجيل المنفعة -، عن حبيب بن مخنف، عن أبيه فذكره ورواه عبد الرزاق أيضًا (4/342 رقم 8001) ومن طريقه أحمد (5/76) بنفس الإسناد لكن لم يذكر عن أبيه. وهذا إسناد ضعيف أيضًا. عبدالكريم بن المخارق مجمع على ضعفه. وحبيب بن مخنف ليس صحابيًّا، كما في الرواية الثانية فقد نقل الحافظ عن ابن منده وأبي نعيم أنهما قالا: هذا وهم، وإنما هو عن حبيب ابن مخنف، عن أبيه. وكان عبدالرزاق يرويه مرة مجردًا ومرة لا يقول: عن أبيه. ونقل ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (3/108)، وابن عبدالبر في "الاستيعاب" (1/324) عن عبدالرزاق أنه كان يقول: لا أدري عن أبيه أم لا ؟
ونقل الحافظ في "تعجيل المنفعة" (1/425) عن ابن القطان قوله: حبيب مجهول والصحبة لأبيه.
(14) في (ك): «محنف بن سليم» ألحقه الناسخ في الحاشية وكتب فوقها «كذا في نسخه» وفي (ق): «محنف».
(15) في (ف): «سلم».
(16) قوله: «إن» سقط من (ق).
(17) قوله: «أهل» سقط من (ك) و(ق) و(ن).
(18) قوله: «كل» سقط من (ح).(5/349)
أضحية، وعتيرة. أتدرون ما العتيرة؟ هذه التي (1) يقول (2) الناس: الرَّجبيَّة (3) »، وبظاهر الأمر بالإعادة في الحديث المتقدِّم.
قال الشيخ رضي الله عنه: ولا حجَّة في شي من ذلك. أما الآية: فلأنها (4) محتملة لأمور متعددة، ولذلك اختلفت (5) أقوال العلماء فيها. فقيل: معناها: صلِّ الصلوات المعهودة، وضع يمينك على شمالك، وضعهما على نحرك. قاله عليّ (6) رضي الله عنه. وقال أبو الأحوص: ارفع يديك (7) في التكبير (8) إلى نحرك. وقيل: استقبل القبلة بنحرك في الصلاة. وقال مجاهد: صلِّ (9) بالمزدلفة، وانحر الْهَدْي. وقال عطاء: صل العيد، وانحر الأضحية. ونحوه قال مالك. وقال ابن جبير: ادع لربك، وارفع يديك إلى نحرك عند الدعاء. وقال عطاء: استو بين السجدتين حتى يبدو نحرك.
قال الشيخ رضي الله عنه: وهذه الأقوال كلها (10) ؛ الآية قابلة لها؛ على أن الأظهر منها (11) قول من قال: إن المراد بها: صلِّ الصلوات المعهودة، وانحر الهدايا الواجبة؛ تمسُّكًا بالعُرْف المستعمل في ذينك اللفظين، والله تعالى أعلم. وعند هذا ظهر: أن لا حجَّة في ا لآية.
وأما قوله: «على كل أهل (12) بيت أضحية، وعتيرة»: فليس بصحيح. قيل: هو حديث ضعيف على ما قاله أبو محمد عبد الحق وغيره، ولو سُلِّمت صحته فلا حجة فيه لوجهين:
أحدهما: أنه ليس صريحا في الوجوب، بل قد يقال مثله في المندوب، كما قال في السواك: «وعليكم بالسواك» (13) ، وليس السواك (14) واجبًا في الجمعة بالاتفاق، وإنما يحمل ذلك على أن (15) من أراد تحصيل الأجر الكثير، وإقامة السُّنَّة، فعليه =(5/350)=@
__________
(1) في (أ) و(ك) و(ف) و(ق) و(ن): «هي التي».
(2) في (ق): «تقول».
(3) في (ح): «أنها الرجبية».
(4) في (ن): «فالأنها» كذا رسمت.
(5) في (ق): «وكذلك اختلف».
(6) ذكره السيوطي في "الدر" (30/650) معزوًّا لابن أبي شيبة في "المصنف" والبخاري في "تاريخه" وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني في "الأفراد" وأبو الشيخ والحاكم وابن مردوية والبيهقي في "سننه" عن علي به.
وقال ابن كثير في "التفسير" (8/523): «يُروى عن علي ولا يصح».
(7) في (ح) و(ك): «يدك».
(8) في (ح): «التكبيرات».
(10) قوله: «كلها» سقط من (ح).
(11) قوله: «منها» سقط من (ح).
(12) في (ك): «أهل كل».
(13) أخرجه أحمد (5865)، والطبراني في "الأوسط" (3113) من طريق عبدالله بن لهيعة، عن عبيدالله بن أبي جعفر، عن نافع، عن ابن عمر به. وابن لهيعة ضعيف.
وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (1070) من طريق حجاج بن منهال / ثنا حماد بن سلمة، عن عبيدالله بن عمر، عن المقبري، عن أبي هريرة به.
وإسناده صحيح رجاله ثقات إلا أن الحافظ في "التلخيص" (1/60) قال: «المحفوظ عن حماد بغير هذا الإسناد من حديث أبي بكر، والمحفوظ عن عبيدالله بن عمر بهذا الإسناد بلفظ: لولا أن أشق».اهـ.
قلت: وللحديث شواهد بصيغة الأمر به، منها: ما أخرجه ابن ماجه (289) من طريق عثمان بن أبي العاتكة، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة رفوعًا: تسوكوا فإن السواك مطهرة للفم مرضاة للرب...، الحديث مطولاً.
وفي إسناده علي بن يزيد الألهاني وهو ضعيف وتلميذه عثمان بن أبي العاتكة روايته عن علي بن مزيد ضعيفة.
ومنها ما علقه البخاري في "الكبير" (8/100) عن نعيم بن عمر، عن عبيج بن عمير الليثي: أن رسول الله ( قال: «عليكم بالسواك».
ومنه اما أخرجه ابن عدي في "الكامل" (3/60) من طريق بقية بت الوليد، عن الخليل بن مرة، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس مرفوعًا: «عليكم بالسواك».
وأحاديث بقية ليست نقيَّة.
ومنها ما أخرجه أحمد (1835)، والطبراني (1301) من طريق أبي علي الزراد، عن جعفر بن تمام، عن العباس، عن أبيه مرفوعًا: «مالي أراكم تأتوني قلحًا»، وتقدم في باب السواك من كتاب الطهارة.
(14) في (ف): «المسواك».
(15) قوله: «أن» سقط من (ق).(5/350)
بالسواك والأضحية (1) . وهذا نحو قوله - صلى الله عليه وسلم - : «من أراد أن يضحي فلا يأخذنَّ (2) من شعره ولا بشره شيئًا» (3) .
والثاني: عطف العتيرة على الأضحية. والعتيرة ليست بواجبةً (4) باتفاق على ما ذكره المازري. وقال أبو داود: العتيرة منسوخة. وهذا من قول أبي داود يدل (5) على أن العتيرة كانت مشروعة في أول (6) الإسلام، ثم نسخت، وكذلك (7) قال ابن دريد، قال: العتيرة شاة (8) كانت تذبح في رجب في الجاهلية يُتقرَّب بها، وكان ذلك في صدر الإسلام أيضًا. والعَتْر: الذبح. قال غيره: وهي (9) فعيلة بمعنى مفعولة، كذبيحة: بمعنى مذبوحة. يقال: عتر الرجل يعتر عترًا، بالفتح: إذا ذبح العتيرة. ويقال: هذه أيام ترجيب، وتعتار.
قال الشيخ: وظاهر قول أبي داود في العتيرة: إنها منسوخة: أنها لم تبق (10) لها مشروعية على جهة الوجوب، ولا الجواز. قال القاضي أبو الفضل (11) : وعامة أهل العلم على تركها للنهي (12) عنها، إلا ابن سيرين فإنَّه كان يذبح العتيرة في رجب، ولم يره (13) منسوخًا؛ يعني: الجواز. وأما الوجوب فمتفق على تركه على ما حكاه المازري. فإن قيل: لا نسلِّم أنَّ نسخ وجوب العتيرة يلزم منه نفي (14) وجوب الأضحية؛ لأنَّ الحديث تضمن (15) أمرين:
أحدهما: الأضحية - ولم يقل أحدٌ: إنها منسوخة -، والعتيرة وهي المنسوخة، ولا (16) يلزم من نسخِها نسخُها. فالجواب: إنهما وإن كانا أمرين متغايرين، لكنهما قد اجتمعا في مفيد (17) الوجوب، وهو: على الذي (18) استدللتم بها على الوجوب؛ لأنَّه لما عطف العتيرة على الأضحية بالواو من غير إعادة: على. علمنا: أن العتيرة دخلت مع الأضحية في معنى: على. وهو معنى واحدٌ، فإذا رفع ذلك المعنى عن العتيرة ارتفع عن الأضحية؛ لضرورة الاتحاد. وهذا (19) حكم حروف =(5/351)=@
__________
(1) في (ك): «بالأضحية والسواك» وفي (ق): «بالسواك وبالأضحية».
(2) في (ك): «يأخذ».
(3) سيأتي في باب إذا دخل العشر وأراد أن يضحي فلا يمس من شعره ولا بشره.
(4) في (ح): «بواجبة».
(5) قوله: «يدل» سقط من (ق) و(ن).
(6) قوله: «أول» سقط من (أ) و(ح) و(ف).
(7) في (ق) و(ن): «ولذلك».
(8) قوله: «شاة» سقط من (ح).
(9) قوله: «وهي» سقط من (ق) وفي (ن): «هي» بلا واو.
(10) في (ف): «لم يبق». وفي (ق) و(ن): «وأنها لم يبق».
(11) ألحق ناسخ (ق) بعدها في الهامش قوله «عياض».
(12) في (ن): «على تركه النهي».
(13) في (ق): «فلم».
(14) قوله: «نفي» سقط من (ف).
(15) قوله: «تضمن» سقط من (ق) و(ن).
(16) في (ك): «فلا».
(17) في (ق) و(ن): «مقيد».
(18) في (ف) و(ح): «التي».
(19) في (ح) و(ن): «هذا» بلا واو.(5/351)
العطف المشَرِّكة (1) في المعنى إذا عطف بها المفردات. فإنك إذا قال الشيخ: قام زيد وعمرو؛ استحال أن يرفع (2) القيام عن عمرو، ويبقى لزيد، فلو أعاد العامل لصحَّ أن يرفع حكم أحدهما ويثبت حكم الآخر؛ لأنَّه يكون من باب عطف الجمل، ويجوز عطف الجمل المختلفة بعضها على بعض. وقد أشبعنا القول في هذا في الأصول. وهو أصل (3) حسن يجب الاعتناء به.
وأما الاستدلال بقوله ( : «اذبح مكانها أخرى»: فقد عضدوه بما جاء في بعض طرق هذا الحديث، من (4) قوله: «أعد نسكًا» (5) ، وقوله: «ضحِّ بها - يعني: الجذعة (6) من المعز - ولا تجزي عن أحد بعدك»، ولا حجَّة في شيء من ذلك واضحة؛ لأنَّ المقصود بيان كيفية مشروعية الأضحية لمن أراد أن (7) يفعلها، أو من (8) التزمها فأوقعها (9) على غير الوجه المشروع غلطًا، أو جهلاً، فبين له النبي - صلى الله عليه وسلم - وجه تدارك ما فرط فيه. وهذا هو المعني بقوله (10) : «لا تجزي»؛ أي: لا يحصل لك (11) مقصود القربة، ولا الثواب. وهذا كما يقال في صلاة النفل: لا تجزي (12) إلا بطهارة، وستر عورة؛ أي: لا تصح في نفسها؛ إذ لا يحصل مقصود القربة إلا بتمام شروطها. وهذا واضح جدًّا.
وقد استدلَّ بعض من رأى الوجوب: بأن الأضحية من شريعة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - وقد أُمِرنا باتِّباعه، لقوله تعالى: {ملة أبيكم إبراهيم} (13) ، وهذا ترد (14) عليه أسئلة (15) كثيرة، قد (16) ذكرناها في الأصول، فلا حجة فيه؛ لأنَّا نقول بموجب ذلك، ونسألهم: هل كانت الأضحية واجبة في شرعه (17) ، أو سُنَّة؛ وليس هنالك (18) ما يدلّ على شيء من ذلك، فإنَّ استدلوا بقصة (19) الذبيح؛ فتلك قضية (20) خاصة، أو منسوخة، ولا حجة في شيء منها. والله تعالى أعلم.
وأما وقت ذبحها: فهو عند مالك بعد صلاة الإمام، وذبحه، إلا أن يؤخر =(5/352)=@
__________
(1) في (ح): «المشاركة».
(2) في (ن): «ترفع».
(3) في (ق) و(ن): «وهذا».
(4) في (ح) و(ك): «في».
(5) سيأتي في باب ما يجوز في الأضاحي من السن.
(6) في (ك): «الخذعة».
(7) قوله: «أن» سقط من (ن).
(8) في (ق) و(ن): «لمن».
(9) في (ق) و(ن): «وأوقعها».
(10) ألحق في حاشية (ح): «له».
(11) في (ك): «له».
(12) في (ق) و(ن): «لا يجزي».
(13) الآية (78) من سورة إبراهيم.
(14) في (ك) و(ف): «يرد».
(15) في (ك) و(ح) و(ف) و(ق) و(ن): «أسولة».
(16) في (ق) و(ن): «وقد».
(17) في (ك): «سرعة».
(18) في (ق): «هناك».
(19) في (ق): «بقضية».
(20) في (ف): «قصة».(5/352)
تأخيرًا يتعدَّى فيه فيسقط (1) الاقتداء به معتمدًا في ذلك على حديث جابر المذكور في الأصل (2) . وهو نصٌّ في ذلك. وعند أبي حنيفة: الفراغ من الصلاة دون مراعاة ذبح الإمام (3) . ويشهد له حديث البراء؛ فإنَّه قال فيه: «من ذبح بعد الصلاة فقد تمَّ نسكه». فعلَّق الذبح على الصلاة، ولم يذكر الذبح للإمام (4) .
وعند الشافعي: وقتها (5) دخول وقت الصلاة، ومقدار ما توقع فيه. فاعتبر الوقت دون الصلاة (6) ، وهو خروج عن ظواهر (7) هذه الأحاديث، غير أنه لما صحَّ عنده: أن الأضحية مخاطب بها أهل البوادي، ومن لا إمام له، ومن لا يخاطب بصلاة عيد: ظهر له أن حكمها متعلِّق (8) بمقدار وقت الصلاة لأهل المصر وغيرهم. والله أعلم.
وأما (9) مالك: فردَّ مطلق حديث البراء إلى مقيد حديث جابر؛ لأنَّه قد اتحد الموجِبُ والموجَبُ. وقد قلنا في أصول الفقه: إن هذا النوع متفق عليه عند الأصوليين. وأما قبل الصلاة: فقال القاضي أبو الفضل (10) : أجمع المسلمون: أن الذبح لأهل المصر لا يجوز قبلها (11) ؛ وإنما اختلفوا إذا ذبح بعدها وقبل (12) ذبح الإمام. واختلفت (13) فيه الآثار. وأما أهل البوادي، ومن لا إمام له، أو (14) إذا لم يبرز (15) الإمام أضحيته: فمشهور مذهب مالك يتحرى وقت ذبح الإمام، أو أقرب الأئمة إليه. وقال (16) ربيعة وعطاء (17) فيمن لا إمام له: إن ذبح (18) قبل طلوع الشمس لم يُجزِه، ويجزيه إن ذبح (19) بعده. وقال أهل الرأي: يجزيهم من بعد الفجر. وكأن هؤلاء تمسكوا في ذلك بقوله: {ويذكروا (20) اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} (21) ، فأضاف النحر إلى اليوم، وهل اليوم من بعد طلوع الفجر أو من طلوع (22) الشمس؟ وهذا (23) سبب اختلافهم. وهذا لا تعويل عليه هنا؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عيَّن للإضحية وقتًا من اليوم بفعله، وقوله؛ فإنه ذبح بعد ما (24) صلَّى، وقال: «إن (25) أول ما نبدأ (26) به (27) في يومنا هذا أن نصلِّي، ثم ننحر (28) ، فمن فعل ذلك فقد أصاب، ومن =(5/353)=@
__________
(1) في (ف): «فقط».
(2) رواه مسلم (3/1555 رقم1964) في الأضاحي، باب سن الأضحية.
(3) قوله: «الإمام» سقط من (أ) و(ف).
(4) قوله: «للإمام» سقط من (أ) و(ف)، وفي (ك): «ذبح الإمام».
(5) في (ح): «وقتها وقت دخول».
(6) كتب في حاشية (أ) و(ف): «وبعض أصحابه اعتبر الخطبة» وكتب فوقها (خـ».
(7) قوله: «ظواهر» سقط من (ح).
(8) في (ف): «يتعلق».
(9) في (ك) و(ح) و(ن): «على مذهب مالك» وفي (ق): «وأما مذهب مالك».
(10) في (ك) و(ح) و(ق) و(ن): «وبعض أصحابه اعتبر الخطبة» وكتب فوقها «خـ».
(11) في (ك) و(ح) و(ق) و(ن): «القاضي عياض».
(12) في (ك): «قبل» بلا واو.
(13) في (ق): «واختلف» وكتب في الهامش «واختلفت» ووضع فوقها «نخـ».
(14) في (ق) و(ن): «و» بدل «أو».
(15) في (ح): «تبرز».
(16) في (ف): «قال» بلا واو.
(17) في (ق): «وعياض» وألحق في الهامش «وعطاء» وكتب فوقها (نخـ) وتحتها (أصل).
(18) في (ق): «يذبح».
(19) في (ق): «يذبح».
(20) في (أ) و(ح) و(ك) و(ف) و(ق) و(ن): «ليذكروا».
(21) الآية (28) من سورة الحج.
(22) في (ف): «قال» بلا واو.
(23) في (ح) و(ك) و(ق) و(ن): «هذا».
(24) في (ن): «ما بعد».
(25) قوله: «إن» سقط من (ن).
(26) نقط ناسخ (ق) الحرف الأول بواحدة من فوق واثنين من تحت.
(27) قوله: «به» سقط من (ف).
(28) في (ق): «تصلي ثم تنحر».(5/353)
لم يفعل فإنما هو لحم قدَّمه لأهله، ليس (1) من النُّسك في شيء». وهذا اللفظ عام يتناول كل مضحٍّ، وأمر رسول (2) الله ** ليس في (أ) و(ك) و(ف)** - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر من ذبح قبله أن يعيد أضحية (3) أخرى، ونهى أن يذبح قبل ذبحه. فإذًا: أحسن المسالك ما ذهب إليه مالك. هذا القول في مبدأ زمان الذبح.
فأما (4) منتهاه: فهو عند مالك: يوم النَّحر، ويومان بعده. وعند الشافعي: وثلاثة بعده. وعند غيرهما: يوم النحر خاصَّة. وقال سليمان بن يسار وأبو سلمة بن عبد الرحمن [ إلى آخر الشهر ] (5) ** تراجع في النسخ **، ورويا حديثًا مرسلاً (6) (7) (8) . ومعتمد أصحابنا قوله تعالى: {ليذكروا اسم الله في أيامٍ معلومات (9) } (10) ، قالوا: والمعلومات: جمع قلَّة، لكن المتيقن منه الثلاثة، فإنَّه أقل الجمع على ما تقرر في الأصول. وما بعد الثلاثة غير متيقن، فلا يعمل به، فإنَّ تعيين (11) عدد (12) بعد ذلك تحكم؛ إذ لم يعينه الشرع.
وأما القول الثالث: فلا وجه له - في علمي - غير التمسك بإضافة النحر إلى اليوم الأول (13) خاصة، وهو ضعيف مع قوله تعالى: {في أيام معلومات}.
واختلف في ليالي أيام النحر: هل تدخل مع الأيام فيجوز فيها الذبح أو (14) لا؟ فروي عن مالك (15) في المشهور: أنها لا تدخل. فلا يجوز الذبح بالليل، وعليه جمهور أصحابه. وقال أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، واسحاق، وأبو ثور: الليالي (16) داخلة في الأيام (17) ، ويجزي الذبح فيها، وروي عن مالك (18) ، وأشهب نحوه. ولأشهب تفريق بين الهدي والضحية، فأجاز الهدي ليلاً، ولم يجز الضحية ليلاً. وقد تمسَّك مالك بأصل وضع الأيام؛ فإنَّه الحقيقة في الكلام. وقد روي في ذلك نهي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث عطاء (19) بن يسار مرسلاً، ولا يصح (20) ؛ لأنَّه من حديث مُبَشِّر (21) بن عبيد، وهو متروك. =(5/354)=@
__________
(1) في (ق): «وليس».
(2) في (ق): «وأمر النبي ( ».
(3) في (ح): «أضحيته» وفي (ق): «ضحية».
(4) في (ف): «وأما».
(5) ما بين المعكوفين مثبت من "تفسير القرطبي" (12/43)، حيث نقله عن المصنِّف هناك، وهو متمم للسياق.
(6) زاد بعدها في (ف): «مرفوعًا الضحايا إلى هلال ذي الحجة ولم يصح».
(7) من قوله: «وقال سليمان....» إلى هنا سقط من (ح) و(ك) و(ر).
(8) أخرجه أبو داود في "المراسيل" (377) عن موسى بن إسماعيل، والدارقطني في "سننه" (3/90)، ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" (9/297) من طريق حبان بن هلال، كلاهما موسى وحبان، عن أبان بن يزيد، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم التيمي، حدثني أبو سلمة بن عبدالرحمن وسليمان بن يسار أنه بلغهما: أن رسول الله ( قال: «الضحايا إلى آخر الشهر لمن أراد أن يستأنى ذلك».
قال البيهقي: مرسل. وقال ابن حزم في "المحلى" (7/379): «هذا من أحسن المراسيل وأصحها».
(9) في (أ) و(ك) و(ح) و(ق) و(ن): «معلومات ... الآية».
(10) الآية (28) من سورة الحج، كتب بعدها في (ف) قوله: «الآية»..
(11) في (ح): «تعيين».
(12) في (أ): «عدد الضحايا».
(13) قوله: «الأول» سقط من (ح) و(ك).
(14) في (ق): «أم» بدل «أو».
(15) قوله: «مالك» لم يتضح في (ن).
(16) في (ح): «اليالي» . كذا رسمت.
(17) في (ف): «في للأيام».
(18) في (ن): «روي» بلا واو.
(19) قوله: «من حديث» سقط من (ف).
(20) قال ابن حزم في "المحلى"(7/379): «رويناه من طريق بقية بن الوليد، عن مبشر بن عبيد الحلبي، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: نهى رسول الله ( عن الذبح بالليل. وذكره عبدالحق في "الأحكام الوسطى" (4/136)، ثم قال: «مبشر متروك».
قال ابن حزم: «ذكروا حديثا لا يصح». ثم ذكره فقال: «هذه فضيحة الأبد، وبقية ليس بالقوي، ومبشر بن عبيد مذكور بوضع الحديث عمدًا، ثم هو مرسل».اهـ.
وقال ابن الملقن في "خلاصة البدر المنير" (2/384): «سنده واه».
وأخرج الطبراني في "الكبير" (11/190 رقم 11458) من طريق سليمان بن سلمة الخبائري، ثنا بقية بن الوليد، حدثني أبو محمد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس: أن النبي ( نهى أن يضحى ليلاً.
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/23): «فيه سليما بن أبي سلمة وهو متروك».
وقال ابن الملقن في "خلاصة البدر المنير" (2/384): «إسناده ضعيف بسبب سليمان الخبائري المتروك الكذاب».اهـ.
(21) في (أ): «بسر».(5/354)
وقوله: «ومن لم يذبح فليذبح باسم الله»؛ فيه دليل: على وجوب التسمية عند الذبح، وقد ذكر (1) الخلاف فيه في الصيد.
وكونه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى يوم الأضحى ثم خطب: دليل واضح على من أجاز. وقد تقدَّم ذلك فى كتاب الإيمان.
وقوله: «إن عندي جذعة من المعز»، وفي رواية: «عناقًا (2) »، وفي رواية (3) : «عَتُودًا»، وكلها بمعنى واحد. واختلف في سنِّ الجذعة من الغنم. فأقل ما قيل في ذلك: ستة أشهر. وأقصى ما قيل في ذلك: سنة تامَّه. وفي الصحاح: الْجَذَعُ (4) قبل الثني، والجمع: جذعان، وجذاع (5) ، والأنثى: جذعة. والجمع: جذعات (6) . يقال منه لولد الشاة في السنة الثانية، ولولد البقر والحافر في السنة الثالثة، وللإبل (7) في السنة الخامسة: أجذع. والجذع: اسم له في زمن، وليس بسن ينبت (8) ويسقط. وقد قيل في ولد النعجة: إنه يجذع (9) في ستة أشهر، أو تسعة (10) أشهر، وذلك جائز في الأضحى. =(5/355)=@
__________
(1) في (أ): «عند الذبح ونذكر».
(2) قوله: «وفي رواية عناقًا» سقط من (ك).
(3) في (ك): «رواية أخرى».
(4) قوله: «الجذع» سقط من (ف).
(5) قوله: «وجذاع» سقط من (ف).
(6) من قوله: «وجذاع والأنثى...» إلى هنا سقط من (ن).
(7) في (ق): «والإبل».
(8) في (ق): «يثبت».
(9) في (ق): «يدع».
(10) في (ق) و(ن): «أو في تسعة».(5/355)
وقوله: «عندي جذعة خير من مسنة»؛ يعني به: طيب لحمها، وهو أهم المقصودين في الأضاحي، فإنَّ (1) النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحَّى بالغنم، كما أن أهم المقصودين في الهدايا: كثرة اللحم، ولذلك أهدى الإبل، ومن هنا ظهر حسن ما ذهب إليه مالك، فقال: الغنم في الضحايا أفضل، والإبل في الهدايا أفضل (2) . والشافعي يرى أن الإبل أفضل في الضحايا (3) والهدايا نظرًا إلى كثرة اللحم.
وقوله: «ولا تَجْزِي جذعة عن أحدٍ بعدك»؛ يعني: من المعز، وهو الذي لا نعرف (4) فيه خلافًا. وأما الجذع من الضأن: فإنَّه جائز عند الجمهور، وفيه خلاف شاذّ يرده (5) حديث جابر رضي الله عنه، وهو (6) قوله ( : «لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر (7) عليكم، فتذبحوا جذعة من الضأن» (8) ، وما روى الترمذي (9) عن أبي كباش (10) ، قال: جلبت غنمًا جذعانًا إلى المدينة، فكسدت عليَّ، فلقيتُ أبا هريرة، فسألته، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «نعم -أو: نعمت - الأضحية الجذع من الضأن» قال: فانتهبها (11) الناس. قال: هذا حديث حسن غريب. والعمل على هذا عند أهل العلم =(5/356)=@
__________
(1) في (ح): «لأن».
(2) قوله: «والإبل في الهدايا أفضل» سقط من (ق) و(ن).
(3) في (ن): «الإبل في الضحايا أفضل».
(4) في (ق) و(ن): «لا يعرف».
(5) في (أ): «يرد وحديث» وفي (ف): «يرد حديث».
(6) قوله: «هو» سقط من (ن).
(7) في (ن): «تعسر».
(8) سيأتي في الباب الذي بعد هذا.
(9) رواه أحمد (2/444)، والترمذي (4/87 رقم 1499) كتاب الأضاحي، باب ما جاء في الجذع من الضأن في الأضاحي، والبيهقي (9/271) من طريق وكيع، عن عثمان بن واقد ابن محمد بن زياد ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن كدام بن عبدالرحمن، عن أبي كباش، عن أبي هريرة رضي الله عنه به.
قال الترمذي في "العلل"ترتيب القاضي رقم (447): «سألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: روى هذا الحديث عثمان بن واقد فرفعه إلى النبي ( ، وروى عثمان بن واقد عن أبي هريرة موقوفًا. قلت له: ما اسم أبي كباش؟ قال: لا أعرف اسمه.
قلت: هذا إسناد ضعيف، أبو كباش قال عنه الذهبي: لا يعرف، وقال عنه ابن حجر: مجهول. كدام بن عبدالرحمن قال عنه ابن حجر: جهله ابن حزم. إضافة إلى علة الوقف. وقد جاء هذا المعنى من طريق آخر ضعيف عن أبي هريرة رضي الله عنه رواه أحمد (2/402) من طريق أبي ثفال المري، عن أبي هريرة، عن النبي ( قال: «الجذع من الضأن خير من السيد من المعز». وأبو ثفال المري: قال عنه البخاري: في حديثه نظر.
(10) في (ن): «كياس».
(11) في (ق) و(ن): «فانتهبتها».(5/356)
من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم (1) أن الجذع من الضأن يَجْزِي في الأضحية. فأمَّا الجذع من المعز، فلا يَجْزِي (2) لقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة: «لا تَجْزِي عن أحدٍ بعدك».
قال القاضي (3) : وقد أجمع العلماء على الأخذ بحديث أبي بردة، وأنَّه لا يَجْزي (4) الجذع **كذا في أ** من المعز، فإنَّ لم يتمكَّن إلا (5) من الجذع من الضأن كان نعم الأضحية، كما قاله (6) ( . ويعني بالمسنَّة: الكبيرة، وأوَّل ذلك: الثني، وهو المعني هنا، فإنَّها (7) أطيب لحمًا مما قبلها، وأسرع نضجًا مما بعدها. والله تعالى أعلم.
- - - - -
وقوله: «إلا أن يعسر عليكم، فتذبحوا جذعة من الضأن»؛ دليل: على أنَّه =(5/357)=@
__________
(1) قوله: «وغيرهم» سقط من (ح) و(ك) و(ق) و(ن).
(2) في (ح): «تجزي».
(3) في (ك) و(ح) و(ق) و(ن): «القاضي عياض».
(4) في (ح): «تجزي».
(5) قوله: «إلا» سقط من (ق) و(ن).
(6) في (ق) و(ن): «قال».
(7) في (ق) و(ن): «بأنها».(5/357)
لا يجوز (1) في الأضحية الجذع من المعز، ولا من البقر، ولا من الإبل. وهو قول أهل العلم. وإنَّما اختلف في إجزاء الجذعة من الضأن كما قلناه آنفًا.
وقوله: «إن هذا يومٌ اللحم فيه مكروه»؛ قال القاضي (2) : هكذا رويناه بالهاء والكاف من طريق الفارسي (3) ، والسجزي، وكذا ذكره (4) الترمذي، ورويناه من طريق العذري: «مقروم (5) » بالقاف والميم.
قال الشيخ رضي الله عنه: وهذه الرواية هي الصواب الواضح. ومعناها: أن اللحم في هذا اليوم تتشوَّف النفوس إليه لشهوتها. يقال: قَرِمْتُ إلى اللحم، وقَرِمْتُه: إذا اشتهيته (6) ، أَقْرُمُ قرمًا (7) . وأما رواية مكروه: ففيها بُعْد. وقد تكلَّف لها (8) بعضهم ما لا يصحّ رواية ولا معنى، فقال: صوابه: اللَّحم - بفتح الحاء - قال ومعناه: أن يترك أهله بلا (9) لحم حتى يشتهوه. و«اللَّحم)) -بالفتح -: شهوة (10) اللحم. فانظر مع هذا التكلُّف القبيح (11) كيف لا (12) يظهر منه معنى صحيح. وقال (13) آخر معنى: «اللحم فيه مكروه»؛ أي: =(5/358)=@
__________
(1) في (ق): «على أن لا يجزي».
(2) في (ح): «القاضي عياض».
(3) في (ف): «السجزي الفارسي».
(4) في (ق) و(ن): «والشجري وكذا رواه».
(5) في (ق): «مقدوم».
(6) في (ن): «وقرمت إذا اشتهيت».
(7) في (ق): «فرمت إلى اللحم وفرمت إذا اشتهيت أفرم فرمًا».
(8) قوله: «لها» سقط من (ق) و(ن).
(9) في (ن): «بألا» كذا رسمت.
(10) في (ح): «الشهوة».
(11) في (ق): «التكلف بالقبح».
(12) في (أ) و(ف): «لم».
(13) في (ق) و(ن): «قال» بلا واو.(5/358)
لمخالفته (1) السنة، كما قال في الحديث الآخر: «شاتك شاة لحم» (2) .
قلت: وهذا قول من لم يتأمل مساق الحديث (3) ، فإنَّ هذا التأويل ليس ملائمًا له، ولا موافقًا لمعناه؛ إذ لا يستقيم أن يقول: إن هذا اليوم اللحم فيه مخالف (4) للسنة، وإني عجلت نسيكتي (5) لأطعم (6) أهلي. وهذا فاسد. وأقرب ما يتكلّف لهذه الرواية وأنسبه (7) : أن يقال: إن معناه: اللحم فيه مكروه التأخير. فحذف التأخير، وهو يريده. ويشهد لهذا قوله بعده متصلاً به: «وإني عجلت نسيكتي (8) لأطعم أهلي وجيراني». وهذا مناسب (9) لما قدَّرناه (10) من المحذوف. والله أعلم.
وقوله: «هي خير نسيكتيك (11) »؛ سَمَّى ما ذبح قبل الصلاة نسيكة بحسب توهُّم الذابح وزعمه، وذلك: أنه إنما ذبحها في ذلك الوقت بنيَّة النسك (12) ، وبعد ذلك بيَّن له النبي ( : أنها ليست نسكًا شرعًا؛ لما قال: «من ذبح قبل الصلاة، فإنما هو لحم عجله لأهله، ليس من النُّسك في شيء».
وقول (13) عقبة: «قسم فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحايا فأصابني جذع، فقال الشيخ: يا رسول الله! أصابني (14) جذع، فقال: ضحِّ به». وفي الرواية الأخرى: «عَتُود»؛ هذه الرواية تدلُّ (15) على أن الجذع المذكور في حديث عقبة هو من المعز، فإنَّ العَتُود إنما هو بأصل وضعه اسم لما رعى وقَوِي من أولاد المعز، وأتى عليه حول (16) . هذا هو المعروف في اللغة، وعلى هذا: فيكون هذا الحديث معارضًا لحديث =(5/359)=@
__________
(1) في (ح) و(ك): «لمخالفة».
(2) تقدم في باب التسمية على الضحية....
(3) من قوله: «شاتك شاة لحم...» إلى هنا سقط من (ق) و(ن).
(4) في (ق) و(ن): «مخالفًا».
(5) في (ك): «نسكي».
(6) في (ف): «لإطعام».
(7) في (ح) و(ك) و(ن) و(ق): «وأشبه».
(8) في (ك): «نسكي»وفي (ف): «تسيكتى».
(9) قوله: «مناسب» سقط من (أ).
(10) في (ح) و(ك) و(ق) و(ن): «قررناه».
(11) في (ح) و(ن): «نسيكتك».
(12) في (ك): يشبه أن تكون «النسيك».
(13) في (ح): «وقوله».
(14) في (ن): «اصابتي».
(15) في (ق): «تلك» وكتب في الهامش «تدل» ووضع فوقها (نخـ» وكتب تحتها (أصل).
(16) في (ق): «حولاً».(5/359)
أبي بردة، ولذلك قال علماؤنا: إن حديث عقبة منسوخ بحديث أبي بردة، ودلَّ على هذا: ما حكي من الإجماع على عدم إجزاء الجذع (1) من المعز (2) .
قال الشيخ رضي الله عنه: ويمكن (3) في حديث عقبة تأويلان، ولا يصار فيه إلى النَّسخ:
أحدهما: أن الجذع المذكور فيه: هو من الضأن، وأطلق عليه العَتُود (4) ؛ لأنَّه في سِنِّه وقوته، ولا يستنكر (5) هذا، فمن المعلوم: أن العرب تسمي الشيء باسم الشيء (6) إذ (7) جاوره (8) ، أو كان منه بسبب، أو شبه.
وثانيهما: أن العَتُود وإن كان من المعز، فقد يقال على ما خرج من السنة (9) الأولى، ودخل في السنة الثانية لتقارب ما بينهما. وقد دلَّ على صحة هذا ما حكاه القاضي عن أهل اللغة: أن العتود: الجدي الذي بلغ السِّفَاد. قال (10) ابن الأعرابي: المعز، والإبل، والبقر: لا تضرب فحولها إلا بعد أن تثني، وإذا (11) صحَّ هذا ارتفع التعارض، وصحَّ الجمع بين الحديثين، والجمع أولى من الترجيح، والنسخ لا يصح مع إمكان الجمع. وفي حديث عقبة دليل على تأكد (12) أمر الأضحية، وأن الإمام ينبغي له أن يفرِّق الضحايا على من لا يقدر عليها من بيت مال المسلمين.
- - - - -
4 - ومن باب ما يختار (13) في الأضحية
قوله: «أمر بكبش أقرن، يطأ في سواد، وينظر في سواد، ويبرك في سواد»؛ أي: أمر بأن ينتخب له كبش على هذه الشِّيَة، ففيه ما يدل على أن المضحي ينبغي =(5/360)=@
__________
(1) من قوله: «أبي بردة ودل على هذا...» إلى هنا سقط من (ن).
(2) قوله: «المعز» مكرر في (ق).
(3) في (ق): «ويكون».
(4) في (ح): «اسم العتود».
(5) في (ق): «ويستكثر».
(6) قوله: «باسم الشيء» سقط من (ق) و(ن).
(7) في (ك) و(ق) و(ف) و(ح): «إذا».
(8) في (ق): «جاوزه».
(9) في (ف): تشبه «المسنه».
(10) في (ق): «وقال».
(11) في (ق) و(ن): «فإذا».
(13) في (ق): «ما يحتاج».(5/360)
له (1) أن يختار الأفضل نوعًا، وأكمل (2) خلقًا، والأحسن شِيَة. فالأقرن: الطويل القرن، وهو أفضل. ولا خلاف في جواز الأجم. واختلف (3) في المكسورة القرن. فالجمهور على الجواز، وقد روى أبو داود (4) عن علي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يُضحَّى بعضباء (5) الأذن والقرن. وكرهه مالك إن كان يدمى؛ لأنَّه مرض، وأجازه إن لم يَدْم. ومعنى: «يطأ في سواد»؛ أي: أسود القوائم. «ويبرك (6) في سواد»؛ أي: في بطنه سواد.«وينظر في سواد»؛ أي: ما حول عينيه أسود.
وقوله: «ضحَّى بكبشين أملحين أقرنين»؛ اختلف في الأملح. فقال الأصمعي: هو (7) الأبيض؛ لون الملح، ونحوه. قال ابن الأعرابي: هو النقي البياض. وقال غيرهما: الملحة من الألوان: بياض يخالطه سواد. يقال: كبش أملح إذا كان شعره خليسًا (8) . هذا الذي حكاه في الصحاح، ولم يحك ما ذكر (9) عن الأصمعي وابن الأعرابي.
و «الْمُدية»: السكِّين، وتجمع (10) : مُدى، كغرفة وغرف.
و «الشحذ»: الحذُّ (11) ، ومنه (12) قوله (13) :=(5/361)=@
__________
(1) قوله: «له» سقط من (ق).
(2) في (أ) و(ف) و(ك) و(ح): «والأكمل».
(3) في (ق): «واختلفوا».
(4) رواه أحمد (1/83 و101 و127 و129 و137 رقم633 و791 و1048 و1066 و1157 و1158)، وأبو داود (3/238 رقم2805) كتاب الضحايا، باب ما يكره من الضحايا، وابن ماجه (2/1051 رقم3145)، كتاب الأضاحي، باب ما يكره أن يضحى به، والترمذي (4/90 رقم1504) كتاب الأضاحي، باب في الضحية بعضباء القرن والأذن، والنسائي (7/217 رقم4389) كتاب الضحايا، باب العضباء، وابن خزيمة (4/293 رقم2913)، والحاكم (4/224)، والطحاوي (4/169). كلهم من طريق قتادة، عن جري بن كليب عن علي بن أبي طالب به وقد صرح قتادة بسماعه من جري وسماع جري من علي في عدد من الروايات. قال الترمذي: «هذا حديث صحيح. وصححه الحاكم»، ووافقه الذهبي.
جري بن كليب السدوسي البصري من قوم قتادة، أثنى عليه قتادة خيرًا. ووثقه العجلي وابن حبان، وقال ابن المديني: «مجهول لا أعلم روى عنه غير قتادة». وقال أبو حاتم: «شيخ لا يحتج بحديثه، هو مثل عمارة لن عبد وحجية بن عدي، وشريح بن النعمان هم شيوخ لا يحتج بحديثهم». وقال أبو داود: «جري بن كليب صاحب قتادة لم يرو عنه غير قتادة».
(5) في (ك): «بعصباء».
(6) في (ق): «ويترك».
(7) في (ف): «وهو» وفي (ح): «هي».
(8) في (أ) و(ف): «حليسًا». وفي (ق): يشبه «شعر خلسًا».
(9) في (ح): «ما ذكره».
(10) في (ف): «تجمع» بلا واو.
(11) في (ك) و(ق): «الحد» وفي (ح): «الحذف».
(12) في (ح): «منه».
(13) قوله: «قوله» سقط من (أ).(5/361)
فياحَجَر (1) الشَّحذِ حتَّى متىتسن الحديدَ ولا تقطُع ؟
وفيه (2) الأمر بحدِّ آلة الذبح، كما قال في الحديث الآخر: «إذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة (3) ، وليحدَّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته (4) . وهو (5) من باب الرِّفق بالبهيمة بالإجهاز عليها، وترك التعذيب (6) ، فلو ذبح بسكين كالَّةٍ، أو بشيء (7) له حدٌّ، وإن لم يكن مجهزًا بل مُعذِّبًا فقد أساء، لكنه إن أصاب سنه الذبح؛ لم تحرم الذبيحة، وبئس ما صنع، إلا إذا لم يجد إلا تلك الآلة.
وفيه من الفقه: استحباب (8) العدد في الأضاحي، ما لم يقصد (9) المباهاة. وأن المضحِّي يلي ذبح أضحيته بنفسه؛ لأنَّه هو (10) المخاطب بذلك، ولأنه من باب التواضع. وكذلك الهدايا، فلو استناب مسلمًا جاز. واختلف في الذمي، فأجاز ذلك عطاء ابتداءً. وهو أحد قولي مالك. وقال في (11) قول له آخر: لا (12) يُجزئه، وعليه إعادة الأضحية. وكره ذلك جماعة من السلف، وعامة أئمة الأمصار، إلا أنهم قالوا: يجزئه (13) إذا فعل.
وفيه: استحباب إضجاع الذبيحة، ولا تذبح قائمة، ولا باركة. وكذلك مضى العمل بإضجاعها على الشِّق الأيسر؛ لأنَّه أمكن من ذبحها.
وفيه: استحباب وضع الرِّجل على جانب عنق الذبيحة. وهو المعبر عنه بالصِّفاح. وصفحة كل شيء: جانبه (14) وصفحه أيضًا، وإنما يستحب ذلك لئلا تضطرب الذبيحة =(5/362)=@
__________
(1) في (ق): «يا حجر».
(2) في (أ) و(ف): «فيه» بلا واو. وفي (ق): «ومنه».
(3) في (ف) و(ح): «الذبح».
(4) رواه مسلم (3/1548 رقم1955) في كتاب الصيد باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة.
(5) في (أ) و(ف) و(ق): «وهي».
(6) في (ق): «التعليب» وكتب في الهامش «التعذيب» وكتب فوقها (نخـ).
(7) في (ح) و(ك): «شيء».
(8) في (ح): «وفيه من الاستحباب».
(9) في (ق): «تقصد».
(10) قوله: «هو» سقط من (ك).
(11) في (أ): «له في».
(12) في (أ): «ولا».
(13) في (أ) و(ق) و(ف): «يجزي».
(14) في (ح): يشبه «جنبه».(5/362)
فتَزِلَّ يدُ الذابح عند الذبح (1) . وقد روي نهي عن ذلك، والصحيح: ما ذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وضعه رجله على صفاحهما (2) .
وفيه من الفقه: تعيين التسمية (3) ؛ فإنَّه قال: باسم الله، والله أكبر. وقد اختلف تعيين التسمية (4) في ذلك، فقال أبو ثور: التسمية متعينة (5) كالتكبير في الصلاة. وكافة العلماء على استحباب ذلك. فلو قال ذكرًا آخر فيه اسم من أسماء الله وأراد به التسمية جاز، وكذلك لو قال: الله أكبر - فقط – أو (6) : لا إله إلا الله، قاله ابن حبيب، فلو لم يرد التسمية لم تُجزيء (7) عن (8) التسمية، ولا تؤكل. قاله (9) الشافعي، ومحمد بن الحسن. وكره (10) كافة العلماء من أصحابنا، وغيرهم الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند التسمية في الذبح، أو ذكره، وقالوا: لا يذكر هنا (11) إلا الله وحده. وأجاز الشافعي الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الذبح.
وقوله: «اللهم تقبَّل من محمدٍ، وآل محمدٍ، ومن أمة محمد»؛ هذا دليلٌ للجمهور (12) على جواز قول المضحِّي: اللهم تقبل مني. على (13) أبي حنيفة؛ حيث كره أن يقول شيئًا من ذلك، وكذلك عند الذبح. وقد استحسنه بعض أصحابنا، واستحب بعضهم أن يقول ذلك بنص الآية: {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} (14) . وكره مالك قولهم (15) : اللهم منك، وإليك، وقال: هذه بدعة. وأجاز ذلك ابن حبيب من أصحابنا، والحسن.
قال الشيخ: وقد روى أبو داود (16) من حديث جابر بن عبدالله قال: ذبح النبي - صلى الله عليه وسلم - (17) يوم الذبح (18) كبشين أقرنين موجئين **في هذا الموقع تعليق في حاشية (ك) يراجع **، أملحين، فلما وجههما قال: إنى وجهت وجهى للذى فطر السَّموات والأرض حنيفًا} (19) ، وقرأ (20) إلى قوله: {وأنا أول المسلمين (21) } (22) ، اللهم منك وإليك عن محمد وأمته، باسم =(5/363)=@
__________
(1) قوله: «عند الذبح» سقط من (ح).
(2) لعلَّه يريد ما أخرجه عبدالرزاق (8608) عن معمر، عن عاصم، عن عكرمة: أن النبي ( رأى رجلاً أضجع شاة، فوضع رجله على عنقها، وهو يحد شفرته، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : «ويلك! أردت أن تميتها موتات، هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها». وهو مرسل.
(3) زاد بعدها في (ق): «متعينة كالتكبير».
(4) قوله: «تعيين التسمية» سط من (أ) و(ك) و(ف) و(ح) و(ق).
(5) في (ق): «معينة».
(6) في (ح): «أو قال».
(7) في (ح) و(ك): «يجز»، ولم تنقط في (ح) وفي (ق): «لم تجز».
(8) في (ق): «عند».
(9) في (ح): «قال».
(10) في (ك): «فكره».
(11) قوله: «هنا» سقط من (ك).
(12) قوله: «للجمهور» سقط من (ق).
(13) في (ح) و(ك) و(ق): «وعلى».
(14) الآية (127) من سورة البقرة.
(15) في (ف): «قوله».
(16) رواه الدارمي (2/75)، وابو داود (3/230 رقم2795) كتاب الضحايا، باب ما يستحب من الضحايا، وابن ماجه (2/43 رقم3121) كتاب الأضاحي، باب أضاحي رسول الله ( ، والطحاوي (4/177)، والبيهقي (9/287)، والمزي في "تهذيب الكمال" (34/164) من طرق، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي عياش، عن جابر بن عبدالله به.
ووقع عند ابن ماجه من طريق إسماعيل بن عياش: أبو عياش الزرقي وليس المغافري، وهو خطأ من إسماعيل بن عياش.
ورواه أحمد (3/375)، وابن خزيمة (4/... رقم (2899) من طريق إبراهيم بن سعد قال: حدثني محمد بن إسحاق قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري، عن خالد بن أبي عمران، عن أبي عياش، عن جابر به.
وهذا إسناد لا بأس به صححه ابن خزيمة والحاكم والذهبي. ورجاله ثقات سوى أبي عياش، لم يوثقه أحد، روى عنه جمع، وقال عنه الذهبي: شيخ. وقال الحافظ في "التقريب": مقبول.
(17) في (ح): «رسول الله ( ».
(18) في (ق): «الذبح» وكتب في الهامش «النحر» ووضع فوقها (نخـ).
(19) الآية (79) من سورة الأنعام.
(20) ما بين المعكوفين من "سنن أبي داود" (2795)، وبه يستقيم السياق.
(21) في (ك) و(ق) و(ح): «وأنا من المسلمين».
(22) الآية (163) من سورة الأنعام.(5/363)
الله، والله أكبر، ثم ذبح. فهذا الحديث حجَّة للحسن وابن حبيب (1) . وأما مالك: فلعل هذا الخبر (2) لم يبلغه، أو لم يصحّ عنده، أو رأى: أن العمل يُخالفه. وعلى هذا يدلّ قوله: إنَّه بدعة.
وفيه من الفقه ما يدلّ على جواز تشريك الرجل أهل بيته في أضحيته، وأن ذلك يجزىء عنهم. وكافة علماء الأمصار على (3) جواز ذلك. مع استحباب مالك أن يكون لكل واحدٍ من أهل البيت أضحية واحدة، وكان (4) أبو حنيفة، وأصحابه، والثوري يكرهون ذلك. وقال (5) الطحاوي: لا يجزيء. وزعم: أن الحديث في ذلك من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - منسوخ، أو مخصوص. ومن (6) قال بالمنع: عبدالله بن المبارك.
قال الشيخ: وهذه المسألة فيها نظر، وذلك: أن الأصل (7) أن كل واحد مخاطب بأضحية (8) ، وهذا متفق عليه، فكيف يسقط عنهم بفعل أحدهم؟! وقوله: «اللهم تقبَّل من محمد وآل محمد» ليس نصًّا في إجزاء ذلك عن أهل بيته، بل هو دعاء لمن ضحَّى بالقبول. ويدلُّ عليه قوله: «ومن أمة محمد»، وقد اتَّفق الكل: على أن (9) أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تجزىء عن أمته، ولو سُلِّم ذلك لكان يلزم عليه أن تجزىء أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - عن (10) آل النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كانوا، وإن لم يكونوا في بيته، ثم يلزم عليه ألا يدخل أزواجه فيهم؛ فإنَّهم ليسوا آلاً له (11) على الحقيقة اللغوية. وقد تقدَّم القول على آل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الزكاة (12) . والذي يظهر لي: أن الحجَّة للجمهور على ذلك: ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحَّى عن نسائه ببقرة، وروي: بالبقر. وأيضًا فلم يرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر كل واحدة من نسائه بأضحية، ولو كان ذلك؛ لنقل، لتكرار سِنِيِّ الضحايا عليهن معه، ولكثرتهن. فالعادة تقتضي أن ذلك لو كان لنقل كما نقل غير ذلك (13) من جزئيات (14) أحوالهن، فدلَّ ذلك على أنَّه كان يكتفي بما يضحِّي عنه وعنهن. والله أعلم. =(5/364)=@
__________
(1) في (ح): «ابن حبيب من أصحابنا».
(2) في (ك) و(ح) و(ق): «الحديث».
(3) في (ح): «وكافة العلماء على».
(4) في (ف): «فكان».
(5) في (ق): «قال» بلا واو.
(6) في (أ) و(ق) و(ك) و(ف): «وممن».
(7) قوله: «أن الأصل» سقط من (ق).
(8) في (ق): «بأضحيته».
(9) قوله: «أن» سقط من (ق).
(10) في (ح): «على» بدل «عن».
(11) في (ح) و(ك) و(ق): «آله».
(12) في (ح): «الزكه».
(13) في (ق): «غيره وذلك».
(14) في (ق): «من حركات» وكتب في الهامش «من جزئيات» ووضع (نسخه).(5/364)
وقد روى الترمذي (1) عن عطاء بن يسار، قال: سألت أبا أيوب الأنصاري: كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال: كان الرجل يضحِّي بالشاة عنه وعن أهل بيته (2) ، فيأكلون، ويطعمون حتى تباهى الناس فيها كما ترى. قال: هذا حديث حسن صحيح.
قال القاضي (3) : وضبطُ من يصحُّ أن (4) يُدخله الرجل عندنا أضحيته (5) بثلاث صفات:
أحدها: أن يكونوا من قرابته (6) ، وحكم الزوجين، وأمِّ الولد حكمهم عند مالك والكافة. وأباه الشافعي في أم الولد، وقال: لا أجيز (7) لها، ولا للمكاتب، والمدبر (8) ، والعبد أن يضحُّوا.
والثاني: أن يكونوا في نفقته (9) ، وجبت عليه، أو تطوّع بها.
والثالث: أن يكونوا في بيته، ومساكنته غير نائين عنه، فإنَّ انخرم شيء من هذه الشروط لم يصح اشتراكهم (10) في ضحيَّته. قال: ولا يجوز عند جميعهم شركة جماعة في ضحية يشترونها، ويذبحونها عن أنفسهم، أو في هدي إذا كانوا أكثر من سبعة. واختلفوا فيما (11) دونها. فمذهب الليث، ومالك: أن الشركة لا تجوز بوجهٍ فيها؛ كانت (12) بدنة، أو بقرة، أو شاة، أَهْدُوا أو ضحُّوا. وذهب جمهور العلماء من الحجازيين، والكوفيين، والشاميين: إلى جواز إشتراك (13) السبعة فما (14) دون ذلك في البقرة، والبدنة، في الهدي والضحيَّة (15) ، ولا تجزيء شاة إلا عن واحد.
وقد حصل من مجموع حديث عائشة وأنس وجابر أن الأولى في الأضحية نهاية الكمال في الخلق والصّفة. وهو متفق عليه، وأن الوجاء ليس بنقص (16) ؛ لأنَّه وإن كان نقصان عضو، فإنَّه يصلح اللَّحم ويُطَيِّبُه. وقد قلنا: إن الطيب في الأضحية: هو المقصود الأول. وأما العيوب الْمُنْقِّصة، فقال القاضي: أجمعوا أنَّ العيوب الأربعة المذكورة في حديث البراء (17) ؛ من: المرض، والعجف، والعور، =(5/365)=@
__________
(1) رواه ابن ماجه (3147)، والترمذي (1505) من طريق الضحاك بن عثمان، ورواه البيهقي (9/268) من طريق مالك. كلاهما - الضحاك ومالك -، عن عمارة بن عثمان بن عبدالله بن صياد، عن عطاء بن يسار به. وهذا إسناد صحيح.
(2) في (ك): «بينه».
(3) في (ف): «القاضي عياض».
(4) قوله: «يصح أن» سقط من (ح).
(5) في (ك) و(ح): «الرجل في الأضحية عندنا» وفي (ف): «عندنا في أضحيته» وقوله: «أضحيته» سقط من (ق).
(6) في (ق): «أن يكون من قرايبه».
(7) في (ف): «أخيز».
(8) في (ق): «ولا للمدبر».
(9) في (ق): «نفقة».
(10) في (ح) و(ك): «إشراكهم».
(11) في (ف): «فيمن».
(12) في (ف): «سواء كانت».
(13) في (ح) و(ك): «إشراك».
(14) في (ق): «فيما».
(15) في (ق): «والأضحية».
(16) في (ك): يشبه أن يكون «منقص»، وفي (ح): «منقص».
(17) رواه مالك في "الموطأ" (2/482)، وأحمد (4/301)، والدارمي (2/76) من طريق عمرو بن الحارث المصري.
ورواه أحمد (4/284 و289 و300)، والدارمي (2/76)، وأبو داود (3/235 رقم2802) كتاب الضحايا، باب ما يكره من الضحايا، وابن ماجه (2/1050 رقم3144) كتاب الأضاحي، باب ما يكره أن يضحي به، والترمذي (4/85 رقم1497) كتاب الأضاحي، باب ما لا يجوز من الأضاحي، والنسائي (7/214 رقم4381 و4382 و4383) كتاب الضحايا، باب ما نهى عنه من الأضاحي، من طريق سليمان بن عبد الرحمن. كلاهما - عمرو بن الحارث، وسليمان بن عبد الرحمن -، عن عبيد بن فيروز قال: سألت البراء بن عازب قلت: حدثني ما نهى عنه رسول الله ( من الأضاحي أو ما يكره؟ فذكره.
قال الترمذي: حسن صحيح.
قلت: وإسناده صحيح: عبيد بن فيروز وثقه أبو حاتم والنسائي وابن حبان وابن حجر، وباقي رجاله ثقات.(5/365)
والعرج لا تجزيء بها الضحيَّة (1) . وكذلك ما هو من (2) نوعها أشنع (3) ، كالعمى، وقطع الرِّجل. واختلف فيما عدا ذلك. فذهب قومٌ: إلى أنها تجزيء بكل عيب غير هذه الأربعة؛ إذ لم ينصَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على غيرها، وهو موضع بيان. وبه قال بعض أئمتنا البغداديين (4) . وذهب الجمهور إلى اعتبار ما كان نقصًا وعيبًا، ثم اختلفوا في أعيانها على ما ترتَّب في كتب الفقه.
قال: ولم يخرج البخاري، ولا مسلم (5) حديث عيوب الضحايا؛ لأنَّه مما تفرَّد (6) به عبيد بن فيروز، ولا يُعرف إلا (7) بهذا الحديث. وقد (8) أدخله مالك في "الموطأ" لما صحبه عنده (9) العمل من المسلمين، ولاتفاقهم على قبوله (10) .
قال الشيخ: يعني القاضي: حديث البراء (11) الذي خرَّجه مالك عن عمرو بن الحارث المصري (12) عن عبيد بن فيروز، عن البراء بن عازب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئل: ماذا يُتَّقى من الضحايا؟ فأشار بيده وقال: «أربع...»، وذكر الحديث. وهذا الحديث صحيح، وانفراد الثقة به (13) لا يضرُّه، وإنَّما لم يخرِّجه البخاري ولا مسلم؛ لأنَّه ليس على ما شرطاه في كتابيهما، وقد خرَّجه النسائي، والترمذي، وقال: حديث حسن، صحيح، غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبيد بن فيروز. وكذلك خرَّج النسائي (14) أيضًا حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه من طرق قال فيه: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذن، وألا نضحِّي بعوراء، ولا مقابلة (15) ، ولا مدابرة، ولا شَرْقاء، ولا خَرْقاء. وفي أخرى: ولا بتراء (16) (17) . وفي أخرى: ولا جدعاء. وصححه الترمذي.
وقوله: أمرنا (18) أن نستشرف العين والأذن. أي: نرفع نظرنا إلى ذلك، ونختار السالم من عيوب ذينك. ثم فسَّر ذلك (19) =(5/366)=@
__________
(1) في (ك): يشبه أن تكون «التضحية» وفي (ق): «الأضحية».
(2) في (ق): «في» بدل «من».
(3) في (أ): «امتنع».
(4) في (أ): «البغذاذين» بالذال المعجمة. وتراجع.
(5) في (أ) و(ف): «مسلم ولا البخاري».
(6) في (ح): «انفرد».
(7) قوله: «إلا» سقط من (أ).
(8) في (أ) و(ف) و(ق): «وأدخله».
(9) قوله: «عنده» سقط من (ق).
(10) في (ق): «قوله».
(11) تقدم تخريجه قبل قليل وفي (ق): «البر» كذا رسمت.
(12) في (ق): «المعري» وكتب في الهامش «المصري» ووضع فوقها (نسخة).
(13) قوله: «به» سقط من (ك).
(14) هذا الحديث يرويه عن علي رضي الله عنه ثلاثة من أصحابه:
الأول: شريح بن النعمان: رواه أحمد (1/128)، والدارمي (2/77)، والترمذي (4/86 رقم1498) كتاب الأضاحي، باب ما يكره من الأضاحي، والحاكم (4/224)، والبيهقي (9/275) من طريق إسرائيل.
ورواه أحمد (1/108 و149)، وأبو داود (3/237 رقم2804) كتاب الضحايا، باب ما يكره من الضحايا، والنسائي (7/217 رقم4385) كتاب الضحايا، باب المدابرة، والطحاوي (4/169)، والبيهقي (9/275) من طريق زهير.
ورواه أحمد (1/80)، وابن ماجه (2/1050 رقم3142) كتاب الأضاحي، باب ما يكره من الأضاحي، والنسائي (7/217) الموضع السابق، وابن الجارود (906)، والطحاوي (4/169)، والحاكم (4/224) من طريق أبي بكر بن عياش.
ورواه النسائي (7/217)، والطحاوي (4/169) من طريق زياد بن خيثمة.
ورواه أحمد (1/128) من طريق علي بن صالح. ورواه الترمذي (1498) من طريق شريك بن عبد الله ورواه النسائي (7/216) من طريق زكريا بن أبي زائده جمعيهم عن أبي إسحاق السبيعي عن شريح بن النعمان به. وهذا إسناد حسن لولا عنعنة أبي إسحاق وهو مدلس، وهذا الحديث مما قد دلسه، فقد رواه الحاكم (4/224) من طريق قيس بن الربيع قال: قلت لأبي إسحاق: ممن سمعته؟ قال سمعته من ابن أشوع.
قال ابن أبي حاتم في "العلل" (2/42): قال أبي: رأيت في كتاب عمر بن علي بن أبي بكر الكندي، عن أبيه، عن الجراح بن الضحاك الكندي، عن أبي إاسحاق، عن سعيد بن أشوع، عن شريح بن النعمان، عن علي، عن النبي ( بنحوه، وهذا أشبه.
قلت: فعرفنا الواسطة وهو سعيد بن أشوع، وهو لا بأس به، فيكون الإسناد حسنًا.
لكن يعكر عليه أن الدارقطني رواه في "العلل" (3/239) من طريق سفيان الثوري، عن ابن أشوع، عن شريح بن النعمان، عن علي موقوفًا. وقال الدارقطني: يشبه أن يكون القول قول الثوري.
الثاني: حجية ابن عدي: رواه عبدالرزاق (7/347 رقم13437)، وأحمد (1/95 و125)، وابن ماجه (2/1050 رقم3143)، وأبو يعلى (1/279 و456 رقم333 و615)، والطحاوي (4/169)، وابن خزيمة (2914)، وابن حبان (13/242 رقم5920)، والبيهقي (9/275) من طريق سفيان الثوري، ورواه الطيالسي (160)، وأحمد (1/105 و125 و152)، والدارمي (2/77)، والنسائي (7/217)، وابن خزيمة (2914)، والحاكم (1/468) و(4/225) من طريق شعبة.
ورواه أحمد (1/125 و152) من طريق حماد بن سلمة. ورواه الترمذي (1503)، والطحاوي (4/170) من طريق شريك. ورواه الطحاوي (4/169)، والبيهقي (9/275) من طريق حسن بن صالح. ورواه ابن خزيمة (2915)، والحاكم (1/468) و(4/224) من طريق أبي إسحاق. جكيعهم عن سلمة بن كهيل، عن حجية بن عدي، عن علي به.
وهذا إسناد حسن في المتابعات.
حجية بن عدي قال عنه الحاكم: من كبار أصحاب علي رضي الله عنه . وقال عنه الذهبي: صدوق إن شاء الله، وذكره ابن حبان وابن خلفون في الثقات. ووثقه العجلي، وقال ابن سعد: كان معروفً وليس بذاك. وقال ابن حجر: صدوق يخطئ. وقال ابن المديني: لا أعلم روى عنه إلا سلمة بن كهيل. وقال أبو حاتم: شيخ لا يحتج بحديثه شبيه بالمجهول.
الثالث: هبيرة بن يريم: ورواه عبالله بن أحمد في "زوائد المسند" (1/132)، وابن عدي في "الكامل" (2/163) من طريق محمد بن بكار مولى بني هاشم، عن الجراح والد وكيع، عن أبي إسحاق، عن هبيرة بن يريم، عن علي رضي الله عنه به.
وهذا إسناد حسن أيضًا لولا عنعنة أبي إسحاق.
وحاصل هذه الطرق الثلاث أن الحديث حسن أو صحيح إن شاء الله تعالى.
(15) في (ف) و(ق): «هي التي».
(16) قوله: «وفي أخرى ولا بتراء» سقط من (ق).
(17) في (ك): «بترماء» وكتب في الهامش «في النهاية لابن الأثير نهى أن يضحى بترماء وفي نسخة من هذا الشرح ببتراء وفي حديث آخر في النهاية بمبتورة».
(18) زاد بعدها في (ق): «رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ».
(19) قوله: «ذلك» سقط من (ح).(5/366)
بقوله: ولا نضحِّي بعوراء، وبما بعده.
و «المقابلة» هي: التي يقطع بعض أذنها، ويُترك مُعلَّقًا على وجهها. و «المدابرة»: أن يُترك معلَّقًا إلى خلفها. و «الشرقاء» هي (1) : المشقوقة الأذن طولاً. و «الخرقاء»: التي (2) خرق أذنها من غير شق. و«الجدعاء (3) »: المقطوعة الأذن. وظاهر (4) عطف هذه العيوب على العوراء - وهي لا تجزيء (5) باتفاق - ألا تجزيء الأضحية مع شيء من هذه العيوب. وهو أصل الظاهرية (6) ، لكن لما كانت العوراء مقيَّدة بالبيِّن عَوَرُها، كما قال في حديث البراء؛ تحققنا: أن المنهي عنه من هذه العيوب ما تفاحش منها، ولا شكَّ أن (7) ما أذهب الأُذن من هذه الأمور، أو جُلَّها لا تجزيء (8) به، وما لم يكن كذلك، فقال أصحابنا في المقطوع بعض أذنها إن زاد القطع على الثلث منع الإجزاء، وإن نقص عنه أجزأت. واختلف في الثلث. هل (9) تجزيء (10) أو لا (11) ؟ على قولين. وكذلك القول في البتراء، والنظر في آحاد العيوب، وتفصيل الخلاف يستدعي تطويلاً فلنقتصر على ما ذكرناه.
- - - - -
5 - ومن باب الذبح بما أنهر الدَّم
قولهم: «إنا لاقو العدو غدًا، وليست معنا مدى؟ فنُذَكِّي باللِّيط (12) »؛ وهو قطع القصب، والشَّصير (13) : قطعة العصا، والظُّرَرُ (14) : قطعة الحجر، ويجمع: ظِرَّان (15) ، كما قال (16) امرؤ القيس (17) . =(5/367)=@
__________
(1) في (ح): «هي التي».
(2) في (ف) و(ق): «هي التي».
(3) في (ف): «والجذعاء».
(4) في (ق): «فظاهر».
(5) في (ق): «لا ترى».
(6) في (ف): «الظاهرة».
(7) في (ح): «في أن».
(8) في (ك) و(ق) و(ف): «لا يجزيء».
(9) في (ق): «هي» بدل «هل».
(10) في (ك): «يجزيء».
(11) في (ق): «أولى» بدل «أو لا».
(12) في (ح): «والمذكى باليط» وفي (ق): «فنزكي باليط».
(13) في (ح): «القصيب والشعير» وفي (ق): «والشضير».
(14) في (ح): «والضرن» وفي (ق): «والضرر».
(15) في (ح): «ضران». وفي (ق): «ضرار».
(16) في (ح): «قال به».
(17) في "ديوانه" (.ص64)، وعجز البيت: صلابُ العجى مثلومها غير لأمعرا.(5/367)
تَطايَرُ ظِرَّانُ (1) الْحَصَى بمناسِمٍ (2)
ويقال عليها: المروة أيضًا، وكذلك رواه أبو داود (3) في هذا الحديث: أفنذكِّي (4) بالمروة؟ مكان « اللَّيط». والشِّظاظ: فِلقة العود. فهذه (5) . كلُّها إذا قطع بها الودجان (6) والحلقوم جازت الذبيحة؛ غير أنه لا يذبح بها إلا عند عدم الشِّفار وما يتنزل (7) منزلتها؛ لما تقدَّم من الأمر بحدِّ (8) الشِّفار، وتحسين الذَّبح، والنهي عن تعذيب البهائم. وقد نبَّه مالك على هذا لما ترجم على الذكاة بالشِّظاظ ما يجوز (9) من الذكاة (10) على الضرورة. ومعنى هذا السؤال: أنهم لما كانوا عازمين على قتال (11) العدو صانوا (12) ما عندهم من السِّيوف، والأسنه، وغير ذلك عن (13) استعمالها في الذَّبح؛ لأنَّ ذلك ربما يفسد الآلة، أو يعيبها (14) ، أو ينقص قطعها، ولم تكن (15) لهم سكاكين صغار مُعِدَّة للذَّبح، فسألوا: هل يجوز (16) لهم الذبح (17) بغير محدَّد (18) السِّلاح؛ فأجابهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يقتضي الجواز. وقد دخل في هذا العموم: أن كل آلة تقطع ذبحًا أو نحرًا فالذكاة (19) بها مبيحة للذبيحة، والحديد الْمُجْهِز أولى لما تقدَّم. ولا يستثنى من الآلات شيء إلا السنُّ، والظُّفُر على ما يأتي.
وقوله: «وذكر اسم الله»؛ ظاهر قوي في كون التسمية شرطًا في الإباحة؛ لأنَّه قرنها بالذَّكاة المشترطة (20) ، وعلَّق الإباحة عليهما (21) ، فقد صار كل واحد منهما شرطًا، أو جزء شرط في الإباحة. وقد تقدَّم هذا. والرواية الصحيحة المشهورة: أنهر (22) بالرَّاء. وذكر الخشني في شرحه هذا الحرف - بالزاى -. والنَّهز: بمعنى: الدَّفع (23) . وهذا توجيهٌ (24) للتصحيف (25) ، فلا يُلتفت إليه. =(5/368)=@
__________
(1) في (ح): «ضران». وفي (ق): «ضرار».
(2) في (ك): «بالمناسم».
(3) في "سننه" (3/247 رقم2821) كتاب الأضاحي، باب في الذبيحة بالمروة: ثنا مسدد، ثنا أبو الأحوص، ثنا سعيد بن مسروق، عن عباية بن رفاعة، عن أبيه، عن جده رافع بن خديج. وهذا إسناد حسن.
(4) في (ق): «أفنزكي».
(5) في (ق): «وهذ فهذه» كذا رسمت.
(6) في (ق): «الودجان» وكتب في الهامش «الودبجان» ووضع فوقها (نسخه).
(7) في (ق): «وما ينزل».
(8) من قوله: «وما يتنزل....» إلى هنا سقط من (ح).
(9) في (ق): «بما تجوز».
(10) في (ح): يشبه «المذكي».
(11) في (ح): يشبه «اقتتال».
(12) في (ف) و(ق): «وصانوا».
(13) في (ك): «من».
(14) في (ق): «ويعيبها».
(15) في (ق): «ولم يكن».
(16) في (ق): «تجوز».
(17) قوله: «الذبح» سقط من (ق).
(18) في (ق): «محدود».
(19) قوله: «بها» سقط من (ك).
(20) في (ق): «المشروطة».
(21) في (ف) و(ق): «عليها».
(22) في (ح): «أنها».
(23) في (ق): «الرفع».
(24) في (ق): «يوجبه».
(25) في (ك): «التصحيف».(5/368)
وقوله: «ليس السِّنّ، والظُّفُر»؛ ليس هنا للاستثناء، بمعنى: إلا. وظاهر هذا: أنه لا تجوز (1) الذكاة بهما على حال، سواء كانا متصلين بالمذكِّي، أو منفصلين عنه. قال القاضي أبو الحسن: وهذا (2) الظاهر من قول مالك من رواية ابن الموَّاز عنه. وروى ابن وهب عنه الجواز مطلقًا. وقيل: بالفرق بين المتصل منهما، فلا تجوز الذَّكاة (3) به، وبين المنفصل؛ فتجوز الذكاة (4) به، قاله ابن حبيب. فالأول: تمسُّك بالعموم، والثاني: نظرٌ للمعنى؛ لأنَّه يحصل بهما الذبح. وهو ضعيف؛ لأنَّه تعطيل للاستثناء المذكور في الحديث. والثالث: تمسُّك بأن الظُّفُر المتصل خنق، والسِّن المتصل نَهْشٌ. وربما جاء ذلك في بعض (5) الحديث. والمنفصل ليس كذلك، فجازت الذَّكاة (6) به (7) . والصحيح: الأول، وما عداه، ليس (8) عليه مُعوَّلٌ.
وقوله: «وسأحدِّثُك (9) ، أمَّا السِّنُّ: فعظمٌ. وأمَّا الظُّفُر: فمدى الحبش (10) »؛ ظاهر هذا أنَّه (11) من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو تنبية على تعليل منع التذكية بالسِّنُّ، لكونه عظمًا، فيلزم عليه (12) : تعدية المنع من السِّنِّ إلى كل عظم، من حيث: إنَّه عظم؛ متصلاً كان، أو منفصلاً. وإليه ذهب النخعي، والحسن بن صالح، والليث، والشافعي. وفقهاء أصحاب الحديث منعوا الذكاة (13) بالعظم، والظُّفر كيف كانا، وأجازوه بما عدا ذلك للحديث. وهو (14) أحد أقوال مالك، كما تقدَّم. وروي عن مالك التفريق بين السِّن والعظم. فأجازها بالعظم، وكرهها بالسنِّ (15) ، وهو مشهور مذهبه.
وقوله: «وأمَّا الظُّفُر فمدى (16) الحبش (17) »؛ يعني: أن الحبش (18) يذبحون بأظفارهم، ولا يستعملون السَّكاكين (19) في الذَّبح؛ فمَنَعَنا (20) الشرع من ذلك؛ لئلا نتشبَّه (21) بهم. فقيل: إنهم يغرزون (22) أظفارهم في موضع الذبح، فتنخنق (23) الذبيحة. وعلى هذا: فيكون محل المنع (24) إنَّما هو الظُّفر المتصل، ويكون (25) حجَّة لما صار إليه ابن حبيب من ذلك.
وقد روى حديث ابن (26) رافع (27) هذا (28) غيرُ من ذكرناه، وقال فيه: «ما فرى (29) الأوداج وذكر =(5/369)=@
__________
(1) قوله: «تجوز» نقط ناسخ (ك) الحرف الأول باثنتين من فوق ومن تحت.
(2) في (ح) و(ك) و(ف) و(ق): «وهو».
(3) في (ح): يشبه «الذكوه».
(4) في (ح): يشبه «الذكوه».
(5) قوله: «بعض» سقط من (ق).
(6) في (ح): يشبه «الذكوه».
(7) قوله: «به» سقط من (أ) و(ف).
(8) في (ح) و(ك): «فليس».
(9) في (ك): «وشأحدثك».
(10) في (ق): « الحبشة».
(11) في (ق): «ظاهرًا أنه».
(12) في (ق): «منه» بدل «عليه».
(13) في (ح): يشبه «الذكوه».
(14) في (ف): «وهذا».
(15) قوله: «بالسن» سقط من (أ) و(ح).
(16) في (ك): «فمُدَ».
(17) في (ق): «الحبشة».
(18) في (ق): «الحبشة».
(19) في (ك): «السكالين».
(20) في (ح): «فمنع».
(21) في (ح): «تشبه».
(22) في (ك): «يقرون».
(23) في (ق): «فتختنق».
(24) في (ق): «محمل».
(25) في (ف): «فيكون».
(26) قوله: «ابن» سقط من (أ) و(ك) و(ح) و(ق).
(27) أخرجه ابن أبي شيبة (19810) عن أبي خالد، عن ابن جريج، عمن حدَّثه، عن رافع بن خديج به نحوه.
(28) قوله: «هذا» سقط من (ق).
(29) في (ح) و(ك): «فأفرى».(5/369)
اسم الله عليه فكُلْه»؛ أي: ما قطع. وظا هره: الاقتصار في الذكاة على الودجين خاصَّة. وقال بذلك قومٌ منهم (1) : ابن عبَّاس، وعطاء. وقد روي عن مالك: أنَّه قال فيما قطعت أوداجه: أنَّه قد تَمَّت ذكاته. ومشهور مذهبه ومذهب أصحابه: اشتراط (2) قطع الحلقوم، والودجين، وهو قول الليث. وحكى عنه (3) البغداديون (4) : أنه يشترط قطع أربع: الثلاثة المذكورة، والمريء. وهو قول أبي ثور. ثمَّ اختلف أصحاب مالك في قطع أحد الودجين والحلقوم. هل هو ذكاة، أو لا؟ على قولين. وذهب الشافعي: إلى اشتراط الحلقوم والمريء دون الودجين، لكن من (5) تمامها (6) الودجان، ولا يجزيان دون الحلقوم والمريء (7) . والناس مجمعون: على أن الذَّبح مهما كان في الحلق تحت الغلصمة؛ فقد تَمَّت الذكاة.
واختلف فيما إذا ذبح فوقها وجازها إلى البدن؛ هل ذلك ذكاة أم لا؟ على قولين. وقد روي عن مالك: أنها لا تُؤكل، وقد (8) تمسك بقوله - صلى الله عليه وسلم - : «ما أنهر الدَّم...» من يجيز (9) نحر (10) ما يذبح، وذبح (11) ما ينحر، وأن (12) النَّحر والذبح ذكاة للجميع لإنهاره الدَّم. وهو قول عامَّة السلف، والعلماء، وفقهاء الأمصار، وأشهب من أصحابنا. ومالك كره (13) أكله مرة، وأخرى حرَّمه (14) . قال (15) ابن المنذر: ولا (16) أعلم (17) أحدًا حرَّم أكل شيء من ذلك كُلِّه، ولم يختلفوا: أن الذبح أولى في الغنم، والنحر أولى في الإبل، والتخيير في البقر. وقيل: الذبح أولى؛ لأنَّه الذي ذكره الله تعالى.
وقوله: «أَعْجِل وأَزني (18) »؛ هذا الحرف وقع في كتاب البخاري، ومسلم، وأبي داود. واختلف الرواة في تقييده (19) على أربعة أوجه:
الأول: قيَّده النَّسفي، وبعض رواة البخاري: أَرِنْ (20) . بكسر الراء، وسكون النون؛ مثل: أَقِم.
الثاني: قيَّده الأصيليُّ: أَرِني. بكسر النون بعدها ياء المتكلم (21) .
الثالث: قيَّده بعض رواة مسلم كذلك إلا أنَّه سكَّن الراء. =(5/370)=@
__________
(1) في (ف): «فمنهم».
(2) في (ح): «اشراط».
(3) قوله: «عنه» سقط من (ح).
(4) في (أ): «البغذاذيون» بالذال المعجمة.
(5) في (أ): «في».
(6) في (ف): «تمامها».
(7) قوله: «والمريء» سقط من (ق).
(8) في (ق): «فقد».
(9) في (ح): «يجز» وقوله: «يجيز» سقط من (ق).
(10) قوله: «نحر» سقط من (ح).
(11) في (ح): «أو ذبح».
(12) في (ق): «فقد».
(13) في (أ) و(ف): «يكره».
(14) في (أ) و(ف): «يحرمه».
(15) في (ق): «وقال».
(16) في (أ) و(ق) و(ف): «لا».
(17) في (ح) و(ك): «ولا نعلم».
(18) في (ك): «وأرن» وفي (أ) و(ف) و(ق): «أو أرني» وفي (ح): «أو أرن».
(19) في (ق): «تفسيره».
(20) "صحيح مسلم" (5509 و5544).
(21) "صحيح البخاري" (2507)، و"مسلم" (1968).(5/370)
الرابع: قيَّده (1) في كتاب أبي داود (2) بسكون الراء، ونون مطلقة. هذه التقييدات المنقولة.
قال الخطابي: وطالما استثبتُّ (3) فيه الرواة، وسألت عنه أهل العلم، فلم أجد عند أحد منهم ما يقطع بصحته.
تنبيه: قال بعض علمائنا في الوجه الأول: هو (4) بمعنى: قد (5) أنشط وأسرع. فهو بمعنى: أَعْجل. وكأنَّه (6) يشير إلى أنَّه شكٌّ وقع من أحد الرواة في أيِّ اللفظين قال النبي ( .
قال الشيخ: وهذه (7) غفلة؛ إذ لو كان من الأَرَنِ الذى بمعنى (8) النشاط؛ للزم أن يكون مفتوح الراء؛ لأنَّ ماضيه: أَرِن، ومضارعه: يأرن. قال الفرَّاء: الأَرَن: النشاط. يقال: أَرِنَ البعير بالكسر، يأرن بالفتح أرنًا: إذا مرح (9) مرحًا، فهو آرِنٌ؛ أي: نشيط. وقياس الأمر من هذا أن تُخْتَلَبَ (10) له همزة الوصل مكسورة وتفتح (11) الراء، فيقال: اِئْرَنْ كـ«ائذن»، من أَذِنَ يأذن. ولم يُرْوَ كذلك. وأمَّا تقييد الأصيليِّ: فقال بعضهم: يكون (12) بمعنى: أَرِني سيلان الدم.
قال الشيخ: وعلى هذا فيبُعدُ أن (13) تكون « أو» للشك، بل للجمع بمعنى الواو على (14) المذهب الكوفي؛ فإنَّه طلب الاستعجال، وأن يريه دم ما ذبح. وما وقع في كتاب مسلم من تسكين الراء: هو تخفيفٌ للراء (15) المكسورة وهي لغة معروفة، قرأ بها ابن كثير. وأما ما وقع في كتاب أبي داود: فقيل: هو بمعنى: أَدِم الحزَّ، ولا تفتر. من: رنوت؛ أي: أدمت النظر.
قال الشيخ: ويلزم على هذا: أن تكون مضمومة النُّون؛ لأنه أمرٌ من: رنا، =(5/371)=@
__________
(1) في (أ) و(ف): «قيد».
(2) في "سننه" (2821).
(3) في (ف): «استثبت».
(4) في (ق): «وهو».
(5) قوله: «قد» سقط من (ك) و(ف) و(ح) و(ق).
(6) في (ن): «فكأنه».
(7) في (أ): «وهذا».
(8) في (ق): «الذي هو معنى».
(9) في (ف): «أمرح».
(10) في (ك) و(ف) و(ق): «تجتلب».
(11) في (ق): «وبفتح».
(12) في (ح): «تكون».
(13) قوله: «أن» مكرر في (ف).
(14) في (ف): «وعلى».
(15) في (ح) و(ك): «الراء».(5/371)
يرنو (1) ، فتحذف الواو (2) لبناء الأمر، ويبقى ما قبلها مضمومًا على أصله، ولم يحقَّق ضبطه كذلك.
وقد ذكر الخطَّابي في هذه اللفظة أوجها محتملة لم يجيء بها تقييد عن (3) مُعْتبر، ولا صحَّت بها رواية، رأيت الإضراب (4) عنها لعدم فائدتها، وبُعدها عن مقصود الحديث. وأثبت ما فيها (5) رواية، وأقربه (6) معنىً تقييد (7) مَنْ جعله من رؤية العين، وذلك أن اللِّيط والمروة (8) ، وما أشبههما مما ليس بمحدَّد (9) يخاف منه ألا يكون (10) مُجهِزًا، فإنَّ لم يستعجل بالمرِّ لم يقطع، وربما يموت الحيوان خنقًا، فإذا استعجل في المرِّ، ورأى الدَّم قد سال من موضع القطع فقد تحقَّق الذبح المبيح، والله أعلم بما أراد رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله: «ما أنهر الدم»؛ أي: ما أساله وصبَّه بكثرة (11) . ووزنه: أفعل، من النهر. شبَّه خروج الدَّم بجري الماء في النهر. و « ما» موصولة في موضع رفع بالابتداء، وخبرها: «كُلْه»، ودخلت (12) الفاء على (13) الخبر هنا كما دخلت في قوله تعالى: {وما (14) بكم من نعمة فمن الله} (15) ، ولا يلتفت لقول من تخيَّل أن ما أنهر الدَّم مفعوله بـ: أرني؛ لأنَّه يبقى:«فكله (16) » ضائعًا. فتأمله.
وقوله: «وأصبنا نهب إبل، وغنم، فندَّ منها بعيرٌ فرماه (17) رجل (18) بسهم، فحبسه»؛ النهب: الغنيمة، ومنه قول عباس بن مرداس (19) : أتجعل نهبي ونهب العبيد (20) ؛ أي: حقِّي (21) من الغنيمة. و « ندَّ (22) »: نفر وشذَّ عن الإبل.
وقوله: «إن لهذه الابل أوابد كأوابد الوحش، فإذا غلبكم منها شيء فاصنعوا به هكذا»؛ الأوابد: جمع آبدة، وهي التي قد (23) نفرت من الإنس، وتوحَّشت. =(5/372)=@
__________
(1) في (ح): «يرن».
(2) في (أ): «الوا».
(3) قوله: «عن» سقط من (ك).
(4) في (أ): «الاضطراب».
(5) في (ك): «فيها» وكتب فوقها «فيه» ووضع بجانبها (خ) وفي (ح): «فيه» وفي (ق): «فيه» وكتب في الهامش «فيها» ووضع (نخـ).
(6) في (ف): «وأفرقه».
(7) قوله: «تقييد» سقط من (ك).
(8) في (ف): «المروة» بلا واو.
(9) في (ف): «بمجرد» وفي (ح): «بحديد» وكتب في الهامش «بمحدد».
(10) في (أ): «إلا أن يكون».
(11) في (ق): «بكثره».
(12) في (ق): «ودخل».
(13) في (ف): «في» بدل «على».
(14) في (ق): «فما».
(15) الآية (53) من سورة النحل.
(16) في (ك): «فعله» وكتب فوقها «فكله» وفي (ق): «فعله».
(17) في (أ): «فرمى».
(18) قوله: «فرماه رجل» مكرر في (ح).
(19) في (ف): «مروان».
(20) في "صحيح مسلم" (1060).
(21) في (ك) و(ح) و(ف) و(ق): «حظي».
(22) في (ح): «وفد» بدل «وند».
(23) قوله: «قد» سقط من (ق).(5/372)
يقال: أبدت البقرة، تأبد، وتَأْبُد، وتأبَّدت الديار: توحَّشت، وخلت من سُكَّانها. فالأوابد (1) : الوحش. قال امرؤ القيس (2) :
وقد أغْتَدِي والطَّيْرُ في وُكُناتِها بِمُتْجَرِدٍ (3) قيدِ الأوابدِ هَيْكَلِ
وظاهر هذا الحديث أن ما نفر (4) من الإنسي، ولم يقدر عليه جاز أن يُذَكَّى بما يُذكَّى به الصيد (5) . وبه قال أبو حنيفة، والشافعي، وقال مالك: لا يُؤكل إلا بذكاة الإنسيِّ بالنحر، أو الذبح (6) استصحابًا لمشروعية أصل ذكاته، ولأنه (7) وإن كان قد لحق بالوحش في الامتناع (8) ؛ فلم يلحق بها لا في النوع، ولا في الحكم. ألا ترى: أن ملك مالكه باقٍ عليه، واعتذر أصحابنا عن هذا الحديث بمنع ظهور ما ادُّعي ظهوره من ذلك؛ إذ (9) لم يقل فيه: إن السهم (10) قتله. وإنَّما قال: حبسه. ثم بعد أن حبسه فقد حصل مقدورًا عليه. فلا يؤكل إلا بالذبح أو النحر (11) ، ولا فرق بين أن يكون وحشيًّا، أو إنسيًّا.
وقوله: «وما (12) غلبكم منها (13) فاصنعوا به هكذا»؛ نقول بموجبه: أي: نرميه، ونحبسه (14) ، فإنَّ أدركناه حيًّا ذكَّيناه، وإن تلف بالرَّمي، فهل نأكله أو (15) لا؟ ليس (16) في الحديث تعيين أحدهما فلحق بالمجملات، فلا ينهض حجَّة، وحينئذ يبقى متمسك مالك واضح الحجَّة (17) ، والله تعالى أعلم. وقد استدل المخالف بما رواه الترمذي، وأبو داود عن أبي العشراء (18) ، عن أبيه قال: قال الشيخ: يا رسول الله! أما تكون في الذَّكاة (19) =(5/373)=@
__________
(1) في (ح): «والأوابد».
(2) في "غريب الحديث" لابن سلام (2/136).
(3) في (ك) و(ح) و(ف): «بمنجردٍ» . وفي (ق): «بمجرد».
(4) في (ح) و(ك): «ند».
(5) في (أ): «الطير».
(6) في (ح): «أو بالذبح».
(7) في (ق): «لأنه» بلا واو.
(8) في (ق): «بالامتناع».
(9) في (ق): «ولم» بدل «إذ لم».
(10) في (ق): «السم».
(11) قوله: «أو النحر» سقط من (ح) و(ك) و(ق).
(12) في (ح): «وإذا» وفي (ق): «فإذا».
(13) في (ق): «منها شيء فاصنعوا».
(14) في (ق): «برميه وبحبسه».
(15) في (ح) و(ك): «أم».
(16) في (ح): «فليس».
(17) في (ك) و(ف): «المحجة».
(18) في (ق): «الشعراء» وكتب في الهامش «العشراء» ووضع (نخـ).
(19) في (أ) و(ح) و(ف) و(ق): «تكون الذكاة» وفي (ك): «ما تكون الذكاة».(5/373)
إلا في الحلق واللَّبَّة؟ قال: «لو طعنت في فخذها (1) لأجزأ عنك» (2) . قال يزيد بن هارون: هذا في الضرورة. وقال (3) أبو داود: لا يصلح هذا إلا في المتردية، والنافرة، والمستوحش. وقد حمل ابن حبيب هذا الحديث على ما سقط في مهواة، فلا يوصل إلى ذكاته إلا بالطعن في غير موضع الذكاة. وهو (4) قول انفرد به عن مالك، وجميع أصحابه. وقد ألزمه بعض الأصحاب مذهب المخالف، فيجيز ذلك في النادِّ، والمستوحش، وهو إلزام صحيح؛ إذ كل واحد منهما غير مقدور على ذكاته في الحلق واللَّبَّة. وقد اعتذر أصحابنا عن هذا الحديث: بأنَّه ليس بصحيح؛ لأنَّ الترمذي قال فيه: حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث حمَّاد بن سلمة، ولا نعرف لأبي العشراء (5) عن أبيه غير هذا الحديث.
واختلفوا في اسم أبي العشراء (6) . فقال بعضهم: اسمه: أسامة بن قِهْطِم (7) . ويقال: اسمه: يسار (8) بن بَزْرٍ (9) ، ويقال: بَلْز (10) ، ويقال: اسمه عُطارد. نُسب إلى جدِّه، فهذا سند مجهولٌ، ولو سُلِّمت صحته لما كان فيه حجَّة؛ إذ مقتضاه جواز الذَّكاة في أي عضو كان مطلقًا؛ في المقدور على تذكيته وفي (11) غيره. ولا قائل به في المقدور عليه، فظاهره ليس بمراد قطعًا. وقول يزيد وأبي داود تأويل لهما غير متفق عليه، فلا يكون فيه (12) حجَّة. والله أعلم.
وقوله في "الأم": «فرميناه بالنبل حتى وهصناه (13) »؛ كذا الرواية في كتاب مسلم (14) بالواو. ومعناه: رميناه، وشدخناه حتى أسقطناه بالأرض. وفي غير كتاب مسلم: «رهصناه» بالرَّاء (15) . ومعناه: حبسناه بالرمي، وأوثقناه (16) . يقال: رهصني (17) فلان بحقه؛ أى: أخذني به (18) أخذًا شديدًا. =(5/374)=@
__________
(1) في (ق): «قطعت في نحرها».
(2) أخرجه الطيالسي (1216)، وابن أبي شيبة (5/393)، وأحمد (18947 و18950)، والدارمي (1972)، والبخاري في "الكبير" (2/22)، وابن ماجه (3148)، وأبو داود (2825)، والترمذي (1481)، والنسائي (4408)، وفي "الكبرى" (4497)، وأبو يعلى (1503)، وابن الجارود (901)، والبغوي في "الجعديات" (3357)، وابن قانع في "معجمه" (3/53)، والطبراني في "الكبير" (6719)، والإسماعيلي (3/756)، والبيهقي في "الكبرى" (9/246). كلهم من طريق حماد بن سلمة، عن أبي العشراء الدارمي، عن أبيه به.
وإسناده ضعيف أبو العشراء الدارمي مجهول، وفي سماعه من أبيه نظر. كما قال البخاري في "الكبير" (2/22). وقال الميموني: سألت أحمد بن حنبل عن حديث أبي العشراء في الذكاة؟ قال: هو عندي غلط ولا يعجبني، ولا أذهب إليه إلا في موضع الضرورة. انظر"العلل" للترمذي (2/634). وقال الذهبي في "الميزان" (4/552): أبو العشراء الدارمي لا يدرى من هو! ولا من أبوه.
(3) في (ق): «قال» بلا واو.
(4) في (ف) و(ق): «وهذا».
(5) في (ح) و(ك): «ولا نعرف عن أبي العشراء» وفي (ق): «ولا يعرف عن أبي الشعراء» وكتب في الهامش «العشراء» ووضع (نخـ).
(6) في (ق): «الشعراء» وكتب في الهامش «العشراء» ووضع (نخـ).
(7) كتب ناسخ (ف) في الهامش: «ذكر أبو نعيم الحافظ حسنا أبو الحسن أحمد بن مقسم قال ثنا عبد الله بن محمد ابن اسحق قال ثنا أحمد بن محمد بن غالب قال ثنا محمد بن سليمان التيمي قال ثنا مالك بن أنس قال حدثني حماد بن سملة عن أبي العشراء الفارسي عن أبيه قالقلت يا رسول الله فيم تكون الذكاة في الخاسرة أو اللبة قال لو طعنت في فخذها أجزأ عنك مشهور من حديث حماد غريب من حديث مالك عنه لم يكتبه إلا من هذا الوجه» وكتب تتميم وصح.
(8) في (ح) و(ك) و(ق): «سيار».
(9) في (ق): «سيار بن نور».
(10) في (ح): «بز» وفي (ق): «بكر».
(11) قوله: «في» سقط من (ق).
(12) قوله: «فيه» سقط من (ح) و(ك) و(ق).
(13) في (ق): «وأوقفناه».
(14) (3/1559 رقم1968/22) في الأضاحي، باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلا السن والظُفر والعظام.
(15) جاء في المطبوع من "أحكام القرآن" للجصاص (3/304)، وقال سفيان: وزاد إسماعيل بن مسلم: فرميناه بالنبل حتى رهصناه، وكذا ذكره ابن الأثير في "النهاية" (2/282): «رهصناه» بالراء.
(16) في (ق): «وأوقفناه».
(17) في (ح) و(ق): «رهضني».
(18) قوله: «به» سقط من (ق).(5/374)
وقوله: «فأصبنا غنمًا وإبلاً (1) ، فعجل القوم، فأغلوا بها القدور، فأمر بها، فكفئت»؛ اختُلف في سبب أمره - صلى الله عليه وسلم - بإكفاء القدور، فقيل فيه أقوال كثيرة، أشبهها قولان:
أحدهما: أنهم (2) انتهبوها متملكين لها من غير قسمة، ولم يأخذوها بجهة القسمة العادلة، وعلى (3) وجه الحاجة لأكلها، ويشهد لهذا قوله في بعض الروايات: «فانتهبناها» (4) .
الثاني (5) : أن ذلك إنما كان لتركهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في أخريات القوم، واستعجالهم للنهب (6) ، ولم يخافوا من مكيدة العدو، فحرمهم الشرع ما استعجلوه عقوبة لهم بنقيض قصدهم، كما منع القاتل من (7) الميراث. قاله المهلب.
قال الشيخ: ويشهد لصحة هذا (8) التأويل مساق (9) حديث أبي داود؟ فإنَّه قال فيه: وتقدم (10) سرعان الناس، فتعجَّلوا، فأصابوا من الغنائم، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر الناس» (11) . و « كفئت»: قلبت. وهذه (12) الرواية الصحيحة المعروفة في اللغة. يقال: كفأت الإناء: قلبته وكببته. وزعم ابن الأعرابي: أن: «أكفأته» لغة.
وقوله: «ثمَّ عدل عشرًا من الغنم بجزور»؛ يعني: أنه - صلى الله عليه وسلم - قسم ما بقي من في (13) الغنيمة على الغانمين، فجعل عشرة من الغنم بإزاء جزور، ولم يحتج إلى القرعة، لرضا كل واحد منهم بما صار إليه من ذلك. ولم يكن بينهم تشاحٌ (14) في شيء من ذلك، والله تعالى أعلم. وكأنَّ هذه الغنيمة لم يكن فيها إلا الإبل، والغنم. ولو (15) كان فيها غيرهما (16) : لقوَّم جميع الغنيمة (17) ، ولقسم على القيم. =(5/375)=@
__________
(1) في (ح): «إبلاً وغنمًا».
(2) في (ق): «أنه».
(3) في (أ) و(ك) و(ف) و(ق): «ولا على».
(4) أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (2637)، وابن ماجه (3938)، والطبراني في "الكبير" (1374 و1378). كلهم من طريق أبي الحوص، عن سماك بن حرب، عن ثعلبة بن الحكم به. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (4/165): «إسناده صحيح».
(5) في (ف): «والثاني».
(6) في (ك): «النهب».
(7) قوله: «من» سقط من (ك).
(8) في (ك): «ويشهد لهذا».
(9) في (ق): «سياق».
(10) في (ق): «وتقدموا».
(11) رواه أبو داود (3/247-248 رقم2821) في الضاحي، باب في الذبيحة بالمروة.
(12) في (ح): «فهذه».
(13) قوله: «في» سقط من (ك) و(ف) و(ح) و(ق).
(14) في (أ): «نتاج».
(15) في (ف): «فلو».
(16) في (ق): «غيره».
(17) في (ح): «المغنم».(5/375)
- - - - -
6 - ومن باب النهي عن أكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث ونسخه
حديث أبي (1) عبيد مولى ابن أزهر (2) ، وابن عمر يدلان: على أن عمر، وعليًّا، وابن عمر رضي الله عنهم، كانوا يرون بقاء حكم النهي عن ادِّخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، وأن ذلك ليس بمنسوخ، ولا مخصوصًا بوقت، ولا بقومٍ. وكأنَّهم لم يبلغهم (3) شيء من الأحاديث المذكورة - بعد هذا - الدالَّة على نسخ المنع، أو على أن ذلك المنع كان لعلَّة الدافَّة التي دفت عليهم. وإنما لم تبلغهم (4) تلك الأحاديث الرافعة (5) ؛ لأنَّها أخبار آحاد لا متواترة، وما كان كذلك صحَّ أن يبلغ (6) بعض الناس دون البعض. وظاهر النهي عن الادِّخار (7) التحريم. وقيل: كان محمولاً على الكراهة.
واختلف (8) في أول الثلاث (9) التي كان الادِّخار جائزًا فيها. فقيل: أولها يوم =(5/376)=@
__________
(1) في (أ): «حديثان» بدل: «حديث أبي».
(2) في (أ): «ابن ابي أزهر».
(3) في (ق): تشبه «تبلغهم».
(4) في (ق): «يبلغهم».
(5) في (ك): «الدافعة».
(6) في (ح) و(ق): «تبلغ».
(7) في ق): «ادخار».
(8) في (ح): «واختلفت».
(9) في (ح) و(ق): «الثلاث الأيام» وفي (ك): «الثلاثة الأيام».(5/376)
النحر. فمن ضحَّى فيه جاز له أن يمسك يوم النحر (1) ، ويومين بعده. ومن ضحَّى بعده أمسك ما بقي له من الثلاثة الأيام من يوم النحر. وقيل: أولها يوم يضحي، فلو ضحَّى في آخر أيام النحر؛ لكان له أن يمسك ثلاثة أيام بعده. وهذا الظاهر من حديث سلمة بن الأكوع، فإنَّه قال فيه: «من ضحَّى منكم فلا يصبحن (2) في بيته بعد ثالثة (3) شيء» (4) .
- - - - -
قال الشيخ رضي الله عنه: ويظهر من بعض ألفاظ أحاديث (5) النهي ما يوجب قولاً ثالثًا، وهو أن في حديث أبي عبيد: «فوق ثلاث ليال». وهذا يوجب إلغاء اليوم الذي ضحَّى فيه من العدد، وتعتبر (6) ليلته وما بعدها. وكذلك حديث ابن عمر فإنَّ فيه: «فوق ثلاث»؛ يعني: الليالي (7) . وكذلك: حديث سلمة فإنَّ فيه: «بعد ثالثة (8) ». وأما حديث أبي سعيد ففيه: «ثلاثة أيام **كذا في (أ) **». وهذا يقتضي اعتبار الأيام دون الليالي.
وقول عائشة: «دف ناسٌ من أهل البادية حضرة الأضحى»؛ الدفيف: =(5/377)=@
__________
(1) من قوله: «فمن ضحى فيه...» إلى هنا سقط من (ف).
(2) في (ف): «فلا يضحي».
(3) في (ك): «ثلاثة» وفي (ف): «ثلاث».
(4) سيأتي في باب الرخصة في ذلك، من كتاب الأضاحي.
(5) في (ح): «حديث».
(6) في (ق): «ويعتبر».
(7) في (ق): «يعني ثلاث ليالٍ».
(8) في (ق): «ثلاثة».(5/377)
الدبيب، وهو السير الخفي اللَّين. والدَّافة: الجيش الذين (1) يدبون (2) إلى أعدائهم، وكان هؤلاء ناسٌ ضعفاء فجازوا (3) دابين (4) لضعفهم من الحاجة والجوع.
و«حَضْرة الأضحى»؛ الرواية المعروفة بسكون الضاد، وهو منصوب على الظرف؛ أي: زمن حضور الأضحى، ومشاهدته. وقيَّده بعضهم: حضَرَة (5) - بفتح الضاد - وفي الصحاح يقال (6) : كلَّمته بحضرة من (7) فلان، وبمحضرته (8) ؛ أي: بمشهد منه (9) . وحكى يعقوب: كلَّمته بحضَر فلان - بالتحريك من غير هاء - كلمته بِحَضْرة فلان، وحُضرته، وحِضرته (10) .
وقوله: «يتخذون منها الأسقية، ويجملون فيها الودك»؛ الأسقية: جمع سقاء، كالأخبية: جمع خباء. ويجملون: يذيبون (11) . والودك (12) : الشحم. يقال: جملت الشحم، واجتملته: إذا أذبته. وربما قالوا: أجملت (13) . وهو قليل.
وقوله ( : «إنما نهيتكم من أجل الدافَّة التي دفَّت»؛ ونحو ذلك قال في حديث (14) سَلَمَة بن الأكوع. وهذا نصٌّ منه ( : على أن ذلك المنع كان لعلَّة، ولما ارتفعت (15) ارتفع المنع (16) المتقدِّم؛ لارتفاع موجبه، لا (17) لأنه منسوخ. وهذا يبطل قول من قال: إن ذلك المنع إنما ارتفع (18) بالنسخ. لا يقال: فقد (19) قال ( : «كنت نهيتكم عن (20) ادِّخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فادَّخروا». وهذا رفعٌ لحكم الخطاب (21) الأول (22) بخطاب متأخر عنه (23) . وهذا هو حقيقة النسخ؛ لأنَّا نقول: هذا لَعمرُ الله! ظاهر هذا الحديث، مع أنه يحتمل أن يكون ارتفاعه بأمرآخر غير النسخ، فلو لم يَرِد لنا نصٌّ (24) بأن المنع من الادِّخار ارتفع لارتفاع (25) علّته؛ لما عدلنا عن ذلك الظاهر، وقلنا: هو نسخ، كما قلنا (26) في زيارة (27) القبور، وفي الانتباذ في الحنتم المذكورين معه في حديث =(5/378)=@
__________
(1) في (ق): «الذي».
(2) في (ح) و(ك) و(ق): «يدفون».
(3) في (أ) و(ك) و(ح) و(ف) و(ق): «فجاوا».
(4) في (ح) و(ك) و(ق): «دافين».
(5) في (ق): «حضرة الأضحى».
(6) قوله: «يقال» سقط من (ق).
(7) قوله: «من» سقط من (ك) و(ح).
(8) في (ح): «كلمته بحضرة فلان وبحضرته وحضرته» وفي (ك): «وبمخفره».
(9) قوله: «منه» سقط من (أ) و(ح) و(ف) وقوله: «أي بمشهد منه» سقط من (ق).
(10) قوله: «وحِضرته» سقط من (ق).
(11) في (أ): «يذينون».
(12) في (ق): «الودك» بلا واو.
(13) في (ق): «قالا جملت» وكتب في الهامش «قالوا امجلت» ووضع فوقها (نخـ).
(14) في (ق): «في الحديث» وكتب في الهامش «في حديث» ووضع فوقها (نخـ).
(15) في (أ): «ارتفع».
(16) في (ف): «النهي».
(17) قوله: «لا» سقط من (ق).
(18) في (ك) و(ف) و(ح) و(ق): «إنما ارتفع».
(19) في (ق): «قد».
(20) في (ح): «من» بدل «عن».
(21) في (ح): «خطاب».
(22) قوله: «الأول» سقط من (ق).
(23) قوله: «عنه» سقط من (ح) و(ك) و(ق).
(24) في (ق): «نصح».
(25) في (ق): «لارتفاع» وكتب في الهامش «الارتفاع» ووضع فوقها (نخـ».
(26) في (ك): «قلناه».
(27) في (ق): «زيادة».(5/378)
بريدة المتقدِّم في باب: الجنائز (1) ، لكن النص الذي في حديث عائشة في التعليل بين: أن ذلك الرفع ليس للنسخ، بل لعدم العلة، فتعين ترك ذلك الظاهر، والأخذ بذلك الاحتمال لعضد (2) النص له. والله أعلم.
تنبيه: الفرق بين رفع الحكم بالنسخ، ورفعه (3) لارتفاع علّته (4) : أن (5) المرفوع بالنسخ لا يحكم به أبدًا، والمرفوع لارتفاع علته يعود الحكم لعود العلة. فلو قدم (6) على أهل بلدة ناسٌ محتاجون في زمان الأضحى، ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعةٌ يسدُّون بها فاقتهم إلا الضحايا، لتعيَّن (7) عليهم: ألا يدَّخروها (8) فوق ثلاث، كما فعل النبي ( .
وفي هذا الحديث أبواب من أصول الفقه. وهو: أن الشرع (9) يراعي المصالح، ويحكم لأجلها، ويسكت عن التعليل، ولما تصفح العلماء ما وقع في الشريعة من هذا؛ وجدوه كثيرًا، بحيث حصل لهم منه (10) أصل كلِّي وهو: أن الشارع مهما حكم فإنما يحكم لمصلحة، ثم قد يجدون في كلام الشارع ما يدلّ عليها، وقد (11) لا يجدون، فيسيرون (12) أوصاف المحل الذي يحكم فيه الشرع حتى يتبيَّن (13) لهم الوصف الذي يمكن أن يعتبره الشرع (14) بالمناسبة، أو لصلاحيَّته (15) لها، فيقولون:الشرع يحكم للمصلحة (16) ، والمصلحة لا تعدو أوصاف المحل (17) ، وليس في أوصافه ما يصلح للاعتبار إلا هذا، فتعيَّن (18) . وقد بيَّنا هذا في الأصول. والحمد لله.
وقوله: «فكلوا، وادَّخروا، وتصدَّقوا (19) »؛ هذه أوامر وردت بعد الحظر، فهل =(5/379)=@
__________
(1) مسلم (2/672 رقم977) في الجنائز، باب استئذان النبي ( ربه عز وجل في زيارة قبر أمه.
(2) في (ح) و(ك) و(ق): «لقصد».
(3) في (ف): «وبين رفعه».
(4) في (ف): يشبه «عليه».
(5) في (ق): «إذ».
(6) في (ق): «تقدم».
(7) في (ك): «تعين».
(8) في (ح): «يدخرونها»، وفي (ك): «يدخروا».
(9) في (ق): «المشرع».
(10) قوله: «منه» سقط من (ق).
(11) قوله: «قد» سقط من (ف).
(12) في (ك) و(ح) و(ف): «فيبرون» وفي (ق): «فليسيرون».
(13) في (ق): «يبين».
(14) في (ق): «يعتبروه الشارع».
(15) في (ك): «بصلاحيته».
(16) في (ك): «لمصلحة».
(17) من قوله: «الذي يحكم فيه الشرع...» إلى هنا سقط من (ح).
(18) في (ق): «فيتعين».
(19) في (ق): «وتصرفوا».(5/379)
تقدُّمه عليها يخرجها (1) عن أصلها من الوجوب عند (2) من يراه، أو لا يخرجها (3) ؟ اختلف الأصوليون فيه على قولين، وقد (4) بيَّناهما، والمختار منهما (5) في الأصول. والظاهر من هذه الأوامر (6) هنا: إطلاق ما كان ممنوعًا، بدليل اقتران الادِّخار مع (7) الأكل، والصدقة، ولا سبيل إلى حمل الادِّخار (8) على الوجوب بوجه، فلا يجب الأكل، ولا الصدقة من هذا اللفظ. وجمهور العلماء على أن الأكل من الأضحية (9) ليس بواجب. وقد شذَّت طائفة فأوجبت الأكل منها تمسُّكًا بظاهر الأمر هنا، وفي قوله تعالى: {فكلوا منها} (10) . ووقع لمالك في كتاب ابن حبيب: أن ذلك على الندب، وأنه إن (11) لم يأكل مخطيء (12) . وقال أيضًا: لو (13) أراد أن يتصدَّق بلحم أضحيته كلِّه كان له (14) كأكله كلِّه حتى يفعل الأمرين.
وقال الطبري: جميع أئمة الأمصار على جواز ألا يأكل منها إن شاء، =(5/380)=@
__________
(1) في (ف): «يخرجه».
(2) في (ق): «عن» بدل «عند».
(3) في (أ): «ولا يخرجه» وفي (ف): «أو لا يخرجه».
(4) في (أ) و(ح) و(ف): «قد» بلا واو.
(5) في (ف): يشبه «منها» ومن قوله: «أو لا يخرجها ...» إلى هنا سقط من (ق).
(6) في (ف): «الأمور».
(7) في (ق): «و» بدل «مع».
(8) في (ف): «الاخار».
(9) في (ح): «الضحية».
(10) الآية (28) من سورة الحج.
(11) في (ح): «وإنه وإن» وفي (ق): «فإنه إن».
(12) في (ق): «فمخطيء».
(13) في (ق): «أو» بدل «لو».
(14) قوله: «له» سقط من (ك).(5/380)
ويطعم جميعها. وهو قول محمد بن المواز.
وقول ثوبان: «ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أضحيته (1) ، ثم قال: «يا ثوبان! أصلح لحم هذه»، فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة»؛ ظاهر هذا: أنه ضحَّى في السفر. وعليه: فيكون المسافر مخاطبًا بالأضحية (2) كما يخاطب بها (3) الحاضر؛ إذ الأصل عموم الخطاب بها. وقد قال ( : «أمرت بالأضحى، وهو لكم سُنَّة» (4) ؛ وهذا قول كافة العلماء. وخالف في ذلك أبوحنيفة، والنخعي، فلم يريا على المسافرين أضحية. وروي ذلك (5) عن عليّ (6) رضي الله عنه (7) . واستثنى مالك من المسافرين الحاج بمنى، فلم ير عليه أضحية. وبه قال النخعي، ويروى ذلك عن الخليفتين أبي بكر، وعمر، وابن عمررضي الله عنهم (8) ، وجماعة من السلف؛ لأنَّ الحاج إنما هو مخاطب في الأصل بالهدي، فإذا (9) أراد أن يضحِّي جعله (10) هديًا. والناس غير الحاج إنما أمروا بالأضحية ليتشبَّهوا بأهل منى، فيحصل (11) لهم حظ ** كذا في (أ) و(ك) ** من أجرهم (12) .
وقال الشافعي، وأبو ثور: الأضحية (13) واجبة على الحاج بمنى أخذًا بالعموم المتقدِّم. والقول ما قاله (14) الخليفتان رضي الله عنه ما؛ إذ قد أُمرنا بالاقتداء بهما، كما بيناه في الأصول. =(5/381)=@
__________
(1) في (ح) و(ك): «أضحية».
(2) قوله: «بالأضحية» سقط من (ق).
(3) قوله: «بها» سقط من (ق).
(4) سبق تخريجه في كتاب الصلاة، باب....
(5) قوله: «ذلك» سقط من (ق).
(6) في (ح): «علي بن أبي طالب رضي الله عنه».
(7) قال ابن حزم: «روينا من طريق النخعي: أن عمر كان يحج فلا يضحي. وهذا مرسل. ومن طريق الحارث عن علي: ليس على المسافر أضحية. والحارث كذَّاب.
وقال ابن حجر في "الدراية" (2/215): لم أجده. وقال الزيلعي في "نصب الراية" (4/ 211): غريب. وأخرجه ابن أبي شيبة (5059) عن جرير، عن منصور، عن طلحة، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبدالرحمن السلمي قال: قال علي: لا جمعة ولا تشريق ولا صلاة ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع أو مدينة عظيمة. قال حجاج: وسمعت عطاء يقول ذلك.
(8) أخرج عبدالرزاق (8139)، والبيهقي (9/265) عن الثوري، عن إسماعيل ومطرف، عن الشعبي، عن أبي سريحه قال: رأيت أبا بكر وعمر وما يضحيان.
و أخرج عبدالرزاق (8138) عن عبدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر؛ أنه كان لا يُضحَّي عنهم بمنى.
(9) في (ق): «وإذا».
(10) في (ق): «جعلها».
(11) في (ق): «فحصل».
(12) في (ح): «أجورهم» وفي (ق): «حظًا من أجورهم».
(13) قوله: «الأضحية» سقط من (ق).
(14) في (ف) و(ق): «وأخذ».(5/381)
8 - ومن باب إذا دخل العشر وأراد أن يضحي فلا يمسَّ من شعره
ولا من بَشَره شيئًا
أخذ (1) بظاهر هذا النهي أحمد، وإسحاق، وابن المنذر؛ فمنعوا ذلك. ورأى الشافعي: أن ذلك محمله (2) على الندب. وحكي عن مالك. والمشهور من مذهبه: أن ذلك يجوز. وهو مذهب أهل الرأي. وقال (3) الليث: قد جاء هذا الحديث، وأكثر الناس على خلافه. وقد استدل أصحابنا على الجواز بقول عائشة رضي الله عنه ا: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهدي من المدينة، فأفتل قلائد هديه، ثم لا (4) يجتنب شيئًا مما يجتنبه المحرم (5) . وظاهر هذا العموم: أنَّه ما كان يجتنب حلق شعر، ولا قص ظُفُر ولا غيرهما. قال الطحاوي: ولما رأينا الجماع الذي يُفسد الحج =(5/382)=@
__________
(1) في (ح): «وأخذ».
(2) في (ق): «يحمله» وكتب في الهامش «فحمله»، ووضع فوقها (نخـ).
(3) في (ق): «قال» بلا واو.
(4) في (ح) و(ك): «فلا».
(5) تقدم في لحج، باب من بعث بهدي لا يجتنب شيئًا مما يجتنبه المحرم.(5/382)
لا يحرم على من دخل عليه العشر وأراد الأضحية، وهو أغلظ؛ كان أحرى وأولى أن لا يحرم عليه (1) غير (2) ذلك.
وقوله (3) : «كنا في الْحَمَّام قبيل الأضحى، فاطَّلى ناسٌ. قُبيل: تصغير قبل؛ يعني به: يوم الأضحى. و « اطَّلى» يعني: بالنورة (4) ، وهو جائز للرجال والنساء؛ لأنَّه من باب إصلاح الجسد وتنظيفه، وإنما اختلف في كراهته في العشر (5) لمن أراد أن يضحِّي؛ لأنه مما تضمنه النهي المذكور.
وقوله: «إن سعيدًا كان يكرهه»؛ يدلّ: على أن مذهب سعيد في كراهة ذلك كان معروفًا. وهل تلك الكراهة بمعنى الحظر، أو بمعنى التنزيه؛ الأظهر منها (6) التنزيه.
وقول سعيد: «يابن أخي! هذا حديث قد ترك ونسي»؛ هذا منه إنكارٌ على من ترك العمل به. ألا ترى أن المعروف من مذهبه الكراهية (7) ؟! وقد حكى أبو عمر عن سعيد جواز ذلك، فيكون عنه (8) في ذلك قولان والله أعلم.
وقوله: «لا فرع ولا عتيرة»؛ قد فُسَّر الفَرَع في الحديث، غير أن أبا عبيد زاد (9) فيه زيادة (10) عن أبي عمرو، قال: الفَرَع، والفَرَعة -بنصب الراء-: هو أول ما تلده (11) الناقة، فكانوا يذبحون ذلك لآلهتهم، فنهي المسلمون عن ذلك. وقد أفرع القوم إذا بلغت إبلهم ذلك. وقال شمر (12) : قال أبو (13) مالك: كان الرجل في الجاهلية إذا تَمَّت =(5/383)=@
__________
(1) قوله: «يحرم عليه» لم يتضح في (ف).
(2) قوله: «غير» سقط من (ح).
(3) في (ق): «قوله» بلا واو.
(5) في (ق): «الشعر».
(6) في (ح) و(ف) و(ق): «منه».
(7) في (ف): «الكرهية» وفي (ق): «الكراهة».
(8) في (ح): «عليه»، وسقطت من (ك).
(9) في (ق): «قال» بدل «زاد».
(10) قوله: «زيادة» سقط من (ق).
(11) في (ق): «تلد».
(12) قوله: «شمر» لم تتضح في (ف) وفي (ق): «معمر» بدل «شمر».
(13) قوله: «أبو» سقط من (ف).(5/383)
إبله مائة قدَّم ذبحًا (1) ، فذبحه لصنمه، فذلك الفَرَع. وقد ذكر أبو عبيد أيضًا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن الفَرَع فقال (2) : «حق، وأن تتركه حتى يكون ابن مخاض، أو ابن لبون زُخْرُبًّا (3) ، خيرٌ من أن تكفيء (4) إناءك وتُوَلِّه ناقتك، وتذبحه (5) يلصقُ لحمه بوبره» (6) .
قال الشيخ رضي الله عنه: وعلى هذا: فالفَرَع هنا: إنما هو الصغير. ألا ترى أنه فسّره (7) بذلك، ولا فرق بين أوَّل النتاج، ولا بين ما بعده. والمعروف عند أهل اللغة: أنه أول النتاج؛ لأنَّهم (8) كانوا في الجاهلية يذبحونه لآلهتهم، فلما جاءهم الإسلام؛ ذبحوا (9) لله تعالى، استنانًا، كما فعلوا بالعتيرة، فنهى الشرع عن ذلك بقوله: «لا فَرَع، ولا عتيرة». حكى معنى ما (10) قال الشيخه (11) الحربيُّ.
وقوله في حديث أبي عبيد: «تُكفيءُ (12) إناءك»؛ جاء رباعيًّا، وقد قلنا: إن الأفصح الثلاثيُّ. ويعني بذلك: إنك (13) إذا ذبحت ولد الناقة انقطع لبنها، فانكفأ إناء اللَّبن؛ أي: قلب على فمه (14) لأنه فارغ من اللَّبن.
وقوله: «وتُولِّه ناقتك»؛ أي: تفجعها بفقد (15) ولدها حتى تُولَّه؛ أي: يصيبها الوَلَه. وهو: خَبَلان العقل. ومنه (16) الحديث: «لا تُولِّهُ والدة على ولدها» (17) .
و «الزُخْرُبُّ (18) »: الغليظ، وفيه: إرشاد إلى عدم ذبح الصغير من الأنعام لقلَّة طيبه، وعدم فائدته (19) ، ولما يترتب عليه من عدم اللبن، ووَلَه الأم (20) (21) . =(5/384)=@
__________
(1) في (ق): «ذبيحًا».
(2) في (ق): «قال».
(3) في (ق): «دخربًّا».
(4) في (ق): «يكفيء».
(5) في (ق): «ويذبحه».
(6) أخرجه عبدالرزاق (7961، 7995)، وابن أبي شيبة (8/238 و253)، وأحمد (6713 و6759 و6822)، وأبو داود (2842)، والنسائي (4223)، والحاكم (4/236 و238)، والبيهقي (9/300-312)، وابن عبدالبر في "التمهيد" (4/317). كلهم من طرق عن داود بن قيس، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، به.
وأخرجه النسائي (4225)، وفي "الكبرى" (4551) من طريق أبي علي الحنفي، عن داود بن قيس، سمعت عمرو بن شعيب بن محمد بن عبدالله بن عمرو، عن أبيه، [عن أبيه] وزيد بن أسلم...، فذكره.
وهذا يعني إتصال هذا الإسناد من ناحية عمرو بن شعيب، عن أبيه عبدالله بن عمرو، ولكن رواية شعيب، عن زيد بن أسلم مرسلة.
وفي الجملة فالحديث صححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال أحمد شاكر رحمه الله: إسناده صحيح.
(7) في (ح): «أنه قد فسره».
(8) في (أ) و(ف): «لكنهم».
(9) في (أ) و(ف): «ذبحوه».
(10) في (أ): «معناه».
(11) في (ح): «حكى معنى ما قاله».
(12) في (ق): «يكفيء».
(13) قوله: «إنك» سقط من (ح).
(14) في (ح): «فيه».
(15) في (ف): «فقد».
(16) في (ح): «ومته» بدل «ومنه».
(17) حديث ضعيف: أخرجه البيهقي (8/5) من طريق ابن لهيعة، عن عمر بن عبدالله مولى غفرة، عن يزيد بن إسحاق بن جارية الأنصاري؛ أنه أخبره أن عمر بن الخطاب حين خاصم إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه في ابنه فقضى به أبو بكر لأمه، ثم قال: سمعت رسول الله ( يقول: «لا توله والدة عن ولدها».
قال ابن الملقن في "الخلاصة" (2/62)، وابن حجر في "التلخيص" (3/15): إسناده ضعيف.
وأخرجه أبو عبيد في "غريب الحديث" كما في "تلخيص الحبير" (3/15( من مرسل الزهري. قال ابن حجر: وروايه عنه ضعيف.
وأخرجه البخاري في "الكبير" (6/477) في ترجمة عطاء بن نفادة الأسدي، ومن طريقه عن عيينة بن عاصم بن سعر، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله: «اهد لي ناقة حلبانه ركبانه غير أن لا توله ذات ولد عن ولدها» وعطاء بن قتادة مجهول كما في الجرح والتعديل 6/ 337).
قال ابن عدي في "الكامل" (6/418) في ترجمة مبشر بن عبيد من طريق بقية عنه، عن قتادة، عن أنس مرفوعًا: «لا توله والدة عن والدها».
قال ابن عدي: حديث قتادة غير محفوظ، لا يرويه عنه غير مبشر.اهـ بتصرف.
ومبشر بن عبيد هذا هو الحمصي أبو حفص كان يصنع الحديث. وقال أحمد بن حنبل: روى عنه بقية وأبو المغيرة أحاديث موضوعة كذب.اهـ.
ولمزيد التخريج انظر "تلخيص الحبير" (3/15)، و"الدراية" (2/81)، و"نصب الراية" للزيلعي (3/266).
(18) في (ف): «والزهريُّ» وفي (ح) و«والزخرف» وفي (ق): «والدخرب».
(19) في (ق): «ولعدم».
(20) في (ق): «الامام».
(21) زاد بعدها في (): «والله أعلم تم الجزء بحمد الله وعونه والحمد لله وحده.
يتلوه في أول الجزء الذي يليه كتاب الصيد والذبائح إلى آخره».
وإلى هنا انتهت المقابلة في (ف).(5/384)
كتاب اللباس
1 - باب تحريم لباس الحرير والتغليظ فيه على الرجال وإباحته للنساء (1)
قوله (2) : «حُلَّة سِيَرَاء»؛ قد تقدَّم ذكر الحلَّة في الجنائز، و «السِّيراء»: المخطط بالحرير، شُبِّهت (3) بالسِّيور خطوطها؛ قاله الأصمعي، والخليل، وغيرهما. والرواية: حُلَّة سيراء - بتنوين حلة، ونصب سيراء - على أن تكون صفة للحلَّة كأنه قال: مسيَّرة. كما قالوا: جبَّة طيالسيِة (4) ؛ أى: غليظة. قال الخطابي: حلَّة سيراء، كقولك (5) : ناقة عشراء. وبعضهم لا ينون الحلَّة، ويضيفها إلى سيراء. وكذلك رواه =(5/385)=@
__________
(1) من قوله: «باب تحريم ... إلى هنا» سقط من (أ) و(ك) و(ح) و(ق).
(2) في (أ): «وقوله».
(4) في (ق): يشبه «طيالسية».
(5) في (ق): «كقوله».(5/385)
ابن سراج. وكذلك قيدته على من يوثق بعلمه، وتقييده. فهو (1) على هذا من باب إضافة الشيء إلى صفته. كقولهم: ثوبُ خزٍّ، على أن سيبويه قال: لم يأت فعلاء صفة، وإنَّما سيراء تنزل (2) منزلة: مسيرة. والله تعالى أعلم.
وقوله: «لو اشتريت هذه فلبستها للوفد»، واقراره له (3) - صلى الله عليه وسلم - (4) على هذا القول؛ يدلّ على مشروعية التجمل للوفود، ومجامع المسلمين التي يقصد بها إظهار جمال الإسلام، والإغلاظ على العدو.
وقوله: «إنما يلبس هذه»، وفي رواية: «الحرير، من لا خلاق له في الآخرة» (5) ؛ الخلاق (6) : قيل فيه: الحظ، والنصيب، والقدر. ويعني (7) بذلك: أنه لباس (8) الكفار، والمشركين في الدنيا، وهم الذين لا حظ لهم في الآخرة.
واختلف الناس في لباس الحرير. فمن مانع، ومن مجوِّز على الإطلاق. وجمهور العلماء على منعه للرجال، وإباحته للنساء. وهو الصحيح لهذا الحديث، وما في بابه. وهي كثيرة. وأما إباحته للنساء فيدل عليها (9) قوله في هذا الحديث: «إنما بعثت بها إليك لتشققها خُمُرًا بين نسائك»، ولما خرَّجه النسائي (10) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال (11) : إن نبي الله (12) - صلى الله عليه وسلم - أخذ حريرًا في يمينه، وذهبًا في شماله، ثم قال: «إن هذين حرامٌ على ذكور أمتي، حل (13) لإناثها». قال علي بن المديني: حديث حسن، ورجاله معروفون (14) . وهذا كله في الحرير الخالص المصمت فأمَّا الذي سداه (15) حرير، ولحمته غيره: فكرهه مالك. وإليه ذهب ابن عمر (16) ، وأجازه ابن عباس (17) .
وأما الخز، فاختلف فيه على ثلاثة أقوال: الحظر، والإباحة، =(5/386)=@
__________
(1) في (ب): «وهو».
(2) في (أ) و(ح): «منزل» وفي (ك) و(ق): «يتنزل»..
(3) في (ق): «والخلاق».
(4) في (ح): «وإقراره ( له».
(5) مسلم (3/1639 رقم2608/7) في اللباس، باب تحريك استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب وغيره على الرجال والنساء.
(7) في (ب): «ونعني».
(8) في (ق): «لبساس» كذا رسمت.
(9) في (ب) و(ق): «عليه» وفي (ك): «عليها» وألحق في الهامش «عليه» ووضع فوقها (خ)..
(10) يرويه يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الصعبة عبدالعزيز بن أبي الصعبة، عن أبي أقلح الهمداني، عن عبدالله بن زرير. ورواه عن يزيد جماعة، وهم:
1 - الليث بن سعد: أخرجه أحمد (1/115) عن حجاج، وأبو داود (4/330- 4055) في اللباس، باب في الحرير للنساء، والنسائي (8/160 رقم5144) في الزينة، باب تحريم الذهب على الرجال. كلاهما عن قتيبة.
لكن رواه في رواية النسائي، أسقط: أبو الصعبة. وأخرجه النسائي (8/160 رقم5145) في الموضع السابق، عن عيسى بن حماد.
وأخرجه النسائي (8/160 رقم5146) في الموضع السابق، من طريق ابن المبارك.
وأخرجه الطحاوي (4/250) من طريق شعيب بن الليث.
لكن قالا: عن رجل من همدان، يقال له: أفلح. جميعهم - حجاج، وقتيبة، وعيسى بن حماد، وابن المبارك، وشعيب بن الليث -، عن الليث بن سعد.
قال النسائي: «وحديث ابن المبارك أولى بالصواب، إلا قوله: أفلح، فإن أبا أفلح أشبه».
سقط عند أبي داود: أبو الصعبة.
2 - محمد بن إسحاق: أخرجه أحمد (1/96)، وعبد بن حميد (ص55-56 رقم80)، والنسائي (8/160-161 رقم5147) في الموضع السابق، وأبو يعلى (1/235 و273-274 رقم272 و325)، والطحاوي (4/250)، ولبيهقي (2/425). جميعهم من طريق يزيد بن هارون. لكن سقط عند أحمد: أبو أفلح.
وأخرجه ابن أبي شيبة (5/152 رقم24649) في اللباس والزينة، باب في لبس الحرير، وكراهية لبسه، عن عبدالرحيم بن سليمان. ومن طريقه أخرجه ابن ماجه (2/1189 رقم3595) في اللباس، باب لبس الحرير والذهب للنساء.
وأخرجه البزار (3/102 رقم886/البحر الزخار) من طريق جرير. ثلاثتهم - يزيد بن هارون، وعبداللرحيم بن سليمان، وجرير -، عن محمد بن إسحاق.
3 - عبدالحميد بن جعفر: أخرجه البزار (3/103-104 رقم887/البحر الزخار) ولم يسق لفظه.
4 - ابن لهيعة: أخرجه الطحاوي (4/250). أربعتهم - الليث بن سعد، وابن إسحاق، وعبدالحميد بن جعفر، وابن لهيعة -، عن يزيج بن أبي حبيب، به.
يزيد بن حبيب ثقة فقيه، وكان يرسل كما ف ي"التقريب" (ص1073 رقم7751).
عبدالعزيز بن الصعبة: روى عنه اثنان، وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن المديني: ليس به بأس معروف. وذكر ابن يونس: أن يزيد بن أبي حبيب، تفرد بالرواية عنه. "تهذيب التهذيب"(2/587). وفي "التقريب" (ص612-613 رقم4129). أبو أفلح الهمداني: روى عنه جمع ، وقال العجلي: مصري ثقة. وقال الذهبي في "الكاشف" (2/408 رقم 6500): صدوق. وفي "التقريب" (ص1109 رقم8001): مقبول. وقال ابن القطان في "الوهم والإيهام" (5/179): مجهول.
عبدالله بن زرير: وثقه العجلي وابن سعد."تهذيب الكمال" (14/518)، وفي "التقريب" (ص507 رقم3342): ثقة رمي بالتشيع.
قال الدارقطني في "العلل" (3/260-262 رقم394) بعد أن حكى الاختلاف فيه: «والصحيح عن بن إسحاق قول يزيد بن هارون وجرير عنه لمتابعة عبدالحميد بن جعفر والليث إياهم».
قال الحافظ في "التلخيص الحبير" (1/53): «وبيَّن النسائي الاختلافات فيه على يزيد بن أبي حبيب، وهو اختلاف لا يضر، ونقل عبدالحق عن ابن المديني أنه قال: حديث حسن ورجاله معروفون».
والحديث صححه أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (2/185-186 رقم935)، والألباني قي تعليقه على "المشكاة" (2/1254 رقم4393).
وانظر "نصب الراية" (4/223)، و"الإرواء" (1/305 -309 رقم277).
(11) قوله: «قال» سقط من (ح).
(12) في (ق): «إن النبي ( ».
(13) في (ق): «حلال» وكتب في الهامش «حل» ووضع فوقها (خـ).
(14) في (ق): «معروف».
(15) في (ح): «سداها».
(16) سيأتي في باب ما يرخص فيه من الحرير.
(17) أخرجه الإمام أحمد (1/218) من طريق خصيف، قال: حدثني غير واحد، عن ابن عباس، عن المصمت منه، وأما العلم فلا.
وأخرجه أحمد (1/218)، وأبو داود (4/329 رقم4055) في اللباس، باب الرخصة في العلم وخيط الحرير، والطحاوي (4/255)، والبيهقي (2/424)، و(3/270) من طريق أبي داود وغيره. من طريق خصيف، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: «إنما نهى رسول الله ( عن الثوب المصمت من قز»، قال ابن عباس، أما السدى والعلم، فلا نرى به بأسًا.
وأخرجه أحمد (1/313 و321)، والطبراني في "الكبير" (11/344 رقم12232) كلاهما من طريق ابن جريج، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، فذكره.
وخصيف هو ابن عبدالرحمن الجزري، صدوق سيء الحفظ، خلط بأخرة، ورُمي بالإرجاء، كما في "التقريب" (ص297 رقم1728).
لكنه قد توبع على روايته. فأخرجه أحمد (1/313)، والحاكم (4/192) كلاهما من طريق ابن جريج، عن عكرمة بن خالد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فذكره.
قال الحاكم: «حديث صحيح على شرط الشيخين». ووافقه الذهبي، وصححه البيهقي في "شعب الإيمان" (5/140). وأخرجه الطبراني في "الكبير" (11/268 رقم11939)، البيهقي في "شعب الإيمان" (5/139-140 رقم6103) كلاهما من طريق عبدالسلام بن حرب، عن مالك بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس. وحسن إسناده الحافظ في "ألفتح" (10/294).(5/386)
والكراهة. وجل المذهب على الكراهة. واختلف فيه؛ ما هو؟ فقيل: ما سداه حرير (1) . قال ابن حبيب: ليس بين (2) الخز وما سداه حرير ولحمته قطن، أو غيره فرق إلا الاتباع، فإنَّه حكي إباحة الخز عن خمسة وعشرين من الصحابة (3) . منهم: عثمان بن عفان (4) ، وسعيد بن زيد (5) ، وعبد الله بن عباس (6) ، وخمسة عشر تابعيًّا، وكان عبدالله بن عمر يكسو بنيه (7) الخز (8) . وقيل في الخز: إنه يشبه الحرير، وليس به. ويكره لشبهه بالحرير (9) ، وللسَّرف.
وقوله: «فكساها عمر أخًا له مشركًا بمكة (10) »؛ قيل: إنه كان أخاه (11) لأمه. ذكره النسائي. وفيه ما يدل على جواز صلة القريب المشرك، وما يدل على أن عمر رضي الله عنه لم يكن من مذهبه: أن الكفار يخاطبون (12) بالفروع؛ إذ لو اعتقد ذلك لما كساه إياها (13) ، وهي تحرم عليه.
واختلف في علة تحريم الحرير للرجال (14) . فقال الأبهري: هي التشبه بالنساء. وقيل: ما يجرُّه من الخيلاء. وقيل: التشبه بالكفار الذين لا حظ لهم في (15) الآخرة. وهو الذي دلَّ (16) عليه الحديث.
وقوله: «إنما بعثت بها (17) إليك لتصيب بها»؛ أي: مالاً. وكذا جاء مفسَّرا في =(5/387)=@
__________
(1) في (ق): «الحرير».
(2) في (ق): «من».
(3) أخرج ابن أبي شيبة (24641) عن وكيع، عن إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن خيثمة: أن ثلاثة عشر من أصحاب النبي ( كانوا يلبسون خزًّا.
(4) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (3/56) من طريق الواقدي.
(5) ...
(6) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (6215) من طريق مالك بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ أنه كان يلبس الخز، وقال: إنما يكره المصمت حريرًا.
وأخرج ابن أبي شيبة (24631) من طريق أبي داود الطيالسي، عن عمران القطان: أخبرني عمار، قال: رأيت علي أبي قتادة مطرف خز، ورأيت على أبي هريرة مطرف خز، ورأيت على ابن عباس ما لا أُحصي.
(7) في (أ): «بيته».
(8) أخرجه ابن أبي شيبة (5/156 رقم24693) في اللباس والزينة، باب في القز والإبريسم للنساء، عن حفص، عن داود بن أبي هند، عن نافع، عن ابن عمر؛ أنه كان يكسو بناته خمر القز ونساءه. وسنده صحيح.
(9) في (ق): «للحرير».
(10) في (ق): «أخا له بمكة مشركًا بمكة».
(11) في (ق): «أخًا».
(12) في (أ) و(ح) و(ك) و(ق): «مخاطبون».
(13) في (ق): «إياه».
(14) في (ق): «على الرجال».
(15) في (أ) و(ح): «من».
(16) في (ق): «يدل».
(17) قوله: «بها» سقط من (ق).(5/387)
بعض طرقه (1) . ولم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر مثل الذي قال لأسامة، ولا لعلي: «لتشققها خمرًا بين نسائك». ولو سمع ذلك عمر لما سمع منه منع النساء من الحرير.
وقوله لعلي رضي الله عنه: «شققها خُمُرًا بين الفواطم»؛ قال ابن قتيبة: هنَّ (2) : فاطمة بنت النبي ( ، وفاطمة بنت أسد (3) بن هاشم - أم علي -، وهي أول هاشمية وَلَدت لهاشمي، قال: ولا أعرف الثالثة. قال الأزهري: هي: فاطمة بنت حمزة الشهيد. وقد روى أبو عمر بن عبدالبر (4) ، وعبدالغني الحافظ هذا الحديث، قالا (5) فيه: قال علي: فشققت منها أربعة أخمره (6) : خمارًا لفاطمة بنت أسد أم (7) علي، وخمارًا لفاطمة بنت محمد ( ، وخمارًا (8) لفاطمة بنت حمزة رضي الله عنهم. قال يزيد بن أبي (9) زياد: ونسيت الرابعة. قال بعض المتأخرين: الرابعة: فاطمة امرأة =(5/388)=@
__________
(1) سيأتي في باب من لبس ثوب حرير غلطًا.
(2) في (ك): «هي» بدل «هنَّ».
(3) في (ق): «أسيد».
(4) أخرجه الطحاوي (4/253-254)، وابن بشكوال في "غوامض الأسماء المبهمة" (1/428-429)، وابن عبدالبر في "التمهيد" (14/250-251). جميعهم من طريق عمران بن عيينة، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي فاختة، عن جعدة بن هبيرة، عن علي بن أبي طالب قال: أهدى أمير أذرعات إلى النبي ( حلَّة مسيرة بحرير إما سداها وإما لحمتها، فبعث بها إلي، فأتيته فقلت: يا رسول الله! ألبسها؟ قال: «لا، أكره لك ما أكره لنفسي، ولكن اجعلها خُمرًا بين الفواطم»، قال فقطعت منها أربع خُمر خِمارًا لفاطمة بنت أسد بن هاشم، أم علي بن أبي طالب، وخِمارًا لفاطمة بنت رسول الله ( ، وخِمارًا لفاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب، وخمارا لفاطمة أخرى قد نسيتها.
وفي سنده: عمران بن عيينة، صدوق له اوهام. "التقريب" (ص751 رقم5199).
ويزيد بن أبي زياد: ضعيف، كبر فتغيّر وصار يتلقن، وكان شيعيًّا. "التقريب" (ص1075 رقم7768).
(5) في (ب): «فقالا».
(6) في (ق): «خمرة».
(7) في (أ): «ابنة».
(8) في (ك): «وجمارًا».
(9) قوله: «أبي» سقط من (ك).(5/388)
عقيل بن أبي طالب؛ لاختصاصه (1) بعلي رضي الله عنه بالصهر، وقرنها (2) بالمناسبة. وقيل: فاطمة بنت الوليد بن عتبة. وقيل: فاطمة ابنة (3) عتبة.
وقوله: «أمر بعيادة المريض»؛ وهي زيارته، وتفقده. يقال: عاد المريض، يعوده، عيادة. و «تشميت العاطس»: بالشين المعجمة هو: الدعاء له (4) إذا عطس وحمد الله تعالى. فعلى السامع أن يقول له (5) : يرحمك الله. وسُمي (6) الدعاء تشميتًا؛ لأنَّه إذا استجيب للمدعو له فقد زال عنه، الذي تشمت (7) به عدوه لأجله. وقد يقال بالسين المهملة. قال (8) ابن الأنباري: يقال (9) : شَمَّتُ (10) فلانًا، وسَمَّت (11) عليه. فكل (12) داع بالخير: مشمت، ومسمت (13) . قال ثعلب: الأصل السين من السمت، وهو القصد، ومنه الحديث: فدعا لفاطمة وسمت عليها (14) .
و «إبرار المقسم» هو (15) : إجابته إلى ما حلف عليه، ولا يحنث (16) ، ولكن (17) إذا كان على أمر جائز. و «نصر المظلوم»: إعانته (18) على ظالمه، وتخليصه منه. و «إجابة الداعي» تعم (19) الوليمة وغيرها. لكن أوكد الدعوات: الوليمة. وقد تقدَّم الكلام فيها. و «إفشاء السلام»: إشاعته، ولا يخصنَّ (20) به من يعرف دون من لم يعرف. و «إنشاد الضالَّة»: هو التعريف بها. و « نشدتها»: طلبتها (21) . يقال: نشدت الضالَّة: طلبتها، وأنشدتها: عرَّفتها. و«المياثر»: جمع ميثرة (22) . وهي مأخوذة من الوثارة (23) ، وهي (24) : اللين والنعمة. ومنه قولهم: فراش وثير؛ أي: وطيء لين. وياء ميثرة؛ واو، لكنها انقلبت «ياء» لانكسار ما قبلها، كميزان، وميعاد.
واختلف فيها. فقال الطبري: هي: وطاء كان النساء يضعنه لأزواجهن من الأرجوان الأحمر، ومن الديباج على سرجهم (25) ، وكانت من مراكب العجم. والأرجوان: هو الصوف -بفتح الهمزة وضم الجيم-، وقال (26) الحربي عن ابن الأعرابي: هي كالمرفقة تتخذ كصفة السرج (27) . وقال غيرهما: هي أغشية السرج والحرير (28) . وقيل: هي جلود السِّباع. =(5/389)=@
__________
(1) في (ب) و(ك): «لاختصاصها» وكتب ناسخ (ك) فوقها. «صه» ووضع بجانبها (خ).
(2) في (ك) و(ق): «وقربها».
(3) في (ح): «بنت».
(4) قوله: «له» سقط من (أ).
(5) قوله: «له» سقط من (ح).
(6) في (ح): يشبه« ويسمي».
(7) في (أ) و(ق): «يشمت» وفي (ك): «تشمت».
(8) في (ق): «فقال».
(9) قوله: «يقال» سقط من (ق).
(10) في (ح): «سمَّت».
(11) في (أ): أعجمها من تحت إشارة إلى أنه يجوز فيها «شمَّت» أو «سمَّت» وفي (ك): «وشَمَّت عليه».
(12) في (ق): «وكل».
(13) في (ب) و(ح) و(ق): «مسمت ومشمت».
(14) ذكره ابن الأثير في "النهاية" (2/500) نقلاً عن الهروي والحافظ في "الفتح" (10/601)، ولم أجده مسندًا.
(15) في (ق): «القسم وهو».
(16) في (ب): «ولا يحنثه».
(17) في (أ) و(ب) و(ق): «لكن» بلا واو.
(18) في (ق): «بإعانته».
(19) في (ح) و(ق): «يعم».
(20) في (أ) و(ح) و(ك) و(ق): «ولا يخص».
(21) قوله: «يقال نشدت الضالة طلبتها» سقط من (ق).
(22) في (ق): «ميثر».
(23) في (ح): «الوثاد».
(24) في (ق): «وهو».
(25) في (ك): «سروجهم».
(26) في (ب) و(ق): «قال» بلا واو.
(27) في (ق): «السرج من الحرير».
(28) في (ب) و(ك): «أغشية السرج من الحرير»، وفي (ح): «أغشية مثل الحرير».(5/389)
قال الشيخ: فإنَّ كانت حريرًا فوجه النهي واضحٌ، وهو تحريم الجلوس عليها؛ فإنَّها حرير، ولباس ما يفرش (1) : الجلوس عليه. وعلى هذا جماهير الفقهاء من أصحابنا وغيرهم، خلافًا لعبد الملك من أصحابنا؛ فإنَّه أجازه (2) . ولم ير الجلوس على الحرير لباسًا، وهذا ليس بشيء، فإنَّ لباس كل شيء بحسبه، وقد (3) قال أنس رضي الله عنه: فقمت إلى حصير لنا قد اسودَّ من طول ما لبس (4) .
وأما من كانت عنده الميثرة من جلود السِّباع: فوجه النهي عنها أنها مكروهة؛ لأنَّها لا تعمل الذكاة فيها (5) . وهو أحد القولين فيها عند أصحابنا، أو لأنها لا تذكى غالبًا (6) . وأما من كانت عنده من الأرجوان الأحمر: فوجه النهي عنها: أنها تشبه الحرير، أو لأنها كانت من زي العجم (7) ، فيكون (8) من باب الذريعة. وهذا القول أبعدها، والله تعالى أعلم. =(5/390)=@
__________
(1) في (ح): «يفترش».
(2) في (ح): «فأجازه».
(3) قوله: «قد» سقط من (ق).
(4) تقدم في باب صلاة النفل في جماعة ، والصلاة على البسط وإن عتقت وامتهنت، من كتاب الصلاة.
(5) في (ح) و(ك): «فيها الذكاة» وزاد بعدها في (ق): «عند أصحابنا» وكأنه ضرب عليها.
(6) قوله: «أو لأنها لا تزكى غالبًا» سقط من (أ).
(7) في (ب) و(ق): «الأعاجم».
(8) في (ق): «فتكون».(5/390)
و «القسي» بفتح القاف، وقد أخطأ من كسرها. وهي منسوبة إلى القس: قرية من قرى مصر مما يلي الفَرَمَا. وهي مضلعة (1) بالحرير. وقال (2) البخاري (3) : فيها حرير مثال (4) الأترج. وقيل: إنه القزي (5) ، أبدلت الزاي سينًا. والإستبرق: فارسي عرَّبته العرب. وهو: غليظ الديباج. و «السندس»: ما رق منه. و « الديباج»: جنس (6) من الحرير الإستبرق (7) ، والسندس من أنواعه. و «الدهقان»: فارسي معرَّب، ويجمع دهاقين: وهم الرؤساء. وقيل: الكثير المال والتنعم، من الدهقنة، وهي: الامتلاء والكثرة. يقال: دهق لي دهقة (8) من المال؛ أي: أعطانيه. وأدهقت الإناء: ملأته. =(5/391)=@
__________
(1) في (ك) و(ح): «مظلعة» وفي (ق): «مطلعة».
(2) في (أ) و(ب) و(ك) و(ق): «قال» بلا واو.
(3) (10/292) باب القسي، من كتاب اللباس.
(4) في (ب): «أمثال».
(5) في (ح) و(ك) و(ق): «القز».
(6) قوله: «جنس» سقط من (ح).
(7) في (ق): «والاستبرق».
(8) في (ق): «دهقن لي دهقنة».(5/391)
- - - - -
2 - ومن باب ما رخص فيه من الحرير
مَنْعُ عبدالله العلم الحرير في الثوب؛ إنما كان لأنَّه تمسك بعموم النهي عن لبس الحرير، وكأنَّه لم يبلغه حديث عمر رضي الله عنه؛ الذي رواه عنه سويد بن غفلة الآتي في آخر الباب. والصواب: إعمال ذلك المخصص في النهي العام. ولأجل هذا المخصص قال ابن حبيب: إنه يرخص (1) في لبس العلم، والصلاة فيه وإن عظم.
قال الشيخ: ويعني بقوله: وإن عظم: إذا بلغ أربع أصابع؛ الذي هو غاية الرخصة المذكورة في الحديث. وروي عن مالك اختلاف في قدر الإصبع من الحرير يكون في الثوب، فنهى عنه مرة، وأجازه أخرى.
وقول ابن عمر في الجواب عن رجب: «فكيف بمن يصوم الأبد ؟!)) معناه: إذا كان صوم الأبد جائزًا (2) ، فكيف لا يكون صوم رجب كلَّه جائزًا. وهذا تكذيب لمن نقل عنه، وإبطال لقول من يقول بذلك (3) . وقد تقدَّم في كتاب الصوم الاختلاف (4) في صوم الأبد.
وقوله: «وأما ميثرة الأرجوان فهي (5) ميثرة عبدالله، فإذا هي أرجوان»؛ يعني: =(5/392)=@
__________
(1) في (ق): «رخص».
(2) في (ك): «جائز».
(3) في (ك): «وإبطال لمن تقول بذلك».
(4) في (ق): «اختلاف».
(5) في (ب): «فهذه».(5/392)
إنه كان يستعمل (1) ميثرة الأرجوان، فكيف يحرمها ؟! وهذا يبطل قول من فسَّر الميثرة المنهي عنها: بأنها من أرجوان. والأرجوان - بفتح الهمزة - ذكرها (2) الجوهري.
وقول أسماء: «هذه جبة رسول الله ( »؛ تحتجُّ بذلك على جواز العلم (3) في (4) الحرير، فإنَّ الجبَّة كان (5) فيها لبنة من حرير، وكانت (6) مكفوفة بالحرير. ووجه الاحتجاج بذلك: أنه إذا كان القليل من الحرير المصمت ** كذا في (أ) ** المخيط في الثوب جائزًا، كان العلم بالجواز أولى، ولا يلتفت إلى قول (7) من قال: إن ذلك الحرير وضع في الجبة بعد موت رسول الله ( (8) ؛ لأنَّه لو كان كذلك (9) لما احتجت به أسماء، ولكان الواضع معروفًا عندهم، فإنَّ الإعتناء بتلك الجبَّة كان شديدًا، وتحفظهم بها كان (10) عظيمًا؛ لأنَّها من آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتداولة عندهم للتذكر، والتبرك، والاستشفاء، فيبعد ذلك الإحتمال، بل يبطل بدليل قولها: «هذه كانت عند عائشة»، إلى آخر الكلام. فتأمَّله، فإنَّه يدلّ على ذلك دلالة واضحة.
وقولها: «طيالسة»؛ أي: غليظة. كأنَّها من طيلسان، وهو: الكساء الغليظ.
وقولها: «خسروانية» بالخاء المنقوطة من فوقها، وهي (11) رواية ابن ماهان. وبالكاف، رواية غيره. وهي في الحالتين (12) منسوبة إلى اسم أعجمي (13) ، كما قالوا: كسروانية فنسبوها إلى كسرى. والله تعالى أعلم. ووقع في بعض الروايات: «وفرجيها مكفوفين»؛ منصوبين على إضمار فعل؛ أي: ورأيت فرجيها مكفوفين (14) ، وعند =(5/393)=@
__________
(1) في (ق): «يستعمل».
(2) في (ح): «ذكره».
(3) في (ق): «المعلم».
(4) قوله: «في» سقط من (ح) و(ك)، وفي (ب) و(ق): «من».
(5) في (ق): «كانت».
(6) في (ق): «فكانت».
(7) في (ب) و(ح) و(ك) و(ق): «لقول».
(8) في (ق): «النبي ( ».
(9) في (أ) و(ح) و(ك): «ذلك» وكتب ناسخ (ك) فوقها (كذ» ووضع بجانبها (خ).
(10) قوله: «كان» سقط من (أ).
(11) في (أ) و(ب) و(ك) و(ق): «هي» بلا واو.
(12) في (ب): «الحالين».
(13) في (ح): «عجمي».
(14) من قوله: «منصوبين على...» إلى هنا سقط من (ق).(5/393)
الخشني، وغيره: «وفرجاها مكفوفان» مرفوعًا على الإبتداء والخبر، والواو حالية.
و «أُكَيْدر دُومة» هو ملك أيلة. أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حال شركه، ثم أسلم بعد ذلك. وأُكيدر: تصغير أكدر، وهو في الأصل: سواد يضرب إلى الغبرة. و «دومة» رواه المحدثون بفتح الدال وضمها. وحكاه ابن دريد بالفتح، قال: والمحدثون يقولونه (1) بالضم، وهو خطأ. وفيه دليل على جواز قبول هدايا المشركين. وقد تقدَّم في الجهاد.
وقوله (2) : «إنَّه ليس من كدِّك، ولا من (3) كدِّ أبيك»؛ يعني به: مال المسلمين، وهو ضمير يفسره الحال. والكدُّ: السعي والتعب.
وقوله: «فأشبع المسلمين مما تشبع منه»؛ أي: لا تستأثر (4) عليهم بشيء، ولا تختص به دونهم؛ أي (5) : أمره أن (6) يسوي بين نفسه وبين الناس فيما يأخذه من مال المسلمين، ثمَّ نهاه وحذره عن التنعُّم، وهو الترفه، والتوسُّع، وعن زي أهل الشرك؛ يعني بهم: المجوس؛ إذ لا يعني به (7) : مشركي العرب، فإنَّ زي العرب كلُّه واحد؛ مشركهم ومسلمهم. والزي: ما يتزيا الإنسان به؛ أي: يتزين. وذلك يرجع للهيئات (8) ، وكيفية اللباس، كما قال: «خالفوا المشركين، فإنَّهم لا يفرقون» (9) ، وفي آخر (10) : «فإنهم (11) لا يصبغون» (12) ، وفي آخر (13) : «خالفوا المجوس: جزوا الشوارب، وأوفوا اللحى» (14) . ومن هنا كره مالك رحمه الله ما خالف زي =(5/394)=@
__________
(1) في (ق): «يقولون».
(2) في (ب): «رواها».
(3) قوله: «من» سقط من (أ) و(ك) و(ح) و(ق).
(4) في (ح): يشبه «لا يستأثر» وفي (ق): «لا يستأثر».
(5) قوله: «أي» سقط من (أ) و(ك) و(ح) و(ق).
(6) في (ق): «أمر بأن».
(7) في (ق): «بهم».
(8) في (ب) و(ح): «إلى الهيئات».
(9) لم أقف عليه. وإنما أراد المؤلف حديث ابن عباس قال: كان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه، فسدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناصيته، ثم فرق بعد.
أخرجه البخاري (5917)، ومسلم (2336).
(10) في (ح): «أخرى».
(11) قوله: «فإنهم» سقط من (ح).
(12) سيأتي في باب ما جاء في صبغ الشعر.
(13) في (ق): «أخرى».
(14) تقدم في باب خصال الفطرة والتوقيت فيها، من كتاب الطهارة.(5/394)
العرب جملة واحدة.
و « لبوس الحرير»: لباسه. يقال: لبس الثوب لباسًا، ولبوسًا.
وقد روى غير مسلم حديث أبي عثمان (1) هذا، وقال فيه: أتانا كتاب عمر ونحن بأذربيجان مع عتبة (2) بن فرقد، قال فيه: أما بعد: فاتزروا (3) ، وارتدوا، وانتعلوا، واتقوا الخضاب (4) ، والسراويلات، وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل، وإياكم والتنعم، وزي العجم، وعليكم بالشمس فإنَّها حمام العرب، وتمعددوا، واخشوشنوا، واخشوشبوا (5) ، واخلولقوا، وا قطعوا الرَّكب، وانزوا (6) ، وارموا على الأغراض.
وقوله (7) : «فإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الحرير إلا هكذا» وضم أصبعيه: السبابة والوسطى؛ يعني: الأعلام.
وقوله: «فرُئِيتها (8) أزرار الطيالسة »؛ الأزرار: جمع زر (9) ، وهو: ما يزرر (10) به الثوب بعضه على بعض. ومنه: زررت (11) عليَّ قميصي. ويعني به: أطراف الطيالسة. وهي (12) : جمع طيلسان، وهو الكساء، أو الثوب الذى له علم، وكأنَّها كانت (13) لها أعلام من حرير. =(5/395)=@
__________
(1) أخرجه البغوي في "الجعديات" (ص156 رقم995)، ومن طريقه السمعاني في "أدب الإملاء والاستملاء" (ص118)، وكذا الإسماعيلي كما في "فتح الباري" (10/286) عن علي بن الجعد، عن شعبة، عن قتادة.
وكذا أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (12/268-269 رقم5454) من طريق عيسى بن يونس، عن شعبة، عن قتادة.
وأخرجه الخطيب البغدادي في "الكفاية في علم الرواية" (ص336) من طريق وهب بن جرير، عن شعبة، عن قتادة.
وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" كما في "نصب الراية" (4/226) من طريق أبي النضر، عن شعبة، عن قتادة.
وأخرجه البغوي في "الجعديات" (ص156 رقم996)، من طريق علي بن الجعد، عن شعبة، عن عاصم الأحول.
وأخرجه البيهقي في "سننه" (10/14) من طريق آدم بن أبي إياس، عن شعبة، عن عاصم الأحول.
وأحمد في"المسند" (1/43) عن يزيد، عن عاصم.
والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/75 رقم6865) من طريق يزيد، عن عاصم.
وأبو يعلى في"مسنده"(1/189-190 رقم213) من طريق حماد بن سلمة، عن عاصم، كلاهما؛ قتادة وعاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي قال: أتانا كتاب عمر... الحديث.
(2) في (ح): يشبه «عقبه».
(3) في (ك) و(ق): «فايتزروا».
(4) في (ب) و(ق): «الخفاف» وفي (ك): «وألقوا الخفاف».
(5) قوله: «واخشوشبوا» سقط من (ب) و(ح).
(6) في (ق): «وانزوا» وكتب في الهامش «وانزلوا» ووضع فوقها (نخـ).
(7) قوله: «وقوله» سقط من (أ).
(8) في (ح): «فرتها» وفي (ق): «فرتيها».
(9) في (ح): «رز».
(10) في (ق): «يزر».
(11) في (ق): «زرت».
(12) في (ق): «وهو».
(13) قوله: «كانت» سقط من (ق).(5/395)
وقوله: فما عتَّمنا: أنه يعني به: الأعلام؛ كذا رواية (1) الصدفي، والأسدي. ومعنى ذلك: أنا لم نتردد، ولم نبطئ. ورواه الطبري، وغيره: فما علمنا إلا أنه يريد الأعلام. وهو واضح. وكذا رواه قاسم بن أصبغ. وأما حديث سويد بن غفلة الذي قال فيه: إلا موضع أصبعين، أو ثلاث، أو أربع. فذكر (2) الدارقطني (3) : أنَّه لم يرفعه عن الشعبي إلا قتادة. قال: وهو مدلس. وقد رواه جماعة من الأئمة الحفاظ موقوفًا على عمر قوله. وقد تقدَّم في أول الباب ذكر الخلاف في العلم ومقداره. =(5/396)=@
__________
(1) في (ق): «رواه».
(2) في (ق): «فقد ذكر».
(3) قال الدارقطني في "العلل" (2/153-154 رقم180): «رواه الشعبي عن سويد واختلف عنه، فرواه قتادة، عن الشعبي، عن سويد، عن عمر، عن النبي ( ، حدث به هشام الدستوائي وسعيد بن أبي عروبة عن قتادة وكذلك روى عن سعيد بن مسروق عن الشعبي عن سويد عن غفلة عن عمر عن النبي ( ورواه مسعر، عن وبرة بن عبدالرحمن، عن الشعبي، عن سويد، عن عمر موقوفًا غير مرفوع. وتابعه حصين بن عبدالرحمن، وإسماعيل بن أبي خالد، ومحمد بن قيس الأسدي، وزكرياء بن أبي زائدة، وعبدالله بن أبي السفر، وداود بن أبي هند، وسيار أبو الحكم، وبيان بن بشر، فرووه عن الشعبي، عن سويد بن غفلة، عن عمر، قوله. وكذلك رواه عبدة بن أبي لبابة، وعمران بن مسلم، عن سويد بن غفلة، عن عمر قوله. رواه أبو حصين عن إبراهيم؛ يعني ابن عبد الأعلى، عن سويد بن غفل، عن عمر قال: لم يرخص رسول الله ( في الديباج إلا موضع أربع أصابع فنحا به نحو الرفع. ورواه الحكم، عن خيثمة، عن سويد بن غفلة، عن عمر قوله.
وقد أخرج مسلم حديث قتادة، عن الشعبي، عن سويد بن غفلة المرفوع عن عمر في الصحيح والله أعلم».(5/396)
- - - - -
3 - ومن باب من لبس ثوب حرير غلطًا أو سهوًا نزعه أوَّل أوقات إمكانه
قول جابر: «لبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قباء من ديباج»؛ كان هذا اللباس منه - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يُحرَّم الحرير، ثم لما لبسه أُعلم بالتحريم، فخلعه مسرعًا، وقد دلَّ على هذا قوله: «نهاني عنه جبريل»، و «أوشك» معناه: أسرع.
وقوله: «أوشك ما نزعته»؛ كذا وقع في بعض روايات مسلم: أوشك. وعند بعضهم: قد أوشك. وهو كلام غير مستقيم. وصوابه - والله أعلم -: ما أوشك ما نزعته! على جهة التعجب، فسقطت (1) «ما» عند بعضهم، وتصحفت (2) بـ «قد (3) » عند آخرين. ودلالة هذا الحديث على مقتضى الترجمة واضحة.
و « القباء» و « الفروج» كلاهما ثوب ضيق الكمَّين، ضيق الوسط، مشقوق من خلفه (4) ، يتشمر فيه للحرب، والأسفار. =(5/397)=@
__________
(1) في (ح): «فيسقط».
(2) في (ح): «وتصحف».
(3) في (أ): «بعد».
(4) في (ك): «خلف».(5/397)
وقوله (1) : «لا ينبغي هذا للمتقين»؛ أي: للمؤمنين، فإنَّهم هم (2) الذين خافوا الله تعالى واتَّقوه بإيمانهم وطاعتهم له.
و «الفروج»: قيد بفتح الفاء وضمها، والضم المعروف، وأما الراء: فمضومة (3) على كل حال مشدَّدة، وقد تخفف، والله تعالى أعلم.
و «أوشك»: أسرع. وقارب. وقد وقع هنا بلفظ الماضي، وقد أنكر الأصمعي أن يقال من هذه (4) اللفظة غير المستقبل خاصَّة، كقولك: يوشك - بكسر الشين - وقد قال الخليل: إنها تقال. وهذا الحديث يصحح قول الخليل.
- - - - -
4 - ومن باب الرُّخصة في لباس **كذا في (أ) ((لباس))** الحرير للعلة
ترخيص النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبدالرحمن، والزبير في لباس الحرير للحكة، أو للقمل يدلُّ على جواز ذلك للضرورة. وبه قال جماعة من أهل العلم، وبعض أصحاب مالك، وأما مالك: فمنعه في الوجهين (5) . والحديث واضح الحجَّة عليه، إلا أن يدّعي الخصوصية بهما، ولا يصح. أو لعل الحديث لم يبلغه. =(5/398)=@
__________
(1) في (ب): «قوله».
(2) قوله: «هم» سقط من (ق).
(3) في (ق): «مضمومة».
(4) في (ق): «من سير هذه».
(5) في (ح): «للوجهين».(5/398)
- - - - -
5 - ومن باب النهي عن لبس القسي والمعصفر
قوله: «رأى عليَّ (1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوبين معصفرين»؛ المعصفر: المصبوغ بالعصفر. وهو صبغ أحمر.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «إن هذين من ثياب الكفار، فلا تلبسهما»؛ يدلّ: على أن علة النهي عن لباسهما (2) التشبُّه (3) بالكفار. وقوله في الرواية الأخرى: «أمك أمرتك بهذا ؟» يشعر بأنَّه (4) إنما كرهها =(5/399)=@
__________
(1) قوله: «عليَّ» سقط من (ق).
(2) في (ق): «لبسهما».
(3) في (ح) و(ق) و(ك): «التشبيه».
(4) في (ح): «أنه».(5/399)
لأنَّها من لباس النساء. وظاهرهما (1) : أنهما علّتان في المنع. ويحتمل أن تكون (2) العلّة مجموعهما.
وقد اختلف العلماء في جواز لبس المعصفر. فروي كراهته عن ابن عمر (3) . وأجازه جماعة من الصحابة (4) ، والتابعين، والفقهاء. وهو قول مالك، والشافعي. وكره ما اشتدَّت حمرته: عطاء وطاووس، وأباحا ما خف منها، وفرَّق بعضهم بين أن يمتهن، فيجوز، أو يلبس، فيكره (5) . وهو قول ابن عباس (6) ، والطبري. وكره بعض أهل العلم جميع ألوان الحمرة. وقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لبس (7) حلَّة حمراء (8) ، وقد لبس - صلى الله عليه وسلم - ما صبغ بالصفرة على ما جاء عن ابن عمر (9) ، فلا وجه لكراهة الحمرة مطلقًا، إنَّما (10) المكروه المعصفر للرجال، والمزعفر (11) ؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك للرجال (12) ، وكره المعصفر بعض أهل العلم مطلقًا، وأجازه مالك تمسُّكًا بحديث ابن عمر المتقدِّم. وقد حمل بعضهم النهي على المحرم.
قال الشيخ رضي الله عنه: وهذا فيه بُعدٌ؛ لأنَّ الرجال والنساء (13) ممنوعون من التطيّب في الإحرام فلا معنى لتخصيصه بالرجال، وإنما علَّة الكراهة في ذلك: أنه صبغ النساء، وطيب النساء (14) ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : «طيب الرجال: ما ظهر ريحه، وخفي لونه. وطيب النساء: ما ظهر لونه، وخفي ريحه» (15) ، والله تعالى أعلم.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «بل أحرقهما (16) »؛ مبالغة في الرَّدع، والزَّجر، ومن باب جواز العقوبة في (17) الأموال، ولم يسمع بأحد قال بذلك (18) . والله أعلم (19) . وقد تقدم الكلام في (20) باقي الحديث. =(5/400)=@
__________
(1) في (ح): «أو ظاهرهما».
(2) في (ب): «يكون».
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (5/159 رقم24726) في اللباس والزينة، باب من كره المعصفر للرجال، عن وكيع، عن فضيل، عن نافع، عن ابن عمر: رأى على ابن له معصفرًا فنهاه. وسنده صحيح.
(4) ......
(5) في (ب): «أو تلبس فتكره».
(6) أخرجه ابن أبي شيبة (24732) من طريق حجاج، عن أبي بكر بن حفص، عن أبي حنين، عن ابن عباس مرفوعًا: «لا تلبسوا ثوبًا أحمرًا مبرورًا».
(7) في (ك) و(ح) و(ق): «لبس النبي ( ».
(8) سيأتي في النبوات، باب في شعر النبي ( وكيفيته.
(9) تقدم في الحج، باب بيان المحل الذي أهل منه رسول الله ( .
(10) في (أ) و(ك) و(ح) و(ق): «وإنما».
(11) سيأتي في باب ما جاء في صبغ الشعر.
(12) في (ح): «للرجل».
(13) في (ح) و(ك): «النساء والرجال».
(14) قوله: «وطيب النساء» سقط من (ح).
(15) أخرجه أحمد (2/540-541)، وأبو داود (2/625-627 رقم2174) في النكاح، باب ما يكره من ذكر الرجل ما يكون من إصابته أهله. والترمذي (5/99 رقم2787) في الأدب، باب ما جاء في طيب الرجال والنساء، من طريق إسماعيل بن إبراهيم.
وأخرجه عبد بن حميد (ص424 رقم1456)، والترمذي (5/99 رقم2787) في الموضع السابق، والنسائي (8/151 رقم5117 و5118) في الزينة، باب الفصل بين طيب الرجال وطيب النساء، من طريق سفيان الثوري.
وأخرجه أبو داود (2/625-627 رقم2174) في الموضع السابق من طريق بشر بن منصور، وحماد بن سلمة، وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (6/169 رقم7809) من طريق يزيد بن زريع. جميعهم - إسماعيل بن إبراهيم، وسفيان الثوري، وبشر بن منصور، وحماد بن سلمة، ويزيد بن زريع -، عن سعيد الجريري، عن أبي نضرة، عن الطفاوي - وقال بعضهم: عن شيخ من الطفاوة، وقال بعضهم: عن رجل -، عن أبي هريرة: ان النبي ( قال، فذكره.
وهذا سند رجاله ثقات غير الطفاوي، فإنه رجل مجهول لا يعرف. وصححه الألباني في تعليقه على "المشكاة"(2/1264 رقم4443).
وله شواهد؛ منها ما أخرجه أحمد (4/442)، وأبو داود (4/324-325 رقم4048) في اللباس، باب من كرهه، والطبراني في "الكبير" (18/147 رقم314)، والحاكم (4/191)، والبيهقي (3/246) جميعهم من طريق روح.
وأخرجه الترمذي (5/99-100 رقم2788) في الأدب، باب ما جاء في طيب الرجال والنساء، من طريق أبي بكر الحنفي.
وأخرجه الطبراني في "الكبير" (18/147 رقم314) من طريق شعيب بن إسحاق. ثلاثتهم - روح وأبو بكر الحنفي، وشعيب بن إسحاق -، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين، فذكره بنحوه.
وهذا سند رجاله ثقات، إلا أن قتادة والحسن مدلسان، ولم يصرحا بالسماع.
واختلف في سماع الحسن من عمران بن حصين، والصحيح أنه لم يسمع منه، قاله القطان، وأحمد بن حنبل، وابن معين، وابن المديني.
قال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه». وقال الحاكم: «حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، فإن مشائخنا وإن اختلفوا في سماع الحسن من عمران بن حصين، فإن أكثرهم على أنه سمع منه».اهـ. كذا قال، وقد تقدم خلافه.
ومن شواهده: ما أخرجه البزار (3/376 رقم2989/كشف)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (6/169 رقم7810)، كلاهما من طريق سعيد بن سليمان الواسطي، عن "إسماعيل بن زكريا عن عاصم، عن أنس، فذكره.
قال البزار: «لا نعلم رواه عن عاصم إلا إسماعيل». وقال الهيثمي (5/279): «رواه البزار، ورجاله رجال الصيحيح».
وفي سنده إسماعيل بن زكريا الخلقاني، صدوق يخطئ قليلاً، كما في "التقريب" (ص139 رقم449).
ومن شواهده: ما أخرجه الطبراني في "الأوسط" (1/215-216 رقم698) من طريق إبراهيم بن بشار الرمادي، عن سفيان بن عيينة، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي موسى الأشعري، فذكره.
قال الطبراني: لم يرو هذاالحديث عن سفيان إلا الرمادي. وقال الهيثمي في "المجمع" (5/283): «رواه الطبراني في "الأوسط"، وفيه: إبراهيم بن بشار الرمادي، وهو ضعيف، وقد وثق، وبقية رجاله رجال الصحيح».
وإبراهيم بن بشار الرمادي: حافظ له أوهام، كما في "التقريب: (ص105 رقم156).
فالحديث بمجموع طرقه صحيح لغيره.
(16) في (ق): «أحرقها بالنار».
(17) في (ح): «و» بدل «في».
(18) في (ق): «ذلك».
(19) قوله: «والله أعلم» ليس في (ك).
(20) في (ب): «على».(5/400)
- - - - -
6 - ومن باب لباس الحبرة
وهي ثياب مخططة، يؤتى بها من اليمن (1) . وسميت بالحبرة لأنها محبرة؛ أي: =(5/401)=@
__________
(1) في (ق): «اليمين».(5/401)
مزينة. والتحبير: التزيين، والتحسين.
و «الملبَّد (1) »: الذي تراكب خمله حتى صار كاللبد.
و «المرط»: واحد المروط (2) ، وهو كساء مربع من صوف، أو خز، أو كتان (3) . قاله الخليل. قال ابن الأعرابي، وأبو زيد: هو الأزرار (4) . وقال الخطابي: هو =(5/402)=@
__________
(1) في (ق): «الملبدة».
(2) في (ق): «والمربط واحد المربوط».
(3) في (ح): «أو كان».
(4) في (ك) و(ح) و(ق): «الإزار».(5/402)
كساء يؤتزر به. و «مُرحَّل (1) » يروى بالحاء المهملة، وبالجيم، فبالحاء فيه صور الرحال، وبالجيم فيه صور الرجال. وقيل (2) : صور المراجل، وهي القدور، ومنه قالوا: مرط مراجل -على الإضافة-. و «الوساد»: ما يتوسد عليه. أي: يُتكأ عليه (3) ، ويجعل تحت الرأس.
و «الضجاع»: ما يضطجع عليه، وهو الفراش. وقول ابن عباس المتقدِّم: فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طولها. معناه: أنهم وضعوا رؤوسهم على الوسادة على تلك الصفة، وعبر عن ذلك بالاضطجاع.
و « الأنماط» جمع نمط. قال الخليل: هو ظهارة الفراش. وقال ابن دريد: هو ما يستر به الهودج. وهو في حديث عائشة: ثوب سترت به سهوتها (4) ، وهو (5) القرام (6) أيضًا، كما جاء في حديث عائشة، وقد يكون من حرير، وغيره. وقد يسمَّى (7) نمرقة في بعض طرق حديث عائشة (8) . وقد عبَّر عنه بالستر في حديثها (9) . وهذا كلُّه يدلّ على أنها أسماء لمسمَّى واحد. وسيأتي حديث عائشة بعد هذا (10) إن شاء الله تعالى.
وقول جابر: «أنَّى لنا أنماط ؟» استبعاد لذلك. معناه: من أين تكون (11) أنماط (12) ؟!
وقول رسول الله ( : «أما إنها ستكون»؛ دلالة من دلائل صدقه، فإنها (13) إخبار عن غيب، وجدت كما أخبر عنه.
وقول جابر لامرأته: «نحِّي نمطك عنِّي (14) »؛ فإنما كان ذلك كراهة له؛ مخافة الترفه في الدنيا والميل إليها، لا لأنه حرير؛ إذ =(5/403)=@
__________
(1) قوله: «مُرَّحل» جاء في (ك) بالوجهين.
(2) قوله: «صور الرجال وقيل» سقط من (ق).
(3) قوله: «عليه» سقط من (ق).
(4) مسلم (3/1668 رقم2107/92) في اللباس والزينة، باب تحريم تصوير شورة الحيوان....
(5) في (ق): «وهي».
(6) مسلم (3/1667 رقم2107/91) في الموضع السابق.
(7) في (ب): «سمي» وفي (ق): «تسمى».
(8) سيأتي في باب كراهية الستر فيه تماثيل.
(9) سيأتي في الباب القادم.
(10) قوله: «هذا» سقط من (أ).
(11) في (ح) و(ق) و(ك): «يكون».
(12) في (أ) و(ق): «لنا أنماط».
(13) في (ق): «بأنها».
(14) في (ب): «عني نمطك».(5/403)
ليس في الحديث ما يدلّ عليه. واستدلالها عليه بقوله - صلى الله عليه وسلم - : «أما إنها ستكون». هو استدلالٌ بتقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - على اتِّخاذ الأنماط؛ لأنَّه (1) لما أخبر: بأنها ستكون، ولم ينه عن اتخاذها؛ دلَّ ذلك (2) على جواز الاتخاذ.
- - - - -
وقوله ( : «فراشٌ للرجل، وفراشٌ لامرأته، والثالث للضيف، والرابع للشيطان»؛ دليل: على جواز اتخاذ (3) الإنسان من الفرش والآلة ما يحتاج إليه، ويترفه به.
وهذا الحديث: إنما جاء مبينًا لعائشة ما يجوز للإنسان أن يتوسع فيه، ويترفه من (4) الفرش؛ لا أن (5) الأفضل أن يكون له فراش يختص به، ولامرأته فراش، فقد كان رسول الله ( (6) لم يكن له إلا فراش واحد وهو (7) في بيت عائشة، وكان فراشًا ينامان عليه في الليل (8) ، ويجلسان عليه بالنهار. وأما فراش الضيف: فيتعين (9) للمضيف إعداده له (10) ؛ لأنَّه من باب إكرامه، والقيام بحقه، ولأنَّه لا يتأتى له شرعًا الاضطجاع، ولا النوم مع المضيف (11) وأهله على فراش واحد.
ومقصود هذا الحديث: أن الرجل إذا أراد أن يتوسع في الفرش؛ فغايته ثلاث، والرابع لا يحتاج إليه، فهو من باب السَّرف.
وفقه هذا (12) الحديث: ترك الإكثار من الآلات والأمور المباحة، والترفه بها، وأن =(5/404)=@
__________
(1) في (ق): «لأنها».
(2) قوله: «ذلك» سقط من (ح).
(3) في (ق): «الاتخاذ».
(4) في (ق): «به من».
(5) في (ك): «لأن» وفي (ح): لم تتضح وفي (ق): «إلا أن».
(6) في (ك): «كان ( ».
(7) قوله: «وهو» سقط من (ح).
(8) قوله: «بالليل» سقط من (ب) و(ح).
(9) في (ح): «فيتعين».
(10) قوله: «له» سقط من (ق).
(11) في (ق): «الضيف».
(12) قوله: «هذا» سقط من (ك) و(ح).(5/404)
يقتصر على حاجته. ونسبة الرَّابع للشيطان ذمٌّ له، لكن لا يدلّ على تحريم اتخاذه، وإنَّما هذا من باب قوله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الشيطان يستحل (1) الطعام الذي لا يذكر اسم الله عليه، والبيت الذي لا يذكر الله تعالى فيه» (2) . ولا يدلّ ذلك على التحريم لذلك الطعام، كما تقدَّم. والله أعلم.
- - - - -
8 - ومن باب إثم من جرَّ ثوبه خيلاء
قوله: «لا ينظر الله إلى من جرَّ ثوبه خيلاء»؛ يعني: لا ينظر إليه نظر رحمة، وقد تقدَّم هذا في الإيمان. والخيلاء والمخيلة: التكبر. وقد تقدم أيضًا (3) . والمشهور في « الخيلاء» ضم (4) الخاء، وقد قيلت بكسرها.
و «الثوب» يعم الإزار، والرداء =(5/405)=@
__________
(1) في (ح): «ليستحل».
(2) تقدم في باب التسمية على الطعام في آداب الأطعمة.
(3) قوله: «والخيلاء والمخملة التكبر وقد تقدم أيضا» سقط من (ك).
(4) في (ح): «بضم».(5/405)
والقميص، فلا يجوز جرّ شيء منها. و «البطر» الأشر. وينجر معه الكبر، و« خيلاء» و «بطرًا» منصوب نصب المصدر الذي (1) هو مفعول من أجله. وإعجاب الرجل بنفسه: هو ملاحظته لها بعين الكمال، والاستحسان مع نسيان مِنةَ الله تعالى، فإنَّ رفعها على الغير واحتقره، فهو الكبر المذموم.
و «البُرْدان»: الرداء، والإزار، وهذا على طريقة تثنية العمرين، والقمرين. و « يتجلجل»: يخسف به مع تحرك واضطراب، قاله الخليل وغيره.
ويفيد هذا الحديث: ترك الأمن من تعجيل المؤاخذة على الذنوب. وأن عُجبَ المرء بنفسه، وثوبه، وهيئته حرام، وكبيرة.
وقوله ( : «ارفع إزارك»؛ يدل: على أن هذا لا يُقَرّ بل يُنْكَر وإن أمكن أن يكون من فاعله غلطًا وسهوًا (2) .
وقوله له (3) : «زد» حمل له على الأحسن، والأولى. وهذا كما بينه (4) في الحديث الآخر؛ إذ قال (5) : «إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، =(5/406)=@
__________
(1) في (ق): «والذي».
(2) في (ح): «أو سهوًا».
(3) قوله: «له» سقط من (ب).
(4) في (ح): «بيناه» وفي (ق): «ينبه».
(5) قوله: «إذ قال» سقط من (ك).(5/406)
لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعب، وما (1) أسفل من (2) ذلك ففي النار» (3) .
وقوله: «فما زلت أتحراها»؛ أي: أقصد الهيئة التي أمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - (4) ، وأحافظ عليها. ويعني بها: إزرته (5) إلى نصف (6) ساقيه (7) ، كما قال في بقية الحديث. وفي لباسه - صلى الله عليه وسلم - العمامة السوداني (8) ** كذا في (أ) ** تراجع في المخطوطة** في حال الخطبة (9) دليل للمسوِّدة، غير أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ذلك منه دائمًا، ولا في كل لباسه، بل في العمامة خاصة، لكن إذا أمر الإمام بلباس ذلك وجب امتثاله. وإرخاؤه طرفي العمامة بين كتفيه دليل على استحسان ذلك، مع أنها (10) عادة العرب، ويعني بالطرفين: الأعلى والأسفل. وفيه دليل على تحسين الهيئة في حال الخطبه (11) ، ومجتمعات الناس. =(5/407)=@
__________
(1) في (ك) و(ح) و(ق): «ما» بلا واو.
(2) قوله: «من» سقط من (ح).
(3) تقدم في باب من لا يكلمه الله يوم القيامة من كتاب الإيمان.
(4) في (ق): «أمر بها رسول الله ( ».
(5) في (أ): «إزرقه».
(6) في (ب): «أنصاف».
(7) في (أ): «ساقه».
(8) في (ك) و(ح) و(ق): «السوداء».
(9) في (ح): «خطبته».
(10) في (أ): «أنهما».
(11) في (أ) و(ك) و(ح): «الخطب».(5/407)
- - - - -
10 - ومن باب النهي عن تختم الرجال (1) بالذهب
اصطناع النبي - صلى الله عليه وسلم - خاتم الذهب ولبسه إياه كان ذلك قبل التحريم، فهو من باب النسخ، كما يدل عليه مساق الحديث. وهو مجمع على تحريمه للرجال، إلا ما روي عن أبي بكر بن عبدالرحمن، وخبَّاب (2) ، وهو خلاف شاذٌّ مردودٌ بالنصوص، وكل منهما لم يبلغهما (3) التحريم، والله أعلم.
وقوله: «وأجعل فصه من داخل»؛ إنما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك تنبيهًا على جعل، الفصّ من داخل (4) ، لأنه أبعد عن الزهو، وأصون للفص، ولنقشه من (5) التغيّر (6) ، ويجوز أن يجعل فصَّه من ظاهر الكفِّ، وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله (7) .
وجعله للخاتم في اليد اليمنى يدلّ: على جوازه. وقد روي من حديث أنس أنَّه تختم في الخنصر من اليد (8) اليسرى (9) . وكلٌّ جائز، إلأ أن مالكًا رأى: أن التختم في الأيسر أولى؛ لأنَّ لباس الخاتم من الأفعال التي تتناول باليمين، فيجعله في الشمال باليمين؛ إذ =(5/408)=@
__________
(1) في (ق): «الرجل».
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (5/194 رقم25135) في اللباس والزينة، باب من كره خاتم الذهب، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: رأى عبدالله في يد خباب خاتَمًا من ذهب فقال: أما آن لهذا أن يطرح بعد؟ فقال: بلى! لا تراه عليَّ بعدها. وسنده صحيح.
(3) في (ح) و(ك) و(ق): «يبلغه».
(4) من قوله: «إنما ذكر...» إلى هنا سقط من (ح).
(5) في (ك): يشبه أن تكون «عن».
(6) في (ق): «التغيير».
(7) أخرجه أبو داود (4/432 رقم4229) في الخاتم، باب ما جاء في التختم في اليمن أو اليسار، عن عبد الله بن سعيد، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال: رأيت على الصلت بن عبدالله بن نوفل بن عبد المطلب خاتمًا في خنصره اليمنى، فقلت: ما هذا؟ قال: رأيت ابن عباس يلبس خاتمه هكذا، وجعل فصَّه على ظهرها، قال: ولا يخال ابن عباس إلا قد كان يذكر: أن رسول الله ( كان يلبس خاتمه كذلك.
وهو عند الترمذي (4/200 رقم1742) في اللباس، باب ما جاء في لبس الخاتم في اليمين، من طريق محمد بن إسحاق، بهذاالإسناد مختصرًا، ليس فيه موطن الشاهد.
وقال عقبه: «قال محمد بن إسماعيل حديث محمد بن إسحاق عن الصلت بن عبدالله بن نوفل، حديث حسن صحيح».
(8) في (ح) و(ق): «يده».
(9) سيأتي في باب لبس خاتم الورق.(5/408)
ليس من الأفعال الخسيسة، بل يتناوله قوله (1) - صلى الله عليه وسلم - : «إذا لبستم، وتوضأتم فابدؤوا بأيامنكم» (2) (3) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي طرح الخاتم من يده: «يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده»؛ يدلُّ على تغليظ التحريم، وأن لباس خاتم الذهب من المنكر الذي يجب تغييره.
وقول الرجل لصاحبه: «خذ خاتمك انتفع به»؛ يدل: على أنهم علموا أن المحرَّم إنما هو لباسه، لا اتخاذه، ولا الانتفاع به. وهذا لا يختلف فيه في الخاتم، فإنَّ لباسه للنساء جائز. وهذا (4) بخلاف أواني الذهب والفضة، فإنَّ اتخاذه (5) غير جائز؛ لأنَّه لا يجوز استعمالها لأحد. وقد تقدم الخلاف في ذلك.
وقول الرجل: «لا والله! لا آخذه أبدًا»؛ مبالغة في طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيكون الرجل قد نوى أن يدفع (6) لمن يستحقه من المساكين؛ لا أنه أضاعه، فإنَّه (7) - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن إضاعة المال (8) . =(5/409)=@
__________
(1) في (ق): «وقوله».
(2) في (ح) و(ك) و(ق): «بأيمانكم».
(3) أخرجه أحمد (2/354)، وأبو داود (4/379 رقم4141) في اللباس، باب في الانتقال، وابن ماجه (1/141 رقم402) في الطهارة، باب التيمن في الوضوء، وابن خزيمة (1/91 رقم178)، وابن حبان (3/370 رقم1090/الإحسان)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (ص11 رقم16)، والبيهقي (1/86). جميعهم من طريق زهير بن معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة: قال: قال رسول الله ( «إذا لبستم، وتوضأتم فابدؤوا بأيامنكم». وصححه الألباني في "تعليقه على ابن خزيمة"، و"المشكاة" (1/127 رقم401).
(4) في (ك) و(ق): «وهذه».
(5) في (ب) و(ح): «اتخاذها».
(6) في (ب) و(ق): «يدفعه».
(7) في (ق): «لأنه».
(8) تقدم في باب الاعتصام بحبل الله وأن الحاكم المجتهد له أجران في الإصابة وأجر في الخطأ من كتاب الأقضية.(5/409)
وقوله: «اتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتَمًا من ذهب، ثم ألقاه، ثم اتخذ خاتَمًا من ورق (1) »؛ الحامل له - صلى الله عليه وسلم - على اتِّخاذ الخاتم السبب الذي ذكره أنس: من أنه لما أراد أن يكتب إلى كسرى، وقيصر، والنجاشي، وقيل له: إنهم لا يقرؤون (2) كتابًا إلا مختومًا؛ اتَّخذ الخاتم ليختم به. هذا هو المقصود الأوَّل (3) فيه، ثمَّ إنه جعله في يده مستصحبًا له حفظًا وصيانة من أن يتوصل إليه غيره. ولذلك (4) منع من أن ينقش أحد =(5/410)=@
__________
(1) في (ب): «ورقة».
(2) في (ك) و(ح): «لا يقرون».
(3) في (ق): «الأولي».
(4) في (ق): «فلذلك».(5/410)
على نقشه، فإنَّه إذا نقش غيره مثله (1) اختلطت (2) الخواتم، وارتفعت الخصوصية، وحصلت المفسدة العامَّة. وقد بالغ بعض أهل الشام، فمنعوا الخواتم لغير ذي (3) سلطان.
وقد أجمع العلماء على جواز التختم بالورق على الجملة للرجال. قال الخطابي: وكره للنساء التختم بالفضة؛ لأنَّه من زي الرجال، فإن لم يجدن ذهبًا فليصفرنه بزعفران، أو شبهه.
وقوله: «ونقش فيه: محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه **هذه الزيادة ليست في (ك) و(ح) و(ق) وتراجع في النسخ**»؛ دليل (4) : على جواز نقش اسم صاحب الخاتم على خاتمه، إلا أن يكون اسمه محمدًا؛ ولا (5) يجوز النقش عليه للنهي عن ذلك، وعلى جواز نقش اسم الله تعالى عليه، أو كلمة حكمة، أو كلمات من القرآن، ثم إذا نقش عليه اسم الله تعالى، وجعله في شماله؛ فهل يدخل به الخلاء، ويستنجي بشماله؟ خففه (6) سعيد بن المسيب، ومالك، وبعض أصحابه، وروي عنه الكراهة، وهي الأولى.
وكون الخلفاء تداولوا خاتم النبي ( : إنما كان ذلك تبركًا بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - واقتداء (7) ، واستصحابًا لحاله (8) ؛ حتى كأنَّه حيٌّ معهم، ولم يزل أمرهم مستقيمًا متفقًا عليه في المدَّة التي كان ذلك (9) الخاتم فيهم، فلما فقد اختلف الناس على عثمان رضي الله عنه وطرأ من الفتن ما هو معروف، ولا يزال الْهَرْج إلى يوم القيامة (10) . و «بئر أريس»: بئر معروفة. وأريس... (11) =(5/411)=@
__________
(1) في (ق): «على نقشه» بدل «مثله».
(2) في (ب): «اختلفت».
(3) قوله: «ذي» سقط من (ح).
(4) في (ق): «رسول الله فيه دليل».
(5) في (ح) و(ك) و(ق): «فلا».
(6) في (ح): «حققه».
(7) في (أ) و(ك) و(ح) و(ق): «واقتداء به».
(8) في (ح): «بحاله».
(9) قوله: «ذلك» سقط من (ك).
(10) ما ذكره المؤلف خطأ ظاهر؛ إذ فيه نسبة الحوادث والفتن إلى غير مسبباتها واعتقاد مثل ذلك من البدع العقدية التي لا ينبغي الإلتفات إليها او التعويل عليها بشيء أبدًا.
(11) في (ب): «وأريس»، ويوجد بعدها بياض في (أ) و(ب). وانظر "معجم البلدان" (1/298).(5/411)
وقوله: «فيه فصُّ حبشي»؛ يعني حجرًا حبشيًّا. وقد روي: أنَّه كان فصُّه منه. وخرَّجه البخاري (1) . قال أبوعمر: وهو أصح. قال غيره: ليس بخلاف كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - خواتم، فصُّ أحدهات (2) حبشي، والآخر فصَّه منه. وقد روي: أنه تختم بفصِّ عقيق (3) . وكل ذلك صحيح.
وقول أنس: «أنه رأى في يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتَمًا من ورق يومًا واحدًا، ثم إن الناس اضطربوا الخواتم من ورق ولبسوها (4) **كذا في (أ) **، فطرح النبي - صلى الله عليه وسلم - خاتمه، فطرح (5) الناس خواتمهم (6) »؛ هذا الحديث من رواية ابن شهاب عن أنس، وهو وَهْمٌ من =(5/412)=@
__________
(1) (10/322 رقم5870) في اللباس، باب فص الخاتم، وقوله: «وأريس» ليس في (ك) و(ح) و(ق).
(2) في (أ) و(ق): «أحدهما».
(3) لم أقف عليه. وانظر "الديباج" للسيوطي (5/139 رقم2094).
قال ابن رجب في كتاب"الخواتم": «وكل أحاديث التختم بالعقيق لا يثبت منها شيء».
وقال العقيلي: «لا يصح في التختم بالعقيق شيء».اهـ.
(4) في (ك) و(ح) و(ق): «فلبسوها».
(5) في (ق): «وطرح».
(6) في (ب): «خواتيمهم».(5/412)
ابن شهاب عند جميع أهل الحديث (1) ، وإنما اتفق ذلك (2) للنبي - صلى الله عليه وسلم - في خاتم الذهب، كما تقدَّم من (3) حديث ابن عمر، قاله القاضي عياض.
وقوله: «كان خاتم النبي **كذا في (أ) ** - صلى الله عليه وسلم - (4) في هذه»، وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى؛ لا خلاف بين العلماء، ولا في الآثار: أن (5) اتخاذ خاتم الرجال في الخنصر أولى (6) ؛ لأنَّه أحفظ له من (7) المهنة، ولأنه لا يشغل اليد عما يتناوله (8) من أشغالها، بخلاف غيره (9) من الأصابع.
و «البنصر (10) »: هي الإصبع (11) التي بين الوسطى (12) والخنصر (13) ، ويقال: خنصر -بفتح الصاد وكسرها -، وكذلك البنصر: وهي أصغر الأصابع. =(5/413)=@
__________
(1) انظر كلام الحافظ في "الفتح" (10/319-321).
(2) قوله: «ذلك» سقط من (ح).
(3) في (ك): «من» وكتب فوقها «في».
(4) في (ك) و(ح): «رسول الله ( ».
(5) قوله: «أن» سقط من (ق).
(6) قوله: «اولى» سقط من (أ).
(7) في (ح): يشبه «عن» بدل «من».
(8) في (ب) و(ك): «تتناوله».
(9) في (ب) و(ح) و(ك) و(ق): «غيرها».
(10) في (ب) و(ح) و(ق) و(ك): «والخنصر».
(11) قوله: «الإصبع» سقط من (ح) و(ك).
(12) كتب في (ك) فوق قوله: «هي التي بين الوسطى»: «كذا في جميع النسخ».
(13) في (ب) و(ح) و(ق) و(ك): «والبنصر».(5/413)
قلت: ولو تختم في البنصر لم يكن ممنوعًا، وإنما الذي نهي عنه في حديث علي رضي الله عنه الوسطى والتي تليها من جهة الإبهام، وهي التي تُسمَّى: المسبِّحة، والسَّبابة.
- - - - -
12 - ومن باب الانتعال
قوله (1) ( : «استكثروا من النعال، فإنَّ الرجل لا يزال راكبًا ما انتعل»؛ هذا كلام بليغ، ولفظ فصيح (2) ، بحيث لا ينسج على منواله، ولا يؤتى بمثاله. وهو إرشاد إلى المصلحة، وتنبيهٌ على ما يخفف المشقة، فإنَّ الحافي المديم للمشي يلقى من الآلام، والمشقات (3) ، بالعثار (4) ، والوجي، ما يقطعه عن المشي، ويمنعه من الوصول إلى مقصوده بخلاف المنتعل؛ فإنَّه لا يحصل له ذلك فيدوم (5) مشيه، فيصل إلى مقصوده كالرَّاكب، فلذلك شبهه بالرَّاكب حيث قال: «لا (6) يزال راكبًا ما انتعل (7) ».
وقوله: «إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمنى (8) ، وإذا خلع فليبدأ بالشمال»؛ هذا =(5/414)=@
__________
(1) في (ب): «وقوله».
(2) في (ب): «صحيح».
(3) في (ق): «والمشقة».
(4) في (ك) و(ق) و(ح): «والعثار».
(5) في (ح): يشبه «فتدوم».
(6) في (ح): «فلا».
(7) قوله: «ما انتعل» سقط من (أ).
(8) في (ح) و(ق): «باليمين».(5/414)
على ما تقدَّم من احترام اليمنى، فإنَّه إذا انتعل فيها أولاً فقد قدمها في الصيانة على اليسرى، وكذلك إذا خلعها أخيرا فقد بقي عليها كرامتها، وصيانتها. وقد تقدَّم هذا موفى (1) .
وقوله: «لينعلهما جميعًا، أو ليخلعهما جميعًا»؛ هذا خطاب لمن انقطع شسع أحد نعليه، فنهاه عن (2) أن يمشي في نعل واحدة (3) ؛ لأنَّ ذلك من باب التشويه، والمثلة، ولأنه مخالف لزي أهل الوقار، وقد يخل بالمشي. وهذا كما قد (4) جاء في الحديث المفسر بعد هذا. ويجيء حديث أبي هريرة الذي قال فيه: «إذا انقطع شسع نعل أحدكم، فلا يمشي في الأخرى حتى يصلحها»، وقد اختلف علماؤنا في ذلك. فقال مالك بظاهر هذا الحديث: إن من انقطع نعله لم يمش في الأخرى، ولا يقف فيها، وإن كان في أرضٍ حارَّة ليُحفها (5) ، ولا بدَّ حتى يصلح الأخرى إلا في الوقوف الخفيف والمشي اليسير. وقد رخص بعض السلف في المشي في نعل واحدة. وهو =(5/415)=@
__________
(1) في (ك) و(ح) و(ق): «مستوفي».
(2) قوله: «عن» سقط من (ح).
(3) في (ق): «واحد».
(4) قوله: «قد» سقط من (ب) و(ح).
(5) في (أ): «ليحفهما».(5/415)
قولٌ مردودٌ بالنُّصوص المذكورة، ولا خلاف: في أن أوامر هذا الباب ونواهيه: إنما هي (1) من الآداب المكملة، وليس منها شيء (2) على الوجوب ولا الحظر عند معتبر بقوله من العلماء، والله أعلم.
- - - - -
13 - ومن (3) باب النَّهي عن اشتمال الصَّماء
قول جابر: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اشتمال الصَّمَّاء»؛ الاشتمال: الالتفاف. وقد يُسمى التحافًا، كما قد (4) جاء في الرواية الأخرى: «لا يلتحف (5) » (6) . واختلف (7) اللغويون، والفقهاء في تفسير اشتمال الصَّمَّاء. فقال الأصمعي: هو أن يشتمل بالثوب؛ حتى يُجلِّل جميع جسده، ولا يرفع منه (8) جانبًا.
قال القتبي (9) : إنما قيل لها: الصماء؛ لأنَّه إذا اشتمل بها انسدَّت على يديه ورجليه المنافذ كلها كالصخرة الصماء التي (10) ليس فيها خرق، ولا صدع. وقاله (11) أبو عبيد. وأما تفسير الفقهاء: فهو أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره، ثم يرفعه من أحد جانبيه، فيضمه (12) على أحد منكبيه، وعلى هذا: فيكون إنما نهى عنه؛ لأنَّه يؤدي إلى كشف العورة. وعلى تفسير أهل اللغة: إنما هي مخافة أن يعرض له شيء يحتاج إلى رده بيديه، فلا (13) يجد إلى ذلك سبيلاً.
وقوله: «وأن يحتبي في ثوب واحد كاشفًا عن فرجه»؛ كانت عادة العرب أن يحتبي الرجل بردائه فيشدَّه على ظهره، وعلى ركبتيه، كان عليه إزار، أو لم يكن، =(5/416)=@
__________
(1) في (أ) و(ق): «هو».
(2) في (ب) و(ح) و(ق) و(ك): «شيء منها».
(3) قوله: «ومن» سقط من (ح).
(4) قوله: «قد» سقط من (أ).
(5) في (ب) و(ق): «تلتحف».
(6) مسلم (3/661 رقم2099/71) في اللباس والزينة، باب نهي النبي ( عن اشتمال الصماء والاحتباء في ثوب واحد.
(7) في (ق): «وقد اختلف».
(8) في (ح) و(ك) و(ق): «منها».
(9) في (ق): «القتيبي».
(10) في (ق): «الذي».
(11) في (أ): «وقال».
(12) في (أ) و(ك) و(ح) و(ق): «فبضعه».
(13) في (ق): «ولا».(5/416)
فإن لم يكن انكشف فرجه مما يلي السماء لمن كان (1) متطلعًا عليه؛ متتبعًا، وقد تقدَّم في كتاب الصلاة.
وقوله: «ونهى أن يرفع الرجل إحدى رجليه على الأخرى مستلقيًا»؛ قد (2) قال بكراهة هذه الحالة مطلقًا بعض فقهاء أهل الشام، وكأنَّهم لم يبلغهم فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه الحالة، أو تأولوها. والأولى: الجمع بين الحديثين؛ فيحمل النهي على ما إذا لم يكن على عورته شيء (3) يسترها. ويحمل فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لها: على أنه كان مستور العورة، ولا شك: أنها (4) استلقاء (5) استراحة إذا كان مستور العورة، وقد أجازها مالك وغيره لذلك. =(5/417)=@
__________
(1) في (ق): «كانت».
(2) في (ب): «وقد».
(3) في (ق): «شيئًا».
(4) في (ب): «أنه».
(5) في (ح) و(ق): «استلقى».(5/417)
- - - - -
14 - ومن باب صبغ الشعر والنهي عن تسويده
قوله: «أتي بأبي قحافة يوم فتح مكة»؛ أبو قحافة (1) : هو والد أبي بكر الصديق، واسمه: عثمان بن عامر بن عمرو (2) بن كعب بن سعد (3) بن تيم، أسلم يوم فتح مكة، وله صحبة، ومات في المحرَّم سنة أربع عشرة من الهجرة، وهو ابن سبع وتسعين سنة بعد وفاة ابنه أبي بكر بأشهر.
و «الثغامة»: نبت أبيض الزهر، والثمر، شبَّه بياض الشيب به. قاله أبو عبيد (4) . وقال ابن الأعرابي: هو شجرة تبيض كأنَّها الثلجة. وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «غيِّروا هذا الشيب»؛ أمر بتغيير (5) الشيب. قال به جماعه من الخلفاء، والصحابة، لكن لم يصر أحدٌ إلى أنه على الوجوب، وإنما هو مستحب. وقد رأى بعضهم: أن ترك الخضاب أفضل، وبقاء الشيب أولى من تغييره؛ متمسكين في ذلك بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تغيير الشيب (6) على ماذكروه، وبأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يغير شيبه، ولا اختضب.
قال الشيخ رضي الله عنه: وهذا القول ليس بشيء. أما الحديث الذي ذكروه: فليس بمعروف، ولو كان معروفًا فلا يبلغ في الصحَّة إلى هذا الحديث. وأما قولهم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخضب (7) فليس بصحيح، بل قد صحَّ عنه أنه خضب بالحناء (8) وبالصفرة (9) على ما مضى. ويأتي إن شاء الله تعالى.
وقوله: «واجتنبوا السواد»؛ أمر باجتناب السواد، وكرهه جماعه منهم =(5/418)=@
__________
(1) قوله: «أبو قحافة» سقط من (ب) و(ح) و(ك) و(ق).
(2) في (ق): «ابن عمر» وألحق بالهامش «ابن عمرو» وكتب فوقها (صح).
(3) قوله: «ابن سعد» سقط من (ح) و(ك و(أ) ,و(ق).
(4) في (ك) و(ق): «أبو عبيدة» وكتب في هامش (ق): «أبو عبيد» ووضع فوقها (نخـ).
(5) في (ح): «بتعيين».
(6) أخرجه ابن عدي (5/57) عن عمر بن أبي سفيان الموصلي، عن محمد بن إسحاق، عن عمر بن سعيد الدمشقي، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله ( : «لا تغيروا هذا الشيب، فمن كان مغيرًا لا محالة فبالحناء والكتم».
قال ابن عدي: «عمر بن سعيد هذا، له عن سعيد بن بشير، عن قتادة أحاديث غير محفوظة، ويروي عن أبي معبد حفص بن غيلان، عن سليمان بن موسى، عن نافع وغيره، أحاديث غير محفوظة».
(7) في (ق): «لم يختضب».
(8) تقدم تخريجه في باب بيان المحل الذي أله منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الحج.
(9) تقدم في الموضع السابق أيضًا وفي (ق): «والصفرة».(5/418)
علي بن أبي طالب (1) رضي الله عنه، ومالك.
قال الشيخ: وهو (2) الظاهر من هذا الحديث. وقد عُلِّل ذلك: بأنه من باب التدليس على النساء، وبأنه (3) سوادٌ في الوجه فيكره؛ لأنه تشبه (4) بسيما أهل النار.
وقد روى أبو داود (5) : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «يكون في آخر الزمان قوم يصبغون بالسواد، لا يدخلون الجنة، ولا يجدون ريحها»، غير أنه لم نسمع (6) (7) أن أحدًا من العلماء (8) قال بتحريم ذلك، بل قد روي عن جماعة كثيرة (9) من السلف: أنهم كانوا يصبغون بالسواد، منهم: عمر (10) ، وعثمان (11) ، والحسن، والحسين (12) ، وعقبة بن عامر (13) ، ومحمد بن علي (14) ، وعلي بن عبدالله بن عباس (15) ، وعروة بن الزبير، وابن سيرين، وأبو بُردة (16) في آخرين (17) . وروي عن عمر (18) رضي الله عنه أنه قال: هو أشكر للزوجة (19) ، وأرهب للعدو.
وقال الشيخ: ولا أدري عذر هؤلاء (20) عن حديث أبي قحافة ما هو؟ فأقل درجاته: الكراهة. كما ذهب إليه مالك. =(5/419)=@
__________
(1) جاء في صفة علي بن أبي طالب أنه كان أبيض الرأس واللحية. وروى ابن سعد في "الطبقات"(3/26) عن محمد بن الحنفية قال: خضب علي بالحناء مرَّةً ثم تركه.
وأخرج ابن أبي شيبة (25011) عن عامر الشعبي قال: إنما خضب علي مرَّةً.
(2) في (ق): «وهذا».
(3) في (ق): «أو بأنه».
(4) في (ق): «لأنه قد تشبه».
(5) يرويه عبيدالله بن عمرو، عن عبدالكريم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، واختلف عليه في رفعه ووقفه.
فأخرجه ابن سعد (1/441)، وأبو يعلى (4/471 رقم2603)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (5/216-216 رقم4614)، ثلاثتهم من طريق عبدالله بن جعفر. وأخرجه أحمد (1/273) من طريق حسين، وأحمد بن عبدالملك. واخرجه أبو داود (4/418-419 رقم4212) في الترجل، باب ما جاء في خضاب السواد، من طريق أبي توبة. وأخرجه النسائي (8/138 رقم5705) في الزينة، باب النهي عن الخضاب بالسواد. وابن شاهين في "ناسخ الحديث ومنسوخة" (ص461 رقم 618). كلاهما من طريق عبدالرحمن بن عبيدالله الحلبي. والطحاوي" في "مشكل الآثار" (9/313-314 رقم3699) من طريق على بن معبد. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (11/350 رقم12254)، والبغوي في "شرح السنة" (12/92 رقم3180)، والبيهقي (7/311) ثلاثتهم من طريق عمرو بن خالد الحراني.
وأخرجه الطبراني في "الكبير" في الموضع السابق، من طريق جندل بن والق. وأخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (3/55) من طريق هاشم بن الحارث الرمادي.
جميعهم عن عبيدالله بن عمرو، بهذا الإسناد، مرفوعًا. وخالفهم عبدالجبار بن عاصم، فرواه عن عبيدالله بن عمرو، فوقفه، روايته عند ابن الجوزي في "الموضوعات" في الموضوعات" في الموضع السابق.
ولا شك أن المرفوع أصح، لاتفاق جماعة من الرواة على حكايتها، ولا سيما وعبدالجبار بن عاصم، ذكره ابن حبان في "الثقات" (8/418)، وابن أبي حاتم في"الجرح والتعديل" (6/33) وبيض له. وانظر "مختصر استدراك الذهبي" (4/1877-1878) بتحقيقي، و"فتح الباري" (6/499).
(6) في (ك) و(ح) و(ق): «لم يسمع».
(7) في (ب) و(ح): «يسمع».
(8) في (ب): «الصحابة».
(9) قوله: «كثيرة» سقط من (ب).
(10) أخرجه الحكيم الترمذي في "المنهيات (...) عن عبي بن حجر، عن شعيب بن إسحاق قال: سمعت أبا لاحق، يحدث عن عبدالله بن معونة، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : اختضبوا بالسواد، فإنه آنس للنساء، وهيبة للعدو. وسنده ضعيف لجهالة بعض رواته.
وأخرجه ابن أبي الدنيا في "العمر والشيب" (ص49 رقم4) عن أبي كريب، عن زكريا بن عدي، عن زاجر بن الصلت، عن الحارث بن عمرو، عن البحتري بن عبدالحميد: أن عمر بن الخطاب قال، فذكره. وسنده ضعيف لجهالة الحارث بن عمرو، والبحتري. بل الثابت عنه خلاف ذلك، فعند مسلم (4/1821 رقم2341) في الفضائل، باب شيبه ( ، سئل أنس بن مالك: هل خضب رسول الله ( ؟ قال: إنه لم يكن رأى من الشيب إلا، قال ابن إدريس: كأنه يقلله، وقد خضب أبو بكر وعمر بالحناء والكتم.
(11) وقد روى ابن سعد في "طبقاته" (3/57) عن خالد بن مخلد، قال: حدثني الحكم بن الصلت قال: حدثني أبي قال: رأيت عثمان بن عفان يخطب وعليه خميصة سوداء، وهو مخضوب بحناء. وسنده صحيح.
(12) روي بأسانيد لا تخلو من مقال. انظر "إتحاف الأمجاد باجتناب تغيير الشيب بالسواد" (ص140-144) لمؤلفه فريح البهلال. وصح عنهما خلافه.
(13) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (4/344)، و(7/498) عن هشام بن عبدالملك أبي الوليد الطيالسي.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" عن شبابة. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (17/268 رقم736) عن أبي الزنباع، عن روح بن الفرج، عن يحيى بن بكير.
وأخرجه ابن حبان في "الثقات" (3/280) عن محمد بن إسحاق الثقفي، عن محمد بن سعيد. كلهم - أبو الوليد الطيالسي، ويحيى بن بكير، وقتيبة بن سعيد، وشبابة-، عن الليث بن سعد، عن أبي عشانة قال: رأيت عقبة بن عامر يخصب بالسواد ويقول: نسود أعلاها وتأبى أصولها. قال: وكان شاعرًا. ولفظ ابن سعد: رأيت عقبة بن عامر يصبغ بالسواد، وكان يقول: نغير أعلاها وتأبى أصولها.
وأبو الوليد ضعيف في سند ابن سعد الثاني إلى "الوليد"، وجاء على الصواب في الموضع الأول. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/291 رقم8805) رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح خلا أبو عشانة وهو ثقة.
وله شاهد من حديث ابن لهيعة عن أبي عقيل، عن أبيه وجده؛ أنهما رأيا عقبة بن عامر الجهني يصبغ بالسواد. أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (17/267-268 رقم735).
(14) ابن أبي شيبة (25023).
(15) في (ح): «العباس».
(16) في (ق): «وابن بردة» وكتب في الهامش «وأبو بردة» ووضع فوقها (نسخه).
(17) نقله عنهم وعن غيرهم ابن جرير في "تهذيب الآثار" كما في "زاد المعاد" (4/368). وقال ابن القيم في "حاشيته على سنن أبي داود" (11/127): «وفي ثبوته عنهم نظر، ولو ثبت فلا قول لأحد مع رسول الله ( ، وسنتُه أحق بالإتباع ولو خالفها من خالفها.
(18) تقدم قبل قليل.
(19) في (ق) «أسكن» بدل «أشكر».
(20) في (ق): «عذر هؤلاء» وكتب في الهامش «عزوها» ووضع فوقها (خـ).(5/419)
قال الشيخ: وأما الصباغ بالحنَّاء بحتًا، وبالحناء (1) والكتم: فلا ينبغي أن يختلف فيه لصحة الأحاديث بذلك، غير أنه قد قال بعض العلماء: إن الأمر في ذلك محمول على حالين (2) :
أحدهما: عادة البلد؛ فمن كانت عادة موضعه ترك الصبغ فخروجه عن المعتاد شهرة تقبَّحُ، وتُكره.
وثانيهما (3) : اختلاف حال الناس في شيبهم، فَرُبَّ شيبة نقية هي أجمل بيضاء (4) منها مصبوغة، وبالعكس، فمن قبحه الخضاب اجتنبه. ومن حسَّنه استعمله. وللخضاب فائدتان (5) :
إحداهما (6) : تنظيف (7) الشعر مما يتعلق به من الغبار، والدخان. والأخرى: مخالفة أهل الكتاب، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «خالفوا اليهود والنصارى، فأنهم لا يصبغون (8) ».
قال الشيخ: ولكن هذا الصباغ بغير السواد، تمسُّكًا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : «اجتنبوا (9) السواد»، والله أعلم (10) .
وقد تقدَّم الكلام على النهي عن التزعفر، وسيأتي القول في مخالفة أهل ا لكتاب إن شاء الله تعالى (11) . =(5/420)=@
__________
(1) في (ق): «أو بالحناء».
(2) في (ق): «حالتين».
(3) في (أ) و(ح): «وثانيها».
(4) في (ق): «بياضًا».
(5) في (ق): «فائدتين».
(6) في (ح): «احديهما».
(7) في (ك) و(ق): «تنضيف».
(8) في (ك): «لا يضبعون».
(9) في (ق): «واجتنبوا».
(10) قوله: «والله أعلم» سقط من (ح).
(11) من قوله: «وسيأتي....» إلى هنا سقط من (أ)، وقوله: «إن شاء الله تعالى» سقط من (ح) و(ك) ولم يتضح في (ق).(5/420)
- - - - -
15 - ومن باب قوله: «لا تدخل (1) الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة».
الملائكة هنا (2) - وإن كان (3) عمومًا - فالمراد به الخصوص، فإنَّ الحفظة ملازمة للانسان. هكذا قاله (4) بعض علمائنا. والظاهر العموم، والمخصص ليس نصًّا. وكذلك قوله: كلب، وصورة؛ كلاهما للعموم؛ لأنَّهما نكرتان (5) في سياق النفي. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المراد به: الكلاب التي لم يؤذن في اتخاذها، فيستثنى من ذلك: كلب الصيد، والماشية والزرع. وأما الصورة: فيراد بها التماثيل من ذوات الأرواح. ويستثنى من ذلك الصورة المرقومة، كما نصَّ عليه في الحديث، على ما (6) يأتي.
وإنما لم تدخل الملائكة البيت الذي فيه التمثال (7) ؛ لأن متخذها في بيته قد =(5/421)=@
__________
(1) في (ك): «لا يدخل».
(2) قوله: «هنا» مطموس في (أ).
(3) في (ب): «كانوا».
(4) في (ب): «قال».
(5) في (ح): «نكوتان».
(6) في (ح): «كما».
(7) في (ق): «التماثيل».(5/421)
تشبَّه بالكفار الذين يتخذون الصور في بيوتهم، ويعظمونها **كذا في (أ) **، فكرهت الملائكة ذلك منه، فلم تدخل بيته هجرانًا له، وغضبًا عليه. واختلف في المعنى الذي في الكلب المانع للملائكة من الدخول. فذهبت (1) طائفة: إلى أنَّه النجاسة. وهو من حجج من قال بنجاسة الكلب. وتأيد في ذلك بنضحه - صلى الله عليه وسلم - موضع الكلب (2) .
قال الشيخ: وهذا (3) ليس بواضح، وإنما هو (4) تقدير احتمال يعارضه (5) احتمالات أخر (6) :
أحدها: أنها من الشياطين، كما قد جاء في بعض الحديث (7) .
وثانيها: استخباث روائحها، واستقذارها.
وثالثها: النجاسة التي تتعلق بها؛ فإنَّها تأكلها وتتلطخ بها، فتكون نجسة بما (8) يتعلق بها، لا لأعيانها. والمخالف يقول: هي (9) نجسة الأعيان. وعلى ما قلناه: يصح أن (10) يقال: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - شك في طهارة موضعه؛ لإمكان أن يكون أصابه (11) من النجاسة اللازمة (12) لها غالبًا (13) شيء، فنضحه؛ لأنَّ النضح طهارة للمشكوك (14) فيه، فلو تحقق إصابة النجاسة الموضع لغسله؛ كما فعل ببول الأعرابي (15) ، ولو كان الكلب نجسًا لعينه، لا لما يتعلق به: لما احتاج إلى غسله، كما لا يحتاج إلى غسل الموضع أو الثوب الذي يكون عليه عظم ميتة، أو نجاسة لا رطوبة فيها. وعلى هذا: فهذا الاحتمال أولى أن (16) يعتبر، فإنَّ لم يكن أولى فالاحتمالات متعارضة، والدَّسْت (17) قائم، ولا نصّ حاكم.
وقوله: «فأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ فأمر بقتل الكلاب»؛ كذا رواه جميع الرواة: فأصبح، فأمر مرتبًا بفاء التَّسبُّب (18) ، فيدل ذلك (19) : على أن أمره بقتل الكلاب في ذلك اليوم كان لأجل امتناع (20) جبريل من دخول بيته. ويحتمل أن يكون ذلك لمعنى آخر غير ما ذكرنا (21) ؛ وهو: أن ذلك إنما كان لينقطعوا عما كانوا ألفوه من =(5/422)=@
__________
(1) في (ق): «مذهب».
(2) أخرجه مسلم في "صحيحه" (2105).
(3) في (ك) و(ق) و(ح): «هذا» بلا واو.
(4) قوله: «هو» سقط من (ق).
(5) في (ح): «تعارضه».
(6) قوله: «أخر» سقط من (ك).
(7) تقدم في باب دنو المصلي من سترته، من كتاب الصلاة.
(8) في (ق): «مما».
(9) في (ق): «إنها» بدل «هي».
(10) في (ق): «أنه».
(11) في (ق): «قد أصابه».
(12) في (ق): «الملازمة».
(13) في (ب) و(ق): «الغالبة».
(14) في (ح): «المشكوك».
(15) تقدم في باب النهي أن يبال في الماء الراكد، من كتاب الطهارة.
(16) في (ق): «بأن».
(17) الدَّست هنا بمعنى الديوان.
(18) في (ح) و(ك): «التسبيب».
(19) في (ق): «يدل على ذلك على»
(20) في (ح): «كان لامتناع».
(21) في (ب) و(ق): «ما ذكرناه».(5/422)
الأنس بالكلاب، والاعتناء بها، واتخاذها في البيوت، والمبالغة في إكرامها. وإذا كان كذلك كثرت، وكثر ضررها بالناس من الترويع، والجرح (1) ، وكثر تنجيسها للديار، والأزقة، فامتنع جبريل من الدخول لأجل ذلك، ثم أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأمر بقتل الكلاب، فانزجر الناس عن اتخاذها، وعما كانوا اعتادوه (2) منها (3) . والله أعلم.
وفيه من الفقه: أن الكلاب يجوز قتلها لأنها من السِّباع، لكن لما كان في بعضها منفعة، وكانت من النوع المستأنس (4) سومح فيما لا يضر منها.
وقوله: «حتى إنه يأمر بقتل كلب (5) الحائط الصغير، ويترك كلب الحائط الكبير»؛ هذا يدلّ على جواز اتخاذ ما ينتفع به من الكلاب في حفظ الحوائط (6) ، وغيرها. ألا ترى: أن الحائط الكبير لما كان يحتاج إلى حفظ جوانبه ترك له كلبه، ولم يقتله، بخلاف الحائط الصغير منها، فإنَّه أمر بقتل كلبه؛ لأنَّه لا يحتاج (7) الحائط الصغير إلى كلب، فإنَّه ينحفظ بغير (8) كلب لقرب (9) جوانبه.
وقول بسر (10) لعبيد الله الخولاني: «ألم يحدثنا في التصاوير ؟» يعني: زيد بن =(5/423)=@
__________
(1) في (ق): «والحرج».
(2) في (ك): «كانوا عليه اعتادوه».
(3) قوله: «منها» سقط من (ح).
(4) في (أ) و(ح) و(ك) و(ق): «من نوع المتأنس».
(5) في (ق): «كلاب».
(6) في (ق): «حفظ الحائط الكبير وغيرها».
(7) في (ح): «تحتاج».
(8) في (ب) و(ق): «من غير».
(9) في (ح): «بقرب».
(10) في (ك) وق): «بشر».(5/423)
خالد، وذلك: أنَّه لما دخل منزل زيد فرأى الستر فيه صور ذكر بسر (1) عبيد الله الخولاني بالحديث الذي حدثهم به زيد عن (2) أبي طلحة صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: «لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة»، وكان أبو طلحة رضي الله عنه قد ذكر مع ذلك -متصلاً به - قوله ( : «إلا ما كان رقمًا في ثوب»، فاستثنى المرقوم من الصور. فحصل منه (3) : أن الملائكة لا تمتنع من دخول بيت فيه صورة مرقومة. ومن هنا: فهم القاسم بن محمد (4) جواز اتخاذها في البيوت (5) مطلقًا، كما حكيناه عنه ترجيحًا لهذا الحديث على حديث عائشة (6) ، أو نسخًا له، وفيه بُعْدٌ. والجمهور على المنع. فمنهم من منعه تحريمًا، وهو مذهب ابن شهاب ترجيحًا لحديث عائشة على حديث زيد، والجمهور حملوه على الكراهة، وهو الأولى إن شاء الله تعالى؛ إذ ليس (7) نصًّا في التحريم، فأقل (8) ما يحمل ما ظهر (9) منه على الكراهة. وحديث زيد لا يقتضي الجواز، إنَّما مقتضاه: أن الملائكة تدخل البيت الذي فيه الصور المرقومة بخلاف الصور ذوات الظل؛ فإنَّها لا تدخل (10) بيتا هي فيه. وهذا وجه حسن؛ غير أنَّه تكدَّر (11) بما رواه أبو داود (12) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ( : «أتاني جبريل عليه السلام فقال لي: أتيتك البارحة، فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام فيه صور (13) ، وكان في البيت كلب»، وذكر الحديث. وهذا يدلّ دلالة واضحة أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة مرقومة، وعند هذا يتحقق التعارض. والمخلِّص منه =(5/424)=@
__________
(1) في (ك) وق): «بشر».
(2) في (ق): «ابن» بدل «عن».
(3) في (أ): «منة».
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (5/209 رقم25292) في اللباس والزينة، باب الرجل يتكيء على المرافق المصورة، عن أزهر، عن ابن عون، قال: دخلت على القاسم وهو بأعلى مكة، في بيته، فرأيت في بيته حجلة فيها تصاوير القندس والعنقاء.
وصححه الحافظ في "الفتح" (10/388).
(5) في (ب): «الثوب».
(6) يأتي في الباب الذي بعده.
(7) في (ق): «إذ ليس فيه نصًا».
(8) في (ق): «وأقل».
(9) قوله: «ما ظهر» سقط من (ح).
(10) في (ك): «لا يدخل».
(11) في (ق): «يكدر».
(12) .....
(13) في (أ): «ستر».(5/424)
الترجيح، ولا شك في ترجيح حديث مسلم، فالتمسك به على ما قررناه أولى، والله تعالى أعلم.
- - - - -
16 - ومن باب كراهة الستر الذي فيه التماثيل وهتكه (1)
حديث عائشة كثرت رواياته، واختلفت ألفاظه حتى يتوهم (2) : أنه مضطرب، وليس كذلك؛ لأنَّه ليس فيه تناقض (3) ، وإنَّما كانت القضية مشتملة على كل ما نقل من الكلمات، والأحوال المختلفة، لكن نقل بعض الرواة ما سكت عنه غيرهم (4) ، وعبَّر كل منهم (5) بما تيسَّر له من العبارة عن تلك القضية. ويجوز أن يصدر مثل (6) ذلك الاختلاف من (7) راوٍ واحد في أوقات مختلفة، ولا يُعد تناقضًا، فإنَّه إذا جمعت تلك الروايات كلها؛ انتظمت وكملت الحكاية عن تلك القضية (8) . وعلى هذا النحو وقع ذكر اختلاف كلمات القصص المتحدة (9) في القرآن، فإنَّه تعالى يذكرها في موضع (10) وجيزة، وفي (11) آخر مطوَّلة، ويأتي بالكلمات (12) المختلفة الألفاظ مع اتفاقها على المعنى، فلا ينكر مثل هذا في الأحاديث.
وقولها: «فأخذت نمطًا فسترته على الباب»؛ هذا النمط (13) هو: الذي عبَّر (14) عنه في الرواية الأخرى بـ «الدَّرنوك (15) »، ويقال بضم الدَّال، وفتحها، وهو: الستر الذي =(5/425)=@
__________
(1) قوله: «وهتكه» سقط من (ب).
(2) في (ح): «توهم».
(3) في (ح): «تماقض».
(4) في (أ) و(ح) و(ك) و(ق): «غيره».
(5) في (ب): «منهما».
(6) في (ق): «عن مثل».
(7) في (ب): «عن» وفي (ق): «من» وكتب في الهامش «عن» ووضع فوقها (خـ).
(8) في (أ) و(ك) و(ق): «القصة».
(9) في (ق): «المتخذة».
(10) في (ق): «مواضع».
(11) قوله: «في» سقط من (ق).
(12) في (ق): «وتأتي الكلمات».
(13) في (ح): «اللفظ».
(14) في (ب): «عبرت».
(15) في (ق): «بالدربوك».(5/425)
كان فيه تماثيل (1) الخيل ذوات الأجنحة. و«الباب» يراد به هنا (2) : باب السهوة المذكورة في الرِّواية الأخرى، وهي (3) : بيت صغير يشبه المخدع. وقال الأصمعي: هي (4) شبه الطاق، يجعل فيه الشيء. وقيل: شبه (5) الخزانة الصغيرة. وهذه الأقوال متقاربة.
وقولها: «سترته (6) على الباب»؛ أي: سترت به الباب. أو (7) جعلته سترا على الباب.
وقولها: «فلما رأى النمط عرفت الكراهية في وجهه»؛ إنما عرفت الكراهية (8) في وجهه؛ لأنَّه تلوَّن (9) وجهه، ووقف ولم يدخل، كما جاء في الطريق الآخر (10) . ولما (11) رأت تلك الحال خافت، فقدَّمت في اعتذارها التوبة، ثمَّ سألت عن الذنب، فإنَّها لم تعرفه، فعند ذلك جبذ (12) النمط، فهتكه، فحصل من مجموع هذه القرائن (13) : أن اتخاذ الثياب التي فيها التماثيل محرَّم، رقمًا كان فيها، أو صنعًا (14) . وهو مذهب ابن شهاب، فإنَّه منع (15) الصور على العموم واستعمال ما هي فيه، ودخول البيت الذي هي فيه رقمًا كانت (16) أو غيره، في ثوب، أو حائط، يمتهن، أو لا يمتهن؛ تمسُّكًا بعمومات هذا الباب، وبما (17) ظهر من هذا الحديث. وذهب آخرون: إلى جواز كل ما (18) كان رقمًا في ثوب، يمتهن أو لا. معلقًا كان أو لا. وهو مذهب القاسم بن محمد تمسُّكًا بحديث زيد بن خالد حين قال: «إلا ما كان رقما في ثوب». وذهب آخرون: إلى كراهة (19) ما كان منها معلَّقًا، وغير ممتهن؛ لأنَّ ذلك مضاهاة لمن يعظم الصور، ويعبدها كالنصارى، وكما كانت الجاهلية تفعل.
والحاصل من مذاهب العلماء في الصور: أن كل (20) ما كان منها ذا ظل فصنعته، واتخاذه حرام، ومنكر يجب تغييره. ولا يختلف في ذلك إلا ما ورد في لعب البنات لصغار البنات (21) ، وفيما لا يبقى من الصور، كصور الفخار، ففي كل ذلك (22) منهما (23) قولان، غير أن المشهور في لعب البنات، جواز اتخاذها للرخصة في =(5/426)=@
__________
(1) في (ق): «تصاوير».
(2) في (ح) و(ك): «ههنا».
(3) في (ب) و(ق): «وهو».
(4) في (ق): «هو».
(5) في (ق): «يشبه».
(6) في (ق): «سترتها».
(7) في (ب): «أي».
(8) في (ق): «الكراهة».
(9) في (أ): «تكون».
(10) في (ق): «الأخرى».
(11) في (ح): «لما» بلا واو.
(12) في (ح) و(ق): «جذب».
(13) في (ح): «الأقوال».
(14) في (ك): «صبغًا».
(15) في (ق): يشبه «فإنه ينفي منع».
(16) في (ح): «كان».
(17) في (ب): «وما».
(18) في (ح) و(ق): «كلما» بدل «كل ما».
(19) في (ك): «كراهية».
(20) قوله: «كل» سقط من (ب).
(21) في (ق): «بصغار».
(22) في (أ) و(ك) و(ق): «واحد».
(23) في (ك) و(ق): «منها».(5/426)
ذلك، لكن كره مالك شراء الرجل لها لأولاده؛ لأنَّه (1) ليس من أخلاق أهل المروءات والفضل، غير (2) أن المشهور فيما لا يبقى: المنع. وأما ما كان رقمًا، أو صبغًا مما ليس له ظل: فالمشهور فيه الكراهة.
وقولها: «فجذبه حتى هتكه»؛ يدل على أن ما صنع على غير الوجه المشروع لا مالية له، ولا حرمة، وأن من كسر شيئًا (3) منها، وأتلف تلك الصورة (4) لم يلزمه ضمان.
وقوله: «إن الله تعالى لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين»؛ يفهم منه: كراهة ستر الحيطان بالستر؛ لأنَّ ذلك من السَّرف، وفضول زهرة الدنيا؛ التي نهى الله تعالى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يمد عينه (5) إليها بقوله تعالى: {ولاتمدَّن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدنيا (6) } (7) ، ولذلك (8) قال في الرواية الأخرى: «فإني كلما دخلت ذكرت الدنيا». وهذا الستر هو الذي (9) كان يصلِّي إليه، وكانت صوره (10) تتعرض في صلاته (11) ، كما قال (12) البخاري (13) : «فإنَّه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي».
ويفيد مجموع هذه الروايات: أن هتك هذا السِّتر إنما كان بعد تكرار دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - ورؤيته له، وصلاته إليه، فلما بين (14) له حكمه امتنع مرَّة (15) من دخول البيت حتى هتكه. وقد فعل سلمان الفارسي (16) رضي الله عنه نحو هذا لما تزوَّج الكندية، جاء (17) ليدخل بها، فوجد حيطان البيت قد سترت، فلم يدخل، وقال منكرًا لذلك: «أمحموم بيتكم! أم تحوَّلت (18) الكعبة في كندة»، فأزيل كل (19) ذلك. ودعا ابن عمر أبا أيوب، فرأى سترًا على الجدار. فقال: ما هذا؟ فقال: غلبنا عليه النساء، فقال: من كنت أخشى عليه، فلم أكن أخشى عليك، والله لا أطعم لك (20) =(5/427)=@
__________
(1) في (ب): «لأنها».
(2) في (أ): «وغير».
(3) قوله: «شيئًا» سقط من (ب) وفي (ق): «منها شيئًا».
(4) في (أ) و(ق): «الصور».
(5) في (ح) و(ق): «عينيه».
(6) زاد في (ب): «لنفتنهم فيه».
(7) الآية (131) من سورة طه.
(8) في (ق) «وكذلك».
(11) في (ك) و(ح) و(ق): «تعرض في صلاته».
(12) في (ب) و(ح) و(ق): «قال في».
(13) (1/484 رقم374 ) في الصلاة، باب إن صلى في ثوب مصلب أو تصاوير هل تفسد صلاته؟ وما ينهى عن ذلك. و(10/391 رقم5959) في اللباس، باب كراهية الصلاة في التصاوير.
(14) في (أ) و(ح) و(ق): «تبين».
(15) قوله: «مرة» ليس في (أ) و(ح) و(ق).
(16) أخرجه الطبراني في "الكبير" (1/226-227 رقم6067)، وأبو نعيم في "الحلية” (1/186) من طريق محمد بن بكار العيشي، عن الحجاج بن فروخ الواسطي، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: قدم سلمان من غيبة له، فتلقاه عمر رضي الله عنه فقال: أرضاك لله عبدًا، قال: فتزوج في كندة، فلما كان الليلة التي يدخل على أهله؛ إذ البيت منجد، وإذا فيه نسوة، فقال: أتحولت الكعبة في كندة، أم هي حمرة؟ الحديث.
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/535): «الحجاج بن فروخ، ضعيف».اهـ.
وابن جريج مدلس، ولم يصرح بالسماع.
وأخرجه عبدالرزاق (10463) عن ابن جريج قال: حدثت أن سلمان الفارسي، فذكره.
وأخرجه سعيد بن منصور (1/163-164 رقم592) عن سفيان، عن ابن جريج، قال: لما تزوج سلمان....
وأخرجه البيهقي (7/272-273) من طريق سعيد بن منصور، ثم قال: هذا منقطع.
وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/185) من طريق قتيبة بن سعيد، ثنا الوسيم بن جميل، ثنا محمد بن مزاحم، عن صدقة، عن أبي عبدالرحمن السُّلمي عن سلمان رضي الله عنه ، به.
(17) في (ب) و(ح) و(ق): «وجاء».
(18) في (ح): «حولت».
(19) قوله: «كل» سقط من (ك).
(20) في (أ) و(ك) و(ح): «لكم».(5/427)
طعامًا! فرجع. ذكره البخاري (1) .
وقد أفاد حديث عائشة رضي الله عنه ا المنع من ستر حيطان البيوت، ومما يجز إلى الميل إلى زينة الدنيا، ومن اتخاذ الصور المرقومة، ومن الصلاة إلى ما يشغل عنها.
وقول عائشة: «فقطعنا منه وسادتين حشوتهما ليفًا»؛ يحتمل أن يكون هذا التقطيع أزال شكل تلك الصور، وأبطلها، فيزول الموجب للمنع، ويحتمل أن تكون (2) تلك الصور، أو بعضها باقيًا، لكنها لما امتهنت بالقعود عليها سامح فيها. وقد ذهب إلى كل احتمال منهما (3) طائفة من العلماء. والحق: أن كل ذلك محتمل، وليس أحد الاحتمالين بأولى من الآخر، ولا معيِّن لأحدهما، فلا حجَّة في الحديث على واحد منهما، وإنما الذي يفيده هذا الحديث: جواز اتخاذ النَّمارق، والوسائد في البيوت.
وقول عائشة: «اشترت (4) نمرقة فيها تصاوير»؛ يجوز أن تكون (5) أرادت بالنمرقة هنا: الستر الذي تقدَّم ذكره، وسمته: نمرقة؛ لأنَّه آل أمره إلى النمرقة، كما يُسمى العنب خمرًا بمآله. والنَّمارق في أصل الوضع: الوسائد، والمرافق، ومنه قوله تعالى: {ونمارق مصفوفة} (6) . وقال (7) الشاعر (8) :
كُهولٌ وشبان حسان وجوههم على سرر مصفوفة ونمارق
غير أن هذا (9) التأويل يبعده (10) قولها في بقية الخبر، لما قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : «ما =(5/428)=@
__________
(1) علَّقه البخاري في "صحيحه" (9/249) فقال في كتاب النكاح، باب هل يرجع إذا رأى منكرًا في الدعوة؟...، ودعا ابن عمر أبا أيوب فرأى في البيت سترًا على الجدار، فقال: ابن عمر: غلبنا عليه النساء، فقال: من كنت أخشى عليه فلم أكن أخشى عليك، والله لا أطعم لكم طعامًا، فرجع.
وأخرجه ابن أبي مسدد في "مسنده"، كما في "فتح الباري" (9/249)، ومن طريقه الطبراني في "المعجم الكبير" (4/118-119 رقم3853)، ومن طريق الطبراني أخرجه ابن حجر في "تغليق التعليق" (4/424) عن بشر بن المفضل.
وأخرجه الإمام أحمد في "الورع" كما في "فتح الباري" (9/249)، و"تغليق التعليق" (4/424) عن إسماعيل بن علية.
وكذا أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/437-438) من طريق ابن علية، كلاهما - بشر بن المفضل، وإسماعيل ابن علية -، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن سلم بن عبدالله ابن عمر قال: أعرست في عهد أبي، فأذن أبي الناس، وكان أبو أيوب فيمن آذنا، وقد ستروا بيتي ببجاد أخضر، فأقبل أبو أيوب فدخل فرآني قائمًا، فاطلع فرأى البيت مستترًا ببجاد أخضر، فقال: يا عبدالله! أتسترون الجدر؟ قال أبي: واستحيي، غلبننا النساء يا أبا أيوب! قال: من خشي أن يغلبنه النساء، فلم أخش أن يغلبنك، ثم قال: لا أطعم لكم طعامًا، ولا أدخل لكم بيتًا، ثم خرج رحمه الله.
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/291): «رواه الطبراني في "الكبير"، ورجاله رجال الصحيح». وقال الألباني: «هذا سند جيد."آداب الزفاف" (ص201). ونقل عن المروزي أن الإمام أحمد احتج به.
وله شاهد أخرجه البيهقي في "سننه" (7/272) من حديث عبدالله بن عمر، عن ربيعة، عن عطاء قال: عرست ابنًا لي، فدعوت القاسم بن محمد وعبيدالله بن عبدالله بن عمر، فلما وقفا على الباب رأى عبيدالله البيت قد ستر بالديباج، فرجع ودخل القاسم بن محمد، فقلت: والله لقد مقتني حين انصرف، فقلت: أصلحك الله، والله إن ذلك لشيء ما صنعته، وما هو إلا شيء صنعته النساء وغلبونا عليه، قال: فحدثني: أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ما زوج ابنه سالِمًا، فلما كان يوم عرسه دعا عبدالله بن عمر ناسًا فيهم أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه ، فلما وقف على الباب رأى أبو أيوب في البيت سترًا من قز، فقال: لقد فعلتموها يا أبا عبدالرحمن! قد سترتم الجدر، ثم انصرف - وفي غير هذه الرواية - قال: دعا ابن عمر أبا أيوب رضي الله عنه م، فرأى في البيت سترًا على الجدار، فقال ابن عمر: غلبنا عليه النساء، فقال: من كنت أخشى عليه، فلم أكن أخشى عليك، والله لا أطعم لك طعامًا فرجع.
(2) في (ق): «يكون».
(3) في (أ) و(ق) و(ح): «منها».
(4) في (ب) و(ح) و(ك) و(ق): «أنها اشترت» وفي (أ): «اشتريت»..
(5) في (ق): «يكون».
(6) الآية (15) من سورة الغاشية.
(7) في (ك): «وقول».
(8) ....
(9) في (ق): «هذه التأويل بعيدة».
(10) في (ق): «هذه التأويل بعيدة».(5/428)
بال هذه النَّمرقة؟» فقالت مجيبة: اشتريتها لك، تقعد عليها، وتوسدها (1) . فهذا يصرح بأن هذه النَّمرقة غير الستر، وأن هذا حديث آخر غير ذلك، وحينئذ يستفاد منه: أن الصور لا يجوز اتخاذها في الثياب، وإن كانت ممتهنة. وهو أحد القولين كما قدمناه (2) .
وقوله: «وكانت لنا قطيفة كنا نقول علمها حرير، فكنا (3) نلبسها»؛ القطيفة: كساء له زئبر. وفيه (4) دليل على جواز لباس الثوب فيه العلم من الحرير، وقد تقدم القول فيه. ولم يرد في شيء من الأحادث أن هذا الثوب الذى كنَّي عنه بالدرنوك، =(5/429)=@
__________
(1) في (ق): «وتتوسدها».
(2) في (ق): «قدمنا».
(3) في (ق): «وكنا».
(4) في (ح): «فيه» بلا واو.(5/429)
والقرام، والنمط: أنه كان (1) حريرًا، وكذلك النمرقة، فلا حجَّة في شيء من ذلك لعبدالملك على قوله: أنَّه يجوز افتراش ثياب الحرير، ورأى ذلك (2) ليس لباسًا لها، وهذا قولٌ شذَّ به عن جميع العلماء، فإنَّهم رأوا ذلك لباسًا منهيًّا عنه، ولباس كل شيء بحسب ما جرت العادة باستعماله. والله أعلم.
- - - - -
17 - ومن باب أشدّ الناس عذابًا يوم القيامة المصورون
قوله: «أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون»؛ مقتضى هذا: ألا يكون في النار أحدٌ يزيد عذابه على المصوِّرين. وهذا يعارضه مواضع أخر. منها (3) : قوله تعالى: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} (4) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «أشدّ الناس =(5/430)=@
__________
(1) في (أ): «لم يكن».
(2) في (أ) و(ك) و(ح) و(ق): «أن ذلك».
(3) قوله: «منها» سقط من (ق).
(4) الآية (46) من سورة غافر.(5/430)
عذابًا يوم القيامة (1) عالم لم ينفعه الله تعالى بعلمه» (2) ، وقوله: «أشدّ الناس عذابا يوم القيامة إمام ضلالة» (3) ، ومثله كثير. ووجه التلفيق: أن الناس الذين أضيف إليهم: «أشد» لا يراد بهم كل نوع (4) الناس بل بعضهم المشاركون في ذلك المعنى المتوعد عليه بالعذاب (5) ، ففرعون أشد الناس المدَّعين للإلهية عذابًا. ومن يقتدي (6) به في ضلالة كفره أشد ممن يقتدي به في ضلالة بدعة (7) . ومن صور صور ذات الأرواح أشد عذابًا ممن يصوِّر ما ليس بذي روح، إن تنزلنا على قول من رأى تحريم (8) تصوير ما ليس بذي روح، وهو مجاهد، وإن لم نتنزل (9) عليه، فيجوز أن يعني بالمصورين الذين يصوِّرون الأصنام للعبادة، كما كانت الجاهلية تفعل، وكما تفعل النصارى، فإنَّ عذابهم يكون أشد ممن يصورها لا للعبادة، وهكذا يعتبر (10) هذا الباب. والله أعلم.
وقول (11) ابن عباس رضي الله عنه لمستفتيه عن الصور: «ادن مني» ثلاثًا، ووضعه يده (12) على رأسه؛ مبالغة في استحضار ذهنه، وفهمه، وفي تسميعه، وتعظيمه لأمر ما يلقيه (13) إليه. =(5/431)=@
__________
(1) قوله: «يوم القيامة» سقط من (أ) و(ح) و(ق).
(2) أخرجه الطبراني في "الصغير" (1/305 رقم507)، وابن عدي (5/158)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2/284-285 رقم1778). جميعهم من طريق عثمان بن مقسم البري، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( : «أشدّ الناس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه».
قال الطبراني: «لم يروه عن المقبري، إلا عثمان البّري».اهـ.
وقال ابن عدي في "الكامل": «ولعثمان البَّري غير حديث كثير عن من يروي عنه، وله أصناف، وعامة حديثه مما لا يتابع عليه إسنادًا أو متنًا، وهو ممن يغلط الكثير، ونسبه قوم إلى الصدق، وضعفوه للغلط الكثير الذي كان يغلط، إلا أنه في الجملة ضعيف ومع ضعفه يكتب حديثه».
وقال الهيثمي في "المجمع" (1/441): «رواه الطبراني في الصغير، وفيه عثمان البري، قال الفلاس: صدوق لكنه كثير الغلط صاحب بدعة، ضعفه أحمد والنسائي والدارقطني».
وقال المناوي في "فيض القدير" (1/518): وجزم الزين العراقي بأن سنده ضعيف.
وقال الألباني في "الضعيفة" (4/138-139 رقم1634): «ضعيف الإسناد جدًّا».
(3) تقدم تخريجه في باب: في اقتحام الواحد على جمع العدو، من كتاب الجهاد والسير.
(4) في (أ): «أنوع».
(5) في (أ): «بالعقاب».
(6) في (أ) ضبطها بفتح الدال مبنيًا للمجهول.
(7) في (ح): «ضلالة وبدعة».
(8) في (ق): «أن تحريم».
(9) في (ق): «ينزل».
(10) في (أ): «تعتبر».
(11) في (ق): يشبه «وقوله».
(12) في (ق): «يديه».
(13) في (ق): «يلقي».(5/431)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «كل مصوِّر في النار»؛ محمله على مصوري ذوات الأرواح، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - : «يقال لهم (1) : أحيوا ما خلقتم».
وقوله: «كلف أن ينفخ فيها الرُّوح»؛ من (2) هنا رأى ابن عباس: أن تصوير ما ليس له روح يجوز هو والاكتساب به (3) . وهو (4) مذهب جمهور السَّلف، والخلف. وخالفهم في ذلك مجاهد فقال: لا يجوز تصوير شيء من ذلك كله (5) ، سواء كان له روح، أو لم يكن؛ متمسِّكًا (6) في ذلك بقول (7) الله تعالى (8) : «ومن أظلم ممن ذهب يخلق (9) خلقًا كخلقي (10) ، فليخلقوا ذرَّة، وليخلقوا حبَّة، وليخلقوا شعيرة (11) ». فعمَّ بالذمِّ، والتهديد، والتقبيح كل من تعاطى تصوير شيء مما خلقه الله تعالى. وقد دلَّ هذا الحديث: على أن الذمَّ والوعيد إنما علِّق بالمصورين من حيث (12) تشبَّهوا بالله تعالى في خلقه، وتعاطوا مشاركة (13) فيما انفرد الله تعالى به من الخلق والاختراع. وهذا يوضح حجَّة مجاهد. وقد استثنى الجمهور من الصور لعب البنات كما تقدَّم. وشذَّ بعض الناس فمنعها، ورأى أن (14) إباحة ذلك منسوخة بهذا النهي. وهو ممنوع من ذلك، مطالب بتحقيق التعارض والتاربخ، واسثنى بعض أصحابنا من ذلك النهي ما لا يبقى كصور الفخار، والشمع، وما شاكل ذلك (15) ، وهو مطالب بدليل (16) التخصيص، وليس له عليه نصٌّ، بل (17) ولا ظاهر، وإنَّما هو نظر قاصر يرده المعنى الذي قررناه (18) ، والظواهر. =(5/432)=@
__________
(1) قوله: «يقال لهم» سقط من (ك).
(2) في (ب) و(ح): «ومن».
(3) في (ب): «يجوز الاكتساب به»، وفي (ح): «يجوز والاكتساب».
(4) قوله: «هو» سقط من (ق).
(5) قوله: «كله» سقط من (ق).
(6) في (ح): «متمسكين».
(7) ألحق في هامش (ح): « - صلى الله عليه وسلم - ».
(8) في (ق): «بقوله تعالى».
(9) في (ب): «خلق».
(10) قوله: «كخلقي» سقط من (ح).
(11) في (ق): «شعره».
(12) في (أ): «بالمصورين وحيث».
(13) في (ق): «مشاركته».
(14) قوله: «أن» سقط من (ح).
(15) في (ح): «وما شاكل كل ذلك».
(16) في (ح): «بذلك».
(17) قوله: «بل» سقط من (ب) و(ح).
(18) في (ق): «قيدناه».(5/432)
وقوله: «كُلِّف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ (1) »؛ أي: ألزم ذلك وطوقه، ولا يقدر على الامتثال، فيعذب على كل حال. ويستفاد منه جواز التكليف بالمحال في الدنيا، كما جاز ذلك في الآخرة. لكن: ليس مقصود هذا التكليف طلب الامتثال، وإنَّما مقصوده تعذيب المكلف، وإظهار عجزه عمَّا تعاطاه مبالغة في توبيخه، وإظهار قبيح (2) فعله. والله أعلم. =(5/433)=@
__________
(1) قوله: «وليس بنافع» سقط من (ك).
(2) في (ب) و(ح) و(ك) و(ق): «قبح».(5/433)
- - - - -
18 - ومن باب الأجراس والقلائد في أعناق الدَّواب
قوله: «لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس»؛ يفهم من هذا الحديث، ومما تقدَّم: أن مقصود الشرع مباعدة الكلاب (1) ، وألا تتخذ (2) في حضر، ولا سفر، وذلك للعلل التي تقدَّم ذكرها. وهو حجَّة لمن منع اتخاذ الكلاب (3) لحراسة الدواب، والأمتعة من السُّرَّاق في الأسفار (4) . وهو قول أصحاب مالك، وأجاز هشام ابن عروة اتخاذها لحراسة البقر من السليلة (5) .
قال الشيخ: والظاهر: أن المراد بالكلب هنا غير المأذون في اتخاذه، كما تقدَّم ؛لأن المسافر قد (6) يحتاج إلى حفظ ماشية (7) دوابه، وإبله، وغير ذلك، فيضطر إلى اتخاذها كما يضطر إليها في الحضر لزرعه وضرعه (8) .
و « الجرس»: ما يعلَّق في أعناق الإبل مما له صلصلة، والذي يضرب به، وهو بفتح الراء، وجمعه: أجراس. فأمَّا: الجرس بسكون الراء، فهو: الصوت الخفي. يقال بفتح الجيم وكسرها. وفيه ما يدلّ على كراهة اتخاذ الأجراس في الأسفار، وهو قول مالك وغيره. =(5/434)=@
__________
(1) في (ح) و(ك): «الكلب».
(2) في (ك) و(ق): «يتخذ».
(3) في (ك): «الكلب».
(4) من قوله: «وهو حجة....» إلى هنا سقط من (ح).
(5) في (ك): «السلة».
(6) قوله: «قد» سقط من (ق).
(7) في (ب): «حفظ بيته» وفي (ك): «ماشيته».
(8) في (أ): «وذرعه».(5/434)
قال الشيخ: وينبغي ألا تقصر (1) الكراهة على الأسفار، بل هي مكروهة في الحضر أيضًا، بدليل قوله ( : «الجرس مزامير الشيطان». ومزامير الشيطان مكروهه سفرًا وحضرًا، ثمَّ: هذا يعم الكبير، والصغير منها. وقد فرَّق بعض الشاميين، فأجازوا الصغير، ومنعوا الكبير. ووجه الفرق: أن الكبير به يقع (2) التشويش على الناس، وبه تحصل المشابهة بالنصارى، فإنَّهم (3) يستعملون النواقي (4) في حضرهم وسفرهم (5) .
وقوله: «تماثيل أو صور»؛ يحتمل أن يكون هذا شكًّا من بعض الرواة، ويحتمل أن يريد (6) بالتماثيل: ما كان قائم الشخص، وبالصور: ما كان رقمًا، ويكون (7) « أو» بمعنى: الواو، أو تكون للتنويع. والله تعالى أعلم.
وقوله: «لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر، أو قلادة إلا قطعت»؛ يعني بالوتر: وتر القوس. ولا معنى لقول من قال: إنَّه يعني بذلك: الوتر الذي هو الدَّحل، وهو طلب الثَّأر (8) ، ** في المطبوع وهو أقرب تراجع في المخطوطة ** لبعده لفظًا ومعنى. وقول مالك: أرى (9) ذلك من العين؛ يعني: أنهم كانوا يتعوذون بتعليق أوتار =(5/435)=@
__________
(1) في (ق): «يقصر».
(2) في (ب): «يقع به».
(3) في (ق): «وإنهم».
(4) في (أ) و(ح): «النواقس». وفي (ك) تشبه أن تكون «النواقيس» وفي (ق): «النواقيس».
(5) في (ق): «يراد».
(6) في (أ) و(ق) و(ك): «وتكون».
(7) في (ح»: «الرجل» وكتب في الهامش «الدحل» وفي (ق): «الرحل».
(8) في (ب) و(ح): «وهو طلب النار» وفي (أ): «الرحل وطلب النار».
(9) في (ب): «أن».(5/435)
قسيهم (1) في أعناق إبلهم من العين، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطعها لأجل توقع ذلك. وظاهر قول مالك: خصوصية ذلك بالوتر، ولذلك أجازه ابن القاسم بغير الوتر. وقال بعض أصحابنا فيمن قلَّد بعيره شيئًا ملونًا فيه خرز، إن كان للجمال؛ فلا بأس به (2) .
واختلف العلماء في تقليد البعير وغيره من الحيوان والإنسان (3) ما ليس بتعاويذ (4) قرآنية مخافة العين. فمنهم من نهى عنه ومنعه (5) ، ومنعه (6) قبل الحاجة، وأجازه عند الحاجة إليه، ومنهم من أجازه قبل الحاجة وبعدها، كما يجوز الاستظهار بالتداوي قبل حلول (7) المرض.
وقال غير مالك (8) : إن الأمر بقطع الأوتار إنما كان مخافة أن يختنق (9) به البعير عند الرَّعي، أو يحتبس (10) بغصن من أغصان الشجرة، كما اتفق لناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقدها ثم وجدها (11) قد (12) حبستها (13) شجرة (14) . والله أعلم (15) .
وقوله: «من وتر، أو قلادة»؛ هو شكٌّ من بعض الرواة، فكأنَّه لم يتحقق قوله: من وتر. هذا ظاهر كلامه. ويحتمل أن تكون (16) « أو» تنويعًا، فيكون المنهي عنه قلادة الأوتار وغيرها. والأولى: ما صار إليه مالك، والله تعالى أعلم. =(5/436)=@
__________
(1) في (ح): «قسهم».
(2) قوله: «به» سقط من (ق).
(3) كتب في هامش (ق) قوله «من» وتراجع.
(4) في (أ) و(ب): «بتعاوذ».
(5) في (ح): «ومنعهم».
(6) قوله: «ومنعه» الثانية ليس في (ك) و(ح) و(ق).
(7) في (أ): «محلول».
(8) في (ح): «وقال عبد الملك».
(9) في (ح) و(ق): «يخنق».
(10) في (ك): «أو ينحبس» وفي (ق): «أو يحبس».
(11) في (ق): «فقدها فوجدها».
(12) في (ح): «وقد».
(13) في (أ): «حبسها».
(14) أخرجه أحمد في "المسند" (1/386)، والبزار في "كشف الأستار" (1/202 رقم400)، والشاشي في "مسنده" (2/264 رقم839)، وأبو داود في "سننه" (1/309-310 رقم447) كتاب الصلاة، باب فيمن نام عن الصلاة أو نسيها، والطيالسي في "مسنده" (49-50 رقم377)، ومن طريقه البيهقي في "سننه" (2/218)، وأحمد في "المسند" (1/464)، ومن طريقه المزي في "تهذيب الكمال" (17/292). جميعهم من حديث شعبة، عن جامع بن شداد، عن عبدالرحمن بن أبي علقمة قال: سمعت عبدالله بن مسعود قال: أقبلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية، فذكروا أنهم نزلوا دهاسًا من الأرض؛ يعني بالدهاس الرمل، فقال: «من يكلؤنا ؟» فقال بلال: أنا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ! «إذًا ننام» ** تراجع **، فناموا حتى طلعت الشمس، فاستيقظ ناس فيهم فلان وفلان وفيهم عمر، فقلنا: اهضبوا؛ يعني تكلموا، قال: فاستيقظ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «افعلوا كما كنتم تفعلون»، ففعلنا، قال: «كذلك فافعلوا لمن نام أو نسي»، قال: وضلت ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطلبتها فوجدت حبلها قد تعلق بشجرة، فجئت بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فركب مسرورًا، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه الوحي اشتد ذلك عليه، وعرفنا ذلك فيه فتنحى منتبذًا خلفنا، فجعل يغطي رأسه بثوبه ويشتد ذلك عليه حتى عرفنا أنه قد أنزل عليه، فأتانا فأخبرنا أنه أنزل عليه: {إنا فتحنا لك فتحًا مبينا}.
إلا أن أبا داود وأحمد في الموضع الأول، والشاشي، والطيالسي، والبيهقي لم يذكروا قصة الناقة. وأخرجه أحمد كذلك الطبري في "تفسيره" (22/199) من طريق أبي بحر عن شعبة به. وفي كل ما تقدم أن الذي حرس المسلمين هو بلال بن رباح.
وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (49-50 رثم277)، وذكر قصة الناقة ومن طريقه البيهقي في "سننه" (2/218)، ولم يذكر قصة الناقة والشاشي في "مسنده" (2/265-267 رقم840 و841)، وأخرجه أحمد في "المسند" (1/391)، والطبراني (10/225-226 رقم10548)، والنسائي في "الكبرى" (5/268 رقم8854) كتاب السير، باب نزول الدهاس من الأرض بالليل. ولم يذكر قصة الناقة، وأبو يعلى في "مسنده" (9/187-188 رقم5285) ولم يذكر قصة الناقة، جميعهم من حديث المسعودي، عن جامع بن شداد.
وأخرجه الطبراني (10/168 رقم10349) مختصرًا، ولم يذكر قصة الناقة، وأبو يعلى في "مسنده" (8/426 رقم5010) ولم يذكر قصة الناقة، من حديث القاسم بن عبدالرحمن بن علقمة. كلاهما - جامع بن شداد، والقاسم بن عبدالرحمن بن علقمة، عن عبدالرحمن بن علقمة، عن ابن مسعود، فذكره بنحوه.
قال الهيثمي في "المجمع" (2/70 رقم1792): «رواه أحمد والبزار والطبراني في "الكبير" وأبو يعلى باختصار عنهم، وفيه عبدالرحمن بن عبدالله المسعودي، وقد اختلط في آخر عمره».
قلت: الذي عند البزار كم تقدم أن الذي حرسهم هو بلال وفي كل ما تقدم أن الذي حرسهم هو عبدالله بن مسعود. والصواب أن بلال هو الذي حرسهم حيث ثبت ذلك في الصحيحن من حديث أبي قتادة، وليس فيه ذكر الناقة. البخاري (2/66-67 رقم595) كتاب مواقيت الصلاة، باب الأذان بعد ذهاب الوقت، ومسلم (1/472 رقم861)، فثبت بذلك مخالفة المسعودي لشعبة، وشعبة هو من هو. وقد أشار إلى ذلك النسائي فقال في الموضع السابق بعد أن ذكر حديث شعبة: «وخالفه المسعودي».
وأما الأحاديث التي فيها أن بلال هو الحارس فأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/71 رقم1793)، وقال: «ورجاله موثوقون، وليس فيه المسعودي».
(15) قوله: «والله أعلم» سقط من (ك) و(ح).
(16) في (ق): «يكون».(5/436)
- - - - -
19 - باب النهي عن وسم الوجوه (1)
نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الضرب في الوجه، وعن الوسم فيه (2) يدلّ على احترام هذا العضو، وتشريفه على سائر الأعضاء الظاهرة، وذلك لأنه الأصل في خلقة الانسان، وغيره من الأعضاء خادم له؛ لأنَّه الجامع للحواس التي يحصل (3) بها الإدراكات المشتركة بين الأنواع المختلفة، ولأنَّه أول الأعضاء في الشخوص، والمقابلة، والتحدُّث، والقصد، ولأنَّه مدخل الروح ومخرجه، ولأنه مقر الجمال والحسن، ولأن به قوام الحيوان كله: ناطقه وغير ناطقه. ولما كان بهذه المثابة: احترمه الشرع، ونهى عن (4) أن يُتعرَّض له بإهانة، ولا تقبيح، ولا تشويه. وقد مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل يضرب عبده فقال: «اتق الوجه، فإنَّ الله تعالى خلق آدم على صورته» (5) ؛ أي: على صورة المضروب (6) . ومعى ذلك - والله أعلم -: أن المضروب من ولد آدم، ووجهه كوجهه في أصل الخلقة، ووجه آدم عليه السلام مكرمٌ، مشرف؛ إذ قد شرفه الله تعالى بأن خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأقبل عليه بكلامه، وأسجد له ملائكته.
وإذا كان هذا الوجه يشبه هذا (7) الوجه فينبغي أن يحترم كاحترامه.
ولما سمع ذلك الصحابي النهي عن الوسم، وفهم ذلك المعنى قال: والله لا أسمه، يعني الحمار إلا أقصى شيء من الوجه، مبالغة في الامتثال والاحترام.
و «الوسم»: الكي بالنار. وأصله: العلامة. يقال: وسم الشيء، يسمه: إذا =(5/437)=@
__________
(1) في (ك): «الوجه».
(2) في (ق): «وعن أن يوسم فيه».
(3) في (ب) و(ك): «تحصل».
(4) قوله: «عن» سقط من (ح).
(5) سيأتي في باب النهي عن ضرب الوجه، من كتاب البر والصلة.
(6) هذا من المؤلف رحمه الله تأويل للنص عن ظاهره، وأيُّ فائدة تذكر إذا كان الضمير عائدًا إلى المضروب ؟! إذ معلومٌ أن بنى آدم خلقوا على هيئة أبيهم، وقد جاءت نصوصٌ أكثر صراحة في تبيين المراد بهذا الحديث؛ فمن ذلك حديث ابن عمر وأبي هريرة: «لا تقبحوا الوجه فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن». قال حرب: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: صح عن رسول الله ( : أن آدم خلق على صورة الرحمن، وقال الكوسج: سمعت أحمد بن حنبل يقول: هذا الحديث صحيح، وقال أحمد: من قال أن الله خلق آدم على صورة العموم فهو جهمي. وأي صورة لآدم قبل أن يخلقه، والنصوصو عن سلف هذه الأمة في إثبات هذه المسألة لا يقتضيها المقام، فالصواب إثبات الحديث والإيمان بظاهره مع اعتقاد عدم المشابهة والمماثلة تعالى الله عز وجل عن ذلك، وأيضًا عدم تأويله أو تكييفه أو تعطيله عن ظاهره، فمثله مثل أحاديث الصفات الأخرى، الطريق واحد: ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله ( من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل. ولشيخنا أبي عبدالله حمود بن عبدالله التوجري غفر الله ورحمه مصنِّف جيد مفيد جمع فيه ما لم يسبق إلى جمعه، وأبان فيه الحق، وأيده في ذلك الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله في مقدمة لهذا الكتاب مفيدة.
(7) في (ب) و(ح) و(ك) و(ق): «ذلك».(5/437)
علّمه (1) بعلامة يعرف بها. ومنه: السيماء: العلامة، ومنه قوله تعالى: {سيماهم فى وجوههم من أثر السجود (2) } (3) . ومعروف الرواية: «الوسم» بالسين المهملة، وقد رواه بعضهم بالشين المثلثة (4) ، وهو وَهْمٌ؛ لأنَّ الوشم (5) إنما هو غرز الشفاه والأذرع (6) بالإبرة، وتسويدها بالنؤر، وهو: الكحل، أو ما شابهه. والوسم: كي. فكيف يجعل أحدهما مكان الآخر ؟!.
و «الجاعرتان»: مؤخر الوركين المشرفان مما يلي الدُّبر. وسُميا (7) بذلك: لأن الجعر - وهو البعر - يقع عليهما.
وقوله: «قال (8) : والله! لا أسمه إلا أقصى شيء من الوجه»؛ ظاهر مساق هذا الحديث في كتاب مسلم: أن القائل: هو ابن عباس راوي الخبر، وليس كذلك؛ لما صحَّ من رواية البخاري في "التاريخ" (9) ، ومن (10) **كذا في (أ) ** رواية أبي داود (11) في مصنفه: أن القائل هو: العباس ** كذا في (أ) ** والد عبدالله. وهو أوَّل من كوى في الجاعرتين، لا ابنه.
و « الميسم (12) »: المكوي. و « الظهر» هنا: الإبل التي يُحمل عليها. وهذه الأحاديث كلها تدلُّ على جواز كي الحيوان لمصلحة العلامة في كل الأعضاء إلا في الوجه. وهو مستثنى من تعذيب الحيوان بالنار؛ لأجل المصلحة الرَّاجحة. وإذا كان كذلك (13) ، فينبغي أن يقتصر منه على الخفيف الذي يحصل به المقصود، ولا يبالغ في التعذيب، ولا التشويه. وهذا (14) لا يختلف الفقهاء فيه إن شاء الله تعالى. =(5/438)=@
__________
(1) في (ك): «أعلمه».
(2) قوله: «من أثر السجود» سقط من (أ).
(3) الآية (29) من سورة الفتح.
(4) في (ب): «المعجمة».
(5) في (ح): «المثلثة».
(6) في (أ) و(ك) و(ح): «أو الأذرع» وفي (ق): (أو الأدرع».
(7) في (ق): «ويسمى».
(8) قوله: «قال» سقط من (ب).
(9) ...
(10) في (ك): «وفي».
(11) أخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده" (1019) من طريق أخرجه لبخاري في "الكبير" (2/187)، وأبو يعلى في "مسنده" (6701)، والمقدسي في "المختارة" (477 و478) عن ابن أبي ذئب، ثنا جعفر بن تمام بن العباس، عن جده العباس به. وجعفر لم يدرك جده العباس.
وأخرجه أبو يعلى (2735) عن زهير، ثنا عبدالله بن عبدالمجيد الحنفي، ثنا ابن أبي ذئب، عن جعفر بن تمام، عن ابن العباس: ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الوسم في الوجه. فلما سمع بذلك العباس وسم في الجاعرتين.
وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات.
تنبيه: مراد المؤلف بقوله: ومن رواية أبي داود في مصنفه وكذا القاضي عياض في "الإكمال" (6/644) بقوله: وكذا بيَّنه في "كتاب أبي داود" مرادهما: "مسند أبي داود الطيالسي"، وليس "سنن أبي داود"، كما توهم ذلك النووي في "شرح مسلم" (14/97)، وكما تبادر لذهن بعض المحققين الأفاضل، فقالوا: لم نجده في المطبوع من سنن أبي داود !!
(12) في (ح): «الميسم» بلا واو. وفي (ق): «والمسيم».
(13) في (أ) و(ك) و(ح): «كذا».
(14) قوله: «هذا» سقط من (ح).(5/438)
وفيه ما يدل على استحسان اخراج المولود الذكر عند ولادته لمن ترتجى (1) بركة دعوته من العلماء، والفضلاء. وينبغي لذلك المرجو بركته أن يحنك الصَّبي بتمر إن كان، أو بما (2) يتنزل (3) منزلته، كالزبيب، والتين، كما كانت العادة الجارية عندنا بالأندلس، لكنَّهم كانوا (4) يخرجونه (5) يوم السابع، وذلك عدولٌ عن مقتضى هذا الحديث، فإنَّه أُخرج إثر ولادته، قبل أن يصيب لبنًا، أو غيره. والكل واسعٌ، والأول أحسن اقتداءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبأصحابه رضي الله عنهم.
وقول أنس رضي الله عنه: «وعليه خميصة حُوتنيَّة (6) »؛ الخميصة: كساء أسود مربع. وقال الأصمعي: الخمائص: ثياب خز، أو صوف معلمة، كانت من لباس الناس. واختلف الرواة في « حوتنية (7) »، فرواها العذري بالحاء المهملة، وبعد الواو الساكنة تاء باثنتين (8) من فوقها (9) مفتوحة، بعدها (10) نون. ورواية الهوزني (11) : «حُونِية (12) » بضم الحاء وكسر النون بعد الواو. وعند الفارسي: «خُوَيْتِية (13) » بضم الخاء المعجمة، وفتح (14) الواو، وسكون الياء باثنتين من تحتها (15) ، بعدها تاء (16) . ورواه البخاري (17) : «حريثية (18) » منسوبة إلى حُريث (19) - رجل من قضاعة -. وضبطها ابن مُفَوَّز (20) : «حَوْنَبِية (21) » بفتح الحاء المهملة، وفتح النون بعدها، وكسر الباء بواحدة (22) من تحتها (23) . =(5/439)=@
__________
(1) في (ك) و(ق): «يرتجي».
(2) في (ق): «أوما».
(3) في (ك): «ينزل».
(4) قوله: «كانوا» سقط من (ح).
(5) في (ب): «يخرجون به».
(6) في (ق): «جوتنيه» «خوتنيه» نقط الحرف الأول بنقطة واحدة من فوق ومن تحت.
(7) في (أ): «حويتية» وفي (ق): «جوينيه».
(8) في (ح): «باثنين».
(9) في (ب): «الساكنة مثناة فوق» وفي (ق): «باثنتين من فوقها» وكتب في الهامش «مثناة فوق» ووضع فوقها «نسخه».
(10) في (ق): «وبعدها».
(11) في (ك): «الهروي».
(12) في (ق): «حوينيه».
(13) قوله: «خويتيه» سقط من (ق).
(14) في (ح): «وبفتح».
(15) في (ب): «وسكون المثناة تحت» وفي (ق): «باثنتين من تحتها» وكتب في الهامش «المثناة تحت».
(16) في (ب) و(ق): «مثناة فوقها».
(17) في "صحيحه" (5824).
(18) في (ك): «خرثية».
(19) في (ك): «خريث».
(20) في (ق): «ابن مقرن».
(21) قوله: «حونبيه» سقط من (ق).
(22) في (ق): «بواحدة» وكتب في الهامش الموحدة، ووضع فوقها (نخـ).
(23) في (ب): «وكسر الموحدة» وفي (ك): «بواحدة تحتها».(5/439)
قال الشيخ: ومع هذا الاضطراب لم نحصل (1) من هذه اللفظة على تحقيق، وأشبه ما فيها: ما رواه البخاري.
و «المربد»: أصله للأبل، فيحتمل أن كان مربدًا للابل وأدخلت (2) فيه الغنم. ويحتمل أن يكون استعاره لحظيرة الغنم.
وكونه - صلى الله عليه وسلم - يسم الإبل والغنم بيده؛ يدلُّ على تواضعه - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى (3) أن الفضل في امتهان الرجل نفسه في الأعمال (4) لا تزرى بالانسان شرعًا، وخصوصًا: إذا كان ذلك في مصلحة عامة، كما وسم - صلى الله عليه وسلم - (5) إبل الصدقة بيده (6) . ويحتمل أن تكون (7) مباشرته للكي بيده ليرفق بالبهائم في الوسم، ولا يبالغ في ألمها (8) . والله تعالى أعلم. =(5/440)=@
__________
(1) في (أ): «يحصل».
(2) في (ق): «فأدخلت».
(3) قوله: «على».
(4) في (ك) و(ح) و(ق): «الأعمال التي».
(5) في (ح) و(ق): «النبي - صلى الله عليه وسلم - ».
(6) في (ق): «بنفسه».
(7) في (ك): «تكون».
(8) في (ح): «إيلامها».(5/440)
- - - - -
20 - ومن باب النهي عن القزع وعن وصل الشعر
في الصحاح: القزع: أن يحلق رأس الصبي (1) في مواضع، ويترك (2) الشعر متفرقًا، وقد نُهي عنه. وقزع رأسه تقزيعًا: إذا حلق شعره، وبقيت منه بقايا في نواحي رأسه، ورجل مقزع: رقيق شعر الرأس، متفرقه. قال: والقزع: قطع من السحاب رقيقًا (3) ، الواحدة: قزعة.
قال الشيخ: لا خلاف: أنه (4) إذا حلق من الرأس (5) مواضع، وأبقيت مواضع أنه القزع المنهي عنه، لما عرف من اللغة كما نقلناه، ولتفسير نافع له بذلك.
واختلف فيما إذا حلق جميع الرأس وترك منه موضع كشعر الناصية، أو فيما إذا حلق موضع وحده، وبقي أكثر الرأس. فمنع ذلك مالك، وراه من القزع المنهي عنه. وقال ابن (6) نافع: أما القُصَّة (7) ، والقفا للغلام: فلا بأس به (8) . واختلف في المعنى الذي لأجله كره. فقيل: لأنه من زي أهل الزعارة (9) والفساد. وفي كتاب أبي داود (10) : أنه زي اليهود. وقيل: لأنَّه تشويه، وكأن هذه العلة أشبه؛ بدليل ما رواه النسائي (11) من حديث ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى صبيًا حلق بعض =(5/441)=@
__________
(1) في (ق): «صبي» وكتب في الهامش «الصبي» ووضع فوقها (نخـ).
(2) في (ح): «وترك».
(3) في (ك) و(ق) و(ح): «رقيقة».
(4) في (ح) و(ق): «في أنه».
(5) في (ح): «من الرغس» وكتب في الهامش «منه».
(6) قوله: «ابن» سقط من (أ).
(7) في (أ): «القبصة».
(8) البخاري (10/363-364 رقم5920) في اللباس، باب القزع.
(9) أي: سيء الخلق جدًّا.
(10) أخرجه أبو داود (4/412 رقم4197) في الترجل، باب ما جاء في الرخصة، عن الحسن بن علي، عن يزيد بن هارون، عن الحجاج بن حسان، قال: دخلنا على أنس بن مالك، فحدثتني أختي المغيرة قالت: وأنت يومئذ غلام ولك قرنان، أو قصتان، فمسح رأسك وبرك عليك، وقال: احلقوا هذين أو قصوهما، فإن هذا زي اليهود.
وفي سنده المغيرة بنت حسان، لم يرو عنها غير أخيها حجاج، وذكرها ابن حبان في "الثقات" (5/466)، والذهبي في المجهولات من "الميزان" (4/610 رقم10998) لتفرد أخيها بالرواية عنها. وفي "التقريب" (ص1372 رقم8783): «مقبولة».
(11) أخرجه عبدالرزاق (1/421 رقم 19564)، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله ( رأى غلامًا قد حُلق بعض رأسه، وترك بعضه، فنهاهم عن ذلك، وقال: «احلقوه كله أو ذروا كله». ومن طريقه أحمد (2/88)، وأبو داود (4/411 رقم4595) في الترجل، باب في الذؤابة، من طريق أحمد، عنه. والنسائي (8/130 رقم5048) في الزينة، باب الرخصة في حلق الرأس، وابن حبان (12/318-319 رقم5508/الإحسان)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (5/230 رقم6480)، والبغوي في "شرح السنة" (12/99 قم 3186).
قال الألباني في "الصحيحة" (3/115-116 رقم1123): «وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وقد أخرجه مسلم (3 رقم2120) من هذا الوجه، لكنه لم يسق لفظه، وإنما أحال بع على لفظ طريق عمر بن نافع، عن أبيه بلفظ: نهى عن القزع».اهـ.(5/441)
شعره، وترك بعضه، فنهى عن ذلك، وقال: «اتركوه كله، أو احلقوه كله».
وقول المرأة: إن لي ابنة عريسًا»، هو تصغير عروس، قلبت الواو ياء، وزيد عليها ياء التصغير، وأدغمت إحداهما (1) في الأخرى. ويقال: عروس، للذكر والأنثى. يقال: رجل عروس، ورجال عرس، وامرأة عروس من نساء عرائس. والعرس - بالكسر -: امرأة الرجل، ولبوة الأسد، والجمع أعراس، ومنه قول ا لشاعر (2) :
بالرقمتين له أجرٍ (3) وأعراس
و «الحصبة (4) »- بفتح الحاء، وسكون الصاد -: مرض معروف يشبه الجدري. وقولها: «تمرق (5) شعرها»؛ أي: انتتف، وفي رواية أخرى: «تَمَرَّط» (6) . وكلاهما بمعنى واحد. يقال: مرق (7) الصوف عن الإهاب، يمرق، مرقًا. وتمرق، وأمرق (8) ، =(5/442)=@
__________
(1) في (ح): «أحديهما».
(2) هو الهذلي كما في "لسان العرب" (6/135)، وفي "الصحاح" أنه مالك بن خويلد الخزاعي. وصدر البيت: ليثٌ هِزَبْر مُدِلٌّ حَوْلَ غابته.
(3) في (ح): «آخر».
(4) في (ح): «والحصبة».
(5) في (ق): «تمزق».
(6) مسلم (3/1677 رقم2123) في اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات والمغيرات خلق الله.
(7) في (ق): «مزق».
(8) في (ق): «يمزق مزقًا وتمزق وأمزق».(5/442)
ويقال: مرط شعره يمرطه مرطًا: إذا نتفه، والمراطة: ما سقط منه. وتمرط شعره يتمرط تمرطًا: إذا تساقط.
و «وصل الشعر»:هو أن يضاف إليه شعر آخر يكثر به. و«الواصلة»: هي التي تفعل ذلك. و « المستوصلة»: هي التي تستدعي من يفعل ذلك بها. وكذلك « الواشمة»: هي التي تعمل الوشم. وقد ذكرناه. و«المستوشمة»: هي التي تستدعي من يفعل ذلك (1) بها (2) .
وهذا الحديث نصٌّ في تحريم وصل الشعر بالشعر. وبه قال مالك، وجماعة من (3) العلماء. وشعر (4) الوصل بكل شيء من الصوف والخرق أوغيرها (5) ؛ لأنَّ ذلك كله في معنى وصله بالشعر، ولعموم نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تصل المرأة شعرها.
وقد شذَّ الليث بن سعد فأجاز (6) وصله بالصوف والخرق، وما ليس بشعر. وهو محجوج بما تقدَّم. وأباح آخرون وضع الشعر على الرأس، وقالوا: إنما نهي عن الوصل خاصة، وهذه ظاهريَّة محضة، وإعراض عن المعنى.
وقد شذَّ قوم فأجازوا الوصل مطلقًا، وتأولوا الحديث على غير وصل الشعر. وهو قول باطل. وقد روي عن عائشة، ولم يصح عنها (7) . ولا يدخل في هذا النهي (8) ما ربط من الشعر بخيوط الحرير الملوَّنة، وما لا يشبه الشعر، ولا يكثره (9) ، إنَّما (10) يفعل ذلك للتجمل والزينة. =(5/443)=@
__________
(1) قوله: «ذلك» سقط من (ك).
(2) في (ح): «فيها» بدل «منها».
(3) في (ك) و(ح) و(ق): «ومنعوا».
(4) قوله: «من» ليس في (أ) و(ك) و(ح).
(5) في (أ) و(ح) و(ك) و(ق): «وغيرها».
(6) في (ق): «بأن أجاز».
(7) أخرجه العقيلي في "الضعفاء" (2/192)، والخطيب في "تاريخه" (7/405) من طريق أبي حتروش شملة بن هزال، عن سعد الأسكاف، عن ابن أشوع، عن عائشة قالت: ليست الواصلة التي تعنون، وما بأس إن كانت المرأة زعراء قليل شعرها أن تصل رأسها بقرن صوف أسود، ألا ليست هذه بالواصلة، ولكن الواصلة التي تكون في شبيبتها بغى، فإذا أسنت وصلته بالقيادة.
وهذا إسناد ضعيف شملة بن هزال قال عنه ابن معين: ليس بشيء، وضعفه ابن المديني والنسائي وابن عدي وغيرهم.
(8) في (ح): «المعنى».
(9) في (أ) و(ك) و(ح) و(ق): «وإنما».
(10) في (ح): «تقطع».(5/443)
- - - - -
و « المتنمصات»: جمع متنمصة، وهي التي تقلع الشعر من وجهها بالمنماص، وهو الذي يقلع به (1) الشعر. ويقال عليها: النامصة.
و «المتفلجات»: جمع متفلجة، وهي التي تفعل الفلج في أسنانها؛ أي: تعاينه (2) حتى ترجع (3) المصمتة (4) الأسنان خلقة؛ فلجاء صنعة. وفي غير (5) كتاب مسلم: «الواشرات» (6) وهي جمع واشرة، وهي التي تشر (7) أسنانها؛ أي: تصنع فيها أشرًا، وهي التحزيزات التي تكون في أسنان الشبان (8) ، تفعل ذلك المرأة الكبيرة تشبُّه الشابَّة (9) . وقد وقع في رواية الهوزني - أحد رواة مسلم - مكان الواشمة والمستوشمة: الواشية (10) والمستوشية - بالياء باثنتين من تحتها مكان الميم -، وهي من الوشي؟ أى: تشي المرأة نفسها بما تفعله فيها من التَّنميص، والتفليج (11) ، والأشر، وغير ذلك، وبالميم أشهر، وهذه الأمور كُلُّها قد شهدت الأحاديث بلعن من يفعلها، وبأنَّها من الكبائر. واختلف في المعنى الذي لأجله نهى (12) عنها. فقيل: لأنَّها من باب التدليس. وقيل: من باب تغيير خلق الله؛ الذي يحمل الشيطان عليه، ويأمر به، كما قال تعالى مخبرًا عنه: {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} (13) ، قال ابن مسعود، والحسن: بالوشم. وهو الذي أومأ إليه قوله ( : «المغيرات خلق الله». ولذلك قال علماؤنا: هذا المنهي (14) عنه، المتوعَّد على فعله؛ إنَّما هو فيما يكون باقيًا؛ لأنَّه من =(5/444)=@
__________
(1) قوله: «به» سقط من (أ).
(2) في (أ) و(ك) و(ح) و(ق): «تعانيه».
(3) في (ق): «ترتجع».
(4) في (ب): «المنضمة» في (ق): «المصمتة» وكتب في الهامش المنضمة ووضع (نسخه).
(5) قوله: «غير» سقط من (ب).
(6) أخرجه بهذا اللفظ ابن جرير الطبري في "تفسيره" (5/285) من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن ابن مسعود به مرفوعًا.
وأخرجه أحمد (3945) من طريق الحسن العرني، عن يحيى الجزار، عن مسروق، عن ابن مسعود، به. بلفظ: «والواشرة والمستوشرة».
(7) في (ق): «تشير».
(8) في (ك): «الشباب».
(9) في (ك) و(ح) و(ق): «الشباب».
(10) في (ح): «الوشية».
(11) في (ك): «والتفليخ».
(12) في (ق): «ينهى».
(13) الآية (119) من سورة النساء.
(14) في (أ): «النهي».(5/444)
باب تغيير خلق الله. فأما ما لا يكون باقيًا، كالكحل، والتزين به للنساء: فقد أجازه العلماء: مالك، وغيره. وكرهه مالك للرجال. وأجاز مالك أيضًا أن تشي المرأة يديها بالحناء. وروي عن عمر رضي الله عنه إنكار ذلك (1) . وقال: إما أن تخضب (2) يديها كلها، أو تدع. وأنكر مالك هذه (3) عن عمر.
قال القاضي عياض: وجاء حديث بالنهي عن تسويد الحناء (4) . ذكره صاحب "النصائح" (5) .
قال أبو جعفر الطبري في هذا الحديث: أنَّه لا يجوز لامرأة (6) تغيير شيء من خلقها الذي خلقها الله تعالى عليه بزيادة، أو نقص، التماس الحسن لزوج أو غيره، سواء فلجت أسنانها، أو وشرتها، أو كان لها سن زائدة فأزالتها، أو أسنان طوال، فقطعت أطرافها. وكذلك لا يجوز لها (7) حلق لحية، أو شارب، أو عنفقة إن نبتت لها (8) ؛ لأنَّ كل ذلك تغيير لخلق الله تعالى.
قال القاضي (9) : ويأتي على ما ذكره (10) أن من خلق بإصبع زائدة، أو عضو زائد؛ لا يجوز له قطعه، ولا نزعه؛ لأنَّه من تغيير خلق الله، إلا أن تكون هذه الزوائد تؤلمه فلا بأس بنزعه عند أبي جعفر (11) وغيره.
وقول ابن مسعود للمرأة (12) : «وما لي لا ألعن من لعنه رسول الله ( »؛ دليل: على جواز الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إطلاق اللعن على من لعنه النبي (13) - صلى الله عليه وسلم - معينًا كان أو غير معيَّن؛ لأنَّ الأصل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يلعن إلا من يستحق ذلك. غير أن هذا يعارضه قوله ( : «اللهم ما من مسلم سببته، أو جلدته، أو لعنته (14) ، وليس لذلك بأهل، فاجعل ذلك له كفارة، وطهورًا (15) » (16) . وهذا يقتضي أنه - صلى الله عليه وسلم - قد يلعن من ليس بأهل للعنة (17) . وقد أشكل هذا على كثير من العلماء، وراموا (18) الانفصال عن ذلك =(5/445)=@
__________
(1) أخرج عبدالرزاق (7929) عن معمر، عن بديل العقيلي، عن أبي العلاء بن عبدالله بن الشخير قال: حدثتني امرأة أنها سمعت عمر بن الخطاب وهو يخطب، وهو يقول: يا معشر النساء إذا اختضبتن فإياكن النقش والتطريف، ولتخضب إحداكن يديها إلى هذا، وأشار إلى موضع السوار. وإسناده ضعيف لجهالة المرأة.
(2) في (ح): «تختصب».
(3) في (ح) و(ك): «هذا».
(4) .........
(5) في (ب) و(ق): «المصابيح»، وفي "تفسير الطبري" (5/393): «صاحب المصابيح»، وفي "الإكمال" (6/655): «صاحب النصائح»، وفي "كشف الظنون" (2/1467): «كتاب النصائح لأبي إبراهيم إسحاق بن إبراهيم التجيبي القرطبي المالكي».
(6) في (ك): «للمرأة».
(7) في (ب): «لها» مطموس في (ب).
(8) بل يجوز لها حلق لحية أو شارب أو عنفقة إن نبت لها ذلك، ولا يعد تغيير؛ لأن ذلك يشوه خلقتها.
(9) في (ك): «لحلق قال القاضي».
(10) في (ك): «ما ذكر».
(11) في (ح): «أبو جعفر الطبري».
(12) قوله: «للمرأة» سقط من (ك).
(13) في (ك): «رسول الله ( ».
(14) في (ك): «أو لعنته أو جلدته».
(15) في (ب): «طهرًا».
(16) سيأتي في باب لم يبعث النبي ( لعانًا وإنما بعث رحمة. من كتاب البر والصلة.
(17) في (ح): «اللعنة».
(18) في (ك): «ورأوا».(5/445)
بأجوبة متعددة ذكرها (1) القاضي عياض في كتاب "الشفاء"، وأشبه ما ينفصل به عن ذلك: أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : «ليس لذلك بأهل» في علم (2) الله. وأعني بذلك: أن هذا الذي لعنه النبي (3) - صلى الله عليه وسلم - ؛ إنما لعنه (4) لسبب صدر منه يقتضي إباحة لعنه، لكنَّه قد يكون منهم من يعلم الله تعالى من مآل (5) حاله: أنه يقلع عن ذلك السبب، ويتوب منه، بحيث لا يضره. فهذا (6) هو الذي يعود عليه سب النبي (7) ( إياه، ولعنه (8) له بالرحمة، والطهور، والكفارة. ومن لا يعلم الله منه ذلك، فإنَّ دعاءه - صلى الله عليه وسلم - زيادة في شقوته، وتكثير للعنته (9) ، والله أعلم (10) .
وقوله: «وهو في كتاب الله» فهمت المرأة من هذا القول أن لعن المذكورات (11) في الحديث (12) منصوص عليه في القرآن، فقالت: لقد قرأت (13) ما بين لوحي المصحف فلم أجده.
وقوله لها: «لئن كنت قرأتيه، لقد وجدتيه» بزيادة ياء هي الرواية، وهي لغة معروفة، فيما إذا اتصل بتاء (14) خطاب الواحدة المؤنثة ضمير غائب؛ ويعني: بقرأتيه: تدبرتيه. ووجه استدلاله على ذلك بالآية: أنَّه (15) فهم منها تحريم مخالفة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يأمر به، وينهى عنه، وأن مخالفه مستحق للعنة. وهؤلاء المذكورات في الحديث مستحقات للعنة.
وقول المرأة لابن مسعود: «فإنا نرى على امرأتك شيئًا من هذا الآن»؛ تعني: أنها رأت على امرأته عن وقت قريب من وقت كلامها معه، حتى كأنه في حكم الوقت الحاضر المعبَّر عنه بـ «الآن» شيئًا من تلك الأمور المذكورات في =(5/446)=@
__________
(1) في (ح): «ذكره».
(2) في (ح): «عند» بدل «في علم».
(3) في (ك): «رسول الله ( ».
(4) قوله: «إنما لعنه» سقط من (ق).
(5) قوله: «مآل» سقط من (ح).
(6) في (ق): «وهذا».
(7) في (ك): «رسول الله ( ».
(8) في (ح): «لعنته».
(9) في (ك): «في لعنته» وفي (ق): «للعنة».
(10) قوله: «والله أعلم» ليس في (ق).
(11) في (ق): «المذكور له» وكتب في الهامش «المذكورات» ووضع فوقها (نسخه).
(12) في (ق): «في هذا الحديث».
(13) في (ح): «قرأت القرآن».
(14) في (ك): «بياء».
(15) في (أ): «لأنه».(5/446)
الحديث. وأقرب ما يكون ذلك الشيء الثنميص (1) ، وهو الذي يزول بنبات الشعر عن قريب، ولو كان ذلك وشمًا، أو تفليجًا، لما زال.
وقوله لها (2) : «اذهبي فانظري»؛ يعني: أنَّه لما رأى على امرأته شيئًا من ذلك (3) نهاها فانتهت عنه، وسعت في إزالته حتى زال، فدخلت المرأة، فلم تر عليها شيئًا من ذلك، فصدَّق قوله فعله. وهكذا يتعين على الرجل أن ينكر على زوجته مهما رأى عليها شيئًا محرَّمًا، ويمتنع من وطئها كما قال عبد الله: أما إنه لو كان ذلك لم يجامعها. هذا (4) ظاهر هذا اللفظ (5) . ويحتمل: لم يجتمع معها في دار، ولا (6) بيت، فإما بهجران، أو بطلاق، كما قال تعالى: {واللآتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن} (7) . وإذا كان هذا لأجل حق الزوج، فلأن يكون لحق الله تعالى أحرى وأولى.
- - - - -
22 - ومن باب النهي عن الزور، وهو ما يكثرون (8) به الشعور (9)
القُصَّة (10) من الشعر: ما كان منه على الجبهة. قاله الاصمعي. =(5/447)=@
__________
(1) في (ك): «التنمص».
(2) قوله: «لها» سقط من (ب) و(ك).
(3) في (أ): «من ذلك شيئًا».
(4) في (ح): «هذا هو».
(5) في (ق): «اللفظ» وكتب في الهامش «الحديث» ووضع فوقها (نخـ).
(6) في (ق): «أو» بدل «ولا».
(7) الآية (34) من سورة النساء.
(8) في (أ): «يكثرن» وفي (ك) و(ح): «تكثر» وفي (ق): «يكثر».
(9) في (ق): «الشعر».
(10) في (ك) و(ح) و(ق): «والقصة».(5/447)
وقول معاوية: «يا أهل المدينة! أين علماؤكم ؟» هذا من معاوية رضي الله عنه على جهة التذكير لأهل المدينة بما يعلمونه، واستعانة على ما رام تغييره (1) من ذلك. لا على جهة أن يعلمهم بما لم (2) يعلموا، فإنَّهم أعلم الناس بأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لا سيما في ذلك العصر. ويحتمل أن يكون ذلك منه؛ لأنَّ عوام (3) أهل المدينة أول من أحدث الزور، كما قال في الرواية الأخرى: إنكم قد أحدثتم زي سوء؛ يعني: الزور، فنادى أهل العلم ليوافقوه على ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن ذلك، فينزجر من أحدث ذلك من العوام. وقد فسَّر معاوية الزور المنهي عنه في هذا الحديث بالخِرَق التي يُكْثِر النساء (4) بها شعورهن بقوله: «ألا وهذا الزور». وزاده قتادة وضوحًا.
و «الزور» في غير هذا الحديث: قول الباطل، والشهادة بالكذب. وأصل التزوير: التمويه بما ليس بصحيح.
وهذا الحديث حجَّة واضحة على إبطال قول من قصر التحريم على وصل الشعر، كما تقدَّم. وهذا يدلّ: على اعتبار أقوال أهل المدينة عندهم، وأنها مرجع يعتمد (5) عليه في الأحكام. وهو من حجج مالك على أن إجماع أهل المدينة حجَّة، وقد حققنا ذلك في الأصول.
وقوله: «إنما هلكت (6) بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم»؛ يظهر منه (7) : أن ذلك كان محرَّما عليهم، وأن نساءهم ارتكبوا ذلك المحرَّم، فأقرَّهن على ذلك رجالهم، فاستوجب الكل العقوبة بذلك، وبما ارتكبوه من العظائم. =(5/448)=@
__________
(1) في (ك): «من تغييره».
(2) قوله: «لم»: سقط من (ق).
(3) في (ق): «منه لأعوام».
(4) في (ق): «تكثر».
(5) في (ك): «معتمد».
(6) في (ب): «هلك».
(7) في (ق): «فظهر منه فظهر منه أن ذلك».(5/448)
وقوله: «صنفان من أهل النار لم أرهما»؛ أي: لم يوجد في عصره منهما أحدٌ؛ لطهارة أهل ذلك العصر الكريم. ويتضمن ذلك: أن ذينك (1) الصنفين سيوجدان. وكذلك كان، فإنَّه خلف بعد تلك (2) الأعصار قوم يلازمون السياط المؤلمة التي لا يجوز أن يضرب بها في الحدود قصدًا لتعذيب الناس، فإنَّ أمروا بإقامة حد، أو تعزير، تعدوا المشروع في ذلك في الصفة والمقدار، وربما أفضى بهم الهوى، وما جبلوا عليه من الظلم إلى هلاك (3) المضروب، أو تعظيم عذابه. وهذا (4) أحوال الشرط بالمغرب، والعوانية في هذه البلاد. وعلى الجملة: فهم سخط الله في الجملة عاقب الله بهم شرار خلقه غالبًا. نعوذ بالله من سخطه في الدنيا والآخرة.
وقوله: «ونساء كاسيات، عاريات»؛ قيل في هذا قولان:
أحدهما: أنهن كاسيات بلباس الأثواب الرقاق الرفيعة التي لا تستر (5) منهن (6) حجم عورة، أو تبدي من محاسنها - مع وجود (7) الأثواب الساترة عليها - ما لا يحل لها أن تبديه، كما تفعل (8) البغايا (9) المشتهرات (10) بالفسق. =(5/449)=@
__________
(1) في (ق): «ذلك».
(2) في (ق): «ذلك».
(3) في (أ): «إهلاك».
(4) في (ح) و(ق): «وهذه».
(5) في (ق): «لا يستر».
(6) في (ق): «منهم» وكتب في الهامش «منهن» ووضع (خ).
(7) في (ق): «وجوب».
(8) في (ك): «يفعل».
(9) في (ق): «الباغيات».
(10) في (أ) و(ح) و(ق): «والمشتهرات» وفي (ك): «المشهورات».(5/449)
وثانيهما: أنهنَّ (1) كاسيات من الثياب، عاريات (2) من لباس التقوى؛ الذي قال الله تعالى فيه (3) :{ ولباس التقوى ذلك خير} (4) .
قال الشيخ: ولا بُعد في إرادة القدر المشترك بين هذين النوعين؛ إذ كل واحد منهما عُرُوٌّ (5) ؛ إنَّما (6) يختلفان بالإضافة.
وقوله: «مميلات مائلات»؛ كذا جاءت الرواية في هاتين الكلمتين بتقديم: مميلات على مائلات (7) ، وكلاهما من الميل، بالياء باثنتين من تحتها (8) . ومعنى ذلك: أنهن يملن في أنفسهن (9) تثنيًا (10) ونعمة وتصنعًا؛ ليُملن إليهن قلوب الرجال، فيميلوا (11) إليهن، ويفتنَّهم. وعلى هذا: فكان حق مائلات أن يتقدم (12) على مميلات؛ لأنَّ ميلهن في أنفسهن مقدَّم (13) في الوجود على إمالتهن. وصحَّ ذلك لأن الصفات المجتمعة لا يلزم ترتيبها: ألا ترى أنها تعطف بالواو، و (14) الواو جامعة غير مترتبة (15) ، إلا أن الأحسن تقديم مائلات على مميلات؛ لأنَّه سببه كما سبق. وقد أبعد أبو الوليد الوقشي حيث قال: إن صوابه: «الماثلة» بالثاء المثلثة، يعني: الظاهرة، وقال: لا معنى للمائلة هنا. وترك هذا الصواب هو الصواب (16) .
وقوله: «رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة (17) »؛ أسنمة (18) : جمع سنام، وسنام كل شيء: أعلاه. والبخت: جمع (19) بختية، وهي ضرب من الإبل عظام الأجسام، عظام الأسنمة، شبَّه رؤوسهن بها لما رفعن من ضفائر شعورهن أعلى (20) أوساط رؤوسهن =(5/450)=@
__________
(1) في (أ): «أنهما».
(2) في (أ): «عارية».
(3) قوله: «فيه» سقط من (ح) و(ك).
(4) الآية (26) من سورة الأعراف.
(5) في (ق): «عرف».
(6) في (أ) و(ح) و(ق): «وإنما». وفي (ك): «وإنما تختلفان».
(7) من قوله: «كذا جاءت الرواية....» إلى هنا سقط من (ح).
(8) في (ب): «من الميل بالمثنات تحت».
(9) قوله: «في أنفسهن» سقط من(ح).
(10) في (ق): «تثبيتًا».
(11) في (أ): «فيميلون».
(12) في (ب) و(ح): «تتقدم».
(13) في (أ) و(ح) و(ق): «متقدم».
(14) من قوله: «الصفات المجتمعة....» إلى هنا سقط من (أ).
(15) في (أ) و(ح) و(ق): «تثبيتًا».
(16) من قوله: «وقد أبعد أبو الوليد...» إلى هنا سقط من (ب) و(ح) و(ك) و(ق).
(17) قوله: «المائلة» سقط من (أ).
(18) في (ب): «وأسنمة».
(19) في (ح): «جميع».
(20) في (ك) و(ح) و(ق): «على».(5/450)
تزينًا (1) ، وتصنعًا، وقد يفعلن ذلك بما يكثرن به شعورهن (2) ، والمائلة: (3) بالياء، من الميل. يعني: أن أعلى السَّنام يميل لكثرة (4) شحمه، شبَّه أعالي ما يرفعن من الشعر بذلك. وقال (5) الوقشي: صوابه: بالثاء المثلثة؛ أي: المرتفعة الظاهرة (6) .
وقد تقدَّم القول على نحو قوله: «لا يدخلن الجنه»، وعلى قوله: «كذا وكذا». وهو هنا (7) كناية عن خمسمائة عام، كما قد جاء مفسَّرًا (8) .
وقولها (9) :«هل عليَّ جناح (10) أن أتشبَّع من مال زوجي بما لم يعطني؟)) سألته: هل يجوز لها أن تظهر لضرتها: أن زوجها قد مكنها (11) ، أو أعطاها من ماله (12) أكثر مما (13) تستحقه، أو (14) أكثر مماأعطى ضرتها؛ افتخارًا عليها، وإيهامًا لها: أنها عنده أحظى منها، فأجابها - صلى الله عليه وسلم - بما يقتضي المنع من ذلك، فقال: «المتشبِّع بما لم يُعط كلابس ثوبي زور». وأصل التشبُّع: تفعُّل من الشِّبع، وهو الذي يظهر الشِّبع وليس بشبعان. وكثيرًا ما تأتي (15) هذه الصيغة بمعنى التعاطي كالتكبُّر، والتصنُّع. ويفهم من هذا الكلام: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى المرأة عن (16) أن تتظاهر وتتكاثر بما لم يعطها زوجها؛ لأنَّه شَبَّه فعلها ذلك بما يُنهى (17) عنه، وهو: أن يلبس الإنسان ثوبين زورًا. واختلف المتأولون؛ هل الثوبان محمولان على الحقيقة، أو على المجاز؛ على قولين: فعلى الأول يكون معناه: أنه شبهها بمن أخذ ثوبين لغيره بغير إذنه، فلبسهما مظهرًا أن له ثيابًا ليس مثلها (18) للمظهَر له. وقيل: بل شبهها (19) بمن يلبس ثياب الزهاد، وليس بزاهد. =(5/451)=@
__________
(1) في (ق): «تزيينًا».
(2) في (ق): «من شعورهن».
(3) في (ح): «الرواية فيها» وفي (ق): «الرواية فيها».
(4) في (ح): «بكثرة».
(5) في (ق): «وقول» وطنب في الهامش «وقال» ووضع فوقها: (خ).
(6) من قوله: «والمائلة الرواية بالياء....» إلى هنا سقط من (أ).
(7) قوله: «هنا» سقط من (ب) و(ح).
(8) هو في "موطأ مالك" (2/913 رقم7) كتاب اللباس، باب ما يكره للنساء لبسه من الثياب. غلا أنه موقوف على أبي هريرة. قال ابن عبدالبر كما في "تنوير الحوالك" للسيوطي (1/216): «كذا وقفه يحيى ورواة "الموطأ" إلا عبدالله بن نافع فإنه رواه عن مالك بإسناده هذا مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومعلوم أن هذا لا يمكن أن يكون من رأي أبي هريرة؛ لأن مثل هذا لا يدرك بالرأي، ومحال أن يقول أبو هريرة من رأيه: لا يدخل الجنة...».
(9) في (أ): «وقوله» وفي (ق): «قولها» بلا واو.
(10) في (ب): «من جناح».
(11) في (ك): «مكنها» وألحق في الهامش «ملكها» ووضع بجانبها (خ) وفي (ق): «ملكها».
(12) في (أ): «مالها».
(13) في (ك): «ما» بدل «مما».
(14) في (ق): «و» بدل «أو».
(15) في (ق): «مما يأتي».
(16) قوله: «عن» سقط من (ق).
(17) في (ح): «نهى».
(18) في (ح): «مثلهما».
(19) في (ح): «شبههما».(5/451)
وعلى الوجه الثاني: قال الخطابي: إن ذكر الثوبين هنا كناية عن حاله ومذهبه. والعرب تكني بالثوب عن حال لابسه (1) . والمعنى: أنه بمنزلة الكاذب (2) القائل ما لم يكن. وقيل: هو الرجل في الحيِّ تكون (3) له هيئة (4) ، فإذا احتيج (5) إليه في شهادة زور شهد (6) بها، فلا يرد لأجل هيئته (7) ، وحسن ثوبه. فأضيفت (8) شهادة الزور إلى ثوبه (9) ؛ إذ كان سببها.
قال الشيخ: وأي شيء من هذه الوجوه كان المقصود، فيحصل منه: أن تشبع المرأة على ضرَّتها بما لم يعطها زوجها محرَّم؛ لأنَّه شُبه بمحرَّم، وإنما كان ذلك محرَّمًا؛ لأنَّه تصرف في ملك الغير بغير إذنه، ورياءً، وأذًا للضرة من نسبة الزوج إلى أنَّه آثرها عليها، وهو لم يفعل، وكل ذلك محرَّم. =(5/452)=@
__________
(1) في (ح): «لا لبسه».
(2) في (ح): «الكذاب»، وكتب في الحاشية: «الكاذب»، وعليها "صح" وفي (ك): «الكذاب».
(3) في (ك): «يكون».
(4) في (ق): «هيبة».
(5) في (ح): «احتج».
(6) في (ق): «يشهد».
(7) في (ق): «هيبته».
(8) في (ق): «فاضيف».
(9) في (ب): «ثوبيه».(5/452)
30 - كتاب الأدب
1 - ومن باب في (1) أحب الأسماء إلى الله تعالى وأبغضها إليه
قوله: «أحب أسمائكم إلى الله: عبد الله، وعبدالرحمن»؛ إنما كانت هذه الأسماء أحبُّ إلى الله تعالى؛ لأنها (2) تضمَّنت ما هو وصف واجب للحق تعالى، وهو: الإلهية، والرحمانية، وما هو وصف الإنسان (3) وواجب (4) له، وهو: العبودية والافتقار، ثمَّ قد أضيف (5) العبد الفقير للإله الغني إضافة حقيقيَّة (6) . فصدقت أفراد هذه الأسماء الأصلية، وشرفت بهذه الإضافة التركيبية، فحصلت (7) لهما (8) هذه الأفضلية الأحبيَّة (9) . ويلحق (10) بهذين الاسمين ما (11) كان مثلهما، مثل: عبدالملك، وعبدالصمد، وعبدالغني. =(5/453)=@
__________
(1) قوله: «في» سقط من (ب) و(ح).
(2) في (ح): «أنها».
(3) في (ح) و(ق): «للإنسان».
(4) في (ب): «وهو واجب»، وفي (ح): «واجب».
(5) في (ح): «أضيفت».
(6) في (ب) و(ح) و(ق): «حقيقة».
(7) في (ح): «فجعلت».
(8) في (ب): «لها».
(9) في (ك): «الأجنبية».
(10) في (ق): «فيلحق».
(11) في (أ) و(ك) و(ح) و(ق): «كل ما».(5/453)
وقوله: «إن أخنع اسم عند الله»؛ أي: أذلَّ (1) . والخنوع: الخضوع والذلُّ. يقال: أخنعتني (2) إليك الحاجة. ومنه في دعاء القنوت: «ونخنع لك» (3) ؛ أي: نذل لك ونخضع. وقد يقال على الفجور والرِّيبة. يقال: رجل خانع؛ أي: مريب فاجر. ومنه قول الأعشى (4) :
ولا يُرَوْن (5) **تراجع في النسخ ** إلى جاراتهم خُنُعًا (6) ** تراجع النسخ وفي لسان العرب كذا أيضًا؟؟**
قال الشيخ: وهو (7) راجعٌ للمعنى الأول؛ لأنَّ الفاجر المريب خانع ذليل. ولذلك (8) فسَّر (9) أبو عمرو: أخنع بأوضع (10) ؛ أي: أذل وأخس. وأراد بالاسم هنا: المسمى، بدليل ما قال في الرواية الأخرى: أغيظ (11) رجل، وأخبثه.
والغيظ (12) المضاف إلى الله تعالى هو: عبارة عن غضبه. وقد تقدَّم: أن غضب الله تعالى عبارة عن عقوبته المنزلة بمن يستحقها (13) . والأخبث: من الخبث، وهو (14) : الاسترذال، والخِسَّة، والرَّداءة. وقد وقع في هذه الرواية: وأغيظه. معطوفًا على أخبثه، من الغيظ، فجاء مكررًا. فذهب بعض العلماء إلى أن ذلك وهم، والصواب: أغنط (15) - بالنون والطاء المهملة؛ أي: أشدُّ. والغَنَط (16) : شدة الكرب (17) .
قال الشيخ: والصواب التمسك بالرِّواية. وتطريق الوهم للأئمة (18) الحفاظ وهم لا ينبغي (19) المبادرة إليه ما وجد للكلام وجه (20) ، ويمكن أن يحمل على إفادة تكرار =(5/454)=@
__________
(1) في (ق): «أي أخضع» وألحق في الهامش «أي أذل» ووضع فوقها (نسخة).
(2) في (ح): «أخنعني» وفي (ق): «أخشعتني».
(3) ذكره في "المدونة" (1/103)
(4) "لسان العرب" (8/80)، وصدر البيت: هم الخضارم إن غابوا وإن حضروا.
(5) في (ب): «ولا تروني»، وفي (أ) و(ح): «ولا يرُوني» وفي (ق): «ولا يروي».
(6) في (أ): «حُنُط».
(7) في (ب): «وهو». وفي (ق): «وهذا». **يراجع**
(8) في (أ): «وكذلك».
(9) في (ح): «فسره».
(10) مسلم (3/1688 رقم2143) في الدب، باب تحريم التسمي بملك الأملاك وبملك الملوك.
(11) في (أ): «أي أغيظ».
(12) في (ق): «والمغيظ».
(13) الصواب أن الله عز وجل يغضب حقيقة غضبًا يليق بجلاله، ليس كغضب المخلوقين؛ إذ الغضب في حق المخلوقين صفة نقص في الغالب، وغضب الله صفة كمال. ومذهب أهل السُّنة إثبات صفة الغضب بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}، وعقوبة الله تعالى من مستلزمات غضبه، وليست غضبه عز وجل.
(14) في (أ): «وهي».
(15) في (ب) و(ق): «وأغنط»، وفي (ح): «أعنط».
(16) في (ح): «والعنط».
(17) في (ق): «شدة الكذب» وكتب في الهامش «الكرب» ووضع فوقها (خ).
(18) في (ح) و(ق): «إلى الأئمة».
(19) في (ك) و(ق): «ينبغي».
(20) في (ق): «وهم».(5/454)
العقوبة (1) على المسمى بذلك الاسم وتعظيمها (2) ، كما قال تعالى في حق اليهود:{فباءُوا بغضب على غضب} (3) ؛ أي: بما يوجب العقوبة بعد العقوبة. وكذلك فعل الله تعالى بهم؛ عاقبهم (4) في الدنيا بأنواعٍ من العقوبات، ولعذاب الآخرة أشقُّ.
وحاصل هذا الحديث: أن المسمى بهذا الاسم قد انتهى من الكبر (5) إلى الغاية التي لا تنبغي لمخلوق (6) ، وأنه قد تعاطى (7) ما هو خاص بالإله الحق؛ إذ لا يَصْدُق هذا الاسم بالحقيقة (8) إلا على الله تعالى، فعوقب على ذلك من الإذلال، والإخساس، والاسترذال بما لم يعاقب به أحدٌ من المخلوقين.
و «الملك»: من له الْمُلْكُ (9) . و«المالك»: من له الْمِلْكُ. والملِكُ أمدحُ، والمالك أخصُّ. وكلاهما واجب لله تعالى.
و «الأملاك»: هنا (10) جمع مَلِك. قال في "الصحاح": الملِك (11) -مقصور- من: مالك (12) أو: مليك. والجمع: الملوك والأملاك، والاسم: الملك. وقول سفيان: مثل: شاهًا (13) شاة (14) ، هي (15) بالفارسية: ملك الأملاك. =(5/455)=@
__________
(1) في (ح): «العقوبة يعد».
(2) في (ق): «وتعظيمًا» وكتب في الهامش «وتعظيمها» ووضع (نخـ).
(3) الآية (90) من سورة البقرة.
(4) في (ح): «عاقبتهم».
(5) في (ب): «التكبر» وفي (ق): «الكبر» وألحق في الهامش «التكبر» ووضع (خ)..
(6) في (ق): «للمخلوق».
(7) في (ق): «تعالى».
(8) في (ح): «الحقيقة».
(9) قوله: «والملك من له الملك» سقط من (ق).
(10) قوله: «هنا» سقط من (ك).
(11) في (ب) و(ح) و(ق): «والملك».
(12) في (ب) و(ح) و(ق): «ملك».
(13) في (ب): «شاهان»، وفي (ح): «شاهنشاه» كذا رسمت.
(14) في (ق): «شاهًا شاه» وكتب في الهامش «شاهان شاه» ووضع (نسخة).
(15) قوله: «هي» سقط من (ب).(5/455)
2 - ومن باب تسمَّوا باسمي ولا تكتنوا (1) بكنيتي
قوله - صلى الله عليه وسلم - : «تسمَّوا باسمي، ولا تكتنُوا (2) بكنيتي»؛ صدر هذا القول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرات؛ فعلى (3) حديث أنس رضي الله عنه إنما قاله حين (4) نادى رجل: يا أبا القاسم! فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال الرجل: لم أعنك. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك القول. وهذه حاله تنافي الاحترام، والتعزير المأمور به، فلمَّا كانت الكناية بأبي القاسم تؤدي إلى ذلك نهى عنها. ويتأيَّد (5) هذا المعنى بما نقل: أنَّ اليهود كانت تناديه بهذه الكناية إزراءً، ثم تقول: لم أعنك. فحسم الذريعة بالنَّهي. فإنَّ قيل: فيلزم على هذا: أن تُمنع (6) التَّسمية بمحمد، وقد فرَّق بينهما، فأجازه في الاسم، ومنعه في (7) الكناية.
فالجواب (8) : أنَّه لم يكن أحدٌ من الصحابة رضي الله عنهم يجتريء أن يناديه (9) باسمه؛ إذ الاسم لا توقير في النداء به، بخلاف الكناية فإنَّ في النداء بها احترامًا وتوقيرًا، وإنما كان يناديه باسمه أجلاف العرب، ممن لم يؤمن، أو آمن ولم يرسخ الإيمان في قلبه، كالذين نادوه من وراء الحجرات (10) : يا محمد! اخرج لنا. فأنزل الله تعالى فيهم :{إن الذين، يُنادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون} (11) ، فمنعت الذريعة فيما كانوا ينادونه به، وأبيح ما لم يكونوا (12) ينادونه به. وعلى هذا المعنى فيكون (13) النهي عن =(5/456)=@
__________
(1) في (ك) و(ق): «تكنوا».
(2) في (ك) و(ق): «تكنوا».
(3) في (ح): «فلعل».
(4) في (ق): «حتى».
(5) في (ح): «ويتأيده».
(6) في (ب): «تمتنع».
(7) في (ح): «من».
(8) في (ق): «والجواب».
(9) في (أ): «يجتريء يناجيه».
(10) في (ق): «الحجاب نادوه يا محمد».
(11) الآية (4) من سورة الحجرات.
(12) في (ب) و(ق): «يكن» وفي (ك): «ما كانوا».
(13) في (ب): «فتكون».(5/456)
ذلك مخصوصًا بحياته. وقد ذهب إلى ذلك بعض أهل العلم (1) . وقد رُوي: أن عليًّا رضي الله عنه قال: يا رسول الله! إن وُلد لي بعدك غلامٌ أَأُسَمِّيه (2) باسمك، وأكنِّيه بكنيتك. قال: «نعم» (3) .
وأما حديث جابر فيقتضي: أن النهي عن ذلك إنما كان لأن (4) ذلك الاسم لا يصدق على غيره صدقه عليه، ولذلك قال متصلاً بقوله: «تسمَّوا باسمي، ولا تكتنوا (5) بكنيي، فإني أنا أبو القاسم أقسم بينكم». وفي (6) الأخرى: «فإنما بعثت إليكم قاسِمًا» (7) ؛ يعني: أنه هو الذي يبين قسم الأموال في المواريث، والغنائم، والزكوات، والفيء، وغير ذلك من المقادير، فيُبلِّغ (8) عن الله تعالى حكمه، ويبيِّن قسمه. وليس ذلك لأحدٍ، إلا له، فلا يطلق هذا الاسم في الحقيقة (9) إلا عليه. وعلى هذا التأويل الثاني: فلا يكتني أحدٌ (10) بأبي القاسم، لا في حياته، ولا بعد موته. وإلى هذا ذهب بعض السَّلف، وأهل الظاهر، وزادت طائفة أخرى من السَّلف منع التسمية بالقاسم؛ لئلا يكنى أبوه بأبي القاسم. وذهبت (11) طائفة ثالثة (12) من السلف أيضًا: إلى (13) أن الممنوع إنما هو الجمع بين اسمه وكنيته. واستدلوا على ذلك بما رواه الترمذي (14) عن أبي هريرة رضي الله عنه:أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يجمع أحدٌ (15) بين اسمه وكنيته، ويسمِّي (16) محمدًا أبا القاسم». قال: حديث حسن صحيح. وعلى هذا =(5/457)=@
__________
(1) في (ح): «بعض العلماء».
(2) في (ك): «أسميه».
(3) يرويه فطر بن خليفة، عن المنذر الثوري، عن محمد بن الحنفية، عن علي رضي الله عنه ،واختلف على فطر في وصله وإرساله. فأخرجه الدولابي في "الكنى والأسماء" (1/5)، والطحاوي (4/335)، كلاهما من طريق علي بن قادم، وأخرجه الطحاوي (4/336) من طريق أيوب بن واقد. وأخرجه البزار (2/247 رقم649/البحر الزخار)، الترمذي (5/125 رقم2843) في الأدب، باب ما جاء في كراهية الجمع بين اسم النبي وكنيته، وأبو يعلى (1/259 رقم303). ثلاثتهم من طريق يحيى بن سعيد. وأخرجه الحاكم (4/278) من طريق أبي نعيم، وأبي غسان.
جميعهم - علي بن قادم، أيوب بن واقد، ويحيى بن سعيد، وأبي نعيم، وأبي غسان -، عن فطر بن خليفة، عن منذر الثوري، عن محمد بن الحنفية، عن علي قال: قلت: يا رسول الله! إن ولد لي ابن أسميه باسمك، وأكنيه بكنيتك؟ قال: «نعم». زاد بعضهم: فكان رخصة لي.
قال الترمذي: هذا حديث صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ولعل متوهمًا يتوهم أن الشيخين لم يخرجاه عن فطر، وليس كذلك. فإنهما قد قرنا بينه وبين آخر في إسناد واحد. ووافقه الذهبي.
وقال البزار: وهذا الحديث لا نعلم رواه عن منذر الثوري، إلا فطر بن خليفة. وقواه الحافظ في "الفتح" (10/573)، وصححه الألباني في "الصحيحة" (6/2/ ص1081 و1082)، وصحيح الأدب المفرد" (ص314).
ورواه بعضهم مرسلاً: أخرجه إسحاق بن راهويه (3/680 رقم1274)، وأحمد (1/95)، كلاهما عن وكيع.
وأخرجه ابن أبي شيبة (5/264 رقم25905) في الأدب، باب من رخص أن يكن بأبي القاسم، وأبو داود (5/250-251 رقم4967) في الأذب، باب في الرخصة في الجمع بينهما. والبيهقي (9/309) من طريق أبي داود. ثلاثتهم من طريق أبي أسامة.
وأخرجه ابن سعد (5/91) من طريق الفضل بن دكين، وإسحاق بن يوسف الأزرق. وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، والبيهقي (9/309)، كلاهما من طريق أبي نعيم - الفضل بن دكين.
وأخرجه الدولابي في "الكنى والأسماء" (1/5) من طريق يحيى القطان.
خمستهم - وكيع، وأوب أسامة، والفضل بن دكين، وإسحاق بن يوسف الأزرق، ويحيى القطان -، عن فطر بهذا الإسناد، لكن قال: عن محمد بن الحنفية، قال: قال علي: يار سول الله. . . ، فذكره مرسلاً.
وصحح الموصول احمد شاكر في تعليقه على "المسند" (2/101 رقم730) وقال: «وإن كان ظاهره الإرسال لقوله: عن ابن الحنفية، قال: قال علي، ولكن أوضحته رواية الترمذي: عن محمد، وهو ابن الحنفية، عن علي بن أبي طالب، أنه قال: يا رسول الله». اهـ.
(4) قوله: «لأن» سقط من (ح).
(5) في (ح) و(ك): «تكنوا».
(6) في (ب): «وفي الرواية».
(7) "صحيح مسلم" (3/1683 رقم4 والذي بعده) كتاب الأدب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم وبيان ما يستحب من الأسماء.
(8) في (ح): «فبلغ».
(9) في (أ) و(ح) و(ك) و(ق): «بالحقيقة».
(10) في (ق): «فلا يكنى أحدًا» وكتب في الهامش «فلا يكتني أحد» ووضع (نسخة).
(11) في (ق): «وذهب» وكتب في الهامش «وذهبت» ووضع (خ).
(12) في (ك): «أخرى» وكتب فوقها «ثالثة». ووضع (خ).
(13) قوله: «إلى» سقط من (ك).
(14) يرويه محمد بن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة، ورواه عن ابن عجلان جماعة، وهم: 1 - يحيى القطان: أخرجه أحمد (2/433). 2 - بكر بن مضر: أخرجه ابن سعد (1/107) وابن حبان (13/132 رقم 5814 - الإحسان). 3 - الضحاك بن مخلد: أخرجه ابن سعد (1/106)، والدولابي في"الكنى والأسماء" (1/5)، والبيهقي في "الدلائل" (1/162-163).
4 - سفيان: أخرجه ابن حبان (13/134 رقم5817/الإحسان).
5 - الليث: واختلف عليه، فأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (2/302 رقم844) عن عبدالله بن يوسف، والترمذي (5/124- 125 رقم2841) في الأدب، باب ما جاء في كراهية الجمع بين اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكنيته، عن قتيبة بن سعيد عن الليث. كلاهما - عبدالله بن يوسف، وقتيبة بن سعيد، عن ابن عجلان كرواية الجماعة وخالفهما عيسى بن حماد فرواه عن الليث عن ابن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، كما عند ابن حبان (13/133 رقم5815/الإحسان)،وهذه رواية شاذة، لمخالفتها باقي روايات الحديث. والحديث قال عنه الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وصححه الألباني في "الصحيحة" (6/2 ص1074 رقم2946).
(15) قوله: «أحد» سقط من (ك).
(16) في (ب): «وسمى».(5/457)
فيجوز أن يكتني (1) بأبي القاسم من لم يكن اسمه محمدًا. وذهب الجمهور من السلف والخلف، وفقهاء الأمصار: إلى جواز كل ذلك، فله أن يجمع بين اسمه وكنيته، وله أن يسمي بما (2) شاء من الاسم والكنية بناء على أن كل ما تقدَّم إما منسوخ، وإما مخصوص به - صلى الله عليه وسلم - واحتجوا على ذلك بما رواه الترمذي وصححه من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه المتقدم (3) ، وبما رواه أبو داود (4) عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله! إني ولدتُ غلامًا فسميته: محمدًا، وكنيته بأبي القاسم، فذكر لي أنك تكره ذلك. فقال: «ما الذي أحل اسمي وحرَّم كُنيتي ؟!»، أو (5) : «ما الذي حرم كُنيتي وأحل اسمي؟!» ويتأيَّد النَّسخ (6) بما ثبت (7) : أن جماعة كثيرة من السَّلف وغيرهم سمُّوا أولادهم باسمه، وكنّوهم بكنيته جمعًا وتفريقًا. وكان هذا كان (8) أمرًا معروفًا معمولاً به في المدينة وغيرها. فقد صارت أحاديث الإباحة أولى؛ لأنَّها: إما ناسخة لأحاديث المنع، وإما مرجحة بالعمل المذكور، والله تعالى أعلم.
وقد شذَّت طائفة فمنعوا التسمية بمحمد جملة متمسكين في ذلك بما يروى عن =(5/458)=@
__________
(1) في (ق): «يكنى».
(2) في (ق): «ما».
(3) قوله: «المتقدم» سقط من (ق).
(4) أخرجه إسحاق بن راهويه (3/679 و679-680 رقم1272 و1273)، وأحمد (6/135-136 و209)،والبخاري في "التاريخ الكبير" (1/155)، وأبو داود (5/251 رقم4968) في الأدب، باب في الرخصة في الجمع بينهما، والطبراني في "الأوسط" (2/9 رقم1057)، والبيهقي (9/309) من طريق أبي داود. جميعهم من طريق محمد بن عمران الحجبي، عن جدته صفية بنت شيبة، عن عائشة قالت: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إنه ولد لي غلام، فسميته: محمد، وكنيته أبا القاسم، فذكر لي أنك ستكره ذلك. فقال: «ما الذي أحلَّ اسمي وحرَّم كُنيتي؟!، وما الذي حرَّم كنيتي وأحلَّ اسمي؟!»
قال الطبراني: «لم يرو هذا الحديث عن صفية إلا محمد بن عمران، ولا يُروى عن عائشة إلا بهذا الإسناد».
وقد أورد الذهبي هذا الحديث في ترجمة محمد بن عمران في "ميزانه" (3/672 رقم8012)، وساقه من طريق الطبراني، وحكم عليه بالنكارة. وقال الحافظ في "التهذيب" (3/666): «وهو متن منكر مخالف للأحاديث الصحيحة».
وأشار البخاري إلى إعلالى بقوله: «تلك الأحاديث أصح: سمّوا باسمي ولا تكنوا بكنيتي».
وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" (رقم 5015)، ومحمد بن عمران الحجبي قال الذهبي في الموضع السابق من "الميزان": وما رأيت لهم فيه جرحًا ولا تعديلاً.
وفي "التقريب" (ص885 رقم6239): مستور. وقال في "الفتح" (10/574): مجهول.
(5) في (أ): «و».
(6) قال البيهقي في "سننه" (الكبرى ج: 9 ص: 309): «وهذا التخصيص بحياته، والاستدلال لمن جمع بينهما بعد وفاته، من النوع الذي كان يقول الشافعي رحمه الله: لا حجة في قول أحد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - . الله أعلم
(7) قوله: «ثبت» سقط من (أ) و(ح) وفي (ك) و(ق): «بأن جماعة».
(8) قوله: «كان» سقط من (ق).(5/458)
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «تسمُّون أولادكم محمدًا، ثم (1) تلعنونهم» (2) ، وبما كتب عمر رضي الله عنه إلى الكوفة من قوله: «لا تسمُّوا أحدًا باسم نبي» (3) . وبأمره جماعة بالمدينة بتغيير أسماء أبنائهم محمدًا، ولا حجَّة في شيء من ذلك. أما الحديث: فغير معروف عند أهل النقل، وعلى تسليمه فمقتضاه النهي عن لعن من اسمه محمد، لا عن التسمية به. وقد قدَّمنا النصوص الدالة على إباحة التسمية بذلك، بل: قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة تدلُّ على الترغيب، في التسمية بمحمد؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم - : «ما ضرَّ أحدكم أن يكون في بيته محمد، ومحمدان (4) » (5) ، وكقوله - صلى الله عليه وسلم - : «ما اجتمع قوم في مشورة فيهم رجل اسمه محمد فلم يدخلوه فيها إلا لم يبارك لهم فيها» (6) ، ومثله كثير. وأما أمر عمر رضي الله عنه: فكان (7) بسبب: أنه سمع رجلاً يقول لابن أخيه محمد بن زبد بن الخطاب: فعل الله بك يا محمد، وصنع بك. فدعا عمر به، وقال (8) : ألا أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسبُّ (9) بك! والله! لا تدعى =(5/459)=@
__________
(1) قوله: «ثم» سقط من (ك).
(2) ضعيف، انظر "مختصر المستدرك" للذهبي(6/2922-2923 رقم 987) بتحقيقي.
(3) عزاه الحافظ في "الفتح" (10/572) للطبري من طريق سالم بن الجعد، كتب عمر. . . ، فذكره.
(4) في (ق): «محمدًا ومحمدًا».
(5) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (5/54) وقال: أخبرنا مطرف بن عبد الله اليساري قال: حدثنا محمد بن عثمان العمري، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر الحديث، وفيه: «ومحمدان وثلاثة».
قال الألباني في "الضعيفة" (5/290 رقم2367): «وهذا إسناد ضعيف، العمري هذا وأبوه لم أعرفهما، والظاهر أنه مرسل».
(6) أخرجه ابن عدي في "الكامل" (1/168) من طريق عثمان الطرائفي، عن أحمد الشامي، عن أبي الطفيل، عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره.
قال ابن عدي: «وهذان الحديثان - وذكر معهما آخر - ليسا محفوظين، وأحمد الشامي هذا هو ابن كنانة، يروي عنه الوليد بن سلمة، وسمعت أبا عروبة يقول: عثمان الطرائفي يروي عن مجهولين، وعنده عجائب، وهو في الجزريين كبقية في الشاميين؛ لأن بقية أيضًا يروي عن مجهولين وعنده عجائب».
وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات" (1/156) من طريق ابن عدي.
(7) في (ق): «كانت».
(8) في (ق): «فقال».
(9) في (ح): يشبه «يسبب».(5/459)
محمدًا أبدًا (1) ، وعند ذلك - والله تعالى أعلم - كتب لأهل الكوفة، وأمر أهل المدينة بما سبق، ثم إنه ذكر له جماعة سمَّاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك. فترك (2) الناس من ذلك.
تنبيه: الأصل في الكناية أن يكون للرجل ابن فيُكنى باسم ابنه ذلك، ولذلك كني النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبي القاسم، فإنَّه كان له ولدٌ يسمى: القاسم من خديجة رضي الله عنها، وكأنه كان أوَّل ذكور أولاده (3) . وعلى هذا: فينبغي (4) أن لا (5) يكني أحدٌ حتى يكون له ولدٌ يُكنى باسمه، لكن: قد أجاز العلماء خلاف هذا الأصل، فكنَّوا (6) من ليس له ولدٌ، لحديث (7) عائشة (8) رضي الله عنها؛ أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - : كلُّ صواحبي (9) لهن كنى، وليس لي كنية، فقال: «اكتني بابن أختك عبدالله»، فكانت تكنى بأمِّ عبدالله. وقد كنَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصغير، فقال: «يا أبا عمير! ما فعل النُّغير» (10) ، وقد قا ل عمر (11) رضي الله عنه: عجلوا بكنى (12) أبنائكم (13) ؛ لا تسرع إليهم ألقاب السَّوء (14) . وحديث المغيرة يدلُّ: على أن مريم صلوات الله عليها (15) ؛ إنما سُميت أخت (16) =(5/460)=@
__________
(1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (5/53-54) عن أبي هشام المخزومي وسعيد بن منصور قالا: حدثنا أبو عوانة، عن هلال بن أبي حميد، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: نظر عمر بن الخطاب إلى أبي عبد الحميد وكان اسمه محمدًا ورجل يقول له: فعل الله بك وفعل وجعل يسبه، فقال عمر عند ذلك: يا ابن زيد! ادن مني، ألا أرى محمدًا يُسب بك، والله لا تدعى محمدًا ما دمت حيًّا، فسماه عبد الرحمن. . . ، وسنده ضعيف لإرساله عبدالرحمن بن أبي ليلى، ولم يدرك عمر.
وهو عند أحمد في "المسند" (4/261) من طريق عفان، وعند الطبراني في "المعجم الكبير" (19/242-243 رقم544) من طريق عوف أبي ربيعة، كلاهما - عوف أبي ربيعة، وعفان -، عن أبي عوانة به.
(2) في (ح): «وترك».
(3) في (ح) و(ك): «أولاد النبي - صلى الله عليه وسلم - ».
(4) في (ب) و(ق): «فلا ينبغي».
(5) قوله: «لا» سقط من (ق).
(6) في (ق): «وكنوا».
(7) في (ح) و(ق): «بحديث».
(8) يرويه هشام بن عروة، وقد اضطرب فيه، فمرة قال: عن عباد بن حمزة، وعن عائشة. كما أخرجه ابن سعد (8/63) من طريق حماد بن سلمة، وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (2/306 رقم851)، والطبراني في "الكبير" (23/18 رقم37) كلاهما من طريق وهيب، وأخرجه الطبراني في "الكبير" (23/18 رقم36)، والبيهقي (9/311)، كلاهما من طلايق حماد بن أسامة. وأخرجه الحاكم (4/278) من طريق يحيى بن عبدالله بن سالم، وسعيد بن عبدالرحمن، والبيهقي (9/311) من طريق أحمد بن عبدالجبار، عن أبي معاوية،. وعلقه البخاري في"التاريخ الكبير" (6/31-32) قال: قال محمد بن فليح، وعلي بن مسهر، وحماد بن سلمة، ويونس بن بكير، والليث، وحفص وحاتم. جميعهم عن هشام بن عروة، عن عباد بن حمزة بن عبدالله بن الزبير.
وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (2/305 رقم850) عن محمد بن سلام، عن أبي معاوية، عن هشام، عن يحيى بن عباد. وهذه الرواية وهم كما قال المزي في "تهذيبه" (31/389)، وابن حجر في "التهذيب" (4/366)، وبيّن أن الصواب: عباد بن حمزة. ومرة قال: عن عروة، عن عائشة: أخرجه أحمد (6/107 و260)، وأبو داود (5/253 رقم4970) في الأدب، باب في المرأة تكنى. وأبو يعلى (7/473-474 رقم4500)، وابن السني (ص147-148 رقم416) من طريق أبي يعلى، والبيهقي (9/310) جميعهم من طريق حماد بن زيد.
وأخرجه عبدالرزاق (11/42 رقم19858) عن معمر، ومن طريقه: إسحاق بن راهويه (2/310 رقم835)، وأحمد (6/151)، والطبراني في "الكبير" (23/18 رقم35).
وأخرجه أحمد (6/186)، من طريق عمر بن حفص، وعنه الدولابي (1/152)، وأخرجه ابن حبان (16/54-55 رقم7117/الإحسان) من طريق يونس بن بكير. وأخرجه ابن الأعرابي (2/514و514-515 رقم995-996) من طريق ابن الصلت بن الحجاج، وشريك.
وأخرجه أبو الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان" (2/233-234 رقم217) من طريق سفيان الثوري. لكن في الطريق إليه من لا يُعرف.
وأخرجه الطبراني في "الكبير" (23/18 رقم34) من طريق سيف بن محمد. جميعهم عن هشام بن عروة، عن أبيه.
ومرة قال: عن مولى للزبير، عن عائشة: كما أخرجه ابن أبي شيبة (5/301 رقم26281) في الأدب، باب ما قالوا في الرجل يكنى قبل أن يولد له، وما جاء فيه، عن وكيع، عن هشام، عن مولى الزبير.
ومرة قال: عن رجل من ولد الزبير، عن عائشة: كما أخرجه أحمد (6/186 و213)، والطبراني في "الكبير" (23/18 رقم38) كلاهما من طريق وكيع، عن هشام، عن رجل من ولد الزبير. والحديث أورده الدارقطني في "العلل" (5/ل125/ب - ل126/ب) وصوَّب رواية من رواه عن عباد بن حمزة، عن عائشة، وحكم على باقي الروايات بالوهم.
(9) في (أ): «صواحباي». ، و في (ب) و(ق): «صواحباتي».
(10) سيأتي في باب تكنية الصغير وندائه بـ: يابني.
(11) في (ح): «عمر بن الخطاب».
(12) في (ب): «بكنى أولادكم».
(13) في (ك): «أبنائكم» وألحق في الهامش «أولادكم» ووضع (ح) وفي (ق): «أولادكم وأبنائكم».
(14) . . . . . .
(15) في (ب): «رضي الله عنها».
(16) في (ق): «بأخت».(5/460)
هارون، بأخ (1) لها كان (2) اسمه ذلك، ويبطل قول من قال من المفسرين: إنها إنما قيل لها ذلك لأنها شُبِّهت بهارون أخي موسى في عبادته ونسكه.
وفيه: ما يدلّ على جواز التسمية بأسماء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. والله تعالى أعلم.
3 - ومن باب ما يكره أن يُسمَّى به الرفيق (3)
قوله: «أحبُّ الكلام إلى الله أربع»؛ أي: أحقه (4) قبولاً، وأكثره ثوابًا، ويعني بالكلام: المتضمن للأذكار (5) ، والدعاء، والقرب من الكلام، وإنَّما كانت هذه الكلمات كذلك؛ لأنَّها تضمَّنت تنزيهه عن كل ما يستحيل عليه، ووصفه (6) بكل ما يجب له من أوصاف كماله، وانفراده بوحدانيته (7) ، واختصاصه بعظمته وقدمه المفهومين من أكبريته. ولتفصيل (8) هذه الجمل علمٌ آخر.
وقوله: «لا يضرُّك (9) بأيهنَّ (10) بدأت»؛ يعني (11) : أن تقديم بعض هذه الكلمات على بعض لا ينقص ثوابها، ولا يوقف قبولها؛ لأنَّها كلَّها (12) كلمات جامعات (13) طيِّبات مباركات.
وقوله: «لا تسمَّيَنَّ غلامك يسارًا، ولا رباحًا، ولا نجيحًا (14) ، ولا أفلح»؛ هذا (15) نهي صحيح عن تسمية (16) العبد بهذه الأسماء (17) ، لكنه على جهة التنزيه بدليل قول جابر =(5/461)=@
__________
(1) في (ح): «بأخ كان».
(2) قوله: «كان» سقط من (ق).
(3) في (ح) و(ق) و(ك): «الرقيق».
(4) في (ح): «أخفه».
(5) في (ب) و(ح) و(ق): «الأذكار».
(6) في (أ): «ووصف».
(7) في (أ): «بوانيته».
(8) في (ح): «وتفصيل».
(9) في (ق): «لا يضركم».
(10) في (ب): «بأيتهن».
(11) في (ك): «بمعنى».
(12) قوله: «كلها» سقط من (ح).
(13) في (ب): «جامعًا».
(14) في (ك): «نجاحًا».
(15) في (ق): «هي».
(16) في (ح): «نهي عن تسميته».
(17) في (أ): «الأشياء».(5/461)
في الحديث الآتي: أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينهى أن يُسمَّى بيعلى (1) بمقبل، وببركة، وبأفلح، وبيسار، وبنافع، ونحو (2) ذلك، ثم سكت؛ يعني: أراد أن ينهى عن ذلك نهي تحريم، وإلا فقد صدر النهي عنه على ما تقدَّم، لكنه على وجه الكراهة (3) التي معناها: أن ترك المنهي (4) عنه أولى من فعله؛ لأنَّ التَّسمية بتلك الأسماء تؤدي (5) إلى أن يسمع (6) الإنسان فألاً (7) يكرهه (8) ، كما نصَّ عليه بقوله: «فإنك تقول: أثمَّ هو فلان (9) ، فلا يكون؛ فتقول (10) : لا». وبالنظر إلى هذا المعنى، فلا تكون هذه (11) الكراهة خاصة بالعبيد (12) ، بل: تتعدى (13) إلى الأحرار. ولا مقصورة على هذه الأربعة الأسماء، بل: تتعدى إلى ما في معناها. وإلى هذا أشار جابر في حديثه بقوله، وبنحو ذلك.
وحينئذ يقال: فما فائدة تخصيص الغلام بالذكر ؟ وكيف يعدَّى (14) إلى زيادة على الأربع (15) ، وقد قال في بقيَّة (16) الحديث: إنما هي أربع، فلا تزيدن (17) عليَّ؟ فالجواب عن الأوَّل من وجهين:
أحدهما: أنَّا لا نسلِّم أن المراد بالغلام العبد، بل (18) : الصغير؛ فإنه يقال عليه: غلام إلى أن يبلغ، والأنثى: جارية، كما تقدَّم.
والثاني (19) : أنَّا وإن سلَّمنا ذلك لكن إنما (20) خُصص (21) العبد بالذكر، لأن هذه الأسماء إنما كانت في غالب الأمر أسماء لعبيدهم، فخرج (22) النهي على (23) الغالب.
والجواب عن الثاني: أن قوله: فلا تزيدن عليَّ، إنما هو من قول (24) سمرة بن جندب، وإنما قال ذلك ليحقق (25) : أن الذي سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هي الأربع، لا زيادة عليها؛ تحقيقا (26) لما سمع، ونفيًا لأن يقول ما لم يقل. ولئن (27) سُلِّم أن ذلك من قول (28) النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فليس (29) معناه المنع من القياس (30) . بل: عن أن يقول (31) اسمًا لم يقله، فإنَّ =(5/462)=@
__________
(1) قوله: «بيعلى» سقط من (ب) و(ح) و(ك) و(ق).
(2) في (ح): «نحو ذلك» وكتب في الهامش «ونحوه».
(3) في (أ): «الكراهية».
(4) في (ح): «معناها أن النهي».
(5) في (ق): «يؤدي».
(6) في (ب) و(ح) و(ك): «يسمع ما».
(7) قوله: «الإنسان فالاً» سقط من (ب) و(ح).
(8) في (ق): «يسمع كلامًا يكرهه» وكتب في الهامش «ما يكرهه» ووضع (نسخة).
(9) قوله: «فلان» سقط من (أ).
(10) في (ق): «فيتقول» نقط الحرف الثاني باثنين من فوق ومن تحت.
(11) في (ح): «لهذه».
(12) في (ح): «بالعبد».
(13) في (ق): «يتعدى».
(14) في (ب) و(ح): «تعدى» وكتب في هامش (ق): «تتعدى» ووضع (نسخة).
(15) في (ح): «أربع».
(16) قوله: «بقية» سقط من (ح).
(17) في (ق): «فلا تزيدون».
(18) قوله: «بل» سقط من (ح).
(19) في (ق): «الثاني» بلا واو.
(20) قوله: «إنما» سقط من (ح).
(21) في (ح): «يخصص».
(22) في (ق): «فيخرج».
(23) في (ب): «عن».
(24) قوله: «قول» سقط من (ك).
(25) في (ك): «ليتحقق» ونقط الحرف الثاني باثنين من فوق.
(26) في (ح): «تحفظًا».
(27) في (ق): «وإن».
(28) في (ب): «ذلك قول من».
(29) في (أ): «فليكن».
(30) في (أ): «من القياس على» يشبه أن يكون ضرب على كلمة «على».
(31) في (ق): «نقول».(5/462)
الفرع ملحق بأصله في الحكم، لا في القول. وبيانه: إنَّا وإن ألحقنا الزبيب بالتمر في تحريم الربا فلا نقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الربا في الزبيب (1) حرام. فإنَّه قول كاذب، ولو كان ذلك صادقًا لكان الزبيب منطوقًا به، فحينئذ لا (2) يكون فرعًا. بل: أصلاً. وقد اجترأت طائفة عراقية على إطلاق ذلك. ونعوذ بالله مما أُطلق هنالك. وعلى ما قررناه (3) فلا يكون بين حديث سمرة بن جندب، ولا بين حديث جابر رضي الله عنه معارضة، فلا يكون بينهما نسخ خلافًا لمن زعمه، وقال: إن حديث جابر ناسخ لحديث سمرة، وما ذكرناه أولى. والله تعالى أعلم.
فإنَّ قيل: بل المصير (4) إلى النسخ أولى؛ لأنَّ (5) حديث سمرة - وإن حمل على الكراهة - فحديث جابر يقتضي الإباحة المطلقة؛ لأنَّه لما سكت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النهي عن ذلك إلى حين موته، وكذلك عمر رضي الله عنه مع حصول ذلك في الوجود كثيرًا، فقد كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - غلام اسمه: رباح، ومولى اسمه: يسار، وقد سَمَّى ابن عمر مولاه: نافعًا. ومثله كثير. فقد استمر العمل على حديث جابر، فإذًا هو متأخر، فيكون ناسخًا.
فالجواب: إن هذا التقدير يلزم منه: أن لا يصدق قول جابر: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن ينهى عن ذلك، فإنَّه قد وجد النهي ولا بدَّ، وهو صادق، فلا بدَّ من تأويل لفظه. وما ذكرناه أولى. وما ذكر (6) من تسمية موالي النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره بتلك الأسماء فصحيح؛ لأنَّ ذلك جائز، وغاية ما ترك فيها (7) الأولى، فكم من أولى قد سوغت الشريعة تركه، وإن فات بفوته أجر كثير (8) ، وخير جزيل؛ عملاً بالمسامحة والتيسير، وتركًا للتشديد والتعسير (9) .
وقوله: «أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - (10) أن ينهى أن (11) يُسمَّى بمقبل»؛ هكذا (12) صحيح الرواية. وهو في بعض النسخ: بيعلى، وكأنه تصحيفًا (13) ، والأوَّل أولى رواية ومعنى. =(5/463)=@
__________
(1) في (ق): «الذهب».
(2) في (أ): «حينئذ فلا».
(3) في (ب): «قررنا».
(4) في (ق): «قيل بالمصير».
(5) في (ك): «لأن» وكتب فوقها «فإن».
(6) في (ق): «ذكره».
(7) في (ب): «فيه».
(8) في (أ): «كبير».
(9) في (ق): «والتعتير» وكتب في الهامش «والتعسير» ووضع (خ).
(10) قوله: «النبي - صلى الله عليه وسلم - » ليس في (أ).
(11) قوله: «ينهى أن» سقط من (أ) و(ح).
(12) في (ب): «هكذا».
(13) في (أ) و(ح) و(ك) و(ق): «تصحيف».(5/463)
4 - ومن باب تغيير الاسم بما هو أولى منه
تبديل النبي - صلى الله عليه وسلم - اسم عاصية بجميلة، والعاصي بن الأسود (1) بمطيع (2) ، ونحو ذلك سُنَّة ينبغي أن يُقتدى به فيها؛ فإنَّه كان يكره قبيح الأسماء، ولا يتطيَّر به، ويحبُّ حسن الأسماء، ويتفاءل به (3) ، وفي كتاب أبي داود (4) عن بريدة رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتطيَّر من شيء، وكان إذا بعث عاملاً (5) سأل عن اسمه، فإذا (6) أعجبه اسمه فرح به (7) ورُئي بشر ذلك في وجهه، وإن كره اسمه رُئي كراهة ذلك في وجهه. وفي الترمذي (8) عن أنس رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج لحاجته (9) يعجبه أن يسمع: يا راشد! يا نجيح! وأما تغييره برَّة فلوجهين: =(5/464)=@
__________
(1) في (ق): «الأسد» بدل «الأسود».
(2) تقدم في باب ما جاء في فتح مكة عنوة، من كتاب الجهاد والسير.
(3) قوله: «به» مطموس في (أ).
(4) أخرجه أحمد (5/347-348)، وأبو داود (4/263 رقم3920) في الطب، باب في الطيرة، والنسائي في "الكبرى" (5/254 رقم8822)، وابن حبان (13/142 رقم5827/الإحسان)، وتمام (3/254 رقم1032/الروض البسام)، والبيهقي (8/140) من طريق أبي داود. جميعهم من طريق هشام الدستوائي، عن قتادة، عن عبدالله بن بريدة، عن أبيه، فذكره. وفي سنده قتادة، وهو مدلِّس ولم يصرح بالسماع. والحديث حسنه الحافظ في "الفتح" (10/215).
وقال الألباني في "الصحيحة" (2/389 رقم762): وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين.
وله شاهد من حديث ابن عباس: يرويه ليث بن أبي سليم، وقد اضطرب فيه: فمرة قال: عن عبدالملك بن سعيد بن جبير، عن عكرمة، عن ابن عباس، ولفظه: كان يتفاءل ولا يتطير. أخرجه الطيالسي (ص350 رقم2690)، وأحمد (1/257). كلاهما من طريق جرير بن عبدالحميد. وأخرجه أحمد (1/319) من طريق معاوية شيبان. جرير بن عبدالحميد وشيبان، عن ليث، به.
لكن ورد: عبدالملك عند الطيالسي، ولم ينسب، ثم قال: وأظنه ابن أبي بشير. لكن أخرجه أخرجه ابن حبان (13/139-140 رقم5825/الإحسان) من طريق علي بن المديني، عن جرير، عن عبدالملك بن سعد، ليس فيه: ليث.
ومرة قال: عن عكرمة، بإسقاط: عبدالملك بن سعيد. أخرجه ابن الجعد (ص440 رقم3006 و3007) عن أبي جعفر الرازي، عن ليث، عن عكرمة. ومن طريقه أخرجه ابن عدي (5/255)، وأوب الشيخ في "أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - " (ص271 رقم780)، والبغوي في "شرح السنة" (12/175 رقم3254).
وقد توبع أبو جعفر الرازي: فأخرجه أحمد (1/303-304) عن الأسود، عن هريم، عن الليث ومرة قال: عن عبدالملك، عن عطاء. أخرجه الطبراني في "الكبير" (11/114 رقم11294) من طريق سعيد بن مسلمة، عن الليث، عن عبدالملك، عن عطاء. لكن ثبت من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «لا طيرة، وخيرها الفأل»، قيل يار سول الله! وما الفأل؟ قال: «الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم». وسيأتي عند المصنف برقم (2163).
(5) في (ب) و(ح) و(ق) و(ك): «غلاما».
(6) في (ح) و(ك): «فإن».
(7) قوله: «به» سقط من (ك).
(8) أخرجه الترمذي (4/138 رقم 1616( في السير ـ، باب ما جاء في الطيرة، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (5/103 رقم1848) كلاهما من طريق محمد بن رافع، عن أبي عامر العقدي، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن أنس بن مالك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعجبه إذا خرج لحاجة أن يسمع: يا راشد، يا نجيح.
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح.
وقال الحافظ في "النكت الظراف" (1/181-182): «قلت: بل هو معلول، ذكر الحاكم فى ترجمة محمد بن رافع من "تاريخ نيسابور" أنه سأل محمد بن إسماعيل عنه؟ فقال: وجدت له علة، حميد، عن بكر بن عبدالله المزني؛ يعني أنه مرسل. وانقلب، وذكر فيه أيضًا عن أحمد بن سلمة قال: كنت أنا ومسلم عند علي بن نصر الجهضمي، فقال مسلم: لا أعلم اليوم أحدًا أعلم بحديث أهل البصرة من عليِّ بن نصر، قال أحمد: فقلت لعلي: تعرف؟ فذكرت له هذا الحديث، فتعجب، فقال له مسلم: إنّ محمد بن رافع ثقة مأمون، صحيح الكتاب».
(9) في (ب) و(ق): «لحاجة».(5/464)
أحدهما (1) : أنه كان (2) يكره أن يقال: خرج من عند برَّة؛ إذ (3) كانت المسمَّاة بهذا الاسم زوجته، وهي التي سمَّاها جويرية.
والثاني: لما فيه من تزكية الإنسان نفسه، فهو مخالف لقوله تعالى: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} (4) . ويجري هذا المجرى في المنع ما قد كثر في هذه الدِّيار (5) من نعتهم أنفسهم بالنعوت التي تقتضي التزكية، كزكي الدِّين، ومحيي الدِّين، وما أشبه ذلك من الأسماء الجارية في هذه الأزمان (6) ؛ التي يقصد بها المدح، والتزكية، لكن لما كثرت قبائح المسمِّين بهذه الأسماء (7) في هذا الزمان (8) ظهر تخلف هذه النعوت عن أصلها، فصارت لا تفيد شيئًا من أصل موضوعاتها، بل ربما يسبق منها في بعض المواضع، أو في بعض الأشخاص نقيض موضوعها (9) ، فيصير الحال فيها كالحال في تسمية العرب (10) : المهلكة بالمفازة، والحقير بالجليل، تجمُّلاً بإطلاق الاسم مع القطع باستقباح المسمَّى. ومن الأسماء ما غيَّره الشرع مع حسن معناه وصدقه ** كذا في (أ) ** على مسمَّاه. لكن منعه الشرع حماية واحترامًا لأسماء الله تعالى وصفاته - جل وعز - عن أن يتسمَّى (11) أحد بها. ففي كتاب أبي داود (12) عن هانئ بن يزيد: أنه لما وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة مع قومه سمعهم يكنُّونه بأبي الحكم، فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إن الله- عز وجل- هو الحكم، وإليه الحكم، فلمَ تكنَّى أبا الحكم ؟»، قال (13) : إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت (14) بينهم، فرضي كلا (15) الفريقين. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما أحسن هذا !». قال: «ما لك من الولد؟، قال (16) : لي شريح، ومسلم، وعبدالله. قال: «فمن =(5/465)=@
__________
(1) في (ح): «أحدها».
(2) قوله: «كان» سقط من (ك) و(ق).
(3) في (ح) و(ق): «إذا».
(4) الآية (32) من سورة النجم.
(5) في (ق): «الزمان».
(6) في (ق): «في هذا الزمان».
(7) في (ق): «التسمية».
(8) في (ب): «هذه الأزمان».
(9) في (ب): «موضوعاتها» وكتب في هامش (ق): «موضوعها» ووضع (نسخة) وفي (ح): «موضوعها» وكتب في الهامش «موضوعاتها».
(10) في (ق): «كحال العرب» وكتب في الهامش «كالحال في تسمية العرب» ووضع (خ).
(11) في (ك) و(ق): «يسمى».
(12) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (2/273-274 رقم811)، و"التاريخ الكبير" (8/227-228 رقم2818)، وأبو داود (5/240 رقم4955) في الأدب، باب في تغيير الاسم القبيح والنسائي (8/226 – 227 رقم 5387) في آداب القضاة، باب: إذا حكموا رجلاً فقضى بينهم. وابن حبان (2/257-258 رقم504/الإحسان).
والبيهقي (10/145) من طريق أبي داود. وابن الأثير في "أسد الغابة" (5/383-384) جميعهم من طريق يزيد بن المقدام بن شريح، عن شريح بن هانئ، عن هانئ بن يزيد، فذكره. وأخرجه الحاكم (4/279) من طريق قيس بن الربيع، عن المقدام، بهذا الإسناد، وقال تفرَّد به قيس عن المقدام كذا قال، مع أنه قد توبع.
والحديث قال عنه الألباني في "الإرواء" (8/237 رقم2615): وهذا إسناد جيد، رجاله ثقات رجال مسلم، غير يزيد بن المقدام، قال الحافظ في "التقريب" (ص1083 رقم7833): «صدوق، أخطا عبدالحق في تضعيفه».
(13) في (ب) و(ق): «فقال».
(14) في (ق): «فأتوني حكمت».
(15) في (ق): «كلا» وكتب في الهامش «كل» ووضع (خ).
(16) في (ق): «فقال».(5/465)
أكبرهم ؟» قلت: شريح. قال: «فأنت أبوشريح». وقد غيَّر اسم: حكيم (1) ، وعزيز (2) ؛ لما فيهما من التشبيه (3) بأسماء الله تعالى.
وقولها: «سميت برَّة»؛ إنما كان هذا الاسم يدلّ: على التزكية؛ لأنَّه في أصله اسم علم لجميع خصال البرِّ، كما أن: «فجار» اسم علم للفجور. ولذلك قال النابغة الذبياني:
إنَّا اقتَسَمنا خُطَّتَيْنا (4) بيننا فحَمَلْت برَّةَ واحتَمَلْت فَجَارِ (5)
5 - ومن باب تسمبة الصغير وتحنيكه والدعاء له
قوله: «كان لأبي طلحة ابن يشتكي (6) »؛ أى: أصابه ما يشتكي منه، وهو المرض، لا أنه صدرت عنه (7) شكوى. هذا أصله، لكنَّه (8) قد كثر (9) تسمية المرض =(5/466)=@
__________
(1) في (ق): «حكم».
(2) ذكره القاضي في "الإكمال" (7/16) بلا عزوٍ، ولم أقف عليه.
(3) في (ب): «التشبه».
(4) في (أ): «خطيئتنا». وانظر "ديوان النابغة" (ص55).
(5) في (ق): «فجارا».
(6) في (ق): «يشكي».
(7) في (ب) و(ح): «منه» وفي (ق): «عنه» وكتب في الهامش «منه» ووضع (خ).
(8) في (ق): «لأنه».
(9) في (ب): «كثرت».(5/466)
بذلك. وهذا الحديث يدل على فضل أم سُليم، وتثبُّتها، وصبرها عند الصدمة الأولى، وكمال عقلها، وحسن تبعلها لزوجها.
وقولها: «هو أسكن مما كان»؛ هذا من المعاريض المغنية عن الكذب؛ فإنَّها أوهمته: أن الصبي سكن (1) ما كان به بلفظ يصلح إطلاقه لما عندها من موته، وبما (2) فهمه أبو طلحة من سكون مرضه. وهذا كل (3) لئلا تفاجئه بالإعلام بالمصيبة فيتنغَّص عليه عيشه، ويتكدَّر عليه وقته. فلما حصلت راحته من تعبه، وطاب عيشه بإصابة لذَّته التي ارتجت بسببها أن يكبرن لهما (4) عوض، وخلف مما فاته عرَّفته بذلك، فبلَّغها (5) الله تعالى أمنيَّتها، وأصلح ذريَّتها.
وقولها: «واروا الصبيَّ»؛ أي: ادفنوه (6) ، من: مواراة الشيء، وهي (7) تغطيته.
وقوله: «أعْرستم الليلة ؟» هو كناية عن الجماع. يقال: أعرس الرجل بأهله: إذا بنى بها، وكذلك إذا غشيها، ولا يقال: عرَّس، والعامة تقولها (8) . وقد تقدَّم (9) أن العِرْس الزوجة، والعروس: يقال على كل واحد من الزوجين.
وفي هذا الحديث ما يدلُّ على إجابة دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى عظم (10) مكانته، =(5/467)=@
__________
(1) في (ح): «أسكن».
(2) في (أ) و(ح) و(ك): «ولما». وفي (ق): «ولما فهم».
(3) في (أ) و(ح) و(ك) و(ق): «كله».
(4) في (ق): «لها».
(5) في (ق): «فبلغ».
(6) في (ح): «أي دفنوه».
(7) في (ك): «وهو».
(8) في (ك) و(ح): «تقوله».
(9) في (ح): «تقدم ذلك» وكأنه ضرب على قوله «ذلك»..
(10) في (ح): «عظيم».(5/467)
وكرامته (1) عند الله تعالى. وكم له منها، وكم! حتى قد (2) حصل بذلك العلم القطعي، واليقين الضروري، وذلك: أنه لما دعا لأم سليم وزوجها ولدت له من ذلك الغشيان عبدالله. وكان من أفاضل (3) الصحابة، ثمَّ ولد له عدَّة من الفضلاء، الفقهاء، العلماء: إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة (4) ، وإخوته العشرة، كما هو مذكور في "الاستيعاب" (5) .
وأحاديث هذا الباب كلها متواردة على أن إخراج الصغار عند ولادتهم (6) للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتحنيكهم بالتمر كان سُنَّة معروفة معمولاً بها، فلا ينبغي أن يعدل عن ذلك اقتداءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واغتنامًا لبركة الصالحين، ودعائهم. والتحنيك هنا: جعل مضيغ (7) التمر في حَنَكِ الصَّبي.
وقوله في حديث عبدالله بن الزبير: «ثمَّ مسحه وصلَّى عليه»؛ يعني: مسحه بيده عند الدعاء له، كما كان (8) - صلى الله عليه وسلم - يمسحُ بيده عند الرُّقى (9) ، فيه (10) دليل على استحباب =(5/468)=@
__________
(1) في (ح): «وكراماته» وفي (ق): «كرامته ومكانته».
(2) قوله: «قد» سقط من (ح) و(ك).
(3) في (ق): «أفضل».
(4) قوله: «ابن أبي طلحة» سقط من (ح).
(5) (6/247-248) بهامش "الإصابة".
(6) في (ق): «في بدو ولادتهم» وكتب في الهامش «عند» ووضع (خ).
(7) في (ك): «مصيع».
(8) في (ق): «قال» وكتب في الهامش «كان» ووضع (خ).
(9) سيأتي في باب ما كان يرقى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المرضى وكيفية ذلك، من كتاب الرقس والطب.
(10) في (أ) و(ح) و(ك) و(ق): «ففيه».(5/468)
ذلك، وفعله على جهة التبرَّك رجاء الاستشفاء، وقبول الدعاء.
ومعنى: «صلَّى عليه»: دعا له بالخير والبركة كما جاء في الرواية الأخرى مفسَّرا، وقد ظهرت بركة ذلك كلُّه على عبدالله بن الزبير، فإنه كان من أفضل الناس، وأشجعهم، وأعدلهم في خلافته رضي الله عنه، وقَتَلَ قَاتِلَهُ. وتبسُّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله ومبايعته له فرحٌ به، وإنهاض له؛ حيث ألحقه بنمط الكبار الحاصلين على تلك البيعة الشريفة، والمنزلة المنيفة، ففيه جواز مبايعة من يعقل من الصِّغار،وتمرينهم على ما يخاطب به الكبار.
وقوله: «وكان أوَّل مولود ولد في الإسلام»؛ يعني: من المهاجرين بالمدينة، وذلك أن أمه أسماء ابنة أبي بكر رضي الله عنهما هاجرت من مكة إلى المدينة وهي حامل (1) به، فولدته (2) في سنة ثنتين من الهجرة لعشرين شهرًا من التاريخ (3) . وقيل: في السنة الأولى من الهجرة. هكذا (4) حكاه أبو عمر (5) . وروي عن ابن أبي مليكة عن عبدالله بن الزبير قال: سُمِّيت باسم جدِّي أبي بكر وكنيت بكنيته. قال أبو عمر: كان شهمًا، ذكرًا، شريفًا، ذا أَنَفَة، وكانت له لَسَانة، وفصاحة، وكان أطلسَ لا لحية له، ولا شعر في وجهه. وحكى أبو عمر عن مالك أنه قال: كان ابن الزبير أفضل من مروان، وأولى بالأمر من مروان وابنه (6) . =(5/469)=@
__________
(1) في (ب): «حبلى» وفي (ق): «حامل» وكتب في الهامش «حبلى».
(2) في (ق): «فولدت».
(3) قال الحافظ في "الفتح" (7/248 و249): «وفي الحديث أن مولد عبدالله بن الزبير كان في السنة الأولى، وهو المعتمد؛ بخلاف ما جزم به الواقدي ومن تبعه بأنه ولد في السنة الثانية بعد عشرين شهرًا من الهجرة. . . ، ويرده أن هجرة أسماء وعائشة وغيرهما من آل الصديق كانت بعد استقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، فالمسافة قريبة جدًّا لا تحتمل تأخر عشرين شهرًا، بل ولا عشرة أشهر».
(4) في (ق): «وهكذا».
(5) في "الاستيعاب" (6/190) بهامش "الإصابة".
(6) قوله: «وابنه» مطموس في (ح).(5/469)
و «أبو أُسَيد» بضم الهمزة، وفتح السين، وياء التصغير كذا قاله عبدالرزاق، ووكيع. قال ابن حنبل: وهو الصواب. وحكى ابن مهدي عن سفيان: أنَّه (1) بفتح الهمزة، وكسر السين، واسمه: مالك بن ربيعة.
وقوله: «ولها عنه (2) »؛ الرواية فيه بفتح الهاء؛ أي: اشتغل عنه وهي لغة (3) طيء، وفصيحتها (4) : «لَهِيَ (5) » بكسر الهاء يَلْهَى بفتحها، لَهْيًا، ولَهَيانًا. وهو في اللغتين ثلاثي. فأمَّا: أَلْهَاني كذا: فمعناه شغلني. ومنه قوله تعالى :{ألهاكم التكاثر} (6) .
وقوله: «فاقلبُوه»؛ كذا (7) جاءت الرواية في هذا الحرف رباعيًّا، وصوابه: ثلاثي. يقال: قلبت الشيء: رددته، والصَّبي: صرفته. قال الأصمعي: ولا يُقال: أقلبته.
وإنما سَمَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن أبي أُسيد: المنذر، باسم ابن عم أبيه: المنذر بن عمرو، المسمَّى: بالمعنِق (8) ليموتَ. وكان أمير أصحاب بئر معونة (9) ، واستشهد يوم بئر معونة فسمَّاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمنذر (10) ليكون خلفًا منه (11) . =(5/470)=@
__________
(1) في (ب): «أنه قال».
(2) في (ك): «عن».
(3) في (ح): «لفظة».
(4) في (ح) و(ق) و(ك): «وفصيحها».
(5) قوله: «لهي» لم تتضح في (ح).
(6) الآية (1) من سورة التكاثر.
(7) في (ح): «هكذا».
(8) في (ك) و(ق): «بالمعتق».
(9) "الطبقات" (2/51-52)، وأحمد (3/169)، وأبو عوانة (2/285)، والطبراني (6/125 رقم5724).
(10) من قوله: «بالمعنق ليموت. . . . » إلى هنا سقط من (ح).
(11) في (ق): «له».(5/470)
6 - باب تكنية الصغير
قد تقدَّم القول في الكناية في الباب (1) قبل هذا.
قوله - صلى الله عليه وسلم - : «يا أبا عمير (2) ! ما فعل النُّغير ؟» فيه دليلٌ على جواز السجع في الكلام إذا لم يكن متكلَّفًا، فأما مع التكلُّف (3) فهو من باب التنطع، والتشدُّق المكروهين في الكلام. وعمير: تصغير عمر أو عمرو. والنغير: تصغير نُغر، والنُّغَرُ (4) : طير كالعصافير حُمر المناقير، ويُجمع (5) : نِغْران. مثل: صُرَد وصِرْدان، ومؤنَّثه: نُغَرة، كهُمَزة.
وقد يستدلُّ الحنفي بهذا الحديث على جواز صيد المدينة. وهو قول خالف فيه (6) الجمهور ونص نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صيد المدينة (7) ، كما نهى عن صيد مكة (8) ، كما قدَّمناه. ولا حجَّة فيه؛ إذ ليس فيه ما يدلُّ على أن ذلك الطير صيد في حرم المدينة، بل نقول: إنه صيد في الحل، وأدخل في الحرم. ويجوز للحلال أن =(5/471)=@
__________
(1) في (ق): «باب».
(2) في (ح): «يا عمير».
(3) في (ب) و(ق) و(ك): «التكليف».
(4) في (ح) و(ق): «والنغير».
(5) في (ح): «وتجمع».
(6) في (أ) و(ك) و(ح): «به».
(7) تقدم في باب تحريم المدينة وصيدها، من كتاب الحج.
(8) تقدم في باب تحريم مكة وصيدها، وشجرها، ولقطتها، من كتاب الحج.(5/471)
يصيد في الحل، ويدخله في (1) الحرم، ولا يجوز له أن يصيده (2) في الحرم، فيُفَرَّق (3) بين ابتداء صيده، وبين استصحاب إمساكه، كما ذكرناه في الحج.
وفيه جواز لعب الصَّبي بالطير الصغير، لكن الذي أجاز (4) العلماء من ذلك: أن يمسك له، وأن يلهو بحسنه. وأما تعذيبه، والعبث (5) به: فلا يجوز؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تعذيب الحيوان إلا لمأكلة (6) .
وفيه ما يدل على جواز المزاح مع الصغير، لكن إذا قال حقًّا.
وفيه ما يدل على حسن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - ولطافة معاشرته، وألفاظه، ومنها (7) : قوله لابن عمر: «يا بني»، وكذلك قوله للمغيرة: «أي بني (8) »، فإنَّه نزله (9) منزلة ابنه الصغير في الرحمة، والرفق، والشفقة.
وسؤال المغيرة عن الدجال إنما كان لما سمع من عظيم فتنته، وشدَّة محنته، فأجابه (10) - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «وما يُنصِبُك (11) منه ؟ إنه لن (12) يضرَّك؛ أي: ما يصيبك (13) منه (14) من النَّصَب والمشقَّة. وهكذا رواية الكافة. وعند الهوزني: «ما ينضيك (15) »: بالضاد (16) المعجمة، والياء باثنتين من تحتها (17) ، وكأنه من جهة قولهم: جمل نضوٌ؛ أي: هزيل، وأنضاه السَّير؛ أي: أهزله. والأول أصح رواية ومعنًى.
وقوله: «إنه لن يضرك»؛ يحتمل أن يريد (18) : لأنك لا تدرك زمان خروجه. ويحتمل أن يكون إخبارًا منه بأنه يُعصم من فتنته، ولو أدرك زمانه، والله تعالى ورسوله (19) أعلم.
وقول المغيرة: «إنهم يزعمون: أن معه أنهار الماء، وجبال الخبز»؛ هذا يدلّ =(5/472)=@
__________
(1) قوله: «في» سقط من (ق).
(2) في (ب) و(ح) و(ك): «يصيد».
(3) في (ب): «ففرق».
(4) في (ق): «أجازه».
(5) في (ق): «واللعب به».
(6) تقدم في باب النهي عن صبر البهائم، وعن اتخاذها غرضًا، وعن الحذف، من كتاب الصيد والذبائح.
(7) في (ب): «ومنه».
(8) في (ح): «أيبني» كذا رسمت.
(9) في (ق): «ينزله».
(10) في (ب): «فأجابه النبي».
(11) في (ك): «ينصيك».
(12) في (ح): «وما ينصبك فإنه أي لن يضرك».
(13) قوله: «إنه لن يضرك أي ما يصيبك» سقط من (ب) و(ق)، وجاء بدلاً منه: «أما ينصبك» وفي (ك): «نصيك» تراجع (ب).
(14) قوله: «منه» سقط من (ب) و(ح).
(15) في (ح) «ما ينضبك».
(16) في (ح): يشبه «بضاد».
(17) في (ب) و(ق): «بالضاد المعجمة والمثناة من تحت».
(18) قوله: «يريد» مطموس في (ح).
(19) في (ق): «والله أعلم ورسوله أعلم».(5/472)
على أن المغيرة كان (1) قد (2) سمع هذا الأمر عن الدَّجال من غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يحققه، فعرض ذلك (3) على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأجابه بقوله: «هو (4) أهون على الله من ذلك». وظاهر هذا الكلام (5) : أن الدَّجال لا يُمكّن من ذلك لهوانه على الله، وخسة قدره، غير أن هذا المعنى قد جاء ما يناقضه في أحاديث الدجال الآتية. فيحتمل: أن يكون هذا القول (6) صدر عنه قبل أن يوحى إليه بما (7) في تلك الأحاديث. ويحتمل: أن يعود الضمير إلى تمكين الدجال من أنهار الماء، وجبال الخبز؛ أي: فعل ذلك على الله هين. والأوَّل أسبق، والثاني لا يمتنع (8) ، والله تعالى أعلم.
7 - ومن باب الاستئذان وكيفيته وعدده (9)
قوله في هذه الرواية: «فسلَمت (10) ثلاثًا»؛ ليس مناقضًا لقوله في الأخرى (11) : إنه استأذن ثلاثًا؛ لأنَّ أبا موسى رضي الله عنه كان قد جمع بين السلام والاستئذان ثلاثًا ثلاثًا، كما قد جاء منصوصًا عليه في الرواية الثالثة. وحاصل هذه الأحاديث: أن دخول منزل الغير ممنوع؛ كان ذلك الغير فيها أو لم يكن، إلا بعد الإذن. وهذا (12) =(5/473)=@
__________
(1) في (ب): «كان قد».
(2) قوله: «قد» سقط من (أ) و(ك) و(ح) و(ق).
(3) في (ب): «جابر».
(4) في (ق): «وهو».
(5) قوله: «الكلام» سقط من (ق).
(6) قوله: «القول» سقط من (ق).
(7) قوله: «بما» سقط من (ق).
(8) في (ق): «لا يمنع».
(9) في (ق): «وعدد».
(10) في (ق): يشبه «سلمت».
(11) في (ق): «في الرواية الأخرى».
(12) في (ق): «وهو».(5/473)
الذي نصَّ الله تعالى عليه بقوله (1) : {لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} (2) ، ثم قال بعد هذا (3) : {فإن لم تجدوا فيها أحدًا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن (4) قيل لكم ارجعوا فارجعوا} (5) . وهذا لا بدَّ منه؛ لأنَّ دخول منزل الغير تصرُّف في ملكه، ولا يجوز بغير إذنه؛ لأنَّه (6) يطلع منه على ما لا يجوز الاطلاع عليه من عورات البيوت، فكانت هذه المصلحة في أعلى رتبة المصالح الحاجيَّة.
ولما تقرَّر هذا شرعًا عند أبي موسى استاذن أبو موسى على عمر رضي الله عنهما، ولما كان عنده علم بكيفية الاستئذان وعدده: عمل على ما كان عنده من ذلك. فلما لم يؤذن له: رجع. وأما (7) عمر رضي الله عنه فكان عنده العلم (8) بالاستئذان (9) ، ولم يكن عنده علم من العدد، فلذلك أنكره على أبي (10) موسى إنكار مستبعد من نفسه أن يخفى عليه ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ملازمته النبي (11) - صلى الله عليه وسلم - حضرًا وسفرًا ملازمة لم تكن لأبي موسى ولا لغيره، وإنكار من سدَّ (12) باب الذريعة في التقوُّل على (13) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولذلك أغلظ على أبي موسى بقوله: أقم عليه البينة، وإلا أوجعتك، ولأجعلنك (14) عظة. فلما أتاه بالبينة (15) قال: إنما أحببت أن أتثبت.
وفي هذا الحديث أبواب من الفقه؛ فمنها: أن الاستئذان لا بد أن يكون ثلاثًا، فإذا لم يؤذن له بعد الثلاث؛ فهل يزيد عليها أو لا ؟ قولان لأصحابنا. الأولى (16) أن لا يزيد؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «الاستئذان ثلاث، فإنَّ أذن لك، وإلا فارجع»؛ وهذا نصٌّ. إنَّما (17) خصَّ الثلاث بالذكر؛ لأنَّ الغالب أن الكلام إذا كُرر ثلاثًا سمع وفهم (18) . ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا تكلَّم بكلمة أعادها ثلاثًا حتى تفهم عنه (19) ، وإذا سلَّم على قومٍ سلَّم عليهم ثلاثًا. وإذا كان الغالبُ هذا، فإذا لم يؤذن له بعد ثلاث ظهر =(5/474)=@
__________
(1) في (ب): «كقوله تعالى».
(2) الآية (27) من سورة النور.
(3) في (ك): «ذلك».
(4) في (ق): «فإن».
(5) الآية (28) من سورة النور.
(6) في (أ): «ولأنه».
(7) في (ق): «فأما».
(8) في (ق): «علم» بدل «العلم».
(9) في (ب) و(ك): «عنده علم من الاستئذان» وكتب ناسخ (ك) فوقها: «بالاستئذان» ووضع (خ).
(10) في (ق): «على أبو».
(11) في (ب) و(ح): «للنبي».
(12) في (ح) و(ك) و(ق): «يسد».
(13) في (ق): «عن» بدل «على».
(14) في (ق): «فالأجعلنك».
(15) في (ح): «البينة».
(16) في (ق): «الأول».
(17) في (أ) و(ك) و(ح) و(ق): «وإنما».
(18) البخاري (1/188 رقم94 و95) في العلم، باب من أعاد الحديث ثلاثًا ليفهم عنه، و(11/26 رقم6244) في الاستئذان، باب التسليم والاستئذان ثلاثًا.
(19) في (ح): «منه».(5/474)
أن ربَّ المنزل لا يريد الإذن، أو لعله يمنعه من الجواب عذر لا يمكنه قطعه. فينبغي للمستأذن أن ينصرف، لأن الزيادة على ذلك قد تقلق ربَّ المنزل، وربما يضرُّه الإلحاح حتى ينقطع عما كان مشتغلاً به، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي أيوب رضي الله عنه حين استأذن عليه، فخرج مستعجلاً فقال: «لعلنا أعجلناك» (1) .
ومنها: قبول أخبار الآحاد، ووجوب التثبُّت (2) فيها، والبحث عن عدالة ناقليها (3) ؛ لأنَّ أبا موسى لما أخبر عمر رضي الله عنهما بأن أُبي بن كعب يشهد له قال: عَدْلٌ.
ومنها: حماية الأئمة حوزة الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والإنكار (4) على من تعاطاها (5) إلا بعد ثبوت الأهليَّة وتحققها (6) .
ومنها: أن المستأذن حقَّه أن يبدأ بالسلام، ثم يذكر اسمه، وإن كانت له كنية (7) يُعرف بها ذكرها، كما فعل (8) أبو موسى، وكل ذلك ينبغي في تحصيل التعريف التام للمستأذن عليه؛ فإنَّه إن أُشكل (9) عليه اسم عرف آخر (10) . وقال بعض أصحابنا: هو (11) بالخيار بين أن يُسمي نفسه أو لا، والأولى (12) ما فعله أبو موسى، فإنَّ فعله ذلك إن كان توقيفًا؛ فهو المطلوب. وإن لم يكن توقيفًا؛ فبه يحصل التعريف الذي لأجله شرع الاستئذان، ثم رأي الصحابي راوي الحديث أولى من هذا القول الحديث.
وقوله: «فقال أُبي ابن كعب: لا يقوم معه إلا أصغر القوم، فقام أبو سعيد (13) ، فأعلمه بذلك»، وفي الرواية الأخرى: «إن أُبي بن كعب أخبره بذلك» (14) ؛ ولا (15) تباعد فيهما، فإنَّه أخبره بذلك كلاهما: أبو سعيد(2) أولاً حين (16) أتاه إلى منزله، وأُبي ثانيًا لما =(5/475)=@
__________
(1) تقدم في باب: في الرجل يطأ ثم لا ينزل، من كتاب الطهارة.
(2) في (ح): «التثبت» وفي (ق): «المثبت».
(3) في (ك) و(ق): «ناقلها».
(4) في (ق): «وإنكار».
(5) في (ق): «تعاطا».
(6) في (ق): «وحققها».
(7) في (ك): «كنىً».
(8) في (ب): «فعله».
(9) في (ق): «عليه فإن أشكل».
(10) في (ح): «الآخر».
(11) في (ح): «وهو».
(12) في (ق): «وأولى».
(13) في (ح): يشبه «أبو سعد».
(14) سيأتي في هذا الباب بعد حديث.
(15) في (ب) و(ح) و(ق) و(ك): «لا» بلا واو.
(16) قوله: «حين» سقط من (ب) و(ح) و(ك) و(ق).(5/475)
اجتمع به عمر في المسجد. وهذا كله يدلُّ على شهرة الحديث عندهم، ومع ذلك فلم يعرفه عمر، ولا يُستنكر هذا، فإنَّه من ضرورة أخبار الآحاد.
وقوله: «جعلوا (1) يضحكون»؛ إنما ضحكوا من جزع أبي موسى من تهديد عمر، مع علمهم: بأن ذلك لا يتمُّ منه؛ لأنَّ ما طلبه من البينة موجودة، ولأن عمر لم يكذبه، ولا مقصوده (2) جلده، ولا إهانته، بل: التغليظ والحماية.
وقول عمر رضي الله عنه: «خفي عليَّ هذا من أمر (3) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - »؛ إنما قاله عاتبًا على نفسه، وناسبًا لها إلى التقصير، ثم بيَّن عذره بقوله: «ألهاني عنه (4) الصَّفق بالأسواق». وفي البخاري (5) : يعني: الخروج إلى التجارة. وألهاني (6) : شغلني. =(5/476)=@
__________
(1) في (ح): «فجعلوا».
(2) في (ق): «ولا كان مقصوده».
(3) قوله: «أمر» سقط من (ح) و(ك).
(4) قوله: «عنه» سقط من (ك) و(ح) و(ق).
(5) في "صحيحه" (4/298 رقم2062) في البيوع، باب الخروج في التجارة.
(6) في (ح): يشبه «فألهاني».(5/476)
والصَّفق: البيع، وسمي بذلك لأنهم كانوا يتواجبون البيع بالأيدي، فيصفق كل واحد منهم (1) بيد (2) صاحبه. ومنه قيل للبيعة: صفقة.
وقول أُبيّ لعمر بن الخطاب (3) رضي الله عنهم ا: «لا تكونن عذابًا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - »؛ يدلُّ على ما كانوا عليه من القوَّة في دين الله، وعلى قول الحق، ومن قبوله، والعمل به (4) ، فإنَّ أُبيًّا أنكر على عمر تهديده لأبي موسى، فقام بما عليه من الحق. ولما تحقق (5) عمر الحقَّ قَبِلَه، واعتذر عما صدر عنه رضي الله عنهم أجمعين. =(5/477)=@
__________
(1) في (ق): «منهما».
(2) في (ك): «يد».
(3) قوله: «ابن الخطاب» سقط من (ك).
(4) قوله: «والعمل به» سقط من (ق).
(5) في (ح): «فهم».(5/477)
8 - ومن باب كراهية أن يقول: أنا عند الاستئذان
قول جابر رضي الله عنه: استأذنت على النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) فقال: «من ؟» دليلٌ على جواز الاستئذان من غير ذكر اسم المستأذن، إلا أن الأحسن أن يذكر اسمه كما تقدَّم في حديث أبي موسى، ولأن (2) في ذكر اسمه إسقاط كلفة السؤال والجواب. وكراهة النبي - صلى الله عليه وسلم - قول جابر في جوابه: أنا، أنا. يحتمل أن يكون لذلك المعنى. ويحتمل (3) : أن يكون، لأن «أنا» لا يحصل بها (4) تعريف، وهو الأولى. وقيل: إنما كره ذلك لأنَّه دق عليه الباب على ما روي في غير (5) كتاب مسلم (6) ، وفي هذا التأويل بُعد؛ لأنَّه إنما فهمت الكراهة عنه من قوله: «أنا، أنا». ولم يذكر الدَّق، ولا نبَّهه عليه، فكيف يعدل عما نطق به وكرَّره مُنكِرًا له، ويصار إلى ما لم يَجرِ له ذكر؟!
وقوله: «إن رجلاً اطَّلع من جحرٍ (7) في باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - »؛ هذا الفعل يحرم =(5/478)=@
__________
(1) في (ق): «على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ».
(2) في (ق): «ولا» بدل «ولأن».
(3) في (ح): «وتحتمل».
(4) في (ب): «منها».
(5) قوله: «غير» سقط من (ق).
(6) أخرجه البخاري (11/35 رقم6250) في الاستذان، باب إذا قال: من ذا؟ فقال: أنا.
(7) في (ح) و(ق): «حجر» وفي (ك): «في حجر».(5/478)
قطعًا، وخصوصًا في بيت النبي (1) - صلى الله عليه وسلم - لعظيم حرمته، وحرمة أزواجه، لا جرم علق على هذا الفعل من العقوبة جواز الطعن في عين الناظر، كما ظهر من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن فعله، وقد تقدَّم الكلام على هذا وذكر الخلاف فيه في كتاب القصاص.
غريب: «الجحر»: واحد الجحرة (2) . وهي (3) : مكامنُ الوحش، ولما كانت نقبًا في الأرض سُمي بذلك النقب في الباب، وفي الحائط، وغير ذلك. و «الْمِدرى»: بالدال المهملة: واحد المداري (4) . قال ثابت: هي الأمشاط، وفي هذا التفسير تسامح، وأوضح منه وأصح، قول النضر بن شميل، وابن كيسان: أنَّه عود، أو عاج تنشر به المرأة شعرها وتجيده (5) . قال امرؤ القيس (6) :
غَدائِرُه مُسْتَشْزِرات (7) إلى العُلا تضل (8) الْمَدَاري في مُثَنًّى ومرسل
ومؤنثه: مدراة، وقد عبَّر عنه في الرواية الأخرى: بمشقص، وبمشاقص (9) ، وقد قلنا: إن المشقص نصلٌ عريض. وقيل: هو السِّكين. فيحتمل أن يكون هذا المدرى من حديد، فكما (10) يعمل من عاج، وعود، يجوز أن يعمل من حديد، أو يكون (11) شبَّهه (12) بالسِّكين.
و «يختله»: يراوغه، ويخادعه (13) . و «فخذفته (14) » بالخاء المعجمة (15) : هي (16) الرواية الصحيحة، ومن رواها بالحاء المهملة (17) فقد أخطا؛ فإنَّ الخذف بالخاء: بالحجر، والحذف با لمهملة با لعصا.
و «الجناح»: الإثم، والمؤاخذة، ونحوه: الحرج، وأصله من الضيق، ومنه قوله تعالى:{ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجُا} (18) ، =(5/479)=@
__________
(1) في (ح) و(ق): «رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ».
(2) في (ق): «الحجر واحد الحجرة».
(3) في (ح): «وهو».
(4) في (ح): يشبه «المدرى».
(5) في (ك) و(ح) و(ق): «وتجعده».
(6) "ديوانه" (. . . )، و"المعلقات السبع" (ص27)، وفيها: تَِضلُّ العِقَاص».
(7) في (ق): «مستنشرات» وكتب في الهامش «مشتشزات».
(8) في (ب) و(ح): «تظل»، ولم تنقط في (ب).
(9) في (ق): «ومشاقص».
(10) في (ب): «وكما».
(11) من قوله: «المدرى من حديد...» إلى هنا سقط من (ق).
(12) في (ب) و(ح) و(ق): «شبه».
(13) في (ح): «ويجاذعه».
(14) في (ق): «وخذفته».
(15) قوله: «بالخاء المعجمة» سقط من (ق).
(16) في (ح): «وهي».
(17) قوله: «المهملة» سقط من (ك).
(18) الآية (125) من سورة النعام.(5/479)
بكسر الراء، وقُرِئت بالفتح: «كالقَرِد والقرَد»، والدَّنِف والدَّنَف (1) .
وقوله: «إنما جعل الاستئذان من أجل البصر (2) »؛ دليل على صحة التعليل القياسي. فهو (3) حجَّة الجمهور (4) على نُفاة القياس.
وقوله: «يرجل به رأسه»؛ دليل على استحباب إصلاح الشعر، وإكرامه، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : «من كانت له جُمَّةٌ فليكرمها» (5) ، ولكن لا ينتهي بذلك إلى أن يخرج إلى الترفه والتَّرف (6) المنهي عنه بقوله - صلى الله عليه وسلم - ، فيما رواه عنه فضالة بن عبيد (7) رضي الله عنه حيث قال: «نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كثير من الإرفاه، وأمرنا أن نحتفي أحيانًا».
و «التَّرجُّل (8) »: مشط الشعر وتكسيره (9) . =(5/480)=@
__________
(1) الدَّنَفُ: المَرَضُ اللازِمُ المُخامِرُ، وقيل: هو المرض ما كان. ورجل دَنَفٌ ودَنِفٌ و مُدْنِفٌو مُدْنَفٌ: براه المرضُ حتى أَشْفى على الموت، فمن قال دَنَفٌ لم يُثَنِّهِ ولم يجمعه ولم يؤنّثه كأَنه وصف بالمصدر، ومن كسر ثنَّى وجمع وأَنَّث. "لسان العرب" (9/107).
(2) في (ق): «البصر» وكتب في الهامش: «النظر» ووضع (خ).
(3) في (ب): «وهو».
(4) في (ب) و(ح) و(ك): «للجمهور».
(5) أخرجه مالك (2/949 رقم6) في الشعر، باب إصلاح الشعر، عن يحيى بن سعيد: أن أبا قتادة الأنصاري قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن لي جُمَّة أفأرجلها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «نعم وأكرمها»، فكان أبو قتادة ربما دهنها في اليوم مرتين؛ لما قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «وأكرمها».
قال ابن عبدالبر في "التمهيد" (24/9): «لا أعلم بين رواة الموطأ اختلاف في إسناد هذا الحديث، وهو عند جميعهم هكذا مرسل منقطع، وقد روي عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن المنكدر، عن أبي قتادة، وهذا لا يدفع أن يكون مسندًا، ولا ينكر سماع ابن المنكدر من أبي قتادة، والله أعلم».
قال البيهقي في "شعب الإيمان" (5/225): «المرسل أصح، ووصله ضعيف». فانظره.
وله شاهد من حديث أبي هريرة: أخرجه أبو داود (4/394-395 رقم4163) في الترجل، باب في إصلاح الشعر، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (8/434-435 رقم3365)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (5/224 رقم3455)، وابن عبدالبر في "التمهيد" (24/10). جميعهم من طريق أبي الزناد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان له شعر فليكرمه».
قال الألباني في "الصحيحة" (1/899-900 رقم500): «وهذا إسناد حسن كما قال الحافظ في "الفتح" (10/310)، وهو عندي صحيح لغيره؛ لأن ابن أبي الزناد، وهو صدوق، تغيَّر حفظه لما قدم بغداد، قد وجدت له متابعًا قويًّا، فقال أبو نعيم في "تسمية ما انتهى إلينا من الرواة عن سعيد بن منصور عاليًا" وروى عنه أيضاً إسماعيل بن عبدالله العبدي: حدثنا عبدالله بن جعفر، ثنا إسماعيل بن عبدالله، نا سعيد بن منصور، نا ابن أبي ذئب، عن سهيل به. قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات رجال مسلم، غير العبدي هذا، وهو ثقة صدوق، كما قال ابن أبي حاتم (1/182 رقم620). وعبدالله بن جعفر هو عبدالله بن محمد بن جعفر بن حيان، المعروف بأبي الشيخ، وهو ثقة حافظ، له ترجمة في "تذكرة الحفاظ " (3/ 147- 149)». اهـ
(6) في (ب): «والسرف» وفي (ك): «والترف» وكتب في الهامش «والسرف» ووضع (خ).
(7) أخرجه أبو داود في "سننه" (4/393-394 رقم4160) في الترجل، ومن طريقه البيهقي في "شعب الإيمان" (5/227 رقم3468 و6469)، والنسائي (8/185 رقم5239) كتاب الزينة، باب الترجل مختصرًا، وأحمد في "المسند" (6/22) من طريق الجريري. وأخرجه ابن عبدالبر في "التمهيد" (24/11) من طريق ابن المبارك، عن كهمس. كلاهما - الجريري وكهمس -، عن عبدالله بن بريدة: أن رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - رحل إلى فضالة بن عبيد وهو بمصر، فقدم عليه فقال: أما إني لم آتك زائرًا، ولكني سمعت أنا وأنت حديثًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجوت أن يكون عندك منه علم، قال: وما هو؟ قال: كذا وكذا، قال: فمالي أراك شعثًا وأنت أمير الأرض؟ قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينهانا عن كثير من الإرفاه، قال: فمالي لا أرى عليك حذاء؟ قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نحتفي أحيانًا.
هذا لفظ أبي داود، ورواه النسائي (8/132 رقم 5058) كتاب الزينة، باب الترجل، وفي "الكبرى" (5/410-411 رقم9318) من طريق خالد بن الحارث، عن كهمس، عن عبدالله بن شقيق قال: كان رجلٌ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عاملاً بمصر، فأتاه رجل من أصحابه، فإذا هو شعث الرأس مشعان، فقال: ما لي أراك مشعانًا وأنت أمير؟ قال: كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا عن الإرفاه، قلنا: وما الإرفاه؟ قال: «الترجل كل يوم».
وصحح الألباني الحديثين من "صحيح سنن النسائي"(. . . )، و"صحيح سنن أبي داود" (. . . . ).
(8) في (ب): «والترجيل» وفي (ق): «الرجل».
(9) في (ق): «وتكثيره».(5/480)
قال الشيخ رضي الله عنه: كان يمكن أن يُحمل حديث سهل وأنس على أن الذي همَّ به النبي - صلى الله عليه وسلم - من طعن المطلع على الخصوص ببيت (1) النبي - صلى الله عليه وسلم - لعظيم (2) حرمته (3) ، وحرمة أهل بيته، غير أن حديث أبي هريرة يقتضي إباحة ذلك الطعن عامة لبيته (4) ، وبيت غيره، فإنَّه قال فيه: «من اطَّلع في بيتٍ (5) بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقؤوا عينه»؛ فإذًا هذا الحكم (6) ليس مخصوصًا به.
وقوله: «فقد حل لهم أن يفقؤوا عينه (7) »؛ نصٌّ في الإباحة والتحليل، وعلى هذا: فلا يلزم ضمان، ولا دية إذا وقع ذلك. ولا يستبعد هذا من الشرع، فإنه عقوبة على جناية سابقة، غير أن هذا خرج مخرج التعزيرات، لا مخرج الحدود، ألا ترى قوله - صلى الله عليه وسلم - : «فقد حل»، ولم يقل: فقد وجب. وإنما مقصود هذا الحديث إسقاط (8) القود، والمؤاخذة بذلك إن وقع ذلك (9) .
وقوله: «لو أن رجلا اطَّلع عليك بغير إذنٍ، ففقأت عينه ما (10) كان عليك من حرج»؛ ظاهر قوي في الذي قرَّرناه، ويفيد أيضًا أن هذا الحكم جارٍ فيمن اطَّلع على عورة الإنسان، وإن لم يكن من (11) باب. فإنَّ قوله: اطَّلع عليك (12) ، يتناول كل =(5/481)=@
__________
(1) في (ح): «بيت».
(2) في (ق): «لعظم».
(3) في (ح): «وحرمته».
(4) في (ب) و(ح) و(ق) و(ك): «في بيته».
(5) في (أ) و(ك) و(ح): «بيت قوم» وفي (ق): «على بيت قوم».
(6) في (ح): «الحديث».
(7) من قوله: «فإذًا هذا الحكم. . . . » إلى هنا سقط من (ب).
(8) في (ق): «سقوط».
(9) قوله: «ذلك» سقط من (ق).
(10) في (ح): «لما».
(11) في (ح): «في» بدل «من».
(12) في (ح): «عليكم» وقوله «عليك» سقط من (ق).(5/481)
مطلع كيفما كان، ومن أي جهة (1) كان. بل: يتعيَّن أن يقال (2) : إن الشرع إذا علَّق هذا الحكم على الاطلاع في البيت؛ لأنه مظنة الاطلاع على العورة، فلأن يعلق على نفس الاطلاع على العورة (3) أحرى، وأولى (4) ، وهذا نظر راجح، غير أن أصحابنا حكوا (5) الإجماع على أن من اطَّلع على عورة رجل بغير إذنه (6) ، ففقأ عينه: أنه لا يسقط عنه الضمان، كما ذكرناه. فإنْ صح هذا الإجماع، فهو (7) واجب الاتباع. وإن ** كذا في (أ) ** وجد خلاف فما ذكرناه (8) هو الإنصاف.
9 - ومن باب نظرة (9) الفجأة (10) وتسليم الراكب على الماشي
قوله: «سألته عن نظرة الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري»؛ الفجاءة: بضم الفاء والمدِّ والهمز (11) : مصدر فجأني الأمر يفجؤني (12) فُجاءَة: إذا صادفك بغتة من غير قصد. ومنه: قَطَرِيُّ (13) بن الفجاءة؛ اسم رجل. ويقال: فاجأني، يفاجئني، مفاجأةً، وفجاء (14) . وإنما أمره أن يصرف بصره عن استدامة النظر إلى ما وقع عينه عليه أول =(5/482)=@
__________
(1) في (ح): «وجه».
(2) في (ق): «يبحث عمن خالفه فقال» بدل «يقال».
(3) في (ح): «العورة من».
(4) في (ح): «أولى وأحرى».
(5) في (ح): «حكموا».
(6) في (ب): «إذن».
(7) في (ب): «وهو».
(8) في (أ): «ذكرنا».
(9) في (ح): «نظر».
(10) في (ب): «الفجاءة».
(11) في (ق): «والهمزة».
(12) في (ق): «يفجأني».
(13) في (ق): «قطرني» كذا رسمت.
(14) في (ب): «وفجاءة».(5/482)
مرة؛ وإنما لم يتعرض لذكر الأولى؛ لأنَّها لا تدخل تحت خطاب تكليف (1) ؛ إذ وقوعها لا يتأتى أن يكون مقصودًا، فلا تكون مكتسبة، فلا يكون مكلفًا بها، فأعرض عما ليس مكلَّفًا به (2) ، ونهاه عما يُكلَّف به؛ لأنَّ استدامة النظر مكتسبة للإنسان؛ إذ قد يستحسن ما وافقه بصره، فيتابع النظر، فيحصل المحذور - وهو النظر إلى ما لا يحل -. ولذلك قال النبي (3) - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: «لا (4) تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى، وليست لك الثانية» (5) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «يُسلِّم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير»؛ قد (6) تقدَّم الأمر بالسلام، وبإفشائه في كتاب الإيمان، ولا خلاف بين العلماء في أن الابتداء بالسلام سُنَّة، وأن الرد واجب، قاله أبو محمد عبد الوهاب. وقال أبو عمر بن عبدالبر: أجمع العلماء: على أنَّ الابتداء بالسَّلام سُنَّة والردُّ فريضة. غير أن أبا عبدالله المازري قال: الابتداء بالسَّلام سُنَّة والردُّ واجب في المشهور؛ فإذا ردَّ واحدٌ من الجماعة أجزأ عنهم، ثمَّ إن الناس في الابتداء بالسَّلام إما أن تتساوى أحوالهم، أو تتفاوت. فإن تساوت فخيرهم الذي يبدأ صاحبه بالسلام: كالماشي على الماشي، والراكب على الراكب، غير (7) أن الأولى مبادرة ذوي المراتب الدينية، كأهل العلم، والفضل احترامًا لهم، وتوقيرًا، وأما ذوو (8) المراتب الدنيوية المحضة فإنَّ سلَّموا رُدَّ عليهم، وإن ظهر عليهم إعجاب، أو كبر فلا يُسلَّم عليهم؛ لأنَّ ذلك معونة لهم على المعصية، وإن لم يظهر ذلك عليهم جاز أن يُبدؤوا (9) بالسَّلام، وابتداؤهم هم (10) بالسلام أولى بهم؛ لأنَّ ذلك يدلّ على =(5/483)=@
__________
(1) قوله: «تكليف» مطموس (ح).
(2) في (ق): «بها».
(3) قوله: «النبي» ليس في (ق).
(4) في (أ): «لعلي لا تتبع».
(5) أخرجه ابن أبي شيبة (4/6 رقم17212) في النكاح، باب ما قالوا في الرجل تمر به المراة فينظر إليها، من كره ذلك، وأحمد (5/351-352 و352)، وأبو داود (2/610 رقم2149) في النكاح، باب ما يؤمر به من غض البصر، والترمذي (5/94 رقم2777) في الأدب، باب ما جاء في نظرة المفاجأة، والطحاوي (3/15)، والحاكم (2/194)، والبهقي (7/90) من طريق الحاكم. جميعهم من طريق شريك، عن أبي ربيعة الإيادي [زاد أحمد في رواية: وأبي إسحاق]، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي: «ياعلي! لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة».
قال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث شريك».
وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه». ووافقه الذهبي.
وشريك هو ابن عبدالله القاضي: صدوق يخطئ كثيرًا، تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة. كما في "التقريب"(ص 436 رقم2802).
وقد توبع شريك على روايته: فأخرجه ابن ابي شيبة (4/7 رقم17221) في الموضع السابق، و(6/370 رقم32074) في الفضائل، باب فضائل على بن أبي طالب رضي الله عنه، وأحمد (1/159)، والطحاوي (3/14-15)، ثلاثتهم من طريق عفان بن مسلم، وأخرجه الدارمي (2/298) في الرقائق، باب في حفظ السمع، عن أبي الوليد الطيالسي. وأخرجه ابن حبان (12/381 رقم5570/الإحسان) من طريق هدبة بن خالد. ثلاثتهم - عفان بن مسلم، وأبو الوليد الطيالسي، وهدبة بن خالد -، عن حماد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التيمى، عن سلمة بن أبى الطفيل، عن علي قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يا علي! إن لك كنزًا من الجنة، وإنك ذو قرنيها، فلا تتبع النظرة. . . ».
وأخرجه الحاكم (3/123) من طريق عفان بن مسلم وسليمان بن حرب، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن سلمة بن أبي الطفيل، أظنه عن أبيه، عن علي.
رواه بعضهم مختصرًا: «ياعلي! لا تتبع النظرة. . . ».
وفي سنده: محمد بن إسحاق مدلّس، ولم يصرح بالسماع.
سلمة بن أبي الطفيل روى عن علي بن أبي طالب، وأبيه عامر بن واثلة الصحابي، وروى عنه فطر بن خليفة، ومحمد بن إبراهيم التيمي، وأورده البخاري "التاريخ الكبير":(4/77 رقم2010)، وابن أبي حاتم (4/166 رقم730)، ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان في "الثقات" (4/318).
وحكى الذهبي في "الميزان" (2/191 رقم3406) عن ابن خراش، قوله: مجهول.
وردّ ذلك الحافظ في "تعجيل المنفعة" (1/601-602 رقم403) فقال: «وهو مردود، فإنه روى عنه أيضًا فطر بن خليفة، كما جزم به ابن أبي حاتم، وأفاد أن أباه هو عامر بن واثلة الصحابي. . . ، وأما قول ابن حبان: إن فطرًا كان يقول فيه سلمة بن الطفيل فهو مرجوح».
وقد أخرج البخاري في "تاريخه" (4/77) عن خليفة، عن عبدالأعلى، عن ابن إسحاق، عمن سمع أبا الطفيل عامر بن واثلة، عن بلال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إن لك كنزًا في الجنة». قال أبوعبد الله - البخاري -: «ولا يصح».
والحديث حسَّنه الألباني في "جلباب المرأة المسلمة" (ص77) بطريقيه، وفي الباب من حديث جرير بن عبدالله، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظر الفجأة؟ فأمرني أن أصرف بصري. وهو عند المصنف برقم (2068).
(6) في (ح): «وقد» وفي (ق): «فقد».
(7) في (ق): «على» بدل «غير».
(8) في (ك) و(ق): «ذوي» وفي (ح): «ذو».
(9) في (ق): «يبدأ».
(10) قوله: «هم».(5/483)
تواضعهم، وإن تفاوتت فالحكم فيها (1) على ما يقتضيه هذا الحديث، فيبدأ الراكب بالسَّلام على الماشي لعلوِّ مرتبته؛ ولأنَّ ذلك أبعد له من الزهو. وأمَّا الماشي: فقد قيل فيه مثل ذلك، وفيه بُعد؛ إذ الماشي لا يزهى بمشيه غالبًا. وقيل: هو معلل: بأن القاعد قد (2) يقع له خوف من الماشي؛ فإذا بدأه بالسَّلام أمن (3) ذلك، وهذا (4) أيضًا بعيد؛ إذ لا خصوصية للخوف بالقاعد، فقد يخاف الماشي من القاعد، وأشبه من هذا (5) أن يقال (6) : إن القاعد على حال (7) وقار وثبوت (8) وسكون، فله مزيَّة بذلك على الماشي؛ لأنَّ حاله على العكس من ذلك. وأما ابتداء القليل بالسَّلام على الكثير فمراعاة لشرفية جمع المسلمين، وأكثريتهم.
وقد زاد البخاري (9) في هذا الحديث: «ويسلم الصغير على الكبير»، وهذه المعاني التي تكلَّف (10) العلماء إبرازها هي (11) حكم تناسب المصالح المحسِّنة والمكمِّلة (12) ، ولا نقول: إنها نصبت نصب العلل الواجبة الاعتبار، حتى لا يجوز أن يعدل عنها، فنقول: إن ابتداء القاعد للماشي (13) غير (14) جائز، وكذلك (15) ابتداء الماشي الراكب، بل يجوز ذلك؛ لأنَّه مُظهر للسَّلام (16) ، ومفشٍ له كما أمر به (17) النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «أفشوا السَّلام بينكم» (18) ، وبقوله: «إذا لقيت أخاك فسلم عليه» (19) ، وإذا تقرر هذا فكل واحد من الماشي والقاعد مأمور بأن يسلِّم على أخيه إذا لقيه، غير أن مراعاة تلك المراتب أولى، والله تعالى أعلم.
ثم هذا السَّلام المأمور به، هو (20) أن يقول: السَّلام عليكم، أو: سلامٌ عليكم؛ إذ قد جاء اللفظان في الكتاب والسنة. والسلام في الأصل بمعنى: السلامة، كاللذاذ (21) واللذاذة، كما قال تعالى:{فسلامٌ لك من أصحاب اليمين} (22) ؛ أي: فسلامة فعلى هذا يكون معنى قول المسلم: سلام (23) عليك =(5/484)=@
__________
(1) قوله: «فيها» سقط من (ح).
(2) في (ق): «معلل بالقاعدة بأن قد».
(3) في (ب) و(ق): «أمن من».
(4) في (ح) و(ق): «وهو».
(5) في (ك): «هذا كله».
(6) قوله: «أن يقال» سقط من (ح).
(7) في (ق): «حالة».
(8) في (ح): «ثبات ووقور».
(9) في "صحيحه" (11/14 و16 رقم6231 و6234) في الاستئذان، باب تسليم القليل على الكثير، وباب يسلم الصغير على الكبير.
(10) في (ق): «يكلف».
(11) في (ب): «يعني».
(12) في (ق): «المكملة» بلا واو.
(13) في (ب) و(ح) و(ق): «الماشي».
(14) قوله: «غير» مطموس في (ح).
(15) قوله: «كذلك» لم يتضح في (ح).
(16) في (ح): «للإسلام» وفي (ق): «السلام».
(17) قوله: «به» سقط من (ح) و(ق).
(18) تقدم في باب المحبة في الله تعالى، والنصح من الإيمان، من كتاب الإيمان.
(19) سيأتي في باب حق المسلم على المسلم، والسلام على الغلمان.
(20) في (ق): «وهو».
(21) في (ب) و(ح): «كاللذاد».
(22) الآية (91) من سورة الواقعة.
(23) في (ق): «معنى السلام سلام عليكم أي».(5/484)
أي: سلامةٌ (1) لك مني وأمان، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : «السلام (2) أمان (3) لذمتنا، وتحيَّة لملتنا» (4) . والسَّلام أيضًا: اسم من أسماء الله تعالى، كما قال تعالى (5) :{السَّلام المؤمن المهيمن (6) } (7) ، ومعناه في حق الله تعالى: أنه المنزه عن النقائص والآفات التي تجوز على خلقه. وعلى هذا: فيكون معنى قول المسلم: السلام عليك؛ أي: الله مطلع (8) عليك، وناظر إليك، فكأنَّه يذكره باطلاع الله تعالى (9) ، ويخوفه به (10) ليأمن منه، ويُسلِّمُه من شرِّه، فإذا أُدخلت (11) الألف واللام على المعنى الأول كان معناه: السلامة كلها لك مني، وإذا أدخلت (12) على اسم الله تعالى: كانت تفخيمًا وتعظيمًا (13) ؛ أي: الله العظيم (14) السليم من النقائص، والآفات، المسلِّم لمن استجار به (15) من جميع المخلوقات. ويقال في السَّلام: سِلْمٌ (16) - بكسر السين - قال الشاعر (17) :
وقفنا فقُلنا إيهِ سِلْمًا فسلَّمَت (18) كما انْكَلَّ بالبَرْقِ الغَمَامُ اللَّوائِحُ
ولا يقل المبتديء (19) : عليك السَّلام، لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فيما رواه النِّسائي، وأبو داود من حديث جابر (20) بن سليم قال: لقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - **كذا في (أ) ** فقلت: عليك السَّلام يا رسول الله! فقال: «عليك السلام تحية الميت، السلام عليك - ثلاثا -»؛ أي: هكذا فقل.
وقوله: «عليك السَّلام تحيَّة (21) الْمَيِّت»؛ يعني أنه الأكثر في عادة الشعراء، كما قال:
عليك سلام الله قيسُ بن عاصمٍ ورَحْمَتُه ماشاء أن يَتَرحَّما
لا أن (22) ذلك اللفظ هو (23) المشروع (24) في حق الموتى؛ لأنَّه - صلى الله عليه وسلم - قد (25) سلَّم على الموتى، =(5/485)=@
__________
(1) في (ح): «سلام».
(2) قوله: «السلام» سقط من (ق).
(3) في (ق): «وأمان».
(4) أخرجه الطبراني في "الصغير" (1/135 رقم203) عن أحمد بن محمد بن أيوب الأنصاري البغدادي، عن محمد بن يحيى الأنيسي، عن عصمة بن محمد الأنصاري، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن السلام اسم من أسماء الله تعالى وضعه في الأرض تحية لأهل ديننا، وأمانًا لأهل ذمتنا».
قال الطبراني: «لم يروه عن يحيى بن سعيد إلا عصمة بن محمد، تفرد به محمد بن يحيى الأنيسي، من ولد عبد الله بن أنيس الأنصاري». اهـ.
قال ابن الجوزي في "الموضوعات" (3/79): «قال يحيى بن معين: عصمة كذاب، يضع الحديث. وقال العقيلي: يحدث بالبواطيل عن الثقات، ليس ممن يكتب حديثه إلا اعتبارًا». اهـ.
وقال الهيثمي في "المجمع" (8/29): «فيه عصمة بن محمد النصار ي، وهو متروك».
(5) قوله: «كما قال تعالى» سقط من (ق).
(6) قوله: «المهيمن» سقط من (أ).
(7) الآية (23) من سورة الحشر.
(8) في (ق): «السلام أي مطلع».
(9) في (ح): «تعالى عليه».
(10) قوله: «به» سقط من (ق).
(11) في (ب) و(ق): «دخلت».
(12) في (ق): «دخلت».
(13) في (ح): «وتعليمًا».
(14) في (ح): «العليم».
(15) في (ق): «استجاره من».
(16) قوله: «سلم» سقط من (ح) وفي (ق): «سلام».
(17) عبدة بن الطيب "ديوان الحماسة" (1/328).
(18) في (ق): «سلمت».
(19) في (ح): «ولا يقال للمبتديء».
(20) أخرجه ابن أبي شيبة (5/247 رقم25699) في الأدب، باب من كان يكره أن يقول: عليك السلام، وأبو داود (4/344-345 رقم4084) في اللباس، باب ما جاء في إسبال الإزار، من طريق ابن أبي شيبة وغيره، والترمذي (5/68 رقم2722) في الاستئذان، باب ما جاء في كراهية أن يقول عليك السلام مبتدئًا، والنسائي في "الكبرى" (6/88 رقم10150)، والطبراني في "الكبير" (7/65 رقم6387)، والبيهقي (10/236) من طريق أبي داود. جميعهم من طريق أبي غفار المثنى بن سعيد الطائي. وأخرجه الدولابي في "الكنى والأسماء" (1/22) من طريق عبيدة الهجيمي، والنسائي في "الكبرى" (5/486 رقم9691). كلاهما - أبو غفار، وعبيدة الهجيمي -، عن أبي تميمة، عن جابر بن سليم الهجيمي قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت عليك السلام، فقال: لا تقل: عليك السلام، فإن عليك السلام تحية الميت، قل: السلام عليك.
قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح».
وأخرجه الترمذي (5/67-68 رقم2721) في الاستئذان، باب ما جاء في كراهية أن يقول: عليك السلام مبتدئًا، والنسائي في "الكبرى" (6/88 رقم10151 و10152)، والطبراني في "الكبير" (7/66 رقم6389)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (ص88 رقم236). جميعهم من طريق خالدا الحذاء. وأخرجه أحمد (3/482-483)، والنسائي في "الكبرى" (6/87 رقم10149) و(4/186). ثلاثتهم من طريق سعيد بن إياس الجريري، عن أبي السليل - ضُريب بن نُفير -، كلاهما - خالد الحذاء، وأبو السليل -، عن أبي تميمة الهجيمي، عن رجل من قومه - وسماه بعضهم: جابر بن سليم - فذكره.
قال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في "الصحيحة" (3/ 392 رقم1403)، و"المشكاة"(1/598-599 رقم1918). وصححه الحافظ في "الفتح" (11/5).
(21) في (ق): «تحت» كذا رسمت.
(22) في (ق): «لأن» بدل «لا أن».
(23) في (ح): «هو اللفظ».
(24) قوله: «المشروع» سقط من (ح).
(25) قوله: «قد» سقط من (ح).(5/485)
كما سلَّم على الأحياء، فقال: «السَّلام عليكم دار قومٍ مؤمنين» (1) . ويتأكد تقديم لفظ (2) السَّلام إذا تنزلنا (3) على أن السَّلام اسم من أسماء الله تعالى، فإنَّ أسماءه (4) تعالى أحقُّ بالتقديم. وأما الرادُّ: فالواجب عليه أن يردَّ ما سمعه، والمندوب أن يزيد إن بقَّى له المبتدىء ما يزيد، فلو انتهى المبتدىء بالسلام إلى غايته؛ التي هي: السَّلام عليك ورحمة الله وبركاته؛ لم يزد الرادُّ على ذلك شيئًا؛ لأنَّ السلام انتهى إلى البركة، كما قاله عبدالله (5) بن عباس (6) . وقد أنكر عبدالله بن عمر على من زاد على ذلك شيئًا (7) ، وهذا كلُّه مستفادٌ (8) من قوله تعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا} (9) ؛ أي: يحاسب على الأقوال كما يحاسب على الأفعال.
وقوله: «ما لكم ولمجالس الصُّعدات، اجتنبوا مجالس الصُّعدات (10) »؛ الصُّعدات (11) : جمع صعيد، وهو الطريق مطلقًا. وقيل: الطريق الذي لا نبات فيه؛ مأخوذ من الصعيد، وهو: التراب على قول الفرَّاء، أو (12) وجه الأرض على قول ثعلب. ويجمع (13) : صُعُدا (14) ، وصعدات، كطرق وطرقات. وقد جاء الصعيد في (15) الرواية الأخرى مفسَّرًا بالطريق. وهذا الحديث إنكارٌ للجلوس على الطرقات، وزجرٌ عنه، لكن محمله على ما (16) إذا لم ترهق (17) إلى (18) ذلك حاجة، كما قالوا: ما لنا من ذلك (19) بُدٌّ؛ نتحدَّث فيها. لكن العلماء فهموا: أن ذلك المنع ليس على جهة التحريم، وإنَّما هو من باب سدِّ الذرائع، والإرشاد إلى الأصلح (20) ، ولذلك قالوا: إنما قعدنا لغير ما بأس، قعدنا نتذاكر (21) ونتحدَّث؛ أي: نتذاكر العلم والدين (22) ، ونتحدَّث بالمصالح والخير، ولما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم ذلك، وتحقَّق حاجتهم إليه؛ أباح لهم ذلك، ثم =(5/486)=@
__________
(1) تقدم في الجنائز، باب زيارة القبور، والتسليم عليها، والدعاء والاستغفار للموتى من كتاب الجنائز.
(2) في (ب) و(ق): «بتقديم لفظ»، وفي (ح): «لفظ تقديم».
(3) في (أ): «تنزلتا».
(4) قوله: «فإن أسماءه» سقط من (ح).
(5) في (ح): «كما قاله صلى الله».
(6) أخرجه مالك في "ألموطأ" (2/959 رقم2) كتاب السلام، باب العمل في السلام، من طريق محمد بن عمرو بن عطاء قال: كنت جالسًا عند عبدالله بن عباس فدخل عليه رجل من أهل اليمن فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركانه، ثم زاد شيئًا مع ذلك أيضًا، فقال ابن عباس: وهو يومئذ قد ذهب بصره: من هذا؟ فقالوا: اليماني الذي يغشاك فعرَّفوه إياه، قال: فقال ابن عباس: إن السلام انتهى إلى البركة.
وقد جاءت روايات متقاربة في هذا عن ابن عباس. انظرها في "شعب الإيمان" للبيهقي (3/430-431 رقم3980)، و(6/455-456 رقم8878 و8879 و8877)، ونحوه عن عروة بن الزبير في (6/510 رقم9096)، ونحوه عن عمر بن الخطاب في "شعب الإيمان" للبيهقي، كما في "فتح الباري" (11/6)، وقال: «ورجاله ثقات».
(7) أخرجه البيهقي في "شعب " (6/456) من عبدالله بن بابيه؛ أنه كان مع عبدالله بن عمر فسلم عليه رجل فقال: سلام عليك ورحمة الله وبركاته ومغفرته، فانتهره ابن عمر وقال: حسبك إذا انتهيت إلى وبركاته، إلى ما قال الله عز وجل. واخرجه عبدالرزاق (19453) عن معمر، عن أيوب، عن نافع أو غيره: أن رجلاً كان يلقى ابن عمر فيسلم عليه فيقول. . ، ذكر نحوه.
(8) قوله: «مستفاد» سقط من (ك).
(9) الآية (86) من سورة النساء.
(10) قوله: «اجتنبوا مجالس الصُّعدات» سقط من (ق).
(11) من قوله: «اجتنبوا. . . . » إلى هنا سقط من (ب).
(12) في (ق): «و» بدل «أو».
(13) في (ك) و(ح): «وتجمع».
(14) في (ب): «صعد».
(15) في (ح): «بفي» كذا رسمت.
(16) قوله: «على ما» سقط من (ب) و(ق).
(17) في (ق): «يكن» بدل «ترهق».
(18) في (ح): يشبه«على».
(19) في (ب): «ذلك من».
(20) في (ق): «المصالح».
(21) في (ب): «نتذاكروا».
(22) قوله: «والدين» ليس في (ك).(5/486)
نبَّههم على ما يتعين عليهم في مجالسهم تلك من الأحكام.
وقوله: «إمَّا لا»؛ هي: «إن» الشرطية المكسورة زيدت عليها « ما» تأكيدًا للنَّفي (1) ، و «لا» عبارة عن الامتناع والإباية (2) ، فكأنَّه قال: إن كان ولا بُدَّ من إبايتكم، ولا غنى لكم عن قعودكم فيها؛ فاعطوا الطريق حقَّها. فلمَّا سمعوا لفظ الحق - وهو مجمل - سألوا عن تفصيله، ففصَّله لهم بقوله - صلى الله عليه وسلم - : «غضُّ البصر، وكفُّ الأذى، وردُّ السَّلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر». وهذه الحقوق كلها واجبة على من قعد على طريق. ولما كان القعود (3) على الطريق يُفضي إلى أن (4) يتعلق بها (5) هذه الحقوق، ولعلَّه (6) لا يقوم ببعضها فيتعرَّض لذمِّ الله تعالى ولعقوبته كره (7) القعود فيها، وغلَّظ بالزجر المتقدِّم (8) ، والإنكار، فإنَّ دعت إلى ذلك حاجة، كالاجتماع (9) في مصالح الجيران (10) ، وقضاء حوائجهم، وتفقد أمورهم، إلى غير ذلك، قعد على قدر حاجتهم (11) ، فإنَّ عرض له شيء من تلك الحقوق وجب القيام به عليه.
و «كف الأذى»؛ يعني به: ألا (12) يؤذي بجلوسه أحدًا من جلسائه بإقامته من مجلسه ولا بالقعود فوقه، ولا بالتضييق عليه، ولا يجلس قبالة دار جاره، فيتأذى بذلك. وقد يكون كفُّ الأذى: بأن يكف بعضهم عن بعض، إلا أن هذا يدخل في قسم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فحمله على المعنى الأول أولى.
وقوله: «وحسن الكلام»؛ يريد أن من جلس على الطريق فقد تعرض لكلام الناس، فليحسِّن لهم كلامه، ويصلح شأنه. =(5/487)=@
__________
(1) في (ب) و(ح) و(ق) و(ك): «للشرط».
(2) في (ح): «والإبانة» وفي (ك) و(ق): «تتعلق به».
(3) في (ق): «المقصود».
(4) في (ق): «ما» بدل «أن».
(5) في (ب) و(ح): «به» وفي (ك) و(ق): «تتعلق به».
(6) في (ح): «كلها لعله».
(7) في (ق): «وكره».
(8) في (ح): «المقدم».
(9) في (ك): «كاجتماع».
(10) في (ق): «الخيرات».
(11) في (أ): «الحاجة».
(12) في (ب) و(ق): «لا».(5/487)
وقوله: «حق المسلم على المسلم ست»؛ أي: الحقوق المشتركة بين المسلمين عند ملابسة بعضهم لبعض (1) . والحق لغة (2) ؛ هو: الثابت. ونقيضه هو (3) : الباطل. والحق في الشريعة: يقال على الواجب وعلى المندوب المؤكد، كما قال: «الوتر حق (4) » (5) ؛ لأن كل واحدٍ منهما ثابت في الشرع، فإنَّه مطلوب مقصود قصدًا مؤكدًا، غير (6) أن إطلاقه على الواجب أوَّلُ، وأولى. وقد أطلق في هذا الحديث الحق على القدر المشترك بين الواجب والندب (7) ، فإنَّه جمع فيه بين واجبات ومندوبات، وقد تقدَّم أن الابتداء بالسَّلام سنة. وأما إجابة الدعوة: فواجبة (8) في الوليمة كما تقدَّم، وفي غيرها مندوب إليها. وأما النَّصيحة: فواجبة عند الاستنصاح، وفي غيره تفصيل على ما تقدَّم في كتاب الإيمان. وأما تشميت العاطس: فاختلف فيه على ما يأتي (9) . وأما عيادة المريض: فمندوب إليها (10) إلا أن =(5/488)=@
__________
(1) في (ب) و(ح) و(ك) و(ق): «بعضًا».
(2) في (ح): «في اللغة».
(3) قوله: «هو» سقط من (أ).
(4) قوله: «كما قال الوتر حق» سقط من (ح).
(5) تقدم تخريجه في الصلاة، باب صلاة الوتر.
(6) في (ب): «على».
(7) في (ق): «والمندوب».
(8) في (ب) و(ق): «فالواجبة».
(9) في (ق): «على ما يأتي» وكتب في الهامش «على ما سيأتي» ووضع (نخـ).
(10) قوله: «إليها» سقط من (ق).(5/488)
يخاف ضياعه فيكون تفقده، وتمريضه واجبًا على الكفاية. وقد تقدَّم الكلام على اتباع الجنائز.
وكونه - صلى الله عليه وسلم - يسلِّم على الصبيان؛ إنما كان ليبيِّن مشروعية ذلك، وليفشي السَّلام، ولينالوا بركة تسليمه عليهم (1) ، وليعلمهم كيفية التسليم وسنته، فيألفوه، ويتمرَّنوا عليه. =(5/489)=@
__________
(1) قوله: «عليهم» ** يراجع **.(5/489)
11 - ومن باب لا يُبدأ (1) أهل الذمَّة بالسلام
قوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تبدؤوا اليهود والنصارى (2) بالسَّلام»؛ إنما نهى عن ذلك لأن الابتداء بالسلام إكرام، والكافر ليس أهلاً لذلك، فالذي يناسبهم الإعراض عنهم، وترك الإلتفات إليهم، تصغيرًا لهم، وتحقيرًا لشأنهم، حتى كأنهم غير موجودين.
وقوله: «وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه»؛ أي: لا تتنحوا لهم عن الطريق الضيق إكرامًا لهم واحترامًا. وعلى هذا فتكون هذه الجملة مناسبة للجملة الأولى في المعنى والعطف. وليس معنى ذلك: أنا إذا لقيناهم في طريق واسع (3) أنَّا (4) نلجئهم إلى حَرْفِه حتى نضيِّق عليهم؛ لأنَّ ذلك أذى منا لهم من غير سبب، وقد نهينا عن أذاهم.
و «السَّام»: الموت. كما قال: «في الحبَّة السوداء شفاءٌ من كل داء إلا السَّام» (5) . والسَّام: الموت. وقيل: السَّام: من السامة، وهو هلال، يقال: سَئم يَسْأمُ سَآمة وسَآمًا، وهو تأويل قتادة.
قال الشيخ رضي الله عنه: وعلى هذا القول: فتُسَهَّلُ همزة سأما (6) وسامة، فيكون (7) كاللَّذاذ واللَّذَاذة (8) ، وعلى الأوَّل (9) الجمهور. =(5/490)=@
__________
(1) في (ق): «لا تبدأ».
(2) في (ح): «ولا النصارى».
(3) قوله: «واسع» سقط من (ح).
(4) في (ك): «أننا».
(5) سيأتي في باب التداوي بالشونيز والتلبينة من كتاب الرقي والطب.
(6) في (ب) و(ح) و(ق): «سأم».
(7) في (ب) و(ح) و(ق) و(ك): «ويكون».
(8) في (ح): «كاللذاذة واللذاذ».
(9) في (ق): «وعلى القول الأول».(5/490)
و «عليك» بغير واو: هي الرواية الواضحة المعنى، وأما (1) مع إثبات الواو: ففيها إشكال؛ لأنَّ الواو العاطفة تقتضي ** كذا في (أ) ** التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه (2) ، فيلزم منه (3) أن تدخل (4) معهم فيما دعوا به علينا من الموت، أو من سآمة ديننا. فاختلف (5) المتأولون في ذلك فقال بعضهم: الواو زائدة كما زيدت في قول الشاعر (6) :
فلمَّا أجَزْنا (7) ساحة الحيِّ وانتحى
أى: لما أجزنا (8) انتحى، فزاد «الواو». وقيل: إن «الواو» في الحديث للاستئناف فكأنه قال: والسَّام عليكم. وهذا كله فيه بُعد، وأوَّلى من هذا كُلّه أن يقال: إن «الواو» على بابها من العطف (9) غير أنا نجاب عليهم، ولا يجابون علينا. كما قاله النبي (10) - صلى الله عليه وسلم - ، ورواية حذف «الواو» أحسن معنى، وإثباتها أصح رواية وأشهر. =(5/491)=@
__________
(1) في (ح): «وقدما».
(2) قوله: «بين المعطوف والمعطوف عليه» من (ح) فقط وليس في (أ) و(ك) و(ق).
(3) قوله: «فيلزم منه» سقط من (ح).
(4) في (ح)و(ك) و(ق): «ندخل».
(5) في (ب) و(ح) و(ق): «واختلف».
(6) . . .
(7) في (ح): «أجرنا».
(8) في (ح): «أجرنا».
(9) في (ك): «للعطف» وكتب تحتها «من».
(10) قوله: «النبي» سقط من (ب).(5/491)
وقد اختلف في ردِّ السَّلام على أهل الذِّمَّة؛ هل هو واجبٌ كالرد على المسلمين ؟ وإليه ذهب ابن عبَّاس (1) ، والشعبي، وقتادة تمسُّكًا بعموم الآية، وبالأمر بالردِّ عليهم بالذي (2) في هذه الأحاديث. وذهب مالك فيما روى (3) عنه أشهب، وابن وهب إلى أن ذلك ليس بواجب فإنَّ رددت؛ فقل: عليك (4) . والاعتذار عن ذلك: بأن ذلك بيان أحكام المسلمين؛ لأن سلام أهل الذمة علينا (5) ليس تحية لنا ؛وإنما هو دعاء علينا، كما قد بيَّنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إنما يقولون: السَّام»، فلا هم يحيوننا، ولا نحن نرد عليهم تحيَّة (6) ، بل دعاء عليهم (7) ولعنة، كما فعلته (8) عائشة رضي الله عنها، وأمره - صلى الله عليه وسلم - ** كذا في (أ) ** لنا بالرد، إنما هو لبيان الرد لما قالوه خاصة، فإنَّ تحققنا من أحدهم أنه تلفظ بالسَّلام رددنا عليه بعليك فقط؛ لإمكان أن يريد بقلبه غير ما نطق (9) بلسانه، وقد اختار ابن طاووس أن يقول في الرد عليهم: علاكَ السَّلام؛ أي: ارتفع عنك. واختار بعض أصحابنا: السِّلام - بكسر السين -؛ يعني به الحجارة، وهذا كلّه تكلُّف. بل: ما قاله مالك كاف شاف. =(5/492)=@
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (25765)، والطبراني (5/189)، وأبو يعلى (1530) من طريق حميد بن عبدالرحمن، عن حسن بن صالح، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: من سلَّم عليكم من خلق الله فاردد عليه، وإن كان مجوسيًّا.
وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (1107) من طريق الوليد بن أبي ثور، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس به.
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (8/41): «رجاله رجال الصحيح».
وقال ابن حجر في "الفتح" (11/42): «ثبت عن ابن عباس»، فذكره.
(2) في (ب) و(ح) و(ك) و(ق): «الذي».
(3) في (ب) و(ح) و(ق): «رواه».
(4) في (ح): «وعليك».
(5) في (ب): «غالبا».
(6) قوله: «تحية» سقط من (ق).
(7) قوله: «عليهم» سقط من (أ).
(8) في (ب) و(ح) و(ك) و(ق): «فعلت».
(9) في (ح): «يريد»، وفي (ح): «نطق به».(5/492)
وقول عائشة رضي الله عنها: «بل عليكم السَّام والذَّام». الذَّام بتخفيف الميم؛ الرواية المشهورة فيه بالذال المعجمة: وهو العيب، ومنه: المثل: لا تعدم (1) الحسناء ذامًا؛ أي: عيبًا، ويهمز، ولا يهمز. ويقال (2) : ذأمه يذأمه. مثل: دأب عليه يدأب (3) ، والمفعول: مذؤوم - مهموزًا - ومنه :{مذؤومًا مدحورًا} (4) ، ويقال: ذأمه (5) يذومه - مخففًا - كرأمه (6) ، يرومه. قال الأخفش: الذَّم (7) أشدُّ العيب. وقد وقع للعذري هذا (8) الحرف «الهام» بالهاء. يعني (9) : هامة القتيل وصداه التي كانت العرب تتحدَّث بها، وهي من أكاذيبها (10) كما تقدَّم. وتعني بذلك عائشة على هذا: القتل؛ دعت عليه بالموت والقتل، وقاله (11) ابن الأعرابي بالدال المهملة، وفسَّره بالدائم، والصواب الأول إن شاء الله تعالى.
وقوله: «ففطنت (12) بهم (13) عائشة» (14) ؛ صحيح الرواية بفاء وطاء مهملة ونون من الفطنة، والفهم. أي: فهمت عنهم ما قالوه. ولابن الحذَّاء: فقطَّبت. بقاف وباء بواحدة من التقطيب في الوجه، وهو العَبْسَة والغضب. وقد جاء مفسَّرا في الرواية الأخرى (15) . =(5/493)=@
__________
(1) في (ق): «لا تقدم» وكتب في الهامش «لا تعدم» ووضع (نخـ).
(2) في (ب) و(ح) و(ق): «يقال» بلا واو.
(3) في (ح) و(ق): «ذأب عليه يذأب».
(4) الآية (18) من سورة الأعراف.
(5) في (ب) و(ح): «ذامه».
(6) في (ب) و(ح): «كرامه».
(7) في (أ) و(ح) و(ك): «الزام».
(8) في (ب) و(ق): «في هذا».
(9) في (ق): «يعني به».
(10) في (ك) و(ق): «أكاذبها» وكتب في هامش (ك): «أكاذيبها» ووضع فوقها (روايه).
(11) في (ح): يشبه «وقال» وفي (ق): «وقال».
(12) في (ح): يشبه «وفطنت».
(13) في (ح): «به».
(14) مسلم (4/1707 رقم2165/11) في السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، وكيف يرد عليهم.
(15) . . . .(5/493)
وقوله لعائشة: «مه»؛ معناه: اكففي (1) . كما تقدَّم.
وقوله: «لا تكوني فاحشة»؛ أي: لا يصدر عنك كلام فيه جفاء. والفحش: ما يستفحش من الأقوال، والافعال. غير أنَّه قد كثر (2) إطلاقه على الزنى، وهو غير مراد هنا قطعًا. وهذا منه - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضي الله عنها أمر بالتثبت (3) ، والرفق، وترك الاستعجال، وتأديبٌ لها لما نطقت به من اللَّعنة وغيرها، والله تعالى أعلم.
12 - ومن باب احتجاب النساء وما يُخفَّف عنهن من ذلك (4)
قوله: «كن يخرجن بالليل يتبرَّزن إلى المناصع»؛ يتبرَّزن: يخرجن إلى البَرَاز- بفتح الباء - وهو الموضع الذي يُتبرَّز (5) فيه؛ أي: يظهر (6) . والبروز (7) : الظهور، ومنه :{وترى الأرض بارزة} (8) ؛ أي: ظاهرة (9) . مستوية لا يحجبها شيء، كما قال تعالى :{لا ترى فيها عوجًا ولا أمتا} (10) .
و «المناصع»: موضع خارج المدينة (11) .
وقوله: «وهو صعيد أفيح»؛ أي (12) : أرض مستوية متسعة، وذلك كناية عن =(5/494)=@
__________
(1) في (أ): «أكفف».
(2) في (ق): «ذكر».
(3) في (ق): «بالتثبت» وكتب في الهامش «بالتثبيت» ووضع (نخـ).
(4) قوله: «عنهن من ذلك» لم تتضح في (ك).
(5) في (ب) و(ق): «يبرز» وفي (ك) «يتبرز» وألحق في الهامش «يبرز»..
(6) في (ح): «تظهر».
(7) في (ح): «والبزور».
(8) الآية (47) من سورة الكهف.
(9) في (ك): «طاهرة».
(10) الآية (107) من سورة طه.
(11) في (ق): «بالمدينة».
(12) قوله: «أي» سقط من (ق).(5/494)
خروجهن إلى الحدث؛ إذ لم يكن لهم (1) كنف في البيوت؛ كانوا لا يتخذونها استقذارًا، فكانت النساء يخرجن (2) بالليل إلى خارج البيوت (3) ، ويبعدن عنها إلى هذا الموضع. وقد نصَّت على هذا عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك.
وقول عمر رضي الله عنه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «احجب نساءك»؛ مصلحة ظهرت لعمر رضي الله عنه فأشار بها، ولا يظن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أن تلك المصلحة خفيت عليه، لكنَّه كان ينتظر الوحي في ذلك، ولذلك لم يوافق عمر على (4) ذلك حين أشار عليه به (5) ، لا سيما وقد كانت (6) عادة نساء العرب ألا يحتجبن لكرم أخلاق رجالهم (7) ، وعفاف نسائهم غالبًا، ولذلك قال عنترة (8) :
وأغُضُّ (9) طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
فلما لم يكن هنالك ريبًا (10) ؛ تركهم، ولم ينههم استصحابًا للعادة، وكراهة لابتداء أمرٍ أو نهي؛ فإنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يحبُّ التخفيف عن أمته.
ففيه من الفقه: الإشارة على الإمام بالرأي، وإعادة ذلك إن احتاج إليها (11) ، وجواز إشارة المفضول على الفاضل، وجواز إعراض المشار عليه، وتأخير الجواب إلى أن يتبيَّن له وجه يرتضيه.
وقول عمر رضي الله عنه في هذا الحديث: «ألا قد عرفناك يا سودة»؛ يقتضي: أن ذلك كان من عمر رضي الله عنه قبل نزول الحجاب؛ لأنَّ عائشة رضي الله عنها قالت فيه: حرصًا على أن ينزل الحجاب، فأنزل الحجاب. والرواية الأخرى تقتضي أن ذلك كان (12) بعد نزول الحجاب، فالأولى (13) أن يحمل ذلك (14) على أن عمر تكرر منه هذا القول (15) قبل نزول الحجاب وبعده، ولا بُعد فيه. ويحتمل =(5/495)=@
__________
(1) في (ب) و(ق): «لهن».
(2) في (ك): «يحرجن».
(3) في (ق): «البيت».
(4) في (ق): «في» بدل «على».
(5) قوله: «به» سقط من (ح).
(6) في (ق): «كان».
(7) في (ق): «رجالهن».
(8) "ديوانه" (ص208).
(9) في (ك): «وأعض».
(10) في (أ) و(ك) و(ح) و(ق): «ريبة».
(11) في (ق): «إذا احتاج إليه».
(12) قوله: «كان» سقط من (ح).
(13) في (ق): «فأولى».
(14) قوله: «ذلك» سقط من (ق).
(15) قوله: «القول» سقط من (ب).(5/495)
أن يحمل ذلك على (1) أن بعض الرواة ضمَّ قصة إلى أخرى، والأول أولى؛ فإنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقع في قلبه نفرة (2) عظيمة، وأنفةٌ، شديدة من أن يطلع أحدٌ على حرم النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى صرح له بقوله: احجب نساءك؛ فإنَّهن يراهن البر والفاجر. ولم يزل ذلك عنده إلى أن (3) نزل الحجاب، وبعده. فإنه كان قصده: ألا يخرجن أصلاً، فأفرط في ذلك فإنَّه مفضي (4) إلى الحرج والمشقة، والإضرار بهن، فإنَّهن محتاجات إلى الخروج، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تأذَّت بذلك سودة: «قد أذن لَكُنَّ أن تخرجن لحاجتهنَّ (5) » (6) .
وقوله: «فأنزل الحجاب»؛ أي: آية الحجاب؛ وهي قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم (7) }، إلى قوله: {وإذا (8) سألتموهن متعًا فسئلوهن من وراء حجاب} (9) . كذلك روي عن أنس (10) وابن مسعود (11) رضي الله عنهم ا؛ غير أن هذا يتوجَّه عليه إشكال، وهو: أن حديث أنس وابن مسعود (12) يقتضي: أن سبب نزولها (13) هو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أعرس بزينب اجتمع عنده رجال فجلسوا في بيته، وزوجته مولية وجهها (14) إلى الحائط، فأطالوا المجلس حتى ثقلوا عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وحديث عائشة هذا يقتضي أن (15) الحجاب إنَّما نزل (16) بسبب قول عمر: احجب نساءك. ويزول ذلك الإشكال بأن يقال: إن الآية نزلت عند مجموع السَّببين. فيكون عمر قد تقدَّم قوله: احجب نساءك، وكرر ذلك عليه إلى أن اتفقت (17) قصة بناء زينب، فصدقت نسبة نزول الآية لكل واحد من ذينك السَّببين. =(5/496)=@
__________
(1) قوله: «على» سقط من (ق).
(2) في (ق): «نقرة».
(3) في (ب): «عنده حتى»، بدل قوله: «إلى أن».
(4) في (ب): «غير أنه مقتض» وفي (ك) و(ح) و(ق): «غير أنه مفض».
(5) في (ب) و(ح) و(ك) و(ق): «لحاجتكن».
(7) زاد في (ب) و(ق): «غير ناظرين إناه».
(8) في (ق): «فإذا».
(9) الآية (53) من سورة الأحزاب.
(10) أخرجه البخاري (8/527 و527-528 رقم4791 -4794) في التفسير، باب {لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم}، و(9/226-227 و230 و585-586 رقم51363 و5166 و5466) في النكاح، باب الهدية للعروس، وباب الوليمة حق، وفي الأطعمة، باب قول الله تعالى :{فإذا طعمتم فانتشروا}، و(11/22 و22-23 و64 رقم6238 و6239 و6271) في الاستئذان، باب آية الحجاب، وباب من قام من مجلسه أو بيته ولم يستأذن أصحابه. . . ، و(13/404 رقم7421) في التوحيد، باب {وكان عرشه على الماء}، و{وهو رب العرش العظيم}.
صحيح البخاري ج: 3 ص: 1129
باب ما جاء في بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وما نسب من البيوت إليهن وقول الله تعالى وقرن في بيوتكن و
(11) لم أقف عليه.
(12) من قوله: «غير أن هذا...» إلى هنا سقط من (ق).
(13) قوله: «هو» سقط من (ق).
(14) في (ق): «ووحهها».
(15) قوله: «أن» سقط من (ق).
(16) في (ق): «أنزل».
(17) في (ح): «اتفقت له».(5/496)
قال الشيخ رضي الله عنه: وهذا الحجاب الذي أمر به أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وخُصِّصن به هو في الوجه والكفين.
قال القاضي عياض (1) (2) : لا خلاف في فرضه عليهن في الوجه والكفين الذي اختلف في ندب غيرهن إلى ستره، قالوا: ولا يجوز لهن كشف ذلك لشهادة (3) ولا غيره (4) ، ولا ظهور أشخاصهن، وإن كن مستترات إلا (5) ما دعت إليه الضرورة من الخروج إلى (6) البراز، وقد كن إذا خرجن جلسن للناس (7) من وراء حجاب (8) ، وإذا خرجن لحاجة حجبن وسترن.
وقوله: «تفرع النساء جسمًا (9) »؛ أي: طولاً. يقال: فرعت القوم؛ أي (10) طلتهم. و«انكفأت» صوابه بالهمزة، بمعنى: انقلبت وانصرفت (11) . يقال: كفأت القوم كفئًا: إذا أرادوا وجها فصرفتهم (12) إلى غيره، فانكفؤوا (13) . ووقع لبعض الرواة: انكفت - بحذف الهمزة والألف -، وكأنه لما سهل الهمزة بقيت الألف ساكنة، فلقيها ساكن فحذفت.
و «العرق»- بفتح العين وسكون الراء -: العظم الذي عليه اللحم. واعترقت العظم، وتعرَّقته (14) : إذا تتبعت ما عليه من اللحم. والعراق: العظم الذي (15) لا لحم عليه.
وقوله: «قد (16) أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن»؛ لا خلاف في أن امرأة إن (17) =(5/497)=@
__________
(1) قوله: «عياض» سقط من (ح).
(2) قال الحافظ في "الفتح" (8/530-531): «وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن، وقد كن بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - يحججن ويطفن، وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص، وقد تقدم في الحج قول ابن جريج لعطاء لما ذكر له طواف عائشة أقبل الحجاب أو بعده قال: قد أدركت ذلك بعد الحجاب».
وقال أيضًا (11/24): «وفي دعوة وجوب حجب أشخاصهن مطلقًا إلا في حاجة البراز نظر، فقد كن يسافرن للحج وغيره، ومن ضرورة ذلك الطواف والسعي، وفيه بروز أشخاصهن بل وفي حالة الركوب والنزول لا بد من ذلك، وكذا في خروجهن إلى المسجد النبوي وغيره». اهـ.
(3) في (ق): «بشهادة».
(4) في (ب) و(ح) و(ك) و(ق): «غيرها».
(5) في (ب): «إلى».
(6) في (أ) و(ك) و(ح): «للبراز».
(7) في (ق): «جلس الناس».
(8) في (ق): «الحجاب».
(9) في (ب) و(ق): «حسنا».
(10) في (ك): «إذا» بدل «أي».
(11) في (ب): «وانصرف».
(12) في (ق): «وصرفتهم».
(13) في (ق): «وانكفؤوا».
(14) في (ح): يشبه «وتعرقه».
(15) في (ك): «إلى» بدل «الذي».
(16) في (ح): «وقد».
(17) في (أ) و(ك) و(ح) و(ق): «أن تخرج».(5/497)
تخرج لما (1) تحتاج إليه (2) من أمورها الجائزة لكنها تخرج على حال بذاذة، وتستُّر، وخشونة ملبس؛ بحيث يستر حجم أعضائها، غير متطيِّبة، ولا متبرِّجة بزينة، ولا رافعة صوتها. وعلى الجملة فالحال التي (3) يجوز لها الخروج عليها (4) : أن تكون بحيث لا تمتد لها (5) عين، ولا تميل إليها نفس، وما أعدم هذه الحالة في هذه الأزمان؛ لما يظهرن (6) من الزينة والطيب، والتبختر في الملابس الحسان، فمسامحتهن في الخروج على تلك الحال فسوق وعصيان. فإنَّ قيل: فما الزينة التي استثنى الله تعالى لهن إظهارها في قوله تعالى:{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} (7) ، فالجواب: إن ذلك اختلف فيه. فقال ابن مسعود (8) : إنها الثياب. يعني بذلك: ثيابها التي تستتر بها، ولا تُسْتَر هي، كالملحفة (9) ، والخمار. وعلى هذا فلا يجوز أن تبدي مما (10) تحت ذلك شيئًا؛ لا كحلاً، ولا خاتمًا، ولا غير ذلك مما يستر بالملحفة والخمار (11) . وقال ابن عباس (12) والمسور (13) : هي الكحل، والخاتم؛ يعني: أن العين لا يمكن سترها، وقد تتناول بيد الخاتم ما تحتاج إليه. وقال الحسن ومالك: هو الوجه، والكفان (14) ؛ لأنَّهما ليسا بعورة؛ إذ يجب كشفهما عليها في الإحرام عبادة (15) ، ويظهر ذلك منها في الصلاة (16) ، وهما اللذان يبدوان منها عادة. والكلُّ محّومون (17) : على أن المستثنى: هو ما يتعذر ستره إما عادة، وإما عبادة، وقد دلَّ على أن المطلوب من المرأة ستر ما تتمكن (18) من ستره؛ قول الله تعالى :{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن} (19) . وقال تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين} (20) .
فالخمار ما يلف على الرأس، والحلق، والجلباب (21) اختلف فيه. فقال الحسن: هو الرداء. وقال ابن جبير: المقنعة. وقال قطرب: هو كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها. وقال أبو عبيدة (22) : أدنى الجلباب أن تغطي (23) وجهها إلا قدر ما تبصر (24) منه (25) .
فرع: إذا قلنا: إن الوجه والكفين ليسا بعورة، وإنه (26) يجوز لها كشفهما (27) ؛ فإذا كانت بارعة الجمال، وجب عليها أن تستر وجهها لئلا تفتن الناس، فتكون من =(5/498)=@
__________
(1) في (ق): «إلى».
(2) قوله: «إليه» سقط من (ق).
(3) قوله: «التي» سقط من (أ) وفي (ك): «الذي»..
(4) في (ك): «عليه».
(5) في (ب): «إليها».
(6) في (ك): «يظهرون».
(7) الآية (31) من سورة النور.
(8) أخرجه عبدالرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن ابن مسعود. "الدر المنثور" (6/179).
(9) في (أ): «كالملحة».
(10) في (ح): «ما».
(11) قوله: «والخمار» سقط من (ك).
(12) أخرجه البيهقي في "سننه" (2/225) من طريقين عن ابن عباس، قال: المكحل والخاتم.
(13) أخرجه عبدالرزاق في "تفسيره" (2/56) عن معمر، عن الزهري، عن رجل، عن المسور بن مخرمة في قوله تعالى :{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} قال: هو القلبان والخاتم والكحل. وسنده ضعيف، لجهالة أحد رواته.
(14) في (ق): «والكفين».
(15) قوله: «عبادة» سقط من (أ).
(16) في (أ): «الصلاة عبادة».
(17) في (ق): «محرمون».
(18) في (ح): يشبه «يتمكن».
(19) الآية (31) من سورة النور.
(20) الآية (59) من سورة الأحزاب.
(21) في (ك): «والخلباب».
(22) في (ب) و(ق): «أبو عبيد».
(23) في (ب): «يغطي» وفي (ك): «تعطي».
(24) في (ق): «تنظر فيه».
(25) في (أ) و(ك) و(ح): «به».
(26) في (أ): «وانها».
(27) في (أ) و(ك): «كشفه».(5/498)
المميلات اللاتي (1) قد (2) توعدن بالنار، وللكلام (3) في هذا متسع، وفيما ذكرناه مَقْنَعٌ.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعود رضي الله عنه: «إذنك عليَّ أن يرفع الحجاب وأن تسمع سوادي (4) ». الرواية في: «أن يرفع» أن يبنى لما لم يسم فاعله. ولا يجوز غيرها. وسببه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل لعبد الله إذنًا خاصًّا به، وهو أنه إذا جاء بيت (5) النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجد الستر قد رفع دخل من غير إذن بالقول، ولم يجعل ذلك لغيره إلا بالقول. كما قال الله (6) تعالى:{لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} (7) ، وبقوله تعالى :{لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم (8) } (9) . ولذلك كانت الصحابة (10) رضي الله عنهم تذكر ذلك في فضائل ابن مسعود، فتقول: كان ابن مسعود يُؤذن له إذا حجبنا (11) ، وكأن ابن مسعود كان له من التبسُّط في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - والانبساط ما لم يكن لغيره: لما علمه (12) النبي - صلى الله عليه وسلم - من حاله، ومن خلقه، ومن إلفه (13) لبيته.
ويستفاد من هذا الحديث أن ربَّ المنزل لو جعل رفع ستر بيته علامة على الإذن في الدخول إليه لاكتفي بذلك عن الاستئذان بالقول.
و«السَّواد» بكسر السين: الرواية، وهو السِّرار (14) . تقول: ساودته مساودة وسوادًا؛ أي: ساررته. وأصله: إدناء سوادك من سواده - بفتح السين - وهو: الشخص (15) . =(5/499)=@
__________
(1) في (ب): «التي»، وفي (ح) و(ك) و(ق): «اللواتي».
(2) قوله: «قد» سقط من (ق).
(3) في (ح) و(ك): «والكلام».
(4) في (ق): «سواد» وكتب في الهامش «سوادي» ووضع (نخـ).
(5) قوله: «بيت» سقط من (ق).
(6) لفظ الجلالة ليس في (ح).
(7) الآية (27) من سورة النور.
(8) زاد بعدها في (ق): «إلى».
(9) الآية (53) من سورة الأحزاب.
(10) في (ق): «وكذلك كانت الصحابة» وكتب في الهامش «ولذلك كانت الصحابة» ووضع نخـ.
(11) سيأتي في باب فضائل عبدالله بن مسعود، من كتاب النبوات.
(12) في (ق): «علم».
(13) في (ق): «ألفته».
(14) في (ق): «السواد».
(15) في (ك): «الشخض».(5/499)
13 - ومن باب النهي عن المبيت عند غير ذات المحرم (1)
وقوله (2) : «لا يبيتن رجل عند امرأة ثيِّب (3) إلا أن يكون ناكحًا، أو ذا محرم»؛ هذا الحديث لا دليلَ خطابٍ له بوجه؛ لأنَّ الخلوة بالأجنبية - بكرًا كانت، أو ثيبًا، ليلاً (4) أو نهارًا - محرمة بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان» (5) ، وبقوله: «لا يدخلن رجلٌ على مغيِّبة (6) إلا ومعه رجل، أو رجلان»، وبقوله: «إياكم والدخول على المغيبات» (7) . وبالجملة فالخلوة بالأجنبية حرام بالاتفاق في كل الأوقات، وعلى كل الحالات. وإنَّما خصَّ المبيت عند الثيب (8) بالنهي؛ لأنَّ الخلوة بالثيب في الليل (9) هي التي تمكن غالبًا (10) ، فإنَّ الأبكار يتعذر الوصول إليهن غالبًا للمبالغة في التحرز بهن، ولنفرتهن عن (11) الرجال، ولأن (12) الخلوة بالنهار تندر، فخرج (13) النهي على (14) المتيسَّر غالبًا.
وقوله: «إياكم والدخول على المغيبات»؛ هذا تحذير شديد، ونهيٌّ وكيد، =(5/500)=@
__________
(1) في (ب) و(ح) و(ك) و(ق): «محرم».
(2) في (أ) و(ك): «قوله» بلا واو.
(3) قوله: «ثيب» ليس في (ب)، وفي (ح): «ثيبا».
(4) في (ك): «ليلاً كان أو»
(5) . . . .
(6) في (ق): «مغبية».
(7) أخرج الترمذي (1171) من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إياكم والدخول على النساء». الحديث.
وأخرجه أحمد (14324)، والدارمي (2782)، والترمذي (1172)، والطحاوي في "مشكل الآثار" من طريق مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن جابر مرفوعًا: «لا تدخلةا على المغيبات» الحديث.
وإسناده ضعيف من أجل مجالد، وله شواهد تشهد لصحة الحديث في الجملة منها ما تقدم.
(8) في (ح): «البيت».
(9) في (ق): «بالليل».
(10) في (ك): «عالبًا».
(11) في (ك): «من».
(12) في (ق): «لأن» بلا واو.
(13) في (ك): «فخرج مخرج».
(14) في (ق): «عن».(5/500)
كما يقال: إياك والأسد، وإياك والشرَّ؛ أي: اتق ذلك واحذره، والمنصوبان: مفعولان بفعلين مقدرين يدلّ عليهما المعنى.
و «المغيبات»: جمع مغيبة، وهي التي غاب عنها زوجها؛ يقال: غاب الزوج (1) ، فهو غائب، وأغابت (2) زوجته في حال غيبته، فهي مغيبة (3) .
و «الحمؤ (4) »: واحد (5) الأحماء، وهم قرابة الزوج، مثل أخيه، وعمه، وابنيهما (6) . ويقال لهؤلاء من جهة الزوجة: أختان. والصهر يجمع ذلك كله. وقد جاء الحمؤ (7) في هذا الحديث مهموزًا، والهمز أحد لغاته. ويقال فيه: حمو -بواو مضمومة (8) - كدلو، و «حمى» مقصور،كـ«عصا». والأشهر فيه: أنه من الأسماء الستَّة (9) المعتلَّة المضافة التي تعرب في حال إضافتها إلى غير ياء المتكلم بالواو رفعًا، وبالألف نصبًا، وبالياء خفضًا؛ فتقول: جاءني حموك، ورأيت حماك، ومررت بحميك.
وقوله: «الحمؤ (10) الموت»؛ أي: دخوله على زوجة أخيه يشبه (11) الموت في الاستقباح والمفسدة؛ أي: فهو مُحرَّم معلوم التحريم، وإنَّما بالغ في الزجر عن ذلك، وشبهه (12) بالموت لتسامح الناس في ذلك من جهة الزوج والزوجة، لإلفهم لذلك (13) ، حتى (14) كأنه ليس باجنبي من المرأة (15) عادة، وخرج هذا مخرج قول العرب: الأسد الموت، والحرب الموت. أي: لقاؤه يفضي إلى الموت. وكذلك دخول =(5/501)=@
__________
(1) في (ب) و(ق): «الرجل» وكتب في هامش (ح): «الرجل».
(2) في (ق): «وأغايت» كذا رسمت.
(3) في (ك): «معيبة».
(4) ضبطها في هامش (أ): «الحمو بضم الميم وسكون الواو قراءة شيخنا عبد العظيم المنذري» وفي (ك) و(ق): «الحمو).
(5) في (ب): «أحد».
(6) في (ق): «وابيهما».
(7) في (ق): «الحمو».
(8) في (ب): «متحركة» وفي (ك) و(ق) و(ح): «مضمومة متحركة».
(9) في (ك): «الخمسة».
(10) في (ك) و(ح): «الحمء» وفي (ق): «الحمو»..
(11) في (ب): «شبه».
(12) قوله: «وشبهه» سقط من (ك) وفي (ق): «وشبه».
(13) في (ب) و(ك) و(ق): «ذلك».
(14) قوله: «حتى» سقط من (ح).
(15) في (ح): «المراعاة».(5/501)
الحمء (1) على المرأة يفضي إلى موت الدِّين، أو (2) إلى موتها بطلاقها عند (3) غيرة الزوج، أو برجمها إن زنت معه.
وقوله: «إن نفرًا من بني هاشم دخلوا على أسماء بنت عميس»؛ كان هذا الدخول في غيبة أبي بكر رضي الله عنه، لكنه كان في الحضر لا في السفر، وكان على وجه ما يعرف من (4) أهل الصلاح والخير، مع ما كانوا عليه قبل الإسلام مما تقتضيه مكارم الأخلاق من (5) التهمة والريب، كما قدمناه. ولعل هذا كان قبل نزول الحجاب، وقبل أن يُتقدَّم لهم في ذلك بأمر ولا نهي؛ غير أن أبا بكر رضي الله عنه أنكر ذلك بمقتضى الغيرة الجبليَّة، والدِّينيَّة، كما وقع لعمر رضي الله عنه (6) في الحجاب. ولما (7) ذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما يعلمه من حال الدَّاخلين، والمدخول لها، قال: «لم أر إلا خيرًا؛ يعني: على الفريقين، فإنَّه علم أعيان الجميع؛ لأنَّهم كانوا من مسلمي بني هاشم، ثم خصَّ أسماء بالشهادة لها فقال: «إن الله تعالى قد (8) برأها من ذلك»؛ أي: مما وقع في نفس أبي بكر، فكان ذلك فضيلة عظيمة من أعظم فضائلها، ومنقبة من أشرف مناقبها، ومع ذلك فلم يكتف =(5/502)=@
__________
(1) في (ب) و(ق): «الحمو».
(2) في (ب): «و».
(3) في (ك): «غند».
(4) في (ب): «بين».
(5) في (أ) و(ق) و(ح) و(ك): «من نفي».
(6) في (ب): «عنها».
(7) في (ق): «لما» بلا واو.
(8) قوله: «قد» سقط من (ك).(5/502)
بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جمع الناس، وصعد المنبر، فنهاهم عن ذلك، وعلمهم ما يجوز منه فقال: «لا يدخلن رجل على مغيبة إلا ومعه رجل، أو اثنان (1) »؛ سادًّا لذريعة الخلوة، ودفعًا لما يؤدِّي إلى التهمة. إنَّما (2) اقتصر على ذكر الرَّجل والرَّجلين لصلاحية أولئك القوم؛ لأنَّ التهمة كانت ترتفع بذلك القدر. فأما اليوم: فلا يكتفى بذلك القدر، بل بالجماعة (3) الكثيرة لعموم المفاسد، وخبث المقاصد (4) ، ورحم الله مالكًا، لقد (5) بالغ في هذا الباب حتى منع فيه ما يجرّ إلى بعيد التهم (6) والارتياب (7) ؛ حتى منع خلوة المرأة بابن زوجها، والسفر معه، وإن كانت محرَّمة عليه؛ لأنَّه ليس كل أحد (8) يمتنع بالمانع الشرعي؛ إذا لم يقارنه مانع عادي، فإنَّه من المعلوم الذي (9) لا شك فيه: أن موقع امتناع الرجل من النظر بالشهوة لامرأة (10) أبيه (11) ليس كموقعه (12) منه لأمه (13) وأخته. هذا قد استحكمت عليه النفرة العادية، وذلك (14) قد أنست به النفس الشهوانية، فلا بدَّ مع المانع الشرعي في هذا من مراعاة الذرائع الحاليَّه (15) .
14 - ومن باب اجتناب التهم وما يجر إليها
قد تقدَّم الكلام على الاعتكاف لغة وشرعًا في كتابه.
قول صفية رضي الله عنها: «فأتيته أزوره ليلاً، فحدَّثته»؛ دليل على جواز =(5/503)=@
__________
(1) في (ب): «رجلان».
(2) في (أ) و(ك) و(ح) و(ق): «وإنما».
(3) في (ق): «بالجملة» وكتب في الهامش «بالجماعة» ووضع (نخـ).
(4) في (ح): يشبه «المفاسد».
(5) في (ح): «فلقد».
(6) في (ق): «التهمة».
(7) من قوله: «حتى منع فيه ...» إلى هنا سقط من (ك).
(8) في (ق): «واحد».
(9) في (ك): «الدي».
(10) في (ح): «لامرأته».
(11) قوله: «لامرأة أبيه» سقط من (ك).
(12) في (ح): «ليس هو كوقعه».
(13) في (ق): «كأمه».
(14) في (ح): «وذاك».
(15) في (ك): «العاديَّة».(5/503)
زيارة المعتكف، والتحدُّث معه، غير أنه يكره الإكثار من ذلك؛ لئلا يشتغل عما دخل إليه (1) من التفرُّغ لعبادة الله تعالى، وعلى أنه: لا يكره (2) له (3) الخلوة مع أهله في المعتكف (4) ، ولا الحديث معها، وإنما الممنوع المباشرة، لكن (5) هذا للأقوياء، وأما من يخاف على نفسه غلبة (6) شهوة، فلا يجوز لئلا يفسد اعتكافه. وقد كان كثير من الفضلاء يجتنبون (7) دخول منازلهم في نهار رمضان مخافة الوقوع فيما يفسد الصوم، أو ينقص ثوابه.
وقولها: «ثم قمت أنقلب (8) ، فقام ليقلبني»؛ أي: لأنصرف (9) .
و «ليقلبني»: يصرفني (10) ، وهو مفتوح الياء (11) ثلاثيًّا، وهذا يدلّ على أن للمعتكف أن ينصرف (12) في المسجد، وإلى بابه إذا دعته (13) إلى ذلك حاجة؛ غير (14) أنه لا يخرج من بابه إلا للأمور الضرورية التي تقدَّم ذكرها، وقد روى في هذا الحديث: أنه إنما خرج معها إلى باب المسجد. وعلى هذا تأوَّله (15) البخاري (16) ، ولم يختلف العلماء: أنه لا يفسد (17) خروجه إلى باب المسجد، وإن اختلفوا في كراهة (18) تصرُّفه فيه لغير ضرورة، كزيارة مريض، أو صلاة على جنازة، أو صعود إلى (19) المنار (20) للأذان، أو الجلوس إلى (21) قومٍ ليصلح بينهم، فكره مالك كل ذلك في المشهور عنه.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «على رسلكما؛ إنما هي صفيَّة»؛ الرِّسل - بكسر الراء -: الرفق واللين، وليس فتح الراء فيه معروفًا. و «الرِّسل» بالكسر أيضًا: اللبن. وقد (22) أرسل (23) القوم؛ أي (24) : صار لهم اللبن في مواشيهم.
و «الرَّسَل» بفتح الراء والسين: القطيع من الخيل، والإبل، والغنم، وجمعه: أرسال. يقال: جاءت الخيل أرسالاً؛ أي: قطيعًا قطيعًا، و«إنما» هنا لتحقيق (25) المتصل بها، وتمحيق (26) المنفصل عنها، كقوله تعالى :{إنَّما الله إله واحد (27) } (28) ؛ أي: الإلهية (29) متحققة (30) له منفيَّة عن =(5/504)=@
__________
(1) في (ب) و(ح) و(ك)و(ق): «له».
(2) في (ك) و(ح): «تكره».
(3) قوله: «له» سقط من (ق).
(4) في (ب) و(ح) و(ك) و(ق): «معتكفه».
(5) في (ق): «المباشرة معها ولكن».
(6) قوله: «غلبة» سقط من (ق).
(7) في (ق): «يتجنبون».
(8) في (ح): «لأنقلب».
(9) في (ك): «انصرف».
(10) في (ق): «ليصرفني».
(11) في (ح): «التاء».
(12) في (ك) و(ح): «يتصرف».
(13) في (ق): «دعت».
(14) قوله: «غير» سقط من (ح).
(15) في (ق): «تأول».
(16) (4/278 رقم2035) في الاعتكاف، باب خل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد.
(17) في (ب) و(ح) و(ك) و(ق): «يفسده».
(18) في (ح): «كراهية».
(19) في (ق): «على» بدل «إلى».
(20) في (ب): «المنارة».
(21) في (ح): «على» بدل «إلى».
(22) في (ب) و(ح) و(ك): «وقد جاء».
(23) قوله: «وقد أرسل» مكرر في (ق).
(24) قوله: «أي» سقط من (ب) و(ق).
(25) في (ق): «لتحقق».
(26) في (ك): «وتحقيق».
(27) زاد في (ح) و(ك): «سبحانه».
(28) الآية (171) من سورة النساء.
(29) في (ق): «الألوهية».
(30) في (ح): «مستحقة».(5/504)
غيره (1) . فكأنه قال: هذه صفيَّة لا غيرها (2) حَسْمًا لذريعة (3) التُّهم، وردًا لتسويل الشيطان، ووسوسته، كما قد (4) نصَّ عليه، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتَّقي (5) مواقع التُّهم مع (6) قيام الأدلة القاطعة على عصمته كان غيره بذلك أولى.
وقول الرجلين (7) : «سبحان الله»؛ معنى هذه الكلمة في أصلها: البراءة لله تعالى من السُّوء. لكنها قد كثر (8) إطلاقها عند التعجب والتفخيم، أو الإنكار (9) ، كما قال تعالى :{سبحانك هذا بهتان عظيم} (10) ، وكقوله - صلى الله عليه وسلم - : «سبحان الله إن المؤمن لا ينجس» (11) ، ومثله كثير، وهذا الموضع منها، فكأنهما قالا: البراءة لله تعالى من أن يخلق في نفوسنا ظنَّ سوَّء بنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - ، ولذلك قال في الرواية الأخرى: «ومن كنت أظن به فلم أكن أظن بك !».
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم»؛ حمله بعض العلماء على ظاهره. فقال: إن الله تعالى جعل للشيطان قوَّة وتمكُّنًا من أن يسري في باطن الإنسان، ومجاري دمه. والأكثر على أن معنى هذا الحديث: الإخبار (12) عن ملازمة الشيطان للإنسان واستيلائه عليه بوسوسته، وإغوائه، وحرصه على إضلاله، وإفساد أحواله. فيجب الحذر منه، والتحرُّز (13) من حيله، وسدُّ طرق وسوسته، وإغوائه وإن بعدت. وقد بين ذلك في آخر الحديث بقوله: «إني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًّا، فتهلكا». وخصوصًا في مثل هذا الذي (14) يفضي بالإنسان إلى =(5/505)=@
__________
(1) في (ك): «عيره».
(2) في (ح): «لا غير».
(3) في (ق): «للذريعة».
(4) قوله: «قد» سقط من (ق).
(5) في (ق): «ينفي».
(6) في (ق): «عند» بدل «مع».
(7) في (ح): «الرجل».
(8) في (ح): «أكثر».
(9) في (ك): «والإنكار».
(10) الآية (16) من سورة النور.
(11) تقدم. . .
(12) في (ح): يشبه «بالاخبار».
(13) في (ب): «والتحذر».
(14) قوله: «الذي» سقط من (ق).(5/505)
الكفر، فإنَّ ظنَّ السَّوء والشر بالأنبياء كفرٌ.
قال القاضي عياض رحمه الله (1) : في (2) هذا الحديث من الفقه: إن من قال في النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا من هذا، أو جوَّزه عليه فهو كافر مستباح الدم.
وقوله: «يقذف في قلوبكما شرًّا»؛ أي: يرمي. ومنه: القذف. وهو (3) الرَّمي، والقذَّافة: الآلة التي تُرْمَى بها الحجارة. والشرُّ هنا: هو الكفر الذي ذكرناه. وفي غير مسلم: «فتهلكا»؛ أي: بالكفر الذي يلزم عن ظنِّ السَّوء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - . وذكر في الرواية الأخرى: أنه كان رجلاً واحدًا؛ فيحتمل أن يكون هذا في مرتين. ويحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أقبل على أحدهما بالقول بحضرة الآخر، فتصح (4) نسبة القصَّة إليهما جمعًا وإفرادًا، والله تعالى أعلم. =(5/506)=@
__________
(1) في (أ): «القاضي أبو الفضل» وقوله: «عياض رحمه الله» سقط من (ق).
(2) في (أ): «وفي».
(3) في (ب) و(ح): «أو».
(4) في (ق): «فيصح».(5/506)
15 - ومن باب من رأى فُرْجَة في الحلقة جلس فيها
قوله: «إذ أقبل نفر ثلاثة»؛ يدلّ: على أن أقل ما يقال عليه نفر: ثلاثة؛ إذ لا يقال: نفر اثنان، ولا: نفر واحد.
وقوله: «أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه الله»؛ الرواية الصحيحة بقصر الأول (1) ، وهو ثلاثي غير مُتعد. ومد الثاني وهو متعد رباعي. وهو قول الأصمعي. وهي لغة القرآن. قال الله تعالى :{إذ أوى الفتية إلى الكهف} (2) ؛ أي: انضمُّوا، ونزلوا. وقال في الثاني: «ألم يجدك يتيمًا فآوى} (3) ؛ أي (4) : فضمَّك (5) إليه. وقال أبو زيد: آويته أنا إيواءً، وأويته: إذا أنزلته بك، فَعَلْت وأفْعَلت بمعنًى (6) .
قال الشيخ رضي الله عنه: فأما أويت لِمَفَاقِره (7) : فبالقصر (8) لا غير. =(5/507)=@
__________
(1) في (ق): «الأولى».
(2) الآية (10) من سورة الكهف.
(3) الآية (6) من سورة الضحى.
(4) قوله: «أي» سقط من (ب) و(ك) و(ح) و(ق).
(5) في (ب) و(ح): «وضمك» وفي (ق): «فضمك» وكتب في الهامش «وضمك» ووضع (خ).
(6) قوله: «بمعنًى» سقط من (ب) و(ك).
(7) في (ق): «لمعاقره» وكتب في الهامش «لمفاقر» ووضع (نخـ).
(8) في (ك): «فالقصر».(5/507)
ومعنى ذلك: أن هذا الرجل لما انضم إلى الحلقة ونزل فيها، جازاه الله تعالى على ذلك بأن ضمه إلى رحمته، وأنزله في جنته وكرامته.
ففيه: الحضُّ على مجالسة العلماء، ومداخلتهم، والكون معهم؛ فإنَّهم القومُ الذين (1) لا يشقى بهم (2) جليسهم (3) .
وفيه: التحلق (4) لسماع العلم في المسجد حول العالم، والحضُّ على سدِّ خلل الحلقة؛ لأنَّ القرب من العالم أولى، لما (5) يحصل من ذلك من حسن الاستماع، والحفظ، والحال في حلق الذكر كالحال في صفوف الصلاة. يُتَمُّ الصَّف الأول، فإنَّ كان نقص ففي المؤخر.
و «الْحَلْقة» بفتح الحاء وسكون اللام، وكذلك حلقة الباب. والحلقة: الدروع، والجمع: الحَلَق (6) على غير قياس. وقال الأصمعي: الجمع حِلَق، مثل: بَدْرَة وبِدَر، وقَصْعة وقِصَع، وحكى يونس عن أبي عمرو بن العلاء: حَلَقة - في الواحد بتحريك اللام - والجمع: حَلَق، وحَلَقات. وقال أبو عمرو (7) الشيباني: ليس في الكلام حَلَقة - بتحريك اللام -إلا قولهم: هؤلاء قوم حَلَقة: جمع حالق للشعر (8) .
وقوله: «وأما الآخر فاستحيا، فاستحيا الله منه»؛ كأن (9) هذا الثالث كان (10) متمكِّنًا من المزاحمة (11) ؛ إذ لو شرع فيها لفسح له؛ لأنَّ التَّفسُّح في المجلس مأمورٌ به، مندوبٌ إليه، لكن منعه من ذلك الحياء فجلس خلف الصف الأول، ففاتته (12) فضيلة التقدُّم، لكنه جازاه الله على إصغائه، واستحيائه بأن لا يعذبه، وبأن يكرمه. وقد تقدَّم القول (13) في الحياء، واستحياء الله تعالى، وأن معناه في حقه تعالى: أنه يعامل عبيده (14) بما يعامل به من يستحيي منه؛ من المغفرة والكرامة (15) ؛ كما قد جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله تعالى يستحيي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه» (16) . =(5/508)=@
__________
(1) في (ق): «الذي» وكتب في الهامش «الذين» ووضع (نخـ).
(2) قوله: «بهم» سقط من (أ).
(3) سيأتي في باب فضل مجالس الذكر والاستغفار من كتاب الأذكار والدعوات.
(4) في (ب): «الجلوس» وفي (ق): «التحلق» وكتب في الهامش «الجلوس» ووضع (نسخه».
(5) في (ح): «العالم أو لما».
(6) في (ح): «الْحَلَق».
(7) في (ق): «أبو عمر»
(8) في (ب) و(ق): «الشعر».
(9) في (ح): «كان».
(10) قوله: «كان» سقط من (ح).
(11) في (ك): «المزاجمة».
(12) في (ق): «وفاتته».
(13) في (ب): «الكلام».
(14) قوله: «عبيده» لم تتضح في (ك).
(15) صفة الاستحياء من الصفات الثابتة لربنا عز وجل بالنصوص الصريحة الصحيحة، وهي صفة حقيقية تليق به عز وجل لا تشبه صفة استحياء المخلوقين، وصرفها عن ظاهرها بشيء من مستلزماتها كما ذكر المؤلف غفر الله له إبطال لهذه الصفة، والواجب إثبات صفة الاستحياء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل، الطريق واحد في جميع صفات الله عز وجل وتبارك وتعالى.
(16) أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (23)، والطبراني في "الأوسط" (5286)، وفي "مسند الشاميين" (1316). كلّهم من طريق صالح بن راشد، عن أبي عبيد، عن أنس بن مالك به مرفوعًا بلفظ: «إن الله عز وجل يستحيي من ذي الشيبة المسلم إذا كان مسددًا لزومًا للسنة أن يسأل الله فلا يعطيه».
وصالح بن راشد وثقه ابن حبان، وذكر البخاري وابن أبي حاتم وغيرهم، فلم يذكروا فيه جرحًا ولا تعديلاً. وضعفه العقيلي ووثقه الذهبي من أجل حديث رفدة بن قضاعة عنه، والصحيح أن الحمل فيه على رفدة ليس على صالح.
تنبيه: تصحف اسم أبي عبيد عند ابن أبي عاصم إلى: أبي عتيك، فقال المحقق رحمه الله: لم أجد له ترجمة. ولو توسع في تخريجه لما وقع في هذا الوهم.
وأخرجه الخطيب في "تاريخه" (2/235) بلفظ قريب منه عن جرير، وذكره صاحب الكنز برقم (42673)، و(15/672)، وذكر له شاهدًا من حديث أنس وعزاه إلى ابن النجار.
ورواه ابن حبان في "المجروحين" (1/168) وقال: هذا منكر باطل لا أصل له، ورواه عنه ابن الجوزي في "الموضوعات" (1/177 و178)، ونقل قوله السابق، وتعقبه السيوطي في اللآلئ (1/133 و137*، وساق له عددًا من المتابعات والشواهد، وتابعه في تعقبه ابن عرّاق في "تنزيه الشريعة" (1/204 و205).
وقال الشوكاني في "الفوائد المجموعة" (ص480 رقم5) بعد أن نقل قول ابن حبان في الحكم ببطلان الحديث: «وله طرق أوردها صاحب اللآلئ».
وتعقبه الشيخ المعلمي اليماني محقق "الفوائد" وقال: «كلها هباء».(5/508)
وقوله (1) : «وأما الآخر فأعرض، فأعرض الله عنه»؛ إن كان هذا المعرض منافقًا فإعراض الله تعالى عنه تعذيبه في نار جهنم، وتخليده فيها في الدرك الأسفل منها (2) . وإن كان مسلمًا، وإنما انصرف عن الحلقة لعارض عرض له فآثره، فإعراض (3) الله تعالى عنه: منع ثوابه عنه، وحرمانه مجالسة النبي - صلى الله عليه وسلم - (4) ، والاستفادة منه (5) ، والخير الذي حصل لصاحبيه (6) .
16 - ومن باب النهي عن أن يقام الرجل من مجلسه
نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن أن يقام الرجل من مجلسه إنما كان ذلك لأجل: أن السَّابق لمجلس قد اختصَّ به إلى أن يقوم باختياره (7) عند فراغ غرضه؛ فكأنه قد ملك منفعة (8) ما اختصَّ به من ذلك، فلا يجوز أن يحال بينه وبين ما يملكه، وعلى هذا فيكون النهي على ظاهره من التَّحريم، وقيل: هو على الكراهة. والأول أولى. ويستوي في هذا المعنى أن يجلس فيه بعد إقامته، أو لا يجلس، غير أن هذا الحديث خرج =(5/509)=@
__________
(1) في (ك): «قوله» بلا واو.
(2) في (ق): «الأسفل من النار».
(3) في (ق): «فأعرض».
(4) صفة الإعراض من الصفات الثابتة لله عز وجل، وهي لا تشبه صفة إعراض الخلق ولا يمكن تصورها ولكنها صفة حقيقية تلين بالله عز وجل، وتأويل المؤلف غفر الله له لهذه الصفة وصرفها إلى شيء من مستلزماتها هو إبطال لهذه الصفة، والواجب إثباتها من غير تأويل ولا تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}.
(5) قوله: «منه» سقط من (ب) و(ح) و(ك) و(ق).
(6) في (أ) و(ح): «لصاحبه».
(7) في (ح): يشبه «باخباره».
(8) في (ق): «منفعته».(5/509)
على أغلب (1) ما يفعل (2) من ذلك، فإنَّ الإنسان في الغالب إنما يقيم الآخر من مجلسه ليجلس فيه (3) . وكذلك يستوي فيه (4) يوم الجمعة، وغيره من الأيام التي يجتمع الناس فيها، لكن جرى ذكر يوم الجمعة في هذا الحديث؛ لأنَّه اليوم الذي يجتمع الناس فيه، ويتنافسون في المواضع القريبة من الإمام، وعلى هذا: فيلحق بذلك ما في معناه، ولذلك قال ابن جريج: في يوم (5) الجمعة وغيرها (6) .
وقوله: «ولكن تفسَّحوا، وتوسَّعوا»؛ هذا أمر للجلوس بما يفعلون مع (7) الداخل، وذلك: أنه لما (8) نهي عن (9) أن يقيم أحدًا من (10) موضعه تعيَّن على الجالسين (11) أن يوسِّعوا له، ولا يتركوه قائمًا، فإنَّ ذلك يؤذيه، وربما يخجله. وعلى هذا: فمن وجد من الجلوس سعة تعيَّن عليه أن يوسع له. وظاهر ذلك أنه على الوجوب تمسُّكًا بظاهر الأمر، وكان القائم يتأذى (12) بذلك، وهو مسلم، وأذى المسلم حرام. ويحتمل أن يقال: إن هذه آداب حسنة، ومن مكارم الأخلاق، فتحمل على الندب.
وقد اختلف العلماء في قوله تعالى :{إذا قيل لكم تفسَّحوا في المجالس (13) فافسحوا يفسح الله لكم} (14) . فقيل: هو مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يزدحمون فيه تنافسًا في القرب من النبي - صلى الله عليه وسلم - (15) . وقيل: هو مجلس الصَّف في القتال. وقيل: هو =(5/510)=@
__________
(1) في (ب) و(ح): «غالب».
(2) في (ك): «يفغل».
(3) قوله: «فيه» سقط من (ح).
(4) قوله: «فيه» سقط من (ك).
(5) قوله: «يوم» سقط من (ك).
(6) أخرجه مسلم (2177/28).
(7) في (ك): «مع».
(8) قوله: «لما» سقط من (ق).
(9) قوله: «عن» سقط من (ب).
(10) في (ح): «عن» بدل «من».
(11) في (ح): «الجالس»، وكانت كذلك في (أ) ثم عدلت إلى «الجالسين» وفي (ك): «الجلوس» وفي (ق): «يعني على الجلوس».
(12) في (ح): يشبه «تأذى».
(13) في (أ) و(ق): «في المجلس». وهي قراءة جميع القراء عدا عاصم.
(14) الآية (11) من سورة المجادلة.
(15) من قوله: «كانوا يزدحمون...» إلى هنا سقط من (ك).(5/510)
عامٌّ في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه (1) للخير، والأجر، وهذا (2) هو ا لأولى؛ إذ المجلس للجنس على ما أصَّلْناه (3) في الأصول.
وقوله: «إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به»؛ هذا (4) يدلّ على صحَّة القول بوجوب ما ذكرناه من اختصاص الجالس (5) بموضعه إلى أن يقوم منه، لأنه إذا كان أولى به بعد قيامه؛ فقَبْلَه أحرى وأولى. وذهب آخرون: إلى أن ذلك على الندب؛ لأنَّه موضع غير متملَّك لأحد، لا (6) قبل الجلوس، ولا (7) بعده. وهذا فيه نظر، وهو أن يقال: سلَّمنا أنه غير متملَّك له، لكنه يختص به إلى أن يفرغ غرضه منه، فصار (8) كأنه يملك (9) منفعته؛ إذ قد منع غيره من أن يزاحمه عليه. وحمله مالك على النَّدب إذا كانت رجعته قريبة. قال: وإن بَعُدَ ذلك حتى يذهب، ويَبْعُد (10) فلا أرى ذلك، وأنه من محاسن الأخلاق. وعلى هذا فيكون هذا عامًّا في كل المجالس. وقال محمد بن مسلمة: الحديث محمول على مجلس العلم (11) ، هو (12) أولى به إذا قام لحاجة (13) ، فإذا قام تاركًا له، فليس هو بأولى.
وقد اختلف العلماء فيمن ترتَّب من العلماء، والقُرَّاء بموضع من المسجد للفتيا، وللتدريس (14) . فحكي عن مالك: أنه أحق به (15) إذا عرف به. والذي عليه الجمهور: أن هذا استحسان، وليس بواجب، ولعلَّه مراد مالك. وكذلك قالوا فيمن قعد من الباعة في موضع من =(5/511)=@
__________
(1) قوله: «فيه» سقط من (ق).
(2) في (ك): «وهذا».
(3) في (ك): «كما أصلناه».
(4) في (ب): «وهذا».
(5) في (ق): «الجلوس».
(6) قوله: «لا» سقط من (ح).
(7) قوله: «ولا» مكرر في (ك)
(8) في (ق): «وصار».
(9) في (ق): «ملك».
(10) في (ق): «وبعد».
(11) في (أ) و(ك): «العَالِم».
(12) في (ق): «هذا».
(13) في (ح): «لحاجته».
(14) في (ك) و(ح) و(ق): «والتدريس».
(15) قوله: «به» سقط من (ب).(5/511)
أفنية الطُّرق (1) ، وأقضية البلاد غير المتملَّكة فهو أحق به ما دام جا لسًا فيه، فإن قام منه، ونيَّته الرجوع إليه من غده؛ فقيل: هو أحق به (2) حتى يتمَّ غرضه. حكاه الماوردي عن مالك؛ قطعًا للتنازع. وقيل: هو وغيره سواء، والسَّابق إليه بعد ذلك أحق به.
17 - ومن باب الزجر عن دخول المخنثين على النساء
التخنُّث: هو اللين والتكسُّر. والمخنث: هو الذي يلين في قوله، ويتكسَّر في مشيته (3) ، ويتثنى (4) فيها كالنساء. وقد يكون خِلْقة، وقد يكون تصنعًا من الفسقة. ومن كان ذلك فيه خلقة؛ فالغالب من حاله: أنَّه لا أرب له في النساء، ولذلك كان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يعدُون (5) هذا المخنث (6) من غير أولي الإربة، فكانوا لا يحجبونه إلى أن ظهر منه ما ظهر فحجبوه.
قوله (7) : «إن مخنثًا كان عندها»؛ اختلف في اسم هذا المخنث، والأشهر: أن اسمه هيت بياء ساكنة بعد الهاء باثنتين من تحتها، وآخرها تاء باثنتين من فوقها (8) . وقيل: صوابه هنب - بنون وباء بواحدة (9) آخرًا (10) - والهنب: الرجل الأحمق، قاله ابن درستويه. وقيل: إن هذا المخنث هو ماتع (11) (12) - باثنتين من فوقها – مولى =(5/512)=@
__________
(1) في (أ): «الطريق».
(2) من قوله: «ما دام جالسًا...» إلى هنا سقط من (ق).
(3) في (ق): «مشيه».
(4) في (ك): «وينثني».
(5) في (ك): «يعددن».
(6) في (أ): «المحنث».
(7) (ب) و(ح) و(ك) و(ق): «وقوله».
(8) في (ب): «وآخرها مثناة فوق» وفي (ق): «وآخرها تاء بإثنتين من فوقها» وكتب في الهامش «وآخره مثناة فوق» ووضع (نخـ).
(9) في (ح): «واحدة» وفي (ق): «بنون وباء بواحدة» وكتب في الهامش «بنون وموحدة» ووضع (خ).
(10) في (ح): «أخيرا».
(11) في (ق): «هاتع» وكتب في الهامش «ماتع» ووضع (خ).
(12) البخاري (8/43 رقم4324) في المغازي، باب غزوة الطائف في شوال سنة ثمان.(5/512)
أبي فاختة المخزومي (1) . قيل: وكان (2) هو وهيت يدخلان في بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما وقعت هذه القصَّة غربهما النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الحمى (3) . وقيل: إن مخنَّثا كان بالمدينة نفاه النبي - صلى الله عليه وسلم - (4) إلى حمراء الأسد (5) .
وقول المخنث: «أدلك على ابنة غيلان، فإنَّها تقبل بأربع، وتدبر بثمان». قال أبو عبيد (6) : يعني به: العكن، وهي أربع تقبل بهن، ولها أطراف أربعة من كل جانب (7) فتصير ثمانية.
قال الشيخ: وإنَّما أنث فقال: بثمان (8) ؛ وهو يريد الأطراف، وواحدها طرف، مذكر؛ لأنَّ هذا على حدِّ قولهم: هذا الثوب سبع في ثمان، والثمان يراد بها الأشبار، ووجه ذلك أنه (9) يعني به العكن، وهي جمع عكنة، وهي الطي الذي يكون في جانبي البطن من السِّمن، ويجمع (10) : عكن، وأعكان. وتعكَّن البطن: إذا صار ذلك فيه.
يريد المخنَّث (11) : أنَّ هذه المرأة إذا أقبلت كان لها من كل جانب من جوانب بطنها عكنتان، وإذا أدبرت كان (12) لها من خلفها ثمان، وأنَّث العدد لتانيث المعدود، وهو (13) : العكن: جمع عكنة.
وقد روى هذا الحديث (14) الواقدي، والكلبي، وقالا: إن «هيتًا» المخنَّث، =(5/513)=@
__________
(1) أخرجه البيهقي (8/224) من طريق محمد بن إسحاق، عن يزيد، عن موسى بن عبدالرحمن بن عياش بن أبي ربيعة، قال: كان المخنثون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة: ماتع، وهدم، وهيت، وكان ماتع لفاختة بنت عمرو بن عائذ خالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان يغشى بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدخل عليهن، حتى إذا حاصر الطائف سمعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول لخالد بن الوليد: إن افتتحت الطائف غدًا فلا تنفلتن منك بادية بنت غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا أرى هذا الخبيث يفطن لهذا، لا يدخل عليكن بعد هذا» لنسائه. قال: ثم أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قافلاً حتى إذا كان بذي الحليفة قال: «لا يدخلن المدينة»، ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكُلِم فيه، وقيل له: إنه مسكين، ولا بد له من شيء، فجعل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا في كل سبت يدخل فيسأل، ثم يرجع إلى منزله، فلم يزل كذلك عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، وعلى عهد عمر رضي الله عنهم ا، ونفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاحبيه معه: هدم، والآخر: هيت.
وفي سنده: محمد بن إسحاق، مدلِّس ولم يصرح بالسماع.
(2) في (ق): «كان» بلا واو.
(3) عزاه الحافظ (9/334) إلى الواقدي.
(4) من قوله: «إلى الحمى وقيل...» إلى هنا سقط من (ك).
(5) عزاه الحافظ (9/334) إلى البارودي في الصحابة.
(6) في (ق): «أبو عبيدة».
(7) في (ح) و(ك) و(ق): «جهة»، وفي (ب): «جانب من جوانب بطنها».
(8) في (ب) و(ك) و(ق): «بأربع وبثمان لأنه»، وفي (ح): «بأربع لأنه».
(9) من قوله: «وهو يريد...» إلى هنا سقط من (ب) و(ح) و(ك) و(ق).
(10) في (ب) و(ح) و(ك): «وتجمع».
(11) في (ح): «مخنث».
(12) قوله: «كان» سقط من (ب) و(ح) و(ك) و(ق).
(13) في (ق): «وهي» وكتب في الهامش «وهو» ووضع (خ).
(14) في (ب): «الحرف».(5/513)
وكان مولى لعبد الله بن أبي (1) أمية المخزومي أخي أم سلمة لأبيها، وأم عبدالله عاتكة عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له في بيت أم سلمة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمع: إن (2) افتتحتم (3) الطائف فعليك ببادية ابنة غيلان بن سلمة الثقفي؛ فإنها تقبل بأربع وتُدبر (4) بثمان مع ثَغرٍ كالأُقحوان، إن جلست تثنَّت، وإن تكلَّمت تغنَّت، بين رجليها كالإناء المكفوء، وهي كما قال قيس بن الخطيم:
تَغْتَرِقُ الطَّرْفَ وهِيَ لاهِيَةٌ كأنَّما شَفَّ (5) وَجْهَها نَزَفُ
بَيْنَ شُكُولِ النساء خِلْقَتُها قصدًا فلا غَيْلَةٌ (6) ولانصف
تَنَامُ عن كِبْرِ شأنِها فإذا قامت رُوَيْدًا تكاد تنقصف
فقال له (7) النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لقد غلغلت النظر إليها يا عدوَّ الله»، ثم أجلاه عن المدينة إلى الحمى (8) . قال: فلما فتحت الطائف تزوجها عبدالرحمن بن عوف، فولدت له في قول الكلبي. قال (9) : ولم يزل هيت بذلك المكان حتى (10) قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - . فلما ولي أبو بكر رضي الله عنه كُلِّم فيه، فأبى أن يردَّه، فلما ولي عمر رضي الله عنه كُلِّم فيه، فأبى أن يردَّه، ثم كُلِّم فيه بعد، وقيل (11) : إنه قد كبر وضعف وضاع، فأذن له (12) يدخل كل جمعة، فيسأل (13) ، ويرجع إلى مكانه. قال أبو عمر (14) : يقال: بادية - بالياء - وبادنة - بالنون - والصواب بالياء (15) ، وهو قول أكثرهم.
وقوله (16) : «تغنت»؛ هو (17) من الغنة، لا من الغناء؛ أي: أنها تتغنَّن في كلامها =(5/514)=@
__________
(1) قوله: «أبي» سقط من (ق).
(2) في (ك): «إذا».
(3) في (ح): «اقتحم».
(4) في (أ): «وتبدر».
(5) في (ك): «سفَّ».
(6) في (ك): «عبلة».
(7) قوله: «له» سقط من (ح) و(ك).
(8) هذه القصة ذكرها ابن عبدالبر في "التمهيد" (9/336) نقلاً عن الواقدي والكلبي وعنه نقل المؤلف هنا. وذكرها أيضًا القرطبي في "التفسير" (12/236)، وابن حجر في "الفتح" (9/335-336).
(9) قوله: «قال» سقط من (ق).
(10) في (ح): «إلى أن».
(11) في (ب): «فقيل له».
(12) في (ب): «له أن».
(13) في (ق): «يسأل».
(14) في (ح): «أبو عمر بن عبدالبر».
(15) في (ق): «بادية بالباء ونادية بالنون والصواب بالباء».
(16) في (ح): (نعت» بدل «وقوله».
(17) قوله: «هو» سقط من (ح).(5/514)
للينها، ورخامة صوتها. يقال: تغنَّن الرجل، وتغنى، مثل: تضنَّن (1) وتضنَّى.
وفيه: ما يدلّ على جواز العقوبة بالنفي عن الوطن لمن يخاف (2) منه الفساد، والفسق. وعلى تحريم ذكر محاسن المرأة المعينة؛ لأنَّ ذلك إطلاع الأسماع (3) على عورتها، وتحريك النفوس إلى ما لا يحل منها (4) . ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : «لا تصف المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها» (5) ، فأما ذكر محاسن من لا يعرف (6) من النساء (7) : فمباحٌ إن لم يدع (8) إلى مفسدةٍ؛ من تهييج النفوس إلى الوقوع في الحرام، أو في المكروه.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «ألا أرى (9) هذا يعرف ما ها هنا»؛ يدلّ: على أنهم كانوا يظنون أنه لا يعرف شيئًا (10) من أحوال النساء، ولا يخطرن له بالبال. وسببه: أن التخنيث كان فيه خِلْقة، وطبعًا (11) ، ولم يكن يعرف منه إلا ذلك، ولذلك كانوا يعدُّونه من غير أولي الإربة؛ أي: ممن (12) لا حاجة له في النساء. وقد قدَّمنا: أن الأرب والإربة: الحاجة. فلما سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفه لتلك المرأة: علم أنه عنده تشوُّف (13) للنساء؛ فحجب لذلك، ثم بولغ في تنكيله، وعقوبته، ونفيه لما اطلع عليه من محاسن تلك المرأة، وكشف من سترها، ولم تكن عقوبته لنفس التخنيث (14) ؛ فإنَّ ذلك كان فيه خِلْقة، ولم يكن مكتسبًا له، ولا يكلف الله نفسًا (15) إلا وسعها. وأمَّا من تخانث وتشبه بالنساء، فقد أتى كبيرة من أفحش الكبائر؛ لعنه الله عليها (16) ورسوله، ولا يقرُّ عليها. =(5/515)=@
__________
(1) في (ح): «تضن» بنون واحدة.
(2) في (ق): «لمن يخاف» وكتب في الهامش «لما يخاف» ووضع (خ).
(3) في (ب) و(ح) و(ق): «للأسماع».
(4) في (أ): «لها».
(5) البخاري (9/338 رقم5240 و5241) في النكاح، باب لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها، ولفظه: لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كانه ينظر إليها».
(6) في (ب) و(ح) و(ك) و(ق): «تعرف».
(7) قوله: «من النساء» سقط من (ق).
(8) في (ق): «تدع».
(9) في (ق): «ترى».
(10) قوله: «شيئًا» سقط من (ك).
(11) في (ق): «وطبيعة».
(12) في (أ): «مما».
(13) في (ق): «أن عنده تشوق».
(14) في (أ) و(ق): «التخنث».
(15) قوله: «نفسًا» سقط من (ك).
(16) في (ق): «عليه» وكتب في الهامش «عليها» ووضع (خـ).(5/515)
بل: يؤدَّب بالضرب الوجيع والسجن الطويل، والنفي حتى ينزع عن ذلك، ويكفي دليلاً على ذلك ما خرَّجه البخاري (1) عن ابن عباس قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال، وقال: «أخرجوهم من بيوتكم». وأخرج فلانًا، وفلانًا؛ غير أنه لا يقتل لما رواه (2) أبو هريرة (3) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - **كذا في أ** أتي برجل قد خضب يديه ورجليه (4) ، فقال: «ما بال هذا ؟!» فقيل: يتشبَّه (5) بالنساء، فأمر به، فنفي إلى النقيع – بالنون (6) -، فقيل (7) : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا نقتله ؟ قال (8) : «إني نهيت عن قتل المصلين».
18 - ومن باب امتهان ذات القدر نفسها في خدمة زوجها
قولها: تزوجني الزبير، وما له في (9) الأرض من مال، ولا مملوك، ولا شيء غير فرسه»؛ هذا يدلُّ على ما كانوا عليه من شدَّة الحال في (10) أول الأمر، وعلى أن المعتبر عندهم في الكفاءة إنَّما كان: الدين، والفضل. لا المال، والغنى، كما =(5/516)=@
__________
(1) البخاري (10/332 و333 رقم5885 و5886) في اللباس، باب المتشبهون بالنساء، والمتشبهات بالرجال. و(12/159 رقم6834) في الحدود، باب نفي أهل المعاصي والمخنثين.
(2) في (ق): «روى».
(3) أخرجه أبو داود (5/224 رقم 4928) في الأدب، باب في الحكم في المخنثين، ومن طريقه البيهقي (8/224)، وفي ”شعب الإيمان” (2798)، ومحمد بن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" (2/917-918 رقم963)، وأبو يعلى (10/509 رقم6126)، والدارقطني (2/54-55)، والبيهقي (8/224) من طريق أبي داود وغيره. جميعهم من طريق أبي أسامة، عن مفضل بن يونس، عن الأوزاعي، عن أبي يسار القرشي، عن أبي هاشم، عن أبي هريرة، فذكره.
وفي سنده: أبو يسار القرشي، قال أبو حاتم كما في "الجرح والتعديل" (9/460 رقم2362): مجهول. وقال الذهبي في "الميزان" (4/588 رقم10746)- بعد أن حكى قول أبي حاتم -: «قلت: قد روى عن أبي يسار إمامان: الأوزاعي، والليث، فهذا شيخ ليس بضعيف». اهـ.
ومع ذلك أورد له الذهبي هذا الحديث في "ميزانه"، وقال: «إسناد مظلم لمتن منكر».
وفي "التقريب" (ص1226 رقم8522): «مجهول الحال». وأبو هاشم: روى عنه أبو يسار القرشي، وثقه العجلي، وقال الذهبي: لا يعرف. "الثقات" (2/432 رقم 2274) الميزان (4/581 رقم 10684) وفي التقريب (ص1217 رقم8491): مجهول الحال.
والحديث يشهد له ما تقدم في "الصحيح" في إخراج المخنثين.
(4) زاد بعد في (ق): «بالحناء».
(5) في (ق): «تشبه».
(6) قوله: «بالنون» ليس في (أ).
(7) في (ح): «قيل».
(8) في (ب) و(ك) و(ق): «فقال».
(9) قوله: «في» لم يتضح في (ق).
(10) قوله: «في» لم يتضح في (ق).(5/516)
قال - صلى الله عليه وسلم - : «فعليك بذات الدين تربت يداك» (1) . وإنما كان ذلك؛ لأنَّ القوم كانت مقاصدهم في النكاح التعاون على الدِّين، وتكثير أمة محمد خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - ، ولأنهم علموا: أن المال ظِلٌ زائل، وسحابٌ حائل، وأن الفضل باقٍ إلى يوم التلاق. فأمَّا اليوم: فقد انعكست (2) الحال، وعدل الناس عن الواجب إلى المحال.
وقولها: «فكنت أعلف فرسه، وأكفيه مؤونته (3) . . . » إلى آخر الكلام؛ فيه ما يدلّ: على ما كانوا عليه من تبذُّل المرأة في خدمة زوجها وبيته وفرسه، وإن كانت شريفة. لكن في (4) هذا كله إنما فعلته متبرعة بذلك مختارة له، راغبة لما علمت فيه من الأجر، والثواب، وعونًا لزوجها على البرِّ والتقوى. ولا خلاف في حسن ذلك، ولا في أن كل ذلك ليس بواجب عليها؛ إذ لا يجب عليها أن تخرز القِرب (5) ، ولا أن تخدم الفرس، ولا أن تنقل النوى، وإنما اختلف في خدمة بيتها من عَجْنٍ (6) ، وطبخ (7) ، وكنس، وفرش؛ فالشريفة ذات القدر؛ التي (8) رفع في صداقها، لا يجب عليها أن تفعل شيئًا من ذلك، ولا يحكم عليها به، ولا يجب عليها عند مالك أن تأمر الخدم بذلك، ولا تنهاهم، وليس عليها إلا أن تمكن من نفسها. وقال بعض شيوخنا عليها أن تأمرهم، وتنهاهم بما يصلح حال زوجها؛ إذ لا كلفة عليها في ذلك، ولجريان العادة بمثله في الأشراف. وفي كتاب ابن حبيب: عليها في العسر الخدمة الباطنة، كما =(5/517)=@
__________
(1) تقدم في باب الحث على نكاح الأبكار، وذات الدين، من كتاب النكاح.
(2) في (ق): «انعكس» وكتب في الهامش «انعكست» ووضع (نسخة).
(3) في (ق): «مؤنته».
(4) قوله: «في» سقط من (ك) و(ح) و(ق).
(5) في (ح): «الغرب».
(6) في (أ) و(ق): «عجين».
(7) في (ق): «وطبيخ».
(8) في (ح): «التي قد».(5/517)
هي (1) على الدنية، وأما من ليست كذلك فيجب عليها من خدمة بيتها: ما جرت العادة (2) بأن مثلها تفعله (3) .
ومأخذ هذا الباب (4) عندنا النظر إلى العوائد (5) ؛ فإنَّ الإنسان إذا تزوَّج عند قومٍ، فالغالب (6) أنه يبحث عن عاداتهم، ومناشئهم، فيعلمها (7) ، ولا يكاد يخفى عليه حالهم (8) . فإذا تزوَّج ممن عادتهم (9) أن لا تخدم (10) نساؤهم أنفسهن، إنَّما (11) يخدمن، فقد دخل على أنه يبقيها على عادتها، ويسير بها سيرة نسائها، فلا يحكم له (12) عليها بشيء من ذلك. بخلاف من جرت عادتها (13) بأن مثلها لا تخدم (14) ، وإنما تخدم نفسها، فإنَّه يُحكم له عليها بما ذُكر من خدمة بيتها، وكذلك في رضاع الولد. فأما من يجهل حالها، ولا يعلم (15) عادة نسائها: فالأصل (16) : أنها تخدم نفسها، فيُحكم (17) عليها بذلك، وبرضاعة الولد إلى أن يتبين (18) أنها شريفة لها الحال، والقدر. هذا أصل مالك، وتفريعه (19) ، وقد خولف في ذلك؛ فمن الناس من لا يرى على المرأة خدمة (20) مطلقًا. ومنهم (21) من يرى عليها الخدمة مطلقًا، وهو أحوط (22) . والأحسن التفصيل الذي صار إليه مالك، والله تعالى أعلم.
و «الغرب»: الدلو العظيمة (23) .
وقولها: «كنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رأسي»؛ قيل: إن هذه الأرض المقطعة من موات البقيع (24) ، أقطعه من ذلك حُضْرَ فرسه، فأجراه، ثم رمى بسوطه رغبة في الزيادة فأعطاه ذلك كله (25) . وفي البخاري (26) عن عروة أنه - صلى الله عليه وسلم - أقطع الزبير أرضًا من أموال بني النضير، وليست هذه الأرض التي =(5/518)=@
__________
(1) في (ك): «هو».
(2) في (ق): «به العادة».
(3) في (ك): «يفعله» وفي (ح): «بفعله».
(4) في (ق): «هذا الحديث» وكتب في الهامش «هذا الباب» ووضع (نسخه).
(5) في (ح): «العوام».
(6) في (ك): «فالظاهر».
(7) في (ب): «فيعملها».
(8) في (ك): «ولا تكاد تخفى عليه حالتهم».
(9) في (ح): «عاداتهم».
(10) في (أ): «يخدم» وفي (ك) نقط الحرف الأول باثنتين من فوق ومن تحت.
(11) في (أ) و(ك) و(ح) و(ق): «وإنما».
(12) قوله: «له» سقط من (ح).
(13) في (ح): «عاداتها».
(14) في (ك): «يخدم».
(15) في (أ): «ولا تعلم».
(16) في (ب): «فإن الأصل».
(17) في (ق): «فإنه يحكم».
(18) في (أ): «إلى تبين». تراجع
(19) في (ب): «وتفريقه».
(20) في (ب) و(ح): «الخدمة».
(21) في (أ): «وهو ومنهم».
(22) قوله: «أحوط» سقط من (أ) ووضع قبله إشارة لحق وكتب بالهامش «سقط من الكلام من أصل ط» وقوله: «أحوط» سق من (ك) وقوله: «وهو أحوط» سقط من (ح) و(ق).
(23) في (ق): «والعرب أولوا العظمة».
(24) في (ك) و(ق): «النقيع».
(25) أخرجه أحمد (6458)، ومن طريقه أبو داود (3072)، والطبراني في "الكبير" (3352)، و"الأوسط" (4273)، والبيهقي (6/144) من طريق عبدالله العمري، عن نافع، عن ابن عمر، به. والعمري ضعيف لكت يشهد له رواية البخاري بعده، ورواية مسلم في الباب.
(26) (6/352 رقم3151) في فرض الخمس، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه.(5/518)
كانت أسماء تنقل منها النوى على رأسها، لقولها (1) : وهي على ثلثي فرسخ، فالأشبه أنها الأرض التي بالبقيع (2) كما تقدَّم في القول الأول.
ففيه من الفقه ما يدل على جواز إقطاع الإمام الأرض لمن يراه من أهل الفضل، والحاجة، والمنفعة العامة، كالعلماء، والمجاهدين، وغيرهم، لكن تكون تلك الأرض المقطعة من موات الأرض أو من الأرض (3) الموقوفة لمصالح المسلمين كما قدمناه في الجهاد.
وفيه ما يدلُّ على جواز الاستزادة من الحلال، وإظهار الرَّغبة فيه، كما فعل الزبير رضي الله عنه؛ حيث أجرى فرسه، فلما وقف (4) رمى بسوطه رغبة في الزيادة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يبصر ذلك كله، ولم ينكره (5) عليه. وليس إقطاع الإمام تمليكًا للرقبة، وإنما هو اختصاص بالمنفعة، لكن لو أحيا الموات المقطع لكان للمحيي (6) ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «من أحيا أرضًا ميتة فهي له» (7) (8) .
وقولها: «فلقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفر من أصحابه، فدعاني، ثم قال: إخ، إخ»؛ تعني (9) به: أنه نوَّخ ناقته ليُرْكبها عليها.
و «إخ»- بكسر الهمزة، وسكون الخاء - وهو صوت تُنَوَّخ (10) به الإبل. وظاهر (11) هذا المساق يدلّ على أنه - صلى الله عليه وسلم - عرض عليها الركوب، فلم تركب؛ لأنَّها استحيت، كما قالت. وعلى هذا فلا يحتاج إلى اعتذار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في (12) ركوبها معه، فإنَّه يحتمل أنها لو اختارت الركوب تركها راكبة وحدها، ولا يكون فيه من حيث هذا (13) اللفظ (14) دليل على جواز ركوب اثنين على بعير، فتأمله.
وقولها: «وعرفت (15) غَيرَتك»؛ تعني: ما جبل عليه من الغيرة، وإلا فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يغار لأجله، كما قال عمر رضي الله عنه للنبي - صلى الله عليه وسلم - : «وعليك أغار =(5/519)=@
__________
(1) في (ح) و(ك): «لقوله».
(2) في (ب) و(ك) و(ق): «بالنقيع»، ولم تنقط الباء في (ح).
(3) قوه: «أو من الأرض» سقط من (ق).
(4) في (ب): «وقفت».
(5) في (ح) و(ق) و(ك): «ينكر».
(6) في (ق): «المحيي».
(7) أخرجه البخاري في "صحيحه" (2335) من حديث عائشة رضي الله عنها مرفزعًا: «من أعمر أرضًا ليست لأحد فهو أحق». وأما لفظ المؤلف فقد رواه هشام واختلف عليه فيه اختلافًا كثيرًا، فرواه عنه جماعة عن أبيه مرسلاً، ورواه آخرون عنه، عن أبيه، عن سعيد بن زيد، وروي عنه عن وهب بن كيسان، عن جابر، ورواه عن هشام، عن عبيدالله بن عبدالرحمن بن رافع، عن جابر، وفيه اختلاف كثير. والصواب فيه ما رواه هشام، عن أبيه مرسلاً. انظر "التمهيد" لابن عبدالبر (22/280).
(8) قال الحافظ في الفتح (5/19): «وقد اختلف فيه على هشام، فرواه عنه عباد هكذا، ورواه يحيى القطان، وأبو ضمرة، وغيرهما عنه، عن أبي رافع، عن جابر، ورواه أيوب، عن هشام، عن أبيه، عن سعيد بن زيد، ورواه عبد الله بن إدريس، عن هشام، عن أبيه، مرسلاً.
واختلف فيه على عروة، فرواه أيوب، عن هشام، موصولاً، وخالفه أبو الأسود فقال: عن عروة، عن عائشة، كما في هذا الباب، ورواه يحيى بن عروة، عن أبيه مرسلاً، كما ذكرته من سنن أبي داود، ولعل هذا السر في ترك جزم البخاري به».
وقال في التفليق (3/310 – 311): «فإن قيل: لم عرَّضه البخاري، وصححه الترمذي؟ قلت: الترمذي اتبع ظاهر إسناده. وأما البخاري فإنه عنده معلل، للاختلاف فيه على هشام في إسناده، ولفظ متنه، أما اختلاف اللفظ فقد مضى، ** رواه بعضهم بلفظ: «فهي له»، ورواه بعضهم بلفظ: «فله فيها أجر» . قال الألباني في الصحيحة (2/133): «ولكني لا أوال مترددًا في الأرجح من اللقطين، وإن كان ممكن القول بصحتهما معًا، أي: فهي له ملكًا، وله أجرًا. والله أعلم».
وأما اختلاف الإسناد، رواه يحيى بن سعيد القطان، وهو من جبال الحفظ، وأبو ضمرة أنس بن عياض المدني، وأبو معاوية، كلهم عن هشام، عن ابن رافع، عن جابر.
ورواه عبد الله بن إدريس، وغيره، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً.
وكذا رواه يحيى بن عروة، عن أبيه.
ورواه أبو الأسود، عن عروة، عن عائشة.
وفيه اختلاف غير هذا. فلهذا لم يجزم به، والله أعلم، وإن كان ظاهر الإسناد الصحة، فقد قدمنا أنه ربما مرَّض أحاديث صحيحة الإسناد لعلل فيها» اهـ.
وقال ابن عبد البر في التمهيد (22/280): «وهذا الحديث مرسل عند جماعة الرواة عن مالك، لا يختلفون في ذلك، واختلف فيه على هشام، فروته عنه طائفة عن أبيه مرسلاً، كما رواه مالك، وهو أصح ما قيل فيه إن شاء الله ، وروته طائفة عن هشام، عن أبيه، عن سعيد بن زيد. وروته طائفة عن هشام، عن وهب بن كيسان، عن جابر... وفيه اختلاف كثير» اهـ.
عند البخاري (5/18 رقم 2335) عن عائشة مرفوعًا «من أعمر أرضًا ليست لأحد فهو أحق».
(9) في (ق): «يعني به».
(10) في (ق): «ينوخ».
(11) في (ق): «فظاهر».
(12) في (ق): «من» بدل «في».
(13) قوله: «هذا» سقط من (ك).
(14) قوله: «من حيث اللفظ» سقط من (أ).
(15) في (ح): يشبه« وعرف».(5/519)
يا رسول الله !» حين أخبره أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى قصرًا من قصور الجنَّة فيه امرأة من نساء الجنه فقال: «لمن أنت ؟» فقالت: لعمر بن الخطاب. قال - صلى الله عليه وسلم - : «فذكرت غيرتك» (1) ، فتوقَّع النبي - صلى الله عليه وسلم - تحريك الغيرة بحكم الجبلَّة، وإن لم يُغر لأجله.
وقول الزبير رضي الله عنه: «والله (2) ! لحملك (3) النوى على رأسك أشدُّ عليَّ من ركوبك معه»؛ هذا يدلّ على أن الزبير لم يكلفها شيئًا من ذلك، وإنما فعلت هي ذلك لحاجتها إلى ذلك (4) ، وتخفيفًا (5) عن (6) زوجها؛ على عادة أهل الدين والفضل الذين لا التفات عندهم لشيء من زينة الدنيا، ولا من أحوال أهلها، فإنَّهم كانوا (7) لا يعيبون على أنفسهم إلا ما عابه الشرع، فكانوا أبعد الناس منه (8) ، وأخرج هذا القول من الزبير فرط الاستحياء المجبول عليه أهل الفضل. ويعني (9) بذلك: أن الحياء الذي لحقه من تبذلها بحمل (10) النوى على رأسها أشدُّ عليه من الغيرة التي كانت (11) تلحقه عليها لو ركبت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ! فإنَّه - صلى الله عليه وسلم - ليس ممن يغار على الحريم (12) لأجله. والله تعالى أعلم (13) .
وقولها: «حتى أرسل إليَّ أبو بكر رضي الله عنه بعد ذلك بخادم، فكفتني سياسة (14) الفرس، فكأنما أعتقني (15) »؛ دليلٌ على مكارم أخلاق القوم (16) ، فإنَّ أبا بكر رضي الله عنه علم ما كانت عليه ابنته من الضرر (17) والمشقة، ولم يطالب صهره بشيء من ذلك، وكان مترقبًا لإزالة ذلك، فلما تمكَّن منه أزاله مِن (18) عنده. =(5/520)=@
__________
(1) سيأتي في باب من فضائل عمر بن الخطاب، من كتاب النبوات.
(2) قوله: «والله» سقط من (ح).
(3) في (ق): «والله لنقلك» وكتب في الهامش «والله لحملك» ووضع (نسخه».
(4) قوله: «إلى ذلك» سقط من (ق).
(5) في (ق): «وتخفيفها».
(6) في (ك): «على».
(7) قوله: «كانوا» سقط من (ح).
(8) في (ق): «منهم» وكتب في الهامش «منه» ووضع (خ).
(9) قوله: «ويعني» نقط ناسخ (ك) الحرف الأول باثنتين من فوق ومن تحت.
(10) في (ق): «لحمل».
(11) قوله: «كانت» سقط من (ح).
(12) في (ح) و(ك) و(ق): «الحرم».
(13) قوله: «والله تعالى أعلم» ليس من (ق).
(14) في (ق): «تكفيني مسايسة» وكتب في الهامش «فكفتني سياسة» ووضع (نسخه).
(15) في (ح): «أعتقتني».
(16) في (ح): «الأخلاق».
(17) في (أ): «الضرة».
(18) قوله: «من» سقط من (ح).(5/520)
و «الخادم» يقال على الذكر والأنثى. و «أعتقتني (1) » روي بتاء بعد القاف، ويكون فيه ضمير يعود على (2) الخادمة (3) . وبغير تاء، وضميره يعود إلى أبي بكر رضي الله عنه. وصحَّ ذلك لأنها لما استراحت من خدمة الفرس، والقيام عليه بسبب الجارية التي بعث (4) بها (5) إليها أبو بكر صحَّ أن ينسب العتق لكل واحد منهما.
وقوله (6) : «جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - سبيٌّ فأعطاها (7) خادمًا»؛ هذه الرواية مخالفة لقولها في الروايه المتقدِّمة: إن أبا بكر رضي الله عنه أرسلها إليها (8) . وهذا لا بُعد فيه؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دفعها لأبي بكر ليدفعها لها (9) ، فأرسل بها أبو بكر لها.
واستئذان الفقير لأم عبد الله - وهي أسماء ابنة أبي بكر - في (10) أن يبيع في ظلِّ دارها يدلُّ على أن المتقرَّر المعلوم من الشرع أن فناء الدار ليس لغير ربِّها القعود فيها (11) للبيع إلا بإذنه (12) ، فإذا أذن جاز ما لم يضر بغيره؛ من تضييق طريق، أو اطلاع على عورة منزل غيره. ولربِّ الدار أن يمنعه (13) ؛ لأنَّ الأفنية حق لأرباب المنازل؛ لأنَّ عمر رضي الله عنه قضى بالأفنية (14) لأرباب الدور. قال ابن حبيب: وتفسير هذا يعني: بالانتفاع للمجالس (15) ، والمرابط، والمصاطب (16) ، وجلوس الباعة فيها للبياعات (17) الخفيفة (18) ، وليس بأن ينحاز (19) بالبنيان، والتحظير.
قال الشيخ: وعلى هذا فليس لربِّ الدار التصرف في فنائها ببناء دكان (20) ، أو غيره مما يثبت ويدوم (21) ؛ لأنَّه من المنافع المشتركة بينه وبين الناس؛ إذ للناس فيه حق العبور، والوقوف، والاستراحة، والاستظلال، وما أشبه هذه الأمور. لكنه فناء (22) =(5/521)=@
__________
(1) في (ح) و(ك) و(ق): «وأعتقني».
(2) في (أ) و(ك) و(ح): «إلى».
(3) في (ح): «الجارية».
(4) في (ح): «بعثها».
(5) قوله: «بها» سقط من (ب).
(6) في (ب): «وقولها».
(7) في (ك): «أعطاها».
(8) قوله: «إليها» سقط من (ب) و(ح) و(ك) و(ق).
(9) في (ق): «إليها».
(10) قوله: «في» سقط من (ب).
(11) في (ح) و(ك): «فيه».
(12) في (ق): «ليبيع بغير إذنه».
(13) في (أ) و(ك) و(ق): «ولرب الدار منعه».
(14) في (ب) و(ح) و(ك) و(ق): «في الأفنية».
(15) في (ك): «للمجالس».
(16) المصاطب: جمع مصطبة، وهي شبه الدكان يجلس عليها. "لسان العرب" (1/532).
(17) في (ب) و(ح) و(ك) و(ق): «للبياعة».
(18) في (ك): «الخفيفه».
(19) في (ك) و(ق): «يجاز» وفي (ح»: «تجاز».
(20) في (ب) و(ح) و(ق): «ثان».
(21) في (ك): «يدرم».
(22) قوله: «فناء» سقط من (أ) و(ك) و(ح) و(ق).(5/521)
أخصُّ به فيجوز له من ذلك ما لا يجوز لغيره من مرافقه الخاصة به كبناء مصطبة لجلوسه، ومربط فرسه، وحطّ أحماله (1) ، وكنس مرحاضه، وتراب بيته، وغير ذلك مما يكون (2) من ضروراته. وعلى هذا فلا يفعل فيها ما لا يكون من ضرورات حاجاته كبناء دكان للباعة، أو تحظيرة عن الناس، أو إجارته لمن يبيع فيه؛ لأنَّ ذلك (3) كله منع الناس (4) من منافعهم التي لهم فيه، وليس كذلك الإذن في البيع الخفيف بغير أجر؛ لأنَّ ذلك من باب الرفق بالمحتاج، والفقير. وأصل الطرق، والأفنية للمرافق (5) ، ولو جاز أن يحاز الفناء ببناء ونحوه؛ للزم أن يكون لذلك البناء فناء، ويتسلسل إلى أن تذهب الطرق، وترتفع المرافق (6) .
وتوقف أسماء رضي الله عنها في الإذن للفقير إلى أن يأذن الزبير إنما كان مخافة غيرة الزبير، أو (7) يكون في ذلك شيء يتأذى به الزبير، وحسن أدب، وكرم خلق حتى لا تتصرَّف في شيء من مالها إلا بإذن زوجها. وأمرها للفقير بأن يسألها ذلك بحضرة الزبير لتستخرج بذلك ما (8) عند الزبير من كرم الخلق، والرغبة في فعل الخير، وليشاركها في الأجر، وذلك كله منها حسن سياسة، وجميل ملاطفة تدلُّ (9) على انشراح الصدر (10) ، وصدق الرغبة في الخير.
وبيعها للجارية (11) من غير (12) إذن الزبير يدلّ على أن للمرأة التصرُّف في مالها بالبيع والابتياع (13) من غير (14) إذنه، وليس له منعها من ذلك إذا لم يضرُّ (15) ذلك به (16) في خروجها، ومشافهتها الرجال (17) بالبيع والابتياع، فله منعها مما يؤدي إلى ذلك.
وسؤاله لها أن تهبه ثمن الجارية دليل (18) على أن الزوج ليس له أن يتحكم عليها =(5/522)=@
__________
(1) في (ح): «رحاله».
(2) في (ق): «مما لا يكون».
(3) في (ك): يشبه أن تكون «ذلك».
(4) في (ق): «للناس».
(5) في (ق): «المرافق».
(6) قوله: «المرافق» سقط من (ق).
(7) في (ح): «و» بدل «أو».
(8) قوله: «ما» سقط من (ق).
(9) في (ك) و(ح): «يدل».
(10) في (ك): «الصدور».
(11) في (ح): «الجارية».
(12) في (ك): «بغير».
(13) في (ك) و(ق): «والانتفاع».
(14) في (ح): «بغير».
(15) في (ق): «يضربه».
(16) قوله: «به» سقط من (ق) .
(17) في (ق): «للرجال».
(18) في (ق): «يدل».(5/522)
في مالها بأخذ، ولا غيره؛ إذ لا ملك له في ذلك، إنَّما (1) له فيه حق التجمُّل، وكفاية بعض المؤن، ولذلك منعناها (2) من إخراج كل مالها، أو جلَّه كما تقدَّم في النكاح.
وهبتها لثمن (3) الجارية من غير إذنه دليلٌ على جواز هبة المرأة بعض مالها بغير إذن (4) الزوج، لكن إن أجازه الزوج جاز، وإن منعه (5) ؛ فإنَّ كان الثلث فدون لم يكن له المنع، وإن كان أكثر كان له منع الزائد على الثلث على ما تقدَّم؛ هذا (6) إذا وهبته لأجنبي؛ فإنَّ (7) وهبته لزوجها، فلا يفرَّق بين ثلث ولا غيره؛ لأنَّها إذا طابت نفسها بذلك جاز. ولأن الفرق بين الثلث وغيره إنما كان لحق (8) الزوج؛ لئلا تفوت (9) عليه ماله فيه (10) من حق التجمُّل، ولئلا يمنعها أيضًا من إعطاء ما طابت به نفسها، فينفذ عطاؤها (11) في الثلث، ويرد فيما زاد عليه. وقيل: يردُّ في الجميع، وهو المشهور. =(5/523)=@
__________
(1) في (ك) و(ق) و(ح): «وإنما».
(2) في (ق): «منعها».
(3) في (ب) و(ح) و(ك) و(ق): «وصدقتها بثمن».
(4) في (ح): «منعاه».
(5) في (ك): «إذ ان».
(6) قوله: «هذا» سقط من (ق).
(7) في (ق): «وإن».
(8) في (ق): «بحق».
(9) في (ح): «يفوت».
(10) قوله: «فيه»: سقط من (ق).
(11) في (ق): «فينفد إعطاؤها».(5/523)
19 - ومن باب النهي عن مناجاة اثنين دون الثالث
قوله: «إذا كان ثلاثةٌ فلا يتناجى اثنان دون واحد (1) »)؛ «كان» هنا: تامَّة بمعنى: وجد، ووقع. و «ثلاثة»: فاعل بها، بخلاف الرواية الأخرى؛ التي (2) قال فيها: «إذا كنتم ثلاثة»، فإنَّها فيها ناقصة. بمعنى: صرتم ثلاثة.
وقوله: «فلا يتناجى اثنان (3) »؛ الرواية المشهورة فيه (4) : «يتناجى» بألف مقصورة (5) ثابتة في الخط، غير أنَّها تسقط في اللفظ لالتقاء الساكنين، فاذًا: هو خبر عن نفي المشروعية، ويتضمن النهي عن ذلك. وقد وقع في بعض النسخ: «فلا يتناج» بغير ألف، على النهي. وهي واضحة.
والتناجي: التحادث سرًّا. وقد زاد في الرواية الأخرى زيادة حسنة، فقال: «حتى يختلطوا بالناس»، فبيَّن غاية المنع، وهو (6) أن يجد الثالث من يتحدث معه، كما فعل ابن عمر، وذلك: أنه كان يتحدث مع رجل، فجاء آخر (7) يريد أن يناجيه، فلم يناجه (8) حتى دعا رابعًا، فقال (9) له وللأول: تأخرا، وناجى الرجل الطالب للمناجاة (10) . وقد نبَّه في هذه الزيادة على التعليل =(5/524)=@
__________
(1) في (ح): «دون الثالث».
(2) في (ق): «الذي».
(3) قوله: «اثنان» سقط من (أ).
(4) في (ب) و(ح) و(ك) و(ق): «فيها».
(5) في (ق): «بالألف مقصورة» وكتب في الهامش «بألف مقصورة» ووضع (خ).
(6) في (أ): «وهي».
(7) في (ح) و(ك): «رجل آخر».
(8) في (ح): «يناجيه».
(9) في (ك): «وقال».
(10) "الموطأ" (2/988-989 رقم 13) في الكلام، باب ما جاء في مناجاة اثنين دون واحد، عن عبدالله بن دينار قال: كنت أنا وعبدالله بن عمر عند دار خالد بن عقبة التي بالسوق، فجاء رجل يريد أن يناجيه وليس مع عبدالله بن عمر أحد غيري وغير الرجل الذي يريد أن يناجيه، فدعا عبدالله بن عمر رجلاً آخر حتى كنا أربعة، فقال لي وللرجل الذي دعاه: استأخرا شيئًا، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يتناجى اثنان دون واحد».(5/524)
بقوله: «فإنَّ ذلك يحزنه»؛ أي: يقع في نفسه ما يحزن لأجله، وذلك (1) : بأن يقدر في نفسه: أن الحديث عنه بما يكره، أو لأنَّه (2) (3) لم يروه أهلاً ليشركوه في حديثهم، إلى غير ذلك من (4) ألقيات الشيطان، وأحاديث النفس. وحصل ذلك كله من بقائه وحده، فإذا كان معه غيره أمن ذلك ، وعلى هذا: يستوي في ذلك كل الأعداد، فلا يتناجى أربعة دون واحد، ولا عشرة، ولا ألفٌ مثلاً؛ لوجود ذلك المعنى في حقه، بل وجوده في العدد الكثير أمكن، وأوقع، فيكون بالمنع (5) أولى. وإنما خصَّ الثلاثة بالذكر لأنه أول (6) عدد يتأتى فيه ذلك المعنى. وظاهر هذا الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال. وإليه ذهب ابن عمر، ومالك، والجمهور. وقد ذهب بعض الناس: إلى أن ذلك كان في أول الإسلام؛ لأنَّ ذلك كان (7) حال المنافقين، فيتناجى (8) المنافقون دون المؤمنين (9) ، فلما فشا الاسلام؛ سقط ذلك. وقال بعضهم: ذلك خاصٌّ بالسفر، وفي (10) المواضع التي (11) لا يأمن الرجل فيها صاحبه. فأمَّا في الحضر، وبين العمارة: فلا.
قال الشيخ: وكل ذلك تحكُّم، وتخصيصٌ لا دليل عليه. والصحيح: ما صار إليه الجمهور. والله تعالى أعلم (12) بحقائق الأمور (13) . =(5/525)=@
__________
(1) في (ق): «لأجل ذلك».
(2) في (ك) و(ق): «أنه».
(3) في (ح): «أنهم».
(4) في (ق): «في» بدل «من».
(5) في (ق): «المعنى».
(6) في (ق): «أقل».
(7) قوله: «في أول الإسلام لأن ذلك كان» سقط من (ق).
(8) في (ق): «يتناجى».
(9) في (أ): «المؤمن».
(10) في (ب): «في».
(11) في (ب): «الذي».
(12) وقوله: «والله تعالى أعلم» سقط من (ك).
(13) قوله: «بحقائق الأمور» سقط من (ب) و(ح) و(ك) و(ق).(5/525)
20 - ومن باب جواز إنشاد الشعر وكراهية الإكثار منه
قوله: «عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: رَدِفْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - »؛ هكذا (1) صواب هذا السَّند وصحيح روايته، وقد وقع لبعض رواة كتاب مسلم: عن عمرو بن (2) الشريد، عن الشريد (3) ، عن أبيه، وهو وَهْمٌ؛ لأنَّ الشريد هو الذي أردفه النبي - صلى الله عليه وسلم - خلفه، واستنشده شعر أميَّة بن أبي الصلت، لا أبو الشريد. واسم أبي (4) الشريد (5) : سويد.
وقوله: «هل معك من شعر أميَّة بن أبي الصلت شيء ؟» دليلٌ على جواز حفظ الأشعار، والاعتناء بها، إنَّما (6) المكروه أن يغلب الاشتغال (7) بها على الإنسان، ويكثر منها كثرة تصدُّه (8) عن أهم منها، أو تفضي به إلى تعاطي أحوال مُجَّان (9) الشعراء وسخفائهم، فإنَّ الغالب من أحوال من انصرف إلى الشعر بكليته (10) ، وأكثر منه؛ أن يكون كذلك، واستقراء الوجود يحققه. وأما حفظ فصيح الشعر وجيده المتضمن للحكم والمعاني المستحسنة شرعًا وطبعًا: فجائز، بل ربما يلحق (11) ما كان منه حُكْمًا بالمندوب إليه (12) . وعلى الجملة: فلا أحسن مِمَّا قاله الإمام القرشي الصريح: الشعر كلامٌ حسنه حسن، وقبيحه قبيح.
وقوله: «هية» بكسر الهاء الأولى، وسكون الثانية للوقف. وهي: إيه؛ =(5/526)=@
__________
(1) في (ك): «هذا».
(2) في (ك): يشبه أن يكون (بن».
(3) قوله: «عن الشريد» سقط من (ك).
(4) قوله: «أبي» سقط من (ق).
(5) قوله: «واسم أبي الشريد» سقط من (ك).
(6) في (أ) و(ك) و(ح) و(ق): «وإنما».
(7) في (أ): «الإستغال».
(8) في (ط): «إكثارًا يصده» وفي (ح): «إكثارًا يقصره» وكأنه ضرب على قوله: «يقصره» وكتب في الهامش «كثرة تصده».
(9) في (ق): «مجاز».
(10) في (أ): «بكلية».
(11) في (ب): «يلتحق».
(12) قوله: «إليه» سقط من (ق).(5/526)
التي للاستزادة (1) ، وأبدل من الهمزة «ها» كما قد فعلوا ذلك في غير موضع. وهي اسم لفعل الأمر الذي هو: زِد (2) . وهي مبنية على الكسر لوقوعها موقع المبني؛ الذي هو الأمر. وفي الصحاح: إذا قلت: إيهِ يا رجل؛ فإنما (3) تأمره بأن (4) يزيدك من حديثه (5) المعهود. وإن قلت: إيهٍ - بالتنوين - كأنك قلت: هات حديثًا؛ لأنَّ التنوين تنكير.
وفيه دليلٌ على جواز إنشاد الشعر، واستنشاده؛ لكن ما لم ينته إلى الإطراب المخل بالعقل، المزيل للوقار، فإنَّ ذلك يحرم، أو يكره بحسب ما يفضي إليه. وإنَّما استكثر النبي - صلى الله عليه وسلم - من شعر أميَّة؛ لأنه كان حكمًا (6) . ألا ترى قوله (7) - صلى الله عليه وسلم - : «وكاد أميَّة بن أبي الصلت أن يسلم».
وقوله: «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد! ألا كل شيء ما خلا الله باطل»؛ الباطل هنا: أراد به (8) : المضمحل، المتغير؛ الذي هو (9) بصدد (10) أن يهلك، ويتلف (11) . وهذا نحو من قوله تعالى :{كل شيء هالك إلا وجهه} (12) . ولا شك في أن هذه الكلمات (13) أصدق ما يتكلَّم (14) به ناظمٌ أو ناثر؛ لأن مقدمتها الكليَّة =(5/527)=@
__________
(1) في (ح): «الاستزادة».
(2) في (ق): «زيد».
(3) في (ب) و(ح) و(ك) و(ق): «فإنك».
(4) في (ب) و(ح) و(ق): «أن».
(5) في (أ): «حديثك».
(6) في (ق): «حكيمًا».
(7) في (ق): «إلى قوله».
(8) قوله: «به» سقط من (ق).
(9) قوله: «هو» سقط من (ق).
(10) في (ق): يشبه «بصده».
(11) في (ق): «أو يتلف».
(12) الآية (88) من سورة القصص.
(13) في (أ): «الكلمة».
(14) في (ب) و(ح) و(ك) و(ق): «تكلم».(5/527)
مقطوعٌ بصحتها وشمولها (1) عقلاً ونقلاً، ولم يخرج (2) من كليتها شيء قطعًا إلا ما استثني فيها، وهو: الله تعالى، فإنَّه لم يدخل فيها قطعًا، فإنَّ العقل الصريح قد دلَّ على أن كل ما نشاهده من هذه الموجودات ممكن في نفسه، متغيِّر (3) في ذاته، وكل ما كان كذلك كان مفتقرًا إلى غيره، وذلك الغير إن كان ممكنًا متغيرًا (4) كان مثل الأول؛ فلا بدَّ أن يستند إلى موجود لا يفتقر إلى غيره، يستحيل عليه التغيُّر، وهو المعبَّر عنه في لسان النظَّار: بواجب الوجود. وفي لسان الشرع: بالصمد (5) المذكور في قوله (6) تعالى :{قل (7) هو الله أحد - الله الصمد} (8) ، وبقوله تعالى :{أن الله هو الحق المبين}، وعند الانتهاء إلى هذا المقام يفهم معنى قوله تعالى :{كل من عليها فان - ويبقى وجه ربك ذو (9) الجلال والإكرام} (10) . وللكلام في تفاصيل ما أجمل مواضع أخر.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - للشاعر الذي عرض له بالعَرْج: «خذوا الشيطان»، أو: «أمسكوا الشيطان»؛ إنما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الفعل مع هذا (11) الشاعر لما علم من حاله، فلعل هذا الشاعر كان ممن قد (12) عرف من حاله (13) : أنه قد اتَّخذ الشعر طريقًا للكسب (14) ، فيفرط في المدح إذا أعطي،وفي الهجو والذمِّ إذا مُنع، فيؤذي الناس في أموالهم =(5/528)=@
__________
(1) قوله: «وشمولها» سقط من (أ).
(2) في (ق): «تخرج».
(3) في (ق): «متعين» وكتب في الهامش «متغير» ووضع (نخـ).
(4) في (أ): «متعيرًا» وي (ق): «كان متغيرًا».
(5) في (ك) و(ح): «الصمد».
(6) في (ك): «بقوله» وكتب فوقها «في» ووضع بجانبها (خ).
(7) في (أ): «الشرع بقوله: «قل».
(8) الآية (1-2) من سورة الإخلاص.
(9) في (أ): «ذي».
(10) الآية (26-27) من سورة الرحمن.
(11) قوله: «هذا» سقط من (ق).
(12) قوله: «قد» سقط من (ح) و(ق).
(13) من قوله: «فلعل هذا الشاعر...» إلى هنا سقط من (ك).
(14) في (ح) و(ك): «للتكسب».(5/528)
وأعراضهم. ولا خلاف: في (1) أن كل (2) من كان على مثل (3) هذه الحالة فكل ما يكتسبه (4) بالشعر حرام، وكل ما يقوله حرام عليه من ذلك، ولا يحل الإصغاء إليه، بل يجب الإنكار عليه، فإنَّ لم يمكن ذلك؛ فمن (5) خاف من لسانه (6) تعيَّن (7) عليه أن يداريه ما استطاع، ويدافعه بما (8) أمكن، ولا يحل أن يعطي شيئًا ابتداء؛ لأنَّ ذلك عون على المعصية، فإن لم يجد (9) من ذلك بدًّا أعطاه بنية وقاية العرض، فما وقى به المرء عرضه (10) كتب له به صدقة.
وقوله: «لأن يمتليء جوف أحدكم قيحا يريه (11) خيرٌ له من أن يمتليء شعرًا»؛ القيح: الْمِدَّة يخالطها دمٌ. يقال منه: قاح الجرح، يقيح (12) . وتقيَّح، وقيَّح (13) . وصديد الجرح: ماؤه المختلط بالدَّم الرقيق قبل أن تغلظ الْمِدَّة.
و «يرية» قال الأصمعي: هو من الوَرْي، على مثال: الرِّي (14) . وهو: أن يَدْوى (15) جوفه. يقال منه: رجل مَورِيٌّ - مشدد غير مهموز - قال أبو عبيد: هو أن يأكل القيح جوفه. قال صاحب الأفعال: ورِيَ الانسان والبعير، ورى (16) : دوي (17) جوفه. وَوَرَاه (18) الدَّواء (19) ، ورْيًا: أفسده. ووريَ (20) الكلب: سَعرَ (21) أشدَّ السُّعار. وفي الصحاح: وَرِي القيحُ جوفَه، يَرِيه، وَرْيًا: إذا أكله، وأنشد (22) :
وراهُنَّ رَبِّي مِثل ما قد وَرَيْتَنِي (23)
وأنشد اليزيديُّ (24) :
قالت له وَرْيًا إذا تَنَحْنَحْ =(5/529)=@
__________
(1) قوله: «في» سقط من (ق).
(2) قوله: «كل» ليس في (أ).
(3) قوله: «مثل» سقط من (ب) و(ح) و(ك) و(ق).
(4) في (ك) و(ق): «يكسبه».
(5) في (ق): «ممن».
(6) في (أ): «لسانه قطعًا».
(7) في (ك): «تغين».
(8) في (ب) و(ك): «ما».
(9) في (أ): «تجد».
(10) في (ق): «عن عرضه».
(11) في (ق): «يريد».
(12) في (ق): «ويقيح».
(13) قوله: «وقيح» سقط من (ق).
(14) في (ب) و(ح) و(ك): «الرمي».
(15) في (ح) و(ق): «يروى».
(16) قوله: «ورى» سقط من (ك).
(17) في (ب) و(ق): «ذوي».
(18) في (ق): «وواراه».
(19) في (ك): «الداء».
(20) في (ح): «وروي».
(21) في (ق): «شعر».
(22) عبد بني الْحَسْحَاس، وعجزه: وأَحْمى على أكبادِهِنَّ المكاويا. "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/36).
(23) في (ب) و(ك): «ورينني» وفي (ق): «وريتني وكتب في الهامش «روينني» ووضع (نخـ).
(24) . . . .(5/529)
يقول (1) منه للواحد: رء (2) يا رجل. وللاثنين: رِيَا (3) . وللجماعة: رُوا (4) . وللمؤنثة: رِيْ. وللاثنتين (5) : رِيَا. ولجماعتهن: رَيْنَ. والاسم: الوَرَيُ (6) - بالتحريك -.
واختلف في تأويل هذا الحديث. فقيل: يعني بذلك: الشعر الذي هجي به النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره (7) ، وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ القليل من هجو النبي - صلى الله عليه وسلم - وكثيره سواء في أنه كفر ومذموم. وكذلك: هجو غير (8) النبي - صلى الله عليه وسلم - من المسلمين محرم (9) ؛ قليله وكثيره. وحينئذ لا يكون لتخصيص الذم بالكثير معنى. وقيل: إن (10) معناه: أن (11) من كان الغالب عليه الشعر لزمه (12) بحكم العادة الأدبيَّة الأوصاف المذمومة التي ذكرناها آنفًا. وهذا هو الذي أشار البخاري إليه (13) لما بوَّب على هذا الحديث: باب ما يكره من (14) أن يكون الغالب على الإنسان الشعر (15) .
21 - ومن باب قتل الحيات
قوله: «اقتلوا الحيَّات»؛ هذا الأمر وما في معناه من باب الإرشاد إلى دفع المضرَّة المخوفة من الحيَّات، فما كان منها متحقق الضرر وجبت المبادرة إلى قتله، كما قد أرشد إليه (16) قوله: «اقتلوا الحيَّات، واقتلوا ذا الطُّفيتين، والأبتر؛ فإنَّهما يخطفان البصر، ويُسقطان الحبل»؛ فخصَّهما بالذكر مع أنَّهما دخلا (17) في العموم، =(5/530)=@
__________
(1) في (ك) و(ق): «تقول».
(2) في (أ) و(ح) و(ق) و(ك): «ر».
(3) قوله: «ديا» سقط من (ق).
(4) ي (ق): «رويا».
(5) في (ح): «وللاثنين».
(6) في (ق): «الري».
(7) قوله: «أو غيره» سقط من (ب).
(8) في (ق): «غير هجو».
(9) في (ق): «حرام محرم».
(10) قوله: «إن» سقط من (ق).
(11) قوله: «معناه أن» سقط من (ك).
(12) في (ق): «لذمه».
(13) في (ق): «إليه البخاري».
(14) قوله: «من» سقط من (ب) و(ح) و(ك).
(15) قبل قوله: «الشعر» كلمة لم تتضح في (ك).
(16) في (ح): «أرشدنا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ».
(17) في (ك): «قد دخلا».(5/530)
ونبَّه على أن (1) ذلك بسبب (2) عظم ضررهما، ومالم يتحقَّق ضررُه: فما كان منها في غير (3) البيوت قُتل أيضًا؛ لظاهر الأمر العام في هذا الحديث، وفي حديث ابن مسعود (4) رضي الله عنه؛ ولأن نوع الحيَّات غالبه الضرر فيُستصحب (5) ذلك فيه، ولأنه كلُّه مُرَوِّع بصورته، وبما في النفوس من النُّفرة منه، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حيَّة» (6) . فشجَّع على قتلها. وقال فيما خرَّجه أبو داود (7) من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: «اقتلوا الحيَّات؛ فمن (8) خاف ثأرهنَّ فليس منِّي». وأما ما كان منها في البيوت؛ فما كان منها (9) بالمدينة، فلا يقتل حتى يؤذن ثلاثة أيام؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «إن بالمدينة جنًّا قد أسلموا فإذا رأيتم منها شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام» (10) ؛ وهل يختصُّ ذلك الحكم بالمدينة؛ لأنَّا لا نعلم هل أسلم من (11) جنِّ غير أهل المدينة أحد أم لا ؟ وبه قال ابن نافع. أو (12) لا يختص؟ وينهى عن قتل جنان (13) جميع البلاد حتى يُؤذَن (14) ثلاثة (15) ، وهو قول ما لك، وهو الأولى، لعموم نهيه عن قتل الجنان (16) التي تكون في البيوت؛ ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : «خمس فواسق يقتلن في الحلِّ والحرم» (17) وذكر فيهن الحيَّة، ولأنا قد علمنا قطعًا: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسول إلى الجنِّ والإنس، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلَّغ الرِّسالة للنَّوعين (18) ، وأنَّه قد آمن به خلق كثير من النوعين؛ بحيث لا يحصرهم بلد، ولا يحيط بهم عدد. والعجب من ابن نافع؛ كأنه لم تكن (19) له أذن سامع، وكأنه لم يسمع قوله تعالى :{وإذ صرفنا إليك نفرًا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما =(5/531)=@
__________
(1) قوله: «أن» سقط من (ك).
(2) في (ح): «على ذلك بسبب» وكتب بالهامش «على أن ذلك بسبب» وفي (ق): «يعظم سبب ضررهما».
(3) قوله: «غير» سقط من (ق).
(4) مسلم (4/1755 رقم2234 و2235) في باب قتل الحيات وغيرها من كتاب السلام.
(5) في (ب): «فيستحب».
(6) أخرجه الصيداوي في "معجم الشيوخ" (ص 88)، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (15/129) مخطوط. والقضاعي في "مسند الشهاب" (2/206 رقم 678/فتح الوهاب)، وأبو نعيم في "ألحلية" (6/199) من طريق حوشب ومطر الوراق، عن الحسن، عن عمران بن حصين قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطرف عمامتي من ورائي فقال: «يا عمران! إن الله عز وجل يحب الإنفاق ويبغض الإقتار، أنفق وأطعم ولا تصر صرًا فيعسر عليك الطلب، واعلم أن الله يحب البصر النافذ مجي الشهوات عند الشبهات، والعقل الكامل عند نزول الشبهات، ويحب السماحة ولو على تمرات، ويحب الشجاعة ولو على قتل حية زاد بن عساكر.
والحديث أورده القرطبي في "تفسيره" (1/35).
(7) أخرجه أبو داود (5/409-410 رقم5249) في الأدب، باب في قتل الحيات، والنسائي (6/5 رقم3193) في الجهاد، باب من خان غازيًا في أهله، والطبراني في "الكبير" (9/351 رقم9747)، و(10/170 رقم10355). ثلاثتهم من طريق شريك، عن أبي إسحاق، عن القاسم بن عبدالرحمن، عن أبيه، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكره.
شريك هو ابن عبدالله القاضي، صدوق يخطيء كثيرًا، تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة، كما في "التقريب" (ص436 رقم2802)، لكن الحديث صحيح لغيره، فإن له شواهد :
منها ما أخرجه أحمد (2/432) عن يحيى بن سعيد، وأبو داود (5/409 رقم5248) في الأدب، باب في قتل الحيات، عن إسحاق بن إسماعيل، عن سفيان بن عيينة.
ثلاثتهم - يحيى بن سعيد، وصفوان بن عيسى، وابن عيينة -، عن ابن عجلان، عن أبيه، عن جده، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما سالمناهن منذ حاربناهن، فمن ترك منهن شيئًا خيفة فليس مني». وقد وقع التصريح بسماع ابن عجلان من أبيه، في رواية أحمد عن يحيى بن سعيد. وأخرجه الحميدي (2/489 رقم1156)، وأحمد (2/247)، وابن حبان (12/461 رقم5644). ثلاثتهم من طريق سفيان، عن ابن عجلان، عن بكير بن عبدالله، عن عجلان، عن أبي هريرة، فذكره.
وكلا الطريقين صحيح، فقد سمعه ابن عجلان، عن أبيه، وبكير بن عبدالله، ومنها ما أخرجه عبد الرزاق (10/434 رقم 19617) عن معمر، عن أيوب عن عكرمة، عن ابن عباس.
ومن طريق عبدالرزاق: أخرجه أحمد (1/348)، والطبراني في "الكبير" (11/249 رقم11846)، والبزار (2/72 رقم1232/كشف)، والبغوي في "شرح السنة" (12/195 رقم3265). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (5/88 رقم3254).
وأخرجه أحمد (1/230)، وأبو داود (5/410 رقم5250) في الموضع السابق، والطبراني في "الكبير" (11/239 رقم11801)، ثلاثتهم من طريق موسى بن مسلم، قال: سمعت عكرمة يرفع الحديث فيما أرى إلى ابن عباس، فذكره. وصححه أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (3/328 رقم2037). والحديث صححه الألباني في "صحيح الجامع" (1/255 رقم1149).
وفي الباب من حديث ابن مسعود عند أحمد (1/420)، وابن حبان (12/446 رقم5630)، والطبراني في "الكبير" (10/209-210 رقم10492).
وسنده ضعيف لانقطاعه، واختلف في رفعه ووقفه. انظر "العلل" لابن أبي حاتم (2/322-323 رقم2486)، و"المجمع" (4/45).
وعن عثمان بن أبي العاص عند الطبراني في "الكبير" (9/46 رقم8344)، والبزار (2/72 رقم1231/كشف).
قال الهيثمي في "المجمع" (4/46): «رواه البزار، والطبراني في "الكبير"، وفيه عبدالرحمن ابن إسحاق، وأبو شيبة الواسطي، وهو ضعيف».
وعن جرير عند الطبراني في "الكبير" (2/311 و335 رقم2294 و2396)، والعقيلي (2/33-34). وسنده ضعيف. انظر "المجمع" (4/46).
(8) قوه: «فمن» لم ينقط الفاء في (ك).
(9) قوله: «منها» سقط من (ح).
(10) سيأتي في الباب التالي.
(11) في (ق): «منهم جن» وكتب ي الهامش «من جن» ووضع (خ).
(12) في (ب): «و».
(13) في (ق): «حيات».
(14) في (ب) و(ح): «يؤذنه».
(15) في (ب) و(ح): «ثلاثة أيام».
(16) في (ق): «الحيات».
(17) تقدم في باب ما يقتل المحرم من الدواب من كتاب الحج.
(18) زاد بعدها في (ق): «الجن والإنس».
(19) في (ك): «يكن».(5/531)
قضي ولو إلى قومهم منذرين} (1) ، ولا (2) قوله - صلى الله عليه وسلم - : «إن وفد (3) جنِّ نصيبين أتوني ونعم الجنُّ هم فسألوني (4) الزاد. . . » (5) الحديث (6) . فهذه نصوص في أن من (7) جن غير المدينة من أسلم فلا يُقتل شيء منها حتى يُحَرَّج (8) عليه، كما تقدَّم. فتفهَّم (9) هذا العقد، وتمسَّك به. فهو الذي يجمع بين أحاديث هذا الباب المختلفة (10) .
تفسير ما جاء (11) في أحاديث الحيَّات (12) من الغريب
الحيَّات: جمع حيَّة، ويقال (13) على الذَّكر والأنثى، كما قال :
خَشَاشٌ كَرَأسِ الحيَّةِ الْمُتَوَقِّدِ (14) (15)
وإنما دخلته (16) الهاء لأنه واحدٌ من جنس (17) ، كبطة، ودجاجة؛ على أنَّه قد روي عن العرب: رأيت حيًّا على حيَّةٍ؛ أي: ذكرًا على أنثى. والحيُّوت (18) : ذكر الحيات، وأنشد الأصمعي (19) :
ويأكل الحيَّة والحيُّوتا
و «ذو (20) الطفيتين»: ضرب من الحيَّات في ظهره خطَّان أبيضان، وعنهما عبَّر بالطُّفيتين. وأصل الطُّفية - بضم الطاء -: خوص (21) المقل، فشبَّه الخط الذي على =(5/532)=@
__________
(1) الآية (29) من سورة الأحقاف.
(2) في (ق): «ولأن».
(3) قوله: «وقد» سقط من (ق).
(4) في (ك): «يسألوني» وكتب في الهامش «فسألوني».
(5) البخاري (7/171 رقم3860) في مناقب الأنصار، باب ذكر الحيَّة، وقول الله تعالى :{قل أوحي إلي أنه استمع نفرٌ من الجن}.
(6) قوله: «الحديث» سقط من (ح).
(7) في (ق): «قد» بدل «من».
(8) في (أ) و(ق): «يخرج».
(9) في (ق): «فيفهم».
(10) في (ح) و(ق): «بين هذه الأحاديث المختلفة» وكتب في هامش (ق): «بين أحاديث هذا الباب» ووضع (نسخه).
(11) في (أ): يشبه أن تكون (جاء).
(12) في (ح): «الحبات».
(13) في (ق): «فيقال».
(14) في (ق): «المستوقد» وكتب في الهامش «المتوقد» ووضع (خ)
(15) هذا عجز البيت لطرفة بن العبد، وصدره: أنا الرَّجُلُ الضَّرْبُ الذي تعرفونه. "المعلقات السبع" (ص60).
(16) في (ق): «دخلت».
(17) في (ح): «جنسه».
(18) في (ح): «والحبوت».
(19) في "الصحاح" (. . . ).
(20) في (ك): «وذا».
(21) في (ق): «حوض».(5/532)
ظهر هذه الحيَّة به (1) ، وربَّما قيل لهذه الحيَّة: طُفْيَةٌ؛ على معنى: ذات طفية. قال الشاعر:
كما تَذِلُّ (2) الطُّفَى مِن رُقْيَة الرَّاقي (3)
أي: ذوات الطُّفَى. وقد يسمى الشيء باسم ما يجاوره. وقال الخليل في ذي الطفيتين: هي حيَّه، لينة (4) خبيثة. و «الأبتر»: الأفعى؛ سميت بذلك لقصر ذنبها (5) . وذَكَر الأفعى: أفعوان. وقال النضر بن شميل في الأبتر: إنه صنف من الحيَّات أزرق مقطوع الذنب.
و «يلتمسان»: يطلبان. هذا أصله، ومعناه هنا: يخطفان البصر، كما قد جاء (6) **كذا في (أ) ** في الرواية الأخرى. وقد روي: «يلتمعان» و «يطمسان» وكلها بمعنى واحد.
و «يتبعان ما في بطون النِّساء»؛ أي: يسقطان (7) الحبل، كما جاء في الرواية الأخرى، وظاهر هذا: أن هذين النوعين من الحيَّات لهما (8) من الخاصية ما يكون عنهما (9) ذلك، ولا يستبعد هذا، فقد (10) حكى أبو الفرج الجوزي في كتابه المسمى بـ"كشف المشكل لما في الصحيحين": أن بعراق العجم أنواعًا من الحيَّات يهلك الرائي لها بنفس رؤيتها، ومنها من يهلك المرور (11) على طريقها، وذكر غير ذلك. ولا يلتفت إلى قول من قال: إن ذلك (12) بالترويع (13) ؛ لأنَّ ذلك الترويعَ ليس خاصًّا =(5/533)=@
__________
(1) قوله: «به» سقط من (ق).
(2) في (ح): «تدل».
(3) للهذلي، وصدر البيت: وهم يُذِلُّونها من بَعْدِ عِزَّتها. "الفائق في غريب الحديث" (2/363).
(4) قوله: «لينة» مطموس في (أ) وبياض في (ك).
(5) في (ح): «ذنها».
(6) قوله: «قد» سقط من (ب) و(ق).
(7) في (ق): «فيسقطان».
(8) في (ق): «لها».
(9) في (أ) و(ك): «عنها» وفي (ق): «منهما».
(10) في (ق): «وقد».
(11) في (أ): «المرء».
(12) في (ق): «هذا» بدل «ذلك».
(13) في (ب): «بالتوهم».(5/533)
بهذين (1) النوعين، بل يعمُّ جميع الحيَّات، فتذهب خصوصيَّة هذا النوع بهذا الاعتناء (2) العظيم، والتحذير الشديد، ثمَّ: إن صحَّ هذا في طرح الحبل، فلا يصحُّ في ذهاب البصر، فإنَّ الروع (3) لا يذهبه.
و «الجنَّان» بتشديد النون: جمع: الجانِّ (4) ، وهو أبو الجنِّ. هذا أصله. والجانُّ (5) في (6) الحديث: هو حيَّه بيضاء صغيرة رقيقة (7) . هكذا ذكر النقلة، والظاهر من الجنان المذكور في الحديث: أن المراد به: الجانُّ (8) ، فإنَّ قيل: فقد وصف الله تعالى الحيَّة المنقلبة عن عصا موسى - صلى الله عليه وسلم - بأنها جانٌّ (9) ، وأنَّها ثعبان عظيم؛ فالجواب: إنه إنما كانت ثعبانًا عظيمًا في الخِلْقة، ومثل الحيَّة الصغيرة الدقيقة (10) في الخفة والسرعة، ألا ترى قوله تعالى :{تهتز كأنَّها جانٌّ} (11) ، هكذا قال أهل اللغة (12) ، وأرباب المعاني. وعلى الجملة: فأصل (13) هذه البنية من: ج – ن (14) ؛ للسترة (15) والتستر أينما وقعت، فتتبعها تجدها (16) كذلك. ووبيص الجان وغيره: لمعانه وبريقه. قال عياض (17) : وقيل: الجنَّان: ما لا يتعرض (18) للناس، والجِنَّل (19) : ما يتعرَّض لهم ويؤذيهم، وأنشدوا:
تَنَازَع جِنَّان وَجِنٌّ وَجِنَّلُ (20)
وعن ابن عبَّاس (21) وابن عمر (22) رضي الله عنهم: الجنَّان: مسخ الجنِّ كما مسخت القردة (23) (24) من بني إسرائيل. وعوامر (25) البيوت: هي ما يعمره من الجن، فيتمثل (26) في صور (27) الحيَّات وفي (28) غيرها. =(5/534)=@
__________
(1) في (ح): يشبه «فهذين».
(2) في (ك): «الاعتناء» وكتب في الهامش «الاعتبار» ووضع (خ) وفي (ق): «الاعتبار».
(3) في (ب) و(ح): «الترويع».
(4) في (ك): «للجان».
(5) في (ب) و(ح) و(ك) و(ق): «والجنان».
(6) في (ح) و(ك): «في هذا».
(7) في (ب): «دقيقة».
(8) في (ب) و(ق): «الحيات» وفي (ك): «الجانّ» وألحق في الهامش «الحيات» ووضع فوقها (خ).
(9) في (ق): «جنان» وكتب في الهامش «جان» ووضع (خ).
(10) قوله: «الدقيقة» سقط من (ح) وفي (ق): «الرقيقة».
(11) الآية (10) من سورة النمل.
(12) في (ق): «أرباب اللغة» وكتب في الهامش «أهل العلة» ووضع (خ).
(13) في (ك): «فحاصل» وألحق في الهامش «فأصل» ووضع (خ).
(14) في (ق): «جن».
(15) في (ق): «السترة».
(16) في (ق): «يجدها».
(17) في (ح): «عياش».
(18) في (ق): «ما كان يتعرض».
(19) في (أ): «الجيل»، ولم تنقط في (ح).
(20) في (ح): «خبل».
(21) حديث ابن عباس ورد مرفوعًا وموقوفًا :
فأما المرفوع فأخرجه ابن حبان في "صحيحه"(12/457-458 رقم5640)، والبزار كما في "كشف الأستار" (2/72 رقم1232)، وعبدالله بن أحمد بن حنبل في زياداته على "المسند" (1/348). وانظر التنبيه في آخر التخريج، ومن طريقه أخرجه الطبراني في "الكبير" (11/270 رقم11946)، و"الأوسط" (4/304 رقم4269)، وأبو الشيخ في "العظمة" (5/1642 رقم1085)، وابن أبي حاتم في "علله" (2/290 رقم2372) من حديث عبدالعزيز بن المختار، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . . . . يرفق باقي التخريج للنظر فيه.
(22) أخرجه ابن عبدالبر في "التمهيد" (16/21) من حديث حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع: أن ابن عمر كان يقتل الحيات كلها، ويقول: إن الجنان مسخ الجن، كما مسخت القردة من بني إسرائيل. . الحديث.
(23) في (ق): «القرود».
(24) حديث ابن عباس ورد مرفوعًا وموقوفًا.
فأما المرفوع فأخرجه ابن حبان في صحيحه (12/457 – 458 رقم 5640) والبزار كما في كشف الأستار (2/72 رقم 1232) وعبد الله بن أحمد بن حنبل في زياداته على المسند (1/348) – وانظر التنبيه في آخر التخريج – ومن طريقه الطبراني في الكبير (11/270 رقم 11946) والأوسط (4/304 رقم 4269) وأبو الشيخ في العظمة (5/1642 رقم 1085) وابن أبي حاتم في علله (2/290 رقم 2372) من حديث عبد العزيز من المختار عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الحيات مسخ الجن كما مسخت القردة والخنازير من بني إسرائيل هذا لفظة أبي الشيخ:
قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الكبير والأوسط والبزار بالاختصار ورجاله رجال الصحيح.
وقد صححه الألباني في صحيح الجامع (3203) والصحيحة (1824) وعبد العزيز بن المختار قد خولف.
فرواه معمر عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس موقوفًا أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10/ 434 رقم 19617) ومن طريقه البغوي في شرح السنة (12/ 195 رقم 3265) وأحمد في المسند (1/348) والطبراني في الكبير (11/249 رقم 11846).
وأخرجه ابن أبي شيبة عن الثقفي، عن أيوب، به(4/267 رقم 1901 ولفظه عند البغوي (... فقال ابن عباس إن الجان مسخ الجن كما مسخت القردة في بني إسرائيل».
وأخرجه البزار بعد الوضع السابق عن الحسن بن مهدي عن عبد الرزاق عن معمر، إلا أنه ثقال في آخره: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: بنحوه أو قريب منه.
قال ابن أبي حاتم في العلل (... فسمعت أبا زرعة يقول هذا الحديث هو موقوف لا يرفعه إلا عن العزيز بن المختار ولا بأس الحديثة» «قلت وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وقد أعل بما لا يقدح فقال ابن أبي حاتم ثم ذكر كلام ابن أبي حاتم المتقدم ثم قال «قلت: وهو ثقة محتج به في الصحيحين، وقد خالفه من هو مثله أو دونه في الحفظ وهو معمر عن أيوب عن عكرمة به موقوفًا أخرجه الطبراني أيضا. قلت وهذا إسناد صحيح أيضا على كلام يسير في معمر وزيادة الثقة مقبولة في مثل ما نحن فيه. والله أعلم..
والحديث أيضا صححه بطريقيه المرفوع والموقوف الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند (5/88 رقم 3254، 3255).
ويلاحظ أن الحديث جاء بلفظ الجان عند أحمد والبغوي وابن أبي شيبة وجاء بلفظ الحباب عند أحمد أيضا والطبراني في المواضع الثلاثة وأبي الشيخ وابن حبان وابن أبي حاتم والبزار وإن كان جاء في كشف الأستار بلفظ الحية إلا أنه جاء في المجمع بلفظ الحيات – وابن مردوية وجاء بلفظ الجنان في بعض نسخ مسند أحمد كما في تعليق الشيخ أحمد شاكر على المسند وقال أن لفظ الجان «تحريف».
ولم يأت مسندًا فيما وقفت عليه – من حديث ابن عباس – إلا عند أحمد وورد بدون إسناد من قول ابن عباس عن المنذري في الترغيب والترهيب (3/585 بعد رقم 4394) وابن عبد البر في التمهيد (16/18، 268).
تنبيه:
1 – جاء هذا الحديث في النسخ المطبوعة والنسخ المخطوطة على أنه من رواية الإمام أ؛مد، والصوابُ أنه من رواية ابنه عبد الله، فهوة المعروف بالرواية عن إبراهيم الحجاج السامي، ولا يعرف لأحمد عن إبراهيم رواية، ومما يؤيد ذلك أن الطبراني أخرجه في المعجم الكبير (11946) عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني إبراهيم بن الحجاج السامي، فذكره وزاد في آخره «كما مسخت القردة والخنازير من بني إسرائيل تعليق شعيب الأرناؤوط على مسند أحمد (5/305).
(25) في (ك): يشبه أن تكون «وعوامر».
(26) في (ب): «يتمثل».
(27) في (ق): «صورة».
(28) قوله: «في» سقط من (ك).(5/534)
وقول (1) ابن مسعود رضي الله عنه: «أنزلت {والمرسلات عُرْفًا (2) }؛ فنحن (3) نأخذها من فيه رطبة»؛ أي: مُستطابة، سهلة كالثمرة الرَّطبة، السهلة الجنَى. وقيل: معناه: أي: نتلقاها لنسمعها (4) منه لأول نزولها، كالشيء الرَّطب في أول أحواله. والأول أوقع تشبيهًا، ويدلّ عليه: قوله - صلى الله عليه وسلم - في الخوارج: «يقرؤن القرآن رطبًا لا يجاوز حناجرهم» (5) ؛ أي: يستطيبون تلاوته، ولا يفهمون معانيه. =(5/535)=@
__________
(1) في (ق): «وقال».
(2) قوله: «عرفًا» سقط من (أ).
(3) في (أ): «فبحق» وفي (ح): «نحن»..
(4) في (ك): «نسمعها».
(5) تقدم في كتاب الإيمان، باب يجب الرضى بما قسم الله عز وجل.(5/535)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «وقاها الله (1) شرَّكم»؛ أي: قتلكم لها؛ فإنَّه شرٌّ بالنسبة لها؛ وإن كان خيرًا بالنسبة إلينا.
وقوله: «كما وقاكم (2) شرَّها»؛ أي: لسْعَها. وفيه: دلالة على صحة ما ذكرناه من استصحاب أصل الضرر (3) في نوع الحيَّات.
وقول أبي سعيد: فكان (4) ذلك الفتى يستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنصاف النهار (5) »؛ إنَّما (6) كان الفتى يستأذن(2) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امتثالاً لقوله تعالى:{وإذا كانوا معه على أمرٍ جامع لم يذهبوا حتى يستئذنوه} (7) ، وكانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حفر الخندق. وأنصاف: جمع نصف، كحِمْل وأحمال، وعِدل وأعدال. وكأن هذا الفتى كانت عادته أن يستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - كل يوم من تلك الأيام في نصف (8) النهار، فيأذن له في الانصراف إلى أهله. والباء في: بأنصاف (9) بمعنى: في، كما تقول: جاء زيد بثيابه؛ أي: فيها. =(5/536)=@
__________
(1) في (ق): «وقاه الله» وكتب في الهامش «وقاها الله» ووضع (خ).
(2) في (ح): «وقاكم الله».
(3) في (ح) و(ك): «النظر».
(4) في (ح): «وكان» وفي (ك): (كان» وفي (ق): «فكان» وكتب في الهامش «وكان» ووضع (خ).
(5) قوله: «النهار» مكانه بياض في (ب).
(6) في (ق): «وإنما».
(7) الآية (62) من سورة النور.
(8) قوله: «نصف» بياض في (ك).
(9) في (ق): «بأنصاف النهار».(5/536)
وقوله (1) : «فأهوى إليها بالرُّمح (2) ليطعنها»؛ أي: أماله إليها إرهابًا ومبالغة في الزَّجر. وحمله على ذلك فرط الغيرة، وما كان بالذي يطعنها.
وقولهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين مات الفتى: «ادع الله أن يحييه لنا»؛ قول أخرجه منهم كثرة ما كانوا يشاهدون من إجابة دعواته وعموم بركاته، ولما (3) روى أئمتنا في كتبهم: أن رجلاً وأد ابنته (4) ثم أسلم، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله: أن يدعو الله في (5) أن يحييها له، فانطلق معه إلى قبرها، فدعا، فناداها، فأحياها الله تعالى، فتكلمت معهما، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أتريدين أن تنطلقي مع أبيك ؟ أو ترجعي إلى ما كنت فيه ؟» فاختارت الرُّجوع إلى قبرها (6) .
وقوله: «إنَّ بالمدينة جنًّا قد أسلموا»؛ قد بيَّنَّا: أن بغير المدينة أيضًا (7) جنًّا قد! أسلموا، فيلزم التسوية بينها وبين غيرها في المنع من قتل الحيَّات إلا بعد الإذن. =(5/537)=@
__________
(1) في (ح): «قوله» بلا واو.
(2) قوله: «بالرمح» سقط من (ح).
(3) في (ب): «ومما».
(4) في (ب): «بنته» وفي (ق): «رأى بنته».
(5) قوله: «في» سقط من (ق).
(6) انظر"حجة الله على العالمين" للنبهاني (1/422).
(7) قوله: «أيضًا» سقط من (ب) و(ح) و(ك) و(ق).(5/537)
ولا يفهم من هذا الحديث: أن هذا الجان (1) الذي قتله الفتى كان مسلمًا، وأن الجنَّ قتلته به (2) قصاصًا؛ لأنَّه لو سلم: أن القصاص مشروع بيننا وبين الجن، لكن (3) : إنما يكون في العمد المحض، وهذا الفتى لم يقصد، ولم يتعمد قتل نفس مسلمة؛ إذ لم يكن عنده علم من ذلك، وإنما قصد إلى (4) قتل ما سوَّغ له (5) قتل نوعه شرعًا، فهذا قتل خطأ، ولا قصاص فيه. فالأولى أن يقال: إن كفار الجن، أو (6) فسقتهم قتلوا الفتى بصاحبهم عدوانًا وانتقامًا، وإنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إن بالمدينة جنًّا قد أسلموا. . . » إلى آخر الحديث؛ ليبين طريقًا يحصل به التحرُّز من (7) قتل المسلم منهم، ويتسلط (8) به (9) على قتل الكافر (10) منهم، ولذلك قال (11) - صلى الله عليه وسلم - : «فإذا رأيتم منها شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنما هو شيطان»، ولذلك قال مالك: أحبُّ إلي أن ينذروا (12) ثلاثة (13) أيام. قال عيسى بن دينار: ينذر ثلاثة أيام، وإن ظهر في اليوم مرارًا، ولا (14) يقتصر على إنذاره ثلاث مرار (15) في يوم واحد حتى يكون في ثلاثة أيام.
قال الشيخ: وهذا تنبية: على أن من الناس من يقول: إن الإذن ثلاث مرَّات (16) ، وهو الذي (17) يفهم (18) من قوله: «فليؤذنه ثلاثًا (19) »، ومن قوله: «وحرجوا (20) عليه ثلاثًا»؛ لأنَّ ثلاثًا للعدد المؤنث، فيظهر: أن المراد ثلاث مرَّات، والأولى (21) : ما صار إليه مالك؛ لأنَّ قوله: «ثلاثة أيام» نصٌّ صحيح، مقيَّد لتلك المطلقات، فلا يُعدل عنه، ويمكن أن يحمل تأنيث العدد على إرادة ليالي الأيام الثلاث (22) ، فغلب الليلة على عادة العرب في باب التاريخ، فإنَّها تغلب فيها (23) التأنيث.
وقوله: «فحرِّجوا (24) عليها ثلاثًا». قال مالك (25) رحمه الله: يكفي في الإنذار أن يقول: أحرِّج (26) عليك بالله واليوم الآخر ألا تبدو (27) لنا، ولا تؤذوننا (28) . وحكى ابن حبيب عن =(5/538)=@
__________
(1) في (ك): «الحان».
(2) قوله: «به» سقط من (ح).
(3) في (ب): «لكان».
(4) قوله: «إلى».
(5) في (ب): «من يسوغ».
(6) في (ح) و(ق): «و» بدل «أو».
(7) في (ق): «عن» بدل «من».
(8) في (ب): «ويسلط».
(9) قوله: «به» سقط من (ب).
(10) في (ق): «الكفار».
(11) في (ح): «قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ».
(12) في (ح): «ينذر».
(13) في (ك) لم ينقط حرفي الثاء في قوله: «ثلاثة».
(14) في (ح): «لا» بلا واو.
(15) في (ب): «مرات».
(16) في (ق): «مرار».
(17) قوله: «الذي» سقط من (ب).
(18) في (ح): يشبه «تفهم».
(19) في (ق): «ثلاثة».
(20) في (ح): «حرجوا» بلا واو وفي (ك) «فحرجوا» وفي (ق): «وخرجوا».
(21) في (أ): «والأول».
(22) في (ب) و(ق): «الثلاثة»، وسقط من (ح).
(23) في (ب): «فيه» وفي (ق): «فيها» وكتب في الهامش «فيه» ووضع (خ).
(24) في (ق): «فخرجوا».
(25) كتب فوق قوله: «مالك» في نسخة (ك) حرف: «لا» فينظر.
(26) في (ق): «أخرج».
(27) في (ح): «تبدوا».
(28) في (ب) و(ك): «تؤذينا».(5/538)
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه يقول: «أنشدكن بالعهد الذي أخذ (1) عليكن سليمان ألا (2) تؤذوننا (3) ، وألا(2) تظهرن علينا» (4) .
23 - ومن باب قتل الأوزاغ (5)
الوَزَغة: دُوَيبة مستخبثة مستكرهه، وتُجمع (6) : وزغ، وأوزاغ، ووزغان. وأَمْرُه - صلى الله عليه وسلم - بقتله لما يحصلَ (7) منه من الضرر والأذى الذي (8) هي عليه من الاستقذار المعتاد، والنَّفرة المألوفة؛ التي قد (9) لازمت الطباع، ولما يُتَّقى أن يكون فيها سُمٌّ، أو شيء يضر متناولَه، ولما روي: من (10) أنها أعانت على وقود نار (11) إبراهيم عليه السلام؛ فإنَّها كانت تنفخ فيه (12) ليشتعل (13) (14) ، وهذا من نوع (15) ما روي في الحيَّة: أنَّها أدخلت إبليس إلى الجنَّة بين فكيها (16) ، فعوقبت بأن أُهبطت مع من أُهبط، وجُعلت العداوة بينها =(5/539)=@
__________
(1) في (ق): «أخذه».
(2) في (أ) و(ب): «أن».
(3) في (أ): «تؤذننا».
(4) أخرجه أبو داود (5/415 رقم5260) في الأدب، باب قتل الحيات، والترمذي (4/66 رقم1485) في الأحكام والفوائد، باب ما جاء في قتل الحيات، والنسائي في "الكبرى" (6/241 رقم10804)، والطبراني في "الكبير" (7/79 رقم 6428 و6459). جميعهم من طريق محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن ثابت البناني، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: قال أبو ليلى: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكره. قال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه من حديث ثابت البناني إلا من هذا الوجه من حديث بن أبي ليلى».
وقال البغوي في "شرح السنة" (12/194): «وهذا حديث غريب، لا يعرف من حديث ثابت البنابي، إلا من حديث بن أبي ليلى».
وقال الألباني في "الضعيفة"(4/17-18 رقم1508): «قلت: ومحمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى الكوفي القاضي، وهو صدوق سيء الحفظ جدًّا، فالإسناد من أجل ذلك ضعيف».
(5) في (ق): «الوزغ».
(6) في (ق): «ويجمع».
(7) في (ح): يشبه «يتحصل».
(8) في (ب): «للذي».
(9) في (ح): «التي لا قد».
(10) قوله: «من» لم تتضح في (ك).
(11) قوله: «نار» سقط من (ح).
(12) في (ك): «فيه» وكتب تحتها «فيها» وفي (ق): «فيها».
(13) في (ق): «لتشعل».
(14) البخاري (6/389 رقم3355) في الأنبياء، باب قول الله تعالى :{واتخذ الله إبراهيم خليلاً}، وقوله :{إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله}.
(15) في (ك): «نحو» وكتب تحتها «نوع» ووضع (ح).
(16) هذا الأثر ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/130 و131)، وعزاه إلى ابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن مسعود، وناس من أصحابه، وعزاه أيضًا إلى عبدالرزاق وابن جرير، عن ابن عباس.
وذكره الإمام عبدالرزاق في «تفسيره" (1/2/226 و227) من قول وهب بن منبه، وابن جرير الطبري (1/525 و533 رقم 742 و752). قال الطبري (1/532): «فأما سبب وصوله إلى الجنة حتى كلم آدم بعد أن أخرجه الله منها وطرده عنها، فليس فيما روي عن ابن عباس ووهب بن منبه في ذلك معنى يجوز لذي فهم مدافعته؛ إذ كان ذلك قولاً لا يدفعه عقل ولا خبر يلزم تصديقه من حجة بخلافه، وهو من الأمور الممكنة، فالقول في ذلك أنه قد وصل إلى خطابهما على ما أخبرنا الله جل ثناؤه، وممكن أن يكون وصل إلى ذلك بنحو الذي قاله المتأولون؛ بل ذلك إن شاء الله كذلك لتتابع أقوال أهل التأويل على تصحيح ذلك».
وقال محقق "تفسير عبدالرزاق" الدكتور مصطفي مسلم (1/2/227): «هذه الروايات من الإسرائيليات، كما هو واضح من إسنادها إلى وهب بن منبه، وهو من أقطاب الإسرائيليات».(5/539)
وبين بني آدم، ويشهد (1) لهذا قوله - صلى الله عليه وسلم - : «ما سالمناهنَّ مُذ (2) عاديناهنَّ» (3) . وهذا كله مذكور في كتب المفسِّرين.
وقول عائشة: «إنَّه قال للوَزَع (4) : الفويسق (5) »؛ إنما سمي بذلك لخروجه عن مواضعه، أو عن جنس الحيوانات للضرر. وقيل: لأنَّها خرجت عن حكم الحيوانات المحترمة شرعًا. وقد تقدَّم: أن أصل الفسق في اللغة: الخروج مطلقًا، وأنَّه اسم مذمومٌ في الشرع.
وقولها: «إنها لم تسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بقتله (6) »؛ لا حجَّة فيه على نفي القتل؛ إذ قد نقل الأمر بقتله أمُّ شريك وغيرها، ومن نقل حجَّة على من لم ينقل.
وقوله: «من قتل وزغة في أول ضربة، فله كذا وكذا حسنة»؛ هذا عدد =(5/540)=@
__________
(1) في (ق): «وليشهد».
(2) في (ق): «منذ».
(3) تقدم تخريجه في باب قتل الحيات وذي الطفيتين والأبتر.
(4) في (ح): «للوزغ» وفي (ق): «الوزع».
(5) في (ب): «الفويسيق».
(6) في (ق): «بقتلها».(5/540)
مبهمٌ (1) فسَّرته الرواية الأخرى؛ التي قال فيها: «مئة حسنة»، أو «سبعون»، ولم يقع تفسيرٌ للعدد (2) الذي في الضربة الثانية، ولا الثالثة، غير أن الحاصل: أن قتلها في أوَّل ضربة فيه من الأجر أكثر مِمَّا (3) في الثانية، وما في الثانية أكثر مما (4) في الثالثة. وقد (5) قيل: إنما كان ذلك (6) للحض على المبادرة لقتلها، والجد فيه، وترك التواني لئلا تفوت سليمة.
قال الشيخ رضي الله عنه: ويظهر لي وجه آخر، وهو: أن قتلها وإن كان مأمورًا به لكن لا تعذب بكثرة الضرب عليها، بل ينبغي أن يجهز عليها في أوَّل ضربة. ويشهد لهذا نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن تعذيب الحيوان (7) ، وقوله: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح (8) » (9) ، والله تعالى أعلم. =(5/541)=@
__________
(1) في (ح): «منهم».
(2) في (ب) و(ح) و(ك) و(ق): «العدد».
(3) في (ق): «ما» بدل «مما».
(4) في (ق): «ما» بدل «مما».
(5) قوله: «قد» سقط من (ق).
(6) في (ك): «وقد قيل إن ذلك».
(7) يشير إلى ما تقدم في الصيد والذبائح، باب النهي عن صبر البهائم، عن أنس: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تصبر البهائم.
(8) في (ك): «الذِبحَة».
(9) تقدم في باب الأمر بإحسان الذبح، من كتاب الصيد والذبائح.(5/541)
24 - ومن باب كراهية قتل النمل إلا أن يكثر ضررها (1)
قوله: «إن نملة قَرَصَت نبيًّا من الأنبياء، فأمر بقرية النمل فأحرقت»؛ هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت العقوبة للحيوان بالتحريق جائزة في شرعه، ولذلك إنَّما عاتبه الله تعالى في إحراق (2) الكثير من النَّمل، لا في أصل الإحراق (3) . ألا ترى قوله: «فهلا نملة واحدة ؟!» أي: هلا حرقت (4) واحدة! وهذا بخلاف شرعنا، فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد (5) نهى عن التعذيب بالنار، وقال: «لا يعذب بالنار إلا الله» (6) ، وكذلك أيضًا كان قتل النمل مباحًا في شريعة ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنَّ الله لم يعتُبه على أصل قتل النمل. وأما شرعنا: فقد خرَّج أبو داود (7) من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد (8) نهى عن قتل أربع من الدواب: النَّملة، والنحلة، والهدهد، والصُّرد. وقد (9) كره مالك قتل النمل إلا أن يضر، ولا يقدر على دفعه (10) إلا بالقتل.
وظاهر هذا الحديث: أن هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - إنَّما عاتبه الله تعالى حيث انتقم لنفسه بإهلاك جمع آذاه واحد منه، وكان الأولى به الصبر، والصفح (11) ، لكن وقع للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أن هذا النوع مؤذٍ (12) لبني آدم، وحرمة بني آدم أعظم من حرمة غيره من الحيوان غير الناطق، فلو (13) انفرد له هذا (14) النظر ولم ينضم إليه التَّشفي الطبيعي (15) لم يعاتب، والله تعالى أعلم، لكن: لما انضاف إليه التَّشفي الذي دلَّ عليه سياق (16) الحديث =(5/542)=@
__________
(1) في (ك): «أن يكثروا».
(2) في (ك): «إخراق».
(3) قوله: «الإحراق» لم يتضح في (ح).
(4) في (ب): «حرقت نملة».
(5) قوله: «قد» سقط من (ك) و(ق).
(6) أخرجه البخاري (6/115 و149 رقم2954 و3016 و3017) في الجهاد، باب التوديع، وباب لا يعذب بعذاب الله، و(12/267 رقم6922) في استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب المرتد والمرتدة واستتابتهم.
(7) أخرجه عبدالرزاق (4/451 رقم8415) عن معمر، عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، عن ابن عباس قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل أربع: الهدهد، والصُّرد، والنَّملة، والنحلة.
ومن طريق عبدالرزاق: أخرجه أحمد (1/332)، والدارمي (2/88-89) في الأضاحي، باب النهي عن قتل الضفادع والنحلة، وعبد بن حميد (ص217-218 رقم650)، وأبو داود (5/418-419 رقم5267) في الأدب، باب في قتل الذر، وابن ماجه (2/1074 رقم3224) في الصيد، باب ما ينهى عن قتله، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (2/326-327 رقم869)، والبيهقي (9/317).
وقد توبع معمر على روايته: فأخرجه البيهقي (9/317) من طريق إبراهيم بن سعد، عن الزهري، به. وأخرجه ابن حبان (12/462 رقم5646/الإحسان) من طريق عقيل وابن جريج.
وأخرجه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (2/326 رقم867 و868)، والبيهقي (9/317) كلاهما من طريق ابن وهب.
وأخرجه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (2/327 رقم866) من طريق سعيد بن سالم. وأخرجه أحمد (1/347)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (2/327 رقم870)، والبيهقي (9/317) من طريق أحمد. كلاهما من طريق يحيى بن سعيد. ثلاثتهم - ابن وهب، وسعيد بن سلم، ويحيى بن سعيد -ن عن ابن جريج، قال: حُدِّثت عن الزهري، بهذا الإسناد. قال يحيى في روايته: «ورأيت في كتاب سفيان بن سعيد، عن ابن جريج، عن ابن أبي لبيد، عن الزهري به».
قال أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (5/83): «إسناده صحيح على الرغم من ظاهره في قول ابن جريج: حُدِّثت عن الزهري؛ لأن يحيى القطان رأى في كتاب سفيان بن سعيد، عن ابن جريج، عن ابن أبي لبيد، عن الزهري؛ فاتصل الإسناد بوجادة جيدة». اهـ. وصححه الألباني في "الإرواء" (8/142 رقم2490).
وخالفهم أبو معاوية، فرواه عن ابن جريج، عن الزهري، عن سليمان بن يسار، عن ابن عباس. كما عند الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (2/328 رقم871).
وهذه رواية شاذة، فإن لأبي معاوية أوهامًا في روايته عن غير الأعمش.
(8) قوله: «قد» ليس في (أ) و(ك).
(9) قوله: «قد» سقط من (ح) و(ك).
(10) في (ب) و(ق): «دفعها».
(11) في (ب): «الصفح والصبر».
(12) في (ب): «مؤذي».
(13) في (ب): «ولو».
(14) في (ق): «لهذا».
(15) في (ح): «الطبعي».
(16) في (ق): «مساق».(5/542)
عُوتب عليه (1) . والذي يؤيد ما ذكرنا: التمسك بأصل عصمة (2) الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وأنَّهم أعلمُ النَّاس بالله تعالى وبأحكامه، وأشدُّهم له (3) خشيةً.
وقوله: «أفي أنْ قرصتك نملةٌ أهلكتَ أمةً من الأمم تسبح (4) ؟» مقتضى هذا: أنه تسبيحُ مقالٍ ونطق، كما قد أخبر (5) الله تعالى عن النَّمل: أنَّ (6) لها منطقًا، وفَهْمُه سليمان عليه السلام معجزة له. وقد أخبر الله تعالى عن النملة التي سمعها سليمان: أنها قالت :{يا أيُّهَا النَّمل ادْخُلُوا مساكنكم لا يحطِمَنَّكُم سُلَيمانُ وَجُنُودُه وهم لا يشعُرُونَ - فَتَبسَّمَ ضاحِكًا من قولها} (7) ، فهذا كلُّه يدلُّ دَلالةً واضحة: أن للنَّمل نُطقًا وقولاً، لكن لا يسمعه كل أحدٍ، بل من شاء اللّه تعالى مِمَّن خرق له العادة من نبي، أو ولي، ولا ينكر هذا: من حيث أنَّا لا نسمع ذلك، فإنَّه لا يلزم من عدم الإدراك عدم المدرك في نفسه. ثم: إن الإنسان يجدُ في نفسه قولاً وكلامًا، ولا يُسمعُ (8) منه إلا إذا نطق بلسانه. وقد خرق الله تعالى العادةَ لنَبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - فأسمعه كلام النفس من قومٍ تحدَّثوا مع أنفسهم، وأخبرهم بما في نفوسهم، كما نقل منه أئمتنا الكثير في كتب معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك: قد وقع لكثير مِمَّن أكرمه الله تعالى من الأولياء مثلُ ذلك في غير ما قضيةٍ ، وإيَّاه عنى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إن في أمَّتي محدَّثين، وإنَّ عُمَرَ منهم» (9) . =(5/543)=@
__________
(1) في (ق): «والله أعلم» بدل «عليه».
(2) في (ق): «العصمة».
(3) قوله: «له» سقط من (ح).
(4) في (ك): «تسبح الله»، ثم وضع حول لفظ الجلالة دائرة، للدلالة على حذفه فيما يظهر.
(5) في (ب) و(ك): «أخبرنا».
(6) قوله «أن» سقط من (ق).
(7) الآية (18-19) من سورة النمل.
(8) من قوله: «ذلك بإنه لا يلزم...» إلى هنا سقط من (ح).
(9) سيأتي في باب فضائل عمر رضي الله عنه من كتاب النبوات.(5/543)
وقوله: «عُذِّبت امرأة في هرة سجنتها (1) حتى ماتت، فدخلت فيها النَّار»؛ هذا نصٌّ في أن هذه المرأة إنما عُذِّبت في النار بسبب قتل هذه الهرة بالحبس (2) ، وترك الطعام. وهذه المرأة التي (3) تقدَّم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رآها في النَّار، وهي امرأة طويلة من بني إسرائيل، وهل كانت كافرة، أو لا ؟ كلُّ ذلك محتمل، فإنَّ كانت كافرة؛ ففيه دليل: على أن الكفار مخاطبون بالفروع، ومعاقبون على تركها. وإن لم تكن كافرة فقد تمخض (4) : أن سبب تعذيبها في النار حبس الهرة إلى أن ماتت جوعًا. ففيه من الفقه: أن الهرَّ لا يُتَمَلَّك (5) ، وأنه (6) لا يجب إطعامه إلا على من حبسه.
و «الْخَشاش»: الهوام، وصغار الطير. وقرأناه بفتح الخاء. وقال عياض: هو بالفتح (7) . وقال الجوهري: الخِشاش - بالكسر (8) -: الحشرات. وقد تفتح (9) . قال أبو عمرو: رجل خَشاش - بالفتح - وهو: الماضي من الرِّجال، وقد يضم، فأمَّا: الخِشاش الذي يدخل في أنف البعير فبالكسر لا غير، وهو من خشب، والبُرَة (10) : من صُفر، والخرامة: من شعر. قاله الجوهري (11) . =(5/544)=@
__________
(1) في (ق): «حبستها».
(2) في(ك): «وبالحبس».
(3) في (ب): «وهي التي».
(4) في (ق): «تمحض».
(5) في (ق): «لا تملك».
(6) قوله: «أنه» سقط من (ك).
(7) في (ق): «بفتح».
(8) في (ح): «بكسر الخاء».
(9) في (ق): «يفتح».
(10) في (ح): «البراة».
(11) من قوله: «الخاش بالكسر. . . . » إلى هنا مطموس في (أ).(5/544)
26 - ومن باب في كل ذي كبد رطبة أجر
قوله: «يلهث»؛ أي: يخرج لسانه من شدَّة (1) العطش والتَّعب، وهو الذي عبَّر عنه في الرواية الأخرى بإخراج لسانه. ويقال: لهث - بفتح الهاء وكسرها - فأما المستقبل: فبالفتح لا غير، والاسم: اللَّهث، واللُّهاث - بضم اللام - ذكره الخليل. وقال (2) الجوهري: اللَّهَثَان - بالتحريك -: العطش، وبالتسكين العطشان، والمرأة: لهثى، وقد لهثت (3) لهثًا، ولهاثًا (4) ، مثل: سمع، سماعًا. واللُّهاث -بالضم -: حرُّ العطش. قال: ولهث الكلب -بالفتح -، يلهث، لهثًا، ولُهاثًا - بالضم - إذا أخرج لسانه من التَّعب والعطش. فأما: أدلع لسانه: فاللغة الفصيحة فيه: دلع - ثلاثيًّا -، يقال: دلع الرُّجل لسانه فاندلع؛ أي: أخرجه فخرج. ودلع لسانه (5) ؛ أي: خرج؛ يتعدَّى، ولا يتعدَّى. والأول حكاه (6) ابن الأعرابي. و «البغي»: الزانية.
وقوله: «فشكر الله له فغفر له»؛ أي: أظهر ما جازاه به عند ملائكته، أو أثنى (7) عليه عندهم. وقد قدَّمنا: أن أصل الشكر: الظهور؛ كما قالوا: دابة شكور (8) : إذا ظهر عليها من السِّمن أكثر مما تأكله من العلف. =(5/545)=@
__________
(1) قوله: «شدة» سقط من (ح).
(2) قوله: «قال» سقط من (أ) و(ق).
(3) في (أ) و(ح): «لهث».
(4) في (ب): «ولهثانا».
(5) في (ح): «ودلع ولسانه».
(6) في (ق): «حكاية».
(7) في (ك) و(ق): «وأثنى».
(8) في (ق): «شكورا».(5/545)
وقوله: «فنزعت له بموقها»؛ أى: سقت (1) له بيدها. يقال: نزعت بالدَّلو، ونزعت الدَّلو. والنزوع - بفتح النون - هي (2) : البئر التي يستقى منها باليد. وقد روي هذا الحرف: «فنزعت موقها (3) ، فاستقت به» (4) ؛ أي: خلعته من رجلها.
وقوله: «في كل كبد رطبة أجر»؛ أي: حيَّة؛ يعني بها: رطوبة الحياة. وفي رواية أخرى: «في كل كبدٍ حرَّى (5) » (6) ؛ يعني بها (7) : حرارة الحياة، أو حرارة العطش.
وفي هذه الأحاديث (8) ما يدلّ: على أن الإحسان إلى الحيوان، والرفق به تُغْفَرُ به الذنوب، وتُعظم به الأجور. ولا يناقض هذا: أنَّا قد (9) أمرنا بقتل بعضها، أو أبيح لنا، فإنَّما (10) ذلك إنَّما شرع لمصلحة راجحة على قتله، ومع ذلك: فقد أمرنا بإحسان القتلة، والرفق بالذبيحة. =(5/546)=@
__________
(1) في (ب): «استقت» وفي (ق): «أي استقيت له» وكتب في الهامش «أي سقت له» ووضع (خ).
(2) في (ح): «هو».
(3) في (ق): «سوقها».
(4) مسلم (4/1761-1762 رقم2245/155)، ولفظه: «فنزعت موقها فاستقت له به».
(5) في (ب): «حري أجر».
(6) لم يرد بهذا اللفظ من حديث أبي هريرة، ولكن ورد من حديث سراقة بن مالك، وعبدالله بن عمرو، ومخوّل البهزي.
أما حديث سراقة: فيرويه الزهري، واختلف عليه: فأخرجه أحمد (4/175)، وابن ماجه (2/1215 رقم3686) في الأدب ـ باب فضل صدقة الماء، والبيهقي (4/186). ثلاثتهم من طريق محمد بن إسحاق.
وأخرجه الطبراني في "الكبير" (7/131-132 رقم 6598 و6599)، والحاكم (3/619-620). كلاهما من طريق عبدالرحمن بن إسحاق.
وأخرجه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (4/134) من طريق عبدالله بن إدريس.
وأخرجه أحمد (4/175) من طريق صالح بن كيسان. أربعتهم - محمد بن إسحاق، وعبدالرحمن بن إسحاق، وعبدالله بن إدريس، وصالح بن كيسان -، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن مالك بن جعشم، عن مالك بن جعشم، عن سراقة بن مالك قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الضالة من الإبل تغشى حياضي، هل لي من أجر اسقيها؟ قال: «نعم، في كل ذات كبد حراء أجر».
رواية صالح بن كيسان عند أحمد، جاءت في المطبوع على أنها من رواية: عبدالرحمن بن مالك، عن مالك. وجاءت في أطراف "المسند" (2/429 رقم2541) على أنها من رواية: عبدالرحمن بن مالك، عن سراقة عن مالك، ليس فيها: مالك بن جعشم.
قال الحافظ في "التهذيب" (2/549) في ترجمة عبدالرحمن بن مالك: «إنما روى عن أبيه، عن سراقة، لم أر له رواية عن سراقة نفسه، ثم اختلفوا على الزهري في حديثه، فقيل: عن سراقة بإسقاط ذكر أبيه».
وأخرجه الحميدي (2/401-402 رقم902) عن سفيان قال: سمعت الزهري يخبر عن ابن سراقة، أو ابن أخي سراقة، قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكره.
قال الحميدي: قال سفيان: هذا الذي حفظت عن الزهري، واختلط عليَّ من أوله شيء، فأخبرني وائل بن داود، عن الزهري بعض هذا الكلام لا أخلص ما حفظت من الزهري، وما أخبرنيه وائل: قال سراقة: أتيت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بالجعرانة، فجعلت لا أمر على مقنب من مقانب الأنصار إلا قرعوا رأسي وقالوا: إليك إليك، فلما انتهيت إليه رفعت الكتاب، وقلت: أنا يا رسول الله! قال: وقد كان كتب لي أمانًا في رقعة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : نعم اليوم يوم وفاء وبر وصدق».
وأخرجه الطحاوي (4/134) من طريق عبد الرزاق، عن سفيان بن عيينة، عن وائل بن داود، عن الزهري، عن محمد بن سراقة، عن أبيه سراقة بن مالك؛ أنه جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: يا رسول الله! أرأيت الضالة ترد على حوض إبلي. . . ، فذكره.
وأخرجه عبدالرزاق (10/457 رقم19692) عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن سراقة، فذكره.
ومن طريقه أحمد (4/175)، والبيهقي (4/186)، والبغوي في "شرح السنة" (6/167 رقم1667). وأخرجه ابن حبان (2/299-300 رقم542/الإحسان)، والخرائطي في مكارم الأخلاق (1/133 رقم107) كلاهما من طريق ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن محمود بن الربيع، عن سراقة، فذكره. وصححه الألباني في "صحيح الترغيب" (ص399 رقم947)، لكن رواه الطبراني في "الكبير" (7/132 رقم 6600)، والحاكم (3/619). كلاهما من طريق ابن لهيعة قال: حدثني يونس بن يزيد، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبدالله بن كعب بن مالك، عن كعب بن مالك، عن سراقة، فذكره.
أما حديث عبدالله بن عمرو: فأخرجه أحمد (2/232-233) عن هارون بن معروف، عن عبدالله بن وهب، عن أسامة ، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، فذكره وأسامه: هو ابن زيد الليثي، صدوق يهم، كما في "التقريب" (ص124 رقم319). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (11/30 رقم7075)، والألباني في"صحيح الترغيب"(ص398-399 رقم946).
وأما حديث مخوّل البهزي: فأخرجه أبو يعلى (3/137-138 رقم1568)، وعنه ابن حبان (13/196-197 رقم5882/الإحسان)، وابن الأثير في "أسد الغابة" (5/129).
وأخرجه الطبراني في "الكبير" (20/322-323 رقم763) كلاهما من طريق محمد بن سليمان بن مسمول، عن القاسم بن مخول البهزي، عن أبيه، فذكره مطولاً، وفيه قصة.
قال الهيثمي في "المجمع" (4/292): «وفيه محمد بن سليمان بن مسمول، وهو ضعيف». وكذا قال الحافظ في "الإصابة" (9/151).
(7) في (ب): «به» و(أ).
(8) في (ق): «هذا الحديث».
(9) قوله: «قد» سقط من (ب).
(10) في (ب) و(ح) و(ك) و(ق): «فإن».(5/546)
27 - ومن باب النَّهي عن سبِّ الدَّهر
قوله (1) أبي هريرة رضي الله عنه : «قال الله تبارك وتعالى: يؤذيني ابن آدم» الحديث؛ جاء هذا الحديث في هذه الرواية موقوفًا على أبي هريرة لم (2) يذكر فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، غير أنه مِمَّا يعلم: أنه من (3) قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطعًا؛ لأنَّ مضمونه حكاية عن الله تعالى، ولا يعرفها أبو هريرة إلا من جهة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد روى معناه مسندًا مرفوعًا (4) من طرق (5) أخر، غير أن مساق هذا الحديث أكمل، فلذلك اخترناه.
وقوله تعالى: «يؤذيني ابن آدم»؛ أي: يخاطبني من القول بما يتأذى به من يصحُّ في حقه التأذي، لا أن (6) الله تعالى يتأذى؛ لأنَّ التأذي ضرر، وألم، والله تعالى منزه عن ذلك، وهذا يجري مجرى (7) ما جاء من محاربة الله تعالى ومخادعته (8) . وهذه كلها توسعات يفهم منها: أن (9) من يعامل الله تعالى بتلك المعاملات تعرَّض (10) لعقاب الله تعالى، ولمؤاخذته الشديدة. فليحذر ذلك.
ويراد بابن (11) آدم هنا: أهل (12) الجاهلية، ومن جرى مجراهم؛ ممن يُطْلِقُ هذا اللفظ، ولا يتحرز (13) منه، فإنَّ الغالب من أحوال بني آدم إطلاق نسبة الأفعال إلى الدَّهر، فيذمُّونه، ويُسفِّهونه إذا لم تحصل (14) لهم أغراضهم، ويمدحونه إذا حصلت لهم. وأكثر ما يُوجد (15) ذلك في كلام الشعراء والفصحاء. ولا شكَّ في كفر من نسبَ =(5/547)=@
__________
(1) في (أ) و(ح) و(ك) و(ق): «قول».
(2) في (ق): «ولم».
(3) قوله: «من» سقط من (ق).
(4) قوله: «مرفوعًا» سقط من (أ).
(5) في (ب) و(ح) و(ك) و(ق): «طريق».
(6) في (ق): «لأن».
(7) قوله: «محرى» سقط من (ح).
(8) تعليق على كلام المؤلف. . . .
(9) في (ب) و(ق): «بأن».
(10) في (ك): «يتعرض».
(11) في (ح): «بان».
(12) قوله: «أهل» سقط من (ق)
(13) في (ب): «يتحدر» وفي (ق): «يتحذر»..
(14) في (ب): «يحصل».
(15) في (ب): «يؤخذ».(5/547)
تلك الأفعال أو شيئًا منها للدَّهر حقيقة، واعتقد ذلك. وأما من جرت هذه الألفاظ على لسانه ولا يعتقد صحة تلك (1) : فليس بكافر، ولكنه قد تشبَّه بأهل الكفر وبالجاهلية (2) في الإطلاق، وقد ارتكب ما نهاه رسول الله (3) - صلى الله عليه وسلم - عنه. فَلْيتُب، وليستغفر (4) الله تعالى. والدَّهر، والزمان، والأبد: كلها بمعنى (5) ، وهو راجع إلى حركات الفلك، وهي (6) الليل والنهار.
وقوله: «لا يقولن أحدكم: يا خيبة الدَّهر»؛ ليس هذا النَّهي مقصورًا على هذا اللفظ، بل يلحق به كل ما في معناه من قولهم: خَرُفَ (7) الفلكُ، وانعكس الدَّهر (8) ، وتَعِسَ، وما في معنى ذلك.
وقوله: «فإني أنا الدَّهر»؛ الرواية الصحيحة المشهورة فيه برفع الدَّهر؛ على أنه خبر «إن (9) » إن جعلنا «أنا» فضلاً (10) . وإن جعلناها مبتدأ؛ فهو خبره. وقد قيدها بعض الناس «الدَّهر» بالنصب؛ على أن تكون ظرفًا يعمل فيه «أُقَلِّبُ»، فكأنه قال: أنا طولَ الدَّهر أُقلِّب الليل والنهار، ويكون «أُقلِّب» هو الخبر، والذي حمله على ذلك خوف أن يقال: إن الدَّهر من أسماء الله تعالى، وهذا عدول عمَّا صحَّ إلى ما لم (11) يصح مخافة ما لا يصح، فإنَّ الرواية الصحيحة عند أهل التحقيق بالضم، ولم يرو الفتح من يُعتمد عليه، ولا يلزم من ثبوت الضم أن يكون الدَّهر من أسماء الله تعالى لأن أسماء الله تعالى لا بدَّ فيها من التوقيف عليها، أو (12) استعمالها استعمال الأسماء من الكثرة والتكرار، فيخبر به وعنه، وينادى به، كما اتَّفق في سائر أسماء الله تعالى كالغفور، والشكور (13) ، والعليم، والحليم (14) ، وغير ذلك من أسمائه، فإنك تجدها في =(5/548)=@
__________
(1) في (ب) و(ق): «ذلك» وكتب في هامش (ق): «صحة تلك» ووضع (خ).
(2) في (ح): «الجاهلية».
(3) في (ب) و(ح) و(ق): «ما نهاه عنه رسول الله».
(4) في (ك): «ويستغفر».
(5) في (ب) و(ك) و(ق): «بمعنى واحد» وفي (ح): «معنى واحد».
(6) في (ق): «وهو».
(7) في (ق): «حرق».
(8) قوله: «الدهر» سقط من (ب).
(9) في (ب): «إني».
(10) في (ك) و(ق): «فصلاً».
(11) في (ك) و(ق): «لا» بدل «لم» وكتب في هامش (ق): «إلى مالم» ووضع (خ).
(12) في (ح): «و».
(13) في (ب): «للشكور».
(14) في (ق): «والحكيم» بدل «والحليم».(5/548)
الشريعة وفي لسان أهلها، تارة يخبر بها، وأخرى يخبر عنها، وأخرى يُدعى ويُنادى (1) بها، ولم يوجد للدَّهر شيء من ذلك، فلا يكون اسمًا من أسمائه تعالى. ثمَّ: لو سُلِّم: أن النصب يصح في ذلك اللفظ على ذلك الوجه، فلا يصح شيء من ذلك في الرِّواية التي قال فيها: «لا (2) تسبُّوا الدَّهر، فإنَّ الله هو الدَّهر»، ولم يذكر: «أقلِّب الليل والنهار» ؟ ولا يصح أن يقال: إن هذه الرواية مطلقة، والأولى (3) مقيدة؛ لأنَّا إن صرنا إلى ذلك لزم نصب «الدَّهر» بعامل محذوف ليس في الكلام ما يدلّ عليه، ولزم حذف الخبر، ولا دليل عليه. وكل ذلك باطل من اللسان قطعًا، وإذا ثبت ذلك، فاعلم: أنه لما كان اعتقاد الجاهلية: أن الدَّهر هو الذي (4) يفعل الأفعال، ويذمُّونه إذا لم تحصل أغراضهم: أعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن الله هو الذي يفعل كل شيء، فإذا سبُّوا الدَّهر من حيث: إنه (5) الفاعل (6) ، ولا (7) فاعل إلا الله، فكأنَّهم سبُّوا الله تعالى، فلذلك (8) قال الله تعالى: «يسبُّ ابن آدم الدَّهر وأنا الدَّهر (9) »؛ أي: أنا الذي أفعل ما ينسبونه للدَّهر، لا الدَّهر (10) ، فإنَّه ليل ونهار، وأنا أقلبهما؛ أي: أتصرف فيهما بالإطالة، والاقصار (11) ، والإضاءة، والإظلام (12) .
وفيه تنبيه: على أن ما يُفعل ويُتصرَّف فيه لا يصلح (13) لأن يفعل. وهذا المعنى هو الذي عبَّر عنه الحكماء بقولهم: ما له طبيعة (14) عدميَّة يستحيل (15) أن يفعل فعلاً حقيقيًّا. والله تعالى أعلم. =(5/549)=@
__________
(1) قوله: «وينادي» لم تتضح في (ك) وفي (ق): «تدعى وتنادى».
(2) في (ح): «فلا تسبوا».
(3) في (ح): يشبه «والأخرى».
(4) قوله: «هو الذي» سقط من (ق).
(5) في (ق): «إنه» وكتب في الهامش «هو» ووضع (خ).
(6) في (ك): «فاعل».
(7) في (ق): «فلا».
(8) في (ح): «فكذلك».
(9) قوله: «وأنا الدهر» سقط من (أ).
(10) قوله: «لا الدهر» سقط من (ح).
(11) في (ح): «والاقتصار».
(12) في (ك): «والظلام».
(13) في (ح): «لا يصح».
(14) في (أ): «طبيعية».
(15) في (ق): «ويستحيل».(5/549)
28 - ومن باب النهي عن تسمية العنب بالكرم (1)
قوله: «لا تسمُّوا العنب بالكرم، فإن الكرم الرجل المسلم»؛ إنما سَمَّت (2) العرب العنب بالكرم (3) ، لكثرة (4) حمله، وسهولة (5) قطافه، وكثرة منافعه. وأصل الكرم: الكثرة. والكريم من الرجال هو: الكثير العطاء، والنفع. يقال: رجل كريم (6) ، وكرام لمن كان كذلك. وكرام (7) ؛ لمن كثر منه ذلك، وهي للمبالغة. ويقال أيضًا: رجل كرم (8) - بفتح الرَّاء -، وامرأة كرم، ورجال كرم، ونساء كرم، وصفٌ بالمصدر على حدِّ (9) : عدل، وزور، وفطر.
وإنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تسمية العنب بالكرم؛ لأنَّه لما حُرِّم الخمر عليهم، وكانت طباعهم تحثهم (10) على الكرم: كره - صلى الله عليه وسلم - : أن يُسمَّى هذا المحرَّم باسم يهيج طباعهم إليه عند ذكره، فيكون ذلك كالمحرِّك على الوقوع في المحرَّمات، قاله أبو عبد (11) الله المازري.
قال الشيخ: وفيه نظر؛ لأن محل النَّهي إنَّما هو تسمية العنب بالكرم، وليست =(5/550)=@
__________
(1) في (ب): «الكرم».
(2) في (ق): «سميت».
(3) من قوله: «فإن الكرم. . . . » إلى هنا سقط من (أ).
(4) في (ق): «لكثر».
(5) في (ق): «ولسهولة».
(6) في (ق): «كرم».
(7) في (ق): «وكرامة».
(8) في (ح): «كريم».
(9) في (ب): «نحو».
(10) في (ك): «تحملهم» وألحق في الهامش «تحثهم» ووضع فوقها (خ)، ولم تتضح في (ق).
(11) في (ق): «أبو عبيد الله».(5/550)
العنبة (1) محرَّمة، وإنما المحرَّمة الخمر، ولم يُسمَّ (2) الخمر عنبًا حتى ينهى عنه (3) ، وإنَّما العنب هو الذي سُمي (4) خمرًا باسم ما يؤول إليه من الخمرية، كما قال (5) تعالى:{إني أراني أعصر خمرًا} (6) . وقول أبي عبد الله: كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُسمَّى هذا المحرَّم باسم يهيج (7) الطباع إليه؛ ليس بصحيح؛ لأنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم ينه عن تسمية المحرَّم الذي (8) هو الخمر بالعنب في هذا الحديث، بل عن تسمية العنب بالكرم، فتأمله. وإنما (9) محمل الحديث عندي محمل (10) قوله - صلى الله عليه وسلم - : «ليس المسكين بالطَّواف عليكم» (11) ، و «ليس الشديد بالصُّرعة، وإنما (12) الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (13) ؛ أي: الأحق باسم الكرم المسلم، أو قلب المسلم، وذلك لما حواه من العلوم، والفضائل، والأعمال الصالحات (14) ، والمنافع العامة. فهو أحق باسم الكريم (15) والكرم من العنب.
وقوله: «لا تسمُّوا»؛ على جهة الإرشاد لما هو الأولى في الإطلاق، كما (16) قال - صلى الله عليه وسلم - : «لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء (17) ، فإنها في كتاب الله العشاء، وإنَّها تُعتِم (18) بحلاب الإبل» (19) . قال: «وتقول الأعراب (20) : هي العتمة». فمعنى هذا - والله أعلم -: أن تسمية هذه الصلاة بالعشاء أولى من تسميتها بالعتمة، لا أن (21) إطلاق اسم العتمة عليها ممنوع، فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أطلق عليها اسم العتمة لما (22) =(5/551)=@
__________
(1) في (ح): «العنة» وفي (ق): «العنب».
(2) في (ح): «ولم يسمى».
(3) قوله: «حتى ينهى عنه» سقط من (ح).
(4) في (ح): «يسمى العنب خمرًا»، وفي (ب): «يسمى».
(5) في (ك): «قال الله تعالى» ثم وضع حول لفظ الجلالة دائرة للدلالة على حذفه فيما يظهر.
(6) الآية (36) من سورة يوسف.
(7) في (ك) و(ح): «باسم ما يهيج».
(8) في (ق): «للذي».
(9) في (ح): «وأما» بدل «وإنما».
(10) في (ق): «ومحمل».
(11) تقدم في باب من أحق باسم المسكنة وكراهة المسألة للناس، من كتاب الزكاة.
(12) في (أ) و(ح): «إنما» بلا واو.
(13) سيأتي في باب ما يقال عند الغضب، من كتاب البر والصلة.
(14) في (ح) و(ك): «الصالحة».
(15) في (ب) و(ق): «الكرم».
(16) في (ك) و(ح): «وكما».
(17) في (ح): «العشاء العتمة».
(18) في (ق): «وإنما يعتم».
(19) تقدم في باب تأخير العشاء الآخر من كتاب الصلاة.
(20) قوله: «قال وتقول الأعراب» مطموس في (ك).
(21) في (ق): «لأن».
(22) قوله: «لما» سقط من (ك).(5/551)
قال: «ولو (1) يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوًا». (2) . والله تعالى أعلم.
قال الشيخ: ويجري هذا المجرى قوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا يقولن أحدكم: عبدي وأمتي (3) ، فكلكم عبيد الله، وكلُّ نسائكم إماء الله، ولكن ليقل: غلامي وجاريتي، وفتاي وفتاتي. ولا يقولنَّ أحدكم: اسق ربَّك، أطعم (4) ربَّك، وصى بربِّك (5) ، وضِّي ربَّك. ولا يقل أحدكم: ربِّي، وليقل سيدي ومولاي» (6) . فإنَّ هذا كله من باب الإرشاد إلى إطلاق اسم الأولى؛ لا أن (7) إطلاق ذلك الاسم محرَّم. ألا ترى قول يوسف - صلى الله عليه وسلم - : {اذكرني عند ربك} (8) ، و {ارجع إلى ربك} (9) ، و {إنه ربي أحسن مثواي} (10) ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أن تلد الأمة ربَّها وربَّتها» ؟! فكأن محل (11) النهي في هذا الباب ألا تُتَّخذ هذه (12) الأسماء عادة، فيترك الأولى (13) والأحسن. قال ابن شعبان في "الزاير (14) ": لا يقل السَّيد (15) : عبدي، وأمتي (16) ، ولا يقل المملوك: ربِّي، ولا ربَّتي. قال القاضي عياض رحمه الله: ولم ينه عنه (17) نهي وجوبٍ =(5/552)=@
__________
(1) في (ق): «لو» بلا واو.
(2) تقدم في كتاب الصلاة، باب التغليظ في التخلف عن الجماعة والجمعة.
(3) في (ق): «ولا أمتي».
(4) في (ح): «وأطعم».
(5) قوله: «وصى ربك» سقط من (ب) و(ح) و(ك) و(ق).
(6) هنا هامش غير موجود
(7) في (ق): «لأن».
(8) الآية (42) من سورة يوسف.
(9) الآية (50) من سورة يوسف.
(10) الآية (23) من سورة يوسف.
(11) في (ح): «محل هذا» وفي (ق): «محمل».
(12) في (أ): «هذا».
(13) في (ق): «فتترك للأولى».
(14) في (أ) وك) و(ح) و(ق): «الزاهي».
(15) في (ق): «السيدي».
(16) في (ق): «ولا أمتي»
(17) قوله: «عنه» سقط من (ح).(5/552)
وحظرٍ، بل: نهي أدبٍ وحضٍّ. ثم (1) خاطبهم أحياناً بما فهم عنهم من صحة استعمالهم له في لغتهم، وعلى غير الوجه المذموم (2) . وقد تقدَّم: أنه يقال على المالك (3) والسَّيد: ربٌّ. وأن أصله من: ربَّ الشيءَ والولد، يربُّه، وربَّاه، يُرَبِّيه (4) : إذا قام عليه بما يُصلحه، وُيكمِّله. فهو: ربٌّ، ورابٌّ. ولما كان ابتداءُ التربية، وكمالها من الله تعالى بالحقيقة، لا من غيره: كان الأولى بالإنسان ألا ينسب تربية نفسه إلا إلى مَن إليه (5) الربوبية الحقيقية، وهو الله تعالى، فإنْ فَعَل ذلك؛ كان (6) متجوِّزًا في اللفظ، مخالفًا للأولى (7) ، كما تقدَّم.
وقوله: «ولا يقل أحدُكم: ربِّي، وليقل: سيِّدي ومولاي»؛ هذا اللفظُ متفقٌ عليه عند أكثر الرواة. وفي الأمِّ من رواية أبي سعيدٍ الأشجِّ، وأبي معاوية عن الأعمش مرفوعًا: «ولا يقل العبدُ لسيِّده: مولاي». وانفرد أبو معاوية؛ فزاد: =(5/553)=@
__________
(1) قوله: «ثم» سقط من (ب).
(2) في (ح): «المطلوب».
(3) في (ق): «المماليك» وكأنه أصحلها إلى «المالك».
(4) في (ب): «تربية».
(5) في (أ) «له».
(6) قوله: «كان» سقط من (ق).
(7) في (ق): «في الأولى».(5/553)
«وإن الله تعالى مولاكم». وقد رواه عن الأعمش جرير، ولم يذكر ذلك. وقد روي من طرق متعددة مشهورة، وليس ذلك مذكورًا فيها، بل: اللفظ الأول؛ فظهر (1) بهذا: أن اللفظ الأول أرجح. وإنما صرنا للترجيح (2) للتعارض بين الحديثين، فإنَّ (3) الأول يقتضي إباحة قول العبد: مولاي. والثاني يقتضي منعه من ذلك، والجمع متعذر، والعلم (4) بالتاريخ مفقود، فلم يَبْقَ إلا الترجيح؛ كما ذكرناه (5) ، والله تعالى أعلم.
وأمره - صلى الله عليه وسلم - بأن يقول: غلامي، وفتاي (6) ، وفتاتي، وجاريتي: إنَّما كان لأن هذه الألفاظ تنطلق على الحر والعبد، وليس فيها من معنى الملك، ولا من التعاظم شيء مما في: عبدي، وأمتى. وأصل الفتوة (7) : الشباب، وهو الفتاء - بالمد - ثم قد استعمل الفتى فيمن كملت (8) فضائله، ومكارمه، كما قالوا: لا فتًى إلا عليٌّ. ومن (9) هذا أخذ الصُّوفيَّة الفتوة المتعارفة بينهم. وأصل الغلوميَّة (10) في بني آدم، وهي للصغير، فينطلق على الصغير اسم غلام (11) من حين يولد إلى أن (12) يبلغ، فينقطع (13) عنه ذلك الاسم، وكذلك: الجارية في النِّساء.
تنبيه: إذا أطلق «ربّ» على غير الله تعالى فإنما يطلق مضافًا، فيقال: ربُّ الدَّار، وربُّ الفرس. ولا يطلق وفيه الألف واللام إلا إذا أريد به (14) الله تعالى، قاله الجوهري، وغيره.
وقوله: «ولا يقل العبد: ربِّي، وليقل: سيِّدي»، إنما فرَّق بينهما: لأن الربَّ من أسماء الله تعالى المستعملة بالاتفاق. واختلف في السَّيِّد؛ هل هو من أسماء الله تعالى أم لا ؟ فإذا قلنا: ليس من أسمائه (15) فالفرق (16) واضح؛ إذ لا التباس، ولا إشكال يلزم من إطلاقه، كما يلزم من إطلاق الرَّبِّ. وإذا قلنا: إنه (17) من أسمائه؛ فليس في الشهرة والاستعمال كلفظ: الربِّ؛ فيحصل الفرق بذلك. وأما من حيث اللغة: فالربُّ مأخوذٌ مما (18) ذكرناه، والسَّيِّد من السؤدد، وهو التقدُّم (19) . يقال: ساد قومه: إذا تقدَّمهم، ولا شكَّ في تقدُّم (20) السَّيِّد على غلامه، فلما (21) حصل الافتراق جاز =(5/554)=@
__________
(1) في (ق): «وظهر».
(2) في (ب) و(ق): «إلى الترجيح».
(3) في (ب) و(ح) و(ق) و(ك): «فإن الحديث».
(4) قوله: «العلم» سقط من (ك).
(5) في (ك): «ذكرنا».
(6) قوله: «وفتاي» سقط من (ح).
(7) في (ق): «القوة».
(8) في (ق): «قد كملت».
(9) في (ح): «من» بلا واو.
(10) في (أ): «الغلومنه».
(11) في ق): «غلامي».
(12) في (ق): «حين» بدل «أن».
(13) في (ح): «فيقطع».
(14) في (ب) و(ق): «بها».
(15) في (ق): «أسماء الله تعالى» بدل «أسمائه».
(16) قوله: «أسمائه فالفرق» مطموس في (ك).
(17) قوله: «فلنا إنه» مطموس في (ك).
(18) قوله: «مما» بياض في (ك).
(19) في (ق): «المتقدم».
(20) في (ح): «تقديم».
(21) في (ق): «ولما».(5/554)
الإطلاق، ويجري مجرى ما ذكر قوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا يقل أحدكم: خبثت نفسي، وليقل: لقِسَتْ (1) » (2) . قال أبوعبيد: معنى لقست وخبثت واحد، لكن كره لفظ الخبث، وشناعة (3) اللفظ، وعلَّمهم الأدب في المنطق. وقال الأصمعي: لقست نفسي؛ أي: غثت (4) . وقال ابن الاعرابي: ضاقت. ولا يعترض هذا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : «فأصبح خبيث النفس كسلان» (5) ؛ لأنَّ محل النهي أن يضيف المتكلم الخبث إلى نفسه، لا أن يتكلم بالخبيث (6) مطلقًا، فاذا أخبر به (7) عن غير معيَّن جاز، ولا سيما في معرض التحذير والذم للكسل والتثاقل عن الطاعات، كما جاء (8) في هذا الحديث. ومن أوضح ما في هذا الباب قوله - صلى الله عليه وسلم - حين سُئل عن العقيقة فقال (9) : «لا أحبُّ العقوق، ولكن: اذا أحبَّ أحدكم أن ينسك عن ولده بشاةٍ فليفعل» (10) ، فكره (11) اسم العقوق (12) .
قال الشيخ: ومقصود الشرع الإرشاد إلى تعرُّف مواقع (13) الألفاظ، واستعمال الأولى منها والأحسن ما أمكن من غير إيجاب ذلك، واجتناب المشترك من الألفاظ، وما يستكره منها، وما لا تواضع فيه، كعبدي وأمتي، من غير تحريم ذلك، ولا تحريجه. والله تعالى أعلم. =(5/555)=@
__________
(1) في (ق): «لقست نفسي».
(2) . . .
(3) في (أ): «وبشاعة».
(4) في (ب): «غثى».
(5) تقدم في باب استغراق الليل بالنوم، من كتاب الصلاة برقم (652).
(6) في (ب): «بالخبث» وفي (ك): «بالخبيث» وألحق في الهامش «بالخبث» ووضع فوقها (خ).
(7) قوله: «به» سقط من (ح).
(8) في (ك): «قد حاء».
(9) في (ح): «قال».
(10) تقدم. . . .
(11) في (ح): «وكره».
(12) تقدم تخريجه في باب المسابقة بالخيل، من كتاب الجهاد والسير (3/704).
(13) في (ق: «مواضع» وكتب في الهامش «مواقع» ووضع (خ).(5/555)
30 - ومن باب ما جاء أن أطيب الطيب المسك
قوله: «كانت امرأة من بني إسرائيل قصيرة تمشي مع امرأتين طويلتين، فاتخذت رِجْلَين من خشب»؛ يحتمل: أن تكون هذه المرأة فعلت هذا لتستر (1) قصرها عن الناس، فلا ينظرون إليها. ولعل قصرها كان خارجًا عن غالب أحوال القصر (2) . فإن كان هذا، فلا إثم عليها لصحة قصدها، وحسن تسترها. وإن كانت فعلت ذلك لتتزيَّن (3) بإلحاقها نفسها بالطوال (4) ؛ فذلك ممنوع منه، فإنَّه (5) من باب تغيير (6) خلق الله كما تقدَّم. وأما اتخاذها خاتم الذهب: فجائز للنساء على ما ذكرناه (7) . وأما اتخاذها المسك: فمباح لها في بيتها، ويلحق بالمندوب إذا قصدت به حسن التبعُّل (8) للزوج. وأما إذا خرجت: فإن قصدت أن (9) يجد الرِّجال ريحها (10) ؛ فهي زانية؛ كما قاله (11) النبي - صلى الله عليه وسلم - (12) ، ومعناه: أنها بمنزلة الزانية في الإثم. وأما إذا لم تقصد ذلك: فلا تسلم =(5/556)=@
__________
(1) في (ك): «ولا تحرجه».
(2) في (ب) و(ح) و(ك) و(ف): «القصار».
(3) في (ح): «التستر».
(4) في (ك): يشبه أن تكون «ليتزين».
(5) في (ق): «بالطول».
(6) في (ق): «وإنه».
(7) في (ب): «ذكرنا».
(8) في (ق): «تغير».
(9) في (ق): «بأن».
(10) في (ق): «ريحتها».
(11) في (ح): «قال».
(12) أخرجه أحمد (4/394 و413-414) من طريق مروان بن معاوية، و(4/418) من طريق عبدالواحد، وروح بن عبادة. وأخرجه عبد بن حميد (ص196 رقم557)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (7/141 رقم2716)، و(11/478 رقم4553)، والحاكم (2/396). ثلاثتهم من طريق روح بن عبادة.
وأخرجه الترمذي (5/98-99 رقم2786) في الأدب، باب ما جاء في كراهية خروج المرأة متعطرة، من طريق يحيى بن سعيد القطان.
وأخرجه النسائي (8/153 رقم5126) في الزينة، باب ما يكره للنساء من الطيب، من طريق خالد بن الحارث. وأخرجه ابن خزيمة (3/91 رقم1681)، وابن حبان (10/270 رقم4424/الإحسان)، والبيهقي (3/246) ثلاثتهم من طريق النضر بن شميل. جميعهم - مروان بن معاوية، وعبدالواحد، وروح بن عبادة، ويحيى بن سعيد، وخالد بن الحارث، والنضر بن شميل -، عن ثابت بن عمارة الحنفي، عن غنيم بن قيس، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل عين زانية ، والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا»، يعني زانية.
قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، كما تقدم. وحسن إسناده الألباني في "صحيح الجامع" (1/525 رقم2701)، وفي تعليقه على ابن خزيمة في الموضع السابق، و"المشكاة" (1/334-335 رقم1065).
ورواه بعضهم موقوفًا: أخرجه الدارمي (2/279) في الاستئذان، باب في النهي عن الطيب إذا خرجت، عن أبي عاصم، عن ثابت بن عمارة، به.
ثم قال: وقال أبو عاصم: يرفعه بعض أصحابنا.(5/556)
من الإثم؛ كيف لا وقد قال رسول (1) الله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا شهدت إحداكُنَّ المسجد فلا تمسنَّ (2) طيبًا» (3) ، وقال: «ليخرجن (4) وهنَّ تفلات (5) » (6) ؛ أي: غير متطيِّبات (7) . وكل ذلك هو شرعنا. وهل كان كذلك (8) في شرع بني إسرائيل، أو لا ؟ كل ذلك محتمل.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «أطيب الطيب المسك»؛ دليلٌ واضحٌ على طهارة المسك، وإن كان أصله دمًا، لكنه قد استحال إلى صلاح في مقرِّه العاديِّ، فصار كاللَّبن.
قال القاضي عياض رحمه الله: قد وقع الإجماع على طهارته وجواز استعماله. وما حكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (9) وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما من الخلاف في ذلك لا يصحُّ، قال: والمعروف (10) من السَّلف إجماعهم على جواز استعماله، واقتداؤهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك. =(5/557)=@
__________
(1) قوله: «رسول» سقط من (ب) وقوله: «رسول الله» سقط من (ق).
(2) في (ك) و(ق): «فلا تمس».
(3) تقدم في باب في صفوف النساء، من كتاب الصلاة.
(4) في (ب): «وليخرجن» وفي (ح): «لتخرجن».
(5) في (ق): «ليخرجن تفلات» وكتب في الهامش «ليخرجن وهن تفلات» ووضع (خ).
(6) أخرجه عبد الرزاق (3/151 رقم5121)، الحميدي (2/431-432 رقم978)، وابن أبي شيبة (2/158 رقم7608) في الصلاة، باب من رخص للنساء في الخروج إلى المسجد، وأحمد 02/438 و475 و528)، والدارمي (1/293) في في الصلاة، باب النهي عن منع النساء عن المساجد، وكيف خروجهن إذا خرجن، وأبو داود في "سننه" (1/381 رقم565) في الصلاة، باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد، وابن الجارود (1/281-282 رقم332/غوث) وأبو يعلى(10/321 – 322 و340 رقم 5ش915 – 5933)، وابن خزيمة (3/90 رقم1679)، والبيهقي (3/134)، والبغوي (3/438 رقم860). جميعهم من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليخرجن وهن تفلات».
ومحمد بن عمرو بن علقمة، صدوق حسن الحديث. وقد تابعه على روايته: سلمة بن صفوان. أخرجه البخاري ف ي"التاريخ الكبير" (4/79)، فصحَّ الحديث، والحمد لله. وله شاهد من حديث عائشة، وزيد بن خالد.
أما حديث عائشة: فأخرجه أحمد (6/69-70) عن الحكم، عن عبدالرحمن بن أبي الرجال، عن أبيه، عن أمه، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرته.
عبدالرحمن بن أبي الرجال: وثقه أحمد، والمفضل بن غسان الغلابي، والدارقطني وابن شاهين، وابن معين. وقال مرة: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صالح، وهو مثل عبدالرحمن بن زيد بن أسلم. وسئل عنه أبو ادود، فقال: أحاديث عمرة يجعلها كلها عن عائشة. وقال مرة: ليس به بأس.
وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وذكره ابن حبان في"الثقات"، وقال: ربما أخطأ». "تهذيب الكمال مع حاشيته" (17/88-91 رقم3813)، وذكر الذهبي فيمن تكلم فيه وهو موثق، وقال: مشهور صدوق، وثقة غير واحد». وفي "الكاشف" (1/627 رقم3191): وثه جماعة. وفي "التقريب" (ص577 رقم3883): «صدوق ربما أخطأ».
وأبو الرجال: هو محمد بن عبدالرحمن بن حارثة الأنصاري: وثقه أبو داود، والنسائي، وابن سعد، وأحمد، وأبو حاتم، وابن معين، والدارقطني. وقال البخاري: ثبت. "تهذيب الكمال مع حاشيته" (25/602-604 رقم5395)، وفي "التقريب" (ص869 رقم6110): ثقة. أمه: هي عمرة بنت عبدالرحمن، أكثرت عن عائشة، وثقها العجلي، وابن معين، وزاد: حجة. وقال ابن المديني: أثبت حديث عائشة: حديث عمرة، والقاسم، وعروة. "تهذيب الكمال مع حاشيته" (35/241-243 رقم7895)، و"التهذيب" (. . . . . )، وفي "التقريب" (ص1365 رقم8742): ثقة.
والحديث حسن إسناده الألباني في "الإرواء" (2/293).
وأما حديث زيد بن خالد: فأخرجه أحمد (5/192 و193)، وابن حبان (5/589 رقم2211)، والبزار (1/. . . رقم445/كشف)، والطبراني في "الكبير"(5/248 رقم5239 و5240). جميعهم من طريق عبدالرحمن بن إسحاق، عن محمد بن عبدالله بن عمرو بن هشام، عن بسر بن سعيد، عن زيد بن خالد الجهني، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . . . ، فذكره.
وفي سنده: عبدالرحمن بن إسحاق بن عبدالله بن الحارث المدني.
قال يحيى القطان: سألت عنه بالمدينة، فلم أرهم يحمدونه. وكذلك قال ابن المديني، وإسماعيل بن علية. وقال أحمد: رجل صالح، أو مقبول، وقال مرة: صالح الحديث. وقال مرة: ليس به بأس، وكان يحيى لا يعجبه. وقال مرة: روى عن أبي الزناد: أحاديث منكرة. وقال مرة: أما ما كتبنا من حديثه فصحيح. وقال ابن معين: ثقة، وزاد مرة: ليس به بأس، وقال مرة: صويلح. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، ولا يحتج به، وهو قريب من محمد بن إسحاق، صاحب المغازي، وهو حسن الحديث، وليس بثبت ولا قوي، وهو أصلح من عبدالرحمن بن إسحاق، أبي شيبة. وقال البخاري: ليس ممن يعتمد على حفظه، إذا خالف من ليس يدونه، وإن كان ممن يحتمل في بعض. وقال النسائي، وابن خزيمة ،والفسوي: ليس به بأس. وضعفه الدارقطني. وقال ابن عدي: في حديث بعض ما ينكر، ولا يتابع عليه ،والأكثر منه صحاح، وهو صالح الحديث، كما قاله أحمد بن حنبل. وذكره ابن حبان، وابن شاهين في الثقات. "تهذيب الكمال مع حاشيته" (16/519-525 رقم 3755). وفي "ألتقريب" (ص570 رقم3824): صدوق رمي بالقدر.
ومحمد بن عبدالله بن عمرو بن هشام: روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في الثقات، وبيض له البخاري في "تاريخه"، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل". "تهذيب الكمال" (25/523-524 رقم5365)، و"التاريخ الكبير" (1/141 رقم423)، و"الجرح والتعديل" (7/301 رقم1636)، وفي "ألتقريب" (ص864 رقم6077): مقبول. والحديث قال عنه الهيثمي في "المجمع" (2/33): وإسناده حسن. وقال الألباني في "الإرواء" (2/293): لا بأس به في الشواهد.
(7) قوله: «أي غير متطيبات» سقط من (أ).
(8) في (ح): «ذلك».
(9) . . . . .
(10) في (ق): «فإن المعروف».(5/557)
31 – ومن باب قوله: من عُرِض عليه ريحان فلا يردَّه
الرَّيحان: كلُّ بقلةٍ طيِّبة الرِّيح. قاله الخليل. والمراد به في هذا الحديث: كلُّ الطيب؛ لأنَّه كله (1) خفيف المحمل، طيب الرِّيح؛ ولأنه قد جاء في بعض طرق هذا الحديث: «من عُرض عليه طيبٌ» (2) بدل: «ريحان».
وقوله: «خفيف المحمَل، طيب الرِّيح (3) »؛ المحمَل - بفتح الميمين - ويعني به: الحمل (4) ، وهو مصدر (5) : «حمل»، وبفتح الأولى، وكسر الثانية: هو الزمان، والمكان. وقد يقال في الزمان بالفتح في الثانية. والمحمل-أيضًا-: واحد محامل الحاجِّ. والْمِحمَل - بكسر الأولى، وفتح الثانية: واحد محامل السيف. وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا القول إلى العلة التي ترغب في قبول الطيب من الْمُعْطِية. وهي (6) : أنه لا مؤنة (7) ، ولا مِنَّه تلحق في قبوله؛ لجريان عادتهم (8) بذلك، ولسهولته عليهم، ولنزارة ما يتناول منه عند العرض، ولأنَّه مِمَّا يستطيبه الإنسان من نفسه، ويستطيبه من غيره.
وفيه من الفقه: الترغيب في استعمال الطيب، وفي عرضه على من يستعمله. =(5/558)=@
__________
(1) قوله: «كله» سقط من (ك).
(2) أخرجه أحمد (2/320)، وأبو داود (4/400 رقم4172) في الترجل، باب في رد الطيب، والنسائي (8/189 رقم5256) في الزينة، باب الطيب، وابن حبان (11/510 رقم5109/الإحسان)، والبيهقي (3/245). جميعهم من طريق سعيد بن أبي أيوب، عن عبيدالله بن أبي جعفر، عن عبدالرحمن الأعرج، عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من عرض عليه طيب فلا يرده، فإنه خفيف المحمل طيب الرائحة».
(3) قوله: «الريح» لم تتضح في (ك).
(4) في (ق): «المحمل».
(5) قوله: «مصدر» سقط من (ك).
(6) في (ب): «وهي لا» وفي (ك): «وهي لأنه».
(7) في (ح): «مؤونة».
(8) في (ح): «عاداتهم».(5/558)
وقوله: «كان ابن عمر يستجمر بأَلُوَّةٍ (1) غير مُطَرَّاةٍ». يستجمر: يتبخر (2) . وأصله: من المجمر، والمجمرة، فاستعير له ذلك؛ لأنَّه وضعُ البَخُور على الجمر (3) في المجمرة. والأَلُوَّة: العود الذي (4) يتبخر به. قال الأصمعي: وأراها (5) كلمة فارسيَّة. قال أبو عبيد: وفيها لغتان: فتح الهمزة وضمها. وحكي عن الكسائي: إِلِيَّةٌ - بكسر الهمزة واللام -، وقال بعضهم: لوَّة وليَّة. ويجمع (6) : الأَلُوَّة: ألاويةٌ (7) .
و«غير مطرَّاةٍ؛ أى: غير ملطخة بخلوق، أو طيب. قال القاضي عياض: وأصله: غير مطرَّرةٍ؛ من: طرَّرت الحائط إذا غشَّيته بجصٍّ (8) ، أو حسَّنته، وجدَّدته. قال (9) : ويحتمل أن تكون «مطرَّاة»: مُحسَّنة، مبالغة، وذلك من الإطراء، وهو المبالغة في المدح.
وهذه الأحاديث كلها تدلُّ على أن استعمال الطيب والبخور مرغب فيه، مندوبٌ إليه، لكن: إذا قصد به الأمور الشرعية مثل الجماعات والْجُمعات، والمواضع المعظَّمات، وفعل (10) العبادات على أشرف الحالات. فلو قصد بذلك المباهاة والفخر، والاختيال لكان ذلك من أسوأ (11) الذنوب، وأقبح الأفعال. =(5/559)=@
__________
(1) في (ق): يشبه «بالألوة».
(2) في (أ): «يتنجز».
(3) في (ك): «النار».
(4) من قوله: «يتبخر وأصله. . . . » إلى هنا سقط من (ح).
(5) في (ح): «فأراها».
(6) في (ك): «وتجمع».
(7) في (ق): «ألاوه» وكتب في الهامش «ألاوية».
(8) في (ك): «بحص».
(9) قوله: «قال» سقط من (ق).
(10) في (ح): «فضل».
(11) في (ك): «أسواء».(5/559)
32 - ومن باب تحريم (1) اللعب بالنَّرد
قوله: «من لعب بالنردَشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه»؛ قيَّدنا النردشير بفتح الدال وكسر الراء، وكأنهما كلمة واحدة مبنيَّة الوسط. قال الخليل: النرد: فارسي.
قال الشيخ رضي الله عنه: وكان النردشير (2) نوع من النَّرد. وهو (3) لعبة مقصودها القمار، وأكل المال بالباطل، مع ما فيها من الصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وعمَّا يفيد الإنسان في دينه ودنياه، ومع ما يطرأ (4) فيها من الشحناء، والبغضاء، ولذلك شدَّد النبي - صلى الله عليه وسلم - في لعبها فقال: فيما رواه مالك (5) عن أبي موسى: «من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله». وهذا نصٌّ في تحريم النَّرد، وهو المراد بقوله: «فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه»، فإنَّ هذا الفعل في الخنزير حرام؛ لأنَّه إنما عنى بذلك تذكية الخنزير، وهي حرام بالاتفاق، ولذلك لم يختلف فيه، ويلحق به كل ما يقامر به، كالشطرنج (6) ، والأربعة عشر، وغير ذلك مما في معناه. =(5/560)=@
__________
(1) قوله: «تحريم» سقط من (ح) و(ك).
(2) في (أ) و(ب): «النرد».
(3) في (ح): «وهي» وفي (ق): «وهو» وكتب في الهامش «وهي» ووضع (خ).
(4) في (ك): «يظهر».
(5) أخرجه مالك في "الموطأ"(2/729) في الرؤيا، باب ما جاء في النرد عن موسى بن ميسرة، عن سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من لعب بالنرد، فقد عصى الله ورسوله.
ومن طريق مالك: أخرجه أحمد (4/397)، والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (1269)، وأبو داود (5/230 رقم4938) في الأدب، باب في النهي عن اللعب بالنرد، وابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" (ص71-72 رقم84)، وابن حبان (13/181 رقم5872/الإحسان)، والبيهقي (10/214).
وقد توبع موسى بن ميسرة على روايته: فأخرجه أحمد (4/394) عن وكيع، عن أسامة بن زيد الليثي، به. واختلف عليه. فأخرجه أحمد (4/394)، والخطيب في "تاريخه" (7/352)، كلاهما من طريق عبدالله بن المبارك، عن أسامة بن زيد، عن سعيد بن أبي هند، عن أبي مرة مولى عقيل - فيما أعلم -، عن أبي موسى به.
وقد تابع وكيعًا على روايته: ابن وهب، كما ذكره الحافظ في "التهذيب" ورجح الدارقطني رواية عبد الله بن المبارك بزيادة الواسطة بن سعيد ابن أبي هند وأبي موسى كما في التهذيب (. . . ). فقال: «هذا أشبه بالصواب».
أخرجه عبدالرزاق (10/468 رقم19730)، ورواية حماد بن زيد أولى من رواية معمر، فحماد بن زيد أثبت الناس في أيوب.
وأخرجه أحمد (4/392)، وعبد بن حميد رقم (548)، والحاكم (1/50) ثلاثتهم من طريق عبدالرزاق، عن عبدالله بن سعيد بن أبي هند، عن رجل، عن أبي موسى، فذكره مرفوعًا. قال البيهقي في "سننه"(10/215): «واختلف فيه على عبدالله بن سعيد بن أبي هند، فقيل: عنه عن أبيه، عن رجل، عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكعاب، وقيل: عنه عن أبي موسى، نحو رواية الجماعة».
قال الحاكم: «وهذا مما لا يوهن حديث نافع ولا يعلله، فقد تابع يزيد بن عبدالله بن الهاد نافعًا على رواية سعيد بن أبي هند». ووافقه الذهبي. ثم ساقه من طريق يحيى بن يحيى، عن الليث بن سعد، عن ابن الهاد، عن سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى، فذكره. وقد سبق النقل عن الحاكم والذهبي، أنهما حكما على رواية عبدالله بن سعيد بن أبي هند بالوهم. وعبدالله بن سعيد بن أبي هند، صدوق ربما وهم، كما في "التقريب" (ص512 رقم3378). ورجح البيهقي في "سننه"(10/215) رواية الجماعة.
ومع ذلك فالحديث ضعيف؛ لأن رواية سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى مرسلة، كما قاله أبو حاتم. انظر "المراسيل" لابن أبي حاتم (ص75 رقم264).
وعليه فتصحيح رواية الحاكم لهذا الحديث، وافقة الذهبي له، فيه نظر.
وللحديث طريق آخر: أخرجه أحمد (4/407)، وأبو يعلى (13/274 رقم7289)، والبيهقي (10/215). ثلاثتهم من طريق مكي بن إبراهيم، عن الجعيد ابن عبد الرحمن، عن يزيد بن خصيفة، عن حميد بن بشير، عن محمد بن كعب، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه؛ أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يقلب كعباتها أحد ينتظر ما تأتي به إلا عصى الله ورسوله». وفي سنده حميد بن بشير ابن المحرر، ذكره ابن حبان في الثقات (4/150)، وقال في "ثقاته" (6/191): «حميد بن بكر، يروى عن محمد بن كعب القرظي، روى عنه يزيد بن خصيفة، يعتبر بحديثه إذا لم يكن في إسناده إنسان ضعيف». لكن استظهر الحافظ في "التعجيل": أن صوابه حميد بن بشير، إلا أنه قال: لم أجد لحميد بن بشير ترجمة في الثقات!
وقال: «يروي عن أبي موسى الأشعري، وعنه يزيد بن خصيفة».
وقال الحسيني في "الإكمال" (1/238 رقم193) أنه روى عن محمد بن كعب القرظي، وأبي موسى الأشعري، وعنه يزيد بن خصيفة. وتعقبه الحافظ في "تعجيل المنفعة" (1/472) فقال: «وإنما هو عن محمد بن كعب، عن أبي موسى. والحديث معروف لمحمد بن كعب، عن أبي موسى، وقد أخرجه أبو يعلى، عن القواريري، عن مكي كذلك». وحميد بن بشير لم يرد فيه جرح ولا تعديل، فهو مجهول. ولم أجد من نصَّ على سماع محمد بن كعب، من أبي موسى.
وقال الألباني في "الإرواء" (8/286): «وبالجملة، فالإِسناد لا بأس به في الشواهد والمتابعات». ورجح رواية وكيع، وابن وهب بإسقاط الواسطة بين سعيد بن أبي هند، وأبي موسى، فقال (8/285): وهذا هو الصواب عندي. أولاً: لاتفاق ابن وهب ووكيع عليه. واثنان أحفظ من واحد. ثانيًا: أن عبدالله بن المبارك قد قال في إسناده :". . . عن أبي مرَّة مولى عقيل - فيما أعلم - ". فقوله " فيما أعلم " والظاهر أنه من أسامة، يشعر أنه لا جزم عنده بذلك. ثالثاً: أنه الموافق لرواية الجماعة عن سعيد بن أبى هند، فالأخذ به أولى، بل واجب لأن الجمع أحفظ من الواحد، لا سيما إذا كان مثل أسامة فإن في حفظه شيئًا من الضعف، يجعل حديثه في مرتبة الحسن، إذا لم يخالف، وأما مع المخالفة، فغيره أوثق منه، لا سيما إذا كانوا جماعة، ولا سيما إذا وافقهم في إحدى الروايتين عنه». اهـ.
وأخرجه ابن أبي شيبة (5/287 رقم26132) في الأدب، باب في اللعب بالنرد، وما جاء فيه. وعنه ابن ماجه (2/1237-1238 رقم3762) في الأدب، باب اللعب بالنرد، وأحمد (4/400)، وعبد بن حميد رقم (547)، والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (1272)، وأبو يعلى (13/274-275 رقم7290)، والحاكم (1/50)، وعنه البيهقي (10/215). جميعهم من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى به.
ورواه عن عبيدالله جماعة، وهم: عبدالرحيم بن سليمان، وحماد بن أسامة، ويحيى بن سعيد القطان، ومحمد بن عبيد ،وزهير، وبشير بن المفضل.
قال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه لوهم وقع لعبدالله بن سعيد بن أبي هند، لسوء حفظه». ووافقه الذهبي وزاد: وكذا رواه يزيد بن الهاد، عن سعيد بن أبي هند، وقد وهم فيه عبدالله بن سعيد بن أبي هند، سمعه منه عبدالرزاق، عن أبيه، عن رجل، عن أبي موسى». وقد اختلف فيه على نافع: فأخرجه الطيالسي (ص69 رقم510) عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى موقوفًا عليه.
وخالفه معمر، فرواه عن أيوب، عن نافع، عن سعيد بن أبي هند، عن رجل، عن أبي موسى مرفوعًا.
(6) في (ح): «كالشطر».(5/560)
واختلف في الشطرنج إذا لم يقامر به. فقيل: إنه على التحريم. وهو ظاهر قول مالك، والليث؛ حيث قالا: إنَّها شرٌّ من النَّرد، وألهى. ويؤيد هذا أحاديث رواها عبد الملك بن حبيب تقتضي (1) ذمَّ لاعب الشطرنج، ولعنه (2) . ولا شك في أن من ظن التحريم فيها إنَّه يردُّ (3) شهادة اللاعب بها. وذهبت طائفة: إلى أن ذلك مكروه، وهو نصُّ المذهب، غير أن من أصحابنا من تأوَّله على التحريم، والكراهة مذهب الشافعي وأبي (4) حنيفة، ولا يردان شهادة من لعب بها من غير قمار. وقال مالك: تسقط شهادة المدمن عليها. وقال بعض أصحابنا: إن المحرَّم إنَّما هو الإدمان عليها، فأما لو لم يدمن عليها (5) ، وتستَّر (6) باللعب بها مع الأكفاء والنُّظراء، وسلم من المفاسد التي ذكرناها فهي مباحة، وقد (7) فسَّر بعض أصحابنا هذا (8) : بأن يلعبها مرَّة في السَّنة (9) . وهذا شذوذ.
33 - ومن باب: مناولة السِّواك الأكبر (10)
قوله (11) : «أراني في المنام أتسوك بسواك فجذبني (12) رجلان»؛ قد تقدَّم: أن رؤيا =(5/561)=@
__________
(1) في (أ) و(ب): «يقتضي».
(2) في (ق): «ولعبه».
(3) في (ق): «فيها ترد».
(4) في (ق): «وأبو حنيفة».
(5) قوله: «عليها» سقط من (أ) و(ب).
(6) في (ق): «ويستر».
(7) قوله: «قد» سقط من (ح).
(8) في (أ): «ذلك».
(9) في (ق): «في السنة مرة».
(10) قوله: «ومن باب مناولة السواك الأكبر» ليس في (ك) و(ح) و(ق).
(11) في (ك) و(ح) و(ق): «وقوله».
(12) في (ق): «فحدثني».(5/561)
الأنبياء عليهم السلام وحيٌّ، وأنها يُقتبس (1) منها الاحكام، كما قال تعالى مخبرًا عن إبراهيم عليه السلام :{إني أرى في المنام أني أذبحك} (2) (3) . وجذب، وجبذ بمعنى واحد، وإنما جذباه (4) طالبين منه السواك. وإنما ناوله الأصغر (5) لأنهما كانا بين يديه، ولو كان أحدهما عن يمينه لكان هو الأولى به (6) ، كما جاء (7) في سُنَّة الشراب.
وقوله: «كبِّر (8) »؛ أى: ابدأ بالكبير توقيرًا له، ومراعاة لحق السِّنِّ (9) في الإسلام، وهذا كما قال في حديث حُويِّصَة: «كبِّر، كبِّر (10) » (11) . وقد استوفينا الكلام على هذا المعنى هناك (12) . وحاصل ذلك: الحث على إكرام الشيخ المسلم، واحترامه، كما قد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم» (13) . =(5/562)=@
__________
(1) في (ح) و(ق): «تقتبس».
(2) الآية (102) من سورة الصافات.
(3) زاد بعدها ي (أ) و(ك) و(ح) و(ق): «الآية».
(4) في (ك): «جبذاه».
(5) في (ح): «للأصغر».
(6) قوله: «به» سقط من (ح).
(7) قوله «جاء» سقط من (ق).
(8) في (ق): «كبير».
(9) في (ك) و(ح): «السبق».
(10) قوله: «كبر» سقط من (ك).
(11) تقدم. . .
(12) في (ق): «هنالك».
(13) أخرجه أبو داود (5/174 رقم4843) في الأدب، باب في تنزيل الناس منازلهم، والبزار في "مسنده" (8/74 رقم3070)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (7/460 رقم 10986). ثلاثتهم من طريق عبدالله بن حمران، عن عوف بن أبي جميلة، عن زياد بن مخراق، عن أبي كنانة، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط.
وفي سنده: عبدالله بن حمران: وثقة ابن المديني، والدارقطني. وقال ابن معين: صدوق صالح. وقال أبو حاتم: صدوق. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطيء. "تهذيب الكمال" (14/431-433 رقم3233)، و"ثقات ابن شاهين" (ص129 رقم653). وفي "التقريب" (ص501 رقم3301): صدوق يخطيء قليلاً!
وأبو كنانة: روى عنه جمع، وجهّله ابن القطان، والذهبي، وابن حجر.
ورواه بعضهم موقوفًا: أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (1/448-449 رقم357)، والمزي في "تهذيب الكمال" (34/227-228) كلاهما من طريق عبدالله بن المبارك، عن عوف، به، فوقفه، وقد أشار البيهقي في "سننه" (8/163) إلى هذا الاختلاف، فقال: ورواه ابن المبارك، عن عوف، فوقفه.
وقال في "الأدب" (43): «ورواه ابن المبارك، وروح بن عبادة، فلم يرفعاه».
والحديث حسَّن إسناده الذهبي في "الميزان" (4/565)، والعراقي، وابن القطان، كما في تخريج "الإحياء" (3/1155).(5/562)
31 - كتاب الرُّقِي والطِّبِّ (1)
1 - باب في رقية جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - (2)
قولها: «كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتكى رقاه جبريلُ عليه السلام»؛ دليلٌ على استحباب الرقية بأسماء الله تعالى وبالعُوَذ الصحيحةِ المعنى، وأن ذلك لا يناقض التوكل على الله تعالى (3) ولا ينقصه؛ إذ لو كان شيء من ذلك لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحق الناس بأن يجتنبَ (4) ذلك، فإن الله تعالى لم يزل يُرَقِّي نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - (5) المقامات الشريفة، والدَّرجات الرَّفيعة إلى أن قبضه الله (6) على أرفع مقام، وأعلى حال، وقد رُقي في أمراضه، حتى في (7) مرض موته - صلى الله عليه وسلم - ، فقد رقته عائشة رضي الله عنها في مرض =(5/563)=@
__________
(1) في (ق): «والطيب».
(2) من قوله: «باب في ... إلى هنا» ليس في (أ) و(ك) و(ح) و(ق).
(3) قوله: «على الله تعالى» سقط من (ك).
(4) في (أ) و(ب): «يجنب».
(5) في (ق): «من» بدل «في».
(6) قوله: «الله» ليس في (ق).
(7) قوله: «في» سقط من (ق).(5/563)
موته، ومسحته بيدها وبيده، وهو مُقرٌّ لذلك، غير منكر لشيء مما هنالك. وقد استوفينا هذا المعنى في كتاب الايمان (1) .
وقوله: «باسم الله يبريك»؛ الاسم هنا يراد به المسمَّى؛ فكأنه قال: الله يبريك، كما قال تعالى :{سبح اسم ربك الأعلى (2) } (3) ؛ أي: سبح ربَّك. ولفظ الاسم في أصله عبارة عن الكلمة الدَّالة على المسمَّى، والمسمَّى هو مدلولها، غير أنه قد يتوسَّع، فيوضع الاسم موضع المسمَّى مسامحة، فتدبَّر هذا، فإنَّه (4) موضع قد كثر فيه الغلط، وتاه فيه كثير من الجهَّال وسقط. وموضع استيفائه (5) علم الكلام.
وقوله: «ومن كل داء يشفيك»؛ دليلٌ على جواز الرُّقى لما وقع من الأمراض، ولما يتوقع وقوعه.
وقوله :{ومن شرِّ حاسدٍ إذا حسد}؛ دليلٌ على أن الحسد يؤثر في المحسود ضررًا يقع به، إمَّا في جسمه بمرض، أو في ماله وما يختص به بضرر، وذلك بإذن الله تعالى، ومشيئته، كما قد أجرى عادته، وحقق إرادته، فربط الأسباب بالمسببات، وأجرى بذلك العادات، ثمَّ أمرنا في دفع ذلك بالالتجاء إليه، والدعاء، وأحالنا على الاستعانة بالعُوَذ والرُّقى. =(5/564)=@
__________
(1) باب. . .
(2) قوله: «الأعلى» ليس في (ك).
(3) الآية (1) من سورة الأعلى.
(4) في (ق): «فتدبره فإنه».
(5) في (ق): «استيعابه».(5/564)
وقوله: «من شرِّ كلِّ نفسٍ - أو: عين -»؛ هذا شك من الرَّاوي في أيِّ اللفظين قال، مع أن معناهما واحد، فإن النَّفس يقال على الإصابة بالعين ؟ يقال: أصابت فلانًا نفس؛ أي: عين. والنافس: العائن. قاله القتبي. وتطلق (1) النفس على أمور أخر ليس شيء منها يراد بهذا الحديث. والله تعالى أعلم.
******
2 - ومن باب العين حق، والسِّحر حق، واغتسال العائن (2)
وقوله: «العين حقٌّ»؛ أي: ثابت موجود، لا شكَّ فيه. وهذا قول علماء الأمَّة، ومذهب أهل السُّنَّة. وقد أنكرته طوائف من المبتدعة، وهم محجوجون بالأحاديث النُّصوص الصَّريحة، الكثيرة الصحيحة، وبما (3) يشاهد من ذلك في الوجود. فكم من رجل أدخلته العين القبر، وكم من جمل ظهير أحلَّتْهُ (4) القِدْر، لكن ذلك بمشيئة الله تعالى كما قال تعالى:{وما هم بضارين به من أحدٍ إلا بإذن الله} (5) ، ولا يلتفت إلى مُعْرِضٍ عن الشرع والعقل، يتمسك (6) في إنكار ذلك؛ باستبعاد ليس له أصل، فإنا نشاهد من خواصِّ الأحجار، وتأثير السِّحر، =(5/565)=@
__________
(1) في (أ) وك) و(ق): «ويطلق».
(2) من قوله: «ومن باب ... إلى هنا» سقط من (أ) و(ك) و(ح) و(ق).
(3) في (ح) و(ك): «وما».
(4) في (ك) و(ق): «أدخلته».
(5) الآية (102) من سورة البقرة.
(6) في (ق): «متمسك».(5/565)
وسموم الحيوانات ما يُقْضَى (1) منها العجب، ويُتحقَّق أنَّ كل (2) ذلك فعل مسبِّب كلَّ سبب. ولا يلتفت أيضًا إلى قول من قال من المثبتين للعين: إنَّ العائن تنبعث (3) من عينه قوةٍ سُمِّيَّة تتصل بالمعين فيهلك، أو يفسد، كما تنبعث قوة سُمِّيَّة من الأفعى والعقرب تتصل باللَّديغ فيهلكه (4) ؛ لأنَّا نقول لهولاء: إن كنتم تريدون بالقوَّة أن هناك (5) معنى يقتضي ذلك الضرر بذاته، وأن ذلك ليس فعلاً لله تعالى فذلك كفر؛ لأنَّه جحد لما علم من الشرع والعقل؛ من: أنه لا خالق إلا الله عز وجل، ولا فاعل على الحقيقة إلا هو. وإن كان يريد بذلك: أن الله تعالى هو الفاعل للسبب والمسبب؛ فهو الحق الصَّريح، غير أن إطلاق لفظ القوَّة في هذا المعنى ليس بحسن عند المتشرِّعين ولا صحيح.
وقوله: «ولو كان شيء (6) سابق القَدَر لسبقته العين»؛ هذا إغياءٌ (7) في تحقيق إصابة العين، ومبالغة فيه تجري (8) مجرى التمثيل، لا أنَّه (9) يمكن أن يردَّ القدر شيء، فإنَّ القدر عبارة عن سابق علم الله تعالى ونفوذ مشيئته، ولا رادَّ لأمره، ولا معقب لحكمه، وإنَّما هذا خرج مخرج قولهم: لأطلبنَّك ولو تحت الثَّرى. أو (10) : لو صعدت إلى السَّماء، ونحوه مما يجري هذا المجرى، وهو كثير (11) .
وقوله: «وإذا اسْتُغْسِلْتُمْ فاغسلوا»؛ هذا خطابٌ لمن يُتَّهم بأنَّه عائن (12) ، فيجب عليه ذلك، ويُقضى عليه به إذا طُلِب منه ذلك، لاسيما إذا خيف على المَعين الهلاك. وهذا الغسل هو الذى سمَّاه في بعض طرق حديث سهل بن حنيف: بالوضوء، وذلك: أن عامر بن ربيعة نظر إلى سهل متجرِّدًا (13) فقال: ما رأيت كاليوم =(5/566)=@
__________
(1) في (ق): «يفضي».
(2) قوله: «كل» سقط من (ح).
(3) في (ق): «ينبعث».
(4) في (ح) و(ق) و(ك): «فتهلكه».
(5) في (ح): «هنالك».
(6) في (ح): «شيء من الأسا».
(7) في (ح): «إغياءًا».
(8) في (ق): «لأنه».
(9) في (أ): «يجري» وفي (ق): «فجرى».
(10) في (ح): «و» بدل «أو».
(11) قوله: «وهو كثير» سقط من (ح) و(ك) و(ق).
(12) في (أ) و(ح) و(ك): «عانه».
(13) في (ك): «مجردًا».(5/566)
ولا جلد عذراء، فوُعِك سهل مكانه، فأُخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال لعامر: «علام يقتل أحدكم أخاه! ألا برَّكت! إن العين حقٌّ، توضأ له»، فتوضأ عامر (1) . وفي الطريق (2) الأخرى زيادة كيفية الغَسل؛ قال (3) : فغسل وجهه (4) ، ويديه، ومرفقيه، وركبتيه، وأطراف رجليه، وداخلة ازاره في قدح، فَصُبَّ (5) عليه.
وصفته عند العلماء: أن يؤتى بقدح من ماء، ولا يوضع القدح بالأرض (6) ، فيأخذ منه غرفة، فيتمضمض (7) بها، ثم يمجها في القدح، ثم يأخذ منه ما يغسل به وجهه، ثمَّ يأخذ بشماله ما (8) يغسل به كفه اليمنى، ثم بيمينه (9) ما يغسل به (10) كفه اليسرى، ولشماله (11) ما يغسل به (12) مرفقه الأيمن (13) ، ثم بيمينه (14) ما يغسل به مرفقه الأيسر، ولا يغسل ما بين المرفقين والكفين، ثمَّ قدمه اليمنى، ثمَّ اليسرى، ثمَّ ركبته (15) اليمنى، ثم اليسرى على الصَّفة والرُّتبة المتقدمة، وكل ذلك في القدح، ثم داخلة الإزار، وهو الطرف الذى يلي (16) حِقْوَهُ الأيمن. وقد ذكر بعضهم: أن داخلة الإزار يكنى به عن الفَرْج (17) . وجمهور العلماء على ما قلناه. فإذا استكمل هذا صبَّه خلفه من على (18) رأسه. هكذا نقل أبو عبدالله المازري (19) ، وقال: هذا (20) المعنى لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه.
قال القاضي عياض: وبه قال (21) الزهري، وأخبر: أنه أدرك العلماء يصفونه، ويستحسنه علماؤنا، ومضى به العمل، وزاد: أنَّ غسل وجهه إنَّما هو صبَّةٌ واحدةٌ (22) بيده اليمنى، وكذلك سائر أعضائه، وليس على صفة غسل الأعضاء في الوضوء، وغسل داخلة الإزار هو إدخاله وغمسه في القدح، ثمَّ يقوم الذى يأخذ القدح، فيصبَّه على رأس المعين من ورائه (23) على جميع جسده، يستغفله به (24) . وقيل: يغسله بذلك، ثم يكفأ الإناء على ظهر الأرض. وقد روي عن ابن شهاب: أنه بدأ بغسل الوجه قبل المضمضة، وأنه لا يغسل =(5/567)=@
__________
(1) أخرجه مالك في "الموطأ" (2/715 رقم1) في العين، باب الوضوء من العين ، والحاكم (3/411-412) من طريق يوسف بن طهمان. كلاهما - مالك، ويوسف بن طهمان -، عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف؛ أنه سمع أباه يقول: اغتسل أبي سهل بن حنيف بالخرَّار، فنزع جبة كانت عليه، وعامر بن ربيعة ينظر، قال: وكان سهل رجلاً أبيض حسن الجلد، قال: فقال له عامر بن ربيعة: ما رأيت كاليوم، ولا جلد عذراء، قال: فوعك سهل مكانه، واشتد وعكة، فأُتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأُخبر أن سهلاً وعك، وأنه غير رائح معك يا رسول الله، فأتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره سهل بالذي كان من شأن عامر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «علام يقتل أحدكم أخاه؟ ألا بركت، إن العين حق، توضأ له»، فتوضأ له عامر، فراح سهل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس به بأس. هكذا مرسلاً.
وقد توبع محمد بن أبي أمامة على روايته، تابعه الزهري، واختلف عليه في وصله وإرساله: فأخرجه أخرجه مالك في "الموطأ" (2/716 رقم2) في الموضع السابق، وعنه الطبراني في "الكبير" (6/79 رقم 5575)، والبيهقي في "الدلائل" (6/163)، والبغوي في "شرح السنة" (13/163-164 رقم3245).
وأخرجه ابن ماجه (2/1160 رقم3509) في الطب، باب العين، والنسائي في "الكبرى" (6/60 رقم10036)، والطبراني في "الكبير" (7/79 رقم 6428 و6459)، والبيهقي (9/351-352)، ثلاثتهم من طريق سفيان.
وأخرجه عبدالرزاق (11/14-15 رقم19766)، والنسائي في "الكبرى" (6/60 رقم10037) من طريق سفيان، كلاهما - عبدالرزاق، وسفيان، عن معمر.
وأخرجه ابن حبان (13/470-471 رقم6106/الإحسان) من طريق إسحاق بن يحيى الكلبي. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (6/80 رقم 5577)، والحاكم (3/411)، والبيهقي (9/352)، ثلاثتهم من طريق يونس بن زيد.
وأخرجه الطبراني في "الكبير" (6/80-81 رقم 5576 و5579) من طريق معاوية بن يحيى وعقيل. جميعهم - مالك، وسفيان، ومعمر، وإسحاق بن يحيى، ويونس بن زيد، ومعاوية بن يحيى، وعقيل -، عن الزهري، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف؛ أنه قال: رأى عامرُ بن ربيعة سهلَ بن حنيف يغتسل، فقال: ما رأيت كاليوم، ولا جلد مخبأة، فلُبط سهل، فأُتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل: يا رسول الله! هل لك في سهل بن حنيف، والله ما يرفع رأسه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «هل تتهمون له أحدًا؟» قالوا: نتهم عامر بن ربيعة. قال: فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عامرًا فتغيظ عليه، وقال: «علام يقتل أحدكم أخاه؟ ألا برَّكت، اغتسل له»، فغسل عامر وجهه، ويديه، ومرفقيه، وركبتيه، وأطراف رجليه، وداخلة ازاره في قدح، ثم صُبَّ عليه، فراح سهل مع الناس، ليس به بأس. هكذا مرسلاً.
وخالفهم أبو أويس وابن ابي ذئب، وإبراهيم بن إسماعيل، فرووه موصولاً: أخرجه أحمد (3/486) من طريق أبي أويس - عبدالله بن عمر بن أويس -، والنسائي في "الكبرى" (4/98 رقم4660/كما في التحفة) من طريق ابن أبي ذئب. والطبراني في "الكبير" (6/78 رقم 5573) من طريق إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع.
ثلاثتهم - أبو يونس، وابن أبي ذئب، وإبراهيم بن إسماعيل -، عن الزهري، عن أبي أمامة بن سهل: أن أباه حدَّثه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج، وسار معه نحو مكة، حتى إذا كانوا بشعب الخرَّار من الجحفة اغتسل سهل بن حنيف. . . الحديث.
وقد توبع الزهري على وصله فأخرجه الطبراني في "الكبير" (6/82-83 رقم 5581 و5582) من طريق مسلمة بن خالد، وعبدالله بن أبي حبيبة، عن أبي أمامة بن سهل، عن أبيه قال: دخلت الخرَّار اغتسل. . ، فذكره.
والحديث صححه ابن حبان، والألباني في تعليقه على "المشكاة"(2/1286 رقم4562).
(2) في (ق): «وفي الرواية».
(3) في (ك): «فقال».
(4) في (ح): «وجه».
(5) في (ق): «وصب».
(6) في (ح): «الأرض».
(7) في (ح): «فتمضمض».
(8) قوله: «ما» سقط من (أ) و(ب).
(9) في (ق): «ثم يمينه».
(10) قوله: «به» سقط من (ح) و(ق).
(11) في (ح) و(ق): «وبشماله».
(12) في (ق): «وصب».
(13) في (ح): «اليمين».
(14) في (ق): «يمينه».
(15) في ق): «رأسه».
(16) في (ق): «على» بدل «يلي».
(17) في (ح): يشبه «السرج» وفي (ق): يشبه «الفروج».
(18) في (ق): «من خلفه على رأسه».
(19) في (ك): «أبو عبد المازري».
(20) في (ك) و(ح) و(ق): «قال وهذا».
(21) من قوله: «لا يمكن تعليله...» إلى هنا لم يتضح في (ك).
(22) من قوله: «ويستحسنه علماؤنا...» إلى هنا لم يتضح في (ك).
(23) في (ق): «من ورائه خلفه».
(24) قوله: «يستغفله به» من هامش (أ) فقط، وأشار الناسخ إلى أنه في نسخة وليس في (ك) و(ح) و(ق).(5/567)
القدمين جميعًا (1) ، بل أطرافهما من عند أصول أصابعه. وقيل في داخلة الإزار: الموضع الذي تمسُّه داخلة الإزار. وقيل: أراد وَرِكَه؛ إذ هو معقد الإزار. وقد روي في حديث سهل: أن العائن غسل (2) صدره مع ما ذكره (3) ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - أمره فحسا من الماء حسوات. والمعتمد على ما رواه مالك والله تعالى أعلم.
وفي حديث سهل من الفقه أبواب. فمنها: جبر العائن على الوضوء المذكور؛ على الوجه المذكور (4) . وقيل: لا يُجبر، وأن من اتُّهم بأمرٍ أُحضر للحاكم، وكُشف عن أمره. وأن العين قد تقتل، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «علام (5) يقتل أحدكم أخاه ؟» وأن الدُّعاء بالبركة تذهب (6) أثر العين بإذن الله تعالى. وأن أثر العين إنما هو عن حسد كامن في القلب. وأن من عرف بالإصابة بالعين منع من مداخلة الناس دفعًا لضرره. قال بعض العلماء: يأمره الإمام بلزوم بيته، وإن كان فقيرًا رزقه (7) ما يقوم به، ويكف (8) أذاه عن الناس. وفيه جواز النُّشَر والتطبب بها.
فرع: لو (9) انتهت إصابة العائن (10) إلى أن يُعرف بذلك ويُعلَم من حاله أنه كلَّما تكلم بشيء معظِّمًا له (11) ، أو متعجبًا منه أصيب ذلك الشيء، وتكرر ذلك بحيث يصير ذلك (12) عادة فما أتلفه بعينه غَرِمَه. وإن قتل أحدًا بعينه عامدًا لقتله قتل به، كالسَّاحر القاتل بسحره عند من لا يقتله كفرًا. وأما عندنا فيقتل على كل حال. قتل (13) بسحره أو (14) لا؛ لأنَّه كالزنديق. وسيأتي.
وقول عائشة رضي الله عنها : «سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهودي»؛ هذا الحديث يدل على أن السحر موجود، وأن له أثرًا في المسحور. وقد دلَّ على ذلك مواضع (15) كثيرة من الكتاب والسُّنة بحيث يحصل بذلك القطع بأن السِّحر حق، وأنه موجودٌ، =(5/568)=@
__________
(1) في (ح) و(ك) و(ق): «جميعهما».
(2) في (ك): «عسل».
(3) في (ح): «ذكروه».
(4) قوله: «المذكور» سقط من (ح).
(5) قوله: «علام» سقط من (ق).
(6) في (ح) و(ك) و(ق): «يذهب».
(7) في (ق): «أزرقه».
(8) في (ح) و(ك) و(ق): «كف».
(9) في (ك): «إذا».
(10) في (ح) و(ق): «العين» وكتب في هامش (ق): «العائن» ووضع (نخـ).
(11) قوله: «له» سقط من (ق).
(12) قوله: «ذلك» سقط من (ك).
(13) قوله: «قتل» سقط من (ح).
(14) في (ك): «أم لا».
(15) في (ك): «وقد دل عليه مواضع».(5/568)
وأن الشرع قد أخبر بذلك، كقصة سحرة فرعون، وبقوله تعالى فيها :{وجاءُوا بسحر عظيم} (1) ، و {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} (2) ، إلى غير ذلك مما تضمنته تلك الآيات من ذكر السِّحر، والسَّحرة، وكقوله تعالى :{ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر. . . } (3) إلى آخرها. وبالجملة: فهو أمر مقطوع به بإخبار الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - عن وجوده، ووقوعه. فمن كذَّب بذلك (4) فهو كافرٌ، مكذِّب لله ورسوله (5) ، منكر (6) لما علم مشاهدةً وعِيَانًا. ومنكر ذلك إن كان مُستسرًّا به فهو الزنديق، وإن كان مظهرًا فهو المرتد.
والسحر عند علمائنا: حيل صناعية يُتوصل (7) إليها بالعلم (8) ، والإكتساب، غير أنها لخفائها ودقتها لا يتوصل إليها إلا آحاد الناس، فيندر وقوعها، ويستغرب (9) آثارها لندورها (10) . ومادَّته (11) الوقوف على خواص الأشياء، والعلم (12) بوجوه تركيبها، وأزمان ذلك. وأكثره تخييلات (13) لا حقيقة (14) لها، وإيهامات لا ثبوت لها، فتعظم عند من لا يعرفها وتشبَّه (15) على من لا يقف عليها. ولذلك قال تعالى :{يخيل (16) إليه من سحرهم أنها تسعى} (17) . مع أنه (18) كان في عين الناظر إليه عظيمًا. وعن ذلك عبر الله تعالى بقوله :{وجاءوا بسحر عظيم} (19) ؛ لأن الحبال والعصي لم تخرج عن حقيقتها، وذلك بخلاف عصا موسى، فإنَّها انقلبت ثعبانًا مبينًا خرقًا للعادة، وإظهارًا للمعجزة. ولا ينكر أن السِحر له تأثير في القلوب (20) بالحب (21) ، والبغض، وبإلقاء الشرور حتى يُفرِّقَ الساحر بين المرء وزوجه، ويحول بين المرء وقلبه، وبإدخال الآلام، وعظيم الأسقام؛ إذ كل ذلك (22) مدرك بالمشاهدة، وإنكاره معاندة. وعلى ما قررناه (23) فالسحر ليس بخرق عادة بل هو أمر عادي يتوصَّل إليه من يطلبه غالبًا؛ غير أنه يقل ويندر. فلا نقول: إن السَّاحر تنخرق (24) له العادة؛ خلافًا لمن قال من أئمتنا وغيرهم: إن العادة تنخرق له. فإنَّ أراد بذلك جواز انخراقها له عادة عقلاً فمسلّم، ما لم يدّع النبوة. فإنَّ حاصل ذلك أنه (25) أمر ممكن. والله تعالى قادر على كل ممكن. وإن أراد بذلك (26) : أن الذي وقع في الوجود خارق للعادة فهو =(5/569)=@
__________
(1) الآية (116) من سورة الأعراف.
(2) الآية (66) من سورة طه.
(3) الآية (102) من سورة البقرة.
(4) في (ك): «ذلك».
(5) في (ح): «ولرسوله».
(6) في (ق): «منكرا».
(7) في (أ) و(ق): «يوصل».
(8) في (ك) و(ح) و(ق): «بالتعلم».
(9) في (ك): «وتستغرب».
(10) قوله: «لندورها» سقط من (ح).
(11) في (ق): «مادابه» كذارسمت.
(12) في (ك): «بوجود» وفي (ق): «بوجودة».
(13) في (ق): «تخيلات».
(14) في (ق): «لاحقيقية».
(15) في (ك): «وتشتبه».
(16) في (ق): «يخل».
(17) الآية (66) من سورة طه.
(18) في (ح): «أنه قد».
(19) الآية (166) من سورة الأعراف.
(20) في (ق): «كالحب».
(21) في (ك) و(ح): «العادة» وكتب في هامش (ح): «القلوب كالحب».
(22) قوله: «ذلك» سقط من (ك) و(ح).
(23) في (ح): «قررنا».
(24) في (ك): «ينخرق».
(25) قوله: «أنه» سقط من (ك).
(26) قوله: «بذلك» سقط من (ح) و(ك).(5/569)
باطل (1) بما (2) قدَّمناه. واستيفاء مباحثه في علم الكلام.
وقولها: «حتى كان يخيل (3) إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله»؛ قد جعل هذا بعض أهل الزَّيغ مطعنًا في النبوة. وقال: إذا انتهى الحال إلى هذا لم يوثق بقول من كان كذلك. والجواب: إن هذا صَدَر عن سوء فهم وعدم علم. أما سوء الفهم؛ فلأنها إنما أرادت أنه - صلى الله عليه وسلم - أُخِذَ عن النساء، فكان قبل مقاربة الجماع يخيل إليه أنه يتأتى (4) له ذلك، فإذا لابسه لم ينهض لغلبة مرض السحر عليه. وقد جاء هذا المعنى منصوصًا في غير كتاب مسلم (5) . فقالت (6) : حتى كان (7) يخيل إليه: أنه يأتي النساء، فلا يأتيهن. ولو لم يُنقل أن ذلك في الجماع فيصح (8) في غيره، كما صحَّ فيه. فيتخيل إليه (9) أنه يُقْدِم (10) على الأكل، أو (11) المشي (12) مثلاً؛ لأنَّه لا يُحسُّ بمانع يمنعه منه. فإذا رام ذلك، وأخذ (13) فيه لم يتأتَّ (14) له ذلك، لغلبة المرض الناشيء عن السحر. لا أنه - صلى الله عليه وسلم - أوجب له (15) خللاً في عقله، ولا تخليطًا في قوله؛ إذ قد قام برهان المعجزة على صدقه، وعصمة الله تعالى له عن (16) الغلط فيما يُبلِّغه بقوله وفعله. وأما عدم علم الطاعن: فقد سلبه (17) الله تعالى العلم بأحكام النبوات، وما تدل عليه المعجزات. فكأنهم لم يعلموا أن الأنبياء من البشر، وأنه يجوز عليهم من الأمراض، والآلام، والغضب (18) ، والضجر (19) ، والعجز، والسحر، والعين، وغير ذلك ما (20) يجوز على البشر، لكنهم معصومون عمَّا يناقض مدلول (21) المعجزة من معرفة الله تعالى، والصِّدق، والعصمة عن الغلط في التبليغ. وعن هذا المعنى عبَّر الله تعالى بقوله :{قل إنما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إليَّ} (22) . فمن حيث البشرية: يجوز عليهم ما يجوز عليهم. ومن حيث الخاصة النبويَّة: امتاز عنهم فهو (23) الذي شهد له العلي الأعلى؛ بأن بصره ما زاغ وما =(5/570)=@
__________
(1) في (ك) و(ق): «فباطل» بدل «فهو باطل» الهامش «لم يتأت» ووضع (خ).
(2) في (ق): «لما».
(3) في (ق): «يخل».
(4) في (ق): «يأتي».
(5) . . .
(6) في (ق): «فقال».
(7) قوله: «كان» سقط من (ق).
(8) في (ح): «لصح».
(9) قوله: «إليه» ليس في (أ).
(10) في (ق): «تقدم».
(11) في (ق): «و» بدل «أو».
(12) في (ك) و(ح): «الشي».
(13) في (ح): «فأخذ».
(14) في (ق): «لم يأت» وكتب في الهامش «لم يتأت» ووضع (خ).
(15) في (أ) و(ب): «وأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يوجب ذلك» وفي (ح) و(ق): «أوجب له ذلك»..
(16) في (ح): «من».
(17) قوله: «سلبه» مطموس في (ك).
(18) في (ح): «والعصمة».
(19) قوله: «والضجر» مطموس في (ك).
(20) في (ق): «مما».
(21) في (ح) و(ق) و(ك): «دلالة».
(22) الآية (110) من سورة الكهف.
(23) في (ح) و(ك): «وهو».(5/570)
طغى، وبأن (1) فؤاده ما كذب ما رأى، وبأن قوله وحيٌّ يوحى، وأنه ما ينطق عن الهوى.
وقوله: «ثم دعا، ثم دعا (2) »؛ أى (3) : إظهارًا (4) للعجز والافتقار، وعلمًا منه: بأن الله هو الكاشف للكُرَب (5) ، والأضرار، وقيامًا (6) بعبادة الدعاء عند الاضطرار.
وقوله: «أما شعرتِ: أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه (7) »؛ أي: أجابني فيما دعوته. فسمَّى الدعاء: استفتاء. والجواب: فتيا؛ لأنَّ الداعي طالب، والمجيب مسعفٌ، فاستعير أحدهما للآخر.
وقوله: «جاءني رجلان»؛ أي: ملكان في صورة رجلين. وظاهره: أن ذلك كان في اليقظة. ويُحتمل (8) أن يكون منامًا، ورؤيا الأنبياء عليهم السلام وحيٌّ (9) .
وقوله: «ما وجع الرَّجل ؟» أي: ما مرضه ؟ و«المطبوب»: المسحور. يقال: طُبَّ الرَّجل: إذا سحر. قال ابن الأنباري: الطِّبُّ من الأضداد. يقال (10) لعلاج المرض (11) وللسِّحر (12) .
قال الشيخ: وإنما قيل ذلك؛ لأنَّ أصل الطِّبَّ الحِذق بالشيء، والتفطن له، ولما كان علاج المريض والسِّحر؛ إنما يكونان عن فطنة وحِذق: قيل على كل واحد منهما: طبٌّ، وَلِمُعَاينهما (13) : طبيب، وفي الطب ثلاث لغات: كسر الطاء، وفتحها، وضمها. =(5/571)=@
__________
(1) في (ك): «وأن».
(2) في (ك): «ثم دعا ثم دعاه».
(3) قوله: «أي» ليس في (أ).
(4) قوله: «إظهارًا» لم يتضح في (ق).
(5) في (ك): «لكزب» وفي (ق): «الكرب».
(6) في (ح): «قيامًا».
(7) قوله: «فيه» ليس في (أ) و(ك) و(ح) و(ق).
(8) وضع بعدها إشارة لحق ولم يتضح شيء في هامش (أ).
(9) أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (463)، وابن أبي حاتم، كما في ابن كثير (4/15)، وابن جرير (12/151)، والطبراني في "الكبير" (12302)، والحاكم (2/468). كلهم من طريق سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به. وإسناده لا بأس به.
والحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (138 و821) في الموضعين قال: قال عمرو: يمعت عمرو بن عبيد يقول، فذكره. من قول عمرو بن عمير. وأخرجه الحميدي في "مسنده" (474) كذلك.
تنبيه: قال ابن حجر في"الفتح"(1/239): «رواه مسلم مرفوعًا،وسيأتي في التوحيد»اهـ. وهو سبق قلم أو وهم، فلم أجده في "صحيح مسلم".
(10) في (ك): «ويقال».
(11) في (ح) و(ك): «المريض» وفي (ق): «المرض» وكتب في الهامش «المريض» ووضع (خ)..
(12) في (ح) و(ق): «والسحر».
(13) في (ق): «ولمعاينها».(5/571)
و«الْمُشط (1) » بضم الميم (2) : واحد الأمشاط التي يمشط بها. والمشط أيضًا (3) : نبت صغير يقال له: مشط الذيب (4) . والمشط - أيضًا -: سلاميات (5) ظهر القدم. ومشط الكتف: العظم العريض.
قال الشيخ: ويحتمل أن يكون الذي سحر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدًا من هؤلاء الأربعة.
و«الْمُشاطة (6) » بالطاء: هو ما يسقط من الشعر عند الْمَشْطِ. ووقع في البخاري (7) : مشاقة - بالقاف – وهي (8) الواحدة من مشاق الكتان. وقيل: هي (9) المشاطة (10) من الشعر. و«جف طلعة (11) ذكر» روايتنا فيه بالفاء، وهي المشهورة. وقال أبو عمر: قد روي بالباء بواحدة تحتها (12) . فبالفاء: هي وعاء الطلع، وهو الغشاء الذي يكون عليه. وبالباء؛ قال شمر: أراد بالجب داخل الطلعة إذا أُخرج عنها الكُفُرَّى، كما يقال لداخل الرَّكِبَّةِ، من أسفلها إلى أعلاها: جبٌّ. وقيل فيه: إنه من القطع؛ يعني به: ما قطع من قشورها.
وقوله: «في بئر ذي أروان»؛ كذا هو في الأصل، وخارج الحاشية: في بئر ذروان (13) . ووقع (14) في البخاري في كتاب الدَّعوات (15) : في ذروان بئر (16) في بني زريق. وقال القتبي (17) : الصواب: ذي أروان، كما في الأصل. =(5/572)=@
__________
(1) في (أ): «والمسط».
(2) في (ق): «بضم الميم» وكتب في الهامش «بفتح الميم».
(3) قوله: «أيضًا» مكرر في (ق).
(4) في (ق): «الزيت».
(5) في (ق): «سلاميات» وكتب في الهامش «ثلاثيات» ووضع (خ).
(6) وفي (أ): «والمشاط».
(7) أشار الحافظ في "الفتح" (10/232) إلى أنَّها رواية غير أبي ذر، قال: وهو أشبه. اهـ.
(8) في (أ): «وهو».
(9) في (ح): «في».
(10) في (ق): «هي المشاقه» وكتب في الهامش «هي المشاطة» ووضع (خ).
(11) في (ق): يشبه «وجنف طلع».
(12) في (ق): «من تحتها».
(13) في (ح): «ذاروان».
(14) في (ق): «وقد وقع».
(15) باب تكرير الدعاء رقم (6391).
(16) قوله: «بئر» سقط من (ك) و(ح) و(ق).
(17) في (ق): «القتيبي».(5/572)
وقوله: «والله لكأن ماءها نقاعة (1) الحناء، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين»؛ فيه دليل: على جواز اليمين وإن لم يستحلف. ونقاعة الحنَّاء: الماء الذي يخرج فيه لونها إذا نقعت فيه. وتشبيهه (2) نخلها برؤوس الشياطين يعني: أنَّها (3) مستكرهه، مستقبحة (4) المنظر، والمخبر. وهذا على عادة (5) العرب إذا استقبحوا شيئًا شبهوه بأنياب أغوال، ورؤوس (6) الشياطين. وقد تقدَّم نحو (7) هذا. ويعني - والله أعلم -: أن هذه الأرض التي فيها النخل والبئر خراب لا تعمر لرداءتها، فبئرها معطلة، ونخلها مشذَّبةٌ (8) ، مهملة، وتغيُّر ماء البئر: إما لطول إقامته، وإما لما خالطه مما أُلقي فيه.
وقولها (9) : «أفلا أحرقته»؛ كذا صحَّت الرواية. وتعني (10) به: السِّحر. ووقع في بعض النُّسخ: «أخرجته»؛ كذا بدل «أحرقته»، وهي أصوب (11) ؛ لأنَّها هي التي (12) تناسب قوله: «لا، أما أنا فقد عافاني الله، وكرهت أن أثير على الناس شرًّا»؛ أي: بإخراج السِّحر من البئر، فلعلَّه يعمل به (13) ، أو يضر أحدًا.
وقوله: «فأمرتُ بها فدفنت»؛ أي: بالبئر؛ يعني: أنها ردمت على السحر الذي فيها؛ لما يخاف من ضرر السِّحر، ومن ضرر ماء ذلك البئر. هذا معنى ما ذكره بعض الشارحين لهذا الحديث. ووقع في رواية في (14) "الأم": قالت عائشة =(5/573)=@
__________
(1) في (ك): «ثقاعة».
(2) في (ق): «وتشبيه».
(3) قوله: «أنها» سقط من (ك).
(4) قوله: «مستقبحة» مطموس في (ك).
(5) قوله: «عادة» مطموس في (ك).
(6) في (ح) و(ك): «أو رؤوس».
(7) في (ح): «أن نحو».
(8) في (ح): «مسدبة».
(9) في (أ) و(ب): «وقوله».
(10) في (أ) و(ب) و(ق): «ويعني».
(11) في (ق): «الصواب».
(12) في (ق): «اكثر» بدل «التي».
(13) في (ح): «فيه».
(14) قوله: «في» سقط من (ق).(5/573)
رضي الله عنها: قلت: يا رسول الله! فأخرجته (1) (2) ؟ تستفهمه: هل كان منه إخراج له ؟ والرواية المتقدِّمة على العرض، وهما متقاربتان في المعنى. وفي كل الروايات فجواب النبي - صلى الله عليه وسلم - لها هو (3) واحدٌ، وهو: أنه لم يفعل ذلك، ولا وُجِد منه.
قال الشيخ رحمه الله: ويظهر لي: أن رواية: «أفلا أحرقته ؟» أولى من غيرها؛ لأنَّه يمكن أن يكون (4) استفهمته عن إحراق لبيد بن الأعصم؛ الذي صنع السِّحر فأجابها: بالامتناع من (5) ذلك؛ لئلا يقع بين الناس شرٌّ بسبب ذلك، فحينئذ يكون فيه حجَّة لمالك على قتل السَّاحر إذا عمل بسحره (6) . وإنَّما امتنع النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك لما نبَّه عليه من خوف وقوع شرٍّ بين المسلمين واليهود؛ لما كان بينهم من العهد والذمَّة. فلو قتله: لثارت فتنة، ولتحدَّث الناس: أن محمَّدًا يقتل من عاهده وأمَّنه. وهذا نحو مِمَّا راعاه في الامتناع من قتل المنافقين، حيث (7) قال: «لئلا يتحدَّث الناس (8) : أن محمَّدًا يقتل أصحابه» (9) ، فيكون ذلك منفرًا عن الدُّخول في دينه، وفي (10) عهده. والله تعالى أعلم.
وقد تقدَّم: أن السَّاحر عند مالك كالزنديق؛ لأنَّ العمل عنده بالسِّحر كفر مُستَسرٌّ (11) به، فلا تُقبل توبة السَّاحر، كما لا تقبل توبة الزنديق (12) ؛ إذ لا طريق لنا (13) إلى معرفة صدق توبته (14) . وقال الشافعي: إن عَمِلَ السَّحر، وقتل به؛ فإن قال: تعمدت القتل؛ قتل. وإن قال: لم أتعمده (15) ؟ لم يقتل، وكانت فيه الدِّية كقتل الخطأ (16) . وإنما صار مالك: إلى أن السحر كفرٌ؛ لقوله تعالى :{وما يعلمان من أحدٍ حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر} (17) ؛ أي: بالسحر. ويتأيَّد ذلك بأن الساحر (18) لا يتم له سحره حتى يعتقد أن سحره ذلك مؤثرٌ بذاته وحقيقته، وذلك كفر. =(5/574)=@
__________
(1) في (ق): «فأخرجته» وكتب في الهامش «ما خرجت» ووضع (خ).
(2) في المطبوع من "صحيح مسلم" (4/1721 رقم44): فأخرجه، ولم يقل: «أفلا أحرقته». هكذا، ولعله من اختلاف النسخ.
(3) قوله: «هو» سقط من (ح) و(ك) و(ق).
(4) في (ح) و(ك): «تكون».
(5) في (ق): «عن» بدل «من».
(6) في (ق): «سحره».
(7) قوله: «حيث» سقط من (ك).
(8) من قوله: «أن محمدًا. . . » إلى هنا سقط من (ح).
(9) البخاري (4905 و4907)، ومسلم (2584).
(10) قوله: «في» سقط من (ق).
(11) في (ح): «مستقر».
(12) في (ك): «الرنديق».
(13) قوله: «لنا» سقط من (ح).
(14) في (ح): «نبوته».
(15) في (ق): «لم أتعمد».
(16) قوله: «كقتل الخطأ» من هامش (أ)، وأشار الناسخ إلى أنه في نسخة. وليس في (ك) وح) و(ق).
(17) الآية (102) من سورة البقرة.
(18) في (ك): يشبه أن تكون «الساحر» .(5/574)
وبقول مالك قال أحمد (1) ، وجماعة من الصحابة والتابعين، والشافعي في قولٍ له آخر. وروي (2) عنه أيضًا: أنه يُسأل عن سحره، فإنَّ كان كفرًا؛ استتيب منه. وقال مالك في المرأة تعقد زوجها: إنَّها (3) تُنكَّل ولا تقتل. وقال ابن المسيب في رجل طُبَّ، أو أخذ (4) عن امرأته أيُحِلُّ ويُنْشَر؟ قال: لا باس به. وقال: أما ما ينفع فلم يُنْه عنه. وأجاز أيضًا أن يسأل من الساحر حَلُّ السِّحر. وإليه مال المزني، وكرهه الحسن البصري.
3 - ومن باب ما جاء أن السُّموم لا تؤثر بذاتها (5)
قوله: «إن يهوديَّة (6) أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشاةٍ مسمومة»؛ ظاهره: أنها أتته بها على وجه الهدية، فإنَّه كان يقبل الهديَّة، ويُثيب عليها. ويحتمل أن تكون (7) ضيافة، وأبعد ذلك (8) أن تكون (9) بيعًا. وفي غير كتاب مسلم: أنه - صلى الله عليه وسلم - أخذ من الشاة الذراع، فأكل (10) منها هو وبشر بن البراء، وأنه قال عند ذلك: «إن هذه (11) الذراع تخبرني: أنها مسمومةٌ»، فأحضرت اليهوديَّة، فسُئلت عن ذلك، فاعترفت، وقالت: إنما فعلت ذلك؛ لأنَّك إن كنت نبيًّا لم تضرك (12) ، وإن كنت كاذبًا أَرَحْتُ منك (13) . وفي كتاب مسلم قالت: أردت لأقتلك. فأجابها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن قال: «ما كان الله ليسلطك على ذلك»، فلم يضرَّ ذلك السُّم رسول الله (14) - صلى الله عليه وسلم - طول حياته غير ما أثَّر بلهواته وغير ما كان يعاوده منه في أوقات، فلما حضر وقت وفاته أحدث الله تعالى ضرر (15) ذلك =(5/575)=@
__________
(1) في (ق): «أحمد بن حنبل».
(2) في (ق): «ويروى».
(3) قوله: «أنها» سقط من (ق).
(4) في (ق): «أو أخذ» وكتب في الهامش «أو أخر» ووضع (خ).
(5) في (ك) و(ح) و(ق): «بذواتها».
(6) كتب الناسخ في هامش (أ): «اليهودية إسمها زينب بنت الحارث وهي بنت أخي مرحب قاله موسى بن عقبة».
(7) في (ك) و(ق): «يكون».
(8) قوله: ذلك» سقط من (ق).
(9) في (ك) و(ق): «يكون».
(10) في (ق): «وأكل».
(11) في (ق): «هذا».
(12) في (ح) و(ك) و(ق): «يضرك».
(13) رواه الدارمي من طريق محمد بن عمر الليثي، عن أبي سلمة به. بهذا اللفظ الذي ذكره المؤلف. وأخرجه أبو داود (4510)، والبيهقي (8/46) من طريق الزهري، عن جابر به نحوه والزهري لم يسمع جابر. وأخرجه عبدالرزاق (19814 و10019) عن معمر ،عن الزهري، عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك: أن امرأة يهودية، فذكر الحديث.
(14) في (ق): «النبي - صلى الله عليه وسلم - ».
(15) في (ح): «له ضرر» وكأنه ضرب على قوله: «له».(5/575)
السُّم في النبي - صلى الله عليه وسلم - فتوفي بسببه، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي توفي فيه: «لم تزل أكلة خيبر تعاودني (1) ، فالآن أوان قطعت أبهري» (2) . فجمع الله لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - بين النبوَّة والشهادة مبالغة في الترفيع والكرامة. وأمَّا بشر بن البراء: فروي: أنه مات من حينه. وقيل: بل لزمه وجعه ذلك، ثم توفي منه بعد سنة.
ففي هذا الحديث فوائد كثيرة؛ أهمها: ما أظهر الله تعالى من كرامات النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كلّمه الجماد، ولم يؤثر فيه السُّم، وعلم ما غيب (3) عنه من السُّم. وفيه ما نبه عليه في الترجمة: من أن السُّموم لا تؤثر بذواتها (4) ، بل بإذن الله تعالى ومشيئته. ألا ترى: أن السُّم أثّر في بِشْرٍ ولم يؤثر في النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلو كان يؤثر بذاته لأثر فيهما في الحال؟!.
وقوله: «ألا تقتلها! قال: لا»؛ هذه رواية أنس: أنَّه لم يقتلها. وقد وافقه على ذلك أبو هريرة فيما رواه عنه ابن وهب. وقد روى عنه أبو سلمة بن عبدالرحمن: أنَّه (5) - صلى الله عليه وسلم - قتلها. وفي رواية ابن عباس: أنَّه دفعها إلى أولياء بشرٍ فقتلوها. ويصح الجمع، بأن يقال: إنه لم يقتلها أولاً بما فعلت من تقديم السُّم إليهم، بل حتى مات بشر، فدفعها إليهم فقتلوها.
ففيه (6) من الفقه: أن القتل بالسُّم كالقتل بالسِّلاح الذي يوجب القصاص. وهو قول مالك إذا استكرهه على شربه فيقتل بمثل ذلك. وقال الكوفيون: لا قصاص في ذلك، وفيه الدِّية على عاقلته. قالوا ولو دسَّه له في طعام أو شراب لم يكن عليه شيء ولا (7) عاقلته. وقال الشافعي: إذا فعل ذلك به وهو مكرهٌ ففيه قولان؟ =(5/576)=@
__________
(1) في (ح): «تعادني» وفي (ق): «تعاذني».
(2) رواه البخاري (4428)، والدارمي (1/32).
(3) في (ق): «غيبت».
(4) في (ق): «بذاتها».
(5) في (ق): «أن».
(6) في (ح): «وفيه».
(7) في (أ) و(ك) و(ح) و(ق): «ولا على».(5/576)
أحدهما: عليه القود، وهو أشبهها (1) .
والثاني: لا قود عليه (2) . وإن وضعه له، فأخبره، فأخذه الرَّجل، فأكله، فلا عقل، ولا قود، ولا كفارة.
وقوله: «فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - »؛ أي: أعرف أثرها، فأمَّا بتغيّر (3) لون اللَّهوات، وإمَّا بنتوءٍ، أو (4) تحفير فيها. واللهوات: جمع لهاة، وهي اللحمة الحمراء المعلقة في أصل الحنك. قاله الأصمعي. وقيل: هي ما بين منقطع اللِّسان إلى منقطع أصل الفم من أعلاه.
4 - ومن باب ما كان يرقي به النبي - صلى الله عليه وسلم - المريض (5)
قوله: «أذهب الباس ربَّ الناس !» البأس: الضرر. وفيه دليلٌ على جواز السَّجع (6) في الدعاء والرقى؛ إذا لم يكن مقصودًا، ولا متكلَّفًا.
وقوله: «شفاء لا يغادر سقمًا»؛ شفاء منصوبٌ على المصدر، وصدره: واشف. والشافي: اسم فاعل من ذلك، والألف واللام فيه بمعنى: الذي، وليس =(5/577)=@
__________
(1) في (ح) و(ك) و(ق): «أشبههما».
(2) كتب في (أ) فوق قوله «عليه» كلمة صح.
(3) في (ق): «بتغيير».
(4) في (ح): «و» بدل «أو».
(5) قوله: «المريض» سقط من (ق).
(6) في (ق): «الشجع».(5/577)
باسم علم لله تعالى إذ لم يكثر ذلك، ولم يتكرر، على ما قدَّمناه (1) .
و«لا يغادر»؛ أي: لا يترك (2) . و«السَّقم»: المرض. و«مسحه - صلى الله عليه وسلم - بيمينه عند الرَّقي»؛ دليل على جواز ذلك. وحكمته: التبرُّك باليمين، وأن ذلك غاية تمكُّن (3) الرَّاقي، فكأنَّه مد (4) يده لأخذ المرض وإزالته.
ومن حكمته: إظهار عجز الرَّاقي عن الشفاء، وصحة تفويضه ذلك إلى الله تعالى، ولذلك قال عند ذلك: «لا شفاء إلا شفاؤك»،.
و«الرفيق الأعلى»؛ يعني به - والله أعلم -: الملأ (5) الكريم من الملائكة والنبيين. وقيل: يعني به: الله تعالى، وفيه بُعدٌ من جهة (6) اللسان (7) . وسيأتي له مزيد بيان (8) .
و«النفث»: =(5/578)=@
__________
(1) في (ق): «على ما قررناه» وكتب في الهامش «على ما قدمناه» ووضع (خ).
(2) في (ك): «لم يترك» وكأنه ضرب على قوله «لم».
(3) في (ك): «ممكن».
(4) في (ق): «مر».
(5) في (ق): «الملك».
(6) في (ح) و(أ): «حيث».
(7) في (ك) و(ق): «السياق» وألحق في هامش (ك): «اللسان».
(8) قوله: «وسيأتي له مزيد بيان» سقط من (ح) و(ك) و(ق).(5/578)
نفخ يسير مع ريق يسير، وهو أقل من التَّفل.
و«المعوِّذات»؛ يعني بها: {قل أعوذ بربِّ الفلق} (1) ، و :{قل أعوذ بربِّ الناس} (2) . ونحو قوله تعالى :{ربِّ (3) أعوذ بك من همزات الشياطين - وأعوذ بك ربِّ أن يحضرون} (4) .
وقوله: «كان إذا اشتكى الإنسان مِنَّا، أو كانت به قرحةٌ، أو جرح»؛ يدل: على جواز الرَّقى من كل الأمراض، والجراح، والقروح، وأن ذلك كان (5) أمرًا فاشيًا بينهم، معمولاً به عندهم.
ووضعُ النبي - صلى الله عليه وسلم - سبابته (6) بالأرض، ورقاه بها يدل: على استحباب ذلك عند الرَّقي. وزعم بعض علمائنا: أن ذلك معلل: بأن (7) تراب الأرض لبرودته، ويبسه يقوي الموضع الذي به الألم (8) ، ويمنع انصباب المواد إليه بيبسه (9) وتجفيفه مع منفعته في تجفيف (10) الجراح وإدمالها. وقال في الرِّيق: إنه (11) يختصُّ بالتحليل (12) ، والإنضاج، والإدمال، وإبراء الجراحات، والأورام، والثآليل لا سيَّما من الصائم والجائع (13) . =(5/579)=@
__________
(1) أي: سورة الفلق.
(2) أي: سورة الناس.
(3) في (ق): «وقل رب».
(4) الآية (97-98) من سورة المؤمنون.
(5) قوله: «كان» سقط من (ق).
(6) في (ح): «سبابتيه».
(7) قوله: «بأن» لم يتضح في (ق).
(8) في (ق): «الآلام».
(9) في (ق): «بنفسه».
(10) في (ح): «تخفيف».
(11) في (ق): «أن» بدل «أنه».
(12) في (ق): «بالحليل».
(13) في (ح): «أو الجائع».(5/579)
قال الشيخ رضي الله عنه: وهذا إنَّما يكون عند المعالجة، والشروع فيها على قوانينها من مراعاة مقدار (1) التراب والرِّيق، وملازمة ذلك في أوقاته.
وأمَّا النفث، ووضع السَّبابة على الأرض، فلا يتعلَّق منها بالمرقِي (2) شيء له بالٌ، ولا أثر، إنَّما (3) هذا من باب التَّبرُّك بأسماء الله تعالى، وبآثار رسوله (4) - صلى الله عليه وسلم - وأما الرِّيق ووضع الإصبع، وما أشبه ذلك: فإمَّا أن يكون ذلك (5) لخاصية فيه، وإمَّا أن يكون ذلك لحكمه إخفاء آثار (6) القدرة بمباشرة الأسباب المعتادة. والله تعالى أعلم.
5 - ومن باب مِمَّاذا (7) يرقى
قول (8) عائشة رضي الله عنها: «رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرُّقية من الحمة (9) ». وقول أنس رضي الله عنه: «رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرُّقية من العين، والحمة، والنملة»؛ دليلٌ على أن الأصل في الرُّقى كان ممنوعًا، كما قد صرَّح به حيث قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرُّقى. وإنَّما نهى عنه (10) مطلقًا؛ لأنَّهم كانوا يرقون في الجاهلية =(5/580)=@
__________
(1) قوله: «مقدار» سقط من (أ).
(2) في (ق): «بالرقى».
(3) في (أ) و(ح) و(ق): «وإنما».
(4) في (ق): «رسول الله».
(5) قوله: «ذلك» سقط من (ق).
(6) قوله: «أثار» سقط من (ك).
(7) في (ك): «ماذا».
(8) في (ق): «وقول».
(9) في (ك): «من العين والنملة والحمة» وفي (ق): «من العين والحمة والنملة».
(10) في (ك): «عنها».(5/580)
بِرُقىً هو شركٌ، وبما لا يفهم، وكانوا يعتقدون: أن ذلك الرُّقى يؤثر. ثم: إنهم (1) لما أسلموا وزال ذلك عنهم نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك عمومًا، ليكون أبلغ في المنع، وأسدَّ للذريعة. ثم: إنهم لما سألوه، وأخبروه: أنهم ينتفعون بذلك؛ رخص لهم في بعض ذلك، وقال: «اعرضوا عليَّ رقاكم، لا بأس بالرُّقى ما لم يكن فيه شرك»، فجازت الرُّقية من كل الآفات من الأمراض، والجراح، والقروح، والحمة، والعين، وغير ذلك؛ إذا كان الرُّقى بما يُفهم، ولم يكن فيه شرك، ولا شيء ممنوع. وأفضل ذلك، وأنفعه: ما كان بأسماء الله تعالى وكلامه، وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله: «من كل ذي حمة»؛ أي: من لَسْع كل دابَّة ذات سُمٍّ. والحمة: السُّم (2) . والمشهور فيه: ضم الحاء. قال بعضهم: وقد يفتح (3) . وهي مخففة الميم على (4) كل حال.
و«النملة»، قال ابن قتيبة: هي قروح تكون في الجنب، وغير الجنب (5) تزعم =(5/581)=@
__________
(1) قوله: «إنهم» سقط من (ك).
(2) قوله: «والحمة السمُّ» سقط من (ق).
(3) في (ح) و(ك) و(ق): «تفتح».
(4) قوله: «على» سقط من (ب) وفي (أ): «بكل».
(5) قوله: «وغير الجنب» سقط من (أ) و(ك) و(ق).(5/581)
المجوس: أن ولد الرَّجل إذا كان من أخته فخطَّ على النملة شفي صاحبها وأنشد (1) :
ولا عَيْبَ فِينَا (2) غير عِرْقٍ لِمًعْشَرٍ (3) كِرَامٍ وأنَّا لا نَخُطُّ على النَّمل
أي: لسنا بمجوسٍ (4) ننكح الأخوات. قال غيره: تكون في الجنب (5) وغير الجنب، والمشهور فيها فتح النون. وحكى الهروي فيها: الضم. فأمَّا النِّملة -بكسر النون -: فهي المشية المتقاربة، حكاها الفرَّاء.
و«السَّفعة (6) » تُروى (7) بفتح السين، وضمها، والفتح أكثر (8) . وقد (9) فسَّرها الراوي بقوله: يعني: بوجهها صفرة. وفيه تسامح، فإنَّ السفعة (10) هي فيما قاله الأصمعي: حمرة يعلوها سواد. وقال الحربي: هي سوادٌ في الوجه. و«النَّظرة»: العين، قاله الهروي. وقال أبو عبيد: يقال: رجل به نظرة؛ أي: عين (11) .
قال الشيخ رحمه الله: وجميع أحاديث الرُّقية الواقعة في كتاب مسلم: إنَّما تدلُّ على جواز الرُّقي بعد وقوع الأسباب الموجبة للرُّقية من الأمراض والآفات، وأما قبل وقوع ذلك: ففي البخاري (12) عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوى إلى فراشه؛ نفث =(5/582)=@
__________
(1) البيت في "كتاب الأدب والغريب" غير منسوب.
(2) في (ك): «فيها».
(3) في (ق): «لمشعر» وكتب في الهامش «لمعشر» ووضع (خ).
(4) كتب في (أ) فوق «بمجوس» كلمة صح.
(5) من قوله: «تزعم المجوس...» إلى هنا سقط من (ح).
(6) في (ق): «والسعفة».
(7) في (ق): «يروى».
(8) في (ك): «أكثر».
(9) في (أ) و(ب): «قد».
(10) في (ق): «والسعفة».
(11) في (أ): «عيب».
(12) في "صحيحه" (6312).(5/582)
في كفه بـ{قل هو الله أحد (1) }، والمعوذتين، ثمَّ يمسح (2) بهما وجهه وما بلغت يده من جسده، فكان (3) هذا دليلاً على جواز استرقاء ما يتوقع من الطوارق والهوام وغير ذلك من الشرور. وقد تقدم في الإيمان الخلاف فيه.
وقوله: «ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة؟!» أي: ضعيفة، نحيلة. وأصل الضراعة: الخضوع والتذلل. ويعني بهم: بني جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم. =(5/583)=@
__________
(1) قوله: «أحد» سقط من (أ) و(ب).
(2) في (ق): «مسح».
(3) في (ق): «وكان».(5/583)
6 - ومن باب لا يرقى برقى الجاهلية ولا بما لا يفهم (1)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لما عرضوا عليه الرُّقى (2) : «لا أرى به بأسًا، من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل (3) »؛ دليل على جواز الرُّقى والتطبُّب (4) بما لا ضرر فيه، ولا منع شرعيًّا مطلقًا وإن كان بغير أسماء الله تعالى وكلامه، لكن إذا كان مفهومًا.
وفيه: الحضُّ على السعي (5) في إزالة الأمراض والأضرار عن المسلمين بكل ممكن جائز. =(5/584)=@
__________
(1) قوله: «ومن باب لا يرقى برقى الجاهلية ولا بما لا يفهم» ليس في (أ) و(ك) و(ح) و(ق).
(2) في (ق): «الرقى والتطيب».
(3) في (ك): «فليعل».
(4) في (ك): يشبه أن تكون «التطيب» وفي (ق): «التطيب».
(5) في (ك): «على السعي» وكتب تحتها لعله «على أن السعي».(5/584)
7 - ومن باب أمِّ القرآن رقيةٌ من كل شيء
«الحيّ»: القبيل. و«استضافوهم»: سألوهم الضيافة. و«اللَّديغ (1) »: الذي لدغته الحيَّة، أو العقرب. وقد يُسمَّى بالسليم تفاؤلاً، كما قد (2) جاء في الرواية الأخرى. و«القطيع من الغنم»: هو الجزء المقتطع منها (3) ، فعيل، بمعنى: مفعول.
وقوله (4) : «وما أدراك: أنها رقية؟!» أي: أيُّ شيء أعلمك: أنَّها رقية؟! تعجبًا من وقوعه على الرُّقى بها، ولذلك تبسَّم النبي (5) - صلى الله عليه وسلم - عند قوله: «وما أدراك: أنها رقية؟!» وكان هذا الرجل علم أن هذه السورة قد خصَّت بأمور. منها: أنها فاتحة الكتاب، ومبدؤه (6) ، وأنها متضمنة لجميع علوم القرآن؛ من حيث: إنها تشتمل (7) على الثناء على الله عز وجل بأوصاف كماله وجلاله (8) ، وعلى الأمر بالعبادات، والإخلاص فيها، والاعتراف بالعجز عن القيام بشيء منها إلا بإعانته تعالى، وعلى الابتهال إلى الله تعالى في الهداية إلى الصراط المستقيم، وكفاية أحوال الناكثين، =(5/585)=@
__________
(1) في (أ) و(ح): «واللَّذيغ».
(2) قوله: «قد» سقط من (ق).
(3) في (ح): «المنقطع منه منها».
(4) في (ك): «قوله» بلا واو.
(5) في (ق): «رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ».
(6) في (ح): «مبداؤه».
(7) في (ق): «اشتملت».
(8) في (ق): «جلاله وكماله».(5/585)
وعلى بيان عاقبة الجاحدين. وقد روى الدارقطني (1) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا (2) ، وفيه: فقال: «وما يدريك: أنها رقية؟!» فقلت (3) : يا رسول الله! شيء ألقي في روعي. قال: «فكلوا وأطعمونا (4) من الغنم». وقيل (5) : إن (6) موضع الرُّقية منها إنما هو :{إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين}. ويظهر لي: أن السُّورة كلها موضع الرُّقية (7) لما ذكرناه، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : «وما أدراك أنَّها رقية ؟» ولم يقل: إن فيها رقية.
وقوله: «اقسِموا، واضربوا لي بسهم معكم»؛ هذه القسمة (8) إنَّما هي قسمة برضا الرَّاقي؛ لأنَّ الغنم ملكه؛ إذ هو الذي فعل العوض الذي به استحقها، لكن طابت نفسه بالتشريك، فأحاله النبي - صلى الله عليه وسلم - (9) على ما يقع به رضا المشتركين عند القسمة، وهي القرعة، فكان فيه دليل: على صحة العمل بالقرعة في الأموال المشتركة، وقد تقدَّم ذكر (10) الخلاف فيها في النكاح.
وقوله في "الأم": «ما كنا نأبُنُه برقية»؛ أي: نتهمه بها. يقال: أَبَنْتُ الرَّجل، آبُنُهُ، وآبِنُهُ: إذا رميته بخلَّة سوء. ومنه: رجل مأبون؛ أي: معيبٌ. والأبْنَهُ: العيب. ومنه: عودٌ مأبون: إذا كان فيه أُبْنَهٌ تعيبه؛ أي: عقدة. قاله (11) القتبي وغيره. وقد روي هذا الحرف (12) : «ما كنَّا نظنه» بدل: نأبنه؛ أي: نتهمه.
وقد ذكر أبو داود (13) حديث (14) أبي سعيد هذا على مساق فيه زوائد، فلنذكره على سياقه فقال: =(5/586)=@
__________
(1) أخرجه الدارقطني (3/64)، وأخرجه أحمد في "المسند" (11472) كلاهمام ن طريق عبدالرحمن بن النعمان الأنصاري، عن سليمان بن قته، عن أبي سعيد الخدري به.
وعبدالرحمن بن النعمان فيه كلام، ولكن الحديث في الصحيح من طرق أخرى.
(2) قوله: «مرفوعًا» سقط من (ك) و(ح) و(ق).
(3) في (ح) و(ك) و(ق): «قلت».
(4) في (ق): «وأطعموا».
(5) في (أ): «وقبل» بدل «وقيل».
(6) قوله: «إن» لم يتضح في (ح).
(7) في (ح): «رقية».
(8) قوله: «هذه القسمة» سقط من (ح) و(ك) و(ق).
(9) قوله: «النبي - صلى الله عليه وسلم - » ليس في (ق).
(10) قوله: «ذكر» سقط من (ك).
(11) في (أ) و(ب) و(ك): «قال».
(12) قوله: «الحرف» سقط من (ق).
(13) أخرجه البخاري في "صحيحه"، وأبو داود (3418 و3900)، والبيهقي (6/124 و199). جميعًا من طريق أبي عوانة، عن أبي بشر، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد الخدري به.
(14) في (ح): «من حديث».(5/586)
عن أبي سعيد رضي الله عنه: أن رهطًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - انطلقوا في سفرة سافروها، فنزلوا بحيٍّ من أحياء العرب، فاستضافوهم، فأبوا أن يضيفوهم. قال: فلُدِغ سيِّدُ ذلكم (1) الحيّ، فَشَفَوا له بكل شيء لا ينفعه شيء. فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرَّهط الذين نزلوا بكم لعل يكون عند بعضهم شيء ينفع صاحبكم. فقال بعضهم: إن سيِّدنا لُدغ فشفينا له بكل شيء، لا ينفعه شيء. فهل عند أحد منكم شيء يشفي صاحبنا رُقية. فقال رجل من القوم: إني لأرقي، ولكن استضفناكم فأبيتم أن ضيفونا! ما أنا براقٍ حتَّى تجعلوا لنا جعلاً، فجعلوا له قطيعًا من الشاء، فأتاه، فقرأ عليه أمَّ الكتاب، ويَتْفِل حتَّى برأ كأنما أُنشط من عقال. قال: فأوفاهم جُعلهم الذي صالحوهم عليه. فقال: اقتسموا. فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونستأمره، فغدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكروا ذلك له، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من أين علمتم أنها رقية؟! أحسنتم، فاضربوا لي معكم بسهم».
وذُكِرَ عن الشعبي، عن خارجة بن الصلت، عن عمِّه (2) : أنه مرَّ بقومٍ، فأتوه، فقالوا (3) : إنك جئت من عند (4) هذا الرجل بخير، فارق لنا هذا الرَّجل، فأتوه برجل معتوهٌ في القيود، فرقاه بأمِّ القرآن ثلاثة أيام غدوة، وعشيَّة، كلَّما ختمها جمع بزاقه ثم تفل، فكأنَّما أنشط من عقال، فاعطوه شيئًا، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر له، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «كُلْ (5) ، فلعمري لمن أكل برقية باطل، لقد أكلت برقية حق». ولا يخفى ما في هذا المساق من الفقه والزوائد، فتأمله.
وإيقاف الصحابي قبول الغنم على سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - عمل بما يجب من التوقف عند الإشكال إلى البيان، وهو أمرٌ لا يختلف فيه.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «خذوا منهم، واضربوا لي معكم بسهم»؛ بيان للحكم بالقول، =(5/587)=@
__________
(1) في (ح): «ذلك».
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (23586)، وأحمد (5/210)، وأبوداود (3921 و3896)، وابن حبان (6110 و6111)، والحاكم )1/747). كلهم من طريق زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي به.
وأخرجه أحمد (5/211)، وأبوداود (3420)، والنسائي في "الكبرى" (7534 و10871)، والطحاوي في "شرح المعاني" (4/126). كلهم من طريق شعبة، عن عبدالله بن أبي السفر، عن الشعبي به.
(3) في (ح): «فقال».
(4) قوله: «عند» سقط من (ح).
(5) قوله: «كل» سقط من (ح).(5/587)
وتمكين له بالعمل؛ إذ لم تكن له حاجة لذلك (1) السَّهم إلا ليبالغ في بيان أن ذلك من الحلال المحض؛ الذي لا شبهة فيه، فكان ذلك أعظم دليل لمن يقول بجواز الأجرة على الرُّقى والطب. وهو قول مالك، والشافعي، وأبي حنيفة وأصحابه، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وجماعة من السَّلف والخلف.
وأمَّا الأجرة على تعليم القرآن: فأجازها (2) الجمهور من السلف والخلف متمسكين بهذا الحديث، وما زاد فيه البخاري (3) من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن (4) أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله». وهذا يلحق بالنُّصوص. وقد جزم أبو حنيفة أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وكذلك أصحابه، تمسُّكًا بأمرين:
أحدهما: أن تعلم القران وتعليمه واجبٌ من الواجبات؛ التي تحتاج إلى نيَّة التقرُّب والإخلاص، فلا يؤخذ عليها أجرة كالصلاة، والصيام.
وثانيهما: ما رواه أبو داود (5) من حديث عبادة بن الصامت قال: علَّمت ناسًا من أهل الصُّفة الكتاب والقرآن، وأهدى إليَّ رجل منهم قوسًا، فقلت: ليست بمال، وأرمي عليها في سبيل الله، فلآتينَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلأسألنَّه، فأتيته فسألته، فقال: «إن كنت تحب أن تطوَّق قوسًا من نار فاقبلها». =(5/588)=@
__________
(1) في (ح): «بذلك».
(2) في (ح): «فأجاز».
(3) في "صحيحه" (5737).
(4) قوله: «إن» سقط من (ح).
(5) أخرجه ابن أبي شيبة (20843)، وأحمد (5/315)، وعبد بن حميد (183)، وابن أبي حاتم في "العلل" (2/74)، وابن ماجه (2157)، وأبو داود (3416)، ومن طريقه اخرجه البيهقي (6/125)، وأخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (92)، والمقدسي في "المختارة" (306). كلهم من طريق المغيرة بن زياد البجلي، عن عبادة بن نسي، عن الأسود بن ثعلبة، عن عبادة بن الصامت به.
والمغيرة هذا ضعفه أحمد وأبو حاتم وأبو زرعة ووثقه آخرون، وفي "التقريب:: صدوق له أوهام، وبالمغيرة هذا أعلَّ الحديث من هذا الطريق ابن عبدالبر وابن الجوزي. وأعلّه ابن القطان أيضًا بالأسود بن ثعلبة فقال: مجهول الحال ولا نعرف روى عنه غير عبادة بن نسي. وللحديث طريق آخر: أخرجه أحمد (5/324)، وابن أبي حاتم في "العلل" (2/74)، وأبو داود (3417)، والحاكم (3/356)، والمقدسي في "المختارة" (324). كلهم من طريق بشر بن عبدالله بن يسار، عن عبادة بن نسي، عن جنادة بن أبي أمية، عن عبادة بن الصامت به نحوه.
وإسناده حسن: بشر صدوق، وبقية رجاله ثقات. وقال المقدسي (8/268): أظن عبادة بن نسي حفظه عنهما، والله أعلم.
وللحديث شاهد من حديث أبي بن كعب. انظر "نصب الراية" (4/136)، و"سنن سعيد بن منصور" (2/361). وله شاهد آخر من حديث عوف بن مالك أخرجه سعيد بن منصور" (108). وفي إسناده إسماعيل بن عياش لم يصرح بالتحديث.
أما أحاديث النهي عن التكسب بالقرآن: فقد جاء من حديث أبي هريرة، أخرجه ابن عدي (4/97)، وفي إسناده الضحاك بن نبراس متروك الحديث. ومن حديث عبدالرحمن بن عوف أخرجه البزار (2320)، وفي إسناده حماد بن يحيى أخطأ فيه؛ وإنما هو حديث عبدالرحمن بن شبل: أخرجه أحمد (15529 و15666 و15670)، وابن أبي شيبة (7742)، وأبو يعلى (1518)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (3/18)، والبيهقي (2/17)، وصححه أبو حاتم كما في "العلل" (2/62)، وقال ابن حجر في "فتح الباري" (9/101): «إسناده قوي».(5/588)
وللجمهور أن يقولوا: لا نسلِّم صحة ذلك القياس؛ لأنَّه فاسد الوضع؛ لأنَّه في مقابلة قوله - صلى الله عليه وسلم - : «إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله»، وهو عمومٌ قوي، وظاهرٌ جلي.
والجواب عن القياس: إنه لا يصح للفرق الذي (1) بين الفرع والأصل، سلَّمنا لكن بينهما فرق (2) وهو: أن الصوم والصلاة عبادات خاصَّة بالفاعل، وتعليم القرآن عبادة متعدية لغير المعلم، فتجوز الأجرة على محاولة (3) النقل، كتعليم كتابة القرآن.
وأمَّا الجواب (4) عن الحديث بعد تسليم صحته: فالقول بموجبه؛ لأنَّ تعليم عبادة لم تكن (5) بإجارةٍ، ولا جُعل، وإنما علَّم لله تعالى تطوعًا، لا لغيره. ومن كان كذلك حرم عليه أخذ العوض على ما فعله لله تعالى؛ لأنَّه ربما يفسد عمله، ويأكل مالاً بالباطل.
ومن باب الرُّقبة بأسماء الله عزَّ وجلَّ
قوله: «ضع يدك على الذي يألم من جسدك»؛ هذا الأمر على جهة التعليم، والإرشاد إلى ما ينفع من وضع يد الرَّاقي على المريض ومسحه به. وأن ذلك لم =(5/589)=@
__________
(1) قوله: «الذي» سقط من (ح).
(2) قوله: «سلمنا لكن بينهما فرق» سقط من (ح).
(3) قوله: «محاولة» سقط من (ح).
(4) قوله: «الجواب» سقط من (أ) و(ب).
(5) في (ح): «يكن».(5/589)
يكن مخصوصًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل ينبغي أن يفعل ذلك كل راقٍ. وقد تأكد أمر ذلك بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم ذلك بأنفسهم وبغيرهم، كما قد ذكر في الأحاديث المتقدِّمة، فلا ينبغي للرَّاقي أن يعدل عنه للمسح بحديد ولا بغيره، فإنَّ ذلك لم يفعله أحدٌ ممن سبق ذكره، ففعلُه تمويهٌ لا أصل له.
ومما ينبغي للرَّاقي أن يفعله: النقث والتفل. وقد قلنا: أنَّهما نفخ مع ريق، وإن ريق التفل أكثر. وقد قيل: إن ريق النفث أكثر. وقيل: هما متساويان. والأول أصح عند أهل اللغة. وقد كثر ذلك في الأحاديث المتقدِّمة وغيرها، فلا يعدل عنه، وكذلك تكرار التسمية ثلاثًا، وتكرار العوذ سبعًا، كما جاء في هذا الحديث، فينبغي للرَّاقي أن يحافظ عليه؛ إذ قد علَّمه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر به. فكل ذلك فيه أسرار يدفع الله تعالى بها الأضرار. فأما ما يفعله المعزمون من الآلات والصَّلاصل: فذلك كله من باب التمويه والتطرُّق لأكل المال بالباطل.
واختلف العلماء في النُّشرة. وهي: أن يكتب شيئًا من أسماء الله، أو من القرآن، ثم يغسله بالماء، ثمَّ يمسح به المريض، أو يسقيه إياه. فأجازها سعيد بن المسيب. قيل له: الرَّجل يؤخذ عن امرأته؛ أيحل عنه وينشر ؟ قال: لا بأس به، وما ينفع لم يُنه عنه. وقال المازري: النشرة أمر معروف عند أهل التعزيم، وسميت بذلك لأنها تنشر عن صاحبها؛ أي: تحل. ومنعها الحسن. وقال: هي من السحر. وقد روى أبو داود (1) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النَّشرة فقال: «هي من عمل الشيطان». قال بعض علمائنا: هذا محمول على أنها خارجة عمَّا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وعن المداواة المعروفة، والنُّشرة من جنس الطب. =(5/590)=@
__________
(1) في "سننه" (3868)، وأحمد بن حنبل (14135)، عن عبدالرزاق (19762) عن عقيل بن معقل، عن وهب بن منبه، عن جابر رضي الله عنه به مرفوعًا. وإسناده صحيح، ورجاله ثقات.(5/590)
قلت: ويتأيد هذا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا بأس بالرُّقى ما لم يكن فيه شرك» (1) ، و«من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل» (2) . قال القاضي عياض رحمه الله في النفث: وفائدة ذلك - والله أعلم - التبرُّك ببلل الرُّطوبة، أو الهواء، والنفس المباشر للرُّقية الحسنة، كما يُتبرَّك بغسالة ما يكتب من أسماء الله الحسنى في النُّشُر. قال: وقد يكون ذلك على وجه التفاؤل من زوال ذلك الألم، وانفصاله عن المريض كانفصال ذلك النفث، وقد كان مالك ينفث إذا رقى نفسه، وكان يكره الحديدة (3) والملح الذي يعقد، والذي يكتب (4) خاتم سليمان، وكان العقد عنده أشدّ كراهة؛ لما في ذلك من مشابهة السِّحر.
وقوله: «جاء يَلبِسْها عليَّ»؛ هو بكسر الباء؛ لأنَّ ماضيه: لبس بفتحها، كما قال الله (5) تعالى :{وللبسنا عليهم ما يلبسون} (6) ، وهو بمعنى: الخلط. فأمَّا لبس الثوب: فهو على العكس من ذلك.
وقوله: «ذلك شيطان يقال له: خِنْزَب». هو بالحاء المهملة وبفتحها عند الجياني، وبكسرها عند الصدفي. وفي الصحاح: الخنزاب: هو الغليظ القصير وأنشد (7) : =(5/591)=@
__________
(1) تقدم قبل قليل.
(2) تقدم قبل قليل.
(3) في (ح): «الحديد».
(4) في (ح): «تكتب».
(5) لفظ الجلالة سقط من (ح).
(6) الآية (9) من سورة الأنعام.
(7) القائل: هو الغلب بن حثم العجلي يهجو سَجاح التميمية. وصدر البيت :
قد أبصرث سجاح من بعد العمى
"لسان العرب" (1/336)، و(15/391).(5/591)
تاحَ لها بَعدك خِنْزابٌ وزَى
والوزى: الشديد. فيمكن أن يُسمَّى الشيطان: خنزبًا؛ لأنَّه يتراءى غليظًا قصيرًا. وحذفت الألف لما صار علمًا، فكثيرًا ما تغيَّر الأعلام عن أصولها.
ومن باب: لكل داء دواء، وفي التداوي بالحجامة
قوله: «لكل داء دواء»؛ الدَّاء: بفتح الدَّال لا غير. والدَّواء: تفتح داله وتكسر، والفتح أفصح. وهذه (1) الكلمة صادقة العموم لأنها خبر من الصادق البشير عن الخالق القدير :{ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخير} (2) ، فالدَّاء والدَّواء خَلْقه، والشِّفاء والهلاك فعله، وربط الأسباب بالمسببات حِكمته وحُكمه على ما سبق به علمه. فكل ذلك بقدر لا مَعْدِل عنه، ولا وزر. وما أحسن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما خرَّجه الترمذي (3) عن أبي خزامة بن يعمر، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت: يا رسول الله! أرأيت رقًى نسترقيها، ودواء نتداوى به؛ هل تردُّ من قدر الله شيئًا ؟ قال: «هي من قدر الله»، قال: هذا حديث حسن صحيح. وكفى بهذا بيان، لكن للبصراء، لا للعميان. =(5/592)=@
__________
(1) في (أ) و(ب): «هذه».
(2) الآية (14) من سورة الملك.
(3) (2148)، وأحمد (1547)، وابن ماجه (3437)، والدولابي في "الكنى" (1/26)، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" (ص95). كلهم من طريق ابن عيينة، عن الزهري، عن أبي خزامة بن يعمر، عن أبيه، فذكره.
وأخطأ فيه ابن عيينة حيث رواه عن الزهري، عن ابن أبي خزامة، عن أبيه. والصواب: عن الزهري، عن أبي خزامة، عن أبيه. وقد نبَّه على ذلك الدارقطني في "العلل" (2/251)، وابن أبي حاتم في "العلل" (2/338). وقال الترمذي: «وهذا أصح».(5/592)
وقوله: «فإذا أصيب دواء الدَّاء برأ بإذن الله»؛ ومعناه: أن الله تعالى إذا شاء الشِّفاء يسَّر دواء ذلك الدَّاء، ونبَّه عليه مستعمله، فيستعمله على وجهه، وفي وقته، فيشفى ذلك المرض (1) . وإذا أراد إهلاك صاحب المرض أذهل عن دوائه، أو حجبه بمانع يمنعه، فهلك صاحبه. وكلُّ ذلك بمشيئته وحكمه (2) ، كما سبق في علمه. ولقد أحسن من الشعراء من قال في شرح الحال:
والنَّاس يلحَوْن الطَّبيب وإنَّما غَلَطُ الطَّبيبِ إصابةُ الْمَقْدُور
وقد خرَّج أبو داود هذا الحديت وحديث أسامة بن شريك، وقال فيه: إنَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا عباد الله! تداووا، فإنَّ الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داءٍ واحد: الهرم» (3) . فاسثنى الهرم من جملة الأدواء، وإن لم يكن داء بنفسه، لكن تلازمه الأدواء، وهو مُفضٍ (4) بصاحبه إلى الهلاك. وهذا (5) نحو من قوله في الحديث الآخر: «كفى بالسَّلامة داء» (6) ؛ أي: مصير السلامة إلى الدَّاء، وكما قال حميد بن ثور (7) :
أَرَى بَصَرِي قد رابَنييْ بَعْد صِحَّةٍ وَحَسْبُك (8) داءً أن تصحَّ وتَسْلما =(5/593)=@
__________
(1) في (ح): «المريض».
(2) في (ح): «وحكمته».
(3) أخرجه أبو داود (3855)، وأخرجه الطيالسي (1232)، والحميدي (824)، وأحمد (4/278)، والبخاري في "الأدب المفرد"(291)، والترمذي (2038)، وابن ماجه (3436)، والحاكم (4/400)، والبيهقي (9/343) من طريق عن زياد بن علامة، أنه سمع أسامة بن شريك يقول، فذكره بنحوه. وإسناده صحيح.
(4) من قوله: «بنفيه. . . . » مكانه بياض في (أ).
(5) في (ح): «هذا».
(6) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (846) من طريق محمد بن زنبور المكي. وفيه كلام وله أوهام. وأخرجه ابن عساكر في "تاريخه" (15/272) من حديث مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس مرفوعًا بلفظ: «لو لم يكن لابن آدم إلا الصحة والسلامة لكفاه بها داءً قاتلاً». ومجالد ضعيف، وفي إسناده غيره ممن لم أعرفهم.
(7) ذكره ابن عساكر في "تاريخه" (15/272) في ترجمة حميد بن ثور.(5/593)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «إن كان في أدويتكم خيرٌ ففي شرطة محجم، أو شربة عسل، أو لذعةٍ بنار (1) »؛ يعني بالخير: الشِّفاء. والمحجم: هو (2) الوعاء الذي (3) تُجمع فيها (4) موضع الحجامة، ويجتمع فيها (5) الدَّم، وهو جمع واحدة (6) : محجمة. وهي بكسر الميم. وقد يقال (7) على الحديدة التي يشرط بها، وهي المعنية (8) هنا (9) . وجاء هذا الحديث هنا بصيغة الاشتراط من غير تحقيق الأخبار. وقد جاء في البخاري (10) من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما مرفوعًا: «الشِّفاء في ثلاث»، وذكرها. فحقَّق الخبر.
قال (11) بعض علمائنا: أشار النبي (12) - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع ضروب المعاناة القياسيِّة، وذلك: أن العلل منها ما يكون مفهوم السبب، ومنها ما لا يكون كذلك. فالأول: كغلبة أحد الأخلاط التي هي: الدم، والبلغم، والصفراء، والسَّوداء. فمعالجة ذلك باستفراغ ذلك الامتلاء بما يليق به من تلك الأمور المذكورات في الحديث. فمنها ما يستفرغ بإخراج الدَّم بالشَّرط، وفي معناه: الفصد (13) ، والبطُّ (14) ، والعلق (15) . ومنها ما يستفرغ (16) بالعسل وما في معناه من الأدوية المسهِّلة. ومنها ما يستفرغ بالكي؛ فإنه يجفف رطوبات موضع المرض، وهو آخر الطبِّ.
وأما ما كان من العلل عن ضعف قوة من القوى، فعلاجه بما يقوي تلك القوة من الأشربة. ومن أنفعها في ذلك: العسل إذا (17) استعمل على وجهه. وأما ما كان من العلل غير مفهوم السبب، فكالسِّحر، والعين، ونظرة الجن، فعلاجه بالرُّقى، والكلام الحسن، وأنواع من الخواص مغيبة السِّرِّ. ولهذا القِسْم أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما روي عنه: أنه زاد في هذا الحديث: «أو آية من كتاب الله» (18) . زيادة على ما ذكرفيما تقدَّم منه. =(5/594)=@
__________
(1) في (ح): «لدعة نار» وفي (ق): «لدغة بنار».
(2) تراجع. .
(3) قوله: «الذي» سقط من (أ) و(ب).
(4) في (ك) و(ح): «يجمع فيه» وفي (ق): «يجمع به».
(5) في (ك) و(ح): «فيه» وفي (ق): «ويجمع فيه».
(6) في (ح) و(ك): «واحده».
(7) في (ك): «تقال».
(8) في (ح): «المعينة».
(9) قوله: «هنا» سقط من (ك).
(10) في "صحيحه" (5680 و5681).
(11) في (ق): «وقال».
(12) قوله: «النبي» سقط من (أ) و(ب).
(13) الفصد: هو شق العروق لاستخراج الدم. لسان العرب (فصد).
(14) البط: شق الدمل والخُرَّاج ونحوهما. لسان العرب (بطط).
(15) العلق: دويبة حمراء تكون في الماء تعلق بالبدن وتمص الدم، وهي من أدوية الحلق والأورام الدموية، لامتصاصها الدم الغالب على الإنسان (النهاية: 3/290).
(16) في (ح): «يستخرج».
(17) قوله: «إذا» مطموس في (ح).
(18) . . . .(5/594)
قال الشيخ رحمه الله: هذا معنى ما قاله علماؤنا، ويمكن أن يقال: إن هذه المذكورات في هذا الحديث إنما خُصَّت بالذكر؛ لأنَّها كانت أغلب أدويتهم، وأنفع (1) لهم من غيرها بحكم اعتيادهم لها، ومناسبتها لغالب أمراضهم، ولا يلزم أن تكون (2) كذلك في حق غيرهم ممن يخالفهم في بلادهم وعاداتهم وأهويتهم. ومن المعلوم بالمشاهدة اختلاف العلاجات والأدوية (3) حسب اختلاف البلاد والعادات، وإن اتحدت أسباب الأمراض. والله تعالى أعلم.
وقوله: «وما أحبُّ أن أكتوي»، وفي لفظ البخاري (4) : «وأنا أنهى أمتي عن الكي». إنما كان (5) ذلك لشدَّة ألم الكي، فإنَّه يُربي على ألم المرض. ولذلك لا يرجع إليه إلا عند العجز عن الشفاء بغيره من الأدوية. وأيضًا: فلأنَّه (6) يشبه التعذيب بعذاب الله تعالى الذي نُهي عنه. وقد تقدَّم القول في هذا في الإيمان.
واستئذان أم سلمة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحجامة دليل: على أن المرأة لا ينبغي لها أن تفعل في نفسها شيئًا من التداوي، أو ما يشبهه إلا بإذن زوجها؛ لإمكان أن يكون ذلك الشيء مانعًا له من حقه، أو منقصًا لغرضه منها، وإذا كانت لا تشرع في شيء من التطوَّعات التي تتقرَّب (7) بها إلى الله تعالى إلا بإذنٍ منه؛ كان أحرى وأولى ألا تتعرَّض لغير القرب إلا بإذنه (8) ؛ اللهم إلا أن تدعو لذلك (9) ضرورة من خوف موت، أو مرض شديد، فهذا لا تحتاج (10) فيه إلى إذن؛ لأنَّه قد التحق بقسم الواجبات =(5/595)=@
__________
(1) في (ق): «وأنفعالهم».
(2) في (ك): «تكون» منقوطة باثنتين من فوق ومن تحت .
(3) في (أ) و(ك) و(ح) و(ق): «بحسب».
(4) في "صحيحه" (5680 و5681).
(5) في (ق): «قال» بدل «كان».
(6) في (ق): «فإنه» وكتب في الهامش «فلأنه» ووضع (خ).
(7) لم تنقط أول الكلمة في (ح) وفي (ك): «يُتَقَرَّب».
(8) في (أ): «بإذن».
(9) في (ح) و(ق): «إلى ذلك» وكتب في الهامش «لذلك» ووضع (خ).
(10) في (ك): «يحتاج».(5/595)
المتعينة. وأيضًا: فإنَّ الحجامة وما يتنزل منزلتها مما يحتاج فيها إلى محاولة الغير (1) ، ولا (2) بدَّ فيها من استئذان الزوج لنظره فيمن يصلح، وفيما يحلُّ من ذلك. ألا ترى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا طيبة أن يحجمها لما علم أن (3) بينهما من السبب (4) المبيح، كما قال الرَّاوي: حسبت: أنه كان أخاها من الرَّضاعة (5) ، أو غلامًا لم يحتلم. ولا شكَّ في أن مراعاة هذا هي الواجبة متى وجد ذلك، فإنَّ لم يوجد من يكون كذلك، ودعت الضرورة إلى معالجة الكبير الأجنبي جاز (6) دفعًا لأعظم الضررين، وترجيحًا لأخف الممنوعين.
وفيه من الفقه ما يدلّ على أن ذا المحرم (7) يجوز أن يطَّلع من ذات محرمه على بعض ما يحرم على الأجنبي، وكذلك الصبي، فإن الحجامة (8) غالبًا إنما تكون من بدن المرأة فيما لا يجوز للأجنبي (9) الاطلاع عليه، كالقفا، والرَّأس، والساقين (10) . =(5/596)=@
__________
(1) في (ق): «الغين» وكتب في الهامش «الغير» ووضع (نخـ).
(2) في (ق): «فلابد».
(3) في (ح) و(ك) و(ق): «ما».
(4) في (ق): «النسب».
(5) في (ق): «الرضاع» وكأنه أصلحها إلى «الرضاعة».
(6) في (ق): «صار» وكتب في الهامش «جار» ووضع (خ).
(7) في (ق): «أن المحرم» وكتب في الهامش «أن ذا المحرم» ووضع (خ).
(8) من قوله: «الأجنبي...» إلى هنا لم يتضح في مصورة (ك).
(9) في (ق): «لأجنبي».
(10) زاد بعدها في (ق): «والله أعلم».(5/596)
10 - ومن باب التداوي بقطع العرق (1) والكي والسعوط
قول جابر رضي الله عنه: «رُمي أُبِيٌّ يوم الأحزاب على أكحله»؛ صحيح رواية (2) هذه اللفظة بضم الهمزة، وفتح الباء، وياء التصغير (3) . ورواها العذري، والسَّمرقندي: أَبِي (4) - بفتح الهمزة، وكسر الباء، على إضافته لياء المتكلم. والأول هو الصحيح. بدليل الرواية التي نصَّ فيها على أنه: أُبِي ابن كعب؛ ولأن أبا جابر لم يدرك يوم الأحزاب، وإنَّما استشهد يوم أحد.
و«الأكحل»: عرق معروف. قال الخليل: هو عرق الحياة، يقال (5) : في كل عضو منه شعبة لها اسم على حدة، فإذا قطع في اليد لم يرقأ الدم. وقيل (6) : إنه يقال له (7) في اليد: الإكحل، وفي الفخذ: النسا، وفي الظهر: الأبهر.
وكونه - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى أُبِي طبيبًا فكواه، دليلٌ على أن الواجب في عمل العلاج ألا يباشره إلا من كان معروفًا به، خبيرًا بمباشرته، ولذلك أحال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، على الحارث بن كلدة، ووصف له النبي - صلى الله عليه وسلم - الدَّواء وكيفية العمل، على ما يأتي.
وكي النبي - صلى الله عليه وسلم - لأُبي وسعد رضي الله عنهما دليلٌ على جواز الكي والعمل به (8) إذا ظن الإنسان منفعته، ودعت الحاجة إليه. فيحمل نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الكي على ما إذا (9) أمكن =(5/597)=@
__________
(1) في (ك) و(ح) و(ق): «العروق».
(2) في (ق): «صحيح رواية» وكتب في الهامش «صحيح هذه الرواية» ووضع (خ).
(3) في (ق): «وبالتصغير».
(4) قوله: «أبي» سقط من (ق).
(5) قوله: «يقال» سقط من (ك) و(ح) و(ق).
(6) في (ك): «ويقال».
(7) قوله: «له» سقط من (ح).
(8) قوله: «به» سقط من (ح).
(9) قوله: «إذا» مكرر في (ح).(5/597)
أن يُستغني عنه بغيره من الأدوية، فمن فعله في محله، وعلى شرطه، لم يكن ذلك مكروهًا في حقه، ولا مُنقصًا له من فضله. ويجوز أن يكون من السَّبعين ألفًا؛ الذين يدخلون الجنة بغير حساب (1) ، كيف لا وقد كوى النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن معاذ (2) ؛ الذي اهتز له عرش الرَّحمن (3) ، وأُبي بن كعب (4) المخصوص بأنه أقرأ الأمَّة للقرآن، وقد اكتوى عمران بن حصين (5) . فمن اعتقد: أن هؤلاء لا يصلحون (6) أن يكونوا من السبعين ألفًا؛ ففساد كلامه لا يخفى. وعلى هذا البحث: فيكون قوله - صلى الله عليه وسلم - في السبعين ألفًا: أنهم هم الذين لا يكتوون: إنما (7) يعني به: الذي يكتوي (8) وهو يجد عنه غنى. والله تعالى أعلم.
و«السَّعوط»: دواء يُصبُّ في الأنف. وقد أسعطتُّ (9) الرَّجل فاستعط هو بنفسه. والْمُسْعُطُ (10) - بضم الميم -: هو الإناء الذي يجعل فيه السَّعوط. =(5/598)=@
__________
(1) أخرجه مسلم (218).
(2) أخرجه مسلم (2208).
(3) أخرجه البخاري (3803)، ومسلم (2466 و2467).
(4) "صحيح مسلم" (2207).
(5) "صحيح مسلم" (1226).
(6) في (ق): «لا يصلحوا».
(7) في (ق): «وإنما».
(8) في (): «الذي يكتوي» وكتب في الهامش «الذين يكتوون».
(9) في (ق): «إستعطت».
(10) في (ق): «المستعط».(5/598)
11 - ومن باب الحمى من فيح جهنم
«فيح جهنَّم»: شدَّة حرارتها. وأصله من: فاحت القدر: إذا غلت. وقد يعبَّر عنه بالفور؛ كما جاء في الرواية الأخرى: ولفحُ النَّار: إصابة شدَّة حرارتها (1) . وجهنم: اسم علم من أسماء نار الآخرة؛ مؤنث. ولذلك لم ينصرف. وقد تقدم اشتقاقه.
وقوله: «فأبردوها بالماء»؛ صوابه بوصل الألف؛ لأنَّه من (2) برَّد الماءُ حرارةَ جوفي (3) . وهو ثلاثي معدَّى؛ كما قال (4) :
وعطِّلْ قَلُوصِي في الرِّكابِ فإنَّها ستَبْرُدُ أكبادًا وتُبْكِي بَوَاكِيَا
وقد أخطأ من قال: أبردوها - بقطع الألف -، وفي الرواية الأخرى: فأطفئوها -بالهمزة رباعيًّا - من: أطفأ (5) . وقد اعترض بعض سخفاء الأطبَّاء على هذا الحديث، فقال: استعمال المحموم الاغتسال بالماء خطر مُقرِّبٌ من الهلاك؛ لأنَّه يجمع المسامِّ، ويحقن البخار، ويعكس الحرارة لداخل الجسم، فيكون ذلك سببًا للتلف. وجوابه: أن هذا إن صدر عمَّن ارتاب (6) في صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فجوابه بالمعجزات الدَّالة على صدقه - صلى الله عليه وسلم - التي تدل قطعًا على صحة قوله، وصواب فعله، فإنَّ حصل له التصديق والإيمان، وإلا فقد يفعل الله بالسيف والسِّنان ما لا يُفعل =(5/599)=@
__________
(1) في (ح) و(ك) و(ق): «حرها».
(2) في (ح) و(ق): «من قولهم».
(3) في (ك): يشبه أن تكون «جوفي».
(4) هو جعفر بن علبة الحارثي، في قصيدة له، ويُروى هذا البيت بعينه لمالك بن الريب. انظر "الأغاني" (13/54).
(5) قوله: «من أطفأ» سقط من (ح).
(6) في (ق): «وجوابه إن صدر هذا عمن ارتاب».(5/599)
بالبرهان. وإن صدر عن مصدِّقٍ له ومؤمن برسالته - وما أقله فيمن يتعاطى صنعة الأطباء! - قيل له: تفهَّم مراده من هذا الكلام؛ فإنَّه لم ينصَّ على كيفية تبريد الحمى بالماء، وإنَّما أرشد إلى تبريدها بالماء مطلقًا، فإنْ أظهر الوجود أو صناعة الطب: أن غمس (1) المحموم في الماء، أو صبَّه على جميع بدنه يضرَّه، فليس هو الذى قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه، وإنما قصد استعمال الماء على وجه ينفع، فيُبْحث عن ذلك الوجه (2) ، وتجرب (3) الوجوه التي لا ضرر فيها، فإنَّه سيظهر نفعه قطعًا. وقد ظهر هذا المعنى في أمره للعائن بالغسل، فإنَّه وإن كان قد (4) أمره بأن (5) يغتسل مطلقًا، فلم يكن مقصوده أن يغسل جميع جسده، بل بعض ذلك، كما تقدَّم. وإذا تقرَّر هذا؛ فلا يبعُد أن يكون مقصوده أن يُرشَّ بعض جسد المحموم، أو (6) يَفعل (7) كما كانت أسماء تفعل، فإنَّها كانت تأخذ ماءً يسيرًا ترش به في جيب (8) المحموم، أو يُنضح (9) به وجهه، ويداه، ورجلاه، ويذكر (10) اسم الله تعالى، فيكون ذلك من باب النُّشُرة الجائزة، كما تقدَّم. وقد (11) يجوز أن يكون ذلك من باب الطب، فقد ينفع ذلك في بعض =(5/600)=@
__________
(1) في (ح): «غسل».
(2) قوله: «الوجخ» سقط من (ح).
(3) في (ق): «ونمرة».
(4) قوله: «قد» سقط من (ح).
(5) في (ق): «أن».
(6) في (أ) و(ب): «و».
(7) في (ك) و(ح) و(ق): «يفعل به».
(8) في (ح) و(ق): «جنب».
(9) في (ح) و(ق): «تنضح».
(10) في (ق): «وتذكر».
(11) قوله: «قد» سقط من (ق).(5/600)
الحميَّات (1) ، فإنَّ الأطباء قد سلموا: أن (2) الحمى الصفراوية يُدبَّرُ صاحبها بسقي الماء الشديد البرودة، حتى يسقوه الثلج، وتغسل (3) أطرافه بالماء البارد. وعلى هذا: فلا بُعد في أن (4) يكون هذا المقصود بالحديث، والله أعلم. ولئن سلَّمنا: أنه أراد جميع جسد المحموم؛ فجوابه: أنه يحتمل أن (5) يريد بذلك استعماله بعد أن تقلع (6) الحمَّى، وتسكن حرارتها، ويكون ذلك في وقت مخصوص، وبعدد مخصوص (7) ، فيكون ذلك من باب الخواص التي (8) قد اطلع (9) عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما قد روى قاسم بن ثابت: أن رجلاً شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحمى فقال له: «اغتسل ثلاثًا قبل طلوع الشمس، وقل: باسم الله، اذهبي يا أم ملدم، فإنَّ لم تذهب، فاغتسل سبعًا» (10) .
12 - ومن باب التداوي باللَّدود والعود الهندي
قولها (11) : «لددنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - »؛ أي: وضعنا (12) في فمه اللَّدود، وهو ما يُجْعَلُ في أحد جانبي الفم. والوَجور: هو (13) ما يصبُّ في وسط الفم.
وقوله: «لا (14) تلدوني»؛ نهيٌّ ظاهر في المنع، فكان ينبغي لهم أن ينتهوا (15) عن ذلك، غير أنَّهم تأوَّلوا: أن ذلك من باب ما علم من أحوال المرضى؛ من كراهتهم =(5/601)=@
__________
(1) في (ق): «المحميات».
(2) في (ك) و(ح): «بأن».
(3) في (ح): «ويغسل».
(4) في (ق): «فلا يبعد أن».
(5) قوله: «يحتمل أن» سقط من (ح).
(6) في (ح): «تبلغ».
(7) قوله: «وبعدد مخصوص» سقط من (ك).
(8) في (أ) و(ب): «الذي».
(9) في (ح) و(ق): «اطلع الله تعالى».
(10) رواه سعيد بن منصور، كما في "اللآلي المصنوعة" (2/408).
(11) في (ح) و(ق): «قوله».
(12) في (ق): يشبه «وضعناه».
(13) قوله: «هو» سقط من (ح).
(14) قوله: «لا» مكرر في (ح).
(15) في (ق): «ينهوا».(5/601)
الدَّواء، فخالفوه فعاقبهم؟ بأن اقتص منهم، ففعل بهم مثل (1) ما فعلوا به، فكان فيه دليل: على مشروعية القصاص في كل شيء يتأتى فيه القصاص، كما قال تعالى:{فمن أعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (2) . وقال بعض أصحابنا: فيه ما يدلّ على قتل الجماعة بالواحد؛ لأنَّهم لما تمالؤوا، وتعاونوا على لدوده (3) اقتصَّ من جميعهم. وفيه بُعدٌ؛ لإمكان مراعاة الفرق، فإنَّه يمكن أن يقال: جاز ذلك فيما لا إراقة دم فيه لخفته في مقصود الشرع، ولا يجوز ذلك في الدِّماء؛ لحرمتها، وعظم أمرها في مقصود الشرع، فلا يصح حمل أحدهما على الآخر، وإنَّما الذي يستنبط منه أن الحاضر في الجناية (4) المعين عليها كالناظور (5) الذي هو الطليعة كالمباشر لها، فيقتص من الكل، لكن فيما لا دم فيه (6) على ماقررناه. وقد نبَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا المعنى بقوله: «إلا العباس فإنَّه لم يشهدكم (7) ».
وفيه من الفقه: منع (8) إكراه المريض على الطعام (9) ، والشراب، والدواء، كما قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب فإنَّ الله تعالى يغذيهم» (10) .
وقول أم قيس رضي الله عنها: «دخلتُ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بابن لي قد أعلقتُ عليه من العُذْرَة»؛ كذا وقع هذا اللفظ في كتاب مسلم: «أعلقت (11) عليه»، بلا خلاف فيه (12) ، ووقع في البخاري باختلاف، ففي رواية معمر وغيره: كما في كتاب مسلم. وفي رواية سفيان بن عيينة: «أعلقت عنه (13) ». (14) . قال الخطابي: وهو الصواب، وإلى ذلك أشار ابن الأعرابي.
و«العذرة»: وَجَعُ الحلق. فخافت أن يكون به ذلك. فرفعت لهاته بإصبعها. وقال الأصمعي: العذرة قريبٌ من اللهاة. وفي "البارع (15) ": العذرة: =(5/602)=@
__________
(1) قوله: «مثل» سقط من (ح) و(ق).
(2) الآية (194) من سورة البقرة.
(3) في (ح) و(ق): «لده».
(4) من قوله: «لأنهم لما تمالؤوا...» إلى هنا مطموس في (ك).
(5) في (ك) و(ق): «كالناطور».
(6) قوله: «فيه» سقط من (ح).
(7) في (أ) و(ب): «يشاهدكم».
(8) قوله: «منع» سقط من (أ) و(ب).
(9) في (أ): «المريض للطعام».
(10) أخرجه الترمذي (2040)، وابن ماجه (3444)، وأبو يعلى (1741)، وابن أبي حاتم في "العلل" (2/242)، والطبراني في "الكبير" (17 رقم 807)، وفي الأوسط" (6272)، والحاكم (1/501)، والبيهقي (9/247)، وابن عدي (2/464)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1453) كلهم من طريق بكر بن يونس، بن بكير، ثنا موسى بن علي بن رباح اللخمي، عن أبيه، عن عقبة به مرفوعًا.
وهذا إسناد ضعيف: بكر بن يونس بن بكير ضعيف، قال البخاري: منكر الحديث. وقال أبو زرعة: واهٍ. وقال ابو حاتم: هذا حديث باطل، وبكر منكر الحديث.
وله شاهد من حديث ابن عمر وعبدالرحمن بن عوف وجابر.
أما حديث ابن عمر: فأخرجه ابن عدي (5/207)، وابن جميع في "معجم الشيوخ" (1/339)، وابن الجوزي في "العلل" (1452) من طريق علي بن قتيبة الرفاعي.
وأخرجه الدارقطني في "غرائب مالك" كما في "لسان الميزان" (4/514)، وعنه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1451) من طريق عبدالوهاب بن نافع البناني.
وأخرجه ابن حبان في "المجروحين" (2/232)، وذكره ابن الجوزي في "العلل" (2/866) من طريق محمد بن عمر بن الوليد. ثلاثتهم - علي بن قتيبة، وعبدالوهاب، ومحمد بن عمر -، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، به. قال ابن حجر في "لسان الميزان" (4/515): ثم خرَّجه الدارقطني من خمسة أوجه، عن مالك. وقال الدارقطني: كل من رواه عن مالك ضعيف. وقال البيهقي بعد ذكره للأوجه الثلاثة المتقدمة (9/347): وهو باطل لا أصل له من حديث مالك.
وأما حديث عبدالرحمن بن عوف: فأخرجه البزار في"مسنده" (1010)، والطبراني في "الأوسط" (9093)، والحاكم (4/455)، والرافعي في "أخبار قزوين" (3/357). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/86)، وفيه الوليد بن عبدالرحمن بن عوف، ولم أعرفه ولا من روى عنه، وبقية رجاله ثقات. اهـ.
وأما حديث جابر فأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (10/51)،والأنصاري في"طبقات المحدثين" (4/177-178)، وفيه من لم أعرفه.
والحديث شواهده حسَّنه الترمذي، وصححه الحاكم. وقال ابن علان في "شرح الأذكار" (4/90). قال الحافظ بعد تخريجه: هذا حديث غريب من هذا الوجه. وهو حديث حسن بشواهده، ثم ذكرها.
(11) في (ق): «بابن لي قد اعلقت».
(12) قوله: «فيه» سقط من (ح) و(ق).
(13) في (ق): «أغلقت عينه» وكتب في الهامش «اعلقت عنه» ووضع (خ).
(14) في "صحيح البخاري" (5713).
(15) في (ق): «وفي التاريخ».(5/602)
اللهاة. وقد تقدَّم: أن اللَّهاة: اللحمة الحمراء التي في آخر الفم، وأول الحلق. والنِّساء ترفعها بأصابعهن (1) ، فنهاهنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك لما فيه من تعذيب الصبي. ولعل ذلك يزيد في وجع اللهاة.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «علام تدغرن (2) أولادكنَّ بهذا (3) العِلاق؟!» تدغرن: الرواية الصحيحة فيه: بالدال المهملة، والغين المعجمة. لا (4) يجوز غيره. ومعناه هنا: رفع اللهاة. وأصله: الرفع (5) . ومنه قول العرب: دَغْرَى لا صفَّى، ودغرًا (6) لا صفًا (7) - منونًا، وغير منوَّن - يقولون هذا في الحرب؛ أي: ادفعوا عليهم، ولا تصطفُّوا لهم (8) .
و«العلاق»: الرواية فيه بكسر العين، ووقع في بعض النسخ: الأعلاق، وهو الصواب قياسًا؛ لأنَّه مصدر: أعلقت، وهو المعروف لغة. ومقصود هذا الإستفهام: الإنكار على النساء في فعل ذلك بأولادهن.
وقوله: «عليكن بهذا العود الهندي»؛ هذه إحاله منه لهن على استعمال العود الهندي الطيب الرائحة في مرض الحلق المسمَّى (9) : بالعذرة. ثم بيَّن لهم (10) كيفية العلاج به بقوله: «يُسعط (11) من العذرة»؛ أي: يُدَقُّ ناعمًا، ويُسعط في الأنف. وهذا يفيد: أنَّه يستعمل وحده، ولا (12) يضاف إلى غيره. ثمَّ زاد فقال: «ويلدُّ من ذات الجنب»؛ ويعني به: الوجع الذي يكون في الجنب؛ المسمَّى: بالشَّوصة. وقال الترمذي: يعني به: السِّلَّ. وفيه بُعد. والأول أعرف. وهل يلدُّ به منفردًا (13) مدقوقًا، أو مع غيره (14) ، يُسأل عن الأنفع من ذلك (15) أهل الخبرة من المسلمين؛ ممن جرَّب ذلك، أو تباشر تجربته (16) ؛ إذ لا بدَّ من نفعه في ذلك المرض؛ لأنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقول إلا حقًّا (17) .
وقوله (18) : «فإنَّ فيه سبعة أشفية (19) »؛ بيَّن منها في الحديث اثنين، وسكت عن =(5/603)=@
__________
(1) في (أ): «يرفعنها بأصبعهن».
(2) في (ق): «علام تدغرن» وكتب في الهامش «علام تدغرون» ووضع (خ).
(3) في (ب) و(ح): «بهذه».
(4) في (ح): «ولا».
(5) في (ح): «الدفع».
(6) في (ح): «دغرًا» بلا واو.
(7) علق في هامش (ك): «قال الجوهري كعقري حلقي وعقرًا حلقًا».
(8) قوله: «لهم» سقط من (ح).
(9) قوله: «المسمى» سقط من (ح).
(10) في (ح): يشبه «لهن».
(11) في (أ) و(ب): «يسقط».
(12) في (ق): «لا» بلا واو.
(13) في (ك) و(ح) و(ق): «مفردًا».
(14) قوله: «غيره» مطموس في (ك).
(15) قوله: «ذلك» سقط من (ق).
(16) قوله: «تباشر تجربته» مطموس في (ك) وفي (ق): «أو يباشر تجربته».
(17) قوله: «لا يقول إلا حقًا» مطموس في (ك).
(18) قوله: «وقوله» مطموس في (ك).
(19) في (ق): «سبعة أشفية» وكتب في الهامش «سبعة أشفياء» ووضع (خ).(5/603)
الخمسة. وقد ذكر الأطبَّاء في كتبهم: أن فيه من الأشفية أكثر مما في هذا الحديث. قال أبو عبد الله المازري: رأيت في كتبهم - يعني: الأطباء - أنه يدر البول، والطمث، وينفع من السُّموم، ويحرك شهوة الجماع، ويقتل الدود. وحبَّ القرع إذا شُرِب بالعسل، ويذهب بالكلف (1) إذا طلي عليه، وينفع من ضعف الكبد والمعدة، وبردهما، ومن (2) حمَّى الوِرْد والرِّبع (3) . وينفع من النَّافض (4) لُطُوخًا بالزيت قبل نفض الحمَّى، ولمن به فالج (5) ، واسترخاء. قال: وهو صنفان: بحري، وهندي، فالبحري: هو القسط الأبيض، يؤتى به من بلاد المغرب. ونص بعضهم: على أن البحري أفضل من الهندي، وهو أقل حرارة منه. قال إسحاق بن عمران: هما حارَّان يابسان في الدرجة الثالثة. والهندي أشد حرًّا في الجزء الثالث. وقال ابن سينا: القُسط حارٌّ في الثالثة (6) يابس في الثانية.
قال الشيخ: ويُسمى: الكُسْت (7) ، كما قال الراوي، وحينئذ يشكل هذا بما ذكر (8) من قول (9) الأطبَّاء: إن البحري من العود يُسمى: القسط، يؤتى به من بلاد المغرب. فكيف يكون هنديًّا، ويؤتى به من (10) المغرب؟! إلا أن يريدوا مغرب الهند. فإنَّ قيل: فإذا كان في العود الهندي هذه الأدوية الكثيرة، فما وجه تخصيص منافعه بسبع، مع أنها أكثر من ذلك، ولأي شيء لم يُفصلها؛ فالجواب عن الأول بعد تسليم أن =(5/604)=@
__________
(1) في (ق): «الكلف» وكتب في الهامش «بالكلف» ووضع (خ).
(2) في (ق): «من» بلا واو.
(3) في (ح): «والدبغ». وحمى الرِّبع: إنباتها في اليوم الرابع، وذلك أن يحمم يومًا ويترك يومين ويحمم في اليوم الرابع. "لسان العرب" (8/99).
(4) ي (ح): «ذكرنا».
(5) في (ك): «ومن به نافض» وفي (ح): «ومن به».
(6) في (ق): «الثالث».
(7) في (ق): «ويسمى السكت» وكتب في الهامش «ويسمى الكسب» ووضع (خ).
(8) في (ح): «ذكرنا».
(9) في (ح): «أقوال».
(10) في (ح): «من بلاد».(5/604)
لأسماء الأعداد مفهوم مخالفةٍ: إن هذه السَّبع المنافع هي التي علمها بالوحي وتحققها. وغيرها من المنافع علمت بالتجربة، فتعرَّض (1) لما علمه بالوحي دون غيره. وعن الثاني: أنَّه إنما فصَّل منها ما دعته (2) الحاجة إليه، وسكت عن غيره؛ لأنَّه لم يُبعث لبيان (3) تفاصيل الطبِّ، ولا لتعليم صنعته، وإنما تكلم بما تكلم به منه ليُرشد إلى الأخذ فيه، والعمل به، وأن في الوجود عقاقير، وأدوية ينتفع بها، وعيَّن منها (4) ما دعت حاجتهم إليها (5) في ذلك الوقت، وبحسب أولئك الأشخاص. والله تعالى أعلم (6) (7) .
13 - ومن باب التداوي بالشُّونِيز والتَّلبينه
قوله في الحبَّة السوداء: «شفاء من كل داء»؛ اختلف في الحبَّة السَّوداء؛ فقال الحربي: أنَّه الخردل. وحكى الهروي عن غيره: أنها (8) الحبَّة الخضراء. قال: والعرب تسمِّي الأخضر: أسود. والأسود أخضر. وهي (9) : ثمرة البُطم، وهو المسمَّى بالضَّرو (10) . وأولى ما قيل فيها: إنَّها الشونيز لوجهين :
أحدهما: أنه المذكور في الحديث.
وثانيهما: أنه أكثر منافع من (11) الخردل وحب الضَّرو (12) . فتعيَّن لأن يكون هو المراد بالحديث؛ إذ مقصوده: الإخبار بأكثرية فوائده، ومنافعه على ما نذكره (13) . =(5/605)=@
__________
(1) في (ح): «فنعرض» وفي (ق): «فعرض».
(2) في (ح) و(ك) و(ق): «دعت».
(3) قوله: «لبيان» سقط من (ح)
(4) قوله: «منها» سقط من (ق).
(5) في (ق): «إليه».
(6) جاء في نسخة (ك) بعدها: «ثم الجزء الثالث ويتلوه في الجزء الرابع ومن باب التداوي بالشُّونيز والتلبينة والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا».
(7) إلى هنا انتهت المقابلة من نسخة (ك).
(8) في (أ) و(ب): «أنه».
(9) في (ق): «وهو».
(10) في ق): «بالصرو».
(11) قوله: «من» سقط من (ح).
(12) في (ق): «الصرو».
(13) في (ق): «من منافعه أنه».(5/605)
والشَّونيز** كذا في (أ) **: قيده بعض مشايخنا بفتح الشين. وقال ابن الأعرابي: هو الشُّئنيز (1) ، كذا تقوله العرب. وقال غيره: الشُّؤنيز (2) - بالضم -. وقد ذكر الأطباء للشونيز منافع كثيرة، وخواص عجيبة.
قال القاضي أبو الفضل عياض: ذكر جالينوس: أنه (3) يُحلِّل النَّفخ، ويقتل ديدان البطن إذا أُكِل أو وضع على البطن. ويشفي من الزكام إذا قُلِي، وصُرَّ في خرقة واشتُمَّ، وينفع من العلَّة التي يتقشَّر منها الجلد، ويقلع الثآليل والخِيلان (4) ، ويُدِرُّ الطمث الكائن عن الأخلاط الغليظة اللَّزجة، وينفع من الصُّداع إذا طلي به الجبين، ويقلع البثور والجرب، ويحلل الأورام البلغمية إذا شمَّه مع الخل، وينفع من الماء العارض في العين إذا استُعِط مسحوقًا مع دهن الأرِيسَا، وينفع من انصباب النفس، ويتمضمض به من وجع الأسنان، ويدر البول واللبن، وينفع من نهشة الدُّبيلى (5) ، وإذا بخر به طرد الهوامَّ.
وقال غيرُ جالينوس: من خاصيته: إذهابُ حمَّى البلغم والسَّوداء، ويقتل حبَّ القرع، واذا عُلِّق من عنق المزكوم نفعه، وينفع من حمى الرِّبع. قال بعضهم: ولا يبعد منفعة الحار من أدواء حارَّةٍ لخواصَّ (6) فيها؛ كوجودنا ذلك في أدوية كثيرة، فيكون الشونيز منها؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - ، ويكون أحيانًا مفردًا، وأحيانًا مركَّبًا.
قال الشيخ رضي الله عنه: وعلى هذا القول الآخر تحمل (7) كليَّة الحديث على عمومها وإحاطتها، ولا يستثنى (8) من الأدواء شيء إلا الدَّاء الذي يكون عنه (9) الموت في علم =(5/606)=@
__________
(1) في (ح) و(ق): «الشنيز».
(2) في (ح) و(ق): «الشونيز».
(3) في (ق): «من منافعه أنه».
(4) الخيلان: جمع خال، هو شامة سوداء في البدن، وتكون في الخد.
(5) الدُّبيلة: خُرَّاج ودَّملٌ كبير تظهر في الجوف، فتقتل صاحبها غالبًا.
(6) في (ق): «بخواص».
(7) في (ق): «يحمل».
(8) في (ح): «ولا يشفى».
(9) في (ق): «عند».(5/606)
الله تعالى. وعلى القول الأول: يكون ذلك العموم محمولاً على الأكثر والأغلب. والله تعالى أعلم.
وقوله: «التلبينة مُجمَّةٌ (1) لفؤاد (2) المريض تذهب بعض الحزن»؛ التلبينة: حساء من دقيق. و«مُجمَّةٌ (3) »: يروى بفتح الميم والجيم، وبضم الميم وكسر الجيم. فعلى الأول: هو مصدر؛ أي: جمامٌ. وعلى الثاني: يكون اسم فاعل من أجمَّ. ومعناه: أنَّها تقوِّيه وتُنشطه، وذلك: أنها غذاء فيه لطافةٌ، سهل (4) التناول على المريض؛ فاذا استعمله المريض (5) اندفع عنه الحرارة الجوعيَّة (6) ، وحصلت له القوة الغذائية من غير مشقَّة تلحقه، فسرى (7) عنه بعض ما كان فيه، ونشط، وذهب عنه الضيق، والحزن الذي كان يجده بسبب المرض، وإنما كانت عائشة رضي الله عنها تصنعها لأهل الميت، وتثرد فيها لأن أهل الميت شغلهم (8) الحزن عن الغذاء، فاشتدَّت حرارة أحشائهم من الجوع والحزن، فلما أطعمتهم التلبينة انكسرت عنهم حرارة الجوع، فخف عنهم بعض ما كانوا فيه (9) . ولا يلزم من فعلها ذلك لهؤلاء أن يفعل (10) بالمريض كذلك، فيثرد له فيها (11) ، وإنَّما ذلك بحسب الحال، فإنَّ احتاج المريض إلى تقوية غذاء التلبينة بلبابٍ (12) يضاف إليها فحسن. وعلى الجملة: فالتلبينة غذاء لطيف لا ضرر فيه غالبًا، فلذلك نبَّه عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - (13) . =(5/607)=@
__________
(1) في (ق): «مجمة» وكتب في الهامش (مجة) ووضع (خ).
(2) في (ق): «لفوايد».
(3) في (ق): «ومجة».
(4) في (ق): «سهل التداوي» وكتب في الهامش «سهل التناول» ووضع (خ).
(5) قوله: «المريض» سقط من (ح) و(ق).
(6) في (ح): «الجوفية».
(7) في (ق): «يشغلهم».
(8) في (ق): «يفعل» نقط الحرف الأول باثنتين من فوق ومن تحت.
(9) في (ح): «عليه».
(10) في (ق): «فيثرد له فيها» وكتب في الهامش «فينزله فيها» ووضع (خ).
(11) في (ق): «نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه».
(12) اللباب: طحين مرقّق. واللباب: الخالص من كل شيء.
(13) في (ق): «استطلق بطنه» وكتب في الهامش لا تعرب بطنه» ووضع (نخـ).(5/607)
14 - ومن باب التداوي بالعسل
قول الرجل: «إن (1) أخي استطلق بطنه (2) »؛ قيَّدناه بضم التاء وكسر اللام مبنيًا للمفعول. بطنه - مرفوعًا- مفعول لم يسم فاعله، ومعناه أصيب بالإسهال، وقد عبَّر عنه في الرواية الأخرى: تُعرَّب (3) بطنه؛ أي: تغيَّر عن حال الصحة إلى هذا المرض، كما يقال: عَرُبت (4) معدته - بكسر الراء -: إذا تغيَّرت وفسدت. تَعْرَبُ عُرَبًا - بالفتح فيهما -.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «اسقه عسلاً»؛ قد اعترض بعض زنادقة الأطباء على هذا فقال: قد أجمعت الأطباء على أن العسل يسهل، فكيف يوصف لمن به الإسهال؟! فجوابه (5) : أن يقال (6) : إن هذا الطعن صدر عن جهل بأدلة صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وبصناعة الطب.
أما الأول (7) : فلو نظر في معجزاته - صلى الله عليه وسلم - نظرًا صحيحًا لعلم على القطع: أنه يستحيل عليه الكذب، والخلف، ومن حصل له هذا العلم فحقه شرعًا وعقلاً (8) ؛ إذا وجد من كلامه ما يقصر عن إدراكه أن يعلم أن ذلك القول حق في نفسه، وأن يضيف القصور إلى نفسه. فإن أرشده هذا الصادق إلى فعل ذلك الشيء على وجه، فيستعمله على الوجه الذي عيَّنه، وفي المحل الذي أمره بعقد نيَّة، وحسن طويَّة؛ =(5/608)=@
__________
(1) قوله: «إن» سقط من (ح).
(2) في (ق): «تغيرت».
(3) في (ق): «غيرت» وكتب في الهامش «عربت» ووضع (خ).
(4) في (ح): «وجوابه».
(5) قوله: «أن يقال» سقط من (ق).
(6) في (ح): «ولصناعة».
(7) في (ق): «الأولى».
(8) في (ق): «أو عقلاً».(5/608)
فإنَّه يرى منفعته، ويدرك بركته، كما قد (1) اتفق لصاحب هذا العسل. وإن لم يعيَّن له كيفية، ولا وجهًا (2) ، فسبيل العاقل ألا يقدم على استعمال شيء حتى يعرف كيفية العمل به، فليبحث عن وجه العمل اللائق بذلك الدواء، فإذا انكشف له ذلك فهو الذي أراده (3) الصادق. وهذا البحث إنما يكون مع العلماء بالطب من المسلمين الموثوق بعلمهم، وصحَّة تجربتهم.
وأما جهل هذا الطاعن بصناعة الطب فقد جازف في النقل حيث أطلق في موضع التقييد، وحكى إجماعًا (4) لا يصح له. وبيان ذلك بما قاله (5) الإمام أبو عبدالله. قال: ينبغي أن يعلم: أن الإسهال يَعْرِض من (6) ضروب كثيرة؛ فمنها (7) : الإسهال الحادث عن التُّخم، والهيضات. والأطباء مجمعون في مثل هذا على أن علاجه: بأن تترك (8) الطبيعة وفعلها، وان احتاجت إلى معين على الإسهال أعينت ما دامت القوة باقية، فأما حبسها: فضرر. فإذا وضح هذا؛ قلنا: فيمكن أن يكون هذا الرجل (9) أصابه الإسهال عن امتلاء وهيضة، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بشرب العسل، فزاده، فزاده (10) ، إلى أن فنيت تلك (11) المادة، فوقف الإسهال. فوافقه شرب العسل، فإذا خرج هذا على صناعة الطب أذن ذلك بجهل المعترض بتلك الصناعة. قال: ولسنا نستظهر على قول نبيِّنا (12) - صلى الله عليه وسلم - بأن يصدقه الأطبَّاء، بل لو كذبوه لكذبناهم، وكفرناهم، وصدَّقناه - صلى الله عليه وسلم - ، فإن أوجدونا بالمشاهدة صحة ما قالوه فنفتقر (13) حينئذ إلى تأويل كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتخريجه على ما يصح؛ إذ قامت الدلالة على أنه لا يكذب.
وقوله: «صدق الله، وكذب بطن أخيك»؛ تنبيه: على أنه - صلى الله عليه وسلم - انتزع هذا العلاج بالعسل (14) من قول الله تعالى :{يخرج من بطونها شرابٌ مختلف ألوانه فيه شفاء للناس (15) } (16) . والصحيح من قوله {فيه}: أنه عائدٌ على العسل؛ بدليل هذا =(5/609)=@
__________
(1) قوله: «قد» سقط من (ح).
(2) في (ق): «كيية ولا وجهًا» وكتب في الهامش كيفيته ولا وجهه».
(3) في (ح): «أراد».
(4) في (ق): «الإجماع».
(5) في (ق): «ما قال».
(6) في (ح): «عن».
(7) في (أ) و(ح): «منها».
(8) في (ق): «يترك»
(9) قوله: «هذا الرجل» سقط من (ح).
(10) قوله: «فزاده» الثانية ليس في (أ).
(11) قوله: «تلك» سقط من (أ) و(ب).
(12) في (ح): «قوله - صلى الله عليه وسلم - ».
(13) في (أ): «فتفتقر».
(14) قوله: «بالعسل» سقط من (ح).
(15) في (ح): «الناس».
(16) الآية (69) من سورة النحل.(5/609)
الحديث، ولأنه ليس في الآية ذكرٌ لغيره. وهو قول ابن عباس (1) ، وابن مسعود (2) ، والحسن، وقتادة. وقال مجاهد: هو عائد إلى القرآن. والأوَّل أولى لما ذكرناه.
قال الشيخ رحمه الله: ومقتضى الآية: أن العسل فيه شفاءٌ ما، لا كلُّ شفاءٍ؛ لأنَّ {شفاء} نكرة في سياق الإثبات، ولا عموم فيها باتفاق أهل اللِّسان، ومحققي أهل الأصول، لكن قد حملتها طائفة من أهل الصدق والعزم على العموم، فكانوا يستشفون بالعسل من كل الأوجاع، والأمراض، وكانوا يشفون من عللهم ببركة القرآن، وبصحة التصديق، والإيقان. وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما لا يشكو قرحة ولا شيئًا إلا جعل عليه عسلاً، حتى الدُّمَّلَ إذا خرج عليه طلاه عسلاً. فقيل له في ذلك ؟ فقال: أليس الله سبحانه وتعالى يقول:{فيه شفاء للناس} (3) . وروي: أن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه مرض، فقيل له: ألا نعالجك ؟ فقال: ائتوني (4) بماء، فإنَّ الله تعالى يقول (5) :{وأنزلنا من السماء ماءً مباركًا} (6) ، ثم قال : ائتوني بعسل، فإنَّ الله تعالى يقول :{فيه شفاء للناس}، ثم قال: ائتوني بزيت، فإنَّ الله تعالى يقول :{من شجرة مباركة زيتونة} (7) ، فجاؤوه بذلك كله فخلطه جميعًا (8) ، ثم شربه فبرأ (9) . وحكى النقَّاش عن أبي وجرة أنه كان يكتحل بالعسل. ويستمشي (10) بالعسل، ويتداوى بالعسل، فهذا كله: عمل بمطلق القرآن الكريم (11) ، وأصله صدق النية، وصحة الإيمان. =(5/610)=@
__________
(1) أخرجه ابن جرير (17/250) عن محمد بن سعد، عن أبيه، عن ابن عباس.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (30020)، وابن جرير (17/250)، والبيهقي (9/345). وإسناده صحيح، وصححه البيهقي.
(3) ذكره السيوطي في"الدر المنثور" (5/145)، وعزاه لحميد بن زنجويه.
(4) في (أ): «ايتوبي».
(5) في (ح): «قال».
(6) الآية (9) من سورة ق.
(7) الآية (35) من سورة النور.
(8) في (ق): «فخلطه بذلك كله جميعا».
(9) لم أقف عليه، وذكره القرطبي والسيوطي في تفسيريهما.
(10) في (ح): يشبه «ويستسمي» وفي (ق): «ويستمسي».
(11) قوله: «الكريم» ليس في (أ).(5/610)
15 - ومن باب ما جاء في الطاعون
قوله: «الطاعون رجز أرسل على من كان قبلكم»؛ قد جاء هذا اللفظ مفسَّرًا في الرواية الأخرى، حيث قال: «إن هذا الوجع، أو (1) السُّقْمَ رجز عذب به (2) بعض الأمم»، فقد فسَّر الطاعون بالمرض، والرجز بالعذاب. والطاعون: وزنه فاعول من الطعن؛ غير أنه لما عدل به عن أصله وضع دالاًّ على الموت العام بالوباء، على ما قاله الجوهري. وقال غيره: أصل الطَّاعون: القروح الخارجة في الجسد. والوباء: عموم الأمراض. قال: وطاعون عَمْواس: إنما كان طاعونًا وقروحًا.
قال الشيخ: ويشهد لصحَّة هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - وقد سُئل عن الطاعون - فقال: «غُدَّة كغدَّة البعير». تخرج في المراق، والآباط (3) . وقال غير واحد من العلماء أنه يخرج (4) في الأيدي والأصابع، وحيث شاء الله من البدن.
قال الشيخ: وحاصله: أن الطاعون مرضٌ عام يكون عنه موت عام (5) ، وقد يسمَّى (6) بالوباء، ويُرسله الله تعالى نقمة وعقوبة لمن يشاء (7) من عصاة عبيده، وكفرتهم. وقد يرسله (8) =(5/611)=@
__________
(1) في (ح): «و».
(2) زاد بعده في (ق): «من كان قبلكم».
(3) أخرجه أحمد (6/82 و145 و255) من طريق يحيى بن إسحاق. وأخرجه أحمد (6/133 و145 و255) من طريق عفان ويزيد. وأخرجه أبو يعلى (4408) من طريق حوزة بن أشرس أبي عامر. أربعتهم عن جعفر بن كيسان أبي معروف، عن عمرة العدوية، عن عائشة به مرفوعًا نحوه. وليس فيه ذكر المراق والآباط. وإسناده صحيح ورجاله ثقات.
وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (5661)، وأبو بكر بن خلاد في "الفوائد" (36/1)، وابن عبدالبر في "التمهيد" (12/257-258)، و(19/205) من طريق يوسف بن ميمون، عن عطاء، عن ابن عمر، عن عائشة به نحوه مرفوعًا. وفيه ذكر الآباط والمراق. ويوسف بن ميمون ضعيف.
(4) في (ح): «العلماء تخرج».
(5) في (ح): «الموت العام».
(6) في (ح): «يسم».
(7) في (أ) و(ح): «لمن شاء».
(8) في (ق): «يرسل».(5/611)
شهادة، ورحمة للصالحين من عباده، كما قال معاذ في طاعون الشام: إنه شهادة ورحمة لكم، ودعوة نبيكم (1) . قال أبو قلابة: يعني بدعوة نبيكم: أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا أن يجعل فناء أمته بالطَّعن والطَّاعون. كذا جاءت الرواية عن أبي قلابة بالواو. قال بعض علمائنا: والصحيح بالطَّعن، أو الطاعون، بأو التي هي (2) لأحد الشيئين؛ أي: لا يجتمع ذلك عليهم.
قال الشيخ: ويظهر لي: أن الروايتين صحيحتا المعنى، وبيانه: أن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمته المذكورة في الحديث إنما هم أصحابه؛ لأنَّه - صلى الله عليه وسلم - قد دعا لجميع أمته (3) ألا يهلكهم بسنة عامة، ولا بتسليط أعدائهم عليهم، فأجيب إلى ذلك، فلا تذهب بيضتهم (4) ، ولا معظمهم بموت عام، ولا بعدوٍّ على مقتضى هذا الدعاء. والدعاء المذكور في حديث أبي قلابة يقتضي أن يفنى جميعهم بالقتل والموت العام. فتعيَّن أن يصرف الأول إلى أصحابه؛ لأنَّهم هم (5) الذين اختار الله تعالى لمعظمهم الشهادة بالقتل في سبيل الله، وبالطاعون الذي وقع في زمانهم، فهلك به بقيتهم. فعلى هذا: قد جمع الله تعالى لهم كلا (6) الأمرين. فتبقى الواو على أصلها من الجمع، أو تحمل «أو» على التنويعية والتقسيمية. والله تعالى أعلم.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض، وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارًا منه»؛ على ظاهر هذا الحديث عمل عمر (7) رضي الله عنه والصحابة معه رضي الله عنهم (8) ؛ لما رجعوا من سَرْغ (9) حين أخبرهم بهذا الحديث عبد الرحمن بن عوف، وإليه صاروا (10) . وقالت عائشة رضي الله عنها، الفرار من الوباء كالفرار من الزحف (11) . وإنما نهى عن القدوم عليه (12) أخذًا بالحزم والحذر (13) =(5/612)=@
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (6/161)، وعبد بن حميد (129) عن داود بن أبي هند، عن شهر بن حوشب، عن الحارث بن عميرة.
وخالف داود عبدُالحميد بن بهرام فرواه عن شهر، عن عبدالرحمن بن غنم، عن الحارث بن عميرة: أخرجه البزار (2671). قال الدارقطني في "العلل" (6/83): «وهو أشبه بالصواب». اهـ. يعني رواية عبدالحميد بن بهرام.
وأخرجه أحمد (5/240)، والطبراني في "الكبير" (20 رقم 243) من طريق عاصم بن سليمان ، عن أبي منيب الأحدب قال: خطبنا معاذ، فذكره.
وأخرجه أحمد (5/248) عن إسماعيل، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن معاذ به في قصة. وأخرجه ابن أبي عاصم في "الزهد" (1/183) من طريق ابن نمير، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن طارق بن عبدالرحمن، فذكره.
وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (7/221) من طريق ابن وهب، عن عثمان بن عطاء، عن أبيه: أن معاذ بن جبل، فذكره.
(2) قوله: «هي» سقط من (ق).
(3) في (ح): «أصحابه».
(4) في (ق): «فلا يذهب بيضتهم» وكتب في الهامش «فلا تذهب بيضتهم».
(5) قوله: «هم» سقط من (ق).
(6) في (ح): «كل» بدل «كلا».
(7) في (ح): «عمر بن الخطاب».
(8) في (ق): «رضي الله عنهم أجمعين».
(9) في (ح) و(ق): «سرع».
(10) أخرجه مسلم في "صحيحه" (2219).
(11) أخرجه ابن سعد في الطبقات (8/490)، وإسحاق بن راهويه في"مسنده" (1709)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (2/198) من طريق جعفر بن كيسان أبي معروف، عن عمرة بنت قيس، عن عائشة به مرفوعًا.
وعند البخاري: عن عمرة بنت قيس ومعاذة العدوية.
(12) قوله: «عليه» سقط من (ق).
(13) قوله: «والحذر» سقط من (ق).(5/612)
والتحرُّز من مواضع الضرر، ودفعًا للأوهام المشوشة (1) لنفس الإنسان. وإنما نهي عن الفرار منه؛ لأنَّ الكائن بالموضع (2) الذي الوباء فيه، لعلَّه قد أخذ بحظ منه (3) ، لاشتراك أهل ذلك الموضع في سبب ذلك المرض العام، فلا فائدة لفراره (4) ، بل يضيف إلى ما أصابه من مبادي الوباء مشقات السفر فيتضاعف (5) الألم، ويكثر الضرر فيهلكون بكل طريق، ويطرحون في كل فجوة ومضيق، ولذلك يقال: قلَّما (6) فرَّ أحد من الوباء وسلم (7) (8) . ويكفي من ذلك موعظة قوله تعالى :{ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ حذر الموت فقال لهم الله موتوا} (9) . قال الحسن: خرجوا حذرًا من الطاعون فأماتهم الله تعالى في ساعة واحدة، وهم أربعون ألفًا. وقيل غير هذا. وقالت طائفة أخرى: إنه يجوز القدوم على الوباء، والفرار منه، وحكي ذلك عن عمر رضي الله عنه وأنَّه ندم على رجوعه من سرغ (10) ، وقال: اللهم اغفر لي رجوعي من سرغ (11) (12) . وكتب إلى عامله بالشام، بأنه قد وقع عندكم الوباء فاكتب لي حتى أخرج إليه. وكتب إلى أبي عبيدة في الطاعون، فعزم عليه (13) أن يقدم عليه مخافة أن يصيبه الطاعون (14) . وروي عن مسروق، والأسود، وأبي موسى الأشعري (15) رضي الله عنهم: أنهم فرُّوا من الطاعون. وروي عن عمرو بن العاص (16) رضي الله عنه أنه قال: تفرَّقوا عن هذا الرجز في الشعاب والأودية ورؤوس الجبال (17) . واعتمد أصحاب هذا القول على أن الآجال محدودة، والأرزاق مقدَّرة (18) معدودة، فلا يتقدَّم شيء على وقته، ولا يتأخر شيء عن أجله، فالواجب صحة الاعتماد على الله، والتسليم لأمر الله تعالى، فإنَّ الله تعالى لا رادَّ لأمره، ولا معقب لحكمه، فالقدوم على الوباء والفرار سيان بالنسبة (19) إلى سابق الأقدار (20) .
وتأوَّل بعضهم الحديث (21) بأن مقصوده: التحذير من فتنة الحيِّ؛ فيعتقد أن =(5/613)=@
__________
(1) في (ق): «الموسوسة».
(2) في (ق): «في الموضع».
(3) في (ح): «بحظه» وفي (ق): «بحظه منه».
(4) في (ح): «في فراره».
(5) في (ق): «فيضاعف».
(6) في (أ) و(ح) و(ق): «قل ما» كذا رسمت.
(7) في (ح) و(ق): «فسلم».
(8) في (ح): «مسلم».
(9) الآية (243) من سورة البقرة.
(10) في (ق): «سرع».
(11) في (ق): «سرع».
(12) أخرجه ابن أبي شيبة (33848) بإسناد جيد، وجوَّده ابن حجر في "فتح الباري" (10/187).
(13) في (ق): «عليه مخافة أن».
(14) ذكره ابن عبدالبر في "التمهيد" معلقًا بلاغًا عن عروة قال: وبلغني أن عمر كتب. . . الحديث.
(15) أخرجه الطحاوي في "شرح المعاني" (4/305).
(16) في (ح): «العاصي».
(17) أخرجه أحمد (4/196)، وابن خزيمة كما في "إتحاف المهرة" (6/148)، والطحاوي في "شرح المعاني" (4/360)، وابن حبان (2951)، والطبراني في "الكبير" (7210) من طرق عن شعبة، عن يزيد بن خمير، عن شراحيل بن شفعة، عن عمرو بن العاص به في قصةٍ. ورجاله ثقات غير شراحيل فإنه صدوق.
وأخرجه أحمد (4/196) عن أبي سعيد، ثنا ثابت، ثنا عاصم، عن أبي منيب: أن عمرو بن العاص قال في الطاعون، فذكر نحوه.
قال ابن حجر في "فتح الباري" (10/187): «سنده صحيح».
(18) في (ح) و(ق): «مقسومة».
(19) في (أ): «بالنسية».
(20) في (ح): «المقدار» وفي (ق): «إلى سياق المقدار».
(21) في (ح): «هذاالحديث».(5/613)
هلاك من هلك من أجل قدومه على الوباء، ونجاة من نجا من أجل فراره. قالوا: وهذا نحو نهيه عن الطيرة، والقرب من المجذوم مع قوله: «لا عدوى (1) »؛ فمن خرج من بلاد الطاعون أو قدم عليها جاز له ذلك؛ إذا أيقن أن قدومه لا يعجل له أجلاً أخره الله تعالى، وأن فراره لا يؤخر عنه أجلاً عجَّله الله تعالى، ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: الطاعون فتنة على المقيم والفار، أما الفارُّ فيقول: بفراري نجوت، وأما المقيم فيقول: أقمت فمت (2) (3) . وإلى نحو هذا أشار مالك حين سُئل عن كراهة (4) النظر إلى المجذوم، فقال: ما سمعت فيه بكراهة (5) ، وما أرى ما جاء من (6) النهي عن ذلك إلا خيفة أن يفزعه، أو يخيفه شيء يقع في نفسه. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوباء: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع (7) وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه». وسُئل أيضًا مالك عن البلد يقع فيه الموت، وأمراض (8) فهل يكره الخروج إليه (9) ؟ فقال: ما أرى باسًا، خرج أو أقام. قيل: فهذا يشبه ما جاء في الحديث من الطاعون ؟ قال: نعم.
قال الشيخ: وهذا فيه نظر سيأتي إن شاء الله تعالى في حديث ابن عباس. وقوله في حديث أبي النضر: «لا يخرجكم إلا فرارًا منه»؛ رويناه بالنصب والرفع، وعلى (10) الروايتين فهو مشكل؛ لأنَّه يفيد بحكم ظاهره: أنه لا يجوز لأحد أن يخرج من الوباء إلا من أجل الفرار، وهذا محال. وهو نقيض مقصود الحديث من أوله إلى آخره قطعًا (11) . ولما ظهر هذا الفساد قيَّده بعض رواة "الموطأ": الإفرار بهمزة مكسورة، وسكون الفاء، توهَّم فيه أنه مصدر، وهذا ليس بصحيح؛ لأنَّه لا يقال: =(5/614)=@
__________
(1) في (ح): «لا عدوى ولا طيرة» وكأنه ضرب على قوله: «ولا طيرة».
(2) في (أ): «قمت».
(3) ذكره ابن عبدالبر في "التمهيد" (8/372).
(4) في (ح) و(ق): «كراهية».
(5) في (ح): «في ذلك كراهة».
(6) في (ح): «في» بدل «من».
(7) في (ق): «وإذا وقع بأرض وأنتم».
(8) في (ح): «الأمراض».
(9) في (ق): «فهل يخرج إليه».
(10) في (ق): «على» بلا واو.
(11) قوله: «قطعًا» سقط من (ق).(5/614)
أفرُّ - رباعيًّا -، وإنما يقال: فرَّ، ومصدره: فرار ومفرّ، كما قال تعالى:{قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل} (1) ، وقال :{أين المفرّ} (2) . وقد أشكل هذا الكلام على كثير من العلماء الأعلام حتى قالت جماعة: إن إدخال «إلا» فيه غلط. وقال بعضهم: إنها زائدة. كما قد تزاد «لا» في مثل قوله تعالى :{ما منعك ألا تسجد (3) } (4) ؛ أي: ما منعك أن تسجد، وقال بعض النحويين: إن «إلا» هنا للإيجاب لأنها توجب بعض ما نفاه (5) من الجملة، ونهى عنه من الخروج. فكأنه قال (6) : لا تخرجوا منها إذا لم يكن خروجكم إلا فرارًا. وأباح الخروج لغرض آخر. والأقرب: أن تكون زائدة، والصحيح إسقاطها؛ كما قد صح في الروايات الأخر.
وقوله: «إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام»؛ كان هذا الخروج من عمر (7) بعدما فتح بيت المقدس سنة سبع عشرة على ما ذكره خليفة بن خيَّاط (8) (9) ، وكان يتفقد أحوال رعيته، وأحوال أمرائه. وقد كان خرج (10) قبل ذلك إلى الشام لما حاصر أبو عبيدة إيلياء، وهي: البيت المقدَّس، عندما سأل أهلها أن يكون صلحهم على يدي عمر، فقدم وصالحهم. ثم رجع، وذلك (11) سنة ست عشرة من الهجرة (12) .
وقوله: «حتى إذا كان بسرغ (13) لقيه أمراء الأجناد»؛ سرغ (14) : رويناه بفتح الراء =(5/615)=@
__________
(1) الآية (33) من سورة الأحزاب.
(2) الآية (10) من سورة القيامة.
(3) زاد في (ح): «إذ أمرتك».
(4) الآية (12) من سورة الأعراف.
(5) في (أ): «بقاه».
(6) في (ق): «من الخروج فقال».
(7) في (ق): «الخروج منه بعدما».
(8) في (أ): «خليفة بن نَحْيَاط».
(9) "تاريخ خليفة بن خياط" (1/135).
(10) في (ح) و(ق): «وكان قد خرج».
(11) في (ح): «وذلك في».
(12) "تاريخ خليفة بن خياط" (1/137).
(13) في (ح) و(ق): «بسرع».
(14) في (ح) و(ق): «سرع».(5/615)
وسكونها، وهي: قرية بتبوك. قاله ابن حبيب. قال ابن وضاح: بينها وبين المدينة ثلاث عشرة مرحلة، وقيل: هي آخر عمل الحجاز. ففيه بيانُ ما يجب على الإمام من تفقُّد أحوال رعيته، ومباشرة ذلك بنفسه، والسفر إلى ذلك وإن طال.
و«الأمراء»: جمع أمير، وكان قد قسَّم الشام على أربعة أمراء؛ تحت كل واحدٍ منهم جند وناحية: أبو عبيدة بن الجراح، وشرحبيل بن حَسَنة، ويزيد بن أبي سفيان، ومعاذ بن جبل. ثم لم يمت عمر حتى جمع الشام لمعاوية (1) (2) .
وفيه دليل: على إباحة العمل والولاية لمن كانت له أهلية ذلك من العلم، والصلاح (3) ؛ إذا اعتقدوا أنهم متمكنون من العمل بالحق، والقيام به. فإذا عملوا بذلك حصل لهم أجر أئمة العدل.
وقوله: «ادعُ لي (4) المهاجرين الأولين، فاستشارهم»؛ دليلٌ على استشارة أولي العلم، والفضائل (5) ، وتقديم أهل السوابق. وهذا من عمر رضي الله عنه عمل بقوله تعالى: {وَشَاوِرهمْ في الأمر} (6) . وقد استشار النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه غير مرّة، وإن كان أكمل الناس عقلاً، وأغزرهم علمًا، ولكن كان ذلك ليسُنَّ، ويطيب قلوب أصحابه.
و«المهاجرون الأولون»: من صلَّى إلى (7) =(5/616)=@
__________
(1) في (ق): «معاوية».
(2) "تاريخ خليفة بن خياط" (1/155)، و"التمهيد" لابن عبدالبر (8/366).
(3) في (ق): «والإصلاح» وكتب في الهامش «والصلاح» ووضع (خ).
(4) قوله: «لي» سقط من (ح).
(5) في (ق): «والفضل» ثم أصلحها إلى قوله«والفضائل».
(6) الآية (159) من سورة آل عمران.
(7) قوله: «إلى» سقط من (أ) و(ح).(5/616)
القبلتين. وأما من لم يُسْلِم إلا بعد تحويل القبلة، فلا يعدُّ في الأولين.
و«المشيخة»: الشيوخ، وفيها لغات بكسر الشين وفتحها، والكسر أشهر. ويقال أيضًا: شيوخًا (1) ومشايخ. وهذه كلها: جمع شيخ، مع (2) زيادة الميم. فأمَّا من غير ميم: فهو (3) جمع شيوخ، وأشياخ، وشِيخان، وشِيَخَة (4) - بكسر الشين -. فأمَّا بالفتح: فهي مؤنثة شِيخ. فأمَّا الشَّيَخ - بفتح الياء -: فهو مصدر شاخ يشيخ (5) ، ويقال فيه: شيخوخة.
و«مهاجرة الفتح»: هم الذين هاجروا قبل الفتح بيسير. وقيل: هم مسلمة الفتح، وفيه بُعد؛ لأنَّ الهجرة ارتفعت (6) بعد الفتح. وإنما أخرهم عمر عن غيرهم؛ لتأخرهم في الإسلام والهجرة. ولكن استشارهم لشيخهم، وكمال (7) خيرتهم (8) للأمور. ولما استشارهم لم يختلف عليه منهم أحد (9) . فترجَّح عنده رأيهم، ونادى في الناس إنِّي مصبح على ظهر؛ أي: على ظهر طريق، أو ظهر بعير مرتحلاً، فأصبحوا عليه؛ أي: مرتحلين. وهذا يدلّ: على أنه إنما عزم على الرجوع لرأي أولئك المشيخة لما ظهر له أنه أرجح من رأي غيرهم ممن خالفهم. ووجه أرجحية هذا الرأي: أنه جمع فيه بين الحزم، والأخذ بالحذر، وبين التوكل، والإيمان بالقدر. وبيان ذلك: بحجَّة عمر على أبي عبيدة رضي الله عنهما؛ حين قال له: «أفرارا من قدر الله ؟» وذلك: أن أبا عبيدة ظهر له: ألا يرجع، ويتوكل على الله، ويُسلم للقدر؛ لأنَّ ما يقدَّر عليه لا ينجيه منه رجوع، ولا فرار. فأجابه عمر رضي الله عنه بأن قال: «لو غيرك قالها»؛ أي: ليت غيرك (10) يقول ذلك (11) القول. =(5/617)=@
__________
(1) في (أ) و(ح): «مشيوخًا».
(2) في (ح): «فأما» بدل «مع».
(3) في (أ) و(ح): «فقد».
(4) في (ح): «وشيخية».
(5) في (ق): «شاخ يشيخ».
(6) في (ح): «قد ارتفعت».
(7) في (ق): «ولكمال».
(8) في (أ): «خبرتهم».
(9) في (ح): «واحد».
(10) في (ق): «غيرك قالها يقول».
(11) قوله: «ذلك» مكرر في (ق).(5/617)
فكأنه قال: لا يليق هذا القول بك لعلمك وفهمك، وإنما يليق ذلك بغيرك ممن قل، علمه، وقصر فَهْمُه. ثم احتج عليه بأن قال: «نعم! نفرُّ من قدر (1) إلى قدر الله؛ إذ (2) لا محيص للإنسان عما قدَّره الله عليه، لكن أمرنا الله تعالى بالتحرُّز من المخاوف والهلكات (3) ، وباستفراغ الوسع في التوقي من المكروهات، والحذر، وجلب المنافع، ودفع الضرر (4) ، ثم المقصِّر في ذلك ملوم عادة وشرعًا، ومنسوبٌ إلى التفريط عقلاً وسمعًا (5) ؛ وإن زعم أنه المتوكل على الله، المسلِّم (6) لأمر الله. ولما بيَّن عمر رضي الله عنه ذلك (7) المعنى بالمثال (8) ، لاح الحق، وارتفع الجدال، ثم لم يبرح عمر رضي الله عنه من مكانه حتى جاءه الحق ببرهانه، فحدَّثهم عبدالرحمن رضي الله عنه (9) بما قاله في ذلك (10) النبي - صلى الله عليه وسلم - فسُرَّ بذلك عمر رضي الله عنه سرورًا ظهر لديه، فحمد الله، وأثنى عليه حيث توافق (11) الرأي والسمع، وارتفع الخلاف، وحصل الجمع، فرجع من موضعه ذلك إلى المدينة سالِمًا موفورًا، وكان في (12) سعيه ذلك مصيبًا مشكورًا.
وعند هذا (13) يعلم الفطن العاقل: أن تلك الأقوال (14) التي حكيت عنه في ندمه على (15) الرجوع من سرغ، ومن فتياه بإباحة القدوم على الوباء والفرار منه لم يصح عنه شيء من ذلك. وكيف يندم على هذا النظر (16) القويم، ويرجع عن هذا المنهج المستقيم؛ الذي قد تطابق (17) عليه العقل والسمع، واصطحب عليه الرأي والشرع؟! هذا ما لا يكون (18) ، فالحاكون (19) عنه: هم المتقوِّلون، والله تعالى أعلم (20) .
ومن أعظم فوائد هذا الحديث: إجماع الصحابة رضي الله عنهم على العمل بالرأي، والاجتهاد، وقبول أخبار الآحاد، كما بيَّنا ذلك في الأصول. =(5/618)=@
__________
(1) في (ق): «قدر الله».
(2) في (أ) و(ح): «أي» بدل «إذ».
(3) في (ق): «والمهلكات» وكتب في الهامش «والهلكات» ووضع (خ).
(4) في (ح): «المضار».
(5) في (ق): «وشرعًا».
(6) في (ح) و(ق): «والمسلم».
(7) قوله: «ذلك» سقط من (ح).
(8) في (أ) و(ب): «بالمال».
(9) في (ح) و(ق): «عبدالرحمن بن عوف».
(10) قوله: «في ذلك» سقط من (ح).
(11) في (ق): «يوافق».
(12) قوله: «في» سقط من (ح).
(13) في (ق): «وعند هذا» وكتب في الهامش «وعند ذلك» ووضع (خ).
(14) في (ح): «الحكايات».
(15) في (ق): «على ذلك هذا».
(16) في (ح): «النظير».
(17) في (ق): «يطابق».
(18) قوله: «يكون» سقط من (أ) و(ب).
(19) في (ح): «بل الحاكون».
(20) اعترض ابن حجر على كلام المؤلف هنا، ثم وجه اعتراضه بما يوافق كلام المؤلف. "فتح الباري" (10/187).(5/618)
وقوله: «هذا المحل (1) »؛ أي: المدينة. يعني: أنها المحل الذي لا يرغب عنه، ولا يفضل غيره عليه، وإن كثر خصب البلاد، واتسع حال أهلها. ويقال (2) : بكسر الحاء وفتحها (3) ، والفتح هو الأصل المطَّرد؛ لأنَّ ما كان على فعل يَفْعُل بضم العين: الأصل فيه: أن يأتي المكان منه بالفتح إلا أحرفًا سُمع فيها الكسر والفتح.
تكميل: قال أبو عمر رحمه الله: لم يبلغني أن أحدا من حملة العلم فرَّ من الطاعون إلا ما ذكره ابن المدائني (4) : أن علي بن زيد بن جدعان هرب (5) من الطاعون إلى السَّيالة (6) ، فكان (7) يجمع كل جمعة ويرجع، فكان إذا جمع صاحوا به: فرَّ من الطَّاعون، فطعن، فمات بالسَّيالة (8) . وذكر أبو حاتم عن الأصمعي: هرب (9) بعض البصريين من الطاعون، فركب حمارًا له، ومضى بأهله نحو سَفَوان (10) ، فسمع حاديًّا يحدو خلفه:
لن يُسْبَقَ اللهُ على حمارٍ ولا على ذِي منعةٍ طيَّار
أو (11) يأتي الحتف على مقدار قد يصبح الله أمام الساري (12) =(5/619)=@
__________
(1) في (ح): «المحل إلى المدينة».
(2) في (ح): «يقال» بلا واو.
(3) في (ق): «بفتح الحاء وكسرها».
(4) في (ح): «المديني».
(5) في (ق): «فر» وكتب في الهامش «هرب» ووضع (نخـ).
(6) السَّيالة: هي أول مرحلة لأهل المدينة إذا أراد مكة.
(7) في (ق): «وكان».
(8) ذكره ابن عبدالبر في "التمهيد" (6/215).
(9) في (ق): «قال هرب».
(10) سفوان: ماء على قدر مرحلة من باب المربد بالبصرة.
(11) في (ق): «إذ».
(12) رواه ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث" (1/104): ثني سهل بن محمد، ثنا الأصمعي، فذكره. وذكره ابن عبدالبر في "التمهيد" (6/214) كما نقله عنه المؤلف هنا.(5/619)
وذكر المدائني قال: وقع الطاعون بمصر في ولاية عبدالعزيز بن مروان، فخرج هاربًا منه، فنزل قرية من قرى الصعيد يقال لها: سُكَر (1) . فقدم عليه رسول لعبدالملك (2) فقال له: ما اسمك ؟ فقال: طالب بن مدرك. فقال: أوَّه! ما أراني راجعًا إلى الفسطاط. فمات في تلك القرية (3) .
وروى (4) أبو عمر عن الأصمعي (5) قال: لما وقع طاعون الجارف بالبصرة فني أهلها، وامتنع الناس من دفن موتاهم، فدخلت السباع البصرة على ريح الموتى، وخلت سكَّة بني جرير فلم يُبقِ الله فيها سوى جارية، فسمعت صوت الذئب في سِكَّتهم ليلاً، فأنشأت تقول:
ألا أيها الذئب المنادي بسحرةٍ (6) ... إليَّ أنبئك الذي قد بدا لِيَا
بدا لي أني قد نُعِيتُ وإنني ... بَقيَّة قومٍ ورَّثوني البواكيا
وإنِّي بلا شكٍّ سأتبَعُ مَن مضى ... ويتبعني مِن بَعْدُ مَن كان تالِيَا
16 - ومن باب لا عدوى ولا طيرة ولا صفر ولا هامة (7) ولا غول
«لا» في هذا الحديث وإن كانت (8) نفيًا لما ذكر بعدها فمعناها النهي عن الالتفات لتلك الأمور، والاعتناء بها؛ لأنَّها في أنفسها ليست بصحيحة، وإنما هي =(5/620)=@
__________
(1) في (أ) و(ب): «سكز».
(2) في (ح): «من عبدالملك».
(3) ذكره ابن عبدالبر في "التمهيد" (6/216).
(4) في ق): «روى» بلا واو.
(5) ابن عبدالبر في "التمهيد" (6/215).
(6) في (ق): «سحرة».
(7) في (ق): «ولا هامة ولا صفر».
(8) في (ح): «كان» بدل «كانت».(5/620)
من أوهام جهَّال العرب. وبيان ذلك: أنهم كانوا يعتقدون أن المريض إذا دخل في الأصحاء أمرضهم، وأعداهم، وكذلك في الإبل. فنفى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك وأبطله. ثم إنهم لما أوردوا عليه (1) الشبهة الحاملة لهم على ذلك حين قالوا: فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها (2) الظباء فيجيء البعير (3) الأجرب فيدخل فيها فيجربها، قطع حجتهم، وأزاح شبهتهم بكلمة واحدة، وهي قوله: «فمن أعدى الأول ؟» ومعنى ذلك: أن البعير الجرب (4) الذي أجرب هذه الصحاح - على زعمهم - من أين جاءه الجرب ؟ أمن بعير آخر ؟ فيلزم التسلسل (5) . أو من سبب غير البعير ؟ فهو (6) الذي فعل الجرب في الأول والثاني، وهو الله تعالى الخالق لكل شيء، والقادر (7) على كل شيء. وهذه الشبهة التي وقعت لهؤلاء هي التي وقعت للطبائعيين أولاً، وللمعتزلة ثانيًا. فقال (8) الطبائعيون بتأثيرات الأشياء بعضها في بعض، وإيجادها إياها، وسموا المؤثر طبيعة. وقالت المعتزلة بنحو ذلك في أفعال الحيوانات والمتولدات، وقالوا: إن قُدَرَهم مؤثرة فيها بالإيجاد. وأنهم خالقون لأفعالهم، مستقلون باختراعها (9) . واستند الكل ممن ذكر للمشاهدة الحسية، وربما نسبوا منكر ذلك إلى إنكار البديهة. وهذا منهم غلط فاحش، وسببه: أنهم التبس عليهم إدراك الحس بإدراك العقل، فإنَّ الذي شاهدوه إنَّما هو تأثير شيء، عند شيء آخر، وهذا حظ الحس، أما تأثيره فيه فلا يدرك حسًّا، بل عقلاً، فإنَّ الحس إنما أدرك وجود شيء عند شيء، وارتفاعه عند ارتفاعه، أما إيجاده به (10) فليس للحس فيه مدخل، فإنها (11) المتقارنات (12) في الوجود على حالة واحدةٍ والعقل (13) هو الذي يفرِّق، فيحكم (14) بتلازم بعضها بعضًا عقلاً، ويحكم بتلازم بعضها ببعض (15) عادة مع جواز التبدُّل عقلاً. ولقد أحسن من قال من العقلاء النظار الفضلاء (16) : إياك والانخداع بالوجود والارتفاع. واستيفاء الكلام على هذا في علم الكلام. =(5/621)=@
__________
(1) في (ح) و(ق): «على النبي - صلى الله عليه وسلم - ».
(2) في (ح): «كأنهما».
(3) في (ح): «الجمل».
(4) في (ق): «الأجرب».
(5) في (ح): يشبه «المسلسل».
(6) في (ق): «فهذا».
(7) في (ح): «القادر» بلا واو.
(8) في (أ) و(ح): «فقالت».
(9) في (ق): «لمختراعها».
(10) قوله: «به» سقط من (ق).
(11) في (ح): «فأما».
(12) في (ق): «المتقاربات».
(13) في (ح) و(ق): «فالعقل».
(14) في (ح): «فحكم».
(15) في (ح) و(ق): «بعضا» وفي (أ): «لبعض».
(16) قوله: «الفضلاء» سقط من (ح).(5/621)
وفيه دليل على جواز مشافهة من وقعت له شبهة في اعتقاده بذكر البرهان العقلي؛ إذا كان السائل (1) أهلاً لفهمه. فأمَّا أهل القصور؛ فيخاطبون بما تحتمله (2) عقولهم من الأمور الإقناعيات (3) .
و«الطيرة» قد تقدم الكلام فيها (4) في الصلاة، ويأتي إن شاء الله تعالى.
و«الصَّفَر»: تأخير المحرَّم إلى صفر. وهو النسيء (5) الذي (6) كانوا يفعلونه. وإلى هذا ذهب مالك، وأبو عبيدة (7) . وقيل: هو دودٌ في البطن يهيج عند الجوع، كانت (8) العرب تراها أعدى من الجرب، وأنشدوا (9) :
لا يتأرَّى (10) لِمَا في القِدْرِ يَرْقُبُه ولا يَعَضُّ على شُرْسُوفِهِ (11) الصَّفَرُ
وإلى هذا ذهب مطرِّف، وابن وهب، وابن حبيب، وهو اختيار أبي عبيد.
و«الهامَّة»- مشددة (12) الميم - طائر تتشاءم به العرب، فإذا سقطت في دار أحدهم رآها ناعية له نفسه، أو أحدًا (13) من أهله. وإلى هذا التفسير ذهب مالك. وقيل: كانت العرب تعتقد: أن عظام الميت، أو رأسه ينقلب (14) هامَّة يطير، ويسمّى ذلك الطائر (15) : الصَّدى. قال لبيد (16) :
فلَيْسَ النَّاسُ بَعْدَكَ في نَعِيمٍ ولا هُمْ غَيْرَ أَصْدَاءٍ وهامِ =(5/622)=@
__________
(1) في (ق): «السامع».
(2) في (ح): «تحمله».
(3) في (ق): «الإقتناعيات».
(4) في (ح): «عليها».
(5) في (ق): «النسا».
(6) في (ح): «وهذا الشيء».
(7) في (ح): «عبيد».
(8) في (ح): «وكانت».
(9) في (أ): «شرمتهم». والبيت لأعشى باهلة، يرثي أخاه. "الفائق في غريب الحديث" (2/306).
(10) في (ق): «لا تباري».
(11) في (أ): «شرفهم» وفي (ح): «شرشوفه» وفي (ق): «صوفه».
(12) في (ح) و(ق): «مشدد».
(13) في (ق): «أو واحدًا».
(14) نقط الحرف الأول في (ق): باثنتين من فوق واثنتين من تحت.
(15) في (ح): «الطير».
(16) "ديوان لبيد" (ص260).(5/622)
قال الإمام (1) أبو عبد الله: أما البُوم؛ فالأنثى منه الهامَّة، والذكر منه يسمى الصَّدى.
قال الشيخ: وهذا يُشعر: أن أبا عبدالله وقع له في هذا الحديث: «ولا بوم»؛ ففسَّره بما قال، ولم يقع في كتاب مسلم إلا قوله: «ولا نوء (2) »؛ أي: لا تصح نسبة الأمطار والرياح للنوء، وقد تقدَّم تفسيره في الإيمان.
و«الغُول»: كانت العرب تتحدَّث أن الغيلان تتراءى (3) للناس في الفلوات فتتغول لهم تغوَّلاً؛ أي: تتلوَّن تلوَّنًا، فتضلّهم عن الطريق فتهلكهم. قال الجوهري: الغول - بالضم - من السَّعالى، والجمع: أغوال وغيلان. وكل ما اغتال الإنسان فأهلكه: فهو غُولٌ. يقال: غالته غول: إذا وقع في مهلكة. ومقصود هذا الحديث: إبطال ما كانت العرب تقوله، وتعتقده في هذه الأمور، وألاَّ (4) يُلتفت لشيء من ذلك، لا بالقلب ولا باللسان. والله أعلم (5) . =(5/623)=@
__________
(1) قوله: «الإمام» سقط من (أ) و(ب).
(2) في (ح): «ولا نوا».
(3) في (ق): «تتراءى» وكتب في الهامش «تنزايا» ووضع (نخـ).
(4) في (ح): «لا».
(5) قوله: «والله أعلم» ليس في (أ) و(ب).(5/623)
17 - ومن باب لا يُورِدُ ممرضٌ على مصح
الورود هو الوصول إلى الماء. و«أورد إبله»: إذا أوصلها إليه، فصاحب الإبل: مورد، والإبل مُورِدة (1) ، ومُمْرِض: اسم فاعل من أمرض الرجل: إذا أصاب ماشيته مرض، قاله يعقوب. ومصحُّ: اسم فاعل من أصح (2) ؛ إذا أصابت ماشيته عاهة ثم صحت. قاله الجوهري. وقد جمع أبو هريرة رضي الله عنه في هذه الرواية بين قوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا عدوى»، وبين قوله: «لا يورد ممرض على مصح». وهو جمعٌ صحيح لا بُعد فيه؛ إذ كلاهما خبر (3) عن المشروعية، لا خبر عن الوجود، فقوله: «لا عدوى»؛ أي: لا يجوز اعتقادها. وقوله: «لا يورد ممرض على مصحٍّ»؛ أي: لا يفعل ذلك. فهما خبران يتضمنان النهي عن ذلك، وإنَّما نهى عن إيراد الممرض على المصح مخافة الوقوع فيما وقع فيه أهل الجاهلية من اعتقاد ذلك، أو مخافة تشويش النفوس، وتأثير الأوهام، وهذا كنحو أمره - صلى الله عليه وسلم - بالفرار من المجذوم، فإنه (4) وإن كنا نعتقد أن الجذام لا يعدي، فإنا نجد من أنفسنا نفرة، وكراهية (5) لذلك، حتى إذا أكره الإنسان نفسه على القرب منه وعلى (6) مجالسته تألَّمت (7) نفسه، وربما تأذت بذلك، ومرضت، فيحتاج الإنسان في هذا إلى مجاهدة شديدة، ومكابدة. ومع ذلك فالطبع أغلب، =(5/624)=@
__________
(1) في (أ) و(ب) و(ق): «مورودة».
(2) من قوله: «إذا أصاب. . . . » إلى هنا سقط من (ح).
(3) في (ح): «إخبار».
(4) في (ح) و(ق): «فإنا».
(5) في (ح): «وكراهة».
(6) في (ٌ): «وهو» بدل «وعلى».
(7) في (ح): يشبه «تآلمته».(5/624)
وإذا كان الأمر بهذه المثابة (1) ؛ فالأولى بالإنسان ألا يقرب شيئًا يحتاج الإنسان فيه (2) إلى هذه المكابدة، وألا (3) يتعرض فيه إلى هذا الخطر. والمتعرض لهذا الألم زاعمًا أنه يجاهد نفسه حتى يزيل عنها تلك الكراهة، هو بمنزلة من أدخل على نفسه مرضًا إرادة علاجه حتى يزيله. ولا شك في نقص عقل من كان على هذا، وإنما الذي يليق بالعقلاء، ويناسب تصرُّف الفضلاء أن يباعد أسباب الآلام، ويجانب طرق الأوهام، ويجتهد في مجانبة ذلك بكل ممكن مع علمه بأنه لا ينجي حذر عن قدر، وبمجموع الأمرين وردت الشرائع، وتوافقت على ذلك العقول والطبائع. وأما سكوت أبي هريرة عن قوله: «لا عدوى»، وإيراد الحديث من غير: «لا يورد ممرض على مصح» بعد أن حدَّث بمجموعها (4) ، فلا يصح أن يكون من باب النسخ، كما قدَّره (5) أبو سلمة بن عبدالرحمن؛ لأنهما لا تعارض بينهما؛ إذ الجمع صحيحٌ كما قدَّمناه، بل الواجب أن يقال: إنهما خبران شرعيان عن أمرين مختلفين، لا متعارضين؛ كخبر يتضمَّن حكما من أحكام الصلاة، وآخر يتضمن حكمًا من أحكام الطهارة مثلاً. وقد بيَّنَّا وجه تباين الخبرين. وعلى هذا: فسكوت أبي هريرة يحتمل أوجهًا: =(5/625)=@
__________
(1) في (ح): «الصفة».
(2) في (ح): «فيه الإنسان».
(3) في (ح) و(ق): «ولا».
(4) في (ح) و(ق): «بمجموعهما».
(5) في (ق): «قرره».(5/625)
أحدها: السببان المتقدِّمان (1) ، كما قال أبو سلمة.
وثانيهما (2) : أنهما لما كانا خبرين متغايرين (3) لا ملازمة بينهما؛ جاز للمحدِّث (4) أن يحدِّث بأحدهما، ويسكت عن الآخر؛ حسبما تدعو إليه الحاجة الحالية.
وثالثها: أن يكون خاف اعتقاد جاهل يظنهما متناقضين، فسكت عن أحدهما حتى إذا أمن ذلك (5) حدَّث بهما جميعًا.
ورابعها: أن يكون حمله على ذلك وجه غير ما ذكرناه، لم يطَّلع عليه أحدًا.
وعلى الجملة: فكل ذلك محتمل (6) ، غير أن الذي يقطع بنفيه: النسخ، على ما قرَّرناه. والله أعلم.
18 - ومن باب: الفأل الصالح
قوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا طيرة، وخيرها الفأل»؛ حاصل الطيرة: أن يسمع الإنسان قولاً، أو يرى (7) أمرًا يخاف منه ألا يحصل له غرضه الذي قصد تحصيله. والفأل: نقيض ذلك، وهو أن يسمع الإنسان قولاً حسنًا، أو يرى شيئًا يستحسنه، يرجو منه =(5/626)=@
__________
(1) في (ح) و(ق): «النسيان المتقدم».
(2) في (ق): «وثانيها».
(3) في (ح): «متعارضين» وكتب في الهامش «متغايرين» ووضع (خ).
(4) قوله: «للمحدث» سقط من (أ) و(ب).
(5) في (ق): «أمن من ذلك».
(6) في (ق): «يحتمل».
(7) قوله: «قولاً أو يرى» سقط من (ح).(5/626)
أن يحصل له غرضه الذي قصد تحصيله. وهذا معنى ما فسَّر به النبي - صلى الله عليه وسلم - الفأل. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكره الطيرة، ويعجبه الفأل (1) .
وروى الترمذي (2) عن أنس رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) كان إذا خرج لحاجته يعجبه أن يسمع: يا (4) راشد! يا نجيح! وهو حديث حسن (5) صحيح غريب.
وروى أبو داود (6) عن بريدة (7) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث غلامًا سأل عن اسمه، فاذا أعجبه اسمه فرح به، ورُئي (8) بشر ذلك في وجهه، وإن كره اسمه رُئي كراهية ذلك في وجهه. وإذا دخل قرية سأل عن اسمها فإذا أعجبه اسمها فرح بها، ورُئي بشر ذلك في وجهه، وإن كره اسمها (9) رُئي كراهية ذلك في وجهه - صلى الله عليه وسلم - (10) .
وروى قاسم بن أصبغ عن بريدة بن حصيب (11) قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يتطير، ولكن يتفاءل، فركب بريدة في سبعين راكبًا من أهل بيته من بني سهم يتلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلاً، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من أنت ؟» فقال: بريدة. فالتفت إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: «بَرَدَ أمرُنا وصَلحَ»، ثم قال: «من (12) ؟» قال: من أسلم. قال لأبي بكر: «سلمنا». ثم قال: «من (13) ؟» قال: من بني سهم. قال: «خرج سهمنا». وذكر الحديث.
وإنما كان يعجبه الفأل؛ لأنَّه تنشرح له النفس، وتستبشر بقضاء الحاجة، وبلوغ الأمل؛ فيحسُن الظَّن بالله عز وجل، وقد قال الله عز وجل: «أنا عند ظن =(5/627)=@
__________
(1) أخرجه أحمد (2/332)، وابن أبي شيبة (9/40)، وابن ماجه (3536)، وابن حبان (6121) من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، به. وإسناده حسن من أجل محمد بن عمرو، وحسنه الحافظ في "فتح الباري" (1/214).
(2) تقدم. . .
(3) قوله: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - » ليس في (ق).
(4) قوله: «يا» سقط من (ق).
(5) قوله: «حسن» ليس في (أ) و(ح).
(6) تقدم. . .
(7) في (ق): «بريرة».
(8) في (ح): «ورى».
(9) في (ح): «اسمه».
(10) وضع بعدها إشارة لحق وكتب في هامش (أ) «وإذا دخل قرية سأل عن اسمها فرح بها ورئي بشر ذلك في وجهه وإن كره اسمها رئي كراهية ذلك في وجهه»وكتب في أصل (ح) مثل ذلك إلا أنه زاد: «فإذا أعجبه اسمها فرح...».
(11) رواه ابن عبدالبر في "التمهيد" (24/73)، وفي "الاستيعاب" (1/185) من طريق قاسم بن أصبغ.
(12) في (أ) و(ح) و(ق): «ممن» بدل «من».
(13) في (أ) و(ح) و(ق): «ممن» بدل «من».(5/627)
عبدي بي» (1) . وإنما كان (2) يكره الطيرة؛ لأنَّها من أعمال أهل الشرك، ولأنها تجلب ظن السوء بالله تعالى، كما قد (3) روى أبو داود (4) عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ أنه قال: «الطيرة شرك (5) ، الطيرة شرك -ثلاثا -، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل»؛ أي: من اعتقد في الطيرة ما كانت الجاهلية تعتقده (6) فيها، فقد أشرك مع الله تعالى خالقًا آخر، ومن لم يعتقد ذلك فقد تشبَّه بأهل الشرك، ولذلك قال: «وما منا»؛ أي: ليس على سنتنا.
وقوله: «إلا»: هي إلا الاستثنائية، ومعنى ذلك: أن المتطيِّر ليس على سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يمضي لوجهه، ويُعرض عنها، غير أنه قد (7) لا يقدر على الانفكاك عنها بحيث لا تخطر له مرة واحدة، فإنَّ إزالة تأثيرها من النفوس لا تدخل (8) تحت استطاعتنا، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث معاوية بن الحكم - لما قال له: ومنا رجال يتطيَّرون - فقال: «ذلك شيء يجدونه في صدورهم (9) فلا يصدَّهم (10) (11) . وفي بعض النسخ: «فلا يضرَّهم»، لكنه (12) إذا صحَّ تفويضه إلى الله تعالى، وتوكله عليه، وداوم على ذلك أذهب الله تعالى ذلك عنه، ولذلك قال: «ولكن الله يذهبه بالتوكل». وقد روى أبو أحمد بن عدي من حديث أبي هريرة (13) رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا». =(5/628)=@
__________
(1) متفق عليه من حديث أبي هريرة، وسيأتي في كتاب الأذكار والدعوات.
(2) قوله: «كان» سقط من (ح).
(3) في (ح): «وقد» بدل «كما قد».
(4) أخرجه أبو داود (3910)، وأخرجه الطيالسي (356)، وأحمد (1/304 و358 و440)، والبخاري في "الأدب المفرد"(909)، والترمذي (1614)، وابن ماجه (3538)، وأبو يعلى (5219)، والطحاوي في «المشكل» (1/358، 2/304) وفي (شرح المعاني 4/312). والحاكم (1/17-18)، والبيهقي (8/139)، والبغوي (3257). كلهم من طريق عن سلمة بن كهيل، عن عيسى بن عاصم الأسدي، عن رزين بن حبيش، عن ابن مسعود به. وإسناده صحيح، ورجاله ثقات.
(5) زاد بعدها في (ق): «الطيرة شرك».
(6) في (ق): «تعتقد».
(7) قوله: «قد» سقط من (ح).
(8) في (ح): «لا يدخل».
(9) في (أ) و(ح) و(ق): «في نفوسهم».
(10) في (ق): «فلا يضرهم».
(11) تقدم في كتاب الصلاة، باب. . . .
(12) في (ح): «ولكنه».
(13) أخرجه ابن عدي في "الكامل" (4/314) من طريق عبدالرحمن بن سعد بن عمار، عن عبدالله بن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: « إذا حسدتم فلا تبغوا، وإذا ظننتم فلا تحقوا، وإذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا». قال ابن حجر في "فتح الباري": «سنده لين».(5/628)
و«الشؤم»: نقيض اليمن، وهو من باب الطيرة، ولذلك قال (1) - صلى الله عليه وسلم - : «لا طيرة، إنما الشؤم في ثلاثة: المرأة، والفرس، والدار». وقد تخيَّل بعض أهل العلم: أن التطيُّر بهذه الثلاثة مستثنى من قوله: «لا طيرة»، وأنه مخصوص بها، فكأنه (2) قال: لا طيرة إلا في هذه الثلاثة؛ فمن تشاءم بشيء منها نزل به ما كره (3) من ذلك (4) . وممن صار إلى هذا القول: ابن قتيبة، وعضد هذا بما يروى (5) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنه قال: «الطيرة على من تطيَّر» (6) . وقال أبو عبدالله: إن مالكًا أخذ بحديث (7) الشؤم في الدار، والمرأة، والفرس، وحمله على ظاهره. ولم يتأوَّله. فذكر في كتاب الجامع من "العتبية" أنه قال: ربَّ دار سكنها قوم فهلكوا، وآخرون بعدهم فهلكوا، وأشار إلى حمل الحديث على ظاهره. ويعضد هذا حديث يحيى بن سعيد (8) قال: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله! دار سكنَّاها، والعدد كثير، والمال وافر، فقلَّ العدد، وذهب المال (9) ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «دعوها ذميمة».
قال الشيخ رحمه الله: ولا يظن بمن قال هذا القول: أن الذي رخص فيه من الطيرة بهذه الأشياء الثلاثة (10) هو على نحو ما كانت الجاهلية تعتقد (11) فيها، وتفعل عندها، فإنَّها كانت لا تقدم على ما تطيرت به، ولا تفعله بوجه بناءً على أن الطيرة تضر قطعًا، فإنَّ هذا ظن خطأ، وإنما يعني بذلك: أن هذه الثلاثة أكثر ما يتشاءم الناس بها لملازمتهم إياها، فمن وقع في نفسه شيء من ذلك فقد أباح الشرع له أن يتركه، =(5/629)=@
__________
(1) في (ق): «قال النبي - صلى الله عليه وسلم - »
(2) في (ق): «وكأنه».
(3) قوله: «ما كره» سقط من (ح).
(4) في (ح): «من ذلك ما يكره».
(5) في (ق): «روي»
(6) أخرجه ابن حبان (6123)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/314)، والمقدسي في "المختارة" (2269) من طريق عتبة بن حميد، ثني عبدالله بن أبي بكر أنه سمع أنس بن مالك به.
وعتبة بن حميد مختلف فيه، ضعفه أحمد، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال في "التقريب" صدوق له أوهام. وقول المؤلف: إنه من حديث أبي هريرة لعلّه وهم، فلم أقف عليه من حديث أبي هريرة.
(7) في (ح): «بهذا الحديث».
(8) أخرجه مالك في "الموطأ" (1751) عن يحيى بن سعيد به. وهذا مرسل.
وقد أخرجه أبو داود (3924)، والبخاري في "الأدب المفرد" (918)، والبيهقي في "الكبرى" (8/140)، والمقدسي في "المختارة" (1529)، وابن قتيبة في "تأويل المختلف" (1/105) من طريق عكرمة بن عمار، عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك قال: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! إنا كنا في دار كثير فيها عددنا، وكثير فيها أموالنا. . . ، الحديث بنحوه.
وأخرجه عبد الرزاق (19526)، والبيهقي في "الكبرى" (8/140) عن معمر، عن الزهري، عن عبدالله بن الحارث، عن عبدالله بن شداد بن الهادي: أن امرأة من الأنصار قالت، فذكره. وهذا مرسل.
وأخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (216)، والطبراني في "الكبير" (6 رقم 5639) من طريق يعقوب بن حميد، عن أنس بن عياض، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن سهل بن حارثة الأنصاري به نحوه.
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/105): «فيه يعقوب بن حميد وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه جماعة».
وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (1301) من طريق سكين بن عبدالعزيز، عن إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود به نحوه. وإبراهيم بن مسلم الهجري ضعيف.
وأخرجه البزار كما في "مجمع الزوائد" (5/104) من حديث ابن عمر به نحوه. قال الهيثمي: «أخطأ فيه صالح بن أبي الأخضر، والصواب أنه من مرسلات عبد الله بن شداد».
وللحديث شاهد آخر: أخرجه عبد الرزاق (20163)، ومن طريقه أحمد (3/451)، وأبو داود (3923)، والبيهقي (9/347)، وفي "الشعب" (1302) عن معمر، عن يحيى بن عبدالله بن بحير، أخبرني من سمع فروة بن مسيك المرادي قال: قلت: يا رسول الله! أن أرضًا عندنا يقال لها: أبين، وهي أرض ريفنا وميرتنا، وإنها وبيئة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «دعها عنك، فإن من القرف التلف».
وإسناده ضعيف لجهالة الرجل الراوي، عن فروة، وباقي رجاله ثقات.
وأخرجه ابن قانع في "معجم الصحابة" (2/337)، وأبو الشيخ في "الأمثال" رقم (305) من طريق عبدالله بن معاذ الصنعاني، عن معمر، عن يحيى، عن فروة.
(9) في (ق): «فذهب العدد وقل المال».
(10) في (أ) و(ق) و(ح): «الثلاثة الأشياء».
(11) في (ح): «تعتقده».(5/629)
ويستبدل به غيره مما تطيب به نفسه (1) ، ويسكن له (2) خاطره، ولم يُلزمه الشرع أن يقيم في موضع يكرهه، أو مع امرأة يكرهها. بل: قد فسح له في ترك ذلك كله، لكن (3) مع اعتقاد (4) أن الله تعالى هو الفعَّال لما يريد، وليس (5) لشيء من هذه الأشياء أثر في الوجود، وهذا على نحو ما ذكرناه في المجذوم. فإنَّ قيل: فهذا يجري في كل متطير به، فما وجه خصوصية هذه الثلاثة بالذكر ؟ فالجواب: ما نبَّهنا عليه من أن هذه ضروريَّة، في الوجود، ولا بدَّ للإنسان منها، ومن ملازمتها غالبًا. فأكثر ما يقع التشاؤم بها؛ فخصَّها بالذكر لذلك، فإنَّ قيل (6) : فما الفرق بين الدار وبين موضع الوباء، فإنَّ الدار إذا تطير بها، فقد وسع (7) في الارتحال عنها، وموضع الوباء قد منع من الخروج منه؟! فالجواب ما قاله بعض أهل العلم: إن الأمور بالنسبة إلى هذا المعنى ثلاثة أقسام:
أحدها: ما لم يقع التأذي به، ولا اطَّردت (8) عادة به خاصة ولا عامَّة، لا نادرة، ولا متكررة؛ فهذا لا يصغى إليه، وقد أنكر الشرع الالتفات إليه، كلقي غراب في بعض الأسفار، أو صراخ بومة في دار، ففي مثل هذا قال - صلى الله عليه وسلم - : «لا طيرة»، و«لا تطيَّروا». وهذا القسم هو الذي (9) كانت العرب تعتبره، وتعمل عليه، مع أنَّه ليس في لقاء الغراب، ولا دخول البومة دارًا (10) ما يشعر بأذى ولا مكروه (11) ، لا على جهة الندور، ولا التكرار (12) .
وثانيها: ما يقع به الضرر، ولكنه يعمُّ، ولا يخص، ويندر، ولا يتكرر، كالوباء، فهذا (13) لا يُقْدمْ عليه عملاً بالحزم والاحتياط، ولا يُفَرُّ منه لإمكان أن يكون قد وصل الضَّرر إلى الفارِّ، فيكون سفره زيادة في محنته، وتعجيلاً لهلكته كما قدمناه. =(5/630)=@
__________
(1) في (ق): «النفس».
(2) في (ق): «إليه».
(3) في (ح): «ولكن».
(4) في (ح): «اعتقاده».
(5) في (أ): «ليس» بلا واو.
(6) من قوله: «فهذا يجري. . . . » إلى هنا سقط من (ح).
(7) في (ح): «وسع له».
(8) في (ق): «ولا اطربت» وكتب في الهامش «اطردت» ووضع (خ).
(9) في (ح): «هي التي».
(10) في (ق): «دار».
(11) في (ق): «ولا على مكروه».
(12) في (ق): «ولا التكدار».
(13) في (ق): «وهذا».(5/630)
وثالثها: سببٌ يخص (1) ، ولا يعم، ويلحق منه الضرر طول (2) الملازمة، كالدار، والفرس، والمرأة، فيباح له (3) الاستبدال، والتوكل على الله تعالى، والإعراض عما يقع في النفوس منها من أفضل الأعمال، وقد وضح الجواب، والله الموفق للصواب.
وقد سلك العلماء في تأويل ذلك الحديث أوجهًا أخر :
منها: أن بعضهم قال: إنما هذا منه - صلى الله عليه وسلم - خبر عن غالب (4) عادة ما يتشاءم به، لا أنه خبر عن الشرع، وهذا ليس بشيء؛ لأنَّه تعطيل لكلام الشارع عن الفوائد الشرعية التي لبيانها أرسله الله سبحانه وتعالى. ومنهم من تأوَّل الشؤم المذكور في هذه الثلاثة فقال: الشؤم في المسكن ضيقه، وسوء جيرانه، وفي المرأة سوء (5) خلقها، وألا تلد، وفي الفرس جماحه، وألا يُغزى عليه. وهذا المعنى لا يليق بالحديث، ونسبته إلى أنه هو (6) مراد الشارع (7) من فاسد الحديث. وما ذكرناه أولى، والله تعالى أعلم.
وقوله: «إن يكن (8) من الشؤم شيء حقًّا ففي: الفرس، والمرأة، والدار»، وفي اللفظ الآخر: «إن كان في شيء ففي الربع، والخادم، والفرس»؛ مقتضى هذا =(5/631)=@
__________
(1) في (ق): «يخص به».
(2) في (ح) و(ق): «بطول».
(3) قوله: «له» سقط من (ح).
(4) قوله: «عادة» سقط من (ق).
(5) في (ق): «بسوء».
(6) قوله: «هو» سقط من (ح) و(ق).
(7) في (ح) و(ق): «الشرع».
(8) في (ق): «يكون».(5/631)
المساق: أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن محقّقًا لأمر الشؤم بهذه الثلاثة في الوقت الذي نطق بهذا، لكنه تحققه بعد ذلك، لما قال: «إنما (1) الشؤم في ثلاثة (2) »، وقد بيَّنَّا مراده بالشؤم فيما تقدَّم، والحمد لله. والمراد بالربع: الدار، كما قال في الرواية الأخرى، وقد يصح حمله على أعم من ذلك، فيدخل فيه: الدكان، والفندق وغيرهما (3) مما يصلح الرَّبعُ له. والمرأة (4) تتناول الزوجة، والمملوكة. والخادم يتناول الذكر والأنثى؛ لأنَّه اسم جنس (5) .
19 - ومن باب النهي عن الكهانة وإتيان الكهان
الكهان: جمع كاهن، ككتَّاب: جمع كاتب، والكهانة: ادِّعاء علم الغيب، وقد تكلَّمنا على حديث معاوية بن الحكم في باب: نسخ الكلام في الصلاة. قال القاضي أبو الفضل: الكهانة كانت في العرب على أربعة أضرب :
أحدها: أن يكون للإنسان رَئِيٌّ من الجن يخبره بما يسترق من السمع. وهذا =(5/632)=@
__________
(1) في (ح) و(ق): «إن».
(2) في (ق): «ثلاث».
(3) في (ح): «وغيرها».
(4) في (ح): «والزوجة».
(5) زاد بعدها في (ق): «والله أعلم».(5/632)
القسم قد بطل منذ بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - كما نصَّ الله تعالى عليه في الكتاب.
والثاني: أن يخبره بما يطرأ ويكون في أقطار الأرض، وما يخفى (1) مما قرب، أو بعد، وهذا لا يبُعد وجوده. ونفت هذا كله المعتزلة وبعض المتكلمين، وأحالوه. ولا استحالة، ولا بُعد في وجود مثله، لكنهم (2) بعد فيكذبون (3) ، والنهي عام في تصديقهم، والسماع منهم.
الثالث: التخمين والحزر، وهذا يخلق الله فيه لبعض الناس شدة قوة، لكن الكذب في هذا الباب (4) أغلب. قال: ومن هذا الباب: العرافة، وصاحبها عرَّاف، وهو الذي يستدلُّ على الأمور بأسباب ومقدمات يدِّعي معرفتها. وقد يعتضد بعض أهل هذا (5) الفن في ذلك بالزجر، والطرق، والنجوم، وأسباب معتادة في ذلك. وهذا الفن هي العيافة (6) - بالياء - وكلها ينطلق عليها اسم: الكهانة.
قال الشيخ رحمه الله: وإذا كان كذلك فسؤالهم عن غيب ليخبروا عنه حرام، وما يأخذون (7) على ذلك حرام، ولا خلاف فيه؛ لأنَّه حلوان (8) الكاهن المنهي (9) عنه.
قال أبو عمر (10) : ويجب على من ولي الحسبة أن يقيمهم من الأسواق، وينكر عليهم أشدَّ النكير، ولا يدع أحدًا يأتيهم (11) لذلك، وإن ظهر صدق بعضهم في بعض الأمور، فليس ذلك بالذي يخرجهم عن الكهانة، فإنَّ تلك الكلمة إما خطفة جني، أو موافقة قدر ليغترَّ به بعض الجهال، ولقد انخدع كثير من المنتسبين للفقه (12) والدين، فجاؤوا إلى هؤلاء الكهنة والعرافين فبهرجوا عليهم بالمحال، واستخرجوا منهم الأموال، فحصلوا من أقوالهم على السَّراب (13) ، والآل، ومن أديانهم على الفساد، والضلال. =(5/633)=@
__________
(1) في (أ) و(ح): «وما خفي».
(2) في (ق): «في مثل هذا لكنهم».
(3) في (ح) و(ق): «يكذبون».
(4) في (ق): «الثالث».
(5) قوله: «هذا» ليس في (أ) و(ح).
(6) في (ق): «القيافة».
(7) في (ح): «يأخذونه».
(8) في (ح): «كحلوان».
(9) متفق عليه من حديث أبي مسعود، وتقدم في باب. . . .
(10) قوله: «قال أبو عمر» سقط من (أ).
(11) في (ح) و(ق): «أحدًا منهم».
(12) في(ح) و(ق): «إلى الفقه».
(13) في (ق): «من أموالهم على السراب» وكتب في الهامش «من أقوالهم على السراب» ووضع (خ).(5/633)
وقوله: «تلك الكلمة يخطفها (1) الجني، فيقذفها في أذن وليه»؛ أي: يرميها في أذنه، ويُسمعه إياها. وفي الرواية الأخرى: «فيقرها في أذن وليه قر (2) الدجاجة»؛ أي: يضعها في أذنه. يقال: قررت الخبر في أذنه أقره قرًّا. ويصحُّ أن يقال: ألقاها (3) في أذنه بصوت. يقال: قرَّ (4) الطائر: صوَّت.
و«قرُّ الدجاجة»- بكسر القاف - حكاية: صوتها. قال الخطابي: قرَّت الدجاجة، تقرُّ قرًّا، وقريرًا. وإذا رجَّعت فيه؛ قيل: قرقرت قرقرةً (5) ، وقرقريرًا. قال الشاعر (6) :
وإن قرقرت هاجَ الهوَى قرقرِيرُها
قال: والمعنى أن الجني يقذف الكلمة إلى وليه الكاهن فيتسامع (7) بها الشياطين، كما تؤذن الدجاجة بصوت (8) صواحباتها فتتجاوب (9) .
قال الشيخ: والأشبه بمساق الحديث أن يكون معناه: أن الجنِّي يلقي إلى وليه تلك الكلمات بصوت خفي متراجع يُزَمْزِمُهُ (10) ، ويُرَجِّعه (11) له كما يلقيه (12) الكهان (13) للناس، فإنَّهم تسمع (14) لهم زمزمة، وإسجاع، وترجيع، على ما علم من حالهم بالمشاهدة والنقل (15) . ولم يختلف أحدٌ من رواة مسلم أن الرواية في هذا اللفظ: «قرَّ (16) الدجاجة»: يعني به الطائر المعروف. واختلف فيه عن البخاري. فقال بعض رواته: «كقرِّ الزجاجة (17) » بالزاي (18) . قال الدارقطني: هو مما صحَّفوا فيه. والصواب: الدجاجة =(5/634)=@
__________
(1) في (أ): «الكلمة من الحق يخطفها».
(2) في (ح): «قرا».
(3) في (ح): يشبه «ألقاها».
(4) في (ح): «قرا».
(5) في (ق): «قررقرة» كذا رسمت.
(6) هذا عجز البيت الذي أنشده: ابن القطاع، وصدره كما في "الصحاح":
وما ذاتُ طَوْقٍ فوق عود أراكةٍ
(7) في (ح): «فيسامع».
(8) في (ق): «بصوتها».
(9) في (ح): «فيتجاوب».
(10) في (ح): «بزمزمه».
(11) في (ق): «بزمزمة ويرجعها» وكتب في الهامش «يزمزمه ويرجحه» ووضع (نسخة).
(12) في (ق): «يلقيها».
(13) في (ق): «الكاهن» وكتب في الهامش «الكهان» ووضع (خ).
(14) في (ق): «يسمع لهم».
(15) في (ق): «وبالنقل».
(16) في (ق): «قرا».
(17) في (ح): «الدجاجة».
(18) هي رواية المستملي، كما بينه الحافظ في "الفتح" (10/220).(5/634)
- بالدال -. وقيل: الصواب الزجاجة؛ بدليل ما قد رواه (1) البخاري: فيقرها في أذنه، كما تقرّ القارورة (2) ، وهي بمعنى الزجاجة. أي: كما يسمع صوت الزجاجة إذا حكَّت على شيء، أو إذا (3) أُلقي فيها ماء، أو شيء.
وقوله: «من أتى عرافًا لم تقبل له صلاة أربعين يومًا»؛ العراف: هو الحازي والمنجِّم الذي يدَّعي (4) الغيب، وهذا يدلّ على: أن إتيان العرافين كبيرة، وظاهره أن صلواته (5) في هذه الأربعين تحبط، وتبطل، وهو جار (6) على أصول الخوارج الفاسدة في تكفيرهم بالذنوب. وقد بيَّنا فساد هذا الأصل فيما تقدم. وأنه لا يحبط الأعمال إلا الردة. وأما غيرها فالحسنات تبطل السيئات كما قال الله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} (7) . وهذا مذهب أهل السنَّة والجماعة، فليس معنى قوله (8) : «لا تقبل له صلاة» أن تحبط، بل: إنما معناه - والله أعلم - أنَّها =(5/635)=@
__________
(1) في (ح) و(ق): «روى».
(2) "صحيح البخاري" (3288).
(3) قوله: «إذا» سقط من (ح) و(ق).
(4) في (ح): «يدعي علم».
(5) في (ق): «صلاته».
(6) في (ح) و(ق): «خارج».
(7) الآية (114) من سورة هود.
(8) قوله: «قوله» سقط من (ح).(5/635)
لا تقبل قبول الرضا، وتضعيف الأجر. لكنه إذا فعلها على شروطها الخاصة بها (1) ، فقد برئت ذمّته من المطالبة بالصلاة، وتُقضَى (2) عن عهدة الخطاب بها، ويفوته قبول المرضي (3) عنه، وإكرامه، وثوابه، ويتضح ذلك باعتبار ملوك الأرض. ولله المثل الأعلى، وذلك أن الْمُهدِي إليهم (4) : إما مردودٌ (5) ، أو (6) مقبول منه (7) ، والمقبول: إما مقرَّب (8) مُكرَّم مثاب، وإما ليس كذلك. فالأول: هو المبعدُ (9) المطرود، والثاني: هو المقبول القبول التام الكامل. والثالث: لا يصدق (10) عليه أنه مثل الأول، فإنه لم تردَّ هديته. بل: قد التفت إليه، وقُبلت (11) منه. لكنه لما لم يُثَبْ، ولم يُقرَّب صار كأنه غير مقبول منه، فيصدق عليه أنَّه لم يُقبل منه إذ لم يحصل له ثواب ولا إكرام.
وتخصيصه - صلى الله عليه وسلم - الأربعين بالذكر قد (12) جاء في مواضع كثيرة من الشرع. منها: قوله في شارب الخمر: «لا تقبل له صلاة أربعين يومًا» (13) ، وقوله (14) : «والذي نفسي بيده! إنه ليجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون (15) مضغة مثل ذلك» (16) ، وقوله عليه السلام: «من أخلص لله أربعين (17) ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه» (18) ، ومنه قوله تعالى :{وَإِذ وَعَدْنَا (19) مُوسى أربَعِينَ لَيْلَةَ} (20) ، ومنه (21) : توقيته - صلى الله عليه وسلم - في قص الشارب، وتقليم الأظفار، وحلق العانة: ألا تترك أكثر من أربعين ليلة. فتخصيص هذه المواضع بهذا العدد (22) الخاص: هو سرٌّ من أسرار الشريعة لم يطلع عليه نصًّا، غير أنه قد تنسم منه بعضُ علمائنا أمرًا تسكن النفسُ إليه، وذلك: أنه قال: إن هذا العدد في هذه المواضع إنما خصَّ بالذكر لأنَّه مدَّة يكمل (23) فيها ما ضربت له، فينتقل إلى غيره، ويحصل فيها تبدُّله، وبيانه بانتقال أطوار الخلقة، في كل أربعين منها يكمل فيها طور، فينتقل عند انتهائه إلى غيره، =(5/636)=@
__________
(1) قوله: «بها» سقط من (ح).
(2) في (أ) يشبه أن تكون: «وتفضي» وفي (ق): «ويفضي».
(3) في (ق): «الرضى».
(4) قوله: «إليهم» سقط من (ح).
(5) في (ح) و(ق): «مردود عليه».
(6) في (ح): «وإما» بدل «أو».
(7) قوله: «منه» ليس في (أ).
(8) قوله: «مقرب» سقط من (ق).
(9) في (ق): «البعيد».
(10) في (ق): «أنه لا يصدق».
(11) في (ق): «وقبل».
(12) في (ح): «فقد».
(13) أخرجه أحمد (2/176)، والنسائي (8/317)، وابن ماجه (3377)، وابن حبان (5357) من طريق الأوزاعي، عن ربيعة بن يزيد، عن عبدالله بن الديلمي، عن عبدالله بن عمرو به. ورواية أحمد مطولة. وإسناده صحيح.
(14) في (ح): «ومنها قوله».
(15) قوله: «يكون» سقط من (ح).
(16) متفق عليه من حديث ابن مسعود، وسيأتي.
(17) في (ق): «أربعين يومًا».
(18) أخرجه ابن أبي شيبة (7/80)، وابن المبارك في "الزهد" (10114)، وهناد في "الزهد" (678)، وأبو نعيم في "الحلية" (10/70) من طريق حجاج، عن مكحول مرسلاً. وهو ضعيف لإرساله، وضعف حجاج بن أرطاه. وأخرجه القضاعي في "الشهاب" (466) من حديث ابن عباس. وفي سنده سوار بن مصعب، وهو متروك. اهـ.
(19) في (ق): «وواعدنا».
(20) الآية (51) من سورة البقرة.
(21) في (ق): «ومنه» وكتب في الهامش «ومثله» وضع (خ).
(22) في (ق): (0القدر» وكتب في الهامش (العدد» ووضع (خ).
(23) في (ق): «تكمل».(5/636)
كما قد نصَّ عليه في الحديث، وكذلك (1) في الأربعين الميعادية: أمر بنو إسرائيل أن يكملوا (2) تهيَّؤهم (3) لسماع كلام الله تعالى، فكمل لهم ذلك عند انتهائها، ومثل (4) ذلك في الأربعين الإخلاصية، وأما أربعون (5) شارب الخمر فلِيَتَبدَّل لحم شارب الخمر بغيره، ويؤيده أن أهل التجارب قالوا: إن السمن يظهر في الحيوان في أربعين يومًا، وقريبٌ من هذا الأربعون (6) المضروبة لخصال الفطرة (7) ؛ لأنَّها عند انتهائها يكمل فحشها، واستقذارها، فينبغي أن تغير عن حالها. وأما أربعون (8) إتيان العراف فلأنها - والله أعلم - المدة التي ينتهي (9) إليها تأثير تلك المعصية في قلب فاعلها، وفي جوارحه، وعند انتهائها ينتهي ذلك التأثير. والله تعالى أعلم، وهو العليم (10) الخبير.
20 - ومن باب رمي الشياطين بالنجوم
قوله: «لكن ربُّنا إذا قضى أمرًا سبَّح حملة العرش»؛ أي: أظهر قضاءه، وما حكم به لملائكته؛ لأنَّ قضاءه إنما هو راجع إلى سابق علمه، ونفوذ مشيئته، وحُكمه، وهما أزليان، فاذا أطّلع حملة عرشه (11) على ما سبق في علمه خضعت الملائكة لعظمته، وضجَّت بتسبيحه، وتقديسه، فيسمع (12) ذلك أهل السماء التي =(5/637)=@
__________
(1) في (ح): «وكذلك قال في».
(2) في (ح): يشبه «أن يصلحوا نفسهم».
(3) في (ق): «تهيئتهم».
(4) في (ق): «وقيل» بدل «ومثل».
(5) في (ق): «أربعوا».
(6) في (ق): «الأربعين».
(7) يعني حديث أنس: وقت لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة أن لا تترك أكثر من أربعين ليلة. وتقدم في باب. . . .
(8) في (أ) و(ق): «أربعو».
(9) قوله: «ينتهي» سقط من (ح).
(10) في (أ) و(ق): «والله العليم».
(11) في (ح) و(ق): «العرش».
(12) في (ق): «فسمع».(5/637)
تليهم، وهكذا (1) ينتهي التسبيح لملائكة سماء الدنيا، ثم يتساءلون فيما بينهم: ماذا قال ربكم، على الترتيب المذكور في الحديث. ففيه ما يدل: على أن حملة العرش أفضل الملائكة، وأعلاهم منزلة، وأن فضائل الملائكة على حسب مراتبهم في السموات، وأن الكل منهم لا يعلمون شيئًا من الأمور إلا بأن يعلمهم الله تعالى به، كما قال تعالى :{عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا - إلا من ارتضى من رسول} (2) .
وفيه: ما يدل: على أن علوم الملائكة بالكائنات يستفيده بعضهم من بعض إلا حملة العرش؛ فإنهم يستفيدون علومهم من الحق سبحانه وتعالى، فإنَّهم هم المبدوؤون بالإعلام أولاً، ثم إن ملائكة (3) كل سماء تستفيد من التي فوقها، وفي هذا (4) دليل: على أن النجوم لا يعرف بها علم الغيب، ولا القضاء، ولو كان كذلك (5) لكانت الملائكة أعلم بذلك وأحق به. وكل ما يتعاطاه المنجمون من ذلك فليس شيء منه علمًا يقينًا؛ إنَّما (6) هو رجم بظن، وتخمين بوهم (7) ، الإصابة فيه نادرة، والخطأ والكذب فيهم (8) غالب. وهذا مشاهد من أحوال المنجمين. والمطلوب من العلوم النجوميات ما يهتدى به في الظلمات، وتعرف به الأوقات، وما سوى ذلك فمخارق وتُرَّهات، ويكفي من (9) الرد عليهم: ظهور (10) كذبهم، واضطراب قولهم. وقد اتفقت الشرائع: على أن القضاء بالنجوم محرَّم مذموم.
وقوله: «ولكنهم يفرقون (11) فيه ويزيدون»؛ هكذا عند ابن ماهان، وهو من القرف (12) : وهو الخلط، قاله (13) صاحب الأفعال: أي: يخلطون فيها من الكذب. =(5/638)=@
__________
(1) في (ق): «فهكذا».
(2) الآية (26-27) من سورة الجن.
(3) في (ح): «ملائكته».
(4) في (ح): «وفيه».
(5) في (ح): «ذلك».
(6) في (ح) و(ق): «وإنما».
(7) في (ق): «فوهم».
(8) في (ح): «فيه» وفي (ق): «منهم غالبًا»..
(9) في (ق): «في» بدل «من».
(10) قوله: «ظهور» سقط من (ق).
(11) في (ق): «تفرقون».
(12) في (أ): «القرب».
(13) في (ح): «قال».(5/638)
ورواه يونس: «يُرَقَّون» بضم الياء (1) ، وفتح الراء، وتشديد القاف. وفي بعض النسخ: «يَرْقُون»- بفتح (2) الياء، وتسكين الراء، وتخفيف القاف (3) -؛ أي: يتقوَّلون. يقال: رقي فلان على الباطل؛ أي: تقوَّله - بكسر القاف (4) -. وهو من الْمُرقَّى (5) : وهو الصعود. أي: إنهم يقولون فوق ما سمعوا. قاله القاضي عياض.
وقوله:{حتى إذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم} (6) ، قرأه (7) ابن عامر، ويعقوب:{فزَّع عن قلوبهم} مبنيًا للفاعل، ويكون فيه ضمير يعود على الله تعالى؛ أى: أزال عن قلوبهم الفزع، وهذا على نحو قولهم: مرَّضتُ المريض؛ إذا عالجته، فأزلتُ مرضه. وقرأه الجماعة: {فُزِّع} بضم الفاء؛ مبنيًا للمفعول الذي لم يسم فاعله؛ أي: أزيل عن قلوبهم الفزع، وهو الذعر. على كلتا (8) القراءتين. قال كعب (9) : إذا تكلَّم الله بلا كيف ضربت الملائكة بأجنحتها، وخرَّت فزعًا، ثم قالوا فيما بينهم :{ماذا قال ربكم}.
وقوله :{قالوا الحق} بالنصب على أنه نعت لمصدر محذوف؛ أي: قال: القول الحق، وهو مفعول مطلق لا مفعول به؛ لأنَّ القول لا يتعدَّى إلا إلى الجمل في أكثر قول (10) النحويين.
وقوله :{وهو العلي الكبير}؛ أي: العلي شأنه، الكبير سلطانه.
قال الشيخ رحمه الله: وهذا التفسير هو الموافق لهذا الحديث، فتعيَّن (11) أن يكون هو المراد من الآية. وللمفسرين أقوال أخر بعيدة عن معنى الحديث، أضربت عنها لذلك، فمن أرادها وجدها في كتبهم. =(5/639)=@
__________
(1) "صحيح مسلم" (2229).
(2) في (ح): «بضم».
(3) في (ح): «النون».
(4) قوله: «بكسر القاف» سقط من (ق).
(5) في (ح) و(ق): «الرقي».
(6) الآية (23) من سورة سبأ.
(7) في (ق): «قرأ».
(8) في (ح): «كلتى» وفي (ق): «تلك».
(9) في (ح) و(ق): «ثعلب».
(10) في (ح): «قول أكثر».
(11) في (ق): «فيتعين».(5/639)
32 - كتاب الرؤيا
1 - باب: الرؤيا الصادقة من الله والحلم من الشيطان
وما يفعل عند رؤية ما يكره (1)
قوله: «الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان»؛ الرؤيا: مصدر رأى في المنام رؤيا (2) ، على وزن فعلى، وألفه للتأنيث؛ ولذلك لم ينصرف. والرؤية: مصدر رأى بعينه في اليقظة رؤية (3) . هذا المعروف من لسان العرب، وقال بعض العلماء: إن =(6/5)=@
__________
(1) من قوله: «باب: الرؤيا ... إلى هنا» سقط من (أ) و(ح) و(ق).
(2) في (ح): «رؤى».
(3) في (ق): «رؤيا» وكتب في الهامش «رؤية» ووضع (خ).(6/5)
الرؤيا قد تجيء بمعنى الرؤية؛ وحمل (1) عليه قوله تعالى:{وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس} (2) ، وقال: إنما يعني بها (3) رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإسراء (4) لما أراه الله من عجائب السموات (5) والملكوت، وكان الإسراء من أوله إلى آخره في اليقظة. وقد ذكرنا هذا في باب الاسراء من كتاب: الإيمان.
والْحُلْم - بضم الحاء، وسكون اللام - مصدر حَلَم (6) - بفتح الحاء واللام -؛ إذا (7) رأى في منامه رؤيا، ويُجمع (8) على أحلام في القلَّة، وفي الكثرة حلوم؛ وإنَّما جمع وإن كان مصدرًا لاختلاف أنواعه، وهو في الأصل عبارة عما يراه الرائي في منامه حسنًا كان أو مكروها. وأراد به النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا (9) ما يكره، وما (10) لا ينتظم، على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
فأمَّا الحِلم - بكسر الحاء -، فهو مصدر حَلُمَ - بضم اللام- يَحْلُمُ: إذا صفح وتجاوز حتى صار له ذلك (11) كالغريزة (12) . وتحلَّم (13) : تكلف الحلم. والحَلَم (14) - بفتح الحاء - هو فساد الإهاب من الدباغ (15) ، وتثقيبه فيه. يقال منه (16) : حَلِم الأديم (17) - بكسر اللام - يحلم - بفتحها -: إذا صار كذلك.
وقد اختلف الناس (18) في حقيقة (19) الرؤيا قديمًا وحديثًا، فقال غير المتشرعين (20) أقوالاً مختلفة (21) ، وصاروا فيها إلى مذاهب مضطربة قد عَرِيت عن البرهان فأشبهت الهذيان. وسبب ذلك التخليط العظيم: الإعراض عما جاءت به الأنبياء من الطريق (22) المستقيم.
ولبيان (23) ذلك: أن حقيقة الرؤيا إنما هي من إدراكات النفس، وقد غُيِّب (24) عنا علم حقيقتها. وإذا لم يعلم (25) ذلك لعدم الطريق الموصل إليه؛ كان أحرى، وأولى ألا نعلم (26) ما غيب عنا (27) من إدراكاتها، بل نقول: إنا لا نعلم حقيقة كثير مما قد انكشف (28) لنا جملته من إدراكاتها، كحس (29) السمع، والعين، والأذن، وغير ذلك، فإنا إنما نعلم منها أمورًا جملية، لا تفصيلية، وأوصافًا لازمة (30) ، أو عرضية، لا حقيقية، وسبيل العاقل: ألا يطمع في =(6/6)=@
__________
(1) في (ق): «ونحمل».
(2) الآية (60) من سورة الإسراء.
(3) في (ح): «به».
(4) قوله: «في الإسراء» سقط من (ق).
(5) في (أ): «السماء».
(6) في (أ) و(ب) و(ق): «حلمت»، وعليها إشارة في (ب)، ولم يظهر تصحيح في الهامش.
(7) في (ح): «أي في» بدل «إذا».
(8) وفي (ق): «وتجمع».
(9) قوله: «هنا» سقط من (أ).
(10) في (أ): «أو ما».
(11) في (أ): «ذلك له».
(12) في (أ): «كالعزيزة».
(13) في (ق): «ويحلم».
(14) في (ح): يشبه «فالحلم».
(15) في (ق): «في الدياغ».
(16) قوله: «منه» سقط من (ح).
(17) في (ح): «الأدم».
(18) قوله: «الناس» سقط من (ح).
(19) في (ح) و(ق): «كيفية».
(20) في (ح): يشبه «المشرعين». ومعناه: المنتسبين إلى الشريعة، وهم العلماء.
(21) في (ق): «أقوال كثيرة مختلفة».
(22) في (ح): «الصراط».
(23) في (ح) و(ق): «وبيان».
(24) في (ق): «ويحلم».
(25) في (أ): «نعلم».
(26) في (ب): «تعلم» وفي (ح) و(ق): «يعلم».
(27) في (ح): «عنها».
(28) في (ب) و(ق): «انكشفت».
(29) في (ق): «من إدراكات الحس».
(30) في (ق): «وأوصاف».(6/6)
معرفة ما لم يُنْصَب له عليه (1) دليلٌ عقليٌّ، ولا حسي، ولا مركب منهما؛ إلا أن يخبر بذلك صادق، وهو الذي دلَّ الدليل القطعي على صدقه (2) ، وهم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم؛ فإنَّهم دلت على صدقهم دلائل المعجزات (3) . وإذا كان كذلك (4) : فسبيلنا أن نعرض عن أحوال (5) المعرضين، ونتشاغل بالبحث عن ذلك في (6) كلام الشارع والمتشرعين.
قال الإمام أبو عبد الله (7) : المذهب الصحيح ما عليه أهل السُّنَّة؛ وهو: أن الله تعالى (8) يخلق في قلب النائم اعتقادات، كما يخلقها في قلب اليقظان. وهو تبارك اسمه يفعل ما يشاء، وما يمنعه من فعله نوم، ولا يقظة، وكأنه سبحانه جعل هذه الاعتقادات علمًا على أمور أخر يخلقها في ثاني حال، أو كان قد خلقها. وقال غيره: إن لله تعالى ملكًا مُوكلاً يعرض المرئيَّات على المحل المدرك من النائم، فيمثل له صورًا محسوسة؛ فتارة تكون تلك الصور أمثلة موافقة لما يقع في الوجود، وتارة تكون أمثلة لمعاني معقولة غير محسوسة. وفي الحالتين (9) تكون مبشرة ومنذرة.
قال الشيخ رحمه الله: وهذا مثل الأول في المعنى (10) ؛ غير أنه زاد فيه قضية الْمَلَك، ويحتاج في ذلك إلى توقيف من الشرع؛ إذ (11) يجوز أن يخلق الله تعالى تلك التمثيلات من غير مَلَك. وقيل: إن الرؤيا إدراك أمثلة منضبطة في التخيل جعلها الله إعلامًا على ما كان، أو يكون؛ وهو أشبهها (12) . فإنَّ قيل: كيف يقال (13) : إن الرؤيا إدراك مع أن (14) =(6/7)=@
__________
(1) قوله: «عليه» سقط من (ح).
(2) في (ب) و(ح) و(ق): «صدقهم».
(3) اقتصار المصنف رحمه الله هنا على ذكر المعجزات دليلاً على صدق الأنبياء طريقة أهل الكلام. أما أهل السنة فيقررون أدلة أخرى مع المعجزة، وقد لخص شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "شرح الصدفية" (ص120-138) الأقوال في ذلك، فانظره هناك.
(4) في (أ): «ذلك».
(5) في (ق): «أقوال» وكتب في الهامش «أحوال» ووضع (خ).
(6) في (ق): «من» وكتب في الهامش «في» ووضع (خ).
(7) انظر "المعلم بفوائد مسلم" (3/115).
(8) في (أ): «سبحانه» وفي (ق): «سبحانه وتعالى».
(9) في (ح): «الحالين».
(10) قوله: «في المعنى» سقط من (ح).
(11) في (ب) و(ح) و(ق): «و» بدل «إذ».
(12) قوله: «وهو وأشبهها» سقط من (ح) و(أ). وانظر تفسير الرؤيا في كتاب "الروح" لابن القيم (ص30) وما بعدها.
(13) في (ق): «يقال» وكتب في الهامش «يكون» ووضع (خ).
(14) قوله: «أن» سقط من (ق)(6/7)
النوم ضد الإدراك؛ فإنه من الأضداد العامة، كالموت، فلا يجتمع معه إدراك؛ فالجواب: أن الجزء المدرك من النائم (1) لم يحلَّه النوم، فلم يجتمع معه (2) ، فقد تكون العين نائمة، والقلب يقظان؛ كما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إن عيني تنامان، ولا ينام قلبي». وإنما قال: منضبطة التخيل (3) ؛ لأنَّ الرائي لا يرى في منامه إلا من نوع ما أدركه في اليقظة بحسِّه، غير أنه قد تركّب المتخيَّلات في النوم تركيبًا يحصل من مجموعها صورة لم يوجد لها مثال في الخارج، تكون (4) عَلَمًا على أمر نادر؛ كمن (5) يرى في نومه موجودًا رأسه رأس الإنسان (6) وجسده جسد (7) الفرس مثلاً، وله جناحان، إلى (8) غير ذلك مما يمكن من التركيبات التي لا يوجد مثلها في الوجود، وإن كانت آحادُ (9) أجزائها في الوجود الخارجي. وإنَّما قال: جعلها الله إعلامًا على ما كان، أو يكون؛ لأنَّه يعني به (10) : الرؤيا الصحيحة (11) المنتظمة الواقعة على شروطها على ما يأتي (12) إن شاء الله تعالى.
ثم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ذكر أنواع الرؤيا هنا. وفيما (13) رواه الترمذي (14) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «الرؤيا ثلاث: فرؤيا حق، ورؤيا يحدِّث المرء بها نفسه، ورؤيا تحزين من الشيطان». وذكر الحديث. فرؤيا (15) الحق: هي المنتظمة التي لا تخليط فيها، وقد سَمَّاها في رواية أخرى: «الصادقة» (16) . وفي أخرى: «الصالحة»(2)، وهي التي يحصل بها التنبيه على أمر في =(6/8)=@
__________
(1) في (ح): «النام».
(2) قوله: «معه» سقط من (أ).
(3) في (ح) و(ق): «في التخيل».
(4) في (ق): «يكون».
(5) في (أ): «فمن».
(6) في (ح): «إنسان».
(7) في (ق): «كجسد».
(8) في (ق): «وغير» بدل «إلى غير».
(9) في (ق): «إجاد».
(10) في (ق): «بها».
(11) في (ح): يشبه «الصالحة».
(12) في (ق): «ما يأتي بيانه».
(13) في (أ): «ومما».
(14) في "جامعه"(4/465-466 رقم2280)، وسيأتي في الباب القادم باختلاف يسير.
(15) في (ح): «فرؤى».
(16) أخرجه البخاري (12/368-369 رقم6984) في كتاب التعبير، ولفظه: «الرؤيا الصادقة من الله، والحلم من الشيطان». كما اخرجه بلفظ الصالحة كذلك في كتاب بدء الوحي (3/1198 رقم3118).(6/8)
اليقظة صحيح، وهي - التي إذا صدرت من الإنسان الصالح - جزء من أجزاء النبوة؛ أي: خصلة من خصال الأنبياء التي بها يعلمون الوحي من الله تعالى. وأما الثانية: فهي التي تكون عن أحاديث نفس متوالية، وشهواتٍ غالبة، وهموم لازمة، ينام عليها، فيرى ذلك في نومه، فلا التفات إلى هذا، وكذلك الثالثة. فإنها تحزين، وتهويل، وتخويف، يدخل كل ذلك الشيطان على الإنسان في نومه ليشوش يقظته. وقد يجتمع (1) هذان السببان؛ أعني: هموم النفس، وألقيات الشيطان في منام واحد، فتكون أضغاث أحلام لاختلاطها (2) .
والضغث: هي القبضة من الحشيش المختلط.
وقوله: «الرؤيا من الله»؛ أي: بشرى من الله، أو تحذير وإنذار.
وقوله: «والحلم من الشيطان»؛ يعني به: ما يلقيه مما يهوِّل (3) ، أو يخوف، أو يحزن به. وهذا النوع هو المأمور بالاستعاذة منه؛ لأنَّه من تخييلات (4) الشيطان وتشويشاته، فإذا استعاذ الرائي منه صادقًا في التجائه إلى الله تعالى، ونفث عن يساره ثلاثًا، وتحوَّل عن جنبه كما أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث (5) ، وصلى (6) (7) ؛ أذهب الله عنه ما أصابه، وما يخافه من مكروه ذلك، ولم يصبه منه شيء ببركة (8) صدق الالتجاء إلى الله تعالى، وامتثال أوامر رسوله - صلى الله عليه وسلم - . وعلى هذا فيكون قوله: «فإذا رأى أحدكم ما يكره»؛ إنَّما يعني به: ما يكون سببه الشيطان. وقيل: بل (9) الخبر =(6/9)=@
__________
(1) في (ح): «يجمع».
(2) في (ق): «اختلاطها».
(3) في (أ): «يهول به».
(4) في (ق): «تتخيلات».
(5) قوله: «في هذا الحديث» مكرر في (ح) وكأنه خرب عليها.
(6) قوله: «صلى» سقط من (ق).
(7) سيأتي في الباب التالي.
(8) في (ق): «بتركه».
(9) قوله: «بل» سقط من (ق).(6/9)
بحكم عمومه يتناول ما يسببه الشيطان، وما لا يسببه مما يكرهه الرائي. ويكون فعل هذه الأمور كلها مانعًا من وقوع ذلك المكروه. كما يقال: إن الدعاء يدفع البلاء (1) ، والصَّدقة تدفع ميتة السوء (2) . وكل ذلك بقضاء الله تعالى وقدره (3) ، ولكن الوسائط والأسباب عاديات (4) لا موجودات (5) (6) . وفائدة أمره بالتحول عن جنبه الذي كان عليه ليتكامل استيقاظه، وينقطع عن ذلك المنام المكروه. وفائدة الأمر بالصلاة (7) ، أن تكمل (8) الرغبة، وتصح الطُلبة (9) ، فإنَّ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد (10) .
وقول أبي سلمة: «فما أباليها»؛ أي: ما ألتفت إليها، ولا ألقي لها بالاً؛ أي: لا أخطرها على فكري ثقة بالله تعالى، وبما أمر به (11) رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
2 - ومن باب: أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا (12)
قوله (13) : «إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب»، قيل في اقتراب الزمان قولان:
أحدهما: تقارب الليل والنهار في الاعتدال (14) ، وهو الزمان الذي تتفتق (15) فيه (16) الأزهار، وتينع فيه الثمار، وموجب صدق الرؤيا في ذلك الزمان اعتدال الأمزجة =(6/10)=@
__________
(1) . . .
(2) . . .
(3) في (ق): «وقدرته».
(4) في (أ): «عادات».
(5) في (أ) و(ق) و(ح): «موجدات».
(6) هذا من عقائد أهل الكلام الذين لا يثبتون العلل والأسباب. قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في "الرد على المنطقيين" (1/95): «لكن من لا يثبت الأسباب والعلل من أهل الكلام. . . يجعلون المعلوم اقتران أحد الأمرين بالآخر لمحض مشيئة القادر المريد من غير أن يكون أحدهما سببًا للآخر ولا مولدًا له. وأما جمهور العقلاء من المسلمين وغير المسلمين وأهل السنة من أهل الكلام والفقة والحديث والتصوف، وغير أهل السنة من المعتزلة وغيرهم فيثبتون الأسباب ويقولون: كما يعلم اقتران أحدهما بالآخر فيعلم أن في النار قوة تقتضى التسخين، وفي الماء قوة تقتضى التبريد، وكذلك في العين قوة تقتضى الابصار».
(7) الأمر بالصلاة لم يرد في أحاديث هذا الباب ،وإنما في أحاديث الباب الآتي.
(8) في (ق): «يكمل».
(9) في (ق): «ويصح الطلب».
(10) تقدم في الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود.
(11) في (أ): «أمره به».
(12) شرح المؤلف تحت هذا العنوان ما أشكل في أحاديث هذا الباب، وما أشكل في أحاديث الباب الذي يليه، وهو: باب الرؤيا الصالحة جزء من أجزاء النبوة.
(13) في (أ): «وقوله».
(14) قال الحافظ في"الفتح" (12/405): «قلت: يبعد الأول التقييد بالمؤمن، فإن الذي تعتد فيه الطبائع لا يختص به».
(15) في (أ): «تنفتق».
(16) قوله: «فيه» سقط من (ق).(6/10)
فيه؛ فلا يكون في المنام أضغاث الأحلام، فإنَّ من موجبات التخليط فيها غلبة بعض الأخلاط على صاحبها.
وثانيهما: أن المراد بذلك: آخر الزمان المقارب للقيامة (1) . وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طريق معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنه قال: «في آخر الزمان لا تكذب رؤيا المؤمن» (2) .
قال الشيخ: ويعني - والله أعلم - بآخر الزمان المذكور في هذا الحديث: زمان الطائفة الباقية مع عيسى - صلى الله عليه وسلم - بعد قتله الدجال المذكور في حديث عبدالله بن عمرو (3) الذي قال فيه: «فيبعث الله تعالى عيسى ابن مريم، ثم يمكث في الناس (4) سبع سنين ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل الله ريحًا باردة من قبل الشام فلا تبقي على وجه الأرض أحدًا في قلبه مثقال ذرةٍ من خير أو إيمان إلا قبضته»، فكان أهل هذا الزمان أحسن هذه الأمَّة (5) بعد الصدر المتقدِّم حالاً، وأصدقهم أقوالاً، وكانت (6) رؤياهم لا تكذب، كما قال - صلى الله عليه وسلم - (7) : «أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا»، وكما قال: «رؤيا الرجل الصالح جزء من النبوة» (8) .
وقوله: «لم تكد تكذب»؛ أي: لم تقارب الكذب، وقد تكلَّمنا على كاد وأخواتها من أفعال المقاربة فيما تقدَّم.
وقوله: «أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا»؛ إنما كان ذلك لأن: من كثر صدقه تنوِّر قلبه، وقوي إدراكه، فانتقشت فيه المعاني على وجه الصِّحة =(6/11)=@
__________
(1) في (ح): «للعنة» كذا رسمت.
(2) هو عند مسلم (8/2263) بعد حديث الباب. وأخرجه أحمد (2/269)،والترمذي (4/469-470 رقم2291) في الرؤيا، باب ما جاء في رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - الميزاب والدلو.
كلاهما من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «في آخر الزمان لا تكاد رؤيا المؤمن تكذب. . . »، الحديث.
قال الترمذي: «وقد روى عبدالوهاب الثقفي هذا الحديث عن أيوب مرفوعًا، ورواه حماد بن زيد، عن أيوب ووقفه».
(3) سيأتي في الفتن وأشراط الساعة، باب كيف انقراض هذا الخلق برقم (2836).
(4) في (ق): «في الأرض».
(5) في (ق): «الأزمنة».
(6) في (ح) و(ق): «فكانت».
(7) أي في حديث الباب.
(8) أخرجه أحمد (3/267)،والترمذي (4/462 رقم2272) في الرؤيا، باب ذهبت النبوة وبقيت المبشرات، وأبويعلى (7/38 رقم3947)، والحاكم (4/391). جميعهم من طريق عفان بن مسلم،عن عبدالواحد بن زياد، عن المختار بن فلفل، عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدي ولا نبي»، قال: فشق ذلك على الناس، فقال: «لكن المبشرات»، قالوا: يا رسول الله! وما المبشرات؟ قال: «رؤيا المسلم، وهي جزء من أجزاء النبوة».
قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه من حديث المختار بن فلفل». وقال الحاكم: «صحيح الإسناد على شرط مسلم»، ووافقه الذهبي. وقال الألباني في "الإرواء" (8/128): «وهو كما قالا».(6/11)
والاستقامة، وأيضًا فإن من كان غالبُ حاله الصدق في يقظته استصحب ذلك في نومه، فلا (1) يرى إلا صدقًا. وعكس ذلك: الكاذب والْمُخلِّط يَفسد قلبه، ويُظلم، فلا (2) يرى إلا تخليطًا وأضغاثًا، هذا غالب حال كل واحد من الفريقين، وقد يندرُ فيرى الصادقُ ما لا يصح، ويرى الكاذب ما يصح، لكن ذلك قليل، والأصل ما ذكرناه (3) .
وقوله: «رؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءًا من النبوة»، وفي حديث عبادة (4) : «رؤيا المؤمن جزء (5) من ستة وأربعين جزءًا» (6) ، وفي رواية عن أبي هريرة: «رؤيا الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين (7) »(2)، وفي أخرى عنه: «الرؤيا الصالحة»، وفي رواية: «رؤيا الرجل الصالح ستة وأربعون جزءًا من النبوة» (8) . وفي(2) حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «الرؤيا الصالحة جزء من سبعين (9) »(2). وفي غير كتاب مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما (10) : «جزء من أربعين». وعن عبد الله (11) بن عمرو (12) (13) رضي الله عنهم ا: «جزء من سبعة (14) وأربعين» (15) . وفي حديث العباس (16) رضي الله عنه: «من خمسين»، وعن أنس (17) رضي الله عنه: «من ستة وعشرين»، وعن عبادة بن الصامت (18) رضي الله عنه: «من أربعة وأربعين».
قال أبو عبد الله المازري: والأكثر والأصح عند أهل الحديث: «من ستة وأربعين». وحكي عن بعض الناس: أنه نزل هذا الحديث بهذه الرواية على مدة الوحي للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - أقام يوحى إليه ثلاثًا (19) وعشرين سنة، منها ستة أشهر =(6/12)=@
__________
(1) في (ب): «ولا».
(2) ي (أ) و(ق): «ولا يرى».
(3) في (ح): «ما ذكرنا».
(4) زاد في (ح): «بن الصامت»، ثم ضرب عليها، وفي (ق): «عبادة» وكتب في الهامش «قتادة» ووضع (خ).
(5) قوله: «جزء» سقط من (ب).
(6) هذه الرواية في الباب بعد هذا: الرؤيا الصالحة جزء من أجزاء النبوة.
(7) في (ح): «وأربعين جزءًا».
(8) أخرجه البخاري في "صحيحه" (2563) من حديث عبادة بن الصامت، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة». وفي (2564) من حديث أبي سعيد الخدري؛ أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة». ... ... يراجع
(9) في (أ): «سبعين جزءًا».
(10) عزاه الحافظ في "الفتح" (12/363) إلى الطبري، ولم أجده في مسند ابن عباس من "تهذيب الآثار" المطبوع. ورواه الإمام أحمد (4/10-13)، والترمذي (2278)، وابن حبان (6049). كلهم من طريق يعلى بن عطاء، عن وكيع بن عدس، عن أبي رزين العقيلي، مرفوعًا بلفظ: «جزء من أربعين جزءًا»، ووكيع بن عدس وثقه ابن حبان. وقال الذهبي: لا يعرف، تفرد عنه يعلى بن عطاء. "ميزان الاعتدال" (7/126).
(11) قوله: «وعن عبدالله» لم يتضح في (ح).
(12) في (ق): «عمر».
(13) أخرجه أحمد (2/219-220) عن حسن، عن ابن لهيعة. وأخرجه الطبري في "تفسيره" (11/135 و137)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (4/189 رقم4764) من طريق عمرو بن الحارث. كلاهما - ابن لهيعة، وعمرو بن الحارث-، عن دراج أبي السمح، عن عبدالرحمن بن جبير، عن عبدالله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :{لهم البشرى في الحياة الدنيا}، قال: «الرؤيا الصالحة يبشرها المؤمن هي جزء من تسعة وأربعين جزًا من النبوة».
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/175): «رواه أحمد من طريق ابن لهيعة عن دراج وحديثهما حسن، وفيهما ضعف، وبقية رجاله ثقات».
(14) في (ق): «ستة».
(15) أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (7/2)، والبزار في "مسنده"(4/126-127 رقم1298)، وأبو يعلى (12/64-65 رقم6706)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (5/417 رقم2176) ثلاثتهم من طريق محمد بن إسحاق، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن سليمان بن عريب قال: سمعت أبا هريرة يقول لابن عباس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «رؤيا العبد الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة»، فقال ابن عباس: «من خمسين».
وعند البزار: فقال ابن عباس: قال العباس بن عبد المطلب: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «جزء من خمسين جزء من النبوة».
وعند أبي يعلى: سمعت أبا هريرة يقول لابن عباس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «رؤيا المسلم جزء من أربعين جزءًا من النبوة»، قال ابن عباس: من ستين، فقال أبو هريرة: تسمعني أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتقول: من ستين؟! فقال ابن عباس: وأنا أقول: قال العباس بن عبدالمطلب.
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/173): «حديث أبي هريرة في الصحيح خاليًا عن حديث العباس، رواه البزار والطبراني في الأوسط والكبير وأبو يعلى شبيه المرفوع، ولكنه قال: ستين جزءًا، وفيه ابن إسحق وهو مدلس».
(16) ؟؟؟؟؟؟
(17) أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد" (1/282) عن عبدالله بن محمد بن أسد، عن بكر بن محمد بن العلاء، عن الحسن بن المثنى بن دجاجة، حدثنا عفان بن مسلم، عن حدثنا عبدالعزيز بن المختار، عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وعشرين جزءًا من النبوة».
قال ابن عبدالبر: «هكذا في حديث أنس هذا، وهو حسن الإسناد».
لكن قال الحافظ في "الفتح" (12/363): «والمحفوظ من هذاالوجه كالجادة»، يشير إلى ما أخرجه البخاري (12/383 رقم 6994) في التعبير، باب من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، عن معلى بن أسد، عن عبدالعزيز بن مختار، عن ثابت البناني، عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتخيل بي، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة». وهو كذلك عند مسلم (4/1774 رقم2264) في الرؤيا، من طريق شعبة، عن ثابت، عن أنس، ولم يسق لفظه، وأحال على اللفظ الذي قبله.
(18) عزاه الحافظ في "الفتح" (12/363) إلى الطبري، وقال: «المحفوظ عن عبادة بن كالجادة». وقال ابن عبدالبر في "التمهيد" (1/281): «إسناد فيه لين». وهو عند المصنف (2176) بلفظ: «جزء من ستة وأربعين».
(19) في (أ) و(ق): «ثلاثة».(6/12)
يوحى إليه في نومه، وذلك في أول أمره (1) . وقد اعترض عليه بأن هذه المدة لم يصحَّ نقل تحديدها، ولا هو معروف، فتقديره (2) تحكُّم.
قال الشيخ رحمه الله: القدر الذي اختلف (3) الرواة فيه من هذا الحديث أمران:
أحدهما: من أضيفت الرؤيا إليه، فتارة سكت عنه، وأخرى قيل فيه (4) : المسلم، وفي أخرى: المؤمن، وفي أخرى: الصالح. وهذا الأمر: الخلاف فيه أهون (5) من الخلاف في الأمر الثاني، وذلك: أنه حيث سُكت عنه لم يضر السكوت عنه، مع العلم بأن الرؤيا مضافة إلى راءٍ (6) ما، فإذا صرح به في موضع آخر فهو المعنيُّ، وأما حيث نطق به فالمراد به واحد وإن اختلفت الألفاظ. وذلك أن الرؤيا لا تكون من أجزاء النبوة إلا إذا وقعت من مسلم صادق صالح، وهو الذي يناسب حاله حال النبي - صلى الله عليه وسلم - فكرم (7) بنوع مما أكرم به الأنبياء عليهم السلام، وهو الاطلاع على شيء من علم الغيب، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : «إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصادقة في النوم. يراها الرجل الصالح، أو ترى له» (8) ، فإنَّ الكافر، والكاذب، والمخلِّط وإن صدقت رؤياهم في بعض الأوقات، لا تكون (9) من الوحي، ولا من النبوة؛ إذ ليس كل من صدق في حديث عن غيب (10) يكون خبره ذلك نبوة. وقد قدَّمنا: أن الكاهن (11) يخبر بكلمة الحق (12) (13) ، وكذلك المنجم قد يحدِس (14) فيصدق، لكن على الندور والقلَّة. وكذلك: الكافر، والفاسق، والكاذب. وقد يرى المنام (15) الحق، ويكون ذلك المنام سببًا في شرٍّ (16) يلحقه، أو أمرٍ يناله. إلى غير ذلك من الوجوه المعتبرة =(6/13)=@
__________
(1) سيأتي في باب كم كان سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم قبض؟ وكم أقام بمكة؟ من كتاب النبوات.
(2) في (ح): «فتقريره».
(3) في (ق): «اختلفت».
(4) قوله: «فيه» سقط من (ق).
(5) في (ق): «أهو» كذا رسمت.
(6) في (ح): «راى».
(7) في (ح) و(ق): «فأكرم».
(8) تقدم في باب النهي عن القراءة في الركوع والسجود.
(9) في (ق): «لا يكون».
(10) في (ق): «غيبه».
(11) في (ح): «الكافر».
(12) في (ق): «الجن».
(13) تقدم في كتاب الطب، باب النهي عن الكهانة وإتيان الكهان.
(14) يحدس؛ أي: يظن ويخمِّن.
(15) في (ح): «ترى النائم».
(16) في (ق): «شيء».(6/13)
المقصودة به. وقد وقعت لبعض الكفار منامات صحيحة صادقة؛ كمنام الملك الذي رأى سبع بقرات (1) ، ومنام الفتيين في السجن، ومنام عاتكة (2) عمَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي كافرة، ونحوه كثير، لكن ذلك قليل بالنسبة إلى مناماتهم المخلطة والفاسدة، فهذا هو الأمر الأول.
وأما الأمر الثاني: وهو اختلاف عدد أجزاء النبوة التي جعلت رؤيا الرجل الصالح واحدا منها: فاختلفت الرواية فيه من ستة وعشرين إلى سبعين، كما قد ذكرناه، وأكثرها في الصحيحين، وكلها مشهور فلا سبيل إلى أخذ أحدها، وطرح الباقي، كما قد فعل (3) أبو عبدالله المازري، فإنَّه قد يكون بعض ما ترك أولى مما قَبِلَ إذا بحثنا عن رجال أسانيدها، وربما ترجَّح عند غيره (4) غير ما اختاره هو، فإذًا: الوجه الذي يتعيَّن المصير إليه أن يقال: إن هذه الأحاديث - وإن اختلفت ألفاظها - متفقة على أن الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من أجزاء النبوة. فهذه شهادة صحيحة من النبي - صلى الله عليه وسلم - لها بأنها وحي من الله تعالى، وأنها صادقة لا كذب فيها. ولذلك قال مالك وقد قيل له: أيفسر الرؤيا كل أحد؟ فقال: أيلعب بالوحي ؟!. وإذا كانت هكذا فتعيَّن (5) على الرائي أن يعتني (6) بها، ويسعى في تفهُّمها، ومعرفة تأويلها، فإنَّها (7) إما مبشرة له بخير، أو محذرة له من شر، فإنَّ أدرك تأويلها بنفسه، وإلا سأل عنها من له أهليَّة ذلك، وهو اللبيب (8) الحبيب. ولذلك كان النبي (9) - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا أصبح: «هل رأى أحدٌ منكم (10) الليلة رؤيا فليقصها، أعبرها ؟» (11) ، فكانوا (12) يقصُّون عليه (13) ، ويَعْبُرُ. وقد سلك أصحابه ذلك المسلك في حياته، وبعد وفاته، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يقتبس (14) الأحكام من منامات أصحابه، كما فعل في رؤيا الأذان (15) ، وفي =(6/14)=@
__________
(1) في (ق): «بقرات سمان».
(2) رواه الحاكم في "المستدرك"(3/19 رقم 4297) عن أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير عن بن إسحاق قال حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس عن عكرمة عن بن عباس رضي الله عنهم ا قال بن إسحاق وحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قالا: رأت عاتكة. قال الذهبي: وحسين ضعيف.
ورواه الطبراني في "المعجم الكبير" (24/344 رقم 859) قال: حدثنا مسعدة بن سعد العطار، ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، قال: ثنا عبد العزيز بن عمران، ثنا محمد بن عبدالعزيز، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبدالرحمن، عن أمه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، عن عاتكة بنت عبد المطلب، قالت: رأيت راكبًا مثل على أبي قبيس فصاح: يا آل غدر.
ورواه كذلك في (24/346 رقم860) قال: حدثنا محمد بن عمرو بن خالد الحراني، ثنا أبي ثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة قال: كانت عاتكة بنت عبد المطلب عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساكنة مع أخيها العباس بن عبدالمطلب، فرأت رؤيا قبيل بدر ففزعت. . . .
ورواه أيضًا في (24/348 رقم861) قال: حدثنا علي بن عبد العزيز ثنا الزبير بن بكار، حدثني مصعب بن عبدالله وغيره من قريش: أن عاتكة بنت عبدالمطلب قالت في صدق رؤياها وتكذيب قريش لها حين أوقع بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببدر. . . .
وحاصل رؤيا عاتكة فأعظمتها فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له يا أخي لقد رأيت الليلة رؤيا أفزعتني ليدخلن على قومك منها شر وبلاء فقال وما هي فقالت رأيت فيما يرى النائم: أن رجلاً أقبل على بعير له فوقف بالأبطح فقال: انفروا يا آل غُدَرْ لمصارعكم في ثلاث، فاجتمعوا إليه الناس، ثم رقى الكعبة وأبا قبيس، وقال مثل ذلك، ثم أخذ صخرة فأرسلها من رأس الجبل فتفتت حتى لم يبق دارًا من دور مكة إلا دخلتها فلقة منها. فلم يلبث الناس ثلاثًا حتى بدأت أحداث غزوة بدر، وهزم المشركون، ودخلت كل بيت من بيوت مكة مصيبة منها.
(3) في (ق): «نقل».
(4) في (ق): «غيرهم».
(5) في (ق): «فيتعين».
(6) في (ق): «يعتبر».
(7) في (ق): «بأنها».
(8) في (ح): «الببب».
(9) قوله: «النبي» ليس في (أ) و(ح).
(10) في (أ) و(ق): «منكم أحد» وقوله: «منكم» سقط من (ح).
(11) سيأتي في باب استدعاء العابر ما يعبر، وتعبير من لم يسأل.
(12) في (ق): «وكانوا».
(13) في (أ): «عليها».
(14) من قوله: «المسلك في حياته...» إلى هنا سقط من (ق).
(15) تقدم في أول كتاب الصلاة، باب ما جاء في الأذان والإقامة.(6/14)
رؤيا ليلة القدر (1) . وكل (2) ذلك بناءً على أنها وحي صحيح. وإذا تقرَّر هذا فلا يضرنا الاضطراب الذي وقع في عدد تلك الأجزاء مع حصول المقصود من الخير؛ غير أن علماءنا قد راموا إزالة ذلك الاضطراب (3) ، وتأوَّلوه (4) تأويلات، فلنذكرها، وننبه على الأقرب منها؛ وهي أربع:
الأول: ما صار (5) إليه أبو عبد الله (6) . وقد ذكرناه، وما ورد عليه.
والثاني (7) : أن المراد بهذا الحديث: أن المنام (8) الصادق خصَّلة من خصال النبوة. كما جاء في الحديث الآخر: «التؤدة (9) ، والاقتصاد، وحسن السمت جزء (10) من ستة وعشرين جزءًا من النبوة» (11) ؛ أي: النبوة مجموع خصال مبلغ أجزائها ستة وعشرون، هذه الثلاثة الأشياء جزء (12) واحدٌ منها، وعلى مقتضى هذه التجزئة: كل جزء من الستة والعشرين ثلاثة أشياء في نفسه، فإذا ضربنا ثلاثة في ستة وعشرين صحَّ لنا أن عدد خصال النبوة من حيث آحادها ثمانية وسبعون. ويصحُّ أن يسمَّى كل اثنين من الثمانية والسبعين جزءًا وخصلة، فيكون جميعها بهذا الاعتبار تسعة وثلاثين جزءًا، ويصحُّ أن يسمَّى كل أربعة منها جزءًا، فيكون مجموع أجزائها بهذا الاعتبار تسعة عشر جزءًا ونصف جزء، فتختلف أسماء العدد المجزَّأ بحسب اختلاف اعتبار الأجزاء، وعلى هذا: فلا يكون اختلاف أعداد أجزاء النبوَّة في أحاديث الرؤيا المذكورة اضطرابًا؛ وإنَّما هو اختلاف اعتبار مقادير تلك الأجزاء المذكورة. والله تعالى أعلم.
الثالث: ما أشار إليه الطبري، وهو: أن هذا الاختلاف راجعٌ إلى اختلاف (13) حال الرائي. فالمؤمن الصَّالح تكون نسبة (14) رؤياه من ستة وأربعين، وغيرُ الصالح من =(6/15)=@
__________
(1) تقدم في الصوم، باب الأمر بالتماس ليلة القدر.
(2) في (ق): «وكان».
(3) من قوله: «الذي وقع. . . . » إلى هنا سقط من (ح).
(4) في (ق): «وتأولوا».
(5) في (ح): «أن ما صار».
(6) في (ح): «أبو عبدالله المازري».
(7) في (أ): «الثاني» بلا واو.
(8) في (ق): يشبه «المقام».
(9) زاد بعدها في (ق): «من البنوة».
(10) في (ح): «النؤذة».
(11) روي من حديث عبدالله بن عباس، وعبدالله بن سرجس.
أما حديث عبدالله بن عباس: يرويه قابوس بن ظبيان، واختُلف عليه في رفعه ووقفه، فأخرجه وكيع في "الزهد" (2/595-596 رقم323) عن سفيان، وابن أبي شيبة (7/149 رقم34760) في الزهد، باب كلام ابن عباس عن ابن إدريس، وابن عدي في "الكامل" (6/48) من طريق إدريس الأودي. ثلاثتهم - سفيان، وابن إدريس، وإدريس -، عن قابوس بن أبى ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس قال: «الهدي الصالح، والسمت الصالح، والاقتصاد؛ جزء من خمسة وعشرين جزءًا من النبوة». هكذا موقوفًا.
وأخرجه أحمد (1/296)، والبخاري في "الأدب المفرد" (1/555 رقم468)، و(2/261 رقم791)، وأبو داود (5/136-137 رقم4776) في الأدب، باب القدر، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (3/260-261 رقم1234)، والطبراني في "الكبير" (12/83 رقم12608)، وابن عدي في "الكامل" (6/48)، والبيهقي في سننه (10/194)، و"شعب الإيمان" (5/252 رقم6555). جميعهم من طريق زهير بن معاوية.
وأخرجه أحمد (1/296)، من طريق زهير وجعفر الأحمر، والبخاري في "الأدب المفرد" (2/261 رقم791) من طريق عبيدة بن حُميد، قال ابن عدي: «وهذا بهذا الإسناد لا أعلم يرويه عن الثوري غير بحر، وعن بحر الحارث بن منصور». ثم قال: وللحارث غير ما ذكرت، وفي حديثه اضطراب».
وفي "التقريب" (ص214 رقم1057): «صدوق يهم»، والأعمش مدلس، ولم يصرح بالسماع، وبحر السقاء، ضعيف، كما في "التقريب" (ص163 رقم642).
وأما حديث عبد الله بن سرجس: فأخرجه عبد بن حميد (512)، والترمذي (4/321-322 رقم2010) في البر والصلة، باب ما جاء في التأني والعجلة، والطبراني في "الصغير" (2/222-223 رقم 1065)، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (1/101) جميعهم من طريق نصر بن علي.
وأخرجه الخطيب في "تاريخه" (3/66) من طريق أبي بكر بن الأسود بن أخت عبدالرحمن بن مهدي، والمزي في "تهذيب الكمال" (15/382-383) من طريق أحمد بن المقدام. ثلاثتهم - نصر بن علي، وأبي بكر بن الأسود، وأحمد بن المقدام -، عن نوح بن قيس، عن عبدالله بن عمران، عن عاصم الأحول، عن عبدالله بن سرجس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «السمت الصالح، والتؤدة، والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءًا من النبوة».
قال الترمذي: «حديث حسن غريب». وقال الطبراني: «لم يروه عن عاصم إلا عبد الله بن عمران تفرد به نوح بن قيس».
وأخرجه الترمذي (4/322 رقم2010) في الموضع السابق عن قتيبة، عن نوح به، إلا أنه أسقط عاصم الأحول. قال الترمذي: «والصحيح حديث نصر بن علي».
وقال المزي: وتابعه مسلم بن إبراهيم، عن نوح بن قيس، إلا أنه قال: جزء من أربعين جزءًا من النبوة». ومدار الحديث على عبدالله بن عمران، روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم: «شيخ، وذكره العقيلي في الضعفاء، وقال: لا يتابع على حديثه». "الجرح والتعديل" (5/130 رقم601)، والضعفاء الكبير" (2/287 رقم857)، وفي "التقريب" (ص532 رقم3536): مقبول. والحديث حسن لغيره. وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1/578 رقم3010).
وأخرجه الطبراني في "الكبير" (12/83 رقم12609) من طريق عثمان بن فائد، وابن عدي في "الكامل" (6/48) من طريق ابن مهدي، ويحيى بن معين، والخطيب في "تاريخه" (7/12-13) من طريق زيد بن الحباب. أربعتهم عثمان بن فائد، وابن مهدي، ويحيى بن معين، زيد بن الحباب -، عن سفيان.
قال ابن عدي: «قال بندار: ثم ضرب عبدالرحمن على حديث قابوس ولم يحدثنا به».
وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (7/263) من طريق زيد بن الحباب، عن مسعر. جميعهم - زهير، وجعفر، وعبيدة، وسفيان، ومسعر، عن قابوس، به مرفوعًا.
قال عنه ابن حبان في "المجروحين": «كان رديء الحفظ، وينفرد عن أبيه بما لا أصل له، وبما رفع المراسيل، واسند الموقوف». وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، ولا يحتج به، ضعيف الحديث لين. وقال النسائي: ليس بالقوي، ضعيف. وقال أحمد: لم يكن من النقد الجيد، وضعفه ابن سعد، والدارقطني. "تهذيب الكمال مع حاشيته" (23/327-330 رقم4777). وفي "التقريب" (ص789 رقم5480): فيه لين. والحديث صححه أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (4/244-245 رقم2698)، واعتمد توثيق قابوس !
وحسنه الألباني في "صحيح الأدب المفرد" (ص294 رقم791). وقال الهيثمي في "المجمع" (8/90): «رواه الطبراني وفيه قابوس بن أبي ظبيان وهو ثقة وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح».
وله طريق أخرى: أخرجه ابن الأعرابي في "معجمه" (1/91-92 و194 رقم136 و340)، وابن عدي (2/195-196)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1/202-203 رقم306) من طريق الحارث بن منصور، عن بحر السقاء، عن الثوري، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، مرفوعًا.
(12) قوله: «جزء» مكانه بياض في (ح).
(13) قوله: «اختلاف» سقط من (ق).
(14) في (ح): «نسبته».(6/15)
سبعين، ولهذا لم يشترط في رواية السَّبعين في وصف الرائي ما اشترطه في وصفه في رواية: «ستة وأربعين»، فإنَّه شرط فيها (1) الصَّلاح في الرائي، وسكت عن اشتراطه (2) في رواية السبعين.
قال الشيخ: وهذا فيه بُعدٌ؛ لما قدَّمناه من صحَّة احتمال (3) حمل مطلق الرِّوايات على مقيدها، وبما قد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: «الرؤيا الصالحة جزء من أربعين». وسكت فيه عن ذكر (4) وصف الرائي. وكذلك حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما حين ذكر سبعة وأربعين. وحديث العبَّاس رضي الله عنهما حين (5) ذكر خمسين.
الرابع: قيل (6) : يحتمل أن تكون هذه التجزئة في طرق الوحي؛ إذ منه ما سُمِع من الله تعالى دون واسطة، كما قال تعالى (7) :{من (8) وراء حجاب} (9) ، ومنه بواسطة الملك، كما قال: {أو يُرسلَ رسولاً}(2)، ومنه ما يُلقى في القلب، كما قال:{إلا وحيًا}(2)؛ أي: إلهامًا، ثمَّ منه ما يأتيه الملك على صورته (10) ، ومنه ما يأتيه على صورة آدمي يعرفه (11) ، ومنه ما (12) يتلقاه منه وهو لا يعرفه (13) ، ومنه ما يأتيه في مثل (14) صلصلة الجرس (15) ، ومنه ما يسمعه من الملك قولاً مُفصَّلاً، إلى غير ذلك من الأحوال التي كانت تختلف على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوحي وحالاته المختلفة، فتكون تلك الحالات إذا عُدِّدت غايتها انتهت (16) إلى سبعين.
قال الشيخ رحمه الله: ولا يخفى ما في هذا الوجه من البُعد والتساهل؛ فإنَّ تلك الأعداد كلها إنما هي (17) أجزاء النبوَّة وأكثر هذه الأحوال التي ذكرت هنا ليست من النبوة في شيء؛ ككونه (18) يعرف الملك، أو لا يعرفه، أو يأتيه على صورته، أو على غير صورته، ثمَّ مع هذا التكلف (19) العظيم لم يقدر أن يبلغ عدد ما ذكر إلى ثلاثين (20) . =(6/16)=@
__________
(1) في (ح): «فيه».
(2) في (ح): «اختلاف» سقط من (ق).
(3) قوله: «احتمال» سقط من (ح) و(ق).
(4) قوله: «تعالى» ليس في (أ).
(5) في (ق): «حيث».
(6) قوله: «قيل» سقط من (ح).
(7) قوله: «تعالى» ليس في (أ).
(8) في (ق): «أو من».
(9) الآية (51) من سورة الشورى.
(10) تقدم في الإيمان، باب هل رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه؟
(11) تقدم في الإيمان، باب رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنبياء.
(12) قوله: «ما» سقط من (أ).
(13) تقدم في الإيمان، باب معان يالإيمان والإسلام والإحسان شرعًا.
(14) قوله: «مثل» سقط من (أ).
(15) سيأتي في النبوات، باب كيف كان يأتيه الوحي.
(16) في (ق): «إنتها».
(17) في (ح): «هي من».
(18) في (ح): يشبه «لكونه».
(19) في (ح): «التكليف».
(20) في هذا الموضع في (أ) زيادة، ولعلها حاشية، ونصها: «بقية العدد وتفصيله معلوم لله تعالى، فينبغي أن نقصر العناء. ثم ضبب على قوله: «فينبغي أن نقصر العناء».(6/16)
قال الشيخ رحمه الله: وأشبه ما ذكر في ذلك: الوجه الثاني؛ مع أنَّه لم تَثْلَجُ (1) النفسُ به (2) ، ولا طاب لها. وقد ظهر لي وجه خامس - وأنا أستخير الله تعالى في ذكره - وهو: أن النبوَّة معناها: أن يُطلع الله تعالى من يشاء من خلقه على ما يشاء من أحكامه ووحيه: إما بالمشافهة، وإما بواسطة ملك، أو بإلقاء (3) في القلب، لكن هذا المعنى المسمَّى بالنبوَّة لا يخص الله به إلا من خصَّه بصفات كمال نوعه من المعارف، والعلوم، والفضائل، والآداب، ونزهه عن نقائص ذلك. ولذلك (4) قال سبحانه وتعالى:{الله يصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس} (5) ، وقال :{الله أعلم حيث يجعل رسالته} (6) ، وقال تعالى لما ذكر الأنبياء :{أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} (7) ، وقال :{كُلاًّ هدينا} (8) ، وقال لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - :{وإنَّك لعلى خلق عظيم} (9) ، فقد حصل من هذا: أن النبوَّة لم يخصُّ الله بها إلا أكمل خلقه، وأبعدهم عن (10) النقائص. ثم: إنه لما شرفهم بالنبوَّة حصلت لهم بذلك على جميع نوعهم الخصوصية، فلما كانت النبوَّة لا يخصُّ الله بها إلا من حصلت له (11) خصال الكمال أطلق على تلك الخصال: نبوة، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : «التؤدة والاقتصاد، والسَّمت الحسن جزء من النبوة» (12) ؛ أي: من خصال الأنبياء، لكن الأنبياء في هذه الخصال متفاضلون (13) ، كما قال تعالى :{ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض} (14) ، وقال :{تلك الرُّسل فضلنا بعضهم على بعض} (15) ، فتفاضلهم بحسب ما وهب لكل واحد منهم من تلك الصفات، وشُرِّف به من تلك الحالات، وكل منهم الصدق أعظم صفته في نومه ويقظته، وكانوا تنام أعينهم، ولا تنام قلوبهم (16) ، فنائمهم يقظان، ووحيهم في النوم واليقظة سيَّان؛ فمن ناسبَهُم في الصِّدق حصل من رؤياه على الحق؛ غير أنه لما =(6/17)=@
__________
(1) في (ق): «يثلج».
(2) في (ق): «له» بدل «به».
(3) في ق): «بالإلقاء».
(4) في (ح): يشبه «وكذلك».
(5) الآية (75) من سورة الحج.
(6) في (أ) و(ح) و(ق): «رسالاته»، الآية (124) من سورة الأنعام.
(7) الآية (90) من سورة الأنعام.
(8) في (ح) و(ق): «وكلاهدينا»، الآية (84) من سورة الأنعام.
(9) في (ح): «إنك» بلا واو، الآية (4) من سورة القلم.
(10) في (ح): «من» بدل «عن».
(11) في (ق): «إلا من حصل له» وكتب في الهامش «إلا من حصلت له» ووضع (خ).
(12) سبق تخريجه في هذا الباب.
(13) في (ق): «يتفاصلون».
(14) الآية (253) من سورة الإسراء.
(15) الآية (253) من سورة البقرة.
(16) أخرجه البخاري (6/579 رقم3570) كتاب المناقب، باب كان النبي - صلى الله عليه وسلم - تنام عينه ولا ينام قلبه. وهو من قول أنس، ومثله لا يقال من قبل الرأي.(6/17)
كان الأنبياء في مقاماتهم وأحوالهم متفاضلين، وكان كذلك أتباعهم من الصَّادقين، وكان أقل خصال كمال الأنبياء ما إذا (1) اعتُبر كان ستًّا وعشرين جزءًا، وأكثر ما يكون (2) ذلك سبعين، وبين العددين مراتب مختلفة بحسب ما اختلفت ألفاظ تلك الأحاديث. وعلى هذا: فمن كان من غير الأنبياء في صلاحه وصدقه على رتبة تناسب كمال نبيٍّ من الأنبياء، كانت رؤياه جزءًا من نبوة ذلك النبي، وكمالاتهم متفاضلة كما قرَّرناه، فنسبة أجزاء منامات الصَّادقين متفاوتة على ما فصلناه. وبهذا الذي أظهر الله لنا يرتفع الاضطراب. والله تعالى الموفق للصَّواب.
وقوله: «الرؤيا (3) ثلاثة: بشرى من الله»؛ أي: مُبشرة بخير، ومحذرة عن شرٍّ ، فإن التحذير عن الشرِّ خيرٌ، فتتضمَّنه (4) البشرى. وإنَّما قلنا ذلك هنا لأنَّه قد قال في حديث الترمذي المتقدِّم: «الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله (5) » (6) مكان: «بشرى من الله»، فأراد بذلك - والله أعلم - الرؤيا الصادقة المبشرة والمحذرة.
وقوله: «ورؤيا تحزين»؛ ويلحق (7) بالرؤيا المحزنة (8) المفزعات، والمهوِّلات، وأضغاث الأحلام؛ إذ كل ذلك مذموم؛ لأنها من آثار الشيطان، وكل ما ينسب إليه مذموم.
وقوله: «ورؤيا مِمَّا يحدِّث المرء به نفسه (9) »؛ يدخل فيه ما يلازمه المرء في يقظته من الأعمال، والعلوم، والأقوال، وما يقوله (10) الأطباء: من أن الرؤيا تكون (11) عن خلطٍ (12) غالب على الرائي، فيرى في نومه ما يناسب ذلك الخلط (13) ؛ فمن يغلب عليه البلغم رأى (14) السباحة في الماء وما أشبهه (15) ، لمناسبة (16) الماء طبيعة البلغم. ومن غلبت (17) عليه الصفراء رأى (18) النيران والصعود في الارتفاع؛ لمناسبة النَّار في الطبيعة طبيعة الصفراء. وهكذا يقولون في بقية الأخلاط، ونحن ننازعهم في موضعين:
أحدهما: في أصل تأثير الطبيعة؛ فإنَّ قالوا: إن (19) الطبيعة سببٌ عادي، =(6/18)=@
__________
(1) في (ح): «فإذا» بدل «ما إذا».
(2) في (أ): «ما يكون من».
(3) في (أ) و(ح) و(ق): «والرؤيا».
(4) في (ح): «فتضمنته».
(5) قوله: «من الله» ليس في (ق).
(6) لم أقف عليه عند الترمذي بهذا اللفظ في النسخة التي بين أيدبنا، ولعله يشير إلى حديث الترمذي المتقدم في باب الرؤيا الصادقة من الله، ولفظه: «الرؤيا ثلاث: فرؤيا حق. . . ».
(7) في (ق): «تحذير ويلتحق».
(8) في (ق): «المخوفة».
(9) في (ح): «به المرء نفسه» وفي (ق): «بها المرء نفسه».
(10) في (ق): «تقوله».
(11) في (ح): «يكون».
(12) في (ق): «إنما تكون من خلطٍ».
(13) قوله: «الخلط» لم يتضح في (ح).
(14) في (ق): «يرى».
(15) في (ح): «وما أشبهها».
(16) في (ق): «وإنما كان ذلك لمناسبة».
(17) في (ق): «غلب».
(18) في (ق): «يرى».
(19) قوله: «إن» سقط من (ح).(6/18)
والله تعالى هو الفاعل بالحقيقة. وهو مذهب المسلمين؛ فهو (1) الحق (2) . وإن قالوا: إن الطبيعة تفعل ذلك بذاتها (3) ؛ حكمنا بتكفيرهم، وانتقل الكلام إلى علم الكلام.
والثاني: أن من أراد منهم أن الرؤيا لا تكون إلا عن الأخلاط (4) ؛ فهو باطل بما قد ثبت عن الصادق فيما ذكرناه من الأحاديث: أن الرؤيا منها ما يكون من الله، وهي المبشرة، والمحذرة. وهذا من باب الخبر، وليس في قوة الطبيعة أن تطلع على الغيب بالإخبار عن أمور مستقبلة تقع في المستقبل على نحو ما اقتضته (5) الرؤيا بالاتفاق بين العقلاء. ومن أراد منهم: أن الأخلاط قد تكون سببًا لبعض المنامات، فقد يسلم (6) ذلك على ما قرَّرناه، ثمَّ يبقى نظر آخر، وهو أنه لو كان ما قالوه (7) صحيحًا للزم عليه ألا يرى من غلب عليه خلط من تلك الأخلاط إلا ما يناسبه، ونحن نشاهد خلافه، فيرى البلغمي النيران، والصعود في الارتفاعات، وعكس ذلك في الصفراوي، فبطل (8) ما قالوه بالمشاهدة، والله وليُّ المعاضدة.
وقوله: «فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل»؛ ليس (9) هذا مخالفًا (10) لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الرواية الأخرى (11) : «فلينفث عن يساره ثلاثًا، وليتعوَّذ بالله من شرِّها، وليتحوَّل عن جنبه الذى كان عليه» (12) ؛ وإنما الأمر بالصلاة زيادة ينبغي (13) أن تزاد على ما في هذه الرواية، فيفعل الجميع. ويحتمل أن يقال: إنما اقتصر في (14) هذا الموضع على ذكر الصلاة وحدها؛ لأنَّه إذا صلَّى تضمَّن فعله للصلاة جميع تلك (15) الأمور؛ لأنَّه إذا قام إلى الصلاة تحوَّل عن جنبه، وإذا تمضمض نفث وبصق، وإذا قام إلى الصلاة تعوَّذ ودعا، وتفرغ لله تعالى في ذلك في حالٍ هي أقرب الأحوال إجابة، كما قدَّمناه، والله تعالى أعلم.
وقوله: «ولا يخبر (16) بها أحدًا» (17) ؛ أي: لا يعلق نفسه بتأويلها؛ إذ لا تأويل =(6/19)=@
__________
(1) في (ق): «وهو».
(2) مذهب الأشاعرة في نفي تأثير الأسباب في المسببات، ونفي نسبه أفعال العباد إليهم حقيقة، وهذا موافق لمذهب الجبرية. أما مذهب أهل السنة، فغن الله سبحانه خلق الأسباب والمسببات، وجعل للسبب تأثيرًا في حصول المسبب مرتبطًا بمشيئته سبحانه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولذلك فالعبد فاعل على الحقيقة، والله تعالى خالق ذاته وصفاته وأفعاله، وانظر للاستزادة "مجموع الفتاوى" (8/459) وما بعدها، و"شفاء العليل" (ص51) وما بعدها.
(3) هذاالقول مجمل، فإن كان مراد من قاله بأن الطبيعةتفعل بذاتها نفي خلق الله سبحانه لها ولصفاتها وأسبابها ومسبباتها فإنه كافر. وإن كان مراده بذلك: ان الله تعالى جعل للأسباب تأثيرًا في المسببات، وأنه سبحانه خالق السبب والمسبب جميعًا، فلا كفر في ذلك بل هو الحق الذي عليه أهل السنة، وانظر في ذلك "منهاج السنة"، وأما علم الكلام فقد ذمّه السلف كما هو معلوم.
(4) في (ق): «الاختلاط».
(5) في (ح): «اقتطه».
(6) في (ق): «سلم».
(7) في (أ) و(ح) و(ق): «رتبوه».
(8) في (ق): «فيبطل».
(9) قوله: «ليس» سقط من (ح).
(10) في (ح): «مخالف».
(11) قوله: «في الرواية الأخرى» سقط من (ق).
(12) تقدم في باب الرؤيا الصادقة من الله سبحانه وتعالى.
(13) في (ق): «فينبغي».
(14) في (ح): «على».
(15) في (ق): «ذلك».
(16) في (ق): «ولا تخبر».
(17) في نص الحديث: «ولا يحدث بها الناس».(6/19)
لها، فإنها من ألقيات الشيطان التي يقصد بها التشويش على المؤمن، إما بتحزين، وإما بترويع، أو ما أشبه ذلك. وفعل ما ذكر كاف في دفع ذلك، ومانع من (1) أن يعود الشيطان لمثل ذلك، وهذا هو الذي فهمه أبو سلمة من الحديث، والله تعالى أعلم، فقال: إن كنت لأرى الرؤيا أثقل عليَّ من الجبل، فما أباليها. وفي أصل كتاب مسلم قال (2) : كنت أرى الرؤيا أعرى (3) لها، غير أني لا أزَّمَّل (4) ؛ أي: تصيبني (5) العُرَوَاءَ، وهي الرعدة. وقال في رواية أخرى: إن كنت لأرى (6) الرؤيا فتمرضني غير أنِّي لا ازَّمَّل لها (7) (8) . والتزميل: اللف، والتَّدثير؛ يعني: أنها ما كانت تدوم عليه فيحتاج إلى أن (9) يدَّثَّر، لكنه بنفس ما كان يفعل ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من النفث والتعوُّذ وغيره يزول عنه ذلك، ببركة الصدق، والتصديق، والامتثال (10) . وفائدة هذا: ألا يشغل الرائي نفسه بما يكره في نومه، وأن يعرض عنه، ولا يلتفت إليه؛ فإنَّه لا أصل له. هذا هو الظاهر من الأحاديث، والله تعالى أعلم.
وقوله: «وأحبُّ القيد، وأكره الغُلَّ. . . » إلى آخره؛ ظاهره: أنه من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - غير أن أيوب السختياني هو الذي روى هذا الحديث عن محمد بن سيرين (11) ، عن أبي هريرة، وقد أخبر عن نفسه: أنه شكَّ هل هو من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ أو من قول ابن سيرين ؟ فلا يعوَّل على ذلك الظاهر (12) ، غير أن هذا المعنى صحيح في العبارة لأن =(6/20)=@
__________
(1) قوله: «من» سقط من (ح).
(2) قوله: «قال» من (أ) فقط وليس في (ح) و(ق).
(3) في (ق): «أغرا» بدل «أعرى».
(4) مسلم (4/1771 رقم2261) في الرؤيا.
(5) في (ق): «يصيبني الغرواء».
(6) في (ح): «لا أرى».
(7) قوله: «لها» سقط من (ح).
(8) مسلم (4/1772 رقم2261) في الرؤيا.
(9) في (ح): «أنه».
(10) في (ح): «والأمثال».
(11) في (أ): «أبي هريرة» بدل: «ابن سيرين».
(12) وقد أخرج البخاري في "صحيحه" (12/404-405) في التعبير، باب القيد في المنام، من طريق عوف الأعرابي، عن محمد بن سيرين؛ أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب». قال محمد: وأنا أقول هذه، قال: وكان يقال: الرؤيا ثلاث. . . ، الحديث.
قال البخاري: «وحديث عوف أبين، وقال يونس: لا أحسبه إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القيد».
وذكر الحافظ في "الفتح" قول القرطبي هنا: فلا يعول على ذلك الظاهر، وعلّق عليه بقوله: «قلت وهو حصر مردود وكأنه تكلم عليه بالنسبة لرواية مسلم خاصة، فإن مسلمًا ما أخرج طريق عوف هذه، ولكنه أخرج طريق قتادة عن محمد بن سيرين، فلا يلزم من كون أيوب شك أن لا يعول على رواية من لم يشك، وهو قتادة مثلاً، لكن لما كان في الرواية المفصلة زيادة فرجحت» (12/409).(6/20)
القيد في الرجلين، وهو (1) يُثبِّت الإنسان في مكانه، فإذا رآه من هو على حال ما على رجليه كان ذلك (2) دليلاً على ثبوته على تلك الحالة، فإذا راه من هو من أهل الدين والعلم كان (3) ثباتًا (4) على تلك الحال (5) . ولو رأى المريض قيدًا في رجليه كان (6) ذلك دليلاً على دوام مرضه. وإنما كره الغل لأنَّه لا يُجعل إلا في الأعناق نكاية، وعقوبة، وقهرًا، وإذلالاً. فيسحب على وجهه، ويجر على قفاه، كما قال تعالى :{إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يُسحبون - في الحميم ثم في النار يُسجرون} (7) ، ومنه قوله تعالى:{غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا} (8) ، و {إنا جعلنا (9) =(6/21)=@
__________
(1) في (ح): «هو» بلا واو.
(2) قوله: «ذلك» سقط من (ق).
(3) في (ح): «الدين والعدل كان ذلك ».
(4) في (ب) و(ق): «ثابتًا».
(5) في (ح): «الحالة».
(6) في (أ): «لكان».
(7) الآية (71-72) من سورة غافر.
(8) الآية (64) من سورة المائدة.
(9) في (أ) و(ح) و(ق): «وجعلنا».(6/21)
في أعناقهم أغلالاً فهى إلى الإذقان فهم مقمحون} (1) . وعلى الجملة: فهو مذموم شرعًا وعادة. فرؤيته في النوم (2) دليلٌ على وقوع حالة سيئة بالرائي تلازمه، ولا ينفك عنها (3) ، وقد يكون (4) ذلك في دينه، كواجبات فرَّط فيها، أو معاصٍ (5) ارتكبها، أو ديونٍ، وحقوقٍ لازمة له. وقد يكون (6) ذلك في دنياه من شدائد تصيبه، أو أنكاد تلازمه. وبالجملة: فالمعتبر في أعظم أصول العبارة النظر إلى أحوال الرائي واختلافها، فقد يرى الرائيان شيئًا واحدًا، ويدل (7) في حق أحدهما على خلاف ما يدل (8) عليه في حق (9) الآخر (10) .
ومن باب رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام (11)
قوله - صلى الله عليه وسلم - : «من رآني في المنام فقد (12) رآني فإنَّ الشيطان لا يتمثل بي»، وفي أخرى: «فإنَّ الشيطان لا ينبغي له (13) أن يتشبه بي»، وفي أخرى: «لا ينبغي (14) أن يتمثل (15) في صورتي»، وفي غير كتاب مسلم: «لا يتكوَّنُني» (16) . اختلف في معنى هذا الحديث؛ فقالت طائفة من القاصرين: هو على ظاهره، فمن رآه في النوم رأى حقيقته، كما يرى في اليقظة. وهو قول يُدرَك فساده (17) بأوائل العقول؛ فإنَّه يلزم عليه ألا يراه أحدٌ إلا (18) على صورته التي توفي عليها، ويلزم عليه ألا يراه رائيان في وقت واحد في =(6/22)=@
__________
(1) الآية (8) من سورة يس.
(2) في (أ): «في العنق».
(3) في (ق): «ولا تنفك عنه».
(4) في (ق): «تكون».
(5) في (ح): «أو معاصي».
(6) في (ق): «تكون».
(7) في (ق): «وتدل».
(8) في (ق): «ما تدل».
(9) قوله: «في حق» سقط من (ح).
(10) زاد بعدها في (ق): «والله أعلم».
(11) قوله: «في المنام» سقط من (ح).
(12) في (ح): «فلقد».
(13) قوله: «له» سقط من (أ). وهي ليست في متن الحديث.
(14) في (ح): «لا ينبغي له».
(15) في (ق): «أن يتصور» وكتب في الهامش «أن يتمثل» ووضع (خ).
(16) أخرجه البخاري (12/383رقم6997) في التعبير، باب من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام.
(17) في (ح): «وهو قول يدل على فساده».
(18) قوله: «إلا» سقط من (ح).(6/22)